القبس في شرح موطأ مالك بن أنس

ابن العربي

كتاب القبس في شرح موطأ مالك بن أنس لأبي بكر بن العربي المعافري الجزء الأول درَاسَة وتحقيق الدكتور محمد عبد الله ولد كريم دار الغرب الإسلامي

بسم الله الرحمن الرحيم ربنَا عليك توكلنَا وإليك أنبنا وإليك المصِير هذا الكتاب رسالة دكتوراه قدمت إلى كلية الشريعة والدراسات الاسلامية بجامعة أم القرى بمكة المكرمة بتأريخ 21/ 8/ 1406 هـ الموافق 30/ 4/ 1986 وحصلت على درجة الامتياز في الكتاب والسنة.

كتاب القبس 1

جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى 1992 دار الغرب الإسلامي ص. ب: 5787/ 113 بيروت - لبنان

كلمة شكر وتقدير

كلمة شكر وتقدير الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد .. فإني أشكر الله تعالى على فضله حيث أتاح لي إنجاز هذا العمل بفضله، فله الحمد أولاً وآخراً. ثم أشكر أولئك الأخيار الذين مدوا لي يدَ المساعدة، خلال هذه الفترة، وفي مقدمتهم أستاذي المشرف على الرسالة فضيلة الأستاذ الدكتور/ عبد العال أحمد عبد العال الذي لم يدَّخر جهداً في مساعدتي، فقد فتح لي بيته، كما هي عادته مع كل طلبة العلم، وكنت أجلس معه الساعات الطوال أقرأ عليه ولا يجد في ذلك حرجاً، وكان يحثّني على البحث، ويرغِّبني فيه، ويقوّي عزيمتي عليه فله من الله الأجر ومني كل تقدير حفظه الله ومتّعه بالصحة والعافية ونفع بعلومه. كما أشكر القائمين على جامعة أم القرى وعلى رأسهم معالي الدكتور/ راشد بن راجح الشريف، مدير الجامعة، وسعادة العمداء: الدكتور/ عليان الخازمي العميد السابق لكلية الشريعة والعميد الحالي لكلية اللغة العربية، والدكتور/ علي عباس الحكمي العميد السابق لكلية الشريعة ووكيله الدكتور حمزة حسين الفعر، كما أشكر سعادة عميد كلية الشريعة الحالي سعادة الدكتور/ صالح بن عبد الله بن حميد.، ووكيله سعادة الدكتور سليمان التويجري حفظهما الله ووفقهما لكل خير لما يبذلانه من اهتمام بطلاب كلية الشريعة بصفة عامة وطلاب الدراسات العليا بصفة خاصة. كما أشكر القائمين على الدراسات العليا وكذلك القائمين على مركز البحث العلمي وخاصة مديره سعادة الدكتور عبد الرحمن العثيمين.

وكذلك القائمين على مكتبة الحرم المكي، فقد عايشتهم فترة إعداد هذه الرسالة، ولمست منهم كل مساعدة وخاصة أمين المكتبة الرجل المتواضع الحريص على مساعدة طلاب العلم الأستاذ/ عبد الله المعلمي، وأشكر أساتذتي بقسم الدراسات العليا عموماً وأخصّ أستاذي الدكتور أحمد محمَّد نور سيف، والدكتور الشريف منصور العبدلي، وكذلك الدكتور محمَّد أبو الأجفان الأستاذ بجامعة الزيتونة بتونس. والأستاذ محمَّد أبو خبزة أمين المخطوطات بمكتبة تطوان بالمغرب، والأستاذ أحمد جكنه البلعمشي رئيس مصلحة التراث بالمغرب. كما أشكر الزملاء الأخ إبراهيم محمَّد نور سيف، الأستاذ بالجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة، وسعادة الدكتور بابا بن بابا والشيخ حمد أبو بكر الملا، والأخ رضا محمَّد صفي الدين السنوسي، والأخ عبد الله أحمد ومحمد بن دحان. فإلى هؤلاء جميعًا وغيرهم من الأخوان أقدم شكري. والله أسأل أن يجزيهم عني خير الجزاء لما قدموه لي من مساعدة طيبة.

المقدمة

المقدمة الحمد لله العليم الحكيم باعث الرسل هادين إلى طريقه المستقيم، والصلاة والسلام على من جاء رحمة للعالمين ومنقذاً للبشرية من الشر والضلال {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء/ 107] نبينا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد، فإنما الهدى هدى الله وقد اشتمل عليه كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. والسنة النبوية بعد القرآن الكريم أشرف العلوم وأعلاها؛ إذ هي المبينة لمشكله، المفصّلة لمجمله، المخصّصة لعامه، المقيّدة لمطلقه وفيها أسند الله إلى رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، بيان القرآن (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل/ 44]. وكان بيانه - صلى الله عليه وسلم - معصوماً موفقاً {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم/ 3 - 4]. ولولا بيان السنة للقرآن لما عرفنا كثيراً من الأحكام كأعداد الصلوات والركعات ومقادير الزكاة ومناسك الحج. وقد أمر الله تعالى، عند التنازع، بالرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله فقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللِه والرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله} [النساء/ 59]. وقال: (فَلَا ورَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فَيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء/ 65]. لهذا تضافرت جهود المحدثين لخدمة السنة النبوية واهتموا بحفظها وتدوينها اهتمامًا بالغاً، فقد نقل الصحابة، رضوان الله عليهم، لنا أقوال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله كلها من مطعم ومشرب ويقظة ونوم وقيام وقعود، فلم يتركوا شيئاً صدر عنه، - صلى الله عليه وسلم -، إلا نقلوه. وكان من شدة حرص الصحابة على تلقّي السنة من الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، أنه إذا كانت

لأحدهم حاجة تمنعه من الحضور إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ينوب أحد إخوانه فينقل له ما سمعه من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -. ففي البخاري عن عمر بن الخطاب قال: كنتُ أنا وجار لي من الأنصار في بني أُميّة بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ينزل يومًا وأنزل يوماً، فإذا نزلتُ جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وإذا نزل فعل مثل ذلك .. (¬1). وهكذا كان اهتمام الصحابة، ومن بعدهم، في حفظ السنة ونقلها جيلاً بعد جيل، رواية وحفظاً، دون اعتماد على كتابة أو تدوين. لذا لم تكن الأحاديث في عصر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وعصر أصحابه والتابعين مدوَّنة في الجوامع، ولا مروية, لأنهم كانوا، في بداية الأمر، نُهُوا عن الكتابة. روى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لَا تَكْتُبُوا عَنِّي، وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ القُرْآنِ فَلْيَمْحُهِ وَحَدِّثُوا عَنِّي وَلَا حَرَجَ. وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً .. فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (¬2) وذلك مخافة اختلاط القرآن الكريم بغيره. وبعد أن رسخ حفظ الصحابة للقرآن ولم يُخْشَ خلطهم له بسواه أذِن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، لبعض الصحابة بالكتابة. فقد روى الإِمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: "كنت أكتب كلَّ شيء أسمعه من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، أريد حفظه فنهتني قريش فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا. فأمسكت عن الكتابة فذكرت ذلك لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "أُكْتبْ فَوَالَّذِي نفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنّي إلّا حَقٌ" (¬3). وهكذا ثبت النهي عن كتابة الحديث، وثبت الأمر بها وكلا الأمرين حق. يقول الدكتور أكرم ضياء العمري: ذهب بعض العلماء إلى أنّ أحاديث السماح بالكتابة نسخت أحاديث النهي عنها، وذلك بعد أن رسخت معرفة الصحابة بالقرآن فلم يُخشَ خلطهم له بسواه. وممن ذهب إلى النسخ من المتقدمين ابن قتيبة الدينوري، ومن ¬

_ (¬1) البخاري في كتاب العلم، باب التناوب في العلم 1/ 33. (¬2) مسلم في كتاب الزهد، باب التثبت في الحديث 4/ 2298 - 2299. (¬3) المسند 2/ 162. وانظر الفتح الرباني 1/ 172، وأبا داود 4/ 60. والحديث نقل الشيح البنا عن الحاكم أنه قال: صحيح الإسناد وأقره الذهبي.

المعاصرين الشيخ أحمد شاكر. وهذا الرأي لا يتعارض مع تخصيص بعض الصحابة مثل عبد الله بن عمرو بالإذن في وقت النهي العام لأن إبطال المنسوخ بالناسبخ لا علاقة له ولا تأثير في تخصيص بعض أفراد العام قبل نسخه (¬1). وفي رأس القرن الثاني نشطت حركة تدوين الحديث بعناية الخليفة العادل عمر ابن عبد العزيز؛ فقد كتب إلى أبي بكر بن حزم: (انظر ما كان من حديث رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا تقبل إلا حديث النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً) (¬2). وكان محمَّد بن شهاب الزهري، أحد أئمة العصر، استجاب لطلب عمر بن عبد العزيز، وكان شغوفاً بجمع الحديث والسيرة، بجمع حديث المدينة وقدّمه إلى عمر ابن عبد العزيز الذي بعث إلى كل أرض دفتراً من دفاتره (¬3). وبذلك مهّد الطريق لمن بعده من العلماء المصنفين في القرن الثاني الهجري حيث نشطت حركة تدوين الحديث، ودأب العلماء على ذلك، وكان لفشو الوضع في الحديث أثر في تأكيدهم على التدوين حفظاً للسنّة ومنعاً للتلاعب بها (¬4). وشاع التدوين في الطبقة التي تلي الزهري. وممن اشتهر بوضع المصنفات: عبد الملك بن جريج (ت 150) بمكة، ومحمد ابن إسحاق (ت 151) بالمدينة، ومالك بن أنس (ت 179) بالمدينة، وسفيان الثوري (ت 161) بالكوفة، والربيع بن صبيح (ت 190) وسعيد بن أبي عروبة (ت 156) وحماد ابن سلمة (ت 176) بالبصرة، والأوزاعي (ت 158) والليث بن سعد (ت 175) بمصر، وعبد الله بن المبارك بخراسان وغيرهم (¬5). وقد ألّفتْ الكتب على أغراض مختلفة منها على المصنفات كمصنف ابن أبي شيبة (ت 235)، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211 هـ). ¬

_ (¬1) بحوث في تاريخ السنة المشرّفة ص220 - 221، وانظر مختلف الحديث لابن قتيبة ص 365. والباعث الحثيث ص 133. (¬2) البخاري في كتاب العلم باب كيف يقبض العلم 1/ 36. (¬3) جامع بيان العلم وفضله 1/ 76. (¬4) بحوث في تاريخ السنة ص 227. (¬5) انظر بحوث في تاريخ السنة ص 228.

سبب اختياري للموضوع

كما ألفت الكتب على المساند كمسند أبي داود الطيالسي (ت 204)، ومسند الإِمام أحمد (ت 241)، ومسند بقي بن مخلد (ت 276). كما ألفت كتب مرتَّبة على أبواب الفقه، وممن سلك هذا الطريق محمَّد بن إسماعيل البخاري (ت 256)، وجرى على منواله الإِمام مسلم بن الحجاج النيسابوري (261) في صحيحه، وقد تابعهم في الترتيب على أبواب الفقه معاصروهم والمتأخرون عنهم مثل: أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 273) في سننه. ابن ماجه محمَّد بن يزيد (ت 273) في سننه. الترمذي محمَّد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت 279) في جامعه. النسائي أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي (ت 303) في سننه. وقد اعتبر العلماء القرن الثالث أسعد عصور السنة وأزهاها؛ ففيه دُوِّنت الكتب الستة التي اعتمدها الأئمة ونشطت رحلة العلماء، وكان اعتمادهم على الحفظ والتدوين معاً فكان النشاط العلمي قوياً خلاله .. لذلك اعتبر الذهبي رأس سنة ثلثمائة للهجرة الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين من نقاد الحديث (¬1). سبب اختياري للموضوع: لما كان موطّأ مالك بن أنس، رضي الله عنه، من أهم دواوين السنة، وهو الكتاب الذي اشتمل على صحيح الحديث وعلى المأثور عن الصحابة والتابعين وعمل أهل المدينة وعلى الكثير من الآراء الفقهية والأحكام الشرعية التي قال بها إمام دار الهجرة، أحببت أن يكون موضوع رسالتي، وقد نال هذا الموطّأ عناية كثير من العلماء الذين صنَّفوا في أسانيده وشرحوا متنه وأولوه اهتمامهم البالغ. وإن كانت طُبعت بعض هذه الشروح ويُسِّر للناس الاستفادة منها، فإن بعضها ما زال ضمن المخطوطات النادرة التي لا تصل إليها أيدي القراء بيسر، ولا تتحقق الاستفادة منها لطبقة واسعة من رواد الحديث والفقه، ومن هذه الشروح البعيدة عن أيدي عامة القراء: كتاب القبس في شرح موطّأ مالك بن أنس للقاضي أبي بكر بن العربي المعافري الأشبيلي المتوفى (543 هـ). ¬

_ (¬1) بحوث في تاريخ السنة ص 234، وانظر لسان الميزان 1/ 8.

كان أول اتصالي بهذا الأثر الأندلسي النفيس عندما كنت في تركيا سنة 1978 م أبحث في مكتباتها الثرية عما يتعلق برسالتي التي كنت أعدها لنيل شهادة التخصص الأول الماجستير- في الحديث، وموضوعها أبو أيوب الأنصاري ومروياته في مسند الإِمام أحمد، عثرت عليه هناك. وعندما تصفحته وقرأت بعض مسائله استهواني أسلوبه وحسن عرضه للمسائل، وحاولت تصويره فلم يتأتَّ لي ذلك للصعوبات القائمة إزاء التصوير بتركيا في ذلك العهد، فأرجأت تصويره وعزمت على جعله موضوع أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه. ولما يسَّر الله لي الحصول على درجة الماجستير عرضت فكرة تحقيق كتاب القبس على أستاذي الكبير العلّامة السيد أحمد صقر، الذي قبل مشكوراً الإِشراف علي عملي، فوافق عليها ورأى هذا الكتاب جديراً بالتحقيق، وقد أخذته، في البداية، كاملاً تم اقتصرت، فيما بعد، على نصفه لظروف حلَّت بي جعلتني لا أستطيع إنهاءه في المدة النظامية، وقد وافق مجلس القسم مشكوراً على طلبي وهو الاقتصار على نصف الكتاب ورأوا أنه يغطي رسالة دكتوراه. ويرجع أهم الدواعي لاختياري لهذا الموضوع للنقاط التالية: 1 - أهمية هذا الأثر الأندلسي الجليل الذي يُعدُّ من عيون المؤلفات التي صنَّفها أعلام المالكية. 2 - اشتماله على الكثير من الأحكام التي استنبطها مؤلفه. 3 - ما فيه من تعمّق في الشرح والبيان والتفصيل للمسائل. 4 - ما امتاز به من حسن الترتيب وبراعة التقسيم. 5 - غزارة الفوائد التي اشتمل عليها من فنون مختلفة كالحديث والفقه واللغة والأصول. 6 - إبرازه المسائل واتخاذ العناوين المختلفة لها. 7 - قيمة المؤلف، أبي بكر بن العربي، الذي كان من ألمع رجال المذهب المالكي بالأندلس، وقد اكتمل نبوغه بعد رحلته المشرقية، التي قام بها في سن مبكرة، واتصل فيها بأشهر العلماء المحاصرين له واحتك بهم احتكاكًا علميًا واستفاد منهم، وكانوا يمثَّلون مختلف المذاهب الإِسلامية من حنفية وشافعية وحنبلية ومالكية.

خطة البحث

خطة البحث وقد رأيت أن تكون خطتي في العمل كما يلي: فقد جعلته في مقدمة وبابين وخاتمة. المقدمة وتناولت فيها الكلام على كتابة السنة في العصور المتقدمة وأول من صنّف فيها وعن سبب اختياري للموضوع. أما الباب الأول: فقد اشتمل على خمسة فصول: الفصل الأول: حياة أبي بكر بن العربي وفيه ثلاثة مباحث. المبحث الأول: في اسمه ونسبه وكنيته وأسرته. المبحث الثاني: في عقيدته. المبحث الثالث: ويشتمل على خمسة مطالب. المطلب الأول: الأعمال التي قام بها والوظائف التي شغلها. المطلب الثاني: إنفاقه ماله في سبيل الخير. المطلب الثالث: طعن العلماء عليه. المطلب الرابع: جهاده. المطلب الخامس. وفاته. الفصل الثاني: حياة القاضي العلمية وفيه خمسة مباحث: المبحث الأول: نشأته وطلبه للعلم. المبحث الثاني: رحلته العلمية. المبحث الثالث: ويشتمل على ثلاثة مطالب. المطلب الأول: شيوخه. المطلب الثاني: تلاميذه.

المطلب الثالث: أولاده وأحفاده. المبحث الرابع: مكانته العلمية. المبحت الخامس: العوامل التي ساعدت على نبوغه. الفصل الثالث. الموطأ وعناية الأمة به وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: الكلام على الموطّأ. المبحث الثاني: اهتمام المغاربة بموطأ يحيى بن يحيى دون غيره. المبحث الثالث: شروح الموطّأ قبل ابن العربي وبعده. الفصل الرابع: مصنفاته. الفصل الخامس: كتاب القبس وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: اسم الكتاب ونسبته إلى المؤلف. المبحث الثاني: تاريخ تأليفه. المبحث الثالث: نسخ الكتاب ووصفها. المبحث الرابع: وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: منهج ابن العربي في كتاب القبس. المطلب الثاني: مزايا الكتاب. المطلب الثالث: المآخذ. الباب الثاني: قسم التحقيق: وقد نهجت في عملي فيه الخطوات التالية: 1 - نسخت النسخة الأولى التي حصلت عليها من مكتبة جامعة أم القرى المركزية والتي أصلها في تركيا. 2 - صححت الأخطاء الواردة في المخطوطة والتي تخالف قواعد الصرف والنحو. 3 - وبعد فترة قمت برحلة لجمع نسخ الكتاب وقد قادتني إلى تونس وإسبانيا والمغرب وحصلت على النسخ التي يأتي وصفها. 4 - قابلت النسخ التي حصلت عليها بالأصل، الذي كان عندي، حيث أثبتُّ في الهامش كل الفروق إلا ما لا تدعو الحاجة إلى إثباته. 5 - وضعت أرقاماً للآيات مع ذكر السورة. 6 - وثَّقت الأحاديث والآثار من المصادر التي ترجع إليها.

