القراءات المتواترة وأثرها في الرسم القرآني والأحكام الشرعية

محمد الحبش

مقدمة بقلم فضيلة الدكتور وهبة الزحيلي

مقدمة بقلم فضيلة الدكتور وهبة الزحيلي رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله منزل الكتاب، ومجري السحاب، ومعلّم العلوم والآداب، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على رسولنا المصطفى محمد بن عبد الله، أمين وحي الله، والمستنير بخزائن علم الله، ومبلّغه للأمة والناس كافة، وعلى آله وصحبه الهادين المهتدين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد: فإن العلم النافع والباقي الأثر، فتح وفتوح وتحصيل، وعلم الشريعة الإسلامية يحتاج لكل هذا، ليتحقق النضج، وتنمو المعارف وتترسخ، ويتحقق الهدف المنشود من العلم، ألا وهو القدوة الحسنة، وإعداد الأمة الإسلامية إعدادا كريما، حضاريا وثقافيا، دنيا وآخرة، ومصدر العلوم النافعة كلها هو كلام الله تعالى، لمن استطاع الاستنارة به، وإدراك معانيه ومقاصده، والإفادة من معينه. ولا تتحقق الإفادة من كتاب الله عز وجل على الوجه الأمثل إلا بفتح متجدد يغترفه المؤمن من الكلام الإلهي الأزلي الموجّه لبني الإنسان، والفتح لا يكون إلا بفتوح وتوفيق من الله تعالى العلي الأعلى، فبه يتم الفتح وإنارة القلب والعقل، وكل من الفتح والفتوح لا يحصل إلا بتحصيل علوم الشريعة، وإتقانها، للتمكن من الإفادة من كلام الله الذي هو في قمة البلاغة والفصاحة والبيان، والطريق الوحيد لإنقاذ الإنسان. ولقد كثرت التصانيف حول القرآن الكريم بالمئات لدى علمائنا من السلف الصالح والخلف المعتدل، ولكل عصر أسلوبه وتطلعاته، بحسب المستوى الثقافي والعلمي، وعصرنا يتطلب سهولة الأسلوب وإشراق العبارة، والإيجاز والبعد عن الاستطراد، وتبيان المعاني تبيانا مباشرا وقريب التناول، وشاملا للمطلوب. والدراسات المعاصرة حول القرآن العظيم مفيدة جدا إذا تميزت بالدقة والشمول وعقد

الموازنات، وتقريب المعاني ضمن إطار علمي سديد، ومن أجل تحقيق غرض مفيد، مع التزام ضوابط اللغة ومقاصد الشريعة. وهذه الرسالة التي أشرفت عليها، ونال بها من جامعة القرآن الكريم بالسودان الأخ الدكتور محمد الحبش درجة الدكتوراة بامتياز، أسهمت إسهاما طيبا وبارزا في إغناء الدراسات القرآنية، ولا سيما ما تفردت به من تحقيق وتدقيق في مقدماتها، ومن بيان أثر القراءات المتواترة في الأحكام الشرعية، العقدية والفقهية، بل وفي نطاق الجوانب الأربعة التي وفّاها بحثا الأخ الحبش: وهي الرسم القرآني، واللغة العربية، والأحكام الاعتقادية والفقهية، التي تم إحصاؤها إحصاء دقيقا، مع بيان منشئها من دلالة القراءة المعتمدة للآية القرآنية، في حالات محصورة. وسبب النجاح البارز في هذه الرسالة: هو ما قدمته من توافر الأوصاف الثلاثة التي ذكرتها للعلم الصحيح، فالدكتور محمد توصل إلى فتح علمي واضح المعالم فيما تعرض له، وانضم إليه الفتوح الإلهي على بصيرته وقلبه بسبب إخلاصه في رفع راية كتاب الله تعالى، وتوّج الفتح والفتوح بتحصيله المكتمل من دراسة الشريعة والآداب في رحاب جامعة دمشق، وازداد شرفا ومعرفة بحفظه لكتاب الله عز وجل، وإتقانه القراءات ترتيلا، وإجادة، وتجويدا، وجمعا وتصنيفا، فحاز بذلك الفضل والتفوق، وأدت رسالته ما يصبو إليه كل مسلم غير متخصص أو بعيد الصلة عن قراءات القرآن الكريم، القراءات العشر المتواترة، وأفادت المتخصص أيضا بهذا التصنيف والجمع المفيد. وإني لأترقب للأخ الدكتور محمد الحبش مستقبلا زاهيا إذا تابع نشاطه العلمي، وثابر على اكتناه مدلولات كتاب الله سبحانه، ليستفيد منه إخوانه ومحبّوه، فهو ذكي ألمعي، ومتحدث جيد. ولا أنسى أن ما توّج به هذا الكتاب من تقديم فضيلة العلامة أستاذنا الجليل الشيخ محمد صادق حبنكة، يعدّ تزكية كافية، تعلو كل ما سواها، وفضيلته يتميز بالحسّ المرهف، والأدب العالي والتواضع الجم، ودقة العلم، والإخلاص لدين الله وشرعه تعليما وتدريسا، وممارسة، وتوجيها، فإن أثنى علي، فأنا تلميذه وثمرته، أحسن بي الظن، فجزاه الله عني وعن الأمة الإسلامية خير الجزاء بما علّم وأرشد، ووجّه وأفاد، والله يتولى الصالحين. أ. د: وهبة الزحيلي رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بجامعة دمشق- كلية الشريعة

مقدمة بقلم فضيلة الشيخ صادق حبنكة رئيس مجلس قراء دمشق

مقدمة بقلم فضيلة الشيخ صادق حبنكة رئيس مجلس قراء دمشق الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر باسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا. والصلاة والسلام على من أنزل عليه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً، وعلى آله وصحبه الذين هم: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا وعلى أتباعهم ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين. وبعد فقد ترك عندي الأخ الكريم. الصالح المستقيم. رسالته التي قدمها لحيازة الشهادة العالمية العالية التي تسمى (الدكتوراة) لأطلع عليها، فأنا شاكر له على حسن ظنه بي وحسن اختياره لموضوع الرسالة، فإنه موضوع جدير بأن ينشر بيد أمينة تقية نقية. تخشى الله، ولا يستهويها ما سواه، لأن النشر الإعلامي والكتابي أصبح في متناول الأيدي المختلفة: ومن الناس من يدس الدسائس، ويتلقط الشبه فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، ومنهم من يتحامل على حملة القرآن. وهم أهل الله وأشراف أهل رسوله، فينكر عليهم التزامهم بما أخذوه بالسند الصحيح المتصل، وتقيدهم بما تلقوه من الشيوخ الثقات، ويعد ذلك من إضاعة الوقت، والتفريط بالجهود والملكات، ذاهلا عن أن الله شرفهم بخدمة كتابه المجيد، تحقيقا لقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ زاعما أن هذه الخدمة من الأشياء التقليدية الموروثة. وليس لها أصل ثابت، ناسيا قوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وقوله سبحانه: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ، وقوله جل جلاله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ* وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً، ويرى هذا القائل أن الاشتغال بغير ما أقامهم الله به واختاره لهم أجدى وأولى جهلا منه بالحقيقة. ومن جهل شيئا عاداه كما أن من لم يدرس الفقه الإسلامي ويطلع على تمحيص مسائله، ودعم أحكامه بالأدلة الصحيحة، يعيب على الفقهاء دراستهم للفقه، وعنايتهم بفهم الأحكام الثابتة، متناسيا حاجة بل اضطرار المجتمع الإسلامي بل

الإنساني إلى الأحكام الفقهية المدروسة، ولو درس المعرضون عن دراسة الأحكام الشرعية، فقه الفقهاء لقدروا الجهود، واعترفوا بقيمة الإنتاج أي إني لا أتهم المنكر على أهل القرآن بضعف الإيمان ولا بالشك في رواية القرآن فقد يكون حديثه المشبوه. واتجاهه الخاطئ بسبب التحرر الفكري فهو في حاجة إلى الإيضاح، وحسن البيان. وإن في هذا الكتاب القيم الذي أصدره الأستاذ الفاضل الشيخ محمد الحبش، ما ينبه الغافلين، ويرشد المسترشدين. هذا، وقد تميز التشريع الإسلامي بحفظ قرآنه من التبديل والتحريف وأحكامه من الابتداع والتحريف، كما تميز بصحة الأسانيد وضبط الروايات فليس لأحد أن يبدل حرفا من كتاب الله. حتى ولا رسول الله. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي* وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً، وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا* ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ* قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ. إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وقال سبحانه: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى، وقال تعالت قدرته وتقدست أسماؤه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ، فالقرآن الكريم، ألفاظه توقيفية، ورسمه توقيفي، وتأويله توقيفي، فقد ورد: «من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ وإن أصاب»، وورد أيضا: «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار». أما إخواننا بل أشرافنا الذين حفظوا كتاب الله، وجمعوا القراءات حسب الأصول فهم على قسمين: القسم الأعلى هم العلماء الذين درسوا وحققوا، وعرفوا ودققوا، ولهم باللغة العربية معرفة دقيقة، وبعلوم الشريعة صلة وثيقة، وقد أخذوا القراءات وبحثوا عن توجيهها، وتدبروا الآيات واطلعوا على ما يستنبط منها من الحكم والأحكام، والعبر والمواعظ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. والقسم الثاني من الحفظة لم يحيطوا بما أحاط به الأولون السابقون، ولكنهم أتقنوا الأداء بالتلقي، فإذا تعرض لهم مشكك بما أخذوا أو مضلل عما سلكوا، تحيروا في الصواب، ولم يحوروا

بجواب. لهذا كله كان لموضوع هذا الكتاب الصادر الأهمية الضرورية، ليكون تبصرة للمستبصرين، وهداية للمنصفين التائهين، ومسرة للمؤمنين، وقرة عين للعلماء المخلصين. ولئن قال قائل إن التآليف المستحدثة الصحيحة، لم تأت بجديد، فذلك من المدح الذي يشبه الذم، فإن التقيد بصحيح النقول، من أمانة العلم وترك الفضول، وهو أرجح من الاعتماد على وحي الأفكار المتحررة، التي لم تتقيد بالأصول، ولا بما جاء عن الرسول، ويكفي لنتاج المستمسكين جدة وضاءة، وعملا صالحا متقبلا، حسن العرض وإحكام الترتيب والتنسيق، ومخاطبة العصر بأساليبه، وإن كسوة العروس وحليتها حين تجلى تميزها عن بقية المتجمعين والمتفرجين، والطعام الطيب يزيد طيبا ويشتهى بحسن اختيار أوانيه وترتيبه على الخوان. وليس في الخدمات الدينية أشرف من خدمة كتاب الله الكريم. على أني لم اقرأ الكتاب المعروض بحليته الجديدة إلّا تصفحا لبعض أقسامه واطلاعا على فهارسه، ولكن ثقتي الوثيقة بمخرجه ومنتجه الأستاذ الفاضل محمد الحبش، الذي عرفته من خلال استماعي لكلماته في المناسبات وسلوكه الديني واستقامته وانضباطه على قواعد الشرع: أولا، وشهادة العالم الجليل فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي .. الذي أحصى ما فيه واطلع على مبانيه ومعانيه ثانيا، جعلني هذا وذاك أشهد بصحة ما يحتوي، وأكبر هذا الإنتاج المفيد. ولا أخفي بهذه المناسبة أن الشيخ وهبة الزحيلي حفظه الله، وزاده بالشكر من خير ما أعطاه، له في قلبي مكانة مكينة، ملكه إياها وهو أحق بها تواضعه بلا مذلة، واستقامته بغير انحراف، ودأبه على العلم الناصح والعمل الصالح، وما عملت يداه من الكتب المجيدة، في المواضيع المفيدة، فشهادته لكتاب الأستاذ الفاضل الشيخ محمد الحبش سندى، وهي حسبي على أنني لو أردت أن أباشر التمحيص قبل الحكم لم أصل إلى ما يصل إليه الأستاذ الزحيلي من النتيجة، ولست من أهل الاختصاص، وبضاعتي مزجاة، فأرجو الله لهذا الكتاب الخير واليمن وأن يجعل هذه الباكورة فاتحة لأمثالها وأحسن منها كما أسأله تعالى أن ينفعنا جميعا بالعلم، ويزيننا بالحلم، ويكرمنا بالتقوى، ويمنحنا صفاء المعرفة، وصدق التوكل ويرزقنا حفظ كتابه الكريم وفهم معانيه، والعمل بما فيه، والإخلاص بالأعمال، وأن يمن علينا بحسن الختام، والتلاقي بالجنان، إنه كريم منان. طالب العلم صادق حبنكة الميداني

المقدمة

المقدمة بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على خاتم النّبيّين، وإمام المرسلين، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراط مستقيم سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فقد كتب الله سبحانه لي شرف المشاركة في خدمة القرآن العظيم، فأكرمني بحفظه طفلا حيث أجزت بقراءته من شيوخ قراء بلاد الشام، ثم شرفت بالعناية به وخدمة أهله الذين سمّاهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم أشراف الأمة، وأثنى عليهم المولى سبحانه في صريح التّنزيل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: 35/ 32]. لذلك فإنني لم أتردد في اختيار جهة البحث الذي سأطرقه في حقل الدراسات القرآنية، وكان أن أكرمني الله سبحانه بزيارة جمهورية السودان، وعرفت فيها جامعة القرآن الكريم، وهي من أهم المراكز العلمية المتخصصة في خدمة القرآن العظيم، حيث تضم اثنتي عشرة كلية علمية، تنتشر على ضفاف النيل، في عاصمة السودان، تتعاون جميعا في خدمة القرآن الكريم، إضافة إلى عدد من المراكز العلمية والمكتبات المتصلة بهذه الجامعة الكريمة. وقد كنت منذ أن اشتغلت بالقراءات القرآنية أقلّب الفكر في مسألة واحدة هي: ما الحكمة من تعدد القراءات المتواترة على الرغم من أن مصدرها واحد؟ ولماذا كتبت في المصاحف بوجه واحد؟ ولماذا غابت عن الرسم الوجوه المتواترة الأخرى؟ مع أن الشاهد منها ليس أوثق إسنادا من الغائب؛ ولا هو أثبت في الاستدلال من أخيه، إذ سائر المتواتر في الثبوت والدلالة سواء، فقد حسم الأئمة القرّاء هذه المسألة قديما، واستقرّ الإجماع على المتواتر، واعتقدته الأمّة قرآنا، وأصبح ما أثر عن الأوّل من ردّ متواتر أو الإنكار عليه، محمولا على سبب واحد وهو عدم ثبوت التواتر لديه لا غير. وقد كتب كثير من العلماء في حكمة القراءات المتواترة وأثرها في الرسم واللغة والفقه، ولكن بقي هذا الجهد في إطار العرض العام للمسألة، من غير أن يتناولها باحث بقلم الإحاطة والحصر،

وهو بحث لا بدّ منه ليتبين للناس ما غاب عنهم من دلالات المصحف الشريف الذي هو ولا ريب أساس التّشريع والأحكام لهذه الأمة عبر تاريخها التّشريعي. وهكذا فقد تبدّت لي معالم البحث الذي تخيّرته، ووافقت عليه الجامعة الكريمة، وعيّنت مديرها العلامة الدكتور أحمد علي الإمام مشرفا على الرسالة، ثم التمست الجامعة الكريمة من الأستاذ الدكتور المفسّر وهبة الزحيلي أن يتكرّم بمتابعة الإشراف العلمي على الرّسالة (¬1). ولدى موافقته الكريمة فإنني أكون استوفيت أسباب هذه الدراسة، والتي أعدّ نفسي قد شرعت فيها منذ وقت طويل. وعقب جلسات متواصلة خصّني بها أستاذي الدكتور وهبة، وجلّى لي فيها أصول البحث العلمي ووسائله، وحدّد لي منهج البحث وخطوطه العريضة استعنت بالله تعالى وشرعت بالمقصود. ويمكن تحديد أغراض الرّسالة في المقاصد التالية (¬2): أولا: تقديم الأدلة العلمية الواضحة على أن الوحي هو المصدر الوحيد للقراءات المتواترة على اختلاف وجوهها، وبيان أنه ليس لأئمة القرّاء أدنى اجتهاد في اختراع أي وجه، أو ترجيح متواتر على متواتر. ثانيا: مناقشة الفكرة الشائعة حول التصنيف الثلاثي للقراءات: متواتر وآحاد وشاذ، وتقديم الأدلة والحجج على وجوب المصير إلى تسمية ثنائية وهي: متواتر وشاذ فقط. ثالثا: دفع توهم التناقض بين الرسم القرآني العثماني وبين الفرشيات المختلفة (وهي الكلمات التي قرئت على غير مثال، ولا تنمى إلى أصول قواعدية) الواردة بالتواتر، والتي يلزم التسليم بثبوتها عن المعصوم صلّى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) وذلك لما له من خبرة واسعة ومعرفة محيطة بعلوم القرآن الكريم، لعل أقرب دلالاتها ذلك التفسير الجليل الذي أصدره بعنوان التفسير المنير في ست عشرة مجلدة ضخمة، واستحق عليه جائزة أفضل تفسير قرآني معاصر قدمتها له الجمهورية الإسلامية في إيران، ثم أعقبه بالتفسير الوجيز ثم التفسير الوسيط. إضافة إلى مجموعة عظيمة من الإصدارات الفكرية المتلاحقة، نعدّ منها: الفقه الإسلامي وأدلّته: في أحد عشر مجلدا مع فهارسه- أصول الفقه الإسلامي: في مجلدين كبيرين- آثار الحرب في الفقه الإسلامي في مجلد كبير. إضافة إلى عشرات من الكتب المختلفة في المعارف الإسلامية، وتدريسه في الجامعات العربية والإسلامية لأكثر من ثلاثين عاما، وإشرافه على عشرات رسائل الدكتوراة والماجستير وحلقات البحث العلمي. (¬2) تجد تفصيلا أوسع لمقاصد الدراسة في خاتمة البحث.

رابعا: إجراء مسح دقيق للمواضع التي اختلفت فيها المصاحف التي وزعها عثمان رضي الله عنه في الأمصار، وتحقيق ضبط عددها، وإظهار أهمية معرفتها وحصرها. خامسا: مناقشة الفكرة الشائعة بأن علم القراءات وقف على أهل الاختصاص؛ وهو توهم يدفع كثيرا من الباحثين إلى تجنّب الخوض في أي من مسائل علم القراءات على أساس أن هذا العلم ممنوع على غير أهله. - ولأجل ذلك فقد عقدت عدة فصول تضع هذا العلم بين يدي الراغبين بالاطلاع عليه من الباحثين بأسلوب قريب يتيح للباحث الاطّلاع على الضروري من مسائل هذا العلم؛ مع تسليمنا بأن الاختصاص في هذا الفن والإحاطة بمسائله يحتاج إلى تفرّغ تام (¬1). سادسا: بيان أثر القراءات المتواترة في المعارف الإسلامية من جوانب أربعة: - الرسم القرآني، ودور هذه القراءات المتواترة في حفظ بعض الحروف التي لا نجدها في الرسم العثماني الشائع اليوم، وكذلك تحديد مسئولية القراء والحفاظ في ضبط ذلك. - اللغة العربية، ودور هذه القراءات المتواترة في حفظ بعض اللهجات العربية التي توشك أن تندثر. - الأحكام الاعتقادية، وفائدة هذه القراءات المتواترة في كشف بعض مجملات التنزيل، والمساعدة على توضيح مراد المولى سبحانه فيها. - الأحكام الفقهية، وفائدة هذه القراءات المتواترة في تقرير بعض الأحكام الشرعية التي لا يمكن الاستدلال لها بالقراءة الواحدة. وقد تقدمت في أعقاب هذه الدراسة بجملة من الملاحق والاقتراحات التي تتصل بهذه المقاصد، وتضعها في موضع التحقيق بإذن الله. كما ألحقت بالبحث صورا هامة لمجموعة من المخطوطات القرآنية النادرة التي اعتمدت عليها في تقرير ما وصلت إليه، خاصة فيما يتصل بأثر القراءات في حفظ الرسم القرآني. ¬

_ (¬1) قمت بإفراد هذا البحث والإضافة عليه وأصدرته في كتاب مستقل بعنوان (الشامل في القراءات المتواترة) وقامت بطبعه ونشره دار ابن كثير والكلم الطيب مشكورتين.

ولن يفوتني هنا أن أتوجّه بالشكر إلى معالي فضيلة الدكتور الشيخ أحمد علي الإمام مدير جامعة القرآن الكريم، لما وجدته لديه من علم وحلم، وسعة اطّلاع في مدار البحث الذي طرقته، إضافة إلى ما لمسته فيه من أخلاق العلماء وتواضعهم. وأكرّر الشكر للأستاذ الكبير، الفقيه المفسّر، الدكتور وهبة الزحيلي لتفضّله بالإشراف على هذه الرسالة، ولا شك أن ذلك مدعاة شرف وافتخار لأي باحث يجتهد في خدمة علوم الشريعة المطهرة. وكذلك أخصّ بالشكر الأستاذ الدكتور عباس المحجوب عميد كلية الدراسات العليا والبحث العلمي، والداعية الإسلامي المؤثر، لما كان يرعاني به من تشجيع وتوجيه، ولما رأيته فيه من فطرة واعية رائدة لطموحات شباب الصحوة الإسلامية. والله أسأل أن يلهمني فيما قدمته الرشد، ويجنبني الزلل، ويكتب لي التوفيق فيما أرتجي، وما توفيقي إلا بالله ... ربّنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم. محمد الحبش دمشق في 1/ شعبان/ 1416 الموافق 20/ 12/ 1995

الباب الأول علم القراءات

الباب الأول علم القراءات

الفصل الأول معنى القراءات وغاياتها

الفصل الأول معنى القراءات وغاياتها المبحث الأول تمهيد في الحفظ الإلهي للنّص القرآني أنزل الله سبحانه القرآن الكريم رسالة عامة خاتمة، وجعل فيها سعادة الدارين، وحدّد للناس منهج حياتهم في الدنيا والآخرة. ولن تجد في وصف هذا الكتاب العظيم أبلغ من قول الله عزّ وجلّ: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 59/ 21]. وأوجز النّبي صلّى الله عليه وسلّم خصائص هذا الكتاب العظيم بقوله: كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصّراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن الرّد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته عن أن قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجنّ: 72/ 1 - 2]، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه التّرمذي عن علي رضي الله عنه في باب فضل القرآن، برقم (2908)، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحديث مقال، أي الحارث الأعور. ولكن الحديث وارد في الفضائل، وله شاهد يقويه من طريق محمد بن إسحاق، انظر الحاشية التالية.

وفي رواية: «إن القرآن لا يليه من جبار فيعمل بغيره إلا قصمه الله، ولا يبتغي علما سواه إلا أضلّه الله، ولا يخلق عن ردّه، وهو الذي لا تفنى عجائبه، من يقل به صدق، ومن يحكم به يعدل، ومن يعمل به يؤجر، ومن يقسم به يقسط» (¬1). وفي رواية: «كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، ونبأ ما هو كائن بعدكم، وفيه الحكم بينكم، وهو حبل الله المتين، وهو النور المبين، وهو الصراط المستقيم، وهو الشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتّبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب» (¬2). وقد أجمع العلماء على مبدأ عصمة النّص القرآني من الزّيغ والعبث والأهواء، وأيقن الباحثون أن النّص الذي تنزل به جبريل الأمين على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو النّص عينه الذي قرأه الناس في القرون الخالية وهو الذي يقرؤه الناس اليوم. ومع أن كثيرا من الباحثين الغربيين تناولوا بالنقد والتحليل والجرأة سلامة النصوص المقدسة، وجزموا بتحريف كثير منها، غير أنهم لم يطالوا بنقدهم سلامة النّص القرآني إلا ما كان من بعض أصحاب الهوى الذين لم يجدوا من يهتم بأقوالهم وأفكارهم التي تفتقر إلى أدنى درجات التحقيق العلمي. ولعل أوضح تجربة معاصرة في هذا الاتجاه هي ذلك البحث العلمي الرصين الذي قام به المفكر الفرنسي (موريس بوكاي) تحت عنوان: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، والذي انتهى من خلاله- وعلى طريقة البحث الموضوعي المجرد- إلى إثبات التحريف في التوراة والإنجيل، ثم إثبات سلامة النّص القرآني من أي تبديل أو تحريف أو تغيير. وقد لخّص (موريس بوكاي) نتيجة بحثه بقوله: «إن لتنزيل القرآن تاريخا يختلف تماما عن تاريخ العهد القديم والأناجيل. فتنزيله يمتدّ على مدى عشرين عاما تقريبا، وبمجرد نزول جبريل به على النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان المؤمنون يحفظونه ¬

_ (¬1) رواه الدّارمي في فضائل القرآن: 2/ 67، وأورد رواية أخرى مقاربة لها، وكلاهما من طريق محمد بن كعب القرظي عن الحارث بن عبد الله، أي الأعور. (انظر الحاشية السابقة). (¬2) أورده ابن الأثير في جامع الأصول: 8/ 464، وقال: أخرجه رزين، وروى ابن كثير في فضائل القرآن مثله وقال: رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه فضائل القرآن.

عن ظهر قلب، بل قد سجّل كتابة حتى في حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم. إن التّجمعات الأخيرة للقرآن التي تمت في خلافة عثمان، فيما بين اثني عشر عاما وأربعة وعشرين عاما بعد وفاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم قد أفيدت من الرقابة التي مارسها هؤلاء الذين كانوا يعرفون النّص حفظا. بعد أن تعلّموه في زمن التّنزيل نفسه، وتلوه دائما فيما بعد، ومعروف أن النّص منذ ذلك العصر قد ظلّ محفوظا بشكل دقيق، وهكذا فإن القرآن لا يطرح مشاكل تتعلق بالصحة. إن القرآن- وقد استأنف التنزيلين اللذين سبقاه- لا يخلو فقط من متناقضات الرواية وهي السمة البارزة في مختلف صياغات الأناجيل، بل يظهر أيضا لكل من يشرع في دراسته بموضوعية، وعلى ضوء العلوم طابعه الخاص، وهو التوافق التام مع المعطيات العلمية الحديثة، بل أكثر من ذلك- ولما أثبتناه- يكشف القارئ فيه مقولات ذات طابع علمي من المستحيل تصور أن إنسانا في عصر محمّد صلّى الله عليه وسلّم قد استطاع أن يؤلّفها، وعلى هذا، فالمعارف العلمية الحديثة تسمح بفهم بعض الآيات القرآنية التي كانت بلا تفسير صحيح حتى الآن. إن مقارنة عديد من روايات التوراة مع روايات الموضوعات نفسها في القرآن، تبرز الفروق الأساسية بين دعاوى التوراة غير المقبولة علميّا، وبين مقولات القرآن التي تتوافق مع المعطيات الحديثة (¬1). وهذا التسليم بموثوقية النّص القرآني تظاهرت عليه الأدلة من العقل والنّقل والواقع، إلى حدّ لا مزيد عليه، وحسبك من ذلك أن نسخ القرآن العظيم التي تطبع اليوم في العالم، وتتجاوز نسخها آلاف الملايين، لا يختلف بعضها عن بعض في كلمة أو حرف أو نقطة أو شكل. ولعل المنفذ الوحيد الذي اتّخذه خصوم القرآن منفذا للحديث عن اختلاط مزعوم في النّص القرآني هو مسألة القراءات القرآنية، حيث يتوهم هؤلاء أنها ثغرة في عصمة النصوص، وأن الإقرار بها يستلزم القول بتوهين سلامة النّص القرآني، ووجود فقرات بشرية من صنع القرّاء ضمن التّنزيل القرآني الحكيم. ولعل الإجابة على هذا السؤال عينه هي التي كانت وراء اختياري هذه الدراسة. ¬

_ (¬1) دراسة الكتب المقدسة ص 285. وقد أدى اشتغال الدكتور موريس بوكاي ببحوث توثيق الكتب المقدسة إلى إعلان دخوله في الإسلام في نهاية المطاف، وذلك في باريس عام 1403 هـ/ 1983 م.

المبحث الثاني الوحي هو المصدر الوحيد للقراءات المتواترة

المبحث الثاني الوحي هو المصدر الوحيد للقراءات المتواترة ينبغي أن ننبّه هنا على أن أي جهد نبذله في خدمة القراءات هو في الحقيقة؛ جهد في خدمة الوحي الأمين الذي جاءت عبره القراءات المتواترة؛ ذلك أن القراءات القرآنية المتواترة جميعا، قرأ بها النّبي صلّى الله عليه وسلّم أصولا وفرشا، وقد تلقّاها عنه صلّى الله عليه وسلّم خيار أصحابه من بعده وأقرءوا بها الناس، وبذلك فإن سائر القراءات المتواترة توقيفية، لا مجال فيها لأدنى اجتهاد. فالنّبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي أقرأ أصحابه بتحقيق الهمزات وبتسهيلها، وكذلك بالفتح وبالإمالة، وبالإدغام وبالإظهار، وغير ذلك من أبواب القراءة المأذون بها والمروية بالتواتر، وهو الذي أذن بإقراء هذه الكلمة بوجه، وتلك بوجهين، وتلك بثلاث، وغيرها بأربع ... إلخ. وجرى كل وجه جاء به النّبي صلّى الله عليه وسلّم في القراءة على أنه وحي معصوم، له ما لأخيه من منزلة في الحجة والدلالة وجواز التّعبّد به. وفي ذلك شاعت القاعدة المشهورة لعلماء القراءة: تعدد القراءات ينزل منزلة تعدد الآيات (¬1). وهكذا فإن القراءات المتواترة جميعا هي قراءة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا قيمة لأي قراءة لم تحظ بالإسناد المتواتر، المتصل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس للأئمة القرّاء أدنى اجتهاد أو تحكم في نص القراءة المقبولة؛ بل إن مهمتهم تنحصر في ضبط الرواية وتوثيق النقل، وكان غاية ما فعله هؤلاء الأئمة أن تخصّص كل واحد منهم بنوع من أنواع القراءة التي سمعها عن أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم كما نقلوها عنه صلّى الله عليه وسلّم، وخدمها، وتفرغ لإقرائها وتلقينها، فنسبت إليه لا على سبيل أنه أنشأها وابتكرها؛ بل على سبيل أنه قرأ بها وأقرأ عليها، وإلا فالمنشأ واحد وهو المصطفى صلّى الله عليه وسلّم عن الروح الأمين عن ربّ العالمين. وهذه الحقيقة هي محلّ اتفاق بين علماء هذه الأمة، لم يقل بخلافها أحد، وسائر ما نقل عن المتقدمين محمول على أمر واحد لا غير؛ هو عدم ثبوت التواتر لديهم، كما سنأتي على تفصيله فيما بعد. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان للسيوطي 1/ 82.

المبحث الثالث حكمة القراءات

المبحث الثالث حكمة القراءات إذا استقرّ لديك اليقين على أن هذه القراءات المتواترة جميعا قد قرأ بها النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأقرأها؛ لم يكن لك أن تتوقف في إيمانك على العلة التي أدت إلى ذلك التّعدد، ولا أن تسأل عن الضرورة التي ألجأت إليه، فهو وحي أمين، وهي إرادة الله عزّ وجلّ، وهو لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 21/ 23]. ولكن التسليم بربانيّة مصدر هذه القراءات في سائر وجوهها لا يتناقض مع البحث عن حكمها وأسرارها ودلالاتها، وهي التي يمكن أن يتلمسها المرء لدى دراسته لوجوه هذه القراءات ومعانيها. والنتيجة التي ينتهي إليها كل باحث، من خلال قراءة واقع اللغة العربية قبل الإسلام، هي أن اللغة العربية كانت في حالة مخاض عسير، ولم يكن بالإمكان تصوّر ما تنجلي عنه تلك الحالة الصعبة، فقد ترسّخت العقدة القبلية لدى كثير من العرب، وحلّت محلّ الإحساس القومي، وتوزع كثير من العرب في ولاءاتهم بين الفرس والرّوم والحبشة، وظهرت فيهم تيارات محلية ضمن قوقعة الذات؛ تدعو إلى إحلال اللهجات المحلية محل اللغة العربية الشاملة، وظهرت حينئذ لهجات عربية ضالّة لا يمكن أن تلتقي على أصول واحدة إلّا مع استثناءات كثيرة تفوق الحصر وتخرج عن المنهج المطّرد. ومما وصل إلينا من أشكال التقارب بين اللهجات العربية على سبيل المثال: كشكشة تميم، وسكسكة بكر، وشنشنة تغلب، وغمغمة قضاعة، وطمطمانية حمير، ورتة العراق، وهي كما نرى لهجات منسوبة إلى قبائل بعينها. وثمة انحرافات لغوية أخرى لم تنسب إلى قبائل بعينها، ولكنها كانت شائعة فاشية، كالفأفأة، واللثغة، والغنّة، واللّكنة، والعقلة، والحبسة، والتّرخيم، والتّمتمة، واللفف، والارتضاخ، والرّطانة.

ويطول بنا البحث لو أردنا أن نسرد أشكال الانحرافات التي انتهت إليها لهجات القبائل المتوزعة في أطراف الجزيرة العربية، ولعل من أهمها ما كشفت عنه الحفريات في جنوب الجزيرة العربية، حيث ثبت أن بعض عرب اليمن كانوا ينطقون ويكتبون لغة عربية، ولكن من دون الحروف الصوتية الثلاث: الألف، والواو، والياء ... !! ولقد نقل ابن عبد ربه وجوه هذه الانحرافات في موسوعته الكبيرة المسماة: العقد الفريد، وفيما يلي أنقل لك كلامه بنصه كما أورده في باب خاص، عقده تحت عنوان: آفات النّطق: «قال أبو العباس محمد بن يزيد النّحوي: التمتمة في المنطق: التّردد في التاء، والعقلة: التواء اللسان عند إرادة الكلام، والحبسة: تعذر الكلام عند إرادته، واللفف: إدخال حرف في حرف، والرّتة كالرّتج: تمنع أول الكلام، فإذا جاء منه شيء اتصل به، والغمغمة: أن تسمع الصوت ولا يبين لك تقطيع الحروف. فأما الرّتّة: فإنها تكون غريزية. قال الراجز: يا أيّها المخلّط الأرتّ وأمة الغمغمة: فإنها قد تكون من الكلام وغيره، لأنها صوت من لا يفهم تقطيع حروفه. واستأنف فقال: والطمطمة: أن يعدل بحرف إلى حرف، والغنّة: أن يشرب الحرف صوت الخيشوم، والخنّة: أشدّ منها، والتّرخيم: حذف الكلام، والفأفأة: التّردد في الفاء. وأما كشكشة تميم: فإن بني عمرو بن تميم إذا ذكرت كاف المؤنث فوقفت عليها أبدلت منها شينا لقرب الشين من الكاف في المخرج. وأما سكسكة بكر: فقوم منهم يبدلون من الكاف سينا كما فعل التميميّون في الشين. وأما طمطمانية حمير ففيها يقول عنترة: تأوي له قلص النعام كما أوت ... حزم يمانية لأعجم طمطم» (¬1) بل أخذت الانحرافات اللغوية أشكالا أبعد من ذلك حتى شاع لديهم تسميتها باللغات: لغة ¬

_ (¬1) العقد الفريد لابن عبد ربه 2/ 475.

هذيل، ولغة قيس، ولغة كندة، وإن كنا نرى أن تسميتها باللغات ليس منهجا مستقيما؛ إذ لم تخرج في عمومها عن مفردات العرب، ومناهج نطقهم. وذلك كله قبل الإسلام حيث كانت اللغة في مهدها في جزيرة العرب، وبوسعك أن تتصور مستقبل لغة فيها هذه الفوارق منذ أكثر من ألف وأربع مائة عام ... ! خصوصا إذا خرجت هذه اللغة عن إطارها التقليدي ضمن الجزيرة العربية لتمتد من خراسان وأذربيجان إلى الهلال الخصيب فالأندلس مرورا بالشمال الأفريقي كله، لا شك أنها ستصبح حينئذ ركاما هائلا من اللغات واللهجات التي لا يضبطها ضابط ولا يجمعا قانون. ومرارا كانت تأتي وفود العرب إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فتحدثه بلهجاتها ولغاتها فيخاطبها النّبي صلّى الله عليه وسلّم بما تعوّدته من لهجاتها، فيكون ذلك مثار دهشة الأصحاب وعجبهم. من ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، أن وفدا من حمير جاءوا إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله أمن امبر امصيام في امسفر؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ليس من امبر امصيام في امسفر». وتعجب الأصحاب مما سمعوا، حتى تبين لهم أن الوفد حي من العرب يبدلون اللام ميما، والميم لاما. وكان سؤالهم: أمن البر الصيام في السفر؟ فجاء جواب النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس من البر الصيام في السفر» (¬1). ولولا القرآن الكريم، ودقة الضبط في روايته، وتلقيه ضمن حدود القراءات، لأصبحت العربية أثرا بعد عين، ولصار جمع العرب على لغة واحدة أشبه بجمع شعوب القارة الأفريقية اليوم على لغة واحدة. ولا ينبغي أن نتصور جراء ذلك أن العرب كانوا عطلا عن البلاغة والبيان، فذلك ما لم نقله ولم نقصد إليه، فقد أوتي العرب الفصاحة والبلاغة، وتبوأ خطباؤهم وشعراؤهم منزلة رفيعة في الترتيب الطبقي للقبيلة، وسارت بقصائد شعرائهم الركبان، وعلّقت روائعهم على جدران الكعبة، ولا تزال إلى اليوم تلهم النّقاد والأدباء ما رقّ ودقّ، وعزّ وشقّ من لطيف العبارة، ¬

_ (¬1) مسند أحمد بن حنبل 5/ 424.

وعجيب البيان. ولكنهم على ذلك لم يكونوا يمتلكون كتابا أمّا يرجعون إليه في تمييز الصحيح من الدّخيل، ويقعّدون على أساسه قواعد نطقهم. كذلك فإنهم لم يعدموا لسانا مفهما، يتحاورون فيه، ويتبادلون على أساسه حوائجهم ومعارفهم وخبراتهم، ولكن إرهاصات الشقاق اللغوي كانت قد تهيأت تماما، ومضت في سبيلها المتناكس، وشجع على ذلك نمو العصبية القبلية، والاتصال بالعجم، وغياب أي شكل جدّي من أشكال الوحدة العربية المطلوبة. وبوسعك أن تتصور أي مستقبل كان ينتظر اللغة العربية في ضوء هذه المعطيات، لولا الثورة اللغوية التي أعقبت نزول القرآن الكريم، وانتشار قرّائه وحفّاظه في الأمصار، يجمعون الناس على منهج واحد، وبهم تبوأت اللغة العربية مكانها، وتأصّل الصحيح محل ما يجب هدمه من رطانة وانحراف، ولغات ضالة لا تنتمي إلى أصول الكلام العربي. وأمّا اللهجات العربية المحترمة، فقد تكفلت بحفظها القراءات القرآنية، التي أذن بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولدى الاستقراء فإنك تجد أنها تحتوي على كثير من اللهجات العربية، ولكنها محكومة بضابط من القواعد يمكن ردّها إليها، والاحتكام على أساسها. لقد كانت اختيارات النّبي صلّى الله عليه وسلّم في أمر القراءة المأذون بها، تتم فيما يمكن تسميته بمطبخ اللغة العربية على أساس الإجماع العربي، حيث تمّ تمييز الاصيل من الدّخيل من كلام العرب، وأمكن حينئذ أن تبدأ جهود علماء اللغة في تأصيل القواعد وتحريرها، الأمر الذي نتجت عنه علوم النحو والصرف والبلاغة والعروض وما لحق بها من معارف تفصيلية جعلت لغة العرب من أضبط اللغات قواعدا، وأكثرها تعليلا، وأوضحها معالجة. وعلى ضوء ذلك تمّ ترتيب البيت الداخلي للسان العرب، وتوفرت الوثيقة المعتمدة لضبط اللسان العربي- وهي القرآن الكريم- وفق ما رتّله النّبي صلّى الله عليه وسلّم من وجوه القراءات، وتلقّاه عنه أصحابه الكرام. وهكذا فقد أصبحت الجزيرة العربية تعتمد لسانا عربيا واحدا، مهما اختلفت فيه من شيء ردته إلى الكتاب الإمام، بعد ذلك التفت العرب إلى أراضيهم المسلوخة عنهم في بلاد الشام والعراق والشمال الإفريقي، وقد تزاحمت فيها رطانات الأمم الغالبة، حتى لم يبق للعربية أثر يذكر في لغة

الحياة، فكانت بلاد الشام تتكلم لغات محلية إقليمية وأجنبية، فيها الآرامي، والسّرياني، والرّومي، وكان أهل العراق يتكلمون لسانا فارسيّا، وكان لبنان فينيقيّا، وكانت مصر ضائعة في لهجاتها الفرعونية القبطية والرومية، وكان الشمال الإفريقي يتكلم لسانا بربريا. على الرغم من الأصول العربية المؤكدة التي تنتمي إليها هذه الشعوب، ولم يكن ثمة شيء يكفل أن تعود تلك الشعوب إلى لسانها العربي بعد أن تركته قرونا كثيرة، لولا أن تمت نعمة الله على هذه الأمة بنزول القرآن الكريم، ولولا توفر الإرادة الكافية لدى الرعيل الأول في العهدين الراشدي والأموي لجمع القرآن العظيم- وثائق ومشافهات- ليصبح من ذلك الحين عماد اللسان العربي في النحو والنطق (¬1). كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصّلت: 41/ 3]. وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ [الرّعد: 13/ 37]. ¬

_ (¬1) انظر كتاب: التجويد وأثره في النطق العربي الصحيح للمؤلف، ص 15، وهو دراسة منهجية مقررة على المذيعين العرب، أعدت بطلب من مركز التدريب الإذاعي بدمشق التابع لجامعة الدول العربية.

المبحث الرابع الأصل اللغوي لكلمة (قراءة)

المبحث الرابع الأصل اللغوي لكلمة (قراءة) القراءات جمع قراءة؛ من قرأ، وجرى إطلاق السلف لفظة (قراءة) للتعبير عن صنيع القرّاء في أداء نصّ القرآن المجيد. وقرأه يقرؤه قرءا وقراءة وقرآنا، والقراءة في اللغة الجمع، وكل شيء جمعته فقد قرأته- سمي القرآن قرآنا لأنّه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات- السور بعضها إلى بعض، وهو مصدر كالغفران والكفران، واستقرأه: طلب إليه أن يقرأ، وأورد ابن منظور في اللسان عن ابن مسعود: تسمعت للقرأة فإذا هم متقارءون، أي يسمع بعضهم قراءة بعض. ولكني أرجح هنا اختيار السيوطي الذي ذهب إلى أن كلمة (قرآن) وضع إلهي، وليست اشتقاقا لغويا، ولذلك فإن الصحابة تحرجوا من جمعها على الجموع القياسية، واختاروا بدلا من ذلك كلمة: مصحف ومصاحف. وقد وجد الاصطلاح سبيله إلى هذا المعنى اللغوي، فأصبحت كلمة قراءة إذا أضيفت إلى واحد من أعلام القرّاء تدلّ على منهج معين لهذا القارئ في التّلقي والأداء، أو في فرش بعض الحروف (¬1). واشتهر من الصحابة قارئون كثير، فكان يقال: قراءة ابن مسعود، وقراءة أبيّ، وقراءة زيد بن ثابت، وقراءة أم سلمة. ولم تكن تلك القراءات تؤدي المعنى ذاته الذي أصبحت تؤديه فيما بعد، إذ لم يكن لكل صحابي أصول وفرش ينفرد به عن إخوانه، كما أن التدوين لم ينهض بوصف اختياراتهم في سائر الآي، بل غاية ما وصلنا عنهم اختيارات في قراءة بعض الآيات، أو انتهاج بعض الأصول. ¬

_ (¬1) الفرش هو الكلمة من القرآن تقرأ على غير مثال. ويقسم علماء القراءة مناهج القرّاء إلى: 1 - أصول: وهي قواعد القراءة لكل قارئ كمد الميمات وتحقيق الهمزات وإمالة الألفات وغير ذلك. 2 - فرش: وهي الكلمات القرآنية بعينها وكيف قرأها كل قارئ، وسميت فرشا لأنها تفرش في التعليم على مواضع الآيات، ولا تندرج تحت أصول جامعة.

المبحث الخامس الأصل الشرعي لكلمة (قراءة)

المبحث الخامس الأصل الشّرعي لكلمة (قراءة) ولعل أقدم النصوص التي أشارت إلى تسمية الاختيار في التلاوة قراءة، ذلك الحديث المشهور المروي في الكتب الصحاح ونصّه: عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ فكدت أساوره في الصلاة فانتظرته حتى سلّم فلبّبته (¬1)، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت له: كذبت، فو الله إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لهو أقرأني هذه السورة التي سمعتك. فانطلقت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقوده، فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وإنك أقرأتني سورة الفرقان. فقال: يا هشام اقرأها، فقرأها القراءة التي سمعته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هكذا أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأتها التي أقرأنيها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هكذا أنزلت، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه» (¬2). وهكذا فإن الأصحاب رضوان الله عليهم أطلقوا لفظ (قراءة) على ما تخيره القرّاء من تلاوات النّبي صلّى الله عليه وسلّم من القرآن الكريم. ولم تجد هذه القراءات سبيلها إلى التدوين؛ إذ لم يجتمع للصحابي مذهب مستقلّ في الأصول والفرش؛ بل هي اختيارات متفرقة تلقوها عن المعصوم صلّى الله عليه وسلّم في مناسبات متعددة. ويكشف لك الحديث السابق عن الإذن الشرعي الصادر من النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والذي يأذن فيه للصحابة الكرام برواية القرآن الكريم عنه مع التّفاوت في الأداء أصولا وفرشا. ¬

_ (¬1) لبّبته: أخذت بردائه. (¬2) حديث مشهور له روايات كثيرة صحيحة. انظر البخاري في كتاب الخصومات باب 4، وفضائل القرآن باب 5، وكذلك أخرجه مسلم والترمذي والنّسائي، واللفظ هنا لأحمد بن حنبل.

وثمة أحاديث أخرى في قراءة الصحابة بالقراءات نورد منها: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» (¬1). وروى مسلم بسنده عن أبيّ بن كعب أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان عند أضاة بني غفار قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: «إن الله يأمرك أن تقرئ أمّتك القرآن على حرف. فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين. فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمّتك القرآن على ثلاثة أحرف. فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمّتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا» (¬2). وأخرج الإمام أحمد بسنده، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو أنّ رجلا قرأ آية من القرآن، فقال له عمرو: إنما هي كذا وكذا، فذكر ذلك للنّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف؛ فأي ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا، أي لا تشكوا ولا تجادلوا» (¬3). ويجب القول: إن المستند الشرعي للإقراء بالقراءات لا يقف عند حدود ما أوردناه من نصوص السّنة الشريفة، وهي في أعلى درج الصحيح، بل إن أقوى مستند لهذا الوجه إنما هو ذلك التواتر الذي تؤدى به هذه القراءات، وهو الذي لا رتبة فوقه من التواتر، والذي ما زالت جماهير الأمة تتلقاه وتلقّيه منذ عصر النّبوة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ¬

_ (¬1) البخاري في فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، رقم الحديث 4991، وانظر فتح الباري 9/ 23. (¬2) رواه البخاري في كتاب استتابة المرتدين، باب ما جاء في المتأولين، حديث رقم 6936، وانظر فتح الباري 12/ 303. رواه أيضا التّرمذي في الجامع الصحيح، كتاب الوتر باب 22. (¬3) رواه أحمد في مسنده، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص 4/ 205، وفي إسناده أبو سلمة الخزاعي، وهو منصور بن سلمة الهندي الليثي من السابعة، وقد ضعفوه، قال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب: مقبول. انظر تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني 2/ 276.

المبحث السادس القراءات والأحرف السبعة

المبحث السادس القراءات والأحرف السبعة يقترن اسم القراءات بالأحرف السبعة، ويتبادر إلى الأذهان أن القراءات هي الأحرف، وبخاصة بعد أن اشتهرت القراءات السّبع في الأمصار، وأصبح الناس يتحدثون عن قراءات سبع، وأحرف سبعة. والأحرف السبعة هي التي جاء الحديث الصحيح بالإشارة إليها في قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا منه ما تيسر» (¬1). وقد روي هذا الحديث عن جمع كبير من الصحابة (¬2)، فقد روى الحافظ أبو يعلى: أن عثمان رضي الله عنه قال يوما وهو على المنبر: «أذكّر الله رجلا سمع النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها شاف كاف لما قام، فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك، فقال عثمان رضي الله عنه: وأنا أشهد معهم» (¬3). وتوافق هذه الجموع التي لم تحص عددا على هذا الموضوع حمل بعض الأئمة على القول بتواتر الحديث، وفي طليعة هؤلاء أبو عبيد القاسم بن سلام، وإذا لم يتوافر التواتر في الطبقات المتأخرة؛ فحسبنا صحة الأحاديث التي ذكرناها مؤكّدا لهذه الحقيقة الدينية التي نطق بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ويميل جمهور العلماء إلى أن المصاحف العثمانية اشتملت على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة (¬4). واختار القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني هذا الرأي وقال: الصحيح أن هذه الأحرف السبعة ظهرت واستفاضت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وضبطها عنه الأئمة، وأثبتها عثمان والصحابة في المصحف، وأخبروا بصحتها، وإنما حذفوا منها ما لم يثبت متواترا (¬5). ¬

_ (¬1) فتح الباري 5/ 33، رقم الحديث 5419. (¬2) الإتقان 1/ 78. (¬3) الإتقان 1/ 85. (¬4) البرهان 1/ 224. (¬5) ابن الجزري، طبقات القراء 1/ 292.

و (الأحرف) - وهي جمع حرف- الوارد في الحديث تقع على معان مختلفة، فقد تكون بمعنى القراءة كقول ابن الجزري: «كانت الشام تقرأ بحرف ابن عامر» (¬1)، وقد تفيد المعنى والجهة (¬2) كما يقول أبو جعفر محمد بن سعدان النّحوي (¬3). وحكي عن الخليل بن أحمد الفراهيدي (¬4) شيخ العربية أن القراءات هي الأحرف (¬5)، ولن تجد كتابا تعرض لهذه المسألة إلا أشار لهذا القول بالتوهين والتضعيف. وأحب هنا أن أوضح رأي العلامة الجليل الخليل بن أحمد الفراهيدي، فهو بلا ريب إمام العربية وحجة النّحاة، ولا شك أن انفراده بالرأي هنا لم ينتج من قلة إحاطة أو تدبر، ومثله لا يقول الرأي بلا استبصار، وانفراد مثله برأي لا يلزم منه وصف الرأي بالشذوذ أو الوهن! وغير غائب عن البال أن الخليل بن أحمد الفراهيدي، الذي توفي عام (170 هـ)، لم يدرك عصر تسبيع القراءات، حيث لم تشتهر عبارة القراءات السبع إلا أيام ابن مجاهد (¬6)، وهو الذي توفي عام 324 هـ. ولم يكن الخليل بن أحمد يعني بالطبع هذه القراءات السبع التي تظاهر العلماء على اعتمادها وإقرارها بدءا من القرن الرابع الهجري، ولكنه كان يريد أن ثمة سبع قراءات قرأ بها النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ¬

_ (¬1) البرهان 1/ 213. (¬2) طبقات القراء 2/ 143. (¬3) البرهان 1/ 214. (¬4) الفراهيدي: (100 - 170 هـ، 718 - 786 م). الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي اليحمدي، أبو عبد الرحمن من أئمة اللغة والأدب، وواضع علم العروض، وأستاذ سيبويه النحوي المعروف، ولد ومات بالبصرة، كان مغمورا في الناس لا يعرف، له كتاب (العين في اللغة)، وهو أول معجم في العربية، وله أيضا: (معاني الحروف)، و (جملة آلات العرب)، و (تفسير حروف اللغة)، وكتاب (العروض)، و (النقط والشكل)، و (النغم). الأعلام 2/ 314. (¬5) الإتقان 1/ 78، والبرهان 1/ 223. (¬6) ابن مجاهد (245 - 324 هـ، 859 - 936 م). هو أحمد بن موسى بن العباس التميمي، أبو بكر بن مجاهد، كبير العلماء بالقراءات في عصره. من أهل بغداد، وكان حسن الأدب، رقيق الخلق، فطنا جوادا، له كتاب (القراءات الكبير)، و (قراءة ابن كثير)، و (قراءة أبي عمرو)، و (قراءة عاصم)، و (قراءة نافع)، و (قراءة حمزة)، و (قراءة الكسائي)، و (قراءة ابن عامر)، و (قراءة النّبي صلّى الله عليه وسلّم)، و (كتاب الياءات)، و (كتاب الهاءات). الأعلام 1/ 261.

وتلقّاها عنه أصحابه، ومن بعدهم أئمة السّلف، وهي تنتمي إلى أمهات قواعدية لما يتيسر من يجمعها بعد- أي في زمن الخليل- وأنها لدى جمعها وضبطها ترتد إلى سبعة مناهج، وفق حديث النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف». وهذا الفهم لرأي الخليل هو اللائق بمكانته ومنزلته العلمية، وهو المتصور في ثقافته ومعارفه زمانا ومكانا، وبه تدرك أنه لم يكن يجهل أن عصر الأئمة متأخر عن عصر التنزيل، وهو أمر لا يجهله أحد. وكذلك أشير هنا إلى رأي شيخ المفسّرين، الإمام الطبري (¬1)، الذي كان يرى أن الأحرف السبعة منهج في الإقراء أذن به النّبي صلّى الله عليه وسلّم زمنا ثم نسخه قبل أن يلقاه الأجل، وهكذا فقد مات النّبي صلّى الله عليه وسلّم وليس بين الناس إلا حرف واحد، وأن هذه القراءات المتواترة اليوم مهما بلغت كثرة إنما تدور ضمن هذا الحرف الواحد الذي أذن النّبي صلّى الله عليه وسلّم بالإقراء والرواية به (¬2). ومن أدلّته على نسخ الأحرف السبعة أنها لو كانت قرآنا باقيا لم تكن لتخفى عن الأمة بعد أن تعهّد الله سبحانه بحفظ كتابه العظيم في قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 15/ 9]، وكذلك حصول الاختلاف في فهمها، وتحديد المراد بها، وقد قال الله سبحانه: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النّساء: 4/ 82]. ومن أدلّته على ذلك أن المروي عن السّلف في الأحرف السبعة لا يتفق والرسم القرآني، فلم يكن ثمة مندوحة من القول بنسخ ذلك، وقد نقل مكي بن طالب القيسي في الإبانة رأي الطبري فقال: «يذهب الطبري إلى أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن إنما هي تبديل كلمة في موضع كلمة، يختلف الخط بهما، ونقص كلمة، وزيادة أخرى، فمنع خط المصحف المجمع عليه مما زاد على حرف واحد لأن الاختلاف- عنده- لا يقع إلا بتغيير الخط في رأي العين. ¬

_ (¬1) ابن جرير الطبري (224 - 310 هـ، 839 - 923 م). هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، أبو جعفر، المؤرّخ المفسّر الإمام، ولد في آمل في طبرستان، واستوطن بغداد وتوفي بها، وعرض عليه القضاء فامتنع، والمظالم فأبى، له كتاب: (أخبار الرّسل والملوك)، ويعرف بتاريخ الطبري في (11) جزءا، و (جامع البيان في تفسير القرآن)، وله أيضا: (اختلاف الفقهاء)، و (المسترشد) في علوم الدين، و (جزء في الاعتقاد)، و (القراءات)، وغير ذلك، وهو من ثقات المؤرّخين. قال ابن الأثير: أبو جعفر أوثق من نقل التاريخ، وفي تفسيره ما يدلّ على علم غزير وتحقيق. وكان مجتهدا في أحكام الدين لا يقلّد أحدا بل قلّده بعض الناس وعملوا بأقواله وآرائه. الأعلام 6/ 69. (¬2) انظر مناهل العرفان للزرقاني 1/ 179.

فالقراءات التي في أيدي الناس اليوم كلها عنده حرف واحد من الأحرف السبعة التي نصّ عليها النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وستة الأحرف الباقية قد سقطت، وبطل العمل بها بالإجماع على خط المصحف المكتوب على حرف واحد» (¬1). وقد لخص الطبري مذهبه بقوله: «فلا قراءة اليوم للمسلمين إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيق الناصح دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية» (¬2). والخلاصة أن اختيار الطبري متجه إلى أن الأحرف السبعة رفعت من القرآن الكريم، وأنها كانت إذنا من الله عزّ وجلّ يتضمن التخفيف عن الأمة حتى إذا هدمت حواجز كثيرة كانت تحول بين قبائل العرب، ردّهم الله عزّ وجلّ إلى حرف واحد، ولكنه أذن أن يقرأ هذا الحرف بلهجات مختلفة هي القراءات التي ثبتت إلى المعصوم صلّى الله عليه وسلّم تواترا وأداء. وقد نصّ الطّبري على هذا التّعليل بعينه حين قال: «فاستوسقت (¬3) له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أن فيما فعل من ذلك الرشد والهداية، وتركت القراءة بالأحرف السّتة التي عزم عليها إمامها العادل في تركه، طاعة منها له، ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملّتها، حتى درست من الأمة معرفتها وتعفت آثارها، فلا سبيل اليوم لأحد إلى القراءة بها لدثورها وعفو آثارها، وتتابع المسلمين إلى رفض القراءة بها من غير جحود منهم لصحتها وصحة شيء منها، ولكن نظرا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها» (¬4). وبعد تفصيل رأي الفراهيدي، واختيار الطبري أضع بين يديك اختيار الجمهور، فقد رأى جمهور المفسّرين أن الأحرف السبعة باقية في التنزيل، وقد استوعبتها المصاحف العثمانية، وما هي إلا تحديد لوجهة الاختلاف في أداء الكلمة القرآنية، وفق ما أذن به النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد اعتبر الإمام أبو الفضل الرازي (¬5) ممثلا لرأي الجمهور، وقد نهج من جاء بعده على منواله في اختياره، وننقل لك هنا اختياره كالتالي: الكلام لا يخرج عن سبعة أحرف في الاختلاف: ¬

_ (¬1) الإبانة من معاني القراءات لمكي بن أبي طالب القيسي ص 32. (¬2) تفسير الطبري 1/ 62، وانظر الإبانة لمكي بن أبي طالب ص 50. (¬3) كذا في الأصل، ولعلها فاستوثقت. (¬4) الإبانة لمكي بن أبي طالب ص 50. (¬5) أبو الفضل الرازي: هو الإمام الكبير ابن شاذان المتوفى سنة 290 هـ. ومن العجيب أن الأمة اعتمدت على اختيار الرازي

الأول: اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية، وجمع، وتذكير، وتأنيث، مثاله قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المؤمنون: 23/ 7]. قرئ هكذا: لِأَماناتِهِمْ جمعا وقرئ لأمانتهم بالإفراد. الثاني: اختلاف تصريف الأفعال من ماض ومضارع وأمر. مثاله: قوله تعالى: فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا [سبأ: 34/ 19]، قرئ هكذا بنصب لفظ (ربّنا) على أنه منادى، وبلفظ (باعد) فعل أمر، وقرئ هكذا (ربّنا بعّد) برفع (ربّ) على أنه مبتدأ، وبلفظ (بعد) فعلا ماضيا مضعّف العين، جملته خبر. الثالث: اختلاف وجوه الإعراب، مثاله: قوله تعالى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: 2/ 283]، قرئ بفتح الراء وضمّها، فالفتح على أن (لا) ناهية، فالفعل مجزوم بعدها، والفتحة الملحوظة في الراء هي فتحة إدغام متماثلين. أما الضّم فعلى أنّ (لا) نافية، فالفعل مرفوع بعدها. الرابع: الاختلاف بالنقص والزيادة: مثال: قوله تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [اللّيل: 92/ 3]. قرئ بهذا اللفظ وقرئ أيضا: (والذكر والأنثى) بنقص كلمة (ما خلق). الخامس: الاختلاف بالتقديم والتأخير: مثاله: قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ [ق: 50/ 19]، وقرئ (وجاءت سكرة الحق بالموت). السادس: الاختلاف بالإبدال: مثاله: قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها [البقرة: 2/ 259] بالزاي وقرئ (ننشرها) بالرّاء. السابع: اختلاف اللغات (اللهجات) كالفتح والإمالة والترقيق والتفخيم والإظهار والإدغام ونحو ذلك، مثاله قوله تعالى: بَلى قادِرِينَ [القيامة: 75/ 4]، قرئ بالفتح والإمالة في لفظ (بلى). ¬

_ هذا على الرغم من غمرته في الذكر والصيت، إذ لم نعثر له على ترجمة، وغاية ما حصلناه عنه هذه الكلمة التي أوردها ابن الجزري في النشر. ولم أجد أحدا- في حدّ علمي- من أصحاب موسوعات تراجم الرجال ترجم له!! ...

وعلى اختيار الرازي هذا جاءت آراء جماهير علماء القرآن، وأشهر من حرر هذه المسألة ابن قتيبة (¬1) في (المشكل)، والطيب الباقلاني (¬2) في (الإعجاز)، وابن الجزري (¬3)، وإن يكن لكل واحد منهم وجه انفراد، غير أنهم التزموا منهج الوجوه السبعة المذكورة مع تغيير طفيف. ونطوي القول في مسألة القراءات والأحرف عند هذا الحد، مع أننا لم نحسم الجدل المستمر في تحقيق ضوابط ما بين القراءة والحرف، إذ ليس ذلك من شرط هذه الدراسة، ولكن الاطّلاع على الأقوال المختارة في الباب يكشف لنا عن سبيل الإحاطة بهذه المعارف، وبحسبي أن أجزم هنا أن الأحرف السبعة الواردة في السّنن الصّحاح هي معنى آخر في التّنزيل، متّصل بالأداء، مختلف عن معنى القراءات ودلالته. ¬

_ (¬1) ابن قتيبة (ت 322 هـ 934 م). هو أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو جعفر، قاض من أهل بغداد، له اشتغال بالأدب والكتابة، ولي القضاء بمصر سنة 321 هـ فجاءها، وعرف فضله فيها، فأقبل عليه طلاب العلوم والآداب، وكانت وفاته بمصر وهو يلي قضاءها. (¬2) القاضي الباقلاني (338/ 403 هـ 950/ 1013 م). محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر، قاض من كبار علماء الكلام، انتهت إليه الرئاسة في مذهب الأشاعرة، ولد في البصرة، وسكن بغداد، وتوفي بها، وجهه عضد الدولة سفيرا عنه إلى ملك الروم، فجرت له في القسطنطينية مناظرات مع علماء النّصرانية بين يدي ملكها. من كتبه (إعجاز القرآن)، و (الإنصاف)، و (مناقب الأئمة)، و (دقائق الكلام)، و (الملل والنّحل)، و (هداية المرشدين)، و (الاستبصار) وغيرها. (¬3) ابن الجزري (751/ 833 هـ- 1350/ 1429 م) هو محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف، أبو الخير، شمس الدين العمري الدمشقي، ثم الشيرازي الشافعي، شيخ الإقراء في زمانه، من حفاظ الحديث، ولد ونشأ في دمشق، وابتنى بها مدرسة سمّاها (دار القرآن)، ورحل إلى مصر مرارا، ودخل بلاد الروم، وسافر إلى شيراز، فولي قضاءها، ومات فيها. من كتبه: (النشر في القراءات العشر)، و (غاية المجتهدين في طبقات القرّاء)، و (التمهيد في علم التجويد)، وغيرها كثير.

الفصل الثاني تاريخ القراءات

الفصل الثاني تاريخ القراءات المبحث الأول القراءات في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أصبح من المسلّم به- كما رأينا- أن باب الاجتهاد منقطع تماما فيما يتعلق برواية القرآن الكريم- تلاوته وأدائه- وليس لعلماء القراءة في هذا الباب أدنى اجتهاد، إلا في حدود ضبط الرواية عن المعصوم صلّى الله عليه وسلّم. وبذلك فإن سائر القراءات المتواترة قرأ بها النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأقرأ عليها، ويلزم التسليم هنا أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ بتحقيق الهمزات، وقرأ بتسهيلها، وقرأ بتغييرها، وقرأ بإسقاطها، وقرأ بفتح الألف، والتقليل فيها، واجتماعها، والإمالة فيها، وقرأ بالإدغام الصغير، والإدغام الكبير، وقرأ بالفصل بين الحروف المدغمة. وقرأ كذلك بسائر الفرشيات التي تنسب إلى الأئمة العشرة؛ إذ ثبت بأسانيدهم المتواترة أنهم تلقوا ذلك كله عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم. ولم يكن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قد قسم هذه الاختيارات إلى وجوه محسومة: سبعة أو عشرة، بل ترك لأصحابه الاختيار منها، بحسب ما تلقوه واستقامت عليه ألسنتهم. ولو قدر أن يكون في عهد الصحابة من يهتم بحسم مسائل القراءة على الوجه الذي نهجته الشيوخ فيما بعد، لانتهى إلى الأمر ذاته الذي انتهوا إليه، ولكنه صلّى الله عليه وسلّم مات وأمر الاختيار هذا مشاع في الأمة، يتخير منه القرّاء من الصحابة ما يرغبون، بشرط أن يكونوا قد سمعوه من المعصوم صلّى الله عليه وسلّم في مقام.

المبحث الثاني القراء من الصحابة الكرام

وهكذا فإنّه يمكن القول إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أول شيخ إقراء، تلقى الوجوه جميعا عن جبريل، عن ربّ العزّة جلّ جلاله وتباركت آلاؤه، وهو صلّى الله عليه وسلّم أقرأها كما تلقّاها. وغني عن القول أن أي خلاف كان ينشأ في مسألة من مسائل القراءة كان يحسم مباشرة على وفق تصويب النّبي صلّى الله عليه وسلّم لأحد الوجهين، أو إقراره لهما جميعا. المبحث الثاني القرّاء من الصحابة الكرام لم يكن للصحب الكرام اشتغال بشيء أولى من اشتغالهم بالقرآن الكريم، ولذلك كثر فيهم القرّاء والحفّاظ، ولكن لم يكن أولئك القرّاء بالضرورة على وفق المناهج التي اختارها القرّاء فيما بعد من التّخصص، والجمع بين الوجوه، واستقرائها، وإنما كان محض عبادة يؤدونها على حسب ما سمعوه من النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان على علماء التابعين أن يتعقّبوا هؤلاء الأئمة القرّاء ليتخيروا قراءاتهم وفق اختياراتهم ومناهجهم. ونقوم هنا بالتعريف ببعض أئمة القرّاء من الصحابة الكرام بإيجاز، وهم: 1 - أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه (51 ق. هـ- 13 هـ): عبد الله بن عثمان بن عامر بن غالب بن فهر، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الغار، وخليفة المسلمين الأول. استمرت خلافته سنتين وأربعة أشهر تقريبا، وهو من حفّاظ القرآن كما نصّ عليه الإمام أبو الحسن الأشعري، وهو أول من آمن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الرّجال. وهو أقرأ الأصحاب بدلالة إمامته للمسلمين؛ والرسول الكريم- صلّى الله عليه وسلّم- يقول: «يوم القوم أقرؤهم للقرآن» (¬1). 2 - عمر بن الخطاب رضي الله عنه (40 ق. هـ- 23 هـ): هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن غالب بن فهر، القرشيّ، العدويّ، أبو حفص، أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين. استمرت خلافته عشر سنين ونصف تقريبا، صاحب الفتوح، ويضرب به المثل في العدل. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد عن أنس بن مالك 3/ 102.

3 - عثمان بن عفان رضي الله عنه (47 ق. هـ - 35 هـ):

قال أبو العالية بن الرياحي: قرأت القرآن على عمر أربع مرات، رضي الله عنه وأرضاه. 3 - عثمان بن عفان رضي الله عنه (47 ق. هـ- 35 هـ): وهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية القرشيّ، أبو عبد الله، وأبو عمرو، أمير المؤمنين، ذو النّورين، ثالث الخلفاء الراشدين. زوّجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابنته رقية، وبعد وفاتها زوّجه بأم كلثوم. أخذ عنه قراءة القرآن المغيرة بن أبي شهاب المخزومي (مقرئ الشام)، وأبو عبد الرحمن السّلمي، وزرّ بن حبيش، وأبو الأسود الدّؤلي. وغيرهم. 4 - علي بن أبي طالب رضي الله عنه (23 ق. هـ- 40 هـ): وهو علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشيّ الهاشميّ، أبو الحسن، ابن عمّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم وصهره، وهو أول طفل أسلم، تميّز بالشجاعة والبطولة، وكان يدعى (مدينة العلم)، وهو رابع الخلفاء الراشدين، وهو من حفّاظ القرآن الكريم، وعرض عليه القرآن كثير من الناس منهم: أبو عبد الرحمن السّلمي، وأبو الأسود الدؤلي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. والأربعة السابقين من المبشّرين بالجنة رضي الله عنهم وأرضاهم. 5 - طلحة بن عبيد الله (38 ق. هـ- 36 هـ): وهو طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي، القرشيّ، أبو محمد، أحد المبشّرين بالجنة، وأحد الثمانية السابقين إلى الإسلام، لقّبه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعدة ألقاب منها: طلحة الجود، وطلحة الخير، وطلحة الفياض، وقال فيه مرّة: الصبيح، المليح، الفصيح، رضي الله عنه وأرضاه. 6 - سعد بن أبي وقاص (23 ق. هـ- 55 هـ): هو سعد بن مالك، أبو وقاص، بن أهيب بن عبد مناف، القرشيّ، الزهريّ، أبو إسحاق، فاتح العراق، ومدائن كسرى، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، ويدعى فارس الإسلام، وهو أحد العشرة المبشّرين بالجنة رضي الله عنه وأرضاه.

7 - عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ):

7 - عبد الله بن مسعود (ت 32 هـ): هو عبد الله بن مسعود بن مدركة بن إلياس بن مضر الهذلي، أبو عبد الرحمن، وهو أحد السابقين إلى الإسلام، ومن علماء الصحابة الكبار عرض القرآن على النّبي صلّى الله عليه وسلّم وعرض عليه خلق كثير منهم: عبيد بن قيس، والحارث بن قيس، وعبيد بن نضلة، وعلقمة، وعبيدة السلماني وغيرهم. كان يقول: حفظت من فيّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضعا وسبعين سورة. كان يخدم النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ويحمل نعله، ويتولّى فراشه وسواكه وطهوره، وكان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يطلعه على أسراره، وهو الذي قتل أبا جهل. كان إماما في تجويد القرآن وترتيله، وإليه تنتهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش. توفي بالمدينة عن عمر يناهز بضعا وستين سنة، ودفن بالبقيع. رضي الله عنه وأرضاه. 8 - عمرو بن العاص (50 ق. هـ- 58 هـ): وهو عمرو بن العاص بن وائل السهمي، القرشيّ، أبو عبد الله. فاتح مصر، وأحد عظماء العرب، وهو أول من أولي الرأي والحزم، وقد وردت عنه الرواية في حروف القرآن الكريم. 9 - أبيّ بن كعب (ت 21 هـ): وهو أبيّ بن كعب بن قيس بن عبيد ... بن مالك النّجار الخزرجي، سيد القرّاء. قرأ على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ عليه أبو هريرة رضي الله عنه، وهو الذي قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقرؤكم أبيّ». وقرأ عليه من الصحابة أيضا عبد الله بن عباس، وعبد الله بن السائب، ومن التابعين: عبد الله بن عياش، وعبد الله بن حبيب، وأبو العالية الرياحي. 10 - أبو هريرة (21 ق. 59 هـ): وهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، من كبار رواة الحديث، أسلم هو وأمّه سنة (7 هـ). عرض القرآن على أبيّ بن كعب، وتنتهي إليه قراءة أبي جعفر، ونافع. ومناقبه أكثر من أن تحصى، رضي الله عنه وأرضاه.

11 - عبد الله بن عمر بن الخطاب (10 ق. هـ - 73 هـ):

11 - عبد الله بن عمر بن الخطاب (10 ق. هـ- 73 هـ): وهو صحابي جليل، أبو عبد الرحمن، وردت عنه حروف القرآن، وهو من رواة الحديث، هاجر إلى المدينة قبل أبيه، قاتل في حروب الرّدة، واشترك في غزو إفريقيا، وتوفّي بمكة، رضي الله عنه وأرضاه. 12 - سالم مولى أبي حذيفة: هو ابن عتبة بن ربيعة، أبو عبد الله، صحابي جليل، أحد الأربعة الذين وثقهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم ممن يؤخذ عنهم القرآن إذ قال: «خذوا القرآن من أربعة: عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة». رضي الله عنهم جميعا. 13 - زيد بن ثابت (11 ق. هـ- 45 هـ): وهو زيد بن ثابت بن الضّحاك ... ابن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي. مقرئ، فرضي، كاتب النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمينه على الوحي، وأحد الذين جمعوا القرآن على عهده، وهو ممن كتب المصحف لأبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، ثم لعثمان حين وجهها إلى الأمصار. عرض القرآن على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ عليه من الصحابة: أبو هريرة، وابن عباس، وقرأ عليه من التابعين: أبو عبد الرحمن السّلمي، وأبو العالية الرياحي، ويزيد بن القعقاع. 14 - معاذ بن جبل (20 ق. هـ- 18 هـ): وهو معاذ بن جبل بن عمرو الأنصاري، وهو أحد الذين جمعوا القرآن حفظا على عهد النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد وصفه النّبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، وقد وردت عنه الرواية في حروف القرآن، توفي في طاعون عمواس بغور الأردن عن 38 عاما رضي الله عنه وأرضاه. 15 - عبد الله بن عباس (3 ق. هـ- 68 هـ): ابن عبد المطلب بن هاشم القرشي، أبو العباس، وهو حبر هذه الأمة، وحبر التفسير، حفظ القرآن في عهد النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وعرض على أبيّ، وزيد بن ثابت، وقد دعا له النّبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم بعلم التأويل، والفقه في الدين.

16 - عبد الله بن عمرو بن العاص (7 ق. هـ - 65 هـ):

أخذ عنه القرآن، وعرض عليه: مولاه درباس، وسعيد بن جبير، وسليمان بن قتيبة، وعكرمة بن خالد، وأبو جعفر. 16 - عبد الله بن عمرو بن العاص (7 ق. هـ- 65 هـ): صحابي جليل، حفظ القرآن في حياة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهو الذي استزاده ليختمه في ثلاثة أيام، فقال له عليه الصلاة والسلام: «إنه لن يفقه فيه رجل قرأه في أقل من ثلاثة». 17 - عبد الله بن الزبير (1 هـ- 73 هـ): وهو عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشيّ، الأسديّ، أبو بكر، صحابي جليل، وهو أول مولود للمهاجرين في المدينة. اشترك في فتوحات فارس ومصر وشمالي إفريقيا. حارب إلى جانب عائشة في معركة الجمل، عاش في المدينة، وعارض خلافة يزيد الأول ابن معاوية فأعلن نفسه خليفة، وبويع في الحجاز، وامتدت خلافته إلى مصر واليمن والعراق وخراسان، وجعل قاعدة خلافته المدينة المنورة. قضى عليه الحجاج الثقفيّ. وقد وردت عنه الرواية في حروف القرآن على قول أبي عمرو الدّاني. 18 - عبد الله بن السائب المخزوميّ، أبو السّائب (ت 70 هـ): وهو قارئ أهل مكة، وقد روى قراءاته على أبيّ، وعمر بن الخطاب. عرض عليه القرآن: مجاهد بن جبير، وقد قال عنه مجاهد: كنا نفخر بقارئنا عبد الله بن السائب رضي الله عنه. 19 - أنس بن مالك بن النضر الأنصاريّ، أبو حمزة (ت 91 هـ): صاحب النّبي صلّى الله عليه وسلّم وخادمه، وردت عنه الرواية في حروف القرآن، قرأ عليه قتادة، ومحمد بن مسلم الزهريّ، رضي الله عنه وأرضاه. 20 - مجمّع بن جارية (ت 50 هـ): وهو مجمع بن جارية بن عامر العطاف، الأنصاريّ، الأوسيّ. صحابي جليل، وأحد الذين جمعوا القرآن في عهد النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان غلاما حدثا، وقد وردت عنه الرواية في حروف القرآن. توفي بالمدينة إبّان خلافة معاوية. رضي الله عنه وأرضاه.

21 - ثابت بن زيد (ت 12 هـ):

21 - ثابت بن زيد (ت 12 هـ): وهو ثابت بن زيد بن قيس، الأنصاري، الخزرجي، أبو زيد، وهو أحد الذين جمعوا القرآن في عهد النّبي صلّى الله عليه وسلّم. 22 - سعد بن عبيد (ت 16 هـ): وهو سعد بن عبيد بن النعمان بن قيس، الأنصاري، الأوسي، والمكنّى سعد القارئ، وهو أحد الذين جمعوا القرآن على عهد النّبي صلّى الله عليه وسلّم. 23 - أبو الدرداء (ت 32 هـ): هو عويمر بن زيد الأنصاري الخزرجي، حكيم هذه الأمة، وأحد الذين جمعوا القرآن على عهد النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو أول قاض ولي قضاء دمشق، وكان يجعل القرّاء في جامع دمشق عشرة عشرة، ويجعل لكل عشرة عريفا، وقد جعل ابن عامر عريفا على عشرة، فلما توفي أبو الدرداء خلفه ابن عامر على الإقراء في دمشق. عرض عليه القرآن زوجته أم الدرداء الصغرى، وعبد الله بن عامر، وخالد بن معدان، وخليد بن سعد، وراشد بن سعد. توفي بدمشق، ودفن بها، رضي الله عنه وأرضاه. 24 - حذيفة بن اليمان العبسيّ (ت 36 هـ): أبو عبد الله صحابي جليل، يعدّ من الفاتحين الشّجعان، ولاه عمر بن الخطاب على المدائن فتغلب على الفرس في نهاوند عام (23 هـ)، وغزا همذان والرّي. توفي بالمدائن عام (36 هـ)، وقد وردت عنه الرواية في حروف القرآن، رضي الله عن حذيفة وأرضاه (¬1). فهذه أسماء أربعة وعشرين صحابيا كريما، أخذ عنهم التابعون، ورووا قراءتهم، وصاروا فيما بعد إسنادا عاليا لأهل التواتر، ولن تجد اليوم صاحب تواتر إلا وهو يدلي من أحد هؤلاء الصحب الكرام بسبب. ¬

_ (¬1) تمت ترجمة الصحابة الكرام تخيرا من المراجع الخمسة الأمهات: الطبقات الكبرى لابن سعد، والاستيعاب لابن عبد البر، وأسد الغابة لابن الأثير، والإصابة لابن حجر، وطبقات القرّاء لابن الجزري. وقد تخيّرنا من تلك المظانّ ما يتصل ببيان إتقانهم للرواية، ومساهماتهم في حفظ القرآن وضبطه.

وتجب الإشارة هنا إلى أن ما روي عن الصحابة من اختيارات في القراءة مما لم يدرج في المتواتر ليس له حظ من القبول، ويحرم اعتقاد أنه من القرآن، وهو على كل حال ليس إلا اختيارات لبعض الكلمات لا يجتمع منها بحال نص قرآني كامل، ويجب حمله على أحد الوجوه الثلاثة الآتية: 1 - الطعن في إسناد هذه الرواية، وهذا من باب تحصيل الحاصل، إذ القرآن لا يقبل إلا متواترا، فما لم تندرج هذه الرواية في المتواتر؛ فهي حكما ليست من القرآن الكريم، والمتواتر كله مضبوط محفوظ مدوّن. 2 - حمل ذلك على أن الصحابي أراد بذلك التفسير، فأدرجه في مصحفه، أو لقنه للمتلقي على أنه تفسير للنّص القرآني وليس جزءا منه. 3 - حمل ذلك على أنه وهم من الصحابي، أو من الراوي المتلقّي عنه، وأنه لا يقاوم الصحيح المروي عن الصحابي نفسه بأسانيد التواتر المحفوظة. ومن الأمثلة على ذلك المردود مما أورده بعض علماء القراءات: 1 - روي عن علي رضي الله عنه: (يريد ينقاص) بدلا من (يريد أن ينقض) (¬1). 2 - ونسب إليه أيضا: (فمن خاف من موص حيفا) بدلا من (جنفا) (¬2). 3 - قرأ أبي بن كعب رضي الله عنه: (وغير الضّالين) بدلا من (ولا الضالين) (¬3). 4 - وقرأ أيضا: (للذين يقسمون من نسائهم) بدلا من (للذين يؤلون) (¬4). 5 - وقرأ ابن مسعود: (وكان عبد الله وجيها) بدلا من (وكان عند الله) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر المحتسب لابن جني 2/ 31. (¬2) انظر البحر المحيط لأبي حيان 2/ 24. (¬3) انظر البحر المحيط لأبي حيان 1/ 24. (¬4) انظر البحر المحيط لأبي حيان 2/ 180 م ورواها أيضا عن ابن عباس الطبري في جامع البيان. (¬5) انظر المحتسب لابن جني 2/ 185.

فمثل هذه الروايات وغيرها- وهي كثيرة (¬1) - لا تعتبر قرآنا بحال، وإنما يوردها المفسرون على أساس أنها منهج الصحابي في التفسير، وقد أعرض عنها بالطبع أئمة الرواية. ويرد هنا سؤال: أين يمكننا أن نقف على معارف هؤلاء الصحابة الكرام في القراءة؟ وهل ثمة مصنفات تركوها نثروا فيها معارفهم، نتلمس فيها اختياراتهم؟ والجواب أن ذلك يلتمس من طريقين: أولا: ما دوّنه علماء التفسير والرسم من اختيارات هؤلاء الصحابة الكرام، حيث كانوا يوردون ما قرأ به الصحابة يستعينون به على التفسير، وإضاءة المعاني، ومن هذه المصنفات: المصاحف لابن أبي داود السجستاني (¬2)، والبحر المحيط لأبي حيان (¬3)، وإملاء ما منّ به الرحمن للعكبري (¬4)، وإعراب القرآن للنحاس (¬5)، ومعاني القرآن للأخفش (¬6)، ومعاني القرآن للفرّاء (¬7)، ¬

_ (¬1) أفرط في إيراد مثل هذه النقول الشاذة عن الصحابة كل من: - أبو بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني في كتاب المصاحف. - ابن جني في كتابه المحتسب. - أبو حيان في تفسيره البحر المحيط. ثم قام الأستاذان الجليلان الدكتور أحمد مختار عمر، والدكتور عبد العال سالم مكرم، باستقصاء سائر هذه الروايات المتواترة والآحاد والشاذة والباطلة في موسوعة كبيرة تقع في تسع مجلدات أصدرتها (انتشارات أسوة) التابعة لمنظمة الحج والأوقاف والشئون الخيرية في طهران، بمساعدة لجنة دعم البحث العلمي لكلية الآداب بالكويت. (¬2) السجستاني: هو أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث، وسليمان بن الأشعث هو أبو داود السجستاني صاحب السّنن، وقد كتب محمد بن سليمان كتابه المشهور، المصاحف. (انظر الحاشية السابقة). (¬3) أبو حيان الغرناطي (654 - 740 هـ): ولد في غرناطة، وتوفي في القاهرة، وتعلم في الأندلس ومصر. لغوي من كبار العلماء، له كتب في بحث لغات العربية والتركية والفارسية والحبشية. من أشهر كتبه (البحر المحيط) في تفسير القرآن، و (منهج السالك على ألفية ابن مالك). (¬4) العكبري (538 - 616 هـ): عبد الله بن الحسين. عرف بالنحوي الضرير، ولد وتوفي ببغداد، تعلّم على ابن الخشاب. له (التبيان في إيضاح القرآن)، و (شرح ديوان المتنبي). (¬5) النحاس، أبو جعفر أحمد (ت 338 هـ): لغوي، أديب، مفسّر، تعلم على الزجاج والأخفش والأصغر وابن الأنباري. تعلم في القاهرة. جلس عند مقياس النيل يتلو الشعر فأخذه النهر في فيضانه. له مؤلفات في اللغة والآداب والتفسير. (¬6) الأخفش (ت 315): هو علي بن سليمان بن الفضل الأخفش الصغير البغدادي، أبو الحسن، نحوي، إخباري لغوي، سمع المبرد وثعلب بن يحيى وغيرهما، وتوفي ببغداد وقد قارب الثمانين، له من التصانيف (الأنواء)، (التثنية والجمع)، (شرح كتاب سيبويه)، (الجراد)، و (تفسير معاني القرآن). (¬7) الفرّاء (144 - 207 هـ): هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي، أبو زكريا، إمام الكوفيين وأعلمهم بالنحو

(فائدة) موقف مجتهدي الشيعة من مسألة سلامة النص القرآني:

وغيث النفع للصفاقسي (¬1)، وحجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة (¬2)، والتيسير للداني (¬3)، والتبيان للطوسي (¬4)، وإتحاف فضلاء البشر للدّمياطي (¬5)، وغيرها. والحق أنه لا يخلو كتاب من كتب التفسير أو الرسم؛ من إشارات كثيرة لما قرأ به الصحابة الكرام من وجوه سمعوها من النّبي صلّى الله عليه وسلّم. ثانيا: وهي الوثيقة الأهم، وهي تلقي الأئمة القراء من شيوخهم بالمشافهة، وهذه المشافهة التي بلغت أعلى درج التواتر لم تزل متصلة، يتلقاها الأبرار عن الأخيار، لا يرقى إليها الشك، ولا يتطرق إليها الوهم، وهي لدى العلماء اليوم متصلة مسندة، وكل قراءة منها تنتهي إلى صحابي كريم، ومن خلالها تستطيع أن تتبين اختيارات هذا الصحابي من قراءة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الأسانيد اليوم متوافرة متضافرة، منصوبة في صدور مجالس الإقراء، وسوف نأتي على إيراد بعض هذه الأسانيد في التّلقي عن أكابر الصحابة في قسم الملاحق. (فائدة) موقف مجتهدي الشيعة من مسألة سلامة النّص القرآني: نجد من الأمانة العلمية هنا أن نتطرق إلى أمر غاية في الأهمية، وهو موقف الشيعة من فرية ¬

_ واللغة وفنون الأدب، عهد إليه المأمون بتربية ابنيه، وكان فقيها أيضا، عالما بأيام العرب وأخبارها. من كتبه (المقصور والممدود)، و (معاني القرآن)، و (المذكر والمؤنث)، و (الأمثال)، وغيرها كثير. (¬1) الصفاقسي (1260 - 1323 هـ): محمد بن محمد طريفة الصفاقسي، فقيه، أديب، ناثر، شاعر، حفظ القرآن وجوّده، وأخذ بالروايات من طريق الشاطبية وغيرها، ثم رحل إلى الحجاز فحجّ، ثم سافر إلى تونس فتلقى العلم بجامع الزيتونة، وتوفي بصفاقس، ودفن بها، له مجموعة فتاوى نظمها من محرراته مدة مباشرته الفتوى. (¬2) أبو زرعة ابن زنجلة: من أعلام القرن الرابع، أشار سعيد الأفغاني في مقدمة تحقيقه لكتاب أبي زرعة (حجة القراءات)، بأنه لم يجد له ترجمة وافية، وحسبك في معرفة علمه وفضله مطالعة كتابه الشهير (حجة القراءات). (¬3) الدّاني (ت 444 هـ/ 1054 م): هو أبو عمرو عثمان بن الصيرفي، ولد في قرطبة، فقيه مالكي، طلب العلم في القيروان والقاهرة ومكة والمدينة، ثم عاد إلى قرطبة، ثم استقر بدانية حيث توفي، كان ذا حافظة عجيبة، ذاعت شهرته في القراءات. له ما يزيد على مائة مصنف أخصها (التيسير في القراءات السبع). (¬4) الطوسي (385 - 460 هـ): هو أبو جعفر محمد بن الحسن، ولد في طوس، وتوفي بالنجف، ودرس في بغداد. أحرقت كتبه لما دخل أرصغرل بك السلجوقي إلى بغداد. من مؤلفاته (الاستبصار فيما اختلف فيه من أخبار)، وله كذلك (التهذيب)، وهما من كتب الحديث عن الشيعة. (¬5) الدمياطي (ت 1117 هـ): هو محمد بن أحمد، من علماء دمياط. له إتحاف فضلاء البشر بالقراءات الأربعة عشر.

تحريف القرآن، ومسألة سلامة النّص القرآني، فقد كثر الحديث حول هذه المسألة، واتخذها بعض الناس سببا للطعن في إيمان القوم ووصمهم بالزندقة، واعتقاد النقص والزيادة في كتاب الله. والحق أن الطعن في سلامة النّص القرآني منقول عن طائفة من علماء الشيعة، بل في بعض الكتب المصادر عند القوم، وهو ما يزيد المسألة تعقيدا، فقد ورد على سبيل المثال في الكافي للكليني (¬1)، وهو من أوثق مراجع القوم في الرواية النصوص التالية: عن جعفر بن محمد قال: (لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة، وإن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم كان سبع عشرة ألف آية) (¬2). عن أبي الحسن المضاي قال: «قرأ أمير المؤمنين: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ (من خلافة علي) وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، فقلت: تنزيل؟ فقال: نعم» (¬3). وفي الكافي للكليني أيضا في تأويل قوله تعالى: ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ: (إن الله تعالى لما قبض نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ونوزعت فاطمة في ميراثها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاعتزلت الناس خمسة وسبعين يوما حتى كتبت مصحفها، فأرسل الله جبريل إليها، حتى كتبت مصحفا فيه علم ما كان وما يكون، وما لم يكن إلى يوم القيامة) (¬4). عن محمد بن جهم الهلالي أن أبا عبد الله قال: (أمّة هي أزكى من أمّة) في سورة النّحل، ليست كذاك، ولكنها: (أئمة هي أزكى من أئمتكم) (¬5). ¬

_ (¬1) الكليني (ت 329 هـ): هو أبو جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي، فقيه ومحدّث ومؤرخ إمامي، من أهم رواة الشيعة الجعفرية، اشتهر بكتابه: الكافي، وهو مجموع يتضمن (16199) حديثا، تصبح عند حذف المكرر منها (8781) حديثا، وقد كتبت عليه مئات الشروح والتعليقات، ويعتبر من أوسع كتب الرواية عند الشيعة. (¬2) الكافي للكليني، باب 471، حديث (28). (¬3) أصول الكافي للكليني، كتاب الحجة، باب النكت من التنزيل في الولاية. 1/ 412، رقم الباب في المعجم المفهرس (166). (¬4) الكافي، باب فيه ذكر الصحيفة، 1/ 240، وانظر كذلك باب 98، حديث (1 و 2 و 3 و 4) 1/ 344، وقد عنون الكليني لهذا الباب بقوله: باب فيه ذكر الصحيفة والجامعة ومصحف فاطمة عليها السلام. (¬5) الكافي للكليني، باب 92، حديث (7).

ومثل ذلك في الكافي أيضا عن الإمام محمد الباقر قوله: «ما ادّعى أحد من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب، وما جمعه وحفظه كما أنزل إلا علي بن أبي طالب والأئمة بعده» (¬1). وقد أدى ورود مثل هذه الروايات عن القوم إلى فتح باب الطعن في عقائد الشيعة، وذهب بعض المتشددين من أهل السّنة إلى الحكم بكفر القوم وفساد عقائدهم (¬2). والحق أن من يعتقد تحريف القرآن الكريم كافر بالإجماع، مخالف لهذه الأمة، ولكن ينبغي أن لا نتعجل على الناس حتى نتبين حقيقة ما يعتقدون، فليس مجرد وجود الرواية في كتبهم دليلا على أنها لهم اعتقاد، وكذلك فإنه ينبغي أن نتبين مذهبهم في تأويل ما يروون. والمحققون من الشيعة لا يعتقدون صحة سائر ما في الكافي للكليني، ولم ينزلوه عندهم منزلة صحيح البخاري عندنا- كما يعتقد عامة الناس- بل إنهم يذكرون أن فيه ضعيفا ومرسلا كثيرا، وأن الشيخ المتقي الكليني صنف كتابه في عشرين سنة، يسند عمن يسمع، فالعهدة على الإسناد، كما صنع الإمام الطبري، إذ أثبت لك أسانيده، وقال هذا إسنادي، ومن أسند فقد أعذر. وفي دراسة علمية صدرت حديثا لمحقق شيعي هو السيد هاشم الحسيني جزم فيها بقوله: «إن المتقدمين لم يجمعوا على جميع مرويات الكليني جملة وتفصيلا» (¬3). ويقول: «إن أحاديث الكافي التي بلغت ستة عشر ألف حديث ومائة وتسعة وتسعين، يكون الصحيح منها خمسة آلاف واثنين وسبعين حديثا، والحسن مائة وأربعة وأربعين حديثا، والموثق ألفا ومائة وثمانية وعشرين حديثا، والقوي ثلاث مائة وحديثين، والضعيف تسعة آلاف وأربع مائة وثمانين حديثا» (¬4). ¬

_ (¬1) الكافي للكليني، كتاب فضل القرآن. (¬2) انظر على سبيل المثال: الخطوط العريضة للأصول التي قام عليها دين الشيعة الإمامية لمحب الدين الخطيب، ط المكتب الإسلامي 1391 هـ. وكذلك كتاب الشيعة والقرآن لإحسان إلهي ظهير ص 92 و 133. (¬3) دراسات في الحديث والمحدثين للسيد هاشم معروف الحسيني ص 132 - 134. (¬4) المصدر نفسه ص 137.

الصحيح 5072/ الحسن 144/ الموثق 1128/ القوي 302/ الضعيف 9480/ مجموع ما في الكافي 16199 (¬1) وقد تعقب النقاد من الشيعة روايات تحريف القرآن الواردة في الكافي، فإذا هي نحو ثلاث مائة رواية وردت من طريق أربعة وهم: أبو عبيد الله السياري، ويونس بن ظبيان، ومنخل بن جميل الكوفي، ومحمد بن حسن بن جهور (¬2). وهؤلاء الأربعة مطعون في عدالتهم عند علماء الاصطلاح من الشيعة، وإليك ما قالوه فيهم: يقول الغضائري (¬3) عن السياري: «ضعيف متهالك غال منحرف» (¬4). ويقول عنه الشيخ النجاشي (¬5): «ضعيف الحديث، فاسد المذهب» (¬6). وقال الشيخ النجاشي في يونس بن ظبيان: «ضعيف جدا، لا يلتفت إلى كل ما رواه (¬7)، بل كل كتبه تخليط». وقال عنه ابن الغضائري: «كوفي غال كذاب، وضّاع للحديث» (¬8). ¬

_ (¬1) يلاحظ أن مجموع ما أورده الحسيني هو (16126)، وهو أقل بثلاثة وسبعين حديثا من المجموع الذي صدّر خطابه بتقريره! ونوضح هنا تعريف علماء الاصطلاح عند الشيعة لاصطلاحي القوي والموثق: الموثق: هو ما دخل في طريقه من نصّ الأصحاب على توثيقه مع فساد عقيدته، ولم يشتمل باقيه على ضعف. القوي: ما اتصل إسناده إلى المعصوم برواية من وثّقه غير الإمامية، ولم يأت أئمتنا على توثيقه ولا تجريحه. انظر قواعد الحديث لمحي الدين الموسوي الغريفي من علماء الإمامية، ط مكتبة المفيد، ص 24. (¬2) أكذوبة تحريف القرآن بين السّنة والشيعة، تأليف الشيخ رسول جعفريان، ص 46. (¬3) الغضائري ( ... - 441 هـ): وهو الحسين بن عبد الله بن إبراهيم الغضائري، أبو عبد الله، شيخ الإمامية في عصره، كثير التّرحال، كان حكمه أنفذ من حكم الملوك، يرمى بالغلوّ، له كتب منها: (البيان عن حياة الإنسان)، و (النوادر في الفقه)، و (أدب العاقل)، و (تنبيه الغافل في فضل العلم)، و (فضل بغداد)، و (عدد الأئمة)، و (ما شذّ عن الأئمة في ذلك)، و (يوم الغدير)، و (الرّد على الغلاة والمفوضة). (¬4) قاموس الرجال 1/ 403. (¬5) النجاشي (373 - 450 هـ): هو أحمد بن علي بن أحمد بن العباس، النجاشي، الأسدي، أبو العباس، مؤرخ إمامي، يعرف بابن الكوفي، ويقال له الصيرفي من أهل بغداد، توفي بمطيرآباد، له كتاب: الرجال، في تراجم علماء الشيعة وأسماء مصنفاتهم، والكوفة وما فيها من الآثار والفضائل، وأنساب بني نصر بن قعين وأيامهم وأشعارهم، وهم أجداده. (¬6) معجم رجال الحديث 3/ 290. (¬7) رجال النجاشي، ص 838. (¬8) خلاصة الرجال للعلامة الحلي، ص 266.

