القدوة مبادئ ونماذج

صالح بن حميد

بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدّمَة إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]

[سورة الأحزاب، الآيتان: 70، 71] . أما بعد: فإن الدعوة إلى الله أمر جليل ودعامة عظيمة من دعائم ترسيخ المبادئ الحقة في المجتمع المسلم، ومن أهم طرق الدعوة إلي الله والتي يكون مردودها أوقع وأقوى في النفوس " القدوة الصالحة " والتي يرى فيها الناس واقعًا معاشًا للمبادئ التي يدعو إليها. . القول فيها صنو العمل. ولأهمية هذا الأمر أردت في هذه الورقات أن أنبه إلى بعض إشارات تعين على أداء تلكم المهمة العظيمة والرسالة الشريفة. والله أسأل أن ينفعني وإخواني بهذه الكلمات، وحسبي منهم دعوة صالحة أو نصيحة صادقة. جعلنا الله من الداعين إلى سبيله على بصيرة وهو من وراء القصد. . وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

مقصود القدوة ومعناها

[مقصود القدوة ومعناها] [أنواع القدوة] مقصود القدوة ومعناها الأسوة والقدوة بمعنى واحد ويقصد بها السير والاتباع على طريق المقتدي به. وهي نوعان: حسنة وسيئة. فالحسنة الاقتداء بأهل الخير والفضل والصلاح في كل ما يتعلق بمعالي الأمور وفضائلها، من القوة والحق والعدل. وقدوة المسلمين الأولى صاحب الخلق الأكمل والمنهج الأعظم رسولنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول الله- عز وجل-: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21] ومن دقيق المعنى في هذه الآية الكريمة أن الله سبحانه جعل الأسوة في رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يحصره في وصف خاص من أوصافه أو خلق من أخلاقه أو عمل من

أعماله الكريمة، وما ذلك إلا من أجل أن يشمل الاقتداء أقواله عليه الصلاة والسلام وأفعاله وسيرته كلها فيقتدي به، صلى الله عليه وسلم، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ويقتدي بأفعاله وسلوكه من الصبر والشجاعة والثبات والأدب وسائر أخلاقه، كما يشمل الاقتداء بأنواع درجات الاقتداء من الواجب والمستحب وغير ذلك مما هو محل الاقتداء. والنوع الثاني: الأسوة السيئة: ويعني السير في المسالك المذمومة واتباع أهل السوء والاقتداء من غير حجة أو برهان ومن ذلك قول المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] ولهذا رد عليهم القرآن بقوله: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24] وفي آية أخرى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]

أهمية القدوة الحسنة

[أهمية القدوة الحسنة] أهمية القدوة الحسنة إن من الوسائل المهمة جدًا في تبليغ الدعوة إلى الله وجذب الناس إلى الِإسلام وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، القدوة الطيبة للداعي وأفعاله الحميدة وصفاته العالية وأخلاقه الزاكية مما يجعله أسوة حسنة لغيره، يكون بها أنموذجًا يقرأ فيه الناس معاني الِإسلام فيقبلون عليها وينجذبون إليها، لأن التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر من التأثر بالكلام وحده. إن الِإسلام انتشر في كثير من بلاد الدنيا بالقدوة الطيبة للمسلمين التي كانت تبهر أنظار غير المسلمين وتحملهم على اعتناق الِإسلام، فالقدوة الحسنة التي يحققها الداعي بسيرته الطيبة هي في الحقيقة دعوة عملية للِإسلام يستدل بها سليم الفطرة راجح العقل من غير المسلمين على أن الِإسلام حق من عند الله. ومن السوابق القديمة في أهمية السيرة الحسنة للداعي وأثرها في تصديقه والإِيمان بما يدعو إليه «أن أعرابيًا جاء إلى

النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال له: من أنت؟ قال: أنا محمد بن عبد الله قال الأعرابي: أأنت الذي يقال عنك إنك كذاب؟ فقال: أنا الذي يزعمونني كذلك فقال الأعرابي: ليس هذا الوجه وجه كذاب، ما الذي تدعو إليه؟ فذكر له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما يدعو إليه من أمور الِإسلام فقال له الأعرابي: آمنت بك وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله» . فالأعرابي استدلَّ بسَمْت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووجهه المنير الكريم الذي يكون عليه أهل الصدق والأخلاق الكريمة، استدلَ بذلك على صدقه فيما يدعو إليه، صلى الله عليه وسلم. وتكمن أهمية القدوة الحسنة في الأمور الآتية: 1 - المثال الحي المرتقي في درجات الكمال، يثير في نفس البصير العاقل قدرًا كبيرًا من الاستحسان والِإعجاب والتقرير والمحبة. ومع هذه الأمور تتهيج دوافع الغيرة المحمودة والمنافسة الشريفة، فإن كان عنده ميل إلى الخير،