7 - شرحت بعض الألفاظ الغريبة. 8 - حكمت على الأحاديث والآثار. 9 - نسبت الأقوال الفقهية إلى أصحابها. 10 - ترجمت للأعلام الواردة في الكتاب. 11 - أشرت إلى نهاية الورقة في نسخة الأصل من المخطوطة ورمزت للوجه الأيمن بحرف "أ" وبحرف "ب" للوجه الأيسر. 12 - عرَّفت بأهم البلدان والمدن. 13 - عملت خاتمة للبحث. 14 - عملت فهارس فنية. 15 - فهرس للآيات. 16 - فهرس للأحاديث. 17 - فهرس للشعر. 18 - فهرس للأعلام. 19 - فهرس للمراجع. 20 - فهرس للمواضيع. الرموز المستعملة: ت ت: تهذيب التهذيب ت: تقريب التهذيب النهاية: النهاية في غريب الحديث والاثر لابن الأثير التلخيص: تلخيص الحبير للحافظ ابن حجر الدراية: الدراية في تخريج أحاديث الهداية له أيضاً الفتح: فتح الباري شرح صحيح البخاري له أيضاً التذكرة: تذكرة الحفاظ للذهبي

الباب الأول حياته وسيرته

الباب الأول حياته وسيرته

الفصل الأول حياته الاجتماعية

الفصل الأول حياته الاجتماعية المبحث الأول نسبه هو الإِمام أبو بكر محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن أحمد المَعَافِري (¬1) المعروف بابن العربي المالكي القاضي، أحد حفّاظ الأندلس من أهل أشبيلية. ولد بأشبيلية في 22 من شعبان سنة (468 هـ) (¬2). فهو عربي الأصل قال ابن حزم، وهو يتحدث عن نسب بني معافر: وهم باليمن والأندلس ومصر، وذكر منهم بني أبي عامر بقرطبة، وآل جحاف ببلنسية، وبني فنحل بجيان .. وهم بيوت متفرقة بالأندلس ليست لهم دار جامعة. (جمهرة أنساب العرب ص 418 - 419). ووالده هو الفقيه الوزير أبو محمَّد عبد الله بن محمَّد بن عبد الله بن العربي. وتجمع المصادر التي ترجمت له على أنه كان من وجوه وعلماء أشبيلية ومن أعيانها المبارزين وكان علّامة أديباً. قال الذهبي: هو الإِمام الأديب ذو الفنون أبو محمَّد عبد الله بن محمَّد ابن العربي الأشبيلي والد القاضي أبي بكر. صحب ابن حزم وأكثر عنه وكان ذا بلاغة ولسن وإنشاء [سير اعلام النبلاء 19/ 130]. ¬

_ (¬1) بفتح الميم والعين وبعد الألف فاء مكسورة وراء، هذه النسبة إلى المعافر بن يعفر بن مالك بن الحارث بن مرّة. الأنساب 12/ 328، اللباب 3/ 229. (¬2) أنظر ترجمته في الغنية 66، الصلة 289، بغية الملتمس 82، الخريدة 2/ 296 وفيات الأعيان 4/ 296، المرقبة العليا. ص 105، نفح الطيب 2/ 25، أزهار الرياض 3/ 62، الوافي 3/ 330، تذكرة الحفّاظ للذهبي 1294، شذرات الذهب 4/ 141، العبر 4/ 125، الديباج 2/ 252، مقدمة ابن خلدون 1242 - 1243، النجوم الزاهرة 5/ 302، شجرة النور الزكية 1/ 138، فهرس الفهارس 2/ 855، طبقات الأصوليين لمصطفى المراغي 3/ 28، سير أعلام النبلاء 20/ 197، طبقات المفسرين للسيوطي 34، طبقات المفسرين للداودي 2/ 167، كشف الظنون 553 - 559، هدية العارفين 2/ 90.

أسرته من جهة أمه

وقال ابن خلّكان: كان من أهل الآداب الواسعة والبراعة والكتابة. [وفيات الأعيان 4/ 297]. ويقول المقري: كان بأشبيلية بدرًا في فلكها وصدراً في مجلس ملكها اصطفاه معتمد بني عباد اصطفاء المأمون لابن أبي دواد وولّاه الولايات الشريفة وبوّأَه المراتب المنيفة [نفح الطيب 2/ 34]. أسرته من جهة أمه: كانت أسرته، من جهة أمه، أسرة عريقة لها مكانة مرموقة بأشبيلية، فقد صاهر أبوه، عبد الله بن العربي، أسرة تشاطره الرياسة وهي أُسرة أبي حفص عمر بن الحسن الهوزني (392 - 460). فهو عالم الأندلس ومحدِّثها، زاحَم المعتضد بن عبّاد في أشبيلية ففتك به وقتله بيده. يقول ابن بسّام: أُفضي أمر أشبيلية إلى عبّاد، وأبو حفص، يومئذ، ذات نفسها وآية شمسها وناجذها الذي عنه تبتسم، وواحدها الذي بيده ينقضي ويبرم، وكانت بينه وبين عبّاد، قبل إفضاء الأمر إليه ومدار الرياسة عليه، ائتلاف الفرقدين وتناصر اليدين واتصال الأذن بالعين. ولما كانت سنة 400 هـ رحل إلى المشرق ثم عاد إلى الأندلس واستقر بأشبيلية سنة (458 هـ) ولقيه المعتضد بأعلى المحل وفوَّض إليه من الكثير والقلّ وعوَّل عليه في العقد والحلّ، فلما كان يوم الجمعة لإِحدى عشرة خلت لربيع الأول سنة (460 هـ) أحضره القصر وباشر قتله بيده فلم ينل عبّاد بعده سولًا ولا متع بدنياه إلا قليلًا (¬1). كانت هذه الفعلة الشنيعة سبباً في ضياع ملك بني عباد فيما بعد؛ فقد حرص أبو القاسم الهوزني، وهو العالم الأديب والفقيه المشار إليه بالبنان بأشبيلية، أن ينتقم لوالده. وقد ساعده على تلك المهمة سوء العلاقة بين دولة المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين وبين أمراء أشبيلية، فاتصل أبو القاسم بيوسف وجعل يحرَّضه على ابن عباد حتى أطاح به وأزال ملكه وأخذه سجيناً عنده (¬2). ¬

_ (¬1) المغرب 1/ 239 - 240، وانظر المدارك 4/ 825 - 826. (¬2) نفح الطيب 2/ 94.

المبحث الثاني عقيدته

المبحث الثاني عقيدته قبل التعرض لعقيدته ينبغي التنبيه على أن المغرب لم يعرف قبل دولة الموحّدين إلا العقيدة السلفية الصحيحة. قال الذهبي: قال اليسع بن حزم: سمى ابن تومرت المرابطين بالمجسمين وكان أهل المغرب يدينون بتنزيه الله تعالى عما لا يليق بجلاله تعالى مع تركهم الخوض عما تقصر العقول عن فهمه (¬1). ويقول المراكشي: دان أهل المغرب، في عهد المرابطين، بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شيء من علم الكلام، وقرر الفقهاء، عند أمير المسلمين، تقبيح علم الكلام وهجرهم من ظهر عليه شيء منه وأنه بدعة في الدين وربما أدّى إلى اختلال في العقائد (¬2). ولم تتعزز العقيدة الأشعرية وتنتشر إلا بعد أن قوّاها سلطان ابن تومرت (ت 524) وكان جلّ ما يدعو إليه الاعتقاد على رأي أهل الكلام، وألَّف لهم -أي لقومه- كتاب (أعز ما يطلب) ووافق المعتزلة في شيء والأشعرية في شيء (¬3)، وسار من بعده على منهجه خليفته عبد المؤمن بن علي وأولاده. وابن تومرت وإن كان وفد على أهل المغرب بهذه العقيدة فإنه كان وفد بها قبله القاضي ابن العربي وذلك لأن مصدرهما واحد وهو الغزالي، أخذاها عنه ببغداد في فترات متفاوتة، وعندما عاد القاضي إلى وطنه نشر هذه العقيدة بين طلابه وبثَّها في كل كتبه، فلم يخلُ منها كتاب، وأفردها بكتب كالعواصم من القواصم والمقسط والمتوسط، والغريبين. والمطالِع لكتبه يلمس ذلك جلياً؛ فهو، رحمه الله، إمام العقيدة الأشعرية بالأندلس وهناك بعض الأمثلة من كتبه: فهو عندما تكلَّم على شرح حديث: ينزل ربُّنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل، ثم تكلم عليه إلى أن قال: والنزول حركة، والحركة لا تجوز على الله سبحانه وتعالى، فلم يبقَ إلا العدول عن ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء 19/ 550، وانظر العبر 2/ 422 - 423. (¬2) المعجب 236 - 237. (¬3) سير أعلام النبلاء 19/ 548.

حقيقة النزول إلى مجازه وهو النزول بالمعاني، [القبس ص 284]. وقال في العواصم: النزول على وجهين: نزول حركة ونزول إحسان وبركة، إلى أن قال: فما بثَّ الله من رحمته إلى سماء الدنيا على الخلق، في تلك الساعة، عبّر عنه بالنزول فيه عربية صحيحة [العواصم ص 293]. وقد تابع، رحمه الله، الكلام في الصفات على هذا المنوال وهو المنهج المعروف لدى الأشاعرة في تأويل الصفات، وهو يردُّ على كلِّ من لم يسلك هذا الطريق وتمسّك بالعقيدة السلفية الصحيحة، رحمه الله وسامحه، وكان الأجدر به والأولى وهو الإِمام البحر أن يكون سلفي العقيدة داعياً إليها. يقول، رحمه الله: ثم جاءت طائفة قالت إنه فوق العرش بذاته، وعليها شيخ المغرب أبو محمَّد عبد الله بن أبي زيد (ت 389)، فقالها للمتعلمين فدكت بقلوب الأطفال والكبار [العواصم 290 - 291]. هذه أمثلة من مذهبه في العقيدة والذي يتَّضح فيه جلياً مخالفة عقيدة السلف، وقد رددنا على كل ما ورد من ذلك خلال هذا الكتاب وأرجعناه إلى عقيدة السلف التي ندين الله بها، ونذهب إلى ما ذهب إليه السلف من السكوت عن التأويل والإيمان بما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة، وننزِّه الله سبحانه عن الكيف والتشبيه بخلقه ونقول، كما قال البيهقي: وأسلمها الإيمان بلا كيف، والسكوت عن المراد إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه. نقله الحافظ في الفتح 3/ 30، وقال ابن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ولا يجدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة، ويزعمون أنَّ من أقر بها مشبه وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله، - صلى الله عليه وسلم -. [التمهيد] ويقول القرطبي في تفسيره: السلف الأول، رضي الله عنهم، لا يقولون بنفي الجهة، ولا ينطقون بذلك بل نطقوا، هم والكافة، بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابُه وأخبرت رسلُه، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة ثم ساق قول مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة. [تفسير القرطبي 7/ 219].

المبحث الثالث وفيه خمسة مطالب

المبحث الثالث وفيه خمسة مطالب المطلب الأول الأعمال التي قام بها والوظائف التي شغلها وُلِّي القاضي أبو بكر بن العربي القضاء، وقد أجمع كل الذين ترجموا له أنه كان مثال العدل والاستقامة وحسن القيام بأمر القضاء. فمثلًا يقول النباهي: وُلِّي القضاء مدة أولها رجب سنة 538 فنفع الله به لصراحته ونفوذ أحكامه، والتزم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى أوذي في ذلك بذهاب كتبه وماله فأحسن الصبر على ذلك كله ثم صُرف عن القضاء وأقبل على نشر العلم وبثّه (¬1). وقال الذهبي. وُلِّي قضاء أشبيلية فحمدتْ سياسته، وكان ذا شدة وسطوة فعُزل وأقبل على نشر العلم وتدوينه (¬2). وكان بداية توليه القضاء كما يقول صاحب البيان المغرب [4/ 92 - 94]، في سنة 528 هـ. فقد قال: أصدر علي بن يوسف بن تاشفين مرسوماً بتولية أبي بكر بن العربي قضاء أشبيلية يحمل تاريخ منسلخ جمادي الثانية سنة (528 هـ). ويشير لنا القاضي، رحمه الله، في كتاب العواصم إلى تولِّيه القضاء فيقول: ولقد حكمتُ بين الناس فألزمتهم الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يك يرى في الأرض منكر. واشتد الخطب على أهل الغضب وعظم على الفسقة الكرب وألبسوا وثاروا إليّ. واستسلمت لأمر الله وأمرت كل من حولي ألا يدافعوا عن داري وخرجت من السطوح بنفسي فعاثوا علي وأمسيت سليب الدار، ولولا ما سبق من حسن المقدار لكنت قتيل الدار (¬3). ويقول في الأحكام: كنت أيام تولية القضاء قد رفع إليّ قوم خرجوا محاربين إلى رفقة فأخذوا منهم امرأة مغالبة على نفسها من زوجها ومن جملة المسلمين معه فيها فاحتملوها، ¬

_ (¬1) ص 106 تاريخ قضاة الأندلس للنباهي ص 106. (¬2) سير أعلام النبلاء 20/ 200 تذكرة الحفاظ 1295. (¬3) العواصم من القواصم 2/ 400 - 401.

المطلب الثاني إنفاقه ماله في سبيل الخير

فجدَّ فيهم الطلب فأُخذوا وجيىء بهم، فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين فقالوا: ليسوا محاربين لأن الحرابة إنما تكون في الأموال لا في الفروج، فقلت لهم: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال، وأن الناس كلهم ليرضَون أن تذهب أموالهم وتُحْرب من أيديهم ولا يُحرب المرء من زوجته وبنيه، ولو كان فوق ما قال الله عقوبةٌ لكانت لمن يسلب الفروج وحسبكم من بلاء صحبة الجهال وخصوصاً في الفتيا والقضاء (¬1). ولم تدم مدته في القضاء بل لم يجلس فيه إلا سنة وأشهراً. يقول صاحب البيان المغرب 4/ 93: ولم تمضِ سنة وأشهر على ولايته القضاء حتى ثارت الغوغاء في وجهه ونُكب، فانصرف عن القضاء أو صُرف عنه والتحق بقرطبة، وبها جماعة من محبيه ومعارفه، فانقطع للعلم والبحث وقد استراح من أعباء القضاء. ولمّا وصل إلى قرطبة أقبل عليه طلبة العلم للاستفادة منه ومذاكرته والاستماع إلى دروسه. يقول عنه أحد طلابه وهو أبو القاسم: كنا نبيت معه في منزله بقرطبة، فكانت الكتب عن يمينه وعن شماله، وإذا غلبه النوم نام ومهما استيقظ مدّ يده إلى كتاب وكان مصباحه لا ينطفئ الليل كله (¬2). ويسوق لنا المراكشي قصة ثورة السفهاء على القاضي بقوله: وثارت السفلة بأشبيلية على قاضيهم أبي بكر بن العربي؛ وذلك أنه كان له في عقاب الجناة اختراعات مهلكات ومضحكات فانتدب أنفساً جملة صلبًا وضربًا وسِيق إليه أحد الزمرة فأمر بضرب يديه وثقب شدقيه .. وظلّ ابن العربي يوالي التشدد والتسلط حتى ثقل على الفساق والأشرار فهاجروا (¬3). المطلب الثاني إنفاقه ماله في سبيل الخير كان ابن العربي من أثرياء الأندلس، وكان ينفق ماله في سبيل الخير. يقول عنه الذهبي: اشتهر اسمه وكان رئيساً محتشماً وافر الأموال بحيث أنشأ على أشبيلية سوراً من ماله (¬4). ¬

_ (¬1) الأحكام 2/ 297. (¬2) البغية ص 83 وانظر الصلة ص 290. (¬3) البيان المغرب 4/ 940093. (¬4) سير أعلام النبلاء 20/ 200 وانظر تذكره الحفاظ للذهبي 1296 نفح الطيب 2/ 1.