1 - العلامة أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي، المشهور بالصدوق (ت 381 هـ):

وأما منخل بن جميل فقد نقل السيد هاشم الحسيني عن علماء الرجال أنه من الغلاة المنحرفين (¬1). وقال العلامة الحلي (¬2) في محمد بن حسن بن جهور: «كان ضعيفا في الحديث، غاليا في المذهب، فاسدا في الرواية، لا يلتفت إلى حديثه، ولا يعتمد على ما يرويه» (¬3). وهكذا، فإن تواثب القوم على توهين رواية هؤلاء وتجريحهم والطعن في صدقهم وأمانتهم دليل واضح على تبرؤ مراجع الشيعة من هذه الأوهام، ويبقى ورودها في الكافي مشروطا بصحة الإسناد، وهو لم يتحقق كما رأيت. وقد نقل عن أئمة الشيعة نصوص كثيرة تدفع توهم اعتقادهم بشيء من التحريف، وأنا أنقل لك طائفة منها: 1 - العلامة أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه القميّ، المشهور بالصدوق (ت 381 هـ) (¬4): (اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم هو ما بين الدّفتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ومن نسب إلينا أننا نقول أكثر من ذلك فهو كاذب) (¬5). 2 - السيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي (ت 436 هـ) (¬6): ¬

_ (¬1) دراسات في الحديث والمحدثين، ص 198. (¬2) ابن المطهر الحلي (648 - 726 هـ): هو الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي، جمال الدين، ويعرف بالعلّامة. من أئمة الشيعة، وأحد كبار علمائها، وله كتب أكثر من أن تحصى منها: (تهذيب طريق الوصول إلى علم الأصول)، و (قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام)، و (كنز العرفان في فقه القرآن)، و (نهاية المرام في علم الكلام)، و (القواعد والمقاصد)، و (خلاصة الأقوال في معرفة الرجال)، وغيرها. (¬3) خلاصة الرجال للحلي، ص 251. (¬4) ابن بابويه القمي ( ... - 329 هـ): هو علي بن الحسين بن موسى بن بابويه، أبو الحسن، القمي، شيخ الإماميين ب (قم) في عصره، مولده ووفاته فيها. له كتب في التوحيد والإمامة والتفسير، ورسالة في الشرائع وغير ذلك. (¬5) الاعتقادات للشيخ الصدوق 1/ 57. (¬6) الشريف المرتضى (355 - 436 هـ): هو علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم، أبو القاسم، نقيب الطالبيين، وأحد الأئمة في علم الكلام والأدب والشعر، مولده ووفاته ببغداد. له تصانيف كثيرة منها: (الغرر والدّرر)، و (الشهاب في الشيب والشباب)، و (الشافي في الإمامة)، وغيرها كثير.

3 - الشيخ أبو علي الطبرسي، صاحب تفسير مجمع البيان:

(إن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار، والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت، والدواعي توفرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه شيء آخر. إن القرآن كان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مجموعا مؤلفا على ما هو عليه في ذلك الزمان حتى عيّن النّبي صلّى الله عليه وسلّم على جماعة من الصحابة حفظهم له، وكان يعرض على النّبي صلّى الله عليه وسلّم ويتلى عليه، وإن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وغيرهما ختموا القرآن على النّبي صلّى الله عليه وسلّم عدة ختمات، وكل ذلك يدلّ بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مبتور ولا مبثوث ... وإن من خالف من الإمامية والحشوية لا يعتقد بخلافهم، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته) (¬1). 3 - الشيخ أبو علي الطبرسي، صاحب تفسير مجمع البيان (¬2): (الكلام في زيادة القرآن ونقصانه، فأما الزيادة فمجمع على بطلانها، وأما النقصان منه، فقد روى جماعة من أصحابنا، وقوم من الحشوية العامة أن في القرآن تغييرا أو نقصانا، والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى قدس الله روحه) (¬3). ولنترك الكلمة في الفصل في هذه المسألة لشيخ الطائفة أبي جعفر، محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة (461 هـ) (¬4)، إذ يلخص اعتقاد الشيعة في سلامة النّص القرآني، وأسباب هذه الشائعة عنهم بقوله: ¬

_ (¬1) مجمع البيان للطبرسي 1/ 15. (¬2) الطبرسي ( ... - 548 هـ): هو الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي، أمين الدين، أبو علي، مفسر، محقّق، لغوي، من أجلاء الإمامية، نسبته إلى طبرستان له: (مجمع البيان في تفسير القرآن)، و (الفرقان) مجلدان، و (جوامع الجوامع) في التفسير أيضا، و (تاج المواليد)، و (غنية العابد)، و (مختصر الكشاف)، و (إعلام الورى بأعلام الهدى)، وغيرها كثير. انظر الأعلام 5/ 148. (¬3) تفسير مجمع البيان للطبرسي 1/ 15. (¬4) أبو جعفر الطوسي، شيخ الطائفة (385 - 460 هـ): هو محمد بن الحسن بن علي الطوسي، مفسّر من فقهاء الشيعة ومصنّفيهم، استقرّ بالنّجف إلى أن توفي فيها، وأحرقت كتبه عدة مرات، من تصانيفه الإيجاز في الفرائض، الجمل والعقود في العبادات، الغيبة، التبيان الجامع لعلوم القرآن، تفسير كبير، الاقتصاد في العقائد، وغيرها كثير.

«وأما الكلام في زيادته ونقصانه؛ فمما لا يليق به لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها. وأما النقصان منه فالظاهر أيضا من مذاهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى رضي الله عنه، وهو الظاهر من الروايات، غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة بنقصان كثير من آي القرآن، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع طريقها الآحاد ولا يستوجب علما، فالأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها، لأنه لا يمكنه تأويلها، ولو صحت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدّفتين، فإن ذلك معلوم صحته لا يعترضه أحد من الأمة ولا يدفعه، وروايتنا متناصرة على قراءته، والتمسك بما فيه، وردّ ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه، وعرضها عليه، فما وافقه عوّل عليه، وما خالفه يجتنب ولم يلتفت إليه، وقد ورد عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم رواية لا يدفعها أحد أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إني مخلف فيكم الثّقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». وهذا يدل على أنه موجود في كل عصر؛ لأنه لا يجوز أن يأمرنا بالتمسك به، كما أن أهل البيت عليهم السلام، ومن يجب اتّباع قوله حاصل في كل وقت، وإذا كان الموجود بيننا مجمعا على صحته؛ فينبغي أن يتشاغل بتفسيره، وبيان معانيه، وترك ما سواه» (¬1). هذا وقد قام صاحب كشف الارتياب في ردّ فصل الخطاب بنقل مجموعة من توكيدات أئمة الطائفة الإمامية بشأن سلامة النّص القرآني، فعدّ منهم: 1 - أبو جعفر ابن بابويه القمي (ت 381 هـ). 2 - السيد المرتضى علي الموسوي (ت 436 هـ). 3 - شيخ الطائفة الطوسي (ت 461 هـ). 4 - أبو علي الطبرسي (ت 548 هـ). 5 - السيد ابن طاوس (ت 644 هـ). 6 - ملا محسن الفيض الكاشاني (ت 1091 هـ). 7 - محمد بهاء الدين العاملي البهائي (ت 1030 هـ). 8 - محمد بن الحسن الحر العاملي (ت 1104 هـ). ¬

_ (¬1) تفسير الصافي 1/ 55 عن الشيخ الطوسي.

9 - المحقق زين الدين البياضي. 10 - القاضي سيد نور الله التستري (¬1). إضافة إلى عدد من علماء الشيعة ومراجعهم المعاصرين كالسيد كاشف الغطاء، ومحمد جواد البلاغي، ومهدي الطباطبائي، والسيد محسن الأمين العاملي، ومحمد مهدي الشيرازي، وشهاب الدين النجفي مرعشي، والسيد عبد الحسين شرف الدين العاملي، والسيد محمد رضا الكلبايكاني، والسيد آية الله الخميني، وغيرهم كثير (¬2). ويجب القول هنا بأن كثيرا من الروايات التي حملها المتجادلون محمل التحريف، إنما هي أوهام رجال توهموها، ثم فاءو إلى رشدهم فيها، وهي موجودة في كتب السّنة كما في كتب الشيعة، ولا مسوغ لاتّهام إحدى الطائفتين الأخرى؛ بأنها تعتقد شيئا من ذلك بعد أن ثبت سلامة مراجع اعتقاد الطائفتين جميعا بسلامة النّص القرآني. وهكذا فإنه لا مسوّغ لاتّهام طائفة عظيمة من المسلمين بالقول بتحريف القرآن، بسبب هذه المرويات التي يجب حملها على واحد من أربعة محامل: 1 - الطعن في إسنادها ورواتها. 2 - حملها على أنها أوهام رواة، وجلّ الذي لم يعصم غير نبيّه صلّى الله عليه وسلّم. 3 - حملها على أنها من باب المنسوخ. 4 - حملها على أنها مما كتبه الصحابة في مصاحفهم على سبيل التفسير. ومن أراد تفصيل القول في هذه الوجوه فليرجع إلى الإتقان للسيوطي (¬3)، أو مناهل العرفان للزرقاني (¬4). بقي أن نقول: إن الشيعة اليوم تلتزم القراءة برواية حفص عن عاصم، وهي القراءة السائدة في العالم الإسلامي، لا تخالف جمهور الأمة في شيء منها، لا في رسم، ولا شكل، ولا ضبط، ¬

_ (¬1) كشف الارتياب في ردّ فصل الخطاب ص 57. (¬2) انظر: أكذوبة تحريف القرآن، تأليف رسول جعفريان، ص 60. (¬3) الإتقان للسيوطي 1/ 76 وما بعدها. (¬4) مناهل العرفان للزرقاني 1/ 441 وما بعدها.

ولا علامة وقف، ولا علامة ابتداء، ولا رقم آية، ولا رقم سورة، ولا إثبات علامة صلة، ولا حذفها، ولا إثبات ألف خنجرية، ولا حذفها. وسيأتي في هذه الدراسة أنهم يقولون بمسح الأرجل في الوضوء، ولكن مع ذلك يقرءون قراءة الجمهور، الآمرة بالغسل، وذلك موافقة لرواية حفص التي يلتزمونها: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 5/ 6]. وهو وجه ظاهر في التزامهم ما التزمه المسلمون من القراءة على رغم مخالفتهم في بعض الفروع الفقهية. ويتّضح مما سبق أن الأمة الإسلامية على اختلاف طوائفها تتفق في التسليم بأن القرآن الكريم مسطور بين الدّفتين هو عين ما تلقاه النّبي صلّى الله عليه وسلّم من الوحي الأمين، وأن القراءات المتواترة لا تخرج في حرف من حروفها عن الرسم الذي كتبه عثمان رضي الله عنه في المصاحف، والذي يتفق المسلمون اليوم على أدقّ تفصيلاته، (فقد تكفّل الله تعالى بحفظ القرآن أبد الدهر إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 15/ 9]. والمعنى إنا للقرآن حافظون من أن يزاد فيه ما ليس منه، أو ينتقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه) (¬1). وهذا الحفظ أكّد وثاقة النّص القرآني مكتوبا ومقروءا، سليما من التغيير والتبديل منذ نزوله وحفظه بالاستظهار في الصدور والتدوين في الصحف، وبقي المصحف كذلك لم يتغير فيه شيء غير تطور رسمه عبر العصور، ولم يكن الاعتماد على مجرد حفظ الصدور وقراءة المصحف وفقه العمل والحكمة التي طبقها الرسول صلّى الله عليه وسلّم. فقد حفظ القرآن بظهر الغيب رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات من لدن عصر الصحابة، ومن تبعهم بإحسان، وظلّ العدد يتنامى ويزيد على توالي القرون، ورغم كل الظروف بما حقق تواتر نقله في الأجيال اللاحقة. ويأتي دور الأجيال اللاحقة في فهم المعاني، واستخراج الحكم، واستخلاص الحلول، والمعالجات لمشكلات الحياة المتجددة مع تقديرنا لجهود السّلف الصالح. ¬

_ (¬1) انظر الطبري، جامع البيان عن تأويل أي القرآن 6/ 14.

المبحث الثالث عصر أئمة القراءة

وقد شهد المنصفون من الباحثين- حتى من غير المسلمين- بسلامة النّص القرآني من التحريف والتبديل، ومن هؤلاء: المستشرقون الألمان حيث جمعوا النسخ الخطية المتداولة للمصحف، في شرق العالم الإسلامي وغربه للوقوف على ما توهّموا من اختلافات بين النسخ، وقارنوا بين هذه النسخ على العصور والبلدان المختلفة فلم يجدوا اختلافا أصلا، مما يؤكد سلامة القرآن من التغيير والتحريف والتبديل، وهو ردّ من داخل الدراسات الغربية على كل ما أثير من شبهات لا أساس لها من الصّحّة، ولا غرابة في ذلك، بعد ما شهد القرآن الكريم بأن الله تولى حفظه أبد الدهر. كما تكفّل الله تعالى بحفظ القيم في الكتاب والسّنة من أي تحريف أو تبديل، سواء في ذلك تحريف الكلم عن مواضعه، أو تحريفه بالتأويل والخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 15/ 9]. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: 75/ 17 - 19]. وهذا التّكفل بالحفظ للنّص الإلهي، والحراسة لبيانه، وقيمه عن طريق النّبوة يعتبر من أبرز سمات الرسالة الخاتمة، وأخصّ خصائصها» (¬1). والخلاصة أن سائر أهل التوحيد متفقون أن القرآن الذي نزل به جبريل الأمين على النّبي محمد صلّى الله عليه وسلّم هو المسطور في المصاحف ذاته، لم يسقط منه حرف، ولم يزد فيه حرف، وأن من أنكر منه شيئا أو زاد فيه فقد خرج من إجماع الأمة. المبحث الثالث عصر أئمة القراءة انتشر الصحابة في الأمصار وتلقى الناس عنهم مذاهبهم في القراءة، واشتغل بالإقراء عن ¬

_ (¬1) مقالة علمية بعنوان: هيمنة القرآن وعالميته وخلوده، للأستاذ الدكتور أحمد علي الإمام، مدير جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، أحتفظ بصورة منها، وقد نشرت.

الصحابة أولا كبار التابعين، أمثال عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (¬1)، وسعيد بن المسيب (¬2)، وشيبة بن نضاح، ويزيد بن رومان (¬3)، ومجاهد بن جبر (¬4) المكي، ودرباس (¬5) مولى ابن عباس، والحسن (¬6) البصري، وأبي العالية (¬7)، رفيع بن مهران الرياحي، وحميد بن قيس (¬8) الأعرج المكي، والمغيرة (¬9) بن أبي شهاب المخزومي، وزرّ بن حبيش (¬10)، وأبي عبد الرحمن السّلمي (¬11)، والأعمش سليمان بن مهران (¬12)، ومحمد الباقر (¬13)، وعلي زين العابدين (¬14)، وغيرهم. وليس في الإمكان استقصاء أسماء هؤلاء الأئمة؛ إذ كل مسلم اشتغل بالعلم في عصر السلف ¬

_ (¬1) عبد الرحمن بن هرمز الاعرج (- 117 هـ): هو عبد الرحمن بن هرمز، أبو داود، من موالي بني هاشم، عرف بالأعرج، حافظ قارئ، من أهل المدينة، أدرك أبا هريرة وأخذ عنه، وهو أول من برز في القرآن والسنن، كان خبيرا بأنساب العرب، وافر العلم، ثقة، رابط بثغر الإسكندرية مدة ومات بها. الأعلام 3/ 340. (¬2) سعيد بن المسيّب (13 - 94 هـ): هو سعيد بن المسيّب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أبو محمد، سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع، وكان يعيش من التجارة بالزيت، لا يأخذ عطاء، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب وأقضيته؛ حتى سمّي راوية عمر، توفي بالمدينة. (¬3) يزيد بن رومان (- 130 هـ): هو يزيد بن رومان الأسدي، أبو روح، مولى آل الزبير بن العوام، عالم بالمغازي، ثقة، من أهل المدينة، ووفاته بها، له أحاديث في الكتب الستة. (¬4) سبقت ترجمته. (¬5) سبقت ترجمته. (¬6) سبقت ترجمته. (¬7) أبو العالية (- 93 هـ): هو رفيع بن مهران الرياحي، ثقة كثير الإرسال. (¬8) سبقت ترجمته. (¬9) مغيرة المخزومي: أبو هشام البصري، المغيرة بن سلمة، ثقة، ثبت، روى له مسلم وأبو داود والنّسائي، مات سنة مائتين. (¬10) سبقت ترجمته. (¬11) سبقت ترجمته. (¬12) سبقت ترجمته. (¬13) محمد الباقر: هو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، من أعلام السلف الصالح، أخذ عن أبيه، وأدرك صغار الصحابة، مات سنة بضع عشرة ومائة. (¬14) علي زين العابدين، هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، من السادة الأجواد، عالم عارف، أدرك جده عليّا وهو طفل، وأدرك عددا من الصحابة، قال عنه الزهري: ما رأيت قرشيّا أفضل منه، مات سنة 93 هـ.

- وما أكثرهم- كان راوية للقرآن الكريم، وعن هؤلاء أخذ الأئمة فيما بعد، وسنأتي على بيان أسانيد الأئمة في الفصل المخصص لذلك في باب أسانيد القرّاء. وقد أحصى ابن الجزري أسماء أئمة القراءة بين الأئمة العشرة والصحابة في كتابة المسمى: غاية النهاية في أسماء رجال القراءات أولي الرواية والدراية. ولكن هؤلاء الأئمة- على كثرتهم وتقدمهم في العلم- لم ينالوا شرف نسبة القراءة إليهم، وكان علينا أن ننتظر جيلا آخر أو جيلين اثنين، حتى نسعد بالأئمة العشرة الذين نسبت إليهم القراءات المتواترة. وإنما نسبت القراءات المتواترة إلى هؤلاء الأئمة العشرة دون سواهم؛ لأن الحاجة لم تكن توافرت بعد للتمييز بين المتواتر وسواها، إذ مراجع الأمة متوافرون، والعهد قريب، فلما اختلط الصحيح بالسقيم جدّت الحاجة لوضع ضوابط (¬1) يمتاز بها المتواتر من غيره، وحين وضعت هذه الشروط لم نجد بالاستقراء من التزمها وضبط قراءته بها إلا هؤلاء الأئمة العشرة. وأول من اشتغل بجمع القراءات هو الإمام أبو عبيد، القاسم بن سلّام (¬2) (المتوفى عام 222 هـ). ولكن جهده في جمع القراءات لم يكن مرتكزا على منهج اعتباري، وإنما كان يعنى بضبط ما يروى من القراءات، والاحتجاج لها، وقد جمع علمه في هذا الباب في كتابه القراءات. وهكذا فإن أبا عبيد كان في الحقيقة معاصرا لأئمة القراءة الكبار، ولكنه لم يكن معنيّا بالاستقلال بحرف لنفسه؛ بقدر ما كان يعنى باستقصاء حروف الأئمة، لذلك فإنه لم يجر عمل الأولين على إدراجه في القرّاء العشرة رغم أنه لا يقلّ عنهم رتبة ومنزلة. ومع أننا سنورد لك هنا أسماء أئمة الإقراء العشرة غير أنه يلزم أن نبين أن تسمية (القراءات السبع) لم تظهر إلا على يد ابن مجاهد (¬3) مطلع القرن الرابع، وأما استكمال القراءات العشر؛ فلم يتم إلا على يد العلامة الجليل الشمس ابن الجزري (¬4) (المتوفى عام 833 هـ)، في مؤلّفه النّشر في ¬

_ (¬1) انظر تفصيل هذه الضوابط في باب شروط القراءة المتواترة. (¬2) هو القاسم بن سلام (150 - 222 هـ): أبو عبيد، محدث، حافظ، فقيه، مقرئ، عالم بعلوم القرآن، ولد بهراة، وأخذ عن أبي زيد الأنصاري، وأبي عبيدة معمر بن المثنى، وروى له الناس أكثر من عشرين كتابا في القرآن وعلومه، توفي بمكة. (¬3) ابن مجاهد: تأتي ترجمته في الفصل التالي. (¬4) ابن الجزري: شمس الدين، محمد بن محمد بن محمد العمري الدمشقي، ثم الشيرازي الشافعي، كنيته أبو الخير، مقرئ، مجود، محدث، حافظ، مؤرخ، مفسّر، فقيه، نحوي. من أهم علماء التجويد والقراءات في التاريخ

1 - قراءة نافع في المدينة:

القراءات العشر، ومن الإنصاف أن نقول إن هذا الضبط بالأئمة السبعة لم يكن كافيا، ولا حاسما في تلك الفترة، فثمة أئمة كثير قرءوا وأقرءوا، واشتهر علمهم وفضلهم خلال هذه الفترة من عهد التابعين وتابعيهم، وسنأتي على بيان الأسباب التي حملت على ذلك خلال حديثنا عن منهج ابن مجاهد في الفصل التالي. وأذكر لك فيما يلي أسماء القرّاء العشرة، وأمام كل قارئ منهم راويان له، نشرا قراءته بعده بين الناس. وهذا الاختيار هو الذي اختاره ابن مجاهد في القراءات السبع، ثم ابن الجزري في الثلاث التالية، وهو الذي نظم به الشاطبي (حرز الأماني)، وأكمله فيما بعد ابن الجزري بنظم (الدرّة البهية)، ثم استوفى ذلك كله في نظم واحد هو (طيبة النّشر)، وهو الذي يقرأ به سائر قرّاء العالم الإسلامي اليوم. 1 - قراءة نافع في المدينة: وتنسب إلى نافع بن عبد الرحمن المدني (70 - 169 هـ)، وهو أصبهاني الأصل، استقر في المدينة، وأخذ عن أعلام القرّاء فيها من التابعين أمثال: الزهري (¬1)، وعبد الرحمن بن القاسم (¬2)، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج (¬3). ¬

_ الإسلامي، إليه يرجع الفضل في اعتبار القراءات العشر، إذ قام بجهد عظيم في إحصاء اسانيد القراءات الثلاث تتمة العشر، ثم أصدر منظومته الشهيرة (الدّرة المضية)، أضاف فيها القراءات الثلاثة (أبو جعفر ويعقوب وخلف)، وجرى فيها على نظم الشاطبي في حرز الأماني، ثم أعاد نظم القراءات العشر بمنظومة أخرى من بحر الرجز بعنوان (طيبة النشر في القراءات العشر). من تصانيفه: النشر في القراءات العشر- التمهيد في التجويد- غاية النهاية في أسماء رجال القراءات والرواية، تذكرة العلماء في أصول الحديث. (¬1) الزهري (58 - 124 هـ): هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، أبو بكر، محدّث، حافظ، فقيه، مؤرّخ، من أهل المدينة، نزل الشام، واستقرّ بها، له تصانيف في مغازي الرسول صلّى الله عليه وسلّم. انظر معجم المؤلفين 12/ 21. (¬2) عبد الرحمن بن القاسم (- 126 هـ): هو عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصّدّيق التيمي، القرشي، أبو محمد، من سادات أهل المدينة، فقها، وعلما، وديانة، وحفظا للحديث، وإتقانا، توفي في الشام. انظر الأعلام ج 4. (¬3) ترجمته تأتي لاحقا.

2 - قراءة ابن كثير في مكة:

وأخذ القراءة عنه الإمام مالك بن أنس (¬1)، والأصمعي (¬2)، والليث بن سعد (¬3)، واشتهر بالرواية عنه راوياه: قالون، وورش. أما قالون: فهو عيسى بن مينا (120 - 220 هـ)، وهو من أئمة النحو والقراءة في المدينة رغم أنه عاش أصم. وأما ورش: فهو عثمان بن سعيد (110 - 197 هـ)، وهو مصري قبطي، رحل إلى نافع بالمدينة، فقرأ عليه عدة ختمات، ثم رجع إلى مصر، فأقرأ بها نحو 35 سنة. 2 - قراءة ابن كثير في مكة: وتنسب إلى عبد الله بن كثير (45 - 120 هـ)، وهو إمام مكة في القراءة، وكان ابن كثير عالما بالعربية، واشتغل برواية الحديث، وقد روى عن أنس بن مالك (¬4)، وعبد الله بن الزبير (¬5)، ثم أخذ القراءة عن درباس (¬6) مولى ابن عباس، ومجاهد بن جبر (¬7)، وغيرهم، فتصدر بعدئذ للإقراء وانتهت إليه مشيخة القراء في مكة، وممن قرأ عليه الخليل بن أحمد الفراهيدي (¬8)، وأبو عمرو بن العلاء (¬9) البصري، وحماد بن سلمة (¬10)، وراوياه هما: البزي، وقنبل. ¬

_ (¬1) الإمام مالك (93 - 179 هـ): هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي، المدني، أبو عبد الله، أحد أئمة المذاهب الفقهية، ولد بالمدينة، وصار إمامها، وتوفي بها، ودفن بالبقيع. من تصانيفه: الموطأ. انظر معجم المؤلفين 8/ 168. (¬2) سبقت ترجمته. (¬3) الليث بن سعد (94 - 175 هـ): هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي بالولاء، أبو الحارث، إمام أهل البصرة في عصره حديثا وفقها، أصله من خراسان، ومولده في قلقشندة، ووفاته في القاهرة، قال عنه الشافعي: الليث أفقه من مالك، إلّا أن أصحابه لم يقوموا به، وأخباره كثيرة. انظر الأعلام 5/ 248. (¬4) الصحابي الجليل. انظر ترجمته سابقا. (¬5) الصحابي الجليل. انظر ترجمته سابقا. (¬6) درباس: مولى ابن عباس، ثقة من التابعين، أخذ عن ابن عباس. (¬7) انظر ترجمته ص 75. (¬8) انظر ترجمته ص 36. (¬9) أبو عمرو البصري (- 225 هـ): هو إسحاق الجرمي، البصري، أبو عمرو، نحوي، فقيه، عروضي، إخباري، من آثاره: غريب سيبويه، كتاب في السير، كتاب العروض، كتاب الأبنية، مختصر في النحو. انظر معجم المؤلّفين 2/ 232. (¬10) حماد بن سلمة بن دينار البصري (ت 67 هـ): من خيار التابعين، ثقة، عابد، روى له مسلم وغيره.

3 - قراءة أبي عمرو البصري في البصرة:

البزّيّ (170 - 250 هـ): وهو فارسيّ الأصل، واسمه أحمد بن محمد بن عبد الله، وكان مؤذن المسجد الحرام، وتلقى القراءة عن أبيه. قنبل (195 - 291 هـ): وهو محمد بن عبد الرحمن المخزومي، وقد أخذ القراءة عن البزي، وكلا راويي ابن كثير لم يعاصراه، وإنما تلقّيا قراءته من قراء آخرين. ابن ذكوان (173 - 242 هـ): وهو عبد الله بن أحمد الفهري، وقد انتهت إليه رئاسة الإقراء في الشام بعد هشام، وقد أخذ القراءة أيضا عن أيوب بن أبي تميمة (¬1)، كما كتب عددا من الكتب في التجويد والقراءات. 3 - قراءة أبي عمرو البصري في البصرة: وتنسب إلى أبي عمرو زبان بن العلاء المازني البصري (68 - 154 هـ)، وهو النّحوي الشهير الحجة، وقد قرأ على الحسن البصري، وعاصم، وابن كثير، وعكرمة، وروى عنه الأصمعي (¬2)، وسيبويه (¬3)، وأبو زيد الأنصاري (¬4). وراوياه: حفص الدّوري، وصالح السوسي. الدوري: وهو حفص بن عمر بن عبد العزيز، توفي عام (246 هـ). وهو أول من جمع القراءات السبع وأقرأ بها، وقد أخذ قراءة أبي عمرو البصري عن يحيى اليزيدي (¬5). ¬

_ (¬1) أيوب السختياني (66 - 131 هـ): هو أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني، البصري، أبو بكر، سيد فقهاء عصره، تابعي، من النّساك الزّهاد، من حفّاظ الحديث، كان ثبتا ثقة، روي عنه نحو 800 حديثا. الأعلام 2/ 38. (¬2) الأصمعي (122 - 216 هـ): هو أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع، أديب، نحوي، لغوي، إخباري، محدّث فقيه، أصولي من أهل البصرة، قدم بغداد في أيام هارون الرشيد، وتوفي بالبصرة. من تصانيفه: نوادر الإعراب، الأجناس في أصول الفقه، المذكر والمؤنث، كتاب اللغات، كتاب الخراج. معجم المؤلفين 6/ 187. (¬3) سيبويه (- 180 هـ): هو عمرو بن عثمان بن قنبر، سيبويه، أبو بشر، أديب، نحوي، أخذ النحو والأديب عن الخليل بن أحمد، ويونس بن حبيب، وأبي الخطاب الأخفش، وعيسى بن عمر، وورد بغداد، وناظر بها الكسائي. من آثاره: الكتاب وهو في النحو. معجم المؤلفين 6/ 10. (¬4) أبو زيد الأنصاري (119 - 215 هـ): هو سعيد بن أوس بن ثابت بن زيد بن قيس بن زيد بن النعمان، الأنصاري البصري، لغوي، نحوي، أديب، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء، وأخذ عنه أبو عبيدة وغيره. توفي بالبصرة. من آثاره: القوس والترس، الإبل، بيوتات العرب، اللغات، الجمعة والتثنية. انظر معجم المؤلفين 4/ 220. (¬5) يحيى اليزيدي (138 - 202 هـ): هو يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي، أبو محمد، مقرئ، لغوي، نحوي، من أهل

4 - قراءة ابن عامر الشامي:

السوسي: وهو صالح بن زياد السوسي، توفي عام (261 هـ)، أخذ قراءة أبي عمرو عن اليزيدي، كما قرأ على حفص. 4 - قراءة ابن عامر الشامي: وتنسب إلى عبد الله بن عامر اليحصبي (8 - 118 هـ)، وقد أخذ القراءة عن الصحابة مباشرة، فقرأ على أبي شهاب عن عثمان بن عفان، واشتهر فضله وعلمه في سائر بلاد الشام، وسادت قراءته فيها نحو خمسة قرون، وراوياه: هشام، وابن ذكوان. هشام: وهو هشام بن عمار السلمي الدمشقي (153 - 245 هـ). أخذ القراءة عن أيوب بن تميم وغيره من الأئمة، واستقرّ في دمشق، وتفرّغ للإقراء فرحل الناس إليه. 5 - قراءة عاصم في الكوفة: وتنسب إلى عاصم بن أبي النجود الكوفي، الغاضري، توفي (127 هـ)، وهي القراءة السائدة في معظم أقطار العالم الإسلامي، وقد أخذ عاصم القراءة من التابعين: زرّ بن حبيش (¬1)، وأبي عبد الرّحمن السلمي (¬2). وقد قرأ عليه أبو عمرو بن العلاء، وحفص بن سليمان، وحماد بن زيد (¬3)، وأبو بكر بن عياش (¬4)، وغيرهم. ¬

_ البصرة. نزل بغداد، وأخذ عن أبي عمرو بن العلاء، وصحب يزيد بن منصور خال المهدي يؤدب ولده، واتّصل بالرّشيد، فعهد إليه بتأديب المأمون، وقدم مكة وحدّث بها. وروى عنه ابنه محمد، والدوري، والسوسي، وغيرهم، وتوفي بمرو، من آثاره: الوقف والابتداء، النقط والشكل، النوادر في النحو، المقصور والممدود، المختصر في النحو، وله شعر أيضا. معجم المؤلفين 13/ 220. (¬1) زرّ بن حبيش (ت 83 هـ): هو زرّ بن حبيش بن حباشة الأسدي الكوفي، أبو مريم، ثقة جليل، مخضرم، مات عند مائة وسبع وعشرين سنة. تقريب التهذيب 1/ 259. (¬2) أبو عبد الرحمن السلمي (ت 70 هـ): هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة، أبو عبد الرحمن، السلمي، الكوفي، المقرئ، ثقة ثبت. تقريب التهذيب 1/ 408. (¬3) حماد بن زيد (199 - 267 هـ): هو حمّاد بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم الأزدي، البصري، البغدادي، المالكي، أبو إسماعيل، محدّث، فقيه، ولد بالبصرة، وتفقّه بأحمد بن المعذل، وولي القضاء ببغداد، وحدّث بها، وتوفي بالسوس. له تصانيف منها: المهادنة، الرّد على الشافعي. (¬4) ابن عياش (95 - 193 هـ): هو أبو بكر، شعبة بن عياش بن سالم الأسدي، وكان عالما عاملا، قال وكيع عنه: هو العالم الذي أحيا الله به قرنه. معجم القراءات 1/ 90.

6 - قراءة حمزة في الكوفة:

وراوياه: حفص وشعبة. حفص: وهو حفص بن سليمان الكوفي البزار (90 - 180 هـ). وروايته عن عاصم هي السائدة في معظم بلدان العالم الإسلامي اليوم، وقد قرأ على عاصم مباشرة. شعبة: وهو أبو بكر، شعبة بن عياش الأسدي، الكوفي (95 - 193 هـ). قرأ مباشرة على عاصم، وقرأ عنه جماعة من أئمة العربية، منهم الكسائي. 6 - قراءة حمزة في الكوفة: وتنسب إلى حمزة بن حبيب الزيات (80 - 156 هـ). أخذ القراءة عن الأعمش (¬1)، وجعفر الصادق (¬2)، وقرأ عليه إبراهيم بن أدهم (¬3)، والكسائي (¬4)، والفرّاء (¬5)، واليزيدي (¬6)، وغيرهم. وراوياه: خلف، وخلّاد. خلف: وهو خلف بن هشام، الأسدي، البغدادي، (150 - 229 هـ). وهو صاحب ¬

_ (¬1) الأعمش (63 - 148 هـ): هو أبو محمد سليمان بن مهران، الأعمش، الأسدي، الكاهلي مولاهم، الكوفي، كان يسمى بسيد المحدثين، لقي من الصحابة ابن أبي أوفى، وأنس بن مالك، ولم يثبت له سماع عن أحدهما. (¬2) جعفر الصادق (80 - 148 هـ): هو جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين السبط، الملقّب بالصادق، أبو عبد الله، أخذ عنه جماعة منهم الإمامان أبو حنيفة ومالك. له رسائل مجموعة في كتاب. (¬3) إبراهيم بن أدهم (- 161 هـ): هو إبراهيم بن أدهم بن منصور، التميمي البلخي أبو إسحاق، زاهد مشهور، كان أبوه من أهل الغنى في بلخ، فتفقّه ورحل إلى بغداد، وجال في العراق والشام والحجاز، وأخذ عن كثير من علماء الأقطار الثلاثة، كان يعيش من العمل بالحصاد، وحفظ البساتين، ويشترك مع الغزاة في قتال الروم. وأخباره كثيرة. والمشهور أنه دفن في جبلة على شاطئ الشام الشمالي. (¬4) الكسائي (180 هـ): هو علي بن حمزة بن عبد الله، الأسدي، الكوفي، أبو الحسن، مقرئ مجوّد، لغوي، نحوي، عامر، نشأ بالكوفة واستوطن بغداد، له كتب كثيرة منها كتاب في القراءات ومعاني القرآن. (¬5) سبقت ترجمته. (¬6) سبقت ترجمته.

7 - قراءة الكسائي في الكوفة:

القراءة التاسعة التي أثبت ابن الجزري تواترها، وقد أخذ القراءة عن أبي زيد الأنصاري (¬1)، وسليم بن عيسى (¬2)، وغيرهم، وقرأ عليه أحمد بن إبراهيم (¬3)، وأحمد بن يزيد الحلواني. خلّاد: وهو خلّاد بن خالد، الشيباني ولاء، الصيرفي الكوفي. توفي (220 هـ)، وقد روى عنه الوزان، وأحمد الحلواني، وغيرهم. 7 - قراءة الكسائي في الكوفة: وتنسب إلى علي بن حمزة الكسائي، ولقب بالكسائي لأنه تسربل بكسائه في إحرامه، وهو مولى فارسي لبني أسد، عاش (119 - 189 هـ). وقد أخذ القراءة عرضا عن حمزة (¬4)، وابن أبي ليلى (¬5)، وغيرهم. وهو إمام معروف في العربية، وقد تلقاها عن الخليل بن أحمد (¬6)، وأخذ عنه القراءة حفص الدوري (¬7)، وخلف بن هشام (¬8)، وراوياه: الليث والدّوري. الليث: وهو أبو الحارث البغدادي، الليث بن خالد، توفي (240 هـ). الدوري: وهو حفص بن عمرو، راوي أبي عمرو البصري، توفي (246 هـ). وقد تقدمت ترجمته. أما القراءات الثلاث التي أثبت ابن الجزري تواترها، وضمها إلى السبع فهي: ¬

_ (¬1) سبقت ترجمته. (¬2) سليم بن عيسى (130 - 188 هـ): سليم بن عيسى، الحنفي بالولاء، الكوفي، إمام في القراءة، وكان أخصّ أصحاب حمزة وأضبطهم، وهو الذي خلفه في القيام بالقراءة. (¬3) أحمد بن إبراهيم، وأبو يزيد الحلواني، والوزان: أصحاب خلف بن خلاد، لم أقف على ترجمة وافية لهم. (¬4) حمزة (80 - 158 هـ): هو أبو عمارة، حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزيات، الكوفي، التميمي مولاهم، وهو من تابعي التابعين، وكان عالما بالفرائض والعربية، ورعا، انتهت إليه القراءة بعد عاصم. (¬5) ابن أبي ليلى: هو عبد الرحمن بن أبي ليلى، الأنصاري المدني، ثم الكوفي، ثقة من الثانية، اختلف في سماعه من عمر، مات بوقعة الجماجم، سنة ست وثمانين، وهو إمام ثقة، روى له أصحاب الكتب الستة. (¬6) سبقت ترجمته. (¬7) حفص الدوري (150 - 246 هـ): هو أبو عمرو، حفص بن عمر بن صهبان، النحوي، الضرير، الدوري، نسبة لموضع قرب بغداد، كان إمام عصره في القراءة، وشيخ وقته في الإقراء، وهو أول من جمع القراءات. (¬8) خلف بن هشام (150 - 229 هـ): هو الإمام أبو محمد خلف بن هشام البزار الصلحي نسبة إلى (فم الصلح) من أعمال واسط. وقد قرأ بقراءة أهل الكوفة، وتوفي ببغداد. معجم القراءات 1/ 93.

8 - قراءة أبي جعفر:

8 - قراءة أبي جعفر: وتنسب إلى يزيد بن القعقاع، المخزومي، المدني، توفي (130 هـ)، وقد أخذ القراءة عن الصحابة مباشرة: عبد الله بن عباس، وأبي هريرة. وراوياه: عيسى بن وردان (ت 160 هـ)، وسليمان بن مسلم بن جماز (ت 170 هـ). 9 - قراءة يعقوب الحضرمي: وتنسب إلى يعقوب بن إسحاق بن زيد (117 - 205 هـ). أخذ القراءة عن التابعين كأبي الأشهب عن أبي موسى الأشعري، وكذلك شهاب بن شرنقة عن أبي الأسود الدؤلي عن علي. وقد كان مرجعا في حجة القراءات، وتصدّر لرئاسة الإقراء في البصرة، وراوياه: رويس وروح. رويس: وهو محمد بن المتوكل، توفي (238 هـ)، وقرأ على يعقوب عدة مرات. روح: وهو روح بن عبد المؤمن البصري، توفي (234 هـ)، وقرأ على يعقوب. 10 - قراءة خلف: وتنسب إلى خلف بن هشام البزار البغدادي، وهو راوية حمزة صاحب القراءة السادسة. وقد أخذ القراءة عن حمزة بن حبيب الزّيات، وإسناد حمزة هو صدر إسناد خلف. وراوياه إسحاق الوراق؛ وإدريس الحداد. إسحاق الوراق: رحل من مرو إلى بغداد، فأخذ عن خلف، وأقرأ في بغداد، توفي (286 هـ). إدريس الحداد (189 - 292 هـ): أخذ القراءة عن خلف وتصدّر للإقراء في بغداد. وليس وراء هؤلاء العشرة إمام حصل له التواتر، ولكن ثمة أئمة أربعة كبار، اشتهروا بالإمامة في هذا الفن، ورويت لهم قراءات كاملة، إلا أنّ أسانيدها ضعيفة، لا ترقى إلى التواتر، وهم:

11 - الحسن البصري (21 - 110 هـ):

11 - الحسن البصري (21 - 110 هـ): هو الإمام أبو سعيد، الحسن بن أبي الحسن البصري، مولى الأنصار، إمام زمانه علما وعملا، لقي علي بن أبي طالب، وأخذ عن سمرة بن جندب، وأتي به إلى أم سلمة، فبرّكت عليه ومسحت برأسه، وكان يقال من أراد أن يسمع كلام النّبوة بعد أهل البيت، فليسمع كلام الحسن البصري، ولد في خلافة عمر سنة إحدى وعشرين. 12 - يحيى اليزيدي (138 - 202 هـ): هو أبو محمد، يحيى بن المبارك، اليزيدي، العدوي، البصري، كان فصيحا مفوّها، إماما في اللغات والآداب، وهو أمثل أصحاب أبي عمرو، وقام بعده بالقراءة، ففاق نظراءه حتى قيل: إنه أملى عشرة آلاف ورقة من صدره عن أبي عمرو خاصة، غير ما أخذه عن الخليل وغيره. 13 - ابن محيصن ( ... - 123 هـ): هو أبو عبد الله، محمد بن عبد الرحمن بن محيصن المكي، كان عالما في الأثر والعربية، وقال درباس، فيما رأيته في كامل الهذلي: ما رأيت أعلم من ابن محيصن بالقرآن والعربية. 14 - ابن شنبوذ ( ... - 338 هـ): هو أبو الحسن، محمد بن أحمد بن أيوب بن الصّلت، البغدادي، المعروف بابن شنبوذ، وكان إماما شهيرا، وأستاذا كبيرا صالحا، وكان يرى جواز القراءة بما صحّ سنده؛ وإن خالف رسم المصحف، وعقد له بسبب ذلك مجلس، ولم يعدّ أحد ذلك قادحا في روايته، ولا صحة في عدالته. توفي في صفر سنة ثمان وعشرين وثلاث مائة. ويجب الإشارة هنا إلى أننا أتينا على ترجمة الأئمة القرّاء قبل الحديث عن ابن مجاهد، وابن الجزري؛ اللذين يعود إليهما الفضل في تحديد هؤلاء الأئمة المعتبرة قراءاتهم، وذلك تمشّيا مع السياق التاريخي الذي نتحدث فيه عن أئمة الإقراء، ولكن يجب القول: إن هذا التحديد للأئمة ورواتهم؛ لم يتمّ إلا في عهد متأخر كما سنتحدّث عنه في المبحث اللاحق.

المبحث الرابع عصر ابن مجاهد وتدوين القراءات

المبحث الرابع عصر ابن مجاهد وتدوين القراءات اشتهرت القراءة في الأمصار اشتهارا عظيما، وصار كل إمام يقرئ بما سمع، وكل يقرّ قراءة صاحبه، على أساس أنه مشتمل بالإذن النّبوي الكريم في الإقراء بالأحرف السبعة، ولكن ذلك النّهج مضى- كما هو مفترض- باتّجاه التّوسع في الإقراء حتى أصبحت مدارسه ومناهجه لا تنضبط بإطار ناظم، وأصبح تصور الخطأ واللحن والشذوذ واردا في هذه الحالة الجماعية. لذلك فقد بدأ الأئمة في مطلع القرن الثالث بتحديد القراءة المقبولة من القراءة المردودة، ولا تحسب أن الأمر قبل ذلك كان على عواهنه، بل كانت الأئمة تميز بسلائقها المقبول من المردود من القراءات، وتعتمد لذلك اعتبارات كثيرة، منها منزلة الإمام المقرئ، والتزامه بالعربية فيما يقرئ فيه، وموافقته للرسم، وغير ذلك. ثم اتفقت الأمة على شروط ثلاثة، أصبحت ضابطا دقيقا في قبول القراءات وردّها، وهذه الشروط هي: 1 - أن توافق وجها من وجوه النحو، فلا يكون فيها شذوذ عن القواعد التي أصلها النّحاة لضبط كلام العرب. 2 - أن توافق رسم المصحف العثماني على الشكل الذي كتب في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذلك قبل النّقط والشكل. 3 - أن يتواتر سندها متصلا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ بأن يرويها جمع عن جمع من أول السّند إلى منتهاه. وكل قراءة لم تتحقق فيها الشروط السابقة كلها أو بعضها؛ فقد اعتبرت قراءة شاذة تحرم القراءة بها، ويحرم الاعتقاد أنها من القرآن (¬1). ¬

_ (¬1) السبعة في القراءات لابن مجاهد. تحقيق د. شوقي ضيف ص 47، وهذه الشروط مستفيضة ولا يخلو من الإشارة إليها كتاب من كتب القراءات.

وقد نظم ابن الجزري فيما بعد منهج المتقدمين في شروط القراءة المقبولة في الأبيات الآتية: وكل ما وافق وجه النحو ... وكان للرسم احتمالا يحوي وصحّ إسنادا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان وحيثما يختل شرط أثبت ... شذوذه لو أنه في السبعة (¬1) وعقب جهود طويلة من البحث والتحقيق، وبالاستقراء والتتبع؛ ضبط العلماء ما تواتر من أسانيد القرّاء، فإذا هي قراءات سبع، وهي التي اشتهر بخدمتها نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وهي التي سميت فيما بعد بالقراءات السبع المتواترة، وقد أتينا على ترجمة هؤلاء الأئمة قبل قليل. ويرجع هذا الحصر بالسبعة المذكورين إلى الإمام المقرئ أحمد بن موسى بن مجاهد، المتوفى عام (324 هـ)، وذلك في كتابه المشهور (السبعة في القراءات). وقد ولد ابن مجاهد بسوق القطن في بغداد عام (245 هـ)، وظهر نبوغه مبكرا حيث حفظ القرآن الكريم، وأكثر القراءة على الشيوخ حتى عدّ له ابن الجزري نحوا من مائة شيخ قرأ عليهم ختما كاملة للقرآن الكريم، وأجازوه بإقرائها للناس، وقرأ على بعض شيوخه عشرين ختمة، واجتمع عليه الطلاب من الأقطار، وصار يقرئ بالقراءات التي يثبت له تواترها. وكان ابن مجاهد في الحقيقة إماما مقصودا في القراءة، ويمكن القول إنه مؤسس أول جامعة للقرآن الكريم وقراءاته في بغداد، «وقد فاق في عصره سائر نظرائه من أهل صناعته مع اتّساع علمه، وبراعة فهمه، وصدق لهجته، وظهور نسكه» (¬2). وقد نال ابن مجاهد ثقة سائر المشتغلين بالقراءات في عصره، وبعد عصره، وبحسبك منهم شهادة إمام هذا الفن والمرجع فيه ابن الجزري إذ قال: «ولا أعلم أحدا من شيوخ القراءات أكثر تلاميذا منه، ولا بلغنا ازدحام الطلبة على أحد ¬

_ (¬1) نظم طيبة النّشر لابن الجزري، بيت رقم 56. (¬2) معرفة القرّاء الكبار 1/ 217.

كازدحامهم عليه، وقد حكى ابن الأخرم عنه أنه وصل إلى بغداد فرأى في حلقة ابن مجاهد نحوا من ثلاث مائة مصدّر» (¬1). وقال علي بن محمد المقري: كان لابن مجاهد في حلقته ثمانية وأربعون خليفة يأخذون على الناس. وقد رأى ابن مجاهد أن ترك الأمر على عواهنه يؤدي إلى اختلاط المسائل، ودخول السليم في السقيم، فلا بدّ إذن من التّمييز بين من يصلح للإمامة، ويتوافر لديه الإسناد الثبت، وبين من يتلقى القراءة من غير أهلها، فيشوبها بالخطإ واللحن. وهكذا فإنه يبين رأيه جليّا في مقدمة كتابه الشهير السبعة بقوله: «فمن حملة القرآن من يعرب ولا يلحن، ولا علم له بغير ذلك، فذلك كالأعرابي الذي يقرأ بلغته، ولا يقدر على تحويل لسانه، فهو مطبوع على كلامه. ومنهم من يؤدي ما سمعه ممن أخذ عنه، ليس عنده إلا الأداء لما تعلم، ولا يعرف الإعراب، ولا غيره، فذلك الحافظ، فلا يلبث مثله أن ينسى إذا طال عهده، فيضيع الإعراب لشدة تشابهه، وكثرة فتحه وضمه وكسره في الآية الواحدة؛ لأنه لا يعتمد على علم العربية، ولا به بصر بالمعاني يرجع إليه، وإنما اعتماده على حفظه وسماعه، وقد ينسى الحافظ، فيضيع السماع، وتشتبه عليه الحروف، فيقرأ بلحن لا يعرفه، وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره، ويبرئ نفسه، وعسى أن يكون عند الناس مصدقا فيحمل ذلك عنه، وقد نسيه، ووهم فيه، وجسر على لزومه، والإصرار عليه، أو يكون قد قرأ من نسي، وضيع الإعراب، ودخلته الشبهة فيتوهم، فذلك يقلّد القراءة، ولا يحتجّ بنقله، ومن حملة القرآن من هو على مستوى يؤهله إلى معرفة إعراب القراءة، ويبصره بمعانيها، ولكنه لا يعرف القراءات، ولا تاريخها مع جهله بمصادر الرواية، وقد يحمله ذلك على أن يقرأ بحرف يجوز لغة وإعرابا؛ مع أنه لم يقرأ به أحد من السابقين، وهذا يوصله إلى أن يبتدع قراءة جديدة، ومنهم من يعرف قراءته، ويبصر المعاني، ويعرف اللغات، ولا علم له بالقراءات، واختلاف الناس والآثار، فربما دعاه بصره بالإعراب إلى أن يقرأ بحرف جائز في العربية لم يقرأ به أحد من الماضين، فيكون بذلك مبتدعا» (¬2). ¬

_ (¬1) غاية النهاية، لابن الجزري، 1/ 142. (¬2) مقدمة ابن مجاهد لكتابه السبعة في القراءات، ص 45 - 46.

أهمية الكتاب:

ولكن لماذا اختار ابن مجاهد هؤلاء السبعة تحديدا؟ في الحقيقة لم يكن ابن مجاهد يبحث عن قراءات سبع، ولا عن سبعة قرّاء حينما اتّجه ببحثه هذا، غاية الأمر أنه كان يبحث عن المتواتر، وصادف أنه لم يجتمع لديه من أسانيد التواتر بالشروط المعتبرة إلا سبعة، فضبطها، وحرّرها ودوّن أصولها وفرشها، والظاهر أنه صنف أولا سبعة كتب، كل كتاب في قراءة، كلما ثبت عنده تواتر قراءة أفردها بكتاب؛ حتى إذا اكتمل لديه الاختيار صنف كتابه الشهير: السبعة في القراءات. ومنهج ابن مجاهد في كتابه أنه بدأ بذكر أسماء القرّاء السبعة، وأصول كل واحد منهم، واختياراته في شأن الهمزات، والإمالات، والإدغامات، والياءات، وغير ذلك من الأصول، ثم بدأ بذكر فرش الحروف، فكان يسمي اختيار كل منهم من غير توجيه للفرش، وعلى ذلك فقد دوّن مواضع اختلافهم في القرآن الكريم باستقصاء كامل، وقد صار منهج ابن مجاهد إماما للناس من بعده، فاقتفى أثره كل الذين كتبوا من بعده في هذا الفن. وأشهر الكتب التي نهجت نهجه: - التيسير في القراءات السبع: أبو عمرو الدّاني (¬1). - نظم التيسير، المسمى حرز الأماني: للقاسم بن فيّرة بن القاسم الشاطبي (¬2). - سراج القاري: لابن القاصح العذري (¬3). - شروح الشاطبية الأخرى كالسخاوي، والفاسي، وأبي شامة، وابن جبارة، والجعبري. أهمية الكتاب: صنّف ابن مجاهد كتابه هذا في وقت كان يعتبر فيه (شيخ القرّاء) في عاصمة الخلافة الإسلامية بغداد، ولا شك أنه كان لموقعه المميز هذا أكبر تأثير في رواج الكتاب وتداوله. ومن هنا تعلّم سرّ انتشار الكتاب وشهرته في الآفاق. أما مناط تأثير الكتاب، فيتمثّل في أنه كرّس الرّأي القائل بأن القراءات توقيفيّة لا يجوز فيها الاجتهاد، وقطع الطريق على الذين يقولون بجواز الاجتهاد في القراءة، وأنها تدور على اختيار الفصحاء، وعلى رأسهم الزمخشري. ¬

_ (¬1) طبع في استانبول عام 1920، بتحقيق (أتوبرتزل) من جمعية المستشرقين الألمان. (¬2) طبع طبعات كثيرة، أجودها طبعة حققها وأخرجها محمد تميم الزعبي، وصدرت عن مكتبة دار الهدى بالمدينة المنورة. (¬3) طبع في مكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر.

المبحث الخامس دور الشاطبي في تقرير تواتر القراءات السبعة

المبحث الخامس دور الشاطبي في تقرير تواتر القراءات السبعة وتجدر الإشارة هنا إلى إمام جليل سبق الإمام ابن الجزري، وهو الإمام الشاطبي (¬1)، الذي تصدّر للإقراء في الأندلس والمغرب الإسلامي ومصر في القرن السادس الهجري. وقد كان أهم الآثار التي تركها الشاطبي منظومته الكبيرة المسماة (حرز الأماني، ووجه التّهاني)، وهي من المنظومات المتقدمة تاريخيّا في هذا الفن، وقد لاقت قبولا واسعا، وهي تتألف من (1173) بيتا من البحر الطويل الذي يلتزم قافية لامية، اختار الشاطبي أن يرمز لكل قارئ من القرّاء السبعة بحرف من الأبجدية، فيشرح بذلك اختيار كلّ قارئ، ومذهبه في الأصول والفرش. ولم يكن عمل الشاطبي هذا إلا نظما على كتاب التيسير لأبي عمرو الدّاني، الذي صنف كتابه لبيان قراءات الأئمة التي اعتمدها ابن مجاهد، ولكن نظم الشاطبي هو الذي طاف بالبلاد، وحفظه طلاب هذا الفن، وهكذا فإن عملي الشاطبي والدّاني تكاملا في تقرير الأخذ باختيار ابن مجاهد للقراءات السبع على أنها تمثّل جميع المتواتر من قراءة المعصوم صلّى الله عليه وسلّم. وحتى اليوم فإن منظومة الشاطبي هي أدق ما صنف في باب القراءات، وعنها يأخذ طلبة العلم في التّلقي والمشافهة. وهكذا فإن اختيار ابن مجاهد ازداد رسوخا بتكريس الشاطبي له أصولا وفرشا، ومضت ثمانية قرون، وإن الأمة لا تسلّم بالتواتر لغير هؤلاء السبعة. ¬

_ (¬1) الشاطبي (538 - 590 هـ/ 1144 - 1194 م): هو القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الرعيني، أبو محمد الشاطبي: إمام القرّاء، كان ضريرا، ولد بشاطبة (في الأندلس) وتوفّي بمصر، وهو صاحب (حرز الأماني) وهي قصيدة في القراءات تعرف بالشاطبية. وكان عالما بالحديث والتفسير والفقه، قال ابن خلكان: كان إذا قرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ تصحح النسخ من حفظه، والرّعيني نسبة إلى ذي رعين أحد أقيال اليمن.

المبحث السادس ابن الجزري ودوره في نشر القراءات

المبحث السادس ابن الجزري ودوره في نشر القراءات مضى القرن الرابع الهجري، وقد أطبقت الأمة على تواتر القراءات السبع كما اختار ابن مجاهد، وراحت المدارس الإسلامية تبذل الجهود المتضافرة في إظهار أسانيد هذه القراءات السبع، وتحديد رواتها وطرقها، حتى بلغت في ذلك الغاية. ولكن القراءات الأخرى لم تعدم من يدافع عنها، ويحاجج لها، ويكشف عن أسانيدها بغرض إثبات التواتر في روايتها وإسنادها. وبالفعل فقد أنكر كثير من العلماء على ابن مجاهد إعراضه عن قراءة أبي جعفر، يزيد بن القعقاع (¬1)، وهو الذي قال فيه مجاهد بن جبر (¬2)، الإمام المفسّر: لم يكن بالمدينة أحد أقرأ للسّنة من أبي جعفر، وهو من أعلى القرّاء إسنادا إذ توفي عام (130 هـ). كما اعترض على ابن مجاهد في تركه لقراءة يعقوب بن إسحاق الحضرمي (¬3)، البصري، وقد أطبقت كلمة القرّاء والحفّاظ على الثقة به، وعلوّه في الإسناد، وإمامته (¬4)، حيث انتهت إليه رئاسة الإقراء بعد أبي عمرو البصري (¬5)، ووصفه أبو حاتم السجستاني (¬6) بأنه أعلم من رآه بالحروف، والاختلاف في القرآن وعلله، ومذاهب النحو. ¬

_ (¬1) يزيد بن القعقاع (130 هـ): هو أبو جعفر يزيد بن القعقاع المخزومي، إمام المدينة النّبوية، التّابعي. قال عنه مجاهد: لم يكن بالمدينة أحد أقرأ من أبي جعفر. (¬2) مجاهد بن جبر (21 - 104 هـ): هو مجاهد بن جبر، أبو الحجاج المكي، مولى بني مخزوم، تابعيّ، مفسّر من أهل مكة. قال الذهبي: شيخ القرّاء والمفسّرين، أخذ التفسير عن ابن عباس، قرأه عليه ثلاث مرّات، يقف عند كل آية يسأله فيم نزلت، وكيف كانت، توفي في الكوفة. (¬3) يعقوب الحضرمي (117 - 205 هـ): هو أبو محمد يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله بن إسحاق الحضرمي البصري، وصفه أبو حاتم السجستاني بأنه أعلم من رآه بالحروف، والاختلافات في القرآن، وعلله، ومذاهب النحو، وحديث الفقهاء، توفي عن ثمان وثمانين سنة. (¬4) انظر التذكرة في القراءات الثمان لابن غليون. تحقيق أيمن سويد. 1/ 56. (¬5) مرّت ترجمته في مبحث أئمة القراءة. (¬6) أبو حاتم السجستاني (172 - 255 هـ/ 788 - 869 م): هو سهل بن محمد بن عثمان الجشمي، السجستاني، البصري،

ومن الأعمال الجليلة التي صنّفت متضمنة بيان منزلة الإمام المقرئ يعقوب: التذكرة في القراءات الثمان للإمام أبي الحسن، طاهر بن غلبون، المقرئ، الحلبي (¬1)، وكذلك: التّلخيص في القراءات الثمان للإمام أبي معشر عبد الكريم بن عبد الصّمد الطبري، وقد ضمّ كل منهما قراءة يعقوب إلى السبعة الكبار، وبسطوا أصولها وفرشها (¬2). كذلك فإن خلف بن هشام راوية حمزة انفرد بقراءة مستقلة مخالفة لأصول حمزة، وهو مشهور بعلو الإسناد، والرسوخ في العلم. ومع ذلك فلم يستطع أحد أن يلحق هذه القراءات الثلاث بالسبع المتواترة، بالرغم من اشتهار أسانيدها، ومنزلة رجالها، وكان علينا أن ننتظر خمسة قرون أخرى حتى يجيء ابن الجزري؛ الذي بلغ في القرن التاسع منزلة فريدة في مرجعية الإقراء تسامي ما كان عليه ابن مجاهد في القرن الرابع. وفي مطلع القرن التاسع أصبح ابن الجزري مرجع العالم الإسلامي في القراءة والإقراء، ولذلك فإنه أعاد على بساط البحث مسألة القراءات الثلاث التي اختلف في تواترها، وقام بإثبات تواتر أسانيدها بالحجج الواضحة، ثم كتب نظما من البحر الطويل على نهج الشاطبية أسماه: الدّرة المضيّة في القراءات الثلاث تتمة العشر، وبذلك فإنه بوّأ هذه القراءات منزلة السبع المتواترات التي قررها ابن مجاهد. ثم صنّف بعد ذلك كتابه الشهير: النّشر في القراءات العشر، وأورد فيه زيادة على القراءات الثلاث، وجوها أخرى للأئمة السبع لم يكن الشاطبي قد أشار إليها من قبل. فمن ذلك أن الشاطبي أشار إلى أن المنقول عن عاصم أنه يمدّ المنفصل، وذلك في قوله: ¬

_ نحوي، لغوي، عروضي، مقرئ، روى عن أبي زيد الأنصاري، وأبي عبيدة، معمر بن المثنى، والأصمعي، وأخذ عنه المبرد، وابن دريد، وتوفّي بالبصرة. من تصانيفه: اختلاف المصاحف، إعراب القرآن، ما يلحن فيه العامة، القراءات، المقصور والممدود، وله شعر. (¬1) قامت جمعية تحفيظ القرآن الكريم بجدة بطبع هذا الكتاب عام 1991 بتحقيق أيمن سويد. (¬2) قامت جمعية تحفيظ القرآن الكريم بجدة بطبع هذا الكتاب عام 1992 بتحقيق محمد حسن عقيل موسى.

إذا ألّف أو ياؤها بعد كسرة ... أو الواو عن ضمّ لقي الهمز طوّلا فإن ينفصل فالقصر بادره طالبا ... بخلفهما يرويك درّا ومخضلا فأخبر أن الذين قرءوا بقصر المنفصل هم المرموز إليهم بالباء وهو قالون، وبالياء وهو السوسي، وبالدال وهو ابن كثير، فتعيّن للباقين المدّ لا غير. ولكن ابن الجزري تعقبه في ذلك فقال في الطّيبة: ... ... وقصر المنفصل ... لي بن حما عن خلفهم داع ثمل فأخبر أن الذين قرءوا بقصر المنفصل هم المرموز إليهم باللام وهو هشام، وبالباء وهو قالون، وب (حما) وهم أبو عمرو ويعقوب، وبالعين وهو حفص بخلاف عنهم، ثم بالدال وهو ابن كثير المكي، وبالثاء وهو أبو جعفر، يزيد بن القعقاع بوجه واحد. والأمثلة في هذا الباب أكثر من أن تحصى. ولم يكن ابن الجزري لينفرد بهذا الاختيار من تلقاء نفسه لو لم تكتمل لديه آلة هذا العلم من المصادر الغنية الموثوقة التي تمثل خلاصتها زبدة هذا العلم ومادته، وهي التي لا زالت مرجع القرّاء والحفاظ في هذا الفن. وخلال الفترة ما بين ابن مجاهد، وابن الجزري كتبت الكتب الأمهات في علم القراءات، وأصبح واضحا لكل مشتغل بهذا العلم أن هذا العلم قد نضج واكتمل، وأن الحاجة فيه إلى الترتيب، والاختيار باتت مؤكدة، وأصبح العلماء ينتظرون كلمة الحسم التي جاء بها ابن الجزري فيما بعد. ونستعرض هنا أهم الأعمال التي تمّ إنجازها خلال هذه الفترة، وهي في الوقت نفسه المصادر الأم التي اتّكأ ابن الجزري عليها حينما قدّم للناس كلمة الفصل في القراءات المعتمدة، وهي على ترتيب وفيات مؤلفيها: - كتاب السبعة: للإمام الحافظ أبي بكر، أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، التميمي، البغدادي، المتوفّى بها سنة (324 هـ) (¬1). ¬

_ (¬1) قام بتحقيقه الدكتور شوقي ضيف، وطبع في دار المعارف بمصر.

- كتاب التّذكرة في القراءات الثمان: للإمام أبي الحسن، طاهر بن عبد المنعم بن غليون الحلبي، نزيل مصر، والمتوفّى بها سنة (399 هـ) (¬1). - كتاب المنتهى في القراءات العشر: للإمام أبي الفضل، محمد بن جعفر الخزاعي، المتوفّى سنة (408 هـ) (¬2). - كتاب التّبصرة للإمام أبي محمد، مكي بن أبي طالب ... القيسي، القيرواني، ثم الأندلسي، المتوفّى سنة (430 هـ) بقرطبة (¬3). - كتاب الروضة في القراءات الإحدى عشر للإمام أبي علي الحسن بن محمد بن إبراهيم البغدادي المالكي، نزيل مصر، المتوفّى سنة (438 هـ) (¬4). - كتاب التيسير: للإمام الحافظ أبي عمرو عثمان بن سعيد الدّاني، الأندلسي، المتوفّى بها سنة (444 هـ) (¬5). - كتاب جامع البيان في القراءات السبع: للإمام الدّاني السابق الذكر (¬6). - كتاب المستنير في القراءات العشر: للإمام أبي طاهر أحمد بن علي ... بن سوار البغدادي المتوفّى بها سنة (496 هـ) (¬7). - كتاب الشاطبية: حرز الأماني ووجه التهاني: للإمام القاسم بن فيرة الشاطبي المتوفّى بالقاهرة سنة (590 هـ) (¬8). ¬

_ (¬1) طبعته جمعية تحفيظ القرآن بجدة، حقّقه أيمن رشدي سويد. (¬2) أشار إليه ابن الجزري في مقدمة النّشر، ولم أجده. (¬3) طبعته الدار السلفية- بومباي، الهند 1402 هـ، بتحقيق د. محمد غوث النّدوي. (¬4) أشار إليه ابن الجزري في مقدمة النّشر، ولم أجده مطبوعا ولا مخطوطا. (¬5) طبعته جمعية المستشرقين الألمان عام 1920، بتحقيق أوتو برتزل، ثم طبعته دار المثنى ببغداد. (¬6) حقّقه د. عبد المهيمن طحان- رسالة دكتوراة، جامعة أم القرى، 1406 هـ. (¬7) أشار إليه ابن الجزري في مقدمة النّشر، ولم أجده. (¬8) طبعت طبعات كثيرة، أجودها ملونة صدرت عن دار الهدى بالمدينة المنورة عام 1415 هـ، باعتناء الشيخ محمد تميم الزعبي.

- كتاب شرح الشاطبية: للإمام أبي الحسن علي بن محمد السخاوي، المتوفى بدمشق سنة (643 هـ) (¬1). - كتاب جمال القرّاء، وإكمال الإقراء: للإمام السخاوي علي بن محمد المتوفى سنة (643 هـ) (¬2). - كتاب مفردة يعقوب: للإمام أبي محمد، عبد الباري بن عبد الرحمن الصعيدي، المتوفّى بالإسكندرية سنة (655 هـ) (¬3). واليوم يمكن القول بأن جهود ابن مجاهد التي أكملها ابن الجزري فيما بعد قد قطعت الجدل في أمر القراءة المقبولة، والمردودة، وأصبح سائر المقبول من القراءات مدوّنا في السبعة التي اختارها ابن مجاهد، والثلاث التي استكملها ابن الجزري. وكل ما سوى هذه القراءات العشر، فهو قراءات شاذّة تروى على أنها من كلام العرب، ولا يجوز القراءة بها في الصلاة، وقد عرف منها أربع قراءات مدوّنة، وهي قراءات يحيى اليزيدي (¬4)، وابن محيصن (¬5)، والأعمش (¬6)، والحسن البصري (¬7)، وما سواها، فهو غير مدوّن ¬

_ (¬1) أشار إليه حاجي خليفة في كشف الظنون، وأخبر أن اسمه: فتح الوصيد في شرح القصيد، وهو مخطوط محفوظ بدار الكتب المصرية برقم (255). (¬2) طبع في مكتبة التراث بمكة المكرمة عام 1408 هـ، بتحقيق الدكتور علي حسين البواب. (¬3) لا تزال مخطوطة، وهي محفوظة في مكتبة نور عثمانية رقم (1062) استانبول، ضمن مجموعة كتب هي الثانية فيه. (¬4) يحيى اليزيدي (128 - 202 هـ): هو يحيى بن المبارك العدولي بالولاء البصري، نحوي مقرئ، ثقة، علامة في النحو والعربية والقراءة، وقد أخذ القراءة عن أبي عمرو بن العلاء، وخلفه بالقيام بها كما أخذ عن حمزة. روى القراءة عنه أولاده، وأبو عمر الدّوري، وسليمان بن أيوب بن الحكم، وسليمان بن خلال، وجماعة. وروى عنه الحروف: أبو عبيد القاسم بن سلام وأشهر رواته: سليمان الحكم وأحمد بن فرح. (¬5) ابن محيصن (123 هـ): محمد بن عبد الرحمن السهمي بالولاء المكي، مقرئ أهل مكة، ثقة، عرض على مجاهد بن جبر، ودرباس مولى ابن عباس، وسعيد بن جبير، عرض عليه شبل بن عبادة، وأبو عمرو بن العلاء. أشهر رواته ابن شنبوذ. (¬6) الأعمش، أبو محمد (60 - 148 هـ): هو سليمان بن مهران الكوفي مولي بني أسد، الإمام الجليل، مقرئ الأئمة، صاحب نوادر أخذ القراءة عرضا عن إبراهيم النخعي، وزيد بن حبيش، وعاصم بن أبي النجود، ومجاهد بن جبير، وأبي العالية الرياحي، روى عنه عرضا وسماعا: حمزة الزّيات، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أشهر رواته: الحسن بن سعيد المطوعي، وأبو الفرج الشنبوذي. (¬7) الحسن البصري، أبو سعيد (12 - 110 هـ): هو الحسن بن أبي يسار إمام زمانه علما وعملا، قرأ على حطان بن

لا ضابط يضبطه (¬1)، ولا يوجد موجب شرعي لجمعه وإحصائه، ولكن جمعه وإحصاءه مفيد لجهة معرفة آراء السلف في اللغة والفقه والتفسير. وينبغي أن نشير إلى أن غالب هذه القراءات الشاذة؛ إنما هو تلك الملاحظات التي كان يدوّنها أصحاب المصاحف الخاصة على مصاحفهم، كما في مصحف أبي بن كعب، ومصحف علي بن أبي طالب، ومصحف أم سلمة، وعبد الله بن الزبير، وابن مسعود، والحسن البصري، على سبيل التفسير والإيضاح، فيتناقلها الناس من بعده على أنها من القرآن الكريم. وهذا السبب بعينه هو الذي دفع الخليفة الراشدي عثمان بن عفان أن يقوم بتحريق المصاحف الخاصة بالصحابة؛ خشية هذا المحذور الذي وقع بالفعل، ولكن بعد أن سلّم المصحف الإمام، الذي وفّر للأمة بيانا صريحا يتميّز به الصحيح من الدّخيل. وإلى هنا، نكون قد رسمنا صورة واضحة لبزوغ فن القراءات، ومستنده الشرعي، ومنزلته في الاستدلال، وبيان ضوابط المقبول والمردود من القراءات، وأما تفصيل الألفاظ المقبولة والمردودة في القراءات، فهذا بحث دقيق، وقد وفقني الله لإصداره في كتاب خاص أسميته (الشامل في القراءات) نشرته دار الكلم الطيب بدمشق. ولنتحول الآن إلى الحديث عن أثر اختلاف القراءات في الرسم والأحكام. ¬

_ عبد الله الرّقاشي عن أبي موسى الأشعري، وعلى أبي العالية عن أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعمر بن الخطاب. روى عنه: أبو عمرو بن العلاء، وسلام الطويل، ويونس بن عبيد، وعيسى بن عمر النحوي. أشهر رواته: شجاع بن أبي نصر البلخي والدوري. (¬1) أقول: ظهر عام (1411 هـ 1991 م) معجم القراءات القرآنية في تسع مجلدات، وقد قام مؤلفا هذا المعجم النفيس بضبط كل ما تناثر في الكتب حول وجوه القراءة التي قرئت بها كلمات القرآن من متواتر وآحاد وشاذ، ولا شك أن هذا العمل النفيس خدم المكتبة العربية خدمة جليلة. قام بتأليف هذا السفر كل من الدكتور أحمد مختار عمر، الأستاذ بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الكويت، والدكتور عبد العال سالم مكرم، الأستاذ بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الكويت، وقد قامت بنشر الكتاب منظمة (انتشارات أسوة) في طهران.

الباب الثاني أثر القراءات المتواترة في الرسم القرآني

الباب الثاني أثر القراءات المتواترة في الرسم القرآني

تمهيد

تمهيد يمكن أن يأخذ الحديث عن تاريخ الرسم القرآني اتجاهات مختلفة، وهو- دون شك- من أكثر المسائل التي تحدّث فيها الناس؛ إذ لا يخلو مصنّف في علوم القرآن من الحديث عن تاريخ تدوين القرآن، والجهود العظيمة التي بذلت في هذا السبيل. والذي سنتّجه إلى الحديث عنه هنا هو هذا الرسم الذي تمّ بالفعل تدوين القرآن الكريم به؛ من جهة ضبطه للتنزيل القرآني، ومدى ما عاد به تطوير هذا الرسم من مسئوليات على القرّاء لجهة ضبط القراءات المتواترة تنزيلا، والتي أصبحت الكتابة تعجز عن ضبطها كلما تطور هذا الرسم. ولذلك فإننا سنعنى هنا بتاريخ الرسم القرآني في مراحله المختلفة في إشارة مقارنة إلى جهود علماء القراءات في ضبط التنزيل.

الفصل الأول تاريخ الرسم القرآني

الفصل الأول تاريخ الرسم القرآني المبحث الأول الرسم في عهد النّبي صلّى الله عليه وسلّم من المسلّم به أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأمر بكتابة الوحي فور نزوله؛ حيث كان كتاب الوحي يتلقّونه عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم مباشرة، فيسطرونه فيما يتيسر لديهم من وسائل الكتابة من اللخاف والرقاق وورق البردى وغير ذلك، ولا يوجد في المنطق والواقع والرواية ما يعكّر هذا الفهم، إذ كانت مكة أصلا بلد ثقافة، والقرّاء والكتّاب فيها متوافرون؛ حيث كانت المجامع الثقافية الموسمية في عكاظ والجنة وذي المجاز وغيرها؛ تفرض على شباب مكة تحصيل جانب من القراءة والكتابة، ولذلك فقد جعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم فداء الأسير من قريش يوم بدر أن يعلّم عشرة من أطفال المسلمين في المدينة القراءة والكتابة. وهكذا فإن قلّة عدد الصحابة بمكة مقترن بأن غالبيتهم يحسن القراءة والكتابة، وهو يدفع عنا توهم ضياع شيء من نصوص الوحي؛ حيث كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يتلقّى أولا عن جبريل، ثم يقرئ من حوله من الأصحاب، ويأمر بكتابة ذلك في الصحف. أما الآيات الأولى من سورة العلق التي تلقاها النّبي صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء منفردا، ونظائرها مما تلقّاها في غيبة أصحابه؛ فإن حمله صلّى الله عليه وسلّم لها ثم أمره إلى الصحابة بنسخها في المصاحف ليس مما يعسر فهمه وتباينه عند من يعتقد بأنه تنزيل من ربّ العالمين. وفي المدينة كان الأصحاب من الكثرة والاجتماع حول النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى حدّ يطمئن فيه المرء أن سائر الوحي تلقته الكتبة في الصحف بحضرة المعصوم صلّى الله عليه وسلّم، وهو ما تواترت على إثباته الروايات والقرائن والأدلة.

وأشهر كتاب الوحي بين يدي النّبي صلّى الله عليه وسلّم: أبان بن سعيد بن العاص الأموي، وأبي بن كعب، والأرقم بن أبي الأرقم، والزبير بن العوام، وزيد بن ثابت، وأبو بكر الصّديق، وعلي بن أبي طالب، وعامر بن فهيرة، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، والعلاء بن عقبة، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، وسجلّ الكاتب (¬1). ولم يأمر النّبي صلّى الله عليه وسلّم بجمع سائر الصحف في كتاب؛ وذلك أنه كان يتوقع دائما نزول القرآن الكريم، ونسخ بعض ما نزل، فكان إذا نزلت السورة يقتصر على قوله: اجعلوا هذه مكان كذا وكذا، فيعرف أصحابه الكرام مراده بالترتيب من غير أن تتمّ الكتابة النهائية لسائر آي القرآن الكريم في مصحف واحد. قال الخطابي: إنما لم يجمع صلّى الله عليه وسلّم القرآن في المصحف لما كان يرقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته، فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة، فكان ابتداء ذلك على يد الصّديق بمشورة عمر، وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن» .. الحديث؛ فلا ينافي ذلك لأن الكلام في كتابة مخصوصة على صفة مخصوصة، وقد كان القرآن كتب كله في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور (¬2). وهكذا فإن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأمر بكتابة القرآن عنه من غير أن يأمر باستقصاء ذلك كله في مصحف واحد، وكل ذلك بوحي، فالمسألة توقيفية لا مجال فيها للاجتهاد. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرض القرآن الكريم في كل عام مرة على جبريل الأمين خلال شهر رمضان، وفي سنته الأخيرة صلّى الله عليه وسلّم عرضه مرّتين، وفي ذلك يقول صلّى الله عليه وسلّم: «إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل شهر رمضان مرّة وإنه عارضني هذا العام مرتين وما أراه إلّا قد حضر أجلي» (¬3). فبذلك تمّ نزول القرآن كله، وتمّ ترتيبه في مواضعه، وتمّ نسخه في الصحف، كل ذلك بأمر منه صلّى الله عليه وسلّم وبين يديه. ¬

_ (¬1) ترجم لهم جميعا ابن عساكر في السيرة النّبوية في الجزء الثاني من تاريخ دمشق الصفحات من 331 - 346، كما قام الدكتور مصطفى الأعظمي بدراسة خاصة حول هذا الموضوع أصدرها بعنوان: كتّاب الوحي. (¬2) الإتقان: 57. (¬3) البخاري في كتاب الصوم.

المبحث الثاني رسم القرآن الكريم في عهد الصحابة

المبحث الثاني رسم القرآن الكريم في عهد الصحابة تبيّن مما سبق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم توفي وعند المسلمين وثيقتان دقيقتان للقرآن الكريم. 1 - الوثيقة الأولى: وهي جماعة الحفّاظ الذين قرءوا القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم لا يقلّ عددهم عن المائة على أقلّ تقدير، فقد قتل يوم اليمامة سبعون منهم، وقتل يوم بئر معونة (¬1) مثل ذلك، ومن هؤلاء الحفّاظ من عرضه مباشرة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأقام مجالس الإقراء يقرئ الناس فيها، وقد اشتهر من هؤلاء: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري (¬2). وكان هؤلاء بمثابة القرّاء الذين يقرءون على شيوخهم فيجيزونهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمثابة شيخ لهؤلاء قرءوا عليه فأجازهم. كذلك فإن من الصحابة من قرأ على حفّاظ الصحابة في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومنهم من أتمّ حفظه عقب وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أضف إلى ذلك أن هناك من لم يتيسر له حفظ كل القرآن الكريم فحفظ منه أجزاء وأرباعا وسورا متفرقة، وهؤلاء لا يتجاوز عددهم الألوف، فبذلك لم تكن في القرآن آية إلّا وقد حفظها المئات من الصحابة على أقلّ تقدير. 2 - الوثيقة الثانية: وهي الوثيقة المكتوبة، فمن المؤكد أن كتبة الوحي القرآني كتبوا كل آية في القرآن الكريم في صحفهم كما علمت. فقد كان الكتبة يتلقفون الآيات عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينسخونها في الصحف فور نزولها، وربما كتب الآية كاتب واحد أو اثنان أو ربما أكثر من ذلك، وعن هذه الصحف، كان كثير من ¬

_ (¬1) سمي هذا البعث الذي بعثه النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بئر معونة: بعث الحفّاظ، وغني عن التعريف أن هؤلاء لم يكونوا يحفظون سائر القرآن الكريم، إذ لم يكن قد اكتمل نزوله بعد، ولكن اشتهروا بالحفظ والقراءة. (¬2) طبقات القرّاء للذهبي.

أول جمع للقرآن:

الصحابة ينسخون الآيات في صحفهم الخاصة، بل إن بعض الصحابة جمع لنفسه مصحفا خاصّا كاملا. ومن هؤلاء: عبد الله بن مسعود، وعائشة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وحفصة، وأم سلمة، وأبي بن كعب، وغيرهم كثير (¬1). ولم تكن هناك ضرورة لجمع هذه الصحف في مكان واحد خلال حياة النّبي صلّى الله عليه وسلّم؛ إذ النّبي حيّ، والحفّاظ متوافرون، فضلا عن عدم إمكان ذلك بسبب تنزل الوحي المستمر، ومن المعلوم أن ترتيب نزول الوحي اتّصل حتى الأيام الأخيرة من مرض النّبي صلّى الله عليه وسلّم الأخير. أول جمع للقرآن: حين توفّي النّبي صلّى الله عليه وسلّم اشتدّت الحاجة لجمع هذه الصحف المكتوبة في مكان واحد تمهيدا لنسخها ضمن المصاحف ليسهل نشرها في الآفاق. وكان عمر بن الخطاب أول من رأى ذلك، وسعى إليه، فقد روى البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليّ أبو بكر (عند) مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ (كثر) في أهل اليمامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل ما لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال عمر: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتتبع القرآن فاجمعه. فقال زيد: فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال؛ ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التّوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره. ¬

_ (¬1) المصاحف للسجستاني 45، والأرجح أن ذلك تمّ بعد وفاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم.

المبحث الثالث الرسم العثماني

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ* فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التّوبة: 9/ 128 - 129]، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفّاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر. وهكذا فإن منهج زيد بن ثابت في كتابة القرآن هو اعتماد الوثيقتين المحفوظة والمكتوبة، وقد عثر على سائر آيات القرآن مكتوبة كما كان يحفظها هو وزملاؤه من الصحابة، وهي الوثائق التي كتبت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والخبر يؤكد أنه عثر على أكثر من وثيقة مكتوبة لجميع آيات القرآن إلا وثيقة واحدة مكتوبة، كانت لدى أبي خزيمة الأنصاري، الذي جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهادته شهادة رجلين، فطابق بين حفظه وبين الوثيقة التي وجدها، يؤيّدها تأكيد عشرات الصحابة الحفّاظ، ومنهم زيد بن ثابت، فنسخها في المصحف، وخلال فترة قصيرة جمع القرآن كله بوثائقه الأولى لدى أبي بكر الصّدّيق، فنسخت بين اللوحين، وخرجت إلى الوجود أول نسخة كاملة من القرآن الكريم، بالغة التوثيق والتدقيق، وهي في الوقت نفسه أول كتاب ينسخ بالعربية. وفي خلافة عمر بن الخطاب بقي المصحف على حاله لدى عمر، وبقي الاعتماد الأساسي على الحفظ والإقراء، مع الاستعانة بالصحف الخاصة لدى الصحابة، والمصحف الإمام الموجود لدى عمر بن الخطاب رضي الله عنه. المبحث الثالث الرسم العثماني وفي عهد عثمان بن عفان خاف الصحابة على الناس من الاختلاف في القرآن بسبب عدم توفر نسخ قرآنية بين أيدي الناس يقرءون بها، وقد توزّع الحفّاظ في الأمصار وعظمت الفتوح، ودخل الناس في دين الله أفواجا. ولم يكن الحفّاظ والقرّاء- مهما بلغوا من الكثرة- ليستطيعوا أن يقرءوا الناس جميعا في سائر الأمصار؛ كما كان الأمر في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والشيخين.

خط المصاحف:

عندئذ رأى الصحابة أنه من الضروري أن يوفّروا نسخا من القرآن في البلاد المختلفة ليقرأ الناس استنادا إليها. وأمر الخليفة عثمان بن عفان بتشكيل لجنة رباعية من خيار حفّاظ الصحابة وكتّابهم، وهم: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وهكذا فقد تمّ نسخ خمسة مصاحف موثقة، وزّعت في المدن الرئيسة الخمس وهي: مكة والمدينة ودمشق، والبصرة والكوفة، وربما كانت المصاحف سبعة (¬1) وزعت في الأمصار الخمسة واليمن والبحرين، كما ذكرت ذلك بعض الروايات. وبذلك اكتملت الوثيقة الثانية للقرآن الكريم مكتوبة متوفرة في الأمصار. خط المصاحف: كتبت تلك المصاحف جميعا بالخط الكوفي القديم، وظلّت الكتابة بالخطّ الكوفي مفضّلة لدى الناس حتى تحوّلوا عنها إلى خط النّسخ في القرن الرابع الهجري لكونه أكثر وضوحا وأبعد عن الالتباس. ولا يزال الخط النّسخي إلى اليوم هو المستعمل في كافّة المصاحف. مصاحف الصحابة الخاصة: وقد يشكّل هنا ما اشتهر من أن بعض مصاحف الصحابة الخاصة فيها زيادات ليست في المصاحف التي بين أيدينا، ويزول ذلك الإشكال حين تعلم أن هذه المصاحف إنما كتبها أولئك الأصحاب لأنفسهم، وكانوا يزيدون فيها ما هو من باب التفسير والإيضاح، كما زاد مثلا عبد الله بن مسعود في مصحفه: (وهو أبوهم) بعد قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 33/ 6]، فزيادته تلك هي زيادة إيضاح وتفسير، ولم يجد في ذلك حرجا لأنه إنما كتب المصحف لنفسه، وهو يعلم أن هذه الإشارات والملاحظات ليست من نصّ القرآن. ¬

_ (¬1) الخلاف في عدد المصاحف العثمانية مشهور، وهي تدور بين أربع أو خمس أو سبع أو ثمان نسخ من المصاحف، وليس هذا محل الخلاف. انظر الإتقان للسيوطي- البرهان للزركشي.

ثم لما جمع عثمان الناس على المصحف الإمام أدرك الأصحاب ضرورة إتلاف مصاحفهم لما فيها من زيادات تفسيرية قد تصبح في أيدي من لا يميزون فيزيدون في كتاب الله ما ليس فيه. وهكذا فقد استغنى الأصحاب بالمصحف الإمام بعد أن اجتمعت كلمتهم على تجريد كتاب الله مما ليس فيه. ويشير علماء القرآن إلى أن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود امتنع أولا من تسليم مصحفه؛ لما كان قد دوّن فيه من ملاحظات هامّة، إلا أنه عاد فيما بعد فالتزم رأي جماعة المسلمين. قال الحاكم في المستدرك: جمع القرآن ثلاث مرات: (إحداها): بحضرة النّبي صلّى الله عليه وسلّم ثم أخرج بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نؤلّف القرآن من الرّقاع .. الحديث. وقال البيهقي: يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النّبي صلّى الله عليه وسلّم. (الثانية): بحضرة أبي بكر. روى البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت قال: أرسل إليّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل ولا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التّوبة مع أبي خزيمة الأنصاري (¬1)، لم أجدها مع غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ ¬

_ (¬1) تعددت الأقوال هنا في تحرير اسم واجد الصحيفة، والأصح أنه خزيمة بن ثابت، كما سيأتي في الجمع الثالث، ولم يشر ابن حجر في الإصابة إلى وجود صحابي باسم أبي خزيمة الأنصاري، ولكنه حقّق المسألة في الفتح 9/ 15 فقال: وقع في رواية عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد (مع خزيمة بن ثابت). أخرجه أحمد والتّرمذي. ووقع في رواية شعيب عن الزهري كما تقدّم في سورة التّوبة (مع خزيمة الأنصاري) وقد أخرجه الطبراني في (مسند الشّاميين) من

- حتى خاتمة براءة- فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر (¬1). (الثالثة): ترتيب السّور في زمن عثمان: روى البخاري عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرّهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنّه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق، قال زيد: ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ بها، فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 33/ 23]، فألحقناها في سورتها في المصحف (¬2). ¬

_ طريق أبي اليمان عن شعيب فقال فيه (خزيمة بن ثابت الأنصاري) وقد أخرجه ابن أبي داود من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب، وقول من قال عن إبراهيم بن سعد (مع أبي خزيمة) أصح، وقد تقدم البحث فيه في تفسير سورة التوبة، وأن الذي وجد معه آخر سورة التوبة غير الذي وجد معه الآية التي في الأحزاب، فالأول اختلف الرواة فيه عن الزهري، فمن قائل: (مع خزيمة)، ومن قائل: (مع أبي خزيمة)، ومن شاكّ فيه يقول: (خزيمة أو أبي خزيمة)، والأرجح أن الذي وجد معه آخر سورة التوبة أبو خزيمة بالكنية، والذي وجد معه الآية من الأحزاب خزيمة، وأما خزيمة فهو ابن ثابت ذو الشهادتين كما تقدّم صريحا في سورة الأحزاب. وقد أنكر القاضي أبو بكر بن الطيب هذا الحديث بالكلّية، فجزم بأنه مضطرب، بل قال: يشبه أن يكون موضوعا! .. مع أنه من رواية البخاري ومسلم. وقد تصدّى القاضي أبو بكر بن العربي للرّد على ذلك في كتابه النفيس: أحكام القرآن، الجزء الثاني، ص 1037. (¬1) أوردنا هذه الرواية قبل قليل، وكررناها هنا لما فيها من فائدة تتعلق بمصير النسخة بعد أبي بكر. (¬2) نقلا عن السيوطي في الإتقان 1/ 57. وتجدر الإشارة هنا أن البخاري في الصحيح أخبر أن قصة خزيمة وردت مرتين: في جمع أبي بكر وفي جمع عثمان، مع أن المعقول هنا أنها في عهد أبي بكر، والله أعلم.

وهكذا فإنه يتبدى لك من رواية الحاكم أن جمع القرآن الكريم كان ثلاث مرات، وقد حظيت كل واحدة من الثلاث بإجماع الأمة واتّفاقها؛ بحيث لا تجد لها مخالفا، وتواتر هذا بالضبط على الوثائق برواية العدول الثّقات، البالغين من الوفرة حدّا يقطع الارتياب، ويجعلك تأمن تواطؤهم على الكذب. وبعد هذا العرض لمراحل الرسم القرآني حتى عهد عثمان بن عفّان، فإن الذي يعنينا من ذلك هو شكل الرسم الذي رسمت به المصاحف، وعلاقته بالقراءات المتواترة. من المعلوم أن الجمع الذي قام به أبو بكر رضي الله عنه كان يتضمن الكتبة الأولى التي كتبت بحضرة النّبي صلّى الله عليه وسلّم والأصحاب وفق معارفهم السابقة. (ولم يؤخذ على كتاب القرآن، وخطاط المصاحف رسم بعينه دون غيره، أوجبه عليهم وترك ما عداه؛ إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتّوقيف) (¬1). وهكذا فإن من المفترض أن هذا الرسم لم يكن يؤدي غالبا إلا قراءة واحدة، وهي القراءة التي تلقّاها الصحابي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في أحد المجالس. فمثلا في سورة آل عمران: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: 3/ 136]. فقد قرئت هذه الآية بواو (¬2) في وسارعوا، وقرئت بغير واو (¬3)، ¬

_ روايتها في عهد أبي بكر، انظر فتح الباري 8/ 344، كتاب تفسير سورة التّوبة. روايتها في عهد عثمان، انظر فتح الباري 8/ 344، كتاب التفسير سورة الأحزاب. ولكن حقق ابن حجر في الفتح هذه المسألة بقوله: الصحيح عن الزهري أن قصة زيد بن ثابت مع أبي بكر وعمر عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت، وقصة حذيفة مع عثمان عن أنس بن مالك، وقصة فقد زيد بن ثابت الآية من سورة الأحزاب في رواية عبيد بن السباق عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، وقد رواه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن الزهري، فأدرج قصة آية سورة الأحزاب في رواية عبيد بن السباق، وأغرب عمارة بن غزية فرواه عن الزهري فقال: عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، وساق القصص الثلاث بطولها: قصة زيد مع أبي بكر وعمر، ثم قصة حذيفة مع عثمان أيضا، ثم قصة فقد زيد بن ثابت الآية من سورة الأحزاب أخرجه الطبري، وبين الخطيب في (المدرج) أن ذلك وهم منه وأنه أدرج بعض الأسانيد على بعض. (¬1) إعجاز القرآن للباقلاني 42. (¬2) وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو، والكوفيين الأربعة، ويعقوب. (¬3) وهي قراءة نافع، وابن عامر، وأبي جعفر.

المبحث الرابع أثر الرسم العثماني في ضبط القراءات

ولما كان مصحف أبي بكر رضي الله عنه واحدا فإنه من المفترض أنه اشتمل على أحد الرّسمين، ولكن من المؤكد أن وثيقة أخرى كتبت بالرسم الآخر، وكانت موجودة في المجموعة التي توفرت لدى الصّديق رضي الله عنه من الوثائق. وحينما كتب مصحف عثمان بن عفّان رضي الله عنه ونسخ في الأمصار؛ كان من أهم النقاط التي لحظتها المصاحف أنها عالجت مواضع اختلاف الرسم الضروري بين القراءات، فكتبت الأحرف متعددة في مواضع الاختلاف بحسب القراءات المأذون بها من المعصوم صلّى الله عليه وسلّم. المبحث الرابع أثر الرسم العثماني في ضبط القراءات ظهر لنا في الفصل السابق أن المصاحف العثمانية التي وزعها عثمان في الأمصار كانت مشتملة على القراءات المشروعة بمجموعها، فقد تغيب قراءة ما عن رسم أحد المصاحف العثمانية، ولكنها تظهر جزما في نسخة أخرى، وقد يقصر رسم أحد المصاحف عن التعبير بالوجوه المشروعة في القراءة، ولكن يجيء رسم مصحف آخر بالتعبير عما لم يرد في سالفه. ويجب التّنبيه هنا أن ذلك كله في تسعة وأربعين حرفا لا غير، وقد يشكل عليك ما قدمت من أن الخلاف بين القراءات في الفرش وصل إلى نحو ألفي كلمة، وهذا ليس غائبا عن البال، فالخلاف الفرشي المذكور كله يحتمله رسم واحد إلا المواضع التسعة والأربعين فإنه لا يحتملها رسم واحد، ولا بدّ من تعدّد الرسم في النسخ ليتمّ استيعاب الوجوه المشروعة. فنجد مثلا أن وجوه القراءة الأربعة تؤخذ من رسم عثماني واحد في مثل الموضع التالي: (قبل النقط والتّشكيل). وإليه يَرْجِعُونَ [الأحزاب: 33/ 85]: يرجعون (¬1) - يرجعون (¬2) - ترجعون (¬3) - ترجعون (¬4). ¬

_ (¬1) قرأ بها ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف. (¬2) قرأ بها رويس. (¬3) قرأ بها روح. (¬4) قرأ بها الباقون.

يوم القيامة يَفْصِلُ [الممتحنة: 60/ 3] بينكم: يفصل (¬1) - يفصّل (¬2) - يفصل (¬3) - يفصّل (¬4). فإذا هم يَخِصِّمُونَ [يس: 36/ 49]: يخصّمون (¬5) - يخصّمون (¬6) - يخصّمون (¬7) - يخصمون (¬8). بينما لا يمكن تحصيل الوجوه الآتية إلا من رسمين اثنين: ؟ جنات تجري من تحتها الأنهار؟ [التّوبة: 9/ 100]: وهي قراءة ابن كثير. جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ: وهي قراءة الباقين. الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً [التّوبة: 9/ 107]: وهي قراءة نافع وأبي عامر وجعفر. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً: وهي قراءة الباقين. ويجب الإشارة هنا إلى أن التّخالف الذي وقع بين المصاحف إنما وقع في تسعة وأربعين موضعا فقط، وهي المواضع التي قمت بإحصائها في الفصل الخاص باختلاف مصاحف الأمصار (¬9)، وأردت من خلال ذلك التأكيد على أن هذا التّخالف لم ينشأ من غفلة النّساخ، أو ذهول عنهم، بل هو تخالف مقصود أراد به عثمان رضي الله عنه استيعاب سائر القراءات المتواترة التي أذن بها النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وتلقّاها جمهور الصحابة عنه بالتّواتر. ولكن يرد ثمة سؤال آخر: هل ابتليت الأمة بضياع هذه المواضع التسعة والأربعين بين عهد أبي بكر وعثمان حيث كانت الكتبة الأولى لا تؤدي هذه القراءات؟ والجواب عن هذا الإشكال من وجهين: ¬

_ (¬1) قرأ بها نافع وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر. (¬2) قرأ بها ابن عامر. (¬3) قرأ بها عاصم ويعقوب. (¬4) قرأ بها الباقون. (¬5) قرأ بها أبو جعفر. (¬6) قرأ بها ورش وابن كثير، وهشام، وقرأ أبو عمرو، باختلاس فتحة الخاء وتشديد الصاد. (¬7) قرأ بها ابن ذكوان، وعاصم، والكسائي، ويعقوب، وخلف. (¬8) قرأ بها حمزة. (¬9) انظر بحث اختلاف مصاحف الأمصار في كتاب (الشامل في القراءات) للمؤلف، إصدار دار الكلم الطيب بدمشق.

