القبلية في ميزان الشرع وحقيقة تكافؤ النسب في الزواج.

أبو فيصل البدراني

تمهيد

"بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين , أما بعد: فهذه رسالة عن حقيقة اشتراط تكافؤ النسب في الزواج والقبلية في ميزان الشرع ويُلحق بها قياساً (الطبقية والعنصرية والقومية) والناس في التعامل مع هذا الباب طرفان ووسط طرف غلا وطرف جفا والحق هو الوسط كالوادي بين جبلين ومن هذا المنطلق أحببت وضع النقاط على الحروف في هذا الباب وأترك القارىء الكريم مع هذه الرسالة. تمهيد: قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. إن هذه الآية العظيمة، جاءت في سورة الحجرات، وإن شئت فسمها: جامعة الآداب، فبعد أن ذكر الله تعالى جملةً من الآداب العظيمة، والخلال الكريمة، ونهى عن جملة من الأخلاق الرذيلة، والطباع السيئة، قال الله بعدها، مقرراً الأصل الجامع الذي تنطلق منه الأخلاق الحسنة، وتضعف معه أو تتلاشى الأخلاق السيئة، وأنه معيار التفاضل والكرامة عند الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. إنها لآية عظيمة، تبرز ميزان العدل الذي لم تظهر تفاصيله كما ظهرت في هذا الدين. أيها القارئ الكريم: لن يتبين لك موقع هذه الآية الكريمة إلا إذا استعرضتَ في ذهنك شيئاً من الموازين التي كان يتعامل بها عرب الجاهلية في نظرتهم لغيرهم من غير قبائلهم، سواءٌ كانوا من قبائل أخرى أقل منها درجة في النسب، أو في نظرتهم للأعاجم، أو في تعاملهم مع العبيد والموالي. وإليك هذا الموقف الذي وقع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وحدّث به الصحابي صادق اللهجة: أبو ذر رضي الله عنه: روى الشيخان من حديث المعرور بن سويد: قال: مررنا بأبي ذر بالربذة، وعليه بُردٌ وعلى غلامه مثله، فقلنا يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة، فقال: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية»! قلت: يا رسول الله من سب الرجال سبوا أباه وأمه، قال: «يا

أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم» فهذا أبو ذر مع صدق إيمانه، وسابقته في الإسلام، لامه النبي صلى الله عليه وسلم، وعاتبه لما خالف هذه القاعدة القرآنية العظيمة، وعيّر الرجل بمنطق أهل الجاهلية. وليس هذا الموقف الوحيد الذي ربّى فيه النبي صلى الله عليه وسلم على الاهتداء بهدي هذه الآية، بل كررها بعدة أساليب بيانية، وعملية، ولعلي أكتفي بهذين الموقفين: أما الموقف الأول: فهو يوم فتح مكة، حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يصعد فوق الكعبة ليرفع الأذان، في مشهد ما ظنّ بعض مُسْلِمةِ الفتح أن يعيش ليرى هذا العبد الحبشي يقف كهذا الموقف, ولكنه الإسلام، والهدي النبوي الذي يربي بالفعل والقول. وفي ذات اليوم ـ فتحِ مكة ـ يدخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبةَ ويصلي فيها، ولك أن تتفكر من هي الشخصيات المتوقعة التي حظيت بشرف مرافقته في دخوله هذا، والذي أغلق عليه الباب بعد دخوله ومن معه لعله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما؟ كلا .. إذن لعله صهره وزوج ابنتيه ذي النورين: عثمان، وابن عمه علي رضي الله عنهما؟ كلا .. إذن لعله دخل بعض مسلمة الفتح من أكابر قريش؟ كلا, بل لم يدخل معه سوى: أسامة بن زيد ـ مولاه ابن مولاه ـ وبلال الحبشي، وعثمان بن طلحة المسؤول عن مفتاح الكعبة. الله أكبر أي برهان عملي على إذابة المعايير الجاهلية أكبر من هذا؟ مع أن في الحضور من هو أفضل من بلال وأسامة كالخلفاء الأربعة، وبقية العشرة المبشرين. وأما الموقف الثاني: فإنه وقع في أعظم مشهد عرفته الدنيا في ذلك الوقت ... إنه مشهد حجة الوداع، ففي بعض مشاهد تلك الحجة، وبينما الناس مستعدون للنفير من عرفة، وإذا بالأبصار ترمق الدابة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يركبها، ويتساءلون: من الذي سيحظى بشرف الارتداف مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فلم يرعهم إلا وأسامة ـ ذلك الغلام الأسود: مولاه وابن مولاه ـ يركب خلف النبي صلى الله عليه وسلم والناس ينظرون.