المطلب الثالث طعن العلماء عليه لموالاته للسلطان

المطلب الثالث طعن العلماء عليه لموالاته للسلطان قال ابن الأبّار إن الإِمام الزاهد أبا عبد الله بن مجاهد الأشبيلي لازم القاضي ابن العربي نحوًا من ثلاثة أشهر ثم تخلّف، فقيل له في ذلك فقال: كان يدرس وبغلته عند الباب ينتظر الركوب إلى السلطان. [نقلاً عن المقري في نفح الطيب 29/ 2]. ونقل الذهبي عن أبي يحيى اليسع بن حزم أنه وُلِّي القضاء فمُحِنَ وأصبح تتحرك بآثاره الألسنة ويأتي بما أجراه عليه القدر النوم والسنة، وما أراد إلا خيراً. نصب السلطان عليه شباكه وسكن الإدبار حراكه فأبداه للناس صورة تذم وسورة تتلى لكنه تعلَّق بأذيال الملك ولم يجرِ مجرى العلماء في مجاهدة السلاطين وحزبهم بل داهن. [سير أعلام النبلاء 20/ 202]. وهناك مظهر آخر من مظاهر سخط العلماء عليه وإنكارهم عليه، وإن كان بغير حق. يقول الذهبي: قرأتُ بخط ابن مسدي (¬1)، في معجمه، أخبرنا أحمد بن محمَّد بن مفرج (¬2) النباتي سمعت ابن الجد الحافظ وغيره يقولون حضر فقهاء أشبيلية فتذاكروا حديث المِغْفَر فقال ابن المرخي (¬3): لا يُعرف إلا من حديث مالك عن الزهري (¬4). قال ابن العربي: قد رويتُه من ثلاثة عشر طريقاً غير طريق مالك، فقالوا أفدنا هذا فوعدهم ولم يخرج لهم شيئاً وفي ذلك يقول خلف بن خير الأديب (4): يا أهل حمص ومن بها أوصيكم ... بالبر والتقوى وصية مشفقِ فخذوا عن العربي أسمار الدّجى ... وخذوا الرواية عن إمام متَّقِ إن الفتى حلو الكلام مهذب ... إن لم يجد خبراً صحيحاً يخلقِ قال الذهبي، تعقيباً على هذا القول، قلت: هذه حكايته باردة لا تدل على تعمُّد، ¬

_ (¬1) سيأتي في طلابه. (¬2) أحمد بن محمَّد بن مفرج الأندلسي النباتي سمع ابن زرقون، لقيه ابن نقطة وسمع منه. المشتبه 1/ 93، تذكرة الحفّاظ للذهبي 1396. (¬3) أبو بكر محمَّد بن عبد الملك بن عبد العزيز بن المرخي قال فيه ابن الأبار أحد رجال الكمال بالأندلس علماً وأدباً وشرفاً ومنصباً (ت 615 هـ)، بغية الملتمس 92، والصلة 529، المغرب 1/ 307. (¬4) متفق عليه البخاري في عدة مواضع منها في المغازي باب أين ركّز النبي، - صلى الله عليه وسلم -، الراية يوم الفتح 5/ 188، ومسلم في الحج باب دخول مكة بغير إحرام 2/ 990.

ولعلَّ القاضي، رحمه الله، وَهِمَ وسرى ذهنه إلى حديث آخر، والشاعر يخلق الإفك ولم أنقم على القاضي، رحمه الله، إلا إقذاعه في ذمّ ابن حزم واستجهاله له، وابن حزم أوسع دائرة من أبي بكر في العلوم وأحفظ بكثير، وقد أصاب في أشياء وأجاد، وزلق في مضايق لغيره من الأئمة والإنصاف عزيز، [سير أعلام النبلاء 20/ 202 - 203، وانظر تذكرة الحفاظ 4/ 1296 - 1297]. وقد صوَّب الحافظ، رحمه الله، رأي ابن العربي فقال في النكت 2/ 655، وابن مسدي تعقَّب هذه الحكاية بأن شيخه فيها كان متعصباً على ابن العربي (يعني فلا يقبل قوله فيه) قال الحافظ: قلت وهو تعقُّب غير مرضي، بل هو دالّ على قلة اطلاع ابن مسدي، وهو معذور, لأن أبا جعفر بن المرجي، راويها في الأصل، كان مستبعداً لصحة قول ابن العربي بل هو وأهل البلد حتى قال قائلهم. وساق الأبيات السابقة. وعنى بأهل حمص أهل أشبيلية فلما حكاها أبو العباس النباتي لابن مسدي، على هذه الصورة، ولم يكن عنده اطلاع على حقيقة ما قاله ابن العربي فاحتاج من أجل الذبّ عن ابن العربي أن يتهم النباتي حاشا وكلَّا ما علمنا عليه من سوء بل ذلك مبلغهم من العلم. وقد تتبعتُ طرف هذا الحديث فوجدته كما قال ابن العربي من ثلاثة عشر طريقاً عن الزهري غير طريق مالك بل أزيد، وساق تلك الطرق ثم قال فهذه طرق كثيرة غير طريق مالك عن الزهري عن أنس، رضي الله عنه، فكيف يجمل ممن له ورع أن يتهم إماماً من أئمة المسلمين بغير علم ولا اطلاع. ولقد أطلتُ في الكلام، على هذا الحديث، وكان الغرض منه الذبّ عن أعراض هؤلاء الحفّاظ والإرشاد إلى عدم الطعن والرد بغير اطلاع، وآفة هذا كله الإطلاق في موضع التقييد. فقول من قال من الأئمة إن هذا الحديث تفرَّد به مالك عن الزهري ليس على إطلاقه وإنما المراد بشرط الصحة. وقول ابن العربي إنه رواه من طرق غير طريق مالك إنما المراد به في الجملة سواء صح أو لم يصح فلا اعتراض ولا تعارض. وما أجود عبارة الترمذي في هذا فإنه قال، بعد تخريجه، لا يعرف كبير أحد رواه عن الزهري غير مالك، وكذا عبارة ابن حبان لا يصح إلا من رواية مالك عن الزهري، فهذا التقييد أولى من ذلك الإطلاق.

المطلب الرابع جهاده

المطلب الرابع جهاده كان، رحمه الله، من العلماء المجاهدين في الله لإعلاء كلمة الله فكان، رحمه الله، يحث الحكام والمحكومين على الجهاد ويشارك في كل المعارك. وعندما حصلت المواجهة بين المسلمين والصليبيين في معركة (كتندة)، من أعمال سرقسطة ببلاد الأندلس، سنة (514 هـ) قام المسلمون جميعاً يقودهم الأمير إبراهيم بن يوسف بن تاشفين وكانت هذه المعركة من أشدّ المعارك على المسلمين، وقد اشترك فيها القاضي ونجا فيها بفضل الله. يقول عن ذلك ابن الأبار: يوم (كتندة) المشهور بالثغر الأعلى، يوم الخميس لست بقين من ربيع الآخر من تلك السنة (أي سنة 514 هـ)، وحقت على المسلمين الهزيمة .. وقد قتل فيها من المتطوعة نحو عشرين ألفاً، ولم يقتل فيها من العسكر، يعني الجند، أحد .. وكان القاضي أبو بكر بن العربي حضرها وسئل عن تخلّصه منها عن حاله فقال: حال من ترك الخباء والعباءة [المعجم لابن الأبار ص 4 - 5]. ويشير، رحمه الله، إلى دوره البارز في تحريض المسلمين على الجهاد في حادثة أخرى بعد الحادثة الأولى بثلاث عشرة سنة، وبالتحديد سنة (527 هـ). فيقول: ولقد نزل بنا العدو: قصمه الله، سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فجاس ديارنا وأسر جيرتنا وتوسَّط بلادنا في عدد هال الناس عددُه وإن لم يبلغ ما حدَّدوه فقلت للوالي والمولى عليه: هذا عدوُّ الله وقد حصل على الشرك والشبكة فلتكن عندكم بركة، ولتظهر منكم إلى نصرة دين الله المتعينة عليكم حركة، فليخرج إليه جميع الناس حتى لا يبقى منهم أحد في جميع هذه الأقطار فيخاطبه فإنه هالك لا محالة، إن يسَّركم الله له، فغلبت الذنوب ووجفت القلوب بالمعاصي، وصار كل أحد ثعلباً يأوي إلى وجاره وإن رأى المكروه بجاره، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل ... فكيف بنا وعندنا عهد الله ألَّا نسلم إخواننا إلى الأعداء، وننعم وهم في الشقاء، وأن نملك بالحرية وهم أرقاء يالله لهذا الخطب الجسيم نسأل الله التوفيق للجمهور والمنة بصلاح الأمر والمأمور. [الأحكام 2/ 955 - 956]. وفي سنة 522 هـ خرج مع الأمير أبي بكر بن يوسف بن تاشفين للغزو في الثغور الشرقية للأندلس. انظر التكملة ص 1/ 350.

المطلب الخامس وفاته وتاريخها ومكانها

المطلب الخامس وفاته وتاريخها ومكانها لما اضطربت أمور الدولة المرابطية بالأندلس، وهي الدولة التي كان القاضي يتمتع فيها بكامل الاحترام، خاف القاضي، إن لم يقم بتأييد الحكم الموحدي الجديد، أن يؤذَى فعبر البحر إلى المغرب على رأس وفد كبير من علماء أشبيلية وأعيانها، وقدَّم الوفد الولاء للخليفة عبد المؤمن بن علي بمراكش عقب افتتاحها من قبل الموحدين. يقول الأستاذ عبد الله عنان: وحدث خلال وجود عبد المؤمن بمراكش أن قدم عليه من الأندلس وفد أشبيلية، وعلى رأسه القاضي أبو بكر بن العربي بعد مقتل ولده عبد الله في حوادث أشبيلية، والخطيب أبو عمر بن الحجاج، وأبو بكر بن الجد الكاتب، وأبو الحسن الزهري، وأبو الحسن بن صاحب الصلاة وغيرهم من زعماء أشبيلية ووجوهها. فاستقبلهم عبد المؤمن وألقى القاضي أبو بكر، وبعض زملائه، بين يديه خطباً بليغة ورفعوا إليه بيعة أهل أشبيلية مكتوبة بخطوطهم، فاستحسن عبد المؤمن موقفهم وقبل طاعتهم وأغدق عليهم الجوائز والصلات .. وكان لهذا الوفد أثره فيما بعد من إيثار الموحدين لأشبيلية واتخاذها حاضرة الأندلس في عهدهم. [عصر المرابطين والموحدين بالأندلس 1/ 267]. وما أن انتهت مهمة الوفد وقفل راجعًا إلى وطنه، حتى أدركت القاضي الوفاة سنة (543 هـ)، كما يقول ابن بشكوال في الصلة ص 591، والمقري في نفح الطيب 2/ 28، والضبي في البغية 88، وابن فرحون في الديباج 2/ 256. كلهم يقولون: توفي، رحمه الله، قرب مدينة فاس منصرفه من مراكش. ويحكي ابن فرحون الخلاف في مكان دفنه فيقول: حُمِل ميتاً إلى مدينة فاس ودفن بها بباب الجيسة والصحيح خارج باب المحروق من فاس [الديباج 2/ 56]. قلت: وما رجَّحه ابن فرحون هو الذي رجَّحه المقري في نفح الطيب 2/ 30. فقال: وقد حبسوا بمراكش نحو عام ثم سرحوا فأدركته منيته. ووقع في عبارة ابن الزبير تبعاً لجماعة أنه دُفن خارج باب الجيسة بفاس والصواب خارج باب المحروق .. وينقل الحجوي، عن ابن خلدون، أن وفاته كانت سنة 542 هـ، وذلك بعد ما قتل ولده عبد الله في هيئة دخول الموحدين إلى أشبيلية من غير قصد، فضاعف الله له الأجر، وقال الأول أصح أي أنه سنة 542 هـ. وقال عن سبب الوفاة قيل: إنه مات مسموماً، ولا يبعد ذلك إذا صح أنه بني سور مدينته من ماله لأن استبداد الملوك يأبى ذلك ويورث المغيرة. [الفكر السامي 2/ 223].

الفصل الثاني في حياة ابن العربي العلمية

الفصل الثاني في حياة ابن العربي العلمية المبحث الأول نشأته وطلبه للعلم نشأ ابن العربي في أسرة علم ومكانة اجتماعية رفيعة، فقد كان البيتان المحيطان به من أهم البيوتات بأشبيلية، وقد اعتنى به أبوه عناية فائقة وعنه أخذ تعليمه الأول وكذلك خاله أبو القاسم الهوزني وأبو عبد الله السرقسطي. يقول المقرى: سمع بالأندلس من أبيه وخاله أبي القاسم الحسن الهوزني وأبي عبد الله السرقسطي (¬1)، ومما لا شك فيه أنه قد ابتدأ التعليم في سن مبكرة حفظ فيها القرآن وعلم القراءات وأجاد اللغة والحساب. يقول: لم يأت على ابتداء الا شد، في العام السادس عشر، إلا وأنا قد قرأت من أحرف القرآن نحواً من عشرة بما يتبعها من إدغام وإظهار وقصر ومدّ وتخفيف وشدّ وتحريك وتسكين ... وجمعت من العربية فنوناً، وتصرفت فيها تمريناً، وحفظت كتيراً من أشعار العرب والمحدثين، وقرأت اللغة وعلم الحساب، وسمعت جملة من الحديث على المشيخة ويذكر قبل هذا أنه حفظ القرآن وهو ابن تسع سنين (¬2). ¬

_ (¬1) نفح الطيب 2/ 28، وانظر بغية الملتمس ص 249. (¬2) قانون التأويل قسم التحقيق ص 3 - 7.

المبحث الثاني رحلته إلى الشرق

المبحث الثاني رحلته إلى الشرق قبل الخوض في تفاصيل رحلته لا بد من التنبيه على أهمية الرحلة ودوافعها عند العلماء. وهي عند ابن العربي ترجع إلى عاملين: علو الإِسناد، والثاني لقاء العلماء ومذاكرتهم, لأن أئمة الحديث كانوا أشد الناس اهتماماً بالرحلة ومقاساة مشقتها، وذلك اهتماماً منهم بسنَّة المصطفى، - صلى الله عليه وسلم -، وخدمة لها ولأهلها، وقياماً بواجبهم وتأدية لأمانة التبليغ، وقد أجمل الخطيب، رحمه الله، مقصود الرحلة في أمرين فقال: المقصود بالرحلة في الحديث أمران: أحدهما: تحصيل علو الإِسناد وقدم السماع. والثاني: لقاء الحفّاظ والمذاكرة لهم والاستفادة عنهم. فإذا كان الأمران موجودين في بلد الطالب ومعدومين في غيره فلا فائدة من الرحلة، فالاقتصار على ما في البلد أوْلى. [فتح المعنيث 2/ 87]. ويقول ابن خلدون إن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم، والسبب في ذلك أنّ البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارةً علماً وتعليماً وإلقاءً، وتارة محاكاة وتلقيناً بالمباشرة، إلَّا أنَّ حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاماً وأقوى رسوخاً، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها .. فالرحلة لا بدَّ منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال [مقدمة ابن خلدون ص 541]. وللأسباب السابقة كانت رحلة القاضي أبي بكر من الأندلس إلى المشرق ليحصل مقاصد الرحلة في طلب العلوم بصفة عامة والحديث بصفة خاصة. ويحدد ابن العربي ملامح الرحلة بقوله: خرجنا مكرمين أو قل مكرهين آمنين وإن شئت خائفين، ففررت منكم لما خفتكم، فوهب لي ربّي حكماً وجعلني من المرسلين وكتبني في أتباع من قال: {إنّي ذَاهِبٌ إلَى رَبّي سَيهْدِينِ} [الصافات/ 99]. فكان أول بلدة دخلت مالقة (¬1)، فألفيت بها أمة رأسهم الشعبي (¬2) أشهر ما عنده نسبه ¬

_ (¬1) مدينة أندلسية على شاطئ البحر، معجم البلدان 5/ 43. (¬2) سيأتي في شيوخه.

سفره من تونس إلى الحجاز وما حل به في هذه المرحلة من الرحلة

وعنده رواية ومسائل ولديه حشمة، وله عند الأمراء قدم وجاه. ثم طرقت غرناطة (¬1) إلى المرية (¬2) فرأيت بها رجالات في المسائل والقراءات وأدباء متوسطي المنزلة بين درجتي التقصير والكمال في أيام قلائل لبثت بها لم أخبر بها حالهم فربّك أعلم بهم. وركبت البحر إلى بجاية (¬3) فرأيت فيها جماعة من أهل المسائل ولقيت بها محمَّد بن عمّار الميورقي (¬4) رأساً فيهم، وربما كانت عنده في الأصول إشارة تومئ إلى المراد منسوجة على منوال الباجي ونظرائه. ويتابع القاضي جمع والده رحلتهما طوراً بالبر وطوراً بالبحر، وقد أحاط بهم الكرب واشتدت الأنواء ومرا في طريقهما على بونة (عنّابة (¬5) حالياً) ولقيا بها بعض الشخصيات ودخلا تونس وزارا سوسة ثم نزلا المهدية. يقول ابن العربي. ثم دخلت سوسة (¬6) والمهدية (¬7) ولقيت بها جملة من فقهاء القيروان .. فأخذت في قراءة شيء من أصول الدين والمناظرة فيها مع الطالبين ولزمت مجالس المتفقهين. سفره من تونس إلى الحجاز وما حل به في هذه المرحلة من الرحلة: يقول ابن العربي: فلما حان وقت إقلاع المركب في البحر إلى ديار الحجاز اعتزمنا فركبناه بعد أن وعيت جملاً من المعلومات، فركبنا وقد سبق في علم الله أن يعظم علينا البحر بزوله (¬8) ويغرقنا في هوله فخرجنا من البحر خروج الميت من القبر، وانتهينا، بعد خطب طويل، إلى بيوت بني كعب من سليم ونحن من السغب على عطب، ومن العري في أقبح زي، فقد قذف البحر رقاق زيت مزقت الحجارة هيئتها ودسمت الأدهان وبرها وجلدتها فاحتزمناها أزراً واشتملناها لففاً تمجنا الأبصار وتخذلنا الأنصار، فعطف أميرهم ¬

_ (¬1) مدينة أندلسية أيضاً. معجم البلدان 4/ 195. (¬2) مدينة أندلسية على شاطئ البحر. معجم البلدان 5/ 119. (¬3) بجاية مدينة على ساحل البحر بالجزائر. معجم البلداد 1/ 339. (¬4) سيأتي في شيوخه. (¬5) بونة أو عنّابة مدينة جزائرية على ساحل البحر. معجم البلدان 1/ 512. (¬6) سوسة ثالثة المدن التونسية. انظر نزهة المشتاق للإدريسي 203، معجم البلدان 3/ 281. (¬7) المهدية تقع إلى الجنوب الشرقي من سوسة على بعد 43 كلم، المغرب للبكري ص 29، معجم البلدان 5/ 299، الروض المعطار ص 561. (¬8) أي بعجائبه.