الأول: إن كتبة الصّديق، وإن لم نجزم بأنها مشتملة على الوجوه المذكورة، لكن ذلك لم يؤثر على مبدأ إقرار الإقراء بها لسببين: السبب الأول: إن نسخة الصّديق لم تكن متاحة لكل إنسان، بل كانت وثيقة محفوظة مدخرة لما يأتي من الأيام حين يخشى أن تتفرّق الأمة، وقد جاء ذلك اليوم حين شرع عثمان رضي الله عنه بكتابة مصاحف الأمصار. والسبب الثاني: إن الوثيقة الثانية المشتملة على الرسم الآخر للمصحف كانت موجودة أيضا لدى مجموعة الصّديق التي انتقلت منه إلى عمر ثم إلى حفصة؛ حيث كان الصّديق رضي الله عنه يجمع الوثائق التي كتبها الأصحاب بحضرة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي بلا ريب تتضمن سائر قراءاته صلّى الله عليه وسلّم، التي لا تخرج هذه القراءات المتواترة عنها. ذلك أن الصّديق رضي الله عنه يوم دعا الناس إلى جمع ما بأيديهم من الصحف اجتمع عنده قرآن كثير، فربما اجتمع من سورة الكهف أو يس مثلا مئات النّسخ، ومثلها السّور التي كان الأصحاب يشتغلون بحفظها وقراءتها، كسورة يس، والدخان، والسّجدة، وغيرها من قصار السّور، وربما اجتمع عنده من البقرة، وآل عمران عشرات النّسخ، ولا توجد آية في القرآن إلا اجتمع عند أبي بكر منها نسخ كثيرة، بل قد صرّح الأصحاب أنه لم تعز عليهم إلا آية واحدة؛ لم يجدوا منها إلا نسخة واحدة؛ وهي آخر سورة التّوبة، وقد أتينا على تفصيل ذلك نقلا عن البخاري قبل قليل. وهكذا فإن الرّوايات تظاهرت على التأكيد بوجود أكثر من وثيقة مكتوبة لكل آية من آي القرآن الكريم؛ بحسب ما كان يتلقّى الأصحاب من النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذه الوثائق بمجموعها مشتملة على القراءات المتواترة؛ التي قرأ بها المعصوم صلّى الله عليه وسلّم. الثاني: أن المتّفق عليه لدى الأمة بمجموعها أن القرآن إنما يؤخذ بالتّلقي والمشافهة، وأن الوثيقة المكتوبة ليست مرجعا نهائيّا لرواية القرآن، بل هي محض آلة مساعدة، وأن العمدة في القراءة والإقراء على النّص المتلقّى بالتّواتر، وهذا كان يشتمل سائر الوجوه المذكورة، وكان يتأيّد بما بين يدي الصحابة من صحف كتبوها بحضرة النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيها أيضا تلك الوجوه.

وهكذا فإن علاقة تناوبية نشآت بين الرسم العثماني، والقراءات المتواترة، فقد خدم كل منهما الآخر، وتآزرا في ضبط الأداء القرآني. ويمكن أن نستنتج مما قدّمناه في هذا الفصل أن سائر القراءات المشروعة (¬1) - المتواترة- كانت حاضرة في ذاكرة الحفّاظ التي كانت تتلقّى بأعلى درج التّواتر، وكانت حاضرة في الوثيقة الكتابية في جمع أبي بكر، وصحف الصحابة من حوله، ثم في نسخ عثمان بمجموعها كما وزعها في الأمصار. ¬

_ (¬1) عبّرت هنا بلفظ (المشروعة) نظرا لأننا نتحدث عنها قبل عصر تمييز القراءات بالشروط المعتبرة، ومقتضى عبارتي أن المشروعة هي ذاتها التي حظيت فيما بعد بالتواتر.

الفصل الثاني نقط القرآن الكريم وشكله

الفصل الثاني نقط القرآن الكريم وشكله المبحث الأول مرحلة شكل القرآن وعلاقتها بضبط القراءات كان القرآن الكريم في الكتبة الأولى ثم في مصاحف عثمان بغير نقط ولا شكل، ولم يكن ثمة إشكال في هذا الجانب؛ إذ الأمة إنما تتلقّى القراءة بالمشافهة، وعلى ذلك العمدة، والسلائق سليمة والحفّاظ متوافرون. ولكن ذلك لم يدم طويلا بعد عثمان رضي الله عنه إذ اختلط الناس عقب حركة الفتوح بالأعاجم، ودخل الموالي والأعاجم في الإسلام، ولا شك أن كل مسلم مأمور بقراءة القرآن الكريم، وبوسعك أن تتصور مدى الحاجة المؤكدة لتيسير تلاوة القرآن للناس. ولن نطيل هنا في القراءة التاريخية لمراحل شكل القرآن، فهذا مما كثرت فيه الدراسات، وتعدّدت حوله الرّوايات، وغاية ما نذكره هنا أن عملية شكل القرآن الكريم بدأت في زمن الخليفة الراشدي علي بن أبي طالب، وقد عهد بها إلى بعض كبار أئمة النّحو أمثال أبي الأسود الدؤلي (¬1)، ¬

_ (¬1) أبو الأسود الدؤلي (1 ق. هـ- 69 هـ): هو ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل الدؤلي الكناني، واضع علم النحو، كان معدودا في الفقهاء والأعيان والفرسان. تابعي، سكن البصرة في خلافة عمر، وولي إمارتها في أيام علي وشهد معه صفّين، ولما بويع لمعاوية قصده فأكرمه معاوية، وله شعر أيضا. مات بالبصرة. الأعلام 3/ 238.

ويحيى بن يعمر (¬1)، والحسن البصري (¬2)، ونصر بن عاصم الليثي (¬3)، ولا يمكنك هنا الجزم بنسبة شكل القرآن الكريم إلى واحد من هؤلاء الأربعة؛ إذ هو لم يتمّ بالتأكيد بين يوم وليلة، ولم يصدر عن رجل منهم في غداة فحظي بإجماع الأمة في عشية، بل ظلّ في الناس من يكره ذلك كله وينكره، ومن يدعو إلى تعديله وإصلاحه، ومن يدعو إلى اعتماده، وكان أشهر من يعارض ذلك كله الصحابي الجليل: عبد الله بن مسعود الذي كان يقول: جرّدوا القرآن ولا تخلطوه بشيء (¬4)؛ بل نقل عن مجاهد من أئمة التابعين أنه كره تطييب المصاحف بالطيب، أو وضع أوراق الورد بين صحائفها، ولكن ذلك الاتّجاه ركن في النهاية إلى ضرورة الشكل في القرآن الكريم، وكان من أول الآراء الواعية الناضجة لذلك رأي الإمام مالك الذي يقول فيه: لا بأس بالنّقط والشكل في المصاحف التي تتعلم فيها العلماء أما الأمهات فلا (¬5). ويمكن اختصار وجوه الأقوال بما استقرّ عليه العمل آخر المطاف، وهو فتوى النووي في التبيان بقوله: «قال العلماء: يستحبّ نقط المصحف وشكله، فإنه صيانة من اللحن فيه وتصفية، وأما كراهة الشعبي والنخعي النقط، فإنما كرهها في ذلك الزمان خوفا من التّغيّر فيه، وقد أمن ذلك لكونه محدثا، فإنه من المحدثات الحسنة، فلا يمنع منه كنظائره مثل تصنيف العلم، وبناء المدارس، والرّباطات، وغير ذلك» (¬6). وقد أوجز السيوطي تاريخ تدوين الشكل بقوله: «كان الشكل في الصّدر الأول نقطا، فالفتحة نقطة على الحرف والضّمة على آخره والكسرة تحت أوله، وعليه مشى الدّاني، والذي اشتهر ¬

_ (¬1) يحيي بن يعمر ( ... - 129 هـ): هو يحيى بن يعمر الواشقي العدواني، أبو سليمان، أول من نقّط المصاحف، ولد بالأهواز وسكن البصرة، كان من علماء التابعين، عارف بالحديث والفقه ولهجات العرب، أخذها عن أبيه، وأخذ النحو عن الدؤلي، ولي قضاء مرو ثم عزل، وولي القضاء بالبصرة إلى أن مات بها. الأعلام 3/ 177. (¬2) سبقت ترجمته في صفحة 79. (¬3) نصر بن عاصم الليثي ( ... - 89 هـ): هو نصر بن عاصم الليثي، من أوائل واضعي النحو مع الدؤلي السابق وعبد الرحمن بن هرمز، فوضعوا للنحو أبوابا، وأصّلوا له أصولا، قال عنه ياقوت: كان من فقهاء التابعين، عالما بالعربية، أخذ النحو عن يحيى بن يعمر، وأخذ عنه أبو عمرو بن العلاء. مات بالبصرة. (¬4) مباحث في علوم القرآن: 94. (¬5) الإتقان 2/ 291. (¬6) التّبيان للنووي 24.

الآن الضبط بالحركات المأخوذة من الحروف، وهو الذي أخرجه الخليل، وهو أكثر وأوضح، وعليه العمل، فالفتح شكلة مستطيلة فوق الحرف، والكسر كذلك تحته، والضّم واو صغرى فوقه، والتّنوين زيادة مثلها» (¬1). وهكذا فقد مرّت عملية تحسين الرسم بمرحلتين اثنتين: نقط الإعراب، وهو ما نسمّيه بالتّشكيل، ونقط الإعجام، وهو ما نسمّيه بالتّنقيط، ولا يخفى أن ما نتحدّث عنه في هذا المبحث هو نقط الإعراب، أي التّشكيل. والذي يعنينا هنا من أمر شكل القرآن هو أثر هذه الخطوة على القراءات، فقد نتج عن شكل القرآن غياب كثير من القراءات المشروعة (المتواترة) من النص القرآني فمثلا: في سورة البروج تمّ شكل الآيات على الشكل الآتي: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ: وهي قراءة جماهير القرّاء الأئمة، فغابت حينئذ قراءة مشروعة- متواترة- وهي: ذو العرش المجيد- بالخفض- وهي قراءة حمزة، والكسائي، وخلف. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ: وهي قراءة جمهور القرّاء، فغابت حينئذ قراءة مشروعة- متواترة- وهي: في لوح محفوظ- بالرفع- وهي قراءة نافع. وفي سورة الفجر تمّ شكل الآيات على الشكل الآتي: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ: وهي قراءة الجمهور، فغابت حينئذ قراءة مشروعة- متواترة- وهي: والشفع والوتر- بالكسر- وهي قراءة حمزة وخلف والكسائي. لا يُعَذِّبُ وَلا يُوثِقُ:- بالكسر في الموضعين- وهي قراءة الجمهور، فغابت حينئذ قراءة مشروعة- متواترة- وهي: لا يعذّب، ولا يوثق- بالفتح- وهي قراءة الكسائي ويعقوب. ويطرح هنا سؤال بدهي لا بدّ من الإجابة عليه: كيف تسنّى لهم أن يطرحوا قراءة متواترة هي بإجماع الأمة جزء من القرآن الكريم؟ ¬

_ (¬1) الإتقان 2/ 171.

المبحث الثاني نماذج من وجوه القراءات المتواترة التي غابت عن الرسم بسبب شكل القرآن

والجواب هو أنهم لم يطرحوا أيّا من القراءتين؛ إذ هم لم يعتبروا الشكل تنزيلا وإنما اعتبروه تعليما، فكانت المصاحف تختلف شكلا بحسب القراءة المتواترة التي ينهج عليها صاحب المصحف، ولا شك هنا أنه كان في العالم الإسلامي بدءا من عصر أبي الأسود الدؤلي، حتى زماننا هذا مصاحف مختلفة بالشكل- حركات الإعراب والصّرف- بحسب ما يؤدي إليه مقصد التواتر إسنادا، فثمة مصحف مرسوم بما يوافق قراءة أبي عمرو، وآخر مرسوم بما يوافق قراءة نافع وهكذا. غاية الأمر أن هذه المصاحف متّفقة في أصل الرسم العثماني قبل الشكل مع حفظ الاستثناء الذي أشرنا إليه مرارا في المواضع التسعة والأربعين التي نهجت عليها المصاحف العثمانية الأصل. المبحث الثاني نماذج من وجوه القراءات المتواترة التي غابت عن الرسم بسبب شكل القرآن م/ السورة والآية/ الرسم قبل الشكل/ رسم المصحف الشائع (¬1) / الوجوه الغائبة من المتواتر 1 - / البقرة: 2/ 28/ ترجعون/ ترجعون/ ترجعون: يعقوب. 2 - / البقرة: 2/ 38/ فلا خوف عليهم/ فلا خوف عليهم/ فلا خوف عليهم: يعقوب. 3 - / الأعراف: 7/ 146/ سبيل الرسد/ سبيل الرّشد/ سبيل الرّشد: قراءة حمزة، والكسائي. 4 - / الأعراف: 7/ 148/ حليهم/ حليّهم/ حليهم: يعقوب. حليّهم: حمزة، والكسائي. 5 - / آل عمران: 3/ 27/ الميت/ الميّت/ الميت: ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وشعبة. 6 - / النّساء: 4/ 58/ بامركم/ يأمركم/ يأمركم: أبو عمرو بخلف عن الدوري. يامركم: ورش، والسوسي، وأبو جعفر. ¬

_ (¬1) نقصد هنا بالمصحف الشائع المصحف الموافق لرواية حفص عن عاصم؛ إذ هو السائد اليوم في أغلب بلدان العالم الإسلامي، وقد غلب شيوعه في العالم الإسلامي منذ أن بدأت طباعته في تركيا ومصر؛ إذ كانت هي القراءة الشائعة في مصر وتركيا. ويجب التّنبيه أنني أنصّ على من قرأ خلاف المصحف الشائع، فتعين أن من لم يذكر في المنفردين قرأ وفق المصحف الشائع.

المبحث الثالث مرحلة نقط القرآن الكريم وعلاقتها بضبط القراءات

م/ السورة والآية/ الرسم قبل الشكل/ رسم المصحف الشائع/ الوجوه الغائبة من المتواتر 7 - / المائدة: 5/ 32/ رسلنا/ رسلنا/ رسلنا: أبو عمرو. 8 - / الأنعام: 6/ 74/ ازر/ ءازر/ ءازر: يعقوب. 9 - / الأعراف: 7/ 138/ يعكفون/ يعكفون/ يعكفون: حمزة، والكسائي، وخلف. 10 - / التّوبة: 9/ 57/ مدحلا/ مدّخلا/ مدخلا: يعقوب. 11 - / هود: 11/ 114/ رلفا/ زلفا/ زلفا: أبو جعفر. 12 - / الكهف: 18/ 22/ ربى/ ربّي/ ربّي: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر. 13 - / النّور: 24/ 55/ استخلف/ استخلف/ استخلف: شعبة. 14 - / الرّوم: 30/ 24/ ينزل/ ينزّل/ ينزل: ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب. 15 - / فاطر: 35/ 11/ ينقص/ ينقص/ ينقص: يعقوب. 16 - / الحديد: 57/ 8/ أحد ميثاقكم/ أخذ ميثاقكم/ أخذ ميثاقكم: أبو عمرو. المبحث الثالث مرحلة نقط القرآن الكريم وعلاقتها بضبط القراءات اشتهر بين المشتغلين بعلوم القرآن الكريم أن مرحلة نقط القرآن الكريم جاءت متأخرة عن شكله، وأكثر الروايات أن نقط القرآن تمّ أيام عبد الملك بن مروان بمبادرة من الحجاج بن يوسف الثّقفي والي العراق حينئذ، ويذكر في هذا السياق أبو الأسود الدؤلي، ونصر بن عاصم الليثي، والخليل بن أحمد الفراهيدي (¬1)، وتبدو هذه المرحلة متّصلة بالمرحلة الأولى في إطار تحسين الرسم القرآني وإتاحته للقرّاء في الأمصار. ومن العسير أن تنسب نقط القرآن لواحد بعينه من هؤلاء، والمؤكد أن جهودهم جميعا تآزرت، وتكاملت في خدمة الرسم القرآني حتى بلغ مبلغه في الإتقان والوضوح الذي نبتغيه، وليس تحديد نائل هذا الشرف من شرط هذه الدراسة، فنحيل مرة أخرى على المؤلفات في تاريخ تدوين القرآن الكريم. ¬

_ (¬1) انظر ترجمته: 36.

المبحث الرابع نماذج من وجوه القراءات المتواترة التي غابت عن الرسم بسبب تنقيط القرآن

وما قدّمناه في باب شكل القرآن من الاعتراضات والرّدود يصدق تماما على مرحلة نقط القرآن الكريم؛ إذ كان الجميع ينظرون إلى المرحلتين على أنهما سعي للأهداف ذاتها بالوسائل ذاتها. والذي يعنينا هنا من أمر نقط القرآن الكريم هو أثر هذه الخطوة على القراءات، فقد نتج عن النقط مثل ما نتج عن الشكل، من غياب كثير من القراءات المشروعة- المتواترة- من النّص القرآني، فمثلا: في سورة الرّعد (16) تمّ نقط الآيات على الشكل التالي: أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ- بتاء المضارعة- وهي قراءة الجمهور، فغابت حينئذ قراءة متواترة مشروعة، وهي: (أم هل يستوي الظلمات والنور) - بياء المضارعة- وهي قراءة حمزة، والكسائي، وخلف، ورواية شعبة عن عاصم. ومما توقدون عليه:- بتاء المضارعة- وهي قراءة الجمهور، فغابت حينئذ قراءة متواترة مشروعة وهي: ومما يوقدون عليه- بياء المضارعة- وهي قراءة حمزة والكسائي وخلف ورواية حفص عن عاصم. وفي سورة الأعراف (57) تمّ نقط الآية على الشكل التالي: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً:- بالباء- وهي قراءة عاصم وحده، فغابت حينئذ قراءة التسعة الباقين بالنون (¬1) (نشرا). المبحث الرابع نماذج من وجوه القراءات المتواترة التي غابت عن الرسم بسبب تنقيط القرآن م/ السورة والآية/ الرسم قبل النقط/ رسم المصحف الشائع/ الوجوه الغائبة من المتواتر 1 - / البقرة: 2/ 48/ ولا يقبل/ ولا يقبل/ ولا تقبل: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. 2 - / البقرة 2/ 58/ نغفر لكم/ نغفر لكم/ يغفر لكم: نافع وأبو جعفر ¬

_ (¬1) قرأ الباقون جميعا بالنون مع اختلافهم في الحركات: فقرأ ابن عامر (نشرا). وقرأ حمزة والكسائي وخلف (نشرا). وقرأ الباقون (نشرا).

م/ السورة والآية/ الرسم قبل النقط/ رسم المصحف الشائع/ الوجوه الغائبة من المتواتر 3 - / آل عمران: 3/ 12/ ستعلبون/ ستغلبون/ سيغلبون ويحشرون: حمزة والكسائي وتحسرون/ وتحشرون/ وخلف. 4 - / آل عمران: 3/ 5/ سنكتب/ سنكتب/ سيكتب: حمزة. 5 - / النّساء: 4/ 114/ نؤتيه/ نؤتيه/ يؤتيه: أبو عمرو وحمزة وخلف والسوسي. 6 - / المائدة: 5/ 50/ يبغون/ يبغون/ تبغون: ابن عامر. 7 - / الأنعام: 6/ 22/ نحشرهم/ نحشرهم/ يحشرهم: يعقوب. 8 - / الأعراف: 7/ 40/ تفتح/ تفتّح/ يفتح: حمزة والكسائي وخلف. 9 - / يوسف: 12/ 63/ نكتل/ نكتل/ يكتل: حمزة والكسائي، وخلف. 10 - / الرّعد: 13/ 17/ يوقدون/ يوقدون/ توقدون: سائر القرّاء عدا حفص وحمزة 11 - / النّحل: 16/ 2/ ينزّل/ ينزّل/ تنزّل: روح. 12 - / الإسراء: 17/ 7/ ليسوا/ ليسؤا/ لنسوء: الكسائي. 13 - / الأنبياء: 21/ 87/ نقدر/ يقدر: يعقوب. 14 - / الأحزاب: 33/ 68/ كبيرا/ كبيرا/ كثيرا: سائر القرّاء عدا عاصم. 15 - / فاطر: 35/ 36/ نجزي/ يجزى: أبو عمرو. 16 - / يس: 36/ 68/ أفلا يعقلون/ أفلا يعقلون/ أفلا تعقلون: نافع، وابن ذكوان وأبو جعفر، ويعقوب. 17 - / الحجرات: 49/ 6/ فتبيّنوا/ فتبيّنوا/ فتثبّتوا: حمزة والكسائي وخلف. 18 - / القمر: 54/ 26/ سيعلمون/ سيعلمون/ ستعلمون: ابن عامر وحمزة. 19 - / الطّلاق: 65/ 11/ يدخله/ يدخله/ ندخله: نافع وابن عامر وأبو جعفر.

الفصل الثالث تحسينات الرسم القرآني وأثرها في القراءات

الفصل الثالث تحسينات الرّسم القرآني وأثرها في القراءات تمهيد: ثمة تحسينات أخرى ألحقها علماء الرسم القرآني على الرسم بغرض تيسيره للقراء، ودرء العامة عن اللحن والخطأ. ويمكن تصنيف هذه التحسينات في قسمين اثنين: الأول: التحسينات في ضبط الفرش. الثاني: التحسينات في ضبط الأداء. فمن النوع الأول: - إثبات الألف الخنجرية. - إثبات الحروف المتروكة. - إثبات الهمزات. ومن النوع الثاني: - إثبات المدّات. - إثبات الصّلة. - علامات الإدغام. - علامات الإخفاء والإظهار. وقد أدّت هذه التحسينات إلى نتائج مفيدة في تسهيل قراءة القرآن الكريم وإقرائه للعامة،

وصونها عن اللحن والخطأ، ولهذا المعنى حظيت هذه التحسينات بموافقة سائر علماء القراءة والمشتغلين بخدمة القرآن الكريم من الأمة، وفق ما قرره النووي في التبيان: «قال العلماء: يستحب نقط المصحف وشكله، فإنه صيانة من اللّحن فيه، وتصفية له من الغلط، وأما كراهة الشعبي والنخعي النقط؛ فإنما كرهاه في ذلك خوفا من التغيير فيه؛ وقد أمن ذلك، ولكونه محدثا، فإنه من المحدثات الحسنة، فلا يمنع كنظائره مثل تصنيف العلم وبناء المدارس والرباطات وغير ذلك» (¬1). ولكن هذا القبول من الأمة لمنهج التحسين؛ لا يلغي مسئولية القرّاء والعلماء التي تعاظمت إثر ذلك، فأصبح كثير من المتواتر من القراءات لا يمكن أن يدلّ له الرسم القرآني، إذ إن أي تحسين في الرسم يتضمن في الوقت ذاته قيدا جديدا على الرسم؛ يحول دون إمكان دلالته على الوجوه الأخرى. وتجدر الإشارة إلى أن المصاحف المطبوعة اليوم أربعة؛ وهي: مصحف حفص، ومصحف قالون، ومصحف ورش، ومصحف الدوري، وهي منقوطة ومشكولة بما يوافق رواية كلّ منهم، وكذلك فإن التحسينات التي طرأت على رسم هذه المصاحف إنما تتجه إلى ضبط رواية الإمام المقصود، وهو يعني غياب الوجوه الأخرى التي قرأ بها الرّواة التسعة عشر الباقون، مما خالفوا فيه الإمام صاحب الرواية. وقد التزمت هذه الدراسة ما يتصل بمصحف حفص؛ إذ هو أكثر المصاحف شيوعا في العالم الإسلامي اليوم. ويجب أن نؤكد مرة أخرى أن رواية حفص ليست أولى بالقبول من سواها إذ الكل هنا متواتر، ولا يقال إن بعضه أوثق من بعض، وإنما شاعت القراءة برواية حفص بدءا من أول هذا القرن حينما نشطت حركة طباعة المصاحف من مصر وتركيا اللتين كانتا تقرءان بقراءة عاصم من رواية حفص. وقد تبين لي أن عامة المصاحف التي خطّها أهل الشام حتى القرن الماضي، والتي لا تزال ¬

_ (¬1) التّبيان للنووي 150، ط جماعة تحفيظ القرآن الكريم بجدة.

المبحث الأول: الألف الخنجرية

موجودة في المساجد القديمة؛ إنما كتبت موافقة لقراءة أبي عمرو البصري؛ مما يؤكد أن قراءة أبي عمرو هي التي كانت سائدة في الشام (¬1). وقد كانت الشام حتى القرن الثالث الهجري تقرأ لإمامين جليلين هما: إبراهيم بن أبي عبلة العقيلي، وعبد الله بن عامر اليحصبي (¬2)، ثم غلبت قراءة ابن عامر بعد أن حرر الأئمة إسنادها، وأثبتوا تواترها، ثم تحوّل أهل الشام عنها بدءا من القرن الرابع الهجري إلى قراءة أبي عمرو البصري، وبقي الأمر على هذه الحال إلى القرن الماضي حيث ظهرت طباعة المصاحف في استانبول والقاهرة، وفق رواية حفص عن عاصم، وشاعت في العالم الإسلامي، حتى غلبت على أكثر الأمصار. المبحث الأول: الألف الخنجرية رسمت المصاحف في الكتبة الأولى بالألف الممدودة في بعض المواضع، وبالألف المقدرة في بعض المواضع، وليس لذلك تعليل في اللغة، ولا قاعدة مطردة. وقد اشتغل بالتعليل لهذه الحالات عدد من العلماء، وأوردوا لذلك وجوها مختلفة، ليس هذا محل بسط القول فيها، ولكني أشير إلى أهم الكتب التي تناولت ذلك: - المقنع في معرفة مرسوم مصاحف أهل الأمصار لأبي عمرو الداني. - كتاب النّقط لأبي عمرو الداني أيضا. - عقلية أتراب القصائد في الرسم للإمام الشاطبي. ¬

_ (¬1) كما تيقّنت من ذلك حين عهدت وزارة الأوقاف السورية إلى لجنة خاصة لضبط المصاحف القديمة في مساجد دمشق، فتبيّن أن غالب المصاحف القديمة التي وقفت عليها اللجنة؛ مما خطّه النّسّاخون قبل القرن الثالث عشر الهجري كانت مكتوبة وفق قراءة أبي عمرو البصري. وثمة نسخ متوافرة منها موجودة في المكتبة الخاصة بالمخطوطات في وزارة الأوقاف السورية، حيث أعمل أمينا لهذه المكتبة منذ تأسيسها عام 1413 هـ، وحتى اليوم. (¬2) القراءات القرآنية في بلاد الشام للدكتور حسين عطوان 189. وابن أبي عبلة هو إبراهيم بن أبي عبلة العقيلي، الرّملي، المقدسي، الدمشقي، أدرك عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأخذ عنه، كما أخذ عن أم الدّرداء الصغرى، ووائلة بن الأسقع.

نماذج من وجوه القراءات المتواترة التي غابت عن المصاحف المطبوعة اليوم بسبب إثبات الألف الخنجرية

- مورد الظمآن في فنّي الرسم والضبط للشريشي الفاسي. - عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل لأبي العباس أحمد بن البنا المراكشي. - دليل الحيران على مورد الظمآن في فنّي الرسم والضبط لإبراهيم المارغني التونسي. ولا خلاف أن ما رسم أصلا بالألف الممدودة ليس له إلا وجه المد، ولا يصح فيه القصر، وهذا محل اتفاق، كما في قوله سبحانه: (الميزان- كالفخار- الأكمام). وكذلك فإن بعض ما رسم أصلا بدون ألف حظي باتفاق الكل على تقدير الألف فيه، كما في قوله سبحانه: (الرحمن- الإنسن- قصرت- يهمن). ولكن وقع الخلاف في بعض ما رسم أصلا بدون الألف، وورد تواترا بوجهين: بتقدير الألف، وبحذفها. كما في قوله تعالى: (وعدنا)، فقرئت بالألف: (واعدنا)، وقرئت بدون ألف: (وعدنا). نماذج من وجوه القراءات المتواترة التي غابت عن المصاحف المطبوعة اليوم بسبب إثبات الألف الخنجرية م/ السورة والآية/ الرسم العثماني/ الرسم الشائع/ الوجوه الغائبة من المتواتر 1 - / البقرة: 2/ 9/ وما يحدعون/ وما يخدعون/ وما يخدعون: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو 2 - / البقرة: 2/ 36/ فأزلهما/ فأزلّهما/ فأزالهما: حمزة 3 - / البقرة: 2/ 51/ وعدنا/ وعدنا/ وعدنا: أبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب 4 - / النّساء/ 4/ 43/ لمستم/ لمستم/ لمستم: حمزة، والكسائي، وخلف 5 - / المائدة: 5/ 97/ قيما/ قيما/ قيما: ابن عامر 6 - / المائدة: 5/ 107/ الاولين/ الأولين/ الأوّلين: حمزة، وخلف، ويعقوب، وشعبة 7 - / التّوبة: 9/ 17/ مسجد/ مسجد/ مسجد: ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب 8 - / يونس: 10/ 79/ سحر/ سحر/ سحّار: حمزة، والكسائي، وخلف

المبحث الثاني: إثبات الحروف المتروكة

م/ السورة والآية الرسم العثماني/ الرسم الشائع/ الوجوه الغائبة من المتواتر 9 - / يوسف: 12/ 91/ لفتاه/ لفته/ لفتيته: سائر القراء عدا حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف 10 - / يوسف: 12/ 14/ حفظا/ حفظا/ حفظا: سائر القرّاء عدا السابقين 11 - / الرّعد: 13/ 42/ الكفر/ الكفر/ الكافر: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر 12 - / الحج: 22/ 2/ سكرى/ سكرى/ سكرى: حمزة، والكسائي، وخلف 13 - / الحج: 22/ 51/ معجرين/ معجزين/ معجّزين: ابن كثير، وأبو عمرو 14 - / المؤمنون: 23/ 6/ لامنتهم/ لأمنتهم/ لأمانتهم: ابن كثير 15 - / الشعراء: 26/ 149/ فرهين/ فرهين/ فرهين: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب 16 - / الروم: 30/ 50/ اثر/ آثر/ أثر: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وشعبة، وأبو جعفر، ويعقوب 17 - / سبأ: 34/ 19/ بعد/ بعد/ بعد: ابن كثير، وأبو عمرو، وهشام 18 - / ص: 38/ 45/ عبدنا/ عبدنا/ عبدنا: ابن كثير 19 - / الطّور: 52/ 18/ فكهين/ فكهين/ فكهين: أبو جعفر المبحث الثاني: إثبات الحروف المتروكة وفي مرحلة لاحقة تمّت إضافة بعض الحروف الصغيرة على الرسم العثماني لإشعار القارئ بوجوب التّلفظ بها، وأنها إنما تركت رسما لا رواية، وأنه يلزم إثباتها في الأداء. ولكن إثبات هذه الأحرف الصغيرة؛ حال دون دلالة الرسم على بعض ما هو متواتر في الرواية مما يوافق الرسم الأصلي. وجملة هذه الأحرف المتروكة أربعة: 1 - الألف الخنجرية: وقد قدّمناها مستقلّة في الفصل السابق.

المبحث الثالث: إثبات الهمزات

2 - الواو (¬1): في مثل قوله تعالى: داوُدُ- وإن تلوا-؟ رؤف؟. 3 - الياء (¬2): في مثل قوله تعالى: فما آتن الله. 4 - النون: في قوله تعالى: وكذلك نجي المؤمنين. المبحث الثالث: إثبات الهمزات أثبتت المصاحف العثمانية الأولى رسم القرآن الكريم بدون همزات، ولا يبعد أن يكون عثمان رضي الله عنه قد ترك إثباتها قصدا نظرا؛ لكثرة الوجوه المروية عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في نطق الهمزات، وهذا لا يلغي إيراد الاحتمال الشائع أنه لم يكن ثمة قاعدة جاهزة للهمزات. وقد كانت سلائق العرب الناضجة كفيلة بتحرّي الهمزات، وإثباتها في مظانّها، فالمتواتر كله عربي فصيح، ولكن فشو اللحن في الناس، واشتغال الأعاجم بالإقراء؛ ألجأ إلى ضرورة ضبط الهمزات في القرآن الكريم. ولا ينسب هذا العمل لرجل بعينه، وليست لدينا بيّنة في تحديد زمان ضبطه، وغاية ما نجزم به أن الهمزات بوضعها الحالي لم تكن في المصحف العثماني، وأقرب الأدلة على ذلك مطالعة نسخ المصاحف القديمة، وقد أثبت لك في آخر الدراسة بعضا منها، وكذلك فإنها لو كانت في المصحف العثماني الأول بوضعها الراهن فإن كثيرا من الوجوه المتواترة لا يمكن إذن أن توافق الرسم العثماني. وقد فصّلنا القول في بحث أصول القرّاء حول طريقة أداء كل منهم للهمزات عموما، وهم إن اتّفقوا في إثبات الهمزة فإن قاعدتهم لا تتغير، وقد يختلفون في الأداء ويرسمون بشكل واحد، فتكون الهمزة ظاهرة رسما عند الكلّ، وهم يحقّقون، ويغيّرون، ويسهّلون، ويحذفون في الأداء. ولكن ثمة مواضع لم يتّفقوا فيها أصلا على وجود الهمز، فاختلفوا في إثباته تبعا للمحفوظ ¬

_ (¬1) وهي غير واو الصلة التي تأتي عقب هاء الضمير. (¬2) وهي غير ياء الصلة التي تأتي عقب هاء الضمير.

نماذج من وجوه القراءات المتواترة التي غابت بسبب إثبات الهمزات

عندهم بالأسانيد المتواترة، ففي هذه الحال فإن إثبات همز ما في الرسم يقصر دلالة الرسم على هذا الوجه دون سواه، وهو ما أفردنا له الجدول الآتي. نماذج من وجوه القراءات المتواترة التي غابت بسبب إثبات الهمزات م/ السورة والآية/ الرسم العثماني/ الرسم الشائع/ الوجوه الغائبة من المتواتر 1 - / القصص: 28/ 34/ ردا/ ردءا يصدّقني/ ردا يصدّقني: نافع 2 - / الزّمر: 39/ 69/ بالنبيين/ بالنّبيّين/ بالنّبيئين: نافع 3 - / الإسراء: 17/ 62/ اريتك/ أرأيتك/ أريتك: الكسائي 4 - / الإسراء: 17/ 31/ حطا/ خطأ/ خطاء: ابن كثير (¬1) 5 - / الحج: 22/ 17/ والصبئين/ والصبئين/ والصّابئين: نافع، وأبو جعفر، وحمزة 6 - / الكهف: 18/ 98/ دكا/ دكاء/ دكّا: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب، وأبو جعفر 7 - / مريم: 19/ 74/ ريا/ رءيا/ ريّا: قالون، وابن ذكوان، وأبو جعفر 8 - / المائدة: 5/ 69/ الصبئون/ الصبئون/ الصّابون: نافع، وأبو جعفر 9 - / طه: 20/ 72/ نوثرك/ نؤثرك/ نؤثرك: ورش، والسوسي، وأبو جعفر، وحمزة 10 - / الأنعام: 6/ 10/ استهزى/ استهزئ/ استهزى: أبو جعفر 11 - / الأنبياء: 21/ 7/ فسئلوا/ فسئلوا/ فسلوا: ابن كثير، والكسائي، وخلف 12 - / الأعراف: 7/ 190/ سركا/ شركاء/ شركا: نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر 13 - / الشعراء: 26/ 176/ لنكه/ الأيكة/ ليكة: نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر. 14 - / الأنفال: 8/ 16/ فئة/ فئة/ فية: أبو جعفر 15 - / التّوبة: 9/ 30/ يصاهون/ يضاهئون/ يضاهون: سائر القرّاء عدا عاصم 16 - / يونس: 10/ 53/ ويستنبئونك/ ويستنبئونك/ ويستنبونك: أبو جعفر 17 - / القصص: 28/ 8/ حطين/ خطئين/ خاطين: أبو جعفر، وحمزة 18 - / العنكبوت: 29/ 27/ انكم/ أئنّكم/ إنّكم: نافع، وابن كثير، وابن عامر، وحفص، وأبو جعفر، ويعقوب ¬

_ (¬1) قرأها ابن ذكوان وأبو جعفر بالفتح (خطأ)، ولم أشر إليها درءا للالتباس.

المبحث الرابع: إثبات علامات المد

م/ السورة والآية/ الرسم العثماني/ الرسم الشائع/ الوجوه الغائبة من المتواتر 19 - / الزّخرف: 43/ 15/ حرا/ جزءا/ جزّا: أبو جعفر 20 - / الصّف: 61/ 7/ ليطفوا/ ليطفئوا/ ليطفوا: أبو جعفر المبحث الرابع: إثبات علامات المدّ استحسن العلماء إضافة علامة المدّ فوق الأحرف الواجب مدّها، سواء كانت ألفا، أو واوا، أو ياء، أو صلة، وذلك وفق قاعدة حفص في المدود كما رواها عنه الشاطبي. وقد أسهم هذا بلا ريب في تحسين أداء العامة لأحكام التجويد، ولكنه أدى أيضا إلى تغييب وجوه متواترة في الأداء عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيما يلي بيان لبعض مذاهب الأئمة في المدّ المنفصل خصوصا، وهي متواترة من جهة الأداء، ولكن يتعذّر الإتيان بها وفق الرسم الحالي بسبب قاعدة رسم المدود في المصحف الشائع. 1 - أول هذه المذاهب مذهب حفص نفسه كما روى عنه ابن الجزري في طيبة النشر، إذ أخبر بتواتر القراءة عنه بقصر المنفصل، ولا شك أن ذلك غير ممكن الأداء وفق الرسم الشائع. 2 - مذهب السوسي وابن كثير وأبي جعفر ويعقوب في وجوب القصر، وهو مذهب متواتر في الأداء؛ ولكن يتعذر الإتيان به وفق الرسم الشائع. 3 - مذهب قالون والدوري، فهما يقرءان بالوجهين معا، والرسم لا يدلّ إلا لوجه واحد، مع أن وجههما في المدّ يقتصر على ثلاث حركات. 4 - مذهب ورش في مدّ البدل؛ إذ لا يوجد في الرسم الشائع ما يدلّ له.

نماذج من أداء وجوه القراءات المتواترة التي غابت بسبب إثبات علامات المد

نماذج من أداء وجوه القراءات المتواترة التي غابت بسبب إثبات علامات المدّ م/ السورة والآية/ الرسم العثماني/ الرسم الشائع/ الوجوه الغائبة من المتواتر 1 - / هود: 11/ 3/ الى احل/ إلى أجل/- وجه حفص من طريق الطيبة في قصر المنفصل- وجه قالون، والدوري في القصر من طريق الشاطبية- مذهب السوسي، وابن كثير، وأبي جعفر، ويعقوب في وجوب قصر المنفصل 2 - / حيثما وردت/ القران/ القرءان/- مذهب ورش في مدّ البدل مدّا طويلا، وقد أنكر ابن غلبون هذا الباب عن ورش 3 - / الهمزة: 104/ 3/ ماله احلده/ ماله أخلده/- وجه حفص من طريق الطيبة في قصر المنفصل- وجه قالون والدوري في القصر من طريق الشاطبية- مذهب السوسي، وابن كثير، وأبي جعفر، ويعقوب في وجوب قصر المنفصل المبحث الخامس: إثبات علامات الصلة وفي مرحلة لاحقة أضيفت بين بعض الكلمات واو صغيرة، أو ياء صغيرة؛ لتدلّ على وجوه مدّ الصلة في هذا الموضع، وقد أسهم هذا بالتأكيد في تحسين أداء العامة للقرآن الكريم، ولكنه أدى أيضا إلى تغييب وجوه متواترة في الأداء عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وواو الصلة، وياء الصلة- اللتان نشير هنا إليهما- تختصان بهاء الضمير فقط، وبذلك فإنهما تختلفان عن الحروف المتروكة التي أثبتها النّساخ فيما بعد، وقد خصصتها ببحث مستقلّ فراجعه. والغالب في مدّ هاء الضمير أنها مسألة قواعدية، تنظمها قواعد جامعة.

نماذج من أداء وجوه القراءات المتواترة التي غابت بسبب إثبات علامات الصلة

ولكن ثمة مواضع فرشية في هذا الباب كما في الرسم اليوم يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً [الفرقان: 25/ 69]، رسمت الياء الصغيرة للدلالة على وجود الصلة هنا خلافا لقاعدة حفص في عدم مدّ الصلة بعد الساكن، وبذلك غابت وجوه متواترة لترك الصلة، قرأ بها القرّاء أجمعون إلا حفصا وابن كثير. وفيما يلي بيان لبعض مذاهب الأئمة في مدّ الصلة وقصرها، وهي متواترة من جهة الأداء، ولكن يتعذر الإتيان بها بسبب قاعدة رسم الصلة في المصحف الشائع: 1 - مذهب ابن كثير في إيراد الصلة بعد الساكن إذا تحرك ما بعد الهاء لا يتفق مع القاعدة المتّبعة في الرسم. ففي الكلمات الآتية لم ترسم الصلة مما يعني انتفاءها، ولكن ابن كثير يمدّ: عَنْهُ تَلَهَّى- وَإِلَيْهِ مَتابِ- عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ- فِيهِ آياتٌ. 2 - مذهب أبي عمرو، وشعبة، وخلف في الإسكان المحض في بعض هاءات الضمير. ففي هذه الكلمات رسمت الصلة، مما يعني وجوب مدّها، ولكن أبا عمرو، وشعبة، وخلف لا يمدّونها: يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ موضعان- نُؤْتِهِ مِنْها ثلاثة مواضع- نُصْلِهِ جَهَنَّمَ- نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى. نماذج من أداء وجوه القراءات المتواترة التي غابت بسبب إثبات علامات الصلة م/ السورة والآية/ الرسم العثماني/ الرسم الشائع/ الوجوه الغائبة من المتواتر 1 - / عبس: 80/ 10/ عنه تلهى/ عنه تلهى/ مذهب ابن كثير في مدّ الصلة إن وقعت بعد ساكن، وتحرك ما بعدها 2 - / آل عمران: 3/ 97/ فيه ايات/ فيه آيات/ مذهب ابن كثير في مدّ الصلة إن وقعت بعد ساكن، وتحرك ما بعدها 3 - / آل عمران: 3/ 75/ يوده اليك/ يؤده إليك/ مذهب أبي عمرو، وشعبة، وخلف، وأبي جعفر في الإسكان المحض في هذا المقام

المبحث السادس: علامات الإدغام والإخفاء والإظهار

م/ السورة والآية/ الرسم العثماني/ الرسم الشائع/ الوجوه الغائبة من المتواتر 4 - / النّور: 24/ 50/ ويتقه فاولئك/ ويتقه فأولئك/ مذهب ورش، وابن كثير، وابن ذكوان، وخلف عن حمزة، وخلف العاشر، والكسائي بوجوب مدّ الصلة، وهي لم ترسم في المصحف الشائع 5 - / الأعراف: 7/ 111/ ارحه واحاه/ أرجه وأخاه/ مذهب ورش، والكسائي، وخلف العاشر، وابن جماز في كسر الهاء مع صلتها المبحث السادس: علامات الإدغام والإخفاء والإظهار وفي مرحلة لاحقة (¬1) تمّ انتهاج قاعدتين في الرسم بغرض التفريق بين الحرف المظهر، والحرف المدغم، والحرف المخفى. القاعدة الأولى: - السكون على المظهر والتّعرية على المدغم والمخفى. فإذا كان الحرف الساكن واجب الإظهار توضع عليه علامة السكون، وهي في غالب المصاحف كالآتي () بشكل ميم صغيرة مفتوحة. مثل: (أنعمت- لقد- جاءكم- تعجب- فعجب). ¬

_ (¬1) من المؤكد ان هذه الطريقة في كتابة الحروف للدلالة على الإدغام والإخفاء والإظهار تعود إلى القرن التاسع على أقل تقدير؛ فقد أشار إليها السيوطي في سياق حديثه عن تحسين الرسم بقوله: «وعلى النون والتنوين قبل الباء علامة الإقلاب حمراء، وقبل الحلق- أي حروف الحلق- سكون، وتعرى- أي النون الساكنة- عند الإدغام والإخفاء، ويسكن كل مسكن، ويعرّى المدغم، ويشدّد ما بعده، إلا الطاء قبل التاء، فيكتب عليها السكون نحو فرطت، ومطة الممدود لا تجاوزه» الإتقان 1/ 171. وكان قد أشار قبل ذلك إلى التنوين بقوله: «والتنوين زيادة مثلها- أي مثل الحركات الثلاث- فإن كان مظهرا- وذلك قبل حرف حلق- ركبت فوقها، وإلا جعلت بينهما» الإتقان 1/ 171.

القاعدة الثانية:

وإذا عرض للحرف ما يوجب إدغامه أو إخفاءه فإنهم يعرونه من أي حركة للدلالة على أنه أصبح كالمهمل: مثال ما يلزم إدغامه: فَمَنْ يَعْمَلْ- اضْرِبْ بِعَصاكَ- قَدْ تَبَيَّنَ. القاعدة الثانية: - تركيب التنوين المظهر، وفكّ التّنوين المدغم والمخفى: إذا كان التنوين واجب الإظهار فإنه يرسم مركّبا؛ هكذا: عَذاباً أَلِيماً- سَمِيعٌ عَلِيمٌ- وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ. وإذا عرض للتنوين ما يوجب إدغامه أو إخفاؤه، فإنهم يرسمونه مفكّكا متتابعا هكذا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ- رَحِيمٌ وَدُودٌ- سِراعاً ذلِكَ. ولا شك أن هذا الرسم عون للعامة للدّنوّ من النّطق الصحيح للقرآن الكريم بالأحكام التجويدية، ولكنه يغيب وجوها متواترة قرأ بها الأئمة، إذ إن مذاهبهم في الإخفاء والإدغام والإظهار متفاوتة بعض الشيء. وفيما يلي بيان لبعض مذاهب الأئمة في الإدغام والإخفاء والإظهار، وهي متواترة الأداء، ولكن يتعذر الإتيان بها بسبب الرسم الحالي: 1 - مذهب أبي عمرو في الإدغام الصغير؛ لا يتفق مع القاعدة المتبعة في الرسم، ففي الكلمات الآتية يلزم الإظهار كما في الرسم، ولكن أبا عمرو يدغم: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ (¬1) - عُذْتُ (¬2) - يَغْفِرْ لَكُمْ- اتَّخَذْتُمُ (¬3) - أَخَذْتُمْ. ويفترض أن تكون في رسم أبي عمرو: تَعْجَبْ فَعَجَبٌ- عُذْتُ*- يَغْفِرْ لَكُمْ- اتَّخَذْتُمُ- أَخَذْتُمْ. ومن باب أولى مذهبه في الإدغام الكبير. ¬

_ (¬1) وأدغم كذلك الكسائي وخلاد. (¬2) وأدغم كذلك الكسائي وحمزة. (¬3) لم يظهر الذال هنا إلا حفص وابن كثير، كذلك في الموضع الذي يليه.

نماذج من صيغ الأداء المتواترة التي يتعذر الإتيان بها على المصاحف الشائعة بسبب رسم قاعدة الإدغام والإخفاء والإظهار

2 - مذهب أبي جعفر في إخفاء النون الساكنة والتنوين قبل الغين والخاء؛ على أساس أنهما ليسا بحرفين حلقيين؛ لا يتفق مع القاعدة المتبعة في الرسم، ففي الكلمات الآتية يلزم الإظهار كما في الرسم، ولكن أبا جعفر يخفي. مِنْ خالِقٍ- مِنْ غَيْرِكُمْ- عَلِيمٌ خَبِيرٌ- حَلِيماً غَفُوراً- وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ. 3 - مذهب البزي عن ابن كثير في تاءات الأفعال وعدتها (31) موضعا، وزاد الداني موضعين. فهذه التاءات حروف متحركة، وإن صادف قبلها مدّ فهو مدّ طبيعي، وهذا ما يدلّ عليه الرسم؛ ولكن البزي يشدّدها، وإن صادف قبلها مدّ فهو مدّ لازم: ولا تفروا- فَإِنْ تَوَلَّوْا- إِذْ تَلَقَّوْنَهُ- وَلا تَبَرَّجْنَ- وَلا تَجَسَّسُوا. نماذج من صيغ الأداء المتواترة التي يتعذر الإتيان بها على المصاحف الشائعة بسبب رسم قاعدة الإدغام والإخفاء والإظهار م/ السورة والآية/ الرسم العثماني/ الرسم الشائع/ الوجوه الغائبة من المتواتر 1 - / قريش: 106/ 4/ من حوف/ من خوف/ مذهب أبي جعفر في إخفاء النون قبل الخاء، وحقه أن ترسم له النون معرّاة لأنها مخفاة: مِنْ خَوْفٍ 2 - / فاطر: 35/ 28/ عزيز عفور/ عزيز غفور/ مذهب أبي جعفر في إخفاء النون قبل الغين، وحقه أن يرسم له التنوين متتابعا غير مركب: عَزِيزٌ غَفُورٌ 3 - / الرّعد: 13/ 7/ تعجب فعجب/ تعجب فعجب/ مذهب أبي عمرو في إدغام الباء بالفاء، وحقه أن ترسم له: تَعْجَبْ فَعَجَبٌ 4 - / آل عمران: 3/ 100/ ولا تفرقوا/ ولا تفرّقوا/ مذهب البزي في تشديد التاء، ومدّ ما قبلها مدّا لازما وَلا تَفَرَّقُوا وأما قاعدة خلف عن حمزة في إدغام الواو والياء بلا غنة، فلا أثر تطبيقي لها في الرسم إذ الرسم لم يتطرق أصلا للدلالة على الغنة.

المبحث السابع: وجوه أخرى

المبحث السابع: وجوه أخرى وهذه الحجج التي أوردناها على غياب بعض وجوه الفرش والأداء عن الرسم الشائع اليوم، ليست على سبيل الاستقصاء والحصر، بل على سبيل التمثيل، وأضيف هنا بعض مذاهب القرّاء التي لا تتفق في الأداء مع الرسم الشائع اليوم. 1 - قاعدة صلة ميم الجمع عند قالون وورش. 2 - قاعدة مدّ البدل عند ورش. 3 - قاعدة مدّ اللين بعد الهمز عند ورش. 4 - قاعدة الهمز الثابت، والمغير، والساقط عند أكثر القرّاء. 5 - قاعدة حركة (هم) الموصولة وصلا ووقفا عند أبي عمرو وحمزة. 6 - قاعدة الوقف على مرسوم الخط عند أكثر القرّاء. 7 - قاعدة الإدغام المتجانس والمتقارب عند أبي عمرو، وكذلك الاستثناءات الكثيرة على هذه القاعدة عند غيره من القرّاء. 8 - قاعدة ضمّ هاءات الجمع مطلقا عند يعقوب. والغاية التي نتوخّاها من هذا الفصل أن الرسم القرآني حقيقة أداة تعليمية تساعد القرّاء، ولكن المعوّل عليه في الضبط والأداء هو التّلقي، والمشافهة التي اختصّ الله بها هذا الكتاب العزيز، وأن ثمة رسما كثيرا يبلغ نحو ألفي كلمة غائب عن هذا المصحف الكوفي الشائع في العالم اليوم من قراءة عاصم برواية حفص، وذلك في النقط والشكل فقط، فإن عالجنا تحسينات الرسم الأخرى فإن العدد يتضاعف نظرا لوجوه الأداء المختلفة. ولا شك أن هذا يزيد من مسئولية رجال الرواية من القرّاء؛ حيث عليهم أن يتحرّوا وجوه القراءات، ويقرءوا بها الناس لئلا يضيع شيء من القرآن الكريم؛ إذ القراءات المتواترة كلها

قرآن، ويجب التّنويه أن المحذور هنا هو تفريط الناس بالقرآن وضياعهم عنه، أما القرآن ذاته فقد تكفّل المولى سبحانه بحفظه فلا يضيع منه شيء، وقد قال الله عزّ وجلّ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (¬1) [الحجر: 15/ 14]. وهذا أيضا يضع المفسّرين وعلماء القرآن الكريم أمام حقيقة ضرورية أخرى، وهي أن ثمة رسما غائبا عن هذا المصحف الشائع اليوم، وهذا الرسم لا يطالب العامة بتحصيله، ولكن لا يعذر العلماء بالإعراض عنه وترك تحرّيه في مظانّه. ¬

_ (¬1) أجد من الضروري هنا أن أوضح العبارة الجريئة، فقد يقرؤها من لم يقرأ سائر الكتاب فيظن في كتاب الله الظنون فيهلك. - والخلاصة أن المصحف بحمد الله معصوم من الزّيغ والنّقص في نسختيه- الأدائية كما يرويها الأئمة، والكتابية كما أقرأها عثمان رضي الله عنه في مصاحف الأمصار- ولكن هذا الغياب نشأ من الوسائل التعليمية التي ألحقت بالمصاحف للعامة كالنقط والشكل؛ الذي لا يمكنه أن يحيط بأكثر من وجه من الوجوه الجائزة.

الباب الثالث أثر القراءات المتواترة في الأحكام الشرعية

الباب الثالث أثر القراءات المتواترة في الأحكام الشرعية

تمهيد في طبيعة اختلاف القراءات وجدواها:

تمهيد في طبيعة اختلاف القراءات وجدواها: لا بدّ هنا من التّذكير بالقاعدة التي بسطنا القول فيها (¬1) حول وجوب إعمال القراءات المتواترة جميعا، وأن تعدد القراءات ينزّل منزلة تعدّد الآيات، وكلاهما قاعدة اتّفاقية لا يوجد لها مخالف من أهل التوحيد. وإذا نقل عن بعض الأقدمين تشكّكهم في بعض وجوه القراءة المتواترة؛ فإن مردّ ذلك بكل تأكيد هو عدم ثبوت تواتر هذه القراءة عندهم في ذلك الزمان. أما وقد اتّفقت الأمة على التّواتر في هذه الوجوه، فلا مندوحة من القول بأن سائر هذه الوجوه قرآن منزل، بالاتفاق بين سائر أهل الملّة. كذلك ينبغي القول بأن هذه الاختلافات ليست متناقضة بمعنى أن المفسّر يلجأ إلى هدر أحد الوجهين إذا اعتمد الآخر؛ بل هي ذات معان متضامنة يكمل بعضها بعضا، وقد يدلّ الوجه على ما لا يدلّ عليه أخوه، ولكنه لا ينافره ولا يضادّه، بل يمنحك معنى جديدا يضيء لك سبيل التفسير. ثم إن هذه الوجوه كما سنرى يسيرة قليلة، وهي لا تشبه في شيء اختلاف الأمم الأولى في كتبها، لا شكلا ولا مضمونا. فمن حيث الشكل يختلف أهل الكتاب في إثبات أسفار بحالها أو إسقاطها، ربما تتجاوز عدتها عشرات الصفحات، فأين ذلك مما نحن فيه من إثبات فتحة أو ضمة، أو واو أو فاء، أو فتح أو إمالة، أو إدغام أو إظهار. ومن حيث المضمون فإن اختلافهم في ثبوت الأسفار ينتج عنه تبدل عقائد كاملة، ونقض أول النصوص لآخرها، وآخرها لأولها، واتّهام قوم لقوم بالعبث والهوى والتّحريف والتّبديل، فأين ذلك مما نحن فيه من تكامل المعاني بوجوه القراءات المتواترة المشروعة، وتآزر الوجوه جميعا على إثبات غايات التّنزيل ومقاصده، وتلقي سائر القرّاء وجوه القراءة المتواترة جميعها بالقبول والاحترام، والاتّفاق بينهم أن سائر ما في الصحف تنزيل من الوحي الأمين، ما لأحد فيه أدنى اجتهاد أو اختراع. ¬

_ (¬1) انظر ص 34.

تمهيد في تصنيف الأحكام الشرعية الناشئة من اختلاف القراءات المتواترة:

وقد أوردنا هذه المقدمة البسيطة على سبيل التذكير، وقد سبق القول في هذا المعنى في الفصول الخاصة بتاريخ القراءات، وأسانيدها، وفرشياتها، فيمكن مراجعة التفصيل هناك، ولنشرع الآن في المقصود. تمهيد في تصنيف الأحكام الشرعية الناشئة من اختلاف القراءات المتواترة: يمكن إجمال الأحكام الشرعية التي تنشأ من اختلاف القراءات في نوعين اثنين: 1 - أحكام اعتقادية. 2 - أحكام عملية. ويندرج تحت الأولى ما يلزم المكلّف اعتقاده من أحكام الوحدانية، والنّبوات، والغيبيّات، وفق ما جرى عليه علماء التوحيد. ويندرج تحت الثانية ما يلزم المكلّف اتّباعه من الأحكام الفقهية العملية من عبادات، ومعاملات، وأحكام نكاح، وحدود، وجهاد، وفق ما جرى عليه علماء الفقه. وسنجري في استقصائنا هنا على وفق هذا التّقسيم، حيث نخصّص لكل واحد من النّوعين فصلا، ولكل فصل مباحث متعددة. وقبل البدء في استقصاء هذه الأحكام نقدّم هذا الجدول التّفصيلي لسائر المسائل الشرعية التي تنتج عن اختلاف القراءات المتواترة.

جدول إحصائي بالأحكام الشرعية (الأحكام الاعتقادية)

جدول إحصائي بالأحكام الشرعية ([الأحكام الاعتقادية]) التي تنتج من اختلاف القراءات المتواترة، وهو فصلان: الفصل الأول الأحكام الاعتقادية م/ الرسم المصحفي/ الوجه الغائب/ عنوان المسألة (وفق قاعدة إعمال سائر القراءات المتواترة) 1 - / ملك يوم الدين/ ملك/ جواز تسمية المولى سبحانه وتعالى بالملك والمالك 2 - / وإذ واعدنا موسى/ وإذ وعدنا/ يكون من الله سبحانه الوعد والمواعدة 3 - / ولكل وجهة هو مولّيها/ مولّاها/ الله يولي العبد وجهته، والعبد يتولى ما أراد له الله 4 - / ولولا دفع الله الناس/ دفاع/ يكون من الله سبحانه الدفع والدفاع 5 - / إنّ الدين عند الله الإسلام/ أن الدين/ الإسلام هو الدين عند الله بتقريره سبحانه، وبشهادة الملائكة 6 - / وكلمة الله هي العليا/ وكلمة/ كلمة الله هي العليا، وقد يزيدها الله علوا 7 - / فالله خير حافظا/ حفظا/ من أسمائه سبحانه الحافظ 8 - / ولا يشرك في حكمه أحدا/ ولا تشرك/ وحدانية الله سبحانه أمر تكويني وتكليفي 9 - / وما كنت متّخذ المضلّين عضدا/ وما كنت/ لا يتخذ الله سبحانه ولا الرسول صلّى الله عليه وسلّم أعوانا من المضلّين 10 - / هنالك الولاية لله الحق/ الولاية/ لله سبحانه على عباده الولاية والولاية 11 - / لأهب لك غلاما/ ليهب/ يجوز نسبة الأفعال إلى غير الله مجازا 12 - / إن الله يدافع عن الذين آمنوا/ يدفع/ معونة الله للمؤمنين تكون دفعا ودفاعا 13 - / ليعلم أن قد أبلغوا/ ليعلم/ الله سبحانه يكشف بعض الغيب لرسله ليعلم الناس صدقهم، وليعلم الله امتثالهم

م/ الرسم المصحفي/ الوجه الغائب/ عنوان المسألة 14 - / ما ننسخ من آية أو ننسها/ ننسأها/ لله سبحانه أن ينسخ آياته، وأن يؤجلها كذلك 15 - / ولا تسئل عن أصحاب الجحيم ولا تسأل/ الرسول غير مسئول عن الكفار بعد إنذارهم، فلا ينبغي أن يسأل عنهم 16 - / وإذ أخذ الله ميثاق النّبيين لما/ صار النّبيّون أهلا للميثاق بسبب ما آتاهم آتيتكم من كتاب وحكمة/ لما آتيناكم/ الله من الكتاب والحكمة، وقد أتاهم ذلك ليؤمنوا بنبي آخر الزمان 17 - / وما يفعلوا من خير فلن/ العمل الصالح له أجر صالح، سواء صدر من يكفروه/ تفعلوا/ أهل الكتاب المؤمنين، أو من الأمة المحمدية 18 - / وما كان لنبي أن يغلّ/ يغل/ النّبي لا يغلّ ولا يغلّ 19 - / وليحكم أهل الإنجيل/ وليحكم/ أنزل الله الإنجيل ليحكم الناس به، فعلى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه 20 - / هل يستطيع ربّك/ تستطيع ربّك/ الحواريون يستفسرون عن قدرة الله، ويحثّون عيسى ابن مريم على الطلب منه سبحانه 21 - / والسابقون الأولون من/ والأنصار/ سائر الأنصار، وخاصة السابقون الأولون منهم المهاجرين والأنصار/ تشملهم رحمة الله ورضوانه 22 - / إنه عمل غير صالح/ عمل غير/ قد يظهر من الأنبياء عمل غير صالح، وكذلك من أبنائهم 23 - / وظنّوا أنهم قد كذبوا/ كذّبوا/ تبلغ الرسل حدّا بليغا من صدود الناس، وإعراضهم؛ حتى تسوء ظنونهم بمن صدّقهم، وبمن كفر بهم 24 - / فناداها من تحتها/ من تحتها/ الملاك يكون تحت مريم، ومريم تسمع النداء من تحتها 25 - / فظنّ أن لن نقدر عليه/ أن لن يقدر/ قد يلقي الشيطان في نفوس الأنبياء ظن السوء، فيدفع الله ذلك 26 - / رسول الله، وخاتم النّبيين/ وخاتم/ الرسول صلّى الله عليه وسلّم زينة الأنبياء، وهو آخرهم 27 - / وقيله يا ربّ/ وقيله/ الله سبحانه عليم بصبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ويتهدد المشركين بالحساب والعذاب 28 - / لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله لا تقدّموا/ النهي عن التقدم على النّبي صلّى الله عليه وسلّم شكلا ومضمونا 29 - / وما هو على الغيب بضنين/ بظنين/ نفي تهمة كتم الوحي، وتهمة الظن عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم 30 - / لتركبنّ طبقا عن طبق/ لتركبنّ/ الله سبحانه يخبر أن الناس يتقلبون من حال إلى حال، ويبشر النّبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه سير تقي أطباق السموات

م/ الرسم المصحفي/ الوجه الغائب/ عنوان المسألة 31 - / فأزلّهما الشيطان عنها/ فأزالهما/ يجوز نسبة فعل الإزالة إلى الشيطان على سبيل المجاز 32 - / وما يشعركم أنها إذا جاءت/ إنها إذا جاءت/ التأكيد على أن المشركين لن يؤمنوا؛ ولو جاءتهم الآيات 33 - / دينا قيما ملة إبراهيم/ قيّما/ الإسلام هو الدين المستقيم الذي ينبغي أن تقوم له وجوه الموحدين 34 - / هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت/ تتلو/ الإنسان يوم القيامة يبلو ما أسلف، ويتلو ما أسلف 35 - / لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون/ مفرّطون/ الكفار فرّطوا في دينهم، ففرّط الله بهم يوم القيامة 36 - / ما كان ينبغي لنا أن نتخذ أن نتخذ/ من عبد من دون الله على غير إرادة منه؛ لم يؤاخذ إن أخلص التوحيد 37 - / دابّة من الأرض تكلّمهم أن تكلّمهم إنّ/ يجب الاعتقاد بخروج الدّابة، ويجب الاعتقاد بأنها الناس كانوا/ تتكلم مع الخلق 38 - / لا يسّمّعون إلى الملأ الأعلى/ لا يسمعون/ نفي السماع والاستماع إلى الملأ الأعلى من قبل الشياطين 39 - / الملائكة الذين هم عباد الرحمن عند الرحمن/ الملائكة عند الله وهم عباده 40 - / وقد أخذ ميثاقكم/ أخذ/ الميثاق الذي أخذ على المؤمنين موثق بنسبته إلى الله عزّ وجلّ 41 - / يوم القيامة يفصل بينكم/ يفصّل/ الله سبحانه يفصل بين العباد يوم القيامة، ويفصّل لهم أعمالهم 42 - / ذو العرش المجيد/ المجيد/ الله سبحانه مجيد، وعرش الله مجيد 43 - / في لوح محفوظ/ محفوظ/ القرآن محفوظ في اللوح، واللوح محفوظ بأمر الله 45 - / ولا تظلمون فتيلا/ ولا يظلمون/ الله سبحانه لا يظلم المؤمنين، ولا يظلم المنافقين 46 - / إن الذين فرّقوا دينهم/ فارقوا/ النّبي صلّى الله عليه وسلّم بريء ممن فرّق الدين، وممن فارق الدين 47 - / أمرنا مترفيها/ آمرنا/ إذا أراد الله هلاك القرى أمر المترفين بالفساد، وأعانهم على التآمر فاستوجبوا الهلاك 48 - / وجعلنا لمهلكهم موعدا/ لمهلكهم/ يكون هلاك القرى بسبب مقدر، وزمن مقدر 49 - / من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا/ فارقوا/ من فرّق الدين، أو فارق الدين؛ فهو من المشركين 50 - / وصدّ عن السبيل/ وصدّ/ صدّ الله فرعون عن الهدى، وقام فرعون بصدّ الناس عن سبيل الله

م/ الرسم المصحفي/ الوجه الغائب/ عنوان المسألة 51 - / سواء محياهم ومماتهم/ سواء/ لن يجعل الله المتقين والفساق سواء، فالفساق يستوي محياهم ومماتهم لأنه لا فائدة منهم 52 - / فهل عسيتم إن تولّيتم/ تولّيتم/ يجب أن يحذر الإنسان من الإفساد في الأرض؛ خاصة إذا ولي شئون الناس 53 - / لا يلتكم من أعمالكم شيئا/ يألتكم/ الله سبحانه يجزي المحسنين أجرهم دون إنقاص 54 - / ولا تفرحوا بما آتاكم/ أتاكم/ على المؤمنين أن لا يفرحوا بالنّعم فرحا يطغيهم

جدول إحصائي بالأحكام الشرعية الأحكام الفقهية

[جدول إحصائي بالأحكام الشرعية] الأحكام الفقهية الفصل الثاني الأحكام الفقهية م/ الرسم المصحفي/ الوجه الغائب/ عنوان المسألة 55 - / وامسحوا برءوسكم وأرجلكم/ وأرجلكم/ جواز المسح على الخفين، ووجوب غسل الأرجل 56 - / ولا تقربوهنّ حتى يطهرن/ يطّهّرن/ وجوب اعتزال النساء حتى يطهرن، واستحباب تطهّرهن قبل الغشيّ 57 - / أو لامستم النساء/ لمستم/ وجوب الوضوء من لمس النساء، ومن ملامستهن 58 - / ونصفه وثلثه/ ونصفه/ النبي صلّى الله عليه وسلّم يقوم نصف الليل، وأدنى من نصف الليل 59 - /ماذا ينفقون قل العفو/ قل العفو/ قل لهم يا محمد: أنفقوا العفو، فالعفو هو المطلوب في الصدقة 60 - / واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى/ واتّخذوا/ الناس يتّخذون من مقام إبراهيم مصلى، والمولى سبحانه يزكي ذلك ويأمر به 61 - / فدية طعام مسكين/ مساكين/ فدية الإفطار طعام مسكين عن كل يوم، وهكذا فبعدد الأيّام إطعام مساكين 62 - / أجعلتم سقاية الحاج/ سقاة/ سقاة الحجاج لا ينفعهم عملهم بدون إيمان، فالسقاية عمل صالح إن كان معه إيمان 63 - / وعمارة المسجد الحرام/ وعمرة/ الرجال الذين عمروا البيت، وإعمارهم له لا يعدل الإيمان 64 - / فجزاء مثل ما قتل من النّعم/ فجزاء مثل/ جزاء الصائد أن ينحر مثل ما قتل من الأنعام؛ بتقدير ذوي عدل، فإن لم يوجد له مثل فليحكم به ذوا عدل منكم 65 - / ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا/ ليقضوا- وليوفوا- غرض الحج أن يقضوا تفثهم، ويوفوا نذورهم، نذورهم وليطوّفوا/ وليطوّفوا/ ويطوفوا بالبيت فليفعلوا ذلك

م/ الرسم المصحفي/ الوجه الغائب/ عنوان المسألة 66 - / والذين عقدت أيمانكم فآتوهم عاقدت/ الحليف يستحق نصيبه إن انعقد حلفه بالتعاقد، نصيبهم/ أو بمحض يمينك 67 - / وما آتيتم من ربا ليربو/ أتيتم/ فعل الرّبا، وإيتاؤه حرام في أموال الناس 68 - / ليربو في أموال الناس/ لتربو/ الرّبا حرام، سواء ربا بقصد الرّبا، أو بدون قصد م/ الرسم المصحفي/ الوجه الغائب/ عنوان المسألة 69 - / إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله أن يخافا/ المخالعة تحلّ من الزوجين إن خافا ألا يقيما حدود الله، وتطلب من الأولياء؛ إذا خشي على الزوجين ألا يقيما حدود الله 70 - / ومتّعوهن على الموسع قدره/ قدره/ الموسع والمقتر يمتعان كل بحسب قدره وقدره 71 - / لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرها/ كرها/ تحريم إرث النساء كرها، وكرها 72 - / إلا أن يأتين بفاحشة مبيّنة مبيّنة/ إذا ظهرت الفاحشة من المرأة جاز عضلها، سواء كانت الفاحشة مبيّنة أو مبيّنة 73 - / قانتات حافظات للغيب بما/ حفظ الله/ المؤمنات يحفظهن الله بحفظه، وهن يحفظن أمر الله حفظ الله/ في سلوكهن 74 - / أو التابعين غير أولي الإربة من غير أولي/ لا حرج في إبداء الزينة للتابعين الموصوفين، الرجال/ أو المختصين بأنهم غير أولي الإربة من الرجال 75 - / وقرن في بيوتكن/ وقرن/ نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم مأمورات بالقرار في البيوت، والوقار فيها م/ الرسم المصحفي/ الوجه الغائب/ عنوان المسألة 76 - / قل فيهما إثم كبير/ اثم كثير/ في الخمر إثم كبير وكثير 77 - / فإذا أحصنّ فإن أتين بفاحشة/ أحصنّ/ الإماء إذا زوجن أو تزوجن، فأتين إثما، فعقوبتهن فعليهن نصف/ نصف عقوبة الحرائر 78 - / أن النفس بالنفس والعين بالعين/ والعين بالعين/ القصاص وفق العين بالعين؛ شرع من قبلنا، وهو مستأنف علينا أيضا 79 - / أنّ غضب الله عليها إن كان من أن غضب الله/ يجب أن تعلم الملاعنة أنّ غضب الله سينزل بها إن الصادقين/ صدق زوجها، بل إنه قد غضب فعلا

م/ الرسم المصحفي/ الوجه الغائب/ عنوان المسألة 80 - / ولا تقاتلوهم عند المسجد/ لا يجوز قتال المشركين، ولا قتلهم عند المسجد الحرام/ ولا تقتلوهم/ الحرام إلا إن بدءونا بالقتال فيه 81 - / ادخلوا في السّلم كافة/ في السّلم/ وجوب دخول المسلمين في السّلم وفي السّلم 82 - / وإن تصبروا وتتقوا لا يضرّكم/ لا يضركم/ الله سبحانه أكرم عباده الصابرين بأنهم لا يصيبهم كيدهم شيئا/ ضرر ولا ضير 83 - / ولا تقولوا لمن ألقى إليكم/ إذا ألقى رجل إلينا السلام أو السّلم، فلا يجوز أن السلام/ السّلم لست/ نتهمه بعدم الإيمان 84 - / وإن تلووا أو تعرضوا/ تلوا أو تعرضوا/ ليّ الواجد ظلم، والوالي محاسب عند الله 85 - / لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم والكفار/ يحرم تولي الكفار سواء اتخذوا ديننا هزوا ولعبا أو لا هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء 86 - / والذين آمنوا ولم يهاجروا/ ليس للمسلم ولاية، ولا ولاية على المسلمين حتى يهاجر ما لكم من ولايتهم من شيء/ من ولايتهم 87 - / إنهم لا أيمان لهم/ لا إيمان لهم/ ليس للمشركين إيمان ولا أيمان 88 - / أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا/ يقاتلون/ يؤذن للمسلمين بالجهاد إن قاتلوا أو قوتلوا في سبيل الله 89 - / فلا تهنوا وتدعو إلى السّلم/ إلى السّلم/ لا يدعو المسلمون إلى التسليم، ولا إلى الاستسلام 90 - / واتقوا الله الذي تساءلون به/ والأرحام/ اتقوا الأرحام أن تقطعوها، واذكروا أن بعضكم والأرحام/ يسأل بعضا بالأرحام نظرا لمنزلتها بينكم 91 - / ولكن يؤاخذكم بما عقّدتم الأيمان/ عقدتم/ المرء مؤاخذ باليمين إذا عقده أو عقّده المبحث السادس: الأقضية 92 - / إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا/ فتثبّتوا/ على القاضي أن يتبين ويتثبت في الحكم

الفصل الأول الأحكام الاعتقادية

الفصل الأول الأحكام الاعتقادية تمهيد في طبيعة الخلافات في الأحكام الاعتقادية: مرّ بك في الجدول السالف أن المسائل الاعتقادية التي يدل لها تعدد القراءات منحصرة في أربع وخمسين مسألة تتوزع على الشكل الآتي: المطلب الأول: ثلاث عشرة مسألة في الإلهيات. المطلب الثاني: سبع عشرة مسألة في النّبوّات. المطلب الثالث: ثلاث عشرة مسألة في الغيبيّات. المطلب الرابع: إحدى عشرة مسألة في العمل والجزاء. وهذا الاختلاف في القراءات أكسب المفسرين فوائد جمة، وأضاء كثيرا من المعاني المجملة في الآيات، وأذن بفهم بعض النصوص فهما لا تدل له القراءة الواحدة. ومن المعلوم أن مباحث الاعتقاد لا سبيل إليها إلا بالتواتر، قرآنا أو سنّة، ولذلك فإنّ استجلاء القراءات المتواترة التي تدلّ على أبواب العقيدة من آكد الفروض على الأمّة؛ لأنّها أدقّ السّبل لبلوغ عقيدة الحق التي أذن بها الله سبحانه وتعالى. وقد أثبتّ لك الآية كما هي في رسم المصحف، ثم أوردت وجوه القراءات المتواترة عليها، ثم عطفت بإيراد أقوال الأئمة في دلالة الآية وفق وجوه القراءة المختلفة. وقد اعتمدت في هذا الفصل على المفسرين من علماء العقيدة كالإمام الفخر الرازي، والإمام ابن كثير، واختيارات القرطبي في جامعه فيما يتصل بأبواب العقائد، وكذلك استعنت بالكتب المصنّفة في الاحتجاج للقراءات، وقد أشرت لكلّ منهم في الحاشية لدى النقل عنه، ثم مضيت في التأليف بين أقوالهم بما يحقق الفائدة المتوخاة من تحصيل وجوه القراءة المختلفة.

تمهيد في علاقة القراءات بالمحكم والمتشابه:

ولم أورد من القراءات إلا ما كان متواترا، إلا ما كان في المسألة الأولى، فقد أوردته استئناسا أردت به التنويه إلى وجود نقل غير متواتر في كثير من الآي، ولكن ليس لهذا النقل وزن في المسائل الشرعية. تمهيد في علاقة القراءات بالمحكم والمتشابه: وقبل الخوض في أثر القراءات المتواترة في الأحكام الشرعية من المفيد أن نعرض هنا لمسألة المحكم والمتشابه وعلاقته بالقراءات، حيث يتبادر إلى الأذهان أن ما اختلفت فيه القراءات من النّص القرآني إنما هو من المتشابه، وأن الأسلم في تأويله أن يفوض علمه إلى الله سبحانه وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [آل عمران: 3/ 6]. ولا بدّ قبل الخوض في هذه المسألة من تحديد معنى المحكم والمتشابه لدى الأصوليين. فالمحكم هو الواضح الدلالة، الظاهر الذي لا يحتمل النّسخ. والمتشابه هو الخفي الذي لا يدرك معناه عقلا ولا نقلا، وهذا التعريف هو المختار عند الحنفية كما نقله الآلوسي (¬1). واختار الأصوليون أن المحكم هو ما لا يحتمل إلا وجها واحدا من التأويل، أما المتشابه فهو ما احتمل أوجها، وقد رفع هذا القول إلى ابن عباس (¬2). وثمة اختيارات أخرى في تعريف المحكم والمتشابه، مؤداها إلى واحد من الرأيين السالفين، ولعل أجمع هذه التعريفات ما فصله السرخسي في أصوله بقوله: المتشابه: هو ما خفي باللفظ نفسه، وانقطع رجاء معرفة المراد منه لمن اشتبه عليه، فأصبح لا يرجى إدراك معناه أصلا (¬3). ¬

_ (¬1) روح المعاني للآلوسي: 3/ 84. (¬2) مناهل العرفان للزرقاني: 2/ 280. (¬3) أصول السرخسي 1/ 69. وقد كتب الباحث إبراهيم أحمد عباس مهنا في رسالة ماجستير نوقشت في جامعة القرآن الكريم، والعلوم الإسلامية عام 1415 هـ، بعنوان: أثر الحقيقة والمجاز في فهم المحكم والمتشابه، نقل فيها ستة تعاريف للمتشابه: ما لم يتّضح معناه، وهو قول الجويني والشيرازي.

وقد وردت الإشارة في التنزيل العزيز إلى المحكم والمتشابه، ففيه ما يشير إلى أن الكتاب العزيز كله محكم: الر* كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 11/ 1 - 2]. وفيه ما يشير إلى أن الكتاب العزيز متشابه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزّمر: 39/ 23]. وفيه ما يشير إلى أن الكتاب منه محكم ومنه متشابه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 3/ 7]. وليس بين هذه الثلاثة أدنى تعارض، فمعنى إحكامه في الآية الأولى أنه منظم ومتقن، كأنه بناء مشيد أحكم الله سبحانه نظمه وقرآنه وبيانه. ومعنى تشابهه في الآية الثانية أنه على نسق واحد في الإعجاز والفصاحة والبلاغة والبيان، يشبه بعضه بعضا من جهة أنه في سائره تنزيل من حكيم حميد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأما أن بعضه محكم وبعضه متشابه، فمعناه أن من القرآن ما اتّضحت دلالته على مراد الله تعالى منه، ومنه ما خفيت دلالته على هذا المراد الكريم، فالأول هو المحكم، والثاني هو المتشابه. وجرى العمل لدى الأصوليين على إطلاق الحكم في مقابلة المتشابه تارة، وفي مقابلة المنسوخ تارة أخرى. فمما جاء في التنزيل العزيز من مقابلة النسخ بالإحكام: ¬

_ أعمّ من المجمل، والمجمل فرع منه، وهو قول الآمدي. هو الذي لم يترجح معناه، وهو رأي البيضاوي والسبكي. ما لا يدرك المراد منه أصلا لا بالفعل ولا بالنقل، وهو رأي الحنفية. هو الأقسام التي في القرآن والحروف المقطعة، وهو رأي ابن حزم. انظر الكتاب المذكور ص 73.

فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج: 22/ 52]. ومما جاء في التنزيل من مقابلة النسخ بالتشابه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 3/ 7]. وقد ثبت بالاستقراء أن آيات الأحكام ليس فيها متشابه، بل هي جميعا مما أحكم من الكتاب (¬1)، وما كان منها غير واضح الدلالة فإنه يكشف إبهامه، ويظهر خفاؤه، ويفصل إجماله بالأدلة الشرعية من الكتاب والسّنة ووسائل الاستدلال بهما. وهناك طريقتان عند علماء الكلام والتوحيد لمعرفة حكم المتشابه، اشتهرت الأولى عن السّلف، واشتهرت الثانية عن الخلف. فطريقة السلف: الامتناع عن التأويل، مع الاعتقاد بحقية المراد الإلهي، والتسليم بمراد الشارع منه، ودليلهم قول الله سبحانه: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران: 3/ 7]، وذلك على تحتم الوقف بعد لفظ الجلالة، فتكون معرفة تأويله مقصورة على المولى سبحانه، لا يقدر أن يحيط بها من خلقه أحد، فالحكم الأصولي عندهم هو التوقف عن التأويل، مع اعتقاد أن قول الله حق، وتفويض علم ذلك إلى الله تعالى بدون بحث في تأويله. وطريقة الخلف: تأويل المتشابه بما يوافق اللغة، ويلائم تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به، ¬

_ (¬1) أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 1/ 343، وإنما يصح هذا الاستقراء وفق تقسيم الحنفية حيث ميّزوا بين ما يمكن دركه وما لا يمكن من النصوص غير الواضحة الدلالة. وقد اطّلعت على رسالة ماجستير نوقشت في جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية عام 1415 هـ بعنوان الحقيقة والمجاز في فهم المحكم والمتشابه للباحث إبراهيم أحمد عباس مهنا، أورد فيها حكما فقهيّا جزم أنه من باب المتشابه، وهو قوله سبحانه: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، وعادة الأصوليين من الحنفية أن يدرجوا هذه المسألة في باب المشكل لأنه لفظ مشترك، وإنما يميّز بين المشكل والمتشابه، أن المتشابه لا سبيل إلى تجلية خفائه، أما المشترك فإن خفاءه يرتفع بالقرائن، وقد جزم الباحث بأن من المتشابه ما يمكن معرفة معناه، ص 81، ولم ينقل ذلك عن أحد سبقه، وهو اختيار من لم يأخذ بتصنيف الحنفية. وهكذا فإن تصنيف الحنفية غير واضح الدلالة من النصوص حلّ هذا الإشكال؛ إذ جعلوا غير واضح الدلالة واحدا من أربعة: الخفي، والمشكل، والمجمل، والمتشابه. انظر كشف الأسرار للبزدوي 1/ 52.

فعلى سبيل المثال: نزول الله سبحانه إلى سماء الدنيا متشابه، لإيهامه التّحول في الذّات العليّة، ووصفه باليد والعين والاستواء متشابه لإيهامه مشابهة الحوادث، وتقرير أنه في السماء متشابه لأنه يتعارض مع كونه بكل شيء محيط، وهكذا ... ولا يخفى أن منشأ تخالف الطريقتين؛ إنما هو الاضطراب في تحديد الوقف في الآية، فقد اختار السلف الوقف عند لفظ الجلالة كما بيّنّا، واختار الخلف عدم الوقف، واعتبار الواو عاطفة، على أساس أن الله سبحانه علم الراسخين في العلم أمر تأويله، فهم به عارفون (¬1). وقد نقل هذا القول عن الصحابي الجليل ابن عباس، كما في الطبري أن ابن عباس كان يقول: أنا من الراسخين في العلم، وأنا أعلم تأويله (¬2). ولكن نقل الطبري نفسه عن ابن عباس أيضا أنه قرأ: (وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الرّاسخون في العلم آمنّا به) (¬3)، فتكون قراءته بذلك بمثابة الجزم بأن علم المتشابه محصور في المولى سبحانه، وعلى العباد التّسليم، والله أعلم. وقد اختار صاحب كتاب (أصول الفقه الإسلامي) مذهب السلف، والقول بالتسليم والتّفويض لله بمراده، وأشار إلى أنه لا يترتب على هذا الخلاف نتيجة عملية، ولا صلة لهذا البحث بالأحكام الشرعية (¬4). ونشير هنا إلى أن التّفويض غنية المؤمن، وفيه سلامة اعتقاده، وتمام أدبه مع الله عزّ وجلّ، ولكن إذا عرضت للمرء الشّبهات، أو قصد بيان العقيدة الإسلامية لأهل الشكوك، فإنه لا مندوحة من التأويل الدافع لإيهام التناقض، ويكون المؤول حينئذ يدفع الفتنة لا يبتغيها، فلا يكون مشمولا بقوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران: 3/ 7]. ¬

_ (¬1) كشف الأسرار للبزدوي 1/ 55 وما بعدها. وانظر أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 1/ 343. (¬2) تفسير الطبري 6/ 204. (¬3) تفسير الطبري 6/ 202، وروى مثل ذلك عن أبيّ بن كعب، وطاوس بن كيسان. (¬4) أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 2/ 343.

وتجد اختصار هذه المعاني جميعا في عبارة الأصوليين: (مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم، والله سبحانه أعلم) (¬1). وبعد الذي قدمته لك من مذاهبهم في التّشابه والإحكام، فإنه ظهر لك أن أمر اختلاف القراءات في آيات الأحكام ليس من باب التشابه، بل إن القراءات المتواترة في الآية الواحدة سبيل إلى دفع التّشابه المتوهم فيها. ومن الأمثلة الظاهرة على أن تواتر القراءة يدفع توهم التّشابه ما يلي (¬2): قوله تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها (¬3) [البقرة: 2/ 148]. الظاهر فيها استلاب التّكليف من العبد، وقد دفع هذا الظاهر بالقراءة المتواترة: (ولكلّ وجهة هو مولّاها) (¬4). قوله تعالى: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ (¬5) [الجن: 72/ 28]. الظاهر فيها تعليل مجريات الأحداث بقصد اطلاع المولى على صنيع أنبيائه، فدفع هذا التّوهم بالقراءة المتواترة: (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم) (¬6). قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا (¬7) [يوسف: 12/ 109]. الظاهر فيها أن الرّسل ظنّوا أن الوحي الإلهي كذبهم، فدفع هذا التّوهم بالقراءة المتواترة: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا (¬8). ¬

_ (¬1) عبارة مشهورة في مزايا مذهب السلف ومذهب الخلف، لم أقف على قائلها. (¬2) ملاحظة: الأمثلة هنا من باب الأحكام الاعتقادية، إذ ليس في الأحكام الفقهية متشابه أصلا. (¬3) وهي قراءة سائر القرّاء إلا ابن عامر. (¬4) وهي قراءة ابن عامر. (¬5) وهي قراءة جمهور القرّاء. (¬6) وهي قراءة رويس. (¬7) وهي قراءة الكوفيين وأبي جعفر. (¬8) وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر ويعقوب.

قوله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ (¬1) [الأنبياء: 21/ 87]. الظاهر فيها أن ذا النّون عليه السلام ظنّ أنه أعجز الله بهربه، فدفع هذا التّوهم بالقراءة المتواترة: فظن أن لن يقدر عليه (¬2)، أي من قبل قومه. وتجد لذلك أمثلة كثيرة حين تخوض في الباب الآتي المخصص لأثر القراءات المتواترة في الأحكام الشرعية. ولكن يرد هنا سؤال: هل يتعيّن هنا أن نأخذ بالقراءة المتواترة المجلية للتّوهم، ونطرح القراءة المتواترة الأولي التي ينشأ منها التّشابه؟ والجواب: إن هذا لا مساغ له البتة، وقد بسطنا القول في صدر هذه الرسالة في وجوب اعتقاد المتواتر كله تنزيلا إلهيّا، ولكن تقبل القراءة التي جلا فيها المعنى على أنها آية محكمة، وتقبل القراءة التي خفي فيها المعنى على أنها من المتشابه الذي يفوض علمه إلى الله تعالى. هذا وإن علماء التفسير لم يسلّموا لآية بعينها بأنها من المتشابه، بل جرت أقلامهم في تفسير سائر التنزيل، وحملوه على وجوه يدفع فيها التناقض، بوسائل مختلفة من الخبر واللغة والرأي، وهو ما تجده في ثنايا هذه الدراسة. ¬

_ (¬1) وهي قراءة سائر القرّاء إلا يعقوب. (¬2) وهي قراءة يعقوب.

المبحث الأول الإلهيات

المبحث الأول الإلهيّات المسألة الأولى: قوله تعالى: ملك يوم الدين [الفاتحة: 1/ 4]. قرأ عاصم والكسائي ويعقوب وخلف: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وقرأ الباقون بغير ألف: ملك يوم الدين. وليس في هذا الموضع من المتواتر إلا هذان الوجهان (¬1). وقد احتجّ أبو زرعة للقولين في كتابه حجة القراءات، فنقل عن أصحاب القصر احتجاجهم بنظائر ذلك في الكتاب العزيز: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ [الجمعة: 62/ 1]، وكذلك: مَلِكِ النَّاسِ* إِلهِ النَّاسِ [النّاس: 114/ 2 - 3]، فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون: 23/ 116]. فهذه كلها تقرأ عند الكل بالقصر، وكان أبو عمرو البصري (¬2) يقول: «ملك تجمع مالكا، ولكن مالك لا تجمع ملكا»، وهو ما عبّر عنه أبو عبيد القاسم بن سلام (¬3) بقوله: «إن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا»، وكان أبو عمرو يقول: «هلا قلتم: فتعالى الله المالك الحق؟» (¬4). ¬

_ (¬1) النّشر في القراءات العشر لابن الجزري. وعبارة الشاطبي: ومالك يوم الدين رواية ناصر/ ... / ... / ... فرمز بالنون إلى عاصم وبالراء إلى الكسائي وهذه طريقته. وعبارة ابن الجزري في الدّرة: ... / ... / ... / ومالك حز فز والصراط فأسجلا (¬2) أبو عمرو البصري القارئ واللغوي المشهور، انظر ترجمته ص 63. (¬3) أبو عبيد القاسم بن سلام الخراساني الهروي (51/ 224): أول من جمع القراءات وصنف فيها، انظر ترجمته ص 61. (¬4) حجة القراءات لأبي زرعة ص 77.

وأضاف أبو زرعة إلى حجج من روى بالقصر حججا أخرى تدل أنه كان يرى هذا الرأي إذ لم ينسبها لقائل بعينه فقال: «وحجة أخرى وهي أن وصفه بالملك أبلغ في المدح من وصفه بالملك، وبه وصف نفسه سبحانه؛ فقال: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فامتدح بملك ذلك، وانفراده به يومئذ، فمدحه بما امتدح نفسه به حق وأولى من غيره، والملك إنما هو من ملك لا من مالك، لأنه لو كان منه لقال: (الملك اليوم؟) بكسر الميم (¬1). وقال ابن الجوزي: وقراءة ملك أظهر في المدح؛ لأن كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا (¬2). ثم أورد حجة من قرأ بالمدّ فنقل عنهم قولهم: «إن مالكا يحوي الملك ويشتمل عليه ويصير الملك مملوكا لقوله جلّ وعزّ: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران: 3/ 26]، فقد جعل الملك للمالك، فصار مالك أمدح» (¬3). واستدلّ كذلك بأن شاعرا جاء إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم يشكو امرأته فقال: «يا مالك الملك، وديّان العرب»، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «مه! ذلك الله» (¬4). ويستدلّ كذلك من قرأ بالمدّ، بأن قراءة المدّ فيها زيادة حرف، وزيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى غالبا، كذلك فإنها تفيد في زيادة الحسنات، إذ تعهد الله عزّ وجلّ لقارئ القرآن لكل حرف بعشر حسنات، وهذه الآية العظيمة في سورة الفاتحة، وهي مما يتكرر في كل ركعة، وفي أحوال كثيرة، فتكون زيادة هذه الألف، وقد ثبتت بالتواتر أرجى في تحصيل الحسنات (¬5). ونشير إلى أن لفظة (مالك) هنا رويت في المتواتر بوجهين اثنين كما أسلفنا، ولكنها ¬

_ (¬1) المصدر نفسه ص 77. (¬2) زاد المسير في علم التفسير 1/ 13. (¬3) حجة القراءات ص 77. (¬4) المصدر نفسه، وكذلك فقد أخرج الحديث أحمد بن حنبل في مسنده 2/ 201 بصيغة: يا مالك الناس وديّان العرب ... إني لقيت ذربة من الذّرب وفي إسناده معن بن ثعلبة المازني، وصدقة بن طيلسة، وكلاهما مجهول. (¬5) يدلّ له حديث: «من قرأ القرآن كتب الله له بكل حرف عشر حسنات»، وهو حديث أخرجه الديلمي عن أنس.

رويت أيضا على ثلاثة عشر وجها آخر، فيكون مجموع ما قرئت به خمسة عشر وجها، ونوردها هنا لتكون إشارة تدلّ لغيرها أن في قراءات الآحاد والشّواذ وجوها كثيرة لا يصلح أن تهمل فتفوت منها فوائد كثيرة: 1 - مالك: قرأها عاصم، والكسائي (¬1)، وكذلك يعقوب، وخلف بن هشام القارئ (¬2). 2 - ملك: قرأها نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة (¬3). 3 - ملك: رويت عن عائشة، وسعد بن أبي وقاص (¬4). 4 - ملك: رويت عن أنس بن مالك (¬5). 5 - مالك: رويت عن أبي هريرة، وقرأ بها الأعمش، والمطوعي (¬6). 6 - ملك يوم: رويت عن علي بن أبي طالب، وقرأ بها يحيى بن يعمر (¬7)، وقرأ بها أبو حنيفة (¬8). 7 - ملك: قرأ بها الشعبي، وأبو عثمان النّهدي (¬9). 8 - ملك: رويت عن أبي هريرة، وقرأ بها عاصم الجحدري (¬10). 9 - مالك يوم: رويت عن عمر بن عبد العزيز، وقرأ بها عون بن أبي شداد العقيلي (¬11). 10 - مالك يوم: قرأ بها أبو عبيد، وعون العقيلي بن أبي شداد (¬12). ¬

_ (¬1) قال الشاطبي: ومالك يوم الدين رواية ناصر: (وعند سراط والسراط لقنبلا). فأخبر أن المرموز إليهما بالراء والنون من: راويه ناصر قرأ بالمد (مالك) فتعيّن أن تتمة السبعة قرءوا بالقصر، وهم نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة. (¬2) تقريب النشر في القراءات العشر، ص 7. (¬3) المصدر السابق، وكذلك اختيار الشاطبي في البيت السابق يدلّ على أن بقية السبعة قرءوا بالقصر. (¬4) انظر البحر المحيط لأبي حيان، ص 20. (¬5) انظر جامع البيان في تفسير القرآن للطبري، ط دار المعارف، 1/ 139. (¬6) انظر تفسير الكشّاف للزمخشري، ط انتشارات آفتاب، 1/ 57. (¬7) انظر إملاء ما منّ به الرحمن للعكبري، 1/ 4. (¬8) انظر تفسير الكشّاف للزمخشري، ط انتشارات آفتاب، 1/ 57. (¬9) انظر إملاء ما منّ به الرحمن للعكبري، 1/ 3. (¬10) انظر إملاء ما منّ به الرحمن للعكبري، 1/ 3، وتفسير الكشّاف: 1/ 9. (¬11) انظر البحر المحيط، 1/ 20. (¬12) انظر جامع البيان للطبري، 1/ 129.

وثمرة الخلاف:

11 - مليك: رويت عن أبي بن كعب، وقرأ بها أبو رجاء العطاردي (¬1). 12 - ملكا يوم: قرأ بها ابن أبي عاصم (¬2). كما رويت: ملّاك وملك، ولم تنسب لقائل بعينه (¬3)، أضف إلى ذلك ما روي عن الكسائي، ويحيى بن يعمر من إمالتها (¬4). وثمرة الخلاف: أن الله سبحانه وتعالى يوصف بالملك ويوصف بالمالك، وكلاهما من أسمائه الحسنى سبحانه، قال اللقاني في الجوهرة (¬5): وعندنا أسماؤه العظيمة ... كذا صفات ذاته قديمة واختير أن اسماه توقيفيّة ... كذا الصفات فاحفظ السمعيه فالقراءتان نص توقيفي في جواز إطلاق اسم المالك والملك على الله سبحانه وتعالى (¬6). والحقّ أن ذلك ليس حكما استقلّت به هذه الآية، بل هو توكيد لنصوص أخرى ظاهرة في القرآن الكريم، منها قوله سبحانه: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران: 3/ 26]. وقوله: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ [الحشر: 59/ 23]. وإنما استقلّت هاتان القراءتان بجواز إضافة هذين الاسمين الجليلين إلى يوم القيامة، فتقول هو سبحانه: ملك القيامة، ومالك القيامة. ¬

_ (¬1) انظر البحر المحيط، 1/ 20. (¬2) انظر البحر المحيط، 1/ 20. (¬3) انظر الإعراب للنحاس 1/ 122، والبحر المحيط 1/ 20. (¬4) البحر المحيط 1/ 20. (¬5) انظر جوهرة التوحيد للّقاني الأبيات 38 - 39. (¬6) أخرج التّرمذي عن أم سلمة أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في الصلاة ملك يوم الدين بدون ألف.

المسألة الثانية:

المسألة الثانية: قوله تعالى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [البقرة: 2/ 51]. قرأ أبو عمرو يعقوب، وأبو جعفر: (وإذ وعدنا موسى) بغير ألف، وقرأ الباقون: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى (¬1). وكذلك في سورة الأعراف: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً [الأعراف: 7/ 151]، وفي سورة طه: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ [طه: 20/ 82]. وقد احتجّ قارئا البصرة أبو عمرو، ويعقوب لقراءتها بأن المواعدة إنما تكون بين الآدميين، وأما الله عزّ وجلّ فإنه المنفرد بالوعد والوعيد، واستدلّ أبو عمرو بقول الله عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ [إبراهيم: 14/ 23]. وحجة الجمهور أن المواعدة كانت من الله ومن موسى، فكانت من الله أن واعد موسى لقاءه على الطّور ليكلّمه ويكرمه بمناجاته، وواعد موسى ربّه المصير إلى الطّور لما أمره به (¬2). وثمرة الخلاف: من الجانب الاعتقادي أن قراءة الجمهور دليل على جواز نسبة بعض الأفعال إلى العبد على سبيل المجاز، وإن كانت قد صدرت من الله وحده على سبيل الحقيقة. ومع أن اعتقاد أهل الحق أن الله خالق أفعال العباد، ولكنه أذن هنا سبحانه بنسبة بعض الأفعال إلى العباد، وليس هذا المعنى مستقلّا في هذه الآية بل له نظائر كثيرة في القرآن الكريم. ¬

_ (¬1) سراج القاري لابن القاصح، ص 150. عبارة الشاطبي في حرز الأماني: وعدنا جميعا دون ما ألف حلا وعبارة ابن الجزري في الدّرة: وعدنا اتل بارئ يأب يأمر أتم حم (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، 96.