فعل هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي خطب ظهر ذلك اليوم خطبته العظيمة التي قرر فيها أصول التوحيد والإسلام، وهدم فيها أصول الشرك والجاهلية، وقال كلمته المشهورة: "إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي هاتين موضوع". أيها القاريء الكريم: هذان الموقفان قطرة من بحر سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم, أما سيرة أصحابه رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان فالمواقف فيها كثيرة وعظيمة، أكتفي منها بهذا الموقف الذي يدل على نبلهم وفضلهم، وشرف أخلاقهم حقاً، جعلهم أهلاً لأن يكونوا خير من يمثل عالمية الإسلام وعالمية الرسالة. كان علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ـ المعروف بزين العابدين ـ وهو من سكان مدينة النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد، يتخطى حلق قومه من قريش، حتى يأتي حلقة زيد بن أسلم ـ وهو مولى لكنه من علماء المدينة الكبار في زمانه ـ فيجلس عنده، فكأن بعض الناس لامه: كيف تجلس ـ وأنت الرجل القرشي وحفيد النبي صلى الله عليه وسلم ـ عند رجل من الموالي؟ فقال: كلمة ملؤها العقل: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه. أيها القاريء الكريم: إن من عظمة هذا الدين أنه لم يربط مكانة الإنسان ومنزلته عند الله بشيء لا قدرة عليه به، فالإنسان لا يختار أن يكون شريف النسب , ولم يربطه بطول ولا قصر، ولا وسامة ولا دمامة، ولا غير ذلك من المعايير التي ليست في مقدور البشر، بل ربطه بمعيار هو في مقدور الإنسان. قال شيخ الإسلام ابن تيمية "وليس في كتاب الله آية واحدةٌ يمدح فيها أحداً بنسبه، ولا يَذُمُّ أحداً بنسبه، وإنما يمدحُ الإيمانَ والتقوى، ويذمَ بالكفرِ والفسوقِ والعصيان" انتهى كلامه. ومما يشهد لما قاله شيخ الإسلام: أن الله تعالى أنزل سورة كاملة في ذم أبي لهبٍ لكفره وعداوته للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقول الشيخ عائض القرني في بيت جميل له: ولا تحسب الأنساب تنجيك من لظى - ولو كنتَ من قيسٍ وعبد مدانِ أبو لهب في النار وهو ابن هاشم - وسلمانُ في الفردوس من خرسانِ

القبلية والقومية وموقف الشرع منها

ومما يُذكر في هذا الباب نهي الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يطرد المؤمنين من ضعفة أصحابه وإن كان القصدُ من ذلك الرغبة في كسب قلوب أكابر قريش، فقال سبحانه: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِين} [الأنعام: 52]، وقال له في الآية الأخرى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]. القبلية والقومية وموقف الشرع منها: في البداية يقول لوط _عليه السلام_ كما أخبر الله تعالى عنه: "قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ" (هود:80)، مسألة مهمة ينبغي التطرق لها بوسطية، وهي أن القومية وروابط وأواصر النسب ربما انتفع بها المسلم بل قد ينتفع بها الكافر، وقد تكون محمودة ما لم يخرج ذلك إلى تجاوز حدود ولاء المؤمنين والبراء من الكافرين، كأن تقدم على أواصر الدين ورباط التقوى، فإذا لم تتجاوز الحد وكانت خاضعة للرابطة الإسلامية وعرى العقيدة، فلا إشكال وإنما الإشكال في استبدالها بها، وعلى كل حال تظل لأواصر النسب والصلة فائدتها وأثرها حتى بين الكفار. قال الشيخ محمد الأمين في معرض نقده المتين للقومية العربية أثناء تفسير الآية التاسعة من سورة الإسراء: "نفع الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب. وقد بين الله جلَّ وعلا أن عطف ذلك العم الكافر على نبيه صلى الله عليه وسلم من منن الله عليه. قال تعالى: "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى" (الضحى:6) أي آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب. ومن آثار هذه العصبية النسبية قولة أبي طالب فيه صلى الله عليه وسلم: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسَّد في التُّراب دفينا وقد نفع الله بتلك العصبية النسبية شعيباً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كما قال تعالى عن قومه: "قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ" (هود: من الآية91). ونفع الله بها نبيه صالحاً أيضا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. كما أشار تعالى لذلك بقوله: "قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ" (النمل: 49) فقد دلت الآية على أنهم يخافون من أولياء صالح، ولذلك لم يفكروا أن يفعلوا به سوءً إلا ليلاً خفية. وقد عزموا أنهم إن فعلوا به ذلك أنكروا وحلفوا لأوليائه أنهم ما حضروا ما وقع بصالح خوفاً منهم. ولما كان لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا عصبة له في قومه ظهر فيه أثر ذلك حتى قال: "لَوْ

أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ" (هود: 80) ". اهـ. والقبلية بصفة عامة لا تُذم فهي قدر كوني، فالله تعالى هكذا خلق عباده شعوباً وقبائل، كما قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات:13). إن القبلية تصنع في كثير من الأحيان نوعاً من الوحدة بين أبنائها فإذا ارتقى هذا الفهم الوحدوي القبلي إلى أن هذه الوحدة القبلية يجب إدخالها في وحدة أسمى منها هدفًا ونوعاً وهي وحدة الأمة الإسلامية كان ذلك تمهيداً لوحدة المسلمين وهي غاية منشودة. ومن الضروري أن تكون هذه الوحدة القبلية دائرة في فلك الوحدة الإسلامية الكبرى ومغذية لها، وعند أي تعارض بين الوحدتين تقدم الوحدة الكبرى ومصالحها على الوحدة الصغرى، ولعل تحقيق هذه الوحدة القبلية الصغرى بهذا الفهم من الأسباب التي لأجلها أمر الإسلام بصلة الأرحام وقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يصل ذوي رحمه وأقاربه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم، وقد جعل الإسلام كثيراً من الأحكام تتعلق بالعشيرة مثل الميراث والعقل وغيرها. ومما يجب على المسلم أن يتجنب من سلبيات القبلية التفاخر بالأنساب فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أحقر عند الله من الجعلان". كما يجب تجنب العصبية القبلية وهي أن يغضب المرء لغضب القبيلة ولو كان غضبها لباطل، ويرضى لرضاها ولو كان عن باطل، وهذه هي حالة الجاهلية عبر عنها شاعرهم، فقال: وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد وقول الآخر: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهاناً ومن السلبيات بالغة الضرر احتقار المسلمين والآخرين لنسبهم المتواضع. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم". ومن أخطر السلبيات تقديم الولاء والتناصر القائم على أساس القبيلة على الولاء القائم على الدين، ولقد حارب الصحابة آباءهم المشركين الصادين عن دين الله مع

حقيقة اشتراط تكافؤ النسب في الزواج

إخوانهم المؤمنين، فإخاء الدين مقدم على إخاء النسب حال التعارض، ويزداد إخاء الدين قوة وصلابة وحقوقاً إذا كان معه صلة قربى ونسب. فمتى ما انتفت هذه السلبيات عن القبلية أثمرت خيراً على المجتمع، فزادت بها وحدته وقويت بها شوكته، وصلح بها أمره، ومتى اقترنت بها تلك الآفات كانت آثارها على المجتمع مدمرة وسيئة. حقيقة اشتراط تكافؤ النسب في الزواج: تمهيد: من المعلوم في الشريعة الإسلامية أن الناس جميعاً سواسية كأسنان المشط؛ لأنهم من أب واحد وأم واحدة، وإنما يفضل الفاضل منهم بتقوى الله وحده، كما قال تعالى: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، وفي الحديث: «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى» رواه أحمد. الناس لآدم وآدم من تراب، ويتجلّى هذا المعنى في الخطاب الديني للمكلفين، كما في اجتماع المصلين على إمام واحد وإقامة الصف وسدّ الخلل فيه، وكذلك اجتماع الصائمين في صيامهم في زمن واحد؛ من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وأيضاً اجتماع الحجيج بسمت واحد وزيّ واحد، كل هذا في صورة مشرقة للوحدة والمساواة والعدالة، لا فضل لأبيض على أسود، ولا لغني على فقير، كلهم أمام الله سواء إلا بالتقوى. ولقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم –: (من ادعى بدعوى الجاهلية فهو من جثا جهنم) فقال رجل: يا رسول الله؛ وإن صلى وصام؟ قال: (وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سمّاكم المسلمين المؤمنين؛ عباد الله) رواه أحمد وغيره. وفي تصفّح لذاكرة التأريخ – لا سيّما عصر صدر الإسلام، وخصوصاً مع سيّد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم – نجد أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أرفعَ الناس قد تزوّج بزينب بنت جحش بعد مولاه زيد، بل هو الذي زوّجها بزيد من قبل رغم أنها قرشيّة وأمها هاشميّة، وأشار النبي – صلى الله عليه وسلم – لفاطمة بنت قيس القرشيّة أن تقبل بنكاح أسامة بن زيد الذي قد استفاض أنه وأباه من الموالي ولا أحد أنصح لفاطمة من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وفي الحديث: «يا بني بياضة أنْكِحُوا أبا هندٍ وأنْكِحُوا إليه» رواه أبو داود وصحّحه ابن حجر. وأبو هند كان حجّاماً وبنوا بياضة أسرة من أسر الأنصار وهم أزديّون من أشرف العرب، وأخرج البخاري في التاريخ الكبير عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي عن أمه قالت: رأيت أخت عبد الرحمن بن عوف تحت بلال , ومن المتقرر أن عبد الرحمن زهريّ قرشيّ، وبلال حبشي عتيق لأبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين.