وصوله إلى مصر

علينا، لعِرقٍ كان فيه من الحضر، وخفرنا بحرمة أورثتها عنده سجية مصرية؛ إذ كان نشأ في ديار الإِسكندرية ودرت عليه هناك الدرة الدينية، فآوينا إليه فآوانا وأطعمنا الله على يديه وسقانا وأكرم مثوانا وكسانا بأمر حقير طفيف وفن من العلم طريف، وشرحه أنّا، لما وقفنا على بابه، ألفيناه وهو يدير بأعواد الشاه فعل السامد اللاه فدنوتُ منه، في تلك الأطمار، وسمح لي بيادقته، إذ كنت من الصغر في حد يسمح فيه للأغمار، ووقفت بإزائهم أنظر إلى تصرفهم من ورائهم، إذ كان علق بنفسي بعض ذلك من بعض القرابة في مجلس البطالة مع غلبة الصبوة فقلت للبيادقة: الأمير أعلم من صاحبه. فلمحوني شزرًا عظمتُ في عيونهم بعد أن كنت نزراً، وتقدم إلى الأمير مَنْ نقل إليه الكلام فاستدناني فدنوت منه فسألني هل لي بما هم فيه بصر؟ قلت له فيه بعض نظر سيبدو لك ويظهر. حرِّكْ تيك القطعة ففعل، وعارضه صاحبه فأمرته أن يحرَّك أخرى وما زالت الحركات بينهم كذلك تترى حتى هزمه الأمير وانقطع التدبير .. واقبلوا يتعجَّبون مني ويسألون كم سنّي ويستكشفونني عني. فبقرتُ لهم حديثي وذكرت لهم نجيثي، وأعلمتُ الأمير بأنّ معي أبي، فاستدعاه وقمنا الثلاثة إلى مأواه، فخلع علينا خلعه وأسبل أدمعه، وجاء كلّ خوان بأفنان الألوان .. وأقمنا عنده حتى ثابت إلينا نفوسنا وذهب عنا بؤسنا وسألنا الإِقامة عنده .. فأبينا إلا الاستمرار على العزيمة الأُولى والتصميم إلى المرتبة الكريمة التي كانت بنا أوْلى ففارقناه على ضنانة بنا وحرص علينا (¬1). وصوله إلى مصر: وبوصول القاضي ووالده إلى مصر بدأت بدأت الحقيقية؛ فقد دخلا إلى الإِسكندرية ولم يطل مقامهما بها وواصلا سيرهما إلى الفسطاط (القاهرة حالياً)، وبذلك تكون الرحلة الحقيقية بدأت منها. وكان وصولهما إلى تلك الديار في ذي الحجة من تلك السنة التي خرجا فيها وهي سنة (485 هـ). وكان الحكم بمصر في تلك الفترة بيد المستنصر أبي تميم معد (¬2) والدعوة الفاطمية ¬

_ (¬1) انظر قانون التأويل تحقيق الأخ الفاضل محمَّد السليماني، قسم التحقيق ص 13 - 22 رسالة ماجستبر بجامعة أم القرى بمكة. قلت: معلوم من الشرع أن لعب الشطرنج حرام، وقد برر الشارح ذلك بأنه كان صغير السن. (¬2) هو معد بن الظاهر بن الحاكم بأمر الله خامس خلفاء مصر من بني عبيد 420 - 487 هـ. أنظر النجوم الزاهرة 5/ 140.

مغادرته مصر إلى بيت المقدس

قائمة والعلماء في خمول يكاد لا يوصف. ويسجل لنا القاضي رحلته بأسلوبه الأدبي فيقول: فألفينا بها جماعة من المحدِّثين والفقهاء والمتكلِّمين، والسلطان عليهم جريء وهم من الخمول في سرب خفي ومن هجران الخلق بحيث لا يرشد إليهم حري، ولا ينبسون من العلم ببنت شفة ولا ينسب أحد منهم في فن إلى معرفة بله الأدب (¬1). قلت: ورغم ما ذكر من الركود العلمي، والذي صوَّره ابن العربي، فقد كان هناك علماء أجلّاء أخذ عنهم رأسهم شيخ الشافعية في وقته وهو أبو الحسن الخلعي. يقول عنه ابن العربي: شيخ منعزل له علوّ في الرواية. وأخذ أيضاً عن الشيخ أبي الحسن بن أبي داود الفارسي بعض مجالسه بالفسطاط، ومهدى الوراق وغيرهم. ولم يلبث القاضي مدة بمصر حتى تكشفت له بعض العقائد الفاسدة كعقائد الإِسماعيلية الفاطمية، وذكر أنها أول بدعة واجهته. يقول: وهذه أول بدعة لقيت في رحلتي؛ فإني خرجت من بلادي على الفطرة، فلم ألقَ في طريقي إلا مَنْ كان على سنن الهدى، حتى بلغت بلاد هذه الطائفة وزرت بها قبر عمرو بن العاص فلبثت فيهم ثمانية أشهر لم يبق باطل إلا سمعته، ولا كفر إلا شوفهت به ثم خرجت عنهم إلى الشام، [العواصم ص 59 - 60]. وتردد القاضي على مجالس القراء بمصر وسجل إجابه بقوله: سمعت تاج القرّاء ابن لفتة بجامع عمرو يقرأ: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء/ 79]. فكأني ما سمعت لآية قط [وسمعت ابن الرفا، وكان من القراء العظام، وأنا حاضر بالقرافة يقرأ {كهيعص} فكأني ما سمعتها قط. [الأحكام 1596]. وبعد إقامته بمصر ثمانية أشهر توجَّه إلى بيت المقدس. مغادرته مصر إلى بيت المقدس: وكان وصوله سنة 486 هـ، كما سيأتي عنه وكانت بيت المقدس -ردَّها الله لديار الإِسلام وأزاح عنها شر اليهود ومن شايعهم- مركزاً من أهم مراكز الإِشعاع الفكري يجتمع فيها العلماء من كل المذاهب، ولكل مذهب مدارسه وأئمته. وكانت هذه المدارس محلاً للمناظرات. ومن أجل هذا الجو العلمي آثر ابن العربي لبقاء أطول مدة في هذه الديار؛ فقد مكث فيها ما يزيد على ثلاثة أعوام. ¬

_ (¬1) انظر قانون التأويل قسم التحقيق ص 22.

ويقول رحمه الله في وصف حالته في تلك الديار: رحلنا عن ديار مصر إلى الشام ودخلنا الأرض المقدسة، وبلغنا المسجد الأقصى فلاحَ لي بدرُ المعرفة فاستنرت به أزيد من ثلاثة أعوام، وحين صلّيت بالمسجد الأقصى، فاتحة دخولي له، عمدت إلى مدرسة الشافعية فألفيت بها جماعة من علمائهم، في يوم اجتماعهم للمناظرة، عند شيخهم القاضي الرشيد يحيى، الذي كان استخلفه عليهم شيخنا الإِمام الزاهد نصر بن إبراهيم النابلسي المقدسي، وهم يتناظرون على عادتهم، فكانت أولى كلمة سمعتها من شيخ من علمائهم يقال له مجلي .. فلم أفهم من كلامه حرفًا ولا تحقَّقت منه ذكراً ولا عرفاً، وأقمت حتى انتهى المجلس. [قانون التأويل، قسم التحقبق 25 - 26]. وبعد انتهاء هذا الدرس، الذي لم يقدِّر الله له فهمه وهو من هو ذكاء، جمع كتبه وذهب إلى مدرس آخر ولكنه هذه المرة ابن بلده وهو الطرطوشي. يقول ابن العربي: ومشيتُ إلى شيخنا أبي بكر الفهري، رحمه الله، مع أبي فألفيناه بباب السكينة فشاهدت هديه وسمعت كلامه فامتلأت عيني وأذني منه، وأعلمه أبي بنيتي فأناب وطالعه بعزيمتي فأجاب، وانفتح لي به إلى العلم كل باب ونفعني الله به في العلم والعمل ويسَّر لي على يديه أعظم أمل، فاتخذت بيت المقدس مباءة. والتزمت فيه القراءة لا أقبل على دنيا ولا أكلِّم إنسيا، نواصل الليل بالنهار. أدخل إلى مدارس الحنفية والشافعية في كل يوم لحضور التناظر بين الطوائف لا تلهينا تجارة ولا تشغلنا صلة رحم ولا تقطعنا مواصلة وليّ وتقاة عدو. [قانون التأويل قسم التحقيق ص 26 - 27، رسالة ماجستير للأخ محمَّد السليماني]. هكذا كانت فترة إقامته؛ فقد كانت كلَّها عملاً دائبًا وسعياً متواصلاً في سبيل البحث والدرس، استطاع خلالها أن يدرس أُمَّهات العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه وأصول وجدل وعلم كلام ولغة وأدب وتاريخ وسِيَر مما جعله يتصدر قائمة العلماء. ويصف لنا، رحمه الله، ازدهار العلم ببيت المقدس ومظاهر الحضارة وتعدد المذاهب والنحل فيقول: وردت على بيت المقدس، طهره الله، فألفيت فيه ثمان وعشرين حلقة ومدرستين. إحداهما للشافعية بباب أسباط، والأخرى للحنفية بإزاء قمامة، تعرف بمدرسة أبي عقبة، وكان فيه من رؤوس العلماء ورؤوس المبتدعة، على اختلاف طبقاتهم، كثيرٌ ومن أحبار اليهود والنصارى والسمرة جملٌ لا تحصى. فأوفيت على القصد من طريقه ووعيت

مشاهداته ببيت المقدس

العلم بتحقيقه ونظرت إلى كل طائفة تناظر وناظرتها بحضرة شيخنا أبي بكر الفهري، رحمه الله، وغيره من مشيخة أهل السنة [العواصم ص 61]. مشاهداته ببيت المقدس: كان، رحمه الله، مولعاً بحب الاستطلاع، مغرماً بالرغبة في التجول وقد دفعه إلى التجول في كل أنحاء فلسطين. فهو يصف محرابَ داود بقوله: شاهدت محراب داود، عليه السلام، في بيت المقدس، بناء عظيماً من حجارة صلدة لا تؤثر فيها المعاول، طول الحجر خمسون ذراعاً وعرضه ثلاثة عشر ذراعاً، وكلما قام بناؤه صغرت حجارته، يُرى له ثلاثة أسوار لأنه في السحاب أيام الشتاء كلها لا يظهر لارتفاع موضعه وارتفاعه في نفسه. [الأحكام ص 1598]. وشاهد قبر يوسف، عليه السلام، وزاره يقول: شاهدت قبره في قبلة قبور آبائه، إبراهيم وإسحاق وزوجاتهم في قبلة الحرم الذي فيه هذه القبور. زرناه مراراً وذكرنا الله فيه. [العارضة 4/ 274]. وزار مسجد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لما فتح عمر بن الخطاب بيت المقدس .. واتخذ به مسجداً رأيته وصلَّيت فيه ما لا أحصي. [العارضة 9/ 46، وانظر 13/ 277]. كما أنه دخل باب حطة وهو الباب الذي أمر بنو إسرائيل بالدخول منه، وهو الباب الثامن من أبواب المسجد، وهو من جهة القبلة معلوم مذكور. قال ابن العربي: دخلته سنة (486 هـ) وسجدت وخضعت وقلت: لا إله إلا الله. اللهم أحطط عني ذنبي واغفر لي، وبقيت فيه أعواماً، وكل مرة أكرِّرها وأكثر من الدخول والقول سمعنا وأطعنا والحمد لله رب العالمين. [العارضة 11/ 78]. ودخل نابلس وسجل لنا عفَّة نسائها بقوله: ولقد دخلت نابلس، وهي قرية من ترى المنجنيق لإبراهيم عليه السلام، فما رأيت أحسن منه، وسكنته مدة وتردَّدت عليه مرارًا فما وقعت فيه عيني على امرأة نهاراً حتى إذا كان يوم الجمعة امتلأ منهن ثم لا تقع عين عليهن إلا الجمعة الأخرى [القبس ل 28 ب]. دخوله عسقلان: دخل مدينة عسقلان وأقام بها ستة أشهر انغمر فيها مع رجال الأدب فهو يقول: خرجت إلى عسقلان متساحلًا ألفيت بها بحْرَ أدبٍ يعبُّ عبابه ويغبِّ ميزابه فأقمت لا أرتوي

خروجه من عسقلان ومنها إلى عكا فدمشق

منه نحوًا من ستة أشهر. [قانون التأويل قسم التحقيق ص 33 من رسالة ماجستير بجامعة أم القرى تحقيق الأخ محمَّد السليماني]. قلت: لم يذكر هؤلاء الشيوخ الذين أخذ عنهم، كما لم تتعرَّض المصادر لذكرهم. ويقول، في موضع آخر: نزلت إلى الساحل لأغراض نصصتها في كتاب ترتيب الرحلة، وكان الساحل المذكور مملوءاً من النِحَل الملحدة والمذاهب الباطنية والإمامية، فطوَّفت في مدن الساحل لأجل تلك الأغراض الدينية نحوًا من خمسة أشهر. [العواصم: ص 61]. خروجه من عسقلان ومنها إلى عكا فدمشق: وخرجت عن عكا إلى طبرية على حوران والبثنية، وعدلت عن بصرى إلى دمشق. [العواصم ص 75]. إعجابه بقرّاء بيت المقدس: كان ابن الكازروني يأتي إلى المسجد الأقصى ثم تمتَّعنا به ثلاث سنوات، وكان يقرأ في مهد عيسى فيسمع من في الطور فلا يقدر أحد أن يصنع شيئاً طول قراءته إلا الاستماع إليه. [الأحكام ص 1596]. وصوله إلى دمشق: يشير سياق الرحلة إلى أنه وصل دمشق سنة 489 هـ، فهو يقول في سياق الحديث عن طبرية: وقفت عليها في جمادي الأولى سنة (489 هـ) وأقمت عليها أياماً. [العارضة 9/ 89]. ومن المعلوم أنه مرَّ بطبرية في توجهه إلى دمشق. ويقول في وصف دمشق أثناء كلامه على هذه الآية (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُما إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمعينٍ} [المؤمنون/ 50]. دمشق في موضع مرتفع تتشقّق منه الأنهار العظيمة، وفيها الفواكه البديعة من كل نوع، وقد اتُّخذ بها مسجد يُقصد إليه وُيتعبد فيه. [الأحكام ص 1315]. ويصف مظهرًا عجيباً من مظاهر الترف، الذي كان شائعاً آنذاك بدمشق، فيقول إنه دخل بيوت بعض الأكابر ورأى فيه النهر جائياً إلى موضع جلوسهم، ثم يعود من ناحية أخرى فلم أفهم معنى ذلك حتى جاءت موائد الطعام في النهر المقبل إلينا، فأخذها الخدم ووضعوها بين يدينا، فلما فرغنا ألقى الخدم الأواني في النهر الراجع فذهب بها إلى ناحية الحريم من غير أن يقرب الخدمُ تلك الناحية فعلمت السرَّ وإن هذا لعجيب. [نفح الطيب 2/ 33].

توجهه إلى العراق

أما عن الشيوخ الذين أخذ عنهم بدمشق فيقول: صمدنا إلى دمشق وفيها جماعة من العلماء رأسهم شيخ الوقت سناء وسناً وعلماً وديناً نصر بن إبراهيم المقدسي النابلسي وأصحابه متوافرون، وهم على سبيل أهل الأرض المقدسة سائرون، وفي مدرجتهم سالكون وبتلك الدرجة متمكنون. فلزمنا شيخنا نصر بن إبراهيم في السّماع وانتهينا إلى سماع كتاب البخاري، بعد تقدم غيره عليه، وكان يقرؤه علينا بلفظه لثقل سمعه. [قانون التأويل قسم التحقيق ص 36 رسالة ماجستير لأخينا محمَّد السليماني]. قلت: وسيأتي أنه أخذ بدمشق عن عدة شيوخ غير نصر بن إبراهيم. توجهه إلى العراق: غادر ابن العربي، مع والده، دمشق متوجهاً إلى بغداد منسلخ شعبان سنة (489 هـ). وكانت بغداد، في ذلك الوقت، من أكبر مراكز العلم في العالم الإِسلامي، فكانت محط رحال العلماء من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب. أنشأ بها نظام الملك، الوزير السلجوقي 486، المدرسة النظامية وافتتحت رسمياً سنة (459 هـ) (¬1)، وقد جلب إليها من شيوخ العلم وحفّاظ الحديث مما أهَّلها لأن تصبح جامعة ذلك العصر. ويصف القاضي رحلته من دمشق إلى بغداد بقوله: خرجنا إلى العراق .. يوم الأحد منسلخ شعبان سنة (489 هـ). فبينا نحن نقطع المفازة إلى ماء يقال له الأطواء أهلَّ علينا هلال رمضان فكبَّر الناس والتفت إليّ أبي، رحمه الله، يكبر بتكبيرهم فما صرفت بصري إليه كراهية في جهة المغرب التي كان بها وتشوقاً إلى جهة المشرق التي كنت أؤملها: [قانون التأويل، قسم التحقيق ص 38]. أول درس سمعه بعد هذا الشوق الشديد إلى بغداد وعلمائها: بلغنا بغداد فنزلنا بها، وخرجت إلى جامع الخليفة يوم الجمعة فصلّيت وجلست إلى حلقة حسين الطبري (¬2)، النائب في ولاية التدريس بالدار النظامية في ذلك الوقت. [قانون التأويل ص 38 - 39]. ويصوِّر ما شاهد هناك فيقول: اتصل بنا المسير إلى دار السلام فألفيت بها من رؤساء ¬

_ (¬1) انظر وفيات الأعيان 1/ 395، طبقات الشافعية لابن السبكي 4/ 209، المنتظم 9/ 64. (¬2) ستأتي ترجمته.