وقد اجتمع الحقيقة والمجاز في قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصّافّات: 37/ 96]. فنسب العمل إليهم بقوله: تعملون، ولكنه أخبر أنه سبحانه خلقهم وخلق أعمالهم. والتّقدير: والله خلقكم، وخلق أعمالكم، وهذا مذهب أهل السّنة أن الأفعال خلق لله عزّ وجلّ، واكتساب للعباد، وفي هذا إبطال مذهب القدرية والجبرية (¬1). وفي الجوهرة (¬2): فخالق لعبده وما عمل ... موفّق لمن أراد أن يصل وخاذل لمن أراد بعده ... ومنجز لمن أراد وعده وقد نهج بعض من انتصر لقراءة الجمهور بأن الألف هنا ليست للمفاعلة، بل الوعد من الله لا غير، نظير ما تقول: (طارقت نعلي وسافرت)، والفعل من واحد على ما تكلمت به العرب (¬3)، كذلك تقول: خاطبت القوم، فتورد الألف هنا، ولا تريد بها المفاعلة، إذ المخاطبة منك وحدك، ومنهم الاستماع ليس إلا. ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 15/ 96. (¬2) جوهرة التوحيد للّقاني بيت رقم (45). (¬3) حجة القراءات لأبي زرعة، 96.

المسألة الثالثة:

المسألة الثالثة: قوله تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها [البقرة: 2/ 157]. قرأ ابن عامر الشامي: (ولكلّ وجهة هو مولّاها) (¬1). وقرأ باقي العشرة: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها (¬2). وحجة ابن عامر أن العبد يولي هذه القبلة، ولم ينسب الفعل إلى فاعل بعينه، وهذا أصفى في التوحيد، إذ المولى عزّ سلطانه هو المنفرد بالتدبير، فيكون الضمير (هو) كناية عن الاسم الذي أضيفت إليه لفظة (كل) وهو الفاعل، وحيث أقيم التركيب هنا مقام ما لم يسم فاعله، كان (هو) بمثابة نائب فاعل، والفاعل هنا هو الله سبحانه تصريحا. وقرأ باقي العشرة هُوَ مُوَلِّيها أي متّبعها وراضيها، وحجتهم في ذلك ما روي عن مجاهد بن جبر: (ولكلّ وجهة هو موليها) أي لكل صاحب ملّة وجهة أي قبلة هو موليها أي مستقبلها (¬3). ولا شكّ أن ما عند الجمهور من تواتر أقوى مما يروى إلى مجاهد، ولكنهم أوردوه للاستئناس بما فيه من التأويل، وليس للإسناد إليه في الإقراء، وكذلك قال القاضي ابن العربي المالكي: (وقرئ هو مولّاها، يعني المصلّي، والتقدير أن المصلّي هو موجه نحوها، وكذلك قيل في قراءة من قرأ هو موليها، إن المعنى أيضا هو متوجّه نحوها، والأول أصح في النظر، وأشهر في القراءة والخبر) (¬4). ¬

_ (¬1) سراج القاري لابن القاصح، 157. وعبارة الشاطبية: ولام موليها على الفتح كملا. فأخبر أن المرموز إليه بالكاف وهو ابن عامر قرأها بفتح اللام، فتعينت القراءة بالكسر لبقية السبعة. (¬2) لم يأت ابن الجزري في الدرة على ذكر خلاف للثلاثة في هذا الوجه فتعيّن أنهم قرءوا كالجمهور. (¬3) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، 117. (¬4) أحكام القرآن للرازي لابن العربي المالكي، 1/ 44.

وثمرة الخلاف:

وثمرة الخلاف: أن أي قبلة يتولاها العبد إنما تولاها بأمر الله وإرادته، فهو يولي وجهه إليها بإرادته مجازا، وبإرادة الله حقيقة، فهو مولّيها بإرادته وسعيه، ومولّاها بإرادة الله وأمره. وهكذا فإن تصريح القرآن بوجود إرادة للعبد لا ينفي حقيقة أن الله سبحانه هو خالق الأفعال جميعا: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصّافّات: 37/ 96]، وهذا المعنى البديع، بما فيه من تأليف بين إرادة الله وإرادة العبد لا يظهر إلا من القراءتين جميعا؛ إذ لا تستقل بتبيانه واحدة منهما. وأشير هنا أن هذا التأليف توافرت عليه الأدلة السمعية حيث نسب الفعل إلى العبد مجازا وإلى الله حقيقة، وزادته هاتان القراءتان توكيدا وظهورا. وفي كتاب الله من المعنيين جميعا قوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ [الأعراف: 7/ 43]، فنسب الاهتداء إلى العبد مجازا فقال: (لنهتدي) ثم علّقه بإرادة الله سبحانه بقوله: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ. واختار الرازي الجصاص في تفسيره أن الآية دليل على صحة التوجه إلى جهة القبلة، إذ لا يتصور أن يصيب الناس في توجّههم من الآفاق عين الكعبة، فتكون الآية كالتيسير من المولى سبحانه لأهل الآفاق بقبول توجّههم، ولو لم يصيبوا عين الكعبة حقيقة (¬1). ولا يخفى أن اختيار الجصاص هذا محلّه التأويل لا القراءة، لأنه وارد على كلا القراءتين، وقد تقدم قبل قليل الوجه الذي ساقه ابن العربي المالكي، وهو قريب من اختيار الجصاص (¬2). ¬

_ (¬1) أحكام القرآن للرازي الجصاص، 1/ 92. (¬2) انظر ما قدمناه في الصفحة السابقة، وهو في أحكام القرآن لابن العربي المالكي، 1/ 44.

المسألة الرابعة:

المسألة الرابعة: - قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ [البقرة: 2/ 251]. قرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب: (ولولا دفاع الله النّاس) بالألف. وقرأ الباقون: دَفْعُ اللَّهِ مصدر من (دفع دفعا) وحجتهم أن الله عزّ وجلّ لا مدافع له، وأنه هو المنفرد بالدفع من خلقه، وكان أبو عمرو يقول (إنما الدفاع من الناس والدفع من الله)، وحجة نافع أن الدفاع مصدر من (دفع) كالكتاب من (كتب) كما قال: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فالكتاب مصدر ل (كتب) الذي دلّ عليه قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ لأن المعنى: كتب هذا التحريم عليكم، ويجوز أن يكون مصدرا ل (فاعل) تقول: (دافع الله عنك الشيء) (يدافع مدافعة ودفاعا)، والعرب تقول: أحسن الله عنك الدفاع، ومثل ذلك (عافاك الله)، ومثل (فاعلت) للواحد كثير، قال الله: قاتَلَهُمُ اللَّهُ (¬1) [التّوبة: 9/ 30]. وثمرة الخلاف: جواز أن يقال: دفاع الله للناس لوجود القراءة المتواترة، وإن هذا المعنى مقرر في آيات أخرى لم تستقلّ به هذه الآية وحدها، كما في قوله سبحانه: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ. وعليه فإن قراءة (دفاع) تأتي كالإذن بجواز إضافة ألف المفاعلة، لما حقّه أن يصدر عن الذات الإلهية وحدها، وذلك على سبيل المشاكلة والتّنبيه إلى فساد قصدهم وبطلان سعيهم. ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة، 140 - 141، وانظر كذلك سراج القاري لابن القاصح العذري، 164. وعبارة الشاطبي: دفاع بها والحج فتح وساكن ... وقصر خصوصا غرفة ضم ذو ولا وأما قراءة يعقوب فقد أشار إليها ابن الجزري في الدّرة بقوله: ... ... دفاع حز ... ... ... وأما وجه أبي جعفر فلم يأت ابن الجزري على ذكره في الدّرة، ولكن عاد فاستدرك إيراده في الطيبة، انظر تقريب النشر، 97.

المسألة الخامسة:

المسألة الخامسة: قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 3/ 18]. قرأ الكسائي: (أنّ الدّين عند الله الإسلام) بفتح الهمزة. وقرأ الباقون: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ بكسر الهمزة (¬1). فتكون قراءة الكسائي بفتح الهمزة، على أن العبارة تصريح بنص شهادة الله، والملائكة، وأولي العلم بأن الدين عند الله الإسلام. وتكون قراءة الجمهور بكسر الهمزة على أنه كلام مستأنف، مصدّر بالتوكيد. وقد أطال الإمام المفسّر الطبري في ردّ قراءة الفتح فقال: كان بعض البصريين يتأول قوله شهد الله: قضى الله، ويرفع الملائكة بمعنى: والملائكة شهود وأولو العلم، وهكذا قرأت قرّاء أهل الإسلام بفتح الألف من أنه على ما ذكرت من إعمال شهد في (أنه) الأولى، وكسر الألف من (إن) الثانية وابتدائها؛ سوى أن بعض المتأخرين من أهل العربية كان يقرأ ذلك جميعا بفتح ألفيهما بمعنى: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وأن الدين عند الله الإسلام، فعطف بأن الدين على أنه الأولى ثم حذف واو العطف، وهي مراده في الكلام، واحتجّ في ذلك بأن ابن عباس قرأ ذلك: (شهد الله إنّه لا إله إلّا هو) الآية، ثم قال: أن الدّين عند الله الإسلام بكسر الأولى وفتح الثانية، بإعمال شهد فيها، وجعل (إن) الأولى اعتراضا في الكلام غير عامل فيها شهد (¬2). ¬

_ (¬1) سراج القاري لابن القاصح، 176. وعبارة الشاطبي: ... / ... / ... / .. كسره صح إن الدين بالفتح رفلا ولم يشر ابن الجزري إلى متابع للكسائي من العشرة. (¬2) جامع البيان للطبري، 3/ 139.

ثم اشتدّ الطبري في الإنكار على من قرأ بالفتح فقال: وزعموا أن ابن مسعود قرأ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ بفتح أنه، وكسر إن؛ من: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ على معنى إعمال الشهادة في أن الأولى، وأن الثانية مبتدأة، فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بالفتح جمع قراءة ابن عباس، وابن مسعود، فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك على ما وصفت جميع قرّاء أهل الإسلام، المتقدمين منهم والمتأخرين، بدعوى تأويل على ابن عباس، وابن مسعود، زعم أنهما قالاه، وقرآ به (¬1). ثم أنكر إسناد القراءة إلى ابن عباس، وابن مسعود، فقال: وغير معلوم ما ادّعى عليهما برواية صحيحة ولا سقيمة، وكفى شاهدا على خطأ قراءته خروجهما من قراءة أهل الإسلام (¬2). ثم جزم بوجوب القراءة بالكسر فقال: والصواب- إذا كان الأمر على ما وصفنا من قراءة ذلك- فتح الألف من (أنه) الأولى، وكسر الألف من (إن) الثانية (¬3). وإنما بسطنا القول عن شيخ المفسرين الإمام الطبري ليتبين حرصهم واشتغالهم بتحقيق القراءة الصحيحة، ولو في الجزئيات التي لا ينبني عليها خلاف ذو معنى. وقد سبق القول إن إنكار الإمام الطبري لقراءة متواترة؛ إنما منشؤه عدم ثبوت تواتر إسنادها عنده كما صرّح، فقد كان غالب نهج الطبري إذا أشار إلى ورود قراءتين ثبت لديه تواترها أن يقول: والقول عندي أن كلا القراءتين متواتر، والحكم بهما جميعا (¬4). ولو أن ابن مجاهد سبق الطبري (¬5)، وقدم ما اجتمع لديه من أسانيد قراءة الكسائي لجزم الطبري بالمتواتر، والتمس لوجوه التأويل كما صنع في مثيلات هذا المقام (¬6). ¬

_ (¬1) جامع البيان للطبري، 3/ 140. (¬2) المصدر نفسه، والصفحة نفسها. (¬3) المصدر نفسه، والصفحة نفسها. (¬4) انظر مثلا ما ذهب إليه من قبول قراءة: ولولا دفع الله الناس، ولولا دفاع الله الناس، إذ قال: والقول عندي إنهما قراءتان متواترتان قرأت بهما القرّاء، وجاءت بهما جماعة الأمة، وليس في القراءة بأحد الحرفين إحالة معنى الآخر. جامع البيان للطبري، 2/ 404. (¬5) توفي الطّبري عام 310 هـ، بينما توفي ابن مجاهد عام 324 هـ. (¬6) انظر صنيع الطبري في نظائر ذلك مما اختلف فيه القرّاء، وقد أحلنا عليه مرارا في نظائر ذلك.

وثمرة الخلاف:

وثمرة الخلاف: تتجلى في أن الوحي قد ورد من المولى سبحانه بأكثر من صيغة توكيد على أن الدين عند الله هو الإسلام. فقد جاءت قراءة الجمهور تفيد هذه الحقيقة بطريق ورود التوكيد بالحرف (إن) على أنه استئناف كلام. وجاءت قراءة الكسائي تضيف إلى هذه الحقيقة شهادة الله سبحانه، والملائكة، وأولي العلم. فليس ثمة تعارض بين القراءتين، ولكن الوجوه تتكامل في الدلالة على المعنى بوسائل التوكيد المتعددة.

المسألة السادسة:

المسألة السادسة: قوله تعالى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التّوبة: 9/ 40]. قرأ سائر القرّاء: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا على الاستئناف. وانفرد يعقوب بالقراءة بالفتح: (وكلمة الله هي العليا) على العطف (¬1). وضمّ القرطبي إلى يعقوب الأعمش في اختيار قراءة النّصب، ولكنه نقل عن الفرّاء استنكاره لذلك من جهة اللغة (¬2)؛ إذ لا تقول العرب: أعتق زيد غلام أبي زيد، بل تقول: أعتق زيد غلام أبيه. وتمام الفصاحة أن يقال: وكلمته هي العليا. ولكن التصريح في هذا المقام باسم الله أبلغ، وهو عادة القرآن العظيم فيما له مقام تشريف، أو موجب تنبيه؛ كما في قوله سبحانه: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها* وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزّلزلة: 99/ 1 - 2]، فكرر ذكر الفاعل مع أن في الضمير غنية، وكذلك قوله: حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها [الكهف: 18/ 77]، فكرر ذكر الأهل مع أن في إيراد الضمير غنية. ومثل ذلك ما أنشد لسيبويه: لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (¬3) وهذا الاحتجاج، وردّه من باب تحصيل الحاصل محمول على عدم ثبوت تواتر القراءة عند المنكرين، وإلا فإنه بعد ثبوت تواتر القراءة ليس للكلّ إلا التّسليم بجواز القراءة بها، وضبط قواعد العربية عليها، وليس العكس. ¬

_ (¬1) تقريب النشر لابن الجزري، 120. وعبارة الطيبة: ... / ... / ... / .. ظبي كلمة انصب بانيا ولم يأت الشاطبي على ذكر هذه القراءة لأنه اقتصر على السبع. (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 8/ 149. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 8/ 149.

وثمرة الخلاف:

وثمرة الخلاف: فيما أفادته الآية من معان، فقد فهمنا من قراءة النصب أن الله جعل كلمته عليّة ظاهرة، ثم عاد فقرر أن علوّ كلمته سبحانه قديم لم يطرأ بعد أن لم يكن، فالمسألة مسألة إبداء وليست مسألة ابتداء، فكلمة الله عالية أصلا، ولكن ظنّ بعض الناس خلاف ذلك فأظهر المولى سبحانه إرادته حين قدر نصرة النّبي صلّى الله عليه وسلّم على المشركين يوم الغار. هذا ما يمكن به التأليف بين القراءتين، ولكن ثمة معنى آخر في قراءة يعقوب المتواترة في غاية الأهمية لم أجد من نبّه إليه، وهو أن الإخبار من المولى سبحانه بجعل الشيء لا يعني حدوثه، وهي المسألة التي طارت بها المعتزلة قديما في الاحتجاج لقولهم إن القرآن مخلوق؛ حيث قالوا: كل مجعول فهو مخلوق، ووجهوا ذلك إلى قول الله عزّ وجلّ: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (¬1) [الزّخرف: 43/ 3]. وقوله: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشّورى: 42/ 52]، فأوهموا باستدلالهم حدوث القرآن، على أساس أنه مجعول. فماذا ستقول المعتزلة لهذه القراءة المتواترة، أن الله جعل كلمته هي العليا يوم الهجرة؟ فهل كانت غير ذلك من قبل؟ وهل طرأ عليها العلوّ طروّا بعد أن لم يكن؟ ... ¬

_ (¬1) انظر ما حرره القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي في كتابه طبقات المعتزلة، 157، بتحقيق السيد فؤاد السيد، ط الدار التونسية للنشر.

المسألة السابعة:

المسألة السابعة: قوله تعالى: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 12/ 64]. قرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً بالألف. وحجتهم قوله عزّ وجلّ حكاية عن إخوة يوسف: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يوسف: 12/ 63]، فقال يعقوب حين قالوا: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً، وأخرى وهي أن في حرف عبد الله- بن مسعود-: (فالله خير الحافظين) جمع حافظ. وقرأ الباقون: (فالله خير حفظا)، وحجتهم: قوله: وَنَحْفَظُ أَخانا [يوسف: 12/ 65]، فلما أضافوا إلى أنفسهم قال يعقوب: (فالله خير حفظا) من حفظكم الذي نسبتموه إلى أنفسكم. قال الفرّاء: (حفظا) تجعل ما بعد (خير) مصدرا، وتنصب على التفسير، وتضمر بعد (خير) اسم المخاطبين. فكأن تقديره: (فالله خيركم حفظا). وجرى مجرى قولك: (فلان أحسن وجها)، تريد: (أحسن الناس وجها) ثم تحذف القوم، فكذلك (خيركم حفظا)، ثم تحذف الكاف والميم. قال الزّجاج: (حفظا) منصوب على التمييز، و (حافظا) منصوب على الحال، ويجوز أن يكون (حافظا) على التمييز أيضا (¬1). وثمرة الخلاف: أن قراءة حمزة والكسائي أفادتنا حكما ضروريّا، وهو أن من أسماء الله الحسنى: الحافظ، ومثل هذا الاسم لا يكون إلا عن توقيف، قال اللّقاني: واختير أن اسماه توقيفية ... كذا الصفات فاحفظ السمعية (¬2) ¬

_ (¬1) حجة القراءات، 362. وانظر سراج القاري، 258. وعبارة الشاطبي: ... / ... يشاء نو ... ن دار وحفظا حافظا شاع عقّلا وانظر تقريب النشر 127، حيث جزم بضم خلف إليهم. (¬2) انظر جوهرة التوحيد للشيخ إبراهيم اللّقاني، وشروحها كثيرة، ورقم البيت (39).

وقد ورد التصريح في الكتاب العزيز باسمه تعالى الحفيظ في مواضع كثيرة: وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [سبأ: 34/ 21]. إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [هود: 11/ 57]. كما ورد اسمه سبحانه (الحافظ) بصيغة الجمع مرة واحدة في سورة الأنبياء في قوله سبحانه: وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ [الأنبياء: 21/ 82]. وحيث تواترت القراءة فقد وجب المصير إليها، ولا خلاف بين الأمة أن الحافظ اسم من أسماء الله الحسنى، تباركت أسماؤه وجلّت صفاته، وإن هذه القراءة إن لم تستقلّ بجواز إطلاق هذه التسمية فقد وكّدت ذلك. ولا نزاع فيما دلّت عليه قراءة الجمهور من أن المولى سبحانه خير حفظا، فهو مما أجمع عليه الموحدون.

المسألة الثامنة:

المسألة الثامنة: - قوله تعالى: ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [الكهف: 18/ 26]. قرأ ابن عامر: (ولا تشرك في حكمه أحدا) بالتاء والجزم على النهي. أي: لا تنسبن أحدا إلى علم الغيب. فالخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد غيره. ويقوي التاء ما بعده، وهو قوله: وَاتْلُ ما أُوحِيَ [الكهف: 18/ 27]. قال الفرّاء: (وهو وجه غير مدفوع) كما قال: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [القصص: 28/ 88]. وقرأ الباقون: وَلا يُشْرِكُ بالياء، وضم الكاف على الخبر. المعنى: ولا يشرك الله في حكمه أحدا. قال الزجاج: قد جرى ذكر علمه وقدرته، فأعلم جلّ وعزّ أنه لا يشرك في حكمه- مما يخبر به من الغيب- أحدا، كما قال جلّ وعزّ: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً [الجنّ: 72/ 26]. وكان السّدي يقول: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً أي لا يشاور في أمره وقضائه أحدا (¬1). وثمرة الخلاف: أن قراءة ابن عامر على سبيل الأمر، وقراءة الجمهور على سبيل الخبر، فكأنه سبحانه أخبر أن ماله من شريك، ثم نهى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمسلمين من بعده أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. وكلا المعنيين له نظائر كثيرة في القرآن الكريم، ولكن لا سبيل لدرك المعنيين في هذا المقام إلا من خلال القراءتين المتواترتين. ¬

_ (¬1) حجة القراءات 414. وانظر سراج القاري 278. وعبارة الشاطبي: ... / ... / ... وتشرك خطاب وهو بالجزم كملا ولم يأت ابن الجزري على ذكر خلاف الثلاثة في هذا الوجه، فتعيّن أنهم وافقوا الجمهور.

المسألة التاسعة:

المسألة التاسعة: قوله تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف: 18/ 51]. قرأ سائر العشرة إلا أبا جعفر: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً. وقرأ أبو جعفر: (وما كنت متّخذ المضلّين عضدا) (¬1). وظاهر أن الضمير بالضم للمتكلم يعود إلى المولى سبحانه وتعالى إذ لم يتّخذ سبحانه عضدا من المضلّين، وفي قراءة أبي جعفر، فإن الضمير بالفتح للمخاطب، وهو النّبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد أورد الألوسي في روح المعاني أن الحسن وشيبة قرآ بمثل ما قرأ يعقوب (¬2)، والمعنى أنه لا يصح لك الاعتضاد بهم إذ مرادهم تنضر الناس من الدخول في الإسلام، وأشار إلى أن ذلك نزل حين طلب المشركون من النّبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخصهم بمجلسه، ويطرد عنهم فقراء المسلمين (¬3). وثمرة الخلاف في هذا الباب جليلة وعظيمة، فقد دلّت قراءة الجمهور أن الله لا يتّخذ عضدا من المضلّين، وهذا متّفق عليه بين سائر أهل الملة، ولكن أضافت قراءة أبي جعفر معنى آخر جليلا، وهو أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يتّخذ عضدا من المضلّين، وهو أمر تكويني وتكليفي، ولا يجوز أن يقال بأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم اتّخذ أحدا من المضلّين عضدا له وعونا، بعد أن دلّت لهذا القراءة المتواترة، وقد بيّنت لك جزم ابن الجزري بتواترها (¬4). ومن هذه المقدمة يظهر لنا أن السؤال الذي يوجه هنا لعامة الشيعة كيف يمكن أن يكون ¬

_ (¬1) تقريب النّشر لابن الجزرى 137. وعبارة طيبة النّشر: ... ... ... أشهدت أشهدنا، وكنت التاء ضم سواه ... ... ... ولم يأت الشاطبي على ذكر هذه القراءة لأنه اقتصر على السبع. (¬2) روح المعاني للآلوسي 15/ 296. (¬3) المصدر نفسه. (¬4) انظر هامش الصفحة السابقة.

رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد عهد إلى أبي بكر وعمر وعثمان بجليل الأعمال، وأخطر المسئوليات مما لا ينكره القوم، ثم هم بعد ذلك من المضلّين؟! أليس ذلك طعنا في أمانة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، واتّهاما له بالإعراض عن أمر ربّه بعد أن نهاه عن اتّخاذ المضلّين عضدا وعونا؟! وهكذا فإن اتّهام كبار الصحابة بالفسق والخيانة ما هو في الحقيقة إلا اتّهام مبطن لمقام النّبي صلّى الله عليه وسلّم؛ الذي نهاه الله عزّ وجلّ أن يتّخذ أعوانا من المضلّين. ومع أني لم أعثر على استدلال بهذه القراءة لأحد من المفسّرين، ولكن القراءة كما ترى من أظهر الأدلة على عدالة الصحابة، واستقامتهم، وتزكيتهم، إذ لا ينازع الشيعة في أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم أصهر إلى الشيخين، ودفع ابنتيه إلى عثمان، وعهد إلى الصّدّيق بمعاضدته في الهجرة، واستشار عمر في أمر الأسرى وأمور أخرى، وعهد إلى عثمان بمفاوضة قريش يوم الحديبية، فكيف يسند إليهم هذه الأعمال الجليلة، وهي من أبرز أشكال المعاضدة والمناصرة، ثم يقولون بعد ذلك: إن هؤلاء الصحابة كانوا من المضلّين! وأين يمضون بمذهبهم في وجه هذه الآية المتواترة: (وما كنت متخذ المضلّين عضدا)، والحق أن عدالة الصحابة من المسائل التي تضافرت عليها الأدلة من القرآن والسّنة الصحيحة، وحظيت بإجماع السّلف من أهل السّنة والجماعة، وقد لخّص الإمام أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي مذهب الأمة الإسلامية في عدالة الصحابة ومبررات هذا المذهب بقوله: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعلم أنه زنديق، لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم عندنا حقّ، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسّنن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسّنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة» (¬1). ¬

_ (¬1) العواصم من القواصم لابن العربي المالكي، ط المكتبة العلمية بلبنان 34. ويجب الإشارة هنا إلى أنّ ما ذهب إليه أبو زرعة من الجزم بزندقة من يطعن في الصحابة الكرام ليس محل اتّفاق بإطلاق، وإلا للزم من ذلك زندقة الصحابة أنفسهم، إذ إنه استفاض طعن علي في معاوية، وطلحة والزبير، وطعن سعد بن عبادة في خيرة المهاجرين، ومثل ذلك في كتب السّير كثير، وليس هذا محل إحصائه. وإنما مراد أبي زرعة رحمه الله تجريح من طعن في صدقهم في الرواية عن المعصوم صلّى الله عليه وسلّم، فذلك لم ينقل عن أحد من السّلف الصالح، وعلى الرغم مما وقع بين الصحابة من حروب؛ غير أنه لم ينقل عن أحد منهم اتّهام آخر في كذب بالرواية عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم.

المسألة العاشرة:

المسألة العاشرة: قوله تعالى: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [الكهف: 18/ 44]. قرأ حمزة والكسائي: (هنالك الولاية) بكسر الواو؛ أي: السلطان والقدرة لله. وقرأ الباقون: هُنالِكَ الْوَلايَةُ بالفتح أي النّصرة لله. قال الفرّاء: من فتح الواو يقول: النّصرة. يقال: (هم أهل ولاية عليك). أي: متناصرون عليك. وكان تأويل الكلام: هنالك النّصرة لله عزّ وجلّ ينصر أولياءه، ويعزّهم، ويكرمهم. وهما مصدران، فالكسر مصدر الوالي. تقول: وليت الشيء ولاية، وهو بين الولاية، والمفتوح مصدر (للولي) تقول: هذا ولي بين الولاية (¬1). وثمرة الخلاف: أن الآية تتضمن اثنين من الأسماء الحسنى لله عزّ وجلّ، وهما الولي والوالي، وقد وردت نظائر ذلك في القرآن الكريم: ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [الكهف: 18/ 26]. ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ [الرّعد: 13/ 11]. ¬

_ (¬1) حجة القراءات 418. ولم يأت ابن القاصح في السراج على ذلك رغم اشتهاره عن القراء مكتفيا بإحالة سابقة، وقد أورد الصفاقسي في غيث النفع في القراءات السبع ذلك بقوله: (الولاية) قرأ الأخوان بكسر الواو، والباقون بالفتح. انظر غيث النفع في القراءات السبع، ط البابي الحلبي على هامش السراج 279، وكذلك فإنه لم يرد ذكر ذلك في الشاطبية لابن فيّرة الشاطبي، ولا في طيبة النشر لابن الجزري، ولم يوردها كذلك القاضي في الوافي في شرح الشاطبية، فاقتصرنا على إيرادها من حجة القراءات، وغيث النّفع.

المسألة الحادية عشرة:

المسألة الحادية عشرة: قوله تعالى: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا [مريم: 19/ 19]. قرأ قالون بخلف عنه، وورش، وأبو عمرو، ويعقوب: (ليهب لك غلاما زكيّا) بالياء، وقرأ الباقون: لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا بالهمزة (¬1). وقد أخبر الآلوسي أن الزهري، وابن مناذر، واليزيدي، والحسن، وشيبة قرءوها بالياء أيضا (¬2). والحاصل أنهما قراءتان متواترتان، جاءت الأولى بالتصريح بالواهب سبحانه بصيغة الغيبة، كما جاءت الثانية بصيغة المتكلم وهو هنا الملك، على أساس أنه يمتثل أمر ربّه، بل وردت في بعض مصاحف السّلف تفسيرا: أمرني أن أهب لك غلاما (¬3). ولا شك أن تواتر القراءة بالياء يستلزم أن تكون قد رسمت في بعض المصاحف العثمانية كذلك، ولكنني لم أجد أحدا أشار إلى هذا المعنى. ولا مندوحة من ثبوت القراءة المتواترة بالوجهين، وما نقل عن بعضهم من أن الأصل (لأهب) ولكن أبدلت الهمزة ياء تعسف لا مبرر له؛ إذ ليست كذلك مذاهب الأربعة (¬4) في الهمزات. ¬

_ (¬1) تقريب النّشر لابن الجزري 139. وعبارة طيبة النشر: همز أهب باليا به خلف جلا ... حما ... ... ... ولم يأت الشاطبي على ذكر هذه القراءة لاقتصاره على السبع. (¬2) الألوسي، روح المعاني 16/ 77. (¬3) الكشاف للزمخشري 2/ 505، وبحر العلوم للسمرقندي 6/ 180، وانظر الآلوسي 16/ 77. (¬4) أي الأربعة الذين قرءوا بالياء وهم قالون وورش وأبو عمرو ويعقوب.

وثمرة الخلاف:

وثمرة الخلاف: أن القراءة الأولى صرّحت بأن الواهب هو الله سبحانه وتعالى، وهذا محلّ اتفاق بين أهل التوحيد، لكن جاءت القراءة الثانية بالإذن بنسبة الأفعال إلى غير الله سبحانه وتعالى مجازا، وإن تكن سائر الأفعال إنما تعود في الحقيقة لله عزّ وجلّ دون سواه. والحق أن هذا المعنى ليس مما انفردت به هذه الآية بل له نظائر كثيرة في القرآن منها قوله سبحانه: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمّد: 47/ 7]، وقوله: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصّف: 61/ 5]، مع أن الهداية والإضلال على سبيل الحقيقة بيد الله وحده، ولكن تبارك الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

المسألة الثانية عشرة:

المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج: 22/ 38]، قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (إنّ الله يدفع عن الذين آمنوا) بغير ألف. دفع من (يدفع دفعا). وحجتهما: أن الله عزّ وجلّ لا يدافعه شيء، وهو يدفع عن الناس، فالفعل له وحده لا لغيره. وقرأ الباقون: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ بالألف. وحجتهم: أن (يدافع) عن مرات متواليات؛ لأن قول القائل (دافعت عن زيد) يجوز أن يراد به: دفعت عنه مرة بعد مرة، وليس ينحى به نحو (قاتلت زيدا)، بل ينحى به نحو قوله: قاتَلَهُمُ اللَّهُ، والفعل له لا لغيره، ونحو هذا: (طارقت النعل وسافرت) (¬1). وثمرة الخلاف: أنه يجوز وصف الله عزّ وجلّ بأنه يدافع عن المؤمنين استنادا إلى قراءة الجمهور، دون أن يستلزم ذلك إثبات الفعل لغيره سبحانه وتعالى؛ إذ هو وحده له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين. قال الشوكاني في فتح القدير: قوله تعالى: يُدافِعُ صيغة المفاعلة هنا مجردة عن معناها الأصلي، وهو وقوع الفعل من الجانبين كما تدلّ عليه القراءة الأخرى- قراءة الكوفيين والشامي والمدني- وقد ترد هذه الصيغة ولا يراد بها معناها الأصلي كثيرا مثل: عاقبت اللص ونحو ذلك (¬2). ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 478. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي 297. وعبارة الشاطبي ويدفع حق بين فتحيه ساكن ... يدافع والمضموم في آذن اعتلا (¬2) فتح القدير للشوكاني 456.

المسألة الثالثة عشرة:

المسألة الثالثة عشرة: قوله تعالى: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الجن: 72/ 28]. قرأ رويس: (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم). وقرأ سائر الباقين: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ (¬1). فالفعل عند رويس مبني للمجهول، وقد قرأ بذلك من السلف الزهري، وابن أبي عبلة (¬2)، والمراد أن الله سبحانه يسلك الرسل مسلكهم ليعلم من أراد الله له أن يعلم أن الرّسل قد أبلغوا رسالات ربّهم فلم يكتموها. وأما قراءة الباقين فهي على المبني للمعلوم، وهو أقرب مذكور- أي الرسول- فيعلم أن الرّسل من قبله قد أدّوا الرسالة كما أراد الله عزّ وجلّ، وأن جبريل قد أبلغه رسالة ربّه، وأن الله يحفظ الوحي ليؤديه الأنبياء. ولم أجد لدى المفسرين من رفع الضمير هنا إلى الله سبحانه إلا عزوا عزاه القرطبي إلى الزجاج (¬3)؛ قال: أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته، كقوله تعالى: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ، والمعنى هنا: ليعلم الله ذلك علم مشاهدة كما علمه غيبا. ويمكن أن يقال: إن الله سبحانه يكشف بعض الغيب لرسله ليعلم صدقهم، وليعلم الله امتثالهم. ¬

_ (¬1) تقريب النّشر لابن الجزري 184. وعبارة طيبة النّشر: ... ... ... ... ... ليعلم اضمما غنا ... ... ... ... ... ... (¬2) روح المعاني للآلوسي 29/ 100. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 19/ 30، وانظر التفسير المنير للدكتور وهبة الزحيلي 29/ 186.

وثمرة الخلاف:

وثمرة الخلاف: تظهر هنا في التأليف بين وجه الجمهور على ما تأوّله الزّجاج ووجه رويس. فقد فهم من وجه الجمهور على ما تأوّله الزجاج جواز تعلّق بعض علم الله سبحانه بحصول الأفعال، فيكون علمه سبحانه من قبل وقوع الحدث علم غيب، ومن بعده علم مشاهدة، ولهذا الوجه أدلة من التنزيل قدم الزجاج منها قوله سبحانه: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 3/ 143]. ويفهم من وجه البناء للمجهول- وهو ما اختاره رويس- أن المراد أن يعلم الله من أراد بأن الرّسل بلّغوا الرسالات، وأن الله حفظ الوحي، فلم يضع منه شيء. والله أعلم.

المبحث الثاني النبوات

المبحث الثاني النّبوات المسألة الأولى: قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها [البقرة: 2/ 106]. قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (أو ننسأها) (¬1). وقرأ الباقون: أَوْ نُنْسِها. وتأوّل ابن كثير، وأبو عمرو الآية على أنها من التأخير، بحسب قراءتهما، ونقل أبو زرعة عنهما تأويلهما الآية بعبارة: ما ننسخ من آية، فنبدل حكمها، أو نؤخر تبديل حكمها؛ فلا نبطله؛ نأت بخير منها. ويكون المعنى ما نرفع من آية، أو نؤخّرها فلا نرفعها (¬2). ومنه قولهم: نسأت الإبل عن الحوض إذا أخّرتها، ومنه قولهم: أنسأ الله أجلك (¬3). ومنه الحديث: «من أحبّ أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» (¬4). وأما المعنى على قراءة الجمهور؛ فإنه من النّسيان، وهو أن الله عزّ وجلّ إذا شاء أنسى النّبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا من القرآن، وهو ما يدلّ عليه صريح قول الله عزّ وجلّ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: 87/ 6 - 7]. واختار هذا الرأي أيضا أبو عبيد، القاسم بن سلام، ولكنه أطلق، ولم يخص به النّبي صلّى الله عليه وسلّم ¬

_ (¬1) سراج القاري لابن القاصح 155. وعبارة الشاطبي: وننسخ به ضم مكسر كفى ونن ... سها مثله من غير همز ذكت إلى ولم يورد ابن الجزري في الدّرة وجها للثلاثة فدلّ على أنهم قرءوا قراءة الجمهور. (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة 109. (¬3) انظر لسان العرب لابن منظور مادة (نسى). (¬4) الحديث صحيح أخرجه البخاري في كتاب الأدب، ومسلم في كتاب البر برقم (2555)، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها.

وثمرة الخلاف:

وحده، فقال: «إن الله إذا شاء أنسى من القرآن من يشاء أن ينسيه» (¬1)، وهو كما ترى غير مخصوص بما ضبطه به ابن قتيبة بأنه أراد: (أو ننسكها) من النسيان (¬2). وقد اختار الجصاص في تفسير أحكام القرآن أن قراءة ننسأها إنما هي بأن يؤخرها فلا ينزلها سبحانه، وينزل بدلا منها ما يقوم مقامها في المصلحة، أو يكون أصلح للعباد منها، ويحتمل أن يؤخر إنزالها إلى وقت يأتي، فيأتي بدلا منها لو أنزلها في الوقت المتقدم، فيقوم مقامها في المصلحة (¬3). فيكون اختيار الرازي الجصاص هنا أن الآية دلالة على إنساء التنزيل، بينما اختار أبو زرعة أنها دلالة على إنساء النسخ. ويتحصل هنا ثلاثة أقوال: 1 - ننسها: من النسيان. 2 - ننسأها: من الإنساء، وهو التأخير؛ بمعنى تأخير النسخ. 3 - ننسأها: من الإنساء بمعنى تأخير التّنزيل. وكما ترى فإن الخلاف في تأويل الإنساء في قراءة ابن كثير، وأبي عمرو أنتج قولا ثالثا، والأقوال الثلاثة متكاملة ينهض بعضها ببعض، ولا يتعذر على اللبيب الإفادة من الأوجه الثلاثة مجتمعة لتكامل مقاصدها. وثمرة الخلاف: أن التنزيل العزيز يطرأ عليه إنساء ونسيان، فقد يؤخر الله نسخ حكم فيبقى متلوّا معمولا به، وهو النسيء؛ أي التأجيل، حتى يأتي ما ينسخه. وقد ينساه النّبي صلّى الله عليه وسلّم بإذن الله وأمره، قال سبحانه: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: 87/ 6 - 7]، فيرفع من التنزيل، ثم يكون من الله سبحانه ما ينسخه من وحي يتنزل. وهكذا فإن ورود قراءتين اثنتين أفاد معنيين اثنيين، لم يكن لك أن تدركهما بقراءة واحدة، وكل واحدة من القراءتين تضيف صفة جديدة للتنزيل الإلهي على الأنبياء الكرام. ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة 109. (¬2) انظر القرطبي 2/ 61. (¬3) تفسير (أحكام القرآن) للرازي الجصاص الحنفي، المتوفى سنة 320 هـ، ط دار الكتاب العربي- بيروت 1/ 59.

وقد اجتمع المعنيان جميعا في حديث واحد، وهو ما أخرجه ابن جرير الطبري عن قتادة، وعزاه السيوطي إلى أبي داود في ناسخه عن ابن عباس قال: «كانت الآية تنسخ الآية، وكان نبي الله يقرأ الآية والسورة، وما شاء الله من السورة، ثم ترفع فينسها الله نبيّه، فقال الله يقصّ على نبيّه: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يقول: فيها تخفيف، فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي» (¬1). وللعلامة الآلوسي اختيار ينتهي به إلى اتّحاد القراءتين في المعنى؛ يقول: «وقرئ: ننسأها، وأصله من نسأ بمعنى آخر، والمعنى نؤخرها في اللوح المحفوظ، فلا ننزلها، أو نبعدها من الذهن بحيث لا يتذكر معناها، ولا لفظها، وهو معنى ننسها، فتتّحد القراءتان» (¬2). وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن النّسخ جائز عقلا، وواقع سمعا، وقد أنكرته على النّبي صلّى الله عليه وسلّم طائفة من اليهود، فنزلت آية النّسخ في الرّدّ عليهم (¬3). وقد اتّفق السّلف على وقوعه لم ينكر ذلك أحد، لكن نقل عن أبي مسلم الأصفهاني (¬4) إنكاره لوقوع النّسخ في القرآن، واحتجّ لذلك بأدلة ثلاثة: الأول: إن الله عزّ وجلّ قال: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصّلت: 41/ 42]. قال: فلو جاز النّسخ لجاز أن يأتيه الباطل. الثاني: إن النّسخ الذي تشير إليه الآية هو نسخ الإسلام للشرائع السابقة، لا نسخ القرآن بعضه لبعض. الثالث: أن الآية لا تزيد دلالتها على أن النّسخ لو وقع لأدّى إلى خير منه، ولكنه لم يقع (¬5). ¬

_ (¬1) انظر جامع البيان للطبري 1/ 381، والدّر المنثور للسيوطي 1/ 105. (¬2) تفسير روح البيان للآلوسي 1/ 352. (¬3) انظر أسباب النزول للواحدي النيسابوري 84. (¬4) أبو مسلم الأصفهاني، هو محمد بن بحر الأصفهاني، كاتب، متكلم، مفسّر، محدّث، نحوي، شاعر، من آثاره: جامع التأويل لمحكم التنزيل في التفسير على مذهب المعتزلة في (14) مجلدا، الناسخ والمنسوخ، وكتاب في النحو. معجم المؤلفين 9/ 97. (¬5) العمدة في بسط آراء أبي مسلم والإجابة عليها من اختيار الرازي الجصاص في تفسيره، 1/ 68.

والحق أن اعتراض أبي مسلم، ومثله بعض المعاصرين اليوم، منشؤه عدم فهم النّسخ على وجه الحقيقة. فالنّسخ في الواقع ليس تغيرا في حال الخالق؛ بل هو تغيير في حال المخلوق، فهي أمور يبديها لا أمور يبتديها، أمور يظهرها لا أمور تظهر له، سبحانه وتعالى عما يقولون علوّا كبيرا. والنّسخ لا يتعلّق بالعقائد والأخبار، وإنما يتعلّق بالإنشاء (¬1)، وهذا الباب متّصل بأحوال الخلق؛ إذ يصلحهم، ويصلح لهم في حال ما لا يصلحهم، ولا يصلح لهم في حال آخر. ألا ترى أن الطبيب يأمرك بالحمية اليوم وينهاك عنها غدا، ويصف لك الدواء اليوم ويأمرك باجتنابه غدا، والطبيب هو الطبيب، لم يتغير في حاله، وفي عمله شيء، وإنما تغيّر المريض. وأظهر الدلالة على وقوع النّسخ هذه الآية الصريحة التي لا يقرؤها أحد بحيدة إلا يفهم منها ما فهمته الأمة، وكذلك قول الله عزّ وجلّ: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ [النّحل: 16/ 101]. وأما وقوعه بالفعل فهو أكثر من أن يستدلّ له بمثال، ومع ذلك نعد من الأمثلة قول الله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [البقرة: 2/ 142]. فهذا دليل ظاهر أنهم أمروا باستقبال قبلة، ثم نسخ هذا الأمر، وأمروا باستقبال سواها. وقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال: 8/ 65]. وهو دليل ظاهر أنهم أمروا بأكثر من ذلك، ثم خفّف الله عنهم بنسخ الأمر السابق. قال الإمام المفسر القرطبي: «وقد أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام من المتأخرين جواز النّسخ، وهم محجوجون بإجماع السّلف السابق على وقوعه في الشريعة». ¬

_ (¬1) قاعدة مقررة في أصول الفقه. انظر أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 2/ 954.

المسألة الثانية:

وقال: «معرفة هذا الباب أكيدة، وفائدته عظيمة، لا تستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء» (¬1). ثم إن النّسخ صورة واضحة لمرونة هذا الدين، ومسايرته لشتى أحوال الناس في انتقالهم وترقيهم، وهو بحق مفخرة من مفاخر التشريع الإسلامي، ودليل أكيد على صلاحيته لكل زمان ومكان. ولدى ثبوت تواتر القراءتين؛ فإنه يلزم الاعتقاد أن القرآن العظيم يطرأ عليه نسيان وإنساء- تأخير- وذلك كله بأمر الله وحكمته. ويلزم الاعتقاد أن الناسخ والمنسوخ جميعا قديم في علم الله عزّ وجلّ، وإنما هي مسائل أظهرها المولى سبحانه في آجالها، ولا يقال: إنها بدت له بعد أن لم تكن بادية، بل هي في علمه سبحانه قديمة، وفي اطّلاع الناس عليها طارئة عليهم. ويلزم الاعتقاد كذلك أن ما يطرأ من النسيان على النّبي صلّى الله عليه وسلّم من هذا الباب ليس مردّه إلى خلل في التّبليغ، بل هو محض إرادة إلهية قديمة، قضاها الله سبحانه ووقّتها في آجالها. المسألة الثانية: قوله تعالى: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ [البقرة: 2/ 119]. قرأ نافع، ويعقوب: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم) (¬2)، وقرأ الباقون: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ. فهي في القراءة الأولى ناهية جازمة، وفي الثانية نافية، وقد احتجّ أبو زرعة للفريقين، ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/ 230. (¬2) سراج القاري لابن القاصح 156. وعبارة الشاطبية التي تبين اختيار نافع: وتسأل ضموا الفاء واللام حركوا ... برفع خلودا وهو من بعد نفي لا وعبارة ابن الجزري في إضافة يعقوب: ... ... ... ... وتسئل حوى، والضم والرفع أصلا

وثمرة الخلاف:

فقال: حجة ابن نافع ما روي في التفسير أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ليت شعري، ما فعل أبواي؟ فنزلت: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم)، فنهاه الله عن المسألة (¬1). وهذا الحديث الذي احتجّ به أبو زرعة رحمه الله لا تقوم به حجة، ولم أعثر على وجه يقويه، وقد قال الحافظ السيوطي عند إيراده لهذا الحديث في الدّر: قلت هذا مرسل ضعيف الإسناد، ثم نقل أن عبد بن حميد، وابن جرير، والمنذر أوردوه عن محمد بن كعب القرظي. ثم أورد السيوطي رواية أخرى أخرجها ابن جرير عن داود بن عاصم أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال ذات يوم: أين أبواي؟ .. فنزلت. ثم قال السيوطي: والآخر- أي الحديث الآخر- معضل الإسناد، ضعيف لا تقوم به ولا بالذي قبله حجة (¬2). ولكن إسقاط هذه الحجة لا ينفي أن قراءة نافع هذه متواترة، ولكن ينبغي التماس سبب آخر لورودها لإقامته مقام الاحتجاج. وأما جمهور القرّاء فقد قرءوها ب (لا) نافية، وثمة قراءة أخرى لابن مسعود غير متواترة، تظاهر هذا المعنى وهي: (ولن تسأل عن أصحاب الجحيم) (¬3). وحاصل توجيه قراءة الجمهور أنها على الاستئناف كأنه قال: وليست تسأل عن أصحاب الجحيم، أي بعد بلاغهم ما أوحي إليك، أو على الحال كأنه قال: وأرسلناك غير سائل عن أصحاب الجحيم (¬4). وثمرة الخلاف: أن إحدى القراءتين أفادت نهيا عن السؤال عن المشركين، ومقتضى النهي هنا ترك التّأسّف عليهم بعد أن حققت عليهم كلمة الله، وذلك أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان كثير التّأسف على إعراض المشركين. ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة 111. (¬2) انظر الدّر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 1/ 111. (¬3) معجم القراءات القرآنية 1/ 108، وقد أوردها معزوّة إلى ابن مسعود. وانظر الكشاف للزمخشري 1/ 91، والتفسير الكبير للفخر الرازي 1/ 471. (¬4) حجة القراءات لأبي زرعة 111.

حتى قال له الله عزّ وجلّ: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف: 18/ 6]. وأفادت القراءة الثانية معنى آخر وهو أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا يسأل عن أصحاب الجحيم يوم القيامة، ولا يحاسب عنهم بعد أن بلّغهم رسالة الله، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن الناس مجزيون بما قدموا، وما على الرسول إلا البلاغ المبين. وكما ترى فليس بين القراءات تنافر وتضادّ، بل كل قراءة أفادت معنى جديدا، وتعدّد القراءات ينزل منزلة تعدّد الآيات. وإذا كانت هذه الآية لم يثبت لها سبب نزول تنهض به حجة (¬1) يتصل بوالدي النّبي صلّى الله عليه وسلّم؛ فإنه ينبغي التأكيد على صرفها عن ذلك، تأدّبا مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، واستدلالا بقول الله سبحانه: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 17/ 15]، ولا خلاف أن من لم يدرك بعثة النّبي صلّى الله عليه وسلّم فهو من أهل الفترة، قال تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [المائدة: 5/ 19]. وقال تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السّجدة: 32/ 3]. وأهل الفترة ناجون على الأصح، استدلالا بقول الله سبحانه: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، وهو مذهب الأشاعرة خلافا لما ذهبت إليه الماتريدية من وجوب معرفة الله بالعقل، وما قالته المعتزلة من أن الأحكام كلها تثبت بالعقل (¬2)، وإن كنا نعتذر للماتريدية بأن مؤدّى قولهم، أنه لو لم يرد به الشرع لأدركه العقل استقلالا لوضوحه، وليس كما قالت المعتزلة مستندة إلى التحسين العقلي. قال الباجوري: والمذهب الحق أن أهل الفترة؛ وهم من كان في أزمنة الرّسل أو في زمن الرسول الذي لم يرسل إليهم ناجون، وإن بدّلوا وغيّروا أو عبدوا الأصنام (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الدّر المنثور في التفسير بالمأثور 1/ 111. (¬2) شرح الباجوري على جوهرة التوحيد 47، وفيه قال الباجوري: إن المعرفة تثبت بالشرع لا بالعقل، وهذا مذهب الأشاعرة، وجمع من غيرهم، فمعرفة الله وجبت عندهم بالشرع، وكذلك سائر الأحكام؛ إذ لا حكم قبل الشّرع أصليا ولا فرعيّا. (¬3) المصدر نفسه 44.

ولكن يرد على هذا المذهب ما ورد في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار، قال: فلما قفى الرّجل دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار (¬1). وقد أجاب العلماء عن هذا الحديث إجابات كثيرة؛ منها أنه حديث آحاد فلا يعارض القطعي من القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 17/ 15]. ومنها أن في الحديث اضطرابا، إذ لم تتفق الرواة في حديث مسلم على قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن أبي وأباك في النار»، ففي رواية أنه قال صلّى الله عليه وسلّم بدل ذلك: «إذا مررت بقبر كافر فبشّره بالنار». ومثله ما رواه البزار، والطبراني، والبيهقي من حديث سعد بن أبي وقاص أن أعرابيّا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أين أبي؟ فقال: في النار. قال: فأين أبوك؟ قال: حيثما مررت بقبر كافر فبشّره بالنار (¬2). وقد انتصر الزين الحلبي لهذا المذهب مستدلّا بما أورده الخطيب عن عائشة والقسطلاني في المواهب اللدنية أن الله أحيا والدي النّبي صلّى الله عليه وسلّم حتى آمنا به (¬3). ولكن هذا الاستدلال لا ينهض حجة في هذا المقام إذا الحديث في هذا المعنى باطل، وقال الحافظ ابن كثير إنه حديث منكر جدّا، وسنده مجهول، وقد جزم ابن دحية بأنه موضوع (¬4). ¬

_ (¬1) صحيح مسلم بشرح البغا 477، حديث رقم (1600)، كتاب فضائل النّبي صلّى الله عليه وسلّم، باب 52، ولكن لم أجد أثرا لهذا الحديث في صحيح مسلم بطبعة دار المعرفة، كتاب فضائل النّبي صلّى الله عليه وسلّم على أن الأحاديث قبله وبعده كاملة غير منقوصة، ولم يسقط إلا هذا الحديث، والله أعلم. (¬2) شرح الباجوري على جوهرة التوحيد 47. (¬3) السيرة الحلبية لزين الدين الحلبي 1/ 91. وأورد فيه نظما لبعض الفضلاء: حبا الله النّبي مزيد فضل ... وإحسانا .. وكان به لطيفا فأحيا أمّه وكذا أباه ... لإيمان به فضلا منيفا فسلّم .. فالقديم بذا قدير ... وإن كان الحديث به ضعيفا (¬4) تفسير ابن كثير 1/ 120.

المسألة الثالثة:

على أن نقض الاستدلال بهذا الوجه لا يضعف ما اختاره الأشاعرة من نجاة أهل الفترة لعموم الأدلة التي قدمناها. المسألة الثالثة: قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمران: 3/ 81]. قرأ حمزة: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم) (¬1) بكسر اللام. جعل (ما) بمعنى الذي، والمعنى: (وإذ أخذ الله ميثاق النّبيين للذي آتيتكم) أي لهذا، فهذه اللام لام الإضافة، واللام متعلقة ب (أخذ ميثاق)، والمعنى: (أخذ الميثاق لإتيانه الكتاب، والحكمة أخذ الميثاق). قال الفرّاء: «من كسر اللام يريد: أخذ الميثاق للذي آتاهم من الحكمة». قال الزجاج: «ويكون الكلام يؤول إلى الجزاء كما تقول: لما جئتني أكرمتك»، فيكون المراد أن الله سبحانه أخذ منهم الميثاق أن يحفظوا ما آتاهم من كتاب وحكمة. وقرأ الباقون: لَما آتَيْتُكُمْ بفتح اللام. كان الكسائي يقول: (معناه مهما آتيتكم) على تأويل الجزاء، قال: «وجوابه فَمَنْ تَوَلَّى وهذه اللام تدخل في (ما) وفي (من) على وجه الجزاء». قال الزجاج: (ما) هاهنا على ضربين: يصلح أن تكون للشرط والجزاء، وهو أجود الوجهين؛ لأن الشرط يوجب أن كل ما وقع من أمر الرسل فهذه طريقته. واللام دخلت في (ما) كما تدخل في (إن) الجزاء إذا كان في جوابها القسم. قال الله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: 17/ 88]، وقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء: 17/ 86]، فاللام في (إن) دخلت مؤكدة موطئة للام القسم، ولام القسم ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 168، وانظر سراج القاري لابن القاصح، ط البابي الحلبي 182. ونص الشّاطبي: ورفع ولا يأمركم روحه سما ... وبالتاء آتينا مع الضمّ خولا ولم يأت ابن الجزري في الدّرة على ذكر خلاف للثلاثة، فدلّ على أنهم قرءوا وفق قراءة الجمهور.

وثمرة الخلاف:

هي اللام التي لليمين لأن قولك: (والله لئن جئتني لأكرمنّك) إنما حلفك على فعلك، إلا أن الشرط معلّق به، فلذلك دخلت اللام على الشرط، فإذا كانت (ما) بمعنى الجزاء؛ موضعها نصب بقوله: آتَيْتُكُمْ، وتقدير الكلام (أي شيء آتيتكم) فتكون اللام الأولى على (ما) دخلت للتوكيد أي توكيد الجزاء، واللام الثانية في قوله: لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ [آل عمران: 3/ 81]، لام القسم، قال: ويجوز أن تكون (ما) في معنى (الذي) ويكون موضعها الرفع، المعنى: أخذ الله ميثاق أي استخلصهم للذي آتيتكم- المعنى آتيتكموه- لتؤمنن به وحذف الهاء من قوله: (آتيتكموه) لطول الاسم (¬1). وقال الزمخشري في الكشاف: اللام في لَما آتَيْتُكُمْ لام التوطئة، لأن أخذ الميثاق في معنى الاستخلاف، وفي لَتُؤْمِنُنَّ لام جواب القسم، وما يحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، ولَتُؤْمِنُنَّ سدّ مسدّ جواب القسم، والشرط جميعا. وقرأ حمزة: (لما آتيتكم) بكسر اللام، ومعناه لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، على أن (ما) مصدرية، والفعلان معها، أي آتيتكم، وجاءكم في معنى المصدرين (¬2). وثمرة الخلاف: أن كلّا من الآيتين أفادت معنى جديدا، فأفادت الأولى أن الميثاق إنما أخذه الله عزّ وجلّ على تكليفهم بتبليغ ما أوتوا من الكتاب والحكمة. وأفادت قراءة الجمهور أن الميثاق أكرم به النّبيون بما رزقوا من الكتاب والحكمة، فبينما فهم من الأولى أن الحكمة والكتاب هما موضوع الميثاق الذي واثقهم الله عليه، فهم من الثانية أن الله جعلهم من أهل الميثاق ببركة ما وفّوا به من أمر الكتاب والحكمة (¬3)، فليس بين القراءتين تضادّ، والمؤمن يؤمن بالكتاب كله. ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة 168. (¬2) تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري محمود بن عمر، ط (انتشارات آفتاب) - طهران 1/ 441. (¬3) انظر الجامع لأحكام القرآن، ط دار الكتاب العربي 2/ 125. وانظر الكشاف للزمخشري، ط (انتشارات آفتاب) طهران 1/ 441.

المسألة الرابعة:

ويتأكد هنا أن دلالة قراءة الجمهور على أن الميثاق نعمة نالها الأنبياء ببركة وفائهم بعهد الله، لا ينبغي أن يقودنا إلى تصوّر أن النّبوّات تتأتى عن طريق الكسب والسعي، فهذا خلاف المقرر في عقيدة الحق: ولم تكن نبوّة مكتسبة ... ولو رقى في الخير أعلى عقبة بل ذاك فضل الله يؤتيه لمن ... يشاء جلّ الله واهب المنن (¬1) بل هو إعداد الله سبحانه لمن سبق أن اختارهم بعلمه وفضله، رسلا مبشّرين ومنذرين، ولله الأمر من قبل ومن بعد. المسألة الرابعة: قوله تعالى: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ [آل عمران: 3/ 115]. قرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ بالياء فيهما. وحجتهم قوله قبلها: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ .. الآية [آل عمران: 3/ 113 - 114]. وكذلك: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أي هؤلاء المذكورون وسائر الخلق داخل معهم. وقرأ الباقون بالتاء فيهما. وحجتهم قوله قبلها: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران: 3/ 110]. (وما تفعلوا من خير فلن تكفروه) أيها المخاطبون بهذا الخطاب (¬2). ¬

_ (¬1) جوهرة التوحيد للّقاني رقم الأبيات 63 - 64. (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 170. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي 182. ونصّ الشاطبية: وبالكسر حج البيت عن شاهد وغي ... ب ما تفعلوا لن تكفروه لهم تلا وأضاف ابن الجزري خلفا بقوله: وما يفعلوا لن يكفروا صحب طلا ... خلفا ... ... ...

وثمرة الخلاف:

وثمرة الخلاف: أن القراءة بالتاء (وما تفعلوا من خير فلن تكفروه) موجهة إلى الأمة القائمة، وهو معنى تظاهرت على الدلالة عليه نصوص كثيرة، وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [المزمّل: 73/ 20]، أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ [آل عمران: 3/ 195]. وأما القراءة بالياء فقد أفادت معنى جديدا؛ وهو أن الله عزّ وجلّ لن يضيع إحسان أهل الكتاب، فيثيب المحسن منهم ويعاقب المسيء، وهذا المعنى الذي انفردت به هذه الآية تصريحا وتخصيصا دلّت عليه آيات كثيرة تلميحا وإشارة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزّلزلة: 99/ 7 - 8]، إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التّوبة: 9/ 119]، مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الجاثية: 45/ 15]، ولا يخفى أن المقصود بأهل الكتاب هنا مؤمنوهم. ولكن هذا المعنى الأخير لا يصادم القطعي من النصوص في بطلان أعمال الكافرين، بعد أن ورد صريح النّص، وانعقد إجماع الأمة، على ذلك. قال الله عزّ وجلّ: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف: 18/ 100]، والجمع بين النصوص أن الآية إنما تخصّ أهل الكتاب الذين دخلوا في الإسلام كما يدلّ لذلك سبب نزولها (¬1): أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده في الصحابة عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعيد، وأسيد بن سعيد، وأسد بن عبد، ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا، وصدقوا، ورغبوا في الإسلام؛ قالت أحبار اليهود، وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد واتبعه إلا أشرارنا، ولو كانوا خيارنا ما تركوا آباءهم وذهبوا إلى غيرهم، فأنزل الله في ذلك: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية. وأخرج أحمد وغيره عن ابن مسعود قال: أخّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: أما أنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه ¬

_ (¬1) أسباب النزول للسيوطي، آل عمران، الآية 113.

الساعة غيركم، وأنزلت هذه الآية: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ حتى بلغ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (¬1). وكذلك فإن السياق ظاهر في هذه الدلالة؛ وهي أن الذين دخلوا في الإسلام منهم هم المعنيون بالخطاب، فبعد أن ذكر سبحانه خبر مؤمني أهل الكتاب في هذه الآية عقّب فورا بذكر كافريهم فقال: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ* إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (¬2). وهذا المعنى هو ما اختاره ابن العربي، بل نقل الإجماع عليه فقال: وقد اتّفق المفسّرون أنها نزلت (¬3) في من أسلم من أهل الكتاب، وعليه يدلّ ظاهر القرآن، ومفتتح الكلام نفي المساواة بين من أسلم منهم، ومن بقي منهم على الكفر، إلا أنه روي عن ابن مسعود أن معناه نفي المساواة بين أهل الكتاب وأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقد روي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن سلام، ومن أسلم معه من أهل الكتاب، وقوله: لَيْسُوا سَواءً تمام كلام، ثم ابتدأ الكلام بوصف المؤمنين بالإيمان والقرآن والصلاة، وهذه الخصال هي من شعائر الإسلام، لا سيما الصلاة وخاصة في الليل وقت الراحة. وقيل: إنّها الصلاة مطلقا. وقيل: إنّها صلاة المغرب والعشاء الآخرة. قال ابن مسعود: خرج النّبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة وقد أخّر الصلاة فمنّا المضطجع، ومنّا المصلّي، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم إنه لا يصلي أحد من أهل الأرض هذه الصلاة غيركم. والصحيح أنه في الصلاة مطلقا، وعن أبي موسى عنه عليه الصلاة والسلام: ما من أحد من النّاس يصلّي هذه الساعة غيركم. وهذه في العتمة تأكيد للتخصيص وتبيين للتفضيل. وهكذا فإنه هنا أشار إلى أن المخاطبين بالثناء في هذه الآية إنما هم من أسلم من أهل الكتاب، وقد أخبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن عظيم أجرهم فقال: «ثلاثة لهم أجران، ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وأدرك النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فآمن به، واتّبعه، وصدّقه، فله أجران، ¬

_ (¬1) اخرجه ابن جرير في جامع البيان 4/ 36. (¬2) انظر هذا الإيضاح في تفسير القرطبي، ط دار الكتاب العربي 4/ 176. (¬3) تجدر الإشارة هنا إلى أن ابن العربي لم يخض في أمر تفاوت القراءتين الذي نتحدث عنه بل لم يتعرض للآية أصلا، إنما ينتصر للقول بأن الآيات هنا في مجملها نزلت في مؤمني أهل الكتاب.

ورجل مملوك أدى حقّ الله، وحقّ مواليه ... ورجل كانت عنده أمة، فأدّبها، فأحسن تأديبها، ثم أعتقها، وتزوّجها .. » (¬1) الحديث، ولا عبرة بعدئذ لأنساب القوم وأصولهم، فشرف النسب أدعى إلى تغليظ الحساب منه إلى تهوينه. قال ابن تيمية: (الصواب المقطوع به أن كون الرجل كتابيّا، أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه لا بنسبه، وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم أو لم يدخل، وسواء كان دخوله قبل النّسخ أو التّبديل، أو بعد ذلك، وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة، ومالك، والمنصوص الصريح عن أحمد) (¬2). وقال: (وإذا كان ذلك كذلك، فكل من تديّن بهذا الكتاب الموجود عند أهل الكتاب فهو من أهل الكتاب، وهم كفار تمسكوا بكتاب مبدّل منسوخ، وهم مخلدون في نار جهنم كما يخلد سائر أنواع الكفار، والله تعالى مع ذلك شرع إقرارهم بالجزية، وأحلّ طعامهم، ونساءهم) (¬3). أقول: هذا رأي ابن تيمية، ولكني أرى أن الآية تشمل كذلك من أقر بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وتوحيد الخالق من أهل الكتاب، ولو تعبد على دينه الأول، إذ هو مقتضى العدل الإلهي، وظاهر نص الآية (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين) [آل عمران: 3/ 115]، ويشهد له ما رواه ابن كثير في تفسيره في سبب نزول الآية: (ولله المشرق والمغرب) أن طائفة من الصحابة أنكروا صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم على النجاشي، وقالوا: إنه لم يصل صلاتنا، ولم يستقبل قبلتنا، ومات وهو يصلي إلى بيت المقدس، فأنزل الله: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) [البقرة: 2/ 115]. ولا شك أن الذين أخبرت عنهم الآية بأنهم من أهل الجنة ليسوا أولئك الذين كفروا بالقرآن، وآمنوا بالكتب المحرّفة، بل هم بلا ريب أهل الكتاب الذين آمنوا بوحدانية الله ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. ¬

_ (¬1) أخرجه الإمام البخاري، كتاب العلم، باب تعليم الرجل أمته وأهله، رقم الحديث 97، طبعة البغا. ورواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، باب (9)، رقم الحديث 21، ص 19، طبعة البغا. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 25/ 228. (¬3) المصدر نفسه 229.

المسألة الخامسة:

المسألة الخامسة: قوله تعالى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران: 3/ 161]. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم: (أن يغلّ) بفتح الياء وضم الغين. أي: ما كان لنبيّ أن يخون أصحابه فيما أفاء الله عليهم. وحجتهم في ذلك أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم جمع الغنائم في غزاة. فجاءه جماعة من المسلمين فقالوا: ألا تقسم بيننا غنائمنا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لو أن لكم مثل أحد ذهبا ما منعتكم درهما، أترونني أغلكم مغنمكم» فنزلت وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ (¬1)، أي ما ينبغي أن يجور في القسم، ولكن يعدل، ويعطي كل ذي حق حقه. عن ابن عباس قال: نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قطيفة حمراء فقدت في غزوة بدر، فقال من كان مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذها» فأنزل الله الآية (¬2). وحجة أخرى وهي أن المستعمل في كلام العرب أن يقال لمن فعل ما لا يجوز له أن يفعل: (ما كان لزيد أن يفعل كذا وكذا، وما كان له أن يظلم) ولا يقال: (أن يظلم) لأن الفاعل فيما لا يجوز يقال له: (ما كان ينبغي أن يفعل ذلك) نظير قوله: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وكما قال: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ألا ترى أنهم المستغفرون، ولم يقل: (أن يستغفروا). وقرأ الباقون: (أن يغلّ) بضم الياء وفتح الغين. أي ما كان لنبي أن يغله أصحابه أي يخونوه، ثم أسقط (الأصحاب) فبقي الفعل غير مسمى فاعله، وتأويله: ما كان لنبي أن يخان (¬3). وحجتهم ما ذكر عن قتادة قال: (ما كان لنبي أن يغلّه أصحابه الذين معه من المؤمنين) (¬4)، ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر، وقد غلّ طوائف من أصحابه. ¬

_ (¬1) لم أجده، والعهدة فيه على إيراد أبي زرعة له في الحجة 179. (¬2) أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: هو حسن، عن ابن عباس. وانظر أسباب النزول للسيوطي، آل عمران: 3/ 161. (¬3) انظر الدّر المنثور في التفسير بالمأثور 2/ 91، وفيه نسبة هذا القول للحسن البصري. (¬4) انظر الدّر المنثور للسيوطي، وفيه نسبة القول إلى الربيع وقتادة.

وثمرة الخلاف:

وقال آخرون: (معنى ذلك: وما كان لنبيّ أن يتّهم بالغلول) قال الفراء: (يغلّ أي يسرق ويخوّن، أي ينسب إلى الغلول يقال: أغللته أي نسبته إلى الغلول. وقال آخرون: ما كان لنبي أن يغلّ) أي يلفى غالّا أي خائنا. كما يقال: (أحمدت الرجل) إذا وجدته محمودا (¬1). وثمرة الخلاف: أن القراءة الأولى نفت الغلول عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو معلوم من الدين بالضرورة، إذ يجب للأنبياء الأمانة والصدق. أما القراءة الثانية فقد نفت الغلول عن أصحاب الأنبياء، أو قل: نفت إمكانية الغلول من أصحاب الأنبياء ثم حذف الفاعل، وأسند إلى ما لم يسمّ فاعله. وهل هو أمر تكويني أو تكليفي؟ الظاهر أنه تكويني إذ (ما) هنا نافية، متضمن معنى التكليف. وليس بين القراءتين تضادّ، والجمع بينهما ممكن بدون اعتساف، إذ كل واحدة أفادت معنى جديدا، والله تعالى أعلم. وما ورد من إنكار ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد (¬2)، وغيرهم لقراءة (أن يغل) على المبني للمجهول، فهي محمولة على عدم ثبوت تواترها لديهم، ولو ثبت تواترها لم يحل لهم أن ينكروها. وعبارة مجاهد: كان ابن عباس ينكر على من يقرأ: (وما كان لنبيّ أن يغلّ)، ويقول: كيف لا يكون له أن يغل، وقد كان له أن يقتل، قال الله: وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ، ولكن المنافقين اتّهموا النّبي صلّى الله عليه وسلّم في شيء من الغنيمة فأنزل الله: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ (¬3) تبرئة للنّبي صلّى الله عليه وسلّم. ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 179. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي 185. ونصّ الشاطبية: ... ... وضم في ... يغل وفتح الضم إذ شاع كفلا ولم يأت ابن الجزري في الدّرة على ذكر خلاف الثلاثة، فدلّ على أنهم قرءوا قراءة الجمهور. (¬2) الدّر المنثور للسيوطي 2/ 91، ط دار الكاتب العربي. (¬3) المصدر نفسه.

المسألة السادسة:

ولا يخفى أن إنكار ابن عباس مستند إلى قياس، والقياس لا ينهض حجة في ردّ التواتر كما هو معلوم. وتتضمن قراءة (يغلّ) معنى آخر أيضا، وهو أن أصحاب الأنبياء لا يجوز لهم بحال أن يغلوا أنبياءهم، فقد يظن بعض المنافقين أن غلولهم للأنبياء مغفور، لأن ما بين أيدي الأنبياء من المال إنما هو مال الأمة، وهم من الأمة، فجاءت الآية محذرة من هذا التوهم، مصرّحة بتحريم غلول الأموال في كل حال. المسألة السادسة: قوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ [المائدة: 5/ 47]. قرأ حمزة: (وليحكم أهل الإنجيل) بكسر اللام، وفتح الميم. جعل اللام لام كي، ونصب الفعل بها، وكأنه وجّه معنى ذلك إلى وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ [المائدة: 5/ 46]. وكي يحكم أهله بما أنزل الله فيه. وقرأ الباقون: وَلْيَحْكُمْ ساكنة اللام، والميم على الأمر، فأسكنوا الميم للجزم، وأسكنوا اللام للتخفيف. وحجتهم في ذلك أن الله عزّ وجلّ أمرهم بالعمل بما في الإنجيل كما أمر نبينا صلّى الله عليه وسلّم في الآية بعدها بالعمل بما أنزل الله إليه في الكتاب بقوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ (¬1). ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة، 227. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي، 200. وعبارة الشاطبي: وحمزة وليحكم بكسر ونصبه ... يحركه تبغون خاطب كملا ولم يأت ابن الجزري في الدّرة على ذكر خلاف للثلاثة الباقين فدلّ أنهم قرءوا قراءة الجمهور.

وثمرة الخلاف:

وثمرة الخلاف: أنه من قرأ بالنصب جعلها متعلقة بقوله: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ، أي لكي يحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، وهو محلّ اتّفاق بين المسلمين؛ لأن أهل الكتاب كانوا مأمورين أن يحكموا بما في الإنجيل. أما القراءة بالجزم على أساس أن اللام لام الأمر، فهي أيضا إلزام لهم بالحكم بما في الإنجيل الحق من وجوب اتّباع النّبي صلّى الله عليه وسلّم كما يجدونه في كتبهم. فالخلاف بين القراءتين شكلي، والاتفاق منعقد على المعنى (¬1). وبمثل ذلك نقل القرطبي عن النحاس قوله: والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان؛ لأن الله عزّ وجلّ لم ينزل كتابا إلا ليعمل بما فيه، وأمر بالعمل بما فيه فصحتا جميعا (¬2). وليس في أيّ من القراءتين دليل للنصارى اليوم فيما يزعمونه من أن القرآن أمرهم بالاحتكام إلى الإنجيل، إذ إن الإنجيل الذي أمروا بالاحتكام إليه في نصّ القرآن؛ هو ذلك الإنجيل الذي يتضمن وحدانية الله، وبشرية السيد المسيح والبشارة بالمصطفى صلّى الله عليه وسلّم؛ قال الله عزّ وجلّ: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التّوبة: 9/ 31]. وقال تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 5/ 75]. ¬

_ (¬1) دأب كثير من النّصارى إلى توجيه هذه الآيات وأمثالها إلى ما يوافق هواهم، واتّخذوها مصادرة على القرآن الكريم، على أساس أن الكتاب الكريم يأمرهم بالعودة إلى إنجيلهم والاحتكام إليه. ولكن هذا السلوك الخاطئ غاية ما يؤدي إليه أنهم يثبتون لأنفسهم مقام من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، وهو مقام مذموم بكل حال. ولا يخفى أن دعوة القرآن لهم إلى الحكم بما أنزل الله في الإنجيل قائمة باقية، ولكن المقصود بها هو ذلك الإنجيل الحق الذي أنزله الله على عيسى بن مريم، وهذا التعريف للإنجيل لا يقول به اليوم أحد من النصارى، إذ إنهم لا يعتقدون بوجوده أصلا، بل يقولون بإلهامات أنزلها الله عزّ وجلّ على أصحاب عيسى الأربعة، وهو خلاف ما تقرر لدى المسلمين من نزول الإنجيل على السيد المسيح نفسه. وأشهر من قال ذلك وانتصر له من النصارى الأب يوسف درة الحداد في سلسلة (دراسات قرآنية) منشورات المكتبة البولسية- بيروت. (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 209.

وقال: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصّف: 61/ 6]. فليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه! بل إن نصارى هذا الزمان يخالفوننا فيما نلجئهم إليه من أمر نزول الكتاب على السيد المسيح كما أخبر الله عزّ وجلّ: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ [المائدة: 5/ 46]. فهم لا يعتقدون ذلك أصلا، ويرون أن الكتاب المقدس عندهم هو محض إلهامات تلقاها الرّسل والحواريون، فدوّنوها ولم تكن وحيا تلقاه السيد المسيح عن ربّه! وهكذا فإن العقل والنقل متفقان أنه ليس في دار السعادة منزل للذين يكذبون رسل الله، ويعرضون عن هداهم. قال ابن تيمية: (فمن كان أبوه من أهل الكتاب قبل النّسخ والتّبديل، ثم إنه لما بعث الله عيسى ومحمدا صلّى الله عليه وسلّم كفر بهما وبما جاءا به من عند الله، واتّبع الكتاب المبدّل المنسوخ كان كفره من أغلظ الكفر، ولم يكن كفره أخفّ من كفر من دخل بنفسه في هذا الدين المبدّل، ولا له بمجرد نسبه حرمة عند الله، ولا عند رسوله، ولا ينفعه دين آبائه إذا كان هو مخالفا لهم، فإن آباءه كانوا إذ ذاك مسلمين، فإن دين الله هو الإسلام في كل وقت، فكل من آمن بكتب الله ورسله في كل زمان فهو مسلم، ومن كفر بشيء من كتب الله ورسله فليس مسلما في أي زمان كان) (¬1). ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، كتاب قتال أهل البغي 35/ 228.

المسألة السابعة:

المسألة السابعة: قوله تعالى: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [المائدة: 5/ 112]. وقرأ الكسائي: (هل تستطيع ربّك) (¬1). وقرأ الباقون: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ (¬2). وتوجيه قراءة الكسائي: هل تقدر يا عيسى أن تسأل ربك؛ لأنهم كانوا مؤمنين، وقد أثنى الله عليهم، وأوحى إليهم (¬3)، كما في قوله تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي [المائدة: 5/ 111]، وكانت عائشة تقول: كان القوم أعلم بالله من أن يقولوا: (هل يستطيع ربك) إنما قالوا: (هل تستطيع ربّك) (¬4). واحتجّ أبو زرعة لاختيار الكسائي بقوله: الله تعالى سمّاهم حواريين، ولم يكن الله ليسميهم بذلك وهم برسالة رسوله كفرة. قال أهل البصرة- يريد الكسائي وأصحابه- المعنى: (هل تستطيع سؤال ربك) فحذف السؤال، وألقى إعرابه على ما بعده فنصبه كما قال: واسأل القرية، أي أهل القرية (¬5). والمراد أنهم حين ذكروا الاستطاعة أرادوا بها الاحتجاج للسيد المسيح عليهم، كأنهم قالوا: ¬

_ (¬1) ويجدر الإشارة هنا إلى أن الكسائي أدغم اللام في التاء: هل تستطيع، وهو وجه في القراءة والأداء لا يؤثر على المعنى. انظر السبعة في القراءات لابن مجاهد 249. (¬2) سراج القاري لابن القاصح العذري 205. وعبارة الشاطبي: وخاطب في هل يستطيع رواته ... وربك رفع الباء بالنصب رتلا وانظر السبعة في القراءات لابن مجاهد 249. (¬3) لا جدال في التصريح بأن الله أوحى إلى الحواريين، لقوله سبحانه: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ولكن ما طبيعة هذا الوحي؟ ثمة تأويلان: الأول: أوحى إليهم عن طريق رسله. الثاني: أوحى إليهم وحي إلهام. كما في قوله سبحانه: وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه. (¬4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 364. (¬5) حجة القراءات لأبي زرعة 240.

إنك مستطيع، فما يمنعك؟ ولا يستقيم الكلام إلا على تقدير ذلك، ألا ترى أنه لا يصح أن يقول: (هل تستطيع أن يفعل غيرك) (¬1). وأما قراءة الجمهور بالغيبة والرفع فيجب توجيهها إلى تأويل الاستطاعة بمعنى الرغبة، أي هل يرضى ربك أن ينزل المائدة إن سألته ذلك، كما يقول من يبتغي النصرة من عزيز: أتقدر أن تساعدني في ذلك، وهو يعلم قدرته واستطاعته، ولكنه لون من الأدب تعرفه العرب في كلامها (¬2). وقيل المعنى: هل يقدر ربك، وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عزّ وجلّ؛ ولهذا قال عيسى في الجواب: (اتّقوا الله إن كنتم مؤمنين) (¬3). ولكن اعترض القرطبي على هذا التأويل لأن الحواريين خلفاء الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم، كما قال الله حكاية عنهم وإقرارا لهم: قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [الصّف: 61/ 14]، وقد قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكل نبي حواري، وحواريي الزبير» (¬4)، ولا يخفى أن معرفة الله سبحانه أول الواجبات على المؤمن، فكيف يصبح هؤلاء حواريين للسيد المسيح ثم لا يعرفون صفة القدرة منه سبحانه وتعالى (¬5). ولعل أحسن تأويل لذلك أن يقال: إنهم عرفوا الله عزّ وجلّ معرفة استدلال وأخبار، فأرادوا علم معاينة وشهود، كما قال إبراهيم عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: 2/ 260]، فإن إبراهيم من أعظم المؤمنين بقدرة الله سبحانه وكماله ووحدانيته، ثم سأل الآية علّل ذلك بقوله: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 2/ 260]، وكذلك قال الحواريون: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 5/ 113]. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 241. (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 365. (¬3) المصدر نفسه 6/ 364. (¬4) أخرجه البخاري ومسلم عن جابر في كتاب الفضائل باب فضائل الزبير بن العوام. وأخرجه كذلك ابن عساكر عن الزبير، وأحمد في مسنده عن علي رضي الله عنه. (¬5) القرطبي 6/ 365.

وثمرة الخلاف:

وقد أنكر الزمخشري في الكشاف ذلك كله، وقال: إنهم قالوا ذلك لفساد عقيدتهم ونصه في ذلك: إن الله ما وصفهم بالإيمان والإخلاص وإنما حكى ادعاءهم لهما، ثم أتبعه قوله: إذ قالوا، فآذن أن دعواهم كانت باطلة، وأنهم كانوا شاكّين، وقولهم: (هل يستطيع ربك) كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظمين لربّهم (¬1). وثمرة الخلاف: أن المؤمن قد يسأل الله سبحانه وتعالى بعض آيات قدرته وهو مؤمن، ليزداد إيمانا، ولا يطعن ذلك في شيء من إيمانه، وقد سبق إلى ذلك الخليل إبراهيم، والحواريّون الكرام. ودلّت قراءة الجمهور على جواز سؤال الله عزّ وجلّ آياته بلفظ الاستطاعة، وهو ما قرره ابن العربي القاضي المالكي المفسّر حيث أدخل اسم المستطيع في أسماء الله تعالى وقال: لم يرد به كتاب ولا سنة اسما، ولكن ورد فعلا (¬2)، وذكر قول الحواريين: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ. وذلك على اختيار القرطبي في تفسيره، بأن ذلك لم يصدر من الحواريين عن جهل بالله عزّ وجلّ، بل عن علم ومعرفة، ولم ينكر الذكر عليهم سؤالهم، وهي مسألة اعتقاد لا تختلف فيها الشرائع (¬3). وأما قراءة الكسائي فلا تدلّ على هذا المعنى، وغايتها إضمار ما عادته الإظهار؛ أي: هل تستطيع أن تدعو ربّك. وكما ترى فإن القراءتين أفادتا معنيين مختلفين، ولكنهما غير متنافرين، والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) الكشاف للزمخشري 1/ 654. (¬2) كذا نقل القرطبي عن القاضي ابن العربي المالكي في الجامع 6/ 365. ولكنني تعقبت تفسير ابن العربي أحكام القرآن، فلم أجد لذلك ذكرا عند هذه الآية في المائدة، وتعقبته كذلك في الجزء الثاني صفحة 808، حيث عقد فصلا خاصّا لاستقصاء الأسماء الحسنى عند قوله سبحانه: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها فعدّ منها مائة وثلاثة وأربعين اسما، ولم يأت فيها على ذكر اسم المستطيع! ولست أدري من أين نقل عنه القرطبي ذلك. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 365.

المسألة الثامنة:

المسألة الثامنة: قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التّوبة: 9/ 102]. قرأ يعقوب: (والأنصار الذين اتّبعوهم بإحسان). وقرأ الباقون: وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ (¬1). فتكون قراءة يعقوب بالرفع عطفا على السابقين الأولين، وتكون قراءة الجمهور بالخفض عطفا على المهاجرين. وثمرة الخلاف: أن قراءة الجمهور نصت على مزية فضل للسابقين من الأنصار، وهم الذين آووا ونصروا، من الذين شهدوا بيعة العقبة، أما قراءة يعقوب فقد جعلت فضل الأنصار عامّا إذا لم تدخل عليهم (من) التبعيض، فجعلت لسائر الأنصار مزية رضوان الله، من شهد منهم العقبة ومن لم يشهدها. فتكون حصيلة قراءة الجمهور أن رضوان الله مكتوب لثلاثة أصناف: الأول: السابقون الأولون من المهاجرين. الثاني: السابقون الأولون من الأنصار. الثالث: الذين اتّبعوهم بإحسان. وتكون حصيلة قراءة يعقوب أن رضوان الله مكتوب لثلاثة أصناف: الأول: السابقون الأولون من المهاجرين. الثاني: الأنصار (بعموم سابقهم ولاحقهم). الثالث: الذين اتّبعوهم بإحسان. ¬

_ (¬1) تقريب النّشر في القراءات العشر 120.

فيكون في قراءة يعقوب زيادة مزية للأنصار، وهي أن سائر الأنصار مشمولون بالرضوان والجنة. وقد رويت قراءة يعقوب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقرأ (والأنصار) عطفا على (والسّابقون) (¬1). وعلى قراءة الخفض فإن السابقين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلّوا إلى القبلتين كما اختاره سعيد بن المسيب، أو الذين شهدوا بيعة الرضوان عام الحديبية في قول الشعبي، أو أهل بدر في قول محمد بن كعب، وعطاء بن يسار (¬2). على أن شمول الأنصار بالرضوان والجنة كما دلّت عليه قراءة الرفع لا يعني استواءهم في المنزلة والقرب، فقد صرح القرآن بأنهم ليسوا سواء، كذلك يقتضي العدل، ويشهد العقل؛ قال الله عزّ وجلّ: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ، أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 57/ 10]. ومعلوم أن الأنصار ركن الإسلام، وهم الذين آووا ونصروا، وهم الذين شملتهم دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «اللهم ارحم الأمصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار». وقد أفاضت كتب الحديث في استقصاء الروايات الكثيرة التي ورد فيها فضل الأنصار ومنزلتهم، ومما أخرجه إمام المحدثين البخاري من ذلك: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أنّ الأنصار سلكوا واديا أو شعبا لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار»، فقال أبو هريرة رضي الله عنه: ما ظلم- بأبي وأمي- آووه ونصروه (¬3). وعن البراء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبّهم أحبّه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله» (¬4). ¬

_ (¬1) فتح القدير للشوكاني 2/ 398. (¬2) المصدر نفسه 398. (¬3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 7/ 112. (¬4) المصدر نفسه 113.

المسألة التاسعة:

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «آية الإيمان حبّ الأنصار، وآية النّفاق بغض الأنصار» (¬1). ولا شك أن مزايا الأنصار كثيرة، وفضلهم عظيم، وقد زادتهم هذه الآية شرفا ومكانة. ولا تنافر بين القراءتين، بل قراءة يعقوب في فضلهم عامة، وقراءة الجمهور في تخصيص السابقين منهم بمنزلة أعلى من القرب والرضوان، والله أعلم. المسألة التاسعة: قوله تعالى: قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هود: 11/ 46]. قرأ الكسائي ويعقوب: (إنّه عمل غير صالح) بنصب اللام والراء. وحجّته حديث أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله كيف أقرأ: عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أو عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ؟ فقال: عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ بالنصب (¬2). فالهاء في هذه القراءة عائدة على ابن نوح لأنه جرى ذكره قبل ذلك فكني عنه. وكان بعض أهل البصرة ينكر هذه القراءة، واحتجّ لذلك بأن العرب لا تقول: (عمل غير حسن) حتى تقول: (عمل عملا غير حسن). وقد ذهب عن وجه الصواب فيما حكاه؛ لأن القرآن نزل بخلاف قوله، قال الله تعالى: وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً [الفرقان: 25/ 71]. معناه: ومن تاب، وعمل عملا صالحا. وقال: وَاعْمَلُوا صالِحاً [سبأ: 34/ 11]، ولم يقل: (عملا). وقال في موضع آخر: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الفرقان: 25/ 70]. وقال: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النّساء: 4/ 114]، ولم يقل: (سبيلا غير سبيل المؤمنين)، فكذلك قوله: (إنّه عمل غير صالح) معناه: (إنه عمل عملا غير صالح). ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 113. (¬2) أورد هذا النّص السيوطي في الدّر المنثور عن أم سلمة، وعن أسماء بنت يزيد أيضا معزوّا إلى أحمد، وأبي داود، والترمذي، والطبراني، والحاكم، وأبو نعيم. انظر الدّر، ط دار المعرفة 3/ 336.

وقرأ الباقون: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ بفتح الميم، وضم اللام والراء. وحجتهم ما روي في التفسير، جاء في قوله: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أي: (إن سؤالك إياي أن أنجي كافرا عمل غير صالح)؛ لأن نوحا قال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود: 11/ 45]، فقال الله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الذين وعدتك أن أنجيهم، إن سؤالك إياي عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، وقيل: لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي: من أهل دينك. فالهاء في قراءتهم كناية عن السؤال، ولم يجر له ذكر ظاهر، وذلك جائز فيما قد عرف موضعه أن يكنى عنه، أو جرى ما يدلّ عليه كقوله عزّ وجلّ: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً [آل عمران: 3/ 180]، فكنّى عن البخل لأنه ذكر الذين يبخلون اكتفاء به عن ذكر البخل، وكنّى به، وقال: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: 38/ 33]، يعني الشمس. وهذه أعلام لا يجهل موضعها؛ قال الشاعر: إذا نهى السّفيه جرى إليه ... وخالف، والسّفيه إلى خلاف فقال: (جرى إليه)، ولم يجر ذكر السّفه، ولكن لما ذكر السّفيه دلّ على السّفه. والسؤال في قصة نوح لم يجر له ذكر، ولكنه لما ذكر إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي دلّ على السؤال. وقال آخرون منهم الزجاج: (الهاء كناية عن ابن نوح)، أي إنه ذو عمل غير صالح كما قال الشاعر: ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار (¬1) أي: ذات إقبال وإدبار. ¬

_ (¬1) حجة القراءات 341 - 342. وانظر سراج القاري 249. وعبارة الشاطبي: وفي عمل فتح ورفع ونونوا ... وغير رفعوا إلا الكسائي ذا الملا والبيت الذي أورده أبو زرعة آخرا للخنساء تماضر بنت عمرو ترثي أخاها صخرا. وأما قراءة يعقوب فقد أشار إليها ابن الجزري في تقريب النشر 124.

وثمرة الخلاف:

وثمرة الخلاف: أن إحدى القراءتين قررت أن ابن نوح عمل عملا غير صالح، وهو إعراضه عن هدي أبيه، وهي قراءة الكسائي ويعقوب. وأفادت قراءة الجمهور أن سؤال نوح عن ولده عمل غير صالح، وهي تقرير أنه قد تصدر من الأنبياء الصغائر والذنوب، ولكن لا يقرون عليها؛ قال الله عزّ وجلّ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [غافر: 40/ 55]. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 48/ 2]. وهذا التأويل هو اختيار جمع من مفسّري السّلف، وأنا أنقل لك اختياراتهم كما أوردها السيوطي في الدّر المنثور: أخرج ابن جرير: إنه عمل غير صالح، يقال: سؤالك عما ليس لك به علم. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أنه قرأ: عمل غير صالح؛ قال: معصيته نبي الله، وأخرج أبو الشيخ، وابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: فلا تسألن ما ليس لك به علم؛ قال: بيّن الله لنوح عليه السلام أنه ليس بابنه، وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن ابن زيدون: أني أعظك أن تكون من الجاهلين. قال: أن تبلغ بك الجهالة أني لا أفي بوعد وعدتك حتى تسألني، قال: فإنها خطيئة، ربّ إني أعوذ بك أن أسألك. وأخرج أبو الشيخ عن ابن المبارك قال: لو أن رجلا اتّقى مائة شيء، ولم يتّق شيئا واحدا لم يكن من المتّقين. ولو تورّع عن مائة شيء، ولم يتورّع عن شيء واحد لم يكن ورعا، ومن كان فيه خلّة من الجهل كان من الجاهلين، أما سمعت إلى ما قال نوح عليه السلام: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، قال الله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. وأخرج أبو الشيخ عن الفضيل بن عياض قال: بلغني أن نوحا عليه السلام لما سأل ربّه فقال: يا ربّ إن ابني من أهلي، فأوحى الله إليه: يا نوح إن سؤالك إياي إن ابني من أهلي عمل غير صالح، فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين؛ قال: فبلغني أن نوحا بكى على سؤاله أربعين عاما (¬1). ¬

_ (¬1) الدّر المنثور في التفسير بالمأثور 3/ 336.

المسألة العاشرة:

المسألة العاشرة: قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [يوسف: 12/ 111]. اعلم أن المفسرين متفقون في صرف رواية التخفيف كُذِبُوا عن ظاهرها (¬1)، ولهم في ذلك تحرير لطيف سيأتي إيراده. قرأ أهل الكوفة وهم: عاصم، وحمزة، والكسائي، وكذلك أبو جعفر، وخلف (¬2): وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بالتخفيف من قولك: (كذبتك الحديث) أي: لم أصدقك. وفي التّنزيل: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التّوبة: 9/ 90]، وفيها وجهان من التفسير. أحدهما: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا، بمعنى أخلفوا ما وعدوه من النّصر؛ جاء الرسل نصرنا، فجعل الضمير في قوله: ظَنُّوا للقوم. وجعل (الظّن) موافقا لفظه معناه. فإن قيل: كيف يجوز أن يحمل الضمير في ظَنُّوا على القوم، والذي تقدم ذكره الرّسل؟ قيل: إن ذلك لا يمنع لأن ذكر الرّسل يدلّ على المرسل (إليهم)، فلهذا جاز أن يحمل الضمير على المرسل (إليهم). والوجه الآخر: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظنّ قومهم أن الرّسل قد كذبتهم فيما أخبروهم به من أنهم إن لم يؤمنوا بهم نزل بهم العذاب، ثم ردّ إلى ما لم يسمّ فاعله، فقيل: إنهم كناية عن القوم. وقرأ أهل الحجاز، والبصرة، والشام، وهم: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وكذلك يعقوب (¬3): (كذّبوا) بالتشديد. وفي التّنزيل: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ [الأنعام: 6/ 34]. ¬

_ (¬1) انظر فتح القدير للشوكاني، ط دار المعرفة 3/ 61. (¬2) سراج القاري لابن القاصح 260. وعبارة الشاطبي في الحرز: ... ... ... ... كذا نل، وخفف كذبوا ثابتا تلا وانظر تقريب النّشر لابن الجزري 126. (¬3) مفهوم من النص على مذهب المخالفين، انظر المادة السابقة من الهامش.

وثمرة الخلاف:

وقوله: فَكَذَّبُوا رُسُلِي [سبأ: 34/ 45]، وجعلوا الضمير في (ظنوا) للرّسل، والظّن بمعنى اليقين. وحجتهم في ذلك أن ذكر الرّسل قد تقدم، ولم يتقدم ذكر المرسل (إليهم) فيجعل الضمير له، وإذا كان ذلك كذلك فالأولى أن يجعل الضمير للرّسل، فيكون الفعلان للرّسل، ويصير كلاما واحدا. ومعنى الآية: (حتى إذا استيأس الرّسل من إيمان قومهم، وظنّوا- أي أيقنوا- أن قومهم قد كذبوهم؛ جاءهم نصرنا أي جاء الرّسل نصرنا) (¬1). قالوا: ومعنى الآية: (حتى إذا استيأس الرّسل ممن كذبهم من قومهم أن يصدّقوهم، وظنّت الرّسل أن من قد آمن بهم من قومهم قد كذّبوهم، جاءهم نصر الله عند ذلك). قالت عائشة رضي الله عنها: (لم يزل البلاء بالرسل حتى خافوا أن يكون من معهم من المؤمنين قد كذبوهم) (¬2). وثمرة الخلاف: أن التّأليف بين القراءات أفادنا عددا من المعاني لا سبيل إلى معرفتها لو لم تتعدّد هذه القراءات المتواترة. فقد دلّت قراءة الكوفيين، وأبي جعفر بالتخفيف أن نصر الله سبحانه آت، وأن من إرهاص هذا النصر أن يستئيس الرسل من إيمان قومهم، وأن تظهر شكوك بعض المؤمنين بقولهم: إن الرّسل قد أخلفوا ما وعدوا به من النصر، وكذلك قولهم: إن الرّسل قد كذبتهم فيما وعدتهم به من حلول العذاب بالمشركين. وهذه المعاني كلها تدلّ لها قراءة التّخفيف، وهي تحمل الأنبياء ومن بعدهم من المصلحين، والدّعاة على الصبر، والتّحمل إذا رأوا شكوك الناس في رسالاتهم، ودعواتهم. ودلّت قراءة الباقين بالتّشديد أن إعراض الناس، وتكذيبهم بالهدى، وصدّهم عن سبيل الله لا ينبغي أن يدفع إلى يأس الدّعاة، واستسلامهم بل هو إرهاص بقرب نصر الله عزّ وجلّ ودنو فرجه. ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة 366. (¬2) حجة القراءات 366. وانظر سراج القاري 226. وعبارة الشاطبي: ... ... ... ... كذا نل، وخفف كذبوا ثابتا تلا

المسألة الحادية عشرة:

ومقتضى القراءة الأخيرة أن الرّسل يبلغون حدّا من الصّبر والضراعة مع ازدياد استكبار المستكبرين، وعتوهم إلى حدّ يجعلهم يشكون بمن معهم من المؤمنين أنهم لا يخلصون في إيمانهم، وبهذا المعنى قالت عائشة رضي الله عنها: (لم يزل البلاء بالرّسل حتى خافوا أن يكون من معهم من المؤمنين قد كذبوهم) (¬1). ولا شك أن هذه المعاني جميعا تزيد من عقيدة المؤمن بقرب نصر الله كلما ازداد البلاء، واشتدت المحن، وهي كما ترى لا تتعارض في الفهم بل تتآزر، وتتكامل. قال قوم: إن الظّن هنا ليس بمعنى اليقين بل لفظه معناه (¬2). وهو مذهب قوي، وهو لا يغيّر شيئا مما قدّمناه، بل يؤيّده ويدلّ له. المسألة الحادية عشرة: قوله تعالى: فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مريم: 19/ 24]. قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وابن عامر، وشعبة بن عاصم، ورويس: (فناداها من تحتها) بفتح الميم، والتاء. جعلوا (من) اسما، وجعله النداء له. المعنى: فناداها الذي تحتها؛ وهو عيسى، و (تحتها) صلة (من). وحجتهم ما روي عن أبي بن كعب قال: الذي خاطبها هو الذي حملته في جوفها. قرأ الباقون: مِنْ تَحْتِها بكسر الميم والتاء. أي: فناداها جبريل من بين يديها. وحجتهم ما روي عن ابن عباس: مِنْ تَحْتِها قال: جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها. وقال آخرون، منهم الحسن البصري: (من تحتها: عيسى)، فكأنه جعل الفاعل مستترا في (ناداها). ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة 366. (¬2) المصدر نفسه 366.