وتطلع إلى مراتب الكمال، وليس في نفسه عقبات تصده عن ذلك، أخذ يحاول تقليد ما استحسنه وأعجب به، بما تولد لديه من حوافز قوية تحفزه لأن يعمل مثله، حتى يحتل درجة الكمال التي رآها في المقتدى به. 2 - القدوة الحسنة المتحلية بالفضائل العالية تعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل من الأمور الممكنة، التي هي في متناول القدرات الإِنسانية وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال. 3 - مستويات فهم الكلام عند الناس تتفاوت، ولكن الجميع يتساوى أمام الرؤية بالعين المجردة لمثال حي. فإن ذلك أيسر في إيصال المعاني التي يريد الداعية إيصالها للمقتدى. أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر - رضيِ الله عنهما- قال: اتخذ النبي، صلى الله عليه وسلم، خاتمَا من ذهب، فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: «إني اتخذت خاتمًا من ذهب فنبذه وقال: إني لن ألبسه أبدًا، فنبذ الناس خواتيمهم» .

قالت العلماء: " فدلَّ ذلك على أن الفعل أبلغ من القول ". 4 - الأتباع ينظرون إلى الداعية نظرة دقيقة فاحصة دون أن يعلم، فربَّ عمل يقوم به لا يلقي له بالًا يكون في حسابهم من الكبائر، وذلك أنهم يعدونه قدوة لهم، ولكي ندرك خطورة ذلك الأمر فلنتأمل هذه القصة. يروى أن أبا جعفر الأنباري صاحب الِإمام أحمد عندما أُخبر بحمل الإِمام أحمد للمأمون في الأيام الأولى للفتنة. عبر الفرات إليه فإذا هو جالس في الخان، فسلم عليه، وقال: يا هذا أنت اليوم رأسٌ والناس يقتدون بك، فوالله لئن أجبتَ إلى خلق القرآن ليجيبنَّ بإجابتك خلق من خلق الله، وإن أنت لم تجب ليمتنعنَّ خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل- يعني المأمون - إن لم يقتلك فأنت تموت، ولا بد من الموت فاتق الله ولا تجبهم إلى شيء. فجعل أحمد يبكي ويقول: ما قلت؟ فأعاد عليه فجعل يقول: ما شاء الله، ما شاء الله. وتمر الأيام عصيبة على الِإمام أحمد، ويمتحن فيها أشدّ الامتحان ولم ينس نصيحة الأنباري، فها هو المروزي أحد

أصحابه يدخل عليه أيام المحنة ويقول له: "يا أستاذ قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] فقال أحمد: يا مروزي اخرج، انظر أي شيء ترى!!! قال: فخرجتُ إلى رحبة دار الخليفة فرأيت خلقًا من الناس لا يحصي عددهم إلا الله والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر في أذرعتهم، فقال لهم المروزي: أي شيء تعملون؟ فقالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه، قال المروزي: مكانكم. فدخل إلى أحمد بن حنبل فقال له: رأيت قومًا بأيديهم الصحف والأقلام ينتظرون ما تقول فيكتبونه فقال: يا مروزي أضل هؤلاء كلهم!! أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء". فمن أبرز أسباب أهمية القدوة أنها تساعد على تكوين الحافز في المتربي دونما توجيه خارجي، وهذا بالتالي يساعد المتربي على أن يكون من المستويات الجيدة في المسالك الفاضلة من حسن السيرة والصبر والتحمل وغير ذلك.

أصول القدوة

[أصول القدوة] [الأصل الأول الصلاح] أصول القدوة سوف يكون الكلام في هذه الفقرة عن الأصول الظاهرة التي يلمسها ويحسها التابع والمقتدىِ ويرقبها في قدوته ومتبوعه ويمكن أن نرجع ذلك إلى ثلاثة أصول: الأصل الأول: الصلاح وهذا يتحقق بثلاثة أركان الركن الأول: الِإيمان: ويقصد به كل ما يجب اعتقاده من الِإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر وسائر أركان الِإيمان إيمانًا يقينا جازمًا. وتحقيق معنى التوحيد ومقتضياته من معرفة الشهادتين والعمل بمقتضاهما. ويبدو أن هذا الأمر واضح مما لا نحتاج إلى الِإطالة فيه. الركن الثاني: العبادة: فيستقيم القدوة على أمر الله من الصلاة والزكاة والصيام وسائر أركان الِإسلام العملية ويهتم بالفرائض والمستحبات ويجد في اجتناب المنهيات والمكروهات. فيأتي من المأمورات بما استطاع ويجتنب جميع المنهيات على حد قوله، صلى الله عليه وسلم،: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» .