توجهه إلى الحجاز

العلم ورؤوسه وأشياخ الملَّة وأحبارها ما يملأ الخافقين فقلت هذه ضالتي التي كنت أنشد [العواصم ص 75 - 76]. وكان يلازم فخر الإِسلام الشاشي ويصفه بفقيه الوقت وإمامه فهو يقول: فاوضت العلماء وواظبت المجالس واختصصت بفخر الإِسلام أبي بكر الشاشي، فقيه الوقت وإمامه، فطلعت لي شموس المعارف فقلت الله أكبر هذا هو المطلوب الذي كنت أحمد، والوقت الذي كنت أرقب وأرصد، فدرست وقيَّدت وارتويت وسمعت ووعيت. [قانون التأويل ص 40 - 41]. ورغم أن ابن العربي لم تطل إقامته هذه المرة ببغداد لأنه على نية العودة إليها ثانية فقد قيَّد على الكثير من الشيوخ سيأتي ذكرهم. توجهه إلى الحجاز: كان توجُّهه إلى الديار المقدسة في هذه السنة أي سنة (489 هـ) في شهر ذي القعدة. وكما يصف هو ذلك لنا فيقول: لما كانت سنة (489 هـ) أهلّ علينا هلال ذي الحجة ليلة الخميس بالدبرة فرحلنا عنه وقد فرح الناس بوقفة الجمعة ليجتمع لهم فضل اليومين، فضل يوم عرفة وفضل يوم الجمعة، ولأن حج النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أيضاً كان يوم الجمعة، فبتنا بمكان يقال له المسجد ثم رجعنا سحراً. فلما صلّينا الصبح وأشرقت الشمس إذا بقافلة البلقاء نرى فيها النفر المحرمين بالثياب البيض بين الناس فقلت: ما هذا؟ قال لي بعضهم: هم الشيعة لا يحرمون من ميقات عمر (ذات عرق). قلت: فمن أين لهم هذا؟ قال لي: يزعمون أن علياً خرج من الكوفة فأحرم من هذا الماء. قلت له: ومن روى هذا؟ قال لي: هم رووه. [العارضة 4/ 49 - 50]. وصوله إلى مكة: وحرصه على أن يحجَّ حجَّ النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ونقده لفعل بعض الحجيج، يقول رحمه الله: مررت من ذات عرق، فألفيت الحاج كلَّه بائناً بعرفة وليس على من فعل ذلك شيء، ولكنه ترك فعل رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ولقد خاب من تركه. [العارضة 4/ 110]. ويقول في موضع آخر: وأما أنا فجئت مراهقاً من ذات عرق إلى الموقف ليلة عرفة نصف الليل فأصبحت بها ووقفت من الزوال يوم الجمعة سنة (489 هـ)، ثم دفعت بعد غروب الشمس إلى المزدلفة فبتُّ بها ثم أصبحت فوقف بها الأمير حتى طلعت الشمس على

شربه زمزم بنية العلم والإيمان

قدح، فلما عممت الجبال دفعنا فرمينا الجمرة وحلقت وذبحت لفدية كانت علي ثم دخلت مكة وطفت وسعيت وصلّيت بها الظهر. [العارضة 4/ 153]. شربه زمزم بنية العلم والإيمان: ولقد كنت بمكة مقيماً في ذي الحجة سنة (489 هـ)، وكنت أشرب ماء زمزم كثيراً، وكلما شربته نويت به العلم والإيمان حتى فتح الله لي في المقدار الذي يسَّره لي من العلم، ونسيت أن أشربه للعمل وياليتني شربته لهما حتى يفتح الله علي فيهما ولم يقدر، فكان صغوي إلى العلم أكثر منه إلى العمل نسأل الله الحفظ والتوفيق. [الأحكام ص 1124، ونفح الطيب 2/ 41]. نشاطه العلمي في موسم الحج: لقد استغلّ هذه المناسبة السعيدة أحسن استغلال، فأخذ عن الكثير من الشيوخ الذين حضروا إلى مكة لأداء فريضة الحج. وبعد أداء فريضة الحج توجه إلى المدينة، وكان يقضي أغلب وقته في الروضة الشريفة يستمع إلى أحاديث علماء المدينة. ولم تطل إقامته هناك فقد توجه إلى بغداد ثانية ولقي بها جملة من العلماء من جملتهم الغزالي الذي قال عنه: ورد علينا ذا شمر فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية، معرضاً عن الدنيا مقبلًا على الله تعالى، وعرضنا أمنيتنا عليه وقلت له: أنت ضالتنا الذي كنا ننشد ... [قانون التأويل ص 41]. كما أخذ عن الأساتذة الزائرين لبغداد، وكان متأثراً بقرّاء بغداد وحُسن تلاوتهم للقرآن، يقول: سمعت بمدينة السلام شيخ القراء البصريين بدار بهاء الملك يقرأ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ}؛ فكأني ما سمعتها قط حتى بلغ إلى قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُريدُ} فكأن الإيوان قد سقط علينا. [الأحكام ص 1596]. وبعد أن أمضى، في زيارته الثانية، قرابة السنتين قضاها في التردد على حلق الذكر يستفيد ويفيد غادر بغداد، في طريق عودته إلى وطنه، صحبه والده ماراً بدمشق وكان ذلك في سنة (491 هـ). قال ابن عساكر: خرج من دمشق راجعاً إلى مقره سنة (491 هـ) ولما غريب صنَّف عارضة الأحوذي. [نفح الطيب 2/ 28]. ويقول ابن العربي: قفلنا وقد قضينا من الهجرة إلى الخلافة المفترض وحصلنا من

العلوم على بعض الغرض، وكان بودي أن لو أقمت هناك برد شبيبتي وأفنيت معهم بقية عمري [شواهد الحيلة ل 32 ب]. وقد توجها من دمشق إلى بيت المقدس وقابل القاضي هناك شيوخه السابقين وزار بعض الأماكن ووجدها تغيرت بعده، يقول: دخلت بيت لحم سنة (485 هـ) فرأيت في متعبدهم غارًا عليه جذع يابس كان رهبانهم يذكرون أنه جذع مريم بإجماع، فلما كان في المحرم سنة (492 هـ). دخلت بيت لحم قبل استيلاء الروم عليه لستة أشهر فرأيت الغار في المتعبد خالياً من الجذع فسألت الرهبان عنه فقالوا نخر وتساقط. [الأحكام ص 1252 - 1253]. ويقول في موضع آخر: وكان صاحب مصر الملقب بالأفضل قد دخلها (أي بيت المقدس) في المحرم سنة (492 هـ)، وحوَّلها عن أيدي العباسية، وهو حنق عليها وعلى أهلها، بحصاره لهم وقتالهم، فلما صار فيها وتدانى بالمسجد الأقصى منها وصلى ركعتين تصدّى له ابن الكازروني وقرأ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)} [آل عمران: 26]. فما ملك نفسه حين سمعه أن قال للناس، على عظم ذنبهم وكثرة حقده عليهم: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]، [الأحكام ص 1597]. ولم تطلْ إقامته، هذه المرة، ببيت المقدس وغادرها متوجهاً إلى الإسكندرية وحل فيها ضيفًا على أستاذه السابق وابن بلده، الذي لازمه بالقدس طيلة مقامه بها، وقد انتقل أبو بكر الطرطوشي إلى الإسكندرية وأصبح من الشخصيات اللامعة بها، وأحيا بها المذهب السني وحارب البدع. وكان الطرطوشي يقدِّر تلميذه كل التقدير كما أن ابن العربي كان يقدِّر شيخه ويحترمه غاية الاحترام ويتأثر بسلوكه. يقول ابن العربي: (وفي أثناء القفول لقيت زاهد الوقت .. بثغر الإسكندرية للقاءة الثانية وأقمت معه نتجاذب ذيول الإشكال ونختبر فصول القيل والقال). [شواهد الجلة ل 31 ب مخطوط الخزانة العامة بالرباط].

وفاة والده

وفاة والده: توفي والده في نهاية الرحلة، وقد أسف لذلك كثيراً ولا غرو فقد كان خير معين له طيلة هذه الرحلة الطويلة: ومعي صارم لا أخاف نَبْوَتَه وحصان لا أتوقع كبوته، أب في الرتبة وأخ في الصحبة، يستعين ويعين ويسقي من النصيحة بماء معين .... [شواهد الجلة ل 27 أ]. وكانت وفاة والده في أوائل سنة (493 هـ) [انظر الغنية ص 67، الديباج 2/ 233، المرقبة العليا ص 106، الفكر السامي 2/ 222، وفيات الأعيان 4/ 296]. قلت. كل المصادر التي تعرَّضت لوفاة والده ذكرت أنه مات بالإِسكندرية لكن الذهبي يرجح أنه ببيت المقدس فقد قال: رجع إلى الأندلس بعد أن دفن أباه في رحلته أظن ببيت المقدس. [سير أعلام النبلاء 20/ 199 والراجح أنه بالإِسكندرية كما تقدم]. مدَّة الرحلة: لقد حددها ابن العربي نفسه فقال: وقد تجولت في تلك الأقطار الكريمة ودخلت تلك الأمصار العظيمة وجبت الأقطار القاصية نيفاً على عشرة أعوم. [العواصم 2/ 82]. ويقول في العارضة، وهو يتحدث عن خلفاء بغداد: المقتدي أدركته سنة (486 هـ) وعهد إلى المستظهر أحمد ابنه وتوفي في المحرم سنة (486 هـ)، ثم بايع المستظهر لابنه أبي منصور الفضل وخرجت عنهم سنة (495 هـ). [العارضة 9/ 68 - 69]. وينقل الضبي، في بغية الملتمس، ص 83، عن أحد طلابه، وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن محمَّد، قال. لما رحلت إلى قرطبة قرأت على الحافظ أبي بكر ولزمته فسمعني ذات يوم أذكر الانصراف إلى وطني المرية فقال لي. ما هذا القلق، أَقِمْ حتى يكون لك في رحلتك عشرة أعوام كما كان لي. الخلاف في رحلة ابن العربي: يرى البعض أن رحلة ابن العربي، وولده القاضي، كانت رحلة سياسية وأنهما خرجا موفدين من قبل يوسف بن تاشفين، ملك الدولة اللمتونية، وهذا رأي ابن خلدون. فقد قال: لما محى رسم الخلافة وتعطل دستها وقام بالمغرب يوسف بن تاشفين، ملك لمتونة، فملك العدوتين، وكان من أهل الخير والاقتداء، نزعت به همته إلى الدخول في طاعة الخليفة كميلًا لمراسم دينه فخاطب المستظهر العباسي وأوفد عليه ببيعته عبد الله ابن العربي وابنه القاضي أبا بكر من مشيخة أشبيلية يطلبان توليته إياها على المغرب وتقليده

ذلك فانقلبوا إليه بعهد الخلافة له على المغرب (¬1). ورأي ابن خلدون هذا يعارضه سياق القاضي لرحلته مع والده فقد قال: (دعت الضرورة إلى الرحلة فخرجنا والأعداء يشمتون بنا .. ولقد كنت مع غزارة السببية ونضارة الشبيبة أحرص على طلب العلم في الآفاق) (¬2). وعندما كان ابن العربي في بيت المقدس وأراد والده الحج طلب منه أن يتركه مع مشايخه في تلك الديار لطلب العلم. قلتُ لأبي رحمة الله عليه: إن كانت لك نيَّة في الحجِ فامضِ لعزمك فإني لست برايم هذه البلدة حتى أعلم علم من فيها وأجعل ذلك دستوراً للعلم وسلّماً إلى مراقيها. فساعدني حين رأى جِدّي وكانت صحبته لي من أعظم أسباب جِدي (¬3). فالنصوص السابقة تدل على أن ابن العربي كان هدفه من الرحلة هو المعرفة والتعرف على العلماء لكنه لم يقتصر على ذلك، فيما بعد، واتصلا بالخليفة المستظهر بالله ورفعا إليه خطاباً مطوَّلاً يذكران فيه ما يقوم به الأمير يوسف بن تاشفين من دعوة للخلافة الإِسلامية، وإشاعة العدل بين الرعية، وجهاد أعداء الإِسلام وطلبا من الخليفة التقليد له بأمير المسلمين بالمغرب. ولما وصلنا مدينة السلام ولقينا فيها كبار الإِسلام كتب أبي، برَّد الله مثواه، إلى الخليفة كتاباً في درج طويل على صفة أدراجهم في مخاطباتهم (¬4). وقد أشاد عبد الله بن العربي، في هذا الخطاب، بيوسف بن تاشفين فوصفه بالعدل والجهاد المستمر لأعداء الدين، وفي نهاية الخطاب يستأذن الخليفة في صدوره، هو وابنه، إلى الوطن بعد أن ظلّا ببغداد عامين كاملين في ضيافة الخلافة العباسية. وصدر جواب الخليفة على ظهر نفس الدرج بتاريخ رجب سنة (491 هـ) يتضمن التقليد الرسمي للأمير ابن تاشفين، كما يتضمن الأمر السامي إلى الأمير ابن تاشفين بأن يختص حاملي الخطاب، ابن العربي وولده، بالأنعام الذي يضفو عليهما برده ويصفو لهما وده ليظهر عليهما من المهاجرة جميل الأثر فليقابل الأمر الأسنى بالاستقبال إن شاء الله (¬5). ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون: ص 229. (¬2) قانون التأويل قسم التحقيق: ص 10، قانون التأويل ص: 26. (¬3) له (5) أ. (¬4) انظر شواهد الجلة ل 2أ، مخطوط الخزانة العامة 1020. (¬5) انظر الكامل لابن الأثير 10/ 417 وعصر المرابطين والموحدين 1/ 40 - 41.

وقد استصدر ابن العربي من شيخه الغزالي فتوى مسهبة أورد أبو بكر خلاصتها في شواهد الجلة؛ وفيها أن يوسف كان على حق في إظهار شعار الإِمامة للخليفة المستظهر، وأن هذا الواجب على كل ملك استولى على قطر من أقطار المسلمين، وإذا نادى الملك المشمول بشعار الخلافة العباسية وجبت طاعته على كل الرعايا والرؤساء ومخالفته مخالفة للإِمام وكل من تمرَّد واستعصى فحكمه حكم الباغي (¬1). وأرفق الغزالي، مع تلميذه، خطاباً وجَّهه إلى ابن تاشفين يحضُّه فيه على التمسك بالعدل وينوَّه بمحامد سيرته ومحاسن أخلاقه، ويذكر الدور الذي قام به أبو محمَّد ابن العربي وولده أبو بكر في إشاعة ذلك مما تعطَّرت به أرجاء العراق، ويذكر أن الخلافة دعت الشيخ ابن العربي إلى الإِقامة ببغداد تحت البر والكرامة فأبى إلى الرجوع إلى ذلك الثغر لملازمة الجهاد مع الأمراء، ولا ينسى أن ينوِّه بمقام أبي بكر في العلم والمعرفة في رحلته الطويلة في المشرق وفي بغداد بصفة خاصة فيقول: والشيخ أبو بكر قد أحرز من العلم، في وقت تردُّده إليّ ما لم يحرزه غيره مع طول الأمد وذلك لما خُصَّ به من توقّد في الذهن وذكاء الحس وإنفاذ البصيرة، وما يخرج من العراق إلا وهو مستقلّ بنفسه حائز قصب السبق بين أقرانه (¬2). وفي نهاية الخطاب يوصي ابن تاشفين بالشيخين خيراً لأنهما أهل لذلك ومن أحقّ بالإِكرام من أهل العلم (¬3). ثم غادرا بغداد عائدَيْن إلى بلدهما سنة (491 هـ) مارين بالشام وبيت المقدس ثم الإِسكندرية، وقد شاءت إرادة الله أن يموت عبد الله، والد القاضي، في نهاية الرحلة بذلك الثغر، ويأسف عليه ابنه أشدّ الأسف ثم واصل سيره إلى بلاده، وقد ودعه شيخه وابن بلده أبو بكر الطرطوشي وزوده برسالة إلى الأمير يوسف ابن تاشفين يوصيه فيه بتقوى الله وطاعته. ويقول: ومِمَّا أتحفك به وهو خير لك من قلاع الأرض ذهباً لو أنفقته في سبيل الله ¬

_ (¬1) شواهد الجلة ل 2أ، عصر المرابطين والموحدين: 1/ 42. ويبدو من ذكر الخليفة المستظهر في رواية ابن العربي وفي فتوى الغزالي أنهما يرجعان إلى سنة 487 هـ. وقد تولى المستظهر الخلافة بعد وفاة أبيه المقتدي: 16/ 487/1. (¬2) شواهد الجلة ل 7أ. (¬3) شواهد الجلة ل 7أ.