تعريف الكفاءة

وثبت عند البخاري وغيره عن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس – وكان قرشيّاً ممن شهد بدراً قد تبنى سالماً – ولمّا كبر سالم أنكحه أبو حذيفة ابنة أخيه الوليد بن عتبة، وسالم هذا إنما هو مولى لامرأة من الأنصار، ولهذا من المقرر في الشرع تكافؤ الناس وتساويهم في أنسابهم، ولهذا عمل الصدر الأول من هذه الأمة بقاعدة تكافؤ الناس في أنسابهم وإذا كان هذا حال الصحابة – رضي الله عنهم – الذين لم يعيروا للعرقيّة والقبليّة اهتماماً زائداً وخارجاً عن حدود الشرع فهل الذين يميّزون بين الناس على أساس العرق والنسب سبقوا الصحابة إلى خير؟! وعموماً فإني قبل الشروع في حكاية مذاهب العلماء في مسألة تكافؤ النسب في الزواج يجب أن تعلم أن للزوجة أن ترد من شاءت ممن تقدم لطلب الزواج بها ولا يجب عليها الموافقة على أحد بعينه ولو كان صالحاً وأنها لو ردت أحد من غير طبقتها لا تُلام على ذلك كأن تجد نُُفرة طبيعية منه بسبب اختلاف العرق أو العادات والتقاليد ونحو ذلك ولكن بلا تحقير ولا تعالي على من تقدم لها , وعلى هذا فالمقصود في حقيقة حكم اشتراط الكفاءة في النسب في الزواج فيما لو كانت المخطوبة والخاطب يريدون الزواج مع عدم تكافؤ النسب , ولتفصيل المسألة فإليك مايلي: أولاً: تعريف الكفاءة عموماً: أ-الكفاءة في اللغة: هي المساواة والمماثلة، من كافأه: إذا ساواه يقال: فلان كفء لفلان، أي مساو له. والكفء معناه: المثيل والنظير ومنه قوله تعالى (ولم يكن له كفواً أحد) (الإخلاص:4) أي: لا مثيل له سبحانه وتعالى ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم (المسلمون تتكافىء دمائهم، ويسعى بذمتهم أدناهم) أي تتساوى فيكون دم الوضيع كدم الرفيع. وكفؤ الخاطب كفاءةً وكفاءً: صار كفيئاً لمن خطب إليه. الكفاءة في النكاح، اصطلاحاً: هي كون الزوج نظيراً للزوجة أي: هي مساواة الرجل للمرأة في أمور مخصوصة، بحيث لا تُعيّر الزوجة ولا أولياؤها بزواجها منه، ومن الفقهاء من عرفها بأنها: أمر يوجب عدمه عاراً والعار هنا بمعنى حصول الانتقاد للمرأة أو أولياؤها لقبولهم بهذا الزواج مما يوقع ضرراً معنوياً بسمعتهم، لأنهم يتعيرون بأن ينسب إليهم بالمصاهرة من لا يكافئهم.

خصال الكفاءة المعتبرة عند الفقهاء

خصال الكفاءة المعتبرة عند الفقهاء: خصال الكفاءة هي: الصفات المعتبرة في النكاح، بحيث يصار إلى اعتبار وجود مثلها في الزوج وهي لا تخرج في مجموعها – عند الفقهاء –عن ست خصال هي: الدين، والنسب والصنعة والحرية والمال أو اليسار، والسلامة من العيوب، وقد يعبر عنه بالحال وقد نظم بعضهم ما تعتبر فيه الكفاءة، فقال: شرط الكفاءة ستة قد حررت ينبيك عنها بيت شعر مفرد نسب ودين صنعة حرية فقد العيوب وفي اليسارتردد. ولم يتفق الفقهاء إلا على اعتبار خصلة واحدة منها، وهي الدين فقط والمراد به تحري الصلاح والاستقامة والخلق المرضيّ في الزوج ثم اختلف الفقهاء فيما سوى ذلك، وعلى هذا فالكفاءة المعتبرة في النكاح هي الكفاءة في الدين، فلا تزوج مسلمة بكافر اتفاقاً، إلا الكتابية بشرط الإحصان، وهو أن تكون عفيفة عن الزنا، أو تابت بعد زناها واستبرأ رحمها. والفاسق المشهور بفسقه يُمنع من الزواج بالمرأة ذات الدين حيث لا يؤمن عليها منه فقد يمنعها حقوقها أو يضطرها إلى ارتكاب ما حرم الله عليها وبالتالي فلا تُزوج عفيفة ذات دين بفاسق أو فاجر عند أكثر أهل العلم. وأما الكفاءة في النسب، فهي معتبرة عند أكثر أهل العلم أيضاً وهو الأقرب للصواب ولها وجهة وتأثير، إلا أنهم يقولون إن الكفاءة في النسب حق للمرأة والأولياء فلهم اشتراطه، ولهم إسقاطه، وإذا أسقطوه صح النكاح ولم يبطل , ولكن هنا تنبيه مهم: وهو أن الكفاءة في الزواج معتبرة في جانب الزوج دون الزوجة، فلا بد أن يكون الزوج كفؤاً للمرأة ومماثلاً لها، ولا يشترط العكس. والدليل: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا مكافئ له في منزلته، وقد تزوج من أحياء العرب، ومن صفية بنت حيي، وكانت يهودية فأسلمت. ولأن المرأة ذات المنزلة الرفيعة هي التي يلحقها العار هي وأولياؤها عندما تتزوج من غير الكفء، أما الزوج الشريف فليس كذلك عندما يتزوج من هي دونه منزلة. وليعلم القارىء الكريم أن الاختلاف بين أهل العلم في هذه المسألة لا يعني احتقار الآخرين من ذوي الأنساب غير الرفيعة، فقد يكون صاحب النسب الرفيع لا يساوي عند الله جناح بعوضة، وقد يكون من هو في نظر الناس وضيع النسب ممن لو أقسم على الله لأبره، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح، وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: أعيرته بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية. رواه الشيخان. ولكن اعتبار النسب فيه دفع الضرر عن المرأة وأوليائها لما يلحقهم من العار، واعتبار الأنساب واقعٌ فرض