وثمرة الخلاف:

المعنى: فناداها عيسى من تحتها، وهو أجود الوجهين. وذلك أنه جرى ذكره في قوله: فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ ... [مريم: 19/ 22]. فلما أتى الفعل بعد ذكره دلّ على أنه فعل المذكور، وأنه مستتر في فعله، فالكسر أعم. وذلك أن من كسر يحتمل المعنى أن يكون الملك ويحتمل أن يكون عيسى عليه السلام (¬1). وثمرة الخلاف: أن قراءة أبي عمرو، وابن كثير، وابن عامر، وشعبة قد أفادت الإشارة إلى المنادي فكانت (من) هي الاسم الموصول المعرف بالمنادي، بينما أفادت قراءة الباقين أن مكان المنادي كان تحت السيدة مريم، أما الضمير الدّال عليه، فهو مستتر في قوله سبحانه: فناداها، ولا تعارض بين الفائدتين. ويبقى الخلاف في تعيين المنادي أهو جبريل أم السيد المسيح، وليس هذا الخلاف ناشئا عن اختلاف القراءة. قال الشوكاني في فتح القدير: فَناداها مِنْ تَحْتِها أي جبريل لما سمع قولها، وكان أسفل منها تحت الأكمة، وقيل تحت النخلة، وقيل: المنادي هو عيسى (¬2). وروي عن ابن عباس أن المنادي هنا هو جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها، وقد أورد أستاذنا الدكتور الزحيلي هذا الرأي (¬3)، ولا شك أنه يتضمن الثناء على السيدة الطاهرة بوصفها بزيادة اليقين؛ إذ أشارت إليه كما أمرت، ولم تكن تعلم أنه سينطق في المهد؛ إذا كان الذي ناداها من تحتها عند المخاض إنما هو جبريل. ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 441. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي 284. وعبارة الشاطبي: ومن تحتها اكسر واخفض الدهر عن شذا ... ... ... ... وعبارة ابن الجزري في الدّرة المضية في إضافة رويس إليهم: ... ومن تحتها اكسر اخ فضن يعل ... ... (¬2) فتح القدير للشوكاني، ط دار المعرفة 3/ 329. (¬3) انظر التفسير المنير، للدكتور وهبة الزحيلي 6/ 76.

المسألة الثانية عشرة:

فإن كان المنادي عيسى عليه السلام، لم يكن لنا أن نثبت لها ما قدمناه من هذه الصفة، والله سبحانه أعلم. المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 21/ 87]. قرأ يعقوب: (فظنّ أن لن يقدر عليه). وقرأ الباقون: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ (¬1). وتوجيه قراءة يعقوب أن نبي الله يونس عليه السلام أراد الفرار من قومه لئلا يطاله أذاهم، فيكون كفار قومه في مقام نائب الفاعل المضمر في هذا المقام. وبمثل قراءة يعقوب قرأ عبيد بن عمير، وقتادة، والأعرج لكن مع التشديد: (فظنّ أن لن يقدّر عليه). وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق، والحسن البصري، وابن عباس مثلما قرأ يعقوب بدون تشديد (¬2). وعلى قراءة يعقوب المتواترة، وقراءة قتادة، والأعرج الشاذة لا يوجد ما يعكر فهم النّص، إذ من شأن الأنبياء أن يظنوا أن الله لن يقدّر عليهم المصيبة، وأن يظنوا أن الكفرة لن يقدروا على إيذائهم، وذلك إحساس بشري مشروع لا يقدح في عصمة المرسلين. ولكن الإشكال إنما يتوجه على قراءة الجمهور، وذلك كما روي عن معاوية بن أبي سفيان أنه استدعى ابن عباس يوما، فقال له: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك. قال: وما هي يا معاوية؟ فقرأ هذه الآية، وقال: أو يظن نبي الله أن لا يقدر عليه؟ فقال ابن عباس: هذا من القدر لا من القدرة (¬3). ¬

_ (¬1) تقريب النّشر في القراءات العشر لابن الجزري 143. وعبارة طيبة النّشر: ... ... ... ... يقدر ياء واضممن وافتح ظبي ... ... ... ... ... ... (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10/ 329. (¬3) الكشاف للزمخشري 2/ 581.

وثمرة الخلاف:

وهذا في الحقيقة من بدائع الكلم، إذ جعل نَقْدِرَ هنا من التقدير، وهذا كما ترى ظنّ محمود يندرج تحت حسن الظن بالله، ويتضمن اعتقاد نبي الله يونس بأن الله لن يقدر عليه العقوبة، بل يعفو ويرحم. وقد أفاض الإمام القرطبي في الرّد على من تأوّل الآية هنا بمعنى أن إبليس استزلّه، وأوقع في ظنه إمكان ألا يقدر الله عليه بمعاقبته، فقال القرطبي: هذا قول مردود مرغوب عنه لأنه كفر، مع أنه صرح بروايته عن سعيد بن جبير (¬1). وثمة توجيه آخر لقراءة الجمهور وهو على جعل نقدر هنا بمعنى نضيق، ويدل لذلك قوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرّعد: 13/ 26]، وقوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطّلاق: 65/ 7]، وهو قول مروي عن سعيد بن جبير، وعطاء، والحسن البصري (¬2). فهناك إذن توجيهان لقراءة الجمهور أنها بمعنى: التقدير، وبمعنى التّضييق. ويشهد للقول بأنه التقدير أيضا ما روي أن عمر بن عبد العزيز قرأها: (فظنّ أنه لن نقدر عليه)، وبمثل ذلك روي عن قتادة، والفراء، وأنشد ثعلب: فليست عشيات اللوى برواجع ... لنا أبدا ما أورق السلم النضر ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى ... تباركت ما تقدر يقع، ولك الشكر (¬3) وثمرة الخلاف: أن نبي الله يونس- وهو النبي المعصوم- لما ترك قومه وقع في ظنه شيئان: الأول: أن قومه لن يقدروا على إيذائه حين يفرّ منهم، وهو ما دلّت له قراءة يعقوب بصيغة المبني للمجهول. الثاني: أن الله عزّ وجلّ لن يقدر عليه بمعنى: لن يقدر عليه، أي: لن يعجل حسابه ويؤاخذه بالإياس من قومه (¬4)، وهو ما دلّت له قراءة الجمهور، وهو حسن ظن بالله، وحسن اعتقاد بعفوه، ورحمته. ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 11/ 329. (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 11/ 329. (¬3) المصدر نفسه 330. (¬4) وكذلك على تأويل عطاء، وسعيد بن جبير أنه ظن أن لن نضيّق عليه، وقد قدّمنا هذا القول آنفا.

المسألة الثانية عشرة:

وإن يونس قد برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يذكروا، وأقاموا على كفرهم، فراغمهم، وظن أن ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضبا لله، وأنفة لدينه، وبغضا للكفر وأهله. فالتأليف بين القراءتين أفادنا الاطّلاع على خواطر نبي الله يونس، وهو يولي قومه، وهي كما ترى خواطر لا تقدح في العصمة، بل تكشف لنا زيادة مزايا الفضل في هذا النّبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم. المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 33/ 40]. قرأ عاصم: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ بفتح التاء. وقرأ الباقون: (وخاتم النّبيّين) بكسر التاء (¬1). الخاتم والخاتم لغتان في معنيين اثنين: الخاتم: الزينة، والخاتم: الختام والطابع وكذلك بالكسر، وقد أطبقت معاجم اللغة على ذلك (¬2). وليس بين الفتح والكسر دلالة تشريعية إذ الأمر كما بيّناه تعدّد لغات لمقصود واحد، وهو ما دلّت عليه مراجع اللغة المعتمدة. ولكن يبدو في المسألة دلالة أخرى في تكامل المعنى من القراءتين المتواترتين، وهو أن خاتم بالكسر اسم فاعل، وخاتم بالفتح اسم ذات، وكلاهما وصف له صلّى الله عليه وسلّم بأنه ختم الرّسل وأنه صلّى الله عليه وسلّم ختمهم، وذلك بمعنى الختام، وبمعنى الزينة جميعا. ولست أجد هنا ثمرة للخلاف من جهة الأحكام الشرعية، ولكني أوردت هذه المسألة في هذا ¬

_ (¬1) سراج القاري لابن القاصح العذري 328. وعبارة الشاطبي: ... ... ... ... ... ... وخاتم وكلّا بفتح نما ... ... ... ... ... ... وعبارة ابن الجزري في الطيبة: يكون خاتم افتحوه نصّعا ... ... ... ... (¬2) انظر لسان العرب 12/ 163 مادة ختم، والقاموس المحيط 4/ 105، مادة ختم، والصحاح للجوهري مادة ختم، ومختار الصحاح للرازي 169 مادة ختم.

المقام نظرا لأن فرقة مارقة ظهرت أيام الاحتلال البريطاني للهند؛ وهي الفرقة القاديانية (¬1) استغلت جهل العامة باللغة فروّجت لضلالتها بأن القراءة المتواترة لا تدلّ على أكثر من أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم زينة للرّسل، وليس ختاما لهم. وهذه الضلالة مردودة عند أهل الاعتبار من وجهين: الأول: لم ينفرد أحد من أهل اللغة المحتجّ بهم بهذا التفصيل، فالخاتم والخاتم كلاهما يحتوي المعنى ذاته من الختام والزينة، فالانفراد بأحد المعنيين تحكم، وهو أمر لم يؤدّ إليه من قبل اختيار أحد من النّحاة المشهورين. وقد قدّمت لك طرفا من اختيارات الجواهري، والفيروزآبادي، وابن منظور في الصفحة السالفة (¬2). الثاني: لو سلمنا جدلا بأن الخاتم بالكسر هو الزينة، ولا يدل على الختام، على أساس أن قراءة الفتح وحدها تفيد ختم النّبوة، فكيف يسوغ لمسلم أن يقبل إحدى القراءتين المتواترتين، وينبذ أختها، مع أنهما في الثّبوت سواء عند سائر المسلمين، وليست إحداهما أولى من أختها بالقبول من جهة الإسناد؟ وهكذا فإن مسألة ختم النّبوة منصوص عليها في القرآن الكريم، كما دلّت على ذلك القراءات المتواترة التي لا ينكرها إلا كافر. وهذه الأدلة من القرآن الكريم مؤيدة بالأدلة المتظاهرة من السّنة النّبوية التي أجمع أهل السّنة والجماعة على تصحيحها. قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «سيكون في أمّتي ثلاثون كذّابا، كلّهم يزعم أنّه نبي، وأنا خاتم النّبيين، لا نبيّ بعدي» (¬3). ¬

_ (¬1) القاديانية فرقة ضالّة أنشأها غلام أحمد القادياني (1252 - 1326 هـ) قام يعلن بأن الله إنما وعد بظهور مثيل عيسى في الأرض لا بظهور عيسى نفسه، وبأنه هو ذلك المثيل الذي وعد الله بظهوره، فهو المسيح الموعود. ثم راح يزعم أنه نبي ورسول من الله، وصاغ لنفسه وحيا كالقرآن، وابتنى لنفسه في بلدة قاديان مسجدا، وسمّاه المسجد الأقصى. وسمّى بلدته مكة المسيح إلى آخر ما هنالك من الضلالات إلى أن توفي، وكان من أخطر ما دعا إليه دعوته إلى نسخ الجهاد، وتحريمه ضدّ الإنكليز في الهند، وهي دعوة تكشف عن حقيقة طوايا القوم ونواياهم. وليس التفصيل من شرط هذه الدراسة بل يمكننا الإشارة إلى بعض الدراسات الجادّة التي قصدت كشف طواياهم وتعريتهم أمام الأمة، منها على سبيل المثال: (طائفة القاديانية) للعلامة محمد الخضر حسين، (القادياني والقاديانية) للسيد أبي الحسن الندوي، (ما هي القاديانية) لأبي الأعلى المودودي، (القاديانية) لإحسان إلهي ظهير، (الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة) تأليف ناصر الغفاري، وناصر عبد الكريم العقل. (¬2) انظر الصفحة السابقة من هذه الدراسة. (¬3) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن 6/ 2220.

وعن جابر بن عبد الله أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فكان من دخلها ونظر إليها، فقال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، فأنا موضع اللبنة، ختم بي الأنبياء» (¬1). ولم يشتهر القول بنفي ختم النّبوة إلا عند القاديانية، وهي فرقة ضالّة بإجماع المسلمين، وبحسبك من ضلالهم، وانحرافهم علاقتهم بالاستعمار، ودعوتهم الخبيثة إلى نسخ الجهاد والركون إلى الكفار والمشركين. وفي ختام هذه المسألة ننقل تلخيصا لمعنى ختم النّبوة ودلالات ذلك، من بحث علمي نفيس بعنوان: هيمنة القرآن وعالميته وخلوده، للباحث العلامة الشيخ أحمد علي الإمام قال فيه: «وكانت النّبوة التي جاءت به خاتمة النّبوات، فكانت صالحة لكل زمان ومكان، وكذا كان القرآن مما استلزم أن يكون هذا الكتاب عالميّا وخالدا. ذلك أن خاتمية الرسالة وتوقّف النّبوات يتطلب استمرارية القيم في القرآن الكريم، والمعايير، والموجّهات، فكان الخلود للقرآن لتخليد هذه القيم، وكان ختام النّبوّات جميعا يتطلب أن لا تنحصر هذه القيم، والموجّهات في أمّة من الأمم دون غيرها لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ. وختم النّبوة يعني أن القرآن هو آخر رسالة إلى الناس، فلا كتاب بعد القرآن، ولو علم الله أن الناس يحتاجون إلى رسالة أخرى من بعد ذلك لما كان القرآن الكريم هو الرسالة الخاتمة، فإن رحمة الله بالبشر لا تتركهم بغير دليل، وهداية وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 21/ 107]. ونتيجة لختم النّبوة يلزم أن تكون صالحة لكل زمان ومكان، وأن تكون الرسالة لجميع البشر تحقيقا للعالمية. وأن تكون الرسالة ميسرة للقرآن والعمل وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر: 54/ 17]. وأحكامها قائمة على التيسير لا التعسير يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 2/ 185]، حيث لا حرج ولا مشقة وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الصحيح باب المناقب، ورقم الحديث في طبعة البغا (3342). وأخرجه مسلم عن أبي هريرة في كتاب فضائل النّبي صلّى الله عليه وسلّم الباب الرابع: تتميم الأنبياء وختمهم بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم، رقم الحديث (2286).

المسألة الرابعة عشرة:

[الحج: 22/ 78]، والتكليف على الوسع لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 2/ 286]. كما جاءت هذه الرسالة لترفع عنّا الإصر والأغلال التي كانت على من سبقنا وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف: 7/ 157]، وقد ظلّ نداء المسلمين على الدوام دعاء يتلى آناء الليل، وأطراف النهار رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ [البقرة: 2/ 286]، وحينئذ لا تكون ثمة حاجة لشيء من الرسالات السابقة تحقيقا لمعنى الهيمنة، ولا يكون ثمة احتمال لضياع الرسالة الخاتمة فيكتب الله لها الحفظ والخلود) (¬1). المسألة الرابعة عشرة: قوله تعالى: وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ [الزخرف: 43/ 88] قرأ عاصم وحمزة: وَقِيلِهِ يا رَبِّ بكسر اللام على معنى (وعنده علم الساعة (¬2)، وعلم قيله). وقرأ الباقون: بالنصب. قال الأخفش: منصوب على وجهين: أحدهما على العطف على قوله: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ... [الزخرف: 43/ 80]، وقيله أي: ونسمع قيله، وعلى قوله: وقال: قيله. قال الزجاج: «الذي أختاره أنا أن يكون نصبا على معنى: (وعنده علم الساعة، ويعلم قيله)، فيكون المعنى: (أنه يعلم الغيب، ويعلم قيله) (¬3). وثمرة الخلاف: أن الله سبحانه أخبر أنه يعلم خبر قيله، وأسفه على قومه، وهو ما دلّت له قراءة الخفض، ثم تهددهم بقوله: أم يحسبون أنّا لا نسمع سرّهم ونجواهم، أي: ويحسبون أنّا لا نسمع قيله يا ربّ ... ، ثم أخبر بأنه يسمع ذلك كله، ورسلنا لديهم يكتبون. وهو ما دلّت له قراءة النصب. وبالجملة فإن الجمع بين القراءتين يفيد علم الله بصبر نبيّه، ويفيد كذلك تهديده للمشركين في إعراضهم عن هدي النّبي صلّى الله عليه وسلّم. ¬

_ (¬1) مقالة علمية للأستاذ الدكتور أحمد علي الإمام، مدير جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، أحتفظ بصورة منها، وقد نشرت. (¬2) هي الآية السالفة: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ. (¬3) حجة القراءات 655. وانظر سراج القاري 350. وعبارة الشاطبي: وفي قيله اكسر واكسر الضّم بعد في ... ... ... ...

المسألة الخامسة عشرة:

المسألة الخامسة عشرة: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 49/ 1]، قرأ يعقوب: (لا تقدموا)، وقرأ الباقون: لا تُقَدِّمُوا (¬1). فيكون المعنى على اختيار يعقوب النهي عن التقدم على النّبي صلّى الله عليه وسلّم في المشي، والقيام بسائر الأفعال، وذلك على تقدير حذف إحدى تاءتي: تتقدموا (¬2). وهي فعل لازم، وبمثل قراءة يعقوب قرأ الضحاك (¬3) أيضا. وأما قراءة الجمهور فقد جاءت بفعل متعد من غير التصريح بالمفعول، وقد حذف المفعول إيذانا بالعموم، ليتناول كل ما يقع في النفس مما يقدم، وقريب من ذلك قوله سبحانه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 96/ 1]، فقد حذف المفعول ليشمل كل قراءة نافعة، وثمة وجه آخر لحذف المفعول هنا أورده الزمخشري إذ قال: إنه لم يقصد قصد مفعول، ولا حذفه، بل توجّه بالنّهي إلى نفس المتقدم كأنه قيل: لا تقدموا على التّلبس بهذا الفعل، ولا تجعلوه منكم بسبيل كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ (¬4) [غافر: 40/ 67]. وثمرة الخلاف: تظهر فيما تحصل من معان جديدة ومفيدة، فمقتضى الآية هنا النهي عن التقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعلا؛ كما دلّت قراءة يعقوب، وقولا؛ كما دلّت قراءة الباقين. فهي إذن مشتملة على وجوب الأدب معه صلّى الله عليه وسلّم وعدم التّقدم عليه، ومشتملة أيضا على وجوب طاعته واتباعه صلّى الله عليه وسلّم فيما أمر به. وليس ثمة سبيل لاستخلاص ذينك المعنيين من هذه الآية إلا من خلال تعدّد القراءات كما رأينا. قال القاضي ابن العربي المالكي: الآية أصل في ترك التّعرض لأقوال النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وإيجاب ¬

_ (¬1) النّشر في القراءات العشر لابن الجزري 175. وعبارة طيبة النّشر: تقدموا ضموا اكسروا لا الحضرمي ... ... ... ... (¬2) الكشاف للزمخشري 3/ 552. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/ 30. (¬4) الكشاف للزمخشري 3/ 552.

اتّباعه، والاقتداء به، وكذلك قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم في مرضه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» فقالت عائشة لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس من البكاء، فمر عليّا (¬1)، فليصلّ بالناس، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنكن لأنتنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس» (¬2). وكذلك فقد أورد القاضي ابن العربي خمسة أسباب لنزول الآية تكشف لك أن كلا المعنيين مراد حيث دلّت عليه الآية، وبسط الأسباب الخمسة كما يلي: الأول: إن قوما كانوا يقولون لو أنزل في كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية. قاله قتادة. الثاني: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه. قاله ابن عباس. الثالث: لا تفتاتوا على الله ورسوله في أمر حتى يقضي الله على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما يشاء. قاله مجاهد. الرابع: نزلت في قوم ذبحوا قبل أن يصلّي النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. قاله الحسن. الخامس: لا تقدموا أعمال الطاعة قبل وقتها. قاله الزجاج (¬3). وأورد القرطبي سببا سادسا وهو أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يستخلف رجلا على المدينة يوم قصد خيبر، فأشار عليه عمر برجل آخر فنزلت (¬4). ويناسب أن يكون الرابع والخامس سببا للآية كما قرأ يعقوب، وأن تكون الأسباب الأخرى واردة على ما قرأ الباقون. قال ابن العربي: هذه الأقوال كلها صحيحة تدخل تحت العموم، فالله أعلم ما كان السبب المثير للآية، ولعلها نزلت دون سبب (¬5). ¬

_ (¬1) الرواية المشهورة أنه عمر، أوردها البخاري في الصحيح كتاب الجماعة والإمامة، رقم الحديث (633). (¬2) أحكام القرآن للقاضي ابن العربي المالكي 4/ 1712. (¬3) أحكام القرآن للقاضي ابن العربي 4/ 1712. (¬4) الجامع لأحكام القرآن 16/ 301. (¬5) أحكام القرآن للقاضي ابن العربي 4/ 1712.

المسألة السادسة عشرة:

المسألة السادسة عشرة: قوله تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير: 81/ 24]. قرأها ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ورويس: (وما هو على الغيب بظنين) (¬1)، من الظّن والتّهمة. وقرأ الباقون: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (¬2) من البخل. ففي قراءة ابن كثير وأصحابه نفى الله سبحانه عن نبيّه الكريم صلّى الله عليه وسلّم تهمة الوهن والظّن، فيما يبلغه للعباد من أمر الغيب والوحي. وظنين، صيغة (فعيل)، من ظنّ، جاءت اسم فاعل، خلافا للقياس في نظائرها: منّ، وحنّ، وأنّ؛ حيث اسم فاعلها حنّان، ومنّان، وأنّان. وفي قراءة الباقين نفى الله سبحانه عن نبيّه الكريم صلّى الله عليه وسلّم تهمة كتم شيء من الوحي، فأخبر أن ما هو على الغيب بضنين، من البخل، ويدلّ له قول السيدة عائشة رضي الله عنها لابن أختها عروة: أين أنت من ثلاث من حدثك بهن فقد كذب ... ومن حدثك أنه كتم شيئا من الوحي فقد كذب (¬3). وذلك كله من أصول العقيدة يدلّ له العقل، ويدلّ له النقل في مواطن كثيرة، وتزيده هذه الآية توكيدا على توكيد. وثمرة الخلاف: أنه يلزم المكلّف اعتقاد سلامة النّبي صلّى الله عليه وسلّم من أمرين اثنين: من الضّن بالغيب، ومن الظّن بالغيب، فهو لم يكتم شيئا مما أوحي إليه، وكذلك لم يتلقّ ما تلقّى ظانّا، ولا واهما، وإنما تلقّاه بيقين، وأدّاه بيقين. ولم يكن لك أن تدرك المعنيين جميعا لولا ما تواتر من القراءة الصحيحة. ¬

_ (¬1) سراج القاري لابن القاصح 382. وعبارة الشاطبي: وظا بضنين حق راو وخف في فأشار بقوله: (حق) إلى أبي عمرو وابن كثير، وأشار بالراء إلى الكسائي، أنهم قرءوها بالظاء. وقد أخبر ابن الجزري أن رويس قرأها بالظاء أيضا في تقريب النشر 186، وأورد كذلك وجها منفردا نقله ابن مهران عن روح أيضا أنه قرأها بالظاء. (¬2) المصادر نفسها. (¬3) رواه البخاري في كتاب التفسير، سورة النجم، آية 1.

وهذه المعاني التي دلّت لها الآية من أصول العقيدة يدلّ لها النقل، ويدلّ لها العقل في مواطن كثيرة، وتزيده هذه الآية توكيدا على توكيد. وفي التّنزيل: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف: 18/ 107]. وقد أدّى النّبي صلّى الله عليه وسلّم ما أوحي إليه فلم يضنّ بشيء، وكان في بعض ما أدّاه عتب عليه شديد، ولو كان له أن يبدله من تلقاء نفسه لكتم ذلك، وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: لو كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب: 33/ 37]. وكذلك قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى * وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى* وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى* وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى * وَهُوَ يَخْشى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس: 80/ 1 - 10]. وكذلك قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 8/ 67 - 68]. وكذلك قوله سبحانه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقّة: 69/ 44 - 47]. فهذه الآيات ونظائرها تضمّنت عتبا شديدا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان له أن يضنّ بشيء من الوحي لضنّ بهذا. وأما باب الظّن فقد رزقه الله سبحانه من اليقين ما لم يؤته أحد، وبحسبك أنه بشّر سراقة بن مالك بن جعشم بسواري كسرى وتاجه وهو طريد خائف، يخاف أن يتخطّفه الناس، وبشّر المسلمين بكنوز كسرى وقيصر يوم الخندق، وإن المشركين ليطوقون المدينة كما يطوق السوار المعصم، والمنافقون بداخل المدينة يغلون بالنّفاق ويقولون: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: 23/ 12]، واليهود يغدرون من الخلف ويكيدون للإسلام والمسلمين.

المسألة السابعة عشر:

وأخرج الترمذي في جامعه في كتاب التفسير سورة المائدة: (فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: من هذا؟ فقالوا: سعد، وحذيفة جئنا نحرسك يا رسول الله، فنام صلّى الله عليه وسلّم حتى سمعت غطيطه، ونزلت هذه الآية: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فأخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه من قبة أدم، وقال: «انصرفوا أيها الناس؛ فقد عصمني الله» (¬1). فأنت ترى أنه صرف الحرس على رغم حاجته إليهم لمجرد أنه تلقى من الله وعدا بالعصمة، فقد كان يقينه بعصمة الله أعظم من ثقته بعصمة الناس. وهذه المعاني كما ترى مجتمعة في قوله سبحانه: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ. المسألة السابعة عشر: قوله تعالى: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق: 84/ 19]. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف (¬2): (لتركبنّ طبقا) بفتح الباء، أي: لتركبن يا محمد حالا بعد حال. يذكر حالات النّبي صلّى الله عليه وسلّم من يوم أوحي إليه إلى يوم قبضه الله، وقد روي أيضا: «لتركبن يا محمد سماء بعد سماء» يعني في المعارج. وقال آخرون منهم ابن عباس: «لتركبن أي لتصيرن الأمور حالا بعد حال بتغيرها، واختلاف الأزمان» يعني الشدة (¬3). ف (الأمور) فاعلة وتكون التاء لتأنيث الجمع. وقال آخرون منهم ابن مسعود: إنه قرأ (لتركبنّ) - أي السماء- حالا بعد حال، تكون وردة كالدهان، وتكون كالمهل في اختلاف هيأتها. فتكون التاء لتأنيث السماء. وقرأ الباقون: لَتَرْكَبُنَّ برفع الباء. وحجتهم في ذلك أنه يخاطب الناس في ذلك، لأنه ذكر من يؤتى كتابه بيمينه وبشماله، ثم ذكر ركوبهم طبقا عن طبق، ثم قال: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ المعنى: لتركبن حالا بعد حال من إحياء، وإماتة، وبعث حتى تصيروا إلى الله. ¬

_ (¬1) انظر الجامع الصحيح للترمذي 5/ 4. (¬2) سراج القاري 382. وعبارة الشاطبي: ... ... ... ... وبا تركبن اضمم حبا عمّ نهلا وأضاف ابن الجزري أن خلقا قرأ بفتح الباء أيضا ذلك في تقريب النّشر 187. (¬3) انظر الدّر المنثور في التفسير بالمأثور 330.

وثمرة الخلاف:

عن الحسن قال: لتركبن حالا بعد حال، ومنزلا بعد منزل (¬1). وعن مجاهد (¬2): لتركبنّ أمرا بعد أمر (¬3). وثمرة الخلاف: أن الآية نصّت على شيئين اثنين: الأول: أن الناس يتقلّبون في أحوال مختلفة من الموت إلى القبر إلى البرزخ إلى الحساب إلى حيث يؤمر بهم، وهو ما دلّت له قراءة الجمهور. الثاني: أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم موعود من الله عزّ وجلّ- ووعد الله حق لا يخلف الله الميعاد- موعود أن يرقى به طبقا عن طبق، وقد رأيت قوة التفسير الذي أشار إلى أنها العدة بالمعراج، وقد دلّت لهذا المعنى قراءة ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف العاشر. والحاصل أن اختلاف القراءتين مردّه إلى تقدير الضمير، أهو مفرد أم جمع؟ فإن كان مفردا كما قرأه ابن كثير وأصحابه: فهو إما النّبي صلّى الله عليه وسلّم كما مرّ بك، أو السماء كما روي عن ابن مسعود كما قدمنا. وإن كان المضمر جماعة كما في قراءة الجمهور، فالآية إخبار عن أحوال الناس يوم القيامة، وما ينتظرهم من معاد. وهذه الدّلالات جميعا من مقاصد الآية، لا تتعارض، ولا تتناقض، وسبيل معرفتها هو القراءة المتواترة بالضّم والفتح جميعا. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه 330. (¬2) المصدر نفسه 330. (¬3) حجة القراءات 330.

المبحث الثالث الغيبيات

المبحث الثالث الغيبيّات المسألة الأولى: قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ [البقرة: 2/ 36]. قرأ حمزة: (فأزالهما الشيطان عنها) (¬1)، وقرأ الباقون: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها (¬2). فقراءة حمزة من الإزالة، وهي نقيض الثبات، ويقوي قراءته قوله سبحانه: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ، وهو في اقتضاء الظاهر أكثر من الوسوسة. أما قراءة الجمهور: فَأَزَلَّهُمَا من الزّلل، وهو نتيجة وسوسته وإغرائه، والوسوسة حديث النفس، يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة، ووسواسا بكسر الواو، وكان ذلك عن طريق القسم لهما إنه لمن النّاصحين: وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف: 7/ 21]. وأما السبيل التي بها وسوس لآدم فلم يصح فيها خبر، وغاية ما دلّت عليه النصوص القرآنية أنه غرّه باليمين الفاجرة وأغراه بالملك، وهو نقل عن ابن عباس قال: أتاه الملعون من جهة الملك. وثمرة الخلاف: أنه يجوز نسبة الفعل إلى الشيطان على سبيل المجاز، وهو ما دلّت عليه قراءة حمزة، وليس هذا المعنى جديدا مبتدعا في الآية؛ بل له نظائر كثيرة في القرآن، ولكنه مؤيّد لها ومظاهر، أقربها قوله سبحانه: فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ [البقرة: 2/ 36]، فنسب الإخراج إليه مع أنه لم يكن منه إلا الوسوسة، وكان الإخراج بأمر الله سبحانه وتعالى على سبيل الحقيقة. ¬

_ (¬1) سراج القاري لابن القاصح 150. وعبارة الشاطبية: وفي فأزل اللام خفف لحمزة ... وزد ألفا من قبله فتكملا (¬2) تعيّنت القراءة للباقين بذلك لما لم يأت ذكر مخالف إلا حمزة، ولم يأت ابن الجزري على أي إشارة بخلاف أحد من الثلاثة تتمة العشرة.

المسألة الثانية:

والقراءتان متظاهرتان في التوكيد أن على المؤمن أن يتقي كيد الشيطان، فقد بلغ من كيده أنه أزل نبيّا وأزاله عن نعمته، وتكرّر الخبر في القرآن لأهميته وعظم دلالته، وإن كان ذلك الأثر كله مقدّر بأمر الله سبحانه، وأمرك بدراستها وفهمها. فيكون ما دلّت عليه قراءة الجمهور أن سعي الشيطان مقتصر على الوسوسة، وما دلّت عليه قراءة حمزة أن سعيد قد يتعدّاها إلى الكيد المفضي إلى ركوب المحظور. وليس بين القراءتين تناقض بل إن قراءة حمزة أفادت معنى جديدا، وهي متواترة ينبغي التزامها، وهذا يشبه ما هو مقرّر عند علماء الاصطلاح من قبول وزيادة الثقة. المسألة الثانية: - قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 6/ 109]. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وشعبة: (وما يشعركم إنّها إذا جاءت) بكسر الألف. قال اليزيدي: الخبر متناه عند قوله: وَما يُشْعِرُكُمْ أي: ما يدريكم؟ ثم ابتدأ الخبر عنهم: (إنهم لا يؤمنون إذا جاءتهم) وكسروا الألف على الاستئناف. قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: (وما يشعركم إنّها إذا جاءت) ما منعها أن تكون كقولك: (وما يدريك أنه لا يفعل؟)، فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع، إنما قال: وَما يُشْعِرُكُمْ ثم ابتدأ، فأوجب، فقال: (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) لو قال: (وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون) كان عذرا لهم، وحجّتهم قوله [بعدها]: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ .. إلى قوله: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا فأوجب لهم الكفر، وقال: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، أي: إن الآية إن جاءتهم لم يؤمنوا [لما لم يؤمنوا] أول مرّة. وقرأ الباقون: أَنَّها إِذا جاءَتْ بالفتح. قال الخليل: إن معناها: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. قال: وهذا كقولهم: (ايت السوق أنك تشتري لنا شيئا) أي لعلك.

وثمرة الخلاف:

يروى في التفسير (¬1) أنهم اقترحوا الآيات، وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 17/ 93] .. إلى قوله: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ فأنزل الله: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (¬2)، أي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون على رجاء المؤمنين. وقال آخرون: بل المعنى: (وما يشعركم أنّها إذا جاءت يؤمنون) فتكون (لا) مؤكدة للجحد كما قال: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ بمعنى: (وحرام عليهم أن يرجعوا). قال الفرّاء: «سأل الكفّار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم بالآية التي نزلت في الشعراء إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ». وقال المؤمنون: يا رسول الله سل ربّك أن ينزلها حتى يؤمنوا، فأنزل الله: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ أي (إذا جاءت يؤمنون) و (لا) صلة كقوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ أي أن تسجد. وقراءة حمزة، وابن عامر: (إذا جاءت لا تؤمنون) بالتاء. وحجتهما قوله: وَما يُشْعِرُكُمْ. قال مجاهد: قوله: وَما يُشْعِرُكُمْ خطاب للمشركين الذين أقسموا، فقال جلّ وعزّ: وما يدريكم أنكم تؤمنون. وقرأ الباقون: بالياء، إخبار عنهم. وحجتهم قوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ ولم يقل: (أفئدتكم) (¬3). وثمرة الخلاف: أن القراءتين غير متعارضتين في المعنى؛ وإن أوهم السياق التّعارض، وهي على تقدير التقرير، أو المفعولية، تفيد أن المشركين لن يؤمنوا ولو جاءتهم الآيات، وهذا قررته آيات كثيرة: ¬

_ (¬1) الكلام هنا نقل عن أبي زرعة في الحجة كما سيأتي. (¬2) انظر أسباب النزول للجلال السيوطي، سورة الإسراء: 17/ 93. (¬3) حجة القراءات 265. وانظر سراج القاري 213. وعبارة الشاطبي: وحرّك وسكّن كافيا .. واكسر إنها ... حمى صوبه بالخلف درّا وأوبلا

وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام: 6/ 6]. وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر: 15/ 14 - 15]. وفي توكيد المعنى جاءت الآية التالية: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الأنعام: 6/ 109]. وهذا السياق يدفع توهّم أن تكون الآية عتابا للمؤمنين كما يشعر به قوله سبحانه: وَما يُشْعِرُكُمْ، على قراءة الفتح. وهكذا فإن جماهير المفسرين متّفقون على معنى أن الآيات لن تكون سببا لإسلامهم، فلا تنتظروا دخولهم في الإسلام بها إلا أن يشاء الله، ولكن أكثرهم يجهلون. وللقرطبي في هذه الآية تعليل لطيف أنقله لك بنصّه: قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي قل يا محمّد: الله القادر على الإتيان بها، وإنما يأتي بها إذا شاء. وَما يُشْعِرُكُمْ أي: وما يدريكم إيمانهم، فحذف المفعول، ثم استأنف فقال: (إنها إذا جاءت لا يؤمنون) بكسر إن، وهي قراءة مجاهد، وأبي عمرو، وابن كثير. ويشهد لهذا قراءة ابن مسعود (وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون). وقال مجاهد، وابن زيد: المخاطب بها المشركون، وتمّ الكلام. حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقد أعلمنا في الآية بعد هذه أنهم لا يؤمنون، وهذا التأويل يشبه قراءة من قرأ (تؤمنون) بالتاء. وقال الفرّاء وغيره: الخطاب للمؤمنين، لأن المؤمنين قالوا للنّبي صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون، فقال الله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ أي: يعلمكم ويدريكم أيها المؤمنون. أَنَّها بالفتح، وهي قراءة أهل المدينة، والأعمش، وحمزة، أي: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. قال الخليل: أَنَّها بمعنى لعلها، حكاه عن سيبويه، وفي التّنزيل: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي أنه يزّكّى. وحكي عن العرب: ايت السوق أنّك تشتري لنا شيئا، أي: لعلك، وهو اختيار إمام اللغة الخليل بن أحمد الفراهيدي، وقال أبو النّجم:

قالت لشيبان ادن من لقائه ... لأن تغدي القوم من شوائه وقال عدي بن زيد: أعازل ما يدريك أنّ منيّتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد أي: لعلني. وقال دريد بن الصّمة: أريني جوادا مات هزلا لأنني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلّدا أي: لعلني. وهو في كلام العرب كثير (أنّ) بمعنى لعلّ. وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب: (وما أدراكم لعلها). وقال الكسائي، والفرّاء: أن (لا) زائدة، والمعنى: وما يشعركم أنها- أي الآيات- إذا جاءت المشركين يؤمنون، زيدت (لا) كما زيدت (لا) في قوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ لأن المعنى: وحرام على قرية مهلكة رجوعهم. وفي قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ والمعنى: ما منعك أن تسجد. وضعّف الزّجاج، والنّحاس، وغيرهما زيادة (لا) وقالوا: هو غلط وخطأ؛ لأنها إنما تزاد فيما لا يشكل. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون، أو يؤمنون، ثم حذف هذا لعلم السامع، ذكروا النحاس وغيره (¬1). ونقل أبو الشيخ (¬2) عن ابن عباس قال: أنزلت في قريش ومعناها: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، قل إنما الآيات عند الله، وما يشعركم يا معشر المسلمين أنها إذا جاءت لا يؤمنون إلا أن يشاء الله فيجبرهم على الإسلام (¬3). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ط دار الكاتب العربي 7/ 64. (¬2) هو عبد الله بن محمد بن جعفر بن حبان الأصبهاني 274 - 369 هـ، أبو محمد، من حفّاظ الحديث العلماء برجاله، يقال له أبو الشيخ، نسبته إلى جدّه حبّان، فيقال له: أبو الشيخ الحباني، له تصانيف منها: طبقات المحدّثين بأصبهان، كتاب السّنة، كتاب العظمة. (¬3) الدّر المنثورة في التفسير بالمأثور للسيوطي، 3/ 39.

المسألة الثالثة:

المسألة الثالثة: قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [الأنعام: 6/ 161]. قرأ نافع، وأبو جعفر المدنيان، وأبو عمرو البصري: (دينا قيّما ملّة إبراهيم حنيفا) أي مستقيما. وقرأ الباقون: دِيناً قِيَماً بالتخفيف (¬1). قال أبو زرعة دينا قيما بكسر القاف؛ أي: مستقيما (¬2)، أي: لا عوج فيه (¬3)، وعلى ذلك جرى أكثر المفسرين أنها لغتان في الكلمة الواحدة، حتى نقل أبو زرعة عن الفراء قوله: في هذه الكلمة لغات. العرب تقول: هذا قيّام أهله، وقوّام أهله، وقيّم أهله، وقيم أهله (¬4). ونظائر القراءة بالتشديد في الكتاب العزيز قوله تعالى: ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ، وكذلك قوله سبحانه: فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ. وثمرة الخلاف: إنما تظهر من تعقّب معاني الكلمتين، فقد رأيت أن عامة المفسّرين جزموا بأنهما لغتان من الاستقامة، وبذلك تكون ثمرة الخلاف محدودة في إظهار توسع لغوي لأحد الألفاظ العربية. ولكن رأيت في فتح القدير للشوكاني معنى آخر للقيم بالتشديد؛ حيث قال ما نصّه: الدين القيم، الدين المأمور بإقامة الوجه له (¬5). فعلى ذلك تكون قراءة التشديد أفادتنا معنى جديدا للفظة المذكورة. فيكون من دلالة قراءة التخفيف أن الإسلام دين مستقيم لا عوج فيه، ناطق بمراد الله هاد إلى أمره. ¬

_ (¬1) قال الشاطبي في الحرز: وكسر وفتح خف في قيما ذكا ... ... ... ... وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري 220. (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة 278. (¬3) القرطبي. الجامع لأحكام القرآن 7/ 152. (¬4) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة 278. (¬5) فتح القدير للشوكاني 4/ 224.

المسألة الرابعة:

ويكون من دلالة قراءة التشديد أن الإسلام هو الدين الذي ينبغي أن تقوم له وجوه الموحّدين. وهما وصفان للإسلام لم نكن لنفهم دلالتهما إلا بالقراءتين جميعا. المسألة الرابعة: قوله تعالى: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ، وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [يونس: 10/ 30]، قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (هنالك تتلو كل نفس ما أسلفت) بالتاء. وقرأ الباقون: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ (¬1) بالباء. وهما معنيان كما ترى، فالقراءة بالتاء إخبار عن حال العباد حينما تبسط الصحف أمامهم يوم القيامة فيقرئون ما فيها، ونظيرها قول الله عزّ وجلّ: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: 17/ 13]، وقيل: بل معناه تتبع كل نفس ما قدمت في الدنيا، ومنه قول الشاعر: إن المريب يتبع المريبا ... كما رأيت الذيب يتلو الذيبا (¬2) وأما القراءة بالباء فهي من الاختبار والابتلاء، أي: تختبر ما قدمت من عمل صالح، وغيره، وتعاين نتيجته، ومنه قوله تعالى: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ [ن: 68/ 17]، أي اختبرناهم كما اختبرنا أصحاب الجنة. وثمرة الخلاف: كما ترى في إضافة معنى جديد في تفسير الآية، حيث يلزم الاعتقاد أن العبد يوم القيامة يتلو ما أسلف، ويبلو ما أسلف، فيندفع عنه بتلاوة الصحائف توهمه ضياع بعض عمله، ويندفع عنه بابتلاء الصحائف توهمه أنه لم يؤت جزاء ما عمل، وهذه المسألة من الغيبيات التي يكلف المؤمن باعتقادها، وكما ترى فإن كل واحد من المعنيين دلّت له قراءة متواترة يتحتّم على المسلم تصديقها والتزامها. ¬

_ (¬1) قال الشاطبي في الحرز إشارة إلى قراءة المرموز لهم بالتاء وهما حمزة والكسائي. ... ... ... ... وفي باء التاء شاع تنزلا وقال ابن الجزري في الدّرة مشيرا إلى اختيار خلف لوجهي حمزة والكسائي: رم دن سكونا باء تلو التاء شفا ... ... ... ... وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري 243. (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 334.

المسألة الخامسة:

المسألة الخامسة: قوله تعالى: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ [النّمل: 16/ 62]. قرأ نافع: (وأنّهم مفرطون)، وقرأ أبو جعفر: (وأنّهم مفرّطون)، وقرأ الباقون: وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (¬1). والتّفريط هو التضييع، وفرط في الأمر أي قصر فيه، وضيّعه حتى فات (¬2)، ومنه قول كعب بن مالك في تخلّفه: وتفارط الغزو أي: فات وقته (¬3). ومثله قول الله سبحانه: وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف: 18/ 28]، أي متروكا، ترك فيه الطاعة وغفل عنها (¬4). ودلالة القراءات الثلاث بحسب متعلقاتها؛ فقراءة نافع على تقدير الفاعلية، وقراءة أبي جعفر على المبالغة فيها، وقراءة الجمهور على تقدير المفعولية، وهذه المعاني جميعا لازمة المشركين في الآخرة كما دلّت القراءة المتواترة. ونقل الزمخشري وجها آخر لأبي جعفر في الكشاف وهو: مفرّطون (¬5)، وهو أيضا صيغة مبالغة من قراءة الجمهور، ولكن هذا النقل عن أبي جعفر لم يبلغ رتبة التواتر، فالعهدة فيه على رواته. وثمرة الخلاف: تظهر لك في التأليف بين المعاني التي دلّت لها تلك الوجوه، فالقرآن وصف الكفرة بأنهم مفرطون في حقّ أنفسهم، وفي حقّ دينهم، ضيّعوا فرائض الله، وتركوا أوامره، والقراءة الثانية أفادت المبالغة في هذا المعنى، فدلّت على عنادهم في التّفريط، والتّهاون في أمر الله ونهيه. ¬

_ (¬1) أخبر ابن الجزري عن مذاهب العشرة في هذه الكلمة بقوله: ... ... ... ورا ... مفرطون اكسر (مدا) واشدد (ث) را وانظر كذلك سراج القاري لابن القاصح العذري 270. وعبارة الشاطبي في الحرز: ورا مفرطون اكسر أضا ... (¬2) لسان العرب 7/ 360 باب فرط. (¬3) سيرة رسول الله 320. (¬4) لسان العرب 7/ 368 باب فرط. (¬5) الكشاف للزمخشري 2/ 415.

المسألة السادسة:

وأخبرت القراءة الثالثة بأن الله سبحانه جازاهم من جنس ما يفعلون، فكما فرطوا في أمر الله وضيّعوه، فرّط الله في أمرهم وضيّعهم، وهو من المشاكلة التي وردت مرارا في القرآن الكريم، ونظائرها: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التّوبة: 9/ 67]، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: 2/ 15]، وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران: 3/ 54]. ولا شكّ أن سبيل إدراك هذه المعاني جميعا من منطوق آية واحدة؛ إنما هو بتحصيل الوجوه الثلاث من القراءة المتواترة والله أعلم. المسألة السادسة: قوله تعالى: قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ [الفرقان: 25/ 18]. قرأ أبو جعفر المدني: (ما كان ينبغي لنا أن نتّخذ) بصيغة المبني للمجهول. وقرأ الباقون: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ (¬1). ونقل الزمخشري في الكشاف في توجيه قراءة أبي جعفر أن هذا الفعل- يعني:- اتخذ- يتعدى إلى مفعول واحد، كقولك: اتّخذ زيد وليّا، وإلى مفعولين، كقولك: اتّخذ زيد فلانا وليّا. أي ما ينبغي لنا أن نعبد من دون الله، قال الله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ، وقال: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، فالقراءة الأولى من المتعدي إلى واحد، وهو من أولياء، والأصل أن نتّخذ أولياء فزيدت (من) لتأكيد معنى النفي. والثانية من المتعدي إلى مفعولين، فالأول ما بني له الفعل، والثاني من أولياء، ومن للتّبعيض، أي لا نتّخذ بعض أولياء (¬2). وتبدو قراءة أبي جعفر أوضح في السياق، إذ المطلوب هنا ليس تبرئة المعبودات من عبادة غير الله، بل المطلوب تنزيه المعبود سبحانه من وجود شريك له، ولكن تكلّم النّحويون في هذا الوجه، فقال أبو عمرو البصري، زبان بن العلاء: لو كانت نتخذ لحذفت (من) الثانية، فتقول: ¬

_ (¬1) قال ابن الجزري في الطّيبة مشيرا إلى مذهب أبي جعفر في ضم نون نتخذ: ... ... ... ... ... نتخذ أضممن ثروا انظر إتحاف البررة 242، وانظر تقريب النشر لابن الجزري 151. (¬2) الكشاف للزمخشري 3/ 86.

وثمرة الخلاف:

أن نتخذ من دونك أولياء، وبمثل هذا القول قال أبو عبيدة، وعيسى بن عمر، وقد قال بردّ هذه القراءة في اللغة الإمام القرطبي في الجامع في نقل عزاه إلى النحاس يطول نقله، ومثل له بقولك: ما اتّخذت رجلا وليّا (¬1)، وقولك: ما اتّخذت من رجل وليّا. وهو يشبه ما قدمته لك من اختيار الزمخشري؛ إذ لا يحسن أن تقول: ما اتّخذت من رجل من ولي. وثمرة الخلاف: أن المعبودات من دون الله من أنبياء وصالحين، وكذلك من أحجار، ونجوم، وأشجار إنما هي موحدة لله عزّ وجلّ، على الفطرة التي فطر الله عليها الخلق، إلا ما يكون من أمر الطواغيت والشياطين، الذين يدعون الناس إلى عباداتهم، كما قال الله سبحانه حكاية عن فرعون: فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى. وعليه فإن الآية دلّت على أمرين اثنين: الأول: أن الكائنات جميعا في الأصل موحدة، ما ينبغي أن تتخذ من دون الله من أولياء، وهو ما دلّت له قراءة الجمهور. الثاني: أن بعض المخلوقات عبدت من دون الله على غير إرادة منها، فهي موحدة طائعة، لا تحمل إثم عبّادها وزيغهم إذا أقرّت بين يدي الله بالتوحيد، كما عبد بعض الكفرة عيسى بن مريم، وعبد بعضهم عزيرا، وكلاهما نبيّ كريم، لا يضرّه وزر عابديه، إذ كان قد سبق منهم دعوتهم إلى عقيدة التوحيد، وهذا المعنى دلّت له قراءة أبي جعفر. وكنت أحبّ في هذا الباب أن أقف على رأي للإمام اللغوي الحجة أبي زرعة فإن من عاداته أن يبسط القول في مثل هذه المسائل، ولكنه يلتزم في كتابه الحجة الانتصار للسبعة، وليس منهم أبو جعفر، لذلك فإنني لم أقف على نقل لأبي زرعة في هذا المقام. ومع ذلك فإنه لا يخفى أن اعتراض بعضهم على قراءة أبي جعفر محمول على عدم ثبوت تواترها عندهم، ولو ثبت عندهم التواتر لم تكن لهم مندوحة من قبول ذلك في اللغة والاستنباط. ¬

_ (¬1) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/ 10.

المسألة السابعة:

المسألة السابعة: قوله تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ [النّمل: 27/ 82]. قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: أَنَّ النَّاسَ بفتح الألف. واحتجّوا بقراءة ابن مسعود: (تكلّمهم بأن الناس) بالباء، فلما سقطت الباء حكى عليها بالنصب. وقرأ الباقون: (إنّ النّاس) بالكسر على الاستئناف. جعلوا اللام عند قوله تُكَلِّمُهُمْ تامّا (¬1). وثمرة الخلاف: أن قراءة الجمهور ألزمت المسلم باعتقاد خروج الدّابة كشرط من أشراط الساعة، وهو ما دلّت عليه نصوص من السّنة. أخرج نعيم بن حماد عن ابن شوذب قال: قال عمر: لا تخرج دابة الأرض حتى لا يبقى في الأرض مؤمن (¬2). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدّجّال، ودابّة الأرض» (¬3). وهذا المعنى دلّت له قراءة الكوفيين أيضا، وزادت عليه بأن ذكرت كلام الدّابة أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ، فأضافت هذه القراءة معنى جديدا في أشراط الساعة يلزم اعتقاده. والدّابة التي جاءت بها الآية العظيمة من أظهر علامات الساعة، وهي إحدى الأشراط التي لا يحلّ إنكارها، لأنها ورد بها الخبر في القرآن العظيم وفي السّنة الصحيحة، وأكثر الأحاديث بسطا لخبر الدّابة إنما هو حديث حذيفة بن أسيد الغفاري، وقد خرجه جماعة من أهل السّنن: ¬

_ (¬1) حجة القراءات 538. وانظر سراج القاري 313. وعبارة الشاطبي: ومع فتح أن الناس ما بعد مكرهم ... لكف وأما يشركون ندّ حلا (¬2) كذا عزاه السيوطي إلى نعيم بن حماد، ولم أعثر على إسناده. انظر كنز العمال 14/ 623 (¬3) أخرجه الإمام مسلم، كتاب الفتن.

«تكون للدّابة ثلاث خرجات من الدّهر: فتخرج خرجة من أقصى اليمين حتى ينشر ذكرها في أهل البادية، ولا يدخل ذكرها القرية- يعني مكة- ثم تمكث زمانا طويلا بعد ذلك، ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة، فينتشر ذكرها في أهل البادية، وينشر ذكرها بمكة، ثم تكمن زمانا طويلا، ثم بينما الناس يوما بأعظم المساجد على الله حرمة، وخيرها، وأكرمها على الله؛ المسجد الحرام، لم يرعهم إلّا وهي في ناحية المسجد ترغو ما بين الركن والمقام إلى باب بني مخزوم على الخارج من المسجد، تنفض على رأسها التراب، فارفضّ الناس عنها شتّى ومعا، وتثبت لها عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله، فبدت بهم فجلت وجوههم حتى تجعلها كأنها الكواكب الدّرية، ثم ولّت في الأرض لا يدركها طالب، ولا يعجزها هارب، حتى إنّ الرجل ليقوم يتعوّذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه، فتقول: يا فلان الآن تصلي؟! فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه، ثم تذهب، ويتجاوز الناس في دورهم، وفي أسفارهم ويشتركون في الأموال، ويصطحبون في الأمصار، ويعرف المؤمن من الكافر، حتى إن المؤمن ليقول للكافر: يا كافر اقضني حقي، وحتى إن الكافر يقول للمؤمن، يا مؤمن اقضني حقي» (¬1). وأقوال المفسرين في وصف الدّابة متقاربة، وإنما عمدتهم على النصوص الواردة في وصفها، ولعل أقوى الوجوه في ذلك ما اختاره ابن عمر رضي الله عنه (¬2) من أنها الجسّاسة الوارد ذكرها في الصحاح. وتجمع آراء المفسرين على أنها حيوان يخرج من بعض أطراف الحجاز (¬3)، ثم تدخل مكة فتكون للناس واعظا ناطقا تحدّثهم بآيات الله. ¬

_ (¬1) ذكره السيوطي في الدّر المنثور في التفسير بالمأثور 5/ 336. وأورد القرطبي أطرافا من روايته في 13/ 235. وأخرجه الطبراني عن ابن أسيد الغفاري. وأخرجه الحاكم وعبد بن حميد في تفسيره. انظر كنز العمال 14/ 324. وفي صحيح مسلم قريب من هذه الرواية، كتاب الفتن، باب (48) باب صفة الدّجال وخروجه، وحديث الجسّاسة، رقم الحديث عند مسلم (2054). (¬2) انظر القرطبي الجامع لأحكام القرآن 13/ 235. (¬3) تجد من أقوال السلف في مخرج الدّابة: من جبل الصّفا بمكة، ابن عمر. تخرج من تهامة، قتادة. تخرج من الطائف، عبد الله عمرو.

المسألة الثامنة:

وهكذا فإن التواتر المتحقّق في القراءتين يلزم المسلم أن يعتقد بخروج الدّابة وأن يعتقد بكلامها المذكور في الآية (¬1). وثمة قراءة شاذة منقولة عن بعض السّلف وهي: (دابة من الأرض تكلمهم) (¬2) أي تجرحهم، وهي شاذة أريد بها نفي صفة الكلام عن الدّابة، وهو خطأ في العقيدة؛ إذ يلزم الاعتقاد أنها تتكلّم كما دلّت له القراءة المتواترة. المسألة الثامنة: قوله تعالى: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ [الصّافات: 37/ 8]. قرأ حمزة، والكسائي، وحفص: لا يَسَّمَّعُونَ بالتشديد. وقرأ الباقون بالتّخفيف، وحجّتهم ما روي عن ابن عباس أنه قرأ: (لا يسمعون)، وقال: (هم يسّمّعون ولكن لا يسمعون) [والدّليل] على صحة قول ابن عباس أنهم (يسّمّعون، ولكن ¬

_ من جبل أجياد، ابن عباس. انظر في استقصاء أقوالهم: الدّر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 4/ 105. وكما رأيت فإن جملة الأقوال في مخرج الدّابة لا تبعد عن الحجاز، ولم أشأ الخوض في حجة كل قائل إذ ليس ذلك من شرط هذه الدراسة. (¬1) ولا يخرج من هذا الإجماع إلا رأي هزيل لبعض غلاة الشيعة، وهو أن الدّابة هي علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد روي هذا القول عن عدد من مفسّري الشيعة منهم القمي في تفسيره 2/ 130، ومنهم شرف الدين الأسترآباذي الغروي في كتابه تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة، ط مؤسسة النشر الإسلامي عام 1409 هـ في ص 401، وقد استقصى فيه تسع روايات عن أئمة الشيعة في إثبات توجيه دلالة الآية إلى الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكرّم الله وجهه، ولكن بعض التأمل في المنهج القرآني في ذكر الصالحين يدفع هذا الوهم الزائغ؛ إذ شأن العالم الفاضل المرشد أن يسمى إنسانا، ويكرم بلقب إمام، أو عالم، أو عارف، ولا يسميه: دابّة إلا من لا علم له، ولا أدب عنده. قال القرطبي: وهذا خروج عن عادة الفصحاء، وعن تعظيم العلماء، وليس ذلك دأب العقلاء. واعتقاد علماء الشيعة في هذه المسألة موافق لمختار الجمهور من الفقهاء والمفسرين، وقد نقله عنهم صاحب التفسير المبين بقوله: ما بين سبحانه حقيقة هذه الدّابة في كتابه، ولا ثبت ذلك عندنا في سنّة نبيّه الكريم صلّى الله عليه وسلّم، ولا يسوغ الكلام بغير علم، فلم يبق إلا الوقوف عند ظاهر الآية الذي يدلّ على أن الله سبحانه يخرج من الأرض عند النشر مخلوقا يعلن أن ما من أحد جحد بالله إلا مع قيام البينات، والآيات الواضحات على وجوده تعالى، نقول هذا في تفسير هذه الدّابة، ونسكت عما سكت الله عنه. انظر التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية 441، وانظر القرطبي الجامع لأحكام القرآن 3/ 235. (¬2) نقل هذا القول الطبري في الجامع 13/ 238، والزمخشري في الكشّاف 3/ 160.

لا يسمعون) قوله: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجنّ: 72/ 9]. وقوله [بعدها]: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ ... [الصّافات: 37/ 10]، فعلم بذلك أنهم يقصدون للاستماع، ومن حجتهم أيضا إجماع الجميع على قوله: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: 26/ 212]، وهو مصدر (سمعت)، والقصة واحدة. وتأويل الكلام: وحفظا من كل شيطان مارد لئلا يسمعوا، بمعنى أنهم ممنوعون بالحفظ عن السمع. فكفّت (لا) من (أن) كما قال: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ... [الشّعراء: 26/ 200 - 201]، بمعنى: لئلا يؤمنوا به، فكفّت (لا) من (أن) كما كفّت (أن) من (لا) في قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النّساء: 4/ 176]، فإن قال قائل: فلو كان هذا هو الوجه لم يكن في الكلام (إلى) ولكان الوجه أن يقال: لا يسمعون الملأ الأعلى. قلت: العرب تقول: سمعت زيدا، وسمعت إلى زيد، فكذلك قوله: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وقد قال جلّ وعزّ: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا [الأعراف: 7/ 204]، وقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام: 6/ 25]، فيعدّي الفعل مرة ب- (إلى) ومرة باللام كقوله: وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [النّحل: 16/ 121]، والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: 7/ 43]، وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النّحل: 16/ 68]، وقال: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (¬1) [الزّلزلة: 99/ 5]. ومن قرأ: يَسَّمَّعُونَ فالأصل: (يتسمعون) فأدغم التاء في السين لقرب المخرجين. وحجتهم في أنهم منعوا من التّسمع؛ الأخبار التي وردت عن أهل التأويل بأنهم كانوا يتسمعون الوحي، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رموا بالشّهب، ومنعوا، فإذا كانوا عن التّسمع ممنوعين كانوا عن السّمع أشدّ منعا وأبعد منه، لأن المتسمع يجوز أن يكون غير سامع، والسامع قد حصل له الفعل، قالوا: فكان هذا الوجه أبلغ في زجرهم؛ لأن الإنسان قد يتسمّع ولا يسمع، فإذا نفي التّسمع عنه ¬

_ (¬1) حجة القراءات 605. وانظر سراج القاري 334. وعبارة الشاطبي: ... ... ... ... يسمعون شذا علا بثقلية ... ... ... .. ... ...

وثمرة الخلاف:

فقد نفى سمعهم من جهة التّسمع، ومن جهة غيره، فهو أبلغ (¬1)، وهو ما تدلّ له قاعدة: (زيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى)، فاشتمل نفي التّسمّع على نفي السماع، وزاد عليه نفي القدرة على السماع ومحاولته. وثمرة الخلاف: أن اعتقاد المؤمن بوجود الجن؛ لا يجوز أن يحمله على اعتقاد أن الجنّ تعلم من الغيب شيئا، فقد أخبر الله عزّ وجلّ بصريح النّص أنّ الجن لا يسمعون من خبر الملأ الأعلى شيئا، وهو ما دلّت له قراءة الجمهور. وجاءت قراءة حمزة، والكسائي، وحفص بنفي الاستماع فضلا عن السمع لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى [الصّافات: 37/ 8]، ومقتضى القراءتين وجوب اعتقاد المسلم بنفي معرفة الغيب عن الجن كما الإنس، إلا من ارتضى من رسول، عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 72/ 26 - 27]. وهذا المعنى هو المنصوص عليه في سورة سبأ: فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ [سبأ: 34/ 14]. ومجمل اعتقاد أهل السّنة والجماعة في أمر الجنّ أنهم خلق من خلق الله كالملائكة، لا نعرف من حقيقتهم إلا ما جاءنا عن طريق الخبر الصادق، أي عن طريق كتاب الله وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد جاءت النصوص ببيان بعض أوصافهم، ومنها: أولا: أنهم صنف غير صنف الملائكة، مخلوقون من مارج من نار. قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ* وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرّحمن: 55/ 14 - 15]. ثانيا: أنهم مخلوقون قبل الإنس، ودليل ذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ* وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الحجر: 15/ 26 - 27]. ثالثا: أنهم لهم ذريّة، قال الله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف: 18/ 50]. ¬

_ (¬1) انظر الحاشية السابقة.

رابعا: أنهم يروننا من حيث لا نراهم، قال الله تعالى: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ، إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 7/ 27]. خامسا: أنهم مخلوقات قابلة للعلم والمعرفة، ذات إرادة واختيار، مكلّفون بالإيمان والعبادة، قال تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذّاريات: 51/ 56 - 57]. سادسا: أنهم قسمان: مؤمنون وكافرون، وقد دلّت آيات سورة الجنّ على ذلك وفيها: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً* وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجنّ: 72/ 14 - 15]. سابعا: أنهم يحاسبون يوم القيامة على ما أسلفوا، قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 6/ 128]. ثامنا: أن لهم قدرات كبيرة، ومهارات صناعية، وقد أخبر الله سبحانه عنهم أنهم أسهموا في عمران مملكة سليمان، وحمل عروش الملوك إليه: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 34/ 13]. وقال تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ* وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص: 38/ 36 - 37]. وقال تعالى: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النّمل: 27/ 39]. تاسعا: أنهم كانوا يستمعون العلم من السماء قبل بعثة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فلما بعث حجبوا عن خبر السماء، قال تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (¬1) [الجنّ: 72/ 8 - 9]. ¬

_ (¬1) انظر العقيدة الإسلامية وأسسها للشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة 288.

المسألة التاسعة:

المسألة التاسعة: قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ [الزّخرف: 43/ 19]. قرأ نافع، وابن عامر، وابن كثير: (وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن) بالنون. وحجتهم قوله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأعراف: 7/ 206]. وقرأ الباقون: عِبادُ الرَّحْمنِ جمع عبد. وحجتهم قوله: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ، فقد جاء في التنزيل بالأمرين جميعا. وفي قوله: (عند الرحمن) دلالة على رفع المنزلة والتقريب كما قال: وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النّساء: 4/ 172]، وليس من قرب المسافة. وفي قوله: عِبادُ الرَّحْمنِ دلالة على تكذيبهم في أنهم إناث كما قال: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (¬1) [الصّافات: 37/ 150]. وثمرة الخلاف: أن قراءة الشامي، والمكي، والمدني نصّت على الإذن بوصف الملائكة أنهم عند الله، و (عند) هنا هي مسألة مكان، لا مسألة مكان كما سبق بيانه، ونظيره في التنزيل العزيز: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف: 7/ 206]. وأفادت قراءة الكوفيين، والبصري توكيدا لحقيقة أن الملائكة ليسوا بإناث، وهم لا يوصفون كذلك بالذكورة وليس لهم وصفها. ولا يخفى أن الإنكار الشديد الوارد في الآية متّجه إلى ما ظهر من المشركين من فساد اعتقاد في إثبات صفة الأنوثة للملائكة، وليس لمحض التسمية. قال عبد القاهر الجرجاني في الإعجاز: «فأما قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتها، وذاك إن المعنى على أنهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث، واعتقدوا وجودها فيهم، وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من الاسم، أعني ¬

_ (¬1) حجة القراءات 647.

المسألة العاشرة:

إطلاق اسم البنات، وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظ الإناث أو لفظ البنات اسما من غير اعتقاد معنى، وإثبات صفة. هذا محال لا يقوله عاقل» (¬1). والخلاصة فإن الآية جاءت في قراءتيها تتضمن التهويل والإنكار على من اعتقد في الملائكة الكرام أوصافا غير التي أخبر المولى سبحانه عنها، فأخبر عن الملائكة كما في قراءة أهل الشام، والحجاز أنهم عنده سبحانه، فجعل من يطعن في كرامتهم واقعا في المحظور المخالف للعقيدة الإسلامية. المسألة العاشرة: قوله تعالى: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [الحديد: 57/ 8]. قرأ أبو عمرو البصري: (وقد أخذ ميثاقكم). وقرأ الباقون: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ (¬2). وقد اختار أبو عمرو أن يجري الآية على ما لم يسمّ فاعله، وقد اتّفق سائر القرّاء على بنائها للمجهول في قوله سبحانه: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ. وثمرة الخلاف: تظهر في تعظيم أمر الميثاق، فقد نسب أخذ الميثاق في قراءة أبي عمرو إلى ما لم يسمّ فاعله، وهو يفيد تهويل شأن الميثاق، ثم جاءت القراءة الأخرى بالتصريح أن الميثاق إنما هو مع الله عزّ وجلّ، فيكون بذلك أوقع في النفوس وأهيب. وهكذا فليس بين القراءتين تنافر أو تضادّ، ولكن قراءة أبي عمرو بالتّصريح بعائدية الفاعل؛ أفادت معنى جديدا؛ وهو التصريح بأن الميثاق إنما هو بين الله وبين المؤمنين. ¬

_ (¬1) دلائل الإعجاز للإمام اللغوي عبد القاهر الجرجاني، ط مكتبة سعد الدين 340. (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة 697. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري 363. وعبارة الشاطبي: وميثاقكم عنه وكل كفى ... ... ... ... ...

المسألة الحادية عشرة:

المسألة الحادية عشرة: قوله تعالى: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: 60/ 3]. قرأ ابن عامر: (يوم القيامة يفصّل بينكم). وقرأ عاصم، ويعقوب: (يوم القيامة يفصل بينكم). وقرأ الباقون: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ (¬1). ثمرة الخلاف: ليس في هذه الوجوه معنى تستقلّ به القراءة؛ أي لا يظهر في غيرها من النصوص، بل هي تدلّ بمجموعها على بعض أحوال يوم القيامة كما جاءت في وصفها الآيات والسّنن الصحاح. فقد أخبرت الآية بأن الله سبحانه وتعالى يفصل بين العباد، أي يفرق بينهم، فيدخل أهل طاعته الجنة، وأهل معصيته النار (¬2)، وهو ما دلّت له قراءة الجمهور. ثم أضافت قراءة عاصم ويعقوب معنى آخر، وهو أن الله يفصل بين العباد يوم القيامة؛ بمعنى الحكم والقضاء، فهو يصدر قوله الفصل الذي لا يراجع. فيما أشارت قراءة ابن عامر إلى التمييز بين العباد منسوبا إلى ما لم يسمّ فاعله وهو لون من التهويل والوعيد. ولا شك أن الآية بقراءاتها الثلاث أوقع في النفس، وأبعد أثرا، وأبلغ تأثيرا. ولكن يجب القول إن هذه المعاني ليست مما انفردت به الآية هنا، بل وردت المعاني ذاتها في نصوص أخرى، وازدادت هنا وضوحا وتوكيدا. فمن الآيات التي أخبرت عن التفريق بين الخلائق يوم القيامة: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الرّوم: 30/ 14]. ¬

_ (¬1) تقريب النشر لابن الجزري 180. ونصّ الشاطبية: ويفصل فتح الضم نص وصاده ... بكسر ثوى والثقل شافيه كملا وانظر سراج القاري لابن القاصح 367. (¬2) فتح القدير للشوكاني 5/ 211.

المسألة الثانية عشرة:

ومن الآيات التي أشارت إلى قضاء الله وفصله بين الخلائق: قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ [غافر: 40/ 48]. المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى: وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ* ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج: 85/ 14 - 15]. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (وهو الغفور الودود* ذو العرش المجيد). وقرأ الباقون: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ. فالمجيد على قراءة أهل الكوفة صفة للعرش، وعلى قراءة الجمهور صفة للمولى سبحانه، والمجد هو الشرف، وقد تحيّر علماء اللغة في الجزم بمرادف واحد للمجد، فتعددت أقوالهم في ذلك (¬1)، ولكن أكثرهم على ما اختار أبو زرعة أنه الشرف، ويمكن أن يقال: المجد: ذروة كل شيء (¬2). وثمرة الخلاف: أن القراءة بالرفع أفادتنا اسما من أسمائه سبحانه وتعالى، وهو المجيد، وهذا الاسم ورد صريحا في قوله تعالى: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود: 11/ 73]. وأفادت القراءة بالخفض أن العرش أيضا يقال له: عرش مجيد، وذلك كله من الغيبيات التي لا سبيل للمرء إلى معرفتها باجتهاد، إنما تعرف بالتواتر النّقلي. وأما تفصيل القول في مسألة العرش فليس من شرط دراستنا في هذا المقام، ولكن نورد في هذا المقام بعض ما أوردته الصحاح عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في وصف العرش حيث لا سبيل للجزم بأي من أوصاف العرش الكريم إلا عن طريق النقل: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه ¬

_ (¬1) تقريب النشر لابن الجزري 186. وعبارة طيبة النشر: محفوظ افرغ خفضه اعلم وشفا ... عكس المجيد قدّر الخفّ رفا وانظر حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة 757. (¬2) في القاموس للفيروزآبادي من ذلك: المجد: نيل الشرف والكرم، والمجيد: الرفيع العالي، والكريم، والشريف الفعال.

الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» (¬1). وكان من دعاء النّبي صلّى الله عليه وسلّم عند الكرب: «لا إله إلا الله العليم الحليم، لا إله إلا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ السماوات وربّ الأرض وربّ العرش الكريم» (¬2). وقد اشتهر الجدل بين علماء الكلام قديما في طبيعة العرش، وهل هو مكان الله كما يقول بعض أهل التّفويض، أم هو اسم لملكوته سبحانه كما يقول أهل التأويل الذين ينزهون الله سبحانه عن المكان (¬3). وبسط الأدلة في هذه المسألة يطول حتى يخرج البحث عن وجهته، وأكتفي هنا بإيراد دفع قاضي القضاة، عماد الدين عبد الجبار بن أحمد لدلالة هذه الآية على صفة المكان فقال: ذو العرش المجيد لا يدل على قول المشبهة في أن العرش مكانه (¬4)، لأن هذه الإضافة تصح في فعله كما تصحّ في المكان. ولو شاء الله سبحانه لقطع الجدل في ذلك وجعل الناس أمة واحدة، وأنزل نصوصا لا تقبل التأويل، فالمسألة في النهاية مسألة نصوص، فمن توقف في أمر الجهة فإنه لم يستند إلى هوى بل ثمة نصوص قرآنية كثيرة في ذلك منها على سبيل المثال: إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران: 3/ 129]. ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا [المجادلة: 58/ 7]. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة: 56/ 85]. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة، كتاب التوحيد، باب 97. وانظر أيضا فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 13/ 404. (¬2) أخرجه البخاري في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه، كتاب التوحيد، باب 97. وانظر أيضا فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 13/ 405. (¬3) انظر: أثر الحقيقة والمجاز في فهم المحكم والمتشابه. وهي رسالة ماجستير أعدّها إبراهيم أحمد مهنا في جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، فقد أفرد للحديث عن العرش فصلا خاصّا، عناوين مباحثه: معنى العرش، زنة العرش، اهتزاز العرش، وهو بحث فريد لم يسبق إليه. (¬4) تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار بن أحمد المتوفّى عام 415 هـ، ص 456.

المسألة الثالثة عشرة:

وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 50/ 16]. وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزّخرف: 43/ 84]. ومن أثبت الجهة فإنه استند إلى نصوص أيضا منها مثلا: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ [تبارك: 67/ 16]. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النّحل: 16/ 50]. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السّجدة: 32/ 5]. وغير ذلك من النصوص. وليس يهمّ هنا الانتصار لأحد القولين، وإنما يجب الاعتذار لكلا الفريقين، وبيان أن عمدة الكلّ في ذلك النصوص، فلا موجب للطعن في عقائد المسلمين وإيمانهم إذا اختاروا القول بالجهة، أو اختاروا غير ذلك. وما قلناه في الجهة إنما هو أثر تطبيقي لتأويل ما ورد في القرآن الكريم من آيات العرش بين مثبتي الجهة، والقائلين بنفيها. المسألة الثالثة عشرة: قوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 85/ 22]. قرأ نافع: (في لوح محفوظ). وقرأ الباقون: فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (¬1). ففي قراءة نافع المدني جعله نعتا للقرآن كأنه قال: بل هو قرآن محفوظ في اللوح، ومعنى الحفظ هنا الأمان من التّحريف، والتّبديل، والتّغيير. وعلى قراءة الجمهور فالظاهر أنه صفة للّوح، والمراد أن اللّوح محفوظ من وصول الشياطين إليه. وقد اعترض بعض من انتصر لقراءة أهل العراق ومكة على اختيار نافع فقالوا: إن فيه تقديم ¬

_ (¬1) سراج القاري لابن القاصح العذري 383. وعبارة الشاطبي: ومحفوظ رفعه خص وهو في ال ... بمجيد شفا ... ...

وثمرة الخلاف:

الصفة المركبة على المفردة، وهو خلاف الأصل (¬1)، ولكن هذا الاعتراض لا يسقط اعتماد اختيار نافع للوجه المتواتر المذكور؛ إذ تواتر النقل يدفع كل شبهة، ولكن مع ذلك فإن نظائر هذا في القرآن كثير، فمن ذلك قوله سبحانه في سورة سبأ: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [سبأ: 34/ 7]، وهي قراءة ابن كثير وحفص ويعقوب، وكذلك قوله سبحانه في الجاثية: لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [الجائية: 45/ 11]، وهي قراءة ابن كثير، وحفص، ويعقوب أيضا. وثمرة الخلاف: أن من الغيبيات التي يلزم المكلّف اعتقادها معرفة اللوح، فاللوح المحفوظ المشهور سجّل كتب الله سبحانه فيه أعمال الخلائق، وأرزاقها، وفيه ما كان، وما هو كائن إلى يوم القيامة، وما تسقط من ورقة، ولا حبّة في ظلمات الأرض، ولا رطب، ولا يابس إلا في كتاب مبين. قال صلّى الله عليه وسلّم: «كان الله تبارك وتعالى قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح ذكر كل شيء» (¬2). واللوح مخلوق، والقرآن فيه منذ أن أذن الله عزّ وجلّ أن يكون كلامه القديم في ذلك اللوح، وهذا القيد ضروري حتى لا يلتبس على الناس أن حدوث اللوح يلزم منه حدوث القرآن، فالقرآن في علم الله قديم، وهو كلام الله، وهو صفة قديمة قائمة بذاته سبحانه. وأما وصف اللوح فلم يرد فيه حديث صحيح (¬3)، وغاية ما أورده المفسرون نقول عن بعض السّلف من باب المرسل والمقطوع، وكثير منها إسرائيليات لا يطمئن لها القلب، غاية الأمر أننا نؤمن باللوح على مراد الله، وكما قال الله سبحانه، ونكل تفصيل كل ذلك إلى المولى سبحانه وتعالى. وتظهر دلالة القراءتين أن اللوح محفوظ، وأن القرآن محفوظ، أفادت المعنى الأول قراءة الجمهور، وأفادت المعنى الثاني قراءة نافع، وكلاها حكم غيبي يجب اعتقاده، دلّت عليه القراءة المتواترة. ¬

_ (¬1) انظر الآلوسي في روح المعاني 30/ 94. (¬2) أخرجه الإمام أحمد 4/ 413، وسائر رواته ثقات، وهم من رجال البخاري. (¬3) ليس في الكتب السّتة، ولا في مسند أحمد، ولا الدّارمي من ذكر اللوح إلا هذا الحديث الذي أوردناه، وهو كما ترى في ذكر اللوح لا في وصفه.

المبحث الرابع في العمل والجزاء

المبحث الرابع في العمل والجزاء المسألة الأولى: قوله تعالى: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النّساء: 4/ 77]، قرأ بعضهم (يظلمون) بالياء. وحجتهم قوله: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى فأخبر عنهم، ولم يقل: (خير لكم)، وأن الكلام أيضا جرى قبل ذلك بلفظ الخبر عنهم، فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ. وقرأ الباقون: وَلا تُظْلَمُونَ بالتاء، أي أنتم وهم. وحجّتهم قوله: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ (¬1). وقال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: «الضمير في يظلمون عائد على المذكورين ممن زكى نفسه، وممن يزكيه الله عزّ وجلّ» (¬2). وثمرة الخلاف: أن عمل أهل النفاق لا يحبط بمجرد النّفاق، بل قد قال الله عزّ وجلّ: (ولا يظلمون فتيلا) والآية وردت في أهل النفاق، فكانت دليلا على أنهم مجزيون بإحسانهم، لا يظلمون منه شيئا. ولكن هذا الفهم من قراءة الثلاثة ليس محلّ اتّفاق أيضا، فقد نقل الآلوسي أن ضمير الغيبة هنا، عائد إلى ظاهر (من) في قوله: (والآخرة خير لمن اتّقى ولا يظلمون فتيلا)، وهو أقرب مذكور، والله أعلم (¬3). ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 208. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري 192. وعبارة الشاطبي: وأنث يكن عن دارم تظلمون غي ... ب شهد دنا إدغام بيت في حلا (¬2) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ط دار الكاتب العربي 5/ 248. (¬3) انظر روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، والسبع المثاني للآلوسي البغدادي، ط دار التراث العربي 5/ 86.

المسألة الثانية:

المسألة الثانية: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام: 6/ 159]. قرأ حمزة، والكسائي: (إنّ الذين فارقوا) بالألف، وفي الروم أيضا. ومعنى (فارقوا) أي: زايلوا. وقد روي أن رجلا قرأ عند علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ... فقال عليّ: «لا والله ما فرّقوه، ولكن فارقوه» (¬1)، ثم قرأ: (إنّ الذين فارقوا دينهم) أي: تركوا دينهم الحق الذي أمرهم الله باتّباعه، ودعاهم إليه. وقرأ الباقون: فَرَّقُوا دِينَهُمْ من التّفريق. تقول: فرّقت المال تفريقا، وحجتهم قوله بعد: وَكانُوا شِيَعاً أي صاروا أحزابا وفرقا. وقد نقل أبو زرعة عن عبد الوارث (¬2) قوله: وتصديقها قوله: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ يدلّك على أنهم صاروا أحزابا وفرقا، والمعنيان متقاربان لأنّهم إذا فرّقوا الدّين فقد فارقوه (¬3). وثمرة الخلاف: بيان شؤم مفارقة الجماعة والتّشيّع لغير كتاب الله، فقد سمى القرآن هذا السلوك تفريقا للدين- في قراءة- ومفارقة للدّين- في قراءة أخرى- فكانت القراءة بالقراءتين جميعا أوزع في النفوس، وأذهب للهوى، وأدعى إلى اجتماع الشّمل، ونبذ التّحزّب والفرقة. ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة 278. (¬2) لم أقف على ترجمته فالعهدة فيه على أبي زرعة في الحجة 278. (¬3) حجة القراءات 278. وانظر سراج القاري. وعبارة الشاطبي: ... ... .. فارقوا ... مع الروم مداه خفيفا وعدلا

المسألة الثالثة:

المسألة الثالثة: قوله تعالى: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها [الإسراء: 17/ 16]. قرأ يعقوب: (آمرنا مترفيها) بالمدّ. وقرأ الباقون: أَمَرْنا مُتْرَفِيها (¬1). وقد تواتر إسناد هاتين القراءتين، ولكن ثمة وجه ثالث قرئت به هذه الآية، واشتهر عند العلماء، ولكنه لم يتواتر إسنادا، وقد قرأ به ابن عباس، وأبو عثمان النهدي، وزيد بن علي، وأبو العالية، وعلي، والحسن، والباقر، ومجاهد بن جعفر، ومحمد بن علي (¬2). كما نسبت هذه القراءة إلى عاصم، وأبي عمرو البصري (¬3). وقد أشرت إلى هذه القراءة؛ وهي شاذة إسنادا لاشتهارها بين العلماء، ولأنهم يستأنسون بها في مواضع التفسير، فيكون المعنى أن الله سبحانه وتعالى يسلط شرار القرى على دهمائها فيعصون الله، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله، وذلك منه سبحانه تحذير للأمة أن تجتهد في تولية الأخيار، وصرف الأشرار. وأما قراءة يعقوب فقد قرأ بها أيضا جمع عظيم من السّلف منهم الحسن، وقتادة، وأبو حياة الشامي، وخارجة (¬4) عن نافع، وحماد بن سلمة عن ابن كثير، وعلي، وابن عباس (¬5)، وقد قام القرطبي بتوجيه معناها ودلالتها، فقال: (آمرنا) بالمدّ والتخفيف، أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها. قاله الكسائي، وقال أبو عبيدة: آمرته بالمدّ، وأمرته، لغتان بمعنى: كثرته، ومنه الحديث: «خير المال مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة» أي كثيرة النّتاج والنّسل (¬6). ¬

_ (¬1) تقريب النّشر في القراءات العشر 133. وعبارة ابن الجزري في طيبة النّشر: ... ... .. مدّ أمر ... ظهر ... ... (¬2) انظر معجم القراءات القرآنية 3/ 313. (¬3) معجم القراءات القرآنية أيضا 3/ 33، ولكن يجب التسليم بأن الرواية عن عاصم والكسائي هنا غير متواترة، فهي في النقل القرآني شاذة عنهما، فليست الآفة من نقل عاصم والكسائي، إنما الآفة من النقل إليهما. (¬4) لسان العرب لابن منظور 3/ 28، عمود أول. (¬5) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10/ 233. (¬6) المصدر نفسه 10/ 233.

وثمرة الخلاف:

ولكن هذا الذي روي عن أبي عبيدة من أن الوجهين لغتان في معنى واحد غير مسلّم، فقد قال الكسائي: لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمدّ (¬1). ولعل صيغة القصر التي تأتي بمعنى التّكثير هي التي وردت مكسورة: (أمر)، وهي لم ترد في المتواتر، وإنما نسبها الطبري للحسن البصري، ويحيى بن عمرو، وعكرمة، وابن عباس (¬2). ومن ذلك قول لبيد: كل بني حرة مصيرهم ... قلّ، وإن أكثرت من العدد إن يغبطوا يهبطوا، وإن أمروا ... يوما يصيروا للهلك والنّكد (¬3) وكذلك ما قاله أبو سفيان لدى خروجه من لدن قيصر: «لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه ليخافه بني الأصفر» (¬4)، وقد انتصر أبو عبيدة لاختياره بأنها لغات في المعنى الواحد، وقال: إنما اخترنا (أمرنا) لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها من الأمر، والإمارة، والكثرة (¬5). وثمرة الخلاف: إنما تظهر في غير ما اختاره أبو عبيدة، فيكون الجمع بين ذلك بالقول إن قراءة القصر أفادت أن الله سبحانه هو الذي يسبب الأسباب، ويخلق أفعال العباد، ويأمر بما يشاء، فيأمر المترفين بالفساد، أمر إلهام وتيسير، فيفسدوا في القول الأرض، فيحق القول على المفسدين. وفي قراءة المدّ نفهم أن الله سبحانه وتعالى يكثر المترفين، ويزيد فيعددهم إذا أراد إهلاك القرى، فيحقّ عليهم القول بما ظلموا. فهذان المعنيان يوضحان خفايا التدبير الإلهي في إهلاك القرى، ولا سبيل إلى معرفة هذين المعنيين إلا من خلال تعدد القراءة المتواترة (¬6). ¬

_ (¬1) انظر لسان العرب 2/ 28، مادة أمر. (¬2) جامع البيان 15/ 211. (¬3) لسان العرب لابن منظور 4/ 28، مادة أمر. وانظر كذلك مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 373. (¬4) حديث صحيح أخرجه البخاري عن ابن عباس، كتاب بدء الوحي باب (7). انظر فتح الباري 1/ 31. (¬5) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1/ 372. وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10/ 233. (¬6) لا يخفى أن بعض النحاة استنبطوا الوجهين من قراءة القصر وحدها، وقد قدمنا هذا الرأي، واشتهر بالقول به أبو عبيدة.

فائدة:

وثمة معنى ثالث يفهم من قراءة القصر، وهو على تقدير مضمر: (أمرنا مترفيها بالاستقامة، ففسقوا فيها، فحق عليها القول) ويقوي هذا المذهب ورود جوابه بفاء العطف التي تفيد العطف والتعقيب مع الفور. ولا يخفى أن محل الخلاف هنا هو التأويل وليس القراءة. فائدة: اشتهرت في هذه الآية قراءة (أمّرنا مترفيها) على معنى أن الله سبحانه وتعالى إذا تعلّقت إرادته بإهلاك القرى؛ يسّر للمترفين والمفسدين سبيل تملكها والأمارة عليها، فيكون في ذلك خراب القرى وهلاكها، وهو سبب من الأسباب التي يقدمها الله عزّ وجلّ لإنفاذ إرادته. وهذه القراءة على اشتهارها لم تحظ برتبة التواتر المطلوبة، على الرغم من أنها رويت عن اثنين من أصحاب التواتر وهما: عاصم، وأبو عمرو البصري، ولكن من غير طريق الشاطبي، وابن الجزري، فلم نتيقن تواترها إلى أحدهما، كما رويت أيضا عن ابن عباس، وأبي عثمان النهدي، وزيد بن علي، وأبي العالية، والحسن بن علي، ومحمد الباقر، ومجاهد بن جبر، ومحمد بن علي (¬1). ولا شك أن هذا المعنى الذي دلّت له هذه القراءة يضيء جانبا من معانيها، وله في الاستدلال المنزلة ذاتها التي للأحاديث الموقوفة على الصحابة، وكذلك ما هو من كلام السلف الصالح في التفسير، ولكن لا يصحّ اعتقادها قرآنا، لعدم ثبوت التواتر بوجه يقيني. وقد قدمت طرفا من توجيه هذه القراءة في صدر هذه المسألة (¬2)، وقد سبق، ورود طرف. ¬

_ (¬1) استقصى ذلك معجم القراءات القرآنية 3/ 313. (¬2) انظر 230.

المسألة الرابعة:

المسألة الرابعة: قوله تعالى: وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً [الكهف: 18/ 59]. قرأ أبو بكر- شعبة بن عياش- راوي عاصم: (وجعلنا لمهلكهم موعدا) (¬1) بفتح الميم واللام. أي: جعلنا لهلاكهم موعدا. جعله مصدرا (هلك، مهلك، مهلكا)، وكل ما كان على (فعل، يفعل)، فاسم المكان منه على (مفعل) والمصدر على (مفعل) بفتح العين. وقرأ حفص: لِمَهْلِكِهِمْ بفتح الميم، وكسر اللام. أي: لوقت هلاكهم. قال الزّجاج: (مهلك): اسم للزمان على (هلك يهلك) وهذا زمن مهلك مثل جلس يجلس. فإذا أردت المصدر قلت: (مهلك) بفتح اللام كقولك: (مجلس)، فإذا أردت المكان قلت: (مجلس) بكسر اللام. حكى سيبويه عن العرب أنهم يقولون: (أنّت النّاقة على مضربها) أي: على وقت ضرابها. وقرأ الباقون: (لمهلكهم) بضم الميم، وفتح اللام. أي: جعل لإهلاكنا إياهم موعدا. قال أهل البصرة: تأويل (المهلك) على ضربين: على المصدر، وعلى الوقت. فمعنى المصدر: (لإهلاكهم)، ومعنى الوقت: لوقت إهلاكهم. قالوا: وهو الاختيار؛ لأن المصدر من (أفعل) في المكان، والزمان يجيء على (مفعل) كقوله: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء: 17/ 80]. وثمرة الخلاف: أن المولى سبحانه أخبر أن هلاك الأمم ووقت هذا الهلاك ومكانه كل ذلك مقرر بأجل مسمى عند الله عزّ وجلّ. وإنما تظهر هذه المعاني من التأليف بين القراءات الثلاث، وهي معاني كمل بعضها بعضا- كما ترى- لا تتنافر ولا تتدابر (¬2). ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 421. وانظر سراج القاري لابن القاصح، ط البابي الحلبي 279. وعبارة الشاطبي: لمهلكهم ضموا ومهلك أهله ... سوى عاصم والكسر في اللام عولا (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة 421.

المسألة الخامسة:

المسألة الخامسة: قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الرّوم: 30/ 32]. قرأ حمزة، والكسائي: (من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا). وقرأ الباقون: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً. وقد سبق تحرير هذا الخلاف في سورة الأنعام في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ وذلك في المسألة الثانية من هذا المطلب. وثمرة الخلاف: هي ما بيّناه من قبل من بيان شؤم مفارقة الجماعة، والتّشيّع لغير كتاب الله، فقد اعتبر القرآن الحكيم تفريق الدين بمنزلة مفارقته، وهو تصريح كما ترى شديد في ذمّ الفرقة، والتّناحر في الجماعة الإسلامية الواحدة. وهذه التّسوية بين مفارقة الدين، وخلق الفرقة بين المسلمين هي المفهومة من اتّحاد المآل بالنسبة لكل واحد من الأمرين.

المسألة السادسة:

المسألة السادسة: قوله تعالى: وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ، وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غافر: 40/ 37]. قرأ الكوفيون، ويعقوب: وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ بضمّ الصاد. وقرأ الباقون: (وصدّ عن السّبيل) بفتح الصاد (¬1). فتكون قراءة الأولين على ما لم يسم فاعله، فكانت الآية إخبارا عن انحرافه وفجوره، وأن ذلك كان بإرادة الله سبحانه، وأمره، وقدره، وذلك مثل قوله سبحانه: وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [التّوبة: 9/ 87]، وحجتهم أن الكلام هنا أتى عقب الخبر من الله، فلفظ ما لم يسمّ فاعله، وهو قوله: وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ فجرى الكلام بعده بترك تسمية الفاعل ليأتلف الكلام على نظام واحد (¬2). وتكون قراءة الباقين على أساس الفاعل هنا مصرح به، وهو فرعون؛ إذ هو الذي يصدّ عن سبيل الله، ويشهد له قول الله عزّ وجلّ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [محمد: 47/ 1]. وثمرة الخلاف: كما قد رأيت في أنه يجوز نسبة الأفعال إلى العباد على سبيل المجاز، وأن الله سبحانه هو المالك المتصرف الأول والآخر، وهذا الاعتقاد نعمة للمتّقين، وقرّة عين للموحّدين، إذ به لا يقنط العبد من رحمة الله، ويضرع في رجائه أن يصلح عباده إذ هو سبحانه المتصرّف الحقّ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وكذلك فإنه لا يكفّ عن واجب البلاغ، والدعوة لسائر الخلق. ¬

_ (¬1) تقريب النّشر في القراءات العشر لابن الجزري 129. وعبارة طيبة النّشر: ... ... ... واضمم ... صدوا وصد الطول كوف الحضرمي (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة 633.

المسألة السابعة:

المسألة السابعة: قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ .. [الجاثية: 45/ 21]. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص: سَواءً مَحْياهُمْ بالنصب، وجعلوه المفعول الثاني من (نجعلهم)، والهاء والميم المفعول الأول، وإن جعلت كَالَّذِينَ آمَنُوا المفعول الثاني، نصبت (سواء) على الحال، وترفع (محياهم) بمعنى: استوى محياهم ومماتهم. والمعنى: أحسبوا أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم؟ أي: أن يعطوا في الآخرة كما أعطوا في الدّنيا. وقرأ الباقون: (سواء) بالرفع (¬1)؛ جعلوه مبتدأ، وما بعده خبرا عنه. قال مجاهد: قوله: (سواء محياهم ومماتهم) أي: يموت المؤمن على إيمانه، ويبعث عليه، ويموت الكافر على كفره، ويبعث عليه. وهذا التفسير يدلّ على هذه القراءة (¬2). قال القرطبي: «وقرأ العامة: سواء بالرفع على أنه خبر ابتداء مقدّم، أي: محياهم ومماتهم سواء، والضمير في (محياهم ومماتهم) يعود على الكفار، أي: محياهم سوء، ومماتهم كذلك، وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش: سواء؛ بالنّصب» (¬3). واختار أبو عبيدة أي نجعلهم سواء، وقال: تمّ الكلام عند الصالحات. ثم استأنف فقال: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ أي: سواء حياة الكافر ومماته. هو كافر حياته ومماته، والمؤمن مؤمن حياته ومماته (¬4). وأيّا كان المعنى فإن هذه الآية من أكثر الآيات وعيدا، ومنها توجل قلوب المؤمنين، ومن المناسب هنا أن نورد طرفا من أدب السلف الصالح في تلاوة هذه الآية: قال إبراهيم بن الأشعث: كثيرا ما رأيت الفضيل بن عياض يردد من أول الليل إلى آخره هذه الآية، ثم يقول: ليت شعري ¬

_ (¬1) حجة القراءات 661. تقريب النشر 173. (¬2) نقل هذا القول عن مجاهد شيخ المفسرين كل من: ابن جرير الطبري في جامع البيان 25/ 90، الجلال السيوطي في الدّر المنثور 6/ 34، القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 16/ 166، أبو زرعة في حجة القراءات 661. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/ 166. (¬4) مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى 210.

وثمرة الخلاف:

من أي الفريقين أنت (¬1)؟ وقام بشير مولى الربيع بن هيثم ذات ليلة يصلي، فمرّ بهذه الآية، فمكث ليلة حتى أصبح لم يعدها ببكاء شديد (¬2). وثمرة الخلاف: أن الله سبحانه وتعالى أنكر على الفسقة ظنونهم بأنهم ينالون في الآخرة مثل الذي نالوه في الدنيا، وهو ما دلّت له قراءة النصب، ونظيره في التّنزيل العزيز قول صاحب الجنّة: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً [الكهف: 18/ 36]. وكذلك أخبر المولى سبحانه وتعالى أن المرء يبعث على ما مات عليه، وهو ما دلّت عليه قراءة الرفع، إذ تمّ المعنى بنفي المساواة بين المؤمنين والفسقة، ثم استأنف فقال: سواء محياهم ومماتهم، وتمام معنى هذا الوجه ما نقله الطبري عن مجاهد بن جبر قال: المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن، والكافر في الدنيا والآخرة كافر (¬3). وكما ترى فإن المعاني متعاونة، وما كان لنا أن نحيط بها لولا ما أنزل الله عليه هذا الكتاب من قراءات متواترة. ¬

_ (¬1) الدّر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 6/ 34. (¬2) أورده القرطبي في الجامع دون أن يذكر نسب بشير، ولكن في الدّر المنثور تصريح بأنه بشير مولى الربيع بن خيثم، غير أن السيوطي روى القصة عن تميم الداري. انظر: الدّر المنثور للسيوطي 6/ 34، والجامع للقرطبي 16/ 166. (¬3) جامع البيان للطبري 25/ 90.