نتائج الرحلة

حديث: "لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَغرِبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أمْرُ الله" (¬1). والله أعلم هل أرادكم رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، معشر المرابطين أو أراد بذلك جملة أهل المغرب وما هم عليه من التمسك بالسنة والجماعة وطهارتهم من البدع والإِحداث في الدين، وإنَّا لنرجو أن تكونوا أوليِ بقية ينهَوْن عن الفساد في الأرض. ولقد كنّا في الأرض المقدسة، جبر الله مصابها، تترى علينا أخبارك وما قمت به من أداء فريضة الله تعالى في جهاد عدوّه وإعزاز دينه وكلمته .. ولئن كنت تستنصر لك بجنود أهل الأرض فلقد كنا نستنصر لك بجنود أهل السماء حتى قدم علينا الأرض المقدسة أبو محمَّد بن العربي وابنه الفقيه الحافظ أبو بكر، فذكروا من سيرتك في جهاد العدو، وصبرك على مكافحته ومصابرته وإعزازك للدين وأهله والعلم وحملته، حتى تمنينا أن نجاهد الكفار معك ونكثر سواد المسلمين في جملتك. وينهي الطرطوشي رسالته بالتنويه بمكانة تلميذه أبي بكر ويوصي الأمير به وأن يشد يديه عليه. والفقيه أبو بكر محمَّد بن عبد الله بن العربي ممن صحبنا أعواماً يدارس العلم ويمارسه، بلوناه وخبرناه وهو ممن جمع العلم ووعاه، ثم تحقق به ورعاه وناظر فيه وجدّ حتى فاق أقرانه ونظر آراءه ثم رحل إلى العراق فناظر العلماء، وصحب الفقهاء، وجمع من مذاهب العلم عيونها، وكتب من حديث رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وروى صحيحه وثابته والله يؤتي الحكمة من يشاء. وهو وارد عليك بما يسرُّك فاشددْ عليه يديك واحفظْ فيه، وفي أمثاله، وصية الله سبحانه لنبيه عليه السلام: {وإذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرحْمَةَ}، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته (¬2). وقد توجَّه ابن العربي، في بداية أمره، إلى مراكش، عاصمة الدولة المرابطية، واستقبله الأمير يوسف بن تاشفين بكل ترحاب، وتسلم منه الرسائل الموجهة إليه، ثم عاد إلى إشبيلية وطنه معزَّزاً مكرَّماً، وهناك بدأ يناظر ويدرس وينشر ما حصل عليه من علم. نتائج الرحلة: لم يهمل ابن العربي الحديثَ عن هذه الرحلة وما استفاده فيها من مشافهة العلماء، ¬

_ (¬1) متفق عليه البخاري 9/ 124 - 125 ومسلم 3/ 1523. (¬2) شواهد الجلة ل 6 - 10، مخطوط الخزانة العامة بالرباط 1020

عودته إلى وطنه

وما حصل عليه من كتب نادرة ولا يحصل عليها إلا من رحل وكانت له همَّة كهمة ابن العربي فقد قدم بعلم كثير وكتبه جمَّة. يقول المقري: نُقل عنه أنه قال: كل من رحل لم يأتِ بمثل ما أتيت به أنا والقاضي أبو الوليد الباجي. أو قاد: لم يرحل غيري وغير الباجي وأما غيرنا فقد تعب. [أزهار الرياض 3/ 63]. عودته إلى وطنه: عاد ابن العربي، كما قدَّمنا، من هذه الرحلة بنتائج هامة كان لها أحسن الأثر في حياته وفي حياة بلده. يقول تلميذه الفتح ابن خاقان: فكَّر راجعاً إلى الأندلس فحلَّها والنفوسُ إليه متطلِّعة ولأنبائِه متسمِّعة، فناهيك من حظوة لقى ومن عزة سقى ومن رفعة سما إليها ورقى، وحسبك من مفاخر قلّدها ومحاسن أنسٍ أثبتها وخلدها .. [نفح الطيب 2/ 34].

المبحث الثالث ويشتمل على ثلاثة مطالب شيوخه - تلاميذه أولاده وأحفاده

المبحث الثالث ويشتمل على ثلاثة مطالب شيوخه - تلاميذه أولاده وأحفاده المطلب الأول شيوخه تكلمنا، في ما مضى، على كون القاضي ابن العربي، رحمه الله، كان مثالاً في الجد والاجتهاد، وأنه رحل في طلب العلم متنقِّلاً من بلد إلى بلد لتلقِّي مختلف العلوم، وللأخذ عن العلماء والشيوخ لسماع الكتب بالأسانيد المتصلة والعالية. ومما لا شك فيه أن ابن العربي أخذ عن شيوخ هم من الكثرة بحيث لا يستطيع أحد أن يحيط بهم في هذه الدراسة الموجزة. وقد حرص ابن العربي على أن يضع فهرساً لأسماء شيوخه الذين أخذ عمهم وقد شاء الله أن يضيع هذا الفهرست. ولكن ضياعه لا يمنعنا من محاولة التعرف على بعض شيوخه، والترجمة لهم وخاصة المشاهير الذين تلقى عنهم وأثَّروا في حياته العلمية وكوَّنوا عنده هذه الملكة القوية والعقلية العلمية النيِّرة التي جعلته يتبوأ مكان الصدارة في عصره بين العلماء. تتلمذ القاضي أبو بكر بن العربي على شيوخ في مختلف العلوم الشرعية، فله شيوخ في القراءات والفقه وأصول الفقه واللغة والحديث. 1 - أبو عبد الله بن أحمد: من أهل سرقسطة روى عن أبي عبد الله بن شريح وغيره. قال ابن بَشْكُوَال: أخذ عنه القراءات شيخنا القاضي الإِمام أبو بكر بن العربي وذكر أنه كان شيخاً صالحاً، وكان يقرئ الناس بحضرة أشبيلية. توفي سنة (500 هـ) (¬1). 2 - الفقيه الوزير الرئيس أبو محمَّد عبد الله بن محمَّد بن عبد الله بن العركي المَعَافِري، والد القاض: قال الذهبي: الإِمام العلَّامة الأديب ذو الفنون أبو محمَّد عبد الله بن محمَّد بن العربي الأشبيلي، والد القاضي. صحب ابن حزم وأكثر عنه ثم ارتحل بولده أبي بكر فسمعا من طرّاد الزّيني ¬

_ (¬1) الصلة 2/ 563 رقم 1234، وانظر الحلل السندسية: 2/ 138 - 157، ونفح الطيب: 2/ 28.

وعدة، وكان ذا بلاغة ولسن وإنشاء. مات بمصر سنة (493 هـ) ومولده سنة (435 هـ)، رجع ابنه إلى الأندلس (¬1). 3 - أبو محمَّد جعفر بن أحمد بن الحسين. ذكر في العواصم ص 151: أنه قارئ محدِّث أديب، من القراء المشهورين. قال ابن رَجَب: جعفر بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن جعفر السرَّاج المقرئ المحدِّث الأديب أبو محمَّد، ولد سنة (417 هـ) أو أول (418 هـ). ذكره السَّلفي عنه. وقال الشجاع الذّهلي سنة (416 هـ) وقرأ القرآن بالروايات وأَقرأَ سنين. سمع أبا علي شاذان وأبا محمَّد الخَلّال وأبا القاسم بن شاهين والبرمكي والقزويني وخلقاً كثيراً .. قال ابن الجوزي: حدثنا عنه أشياخُنا، وآخر من حدَّثَنا عنه شهدة بنت الإبري .. ذكره القاضي أبو بكر بن العربي فقال: ثقة، عالم، مقرئ له أدب ظاهر واختصاص بالخطب. وقال السلفي: كان ممن يُفتخر برؤيته وروايته، وله تواليف مفيدة، وفي شيوخه كثرة وأعلاهم إسناداً ابن شاذان مات سنة (500 هـ) (¬2). 4 - الفقيه الحافظ أبو القاسم بن عمر بن الحسن الهَوْزَني الأشبيلي: كان زعيم بلده في وقته. سمع أباه وابن منظور وغيرهما من أهل بلده ورحل وكتب عن جماعة من العلماء، وأجازه محمَّد بن الوليد وأبو منصور الشَّهْرَزُورِي وسمع منه. توفي سنة (512 هـ) (¬3). 5 - أبو محمَّد بن الأكفاني هِبَة الله بن أحمد بن أحمد بن محمَّد الأنصاري الدمشقي الحافظ: سمع أباه وأبا القاسم الجنائي وأبا بكر الخطيب وطبقتهم ولزم أبا محمَّد الكناني مدة، وكان ثقة، فهماً، شديد العناية بالحديث والتاريخ، كتب الكثير وكان من كبار العدول، مات سنة (524 هـ) (¬4). 6 - الحافظ أبو المظفر عبد الرحمن بن قاسم الشَّعْبي المالقي: [راحع الأعلام 4/ 97] ولِّي ¬

_ (¬1) سير أعلام النبلاء: 19/ 130 - 131، وانظر سير النبلاء: 20/ 198، وفهرست ابن خير: 410 - 415، التكملة: 1/ 389، شجرة النور الزكية: 1/ 122 - 123. (¬2) ذيل طبقات الحنابلة: 1/ 100، العبر: 2/ 380، وفيات الأعيان 1/ 357. (¬3) ترتيب المدارك: 4/ 826، الفهرست لابن خير: 117، 304، التكملة: 1/ 36. (¬4) العبر: 2/ 424، شذرات الذهب: 4/ 73.

القضاء ببلده نيابة ثم استقلالاً، وكان حافظاً للمسائل، وعليه كان يدور الفتيا بقطره. وكان يستحضر كتابَي الموطّأ والمدوّنة، وقد جرت بينه وبين ابن العربي، عند اجتيازه على مالقة، مناظرات في ضروب من العلوم ولا سيما فيما يرجع إلى رواية أشهب ونظرائه مات سنة (499 هـ) (¬1). 7 - أبو عبد الله محمَّد بن موسى بن عمّار الكلاعي: من أهل العلم والفهم ورحل فلقي بقية مشيخة القيروان السّيوري وطبقته، وأخذ الكلام والأصول هناك عن أبي عمر بن سراج أبي سراج وأبي عبد الله الصَّيْرفي وأبي القاسم الدّياجي. وأخذ بصقلية عن شيوخها أبي محمَّد عبد الحق وأبي العباس الخرّاز. ولقي شيوخ مصر ومن كان بمكة، وغلب عليه التوحيد والكلام فيه. وكان حسن العبارة جيِّد القريحة (¬2)، قال ابن الأبّار: سمع منه ابن العربي في رحلته إلى المشرق سنة (485 هـ) (¬3). 8 - مكي بن عبد السلام أبو القاسم بن الرّميلي المَقْدسي الحافظ: أحد من استشهد بالقدس. رحل وجمع وعنى بهذا الشأن، وكان ثقة متحرِّياً. روى عن محمَّد بن يحيى بن سلوان المازني وأبي عثمان بن وَرَقاء وعبد الصمد بن المأمون وطبقتهم. مات سنة (492 هـ) (¬4). قال ابن النجّار: مكّي من الحفّاظ، رحل وحصّل وكان مفتياً في مذهب الشافعي سمع ابن سلوان، وكانت الفتوى تجيئه من مصر ومن الساحل ودمشق (¬5). 9 - أبو منصور محمَّد بن محمَّد بن الصَّبَّاغ: ذكره في العارضة: انظر [العارضة: 3/ 207]. قال السبكي. هو أبو منصور بن الصباغ البغدادي، ابن أخي الشيخ أبي نصر وزوج ابنته. إمام عالم جليل القدر تفقَّه على القاضي أبي الطيب وعلى عمه الشيخ أبي نصر، صروى الحديث عن القاضي أبي الطَّيِّب، والحسن بن علي الجوهري، وأبي يعلي بن الفَرّاء، وأبي الحسين بن النقور، وأبي القاسم بن اليُسْرَى. روى عنه محمَّد بن طاهر المقدسي. قال ابن النجار. كان فقيهاً فاضلاً حافظاً للمذهب. ¬

_ (¬1) المرقة العليا: ص 107 - 108، الصلة 329. (¬2) ترتيب المدارك: 4/ 826 - 827. (¬3) التكملة: 403. (¬4) العبر: 2/ 366 - 367، شذرات الذهب: 3/ 398، مرآة الجنان: 3/ 155. (¬5) تذكرة الحفّاظ: 1229، طبقات الشافعية 5/ 332.

المطلب الثاني في تلاميذه

مات سنة (494 هـ) (¬1). 10 - أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمَّد بن طلحة النّعالي. ذكره في [العارضة: 8/ 165]، قال الذهبي: رجل عامّي من أولاد المحدثين، عمّر دهراً وانفرد بأشياء. روى عن أبي عمر بن مهدي، وأبي سعد الماليني وطائفة. توفي في صفر (493 هـ) (¬2). المطلب الثاني في تلاميذه مما لا شك فيه أن القاضي أبا بكر وصل بجده واجتهاده ومداومة الطلب والتحصيل والرحلة الواسعة إلى درجة رفيعة في العلوم جعلته محط الرحال لطلاب العلم، فوفدوا إليه متجشمين الأخطار والصعاب كي يتعلموا على هذا الإِمام الفذِّ الذي أصبح حافظ العصر ومدققه بلا نزاع. وكثرت طلبته حتى كان رؤوس العلم من تلاميذه وتخرج به علماء أصبحوا أعلام هداية وأساتذة أجيال ورواد علم، وسأترجم فيما يلي لبعضهم ترجمة موجزة. 1 - القاضي عِيَاض: هو عِيَاض بن موسى بن عِيَاض العلامة أبو الفضل السبتي المالكي أحد الأعلام. قال ابن فرحون: كان إمام وقته في الحديث وعلومه، عالماً بالتفسير وجميع علومه، فقيهاً أصولياً عالماً بالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، بصيراً بالأحكام عاقداً للشروط، حافظاً لمذهب مالك رحمه الله. رحل إلى الأندلس وأخذ بقرطبة عن القاضي أبي عبد الله محمَّد بن علي بن حمدين، وأبي الحسين بن سراج، وأبي محمَّد بن عتاب وغيرهم، وأخذ عن ابن العربي عند اجتيازه سبتة. قال القاضي عياض: اجتاز ببلدنا فكتبت عنه فوائد حديثية وناولني كتاب المُؤْتَلِف والمُخْتَلِف للدارقطني. مات رحمه الله سنة (544 هـ) (¬3). 2 - السهيلي أبو زيد وأبو القاسم وأبو الحسن عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد العلاّمة ¬

_ (¬1) طبقات الشافعية: 4/ 85، المنتظم: 9/ 125. (¬2) العبر: 2/ 367. (¬3) الديباج: 2/ 46، المرقبة العليا: ص 101، شذرات الذهب: 4/ 138، تذكرة الحفّاظ: 4/ 1304 - 1307، بغية الملتمس: 425، الغنية: ص 68.

الأندلسي المالقي: النحوي الحافظ العلم، صاحب التصانيف. أخذ القراءات عن سليمان بن يحيى وجماعة وروى عن ابن العربي والكبار وبرع في العربية واللغات والأخبار والأثر وتصدر للإفادة. مات سنة (518 هـ) (¬1). 3 - أبو زيد عبد الرحمن بن محمَّد بن يحيى الغماري: من أهل الجزيرة الخضراء وأصله من بلاد غمارة بشمال المغرب. روى عن ابن العربي واستظهر عليه موطّأ مالك، وأجاز له، وكان من حفّاظ العلم. كف بصره وهو ابن اثنتي عشرة سنة، حدث الناس عنه وسمعوا عليه الموطّأ بلفظه وكان يورده من حفظه ويقول: هكذا كنت أعرضه على أبي بكر بن العربي. توفي سنة (602 هـ) (¬2). 4 - ولده أبو محمَّد عبد الله بن محمَّد بن عبد الله بن العربي: كان من أهل النباهة والجلالة معنياً بالرواية وسماع العلم. قُتل خطأ يوم أن دخلت أشبيلية على المرابطين من قبل الموحدين، فثكله أبوه وحسن صبره عليه سنة (541 هـ) (¬3). 5 - عبد الرحمن بن محمَّد بن حبيش القاضي أبو القاسم الأنصاري المرّي: نزيل مرسية. عاش ثمانين سنة. قرأ القراءات على جماعة ورحل بعد ذلك فسمع بقرطبة من يونس ابن محمَّد بن مغيث والكبار، وكان من أئمة الحديث والقراءات والنحو واللغة. ولي خطابة مرسية وقضاءها مدة واشتهر ذكره وبعد صيته وكانت الرحلة إليه في زمانه (¬4). مات سنة (584 هـ). وكان عبد الرحمن أيام إقامته بقرطبة عند القاضي ابن العربي، بعد تركه القضاء، وكان ينزل معه في بيته وقد سمعه يوماً يذكر الانصراف إلى وطنه (المرية) فقال له: ما هذا القلق؟ أقِمْ حتى يكون لك في رحلتك عشر سنين كما كان لي (¬5). قلت: وهو الذي روى عن القاضي كتاب القبس. 6 - محمَّد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن فرج الجدّ الفهري: الحافظ الجليل، يكنى ¬

_ (¬1) العبر: 3/ 82، الديباج: 1/ 480، تذكرة الحفاظ: 4/ 1348، نكت الهيمان: 187، شجرة النور الزكية: 1/ 156. (¬2) التكملة: 581. (¬3) التكملة: 371. (¬4) العبر: 3/ 88. (¬5) انظر بغية الملتمس: 340، التكملة: 573، غاية النهاية: 1/ 378.