مذاهب وأقوال العلماء في اعتبار الكفاءة في النسب

نفسه، فينبغي أن يكون علاجه بشيء من الصبر وطول النفس، وشرح الإسلام للناس شرحاً صحيحاً على ضوء إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ولمزيد من البيان نورد أقوال أهل العلم في هذا الباب ولكن قبل حكاية خلاف العلماء نذكر مالا ينبغي أن يُختلف فيه وهو أن الأولياء إذا أرادوا فسخ النكاح درءاً للمشاكل فلا بأس , وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم (لاضرر ولاضرار)؛ لكن هل يجب فسخه؟ هنا الخلاف وخاصة إذا أراد الزوجان التمسك ببعض ورضي كل واحد منهما بالآخر. وإليك مذاهب وأقوال العلماء في اعتبار الكفاءة في النسب: القول الأول: أنه لا اعتبار بالنسب، وهو قول الإمام مالك رحمه الله ومن وافقه وهو أن المعتبر في الكفاءة الدين، وأنه لا يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث. وجعلوا المسلمين متكافئين لا فرق بين عربيهم وعجميهم لقوله تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات:13]، ولقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) [الحجرات:10] ولقوله صلى الله عليه وسلم " لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب" رواه أحمد، وروى الإمام أحمد وأبو داود رحمهما الله. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن" وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية من زيد بن حارثة مولاه، وزوج فاطمة بنت قيس القرشية من أسامة وهو وأبوه عتيقان، وقال الإمام الصنعاني في سبل السلام: قد صح أن بلالاً نكح هالة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فالمعتبر هو الدين. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" رواه الترمذي وهو حسن. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تنكح المرأة لأربع، لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" متفق عليه. القول الثاني: أن الكفاءة في النسب شرط لصحة النكاح، وهي إحدى الروايتين عن أحمد، وهذا القول من مفردات مذهب الحنابلة. فمنهم من جعل الأعجمي (غير العربي) ليس كفؤاً للعربية، لأن العرب يعتدون بالكفاءة في النسب، ويأنفون من

نكاح الموالي ويرون ذلك نقصاً وعاراً، ويؤيده الحديث في صحيح مسلم: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم "، ولأن العرب فّضلوا على الأمم برسول الله صلى الله عليه وسلم. القول الثالث: - وهو قول وسط بين القولين السابقين وهو الأقرب للصواب - أن الكفاءة حق للزوجة والأولياء، فإذا أسقطوه فلهم ذلك والنكاح صحيح، وهذا مذهب جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية والشافعية وهو المعتمد عند الحنابلة. ومع ترجيحي لقول الجمهور فإني لا أسفه الآراء الأخرى؛ بل أحترم قولهم، وأرى أن لها وجهاً قوياً من النظر. ثم إنه ينبغي التنبيه إلى أن الكفاءة في النسب حق للمرأة وللولي الأقرب دون الأبعد، فلو زوجها الولي الأقرب بغير كفء وبرضاها، لم يكن للولي الأبعد الاعتراض على هذا الزواج وليس من حقه المطالبة بفسخ عقد النكاح، وإذا تساوى الأولياء في درجة القرابة، فزوجها أحدهم دون رضا الباقين لم يلزم النكاح، وكان لهم حق الاعتراض والفسخ وقد قيل حق الأولياء في الاعتراض والفسخ مقيد بعدم دخول الزوج بزوجته، أو بعدم ولادتها بولد منه على أقصى حد، وقد اختاره بعض العلماء أما لو غر الزوج أولياء المرأة بأن كذب عليهم بقصد أو بدون قصد وقت إنشاء العقد فإن الحكم في هذه الحالة أن يُنظر في الأمر فإذا كان نسبه الحقيقي مثل ما ادعاه لنفسه أو أعلى منه، فعقد النكاح لازم ولا خيار للمرأة ولا أوليائها في فسخ العقد، أما إذا كان نسبه الحقيقي دون ما ادعاه لنفسه فعقد النكاح غير لازم وخيار الفسخ ثابت للمرأة وأوليائها متى علموا بذلك، أما إذا كانت المرأة هي التي غرت الزوج وانتسبت إلى غير نسبها، فإنه لا خيار للزوج في فسخ النكاح، لأن الكفاءة في جانب النساء غير معتبرة. . من أسباب ترجيحي للقول الثالث وهو قول الجمهور: أن التكافؤ بشكل عام من العوامل الأساسية لإنجاح الحياة الزوجية بعد توفيق الله، وكل ما كان التقارب في المستوى الديني والمادي والاجتماعي والفكري والثقافي والعلمي والعمري وفي العادات والتقاليد, كان ذلك أدعى لنجاح العلاقة بين الزوجين , وهذا في الأعم الأغلب , وكما لا يخفى على القارىء الكريم أن الزواج ليس هو علاقة بين فردين: الزوج والزوجة، بل هو علاقة بين أسرتين، بل ربما أكبر من ذلك، والنظر لمستقبل الأيام وما قد يُحدثه هذا الزواج من مشكلات لاحقة بين ذلك الخاطب ووالدته، أو أسرته من مشكلات المسلم في غنى عنها. وكذلك بالتكافؤ يكون الحصول على ثمرة الزواج المتمثلة بالسكن الوارد في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً

مسائل مهمة

وَرَحْمَةً} [الروم:21]. ولتحقيق شروط السكن والمودة والرحمة داخل بيت الزوجية، لابد من اعتبار بعض العوامل الأخرى غير الدين فالبيوت المسلمة السعيدة تقوم على أمور أخرى لتدعم التدين فيما يخص شئون الحياة، وإن كان شرطها الأول والأهم هو الدين وهو الإطار الذي يحكمها، ولكن لابد من عدم الغفلة عن الشروط الأخرى، وهذا مذهب الجمهور الذي يقول: (أنه يراعى في زواج المسلمة أربعة أشياء الدين والحرية والنسب والصنعة , فلا تزوج المسلمة من كافر , ولا الصالحة من فاسق وقيل هذا على سبيل الكراهة لا التحريم وخاصة مع عدم وجود البديل الصالح , ولا الحرة من عبد , ولا المشهورة النسب من الخامل , ولا بنت تاجر أو من له حرفة طيبة ممن له حرفة خبيثة أو مكروهة , فإن رضيت المرأة أو وليها بغير كفء صح النكاح) انتهى. وإلغاء مثل هذا الشرط أو التغافل عنه يوقع في الغالب في مشاكل خطيرة قد تصل إلى حد الطلاق، فبالتكافؤ تقوي رابطة العلاقة بين الزوجين، وبالتوافق في الثقافة والتقاليد والعادات .. يشيع جو جميل من الانسجام والتفاهم بين الزوجين، وهذا هو معنى السكن الحقيقي الذي ذكره القرآن ونوَه به. مسألة: ما هو وقت اعتبار الكفاءة؟ أي بمعنى آخر هل يشترط الفقهاء الكفاءة في الزوج في وقت إنشاء العقد، أو لابد من استمرارها طوال فترة الحياة الزوجية وإلا فهو مهدد دوماً بفسخ نكاحه؟ إن الذين اعتبروا الكفاءة شرطاً في النكاح يجعلون العبرة بحال الزوج في وقت إنشاء العقد؛ وعلى ذلك إذا تخلف وصف من أوصاف الكفاءة - القابلة للتخلف- كالمال: بأن كان قادراً على الإنفاق، ثم صار غير قادر عليه بعد الزواج، أو الدين بأن كان متديناً ثم شذ ففسق، أو الحرفة: بأن كان يحترف مهنة شريفة كالتجارة فأفلس فاحترف مهنة حقيرة؛ ففي هذه الأحوال لا يفسخ النكاح لتخلف الكفاءة بل يبقى؛ لأن النكاح قد تقرر، فلا يُفسخ بهذه الأمور العارضة. فالكفاءة إذاً عند من اعتبرها شرطٌ لابتداء النكاح لا في بقائه. وهنا مسألة مهمة: ماذا لو عقد مسلم على مسلمة عقد النكاح الصحيح المحتوي على إيجاب الولي وقبول الزوجة وحضور الشهود، وليس بينهم تكافؤ في النسب وكنت ممن يرى عدم اعتبار الكفاءة في النسب ففي هذه الحال لا يجوز لك إجبارهم على الطلاق بحجة عدم تكافؤ النسب على ما تدين الله به، إلا أن يكون هناك سبب آخر موجب للطلاق.