ويتمثل القدوة الحديث القدسي: «وما تقَرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها ولئن سألني لأعطيته، ولئن استعاذتي لأعيذنه» . الركن الثالث: الإِخلاص: وهو سر عظيم وباب دقيق والتميز به من أعظم المطالب- وهو من أولى ما ينبغي أن يُفتش عنه في الرجل المقتدى به. فيكون المقصود بالقول والعلم والعمل وجه الله عز وجل بعيدًا عن أغراض النفس وأغراض المخلوقين، بل عبودية خاضعة تمام الخضوع لله عز وجل، أمرًا ونهيًا ونظرًا وقصدًا. والمرء إذا أسلم وجهه لله وأخلص نيته لمولاه فإن حركاته وسكناته ونومه ويقظته محسوبة في مرضاة الله. بل إن النصح والِإخلاص يرقى بالعبد الضعيف العاجز إلى رتبة القادر العامل، ففي غزوة العسرة من تبوك سجل القرآن الكريم خبر هؤلاء الضعفاء

الناصحين المخلصين في قوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ - وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91 - 92] وسجل لهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، هذا الموقف حين خاطب جنده الغازين في سبيل الله بخبر هذه الطائفة بقوله: «إن أقوامًا خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا حبسهم العذر. . .» . يقابل هؤلاء المثابين المأجورين أصحاب النوايا المدخولة حين ينادي بهم بالويل وحبوط العمل، ولو كانت صور عملهم صورة عمل الصالحين المخلصين: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ - الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ - وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 - 7] ومن أجل هذا فإنك ترى أن ضعف الإِخلاص عند كثير

الأصل الثاني حسن الخلق

من ذوي المواهب والمواقع القيادية جعل تابعيهم والمعجبين بهم يَشْقَوْن بمواهبهم ويرجعون بها القهقري. يتبين من كل ذلك أن الِإسلام يلحظ في أعمال الناس ما يقارنها من نيات وما يصاحبها من دواعي وبواعث. [الأصل الثاني حسن الخلق] [الصدق] الأصل الثاني: حسن الخلق إذا كان الصلاح يتوجه إلى ذات المقتدى به ليكون صالحًا في نفسه قويمًا في مسلكه فإن حسن الخلق يتوجه إلى طبيعة علاقته مع الناس وأصول تعامله معهم وإليه الدعوة النبوية في قوله، صلى الله عليه وسلم: «وخالق الناس بخلُقٍ حسن» والكلام في حسن الخلق واسع متشعب ونحاول أن نحصر عناصره الكبرى في خلال خمس: الصدق- الصبر- الرحمة- التواضع- الرفق. الصدق: تبرز أهمية الصدق وعظم أثره في مسلك القدوة في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الصدقَ يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة. .» الحديث.

وقد سأل هرقل أبا سفيان عن سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم، قائَلاَ: «هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ أجاب أبو سفيان: لا. فقال هرقل: أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله» . وما أنجى الثلاثة الذين خُلفوا في غزوة تبوك إلا صدقهم مع الله ومع رسوله صلى الله عليه وسلم حين ظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه، ولقد نادى الله سبحانه عباده المؤمنين في ختام قصتهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] ويجمع الحافظ ابن القيم رحمه الله حقيقة الصدق بهذه العبارة: " حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه ويكون في القصد والقول والعمل ". والمسلك الصادق النقي قولًا وفعلًا وقصدًا- هو الذي لا ريبة فيه لابتنائه على اليقين، ولا هوى معه لاعتماده على الإخلاص، ولا عوج فيه لاتباع الحق والهدى فيه. وهل رأيت سوأة أزرى ممن يتسنم مواقع القيادة والقدوة

الصبر

بينما ترمقه الألحاظ وتشير إليه الأصابع بالخيانة والكذب. وما كان للتهريج والخبط والادعاء والهزل أن يغني فتيلا عن أصحابه. وفي الحديث: «يطبع المؤمن على الخلال كلِّها إلا الخيانة والكذب» . [الصبر] الصبر: الأزمات إذا استحكمت والحبال إذا تعقدت والضوائق إذا ترادفت لا دفع لها ولا توقي- بإذن الله- إلا بالصبر ذلك أن الصبر- كما في الحديث- ضياء. ومَنْ أولى من الرجل الأسوة بتوطين نفسه على احتمال المكارة من غير ضجر، والتأني في انتظار النتائج مهما بَعُدت، وهو عليم بأن ابتلاء الناس بجميع فئاتهم وطبقاتهم لا محيص عنه. فالدنيا مبنية على هذا، بل قد يمتحن المرء بالشيء وضده. هذا شأن الدنيا. وشأن آخر وهو أن الإِيمان يقترن بالبلاء ليمحصه ويصفيه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]