أبا بكر جليل أشبيلية وزعيم وقته في الحفظ، كان في حفظ الفقه بحراً يغرف من محيط. روى عن أبي الحسن بن الأخضر ودرس عليه كتاب سيبويه، وأخذ عنه كتب اللغات والآداب، وسمع من ابن العربي، وبرع، أولاً، في العربية واقتصر عليها ثم مال إلى دراسة الفقه ومطالعة الحديث والإشراف على الاتفاق والاختلاف بتحريض أبي الوليد بن رشد. انتهت إليه الرياسة في الفتيا وقدم للشورى مع أبي بكر ابن العربي ونظرائه بأشبيلية سنة (521 هـ)، وتمادى به ذلك نيفاً على ستين سنة في ازدياد سمو الرياسة واطراد تمكن الحظوة، ولم يشتغل بالتأليف مع غزارة حفظه واتساع مادة علمه. مات سنة (586 هـ) (¬1). 7 - أبو بكر محمَّد بن خير بن عمر اللمتوني الإِمام الحافظ شيخ القراء الأشبيلي: أتقن القراءات على شرَيْح بن محمَّد واختص به حتى ساد أهل بلده، وسمع منه ومن أبي مروان الباجي والقاضي أبي بكر بن العربي، وبقرطبة من أبي جعفر ابن جعفر ابن عبد العزيز وابن عمه أبي بكر وأبي القاسم بن بقي وابن مُغِيث وطائفة سواهم. قال ابن الأبّار: كان مكثراً إلى الغاية. سمع من رفاقه وشيوخه أكثر من مائة نفس، لا نعلم أحداً من طبقته مثله. وتصدر بأشبيلية للإقراء والإسماع وحمل الناس عنه كثيراً، وكان مقرئاً مجوداً ومحدثًا متقناً أديباً نحوياً لغوياً، واسع المعرفة رضاً مأموناً، لما مات بيعت كتبه بأغلى الأثمان لصحَّتها، ولم يكن له نظير، في هذا الشأن، مع الحظ الأوفر من علم اللسان، توفي سنة (575 هـ) (¬2). 8 - أبو القاسم بن بَشْكُوَال خلف بن عبد الملك بن مسعود الأنصاري القرطبي: الحافظ محدِّث الأندلس ومؤرِّخها ومسندها، سمع أبا محمَّد بن عَتَّاب وأبا بحر بن العاص وطبقتهما، وأجاز له أبو علي الصَّدَفي، وله عدة تصانيف. توفي سنة (578 هـ) (¬3) تولّى القضاء ببعض جهات أشبيلية لأبن العربي. أخذ عن ابن العربي الجم الغفير من معاصريه من الأئمة وطلاب العلم. ¬

_ (¬1) الديباج: 2/ 286، شجرة النور الزكية: 1/ 159، العبر 3/ 92، شذرات الذهب: 4/ 286، البغية: 188. (¬2) تذكرة الحفاظ: ص 1366، العبر: 3/ 69، تذكرة الحفاظ للسيوطي: 483، طبقات القراء: 2/ 139، شذرات الذهب: 4/ 252، مرآة الجنان: 6/ 86، الديباج: 1/ 353، شجرة النور الزكية: 1/ 154. (¬3) الديباج 1/ 354 شجرة النور 1/ 154 مرآة الجنان 3/ 432.

المطلب الثالث أولاده وأحفاده

المطلب الثالث أولاده وأحفاده أنجب أبو بكر بن العربي عدة أولاد منهم: 1 - أبو محمَّد عبد الله بن محمَّد بن عبد الله بن العربي، تقدمت ترجمته في تلاميذه. 2 - أبو الحسن عبد الرحمن بن محمَّد بن العربي. سمع أباه وشُرَيْح بن محمَّد، ويروي عن أبي محمَّد بن عتّاب وأبي الحسن بن مغيث وسمع الحديث المسلسل بالأخذ باليد من أبي محمَّد بن أيوب الشاطبي، وكان له اعتناء بالعلم والمداومة عليه، قال ابن الأبّار: لم يبلغ مبلغ التحديث (¬1). 3 - أحمد بن محمَّد بن العربي ذكرته بعض المصادر عرضًا ولعله لم يكن من أهل المعرفة (¬2). أحفاده منهم 1 - أبو بكر محمَّد بن عبد الله بن أحمد بن محمَّد أبو بكر بن العربي، حفيد القاضي، رحل إلى المشرق وجاور بالحرمين الشريفين وحجّ سبع حجج. كان من الفضل والدين والتواضع ولين الجانب بمكان (ت 617 هـ) (¬3). 2 - أبو الحسن علي بن عمر بن عبد السلام بن أحمد بن محمَّد بن محمَّد بن أحمد ابن الحافظ أبي بكر بن العربي، كذا ذكره في الاتحاف وقال فيه: كان متقناً استوطن فاساً مدة ثم رحل عنها إلى مكناس وأسندت إليه رياسة التوقيت في الجامع الكبير (¬4). 3 - أنجب هذا الميقاتي ولداً يعرف بأبي زيد عبد الرحمن بن علي بن العربي. كان فقيهاً حافظاً محدثاً، قيل إنه بلغ رتبة الاجتهاد، مات بمراكش سنة (834 هـ) (¬5). ¬

_ (¬1) التكملة: ص 564، المعجم، ص 221. (¬2) انظر التكملة: 2/ 603. (¬3) نفح الطيب: 2/ 626، التكملة: 2/ 603. (¬4) انظر الإتحاف: 5/ 458. (¬5) سلوة الأنفاس للكتَّاني: 3/ 159.

المبحث الرابع مكانته العلمية وثناء العلماء عليه

المبحث الرابع مكانته العلمية وثناء العلماء عليه طلب ابن العربي العلوم وجدَّ في تحصيلها، وأقبل على العلوم بكليته، وطوّف البلاد فسمع بالاسكندرية والقاهرة والقدس ونابلس ودمشق وبغداد ومكة والمدينة وغيرها من البلاد، وأكثر من السماع جداً، ولم يزلُ مقبلًا على طلب العلم حتى صار إمام الناس في وقته في أغلب العلوم، وقد وصفه معاصروه بالحفظ والإتقان. فقد قال عنه ابن بَشْكُوال: كان مقدَّماً في المعارف كلها، حريصاً على أدائها ونشرها، ثاقب الذهن في تمييز الصواب فيها، ويجمع إلى ذلك كله آداب الأخلاق مع حسن المعاشرة ولين الكنف وكثرة الاحتمال وكرم النفس وحسن العهد وثبات الود. وقال أيضاً فيه الإِمام خاتمة علماء الأندلس (¬1). أما ابن فرحون فيقول فيه: هو الإِمام العلَّامة الحافظ المتبحّر ختام علماء الأندلس وآخر أئمتها وحفّاظها .. درس الفقه والأصول وقيّد الحديث واتسع في الرواية وأتقن مسائل الخلاف والأصول والكلام على أئمة هذا الشأن (¬2). وقال الذهبي. أدخل الأندلس إسناداً عالياً وعلماً جمّاً، وكان ثاقب الذهن عذب المنطق كريم الشمائل كامل السؤدد. وقال: كان القاضي ممن يقال إنه بلغ رتبة الاجتهاد. وقال ابن النجار: حدَّث ببغداد بيسير، وصنَّف في الحديث والفقه والأصول وعلوم القرآن والأدب والنحو والتواريخ، واتسع حاله وكثر أفضاله ومدحته الشعراء (¬3). وقال الحجاري: لو لم يُنسب لأشبيلية إلا هذا الإِمام الجليل لكان لها به من الفخر ما يرجع عنه الطرف وهو كليل. وقال هو الإِمام بحر العلوم وإمام كل محفوظ ومعلوم (¬4). ¬

_ (¬1) نفح الطيب: 2/ 28، وأنظر أزهار الرياض: 3/ 63، المرقبة العليا: ص 105. (¬2) الديباج: 2/ 252 - 253. (¬3) سير أعلام النبلاء: 20/ 200 - 201. (¬4) المغرب في حلى المغرب: 1/ 254 - 255، وانظر تذكرة الحفّاظ: 1295.

المبحث الخامس العوامل التي ساعدت على نبوغه

المبحث الخامس العوامل التي ساعدت على نبوغه لقد ساعدت على نبوغ الحافظ أبي بكر بن العربي عدة عوامل كونت منه شخصية فذة. وعوامل تنمية الشخصية وتنمية المواهب لها وخلق الملكات عند المرء حتى ينبغ في عصره ويتميز عن أقرانه يتوقف على أمور ومؤثرات منها ما يكون خلقياً كالذكاء والمواهب، ومنها ما يكون مكتسباً يرجع إلى حسن استغلال المرء للظروف التي تحيط به وسلامة توجيهه ومدى استعداده وقابليته للإفادة من ذكائه ومواهبه، وفي العوامل المكتسبة يبرز التنافس ويظهر التفاضل بين الأخوة والأقران. وقد تضافرت عوامل ومؤثرات ساعدت على نبوغ القاضي أبي بكر بن العربي وجعلته من بين أقرانه يحتل مكانة علمية مرموقة: 1 - بيئته الخاصة: وهي أكثر تأثيراً على الإنسان من البيئة العامة. فإذا انطبع الإنسان من الصِّغَر بطابع خاص يتأصل فيه ولا ينفكّ عنه في جميع مراحل حياته، وهذا ما بيَّنه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، في حديثه: "مَا مِن موْلود إلّا على الْفطْرَةِ فأَبَواهُ يُهَودَانَهُ أَوْ يُنَصِّرَانَهُ أو يُمَجِّسانَهُ" (¬1) الحديث. فيرث الطفل من أسلافه السيرة الحميدة والسلوك القويم والأخلاق الطيبة، والبيئة التي نشأ فيها ابن العربي بيئة على جانب كبير من العلم والصلاح؛ فوالده كان عالماً صاحب مكانة مرموقة في وطنه، وقد صحبه في رحلته الطويلة وكان قبل دلك ربّاه أحسن تربية منذ الصغر. 2 - رحلته إلى المشرق وما لقيه فيها من كبار العلماء وما اشتراه من كتب نادرة أدخلها لأول مرة إلى الأندلس (¬2)، أضف إلى ذلك فراغ البال من كل شيء إلا من العلم. ¬

_ (¬1) البخاري في الجنائز باب إذا أسلم الصبيّ فمات هل يُصلي عليه: 2/ 118، من حديث أبي هريرة. (¬2) انظر قائمة الكتب التي عاد بها من الرحلة المشرقية في ملحق آراء ابن العربي الكلامية: 2/ 505 للدكتور عمار طالبي.

3 - ما وهبه الله سبحانه من ذكاء مفرط وحافظة قوية وقدرة كبيرة على المطالعة والاستيعاب والجلد والصبر على الطلب والتحصيل (¬1). 4 - حسن استغلاله للوقت؛ فقد كان القاضي ابن العربي لا يفتر عن المطالعة والدراسة أو التصنيف أو العبادة أو غير ذلك. يقول عنه أحد طلابه الذين رحلوا إليه إبان إقامته بقرطبة، وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن محمَّد بن عبد الله بن حبيش: كنا نبيت معه في منزله بقرطبة فكانت الكتب عن يمينه وعن شماله، وكان لا يتجرَّد من ثوبه، وكانت له ثياب طويلة يلبسها بالليل وينام فيها إذا غلبه النوم، ومهما استيقظ مدَّ يده إلى كتاب وكان مصباحه لا ينطفئ الليل كله (¬2). 5 - وظائفه ومناصبه التي تولّاها وشغلها من تدريس وخطابة وإفتاء وإملاء وقضاء فمن شأنها أن توسع مداركه، وقد انعكس أثر ذلك فيما بعد على تآليفه في مختلف العلوم. ¬

_ (¬1) انظر سير أعلام النبلاء: 20/ 200. (¬2) البغية: 83.

الفصل الثالث الموطأ وعناية الأمة به وفيه ثلاثة مباحث

الفصل الثالث الموطأ وعناية الأمة به وفيه ثلاثة مباحث المبحث الأول الكلام على الموطَّأ وفضله ورواته إن أهل العلم مجمعون على فضل الموطَّأ ومكانته بين الكتب، ولذلك قال فيه الشافعي: ما كتاب أكثر صواباً، بعد كتاب الله، من كتاب مالك، يعني الموطّأ. وقال أيضاً: ما في الأرض، بعد كتاب الله، أكثر صواباً من موطّأ مالك بن أنس، وقال: ما كتاب، بعد كتاب الله عز وجل، أنفع من موطّأ مالك بن أنس. وقال: ما رأيت كتاباً ألِّفَ في العلم أكثر صواباً من موطّأ مالك. [التمهيد 1/ 76 - 79]. وقال ابن عبد البر. الموطّأ لا مثيل له ولا كتاب فوقه بعد كتاب الله تعالى عز وجل. [التقصي ص 9]. وقد أطلق عليه مُغَلْطاي وصف الصحة فقال: أول من صنّف في الصحيح مالك. [تنوير الحوالك 1/ 8]. وقال ابن العربي: كتاب الجُعْفي (أي البخاري) هو الأصل الثاني في هذا الباب، والموطّأ هو الأول واللباب وعليهما بناء الجميع كالقُشَيْري والتِّرْمِذِي فما دونهما. [العارضة 1/ 5]. وقال الدَّهْلَوِي: كتاب الموطّأ أصحّ كتب الفقه وأشهرها وأقدمها وأجمعها. وقد اتفق السواد الأعظم من الملة المرحومة على العمل به والاجتهاد في روايته والاعتناء بشرح مشكلاته، والاهتمام باستنباط معانيه وتشييد مبانيه. [المسوى 1/ 63]. رواة الموطّأ ونظراً لمكانة مالك العلمية وشهرته بعالم المدينة في وقته تكاثر عليه الرواد للأخذ عنه وخاصة كتابه الموطأ، فقد أخذه عنه الجمُّ الغفير من العلماء. قال القاضي عِيَاض: لم

عدد أحاديث الموطأ

يُعْتَنَ بكتاب من كتب الحديث والعلم اعتناء الناس بالموطَّأ، فإن الموافق والمخالف اجتمع على تقديره وفضله وروايته وتقديم حديثه وتصحيحه. فأما من اعتنى بالكلام على رجاله وحديثه والتصنيف في ذلك فعدد كثير من المالكيين وغيرهم. [ترتيب المدارك 1/ 198]. وقد خص رواة الموطّأ عن مالك بتأليف خاص العلماء منهم ابن ناصر الدين الدمشقي فقد ألَّف كتاباً في رجال الموطّأ قال في مقدمته: وبعد، فإن بعض أهل السنة وخدّامها، ومن نشأ بين أئمتها وأعلامها، قصد مني والتمس ذكر رواة موطّأ الإِمام مالك بن أنس الذين لقوه، رضي الله عنه، وسمعوا كتابه الموطّأ منه، فأجبته إلى ما قصد وذكرت بعض. مرويات غالبهم عن مالك بالسند. وكنتُ نظمت فيمن وقع لي منهم شعراً ليكون عوناً على حفظهم نثراً وذلك لمّا رأيت الحافظ أبا القاسم علي بن عَساكر ثقة الدين بلغ برواة الموطّأ عن مالك واحداً وعشرين أشار إلى ذلك بنظم يحويهم .. فتتبعت زيادة على من حواه فوقع لي ثمانية وخمسون سواهم من الرواة، نظمت الجميع في أبيات للتعريف ثم نثرتهم حسب السؤال في هذا التأليف إلا من ذكرهم الإِمام القاضي عِياض في ترتيب المدارك إتحاف السالك برواه الموطّأ عن مالك [ل (1) من نسخة الشيخ حمد أبو بكر حفظه الله]. عدد أحاديث الموطّأ: اختُلِف في عدد أحاديثه. نُقل عن سُلَيْمان بن بِلال قوله: لقد وضع مالك الموطّأ وفيه أربعة آلاف حديث، أو قال أكثر، فمات وهي ألف حديث ونيِّف يخلصها عاماً عاماً بقدر ما يرى أنه أصلح للمسلمين وأمثل في الدين. [المدارك 1/ 193]. وقال أبو بكر الأَبْهَري: جملة ما في الموطّأ من الآثار عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وعن الصحابة والتابعين ألف وسبعمائة وعشرون حديثاً، المُسنَد منها ستمائة حديث، والمرسل مائتان واثنان وعشرون حديثاً، والموقوف ستمائة وثلاثة عشر، ومن قول التابعين مائتان وخمس وثمانون. وقال ابن حزم في كتاب مراتب الديانة: أحصيتُ ما في موطّأ مالك فوجدت فيه من المسند خمسمائة ونيفاً وفيه ثلاثمائة ونيّف مرسلاً وفيه نيّف وسبعون حديثاً؛ قد ترك مالك نفسه العمل بها، وفيه أحاديث ضعيفة وهّاها جمهور العلماء. وقال الحافظ صلاح الدين العَلاَئي: روى الموطّأ عن مالك جماعات كثيرة وبين رواياتهم اختلاف من تقديم وتأخير وزيادة ونقص، وأكثرها رواية القَعْنَبِي، ومن أكثرها

زيادات رواية أبي مصعب لقد قال ابن حزم: في موطّأ أبي مُصْعَب زيادات على سائر الموطّآت نحو مائة حديث. [تنوير الحوالك 1/ 9]. وقال الغَافِقي في مسند الموطّأ: اشتمل كتابنا هذا على ستمائة حديث وستة وستين حديثاً، وهو الذي انتهى إلينا مع مسند موطّأ مالك رحمه الله تعالى، وذلك أني نظرت في الموطّأ من اثنتي عشرة رواية رويت عن مالك وهي: رواية عبد الله بن وَهَب ورواية عبد الرحمن بن القاسم، وعبد الله بن مسلمة القَعْنَبي، وعبد الله بن يوسف التَّنيسي ومَعْن ابن عيسى، وسعيد بن عَفِير ويحيى بن عبد الله بن بكير وأبي مُصْعَب أحمد بن أبي بكر الزُّهْري، ومُصعَب بن عبد الله الزُّبَيْرِي، ومحمد بن المبارك الصُّوري، وسليمان بن برد، ويحيى بن يحيى الأندلسي، فأخذت الأكثر من رواياتهم وذكرت اختلافهم في الحديث والألفاظ، وما أرسله بعضهم، أو وَّقفه وأسنده غيرهم، وما كان من المرسل اللاحق بالمسند. [مسند الموطّأ للغَافقي ل 304 ب، مخطوط مكتبة الحرم المكي 313]. وقال السُّيُوطي: وقد وقفت على الموطّأ من روايتين أخريين سوى ما ذكر الغَافِقي. إحداهما رواية سويد بن سعيد، والأخرى رواية محمَّد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة، وفيها أحاديث يسيرة زيادة على سائر الموطّآت منها حديث: إنما الأعمال بالنيات، [تنوير الحوالك 1/ 10].