هل اعتبار النسب في مسألة الكفاءة في النكاح، عند أهل العلم مبني على الهوى؟

مسألة أخرى: ماذا لو رفض الأب تزويج ابنته من شاب صالح، لكونه أرفع منه نسباً، الذي يظهر لي أن عليها طاعته، وإن كان قد خالف الصواب في نظرك , ولو كانت الفتاة لا ترى الكفاءة في النسب حقاً لأوليائها ولجأت للمحكمة ورفعت أمرها إلى القاضي لينظر فيه ويتخذ اللازم فيه فلا تثريب عليها وإن كان الأولى والأفضل طاعتها لأبيها درءاً للشقاق. وهنا تنبيه أيضاً مهم: وهو إذا كان الحكم في المحاكم الشرعية بخلاف ما يراه المسلم في اعتبار الكفاءة في النسب من عدمها، فإنه يلزم المسلمين في ذلك البلد الخضوع للقضاء الشرعي ببلدهم. هل اعتبار النسب في مسألة الكفاءة في النكاح، عند أهل العلم مبني على الهوى؟ الجواب لا ,فإن مسألة الكفاءة في النسب ليس مردها إلى الأهواء والشهوات والنعرات الجاهلية، بل المرجع في ذلك هو إلى الشريعة الغراء، وإذا تأملت بإنصاف وعدل لوجدت أن الإمام الأعظم أبا حنيفة رحمه الله وهو فارسي يعتبر النسب من ضمن الكفاءة في النكاح، فيرى أن الفارسي ليس كفؤا للعربية، والإمام مالك بن أنس العربي يعتبر أن النسب ليس من كفاءة النكاح، فيعتبر غير العربي كفؤا للعربية والقرشية، فهؤلاء عند ما قرروا الأحكام الشرعية لم ينطلقوا من منطلقات عنصرية. واعلم أيضاً أن كثيراً ممن ينقدون هذا الرأي الفقهي هم أشد الناس تطبيقاً له، فلو تقدم إلى بنت أحدهم -وهو مدير إدارة- صاحب حرفة دنيئة كفرَّاش أو مُرَقع أحذية لما قبله، بل لربما آذاه بالقول والفعل. واعلم أن لمن اعتبر الكفاءة في النسب شرط صحة أو لزوم حججاً من الشرع والمعنى يركنون إليها ويعتمدون عليها، ومن ذلك: أولاً: ما رواه مسلم من حديث واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم. وهذا الحديث وإن كان صحيحاً؛ إلا أن الاستدلال به على الكفاءة في النسب فيه نظر، كما قال ذلك الحافظ في الفتح وغيره. ثانياً: يستدلون بحديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العرب بعضهم أكفاء بعض والموالي بعضهم أكفاء بعض إلا حائكاً أو حجاماً" رواه الحاكم. لكن هذا الحديث قد حكم عليه ابن عبد البر بأنه منكر أو موضوع، وله طرق إلا أنها كلها واهية، فلا يثبت بمثله حكم.

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في بلوغ المرام عن ما رواه الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض، إلا حائك أو حجام) وفي إسناده راو لم يسم، واستنكره أبو حاتم. ثالثاً: ما رواه النسائي وابن ماجه إن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالت له: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته. قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء. وابن العم وإن كان كفؤا في النسب إلا أن موطن الشاهد في الحديث أنه كان فيه خسة فلم يكن كفؤا لها، وهو يدل على أن الكفاءة حق للمرأة لما يلحقها من النقص والعار بالزواج ممن ليس كفؤا لها، ولها أن تسقط الحق كما فعلت هذه المرأة. وأما حجتهم من المعنى فهي أن قبول الأولياء بمن تقدم إليهم لا يجب عليهم، بل لهم أن يرفضوه ولو كان ذا نسب رفيع، فكيف إذا كان يلحقهم بذلك العار، ويصل إليهم من سباب الناس وشتمهم لكونهم قبلوا بفلان زوجاً لابنتهم. والذي يظهر أن مذهب الجمهور هو الراجح وهو أن الكفاءة حق للزوجة والأولياء، فإذا أسقطوه فلهم ذلك والنكاح صحيح. ولتعلم أخي القارىء أن كثيراً من أهل العلم الذين اشترطوا الكفاءة في النسب قد دفعهم لذلك زيادة على ما أسلفنا أنه لما بَعُد الناس عن الشرع وتعلَّقوا بأنسابهم القبلية وانتماءاتهم الأسرية ورفض الكثير منهم مبدأ المساواة في النسب من حيث النكاح، ووصل الحال إلى الإنكار والاستنكاف حتى إن من يقدم على التزوج من غير طبقته قد يخاطر بنفسه خاصة في المناطق القبلية والعشائر والبوادي، وإذا وصل الحال إلى الإنسان بأن يصبح في خطر من تزوجه من غير طبقته بحيث يتعرض للتهديد أو الضرر أو الإساءة إلى أسرته بالاستهزاء والسخرية والسب والأذى فإن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، بل قد يصل الحال إلى التهديد بالقتل في بعض الأحيان والشرع لا يأمر بالمخاطرة إلى درجة أن تذهب النفس أو يسفك الدم، أيعيش الإنسان مرعوباً مهدداً لا يأمن على أسرته ونفسه من أجل تطبيق بعض أفراد الشريعة ولهذا نصَّ بعض الأئمة الكبار على اشتراط الكفاءة بالنسب كشرط صحة، وهو قول ضعيف لكن بعضهم نظر إلى ما قد يترتب على هذا الأمر من مفاسد، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوِّجوه»،، فإن الناس جميعاً خُلقوا أحرارا، كما قال عمر: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم

هل الخلاف في مسألة الكفاءة في النسب يعارض الولاء والبراء الشرعي؟

أمهاتهم أحرارا ولكن من حِكْمة الشريعة الإسلامية أنها تراعي المصالح وتدفع المفاسد، فإذا كبرت المفسدة وعَظُمَتْ وقلَّت المصلحة وصَغُرَتْ دُفعت المفسدة الكبرى بترك المصلحة الصغرى، وحفظ الإنسان في نفسه وعرضه مقدم على تحصيل مصلحة تقرير زواجه من غير طبقته؛ ليقيم بذلك قاعدة التكافؤ في النسب. هل الخلاف في مسألة الكفاءة في النسب يُعارض الولاء والبراء الشرعي؟ الجواب لا , فمسألة الولاء والبراء الشرعي مطلوبة وإيثار المؤمن على الكافر مطلوب أيضاً ومودة المسلم الصالح التقي النقي أياً كان نسبه وعرقه مطلوبة كذلك , واعطاء المسلم حقوقه كجار وزميل عمل ومكافأته على المعروف ونصرته على الدين وإعانته على نوائب الدهر وتفقد أحواله والإحسان إليه بعموم الإحسان مطلوب أيضاً وعدم احتقاره أو هجره واجب إلا أن مسألة الزواج هي قدر زائد عن ذلك. هل يُقاس على اشتراط الكفاءة في الزواج , الكفاءة في الصحبة والصداقة؟ الجواب لا , لأنه قياس مع الفارق وذلك أنه ليس لأهل المسلم وعشيرته حق في تحديد صحبة المسلم مالم يكن هناك ضرر عليه أو على ذويه أو يكون هناك موجب شرعي معتبر كصحبة الفاسق ونحوه والذي ينبغي من جهة الكمال ألا يلتفت المسلم لهذه الاعتبارات إلا اعتبار الدين وخاصة لمن كان إماماً في الدين إلا أن المسلم لا يجب عليه مصاحبة أحد بعينه من المسلمين لا سيما من تجلب عليه مصاحبته أذىً شديداً ولا يأثم بترك صحبة من كان أقل منه كفاءة دون أن يقاطعه أو يؤذيه بقول أو فعل، لكن لو أخذ بالعزيمة وصبر على مصاحبته وما يلقاه من أذية فهو أولى له بلا شك قال تعالى لنبيه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا {الكهف:28}., وأما عدم مصاحبة المسلم لبعض أفراد المسلمين المعينين بسبب عدم الانسجام وعدم التوافق الطبيعي الذي سببه اختلاف العرق أو النسب أو العادات والتقاليد لا تثريب عليه في ذلك مالم يحمله ذلك على غمطهم والتكبر عليهم , والناس في هذا الباب درجات فمنهم من هو منفتح على الآخرين ويحتويهم ومنهم المنغلق على ذاته الذي لا يستطيع أن يُعاشر أحد غير من كان من بلده وقومه وعشيرته حتى , وليعلم المسلم أن ماقررناه لابد فيه من مراعاة اعطاء المسلم حقوقه كجار وزميل عمل ومكافأته على المعروف ونصرته على الدين ومحبته في الله وموالاته وإعانته على نوائب الدهر وتفقد أحواله وإجابة دعوته وحسن الإقبال عليه ومعاملته بالحسنى والإحسان إليه بعموم الإحسان وهذه الأمور لا تسقط بحال لأنها من حقوق أخوة الإسلام وهي مطلوبة ويجب البعد

عن احتقار المسلم أو هجره أياً كان إلا أن المصاحبة هي قدر زائد على أخوة الدين, هذا والله تعالى أعلم. ملاحظة: ليعلم القارىء الكريم أن مصدر هذه الرسالة بعض المواقع والفتاوى والمقالات لأهل العلم المعاصرين ومنهم الشيخ ناصر العمر وعائض القرني وخالد الجريسي وعمر المقبل وعبدالله بن أحمد الحمادي وموقع إسلام ويب وموقع المسلم ولكن بتصرف يسير مني. وختاماً هذا ما من الله به، ثم ما وسعه الجهد، وسمح به الوقت، وتوصل إليه الفهم المتواضع، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن فيه خطأ أو نقص فتلك سنة الله في بني الإنسان، فالكمال لله وحده، والنقص والقصور واختلاف وجهات النظر من صفات الجنس البشري، ولا أدعي الكمال، وحسبي أني قد حاولت التسديد والمقاربة، وبذلت الجهد ما استطعت بتوفيق الله - تعالى-، وأسأل الله أن ينفعني بذلك، وينفع به جميع المسلمين؛ فإنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. لإبداء الملاحظات والاقتراحات فيرجى التواصل على البريد الإليكتروني: [email protected] أخوكم أبو فيصل البدراني

§1/1