المسألة الثامنة:

المسألة الثامنة: قوله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمد: 47/ 22]. قرأ رويس: (فهل عسيتم إن تولّيتم) بضم التاء والواو، وكسر اللام. وقرأ الباقون: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ بفتح الجميع (¬1). وقد انفرد رويس برواية وجه الضّم عن يعقوب في المتواتر، ولكن هذه القراءة اشتهرت لدى الأئمة، وأطال المفسّرون في توجيهها، وقد روي هذا الوجه عن كثير من الصحابة والتابعين منهم علي بن أبي طالب، وأويس القرني، وابن أبي إسحاق (¬2). قال المسيب بن شريك: نزلت هذه الآية في بني أمية، وبني هاشم، واستدلّ لهم القرطبي بما روى عبد الله بن مغفل قال: سمعت النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «(فهل عسيتم إن تولّيتم أن تفسدوا في الأرض) ثم قال: هم هذا الحي من قريش أخذ الله عليهم إن ولوا الناس ألا يفسدوا في الأرض ولا يقطعوا أرحامهم» (¬3). وقال الزمخشري في توجيه قراءة علي رضي الله عنه: أي إن تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم، ومشيتم تحت لوائهم، وأفسدتم بإفسادهم (¬4). ونقل الطبري عن بعض السّلف أنه بمعنى الولاية، ونقل ذلك عن الكلبي (¬5). وقال قتادة في توجيه قراءة الفتح: فهل عسيتم إن توليتم عن كتاب الله أن تفسدوا في الأرض بسفك الدم الحرام، وتقطعوا أرحامكم (¬6). وروي كذلك وجه ثالث في القراءة، ولكن لم ينسب لأحد، وهو (فهل عسيتم إن ولّيتم ¬

_ (¬1) تقريب النّشر في القراءات العشر لابن الجزري 174. (¬2) انظر معجم القراءات القرآنية 6/ 192. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/ 246. (¬4) الكشاف للزمخشري 3/ 536. (¬5) جامع البيان للطبري 26/ 36، ولم يذكر الطبري في هذا المقام نسبة القراءة إلى رجل من السلف بعينه. (¬6) الدّر المنثور للسيوطي 6/ 64.

وثمرة الخلاف:

أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) (¬1)، وهو كما ترى في معنى الولاية بحذف تاء المضارعة من (تولّي). وثمرة الخلاف: أن الآية العظيمة اشتملت على وعيد شديد في حقّ المفسدين في الأرض وقاطعي الأرحام، وأشارت إلى أن هذه المفاسد تتحصل عادة في أمرين اثنين: الأول: هو التّولّي والإعراض عن كتاب الله، وهو ما دلّت له قراءة الفتح. الثاني: هو الولاية على شئون العباد إذا لم يلتزم الوالي أمر الله ونهيه على قدم الاستقامة، وقد دلّت لذلك قراءة الضّم. وهكذا فقد أفاد تعدد القراءة وجها جديدا من التّحذير والتّنبيه لولاة الأمور؛ إذ أمروا بتقوى الله عزّ وجلّ فيما خوّلهم من أقدار العباد، وفي مثل هذا المعنى تواترت الأخبار عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، من ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من إمام ولا وال بات ليلة سوداء غاشّا لرعيّته إلّا حرّم الله عليه الجنة، وعرفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين سنة» (¬2). ومثله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الولاة يجاء بهم يوم القيامة فيقومون على جسر جهنم، فمن كان مطواعا لله يناوله الله بيمينه حتى ينجيه، ومن كان عاصيا انخرق به الجسر إلى واد من نار يلتهب التهابا» (¬3). واشتهر في هذا المعنى قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم لأبي ذر لما سأله الإمارة: «يا أبا ذر! إنك تسأل الإمارة، وإنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذ بحقّها، وأدّى الذي عليه فيها» (¬4). ¬

_ (¬1) ذكر هذا الوجه الزمخشري في الكشاف 3/ 536. وانظر كذلك معجم القراءات القرآنية 6/ 192. (¬2) أخرجه الطبراني عن عبد الله بن مغفل، انظر كنز العمال رقم (14643). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده عن بشر بن عاصم، انظر كنز العمال رقم (14638). (¬4) أخرجه مسلم في الجامع الصحيح، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، رقم الحديث (1204).

المسألة التاسعة:

المسألة التاسعة: قوله تعالى: إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً [الحجرات: 49/ 14]. قرأ أبو عمرو البصري، ويعقوب: (لا يألتكم من أعمالكم شيئا) (¬1). وقرأ الباقون: لا يَلِتْكُمْ (¬2). والوجهان بإثبات الهمزة وإسقاطها في معنى واحد، وهو الإنقاص، أي: لا ينقصكم من أعمالكم شيئا. ومثله قوله سبحانه: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطّور: 52/ 21]، أي: ما أنقصناهم من عملهم من شيء. وألته: حبسه عن وجهه، وصرفه؛ مثل لاته يليته، وهما لغتان حكاهما اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء، ومنه قول عبد الرحمن بن عوف يوم الشورى: ولا تغمدوا سيوفكم عن أعدائكم فتولتوا أعمالكم، أي تنقصوها (¬3). ولا تجد في مرسوم المصاحف ما يشير إلى اختيار البصريّين: أي أبو عمرو ويعقوب؛ إذ المرسوم المشتهر لا يساعد على تصوّر إقحام همزة بين الياء واللام، ولم يشر أحد أنها كذلك في المصحف البصري، ولكن يجب القول بأنها كذلك في أحد المصاحف العثمانية لإطباقهم على تواترها، واتّفاقهم أنه لا يجزم بصحة قراءة إلا مع ثبوت التواتر، وموافقة أحد المصاحف العثمانية، وأحد وجوه النحو. وقد أوردت لك هذا الوجه مع أنه لا يترتب عليه حكم جديد في مسائل الاعتقاد، ولكن أردت به التّنبيه إلى هذا الوجه من لزوم تقدير الهمزة في مرسوم أحد مصاحف الأمصار التزاما بإجماعهم. وبالجملة فإنه ليس ثمة ثمرة ظاهرة لهذا لأن الاتّفاق منعقد بين المفسرين على توحّد المعنى في القراءتين، وأنهما لغتان لمعنى واحد، وقد بسط ابن منظور في اللسان أدلة الفريقين فراجعها. ¬

_ (¬1) لا يخفى أن أبا عمرو البصري على أصله في إبدال الهمزة ألفا. (¬2) تقريب النشر لابن الجزري 175. وعبارة طيبة النّشر: ... ... ... ... يألتكم البصري ... ... (¬3) لسان العرب لابن منظور 2/ 4 مادة ألت.

المسألة العاشرة:

المسألة العاشرة: قوله تعالى: وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد: 57/ 23]. قرأ أبو عمرو البصري: (ولا تفرحوا بما أتاكم). وقرأ الباقون: وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ (¬1). فدلّت قراءة أبي عمرو على النّهي عن الفرح بما أتاكم- أي: جاءكم- وهو اسم جامع لكل ما قد يأتيك من المولى سبحانه من صنوف النعم المبهجة، وقد ورد الفرح في القرآن الكريم ممدوحا، وورد مذموما، فمما أخبر المولى به بصيغة المدح قوله سبحانه: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 10/ 58]. ومما أخبر به المولى بصيغة الذّم قول قوم قارون: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 28/ 76]. ثم صرّحت قراءة الباقين بأن على المؤمن أن لا يفرح فرحا مبهجا مطغيا ينسيه واجب الشكر لله سبحانه وتعالى، مع يقينه بأن هذا الآتي من النعيم إنما هو عطية من الله سبحانه وتعالى. وثمرة الخلاف: تظهر في أننا نهينا عن الفرح بما يأتينا من المسرّات فرحا يشغلنا عن الخلاق سبحانه، وهو ما دلّت له قراءة أبي عمرو، وأفادت قراءة الباقين أن هذا النّهي عن الفرح يجب أن يدفعنا إلى التّوهّم أن هذه الأرزاق من رازق غيره سبحانه، بل يجب العلم بأنه سبحانه هو الرزاق وحده، ومع ذلك فينبغي أن لا نفرح فرحا مطغيا لا نؤدي معه واجب الشكر. هذا ما أفاده اختلاف القرّاء في تحقيق المعاني، وأما دلالة الآية بجملتها؛ فأكثر المفسرين على أن النّهي والفرح المنهي عنهما إنما يقتصران على ما كان من أعراض الدنيا الزائلة، وأما ما كان من رحمة الله، وقبوله، ومغفرته، فإنه يستوجب الفرح، وما كان من سخط الله وغضبه فإنه يستلزم الحزن، وفي الحديث: «إذا سرّتك حسنتك، وساءتك سيئتك فأنت مؤمن» (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه احمد في مسنده 5/ 251 عن أبي أمامة من طريق زيد بن سلام عن جده، ورواته ثقات. وأخرجه أيضا الطبراني والحاكم والضياء عن أبي أمامة، انظر كنز العمال 1/ (699). (¬2) رواه الإمام أحمد في المسند 5/ 251 عن أبي أمامة الباهلي.

وروى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا، والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز (¬1). ¬

_ (¬1) انظر الدّر المنثور 6/ 172.

الفصل الثاني الأحكام الفقهية

الفصل الثاني الأحكام الفقهية المبحث الأول العبادات المسألة الأولى: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 5/ 6]. قال أبو زرعة: قرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص: وَأَرْجُلَكُمْ بالفتح، وحجتهم أنها معطوفة على الوجوه والأيدي؛ فأوجبوا الغسل عليهما. عن أبي عبد الرحمن- عبد الله بن عمر- قال: «كنت أقرأ، والحسن والحسين قريبا من علي رضي الله عنه، وعنده ناس قد شغلوه، فقرأنا: وَأَرْجُلَكُمْ فقال رجل: (وأرجلكم) بالكسر، فسمع ذلك علي رضي الله عنه، فقال: «ليس كما قلت»، ثم تلا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، هذا المقدم والمؤخر في الكلام» (¬1). قلت: وفي القرآن الكريم من هذا التقديم والتأخير كثير، قال الله: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة: 5/ 5]، ثم قال: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وعطف ب الْمُحْصَناتُ على الطَّيِّباتُ، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً [طه: 20/ 129]، ثم قال: وَأَجَلٌ مُسَمًّى فعطف (الأجل) على (الكلمة) وبينهما كلام، فكذلك ذلك في قوله: وَأَرْجُلَكُمْ عطف بها على الوجوه والأيدي على ما أخبرتك به من التقديم والتأخير. ¬

_ (¬1) أورده السيوطي في الدّر المنثور، ط دار المعرفة 2/ 262، وفيه زيادة: وكان علي يقضي بين الناس، وعزاه إلى أبي عبد الرحمن السّلمي.

وأخرى هي صحة الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه توضأ فغسل رجليه، وأنه رأى رجلا يتوضأ وهو يغسل رجليه فقال: «بهذا أمرت»، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «ويل للأعقاب، وبطون الأقدام من النار»، وعن ابن مسعود قال: «خلّلوا الأصابع بالماء لا تلحقها النّار» (¬1). وقال عبد الملك: قلت لعطاء: «هل علمت أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسح على القدمين»؟ فقال: «والله ما أعلمه». والأخبار كثيرة في هذا المعنى، قال الزّجاج: الدليل على أن الغسل هو الواجب في الرجل، وأن المسح لا يجوز تحديد قوله: إِلَى الْكَعْبَيْنِ كما جاءت في تحديد اليد إِلَى الْمَرافِقِ، ولم يجئ في شيء من المسح تحديد، قال: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ بغير تحديد في القرآن، قال: ويجوز أن يقرأ (وأرجلكم) على معنى (واغسلوا) لأن قوله: إِلَى الْكَعْبَيْنِ دلّ على ذلك كما وصفنا، وينسق بالغسل على المسح كما قال الشاعر: يا ليت بعلك قد غدا ... متقلّدا سيفا ورمحا والمعنى: متقلّدا سيفا، وحاملا رمحا. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر: (وأرجلكم) خفضا، عطفا على الرءوس، وحجتهم في ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال: «الوضوء غسلتان ومسحتان». وقال الشعبي: نزل جبرائيل بالمسح، ألا ترى أنه أهمل ما كان مسحا، ومسح ما كان غسلا في التّيمم. والصواب من القول ما عليه فقهاء الأمصار؛ أن الغسل هو الواجب في الرجلين، ويجوز أن يكون قوله: (وأرجلكم) بالخفض حملت على العامل الأقرب للجوار، وهي في المعنى الأول؛ كما يقال: (هذا جحر ضبّ خرب) فيحمل على الأقرب، وهو في المعنى الأول. قال الفرّاء: وقد يعطف بالاسم على الاسم ومعناه يختلف كما قال عزّ وجلّ: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ* بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة: 56/ 17 - 18]. ثم قال: وَحُورٌ عِينٌ وهن لا يطاف بهن على أزواجهن (¬2) ¬

_ (¬1) أخرجه سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على غسل القدمين. انظر الدّر المنثور 2/ 263. (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 222. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي 198. وعبارة الشاطبي: ... ... ... ... وأرجلكم بالنصب عم رضا علا

وقال ابن الأنباري: لما تأخرت الأرجل بعد الرءوس نسقت عليها للقرب والجوار (¬1). وقد أخذت عامة الشيعة بأن الآية نصّ في أن الواجب المسح لا الغسل، وحجتهم في ذلك قراءة الكسر، وهي كما علمت متواترة، وتوجيهها إلى المسح معقول. ولكن ماذا صنع القوم بقراءة النّصب وهي أيضا متواترة، وهي قراءة عاصم برواية حفص، وعامة الشيعة يلتزمونها اليوم؟ وجّه الشّيعة استدلالهم إلى أن قراءة النّصب أيضا تفيد المسح لا الغسل، وأن فعل: مسح، قد يتعدى بالباء وقد يتعدى بدون باء، فكأن تقدير العبارة: وامسحوا رءوسكم وأرجلكم، فلحقت الباء بالرءوس للإشارة إلى تبعيض المسح، وبقيت الأرجل على النّصب وهو الأصل، وهذه عبارة المفسّر الشيعي الطباطبائي: «وقرئ: وأرجلكم بالنّصب، وأنت إذا تلقّيت الكلام مخلّى الذهن غير مشوب الفهم لم يلبث أن تقضي أن أَرْجُلَكُمْ منصوب على موضع رُؤُسَكُمْ وهو النصب- أي: بنزع الخافض- وفهمت من الكلام وجوب غسل الوجه واليدين، ومسح الرأس والرجلين، ولم يخطر ببالك أن ترد أَرْجُلَكُمْ إلى وُجُوهَكُمْ في أول الآية مع انقطاع الحكم في قوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ بحكم آخر، وهو قوله: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ فإن الطبع السليم يأبى حمل الكلام البليغ على ذلك، وكيف يرضى طبع متكلم بليغ أن يقول مثلا: قبلت وجه زيد ورأسه، ومسحت بكتفه ويده، بنصب يد عطفا على وجه زيد، مع انقطاع الكلام الأول، وصلاحية قوله: (يده) لأن يعطف على محل المجرور المتّصل به، وهو أمر جائز دائر، كثير الورود في كلامهم» (¬2). ثم عطف الطباطبائي بالرّد على استدلال أهل السّنة والجماعة في قولهم: إن قراءة الجرّ وردت على سبيل العطف في اللفظ دون المعنى، وذلك كما ورد في شعر العرب علفتها تبنا، وماء باردا، فقال: «وفيه أن مرجعه إلى تقدير فعل يعمل عملا يوافق إعراب حال العطف، كما يدل عليه ما استشهد به من الشعر، وهذا المقدر في الآية إما فَاغْسِلُوا وهو يتعدى بنفسه لا بحرف الجرّ، وإما غيره وهو خلاف ظاهر لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، وأيضا ما استشهد به من الشعر إما من قبيل المجاز العقلي، وإما بتضمين علفت معنى أعطيت، وأشبعت، ونحوهما. ¬

_ (¬1) انظر تفسير آيات الأحكام للصابوني، ط مؤسسة الغزالي 1/ 536. (¬2) تفسير الميزان 5/ 224.

وأيضا الشعر المستشهد به يفسد معناه لو لم يعالج بتقدير ونحوه، فهناك حاجة إلى العلاج قطعية، وأما الآية فلا حاجة فيها إلى ذلك من جهة اللفظ» (¬1). وهكذا فقد أورد الطباطبائي حجج الشيعة الإمامية في توجيه الآية إلى معنى المسح دون معنى الغسل، وقد أطلنا في النقل عنهم في هذا الباب لأن المسألة من المسائل التي أطال القوم في بيانها، والاستدلال لها. وهكذا فإن عامة الإمامية قد أخذت بهذه القراءة، وجعلت الواجب مسح الرجلين لا غسلهما، واستدلوا لذلك بما أخرج أبو داود من حديث أوس بن أوس الثقفي أنه رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى كظامة قوم بالطائف، فتوضأ، ومسح على نعليه وقدميه (¬2)، وبما روي عن علي، وابن عباس، وأنس، لكن قد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك. قال الشوكاني (¬3): وأما الموجبون للمسح، وهم الإمامية، فلم يأتوا مع مخالفتهم الكتاب والسّنة المتواترة قولا وفعلا بحجة نيّرة، وجعلوا قراءة النصب عطفا على محلّ قوله: بِرُؤُسِكُمْ والسبب في ذكر الغسل والمسح في الأرجل بحسب قراءتي النصب والجر- كما ذكر الزمخشري (¬4) - هو توقّي الإسراف؛ لأن الأرجل مظنة لذلك. ويلاحظ أن الإمامية في إيران اليوم يقرءون بقراءة عاصم من رواية حفص، وهي في مصاحفهم بالنصب وَأَرْجُلَكُمْ وهذا يقوي ما نقله بعض الفقهاء من ثبوت رجوعهم عن ذلك (¬5). وأما الجواب على ما أورده الجعفرية فهو في ثلاث شعب: الأول: أما قولهم بأن الفصل بين المتعاطفين ضعف في البلاغة، فإنه يرد عليه بما ورد من نظائر كثيرة لذلك التعاطف في الكتاب العزيز، كقوله سبحانه: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى [طه: 20/ 132]، ¬

_ (¬1) المصدر نفسه. (¬2) سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب (62)، مسند أحمد بن حنبل 1/ 120 و 148 و 9/ 10 و 252. (¬3) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التنزيل للشوكاني، ط دار المعرفة 2/ 18. (¬4) الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل للزمخشري، ط انتشارات آفتاب تهران 1/ 571. (¬5) انظر موسوعة الفقه الإسلامي وأدلته د. وهبة الزحيلي، ط دار الفكر 1/ 224.

فقد كمل الكلام بقوله: لكان لزاما، ثم عطف بقوله: وأجل مسمى، وذلك نكتة بديعة أراد به تهويل أمر الكلمة الإلهية فعجّل بجوابها، ثم عطف ببيان السبب الثاني وهو الأجل المسمّى. ومثل ذلك قوله سبحانه: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5/ 5]، وليس ثمة عاقل يجيز عطف المحصنات هنا على أقرب مذكور؛ إذ ليست الآية في إباحة أكلهن، بل الآية في إباحة زواجهن، وحمل الْمُحْصَناتُ على الاستئناف ضعيف، لأنه لا بدّ فيه من تقدير الخبر، وإذا جاز التقدير وعدمه، فعدم التقدير أولى اتّفاقا. الثاني: قال الطباطبائي: «إن حمل مسح الأرجل على الغسل دون مسح الرءوس؛ ترجيح بلا مرجح، وليت شعري ماذا يمنعه أن يحمل كل ما ورد المسح فيه مطلقا من كتاب أو سنّة على الغسل، وبالعكس، وما المانع حينئذ أن يحمل روايات الغسل على المسح، وروايات المسح على الغسل، فتعود الأدلة عن آخرها مجملات لا مبين لها؟» (¬1). والجواب: أن هذا الحمل لم يتمّ من دون نصّ من السّنة الصحيحة، وقد قدمنا طرفا من الأدلة من جهة السّنة المطهرة لوجوب الغسل في الرجلين (¬2). وأيضا يشهد لذلك المعقول، فإن الرجلين هما مجتمع الأوساخ والأقذار، وفيهما يرشح ويستقر الأذى والجراثيم، فكان غسلهما وتنظيفهما بالماء هو المطلوب، إلا إذا كانا معصومين بالخف، فيمكن حينئذ المسح على الأخفاف كما بيّنته السّنة المطهرة. الثالث: أما قولهم بأن العطف مع التّجاور مفيد للعطف اللفظي والمعنوي لا محالة، فهو أيضا إلزام بغير ما ملزم، ويرد عليه ما قدمنا من كلام العرب: هذا حجر ضبّ خرب (¬3) ، وكذلك ما ورد في التنزيل العزيز من مثل قوله سبحانه: ¬

_ (¬1) الميزان للطباطبائي 5/ 224. (¬2) انظر ما قدمناه 245 و 246. (¬3) أورده بعض النحاة احتجاجا على الاستدلال بهذه العبارة، وفي ذلك قال سعيد الأفغاني: هذه جملة أولع بها قدماء النّحاة ومن بعدهم، ولا حجة فيها من وجهين: الأول: أن قائلها- إن وجد- مجهول. والثاني: أن الوقوف على الكلمة الأخيرة بالسكون، إذ العربي لا يقف على متحرك، فمن أين علموا أن قائلها جر: (خرب).

وثمرة الخلاف:

بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ* فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 85/ 21 - 22]. ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ* فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [البروج: 85/ 15 - 16]. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [الجاثية: 45/ 11]. وكلها قراءات متواترة لا تنكرها عامة الشيعة، ولا يصح حملها إلا على العطف اللفظي دون المعنوي. وجملة القول أن القوم لا يختلفون في صحة القراءة، ولكن يختلفون في توجيهها، ويمكن القول: إن الغسل في المسح، ومتضمن لمعناه، فيكون الخروج من الخلاف بالغسل، أولى من الانفراد بالقول بالمسح، ولو تواردت عليه الأقيسة. وأيضا فإنه لما حدد غاية المطلب إلى الكعبين، دلّ على أنه غسل لا مسح، إذ هو الذي تتبدى آثار غمره بالماء، نظير ما أمر في الأيدي بقوله: إِلَى الْمَرافِقِ. وأما الحكمة من تخلف التعاقب بين المغسولات، فهي ظاهرة في إفادة الترتيب في الوضوء، فقد أتى سبحانه على ذكر سائر المغسولات والممسوحات في الوجه واليدين والرأس، ثم ببيان الواجب تجاه الرجلين، ومن المعلوم أن عامة الفقهاء جعلوا الترتيب مطلوبا في الوضوء، فاعتبره الشافعية والحنابلة فرضا، واعتبره الحنفية والمالكية سنّة مؤكدة (¬1). ولا مناص قبل ذلك كله من قبول القراءتين جميعا لدى ثبوت تواترهما، وقد يجد القائلون بالمسح وجها في قراءة الجرّ، ولكن لا يمكن أن يجدوا وجها في قراءة النصب إلا مع التّعسف، والله أعلم. وثمرة الخلاف: أن غسل الرجلين ركن في الوضوء، عملا بالقراءة المتواترة، وأرجلكم، ولما ورد في ذلك من النصوص القاطعة الصحيحة. ¬

_ ثم توسع الأفغاني في الرّد على قاعدة الرّد بالجوار عموما، وأنه لا يجوز إلا في الضرورة الشعرية؛ وهي نادرة، ولكن أوردت لك طرفا من ورود ذلك يقينا في القرآن الكريم. انظر حجة القراءات لأبي زرعة 224. (¬1) الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي 1/ 238.

أخرج أحمد والشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «تخلف عنّا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفره، فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ، ونمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار، مرتين أو ثلاثا» (¬1) وفي معناه حديث مسلم عن أبي هريرة: « ... ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ» (¬2). وأخرج الدارقطني عن جابر رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا توضأنا للصلاة أن نغسل أرجلنا» (¬3). وعلى هذا أطبق أهل السّنة والجماعة، فليس في مذاهبهم من أمر الرجلين إلا الغسل، والله أعلم. وأما القراءة المتواترة بالخفض وأرجلكم، وهي قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وحمزة، وشعبة، فهي محمولة على المسح على الخفين المأذون به شرعا، والمروي عن نحو سبعين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكذلك فقد نقل عن بعض المفسرين أن الجرّ هنا محض مجاورة، وهو محمول على العامل الأقرب للجوار، وقد أوردت لك قبل قليل نقل أبي زرعة لهذا القول غير معزو لأحد، واحتجاجه بقول أعرابي: هذا جحر ضبّ خرب. ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط دار المعرفة 1/ 294. (¬2) انظر صحيح مسلم، ط دار المعرفة ج 1، باب الوضوء- غسل الرجلين. (¬3) وفي الدّر المنثور: أخرج الدارقطني والبيهقي في سننهما عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه.

المسألة الثانية:

المسألة الثانية: قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 2/ 222]. قرأ حمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم، وخلف العاشر: (حتّى يطّهّرن) بتشديد الطاء، والهاء. وقرأ الباقون: حَتَّى يَطْهُرْنَ بتخفيف الطاء، وإسكان الراء (¬1). وعلى قراءة التشديد فإن المعنى متجه إلى أن اجتناب النساء في المحيض، متصل إلى غاية اغتسالهن بالماء بعد انقطاع الدم، وذلك أن الله أمر عباده بما يقدرون عليه، (وهي على وزن تفعلن فيجب أن يكون لها فعل، وفعلها إنما هو الاغتسال، لأن انقطاع الدم ليس من فعلها) (¬2). وقد أجرى هؤلاء تركيب الكلمة على أساس أن أصلها: (حتى يتطهرن) ثم أدغمت التاء في الطاء، وقد رويت هذه القراءة عن عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب رضي الله عنهما (¬3). ويدلّ لهم أن في قراءة التشديد زيادة مبنى، وهي أمارة زيادة المعنى، فلا بدّ من انقطاع، وأما قراءة التّخفيف فإنهم وجّهوا المعنى فيها إلى أن اجتناب النساء في المحيض متصل إلى غاية انقطاع الدم عنهن، وليس إلى الاغتسال. قال الزجاج: «يقال طهرت المرأة وطهرت إذا انقطع الدم عنها» (¬4). وقد ذهب الفقهاء مذاهب مختلفة في تحريرهم لدلالة الآية وفق وجوه قراءاتها المتعددة، فذهبت الشافعية والمالكية إلى أن قراءة التخفيف لا تلغي دوام المنع إلى حين الاغتسال، وعبارتهم ¬

_ (¬1) تقريب النّشر في القراءات العشر 96. وعبارة ابن الجزري في طيّبة النّشر: ... ... ... ... يطهرن يطّهّرن في رخا صفا (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة 134. (¬3) معجم القراءات القرآنية 1/ 171. (¬4) حجة القراءات لأبي زرعة 134.

في ذلك: «إن الله تعالى شرط لحلّ الوطء شرطين: انقطاع الدم والغسل، فالأول: من قوله سبحانه: حَتَّى يَطْهُرْنَ أي ينقطع دمهن، والثاني: من قوله عزّ وجلّ: فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي اغتسلن بالماء فَأْتُوهُنَّ فتصير إباحة وطئها موقوفة على الغسل. وهذا هو رأي الحنابلة أيضا في حرمة الوطء- الجماع (¬1) -. أما الحنفية فقد اختاروا أن الحائض تحلّ لزوجها إذا انقطع دمها بعد استيفاء عادتها، أما لو انقطع دون استيفاء عادتها فإنها لا تحلّ، فمن كانت عادتها عشرة أيام لم تحلّ حتى تستوفي العشرة، ولو انقطع دمها لأربع أو لخمس (¬2)، ولا مزيد عندهم للحيض فوق عشرة أيام لحديث: «أقلّ الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة» (¬3). وخلاصة مذهب الحنفية أن المرأة لا تحلّ لزوجها إذا طهرت قبل استيفاء عادتها حتى تغتسل، فإن استوفت عادتها، وأدركها وقت صلاة فإنها تحلّ لزوجها، لثبوت الصلاة دينا في ذمّتها، والصلاة لا تلزم إلا الخالية من الحيض، فكان استواؤهما في الحكم قرينة اشتراكهما في تحرير السّبب. ومع ذلك فقد نصّ الحنفية على استحباب الغسل في كل حال قبل الوطء خروجا من الخلاف. وقد انتصر الرازي الجصاص لاختيار الحنفية، وعقد مقارنة بديعة بين وجوه القراءة المتواترة في هذا الباب، وجزم بأن إعمال القراءتين يؤدي إلى ما اختاره الحنفية. قال الجصاص: «فإن قيل هلّا كانت القراءتان كالآيتين تستعملان معا في حالة واحدة؟ قيل له: لو جعلناهما كالآيتين كان ما ذكرناه أولى، من قبل أنه لو وردت آيتان تقتضي إحداهما انقطاع غاية الدم لإباحة الوطء، والأخرى تقتضي الغسل غاية لها، لكان الواجب استعمالهما، وعلى حالين، على أن تكون كل واحدة منهما مقرّة على حقيقتها فيما اقتضته من حكم الغاية، ¬

_ (¬1) الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي 1/ 473. (¬2) ردّ المختار على الدّر المختار 1/ 162. (¬3) رواه الطبراني عن أبي أمامة. انظر كنز العمال رقم (26919) - 9/ 407. والمشهور في هذا الحديث أنه موقوف على سفيان الثوري، انظر أحكام القرآن للرازي الجصاص 1/ 338.

ولا يمكن ذلك إلا باستعمالها في حالين على الوجه الذي بيّنّا، ولو استعملناها كما يقول المخالف لكان فيها إسقاط إحدى الغايتين لأنه يقول: إنها وإن طهرت وانقطع دمها لم يحل له أن يطأها حتى تغتسل» (¬1). وهكذا فإن استدلال الحنفية ماض في إعمال القراءتين جميعا، على أساس أن الشطر الأول من الآية: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ أفاد معنى تامّا لا حاجة للمزيد عليه، وهو الجزم بانتفاء التحريم لدى انتهاء الحيض، على ما بيّناه. ولكن كيف وجه الحنفية الإطناب الوارد في الشطر الثاني من الآية: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ؟ قال الرازي الجصاص: «هو إطلاق من حظر وإباحة، وليس هو على الوجوب، كقوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 62/ 10]، وقوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: 5/ 2]، وهو إباحة وردت بعد حظر. وقوله: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس: يعني في الفرج، وهو الذي أمر بتجنّبه من قبل الطّهر دون الحيض. وقال ابن الحنفية: من قبل النكاح دون الفجور» (¬2). فجعل للشطر الآخر فائدة ثانية، ثم عطف بقوله: «قال أبو بكر: هذا كله مراد الله تعالى لأنه مما أمر الله به، فانتظمت الآية جميع ذلك» (¬3). وهكذا فإن الحنفية- كما اختار الجصاص- جعلوا سبيل إعمال القراءتين في أن تكون قراءة التخفيف تامة المعنى عند قوله سبحانه: يَطْهُرْنَ فقد أفادت حَتَّى معنى وافيا في جعل ما قبلها مغايرا لحكم ما بعدها، وكان ما بعدها منصرفا إلى الدلالة على المنع من إتيانهن في غير ما أذن به الله. ¬

_ (¬1) تفسير أحكام القرآن للرازي الجصاص 1/ 351. (¬2) تفسير أحكام القرآن للرازي الجصاص 1/ 350. (¬3) تفسير أحكام القرآن للرازي الجصاص 1/ 351.

وأما القراءة بالتّشديد فإنها لا تتأتى في اختياره إلا بإسقاط ما أدّت إليه قراءة التخفيف، إذ لازمها: أن من انقطع دمها- وإن طهرت- لم يحل وطؤها للزوج حتى تغتسل، وهو عكس ما أدّت إليه قراءة التّخفيف. ولم ينصّ الجصاص (¬1) على ردّ قراءة التّشديد ولكنه جعلها بمنزلة المؤكدة على تحقق الطّهر وانقطاع دم الحيض يقينا، وهو ما يتمّ عندهم بانقضاء عشرة أيام على دخول الحيضة، أو مرور عدة أيام مع انقطاع الدم لوقت يتّسع للاغتسال، وستر العورة، وأداء الصلاة، ودخول وقت صلاة آخر، إذ إن ذلك يرتب أن الصلاة دين في ذمّتها، فكيف تكون الصلاة دينا في ذمّتها وهي لم تطهر بعد؟ ولكن هذا كما ترى محض استدلال عقلي لا تقوم به حجة مقنعة في إسقاط الأخذ بالقراءة المتواترة، وفي هذا الاستدلال إلزام الخصم بما لا يلزمه، إذ لم يقل مخالفوهم بقولهم هذا في ثبوت الصلاة دينا على من وصفنا حالتها. وقد ردّ الشافعية والمالكية على مذهب الحنفية في هذا الباب بأجوبة كثيرة متجهين إلى أن المولى سبحانه اشترط لإباحة الوطء شرطين اثنين وهما: الطّهر والتّطهّر، فالطّهر مفهوم من قوله سبحانه: حَتَّى يَطْهُرْنَ، والتّطهّر مفهوم من قوله سبحانه: فَإِذا تَطَهَّرْنَ. وللقاضي ابن العربي مناقشة مستفيضة في هذه المسألة أطال فيها القول، وردّ فيها اختيار أبي حنيفة، وانتصر لرأي مالك، وعزاه أيضا إلى الزهري، وربيعة بن فروخ، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وأبي ثور. وقد اخترت أن أنقل لك هذه المناقشة بطولها لما فيها من بديع الاحتجاج؛ قال القاضي أبو بكر العربي في تأويل قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ: قد اختلفت الناس اختلافا متباينا نطيل النفس فيه قليلا وفيه ثلاثة أقوال: الأول: إن معنى قوله تعالى: حَتَّى يَطْهُرْنَ حتى ينقطع دمهن. قاله أبو حنيفة، ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن للرازي الجصاص 350، وتجدر الإشارة أن الرازي الجصاص في الأصل اختار الأخذ بقراءة التخفيف وفق مذهبه، ولكنه أورد بعد ذلك قراءة التشديد ليدفع بتأويله لها استدلال خصومه.

ولكنه ناقض في موضعين؛ قال: إذا انقطع دمها لأكثر الحيض حينئذ تحلّ. وإن انقطع دمها لأقل الحيض لم تحلّ حتى يمضي وقت صلاة كامل. الثاني: لا يطؤها حتى تغتسل بالماء غسل الجنابة. قاله الزهري، وربيعة، والليث، ومالك، وإسحاق، وأحمد، وأبو ثور. الثالث: تتوضأ للصلاة. قاله طاوس، ومجاهد. فأما أبو حنيفة فينتقض قوله بما ناقض فيه، فإنه تعلق بأن الدم إذا انقطع لأقل الحيض لم يؤمن عودته. قلنا: ولا تؤمن عودته إذا مضى وقت صلاة فبطل ما قلته. والتّعلق بالآية يدفع من وجهين: أحدهما: أن الله تعالى قال: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ- مخففا- وقرئ: (حتّى يطّهّرن) مشددا. والتخفيف وإن كان ظاهرا في استعمال الماء فإن التشديد فيه أظهر، كقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 5/ 6]، فجعل ذلك شرطا في الإباحة وغاية للتحريم. فإن قيل: المراد بقوله تعالى: حَتَّى يَطْهُرْنَ حتى ينقطع عنهن الدّم: وقد يستعمل التشديد موضع التّخفيف، فيقال: تطهّر بمعنى طهر، كما يقال: قطع وقطّع ويكون هذا أولى لأنه لا يفتقر إلى إضمار، ومذهبكم يفتقر إلى إضمار قولك: بالماء.- أي فإذا تطهرن بالماء-. قلنا: لا يقال: طهّرت المرأة بمعنى انقطع دمها، ولا يقال: قطّع- مشددا- بمعنى قطع مخففا، وإنما التشديد بمعنى تكثير التخفيف. جواب آخر، وهو أنه قد ذكر بعده ما يدلّ على المراد فقال: فَإِذا تَطَهَّرْنَ والمراد بالماء، والظاهر أن ما بعد الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها، فيكون قوله تعالى: حَتَّى يَطْهُرْنَ مخففا. وهو معنى قوله: يَطْهُرْنَ مشددا- بعينه جمع بين اللغتين في الآية كما قال تعالى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التّوبة: 9/ 101]. وقال الكميت: وما كانت الأبصار فيها بغيب ... ولا غيّبا فيها إذ النّاس غيّب

وقيل: إنّ قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ ابتداء كلام لا إعادة لما تقدّم. ولو كان إعادة لاقتصر على الأول فقال: حتى يطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، خاصّة فلما زاد عليه دلّ على أنّه استئناف حكم آخر. فالجواب أن هذا خلاف الظاهر. فإنّ المعاد الشّرط هو المذكور في الغاية بدليل ذكره بالفاء، ولو كان غيره لذكره بالواو، وأما الزيادة عليه فلا تخرجه عن أن يكون بعينه، ألا ترى أنه لو قال: لا تعط هذا الثوب زيدا حتى يدخل الدار فإذا دخل الدار فأعطه الثوب ومائة درهم لكان هو بعينه، ولو أراد غيره لقال: لا تعطه حتى يدخل الدار، فإذا دخل، وجلس، فافعل كذا وكذا. هذا طريق النّظم في اللسان. جواب آخر وذلك أن قولهم: إنّا لا نفتقر في تأويلنا إلى إضمار، وأنتم تفتقرون إلى إضمار. قلنا: لا يقع بمثل هذا ترجيح، فإن هذا الإضمار من ضرورة الكلام هذا كالمنطوق به» (¬1). وهكذا فقد أورد ابن العربي جوابين اثنين لما استدلّت به الحنفية، ثم عطف بجواب ثالث من جهة أن تعدّد القراءة، وتكرر الاشتراط بلاغة مرادة في القول لا يصحّ اجتزاء المعاني من أحدهما دون استكمال ما أدّت إليه العبارة بمجموعها، فقال: «جواب ثالث: وهو التعلّق الثاني من الآية، إنا نقول: نسلم أن قوله تعالى: حَتَّى يَطْهُرْنَ معناه: حتى ينقطع دمهنّ، لكنه لما قال بعد ذلك: فَإِذا تَطَهَّرْنَ كان معناه: فإذا اغتسلت بالماء، فوقف الحكم- وهو جواز الوطء- على الشرطين، وصار ذلك كقوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النّساء: 4/ 6]، فعلّق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين: الأول: بلوغ النكاح، والثاني: إيناس الرّشد، فوقف عليهما ولم يصح ثبوته بأحدهما. وكذلك في قوله تعالى في المطلّقة ثلاثا: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 2/ 230]، ثم جاءت السّنة باشتراط الوطء، فوقف التّحليل على الأمرين جميعا، وهما انعقاد النكاح، ووقوع الوطء» (¬2). ¬

_ (¬1) تفسير أحكام القرآن للقاضي ابن العربي المالكي 1/ 166. (¬2) تفسير أحكام القرآن للقاضي ابن العربي المالكي 1/ 167.

وثمرة الخلاف:

وثمرة الخلاف: أننا هنا أمام ثلاث نقاط وردت في تحديد الغاية التي ينتهي إليها تحريم الوطء في الحيض: الأولى: حتّى يطهرن. الثانية: حتى يطّهّرن. الثالثة: فإذا تطهّرن. وهذه الثلاثة جميعا قرآن، رسمت الأخيرة منها في سائر المصاحف، فيما تناوبت المصاحف العثمانية في إثبات الأولى والثانية، وسائرها قرآن منزل، محل لاستنباط الأحكام. وإذا ثبت هذا فإن أي قول يشير إلى ردّ واحد منها فهو قول مردود، يطعن في سلامة التّنزيل، ولا يلتمس لقائله عذر إلا عدم علمه بتواتر الإسناد. وإذا كان ذلك كذلك فإن دلالة الآية بلا ريب فيما اختاره الشافعية والمالكية من أن الوطء لا يتمّ إلا بعد استيفاء سائر الشروط التي نصّت عليها الآية بوجوهها المتواترة. وإذا تذكرت أن الحنفية أيضا استحبّوا الغسل قبل الوطء، بل منعوا الوطء قبل الاغتسال لمن لم تستوف عادتها، ولو انقطع الدم أدركت أن فجوة الخلاف ضاقت بين القوم، ولم يبق بينهم خلاف ظاهر إلا في مسألة واحدة وهي: إذا انقطع دم الحيض لعشرة أيام فهل يجب اغتسالها قبل الوطء؟ قالت المالكية، والشافعية: يجب، وقالت الحنفية: يستحب. وهنا المنهج يستقيم به إعمال المعاني كلها، ولا يشكل بعدئذ أن الآية تحتمل الإذن بإتيانهن قبل التّطهّر، كما يدلّ لذلك ظاهر قراءة الجمهور، إذ إن استكمال نصّ الآية بقوله: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ يدفع هذا الإشكال كله. وقد صرّح الفخر الرازي في مفاتيح الغيب بالمعنى الأول مشيرا إلى شطر الآية الأول فقال: «من خفف فهو زوال الدم من طهرت المرأة من حيضها؛ إذا انقطع الحيض، والمعنى: لا تقربوهن

المسألة الثالثة:

حتى يزول عنهن الدم. ومن قرأ بالتشديد فهو على معنى يتطهرن» (¬1). ولكن استدلال الشافعية، والمالكية الذي قدمناه أدعى إلى إعمال الأقوال جميعا، وردّ ما اختلفوا فيه إلى ما اجتمعوا عليه أولى. المسألة الثالثة: قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا [النّساء: 4/ 43]. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (أو لمستم النّساء). وقرأ الباقون: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ (¬2). وكذلك في سورة المائدة في آية الوضوء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا، وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [المائدة: 5/ 6]. فقد قرأ الكوفيون إلا عاصما بالقصر: لمستم، ومراده في ذلك أن اللمس هو ما دون الجماع كالقبلة، والغمزة، واللمس باليد، وهو مذهب ابن عمر، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النّخعي، وابن شهاب الزهري. وبذلك فإنهم يجعلون الفعل هنا للرجال دون النساء (¬3). وأما اختيار الباقين فإنهم فهموا منه المجامعة، إذا الألف للمفاعلة، والمفاعلة تكون من اثنين، واستدلوا لذلك بما روي في التفسير أنّ عليّا رضي الله عنه قال: لامَسْتُمُ النِّساءَ: أي جامعتم، ولكن الله يكني». وروي أيضا عن ابن عباس قوله: «هو الغشيان والجماع» (¬4). ¬

_ (¬1) مفاتيح الغيب للإمام الفخر الرازي 6/ 72. (¬2) تقريب النّشر لابن الجزري 105. وعبارة طيّبة النّشر: ... ... لامستم ... قصر معا شفا ... ... وانظر سراج القاري 192. (¬3) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة 205. (¬4) الدّر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 2/ 166.

وثمرة الخلاف:

وعن سعيد بن جبير قال: كنا في حجرة ابن عباس، ومعنا عطاء بن أبي رباح، ونفر من الموالي، وعبيد بن عمير، ونفر من العرب، فتذاكرنا اللماس، فقلت أنا، وعطاء، والموالي: اللماس: اللمس باليد. وقال عبيد بن عمير، والعرب: هو الجماع، فدخلت على ابن عباس فأخبرته، فقال: غلبت الموالي، وأصابت العرب، ثم قال: إن اللمس، والمسّ، والمباشرة إلى الجماع ما هو- أي هي الجماع- ولكن الله يكني ما شاء بما شاء (¬1). وليس في اللغة تفريق بين اللمس والملامسة إلا من جهة ألف المفاعلة فيها، فاللمس ما ظهر من اللامس، والملامسة ما اشترك فيها اثنان، وقال ابن منظور في اللسان: «قال ابن الأعرابي: لمسته لمسا، ولامسته ملامسة، ويفرق بينهما فيقال: اللمس قد يكون معرفة الشيء بالشيء، والملامسة أكثر ما جاءت من اثنين» (¬2). وقال: اللمس: كناية عن الجماع، لمسها يلمسها ولامسها، وكذلك الملامسة، وفي التنزيل العزيز: أو لمستم النساء، وقرئ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ (¬3). وهكذا فإن النّحاة لا يميّزون بين اللّمس والملامسة من جهة أصل الدلالة، وبذلك يكون الجدل في دلالة هذه الآية ليس ناشئا عن خلاف القراءة، وإنما عن تعدد التأويل، واعتبار الحقيقة والمجاز في اللفظ، واحتفاظه بالقرائن. وثمرة الخلاف: في القراءة لا تعود بنتيجة على التأويل، لأن الذين اعتبروا اللمس باليد ناقضا تأولوا عليه القراءتين، وكذلك من اعتبر الجماع هو الناقض المقصود، فإنه تأوّل عليه القراءتين. فلا مطمع إذن في توجيه القراءة لمذهب دون مذهب، والفقهاء يوردون في الاحتجاج في هذا المقام قرائن الأحوال. فقد اختار الشافعية أن (لمستم) ظاهرة في مجرد اللمس من غير جماع، وأما قراءة لامَسْتُمُ فقد جعلوها مبالغة في اللمس، ولم يصرفوها إلى معنى آخر، وقالوا: لما أورد الجماع ¬

_ (¬1) الدّر المنثور في التفسير بالمأثور 2/ 167. (¬2) لسان العرب لابن منظور 6/ 409. (¬3) المصدر نفسه.

بقوله: لا جُنُباً [النّساء: 4/ 43]، كان تكرار ذلك غير فصيح (¬1)، واستدلّوا كذلك بما قدمناه من مذهب ابن مسعود (¬2). واختار الحنفية أن اللّمس والملامسة حقيقة في الجماع، ولكن الله يكني (¬3)، وقد استدلوا لذلك بما قدمناه من مذاهب الصحابة كابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما (¬4). وقد توسّط المالكية فجعلوا نقض الوضوء بلمس المتوضئ البالغ لشخص يلتذ به عادة، فجعلوا الضابط لنقض الوضوء حصول اللذة، ونصّوا على أن القبلة تنقض الوضوء مطلقا بين البالغين لأنها مظنّة الشهوة، وهو شبيه برأي الحنابلة في المشهور (¬5). وهو ما دلّت له عبارة ابن العربي المالكي: «راعى مالك في اللمس القصد، وجعله الشافعي ناقضا للطهارة بصورته كسائر النواقض»، ثم أورد دليلا على ما اختاره في قوله: «إن الله تعالى أنزل اللمس المفضي إلى خروج المذي منزلة التقاء الختانين المفضي إلى خروج المني، فأما اللمس المطلق فلا معنى له، وذلك مقرر في مسائل الخلاف» (¬6). قال ابن جرير الطّبري: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: أراد الله بقوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ الجماع دون غيره من معاني اللمس لصحة الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قبّل بعض نسائه ثم صلّى، ثم روى عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ ثم يقبّل، ثم يصلّي. وعن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة، ولم يتوضأ، قال عروة: قلت من هي إلا أنت، فضحكت (¬7). ويمكن الجمع بين القراءتين أن الله عزّ وجلّ أمر بالوضوء من غشيان النساء، وذلك على سبيل الحتم، ثم أمر به من مسهنّ على سبيل النّدب، وإنما صرف المعنى هاهنا من الحتم إلى النّدب ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 224. (¬2) انظر ص 257 من هذا الكتاب. (¬3) الدّر المنثور للسيوطي 2/ 166. (¬4) انظر ص 257 من هذا الكتاب. (¬5) موسوعة الفقه الإسلامي وأدلّته، د. وهبة الزحيلي 1/ 276. (¬6) أحكام القرآن لابن العربي المالكي 1/ 445. (¬7) جامع البيان في تفسير القرآن للإمام ابن جرير الطبري 5/ 105.

المسألة الرابعة:

ثبوت الرواية عن عروة عن عائشة كما أثبتها الطبري هاهنا. وهو ما اختاره الحنابلة على المشهور إذ قالوا: «وإذا لم ينتقض الوضوء بمسّ أنثى، فإنه يستحب» (¬1). المسألة الرابعة: قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ... [المزمّل: 73/ 20]. قرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو: (ونصفه وثلثه) بالكسر، حملوه على الجار، أي: تقوم أدنى من نصفه ومن ثلثه. والمعنى في ذلك يكون على تأويل: إن ربك يعلم أنك تقوم أحيانا أدنى من ثلثي الليل، وأحيانا أدنى من نصفه، وأحيانا تقوم أدنى من ثلثه، غير عارف بالمقدار في ذلك التحديد بدلالة قوله بعدها: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ، وقوله: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ فكأنه قال: أنا أعلم من مقادير قيامك بالليل ما لا تعلم من تحديد الساعات من آخر الليل. قال أبو عبيد: الاختيار الخفض في (نصفه وثلثه)، لأن الله تعالى قال: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فكيف يقدر على أن يعرضوا نصفه وثلثه. وقرأ الباقون: بالنصب، بوقوع الفعل أي يقوم نصفه وثلثه (¬2). وحجّتهم في ذلك أن النّصب أصح في النظر: قال الله لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ... [المزمّل: 73/ 2]، أي صل الليل إلا شيئا منه تنام فيه، وهو الثلث، والثلث يسير عند الثلثين، ثم قال: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أي من الثلث قليلا. أي: نصفه أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث، أو زد على النصف إلى الثلثين. فإذا قرأت بالخفض كان معناه أنهم كانوا يقومون أقل من الثلث. وفي هذا مخالفة لما أمروا به لأن الله تعالى قال: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ¬

_ (¬1) انظر موسوعة الفقه الإسلامي وأدلته، د. الزحيلي. ط دار الفكر 1/ 275. (¬2) حجة القراءات 731، وتقريب النشر لابن الجزري 184. وعبارة الشاطبي: وثا ثلثه فانصب وفا نصفه ظبى ... وثلثي سكون الضم لاح وجملا

وثمرة الخلاف:

إلى الثلث، أو زد على الثلث، ولم يأمرهم بأن ينقصوا من الثلث شيئا. وأما قوله: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي: لن تطيقوه كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «استقيموا، ولن تحصوا» (¬1)، أي: ولن تطيقوا، والله أعلم (¬2). وثمرة الخلاف: أن منطوق الآية نصّ في أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة الكرام كانوا يقومون أجزاء مختلفة من الليل، فمرة يقوم أدنى من الثلثين، ومرة يقوم نصف الليل، ومرة ثلث الليل، ومرة أدنى من نصف الليل، ومرة أدنى من ثلثه، وهذا ما دلّت له القراءتان، فدلّت قراءة نافع، وابن عامر، وأبي عمرو على قيامه صلّى الله عليه وسلّم أقل من النصف وأقل من الثلث، فيما دلّت قراءة الباقين على قيامه النصف والثلث، وذلك بمجموعه تيسير الأمة، وتخفيف عليها، إذ النّبي صلّى الله عليه وسلّم في مقام الأسوة، وإذا صحّ عنه قيام ذلك من الليل كان ذلك إذنا لأمته، في تخيّر ما يقدر العبد عليه من أحوال القيام. وهل القيام في حقّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم فريضة كما اختاره الغزالي، أم هو وأمته سواء (¬3)؟ وهذا الذي اختاره الغزالي من أن القيام فريضة في حقّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو ما دلّ له حديث: «ثلاثة عليّ فريضة ولأمّتي تطوّع: قيام الليل، والوتر، والسواك» (¬4)، وهذا الحديث لو صحّ لقطع كل نزاع في أن القيام تعين فريضة في حقّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكن معالجة إسناد الحديث- كما يظهر لك- تكشف أنه لا ينهض مستقلّا في إثبات ذلك. ¬

_ (¬1) اخرجه أحمد في مسنده 5/ 277، وكذلك الحاكم في المستدرك، والبيهقي عن ثوبان وثمامة: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن». (¬2) حجة القراءات 731. (¬3) أخرج أحمد في مسنده والحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث هنّ عليّ فريضة، وهنّ لكم تطوّع: الوتر، وركعتا الضحى، والنّحر». (¬4) هذا الحديث أورده القرطبي في الجامع 10/ 308، ولم يشر إلى من خرّجه وهذه أولى أمارات التضعيف. وأورده الهندي المباركفوري في كنز العمال 7/ 19853، وعزاه إلى البخاري، ومسلم ثم قال: وضعّفه عن عائشة؟ وهذه أعجب وأعجب، فليس في البخاري ولا مسلم من ذلك شيء، وغالب الظّن أن الحديث من رواية البيهقي في شعب الإيمان، فذهل المباركفوري أو الطابع فكتب رمز الشيخين مكان رمز البيهقي، إذ رمزهما عنده ق، ورمز البيهقي هق، والرمزان متشابهان، وليس من عادة المباركفوري أن يضعف ما نسب إلى البخاري ومسلم في مقام.

وقد اختار الآلوسي أن القيام فرض على النّبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أمته، فنسخ ذلك في حقّ أمته صلّى الله عليه وسلّم، وبقي في حقّه صلّى الله عليه وسلّم بناء على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضّحاك قال: نسخ قيام الليل إلا عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم (¬1). وقد تأوّل القائلون بافتراضه عليه صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: نافِلَةً لَكَ، أي: كرامة لك، وهو قول مقاتل (¬2). لكن ردّ القرطبي على ذلك فقال: وفي هذا التأويل بعد لوجهين: أحدهما: تسمية الفرض بالنفل، وذلك مجاز لا حقيقة (¬3)، وليس ثمة مساغ يبرر العدول عن الحقيقة إلى المجاز. ثم قال: الثاني: قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خمس صلوات افترضهن الله على العباد» (¬4)، وقوله تعالى: «وهي خمس وهنّ خمسون لا يبدّل القول لدي» (¬5)، وهذا نصّ، فكيف يقال: افترض عليه صلاة زائدة على الخمس؛ هذا ما لا يصح (¬6). ثم جزم القرطبي في اختياره أن التّهجد نافلة في حق الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما في حق أمته فقال: وعلى هذا يكون الأمر بالتّنفّل على جهة النّدب، ويكون الخطاب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه مغفور له، فهو إذا تطوع بما ليس بواجب عليه كان ذلك زيادة في الدرجات، وغيره من الأمة تطوعهم كفارات وتدارك لخلل يقع في الفرض (¬7). ¬

_ (¬1) روح المعاني للآلوسي 15/ 139. (¬2) الدّر المنثور للسيوطي 4/ 200. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10/ 308. (¬4) حديث مشهور، أخرجه أحمد بن حنبل عن عبادة بن الصامت، ورواته ثقات إلا الحسين بن محمد المروزي فهو مجهول، ولكنه وصل من طريق أخرى عن أبي عبد الله الصنابحي. (¬5) رواه مسلم في كتاب الإيمان، رقم الحديث (12)، باب السؤال عن أركان الإسلام. ورواه أيضا الترمذي والنّسائي. (¬6) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 10/ 308. (¬7) المصدر نفسه.

المسألة الخامسة:

المسألة الخامسة: قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: 2/ 125]. قرأ ابن عامر، ونافع: (واتّخذوا) بفتح الخاء، وقرأ الباقون: وَاتَّخِذُوا بكسر الخاء (¬1). فمؤدّى قراءة ابن عامر ونافع الإخبار عن فعل الأولين، فهي محض خبر، وأما قراءة الجمهور فهي في مقام إنشاء الأمر باتّخاذ المقام مصلّى. وهذه المسألة من موافقات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أخرج البخاري عن أنس عن عمر بن الخطاب قال: «وافقت ربّي في ثلاث، ووافقني ربّي في ثلاث، قلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب، وقلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى، واجتمع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: عسى ربّه إن طلّقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات ... فنزلت» (¬2). وثمرة الخلاف: أن مقام إبراهيم عليه السلام لم يزل مصلى، فقد اتّخذه بنو إبراهيم بعد أبيهم، وقد أمر الله عزّ وجلّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأمّته بإقرار ذلك وجعله مصلى، وهذا المعنى بجملته لا يفهم من إحدى القراءتين دون الأخرى، ولا بدّ من إعمالهما معا ليتضح ذلك. وليس لهذا الخلاف ثمرة فقهية ظاهرة، ولكنه أفاد خبرا في أن مقام إبراهيم لم يزل مصلى يتّخذه المتحنفون على ملّته، فجاءت الشريعة بإقرار ذلك ثم الحثّ عليه. وفيه من الفوائد التربوية أن ليس كل قديم ينبذ، وأن اقتفاء الأبناء هدي آبائهم وتراثهم ليس مذموما على إطلاقه، وأن ركوب أهل الباطل لبعض مراكب الحق لا يشين الحق في ذاته. ¬

_ (¬1) سراج القاري لابن القاصح العذري 157، وعبارة الشاطبي: ... ... ... ... واتخذوا بالفتح عم واوغلا وانظر حجة القراءات 113. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب المناقب، فضائل عمر بن الخطاب، وأخرجه كذلك الترمذي، والنّسائي، وابن ماجة، كما أخرجه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في سننه عن أنس.

المسألة السادسة:

المسألة السادسة: قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 2/ 219]. قرأ أبو عمرو البصري: (قل العفو) بالرفع، وقرأ الباقون: قُلِ الْعَفْوَ بالنصب (¬1). ومقتضى قراءة البصري أنه جعلها مبتدءا في الكلام، فكان المعنى أن المطلوب في الإنفاق هو العفو. وجعلها الباقون مفعولا لفعل الأمر: المقدّر، أي: أنفقوا العفو. والمعنيان متقاربان من جهة الدلالة، متفاوتان من جهة الأسلوب، والعفو نقيض الجهد (¬2)، وهو ما ينفقه المرء دون أن يضيّق على نفسه ويقتّر على عياله، والجهد: أن ينفق ما يجهده ويستفرغ وسعه، ومنه قولهم: «خذي العفو مني تستديمي مودّتي» ويقال للأرض السهلة: العفو (¬3). وأما تشريع صدقة العفو فقد رفع وجوبه وبقي استحبابه، وإنما رفع وجوبه بفرض أنصبة الزكاة ومقاديرها، أخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم أن نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل الله: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ. وكان الرجل قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به، ولا يجد ما يأكل حتى يتصدّق عليه (¬4). وأخرج مسلم في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى- وابدأ بمن تعول» (¬5). ¬

_ (¬1) تقريب النّشر في القراءات العشر 96. وعبارة طيبة النّشر: ... ... ... ... ... ... العفو محنا (¬2) الكشاف للزمخشري 1/ 360. (¬3) المصدر نفسه، وانظر كذلك فتح القدير للشوكاني 1/ 222. (¬4) فتح القدير للشوكاني 1/ 222. (¬5) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة برقم 95 - 97 - 106.

ثمرة الخلاف:

واختار ابن جرير الطبري أن العفو هو الفضل عن العيال (¬1)، ومثله قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن كان فضلا فعلى عياله، فإن كان فضلا فعلى ذي قرابته، فإن كان فضلا فهاهنا، وهاهنا» (¬2). ثمرة الخلاف: تظهر ثمرة الخلاف في التوكيد على إنفاق العفو من المال، فهو في قراءة الرفع يحتمل الوجوب والاستحباب، وزادت عليه قراءة النصب بوروده بصيغة الأمر أي: أنفقوا العفو والأمر للوجوب، فيمكن القول إن القراءة الأولى أفادت طلب إنفاق العفو على سبيل الاستحباب، فيما أفادت الثانية طلب إنفاق العفو على سبيل الإيجاب. ولا يخفى أن هذا التحرير محلّه غياب القرائن والناسخ، وهاهنا فإن ناسخ الوجوب قد ورد بتحديد أنصبة الزكاة المفروضة ومقاديرها فيبقى الأمر هنا على الاستحباب، والله أعلم. المسألة السابعة: قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ [البقرة: 2/ 184]. قرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر: (فدية طعام مساكين)، وقرأ الباقون: فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ (¬3). وكذلك فقد قرأ المدنيان وابن ذكوان: (فدية طعام) (¬4). وحجة نافع، وابن عامر في اختيار الجمع دون الإفراد قول الله سبحانه قبل ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ قال: إنما عرف عباده حكم من أفطر الأيام التي كتبت عليهم صومها بقوله: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ¬

_ (¬1) تفسير الطبري 2/ 218. (¬2) أخرجه أحمد في مسنده 3/ 305، وابن خزيمة في صحيحه، وأبو عوانة عن جابر. وأخرجه أبو داود في جامعه، كتاب العتاق، باب (9). (¬3) تقريب النشر 96. وعبارة طيبة النشر: مسكين فاجمع لا تنون وافتحا ... عم ... ... ... (¬4) تقريب النشر لابن الجزري 96. وانظر حجة القراءات لأبي زرعة 124.

ثمرة الخلاف:

، فإن كان ذلك كذلك فالواجب أن تكون القراءة في المساكين على الجمع لا على التوحيد، وتأويل الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ أيام يفطر فيها إطعام مساكين، ثم تحذف أياما وتقيم (الطعام) مكانها. وحجة الجمهور أن في البيان على حكم الواحد، البيان عن حكم جميع أيام الشهر، وليس في البيان عن حكم إفطار جميع الشهر، البيان عن حكم إفطار اليوم الواحد. ثمرة الخلاف: أفادت قراءة الإفراد أن الفدية إطعام مسكين واحد، فوجب حملها على الفدية عن كل يوم. وأفادت قراءة الجمع أن الفدية إطعام عدد من المساكين، فوجب حملها على تعدد الفدية بتعدد الأيام. ولكن ما الفائدة من تعدد القراءات هنا؟ الجواب أن قراءة الإفراد دلّت على وجوب دفع الفدية للمسكين، فربما توهّم متوهّم بأنه لا يصح توزيع الفديات إذا تعددت الأيام إلا إلى مسكين واحد، فأخبرت قراءة الجمع أن دفع الفديات يصح إلى مسكين واحد، ويصح إلى جماعة من المساكين. وهذا الذي أدت إليه القراءات المتواترة يميّزه البصير العارف، فربّ مسكين لا تندفع غائلة الجوع عنده بعطية يوم، فتواصل إعطاءه أياما، وربّ مسكين يقع في كرب يوما فيجد عطيتك له عونا ومددا. وبعد .. فهذا ما ظهر لي من ثمرة الخلاف، وهي كما يظهر غير كافية، وهي مبلغ علمي، على أنه ينبغي أن توقن أن ثمة أسرارا أخرى مكنونة لاختلاف القراءة، قد يعلمها قوم وتخفى عن آخرين، والله أعلم.

المسألة الثامنة:

المسألة الثامنة: قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة: 2/ 197]. قرأ ابن كثير: وأبو عمرو، ويعقوب، وأبو جعفر: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال) وانفرد أبو جعفر عنهم في رفع: (ولا جدال) أيضا. وأما الباقون فقد قرءوا سائر كلمات الآية نصبا: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ (¬1). وذهب أصحاب القراءة الأولى في توجيه قراءتهم إلى أنها واردة على تقدير: لا يكون رفث ولا يكون فسوق، فجعلوها خبرا بمعنى النّهي، وإنما تركوا رفع وَلا جِدالَ على تقدير أنه: لا جدال في ميقات الحج، أي لا شكّ في الحج، ولا اختلاف في أنه ذي الحجة، لقوله سبحانه: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ. قال أبو عبيد القاسم بن سلام: «وإنما افترقت الحروف عندهم لأنهم جعلوا قوله: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ بمعنى النهي، أي لا يكون رفث ولا فسوق، وتأوّلوا قوله: وَلا جِدالَ أنه لا شك في الحج، ولا اختلاف في أنه ذو الحجة» (¬2). وأما أصحاب القراءة الثانية، وهم عامة قرّاء الأمصار إلا من ذكرنا، فقد جعلوها نفيا لجميع جنس الرّفث والفسوق والجدال، ويشهد لهم ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ قال: «لا تمار صاحبك حتى تغضبه، فلم يذهب بها ابن عباس ذلك المذهب، ولكنه جعله نهيا كالحرفين الأولين، وأن حرف النهي دخل في الثلاثة» (¬3). ¬

_ (¬1) تقريب النّشر لابن الجزري 96. وعبارة الشاطبية: وبالرفع نونه فلا رفث ولا ... فسوق ولا حقا وزان مجملا وقد تضمنت الإشارة إلى مذهب أبي عمرو وابن كثير، وهما المشار إليهما ب (حق)، واستكمل ابن الجزري بيان مذهب يعقوب وأبي جعفر في الدّرة المضية بقوله: ... وارفع رفث وفسوق مع ... جدال وخفض في الملائكة اثقلا (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة 124. (¬3) المصدر نفسه.

وثمرة الخلاف:

وثمرة الخلاف: أن كلتا القراءتين أفادت النهي عن الرّفث والفسوق، فالأولى على تقدير: لا يكون رفث ولا يكون فسوق في الحج، والثانية على تقدير: لا تقترفوا رفثا ولا فسوقا. واستقلت الأولى بالنّهي عن الرّفث والفسوق في جميع الأوقات في الحج، واستقلّت الثانية بالنهي عن الرّفث والفسوق بجميع أشكاله، فيكون تعدد القراءات هنا ضروريا لتحقيق المعنيين معا، إذ أفادت الأولى العموم، وأفادت الثانية الإطلاق، والله أعلم. أخرج الأصبهاني في الترغيب عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من عمل بين السماء والأرض بعد الجهاد في سبيل الله أحبّ إلى الله من جهاد في سبيله، وحجة مبرورة متقبّلة، لا رفث ولا فسوق ولا جدال فيها» (¬1). قال أبو زرعة: «حجة من فتح أن يقول: إنه أبلغ في المقصود، ألا ترى أنه إذا فتح فقد نفى جميع الرّفث والفسوق كما أنه إذا قال: لا ريب فيه فقد نفى جميع هذا الجنس، وإذا رفع ونون فكأن النفي لواحد منه، فالفتح أولى لأن النّفي به أعمّ، والمعنى عليه لأنه لم يرخص في ضرب من الجدال» (¬2)، ثم أورد إيضاحا آخر للمعنى الذي دلّت له قراءة النصب فقال: فالفتح جواب قائل: هل من رفث؟ هل من فسوق؟ ف (من) يدخله للعموم و (لا) أيضا تدخل لنفي العموم، وإذا قلت: «هل من رجل في الدار» فجوابه: «لا رجل في الدار» (¬3). وأما الذين قرءوا بالرفع فإنهم لم ينكروا هذه الدلالة، ولكن قالوا: «إنها تعرف من فحوى الخطاب ولو قرأت بالرفع، وقد يكون اللفظ واحدا والمراد جميعا» (¬4). والخلاصة أن القراءتين متكاملتان في الدلالة على المعنى في وجوب نفي الرّفث والفسوق والجدال بشتى أشكاله. بقي أن نشير إلى معنى الرّفث المنهي عنه، وهو إتيان النساء، وقد صرح بذلك من ¬

_ (¬1) أورده السيوطي في الدّر المنثور، ط دار المعرفة 1/ 220. (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة 124. (¬3) المصدر نفسه. (¬4) المصدر نفسه.

المسألة التاسعة:

الصحابة ابن مسعود، وابن عباس، وعبد الله بن الزبير، وروي عن بعض السلف عن ابن عباس أيضا أن الرّفث هو التّعريض بذكر النّكاح. أخرج سفيان بن عيينة عن طاوس قال: سألت ابن عباس عن قوله: فلا رفث، قال: الرّفث الذي ذكر هنا ليس الرّفث الذي ذكر في أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة: 2/ 187]، ذاك الجماع، وهذا العراب بكلام العرب، والتعريض بذكر النكاح (¬1)، وروى عنه ابن المنذر أيضا قوله: الرّفث غشيان النّساء والقبل والغمز وأن يعرض لها بالفحش من الكلام (1). المسألة التاسعة: قوله تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التّوبة: 9/ 19]. انفرد عيسى بن وردان في رواية أبي جعفر في وجه عنه فقرأ: (أجعلتم سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر) (¬3). وهذا الوجه من القراءة لم يشتهر عن أبي جعفر، فقد قرأ راوياه: ابن جماز وعيسى بن وردان كقراءة الجمهور، ولكن نقل الشطوي عن عيسى بن وردان عن أبي جعفر أنه قرأ بالوجه المذكور (¬4)، ولولا أن ابن الجزري أورده في النّشر لأعرضنا عنه، واكتفينا بما قرأ به الجمهور. وينشأ من هذه القراءة أيضا مشكلة في الرسم، إذ لا تستقيم صحة هذه القراءة إلا مع مطابقتها للرسم العثماني في أحد المصاحف كما قدمناه من قبل، ولم أجد أحدا من محققي مصاحف عثمان أشار إلى هذا الوجه في الخلاف، ولا يتصوّر إدراج ابن الجزري لهذا الوجه في المتواتر إلا مع تيقنه من مطابقته للرسوم في أحد المصاحف العثمانية، إذ يستفاد من قول ابن الجزري: ¬

_ (¬1) الدّر المنثور للسيوطي 1/ 219. (¬3) تقريب النّشر لابن الجزري 120. وليس في طيبة النّشر إشارة إلى ذلك. لكن أورد ابن الجزري هذا الوجه أيضا في نظمه (الدّرة المضية في القراءات الثلاث تتمة العشرة) وعبارته في ذلك: وقل عمرو معها سقاة الخلاف بن ... ... ... ... (¬4) تقريب النّشر لابن الجزري 120.

وكل ما وافق وجه النحو ... وكان للرسم احتمالا يحوي وصح إسنادا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان وحيثما يختل وجه أثبت ... شذوذه لو أنه في السبعة (¬1) فيستفاد من ذلك أن ابن الجزري ملتزم بهذه الشروط الثلاثة، فلا يصح إدراجه لهذا الوجه في المتواتر إلا مع الجزم بأنه اطّلع على وجه في المرسوم مطابق لما أدى إليه هذا الوجه. ومؤدى قراءة أهل الأمصار نفي التسوية بين سقاية الحاج، وعمارة المسجد الحرام، وبين المؤمنين، وهو كما ترى مقابلة بين فعل وذات، وهو ما نجت منه رواية الشطوي عن ابن وردان، إذ جعلت المقابلة بين ذات وذات، بين سقاة الحاج، وعمارة المسجد الحرام، وبين المؤمنين بالله واليوم الآخر. ولكن هذا الإنكار على قراءة الجمهور لا محل له ولا داعي إليه، ففي القرآن العظيم من مقابلة الذات بالأفعال كثير، من ذلك: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر: 59/ 9]. ففيه عطف الدار وهي ذات على الإيمان وهو معنى، وذلك على قول من قال: إن الإيمان هو العقيدة الموصوفة؛ إذ جزم كثير من المفسرين أن الإيمان هنا اسم ذات أيضا؛ إذ جعلوه اسما للمدينة المنورة. وحيث ثبت تواتر قراءة الجمهور وموافقتها للرسم والنحو فلا مساغ للإنكار، والذي يميل إليه القلب أن المروي عن ابن وردان ليس متواترا، إذ مع مخالفته لرسم المصحف فإن ابن الجزري نفسه أعرض عنه في الطيبة ولم يشر إليه (1)، واكتفى بالإشارة إلى هذا الوجه في النشر، وقد أورده محتفا بقرائن التوهين فقال: انفرد الشطوي عن ابن وردان بذلك، فكأنه جزم أنه ليس في المتواتر من ذلك شيء. ولكنه كان من قبل قد أوردها في نظم الدّرة المضية مشيرا إلى الخلاف فيهما أيضا (¬3). ¬

_ (¬1) انظر تقريب النشر 120. (¬3) انظر إتحاف البررة بالمتون العشرة 141.

ثمرة الخلاف:

ثمرة الخلاف: إن المعاني التي أدت إليها القراءتان متقاربة؛ فهي أولا أفادت نفي المماثلة بين سقاية الحاج والإيمان، فكانت على تقدير: لا يستوي من قام بسقاية الحاج، ومن آمن بالله، واليوم الآخر. وأفادت ثانيا نفي المماثلة بين سقاة الحاج، وعمارة المسجد الحرام، وبين المؤمنين، فالمؤدى المفهوم من القراءتين جميعا، أن الأعمال غير متساوية، والأفراد غير متساوين، إذ لا يقبل الله عملا يقوم به عامل مع فساد العقيدة، وهو أصل مقرر في فروع الشريعة، وقد دلّ له قوله سبحانه: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 25/ 23]. وفي الحديث القدسي: «إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري» (¬1). المسألة العاشرة: قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة: 5/ 95]. قرأ الكوفيون ويعقوب: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، وقرأ الباقون: (فجزاء مثل ما قتل من النّعم) (¬2) فمن رفعهما جميعا فرفعه على معنى: فعليه جزاء مثل الذي قتل، فيكون مثل ما نعت الجزاء، ويجوز أن يكون التقدير على أساس أنهما مبتدأ وخبر، فيكون المعنى: فجزاء ذلك الفعل مثل ما قتل. وعلى ذلك تتوجه قراءة الخفض إلى معنى: فجزاء مثل المقتول واجب عليه، وقد تعددت مذاهب الفقهاء تبعا لاختلاف الرواية في هذا الموطن، فقالت الحنفية: من قتل الصيد فإنه يقوم الصيد المقتول من الدراهم، ثم يشتري قيمته فداء من النّعم ثم يهديه إلى الكعبة لأن المطلوب قيمته، بدليل أن الجزاء أضيف إلى المثل: فجزاء مثل، كما في قراءة الجميع إلا الكوفيين ويعقوب، والشيء ¬

_ (¬1) رواه البيهقي والحاكم عن معاذ، والديلمي وابن عساكر عن أبي الدرداء. (¬2) تقريب النشر 109. وعبارة طيبة النّشر: ظهرا ومثل رفع خفضهم وسم ... والعكس في كفارة طعام (عم)

لا يضاف إلى مثله، فوجب المصير إلى قيمته، حيث تيقّنّا هنا أن المطلوب ليس المثل، وإنما هو ما يعادله قيمته (¬1). وقد أجرى الحنفية قاعدتهم هذه في كثير من مسائل الكفارات والنذور كما في صدقة الفطر. ولهذا المذهب تطبيقات كثيرة في التفسير، وهي مسموعة من كلام العرب، كما في قولهم: مثلك من يكرم، ونظيره في القرآن الكريم: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام: 6/ 122]، أي كمن هو في الظلمات. ومن أشهر التطبيقات لهذه القاعدة ما اتّفق عليه المفسرون في قوله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشّورى: 42/ 11]، فلا بدّ من المصير في هذا المقام إلى ما فهمته الحنفية، وهو أن (مثل) هنا زائدة، ويمكن القول: إنما تتجه الآية إلى نفي شبيه الشبيه عن المولى سبحانه، وهو زيادة في التّنزيه (¬2). فجملة القول أن مختار الحنفية يتجه إلى أن المطلوب إنفاق قيمة ما قتل من الصيد، اعتمادا على القراءة المتواترة إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه. قال أبو حنيفة: تجب القيمة بقتل الصيد أو الدلالة عليه (¬3). واختارت الشافعية: أن المحرم إذا أصاب صيدا في الحرم فقد وجب عليه مثل المقتول إن كان له مثل، فإن لم يكن له مثل فلا بدّ من المصير إلى القيمة (¬4). وتجد أن شقة الخلاف تضيق بين القوم فيما ليس له مثل مشروع من النعم، ويتحدد مناط الخلاف فيما كان له مثل مكافئ من النّعم، فالحنفية على مذهبهم لزوم القيمة، والإعراض عن كفارة الدّم بالدّم، والشافعية على مذهبهم في المصير إلى نحر المثل حيث وجد، وإلا فالمطلوب القيمة. وعبارة الشربيني: في النّعامة بدنة، وفي بقر الوحش وحماره بقرة، وفي الغزال عنز، وفي ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة 237. وانظر كذلك الجامع لأحكام القرآن 6/ 309. (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 309. (¬3) اللباب، شرح الكتاب لعبد الغني الغنيمي الميداني 1/ 206. (¬4) مغني المحتاج للخطيب الشربيني 1/ 524.

ثمرة الخلاف:

الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة، وفي الثعلب شاة، وفي الضّب جدي، وما لا نقل فيه يحكم بمثله من النّعم عدلان، لقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ. ويجب في ما لا مثل له مما لا نقل فيه كالجراد، وبقية الطيور ما عدا الحمام القيمة، وذلك في موضع الإتلاف والتّلف، لا بمكة على الصحيح. ثم يلزم في الكبير كبير، وفي الذكر ذكر، وفي الأنثى أنثى، وفي الصحيح صحيح، وفي المعيب معيب، اجتهادا في تحقيق المثلية المنصوص عليها في الكتاب (¬1). وظاهر هنا أن اختيارات كافة الشافعية إنما تجري مع قراءة الرفع: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ فالمثل هو الخبر المنصوص عليه. ثمرة الخلاف: تكشف القراءتان عن سعة الفقه الإسلامي ودقّته، فبعد أن دلّت قراءة أهل الكوفة بالرفع على وجوب المماثلة، تحقيقا لدقة الجزاء في القضاء، جاءت قراءة الباقين بالخفض إيذانا بجواز العدول إلى القيمة في الجزاء. وهذا الاتجاه ينتج عن إعمال القراءتين جميعا، ويتفق مع مذهب الشافعية في ما كان له مثل، في الشّق الأول، وما ليس له مثل في الشّق الثاني، فهو اعتمال مركب. لكن ينطبق على دلالة القراءتين ما اختاره المالكية الذين جعلوا الفداء على سبيل التّخيير بين نحر مثل الصيد وبين قيمة الصيد، وخلاصة مذهبهم أن جزاء الصيد أحد ثلاثة أنواع (¬2) على التّخيير كالفدية، وهي: مثل الصيد الذي قتله من النّعم، وقيمة الصيد طعاما، وعدل ذلك الطعام صياما لكلّ مدّ صوم يوم (¬3). وهكذا فإن مختار المالكية أقرب السّبل لإعمال القراءتين جميعا، وهو ما يجب لحظه واعتباره. ¬

_ (¬1) مغني المحتاج للخطيب الشربيني 1/ 528. (¬2) لم نعرض هنا لذكر الوجه الثالث، وهو الصيام لعدم صلته بأثر القراءات في اختلاف الحكم الشرعي. (¬3) انظر الشرح الصغير للدردير بحاشية الصاوي، ط دار المعارف بمصر 2/ 115.

المسألة الحادية عشر:

المسألة الحادية عشر: قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 22/ 29]. قرأ ابن عامر، وأبو عمرو، والبصري، وورش: (ثمّ ليقضوا تفثهم). وروى ابن ذكوان عن ابن عامر الكسر أيضا في: (وليوفوا نذورهم وليطّوفوا). وقرأ الباقون بإسكان اللام في ذلك جميعا (¬1): ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا. فالذين كسروا اللام أتوا بها على الأصل؛ إذ هي مبتدأة في الكلام، والعرب لا تبدأ بساكن، وحقّ اللام الكسر. وهذا هو التوجيه اللغوي. ولم أجد في شروح الشاطبية والطيبة التعرض للتوجيه المعنوي لقراءة الكسر، وظاهر بأن اللام المكسورة هنا تحمل معنى آخر غير الأمر الجلي في قراءة إسكان اللام، ويتجه معنى اللام المكسورة هنا إلى الغاية؛ أي أن من مقاصد حجتهم واعتمارهم، ومن غايات ذلك قضاء التّفث، ووفاء النّذور، والطّواف بالبيت، وإنما ذكر الله سبحانه هذه الغايات إلطافا بالمعتمرين، وإيناسا لهم، ودفعا لاستيحاشهم (¬2). والذين قرءوا بإسكان اللام حملوا ذلك على الأمر، ويقوي مذهبهم إجماع الجميع على الإسكان في قوله تعالى: فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً [الكهف: 18/ 110]، وقوله سبحانه: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ [النّور: 24/ 31]، وقوله سبحانه: وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً [الكهف: 18/ 19]. ¬

_ (¬1) تقريب النّشر 145 لابن الجزري. وعبارة الشاطبية: ليوفوا ابن ذكوان ليطوفوا له ... ليقضوا سوى بزيهم نفر جلا (¬2) قال أبو البقاء الكفوي في الكليات: ولام الأمر يجوز تسكينه بعد واو أو فاء نحو: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي، ولا يجوز ذلك في لام (كي)، وما يترتب على فعل الفاعل المختار إن كان ترتبه عليه بطريق الاتفاق والإمضاء من غير أن يكون اقتضاء وسببية، وتسمى اللام الداخلة عليه لام الصيرورة وهي العاقبة والمآل. انظر الكلّيات لأبي البقاء أيوب بن موسى الكفوي 4/ 143، ط وزارة الثقافة السورية.

وثمرة الخلاف:

وثمرة الخلاف: أن القرآن قرر أن قضاء التّفث مقصد يسعى إليه الحجاج، وذلك قبل أن ينزل فيه تشريع، ثم أمر بذلك، فأصبح قضاء التّفث نسكا شرعيّا مأمورا به، زيادة على كونه عادة الحجيج من العرب فيما توارثوه عن إبراهيم. فكأنما القراءة الأولى جاءت تذكيرا بما تعودته العرب، ثم جاءت الثانية بالتكليف به ليكون الأمر أوقع في النفوس، وآنس للاستجابة، وأدنى إلى القبول. وأما تحرير معنى التّفث المأمور بقضائه فقد تعدّدت فيه الأقوال تعدّدا كثيرا، ولم يسمع فيه شعر عربي (¬1)، ولكن روي في تفسيره نصّ لو سلّم إسناده لقطع كل خلاف، وهو ما رواه ابن عمر وابن عباس أن التّفث مناسك الحجّ كلها (¬2)، وقال ابن العربي (¬3): لو صحّ عنهما لكان حجة لشرف الصحبة والإحاطة باللغة، قال: وهذه اللفظة غريبة لم يجر أهل العربية فيها شعرا، ولا أحاطوا بها خبرا (¬4)، لكني تتبعت التّفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال: إنه قص الأظافر، وأخذ الشارب، وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح. قال: ولم يجئ فيه بشعر يحتجّ به (¬5). ¬

_ (¬1) نقلا عن أحكام القرآن لابن العربي 3/ 1283، ولكن ستجد بعد قليل أن ثمة شعرا فيه لفظ التّفث من كلام أمية بن أبي الصّلت، وهو أهل للاحتجاج. (¬2) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12/ 49. (¬3) انظر أحكام القرآن للقاضي أبي بكر بن العربي 3/ 1283. (¬4) قال ابن منظور في لسان العرب مادة (تفث): قال الزجاج: لا يعرف أهل اللغة التّفث إلا من التفسير. كذا نقل ابن العربي عن أبي عبيدة، وكذلك نقل القرطبي عن أبي عبيدة، ولدى مطالعة ما دونه أبو عبيدة في كتابه: مجاز القرآن، لم أجد عبارة القرطبي، وإنما تمام ما قاله أبو عبيدة: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وهو الأخذ من الشارب، وقصّ الأظفار، والاستحداد، وحلق العانة. اه بتمامه. انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة، ط مؤسسة الرسالة 2/ 50. (¬5) وقد وهم القرطبي أيضا في نقله عن القاضي ابن العربي فزعم أنه قال: «وقال أبو عبيدة: لم يجئ فيه شعر يحتج به». والحق أن ابن العربي لم يقل ذلك، وأن أبا عبيدة لم يقل ذلك، وغاية الأمر أن ابن العربي قال: ولم يجئ فيه بشعر يحتجّ به. وفرق كبير بين عدم إيراد أبي عبيدة لبيت من الشعر، وبين تصريحه بعدم وجود ذلك. ولست أدري ما الفائدة من إطالة القرطبي في النقل عن ابن العربي، وعدم إعلام القارئ مبتدأ النقل ومنتهاه، إضافة إلى التّصرف ببعض المنقول تصرفا مخلّا كما تجد هنا.

وقال صاحب العين: التّفث هو الرّمي، والحلق، والتّقصير، والذّبح، وقصّ الأظافر، والشارب، والإبط. وذكر الزجاج والفرّاء نحوه، ولا أراه أخذوه إلا من قول العلماء. وقال قطرب: تفث الرّجل إذا كثر وسخه. قال أمية بن أبي الصّلت: حفّوا رءوسهم لم يحلقوا تفثا ... ولم يسلّو لهم قملا وصئبانا وما أشار إليه قطرب هو الذي قاله ابن وهب بن مالك، وهو الصحيح في التّفث وهذه صورة إلقاء التّفث لغة، وأما حقيقته الشرعية: فإذا نحر الحاج أو المعتمر هديه، وحلق رأسه، وأزال وسخه، وتنقى، ولبس فقد أزال تفثه، ووفى نذره، والنّذر ما لزم الإنسان، والتزمه (¬1). ومن هذه النقول تعلم أن كلمة (التّفث) لفظة عربية حوشية، قليلة التّردد في كلامهم، ولكنها ليست ابتداعا اخترعه التّنزيل. وخلاصة اختيارهم في أمر التّفث ما رواه ابن وهب عن مالك قال: التّفث: حلق الشعر، ولبس الثياب، وما أتبع ذلك مما يحل به المحرم (¬2). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/ 50. (¬2) أحكام القرآن لابن العربي المالكي 3/ 1282.

المبحث الثاني في المعاملات

المبحث الثاني في المعاملات المسألة الأولى: قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النّساء: 4/ 33]. قرأ الكوفيون (¬1): وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ. وقرأ الباقون: (والذين عاقدت أيمانكم) (¬2). وذهب الكوفيون إلى تقرير أن الأيمان هي التي عقدت بينهم فلا حاجة حينئذ لألف المفاعلة، واستدلّوا بما ورد عقب المعاقدة: أَيْمانُكُمْ، وقالوا: هي حجة على أن أيمان الطائفتين هي التي عقدت ما بينهما، وفي إسناد الفعل إلى الأيمان كفاية من الحجة (¬3). وقد أنكر القرطبي اختيار الكوفيين فقال: المعاقدة لا تكون إلا من اثنين فصاعدا، فبابها: فاعل، ولم يلتفت إلى حجة الكوفيين (¬4). وأما باقي القرّاء فقد جعلوا حلف المعاقدة ثنويا، فكان لا بدّ من ألف المفاعلة، حتى يتحقق اشتراك اثنين، ونقل أبو زرعة أن هذا كان في الجاهلية، يجيء الرجل الذليل إلى العزيز فيحالفه ويعاقده ويقول له: «أنا ابنك، ترثني وأرثك، وحرمتي حرمتك، ودمي دمك، وثأري ثأرك»، فأمر الله عزّ وجلّ بالوفاء لهم، فهذا العقد لا يكون إلا بين اثنين (¬5). ¬

_ (¬1) وهو عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف. (¬2) تقريب النّشر لابن الجزري 105. وعبارة طيبة النّشر: كالحجّ عاقدت لكوف قصرا ... ... ... (¬3) حجة القراءات لأبي زرعة 202. (¬4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 166. (¬5) حجة القراءات 202.

ثمرة الخلاف:

والآية عامة في وجوب إيتاء ذوي العقود حقوقهم فيما عاقدوا فيه، وقد أورد الإمام البخاري توجيها لمعنى الآية وفق سبب نزولها: «عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم) قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجريّ دون ذوي رحمه، للأخوّة التي كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم جعلها بينهم، فلما نزلت: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ قال: نسختها (والذين عاقدت أيمانهم)» (¬1). وعلى اختيار البخاري هذا جرى أهل التفسير، فصرحوا بأن هذه الآية منسوخة، ولا نزاع في ذلك بحسب الظاهر، لكن ينبغي أن يحتاط في إطلاق النّسخ، فيجب القول هنا: إن الآية منسوخة من جهة دلالتها على توريث الإخوة في الدين، ولكنها باقية في الدلالة على نصرتهم وحمايتهم وموالاتهم؛ إذ النّص في الكتاب العزيز لم يخصّ على إيتاء المال دون سواه، فحيث جاء النّسخ على فرد من أفراد المأمور به، تعين أن الحكم باق فيما سواه من أفراده. وهكذا فإنه لا مساغ للجزم بوجود النّسخ، لإمكان الجمع بين النصوص، ولأن دلالات العام هنا كثيرة، وأغلبها باق محكم، كحق المعاقدين في الوفاء بعقودهم من النصرة والولاية والنصيحة والتراحم، خلافا لما جزم به أبو زرعة في الحجة (¬2). ثمرة الخلاف: إن حقّ من تنالهم عقود الأيمان في الوفاء مؤكد بلا ريب كما شملته الآية في حدود ما لم يطله الناسخ. ولكن هل هذا الحق لمن انعقد حلفه بيمين العاقد وحده دون الحاجة لتحرير إقرار المعقود له، أم لا بدّ من تعاقد بين طرفين؟ ¬

_ (¬1) البخاري في الصحيح، انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ط دار المعرفة 12/ 29. ولا شك أنه قد آثار عندك إشكالا قوله: نسختها (والذين عاقدت أيمانكم) إذ يوهم ظاهر العبارة خلطا بين الناسخ والمنسوخ. قال ابن حجر: قال ابن بطال كذا وقع في جميع النّسخ: نسختها (والذين عاقدت أيمانكم)، والصواب أن المنسوخة والذين عاقدت أيمانكم والناسخة وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ. انظر فتح الباري 12/ 29. وكذلك نقل القرطبي كلام ابن بطال 5/ 166. وجلّ من لم يختصّ بالعصمة إلا كتابه سبحانه. (¬2) انظر حجة القراءات لأبي زرعة 202.

فائدة:

دلّت قراءة الجمهور أن المطلوب لجريان أحكام التّعاقد أن يشترك في إقراره المتعاقدان، بقرينة ألف المفاعلة التي هي نتيجة اشتراك إرادتين، ويشهد له اختيار أبي عبيدة (عاقده: حالفه) (¬1) فيما دلّت قراءة أهل الكوفة أن المطلوب هو يمين الغارم دون إقرار الغريم، بقرينة أن الفاعل هنا هو أيمان المؤمنين وحدها. والجمع بين القراءتين ممكن، فيكون إعمال القراءتين دليلا على وجوب انعقاد العقد في الحالين، بالمشاركة أو المبادرة الفردية، وفي الحالين فإن الوفاء ملزم، ففي المشاركة لأنها إرادة الفريقين، وفي المبادرة الفردية لأنها تفترض إقرار المعقود له (¬2). فائدة: ولا بدّ من الإشارة هنا إلى طبيعة هذا الإخاء العجيب الذي عقده النّبي صلّى الله عليه وسلّم بين الصحابة الكرام، وحلّ محلّ أخوّة النّسب والدّم، حتى أصبح الأخ يرث أخاه في الدين دون أرحامه ومواليه، وهو أمر لا تقدر على فرضه أشدّ القوانين صرامة وحزما، ولكن شرعه الإسلام وطبّقه حبّا وعدلا وإحسانا. وبمقارنة بسيطة ندرك أي منزلة سامية بوّأها النّبي صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه في الحبّ والإيثار. المسألة الثانية: قوله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الرّوم: 30/ 39]. قرأ ابن كثير: (وما أتيتم من ربا) من غير مد، أي ما جئتم. وقرأ الباقون: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً (¬3)، أي: ما أعطيتم، من قوله: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا أي: أعطاهم. قال عكرمة: هما ربوان: أحدهما حلال والآخر حرام، فأما الحلال فالرجل يعطي أخاه ¬

_ (¬1) مجاز القرآن لأبي عبيدة، تحقيق فؤاد سزكين، ط مؤسسة الرسالة 1/ 125. (¬2) وثمة فائدة هامة أخرى نبّهني إليها أستاذي الدكتور وهبة الزحيلي، وهي أن قراءة (عاقدت) تؤكد قول الفقهاء من ضرورة تعدد العاقد في سائر العقود، ذلك أن ألف المفاعلة هنا لا يستقيم فهمها إلا مع تصور تعدد العاقدين. وهذا المفهوم من إشارة النّص لا يتعارض مع المنصوص قبلا في عبارته. (¬3) تقريب النّشر لابن الجزري 159، ولم أجده أشار إليها في الطيبة.

وثمرة الخلاف:

هدية ليكافئه المهدى إليه بأضعافه، لا لأنه يهدي ابتغاء وجه الله، فهذا حلال علينا، وحرام على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وأما الحرام فهو أن يعطي الرجل دينارا على أن يأخذ أزيد منه (¬1). وثمرة الخلاف: أن قراءة الجمهور جاءت بالنّص على ذمّ إيتاء الرّبا، وبيان أنه كاسد عند الله، فكان أخذ الرّبا بمنزلة المسكوت عنه، فجاءت قراءة ابن كثير بذم إتيان الرّبا كله، أخذا وعطاء، وكما ترى فإن المعاني تتكامل بالقراءات، وتبقى قراءة الجمهور كالنّص على تغليظ الزجر على المرابي، وقراءة ابن كثير على تغليظ الزجر على عموم الرّبا كله. ولم تستقل هذه الآية بهذا البيان؛ إذ جاءت نصوص القرآن والسّنة متضافرة على توكيد هذا المعنى. وفي الحديث: «لعن الله الرّبا وآكله وموكله وكاتبه وشاهده» (¬2). وفي الحديث أيضا: «ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الرّبا، فإن لم يأكله أصابه من غباره» (¬3). المسألة الثالثة: قوله تعالى: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ [الرّوم: 30/ 39]. قرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب: (لتربو في أموال الناس). وقرأ الباقون: لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ (¬4). فيكون الفاعل في قراءة أهل المدينة، وحضرموت هو آكل الرّبا والمتّجر فيه، فيما يكون الفاعل في قراءة الجمهور هو الرّبا نفسه. ¬

_ (¬1) حجة القراءات 558. (¬2) رواه الطبراني عن ابن مسعود. (¬3) رواه أبو داود، وابن ماجة، والطبراني في الكبير، والبيهقي عن أبي هريرة. (¬4) تقريب النشر لابن الجزري 159: ... ... ... ... ... ... تربو ظما

وقد لخص ابن العربي مذاهب السلف في المراد بهذه الآية على ثلاثة أقوال: الأول: أنه الرجل يهب هبة يطلب أفضل منها؛ قاله ابن عباس. الثاني: أنه الرجل في السفر يصحبه رجل يخدمه ويعينه، فيجعل المخدوم له بعض الربح جزاء خدمته، لا لوجه الله، قاله الشعبي. الثالث: الرجل يصل قرابته، يطلب بذلك كونه غنيّا لا صلة لوجه الله؛ قاله إبراهيم النخعي. وبالجملة فإن الآية متجهة إلى التّحذير من الرّبا بالقصد الظاهر أو بغير القصد الظاهر. وهذه الآية حلقة من أربع حلقات تمّ فيها تحريم الرّبا، إذ تدرّج حكم الرّبا في التّحريم على أربع مراحل: الأولى: نزل قول الله عزّ وجلّ: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الرّوم: 30/ 39]. فأخبر سبحانه أن مصير الرّبا إلى تلف، وأن المرابي يهدم ما يبنيه من حيث يريد أو لا يريد. الثانية: قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 2/ 273]. وفي هذه الآية تنفير شديد من الربا، ومقارنة للمرابي بفاقد العقل الذي ركبه الصرع فأتلفه. الثالثة: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 3/ 130]. وهي صريحة في تحريم أنواع مخصوصة من الرّبا تمهيدا للتحريم النهائي. الرابعة: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 2/ 287].

ثمرة الخلاف:

وهي قاطعة في تحريم سائر أنواع الرّبا. والآيات الأربع محكمة، لا مساغ للقول بنسخ بعضها ببعض، إذ الجمع ممكن، والدلالات متعاونة، والمعنى متكامل. ثمرة الخلاف: دلّت قراءة المدنيين والحضرمي على تحريم الرّبا لدى قصد المرابي إيقاعه، فيما دلّت قراءة الباقين على تحريمه مطلقا (¬1)، ولو لم يظهر قصد المرابي بيّنا. والقراءتان كما ترى تتعاونان على هدم عقود الرّبا والسّبل الموصلة إليها، ذلك أن الاحتيال على الشريعة في مسألة الرّبا درب ينتهجه الفساق في كل حين، فناسب أن يتكرر النهي عنه بوجوه متعددة، وهذا أظهر دلالات تعدد القراءة في هذا المقام. ولم أجد في عبارات المفسرين مما اطلعت عليه من أشار إلى دلالة جلية لتعدد القراءة في هذه الآية، مع أن سائر المفسرين أوردوا هذا التخالف. ¬

_ (¬1) يناسب أن يقال هنا إن دلالة الآية تقتصر على نفي زيادة المال عند الله عن طريق الرّبا، وليس التحريم؛ إذ نزول هذه الآية متقدم على تحريم الرّبا، ولكن السياق هنا تابع للمآل الذي قرر المولى سبحانه حكمه من التحريم في الآيات التالية نزولا.