والصبر من معالم العظمة المحمودة وشارات الكمال العالي ودلائل التحكم في النفس وهواها وهو عنصر من عناصر الرجولة الناضجة. فأثقال الحياة وأعباؤها لا يطيقها الضعاف المهازيل، والحياة لا ينهض بأعبائها ورسالتها إلا الأكفاء الصبَّارون وقد استحقت فئة من بني إسرائيل الِإمامة والريادة بصبرهم وحسن بلائهم: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] وأدركت بني إسرائيل حالةٌ استحقوا بها ميراث الأرض المباركة وكان درعهم في ذلك الصبر: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137] ولهذا فإن نصيب ذوي القدوة والأسوة من العناء والبلاء مكافئًا لما أوتوا من مواهب وما تحملوا من مشاق، يجسد هذا قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى المرء على قدر دينه» .

الرحمة

ولهذا فإن نصيب ذوي القدوة والأسوة من العناء والبلاء مكافئًا لما أوتوا من مواهب وما تحملوا من مشاق، يجسد هذا قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى المرء على قدر دينه» . وقد قال بعض حكماء القياديين: " لا تسأل الله أن يخفف حملك ولكن اسأله أن يقوي ظهرك ". وإن كان هذا فيه ما فيه لكنه يزيد المعنى الذي نقصد إليه وضوحًا. [الرحمة] الرحمة: الرحمة كمال في الطبيعة تجعل المرء يرقّ لآلام الخلق ويسعى لِإزالتها ويأسى لأخطائهم فيتمنى لهمَ الهدى. الرحمة عاطفة حية نابضة بالحب للناس والرأفة بهم والشفقة عليهم. وربنا تبارك وتعالى هو أرحم الراحمين وخير الراحمين بل إن رحمته وسعت كل شيء، كما أن علمه قد وسع كل شيء، وملائكةُ الرحمنِ يلهجون بهذا الدعاء الشفوق من أجل المؤمنين: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7]

[سورة غافر، الآية: 7] . والرسول، صلى الله عليه وسلم، هو الرحمة المهداة للعالمين كلهم بل كأن الغاية من رسالته محصورة في الرحمة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] والرحمة المذكورة هنا يقصد بها الرحمة العامة لكل الخلق تراحما عاما ليلقى المسلم الناس قاطبة وقلبه لهم بالعطف مملوء وبالبر مكنون؛ لأن الرحمة الخاصة قد تتوفر في بعض الناس فيرق لأولاده حين يلقاهم ويهش لأصدقائه حين يجالسهم ولكن الرَحمةَ المطلوبة من القدوة أوسع من ذلك وأرحب: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» «ومن لا يَرحم لا يُرحم» بل إن الرحيم تنال رحمته الحيوان من غير البشر. والله يثيب على هذه الرحمة ويغفر بها الذنوب. فالذي سقى الكلب لما رآه يأكل الثرى من العطش شكر الله له فغفر له، والمرأة البغي من بني إسرائيل سقت كلبًا كان يطيف حول بئر في يوم حار، قد دلع لسانه من العطش فنزعت له خفها وسقته فغفر لها. سبحان الله الرحيم لئن كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب، ولا تنزع الرحمة إلا

التواضع

من شقي، أولئك هم غلاظ الأكباد الجبارون المستكبرون. حقا إن القسوة في خلق الإِنسان دليل نقص كبير وفي تاريخ الأمة دليل فساد خطير. ولكن القلوب الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة فهي أبدًا إلى الصفح والعفو أميل وعن الضغينة والغلظة أبعد. [التواضع] التواضع: جبلت النفوس على كره من يستطيل عليها ويحتقرها ويستصغرها، كما جبلت على النفرة ممنِ يتكبر عليها ويتعالى عنها. حتى ولو كان ما يقوله حقًا وصدقًا. إن قلوبهم دون كلامه مغلقة، وصدورهم عن إرشاده ووعظه موصدة بل لعلهم يكرهون أو يستثقلون ما يصدر منه من علم وحق. وقد أدب الله نبيه محمدًا، صلى الله عليه وسلم، في هذا الباب فخاطبه بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 28] أولئك هم المستضعفون من الصحب الكرام أمثال صهيب وعمار وبلال وخباب؛ أراد الملأ المستكبرون من قريش من الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن يطردهم من مجلسه أو أن يخص لهم مجلسًا لا يجتمعون فيه

مع الضعفاء والفقراء فأنزل الله عليه: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] إن التواضع هو بذل الاحترام والعطف لمن يستحقه. التواضع خلق يكسب صاحبه رضا أهل الفضل ومودتهم، ومَنْ أحقّ بهذا الخلق من رجل القدوة فهو أنجح وسيلة إلى الائتلاف. إن ابتغاء الرفعة وحسن الِإفادة من طريق التواضع هو أيسر الطرق وأوثقها. ذلك أن التواضع في محله يورث المودة، فمن عمر فؤاده بالمودة امتلأت عينه بالمهابة. إن المتواضع هو الرجل الذي يرجى لنفع الأمة ويستطيع الخوض في كل ميدان ويعيش في كل مجتمع، يعيش وهو ضافي الكرامة أنيس الملتقى شديد الثقة بنفسه مبسوط المحيا لجليسه. ويلتحق بهذا الأمر ويلتصق به حديث المرء عن نفسه وكثرة الثناء عليها، فذلك شيء ممقوت يتنافى مع خلق التواضع وإنكار الذات، فينبغي لرجل الدعوة ومحل القدوة ألا يَدّعي شيئًا يدل على تعاليه بل إن حقًا عليه أن يعرف أن كل ما عنده من علم أو منزلة أو مرتبة هو محضُ فضل الله عليه فليتحدث - إن شاء أن يتحدث- بفضل الله لا بفضل نفسه فإذا أدرك الناس منه

الرفق

ذلك فتحوا له قلوبهم وتحلقت حوله نفوسُهم قبل أجسادِهم ووقع وعظُه وتوجيهه منهم موقع القبول والرضا ونال من الحظوة على قدر إحسانه وقصده. [الرفق] الرفق: الحديث عن الرفق جميل وطويل وهو في ذات الوقت ممتع. وفي تقديرنا أن حاجة الدعاة إليه من أهل العلم والفضل والقدوة ماسة للغاية، وبخاصة إذا انضم إليه ما سبق من حديث في الرحمة والتواضع. ونستفتح في حديث الرفق بصفة المصطفى، صلى الله عليه وسلم، التي رحم الله العباد بها فاصطفاه لها، يقول الله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] نعم لقد أراد الله بفضله ورحمته أن يمنن على العالم برجل يمسح آلامه ويخفف أحزانه، ويستميت في هدايته ويناصر الضعيف، ويهذب القوي حتى يرده سويا سليم الفطرة لا يشقى ولا يطغى فأرسل محمدًا، صلى الله عليه وسلم، وسكب في قلبه من العلم والحلم، وفي خلقه من الِإحسان والبر، وفي طبعه من اللين والرفق، وفي يده من الكرم والندى، ما جعله أزكى عباد الله قلبًا وأوسعهم عطفًا

وأرحبهم صدرًا وألينهم عريكة. هذا بعض نعت محمد، صلى الله عليه وسلم، المجتزأ من قول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وهذا إيراد من قبس النبوة في باب الرفق وبيان أثره لننطلق منه إلى ما يخصّ هذا المبحث. يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه» رواه مسلم. وقال مخاطبًا عائشة رضي الله عنها: «عليك بالرفق. . إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» . يا أيها المُقتدى بهم: إن الناس في حاجة إلى كنف رفيق، وإلى رعاية حانية، وبشاشة سمحة، بحاجة إلى ودّ يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج إلى عطائهم، ويحمل همهم ولا يثقلهم بهمه، يجدون عنده الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والمودة والرضا. وقد يحسن أن نخص الدعاة المقتدى بهم بخطاب عن الرفق

أخذًا من نهج السلف إذ أن هذا الميدان ونحن نعيش الصحوة الِإسلامية وأجواءها المباركة نحتاج فيه إلى مزيد عناية وفقه وترفق. يقول عمر - رضي الله عنه- وهو على المنبر: " أيها الناس لا تُبَغِّضُوا الله إلى عباده فقيل كيف ذلك أصلحك الله؟ قال: يجلس أحدكم قاصا (¬1) فيقول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه، ويقوم أحدكم إمامًا فيطول على الناس حتى يبغض إليهم ما هم فيه ". ويقول ابن عباس - رضي الله عنه عنهما-: "حدث الناس كل جمعة فإن أكثرت فمرتين فإن أكثرت فثلاث ولا تمل الناس من هذا القرآن، ولا تأت القوم وهم في حديث فتقطع عليهم حديثهم وقال: أنصت. . فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه وإياك والسجع في الدعاء، فإني عهدت رسول الله، صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلونه ". وكان ابن مسعود يُذكِّر كل خميس فقال رجل من القوم لوددت- يا أبا عبد الرحمن - لو أنك ذكرتنا كل يوم. فرد عليه ¬

(¬1) قاص: أي واعظ.