المبحث الثالث في النكاح

المبحث الثالث في النّكاح المسألة الأولى: قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [البقرة: 2/ 229]. قرأ حمزة، وأبو جعفر، ويعقوب: (إلا أن يخافا) بضم الياء، وحجته قوله بعدها: فَإِنْ خِفْتُمْ فجعل الخوف لغيرهما، ولم يقل: (فإن خافا). وقرأ الباقون: إِلَّا أَنْ يَخافا (¬1)، وحجتهم ما جاء في التفسير: إِلَّا أَنْ يَخافا أي: إلا أن يخاف الزوج والمرأة ألا يقيما حدود الله فيما يجب لكل واحد منهما على صاحبه من الحقّ والعشرة (¬2). وثمرة الخلاف: إن قراءة حمزة يحتجّ بها من جعل الخلع إلى السلطان، فقد جعل الله أمر المخالعة مقيّدا بمعرفة السلطان أن الزوجين يمكن أن يتجاوزا حدود الله بنشوز أو شذوذ، تحمل عليه الكراهية، من دون أن يتوصلا إلى اتفاق حول المخالعة، فيطلّق عليهما السلطان استنادا إلى قراءة حمزة. أما قراءة الجمهور فإنها تجعل الخوف خوفهما، فينقطع بذلك سبيل التّطليق على الزوجين بدون إرادتهما. ¬

_ (¬1) انظر سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي 162. وعبارة الشاطبي: وضم يخافا فاز والكل أدغموا ... تضارر وضم الراء حق وذو جلا وعبارة ابن الجزري في ضمّ جعفر، ويعقوب في الدّرة المضية: ... واضمم أن يخافا حلا أب ... ... ... ... وانظر كذلك: تقريب النّشر لابن الجزري 96. (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة 135.

وهذه عبارة القرطبي في ذلك: «حرّم الله تعالى في هذه الآية ألا يأخذ إلا بعد الخوف ألا يقيما حدود الله، وأكّد التّحريم بالوعيد تعدى الحدّ، والمعنى أن يظن كل واحد منهما بنفسه ألا يقيم حقّ النكاح لصاحبه حسب ما يجب له فيه لكراهة يعتقدها، فلا حرج على المرأة أن تفتدي، ولا حرج على الزوج أن يأخذ، والخطاب للزوجين، والضمير في أَنْ يَخافا لهما، وأَلَّا يُقِيما مفعول به، و (خفت) يتعدى إلى مفعول واحد، ثم قيل: هذا الخوف هو بمعنى العلم، أي أن يعلما ألا يقيما حدود الله، وهو من الخوف الحقيقي، وهو الإشفاق من وقوع المكروه، وهو قريب من معنى الظّن، ثم قيل: إِلَّا أَنْ يَخافا استثناء منقطع، أي لكن إن كان منه نشوز فلا جناح عليكم في أخذ الفدية، وقرأ حمزة: (إلّا أن يخافا) بضم الياء على ما لم يسمّ فاعله، والفاعل محذوف وهو الولاة والحكام، واختاره أبو عبيد. قال: لقوله عزّ وجلّ: فَإِنْ خِفْتُمْ قال: فجعل الخوف لغير الزوجين، ولو أراد الزوجين لقال: فإن خافا، وفي هذا حجة لمن جعل الخلع إلى السلطان. قلت: وهو قول سعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين. وقال شعبة: قلت لقتادة: عمّن أخذ الحسن الخلع إلى السلطان؟ قال: عن زياد، وكان واليا لعمر وعلي. قال النحاس: وهذا معروف عن زياد، ولا معنى لهذا القول لأنّ الرجل إذا خالع امرأته فإنما هو على ما يتراضيان به، ولا يجبره السلطان على ذلك، ولا معنى لقول من قال: هذا إلى السلطان. وقد أنكر اختيار أبي عبيد وردّ، وما علمت من اختياره شيئا أبعد من هذا الحرف، لأنه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى، أما الإعراب فإن عبد الله بن مسعود قرأ: إِلَّا أَنْ يَخافا تخافوا، فهذا في العربية إذا ردّ إلى ما لم يسمّ فاعله قيل: إلّا أن يخافا، وأما اللفظ فإن كان على لفظ يَخافا وجب أن يقال: فإن خيف. وإن كان على لفظ فَإِنْ خِفْتُمْ وجب أن يقال: إلّا أن تخافوا. وأما المعنى فإنه يبعد أن يقال: لا يحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموه شيئا، إلا أن يخافا غيركم ولم يقل جلّ وعزّ: فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية، فيكون الخلع إلى السلطان. قال الطحاوي: وقد صحّ عن عمر وعثمان جوازه دون السلطان. وكما جاز الطلاق والنكاح دون السلطان فكذلك الخلع، وهو قول الجمهور من العلماء (¬1). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ط دار الكاتب العربي القاهرة 3/ 138، 139. وانظر أيضا الدّر المنثور للسيوطي، ط دار المعرفة 1/ 286، وفيه عن عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئا إلا أن يخافا

ومع تقرير النحاس في إعراب القرآن أن هذا الوجه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى مع موافقة القرطبي له في ذلك، غير أن ذلك لا يعني عدم وجوبه، فقد أوجبته ثلاثة أشياء: ثبوت التواتر وموافقة الرسم وموافقة وجه من العربية، وحيث تمّ ذلك كله كما حققه ابن مجاهد في السبعة (¬1)، والجزري في النشر (¬2)؛ وجب المصير إليه والتماس تأويله. ولعل أقرب الوجوه إلى الدلالة على إسناد (يخافا) إلى الغيبة، هو ما عطفت به الآية في قوله سبحانه: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ والخطاب كما ترى للحكام والمتوسطين في هذا الأمر إن لم يكن حاكما، وقد سمّى حسن العشرة حُدُودَ اللَّهِ إعظاما لها أن تهجر أو تهمل. ويجب التّنويه هنا إلى أن الخلع لا يحتاج إلى قاض في إيقاعه (¬3)، فإذا اتّفق الزوجان على المخالعة لم يكن للقضاء أن يقبل أو يرفض، ولكن: هل يملك القاضي الخلع على الزوج إن طلبت الزوجة ورفض الزوج؟ هذا ما اختاره الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، ودليلهم على ذلك قراءة حمزة، وأبي جعفر، ويعقوب، وكذلك حمل الأحاديث الواردة في معنى المخالعة على ذلك إذ ليس في سائرها توضيح لإقرار الزوج بإيقاع المخالعة، بل ورد فيها أمره صلّى الله عليه وسلّم للزوج بإجراء المخالعة. عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، ¬

_ ألا يقيما حدود الله، قال: هذا لهما، فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله، قال: هذا لولاة الأمر، فلا جناح عليها فيما افتدت به، قال: إذا كان النّشوز والظلم من قبل المرأة فقد أحلّ الله له منها الفدية، ولا يجوز خلع إلا عند سلطان، فأما إذا كانت راضية مغتبطة بجناحه مطيعة لأمره، فلا يحلّ له أن يأخذ مما آتاها شيئا. وتخريج قتادة هذا جامع لمعنى القراءتين على فرش قراءة واحدة. (¬1) تقريب النّشر لابن الجزري 96. (¬2) السبعة في القراءات لابن مجاهد 182. (¬3) هذا الذي ذكرناه هو المشهور من فعل الصحابة والسلف، وقد ترجم الإمام البخاري لباب الخلع بقوله: وأجاز عمر الخلع دون السلطان. (انظر الجامع الصحيح للبخاري، كتاب الطلاق 12/ باب الخلع)، لكن نقل ابن حجر في الفتح عن الحسن البصري المشهور الذي قدمناه آنفا من جواز إيقاع الخلع من قبل السلطان. انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9/ 394، حديث رقم (5273).

المسألة الثانية:

فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتردّين عليه حديقته؟» قالت: نعم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقبل الحديقة وطلّقها تطليقة» (¬1). المسألة الثانية: قوله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [البقرة: 2/ 233]. قرأ ابن كثير، وأبو عمر، ويعقوب: (لا تضارّ والدة بولدها). وقرأ الباقون: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها (¬2). فتكون قراءة المكي والبصريين (¬3) على إفادة الخبر، وأنه معنى تكويني؛ إذ ليس من شأن المرأة أن تضارّ زوجها الذي طلّقها بالتّغالي في أجر الرّضاع عليه؛ لأن في ذلك ضررا بها أيضا؛ حيث تحرم من متعة الإرضاع، وضررا بالرضيع أيضا، ولا يتصور في الأم الرءوم أن تسعى إلى الإضرار بولدها ونفسها ابتغاء عرض من المال. وعلى هذا فالآية هنا تشير إلى حكم تكويني بحسب هذه القراءة. وأما قراءة الباقين بفتح الراء، فإنها على النّهي، وأصلها براءين (لا تضارر) فلما اجتمعت الراءات أدغمت الأولى في الثانية، وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين، وقد قرأها بلا إدغام (لا تضارر) كل من الحسن البصري، وابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وأبان بن عثمان بن عفان (¬4). فعلى هذا الوجه فإن الآية هنا اشتملت على حكم تكليفي. ولكن لا يعني اختيار الأولين أن الآية لا تشتمل على معنى التكليف، فقد ورد في القرآن العظيم كثير من الخبر مشتملا على التكليف ¬

_ (¬1) الجامع الصحيح للإمام البخاري، كتاب الطلاق، باب 12/ الخلع، رقم الحديث (5273)، وانظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9/ 395. (¬2) تقريب النّشر لابن الجزري 96. وعبارة طيبة النّشر: ... ... ... ... ... خفف الخلف ثدق مع لا يضار، وأتيتم قصره ... كأول الروم دنا فقدره (¬3) المكي هو ابن كثير: والبصريان هما أبو عمرو ويعقوب. (¬4) معجم القراءات القرآنية 1/ 178.

ثمرة الخلاف:

إضافة لما أفاده من الخبر التكويني، مثال ذلك قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ [البقرة: 2/ 228]، فهو خبر أفاد معنى: (تربصن أيها المطلّقات)، ومثله قوله سبحانه: لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة: 2/ 233]، أفاد معنى: (لا تظلموا ولا تظلموا). ثمرة الخلاف: لا شك أن معنى النهي عن المضارّة موجود في كلا القراءتين، على أساس أنه في قراءة النصب نهي محض، وفي قراءة الرّفع خبر أفاد معنى النّهي، وهذا المعنى تتّحد به القراءتان. ولكن تزيد قراءة الرفع معنى جديدا، وهو إثارة الباعث الإنساني لدى المرأة، التي قد تدفعها أزمة الطلاق إلى إيذاء نفسها وولدها مضارّة بالزوج، فأخبرت الآية أن هذا ليس شأن المرأة العاقلة الصالحة. وكما نرى فليس بين الآيتين تعارض، بل تتكامل فيهما المعاني للدلالة على مقاصد بديعة. المسألة الثالثة: قوله تعالى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة: 2/ 236]. قرأ أبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وابن ذكوان، وحفص: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ بالفتح فيهما. وقرأ الباقون: (ومتّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) بالسكون فيهما (¬1). فتكون قراءة الأولين بالإسكان اتباعا لصيغة بناء المصادر المشتهرة: (القدر) مثل (الوسع) بقرينة ترادفهما. وتكون قراءة الآخرين بالفتح على أساس أن المصدر التقدير (¬2)، ويقوي هذا المذهب قول الله عزّ وجلّ: فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرّعد: 13/ 17]. ¬

_ (¬1) تقريب النّشر في القراءات العشر 97. وعبارة الطيبة: ... ... ... ... ... ... ... وقدره حرك معا من صحب ثابت وفا ... ... ... ... (¬2) انظر لسان العرب مادة (قدر) 5/ 76، وكذلك حجة القراءات 137.

وثمرة الخلاف:

وقد اختار أكثر النّحاة أنهما لغتان في معنى واحد، نقل ذلك عن الفراء (¬1)، وعن الكسائي (¬2)، وأبي زيد (¬3). وثمرة الخلاف: لم أجد أحدا من أهل التفسير ممن قرأت لهم أشار إلى ثمرة لهذا التّعدد في القراءة، وأكثرهم كما رأيت يجزم أنهما لغتان في معنى واحد. ولكن إعراضهم عن ذكر ثمرة لا ينفي وجود ثمرة أو ثمرات من تعدد القراءات، إذا سلّمنا بأن التّعدد إرادة من العليم الحكيم، وهو ما حشدنا له الأدلة المتضافرة في مطلع البحث. وقد رأيت أن قراءة الفتح أشارت إلى معنى الوسع والطاقة، أي: على الموسع قدر طاقته، وعلى المقتر قدر طاقته. ويمكن أن تفيد قراءة الإسكان معنى آخر هو المنزلة، فيكون المعنى على الموسع بما يناسب قدره ومنزلته وعلى المقتر كذلك. ويقوي ذلك ما أخرجه البخاري في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها في ذكر ما كانت تلعب به من عرائس، ثم قالت: «فاقدروا قدر الجارية الحديثة السّن تسمع اللهو» (¬4). وهكذا فإن المطلّق مأمور أن يمتع المطلقة قدر استطاعته ووسعه، ثم ليعلم أن هذه المتعة إنما تعبر عن قدره ومنزلته، فهي مقياس أخلاقي إضافة لكونها التزاما شرعيّا. ¬

_ (¬1) كما روى عنه أبو زرعة في الحجة 137. (¬2) كما رواه عنه ابن منظور في اللسان 5/ 76، مادة (قدر). (¬3) كما رواه عنه القرطبي في الجامع 3/ 203. (¬4) رواه البخاري في الصحيح كتاب النكاح، باب 82. انظر فتح الباري 9/ 255.

المسألة الرابعة:

المسألة الرابعة: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النّساء: 4/ 19]. وقرأ حمزة، والكسائي: (أن ترثوا كرها) بالضّم. وقرأ الباقون بالنصب. واختلف الناس في الضم والفتح. فقال ابن عباس: «من قرأ (كرها) بالضم أي بمشقة، ومن قرأ: كَرْهاً* بالفتح أي إجبارا أي أجبر عليه، جعل ابن عباس (الكره) فعل الإنسان، و (الكره) ما أكره عليه صاحبه (¬1) تقول: (كرهت الشيء كرها، وأكرهت على الشيء كرها) قال أبو عمرو: (الكره ما كرهته، والكره ما استكرهت عليه)، ويحتج في ذلك في قول الله جلّ وعزّ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ (¬2). ونقل القرطبي في الجامع لأحكام القرآن أنهما لغتان، ثم قال: الكره بالفتح الإكراه، والكره بالضم المشقة» (¬3). وثمرة الخلاف: تحريم وراثة النساء كرها أو كرها، فلا يحلّ إجبار الأرملة على نكاح من لا تريد، ولا يحلّ أيضا إلجاؤها إلى ذلك بعضل الزواج عنها، ولو كان ذلك من غير إجبارها على شخص بعينه. وهو مقتضى ما قرره اللغويون من الفرق بين الكره والكره. وروى البخاري، وأبو داود، والنّسائي عن ابن عباس قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوّجوها. فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية (¬4). وأخرج ابن جرير الطبري بسنده عن أبي أمامة، سهل بن حنيف قال: لما توفي أبو قيس بن ¬

_ (¬1) فيكون قد جعل الكره اسم معنى، والكره اسم ذات، فتقول الدواء كره وشربه كره. ونص عبارة ابن عباس كما أوردها السيوطي في الدّر المنثور 2/ 131: «كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك، أي نهى عن ذلك». (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 195. وانظر سراج القاري، ط البابي الحلبي 191. وعبارة الشاطبي: وضم هنا كرها وعند براءة ... شهاب وفي الأحقاف ثبت معقلا (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ط دار الكتاب العربي 5/ 95. (¬4) أخرجه البخاري في كتاب التفسير عن ابن عباس، سورة النساء، ومسلم في كتاب التفسير أيضا في سورة النساء، وأبو داود في كتاب النكاح باب 22.

المسألة الخامسة:

الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان لهم ذلك في الجاهلية، فأنزل الله: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً (¬1). قال المفسّرون: كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة؛ جاء ابنه من غيرها، أو قرابته من عصبته، فألقى ثوبه على تلك المرأة (¬2). فكان إلقاؤه الثوب عليها، أمارة أنه اصطفاها لنفسه فلم يكن لغيره أن يخطبها، ولم يكن لها أن تردّه عنها. المسألة الخامسة: قوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [النّساء: 4/ 19]. وقرأ ابن كثير، وأبو بكر (شعبة راوية عاصم): (بفاحشة مبيّنة)، بفتح الياء. وقرأ الباقون بكسر الياء: مُبَيِّنَةٍ. فمن قرأ بالكسر أراد اسم الفاعل، ومن قرأ بالفتح أراد اسم المفعول (¬3). ففي هذه الآية استثنى الله تعالى حالة واحدة يجوز فيها العضل أي الحبس والتضييق، وهي حالة إتيان الفاحشة المبينة كالزّنا، والسرقة، والنّشوز عن الطاعة، ونحو ذلك من الأمور الممقوتة شرعا وعرفا، ففي هذه الحال يجوز العضل لاسترداد ما أعطوه من صداق وغيره من المال لأن الإساءة من جانبها، واشتراط كون الفاحشة مبينة أي ظاهرة ثابتة إنما هو لمنع عضلها بمجرد سوء الظن بسبب غيرة الرجل الشديدة، وتسرّعه في الحكم على الزوجة البريئة، أو المرأة العفيفة، فيقع الرجل في الظلم حينئذ. ¬

_ (¬1) تفسير ابن جرير الطبري جامع البيان 4/ 211. (¬2) الجامع لأحكام القرآن 5/ 95. (¬3) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 197. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي 190. وعبارة الشاطبي: وفي الكل فافتح يا مبينة دنا ... صحيحا وكسر الجميع كم شرفا علا وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ط دار المعرفة 5/ 96.

ثمرة الخلاف:

ثمرة الخلاف: أن من قرأ بالفتح: (مبيّنة) فمعناها: مكشوفة مظهرة. أي: أوضح أمرها، ومن قرأ بالكسر: مُبَيِّنَةٍ فمعناها: كاشفة ظاهرة، فهي حال الكسر اسم فاعل، وحال الفتح اسم مفعول. ودلّت القراءتان على أن عضل المرأة جائز إذا ظهرت منها الفاحشة سواء كانت مبيّنة أو مبيّنة. المسألة السادسة: قوله تعالى: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ [النّساء: 4/ 34]. قرأ أبو جعفر: (حافظات للغيب بما حفظ الله) بنصب لفظ الجلالة، وقرأ الباقون: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ برفع لفظ الجلالة (¬1). فعلى قراءة الجمهور فإن المرأة الصالحة قانتة حافظة لغيب زوجها بتوفيق الله وحفظه، وحفظها هنا مجاز، إذ حقيقة الحفظ من الله، والله خير حافظا، فاشتملت الآية على الحقيقة والمجاز في آن معا، وخير تفسير للآية قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا أخبرك بخير ما يكنزه المرء؟ المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله» (¬2). وفي رواية: «خير النساء التي إذا نظرت إليها سرّتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك» (¬3). أما توجيه قراءة النّصب فإنها على معنى: يحفظن الله، أي: يحفظن أمره ونهيه، فالتقدير: حافظات للغيب بما حفظ مرضاة الله، فحذف المضاف، ونصب لفظ الجلالة بنزع الخافض. ¬

_ (¬1) تقريب النّشر في القراءات العشر 105. وعبارة طيبة النّشر: ... ... ... ... ونصب رفع حفظ الله ثرا (¬2) أخرجه أبو داود عن عمر بن الخطاب، ورجاله ثقات، وانظر كذلك جامع الأصول لابن الأثير الجزري 11/ 426. (¬3) أخرجه النّسائي وأحمد عن أبي هريرة، وإسناده صحيح. وانظر سبل السلام 3/ 111، وأخرجه الطيالسي عن أبي هريرة.

ثمرة الخلاف:

ثمرة الخلاف: أفادت قراءة العامة أن الحافظ الحق هو الله عزّ وجلّ، وأن المرأة الصالحة مأمورة أن تبذل الجهد في حفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله. وأفادت القراءة الثانية بالنصب، أن المرأة الصالحة مأمورة أن تحافظ على مرضاة الله، وتحقق أمره ونهيه في القيام بما يأمرها به زوجها في غيبته. وهكذا فإن دلالة القراءتين متشابهة، وقد ألقت القراءات المتعددة معاني من هيبة الله وجلاله على المرأة المسلمة في حفظها لغيب زوجها، لم نكن نعرفها لولا ورود القراءة المتواترة. المسألة السابعة: قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ ... أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ [النّور: 24/ 31]. قرأ ابن عامر، وشعبة عن عاصم، وأبو جعفر: (غير أولي الإربة) نصبا. وقرأ الباقون: غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ بالخفض (¬1). وتوجيه قراءة ابن عامر وشعبة على وجهين: الأول: الاستثناء، فيكون معنى الآية: (ولا يبدين زينتهن إلا للتابعين إلا أولي الإربة فلا يبدين زينتهن لهم)، وهكذا فبتكرر الاستثناء عاد الحكم إلى الأول، ولما فتح تكرير الاستثناء ب (إلا) ورد الاستثناء ب (غير). الثاني: الحال، فيكون المعنى: (ولا يبدين زينتهن إلا للتابعين حال كونهم غير أصحاب أرب في النساء). وتوجيه قراءة الباقين أن غَيْرِ: صفة، والمعنى: لا يبدين زينتهن إلا للتابعين الذين لا إرب لهم في النساء. ويشكل في توجيه هذه القراءة أن غَيْرِ إنما توصف بها النكرات، كما في قوله تعالى: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [إبراهيم: 14/ 37]. ¬

_ (¬1) تقريب النّشر في القراءات العشر 149. وعبارة طيبة النّشر: ... وغير انصب صبا ... كم ثاب ... ...

وكذلك قوله تعالى: مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ [محمد: 47/ 15]، وقوله: بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ [النّور: 24/ 29]. فكيف ساغ أن تأتي في هذا المقام وصفا لمعرفة؟ وقد أجاب الزجاج عن ذلك بقوله: وجاز وصف التابعين ب (غير) وإن كانت (غير) يوصف بها النكرة، فإن التابعين هاهنا ليس بمقصود به إلى قوم بأعيانهم، إنما معناه لكل تابع غير ذي إربة (¬1). وفي سياق ما أورده الزجاج نورد قول الله عزّ وجلّ: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ [النّساء: 4/ 95]، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة ويعقوب، فقد جاءت وصفا لمرفوع وهو الْقاعِدُونَ فرفعت مثله. وذلك لأنهم غير مقصودين بأعيانهم فكانوا بمنزلة النكرة في هذا المقام. واختلف الناس في معنى قوله تعالى: أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فقيل: هو الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء. وقيل: الأبله. وقيل: الرجل يتبع القوم فيأكل معهم ويرتفق بهم، وهو ضعيف لا يكترث للنساء ولا يشتهيهن. وقيل: العنين. وقيل: المخنث. وقيل: الشيخ الكبير، والصبي الذي لم يدرك. وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى، ويجتمع فيمن لا فهم له، ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء (¬2). قال الشوكاني: لا وجه لتخصيص بعينه، بل المراد بالآية ظاهرها، وهم من يتبع أهل البيت، ولا حاجة لهم في النساء (¬3). وأكثر المفسّرين على أن هذه الآية جاءت تقريرا لواقعة هيت المخنث، وهي التي أخرجها مسلم، وأبو داود، وغيرهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: كان رجل يدخل على أزواج النّبي صلّى الله عليه وسلّم مخنث، وكانوا يعدّونه من غير أولي الإربة، فدخل النّبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ينعت امرأة يقول: إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا لا أرى هذا يعلم ما هاهنا، لا يدخلن عليكن»، فأخرجه من المنزل. ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة 496. (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12/ 234. (¬3) فتح القدير للشوكاني 4/ 24.

ثمرة الخلاف:

وتمام الرواية كما في البخاري: عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب ابنة أبي سلمة عن أمها رضي الله عنها قالت: «دخل عليّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم وعندي مخنث، فسمعته يقول لعبد الله بن أمية: يا عبد الله أرأيت إن فتح الله عليكم في الطائف غدا فعليك بابنة غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخلن هؤلاء عليكن». قال ابن عيينة، وابن جريج: «المخنث هيت» (¬1). ثمرة الخلاف: لا خلاف أن القراءتين متجهتان إلى وجوب منع التابعين من أولي الإربة من الدخول على النساء أو تمكينه من النظر في زينتهن. فيكون الإذن الأول في صدر الآية لهؤلاء التابعين بغشيان مجالس النساء إذا بدت زينتهن مقيدا بأن لا يكون هؤلاء التابعين من أولي الإربة. فأشارت قراءة النّصب أولا إلى وجوب منعهم من خلطة النساء حال كونهم يأزرون إلى النظر إلى النساء، ويمكن أن يفهم الإذن بخلطة النساء إذا لم يلحظ منهم ذلك الأرب في أحد الأحوال. وجاءت القراءة الثانية أشدّ إغلاقا، فنهت عن خلطتهم بالنساء طالما وصفوا بأنهم ذوي إربة، وذلك في سائر الأحوال. وهكذا فقد وردت القراءة بالنّص على قيد توافر الإرب بطريقتين: الأولى: التّقييد بالوصف، وهو ما دلّت له قراءة الخفض. الثانية: التّقييد بالاستثناء وهو ما دلّت له قراءة النّصب. المسألة الثامنة: قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33/ 33]. قرأ نافع، وعاصم: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ بفتح القاف، وهذا لا يكون من (الوقار)، إنما هو من (الاستقرار). قال الكسائي: العرب تقول: «قررت بالمكان استقر فيه» لغتان بكسر الراء وفتحها. ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري في الجامع الصحيح، كتاب المغازي، باب 56. انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/ 43، رقم الحديث (4324).

وثمرة الخلاف:

وأصله و (اقررن) مثل: (اعضضن)، فحذفوا الراء الأولى لثقل التّضعيف، وحوّلوا فتحتها إلى القاف، وحذفوا الألف أيضا لأن القاف تحركت فصار (وقرن) كما قال: «هل أحست صاحبك» أي «هل رأيت»، والأصل: هل أحسست. وقرأ الباقون: (وقرن) بكسر القاف (¬1). احتمل أن يكون من (الوقار) تقول: وقر يقر (والأمر منه قروا) وللنساء: (قرن) مثل: (عدن، وكلن) مما تحذف منه الفاء وهي واو، فيبقى من الكلمة: (علن) وإن كان من (القرار) فيكون الأمر: (اقررن) فيبدل من العين الياء كراهة التضعيف، كما أبدل في (قيراط) و (دينار)، فتضمر لها حركة الحرف المبدل منه، ثم تلقي الحركة على الفاء، فتسقط همزة الوصل لتحرك ما قبلها، فنقول: (قرن)، كما يقال من (وصل يصل): صلن. والأصل: (اوقرن) فحذفت الواو لأنها وقعت بين كسرتين، واستغني عن الألف لتحرك القاف، فصار: قرن على وزن (علن). ويحتمل أن يكون من (قررت في المكان أقرّ)، وإذا أمرت من هذا قلت: (واقررن) بكسر الراء الأولى، فالكسر من وجهين: على أنه (الوقار)، ومن (القرار) جميعا (¬2). وثمرة الخلاف: أن الآية العظيمة أمرت نساء النّبي صلّى الله عليه وسلّم بأمرين اثنين: 1 - الوقار في البيوت، وهو لزوم السكينة والأدب، وهو ما دلّت له قراءة الجمهور بالكسر. 2 - الاستقرار في البيوت، وعدم الخروج منها إلا لضرورة أو عذر، وهو ما دلّت له قراءة المدني وعاصم. وبالجملة فكلاهما مطلوب من نساء النّبي صلّى الله عليه وسلّم بدلالة القرآن الكريم. ولا ريب أن ذلك في حقّ نساء النّبي صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة الوجوب لأنه أمرّ لهنّ، وهو من نساء المؤمنين من بعدهنّ بمنزلة المندوب. ¬

_ (¬1) سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي 328. وعبارة الشاطبي: وقرن افتح إذ نصّوا يكون له ثوى ... يحلّ سوى البصرة ... ... (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة 577.

ولا يخفى أن ذلك كله مقيد بما دون الضرورة، وإلا فلا خلاف أنهن لا حرج عليهنّ في الخروج من البيوت إذا دعت إلى ذلك مصلحة ضرورية لهنّ أو للأمة، وعلى ذلك يحمل خروج السيدة عائشة رضي الله عنها حين خرجت للثأر من قتلة عثمان رضي الله عنه.

المبحث الرابع في الحدود

المبحث الرابع في الحدود المسألة الأولى: قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة: 2/ 219]. قرأ حمزة: والكسائي: (قل فيهما إثم كثير). وقرأ الباقون: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ (¬1). وليس يحتاج المتأمّل كثير نظر ليدرك أن القراءتين متوجهتان من جهة المعنى، والرسم، واللغة، والتواتر، ففي الخمر والميسر إثم كثير، وإثم كبير. وفي السياق: وإثمهما أكبر من نفعهما، وإجماع الكل على أنها بالباء، ثم إن الذنب يوصف إذا كان موبقا بأنه كبيرة، وفي ذلك قول الله عزّ وجلّ: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ [الشورى: 42/ 37]، وقوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النّساء: 4/ 31]، وأورد أبو زرعة حجة لجمهور القرّاء، وهي أن الإثم واحد يراد به الآثام، فوحد في اللفظ ومعناه الجمع، والذي يدلّ عليه وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فعودل الإثم بالمنافع، فلما عودل بها حسن أن يوصف بالكثير (¬2). ولا يخفى أن هذه التعاليل ليست أكثر من وجوه للتفسير، ولا يستلزم انتصار إمام لقراءته تنكّره لقراءة غيره بعد أن ثبت التواتر في كلّ. والآية تكشف عن حكمة التدرّج في تشريع الأحكام، وسنأتي على تفصيل ذلك قريبا، فمع بداية الدعوة الإسلامية بقي الخمر على إباحته، حيث كان اهتمام الدعوة مركزا على تثبيت دعائم الإيمان في النفوس .. من وحدانية وتصديق بالرسالة، والرسول، واليوم الآخر. ¬

_ (¬1) تقريب النّشر في القراءات العشر لابن الجزري 98. وعبارة الشاطبي: وإثم كبير شاع بالثا مثلثا ... وغيرها بالباء نقطة أسفلا (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة 132.

وبعد ذلك كان للأخلاق الدرجة الثانية من الاهتمام، فنزلت الآيات في فضيلة الصدق والصبر، والأمانة والوفاء، حتى إذا اكتمل مجتمع الإسلام، عقيدة وأخلاقا، وتوضحت القيم، والمثل العليا في السلوك، بدأ تشريع الأحكام، وذلك مع أول العهد المدني. تمّ ذلك كله والخمرة ما تزال على إباحتها، يتداولها الصحابة في مجالس أسمارهم من غير حرج ولا نكير، إلا شيئا بدءوا يجدونه في قلوبهم من الريبة في أمرها، دفعهم أن يستبينوا أمرها مرة بعد مرة. والحكيم العليم- سبحانه وتعالى- أدرى بنفوس خلقه، وطبائع عباده. ولا شك أن سلامة الاعتقاد، وحسن الأخلاق تقود تلقائيا إلى سلامة الطبائع، فصارت نفوسهم تشعر بالفضائل، وتتجه نحو الكمالات، فأصبحت تعرف الرذائل والنقائص، وتعمل على اجتنابها وتحاشيها، فبدافع ذاتي بدءوا يشعرون بأن الخمر منقصة ورذيلة، فصار الناضجون إيمانا منهم، لا يكتمون شوقهم وتمنيهم لحكم سماوي يحرم الخمر، بعد أن ظهر تحريمها من نداءات الفطرة السليمة، التي كشف الإسلام الركام عنها في نفوسهم، ومن مستلزمات الطباع القويمة التي صقلها الإيمان في أعماقهم. وهذه الآية حلقة في سلسلة من التنزيل تعاقبت لبيان حرمة الخمر، وإنما استأنى بهم المولى سبحانه لإلفهم، وعادتهم، وكلفهم به، فلو أنه جزم في تحريمه مرة واحدة لشقّ ذلك عليهم، فكان أول ما نزل من ذلك قول الله عزّ وجلّ: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النّحل: 16/ 67]، فقال بعض الصحابة: لو كانت الخمرة رزقا حسنا لما أفردها الله عنه بالذكر. ثم نزل قوله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة: 2/ 219]، فقال بعضهم: يا رسول الله ننتفع بها ونشربها (¬1)، وقال بعضهم: بل نعرض عنها. ثم نزل قول الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النّساء: 4/ 43]، فشربها من شربها منهم، وتركها من تركها، وجعلوا يتّقونها عند الصلاة، حتى شربها رجل يقال له أبو القموص، فجعل ينشد شعرا، يذكر فيه قتلى بدر يرثيهم، ¬

_ (¬1) جامع البيان للطبري 2/ 212.

وقال في النّبي والأصحاب هجرا، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاء فزعا يجرّ بداءه من الفزع، حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل، رفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا كان بيده ليضربه، فقال الرجل: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، والله لا أطعمها أبدا، فأنزل الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 5/ 90 - 91]. فقال عمر بن الخطاب: انتهينا .. انتهينا (¬1). وروي في أسباب النزول قصص مشابهة عن حمزة، وعن علي رضي الله عنه، فالله أعلم أي ذلك كان. وهكذا فإن الآية كانت بمثابة إيحاء للناس بكراهية الخمر والميسر، وتهيؤ لنفوسهم للابتعاد عنها، بما تكشف لهم من جوانب الشّر في هذين الوباءين. فالإسلام بما هو خطاب للإنسان، بكل غرائزه وميوله وواقعه؛ كان منسجما مع ذلك كله، يأمر بما يقتضي الحال، وبلغ أن يطاع، حينما أمر بالمستطاع. فلم يكن تحريم الخمر أمرا سهلا في مجتمع الجاهلية، الذي لم يكن يفرق بين حاجته إلى الماء وحاجته إلى الخمر، وفي بلد كان الخمر فيه ثروة قومية أساسية، ربما أوصل إتلافه إلى كارثة اقتصادية، وفي مجتمع لم يكن يحسن التفريق بين وحي السماء، ووحي سدنة الوثن. فبدأ تحريم الخمر ببناء قدسية وحي السماء في نفوس الناس، ثم التمهيد لهذا التحريم بحيث أن رءوس الأموال المرصودة له تتحول تدريجا عنه، ثم الكشف عن أضراره وأخطاره في البدن والعقل، حتى صار تحريمه مطلبا اجتماعيا، يسعى إليه العاقلون. وهذا هو المقصود بهذه الآية التي جاءت قبل آية التحريم القاطع، فالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس، ولا ريب أن المنافع المقصودة هنا هي تلك الأرباح التجارية التي يجنيها عاصر الخمر ومعتصره، وهو من حيث الواقع ربح حقيقي مؤكد، ولكن القرآن لا يترك الأمر على ¬

_ (¬1) جامع البيان تفسير الطبري 2/ 212.

عواهنه، بل يقرر فورا أن الإثم الذي يصيبك من جراء ذلك أكبر بكثير من النفع المادي الذي يحصله الإنسان، إن على سبيل الفرد، أو على سبيل الجماعة. وبمقارنة بسيطة يدرك الإنسان، روعة التشريع الإلهي، وهيمنته على قضاياه، فها هي المجتمعات الأوربية اليوم في محاولاتها لتحريم الخمور، فإنها على الرغم ممّا للعلم وللعقل من تقديس واحترام في مناهج الغرب وتشريعاته، وعلى الرغم ممّا أكده العلم من أضرار الخمر على الجسم، ومن هدر للمال، ومن منافاة للذوق السليم، وعلى الرغم من نداءات وتحذيرات رجال العلم والطب والأدب عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وعلى الرغم من تدخل الدولة أحيانا بقوانينها وتشريعاتها وعقوباتها وسجونها؛ لم يستطيعوا أن يحدّوا من ارتفاع نسبة المدمنين والمدخنين، ناهيك عن تحريمها أو تخفيضها، أو منع الأطباء منها. ففي أمريكا مثلا وعلى إثر حملات مكثفة للمؤسسات العلمية الأمريكية التي فضحت مضارّ الخمر المحققة، قام الكونغرس الأمريكي بإصدار قانون عام 1919 يحرّم صناعة الخمر سرّا وجهرا، ويمنع بيعها وتصديرها واستيرادها ونقلها وحيازتها، ويفرض العقوبات الشديدة بحق المخالفين، إما بالسجن أو الغرامة أو كليهما، ووضعت الحكومة لتنفيذ قانون التحريم إمكانات عظيمة، فأنفقت على الدعاية لتوعية الناس بكل الوسائل الإعلامية والتعليمية ما يزيد عن (60) مليون دولار، ونشرت من الكتب والنشرات ما يزيد عن عشرة ملايين صحيفة، وأنفقت لتنفيذ القانون (250) مليون جنيه، وكانت النتيجة بعد تطبيق القانون أربعة عشر عاما ما يلي: انتشار آلاف الحانات السرية، وازدياد عدد شاربي الخمر أضعافا، وسجن حوالي نصف مليون شخص لمخالفتهم القانونية، وصدر حكم الإعدام ب (200) شخص من المجرمين بسبب الخمر، وانتشرت الخمور الرديئة التي زادت في الإضرار الصحية فأدت لهلاك (7500) شخص وإصابة (1100) شخص بأمراض صعبة، وذلك في عام واحد، كما ارتفعت نسبة جرائم القتل إلى 300%، وكل هذا دفع الحكومة لإعادة النظر في قانونها، وقرر الكونغرس عام 1933 م إلغاء قرار حظر الإباحة، وذلك بسبب الفشل الذريع، كما قال صوئيل في كتابه (قراءة حول الغول): «إن القرار قد ألغي على أساس واقعي هو أن المنع قد فشل» (¬1). ¬

_ (¬1) استطلاع نشرته مجلة حضارة الإسلام في عدد شوال 1382 هـ.

وثمرة الخلاف:

أما في التشريع الإسلامي، فإن الأمر كان أهون من ذلك بكثير، وما هو إلا أن اطمأنت نفوسهم بالإيمان، وسكنت إلى الله قلوبهم حتى صاروا في مراد الله أرغب منهم إلى مرادهم، ولأمره أطوع منهم لأوامر أنفسهم، وبعد مرحلة من التدرج الحكيم، نزلت آية واحدة في القرآن، قصمت ظهر أم الخبائث إلى الأبد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 5/ 90]. وقد نزلت الآية وإن الرجل قد أدنى كوزه إلى فيه ليشرب منه، فما يبتلّ منه ريقه، وإن الدّنان العظام لم توكأ بعد حتى أكفئت في طرقات المدينة، حتى سارت طرقات المدينة بالخمر، ولم يعرف منذ ذلك التاريخ، أي أزمة في المجتمع الإسلامي بسبب الخمر، ولا أي مطالبة بإلغاء التشريع الذي قضى على تقليد جاهلي كان في نفوسهم وسلوكهم أرسخ من أي تقليد، حتى إن بابه في الأدب العربي أوسع الأبواب وأغزرها. إنه الفرق الواضح بين تشريع الله وتشريع الإنسان .. وثمرة الخلاف: تظهر في المبالغة في التنفير من الخمر والميسر في صورهما كافة، فدلّت قراءة الكوفيين إلا عاصما على أن فيها إثم كثير من تعطيل العقل، وهدر الجهد، وتسلّط الشيطان، وإثارة العداوة والبغضاء. ثم وصف هذا الإثم الكثير بأنه كبير لئلا يتوهم الغافل أن إثم هذه الفواحش يدرج في الصغائر، فجاء النّص على أنها كبيرة من الكبائر، يلزم منها وصف فاعلها بالفسق. وقد تذرّع بعض الجهلة فزعموا أن الآية نصّ على وجود منافع في الخمر، وأن الله لا يحرم ما أخبر عن منفعته وفائدته. ولا شك أن ذلك التفاف خبيث على مقصد الآية التي جاءت أساسا للتنفير من الخمر، وبيان أن المنافع المادية التي تحصل من تجارة الخمر، لا تعدل الإثم الكبير الذي يلحقه الخمر بالإيمان والأبدان، وهو ما صرّحت به الآية ذاتها: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة: 2/ 219].

المسألة الثانية:

ولا مبرّر للقول بأن هذا النّص الإلهي منسوخ؛ إذ سائر دلالاته باقية، فقد قررت الآية الإثم، وقررت المنفعة، وبيّنت أن الإثم أكبر من المنفعة، وأن المرابح المالية تحصل من تجارة الخمر، ولكنها أرزاق سحت بلا شك. المسألة الثانية: قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النّساء: 4/ 25]. قرأ الكوفيين إلا حفصا: (فإذا أحصنّ) بفتح الألف والصاد، وقرأ الباقون: فَإِذا أُحْصِنَّ (¬1) بضم الهمزة، وكسر الصاد. قال القرطبي: أحصنّ بالفتح أسلمن، وبالضم: تزوجن (¬2). ولكن لا يعرف في اللغة هذا التفريق لوجه ضم أو فتح، فأهل اللغة على أن الإحصان في الأصل المنع (¬3)، وقد ورد في التنزيل بعدة معان، فجاء بمعنى المنع من الأذى: لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء: 21/ 80]، وجاء بمعنى العفاف كما في قوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [الأنبياء: 21/ 91]، وجاء بمعنى الزواج قال تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النّساء: 4/ 23]، وجاء بمعنى الحرية كما في قوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النّساء: 4/ 23]. تدور معاني الإحصان كلها حول مسألة المنع والحجز، فالإسلام حجز عن الكفر، والزواج حجز عن الفتنة، والعفاف حجز عن الفواحش، والحرية حجز عن الاستذلال. وإنما مدار هذه المعاني على سياق ورود الكلمة في العبارة، واحتفافها بالقرائن، لا على أساس بناء الفعل للمعلوم أو المجهول. ¬

_ (¬1) تقريب النّشر لابن الجزري 105. وعبارة طيبة النّشر: ... ... ... ... أحصن ضم اكسر على كهف سما (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 143. (¬3) استقراء من معاجم اللغة الآتية: مجاز القرآن لأبي عبيدة ج 1 و 2 مواضع الإحصان، القاموس المحيط للفيروزآبادي مادة حصن، لسان العرب لابن منظور مادة حصن.

قال ابن منظور: «وأصل الإحصان المنع، والمرأة تكون محصنة بالإسلام، والعفاف، والحرية، والتّزويج» (¬1). وحيث لم يرد في اللغة العربية قيد يحدّد دلالة اللفظة على أحد مترادفاتها دون سواه من خلال تركيب الكلمة، فإن الواجب يقضي اللجوء إلى القرائن وعبارات علماء التفسير في ذلك، وظاهر قول الله عزّ وجلّ يقتضي ألّا حدّ على أمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التّزويج؛ إذ هو الغالب في استعمال الإحصان، والمقام ثمة مقام الحديث عن الفتيات المؤمنات في صدر الآية، فدلّ على أن أُحْصِنَّ يراد منها معنى آخر غير معنى الإسلام، إذ توضح معنى الإسلام بقوله سبحانه: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فتكرر ذلك عبث ولبس، يتنزّه عنه الحكيم سبحانه. وهو ظاهر ما روي عن ابن عباس قال: «لا تجلد إذا زنت حتى تتزوج» (¬2). ولكن ثمة مذهب آخر روي عن ابن مسعود إذ كان يقول: «إذا أسلمت وزنت جلدت وإن لم تتزوج» (¬3)، ونقله القرطبي عن ابن مسعود والشعبي والزهري وغيرهم (¬4). وينبغي الإشارة هنا إلى أنهم لم يرفعوا الحدّ عن الأمة بالتّزوج دون الإسلام وهم يريدون تهوين أمر الزّنا، بل هو إطلاق ليد الإمام ليعاقبهما بما يردعهما، أما الحدّ فهو من خصائص المحصنات. وقد ورد حديث في الباب لو صح إسناده لقطع كل جدل، وهو ما روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «من أشرك بالله فليس بمحصن» (¬5) ويمكن إجمال مذاهب الفقهاء في مذهبين اثنين: ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور 13/ 120 مادة حصن. (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة 198. (¬3) حجة القراءات لأبي زرعة 198. (¬4) الجامع للقرطبي 5/ 143. (¬5) روي مرفوعا من طريق إسحاق بن راهويه، وموقوفا عليه، وقد رواه الدارقطني في سننه، ثم قال: لم يرفعه غير إسحاق، ويقال: إنه رجع عن ذلك، والصواب أنه موقوف. نصب الراية للزيلعي 3/ 327.

الأول: مذهب ابن عباس، وهو أن الإحصان في هذه الآية هو التّزوج (¬1). الثاني: مذهب ابن مسعود، وهو أن الإحصان في هذه الآية هو الإسلام (¬2). وقد أخذت الحنفية والمالكية بقول ابن مسعود، فنصّوا على أن الإحصان لا يتم إلا بالإسلام، لأن الحدّ تطهير، والكافر ليس من أهل التّطهير، ولا تحصّن الذّمية مسلما لقوله صلّى الله عليه وسلّم لكعب بن مالك حين أراد أن يتزوج باليهودية: «دعها فإنها لا تحصنك» (¬3). أما رجمه صلّى الله عليه وسلّم لليهوديين (¬4) فقد أجابوا عنه أن ذلك بحكم التوراة قبل نزول الحكم في القرآن الكريم (¬5). وكذلك فإن الحدود كفارات لأهلها، وليس الكافر أهلا لذلك. ونصّ عبارة الحنفية: شرائط إحصان الرّجم: الحرية، والتكليف، والإسلام، والوطء بنكاح صحيح بصفة الإحصان (¬6). وأخذت الشافعية بقول عبد الله بن عباس، فقالوا: ليس الإسلام من شروط إحصان الرجم، في حدّ الذّمي إذا ترافع إلينا، ولعموم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الثّيّب بالثّيّب رميا بالحجارة» (¬7)، واستدلوا بأن الأديان كلها تحرم الزّنا، وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتى برجلين زانيين فرجمهما (¬8). ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة 198. (¬2) المصدر نفسه. (¬3) قال الزيلعي: «روى هذا الحديث ابن أبي شيبة والطبراني في المعجم والدارقطني في السّنن من حديث أبي بكر بن أبي مريم، ونقل عن الدارقطني قوله: أبو بكر بن أبي مريم ضعيف». نصب الراية للزيلعي 3/ 328. (¬4) حديث رجم اليهوديين بالغ الاستفاضة أخرجه الستة فهو متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الحدود، وعنون له في باب 37 بقوله: باب أحكام أهل الذّمة، وإحصانهم إذا زنوا، ورفعوا إلى الإمام. انظر فتح الباري 12/ 166. (¬5) ردّ المحتار على الدّر المختار 3/ 163. (¬6) رد المحتار على الدّر المختار 4/ 18، وأورد نظما لطيفا لشرائط الإحصان: شروط الإحصان أتت ستة ... فخذها عن النّص مستفهما بلوغ وعقل وحرية ... ورابعها كونه مسلما وعقد صحيح ووطء مباح ... متى اختل شرط فلن يرجما (¬7) أخرجه أحمد عن عبادة بن الصامت 5/ 317. (¬8) انظر مغني المحتاج 4/ 147.

ويتلخص هنا بأن للأمة عادة أربعة أحوال: 1 - أمة كافرة غير متزوجة. 2 - أمة كافرة متزوجة. 3 - أمة مسلمة غير متزوجة. 4 - أمة مسلمة متزوجة. وقد اتّفقوا على حدّ الأمة المسلمة المتزوجة، وقد علمت مذاهبهم في رجم الكافرات، فلم تبق إلا مسألة واحدة وهي الأمة المسلمة لم تتزوج. ظاهر دلالة الآية أنه لا حدّ عليهن إذا لم يتزوجن، وذلك عند من ذهب أن أُحْصِنَّ معناها تزوجن، وعلى هذا القول سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، وأبو الدرداء، وابن عباس (¬1). ولكن هؤلاء محجوبون بصريح ما ورد في الخبر الصحيح؛ عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: «إذا زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير» (¬2) وفي رواية النّسائي عن ابن عينية: سئل عن الأمة تزني قبل أن تحصن (¬3). وحيث ثبت هذا النّص في الصحيح وجب المصير إليه، وسبيل الجمع بين الآية والحديث متيسر، فالآية نص في حدّ الأمة المحصنة، والحديث نص في الأمة الغير محصنة، وفي كل فإن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، وهو كما قال الزهري: المتزوجة محدودة بالقرآن، والمسلمة الغير متزوجة محدودة بالحديث (¬4). قال القرطبي: والأمر عندنا أن الأمة إذا زنت وقد أحصنت مجلودة بكتاب الله، وإذا زنت ولم تحصن مجلودة بحديث النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا رجم عليها لأن الرجم لا يتنصف (¬5). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 143. (¬2) أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب 37، رقم الحديث (6841). وانظر فتح الباري 12/ 166. (¬3) انظر فتح الباري 12/ 166. (¬4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 143. (¬5) المصدر نفسه.

ثمرة الخلاف:

ثمرة الخلاف: على الرغم مما قدمنا، من مذاهبهم في تأويل الإحصان فلا يبدو هنا أن لاختلاف القراءة أثرا في الحكم الشرعي؛ إذ مدار الخلاف على التأويل- تأويل كلمة الإحصان- لا على القراءة. وتبقى ثمرة الخلاف في القراءة على مذهب من قال: إن أحصن بالفتح: أسلمن، وبالضم: تزوجن، وهو مذهب احتجّ به أبو زرعة للقراء (¬1)، وأورده القرطبي بلا عز ولأحد (¬2)، وقد رأيت ضعفه وارتجاله فيما بيّناه. وعلى كل فإن الجمع بين القراءتين وفق هذا الاستدلال ينتج عنه اشتراط التّزوج والإسلام جميعا في المحدودة، ويحمل حينئذ حديث البخاري الذي قدمناه على أنه أمر بالجلد على سبيل التعزير لا على سبيل الحدّ المقرر والله أعلم. المسألة الثالثة: قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة: 5/ 45]. قرأ الكسائي: (والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسّنّ بالسّنّ والجروح قصاص)، ووافقه في لفظة (والجروح) ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وأبو جعفر، حيث قرءوا بالرفع في (والجروح قصاص) فقط، وقرأ الباقون ذلك كله بالنصب (¬3). فيكون توجيه قراءة الجميع من حيث اللغة واحدا، فمن نصب على إضمار (أن) بين المتعاطفات، وهو مذهب الأخفش وسيبويه، وهو نسق على قوله: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وذلك حيثما نصب (¬4). ومن رفع فإنه رفع على الابتداء حيثما رفع، واعتبر المعنى منقطعا قبله. ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة 198. (¬2) الجامع للقرطبي 5/ 143. (¬3) تقريب النشر في القراءات العشر 107. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري 199. وعبارة الشاطبي: ... والعين فارفع وعطفها ... رضىّ والجروح ارفع رضى نفر حلا (¬4) حجة القراءات لأبي زرعة 226.

والمعنى ظاهر في انقطاع الكلام قبل وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ، وذلك ظاهر في عدم تشابه الأخبار؛ إذ خبر الأول كالثاني والثالث والرابع والخامس، ثم لم يشبهه خبر: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ. ولكن معنى عدول الكسائي عن النصب من مطلع الآية غير جلي، ولكنه أجاب كما نقل عنه أبو زرعة بقوله: حجة الكسائي في ذلك صحة الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ: (والعين بالعين والأنف بالأنف)، ونقل عن الزجاج قوله: «رفعه على وجهين: على العطف على موضع النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والعامل فيها المعنى (وكتبنا عليهم النفس) أي قلنا لهم النفس». ونقل عن الفراء كذلك قوله: «إن الرفع أجود الوجهين وذلك لمجيء الاسم الثاني بعد تمام الخبر الأول، وذلك مثل قولك: إن عبد الله قائم، وزيد قاعد» (¬1). وأشبه ما في القرآن من مذهب الكسائي قوله سبحانه: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 7/ 128]، وقد أجمعوا على رفع الْعاقِبَةُ على الاستئناف رغم إمكان عطفها على اسم إن. وإنما بسطنا القول في تأويله من جهة اللغة لنحقق المقاصد التي فهمها القراء لكل وجه من هذه الوجوه. ولا شك أن دلالات الآية، وهي أصل في أحكام القصاص في الفقه الإسلامي، يستدعي بسط القول في أحكامها إطالة لا تناسب هذه الدراسة، وإنما نجتزئ منها مسألة واحدة: هل تقتل النفس بالنفس، وفق ما أدى إليه عموم الآية، فتشمل بذلك قتل المسلم بالذّمي، والرجل بالمرأة، والحر بالعبد؟ أم تختص هذه الآية بشرع من قبلنا؟ أما الذي يتصل في هذا المقام فهو مسألة فرعية أخرى، وهي: هل يلزم القاضي الحكم بأن العين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسّن بالسّن، والجروح قصاص على أنه شرع لنا؟ وهو ما دلّت له قراءة الرفع، أم يستأنس به في القضاء استئناسا على أساس أنه شرع من قبلنا على مذاهبهم في ذلك؟ وهو ما دلّت له قراءة النّصب. ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة 223.

فأما المسألة الأولى- وهي لا علاقة لها باختلاف القراءة- فقد اعتمدها الحنفية أصلا في تكافؤ الدماء بين الناس، فلم يشترطوا التكافؤ في الحرية والدين، وإنما يكتفى بالتساوي في الإنسانية، وأمارتها نفخ الروح، وكذلك فإن النصوص العامة لم تفرق بين مسلم وذمّي كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة: 2/ 181]، وقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 5/ 45]، فلو لم يجب قتل المسلم بالذّمي لكان في ذلك إغراء بإهراق الدماء لما بين الفريقين من العداوة في الدين (¬1). واستدلوا كذلك بما رواه الدارقطني أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أقاد مؤمنا بكافر، وقال: أنا أحق من وفّى بذمته (¬2). وقد مضى جمهور الفقهاء إلى ردّ اختيار الحنفية، وشرطوا الإسلام في المقتول لإقامة حدّ القصاص، إذ الكفر شبهة تنفي المساواة، والحدود تدرأ بالشبهات، ولا قصاص مع الشبهة. وردّ الجمهور على حديث الدارقطني بأنه ضعيف، وقد يحمل على أنه كان قبل تقرير النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقتل مسلم بكافر» (¬3). وقد تأوّل الحنفية حديث: لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، بأنه خاص بالكافر الحربي، وهو محلّ إجماع بين الفقهاء (¬4). وأما الآية فقد قال جمهور المفسرين إنها شرع من قبلنا، وهو لا يلزمنا، ولكن الحنفية مضوا على إعماله وفق قاعدتهم في اعتبار شرع من قبلنا مصدرا تشريعيا، وهو خلاف أصولي مشهور بين علماء الأصول (¬5). ¬

_ (¬1) انظر بدائع الصنائع للكاساني 7/ 237. (¬2) في إسناده عبد الرحمن بن البيلساني- بفتح فسكون- مولى عمر، مدني نزل حرّان، ضعيف. وروي مرسلا عن محمد بن الحسن. انظر تقريب التهذيب 1/ 474. (¬3) رواه أحمد والنّسائي وأبو داود، وتمام الحديث في الصفحة الآتية. (¬4) انظر الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور الزحيلي 6/ 269. (¬5) أنقل هنا هذه الأبيات لبيان مذهب الفقهاء في الاحتجاج بشرع من قبلنا، وهي من منظومة من نحو سبع مائة بيت في الأصول، نظمتها بتوفيق الله عام 1402 هـ: واختلفوا في شرعة الذين ... من قبلنا ملغية أم دينا فاتفقوا في الأخذ بالأحكام ... مما أقر الدين كالصيام

وقد أورد المرغيناني من علماء الحنفية بيانا مفصّلا لمذهب الحنفية في قتل المسلم بالذّمي؛ استنادا لعموم هذه الآية، ومناقشا لما ذهب إليه الشافعية: «ويقتل المسلم بالذّمي، خلافا للشافعي رحمه الله، له قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقتل مؤمن بكافر»، ولأنه لا مساواة بينهما وقت الجناية، وكذا الكفر مبيح فيورث الشبهة، ولنا ما روي أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قتل مسلما بذمّي، ولأن المساواة في العصمة ثابتة نظرا إلى التكليف أو الدار، والمبيح كفر المحارب دون المسالم، والقتل بمثله يؤذن بانتفاء الشبهة، والمراد بما روى الحربي لسياقه، ولا ذو عهد في عهده، والعطف للمغايرة» (¬1). وهكذا فإن أظهر التطبيقات العلمية لهذا الاختلاف، ما أخذ به أبو حنيفة؛ إذ قال: يقتل المسلم بالذّمي لأنه نفس بنفس، وتدلّ لهم الآية الصريحة ولكن التأمل في الأدلة يقف بنا عند قول الجمهور؛ إذ الآية ليست أكثر من حكم عام، ومع أن أبا حنيفة شديد في الأخذ بعموم النّص، ولكن ليس لأحد أن يتنكب عن المخصّص إذا ما صحّ إسناده وتبيّنت دلالته (¬2). ومع ذلك فإن تقرير هذه المسألة من جهة الاستنباط لا يحول دون نظر الأمة في المصالح المرعية، وقد يجد الإمام أن الناس يجترئون على أهل الذمة إذا فهموا درء الحدّ باختلاف الدين، فينقضون بذلك ذمة المسلمين العامة، فتقضي المصلحة هنا أن يتشدد الإمام في الحد، استدلالا بما ذهبت إليه الحنفية، على أن ذلك لا يلزم منه لزوم الأخذ به قضاء، إذ يمكن القضاء أن يدرأ الحدّ بالشبهة، وفساد العقيدة شبهة تدرأ الحد، ولكن لو رأى القضاء في الجناية وجها ظاهرا في العمد والاستهتار بحياة الناس، أو القصد الدنيء، فإن المصير إلى اختيار الحنفية هنا أولى، وهذا المعنى ¬

_ واتفقوا في نسخ ما قد نسخها ... في ديننا كالقطع مما اتسخا واختلفوا في كل ما قد وردا ... ولم ينسّخ ثم لم يؤيّدا كالنفس بالنفس وشرب محتضر ... فالحنفي والحنبلي والبعض قر ودلّلوا بوحدة الشرائع ... والرجم واقتده .. لكل سامع والشافعي أنكر استدلالهم ... بأن لكل أمة منها جهم (¬1) انظر الهداية شرح بداية المبتدي للمرغيناني الحنفي 4/ 161. (¬2) انظر بدائع الصنائع للكاساني 7/ 237، 252. وانظر ردّ المحتار على الدّر المختار 378.

هو الذي ذهبت إليه القوانين الجنائية في البلدان العربية، بل هو ما قرره المشرع في السودان لدى إقراره القانون الجنائي الإسلامي (¬1). وهذا الذي اخترناه موافق لما أفتى به مالك بن أنس رضي الله عنه في الموطأ: «الأمر عندنا أن لا يقتل مسلم بكافر إلا أن يقتله مسلم قتل غيلة، فيقتل به» (¬2)، وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه، وخاصة على ماله. وهكذا فإن ملاحظة دناءة المقصد في القتل، واعتباره قرينة تدفع إلى تغليظ العقوبة منهج فقهي اعتمده الإمام مالك، والليث بن سعد، وكلاهما من الجمهور، وذلك خلافا لقاعدتهم في اشتراط تكافؤ الدين بين القاتل والمقتول. فقد أخرج أبو داود والترمذي والنّسائي عن علي رضي الله عنه أنه سئل: هل خصّك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشيء؟ فقال: لا، إلا ما في هذا، وأخرج كتابا من قراب سيفه، وإذا فيه: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد بعهده». وقد عرض القاضي ابن العربي لهذه المسألة فقال: قوله تعالى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ قرئت بالرفع والنصب، فالنصب اتباع للفظه ومعناه، والرفع فيه وجهان: أحدهما: أن يكون عطفا على حال النفس قبل دخول أن. والثاني: أن يكون استئناف كلام، ولم يكن هذا مما كتب في التوراة، والأول أصح (¬3). وكان ابن العربي قد بسط القول في ردّ اختيار الحنفية بشأن قتل المسلم بالكافر فقال: تعلق أبو حنيفة وغيره بهذه الآية، فقال: يقتل المسلم بالذّمي لأنه نفس بنفس. قالت الشافعية: هذا خبر عن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا. وقلنا نحن له: هذه الآية، إنما جاءت للرّد على اليهود في المفاضلة بين القبائل، وأخذهم من ¬

_ (¬1) انظر التشريع الجزائي المقارن للدكتور عبود السراج، ط جامعة دمشق 1980 م، 334 وما بعدها. (¬2) موطأ مالك 483، ط دار الكتب العلمية بيروت. (¬3) تفسير أحكام القرآن للقاضي ابن العربي المالكي 2/ 627، ط دار المعرفة.

قبيلة رجلا برجل، ونفسا بنفس، وأخذهم من قبيلة أخرى نفس بنفس، فأما اعتبار أحوال النفس الواحدة بالنفس الواحدة فليس له تعرض في ذلك، ولا سبقت الآية له. وإنما تحمل الألفاظ على المقاصد) (¬1). وأجاب كذلك بجوابين آخرين سبق ورودهما، أولهما: الأحاديث المخصصة، وهي كما رأيت في أعلى درج الصحيح، وثانيهما: انتفاء المماثلة بين نفس تطهرت بالإيمان وتزكت بالتوحيد ونفس راتعة في الكفر المبيح للدم. واتفق الفقهاء فيما عدا ذلك على أنه يقتل الرجل بالأنثى، والكبير بالصغير، والعاقل بالمجنون، والعالم بالجاهل، والشريف بالوضيع، وسليم الأعضاء بمقطوعها وبالأشلّ، أي أنه لا يشترط التكافؤ في الجنس والعقل والبلوغ والفضيلة وكمال الذات أو سلامة الأعضاء (¬2). فهذه باختصار خلاصة مذاهبهم في قتل المسلم بالذّمي، وهي مسألة لا تتصل باختلاف القراءات، لكن تتصل في الاحتجاج بشرع من قبلنا، وهي المسألة التي عليها مدار خلافهم في قراءة النصب. وكذلك فإن اختلافهم في اشتراط التكافؤ في القصاص من الجاني على النفس هو في اشتراط التكافؤ في القصاص من الجاني على ما دون النفس. أما ما يتصل باختلاف القراءات، فهي أحكام الجناية على ما دون النفس الإنسانية، وهي الأحكام التي تناولتها الآية بدءا من قوله سبحانه وتعالى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ. فقد قرئ ذلك كله كما علمت بالنصب والرفع، وقد صاروا إلى توجيهه على ثلاثة أقوال: الأول: القراءة بالنصب على أنها من شرع من قبلنا. الثاني: القراءة بالرفع بالعطف على المعنى، على أنها شرع من قبلنا. ¬

_ (¬1) المصدر نفسه. (¬2) انظر بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد المالكي 2/ 393، وانظر كذلك موسوعة الفقه الإسلامي وادلته للدكتور وهبة الزحيلي 6/ 269.

الثالث: القراءة بالرفع على أنها ابتداء كلام، حكم في المسلمين (¬1). وقد تحدّثنا بالتفصيل عن مذاهب النّحاة في توجيه اختياراتهم (¬2)، ولم يبق إلا أن نشير إلى أثر القراءة في الحكم الشرعي. قال ابن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام، حكم في المسلمين (¬3)، وهذا أصح القولين، وذلك أنها قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وكذا ما بعده. والخطاب للمسلمين، وقد أمروا بهذا (¬4). فيتعين ثبوت الحكم في حقّ من يرى أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد فيه ناسخ، وهم الحنابلة والحنفية، وذلك سواء قرءوا بالرفع أو بالنصب، على التعليل الذي قدمناه. ولا يتعين ثبوت الحكم في حق من قرأ بالنصب إذا كان لا يرى الأخذ بشرع من قبلنا، وهم الشافعية، الذين استدلّوا بقول الله عزّ وجلّ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 5/ 48]. ولكن كيف يتوجه عندهم تواتر قراءة الرفع، وهو تواتر ملزم كما علمت؟ الجواب أنهم يجعلونه عطفا على المعنى كما قدمناه، فلا يلزمهم حينئذ حكم القصاص، ويكون فهمهم للآية مغايرا لما أوردناه عن ابن المنذر بقوله: هذا حكم في المسلمين، غاية الأمر أنهم جعلوا العطف هنا على المعنى، فاتصلت العبارات من جهة المعنى، وانفصلت من جهة الاتباع الإعرابي. لكن هذه الحجة التي فصلناها لهم لم ترد في كتب الشافعية، فهي تخريج على أصولهم، ولكن لم يجدوا الحاجة للاستدلال بها كونهم لم يخالفوا في مثلية القصاص في عموم قوله سبحانه: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النّحل: 16/ 126]، وقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: 2/ 193]. كذلك فإنهم لم ينازعوا فيما حكاه ابن المنذر، فيمكن القول حينئذ أن الكافة متفقون على ¬

_ (¬1) هذه الوجوه الثلاثة هي خلاصة ما حكاه الطبري والقرطبي من مذاهب السلف. (¬2) انظر 642 من هذه الرسالة. (¬3) كذا في القرطبي، وقد أورد الآلوسي العبارة بقوله: أي بيان حكم جديد في المسلمين. (¬4) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 193.

وثمرة الخلاف:

دلالة الآية على مشروعية التماثل في القصاص فيما دون النفس (¬1)، ولم ينازع في سائر دلالات الآية إلا أبا حنيفة في مسألة واحدة، وهو قياس محض، ذلك أنه قال: إن مقتضى التماثل أن يتحقق التماثل في الأرشين، فلا يقتصّ لامرأة من رجل، ولا لعبد من حرّ، لعدم التساوي في الإرث والأرش والبدلية (¬2)، وهو قياس محض أعرض عنه جمهور الفقهاء لأنه قياس في مصادمة النّص. وثمرة الخلاف: أن الآية العظيمة نص في مشروعية القصاص في عقوبة الجناية على ما دون النفس الإنسانية، وقد أتت الآية على تشريع ذلك بأسلوبين اثنين: الأول: إيراد الخبر بأن هذا التشريع مكتوب في التوراة، وقد أمر به أهل الكتاب، وهو ما دلّت له قراءة النصب، وفهمه كذلك من قرأ بالرفع وأجرى السياق على أنه عطف بالمعنى. الثاني: الإخبار بأنه أمر الله على المسلمين، وهو ما دلّت له قراءة الرفع على أساس الاستئناف. وهكذا فإن ورود التنزيل الإلهي في تشريع هذا الحكم بأسلوبين اثنين مشتمل على زيادة في معنى تشريع هذه العقوبة، وبيان بأنها إرادة المولى سبحانه وتعالى في قصم ظهر الجريمة. وهذه المعاني محل اتفاق بين الفقهاء من حيث المآل (¬3)، وإن اختلفت سبلهم في تأصيل الاستنباط من النّص المذكور. المسألة الرابعة: قوله تعالى: وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النّور: 24/ 9]. قرأ نافع: (أن) خفيفة، (غضب) بكسر الضاد، وفتح الباء، (الله) فاعل (غضب) فعل ماض. ¬

_ (¬1) انظر موسوعة الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي 6/ 339. (¬2) بدائع الصنائع للكاساني 7/ 297. (¬3) نورد هنا مرة أخرى ما نقلناه عن بدائع الصنائع للكاساني 7/ 297، من مذهب الحنفية في اشتراط التماثل في الأرشين لإجراء القصاص على ما دون النفس، وهو ما يحول دون إجراء القصاص بين الرجل والمرأة، وبين الحر والعبد.

وثمرة الخلاف:

قال سيبويه: هاهنا هاء مضمرة، و (أن) خفيفة من الثقيلة، المعنى: (أنه غضب الله عليها)، قال الشاعر: في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل (¬1) قرأ الباقون: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها (¬2). وثمرة الخلاف: أن الملاعنة مأمورة بأن تذكر الصيغتين في الملاعنة الخامسة، فتقول: أنّ غضب الله علي إن كان (زوجي) من الصادقين. ومع ثبوت القراءتين تواترا فقد أمر الفقهاء بأن تنطق إحدى الصيغتين لأنها تدلّ على أختها وتجزئ عنها. وبذلك فإن تعدد القراءتين بمنزلة تعدد الآيات، بمنزلة تكرير الأمر به من المولى سبحانه. ومن الفائدة في تعدّد القراءة تحقيق الترهيب للملاعنة، إذ اشتملت قراءة تشديد (إن) على التوكيد بوقوع الغضب، كما جاءت قراءة تخفيف (إن) لتفيد تعجيل العقوبة على الملاعنة الكاذبة، فأخبرت بأن الله قد غضب عليها فور افترائها على زوجها دون إبطاء. وإنما فرّق بين المتلاعنين في الصيغة، فذكّر الملاعن باللعنة، وذكّر الملاعنة بالغضب، لأن المرأة هنا هي سبب الفجور ومنبعه، بإطماعها الرجل في نفسها (¬3)، وغضب الله والعياذ بالله أشد نقمة من اللعنة أعاذنا الله منها جميعا. ¬

_ (¬1) الشاعر هو الأعشى ميمون بين قيس البكري، من شعراء الجاهلية المجتهدين، همّ أن يدخل الإسلام فثنته قريش عن عزمه، ومات كافرا عام 7 هـ. (¬2) انظر حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 498. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي 302. وعبارة الشاطبي: صحاب وغير الخفض خامسة الأخي؟؟؟ ... ؟؟؟ ر أن غضب التخفيف والكسر أدخلا (¬3) التفسير المنير للزحيلي 18/ 157.

المبحث الخامس في الجهاد

المبحث الخامس في الجهاد المسألة الأولى: قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ [البقرة: 2/ 191]. قرأ الكوفيون إلا عاصما (¬1): (ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقتلوكم فيه، فإن قتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين)، فحذفوا سائر ألفات المفاعلة في الآية. وقرأ الجمهور بإثبات ألفات المفاعلة الثلاث كما قدمنا (¬2). وتوجيه قراءة الجمهور أن الخطاب في بيان المقاتلة وليس في بيان القتل، ويدلّ لهم قوله سبحانه: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة: 2/ 190]، وكذلك قوله سبحانه: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: 2/ 193]. وكذلك فإن قالوا: إن القتال إنما يؤمر به الأحياء؛ فأما المقتولون فإنهم لا يقتلون فيؤمروا به، فلو قرئ بدون ألف المفاعلة كان ظاهره أمرا للمقتول بقتل قاتليه، وهو محال إذا حمل على ظاهره، فلا يستقيم معناه إلا بالتقدير، وإذا جاز التقدير وعدمه؛ فعدم التقدير أولى (¬3). وأما قراءة الكسائي، وحمزة، وخلف فإنها متجهة إلى أن وصف المؤمنين بالقتل في سبيل الله ¬

_ (¬1) أي حمزة، والكسائي، وخلف. (¬2) تقريب النشر لابن الجزري 96، وانظر سراج القاري لابن القاصح 161. وعبارة طيبة النشر: لا تقتلوهم ومعا بعد (شفا) ... فاقصر ... ... ... وعبارة الشاطبية: ولا تقتلوهم بعد يقتلوكم ... فإن قتلوكم قصرها شاع وانجلا (¬3) حجة القراءات لأبي زرعة 127.

أبلغ من وصفهم بالقتال، وفي ذلك زيادة مدح وثناء، فكأن المعنى قوله: (ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوا بعضكم، فإن قتلوا بعضكم فاقتلوهم) (¬1). لكن قال الطبري في التفسير: «وأولى هاتين القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: وَلا تُقاتِلُوهُمْ لأن الله تعالى ذكره لم يأمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه في حال إذا قاتلهم المشركون بالاستسلام لهم» (¬2). وقد أوردنا هذا القول للطبري لنلفت الانتباه إلى ما قد يتبادر إلى الذهن من أن شيخ المفسرين كان يرى صحة قراءة وبطلان قراءة من المتواتر، وهو ما توهمه عبارته هذه، وأشباهها كثير في جامع البيان، وعند القرطبي أيضا، وهي محمولة على عدم ثبوت التواتر عنده، أما إذا ثبت لديه التواتر فلا يتصور من شيخ المفسرين أن يجزم ببطلان قراءة متواتره، وعلى ذلك يجب حمل سائر ما روي من كلام أئمة التفسير في ردّ قراءة متواترة. ويمكن التوفيق بين القراءتين على قول من قال: يقتلوكم أي يبدءوكم بالقتل، وأجود الأقوال أن قراءة الجمهور جاءت بعد عزيمة سابقة، وهي المنع من مقاتلة المشركين في الحرم حتى يصيبوا واحدا منا، ثم جاءت الرخصة بمشروعية قتال المشركين في الحرم بمجرد مقاتلتهم إيّانا ولو لم يصيبوا منا أحدا. وقد أورد القاضي ابن العربي توفيقا لطيفا بين القراءتين على هيئة حكاية وقعت له في بيت المقدس أنقلها لك عنه بنصها: قال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد حضرت في بيت المقدس طهّره الله بمدرسة أبي عتبة الحنفي والقاضي الريحاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة، فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار، فسلم سلام العلماء، وتصدّر في صدر المجلس بمدارع الرّعاء فقال له الريحاني: من السيد؟ فقال له: رجل سلبه الشّطّار أمس، وكان مقصدي هذا الحرم المقدّس، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم. فقال القاضي مبادرا: سلوه، على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم، ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم، هل يقتل أو لا؟ فأفتى بأنه لا يقتل، فسئل عن الدليل، فقال: قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة: 2/ 191]، ¬

_ (¬1) روي هذا المعنى في التفسير عن قتادة. انظر تفسير الطبري 2/ 193. (¬2) تفسير الطبري، ط دار المعارف 2/ 193.

ثمرة الخلاف:

قرئ: ولا تقتلوهم ولا تقاتلوهم، فإن قرئ ولا تقتلوهم فالمسألة نصّ، وإن قرئ ولا تقاتلوهم فهو تنبيه لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بيّنا ظاهرا على النّهي عن القتل. فاعترض عليه القاضي الرّيحاني منتصرا للشافعي ومالك، وإن لم ير مذهبهما على العادة، فقال: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. فقال له الصاغاني: هذا لا يليق بمنصب القاضي وعلمه، فإن هذه الآية التي اعترضت بها عليّ عامة في الأماكن، والآية التي احتججت بها خاصة ولا يجوز لأحد أن يقول: إنّ العام ينسخ الخاص، فأبهت (¬1) القاضي الريحاني، وهذا من بديع الكلام (¬2). ثمرة الخلاف: دلّت القراءة بإثبات ألفات المفاعلة على جواز المقاتلة عند المسجد الحرام؛ عند ما يعرض للمسلمين الاعتداء من عدوهم؛ ولو لم يصب العدو أحدا من المسلمين؛ إذ ليس المطلوب هنا أن ننتظر حتى يقتل المشركون بعض المسلمين في الحرم لنردّ عليهم، فإن دم المسلم عزيز، ومجرد بدء المقاتلة من المشركين يتضمن إذنا بإراقة دمهم في المسجد الحرام. ومن فائدة القراءة بحذف الألفات تذكير المسلمين برحمة الله فيهم إذ رفع عنهم سبحانه الحرج في ردّ العدوان في المسجد الحرام، بعد أن كانت القراءة تنهى عن ردّ العدوان حتى تزهق أرواح بعض المسلمين. وفي تعدد القراءات هنا فائدة أخرى، وهي إظهار كرامة المسلم على الله، وحرمة دمه، حتى إن الآية جعلت حرمة دم المسلم أعظم من حرمة المسجد الحرام. وقد دلّت على هذا المعنى نصوص كثيرة من السّنة وفي الحديث: قام النّبي صلّى الله عليه وسلّم قبل الكعبة فقال: «ما أعظمك وأعظم حرمتك غير أن المؤمن أعظم عند الله حرمة منك» (¬3). ¬

_ (¬1) في التنزيل العزيز: فبهت الذي كفر، ثلاثي، لكن قال في اللسان: بهّت الرجل أبهته بهتا، إذا قابلته بالكذب. ولو أتى بالصيغة القرآنية لكان أبلغ وأحكم. (¬2) تفسير أحكام القرآن للقاضي ابن العربي المالكي 1/ 107. (¬3) رواه الترمذي في كتاب البر، رقم 85، ورواه كذلك ابن ماجة في كتاب الفتن 2/ 60.

المسألة الثانية:

وسيأتي الحديث عن تحرير طبيعة الجهاد في الإسلام، وعلة المقاتلة عند حديثنا عن قول الله عزّ وجلّ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج: 22/ 39]. المسألة الثانية: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: 2/ 208]. قرأ نافع، وابن كثير، والكسائي، وأبو جعفر: (في السّلم) بالفتح. وقرأ الباقون: فِي السِّلْمِ بالكسر (¬1). واختار أبو زرعة في تأويل السّلم بالفتح ما روي عن قتادة من التابعين وهو أن السّلم: الموادعة والمسالمة والمصالحة. ثم أجرى تأويل قراءة الباقين بالكسر على أنها الإسلام (¬2). واختيار أبي زرعة هذا في تأويل السّلم والسّلم ليس محل اتفاق بين النحويين، بل اختار ابن منظور في اللسان عكسه فقال: ادخلوا في السّلم كافّة عنى به الإسلام وشرائعه كلها، ثم نقل عن أبي عمرو البصري: ادخلوا في السّلم كافّة، يذهب بمعناها إلى الإسلام فكان مقتضى اختياره أنها بمعنى واحد خفضا ونصبا (¬3). ثم قال بعد شواهد عدّة: والسّلم: الاستخذاء والانقياد والاستسلام، وهو عكس ما اختاره أبو زرعة. وقال ابن جرير الطبري في جامع البيان: فأما الذين فتحوا السين فإنهم وجهوا تأويلها إلى المسالمة بمعنى ادخلوا في الصلح، والمسالمة، وترك الحرب، وإعطاء الجزية، وأما الذين قرءوا ذلك بكسر السين فإنهم مختلفون في تأويله فمنهم من يوجهه إلى الإسلام بمعنى ادخلوا في الإسلام كافة، ومنهم من يوجهه إلى الصلح بمعنى ادخلوا في الصلح. ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى: ¬

_ (¬1) تقريب النشر في القراءات العشر لابن الجزري 94. وعبارة طيبة النشر: ... ... ... ... ... وفتح السلم حرم رشفا وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري 161. (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة 130. (¬3) لسان العرب لابن منظور، مادة (سلم) 12/ 295، طبعة دار صادر.

ثمرة الخلاف:

وقد قلتما إن ندرك السّلم معا ... بمال ومعروف من الأمر نسلم (¬1) ثمرة الخلاف: إن الله سبحانه أمرنا بالدخول في الإسلام، وهو ما دلّت له قراءة الكسر كما حرره أبو عمرو البصري، فكان أبو عمرو يقرأ السّلم حيث وردت في القرآن الكريم بالفتح إلا في هذا الموطن فإنه يقرؤها بالكسر ليشير إلى أن المراد هو الدخول في الإسلام (¬2). كذلك فإن الله سبحانه أمرنا بالسعي إلى الموادعة والمسالمة والمصالحة، وهو ما دلّت له قراءة الفتح كما اختار قتادة، وجمع من السلف، وهذا مبدأ رئيس في الإسلام، يتوكد به سعيه في حقن الدماء ونشر الإسلام، وهي قراءة أهل المدينة، ومكة، والكسائي، والكوفيين. وليس بين القراءتين أدنى تعارض، بل إن تحقيق السلام في الأرض من أعظم مقاصد الإسلام، فتكون الآية هنا بمنزلة الآيتين، عملا بقاعدة: تعدد القراءات ينزل منزلة الآيات، وهي مسألة حررناها في الباب الأول من هذه الدراسة. وثمة سؤال آخر يرد في هذا المقام على من تأوّل السلم بمعنى الدخول في الإسلام، وهو: كيف يرد الأمر على الدخول في الإسلام، وإن المخاطبين بذلك مؤمنون، فكيف يقال للمؤمن آمن، أو للمسلم أسلم؟ الجواب: إن الإسلام منازل أدناها قوله تعالى للأعراب: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 49/ 14]. وأعلاها قول الله عزّ وجلّ على لسان إبراهيم خليل الرّحمن: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 2/ 128]. ¬

_ (¬1) جامع البيان في تفسير القرآن للطبري 2/ 189. (¬2) انظر تحرير ابن مجاهد لاختيارات أبي عمرو في هذه المراجع في كتابه: السبعة في القراءات.

المسألة الثالثة:

المسألة الثالثة: قوله تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران: 3/ 120]. قرأ أهل الحجاز، وأبو عمرو: (لا يضركم كيدهم شيئا). وقرأ الباقون: لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً (¬1). وتتجه قراءة الحجازيين، وأبي عمرو إلى أن الأصل: (لا يضيركم)، فاستثقلت الكسرة على الياء، فنقلت كسرة الياء إلى الضّاد، فصارت (لا يضيركم)، ثم دخل الجزم على الراء، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، فصارت (لا يضركم) (¬2). وبهذا المعنى فإن لا هنا نافية للضير، وليست نافية للضرر، وهي مشابهة لما ورد في قوله سبحانه على لسان المؤمنين من السحرة من آل فرعون: قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ [الشّعراء: 26/ 50]. وتتجه قراءة الجمهور إلى أن (لا) نافية للضرر، وعندهم أن ورود الضرر في القرآن أكثر من ورود الضير، فالمصير إليه أقرب. ويرد ثمة سؤال: كيف ساغ أن يأتي المضارع مرفوعا مع أن حقّه الجزم لأنه جواب طلب؟ ويجاب عن ذلك بأن الأصل (لا يضرركم) فلما أرادوا الإدغام سكّنوا الراء، ونقلوا الضمة التي كانت على الضاد، فصارت لا يَضُرُّكُمْ قال أبو زرعة: فهذه الضمة ضمة إتباع (¬3). وقد اختصت هذه الآية بورود المدغم والمظهر في صيغة الفعل ذاته: إِنْ تَمْسَسْكُمْ: مظهرة غير مدغمة. لا يَضُرُّكُمْ: مدغمة غير مظهرة. ثمرة الخلاف: جاءت الآية العظيمة في الحثّ على الصبر والتقوى، وهو مقصد قرآني تواترت فيه الإشارات والأوامر الإلهية. ¬

_ (¬1) تقريب النشر لابن الجزري 102. وعبارة الطيبة: ... ... ... ... ... يضركم اكسرا جزم أو صلا (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة 171. (¬3) حجة القراءات لأبي زرعة 171.

المسألة الرابعة

ووعد المولى سبحانه وتعالى الصابرين بعاقبتين عظيمتين: الأولى: نفي الضير، وهو المظلمة والأذية. والثانية: نفي الضرر عنهم (¬1)، وهو عكس المنافع. وكما ترى فإن المعاني متكاملة، لا يناقض بعضها بعضا، وتعدد القراءة لها أثر عظيم في تثبيت المؤمن وتقوية عزيمته؛ بعد أن وعده الله سبحانه بكشف الضّر والضّير عنه. المسألة الرابعة : قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النّساء: 4/ 94]. قرأ المدنيان، وابن عامر، وحمزة، وخلف: (لمن ألقى إليكم السّلم لست مؤمنا). وقرأ الباقون: لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً (¬2). فتوجه القراءة الأولى بحذف الألف إلى الاستسلام والانقياد؛ قال في اللسان: السلم: الاستسلام، والتسالم: التصالح، والمسالمة: المصالحة، وقال الخطابي: إنه السّلم بفتح السين، الاستسلام والإذعان والانقياد، وهو مصدر يقع على الواحد والاثنين والجمع (¬3). وتتوجه قراءة الباقين (السلام) إلى التحية المشروعة، ويكون من دلالتها أن المرء معصوم الدّم إذا ألقى التّحية الإسلامية، حتى يتبين أمره. أي قوله: السلام عليكم، لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده (¬4). ولكن خالف في ذلك البخاري بقوله: (السّلم، والسّلام، والسّلم واحد)، مع أنه أورد عبارته هذه في رأس حديث الأعرابي الذي قال: السلام عليكم (¬5). ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور، ط دار صادر 4/ 494، مادة ضير، ومادة ضرر. (¬2) تقريب النّشر في القراءات العشر لابن الجزري 106. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري 193. وعبارة الشاطبية: وعم فتى قصر السلام مؤخرا ... ... ... ... (¬3) لسان العرب لابن منظور 12/ 293، مادة (سلم). (¬4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 328. (¬5) الجامع الصحيح للإمام البخاري، كتاب التفسير، باب 17، رقم الحديث 4591. وانظر فتح الباري 8/ 258.

وقد قرئت أيضا: (السّلم) على تأويل المسالمة والمصالحة، وقد روي هذا الوجه في غير المتواتر من عاصم، وأبان بن زيد، وأبي رجاء، والبخاري (¬1). وأخرج البخاري في سبب نزول هذا الحديث عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رجل في غنيمة له، فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه، وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا. قال عطاء (¬2): قرأ ابن عباس: السَّلامَ (¬3). قال ابن حجر في الفتح: فمن قرأ: السَّلامَ فمن التّحية، وأما ما عداه فمن الانقياد (¬4). وأورد ابن حجر في الفتح طرقا أخرى لهذا الحديث، أرتبها لك كالآتي: «مرّ رجل من بني سليم بنفر من الصحابة وهو يسوق غنما له، فسلّم عليهم، فقتلوه، وأخذوا غنيمته ... » (¬5) الحديث. «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية فيها المقداد، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقتله المقداد، فقال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: كيف بلا إله إلا الله غدا» (¬6). «بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلم بن جثامة، فمرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي، فسلّم علينا، فحمل عليه محلم فقتله، فلما قدمنا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأخبرناه الخبر نزل القرآن» (¬7). ¬

_ (¬1) انظر معجم القراءات القرآنية 2/ 154. (¬2) ليس في نصّ الحديث في البخاري قال عطاء، بل (قال: قرأ ابن عباس: السلام). ولكن السياق يكشف عن ذلك، وقد صرّح ابن حجر بذلك في الشرح، انظر فتح الباري 8/ 259، سطر 8. (¬3) الجامع الصحيح للبخاري، كتاب التفسير، باب 17، رقم الحديث 4591. (¬4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني 8/ 259. (¬5) أخرجه أحمد، والترمذي، وحسنه الحاكم، وصححه. (¬6) رواه البزار من طريق حبيب بن عمرة عن سعيد بن جبير. (¬7) رواه ابن إسحاق في المغازي، وأحمد عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي. وهذه الثلاثة على عهدة ابن حجر في الفتح، انظر 8/ 260.

ثمرة الخلاف:

وثمة طرق أخرى للحديث لا تخرج بمجملها عن هذه الدلالة. ولدى التأليف بين الروايات يظهر لك أن القاتل هو المقداد بن عمرو في رواية، وأسامة بن زيد في رواية، ومحلم بن جثامة في رواية، ولا يضر تعدّد الأسماء فقد تتعدد الأسباب، والنازل واحد. وكذلك فإن تعدد الروايات في النازل أفادنا مزيدا في التوكيد على حرمة الدماء في الإسلام، والترهيب من استباحتها بغير حقّها. قال القرطبي: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم لأسامة بن زيد: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا» (¬1). أي: تنظر أصادق في قوله أم كاذب، وذلك لا يمكن، فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه، وفي هذا من الفقه باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمكان والظواهر، لا على القطع واطّلاع السرائر (¬2). ثمرة الخلاف: إن الله سبحانه جعل استسلام الخصوم وانقيادهم عصمة لدمائهم، إذا انقادوا لحكم المسلمين، وهو ما دلّت عليه قراءة نافع، وابن عامر، وحمزة. ويدل على ذلك ما رواه البخاري في الصحيح: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم» (¬3)، فهاهنا يكون السلم بمعنى الإسلام كما اختاره البخاري، أو الاستسلام كما نقلناه عن القرطبي. ولكن الاستسلام والخضوع، وكذلك الدخول في الإسلام لا يتبين بسهولة ويسر، وقد يراق دم المرء قبل أن يقدم لقاتله الدليل على انقياده أو إسلامه، لذلك فقد تكفلت القراءة الثانية بعصمة دم المرء إذا كان مجهول الحال بمجرد أن يقول: (السلام عليكم)، وهو كما ترى احتراز ضروري، ورحمة إلهية ظاهرة بعباده. ¬

_ (¬1) أخبر القرطبي هنا أن الحديث قد أخرجه مسلم، ولم أعثر على الحديث في مسلم، والذي عند مسلم في كتاب التفسير، باب (11)، حديث رقم 2133، نفس رواية البخاري المتقدمة، وليس فيها ذكر القائل، والله أعلم. (¬2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 339. (¬3) وأخرجه أيضا الإمام مسلم في كتاب الإيمان، حديث رقم 4.

المسألة الخامسة:

ويجب التّحفّظ هنا، فلا نحكم بإسلامه بمجرد إلقاء السلام، بل نعصم دمه إلى أن يتبين حلّه، كما قال الإمام مالك رضي الله عنه في الكافر يوجد فيقول: جئت مستأمنا طالبا الأمان: هذه أمور مشكلة وأرى أن يرد إلى مأمنه ولا يحكم له بحكم الإسلام حتى يتكلم بالكلمة العاصمة التي علّق النّبي صلّى الله عليه وسلّم الحكم عليها في قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» (¬1). المسألة الخامسة: قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج: 22/ 39]. قرأ نافع، وابن عامر، وحفص: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، على المبني للمجهول. وقرأ الباقون: (أذن للّذين يقاتلون بأنّهم ظلموا) (¬2). بكسر التاء على معلوم الفاعل. وقد احتجّ قراء المدينة، والشام، وحفص بما ورد بعده؛ حيث اتفقوا على البناء للمجهول في قوله عزّ وجلّ: بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا. قال عاصم: لو كانت (يقاتلون) بكسر التاء فبم أذن لهم؟ فكأنهم ذهبوا إلى أن المشركين قد كانوا بدءوهم بالقتال، فأذن الله لهم حين قوتلوا أن يقاتلوا من قاتلهم. قال أبو زرعة: وهو وجه حسن لأن المشركين قد كانوا يقتلون أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان المؤمنون ممسكين عن القتال؛ لأنهم لم يؤمروا به، فأذن الله لهم أن يقاتلوا من قاتلهم (¬3). وتوجيه قراءة الباقين على أنها قراءة المضارع في معنى المستقبل، وذلك بمنزلة قوله: أذن للذين سيقاتلون، أو سيؤمرون بالقتال بأنهم ظلموا، فهم يقتلون عدوهم الظالمين لهم بإخراجهم من ديارهم. قال ابن العربي: والأقوى عندي قراءة كسر التاء، لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعد وقوع العفو والصفح عما فعلوا أذن الله له في القتال عند استقراره في المدينة، فأخرج البعوث ثم خرج بنفسه، حتى ¬

_ (¬1) أحكام القرآن لابن العربي 1/ 482. (¬2) تقريب النشر في القراءات العشر لابن الجزري 145. وعبارة طيبة النّشر: ... ... يقاتلون عف ... عم افتح التا ... (¬3) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة 478.

أظهره الله يوم بدر، وذلك قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (¬1). ويفهم من اختيار ابن العربي هنا أنه، لا يجعل هذه الآية أول ما نزل في أمر القتال. وقد رجح ابن العربي قراءة الكسر، مع أنه يقرأ كأهل بلدة قراءة نافع بفتح التاء، وهذا دليل على حياديته وتجرّده للحقيقة العلمية. وينشأ عن اختلاف القراءات المتواترة في هذه الآية مسألة من أكثر المسائل التي تكلم فيها الفقهاء وهي: تحرير علّة المقاتلة في الإسلام. وقد انقسم الفقهاء في هذه المسألة إلى فريقين؛ قال الأولون: إن علّة المقاتلة هي ردّ العدوان، وقال الآخرون: إن علّة المقاتلة هي الكفر، ولو لم يظهر من الكفار اعتداء. وقد أخذ فقهاء الحنفية والمالكية بالقول الأول، فيما أخذ الشافعية وغالب الحنابلة بالقول الثاني. وتعريف الجهاد عند عامة الفقهاء يتجه إلى أن علة الجهاد هي نصرة الإسلام، وهو تعليل يقوي مذهب الحنفية والمالكية. نقل ابن عابدين من متأخري الحنفية تعريف الجهاد بأنه: الدعاء إلى الدين الحق، وقتال من لم يقبله بالمال والنفس (¬2). وتعريف الشافعية للجهاد: هو قتال الكفار لنصرة الإسلام (¬3). وقد قرر جمهور الفقهاء من مالكية، وحنفية، وبعض الحنابلة (¬4)؛ أن مناط القتال هو الحرابة والمقاتلة والاعتداء، وليس محض الكفر (¬5)، فلا يقتل شخص لمخالفته للإسلام أو لكفره، وإنما يقتل لاعتدائه على الإسلام، فغير المقاتل لا يجوز قتاله، وإنما يلتزم معه جانب السّلم، يدلّ ¬

_ (¬1) أحكام القرآن لابن العربي المالكي 3/ 1279. (¬2) حاشية ردّ المحتار على الدّر المختار لابن عابدين 4/ 121. وانظر الدّر المختار 3/ 238. (¬3) حاشية الشرقاوي 2/ 391. وانظر آثار الحرب في الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 23. (¬4) اختلفت عن أحمد الرواية، واختار ابن قدامة أن علة الجهاد هي الكفر كما سيأتي، وعاد ابن تيمية إلى أن علة الجهاد هي الحرابة، وعزا القول إلى أحمد. وسيأتي تفصيل ذلك. (¬5) واستدلوا بقوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.

لذلك نصوص الكتاب والسّنة والاعتبار (¬1). وأظهر الأدلة على ذلك من الكتاب قوله سبحانه: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 2/ 192]. وقد عقد ابن تيمية، وهو من فقهاء الحنابلة، فصلا للرّد على من قال بأن الكفر موجب لشنّ الحرب، فقال في معرض الرّد على الشافعية في احتجاجهم بحديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» (¬2). قال: (هذا الحديث ذكر للغاية التي يباح قتالهم إليها، بحيث إذا فعلوها حرم قتالهم، والمعنى أني لم أؤمر بقتالهم إلا إلى هذه الغاية، فإن هذا خلاف النّص والإجماع، فإنه صلّى الله عليه وسلّم لم يفعل هذا قط، بل كانت سيرته أن من سالمه لم يقاتله) (¬3). وقد ثبت بالنّص والإجماع أن أهل الكتاب والمجوس مع أنهم ليسوا أهل كتاب إذا أدّوا الجزية حرم قتالهم (¬4). وكذلك فإنه لو كان الكفر علة الجهاد ما أمرنا بالكفّ عن المرأة والشيخ الكبير من المشركين، وهو ما دلت له نصوص كثيرة؛ منها ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملّة رسول الله، لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا، ولا امرأة» (¬5). واختار الشافعية ومتقدّمي الحنابلة أن المبيح للقتل هو الكفر وليس الحرابة، واستدلوا لذلك بعموم قوله سبحانه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 9/ 5]. ¬

_ (¬1) لكن نقل ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد إجماعا غريبا فقال تحت عنوان: الفصل الثاني في معرفة الذين يحاربون: فأما الذين يحاربون فاتفقوا على أنهم جميع المشركين لقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ إلا ما روي عن مالك أنه قال: لا يجوز ابتداء الحبشة، ولا التّرك بالحرب. انظر بداية المجتهد لابن رشد 1/ 369. (¬2) رواه البخاري في كتاب الإيمان. ورواه مسلم في باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا ... رقم (22). (¬3) رسالة القتال لابن تيمية 117. (¬4) المصدر نفسه. (¬5) رواه أبو داود في كتاب الجهاد، برقم 82.

قال ابن قدامة: «مسألة: قال: ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ويقتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا» (¬1). وقد اتّفق الشافعية والحنابلة في هذه المسألة، فجعلوا أهل الكتاب مستثنين من عموم قوله سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التّوبة: 9/ 28]. ونقل ابن قدامة عن أحمد أن الجزية تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب، ثم قال: وهو مذهب أبي حنيفة لأنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق، فيقرون ببذل الجزية كالمجوس (¬2). وهكذا فإن ابن قدامة هنا وافق الشافعية، وأشار إلى أن الإمام أحمد اختار رأيا وسطا بين الشافعية والحنفية، فقال بوجوب قتال عبدة الأوثان من العرب، والكفّ عمن سواهم حتى ظهور الحرابة منهم (¬3). ثم قال في الاستدلال لاختياره موافقا الشافعية: «ولنا عموم قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التّوبة: 9/ 5]، وقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» خصّ منهم أهل الكتاب بقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم في المجوس: «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» (¬4)، فمن عداهما (¬5) يبقى على مقتضى العموم، ولأن الصحابة رضي الله عنهم توقفوا في أخذ الجزية من المجوس، ولم يأخذ عمر منهم الجزية، حتى روى له عبد الرحمن بن عوف أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» (¬6)، وثبت عندهم أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر، وهذا يدلّ على أنهم لم يأخذوها من غيرهم؛ ولأن قول ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة 8/ 361. (¬2) المغني لابن قدامة 8/ 361. (¬3) المصدر نفسه. (¬4) رواه ابن أبي شيبة، انظرا الكنز (11490). (¬5) في الأصل: فمن عداها. ولا يخفى أنه تحريف؛ إذ صوابه كما أثبتناه، انظر المغني لابن قدامة 8/ 363، سطر 11. (¬6) مرّ تخريجه قبل قليل.

النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب»، يدلّ على اختصاص أهل الكتاب بإضافتها إليهم، ولأنهم تغلظ كفرهم لكفرهم بالله وجميع كتبه ورسله (¬1). وقد أطلنا في النقل عن ابن قدامة لأنه أورد أدلة القائلين بأن الكفر هو علة المقاتلة، وثمة دليل آخر يورده الشافعية أيضا، وهو ما روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «اقتلوا شيوخ المشركين وأبقوا شرخهم» (¬2). فهذه بالجملة أدلة القائلين بأن علة المقاتلة هي الكفر وحده، دون اشتراط ظهور الحرابة. وقد لخص صاحب كتاب (آثار الحرب في الفقه الإسلامي) (¬3) ردود العلماء على ذلك فقال: «يجاب عن ذلك بأن قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 9/ 5]، عام مخصوص بالذّمي والنساء والصبيان، وحديث: «اقتلوا شيوخ المشركين» (¬4)، ضعيف بالانقطاع، وبالحجاج بن أرطأة (¬5) فلا يصلح للمعارضة، ولو سلمت صحته فيجب تخصيصه بحسب أصول الشافعي. ويرد على الشافعي أيضا بأنه لو كان مجرد الكفر مبيحا للقتل لما أنزل النّبي صلّى الله عليه وسلّم بني قريظة على حكم سعد بن معاذ فيهم، ولو حكم فيهم بغير القتل لنفذ حكمه. ومن ناحية النصوص القرآنية فهناك نصوص قطعية لا تقبل التأويل يرد بها على الشافعي مثل قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 2/ 190]. ثم قال: وهذا الموقف الدفاعي هو الذي سار عليه النّبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون من بعده، فلم يقتل النّبي كفار قريش وهوازن، وما استباح الخلفاء يوما دم أحد من غير المسلمين في غير الحرب (¬6). ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة 8/ 361. (¬2) رواه أحمد بن حنبل، وأبر داود، والترمذي عن سمرة بن جندب، انظر مسند أحمد 5/ 9، وهو منقطع فيه الحجاج بن أرطأة، قال عنه ابن حجر في التقريب: صدوق، كثير الخطأ والتدليس. انظر تقريب التهذيب 1/ 153. (¬3) للدكتور وهبة الزحيلي 110. (¬4) مرّ تخريجه قبل قليل. (¬5) الحجاج بن أرطأة قاض من البصرة، توفي عام 147 هـ، ومرّ بك قبل قليل ما قاله في ابن حجر العسقلاني في تقريب التهذيب 1/ 153. (¬6) آثار الحرب في الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 110.

فائدة:

ثم فصل القول في الرّد على من زعم نسخ هذه الآية، وتوجيه تعليل القتال بالحرابة، وجملة ردّه في ثلاثة اعتراضات: الأول: إن النّسخ لا بدّ له من دليل، ولا دليل يدلّ على النّسخ أو التّخصيص. الثاني: إن ما تضمنته الآية معاني لا تقبل النّسخ، فقد تضمنت النّهي عن الاعتداء، والاعتداء ظلم، والظلم من المعاني المحرمة في كل الشرائع وفي أحكام العقول، والله لا يبيح الظلم قط. الثالث: لو كان القتل للكفر جائزا، وأن آية منع الاعتداء منسوخة لكان الإكراه على الدين جائزا، لقوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 2/ 256]. وكذلك فإن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أسر من المشركين أسرى، فمنهم من قتله، ومنهم من فداه، ومنهم من أطلق سراحه، ولم يكره أحدا منهم على الإسلام، ولو كان القتال لأجل الكفر ما كان لهؤلاء إلا السيف (¬1). فائدة: اختلف الفقهاء في تحرير طبيعة الجهاد في الإسلام، أهو حرب دفاعية أم حرب هجومية، وقد أكثروا من الاستدلال لما ذهبوا إليه، وأورد كل منهم رأيه، منتصرا له بالأدلة، وسأورد في هذا المقام نقلا لما قدمه كل فريق من الاستدلال ثم أعطف بتحرير ما أعتقده الحق في هذه المسألة والله أعلم. قال ابن قدامة في المغني: «قال أحمد: إن الدعوة قد بلغت وانتشرت، ولكن إن جاز أن يكون قوم خلف الروم وخلف الترك على هذه الصفة؛ لم يجز قتالهم قبل الدعوة، وذلك لما روى بريدة قال: كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أمره بتقوى الله في خاصته، وبمن معه من المسلمين، وقال: «إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال فأيتهن أجابوك إليها، فاقبل منهم وكفّ عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن هم أبوا، فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن أبوا، ¬

_ (¬1) انظر: آثار الحرب في الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 111 وما بعدها.

فاستعن بالله عليهم وقاتلهم» (¬1)، وهذا يحتمل أنه كان في بدء الأمر قبل انتشار الدعوة وظهور الإسلام، فأما اليوم فقد انتشرت الدعوة، فاستغنى بذلك عن الدعاء عند القتال، قال أحمد: كان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب حتى أظهر الله الدين وعلا الإسلام، ولا أعرف اليوم أحدا يدعى، قد بلغت الدعوة كل الناس، فالروم قد بلغتهم الدعوة، وعلموا ما يراد منهم، وإنما كانت الدعوة في أول الإسلام، وإن دعا فلا بأس، وقد روى ابن عمر رضي الله عنه أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أغار على بني المصطلق وهم غارون آمنون، وإبلهم تسقى على الماء، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية (¬2). وعن الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن الديار من ديار المشركين يبيتون، فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: «هم منهم» (¬3). وقال سلمة بن الأكوع: «أمّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر، فغزونا ناسا من المشركين، فبيّتناهم» (¬4)، ويحتمل أن يحمل الأمر بالدعوة في حديث بريدة على الاستحباب، فإنها مستحبة في كل حال، وقد روي أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أمّر عليّا حين أعطاه الراية يوم خيبر، وبعثه إلى قتالهم أن يدعوهم، وهم ممن بلغتهم الدعوة (¬5). ودعا خالد بن الوليد طليحة الأسدي حين تنبأ، فلم يرجع، فأظهر الله عليه، ودعا سلمان أهل فارس. فإذا ثبت هذا فإن كان المدعو من أهل الكتاب أو مجوسا دعاهم إلى الإسلام، فإن أبوا دعاهم إلى إعطاء الجزية، فإن أبوا قاتلهم، وإن كانوا من غيرهم دعاهم إلى الإسلام، فإن أبوا قاتلهم، ومن قتل منهم قبل الدعاء لم يضمن، لأنه لا إيمان له ولا أمان، فلم يضمن كنساء من بلغته الدعوة وصبيانهم. ثم استأنف ابن قدامة فقال: «ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد، وهم صاغرون، ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا»، وجملته أن الكفار ثلاثة أقسام: ¬

_ (¬1) رواه مسلم وأبو داود. (¬2) متفق عليه. (¬3) متفق عليه. (¬4) رواه أبو داود. (¬5) رواه البخاري.

قسم أهل كتاب: وهم اليهود، والنصارى، ومن اتّخذ التّوراة، والإنجيل كتابا، كالسامرة، والفرنج، ونحوهم، فهؤلاء تقبل منهم الجزية، ويقرّون على دينهم إذا بذلوها، لقول الله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التّوبة: 9/ 29]. وقسم لهم شبهة كتاب: وهم المجوس، فحكمهم حكم أهل الكتاب في قبول الجزية منهم، وإقرارهم بها، لقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب»، ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذين القسمين. وقسم لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب: وهو من عدا هذين القسمين من عبدة الأوثان، ومن عبد ما استحسن، وسائر الكفار، فلا تقبل منهم الجزية ولا يقبل منهم سوى الإسلام. هذا ظاهر المذهب، وهو مذهب الشافعي، وروي عن أحمد أن الجزية تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب. وهو مذهب أبي حنيفة لأنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق فيقرّون ببذل الجزية كالمجوس، وحكي عن مالك أنها تقبل من جميع الكفار إلا كفار قريش لحديث بريدة الذي في المسألة قبل هذه وهو عام، ولأنهم كفار، فأشبهوا المجوس. ولنا عموم قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلا الله») (¬1). وفي هذا المعنى يعرف الحنفية الجهاد بقولهم: هو الدعاء إلى الدين الحق، وقتال من لم يقبله (¬2). وقال الغنيمي الحنفي في اللباب: قتال الكفار واجب وإن لم يبدءونا (¬3). وهذا الرأي لا شك يندرج في الآراء التي تجعل الحرب في الإسلام هجومية، بمعنى أن المبادرة فيها بيد الجماعة المسلمة؛ إذ هي التي تعلن الحرب لا بقصد ردّ العدوان، بل بقصد تحقيق استعلاء دين الحق في الأرض. ¬

_ (¬1) المغني لابن قدامة 8/ 362. (¬2) ردّ المختار على الدّر المختار 4/ 120، وقال في الحاشية- الصفحة نفسها-: الحدود إخلاء عن الفسق، والجهاد إخلاء عن الكفر. (¬3) اللباب في شرح الكتاب 4/ 115، وقال في الحاشية بعد ذلك: للنصوص العامة.

وفي مقابل ذلك فقد اختار بعض الفقهاء أن الحرب في الإسلام دفاعية؛ بمعنى أن الحاكم المسلم لا يخول بإعلان حالة الحرب إلا حين وجود الحرابة من المشركين، أو التمهيد للعدوان والأذية. وقد نقل القرطبي هذا القول عن محمد بن عبد العزيز، وابن عباس، ومجاهد، وذلك في معرض تصريحهم بأن آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ غير منسوخة (¬1). ويدلّ على ذلك النصوص الكثيرة من الكتاب والسّنة التي دلّت على استبقاء كثير من المشركين من أهل الكتاب وغيرهم (¬2) (¬3)، فمن الكتاب قوله سبحانه: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 60/ 8 - 9]. وقوله سبحانه وهو آخر ما نزل في أمر الجهاد: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ... [التوبة: 9/ 6]. وقد روى الإمام أحمد بسنده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قدمت أمي وهي مشركة، فأتيت النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله، إنّ أمي قدمت وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: «نعم صلي أمك» (¬4). وروي من حديث عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزّى على بنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا، وثياب، وسمن، وأقط، فلم تقبل هداياها، ولم تدخلها منزلها، فسألت عائشة لها النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فتلا عليها قول الله عزّ وجلّ: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 60/ 8]. ¬

_ (¬1) تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/ 348. (¬2) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 77. (¬3) رواه أحمد في مسنده عن أسماء بنت أبي بكر 6/ 344، وسائر رواته ثقات، على شرط البخاري. (¬4) والحديث برواية الحاكم في المستدرك كتاب التفسير، سورة الممتحنة.

وأظهر الأدلة على ذلك ما أخرجه الإمام البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات ودرعه مرهونة عند يهودي بصاع من شعير (¬1). وقد نهج صاحب كتاب آثار الحرب في الفقه الإسلامي منهجا متفردا في تحرير هذه المسألة، فبعد أن فصل القول في اختيار القائلين بالدفاع والقائلين بالهجوم، انتهى إلى تقرير تفرد المنهج الإسلامي في تحرير طبيعة الجهاد وذلك بقوله: «أما أن الجهاد: هل هو عمل دفاعي أو هجومي؟ فهذا تقسيم لا ينطبق على نظام الجهاد الإسلامي، لأن الإسلام لا يؤمن بالحروب الحديثة، حروب المطامع البشرية، التي أملت هذا التقسيم، ولا يصح أن يوصف الجهاد بأنه هجومي لأن الهجوم يعني الظلم، والجهاد عدل في الواقع، وقد يكون الجهاد مطلوبا إذا استبدّ الحكام بمصالح رعاياهم، وهنا يظهر المسلمون بأنهم دعاة إصلاح عام، وجند رسالة يبلغونها للناس على بيّنة وهدى، رغم معاندة بعض الظالمين، وقد يلتزم المسلمون جانب الدفاع فقط دون التقيّد بحدود جغرافية مصطنعة، فالإسلام لا تحدّه حدود ... » (¬2). ثم خلص إلى القول: «إن الجهاد الإسلامي من نوع خاص، ليس هجوميا ظالما للعالم، وليس مجرد دفاع عن حدود الوطن والمصالح، فهو بكلمة موجزة: وسيلة في يد ولي الأمر لحماية نشر الدعوة، أو للدفاع عن المسلمين» (¬3). والذي أراه والله أعلم أن منشأ الخلاف هو عدم اتّفاقهم على تحديد معنى الدفاع والهجوم، فالهجوم بمعنى البغي والعدوان لم يقره أحد، قال الله عزّ وجلّ: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 2/ 191]. والدفاع بمعنى الانتظار المحض حتى ينال العدو منا، لم يقل به أحد أيضا؛ قال الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً [النّساء: 4/ 71]. فليس معنى الدفاع أن تقاتل بترس دون سيف، أو تنتظر غارة العدو حتى يجتاح أرض الوطن، ويهلك الحرث والنّسل، ونحن غارون غافلون، نحسن الظن بالعدو، ونلتمس له المعاذير! ¬

_ (¬1) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 89، انظر فتح الباري 1/ 99. ورقم الحديث في البخاري 2916. (¬2) آثار الحرب في الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 124. (¬3) المصدر نفسه والصفحة نفسها.

بل مقتضى الدفاع أن تقدم ساعة الإقدام، وتحجم ساعة الإحجام، وتدرس نوايا عدوك، وتكشف طواياه وتدبيره، ففي عمل الدفاع كر وفر، ومصاولة ومنازلة، وإقحام وإحجام، ودرع وسيف، وحراب ورماح، وكل ذلك مقرر لدى الأمم كلها في نشاطها العسكري الدفاعي. ففي كل وزارة دفاع في العالم دائرة عمليات، واستطلاع، وتجسس، ومداهمة، واقتحام، وكل ذلك يسمى نشاطا دفاعيا. وإذا تقرر ذلك فإني أعتقد أن سائر صنوف الجهاد في الإسلام، تندرج تحت إطار العمل الدفاعي بعد تحرير مناطه، وتقرير مناشطه. ففي بدر خرج النّبي صلّى الله عليه وسلّم يريد عير قريش، وهو منطق دفاعي مبرر؛ إذ الأموال التي نتجتها القافلة هي متاع المسلمين المهاجرين في مكة، ومن حقهم أن يحصلوا عليها بأي ثمن، ولما فرّت القافلة حضرت قريش في جيش قوامه ثلاثة أضعاف جيش النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وألجأته إلى حرب لم يكن قد قصدها، ولا سعى إليها، ونذكر بهذه المناسبة أن بدرا تبعد عن المدينة نحو (180) كم فيما تبعد عن مكة (260) كم، وذلك كله يكشف لك من هو الطرف الغازي في هاتين الجهتين. وفي أحد اعتصم رسول الله بمدينته، ثم خرج إلى جبل أحد على بعد نحو أربعة أميال من المدينة يدفع عنها غارة قريش والأحابيش. وفي الخندق اعتصم النّبي صلّى الله عليه وسلّم في مدينته، وخندق على نفسه، ولم يلق أذنا لاستفزاز قريش، ولا لحماسة الشباب من أصحابه في عمل دفاعي صريح استمرّ نحو أربعين يوما، حتى ردّ الله الذين كفروا بغيظهم، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويّا عزيزا. ولعل ما يشكل في هذا الباب هو خروجه صلّى الله عليه وسلّم إلى حنين، والطائف لملاقاة ثقيف وهوازن، ولكن قراءة سريعة لهاتين الغزوتين تظهر أن ثقيف وهوازن كانت قد جمعت حشودا هائلة بغرض غزو مكة، وإخراج النّبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى أصبح في وادي حنين ثلاثون ألفا من الحلفاء، كلهم مستعدّ للإغارة على مكة، فكان مقتضى الدفاع حينئذ أن يخرج إليهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بغارة الله فيصبحهم بعذاب وساء صباح المنذرين (¬1). ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام، وبحاشيتها الروض الأنف 3/ 29.

ثمرة الخلاف:

وهكذا فإن استقراء فصول جهاد النّبي صلّى الله عليه وسلّم يكشف لك أنه لم يخرج في سائر غزواته (¬1) إلا في هذا الإطار الدفاعي كما اصطلح عليه أهل الخبرة، وهذا يقوي ما ذهب إليه النووي في شرح صحيح مسلم من تحديد علة القتال في الإسلام بظهور الحرابة من العدو. ثمرة الخلاف: أطلنا في هذه المسألة من نقل الأقوال، والاختيارات من السلف والخلف في تحرير علة الجهاد ومناطه، ولا شك أن هذه النقول والاستدلالات قد كشفت لك عن كثير من ثمرات تعدد القراءة. وأشير في هذا المجال أيضا إلى أن ورود القراءة بالكسر والفتح (يقاتلون) ويقاتلون أفادنا معنى جديدا، وهو أن المقاتل قد يكون مظلوما أيضا، كما هو الحال في (المقاتل)، وهكذا فإنه ليس ثمة صورة واحدة لطبيعة الحرب في الإسلام، إذ الأمور بمقاصدها، وسواء كان الرجل مقاتلا أو مقاتلا، فإن تقرير كونه ظالما أو مظلوما، يحدد بدوافعه إلى القتال، والظروف التي أحاطت به. وهذا يقوي ما ذهب إليه أستاذنا الدكتور وهبة الزحيلي أن الجهاد في الإسلام لا يوصف بأنه دفاعي ولا هجومي، بل هو من نوع خاص، ليس هجوميا ظالما للعالم، وليس مجرد دفاع عن حدود الوطن والمصالح (¬2). وكذلك فإن الإذن بالقتال للمقاتلين مقيد بكونهم ظلموا: بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وهذا يقوي أيضا ما أورده الدكتور وهبة الزحيلي من أن علّة المقاتلة إنما هي ظهور الحرابة والظلم من العدو (¬3). المسألة السادسة: قوله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ [التّوبة: 9/ 12]. قرأ ابن عامر: (إنهم لا إيمان لهم) بكسر الألف، أي لا إسلام ولا دين لهم. ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام وبحاشيتها الروض الأنف 3/ 29. (¬2) انظر آثار الحرب في الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 124. (¬3) المصدر نفسه والصفحة نفسها.

وثمرة الخلاف:

وقال آخرون: معناه لا أمان لهم، مصدر (آمنته إيمانا) المعنى: إذا كنتم أنتم آمنتموهم، فنقضوا عهدهم، فقد بطل الأمان الذي أعطيتموهم. وقرأ الباقون: لا أَيْمانَ لَهُمْ بالفتح جمع يمين. وحجتهم قوله: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً [المنافقون: 63/ 3]، وهو الاختيار، لأنه في التفسير لا عهود لهم ولا ميثاق ولا حلف، فقد وصفهم بالنّكث في العهود (¬1). وثمرة الخلاف: أن علة مقاتلة المشركين هي الكفر كما قررتها قراءة ابن عامر، وهي متواترة. وقد بيّنت قراءة الجمهور معنى آخر لقتال المشركين، وهو أنهم لا أيمان لهم ولا عهود، ولا ميثاق، ولا حلف. والجمع بين القراءتين أن قراءة ابن عامر تقرير لعلة القتال (¬2)، فيما كانت قراءة الجمهور وصفا لأحوال المشركين حين قتالهم، أو حين الأمر بقتالهم، والله أعلم. المسألة السابعة: قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال: 8/ 72]. قرأ حمزة: (ما لكم من ولايتهم) بكسر الواو، وهي مصدر وليت الشيء ولاية، ووال حسن الولاية. قال الفراء: (ما لكم من ولايتهم) يريد: من ميراثهم، وكسر الواو في الولاية أعجب إليّ من فتحها؛ لأنها إنما يفتح أكثر من ذلك إذا كان في معنى (نصرة) قال: فكان الكسائي يفتحها ويذهب بها إلى النصرة ولا أراه علم التفسير، ويختارون في (ولّيته ولاية) الكسر. وقرأ الباقون: مِنْ وَلايَتِهِمْ بالفتح أي: من نصرهم. ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 365، وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي 236. وعبارة الشاطبي: ويكسر لا إيمان عند ابن عامر ... ... ... ... (¬2) انظر ما أوردناه في مبحث علة القتال 714.

وثمرة الخلاف:

والعرب تقول: (نحن لكم على بني فلان ولاية) أي أنصار (¬1). وثمرة الخلاف: أن الآية نفت عن المسلمين وجوب النصرة لمن آمن ولم يهاجر، ونفت عنهم أيضا حق الإرث فيهم، فكأنها قالت: ما لهم عليكم نصرة، وما لكم فيهم من ميراث، ولا يؤخذ هذان الحكمان من قراءة واحدة بل من القراءتين معا. وقد أحكمت قراءة الجمهور، فيما نسخ حكم قراءة حمزة بعد أن عمل بها المسلمون زمنا حين أنزل الله توريث ذوي الأرحام. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار، فآخى بين حمزة بن عبد المطلب وبين زيد بن حارثة، وبين عمر بن الخطاب ومعاذ بن عفراء، وبين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وبين أبي بكر الصّدّيق وطلحة بن عبيد الله، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وقال لسائر أصحابه تآخوا وهذا أخي يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: فأقام المسلمون على ذلك حتى نزلت سورة الأنفال، وكان مما شدّد الله به عقد نبيه صلّى الله عليه وسلّم قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا إلى قوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. فأحكم الله تعالى بهذه الآيات العقد الذي عقد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار يتوارث الذين تآخوا دون من كان مقيما بمكة من ذوي الأرحام والقرابات، فمكث الناس على ذلك العقد ما شاء الله. ثم أنزل الله الآية الأخرى، فنسخت ما كان قبلها، فقال: ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 314. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي 236. وعبارة الشاطبي: ولا يتهم بالكسر فز وبكهفه ... شفا ... ... ...

وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ رجع كل رجل إلى نسبه ورحمه، وانقطعت تلك الوراثة (¬1). والخلاصة أن الآية يفهم منها معنيان: الأول: الميراث هو قراءة الكسر. الثاني: النّصرة وهو قراءة الخفض. فالأول باق تلاوة منسوخ حكما، والثاني باق تلاوة وحكما. وهذا القول بأن الولاية بالكسر محمولة على الميراث، هو الذي دلّ عليه السياق، واختاره جماهير المفسرين والنّحاة، كما نقلنا عن الفراء؛ لكن نقل القرطبي هذه القراءة، وعزاها إلى يحيى بن وثاب، والأعمش أيضا، ثم قال: قيل هي لغة في الولاية، ثم قال: والفتح في هذا أبين وأحسن، لأنه بمعنى النصرة والنسب، وقد تطلق الولاية بمعنى الإمارة (¬2). وكذلك فإن القاضي ابن العربي نقل المعنيين جميعا من قراءة واحدة، وهي قراءة الفتح، فقال: ما لكم من ولايتهم من شيء: قيل: من النصرة لبعد دارهم، وقيل: من الميراث لانقطاع ولايتهم. وللإمام الرازي الجصاص تحرير لطيف في هذه المسألة لكنه لم يتطرق فيه لأمر القراءة، كأنه كان يرى أنهما لغتان في معنى التوارث، وهاك نصه: اختلف السلف في أن التوارث كان ثابتا بينهم بالهجرة والأخوة التي آخى بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهم دون الأرحام، وأن ذلك مراد هذه الآية، وأن قوله تعالى: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [الأنفال: 8/ 75]، وقد أريد به إيجاب التوارث بينهم، وأن قوله: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال: 8/ 72]، وقد نفى إثبات التوارث بينهم بنفيه الموالاة بينهم، وفي هذا دلالة على أن إطلاق لفظ الموالاة يوجب التوارث وإن كان يختص به بعضهم دون جميعهم، على حسب وجود الأسباب المؤكدة له؛ كما أن النسب سبب يستحق به الميراث، وإن كان بعض ¬

_ (¬1) انظر الدّر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي، ط دار المعرفة 3/ 205. ورواه كذلك ابن جرير الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ومن طريق قتادة، وانظر كذلك فتح الباري للحافظ ابن حجر 8/ 249. (¬2) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 56.

المسألة الثامنة:

ذوي الأنساب أولى به في بعض الأحوال لتأكد سببه، وفي هذا دليل على أن قوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً [الإسراء: 17/ 33]، موجب لإثبات القود لسائر ورثته، وأن النساء والرجال في ذلك سواء لتساويهم في كونهم من مستحقي ميراثه، ويدل أيضا على أن الولاية في النّكاح مستحقة بالميراث، وإن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نكاح إلا بولي» (¬1) مثبت للولاية لجميع من كان من أهل الميراث على حسب القرب وتأكيد السبب، وأنه جائز للأم تزويج أولادها الصّغار إذا لم يكن أب، على ما يذهب إليه أبو حنيفة إذا كانت من أهل الولاية في الميراث. وقد كانت الهجرة فرضا حين هاجر النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أن فتح النّبي صلّى الله عليه وسلّم مكة فقال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة» (¬2)، فنسخ التوارث بالهجرة بسقوط فرض الهجرة، وأثبت التوارث بالنسب بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: 8/ 75]، قال الحسن (¬3): كان المسلمون يتوارثون بالهجرة حتى كثر المسلمون فأنزل الله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فتوارثوا بالأرحام (¬4). المسألة الثامنة: قوله تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النّساء: 4/ 135]. قرأ حمزة، وابن عامر: (وإن تلوا أو تعرضوا) بضم اللام. وقرأ الباقون: وَإِنْ تَلْوُوا بواوين من (لويت فلانا حقّه ليّا) أي دافعته وماطلته. يقال: لوى فلانا غريمه. قال أبو عبيدة: يقال: (رجل ليان، وامرأة ليانة) أي: مماطلة. فمعنى تَلْوُوا تدافعوا، وتمطلوا. وحجتهم في ذلك ما جاء في التفسير: (إن لوى الحاكم في قضيته فإن الله كان بما تعملون ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد عن عمران بن الحصين مرفوعا، ورواه أحمد وأصحاب السنن أيضا عن أبي موسى الأشعري، وصححه الترمذي وابن حبان بلفظ: «لا نكاح إلا بولي». كشف الخفاء 2/ 369. (¬2) أخرجه أبو نعيم في الحلية، وتمامه: «لا هجرة بعد الفتح إنما هو الإيمان والنّية والجهاد، متعة النساء حرام، متعة النساء حرام، متعة النساء حرام»، انظر كنز العمال 10/ 500. (¬3) هو الحسن البصري، الإمام التابعي المشهور، سبقت ترجمته. (¬4) أحكام القرآن للرازي الجصاص 3/ 75.

ثمرة الخلاف:

خبيرا)، وأخرى: روى ابن جريج عن مجاهد (¬1): وَإِنْ تَلْوُوا أي: تبدلوا الشهادة أَوْ تُعْرِضُوا أي تكتموها. فذهب مجاهد: أنّ هذا الخطاب من الله جلّ وعزّ للشهداء لا للحكام. وأصل الكلمة: (تلويوا) فاستثقلوا الضمة على الياء، فحذفوها، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين. ثم ضموا الواو لمجاورتها الثانية. ومن قرأ بواو واحدة ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون أصله (تلووا) فأبدل من الواو المضمومة همزة، فصار (تلؤوا) بإسكان اللام، ثم طرحت الهمزة، وطرحت حركتها على اللام فصار (تلوا) ويجوز أن يكون من (الولاية) من قولك: (وليت الحكم والقضاء بين الرجلين) أي: (إن قمتم بالأمر أو أعرضتم فإن الله كان بما تعملون خبيرا). والأصل (توليوا) فحذفت الواو كما حذفنا من (يعد) وكان أصلها (يوعد) فصار (تليوا) ثم حذفنا الياء، ونقلنا الضمة إلى اللام، فصار (تلوا) (¬2). ثمرة الخلاف: أن الله خبير يحاسب العباد إذا ظهر منهم اللّيّ وهو المماطلة، أو الإعراض وهو إنكار الدين بالكلية، وهو ما دلّت عليه قراءة الجمهور. وهو كذلك خبير يحاسب الخلق إن ولوا شيئا من أمر المسلمين، أو أعرضوا عن أداء واجبهم في الولاية، وهو ما دلّت عليه قراءة حمزة، وابن عامر. ¬

_ (¬1) انظر الدّر المنثور للسيوطي، ط دار المعرفة 2/ 234. وفيه أيضا: قال ابن عباس: هي أن تلوي لسانك بغير الحق وهي اللجلجة، فلا يقيم الشهادة على وجهها، والإعراض الترك. (¬2) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 216. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي 195. وعبارة الشاطبي: وتلووا بحذف الواو الأولى ولامه ... فضم سكونا لست فيه مجهّلا

المسألة التاسعة:

لكن نقل القرطبي عن النحاس أن القراءتين وجهان لمعنى واحد، وعبارته: (ليس يلزم هذا- أي تفاوت المعاني أو إنكار إحدى القراءتين- ولكن تكون (تلوا) بمعنى (تلووا) وذلك أن أصله (تلووا) فاستثقلت الضمة على الواو، بعدها واو أخرى، فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين، وهي كالقراءة بإسكان اللام وواوين) (¬1). ومذهب النحاس هذا نقله القرطبي أيضا عن ابن العربي وعن مكي، وهو شبيه بما قدمناه نقلا عن أبي زرعة (¬2). المسألة التاسعة: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ [المائدة: 5/ 57]. قرأ أبو عمرو، ويعقوب، والكسائي: (والكفار أولياء) بخفض الراء. وقرأ الباقون: وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ بفتح الراء (¬3). فتكون قراءة الأولين بالخفض على تقدير (من) عاطفية، أي من الذين أوتوا الكتاب ومن الكفار. وتكون قراءة الباقين بالفتح على أن (الكفار) معمول (لا تتخذوا) فتنصب به في محل المفعولية (¬4). ومؤدى قراءة أبي عمرو، والكسائي، أي كلّا من أهل الكتاب والكفار قد اتّخذوا الدين هزوا ولعبا، فيما تدلّ قراءة الباقين أن المتّصف بذلك هم أهل الكتاب وحدهم مع اشتراك القراءتين في التحذير من اتّخاذ أي من الفريقين أولياء من دون المؤمنين. ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ط دار الكاتب العربي 5/ 414. (¬2) المصدر نفسه. (¬3) تقريب النّشر في القراءات العشر لابن الجزري 18، وعبارة طيبة النّشر: ... ... ... ... وخفض والكفار ميم حما عبد (¬4) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة 230.

ثمرة الخلاف:

ثمرة الخلاف: تبدو دلالة العبارة متحدة في كلا القراءتين؛ إذ مؤداهما إلى النّهي عن موالاة الكفار واحد؛ إذا اتّخذوا ديننا هزوا ولعبا. ولكن دلالة الإشارة تختلف في الخبر؛ إذ تجعل الأولى بالخفض فريقا من الكفار منهيّا عن موالاته، وهم الذين اتّخذوا ديننا هزوا ولعبا، فيما تجعل الثانية- بالنصب- سائر الكفار منهيّا عن موالاتهم، ولو لم يظهر منهم هزؤ ولعب بديننا وشريعتنا. ولا شك أن هذا الاختصاص قيمته في التوكيد والتنبيه ليس إلا، وقد جاء التنزيل العزيز بالنهي عن موالاة سائر اليهود والنصارى وسائر المشركين في مقام آخر؛ قال الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 5/ 51]. فائدة: يتحدث بعض المؤلفين عن الولاء والعداء وكأنهما مفهومين متناقضين، بحيث لا يتصور اجتماعهما، ولا يتصور ارتفاعهما، على قواعد النقيض في المنطق، فمن لم يكن وليّا كان عدوّا، ومن لم يكن عدوّا كان وليّا (¬1). والحق أنّ إطلاق مثل هذا الفهم من غير تمييز فيه إجحاف لما فصل فيه القرآن القول؛ إذ يظهر لك من استقراء الآيات في القرآن الكريم أن مفهوم العداء والولاء من باب الضدّ وليس من باب النقيض، فالضّدان لا يتصور اجتماعهما، ولكن يتصور ارتفاعهما، بخلاف النقيضين اللذين لا يتصوّر اجتماعهما وارتفاعهما. وهكذا فإنه لا يمكن أن يجتمع العداء والولاء لأنهما ضدّان، ولكن يمكن أن يرتفعا جميعا، فهناك ولي، وهناك عدوّ، وهناك من لا يوصف بأنه ولي، ولكن لا يوصف أيضا بأنه عدو. ففي الولاء قال الله عزّ وجلّ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التّوبة: 9/ 71]. ¬

_ (¬1) انظر مثلا كتاب: العداء والولاء لعبد الله بن إبراهيم الطريقي، إصدار معهد العلوم الإسلامية والعربية في واشنطن- أمريكا.

المسألة العاشرة:

وفي العداء قال الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 60/ 1]. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: 5/ 51]. وثمة فريق ليسوا أولياء ولا أعداء، فليس أهل الكتاب سواء في عقائدهم وسلوكهم وحربهم على الإسلام، وفي التنزيل العزيز: لَيْسُوا سَواءً، مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران: 3/ 109 - 110]. فالفريق الأول أهل الولاء تتأسّس علاقتنا بهم على أساس الولاء والنّصرة. والفريق الثاني أهل العداء تتأسّس علاقتنا بهم على أساس العداء. وأما الفريق الثالث فتتأسّس علاقتنا بهم على أساس البرّ والقسط، كما قال الله سبحانه: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 60/ 6]. المسألة العاشرة: قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال: 8/ 72]. قرأ حمزة: (مالكم من ولايتهم من شيء). وقرأ الباقون: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ (¬1). وتتجه قراءة حمزة بكسر الواو إلى معنى الميراث؛ أي: ليس لكم من ميراثهم شيء حتى يهاجروا، وقد صرّح بذلك الفرّاء (¬2). وأنكر الكسائي ما ذهب إليه من تأويل قراءة الفتح بالنّصرة، وكان يقول: ولا أراه علم التفسير. ذلك أن سائر المفسّرين تأوّلوا الآية على أنها الميراث، وهو إنما يقال له ولاية وليس ولاية، أخرج عبد الرّزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه في قوله تعالى: ¬

_ (¬1) شرح ابن القاصح على الشاطبية 236 المسمى سراج القاري، وعبارة الشاطبية: ولا يتهم بالكسر فز وبكهفه ... شفا ومعا إني بياءين أقبلا (¬2) لسان العرب لابن منظور 15/ 407، مادة (ولي)، وانظر حجة القراء لأبي زرعة بن زنجلة 314.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا، قال: نزلت هذه الآية، فتوارثت المسلمون بالهجرة، فكان لا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر المسلم شيئا، حتى نسخ بعد في سورة الأحزاب: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ [الأنفال: 8/ 75]، فخلط الله بعضهم ببعض، وصارت المواريث بالملل (¬1). وبمثل هذه الرواية جمع السيوطي في الدّر المنثور روايات عن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي عبيدة، وأبي داود، وابن أبي حاتم (¬2). وأما القراءة بالفتح فإن الغالب ورودها بمعنى النصرة، ولكن جمهور المفسرين اختاروا أنها بمعنى الإرث لوجوه ثلاثة: أولها: أن سياق الآيات إنما هو في قضايا تتصل بالإرث، وقد جاءت الآية الخاتمة في السورة بردّ الإرث إلى أولي الأرحام، بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: 8/ 75]. ثانيها: لو كانت الآية بمعنى النّصرة لوجب أن تكون: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لهم من ولايتكم من شيء)، إذ هي خطاب تكليفي للمؤمنين، فلما جاءت الصيغة عكس ذلك؛ دلّ على أنها في غير النّصرة ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ. ثالثها: الرواية عن الصحابة، وقد قدمت لك طرفا مما جمعه السيوطي في ذلك (¬3)، وأنها نزلت فيما كان من التوارث بين المؤمنين، فنسخ بردّ المواريث إلى القرابات. ومع ذلك فقد اختار أبو بكر الأصم أن الآية محكمة غير منسوخة، وأن المراد بالولاية النّصرة والمظاهرة (¬4). ونقل القرطبي نقلا غير معزو لأحد أنه ليس في الآية نسخ، إنما هي بمعنى النّصرة والمعونة (¬5). ¬

_ (¬1) الدّر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 3/ 206، وأراد بقوله الملل أن لا يرث كافر مسلما. (¬2) المصدر نفسه. (¬3) الدّر المنثور في التفسير بالمأثور 3/ 206. (¬4) التفسير المنير للدكتور الزحيلي 10/ 82. (¬5) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/ 56.

ثمرة الخلاف:

ثمرة الخلاف: وتظهر ثمرة الخلاف في أن الله عزّ وجلّ أسقط عن المسلم الذي لم يهاجر حقّ النّصرة وحقّ الميراث، فمن جزم أن الكسر يدلّ على الميراث وجبه أن يقبل الفتح أيضا دليلا على النّصرة لثبوت التواتر، وهكذا فلا سبيل إلى القول بأن الآية في نفي التوارث فقط بدليل قراءة الكسر، بل لا بدّ من نفي النّصرة أيضا بدليل قراءة الفتح المتواترة. وأما من جعلهما لغتين في النصرة كأبي حاتم الأصم، وابن بري، ومن قبلهم سيبويه الذي قال: الولاية بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم؛ مثل الإمارة والنّقابة (¬1)، فإن مذهبهم هذا يجعل الخلاف هنا بلا ثمرة لأنهما لغتان في معنى واحد. وأظهر تطبيقات ثمرة الخلاف هنا إلزام الكسائي بقبول دلالة الآية على نفي التوارث لأنه كان يجزم بالنّصب على معنى النّصرة، فحيث ثبت التواتر في قراءة الكسر وجب إلزامه بها أيضا. قال الفرّاء: ما لكم من ولايتهم من شيء، أي ما لكم من مواريثهم من شيء، فكسر الواو هنا أعجب إليّ من فتحها؛ لأنها إنما تفتح أكثر ذلك إذا أريد بها النّصرة، وقال: كان الكسائي يفتحها، ويذهب بها إلى النّصرة، وقال الأزهري: ولا أظنه علم التفسير أي الروايات (¬2). المسألة الحادية عشرة: قوله تعالى: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [محمد: 47/ 35]. قرأ حمزة، وشعبة، وخلف: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السّلم) بكسر السين. وقرأ الباقون: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ بفتح السين (¬3). ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور 15/ 407، مادة ولي. (¬2) المصدر نفسه. (¬3) تقريب النّشر في القراءات العشر لابن الجزري 174. وعبارة طيبة النّشر: ... ... ... ... ... وفتح السلم حرم رشفا عكس القتال ... ... ... ... ... ... فقد أخبر ابن الجزري أن القراء قرءوا في البقرة بالفتح، وعكسوا في سورة القتال، أي سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم.

وأهل التأويل متفقون في هذا الموطن على أنهما لغتان لمعنى واحد، وهو الاستخذاء، والاستسلام، والانقياد (¬1)، وإن اختلفوا في غيره من المواطن (¬2). فقد مرّ بك في تأويلهم لقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً (¬3) أن تعدد القراءات هنا يلزم منه تعدد المعاني، فهي في البقرة دعوة إلى الدخول في الإسلام، وإلى الدخول في المصالحة (¬4)، فكل قراءة أدت معنى منهما. وهكذا فإن اتفاقهم في هذا الموطن على توحيد معنى السلم بالكسر والفتح؛ يجعل تعدّد القراءات هنا بغير ثمرة ظاهرة من جهة تحرير الحكم الشرعي. ولكنني أوردت هذه الآية لأنبّه إلى أمرين اثنين: الأول: نقل أبو زرعة في حجة القراءات أن (السّلم) بالكسر الإسلام (¬5)، وأشار إلى تواتر هذه القراءة! وهذا النقل من أبي زرعة عجيب؛ إذ يكون مؤدّى الآية حينئذ النّهي عن الدعوة إلى الإسلام، وهو قول غريب لا يمكن أن يصدر عن أحد من أهل العلم. وقد تلمست معرفة سبب ذلك النقل ومصدره، فلم أجد في ذلك إشارة لسابق أو تبريرا للاحق، وتلمست له تأويلا يجعل الواو هنا حالية لا عاطفة على معنى: (فلا تهنوا وأنتم تدعون إلى السلم) ولكن ذلك لا يستقيم مع الجزم في (وتدعوا) الذي هو قراءة سائر العلماء والقراء! وبعد بحث استغرق وقتا طويلا فإني أقول في هذا المقام: تبارك الذي لم يكتب العصمة إلا لكتابه، وجلّ من لا يسهو ولا ينسى، وهذا أبو زرعة على جلالة علمه وعظيم تحصيله وقع في خطأ يتنزّه عنه صغار الطلبة (¬6)، فيجب التنبيه على ذلك، والكامل الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ¬

_ (¬1) لسان العرب لابن منظور 12/ 293، مادة سلم. وانظر الكشاف للزمخشري 3/ 539. (¬2) انظر 321 من هذا البحث؛ حيث حررنا اختلافهم في تحديد معنى السّلم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً. (¬3) المصدر نفسه، والصفحة نفسها. (¬4) وهو اختيار قتادة من التابعين كما قدمناه. (¬5) حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة 670. (¬6) أغلب الظّن أن ذلك خطأ من الناسخ؛ إذ كتب الإسلام بدلا من الاستسلام. ولكن ذهل عنه المحقق أيضا.

الثاني: هل يلزم من هذه الآية النهي عن السلم مطلقا بحيث تحرم المهادنة بين المسلمين والمشركين في كل حال، فتكون هذه الآية ناسخة لآية البقرة الداعية إلى الدخول في السلم كافّة؟ أم هل تكون آية البقرة الداعية إلى الدخول في السلم ناسخة لهذه الآية في دلالتها على تحريم الدعوة إلى السلم؟ الجواب على ذلك وبالله التوفيق أن النسخ هنا غير متوجه؛ إذ لم تكتمل آلته وشروطه، فمن شرط النسخ معرفة المتقدم، وعدم إمكان الجمع بين النّصّين. وهاهنا فإن معرفة المتقدم والمتأخر من النّصّين غير متحققة بيقين، أما الجمع بين النّصّين فهو ممكن غير متعذّر، وقد تكفّل أستاذنا الزحيلي في التفسير المنير ببيانه حيث قال: لا تجوز الدعوة إلى السّلم والمصالحة أو المهادنة تذلّلا، وإظهارا للضعف ما دام المسلمون أقوياء، وإن حدثت الغلبة من الأعداء في الظاهر في بعض الأحوال، فإن الله ناصر المؤمنين، ولن ينقصهم شيئا من أعمالهم. فإذا عجز المسلمون لضعفهم عن مقاومة الأعداء جازت مهادنة الكفار عند الضرورة. وكذلك إذا رأى الإمام مصلحة في المهادنة؛ فله أن يفعل ذلك، كما فعل النّبي صلّى الله عليه وسلّم في صلح الحديبية مع المشركين مدة عشر سنين. أما إن طلب المشركون الصّلح بحسن نيّة من غير خداع فلا بأس بإجابتهم، لقوله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وعلى هذا يكون كل من الآيتين- فَلا تَهِنُوا، وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ- محكمة وغير منسوخ إحداهما بالأخرى كما قال بعضهم، فهما نزلتا في وقتين مختلفي الحال، فالأولى في حال قوة المسلمين، والثانية حال طلب الأعداء للصلح (¬1). وشبيه بهذا الرأي ما حرره الشوكاني في فتح القدير بقوله: «فلا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنّسخ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السّلم ابتداء، ولم ينه عن قبول السّلم إذا جنح إليه المشركون، فالآيتان محكمتان، ولم يتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النّسخ أو التّخصيص» (¬2). ¬

_ (¬1) التفسير المنير للدكتور الزحيلي 26/ 135. (¬2) فتح القدير للشوكاني 5/ 41.

المبحث السادس في الأيمان

المبحث السادس في الأيمان المسألة الأولى: قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النّساء: 4/ 1]. قرأ حمزة: (والأرحام) بالخفض. وقرأ الباقون: وَالْأَرْحامَ بالنصب (¬1). وتتجه قراءة حمزة إلى العطف على تقدير الخافض أي: تسألون به وبالأرحام، فيما يرى سائر القرّاء لزوم النّصب على تقدير: واتّقوا الله أن تعصوه واتّقوا الأرحام أن تقطعوها. وقد ثار خلاف قديم حول قراءة حمزة قبل ثبوت تواترها، فأنكرها جماعة من المفسّرين والنّحاة. قال الزّجاج: الخفض في (الأرحام) خطأ في العربية، لا يجوز إلا في اضطرار الشعر، وخطأ في الدين لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تحلفوا بآبائكم» (¬2)، ثم ناقش الأمر من جهة اللغة، فقال: أما العربية فإجماع النّحويين أنه يقبح أن ينسق باسم ظاهر على اسم مضمر في حال الخفض إلا بإظهار الخافض، فلا تقول: مررت به وزيد، ومررت بك وزيد، إلا مع إظهار الخافض: مررت بك وبزيد (¬3). وقال المازني: الثاني في العطف شريك الأول، فإن كان الأول يصلح أن يكون شريكا ¬

_ (¬1) سراج القاري لابن القاصح العذري 188. وعبارة الشاطبية: وكوفيهم تساءلون مخففا ... وحمزة والأرحام بالخفض جملا (¬2) أخرجه الجماعة عن ابن عمر إلا النّسائي، وتمامه: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفا، فليحلف بالله أو ليصمت» وهو صحيح، انظر نيل الأوطار للشوكاني 8/ 227. (¬3) حجة القراءات لأبي زرعة 188.

للثاني، وإلا لم يصلح أن يكون الثاني شريكا له، فكما لا تقول: (مررت بزيد وبك) فكذلك لا تقول: (مررت بك وزيد) (¬1). وقد اشتدّ قوم في إنكار قراءة حمزة، حتى قال المبرد: «لو صلّيت خلف إمام يقرأ: (واتّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) لأخذت نعلي ومضيت» (¬2). ولا يخفى أن هذا الإنكار إنما يسمع قبل ثبوت التواتر، أمّا بعد ثبوته فإن أعظم حجة في العربية إنما هي ورودها في التنزيل وقراءة النّبي صلّى الله عليه وسلّم لها. وقد احتجّ من قرأ بالخفض بتواتر الإسناد، وهو أقوى الأدلة بلا مراء، وكذلك احتجّوا بأن عبد الله بن مسعود كان يقرؤها: (واتّقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام) (¬3) على سبيل التفسير والإيضاح. كذلك فإن إنكار عطف الظاهر على المضمر ليس في مطلق الأحوال، وإنما ينكر عطف الظاهر على المضمر إذا لم يجر له ذكر، فتقول: (مررت به وزيد)، فذلك غير مستقيم، أما إن تقدم للهاء ذكر فهو حسن، وذلك مثل: (عمرو مررت به وزيد)، فكذلك الهاء في قوله: تَسائَلُونَ بِهِ تقدم ذكرها، وهو قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ (¬4). وأما ورود ذلك في الشعر فهو غير منكر مطلقا كقول الأعشى: فاليوم أصبحت تهجونا وتشتمنا ... فاذهب .. فما بك والأيام من عجب (¬5) ويجاب أيضا عن دعوى ردّ قراءة حمزة، بأن تحريم الحلف بغير الله ليس محلّ إجماع، بل ¬

_ (¬1) حجة القراءات لأبي زرعة 188. (¬2) كذا نقله القرطبي في الجامع 5/ 3. (¬3) معجم القراءات القرآنية 2/ 104. وانظر الإملاء للعكبري 1/ 96، والجامع لأحكام القرآن 5/ 5، والكشاف للزمخشري 1/ 241. (¬4) حجة القراءات لأبي زرعة 188. (¬5) المصدر نفسه، وفي الحاشية قال سعيد الأفغاني، اختلف في قائل البيت بين الأعشى، وليس في ديوانه، وعمرو بن معديكرب، وخفاف بن ندبة.

الإجماع أنه لا ينعقد (¬1)، وعدم انعقاده شيء، ومنع التّلفظ به شيء آخر، وفرق كبير بين المسألتين. إلى ذلك فقد روى الشيخان وأحمد عن طلحة بن عبيد الله أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم: أتاه أعرابي فسأله مسائل ... فلما انصرف قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفلح وأبيه إن صدق» (¬2). واستدلوا لذلك بما جاء في القرآن من قسم بالنّبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله سبحانه: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 15/ 72]. وكذلك في قوله: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 36/ 2]. وَالصَّافَّاتِ صَفًّا* فَالزَّاجِراتِ زَجْراً* فَالتَّالِياتِ ذِكْراً [الصّافّات: 37/ 1 - 3]. وَالذَّارِياتِ ذَرْواً* فَالْحامِلاتِ وِقْراً* فَالْجارِياتِ يُسْراً [الذّاريات: 51/ 1 - 3]. وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التّين: 95/ 1 - 3]. ومثل ذلك في القرآن كثير، ولم يرد مخصص ظاهر في هذا السبيل، وفي حديث أبي العشراء قال صلّى الله عليه وسلّم: «وأبيك .. لو طعنت في فخذها لأجزأك» (¬3). ولكن الفقهاء يرون أن المخصّص هو السّنة، فقد ثبت في الصحيحين أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أدرك عمر بن الخطاب في ركب، وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» (¬4)، وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته. وأجابوا عن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أفلح وأبيه إن صدق» بأنه ورد قبل النهي عن الحلف بالآباء، وكذلك حديث أبي العشراء (¬5). ¬

_ (¬1) انظر موسوعة الفقه الإسلامي وأدلّته للدكتور الزحيلي 3/ 387. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الأيمان، الباب الثامن، حديث (9)، وهو في طبعة دار المعرفة 5/ 80. وكذلك أخرجه أحمد في مسنده 1/ 162. (¬3) رواه أحمد بن حنبل 4/ 334، وأورده من رواية حماد بن سلمة ودون لفظ وأبيك، في الصفحة نفسها. (¬4) حديث صحيح أخرجه الجماعة إلا النّسائي عن ابن عمر. انظر نيل الأوطار للشوكاني 8/ 277. (¬5) انظر المغني لابن قدامة 8/ 678.

وهذا النهي يؤدي بالإجماع إلى عدم انعقاد اليمين، ولكن هل يدل على تحريمه؟ لا خلاف إن قصد تعظيم المحلوف به وتقديسه وإحلاله محلّ الله عزّ وجلّ، فهو شرك وكفر، وعليه تحمل الأحاديث الشديدة في ذلك (¬1): «من حلف بغير الله فقد أشرك» (¬2)، «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت» (¬3). أما إن كان مما يجري به اللسان، ولا يقصد المرء إيقاعه، فغاية القول فيه أن لا ينعقد، وقد كرهه الفقهاء، وقال الشافعي: أخشى أن يكون معصية، ولا يجب عليه كفارة (¬4). ونقل الزحيلي الإجماع على عدم انعقاده بقوله: «إذا حلف الإنسان بغير الله تعالى كالإسلام، أو بأنبياء الله تعالى، أو بملائكته ... ، أو بالصحابة، أو بالسماء، أو بالأرض، أو بالشمس، أو بالقمر والنجوم ونحوها؛ مثل: لعمرك، وحياتك، وحقك؛ فلا يكون يمينا بإجماع العلماء وهو مكروه» (¬5). واختار الشافعية كذلك المنع من الحلف بغير الله؛ قال السيد البكري: «لا ينعقد اليمين إلا باسم خاص بالله تعالى أو صفاته: والله، والرّحمن، والإله، وربّ العالمين، وخالق الخلق». ثم قال: «فإذا قصد تعظيم المحلوف به فقد كفر لخبر: «من حلف بغير الله فقد كفر» (¬6)، فإن لم يقصد ذلك أثم، وهذا مذهب أكثر العلماء أي تبعا لنصّ الشافعي الصريح فيه (¬7)، كذا قاله بعض شرّاح المنهاج (¬8)، والذي في شرح مسلم (¬9) عن أكثر أصحاب الشافعي الكراهة، وهو المعتمد، ¬

_ (¬1) انظر موسوعة الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي 3/ 388 الحاشية. (¬2) رواه أحمد عن ابن عمر، وهو حسن، انظر سبل السلام 2/ 167، ولم يبلغ الحديث رتبة الصحيح التي تستقل بتشريع الأحكام. (¬3) رواه مسلم برقم 1648 في كتاب الأيمان بصيغة: «لا تحلفوا بالطواغيت ولا بآبائكم». وفي رواية النّسائي: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت». انظر جامع الأصول 12/ 655. (¬4) مغني المحتاج 4/ 320. وانظر كذلك إعانة الطالبين للسيد البكري 4/ 313. (¬5) الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور الزحيلي 3/ 288. (¬6) انظر تخريجه في الصفحة السابقة نقلا عن سبل السلام للصنعاني 2/ 167. (¬7) انظر الحاشية رقم 4 السالفة. (¬8) أي منهاج الطالبين. (¬9) أي شرح الإمام النووي على صحيح مسلم.

وإن كان الدليل ظاهرا في الإثم، قال بعضهم: وهو الذي ينبغي العمل به في غالب الأعصار» (¬1). وكذلك فقد ردّ الشافعية على من استدلّ بما في القرآن من القسم بالمخلوقين، قال البكري: «ولا يرد على ذلك أنه ورد في القرآن الحلف بغير الله تعالى، كقوله تعالى: والشمس، والضحى، لأنه على حذف مضاف، أي: وربّ الشمس مثلا، أو أن ذلك خاص به تعالى، فإذا أراد سبحانه تعظيم شيء من مخلوقاته أقسم به، وليس لغيره ذلك» (¬2). واكتفى الحنفية بأن نصّوا على عدم انعقاد اليمين بغير الله، من دون إشارة إلى التأثيم في ذلك، قال القدوري الحنفي في الكتاب: «ومن حلف بغير الله لم يكن حالفا، كالنّبي والقرآن والكعبة» (¬3). وقال ابن قدامة في المغني: ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء، وسائر المخلوقات، ولا تجب الكفارة بالحنث (¬4). وردّ ابن قدامة على استدلال الأولين بالأيمان في القرآن بقوله: «فأما قسم الله بمصنوعاته فإنما أقسم به دلالة على قدرته وعظمته، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، ولا وجه للقياس على إقسامه، وقد قيل: إن في إقسامه إضمار القسم بربّ هذه المخلوقات، فقوله: وَالضُّحى أي وربّ الضّحى. وأما قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفلح وأبيه إن صدق» فقال ابن عبد البر: هذه اللفظة غير محفوظة من وجه صحيح، فقد رواه مالك وغيره من الحفاظ، فلم يقولوها فيه، وحديث أبي العشراء قد قال أحمد: لو كان يثبت، ولهذا لم يعمل به الفقهاء في إباحة الذبح في الفخذ، ثم لو ثبت فالظاهر أن النّهي بعده لأن عمر قد كان يحلف بها كما قد حلف بها النّبي صلّى الله عليه وسلّم ثم نهى عنها، ولم يرد بعد النّبي إباحته (¬5). ولكن سائر ما قدمه المعترضون لا ينهض حجة في وجه القراءة المتواترة؛ إذ هي أقوى دليلا ¬

_ (¬1) فتح المعين للسيد البكري 4/ 313 حاشية. (¬2) إعانة الطالبين على فتح المعين 4/ 313. (¬3) الكتاب للقدوري الحنفي، وهو مطبوع متنا في رأس: اللباب في شرح الكتاب 4/ 5. (¬4) المغني لابن قدامة 8/ 704. (¬5) المغني لابن قدامة 8/ 678.

ثمرة الخلاف:

من ذلك كله، وبها يستدل لا عليها؛ إذ قد ثبت قطعا تواترها إلى المعصوم صلّى الله عليه وسلّم إلى الروح الأمين، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. وأجود الأقوال في الجمع بين النصوص قول من قال: إن الآية لم تأت في القسم بغير الله، وإنما أتت في التساؤل بغير الله، والتساؤل غير القسم، وهو كقولهم: أسألك بالله وبالرّحم، فهي استعطاف وليس يمينا (¬1). وقد وردت هذه الأقوال عن ابن عباس، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، كما حرر أقوالهم السيوطي في الدّر المنثور (¬2). قال القشيري في الإنكار على من ردّ قراءة حمزة: «ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القرّاء ثبتت عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم تواترا يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شيء عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم فمن ردّ على ذلك ردّ على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، واستقبح ما قرأ به، وهذا مقام محذور ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو، فإن العربية تتلقى من النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يشك أحد في فصاحته، ثم إن النّهي إنما جاء في الحلف بغير الله، وهذا توسل إلى الغير بحقّ الرحمن فلا نهي فيه» (¬3). ثمرة الخلاف: أن كلّا من القراءتين المتواترتين أفاد حكما جديدا جديرا بالاعتبار. فقراءة حمزة أفادت جواز التساؤل بالرّحم، والاستعطاف بالآباء، وهو قول مروي عن ابن عباس، ومجاهد بن جبر، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وغيرهم. وهو معنى يتصل بتعظيم الرّحم، والنّهي عن قطيعتها. وقراءة الجمهور أفادت وجوب تقوى الله في صلة الأرحام، وهو أصل من أصول الدين تضافرت في الدلالة عليه الآيات والآثار. وهل جواز التساؤل بغير الله، والاستعطاف بالآباء والأرحام أمر تكويني أم أمر تكليفي؟ ¬

_ (¬1) ومثل ذلك حديث عمرو بن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول إذا قضى صلاته: «اللهم إني أسألك بحقّ السائلين عليك». قال الديلمي: عمرو بن عطية العوفي ضعفه الدارقطني. انظر كنز العمال 2/ 642. (¬2) الدّر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 2/ 117. (¬3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 3.

المسألة الثانية:

ظاهر الآية أنه تكويني، ولكن لما لم يرد عليه حظر دلّ على أنه من باب ما أقرّه الشارع؛ إذ الدواعي متوافرة لإنكاره لو كان يستوجب الإنكار. ولم يتعرض الإمامان الجليلان الرازي الجصاص، وابن العربي إلى اختلاف القراءة في هذه الآية، وقد أوردا أحكامها وفق قراءة النصب لا غير (¬1). المسألة الثانية: قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [المائدة: 5/ 89]. قرئت على ثلاثة أوجه: عقّدتم، وعقدتم، وعاقدتم. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وشعبة: (عقدتم الأيمان). وقرأ ابن ذكوان: (عاقدتم الأيمان). وقرأ الباقون: عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ (¬2). والقراءات الثلاثة تتجه إلى تقرير عدم المؤاخذة بيمين اللغو، وقصر المؤاخذة على اليمين المعقودة، وهي المعبّر عنها بالصّيغ الثلاث الآنفة. فتكون رواية ابن ذكوان عن ابن عامر على جهة أن اليمين المنعقدة هي التي تكون من اثنين، دلّت ذلك ألف المفاعلة في قراءتهم (عاقدتم الأيمان)، ولا خلاف بين الأئمة في قبول مدلول هذه القراءة، ولكن يلزم ابن عامر أن يقبل مدلول قراءة الآخرين لثبوت التواتر. وتكون قراءة أهل الكوفة بالتخفيف دالّة على أن الكفارة تلزم الحانث إذا عقد يمينا بحلف مرة واحدة، وهذا الحكم محل إجماع من الأمة بلا خلاف، إلا قولا روي عن ابن عمر، وتسابق النّقاد إلى إنكار نسبته إليه (¬3). ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن للرازي الجصاص 1/ 307. أحكام القرآن للقاضي ابن العربي المالكي 2/ 46. (¬2) تقريب النّشر في القراءات العشر لابن الجزري 108، وفيه أن الذي قرأ بألف المفاعلة ابن ذكوان وحده عن ابن عامر، وهو المحفوظ الذي دلّت عليه الطّيبة، ولكن في حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة أن ابن عامر قرأ بذلك، ومنه يفهم أن راويي ابن عامر على ذلك. وعبارة الطيبة: عقدتم المد منا وخففا ... من صحبة جزاء تنوين كفا (¬3) انظر فقرة ثمرة الخلاف صفحة 358.

وأما قراءة أهل الكوفة بالتشديد فلا ينبغي أن تتجه إلى تكرار اليمين كما نقله أبو زرعة (¬1)، فهذا خلاف المجمع عليه من الفقهاء أن اليمين تنعقد بمرة واحدة كما في قراءة عقدتم بالتخفيف، ولا حاجة لترديدها المرة بعد المرة. فينبغي إذن أن يكون معنى التشديد في هذا المقام هو التوكيد، وهذا التوكيد يكون بجزم القلب كما يعرف من أمارات ذلك، قال الله عزّ وجلّ: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها [النّحل: 16/ 91]. ولو سلّمنا بأن التّشديد هنا يفيد تكرار اليمين المرة بعد المرة، فإن ذلك لا يسقط وجوب الكفارة في اليمين المنعقدة إذا لم تكرر؛ إذ إن ذلك دلّت له القراءة المتواترة بالتخفيف التي يلزم قبولها عند سائر الأئمة. كما يمكن أن يكون التشديد في هذا المقام زيادة مبنى، وهو إشارة إلى زيادة المعنى، على وفق قاعدة الأصوليين: زيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى، فمقتضى قراءة التخفيف عقد اليمين الذي هو قصد القلب، وتحقق النّية، وتكون دلالة قراءة التشديد في التوكيد على حصول هذا القصد جزما، وتحققه يقينا. واختار الرازي الجصاص كذلك إعمال القراءات جميعا فنصّ على أن قراءة التخفيف (عقدتم) محمولة على إقرار اللسان بما عقده القلب، ثم أشار أن الإعمال للظاهر، وهو لفظ اللسان لا قصد القلب، وأما قراءة عَقَّدْتُمُ بالتشديد فقد أشار أنها أفادت حكما جديدا؛ وهو أنه متى أعاد اليمين على وجه التكرار لا تلزمه إلا كفارة واحدة، وأما قراءة (عاقدتم) فقد أشار إليها ولم يعلق عليها، وفيما يلي عبارة الرازي رحمه الله: «وقد قرئ قوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ على ثلاثة أوجه: عَقَّدْتُمُ بالتشديد قد رآه جماعة، و (عقدتم) خفيفة، و (عاقدتم). فقوله تعالى: عَقَّدْتُمُ بالتشديد كان أبو الحسن يقول: لا يحتمل إلّا عقد قول (وعقدتم) بالتخفيف يحتمل عقد القلب، وهو العزيمة والقصد إلى القول، ويحتمل عقد اليمين قولا، ومتى احتمل إحدى القراءتين ¬

_ (¬1) انظر حجة القراءات لأبي زرعة 234.

القول، واعتقاد القلب، ولم يحتمل الأخرى إلا عقد اليمين قولا وجب حمل ما يحتمل وجهين على ما لا يحتمل إلا وجها واحدا، فيحصل المعنى من القراءتين عقد اليمين قولا، ويكون حكم إيجاب الكفارة مقصورا على هذا الضرب من الأيمان، وهو أن تكون مقصودة، ولا تجب في اليمين على الماضي لأنها غير مقصودة، وإنما هو خبر عن ماض، والخبر عن الماضي ليس بعقد سواء كان صدقا أو كذبا، فإن قائل قائل: إذا كان قوله تعالى: (عقدتم) بالتخفيف يحتمل اعتقاد القلب، ويحتمل عقد اليمين، فهلا حملته على المعنيين إذ ليسا متنافيين، وكذلك قوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ بالتشديد محمول على عقد اليمين، فلا ينفي ذلك استعمال اللفظ في القصد إلى اليمين، فيكون عموما في سائر الأيمان، قيل له: لو سلم لك ما ادّعيت من الاحتمال لما جاز استعماله فيما ذكرت، ولكانت دلالة الإجماع مانعة من حمله على ما وصفت، وذلك أنّه لا خلاف أن القصد إلى اليمين لا يتعلق به وجوب الكفارة، وإن حكم بإيجابها متعلق باللفظ دون القصد في الأيمان التي يتعلق بها وجوب الكفارة، فبطل بذلك تأويل من تأوّل اللفظ على قصد القلب في حكم الكفارة، وثبت أن المراد بالقراءتين جميعا في إيجاب الكفارة هو اليمين المعقودة على المستقبل، فإن قال قائل: قوله: عَقَّدْتُمُ بالتشديد يقتضي التكرار، والمؤاخذة تلزم من غير تكرار فما وجه اللفظ المقتضي للتكرار مع وجوب الكفارة في وجودها على غير وجه التكرار؟ قيل له: قد يكون تعقيد اليمين بأن يعقدها في قلبه ولفظه، ولو عقد عليها في أحدهما دون الآخر لم يكن تعقيدا؛ إذ هو كالتعظيم الذي يكون تارة بتكرير الفعل والتضعيف، وتارة بعظم المنزلة، وأيضا فإن في قراءة التشديد إفادة حكم ليس في غيره، وهو أنه متى أعاد اليمين على وجه التكرار أنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة، وكذلك قال أصحابنا فيمن حلف على شيء ثم حلف عليه في ذلك المجلس أو غيره، وأراد به التكرار لا يلزمه إلّا كفارة واحدة. فإن قيل: قوله: (بما عقدتم) بالتخفيف يفيد أيضا إيجاب الكفارة باليمين الواحدة. قيل له: القراءتان والتكرار جميعا مستعملتان على وصفنا، ولكل واحدة منهما فائدة محددة» (¬1). وكذلك فإن العلامة ابن العربي المالكي أورد القراءات الثلاث محتجّا بها جميعا، وأشار إلى ضعف قراءة التخفيف على عادته في توهين ما انفرد بروايته الكوفيّون، ثم اتّخذ من التأويل سبيلا لإعمال سائر المروي في ذلك وعبارته: قوله تعالى: عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فيه ثلاث قراءات: عقّدتم ¬

_ (¬1) أحكام القرآن- الجصاص 2/ 455.

بتشديد القاف، وعقدتم بتخفيف القاف، وعاقدتم بالألف، فأما التخفيف فهو أضعفها رواية وأقواها معنى، لأنه فعلتم من العقد وهو المطلوب، وإذا قرئ عاقدتم فهو فاعلتم، وذلك يكون من اثنين، وقد يكون الثاني من حلف لأجله في كلام وقع معه، وقد يعود ذلك إلى المحلوف عليه فإنه ربط به اليمين، وقد يكون فاعل بمعنى فعل كقولك: طارق النمل، وعاقب اللص في أحد الوجهين في اللص خاصته. وإذا قرئ عقّدتم بتشديد القاف فقد اختلف العلماء في تأويله على أربعة أقوال: الأول: قال مجاهد: تعمّدتم. الثاني: قال الحسن: معناه ما تعمّدت به المأثم فعليك فيه الكفارة. الثالث: قال ابن عمر: التشديد يقتضي التكرار، فلا تجب عليه الكفارة إلا إذا كرر اليمين. الرابع: قال مجاهد: التشديد للتأكيد، وهو قوله: والله الذي لا إله إلا هو. قال ابن العربي: أما قول مجاهد: ما تعمدتم فهو صحيح، يعني ما قصدتم إليه احترازا من اللّغو. وأما قول الحسن: ما تعمّدتم فيه المأثم فيعني به مخالفة اليمين (الحنث)، فحينئذ تكون الكفارة، وهذان القولان حسنان يفتقران إلى تحقيق. وهو بيان وجه التشديد، فإن ابن عمر حمله على التكرار. وهو قول لم يصح عنه عندي لضعفه. فقد قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الذي هو خير وكفّرت عن يميني (¬1). فذكر وجوب الكفارة في اليمين التي لم تتكرر. وأما قول مجاهد: إن التشديد في التأكيد محمول على تكرار الصفات؛ فإن قولنا: (والله) يقتضي جميع أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، فإذا ذكر شيئا من ذلك؛ فقد تضمنه قوله (والله). فإن قيل: فما فائدة التغليظ بالألفاظ؟ قلنا: لا تغليظ عندنا بالألفاظ، وقد تقدم بيانه، وإن غلظنا فليس على معنى أنّ ما ليس بمغلظ ليس بيمين، ولكن على معنى الإرهاب على الحالف. فإنه كلما ذكر بلسانه الله تعالى حدث له غلبة حال من الخوف. وربما اقتضت له رعدة، وقد ¬

_ (¬1) رواه البخاري في كتاب الأيمان باب قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، ورواه مسلم رقم 1649 في الأيمان باب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، ورواه كذلك أبو داود، والنّسائي.

وثمرة الخلاف:

يرهب بها على المحلوف له، كقوله صلّى الله عليه وسلّم لليهود: والله الذي لا إله إلّا هو، فأرهب عليهم بالتوحيد؛ لاعتقادهم أن عزيرا ابن الله. والذي يتحصل من ذلك أنّ التشديد على وجه صحيح، فإن المرء يعقد على المعنى بالقصد إليه، ثم يؤكد الحلف بقصد آخر، فهذا هو العقد الثاني الذي حصل به التكرار أو التأكيد، بخلاف اللغو فإنه قصد اليمين، وفاته التأكيد بالقصد الصحيح إلى المحلوف عليه» (¬1). وثمرة الخلاف: تظهر في إعمال القراءات المتواترة الثلاثة إذ لا يجوز إهمال أيّ منها، فيثبت بذلك أن المؤاخذة تكون من الله عزّ وجلّ في الأيمان المنعقدة، سواء عقدها الحالف مرة واحدة، وهو مقتضى قراءة التخفيف، أو كررها ووكّدها، وهو مقتضى قراءة التضعيف، أو تواثق بها مع شركائه ونظرائه، فكان عقدها اشتراكا بين اثنين، وهي قراءة عاقدتم. ففي كلّ كفارة على الحانث، وتأثيم على الناكث، إلا إلى معروف (¬2). لكن روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن التشديد يقتضي التكرار، فلا تجب الكفارة إلا إذا كرر، وهذا يردّه قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إني- والله-، إن شاء الله- لا أحلف على يمين، فأجد غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير، وكفّرت عن يميني» فذكر وجوب الكفارة في اليمين التي لم تتكرر (¬3). ولكن لا حاجة إلى الاستدلال بذلك بعد ثبوت تواتر القراءة؛ إلا لمن لم يفهم معنى التكرار من تضعيف الفعل في هذا المقام. كما إن رفع القول هذا إلى ابن عمر محل ريبة، فقد قال ابن العربي المالكي: ما روي عن ابن عمر أنه محمول على التكرار قول لم يصح عندي لضعفه. ثم أورد الحديث السالف في الرّد على الرواية (¬4). ¬

_ (¬1) أحكام القرآن ابن العربي 2/ 643. (¬2) الاستثناء هنا لآخر مذكور. (¬3) أخرجه البخاري، كتاب الأيمان، باب 31، وأحمد في مسنده 4/ 398، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب الأيمان باب 7. (¬4) أحكام القرآن لابن العربي المالكي 2/ 644.

المبحث السابع في الأقضية

المبحث السابع في الأقضية المسألة الأولى: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [الحجرات: 49/ 6]. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (فتثبّتوا). وقرأ الباقون: فَتَبَيَّنُوا (¬1). وبمثل ذلك قرءوا في سورة النّساء في قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النّساء: 4/ 94]، وقد قدّمنا طرفا من تأويل هذه الآية في مطلب الجهاد (¬2). وأما آية الحجرات هذه فقد أخرج ابن جرير الطبري في سبب نزولها عن ثابت مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا في صدقات بني المصطلق بعد الوقعة، فسمع بذلك القوم، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي: خرجوا لاستقباله في موكب مهيب، فحدّثه الشيطان أنهم يريدون قتله، فرجع إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم! .. فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبلغوا القوم رجوعه فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصفوا له حين صلّى الظهر، فقالوا: نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله، بعثت إلينا رسولك، فسررنا بذلك، وقرّت به أعيننا، ثم إنه رجع من بعض الطريق، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله، فما زالوا يكلّمونه حتى جاء بلال، وأذّن بصلاة العصر، ونزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (¬3). ¬

_ (¬1) تقريب النّشر في القراءات العشر لابن الجزري 107. وعبارة الطيبة: ... ... ... ... تثبتوا شفا من الثبت معا مع حجرات ومن البيان ... ... ... ... (¬2) انظر 321 من هذا الكتاب. (¬3) جامع البيان للطبري 26/ 76.

ولا شك أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي ذلك قال الحسن البصري رضي الله عنه: «فو الله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة، إنها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء» (¬1). والتّثبّت والتّبيّن معنيان متقاربان في المرادف اللغوي، ولكن غلب إطلاق الأول على التّحقّق من الذّوات والشخوص، وغلب إطلاق الثاني على التّحقّق من الأحداث والفعال، وكلاهما من مهمة القاضي العادل. وقد كان لهذه التوجيهات أعظم الأثر في إصلاح النظام القضائي، وإيجاد قضاء عادل حرّ نزيه في المجتمع الإسلامي. وأورد لك فيما يلي طرفا من التوجيهات النّبوية التي جاءت مؤكدة لمسئولية القاضي في التّحقّق والتّثبّت والحكم بالعدل. أخرج الترمذي عن عبد الله بن أبي أوفى؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار تخلى عنه، ولزمه الشيطان» (¬2). وأخرج أبو داود في سننه عن بريدة بن الحصيب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحقّ وقضى به، ورجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النّار» (¬3). وفي بيان عظيم مسئولية القاضي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من جعل قاضيا بين الناس، فقد ذبح بغير سكين» (¬4). ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/ 320. (¬2) أخرجه التّرمذي، وقال حديث حسن غريب، ورقمه في كتابه 1330 كتاب الأحكام، ورواه كذلك الطبراني عن ابن مسعود، قال الأرناءوط: إسناده ضعيف، انظر جامع الأصول 10/ 170. (¬3) أخرجه أبو داود في كتاب الأقضية برقم 3573، باب القاضي يخطئ، وهو حديث صحيح. (¬4) رواه أبو داود برقم 3571 و 3572 في كتاب الأقضية، والترمذي في كتاب الأحكام برقم 1325، وهو حديث صحيح. انظر جامع الأصول 10/ 166.

ثمرة الخلاف:

ثمرة الخلاف: أفادت قراءة حمزة، والكسائي وجوب التّثبّت على القاضي العادل، وهو كما قدمنا معنى يغلب في التّحقق من الذوات والشخوص والأعيان، وفي ذلك تقرير لجانب مهمّ من أصول التّقاضي؛ إذ ينبغي التّحقّق من شخصية المتخاصمين ومداركهم العقلية والاجتماعية وصلاحيتهم للأهلية والتزام التكاليف. كما دلّت قراءة الباقين على وجوب التحقّق من الأحداث والوقائع، لئلا يأخذ القاضي أحدا بجريرة أحد، وهو ما دلّت له قراءة فَتَبَيَّنُوا. ومن نافلة القول هنا أن نشير إلى أن القراءتين متواترتان إسنادا، موافقتان للرسم العثماني قبل النّقط، موافقتان للعربية.

الباب الرابع الخاتمة

الباب الرابع الخاتمة

خاتمة:

خاتمة: نقدّم فيما يلي عرضا مجملا لأهم النتائج العلمية التي قادنا إليها هذا البحث في مجال القراءات القرآنية، وأثرها في الحكم الشّرعي، والرّسم القرآني: 1 - إن الوحي هو المصدر الوحيد للقراءات المتواترة على اختلاف وجوهها، وليس للأئمة القرّاء أدنى اجتهاد في اختراع أي وجه، أو ترجيح متواتر على متواتر. 2 - إن تعدّد القراءات عن المعصوم صلّى الله عليه وسلّم حفظ كثيرا من اللهجات العربية التي أوشكت أن تندثر في ذلك الحين، كما أنه مظهر سعة وثراء في إيراد أكثر من وجه للكلمة العربية الواحدة. 3 - تحليل رأي الخليل بن أحمد الفراهيدي في علاقة الأحرف السبعة بالقراءات المتواترة، ودفع الإشكالات الناتجة عن ذلك، وتقديم الحجج والأدلة الموضحة لمختار الأمة في هذه المسألة. 4 - تحليل رأي ابن جرير الطبري في مسألة نسخ الأحرف السبعة، وتقديم الأدلة على أن الخلاف بينه وبين مختار الأئمة لا يتعدى الشكل، مع الاتفاق من حيث النتيجة. 5 - النّبي صلّى الله عليه وسلّم أول شيخ إقراء، وسائر هذا المتواتر بين أيدي الناس اليوم كما حقّقه ابن الجزري إنما هو في الأصل قراءة أقرأ بها النّبي صلّى الله عليه وسلّم جماعة من الأصحاب. 6 - تفصيل الدور الكبير الذي قام به أهم رجال هذا العلم تاريخيّا وهم أربعة: ابن مجاهد، وأبو عمرو الدّاني، والقاسم بن فيرة الشاطبي، ومحمد بن الجزري. 7 - بسط أسانيد القراءات العشر، وتقديم الأدلة الكافية التي تثبت أنها بلغت مبلغ التواتر جميعا. 8 - تقديم جداول إيضاحية للأسانيد، والطرق التي حملت عبرها هذه القراءات المتواترة. 9 - مناقشة الاصطلاح الشائع حول التصنيف الثلاثي للقراءات: متواتر، وآحاد، وشاذ، وتقديم الأدلة والحجج على وجوب المصير إلى تسمية ثنائية؛ وهي: متواتر، وشاذّ فقط.

10 (¬1) - دفع التّوهم الشائع بأن علم القراءات علم مغلق؛ لا يطّلع عليه إلا أهل الاختصاص، ولا ينال إلا بتقضي الأعمار، وتقديم مختصرين اثنين لطريقتين مختلفتين في إتقان القراءات المتواترة، يتمكن الراغب بواسطة إحداهما من الاطّلاع الوافي على وجوب القراءات المتواترة كافة في الأصول والفرش. 11 - دفع توهّم التّناقض بين الرسم القرآني العثماني، وبين الفرشيات المختلفة- الكلمات التي قرئت على غير مثال ولا تنتمي إلى أصول قواعدية- الواردة بالتواتر، والتي يلزم التسليم بثبوتها عن المعصوم صلّى الله عليه وسلّم. 12 - إجراء مسح دقيق للمواضع التي اختلفت فيها المصاحف التي وزعها عثمان رضي الله عنه في الأمصار، وتحقيق ضبط عددها بتسعة وأربعين موضعا، وإظهار أهمية معرفتها وحصرها. 13 - تقديم دراسة مفصّلة حول مناهج القرّاء في جمع القراءات، وسبل الجمع، ومصادر الإقراء في زماننا، وانتشار القراءات اليوم، وأهم المؤلّفات في القراءات، وهي دراسة ميدانية قمت بها، مع إجراء مقارنة لواقع ذلك كله تاريخيّا. 14 - إثبات وجود علاقة تناوبية بين القراءات والرسم، فقد خدم كل منهما الآخر، واتّكأ عليه. 15 - إن مرحلة استنساخ المصاحف في عهد عثمان رضي الله عنه، على عظيم أهميّتها أدّت إلى غياب بعض المتواتر عن نسخ الأمصار، وهو أول مسئولية مستقلة تلقى على كاهل الرواة ليصبحوا أمناء على الرسم الغائب. 16 - إن الرسم الغائب الذي كان في المصاحف العثمانية محددا بتسعة وأربعين موضعا، قد تضاعف عقب الشكل والنّقط؛ إذ كل شكل أثبته النّسّاخ وفق متواتر له وجهان أدى إلى غياب الوجه الثاني من المتواتر، وهو ما زاد من مسئولية رجال الرواية لضبط الرسم الغائب وحفظه. ¬

_ (¬1) تجدر الإشارة أن النتائج المرقومة (10 - 11 - 12 - 13) لم ترد في كتابنا هذا، وإنما وردت في كتابنا الثاني المسمّى (الشامل في القراءات) وهو القسم الثاني من رسالة الدكتوراة للمؤلف، وقد طبعته دار ابن كثير والكلم الطيب بدمشق عام 1998 م.

والأمر نفسه تكرر عند النّقط؛ إذ كلما كانت الكلمة المراد نقطها لها وجهان في المتواتر فقد ظهر في النسخة وجه وغاب وجه يقينا. 17 - إن تحسينات الرسم القرآني على أهميتها وخطرها قد نتج عنها أيضا غياب وجوه مأذون بها من المتواتر فرشا وأصولا، وقد أتينا على استعراض ذلك في إثبات الألف الخنجرية، والهمزات، وعلامات المدّ، وعلامات الصلة، وعلامات الإدغام، والإخفاء، والإظهار، وجملة وجوه أخرى. 18 - بسط نماذج من أقوال الأئمة المتقدمين في إنكار بعض المتواتر من القراءات، وتوهينهم إياه بالرّأي، وتقديم الأدلة والبراهين على وجوب حمل مذهبهم هذا على عدم ثبوت التواتر لديهم. 19 - تفصيل أثر اختلاف القراءات المتواترة في الأحكام الشرعية الاعتقادية، واستعراض أربع وأربعين مسألة اعتقادية أثمر اختلاف القراءات المتواترة فيها عن أحكام وفوائد جديدة، وهي تتوزع في أربعة مطالب: الإلهيات: ثلاث عشرة مسألة. النّبوّات: سبع عشرة مسألة. الغيبيات: ثلاث عشرة مسألة. العمل والجزاء: إحدى عشرة مسألة. مع التوكيد بالأدلة والبراهين أن تعدد المتواتر لا يؤدي إلى هدر بعضه بعضا، ولا يلجئ إلى اختيار أحد المتواترين دون أخيه، بل يتكامل بعضه ببعض، ويسهم متضامنا في إضاءة النصوص وكشف دلالاتها. 20 - تفصيل أثر اختلاف القراءات المتواترة في الأحكام الشرعية العملية- الفقهية- واستعراض تسع وثلاثين مسألة فقهية أثمر اختلاف القراءات المتواترة فيها عن أحكام وفوائد جديدة، وهي تتوزع في سبعة مطالب: العبادات: إحدى عشرة مسألة. المعاملات: ثلاث مسائل.

اقتراحات:

النّكاح: سبع مسائل. الحدود: أربع مسائل. الجهاد: إحدى عشرة مسألة. الكفارات والأيمان: مسألتان. القضاء: مسألة واحدة. مع استعراض مذاهب الفقهاء في كل مسألة، وبيان أدلتهم لاختيار بعض المتواتر وترك بعضه، وتقديم الأدلة والبراهين على وجوب قبول المتواتر جميعا، وأن قبوله جميعا لا يلزم منه التناقض؛ إذ إمكان الجمع وارد ومتحقق في ذلك كله. اقتراحات: وبعد، فقد استوفيت بعون الله ما كنت أؤمله من بيان أثر القراءات المتواترة في الرسم القرآني والأحكام الشرعية، وهي كما رأيت آثار تتصل بتقرير الحكم الشرعي، وتضيء معاني النصوص، وتشتمل على فوائد جمة في الفقه والرسم. وقد رأيت في هذه الخاتمة أن أتقدم بجملة من الاقتراحات التي تتصل بخدمة القراءات القرآنية، وتبسيطها للناس، وحفظها للأجيال القادمة. أولا- الجمع الصوتي للقرآن الكريم: يسّر الله سبحانه للناس في هذا القرن وسائل تسجيل الصوت وتقويته وضبطه، وذلك من خلال أشرطة التسجيل وأجهزة العرض الصوتية، ولا شك أنه تمّ تسخير هذه الوسائل لخدمة القرآن الكريم منذ عشرات السنين، وتنتشر في العالم الإسلامي تلاوات وتفاسير مختلفة لأفضل القرّاء والحفّاظ في البلدان الإسلامية. ولكن الأمل الذي نطمح إليه أن يستفاد من هذه الوسائل في توثيق القراءات المتواترة، وحفظها للناس، وذلك من خلال قيام جهة مرجعية في العالم الإسلامي باستيفاد كبار القرّاء في العالم الإسلامي، ليقرءوا المتواتر من القرآن، بوجوهه المأذون بها جميعا، ليصبح فيما بعد، وثيقة للتاريخ تعرف به الأمة ما أذن به وما لم يؤذن به من قراءة التنزيل.

ثانيا - مشروع إصدار مصحف القراءات:

وترجع أهمية هذه الفكرة نظرا لطبيعة أداء هذه القراءات المتواترة؛ إذ إن غالبها لا يضبطه الكتاب على وجهه، ولا بد فيه من ضبط الشفاه، وهذا بدوره لا يتوفر إلا عند أهل الاختصاص، وهم نخبة محدودة، لا يملك سائر الناس سبل الوصول إليهم وتحصيل المعرفة عنهم. أما وسائل التسجيل فيمكن أن تكون في كل مكتبة إسلامية يطّلع عليها من شاء، وينقطع عندها سبيل التزيّد والانحراف عن القراءة المتواترة التي أذن بها المعصوم صلّى الله عليه وسلّم. هذا .. وقد تيسرت الآن وسائل التسجيل هذه بحيث يمكن جمع سائر القراءات على قرص ليزري واحد، من خلال جهاز الحاسوب (الكمبيوتر) وهذا ما يجعل سائر التنزيل القرآني بالنص والصوت متوفرا بيد كل طالب علم وبتكاليف يسيرة. ثانيا- مشروع إصدار مصحف القراءات: لم يعد ثمة مندوحة من القول بأن ثمة رسما متواترا غائبا لا يمكن تحصيله من مصحف حفص الشائع في العالم الإسلامي اليوم، إذ هو يدلّ لقراءة واحدة، بل لرواية واحدة من المتواتر، وهي التي تبلغ عشرين رواية متواترة كما قدمنا ذلك بالأدلة الإسنادية القاطعة. وإذا كانت مسائل الأداء لا تتغير بها الأحكام فإنه لا بدّ على الأقل من ضبط الفرشيّات المأذون بها تواترا في الكتاب العزيز، وهذا أمر لا يعسر تحقيقه، بل يمكن ضبطه من خلال كتابة جدول صغير على هامش المصحف لبيان الوجوه الغائبة، وهي لا تتجاوز في تقديري ست كلمات وسطيا في الصفحة الواحدة، ولكنها تعود بفوائد جمة على القارئ والمفسّر جميعا. وليست هذه الفكرة جديدة، بل هي فكرة قديمة قام بتحقيقها عدد من المشتغلين بخدمة القرآن الكريم في أجيال متعاقبة، ولكنها لم تجد سبيلها بعد للتوثيق عن طريق هيئة مرجعية لخدمة القرآن الكريم في العالم الإسلامي. وتجب الإشارة هنا إلى جهد قام به ناشر سعودي مستعينا ببعض القراء، حيث قام بجمع وجوه القراءات المتواترة من فرش وأداء على هوامش الصفحات، وهي بلا ريب خطوة جيدة، ولكنها تفتقر إلى مراجعة علمية، حيث وقعت فيها على أخطاء كثيرة، إضافة إلى وجوب تجريد الفرش عن الأداء، وحتمية صدورها عن هيئة مرجعية إسلامية عامة.

ثالثا - مشروع كتابة مصحف عثمان:

ثالثا- مشروع كتابة مصحف عثمان: إن المصحف العثماني هو الوثيقة الأم التي انبثقت عنها سائر القراءات المتواترة، وقامت عليها الجهود المتعاقبة للوقوف على أصل التنزيل من الذكر الحكيم. والمصحف العثماني وثيقة من أهم وثائق تاريخ العرب إن لم نقل إنها أهمها على الإطلاق، حيث قامت عليها ألوف الدراسات والبحوث خلال التاريخ الإسلامي. وقد كتب عثمان ستة مصاحف وزّعها في الأمصار، واحتفظ لنفسه بمصحف واحد منها، وهو الذي كان بيده عند استشهاده. ولكن هذا المصحف وقرناؤه من المصاحف الستة غير موجودة بأيدي الناس اليوم، ويتنازع شرف الانتساب إليها ثلاثة مصاحف (¬1): 1 - مصحف المشهد الحسيني بمصر بالقاهرة، وهو الذي نقل إلى المشهد المذكور عام 1304 هجري. 2 - مصحف اسطنبول بتركيا، وهو محفوظ في متحف طوب قابوسراي، وهو مكتوب على الرّق، وعليه قطرات حمرا. 3 - مصحف طشقند في أوزبكستان، وهو موجود بحوزة الإدارة الدينية بطشقند، مكتوب على الرّق، عدد ورقاته 353 ورقة، بقياس 68* 53 سم، وقد نقل إلى طشقند عام 1869 م. وليس هذا محل مناقشة ثبوت هذه المصاحف، والاستدلال والتأريخ لها، فقد تكفّلت بذلك دراسات عديدة، يمكن مراجعتها. ولكن الذي أقترحه في هذا السبيل هو إصدار مصحف عثمان مرة أخرى؛ إما استنساخا عن أحد هذه المصاحف، أو استكتابا (¬2) عنها وفق ما قرره علماء الرسم في مصنفاتهم، دون نقط ولا شكل، وفق الكتبة الأولى، وإتاحة ذلك لعامة المتعلمين والمشتغلين بخدمة القرآن الكريم. ¬

_ (¬1) انظر مصحف عثمان ورحلته شرقا وغربا، تأليف د. سحر عبد العزيز السالم، إصدار مؤسسة شباب الجامعة- إسكندرية. (¬2) أردت بالاستنساخ تصوير أحد هذه المصاحف عن طريق آلة التصوير، وأردت بالاستكتاب العهدة إلى أحد الخطاطين المهرة إلى إعادة كتابة المصحف وفق الكتبة العثمانية نفسها.

رابعا - مشروع إحياء الروم في النطق العربي:

وهكذا فإن توفير هذه النسخ بين أيدي الباحثين يخفف عنهم عناء كبيرا في تحقيق النصوص، ويساعدهم على تصور الكتبة الأولى، وما نشأ عليها من خدمات، وهذا بلا شك تقدّم كبير، نتجاوز به الدور التّراثي والجمالي المحدود، التي تقدمه مصاحف القاهرة، واسطنبول، وطشقند؛ إن صحت نسبتها إلى العهد العثماني. ولا نحتاج بعدئذ إلا إلى إضافة ملحق من صفحة واحدة، يتضمن المواضع التسعة والأربعين التي اختلفت فيها مصاحف الأمصار، كما تحقق ذلك في هذه الدراسة، ونكون حينئذ قد وفّرنا بين أيدي الباحثين الوثائق الأمّ التي لا غنى لباحث عنها، والتي تقطع بكل توكيد ذلك الجدل المستمر حول موافقة أو مخالفة الرسم لا تجاه معين في الأداء. ولن يكون لهذا العمل فائدة حقيقية إلا إذا صدر عن جهة مرجعية مختصة بخدمة القرآن الكريم، ولست أرى هذه الخصائص تتوفر في جهة إسلامية كتوفّرها في جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية التي أتشرف برفع هذه المذكرة إليها. رابعا- مشروع إحياء الرّوم في النّطق العربي: الرّوم: هو الإتيان ببعض الحركة عند الوقوف للدلالة عليها، والقاعدة العامة لا تكون إلا فيما حقّه الضّم أو الخفض إذا وقفت عليه بالسكون. فتروم في مثل نستعين- المجيد. ولا تروم في مثل: المستقيم. ولا وجه للرّوم في الساكن سكونا أصليّا كما في: قم فأنذر. وقد نصّ في الشاطبية على أن الرّوم مذهب أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي، ولكن المختار أنه مذهب عام لجميع القرّاء على سبيل التّخيير (¬1). والواقع أن هذا اللون من الأداء مهجور تماما في صنيع القرّاء والنّحاة اليوم، ولست أدري لذلك سببا بعينه، غاية الأمر أنهم اكتفوا بعبارة: العرب لا تقف على متحرّك، فألزموا الوقف ¬

_ (¬1) قال ابن الجزري في المقدمة: وحاذر الوقف بكل الحركة ... إلا إذا رمت فبعض الحركة إلا بفتح أو بنصب وأشم ... إشارة بالضم في رفع وضم المقدمة الجزرية في علم التجويد، رقم الأبيات 104 - 105.

بالسكون، وهي قاعدة ليست صحيحة على إطلاقها، فثمة ثمانية أشكال من الوقف عند العرب في قاعدة الرّوم، والإشمام عند القرّاء يمكن الرّجوع إليها. والحقّ أنّ النّطق بالرّوم يعود بفوائد مؤكدة في النّطق، ولا سيما إذا كانت فيه تجلية مشتبه، أو كشف مبهم. فمن ذلك في القرآن الكريم: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ [آل عمران: 3/ 42]، وذلك إن وقفت على أحد هذه الكافات الثلاث. فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ [النّمل: 27/ 42]. الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشّعراء: 26/ 78]، وذلك إن وقفت على واحد من رءوس الآي هنا. وظاهر أن الوقف بالرّوم يجلي المعنى المقصود، الذي سيكون مبهما إن وقفت بالسكون المحض، ففي الآيتين الأوليين، كشف أن المخاطب امرأة، ولو سكنت سكونا محضا لم يتبدّ لك ذلك، وفي الآية الثالثة كشف لك عن ياء المتكلم المحذوفة اتّباعا لقافية الآية. وكذلك في أداء المذيعين والمتحدّثين اليوم، فإن معاني كثيرة يؤدي السكون المحض إلى إبهامها وضياع رونقها، لاحظ مثلا هجنة الخطاب وغربته في الصيغ الآتية إذا وقفت بالسكون المحض وأنت تخاطب امرأة: ما اسمك؟ ما دراستك؟ ما هي بلدك؟ متى رجعت؟ متى حضرت؟ هل هو حقّا يحبّك؟ ثم لاحظ بعدئذ كم يضيء الرّوم من دلالتها ومعناها لدى النّطق به وفق قاعدته. (اقرأها بالرّوم) وهكذا فإن في الرّوم فائدة حقيقية في تصويب النّطق العربي، ولا سيما المظانّ التي يكون الإسكان المحض مدعاة إشكال. ولست أدري لم يتحرّج النّحاة من الفتوى بذلك، وهو كما رأيت مذهب البصريين

(أبي عمرو) والكوفيين (عاصم، وحمزة، والكسائي) وإنما البصرة، والكوفة للنحو كالأم والأب، فقد ولد النّحو بالبصرة، وشبّ في الكوفة، ثم هو من بعد مذهب سائر القرّاء كما حقّقه ابن الجزري. وقد قدّمنا بالأدلة والحجج تواتر الإسناد في أداء هذه الوجوه إلى المعصوم صلّى الله عليه وسلّم، وهو أفصح من نطق بالضاد، وزيادة على ذلك فإن هذا الأداء إنما هو وحي من الله عزّ وجلّ تلقّاه النّبي صلّى الله عليه وسلّم من أمين الوحي جبريل. والعجب بعدئذ من رجل يحتكم إلى شطر من شعر أعرابي، لا يعرف له اسما، ولا يحفظ عنه إسنادا، ثم هو يرتاب في الأخذ بوجه من الأداء القرآني، أطبق عليه أهل الأداء، وقدموا بين أيديهم إسناده ورجاله، ثم هم أهل الفصاحة واللسان والبيان. ولا يختلف الكوفيّون في أن القراءات محلّ احتجاج في اللغة، إن ثبتت رواية، ولكن دأب بعض نجاة البصرة على رفض الاستشهاد بالقراءات، ولكني أعتقد أنهم في مثل هذه المسألة لا يخالفون، لإطباق القراء على جواز القراءة بها أولا، ولأنها صيغة أداء، لا وجه نحو، وقد علمت مبلغ ما بذله أئمة القراءة لضبط صيغة الأداء، وهو ما لم يتحصل جزء جزئه لرواة الشعر وغيره إجماعا. وقد اشتدّ ابن حزم في إنكار مذهب من لم ير الاحتجاج بالقراءات بقوله: «من النّحاة من ينتزع من المقدار الذي يقف عليه من كلام العرب حكما لفظيّا، ويتخذه مذهبا، ثم تعرض له الآية على خلاف ذلك الحكم، فيأخذ في صرف الآية عن وجهها». وقال في موضع آخر: «ولا عجب أعجب ممن إن وجد لا مرئ القيس، أو لزهير، أو الحطيئة، أو الطّرماح، أو لأعرابي أسدي، أو سلمي، أو تميمي، أو من سائر أبناء العرب لفظا من شعر، أو نثر جعله في اللغة، وقطع به، ولم يعترض فيه، ثم إذا وجد لله تعالى خالق اللغات وأهلها كلاما لم يلتفت إليه، ولا جعله حجة، وجعل يصرفه عن وجهه، ويحرّفه عن موضعه» (¬1). ¬

_ (¬1) معجم القراءات القرآنية 1/ 102.

وبناء على ما تقدم، فإني أدعو أصحاب البيان والقلم، إلى إحياء منهج الرّوم في النّطق العربي حال الوقف، لما في ذلك من كشف المبهم، وتجلية الغامض، وهذا سيعكس بلا ريب جمال العربية، وحسن الأداء فيها، وأتمنى على جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية أن تسهم في عقد ندوة إعلامية لإحياء هذا الوجه من النّطق العربي السليم.

§1/1