هذا الكنيف الذي قد مليء علمًا: " أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملَكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يتخولنا بها مخافة السآمة علينا ". يعلق على هذا الحافظ ابن حجر في الفتح مستنبطًا مستخلصًا بقوله: وفي هذا استحباب ترك المداومة في الجد في العمل الصالح خشية الملال، وإن كانت المواظبة مطلوبة، لكنها على قسمين: إما كل يوم مع عدم التكلف، وإما يومًا بعد يوم فيكون الترك لأجل الراحة ليقبل على الثاني بنشاط، وإما يوم الجمعة ويختلف باختلاف الأحوال والأشخاص والضابط الحاجة مع وجود النشاط. والرفق ذو ميادين فسيحة ومجالات عريضة فرفق مع الجهال: إما جهل علم، أو جهل تحضر، ولقد رفق النبي، صلى الله عليه وسلم، بالأعرابي الذي بال في المسجد وتركه حتى فرغ من بوله وأمر أصحابه بالكف عنه وألا يقطعوا عليه بوله، فلما فرغ دعاه النبي، صلى الله عليه وسلم، وأخبره أن المساجد لم تبنَ لهذا وإنما هي لذكر الله والصلاة. وجلفٌ أعرابي آخر جذب برداء النبي، صلى الله عليه

وسلم، جذبة شديدة وكان عليه برد نجراني غليظ الحاشية فأثر في صفحة عنق النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم «قال الأعرابي: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت نبي الرفق والرحمة ضاحكًا ثم أمر له بعطاء» . بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وسلم، ما كهر ولا نهر ولا تبرم ولا ضجر. ومن الذين يخصون بمزيد من الترفق المتبدئون في الإِسلام والعلم وطريق الاهتداء. والغفلة في هذا الجانب قد تؤدي إلى فتنة وانعكاس في المقصود. وقد قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: «بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا» يقول ابن حجر: " والمراد تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي ينبغي أن يكون بتلطف ليُقبل، وكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدرج، لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلًا حُبب إلى من يدخل فيه وتلقاه بانبساط وكانت عاقبته غالبًا الازدياد بخلاف ضده ". وينبغي أن يتمثل القدوة في هذا الباب الرفق بمجالسيه فيتحمل من كان منهم ذا فهم بطيء، ويسع بحلمه جفاء ذي الجهالة، لا يعنف السائل بالتوبيخ القبيح فيخجله، ولا يزجره

الأصل الثالث موافقة القول العمل

فيضع من قدره. وأخَيرَا فالرفق ليس حقًا مقصورًا على بني الِإنسان بل هو حق محفوظ لكل ذي كبد رطبة يجسد ذلك في أدقّ صوره بل أغلظ ما يتصور من حالات حين يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إن الله كتبَ الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة، وإذا ذبحتم فَأحسنوا الذبحة، وليحدّ أحدُكم شفرته وليرح ذبيحته» . وأي رفق بعد هذا الرفق في حالة إزهاق الروح وفصل الرأس عن الجسد، ولنختم هذا بهذا الدعاء النبوي: «اللهم من ولِي من أمر أمتي أمرا فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئَا فشقّ عليهم فاشقق عليه» . [الأصل الثالث موافقة القول العمل] [الحث على موافقة القول العمل والتحذير من مخالفة ذلك] الأصل الثالث: موافقة القول العمل يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ - كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] سبق الحديث قريِبًا عن الصدق كمظهر أخلاقي في المسلم بصفة عامة وفي القدوة بصفة خاصة. ولعلك أدركت أن الصدق ليس لفظة تخرج من اللسان

فحسب، ولكنه صدق في اللهجة واستقامة في المسلك. الباطن فيه كالظاهر والقول فيه صنو العمل. هذا جانب وجانب آخر أن الناس والنفوس مجبولة على عدم الانتفاع بمن علمت أنه يقول ولا يعمل، أو يعلم ثم لا يعمل ولهذا قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] يقول أبو الدرداء - رضي الله عنه- " لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتًا ". وجانب ثالث وهو ما أشرنا إليه في مبحث أهمية القدوة منِ أن كثيرًا من الناس لا يتوجه نحو العمل حتى يرى واقعًا ماثلًا وأنموذجًا مطبقًا يتخذه أسوة ويدرك به أن هذا المطلوب أمر في مقدور كل أحد. بل متى يكون المرء قدوة صالحة وأسوة حسنة ما لم يسابق إلى فعل ما يأمر به من خير وترك ما ينهى عنه من سوء؟! وقد جاء في الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما- أن

النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه- يعني أمعاءه- في النار فيدور بها كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون: أي فلان ما شأنك؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه» . وقد قيل: وغيرُ تقي يأمرُ الناسَ بالتُقَى ... طبيبٌ يداوي الناسَ وهو عليلُ وهنا مسألة هامة يحسن التنبيه إليها في هذا المقام وهو أن المسلم، حتى ولو كان قدوة مترقيًا في مدارج الكمال قد يغلبه هوى أو شهوة أو تدفعه نفس أمارة بالسوء أو ينزغه الشيطان، فتصدر منه زلة أو يحصل منه تقصير. فإذا حدث ذلك فليبادر بالتوبة والرجوع وليُعْلم أن هذا ليس بمانع من التأسي به والاقتداء، فالضعف البشري غالب والكمال لله وحده ولا معصوم إلا من عصم الله. وقد حدث مالك عن ربيعة قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى

لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال: وصدق من ذا الذي ليس فيه شيء ". وقد قال الحسن البصري لمطرف بن عبد الله بن الشَخير: يا مطرف عظ أصحابك. فقال مطرف: إني أخاف أن أقول ما لا أفعل- فقال الحسن: يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول؟ ؟ لود الشيطان أنه ظفر بهذه منكم فلمِ يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر. وقال الحسن أيضًا: أيها الناس إني أعظكم ولست بخيركم ولا أصلحكم وإني لكثير الإِسراف على نفسي غير محكم لها ولا حاملها على الواجب في طاعة ربها، ولو كان المؤمِن لا يعظ أخاه إلا بعد إحكام أمر نفسه لعُدم الواعظون، وقلَّ المذكرون ولما وُجِد من يدعو إلى الله جل ثناؤه ويرغَب في طاعته وينهى عن معصيته، ولكن في اجتماع أهل البصائر ومذاكرة المؤمنين بعضهم بعضًا حياة لقلوب المتقين، وإذكار من الغفلة، وأمن من النسيان، فألزموا - عافاكم الله- مجالس الذكر، فرب كلمة مسموعةٌ ومحتقرٍ نافعٌ. ومن لطائف الفقه عند أهل العلم رحمهم الله ما ذكروا في تفسير قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]

شواهد حية في مواقف القدوة

[سورة البقرة، الآية: 44] . فالمعنى أن الله ذم بني إسرائيل على هذا الصنيع حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له بل الذم على الترك وحده وليس على الأمر، فإن الأمر بالمعروف مطلوب من العامل ومن المقصر ويتأكد هذا المعنى من الآية الثانية في قوله سبحانه: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79] فالله ذمهم ولعنهم ليس على فعلهم المنكر فحسب بل على تركهم التناهي عنه، فالمقصر عليه واجبان: الأول: الكف عن التقصير والثاني: دعوة المقصرين إلى ترك التقصير. وهو فقه دقيق ينبغي أن ينتبه له الدعاة والمربون وكفى بربك هاديًا ونصيرًا. [شواهد حية في مواقف القدوة] [توضيح موقف وتفسير تصرف] شواهد حية في مواقف القدوة: نعرض في هذه الفقرة إلى بعض الوقائع الماثلة البارزة من سيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العملية كشاهد للصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم في ممارسة القدوة لما يطلبه من أتباعه وأثر ذلك السريع في المتابعة والانصياع، وفي بعض ما سلف دلالة ظاهرة. لكن ما نختاره في هذه الفقرة أكثر

بروزًا في الحياة العملية من سيرة خير البرية نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، وعلى ذلك نقتصر في غير مزيد على سيرة القدوة الأولى وإمام الأئمة نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، وإن كان القارئ الكريم يعلم أن في السلف من بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، نماذج ماثلة وتأس محفوظ وفيما سبق إشارات كقصة الإمام أحمد في فتنة خلق القرآن وغيرها. في صلح الحديبية وبعد أن فرغ الرسول، صلى الله عليه وسلم، من كتابة الصلح مع قريش، «أمر عليه الصلاة والسلام الصحابة أن ينحروا ثم يحلقوا من أجل أن يتحللوا من عمرتهم، لأنهم قد حصروا ومنعوا من البيت. يقول الراوي: فوالله ما قام منهم رجل واحد حتى قال ذلك ثلاث مرات. . فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أم سلمة - رضي الله عنها-: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنتك وتدعو حالقك فيحلق لك. فقام فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنته، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى

كاد يقتل بعضُهم بعضا» . توضيح موقف وتفسير تصرف: يحسن بالقدوة أن يكون على درجة من الشفافية والتحسس ليبقى بعيدا عن موارد الظنون ومواقع التأويلات جاءت أم المؤمنين صفية بنت حيي زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لتزوره في معتكفه في المسجد في العشر الأخير من رمضان، فمكثت عنده وتحدثت ساعة ثم قامت راجعة إلى بيتها، فقام معها النبي، صلى الله عليه وسلم، مصاحبًا لها حتى يبلغها بيتها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، «فقال لهما النبي، صلى الله عليه وسلم: على رسلكما إنما هي صفيةُ بنت حيي فقالا: سبحان الله يا رسول الله وكَبُر عليهم فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم وإني خشيتُ أن يقذف في قلوبكما شيئا» . قال الحافظ في الفتح: "وفيه التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتياط من كيد الشيطان والاعتذار ".

نبي الملحمة

ويقول ابن دقيق العيد: وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدى بهم فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلًا يوجب سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم. [نبي الملحمة] نبي الملحمة "قذيفة من حديد خير من ألف قذيفة من كلام ". إن مئات المواعظ والخطب الرنانة لا تفعل فعل الشجاع الثابت الجأش، وهو ينقض على صفوف الأعداء يَقْدُم جنوده ليقودهم إلى النصر المؤزر، ذلكم هو موقف القائد الأول محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، في غزوة حنين حين كانت ساعاتها الأولى لثقيف وهوازن التي سبقت إلى صعيد المعركة، واحتلت المضايق، وانبثوا في الشعاب والمواقع المنيعة، وبادروا في استقبال المسلمين بوابل من السهام، وكانوا رماة لا يخطئون. فارتاعت الصفوف المتقدمة من المسلمين لهذه المفاجأة المتكاتفة فنكصت كما ذكر الله: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25] وانحاز النبي القائد ذات اليمين مناديًا في الناس: «هلموا إليَّ أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله» ولنترك العباس - رضي

الله عنه- يروي موقف الثبات النبوي يقول: " «شهدت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلم نفارقه ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، على بغلة بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولي المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله يُركض بغلته قِبَل الكفار. قال عباس: وأنا آخذ بلجمام بغلة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أكفها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله، صلي الله عليه وسلم، فقال رسول الله: أي عباس ناد أصحاب السَمُرَة فقال عباس - وكان رجلًا صَيتا- فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ يقول العباس: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا: يا لبيك يا لبيك". فكانت العاقبة نصر المؤمنين: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 26] » [سورة التوبة، الآية: 26] .

أمنة للصحب الكرام

[أمنة للصحب الكرام] أمنة للصحب الكرام: «فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، راجعًا وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يقول مهدئًا من روعهم لم تراعوا، لم تراعوا» . بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام لقد كان أحسن الناس وأجود الناس، وأشجع الناس قولًا وعملا. إن المتأمل ليقف متعجبا لهذه الشجاعة المحمدية، ينطلق الناس قبل الصوت فيجدون إمامهم قد سبقهم بل قد رجع وهم في بداية الانطلاق، إن هذه الدعوة الصامتة للشجاعة مع قوارع القرآن هي التي استنهضت همة الأعمى كابن أم مكتوم ليصر على الجهاد ويحمل الراية، والأعرج كعمرو بن الجموح ليطلب الجهاد بإلحاح قائلًا: "إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة" فيقاتل حتى يقتل. [كرهت أن يحبسني] كرهت أن يحبسني: هذا مثال من غير الشجاعة ولكنه منظوم في سلك السيرة العملية التي ترسم للأتباع، تقطع دابر الوسواس لدى بعض

المتفيقهة ليميزوا ما كان رياءً مما ليس كذلك، فقد روى البخاري في صحيحه عن عقبة - رضي الله عنه- قال: " «صليت وراء النبي، صلى الله عليه وسلم، بالمدينة العصر فسلم ثم قام مسرعًا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حُجَر نسائه، ففزع الناس منِ سرعته فخرج عليهم فرأى أنهم عجبوا من سرعته فقال: ذكرت شيئَا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرتُ بقسمته» ". وبعد: فهذا ما يسر الله سبحانه لعل فيه ما أفاد، فإن كان كذلك فلله الحمد والمنة، وإن كان سوى ذلك فأرجو أن لا يضنّ محبّ بنصح: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] وصلى الله على خير خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1