المبحث الثاني اهتمام المغاربة برواية يحيى بن يحيى

المبحث الثاني اهتمام المغاربة برواية يحيى بن يحيى إنّ أجل الروايات للموطّأ وأوعبها رواية يحيى بن يحيى الليثي، وهي التي اعتمدها الناس في المغرب والمشرق وشرحوها وصحَّحوها. هكذا يقول المرحوم الطاهر بن عاشور في كشف المغطّى ص 39. ويقول السيد محمَّد بن جعفر الكَتّاني: بعد الكلام على الموطّآت وأحسنها رواية يحيى بن يحيى بن كثير الليثي الأندلسي: وإذا أُطلق، في هذه الأعصار، موطّأ مالك فإنما ينصرف لها. [الرسالة المستطرفة ص 13 - 14]. أما الحافظ ابن عبد البر فيقول اعتمدت على رواية يحيى بن يحيى المذكورة خاصة لموضعه عند أهل بلدنا من الثقة والدين والفضل والعلم والفهم، ولكثرة استعمالهم لروايته وراثة عن شيوخهم وعلمائهم. [التمهيد/ 10]. أما ابن العربي فيقول: والكلام في شرح الموطّأ إنما هو على كتاب يحيى بن يحيى اللّيثي، الذي دخل الأندلس وأدخله .. وكان يحيى بن يحيى الراوية خيِّراً وقوراً عاقلًا آخذاً في هيئة بزمالك وسمته سمع من مالك الموطّأ مالك وسمع بمصر من اللَّيْث بن سعد. [المسالك ل 4أ - ب].

المبحث الثالث شروط الموطأ

المبحث الثالث شروط الموطّأ قد قدّمنا، فيما سبق، قول القاضي عِياض، رحمه الله، إنه لم يعتن بكتاب من كتب الحديث والفقه اعتناء الناس بموطأ مالك، وقد وُضِعت عليه شروح كثيرة نذكر أهمها: 1 - التمهيد لما في الموطّأ من المعاني والأسانيد لأبي عمر بن عبد البر النَّمري (ت 463 هـ). 2 - الاستذكار لما في الموطّأ من المعاني والآثار للمؤلف السابق. 3 - المنتقى في شرح موطّأ إمام دار الهجرة لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي (ت 474 هـ). 4 - المسالك في شرح موطّأ الإِمام مالك لأبي بكر بن العربي (ت 543 هـ). 5 - القبس في شرح موطّأ مالك بن أنس، وهو كتابنا هذا وسيأتي الكلام عليه. 6 - تنوير الحوالك على شرح موطّأ مالك لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 هـ). 7 - شرح ملّا على سلطان محمَّد القاري الحنفي (ت 1014 هـ). 8 - شرح الزرقاني على موطّأ الإِمام مالك لمحمد عبد الباقي بن يوسف الزرقاني (ت 1122 هـ). 9 - المسوى في شرح الموطّأ لقطب الدين أحمد ولي الله بن عبد الرحيم الدَّهْلَوي (ت 1176 هـ). 10 - أوجز المسالك إلى شرح موطّأ مالك لمحمد زكريا الكَانْدَ هْلَوي.

الفصل الرابع مصنفات ابن العربي

الفصل الرابع مصنفات ابن العربي 1 - الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى. 2 - كتاب الأفعال. 3 - كتاب المتوسط في معرفة صحة الاعتقاد والرد على من خالف السنة وذوي البدع والإلحاد. 4 - كتاب العواصم من القواصم. 5 - الوصول إلى معرفة الأصول. 6 - أنوار الفجر في مجالس الذكر. 7 - أحكام القرآن الكبرى. 8 - أحكام القرآن الصغرى. 9 - خامس الفنون. 10 - قانون التأويل. 11 - الناسخ والمنسوخ. 12 - عارضة الأحْوَذِي في شرح التِّرْمذي. 13 - القَبَس في شرح موطّأ مالك بن أنس. 14 - المسالك في شرح موطّأ مالك. 15 - كتاب النيرين في شرح الصحيحين. 16 - شرح الصحيح. 17 - الأحاديث المسلسلات. 18 - الأحاديث السباعيات. 19 - شرح حديث أم زرع. 20 - شرح حديث الإفك. 21 - شرح حديث جابر في الشفاعة. 22 - كتاب مصافحة البخاري مسلم.

23 - مشكل القرآن والحديث. 24 - المحصول في علم الأصول. 23 - كتاب التمحيص. 26 - شرح غريب الرسالة. 27 - تبيين الصحيح في تعيين الذبيح. 28 - ستر العورة. 29 - كتاب الكافي في أن لا دليل على النافي. 30 - كتاب الإنصاف في مسائِلِ الخلاف. 31 - مسائِلَ الخلاف. 32 - التقريب والتبيين في شرح التلقين. 33 - الرسالة الحاكمة على الأيمان اللازمة. 34 - كتاب المقسّط في شرح المتوسّط. 35 - نزهة المناظر وتحفة الخاطر. 36 - سراح المريدين في سبيل المهتدين. 37 - سراح المهتدين. 38 - أحكام الآخرة والكشف عن أسرارها الباهرة. 39 - رسالة المستبصر. 40 - مراقي الزلفى. 41 - كتاب العقد الأكبر للقلب الأصغر. 42 - تفصيل التفضيل بين التحميد والتهليل. 43 - كتاب الأمر. 44 - كتاب الفقراء. 45 - ملجأة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين. 46 - رده على ابن السيد البَطْلَيُوسي. 47 - ترتيب الرحلة للترغيب في الملّة. 48 - شواهد الجلة والأعيان في مشاهد الإِسلام والبلدان. 49 - أعيان الأعيان. 50 - فهرست شيوخه.

الفصل الخامس كتاب القبس

الفصل الخامس كتاب القبس المبحث الأول اسم الكتاب ونسبته إلى المؤلف عرف الكتاب بهذا الاسم (القبس في شرح موطّأ مالك بن أنس) نص عليه الشارح في الأحكَام ص 1000، وفي المعارضة 8/ 218، وفي القبس 788، وكذلك في المسالك ل 4أ، وذكره كل من ترجم له في مؤلفاته. انظر على سبيل المثال الديباج لابن فَرْحُون 2/ 254، نفح الطيب 2/ 35، أزهار الرياض 3/ 94، طبقات المفسرين للدَّاودي 2/ 169، والمرشد الوجيز 97، وانظر تعليق محقق الأنساب للسَّمْعاني 1/ 298، وسماه، في آخر المخطوطة، قبس النور الأعظم ل 178 ب. نسبته إلى المؤلف: أولاً: إنه بإثباتنا لعنوان الكتاب نكون قد قطعنا شوطاً في تحقيق نسبته إلى المؤلف، ويزيد ذلك وضوحاً أن الذين ترجموا له ينسبونه إليه ضمن مؤلفاته. ثانياً: وجود ابن العربي على جميع نسخ الكتاب المخطوطة. ثالثًا: إحالته فيه على أغلب كتبه، انظر على سبيل المثال القبس 236. رابعاً: النقول عنه. انظر شرح الرزقاني 1/ 190، فقد قال في القبس ليس للمتقدم، قبل الإِمام سبب إلا طلب الاستعجال، ودواؤه أن يستحضر أنه لا يسلم قبل الإِمام فلا يستعجل في هذه الأفعال. وبالرجوع إلى القبس نجد هذا النص بكامله في ص 224. ونقل الحافظ الكلام السابق وحده بقوله: قال صاحب القبس، فتح الباري 2/ 184، وكذلك القرطبي في تفسيره 18/ 152، و 8/ 118، ونقل عنه الحافظ أيضاً في الفتح 2/ 431، وابن الجزري في الفتح 1/ 35.

المبحث الثاني تاريخ تأليفه

المبحث الثاني تاريخ تأليفه أملى هذا الكتاب في (532 هـ) بقرطبة عندما كان مقيماً بها في فترة اعتزاله للقضاء وتركه لبلده أشبيلية. فقد جاء في نسخة ك وم وص عن أبي القاسم عبد الرحمن بن محمَّد ابن عبد الله بن يوسف بن حبيش، رضي الله عنه: حدثنا الإِمام الخطيب جمال الإِسلام أقضى القضاة أبو بكر محمَّد بن العربي، رحمه الله، إملاء علينا من لفظه بداره بقرطبة، حرسها الله، ونحن نكتب في شهور سنة اثنين وثلاثين وخمسمائة قال: هذا كتاب القبس في شرح موطّأ مالك بن أنس، رحمه الله. نسخة م ل أ.

المبحث الثالث نسخ الكتاب ووصفها

المبحث الثالث نسخ الكتاب ووصفها حصلت من هذا الكتاب على ست نسخ: النسخة الأولى: والتي تعد أقدم النسخ التي حصلت عليها من المكتبة المركزية بجامعة أم القرى وأصلها في مكتبة نور عثمانية بتركيا رقم (1115). وقد جعلتها هي الأصل ورمزت لها بحرف (ت)، وهي تقع في 178 ورقة، وعدد الأسطر في الصفحة 32 سطراً، وخطها نسخ جميل جداً إلا أنها تكثر فيها الأخطاء، وقد استعمل فيها الناسخ الحروف. ح - ش - للدلالة على قول الشارح: قال أبو حنيفة، قال الشافعي. نسخت هذه النسخة سنة (872 هـ)، فقد جاء في آخر النسخة انتهى جميع الكتاب، وكان الفراغ من نقده ونسخه. في جمادى الأخيرة سنة اثنين وسبعين وثمانمائة على يد العبد الفقير إلى الله تعالى الحقير المعترف بالعجز والتقصير الفاني محمَّد بن سالم الحسابي الشافعي غفر الله له ولوالديه. وقد اعتمدت هذه النسخة، رغم ما فيها، مضطراً لأني ليس عندي غيرها في ذلك الوقت، ولم أحصل على النسخ الأخرى إلا في وقت متأخر جداً وقد سجلت منها للموضوع من 1 - 100 ك. النسخة الثانية: نسخة مكتبة الحرم المدني، وتقع في مائتي ورقة وخطها مغربي جميل وتاريخ نسخها (1300 هـ)، وعدد الأسطر 29 سطراً. وفيها تحديد تاريخ إملاء القبس بشهور سنة (532 هـ) بقرطبة، وهذا التحديد في بقية النسخ غير الأصل. وقد رمزت لها بحرف (م). النسخة الثالثة: نسخة الخزانة العامة بالرباط رقم ج 25، وخطها مغربي جميل، وعدد الصفحات 377، وعدد الأسطر 25 سطرًا وتاريخ نسخها (1300 هـ) وناسخها مجهول، وهذه النسخة وصلت إليّ متأخرة ولذلك لم أجعل لها رقماً. النسخة الرابعة: نسخة بالخزانة العامة بالرباط ورقمها ك 1916 وكتب عليها ملك

محمَّد عبد الحي الكَتّاني، وعدد أوراق هذه النسخة 287 ورقة وهي ناقصة من الآخر وقد رمزت لها بحرف (ك). النسخه الخامسة: النسخة التونسية وهي في المكتبة الوطنية برقم 8009 ومكتوب على الورقة الأولى منها: التحق هذا الكتاب بخزائن المكتبة الصادقية بالجامع الأعظم تحت عدد 10353 ليجري عليه قانون المكتبة وذلك في سنة. ولم يذكر السنة، وهي ناقصة من الآخر عدة صفحات، وعدد أوراقها 344، وعدد الأسطر 22 سطراً، وقد رمزت لها بحرف (ص). وكانت استفادتي منها محدودة نظراً لرداءة تصويرها، فقد صورت تصويراً سقيماً لم يظهر على الورق، ولذلك كنت أحيل عليها في الأماكن المقروءة منها. ويظهر لي أن النسخ الأربع، بعد الأصل، أصلها واحد فهي لا تختلف إلا في القليل النادر. النسخة السادسة: نسخة المكتبة الوطنية بالجزائر تحت رقم 427، وخطها مغربي جميل كتبت سنة (636 هـ)، وعدد الأسطر فيها 25 سطراً، وهذه النسخة لم يصل إليّ منها إلا القسم الأخير الذي لا أشتغل عليه ولا أدري هل هي ناقصة في الأصل أم لا. وهذه النسخة أصابت الأرَضَة بعض الأماكن منها والذي سلم خطه واضح ومقروء.

المبحث الرابع وفيه ثلاثة مطالب

المبحث الرابع وفيه ثلاثة مطالب المطلب الأول منهج ابن العربي في كتابه القبس بدأ المؤلف بقوله: هذا كتاب القبس في شرح موطّأ مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وهو أول كتاب أُلِّف في شرائع الإِسلام وهو آخره لأنه لم يؤلَّف مثله؛ إذ بناه مالك، رضي الله عنه، على تمهيد الأصول للفروع ونبَّه فيه على معظم أصول الفقه التي ترجع إليها مسائله وفروعه، وسترى ذلك، إن شاء الله، عيانًا وتحيط به يقيناً عند التنبيه عليه في موضعه أثناء الإملاء بحول الله تعالى. [القبس ص 1]. وبعد هذا بدأ في الشرح مباشرة وفي أقصى ما يكون من حسن الترتيب وتقسيم للمسائل تحت عناوين بارزة مشيراً إلى نكت وقضايا تحت عناوين الحاق - كشف وإيضاح - تفصيل - استلحاق - تفريع - تكملة تنبيه على مقصد - استدراك - فائدة، نكتة أصوليه - تتميم - تحقيق لغوي وتحقيق شرعي - تنبيه على وهم - مسألة أصولية - تأصيل - تعليق - وهم وتنبيه - تفسير - تحديد - تأصيل - ترجمة - تأسيس - عطف - مزلة قدم - عارضة - مزيد إيضاح - توحيد - تأديب - حكمة وحقيقة وتوحيد - بديعة - تبيين مشكل - توصية توفية وهكذا. مثلاً: يقول استلحاق: لما جعل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وقت العذر في العصر متصلاً بغروب الشمس وقت الصلاة التي بعدها ركب عليه علماؤنا وقت ضرورة العتمة فجعلوا وقت طلوع الفجر وقت الصلاة التي بعدها وهو إلحاق صحيح بالغ. ويقول: غائلة وإيضاح: جعل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أواخر الأوقات الخمس من الصلوات محدداً بمشاهد معاين لا يصح فيه اختلاف ولا يدرك فيه ارتياب إلا العتمة، فإنه جعل آخر وقتها مقدراً بالحزر والتخمين .. [القبس ص 8]. تفريع: لم يختلف أحد من رواة الأحاديث في نوم النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في الصحيح أنه، - صلى الله عليه وسلم -، لما استيقظ أذَّن بالصلاة وأقام لها، وفي ذلك خلاف من العلماء وخلاف مذهبي أيضاً [القبس 36].

والشارح، رحمه الله، معروف بدقة النظر وتحرير محل النزاع في المسائل المختلف فيها بين الأئمة: فهو إذا عرضت مسألة خِلافية يناقشها ويبين أقوال العلماء، ويعرب عن رأيه صريحاً، وأحياناً يرجِّح المذهب المالكي، وأحياناً يرجِّح غيره من المذاهب إذا ظهر له أنه الحق، يقول به ولو خالف مالكاً نفسه، وذلك في كثير من المسائل. ففي مسألة الوضوء من مس الذكر يقول: والعجب لإمامنا، رضي الله عنه، يرويه في كتابه (أي الحديث الوارد في ذلك) ويدرسه مدى عمره ثم لا يقول به وتختلف فيه فتواه. فتارة يضعِّفه وتارة يقوِّيه وتارة يعتبر فيه الشهوة وتارة يسقطها، ونحن نقبل روايته فنقول: الحديث صحيح ولا نقبل تفريعه، فنقول: ينتقض الوضوء من مسه بقصد أو بغير قصد [القبس 120]. ويقول في الظهار: وعجباً للشافعي حيث يقول: إذا قال لها أنتِ عليّ كظهر أختي لا يكون ظهارًا وما هن أخواتهم، كما قال: ما هن أمهاتهم، والمعنى واحد. فأين الاستنباط وأين حمل النظير على النظير ثم قال تعالى: {مِنْكُم} فذهل الشافعي فقال: ظهار الذمي صحيح. [القبس 872]. ويتعرض لمسألة أخرى اختلف فيها رأي مالك مع غيره وهي هل كان النبي صلى الله عليه وسلم، مفرداً أو متمتعاً أو قارناً. فقد رأى مالك والشافعي أنه كان مفردًا ويرد هو هذا القول بقوله: وأما المعاني التي تعلَّق بها مالك، رضي الله عنه، والشافعي ففعل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يسقطها وقد كان قارناً فوجب امتثال فعله وإسقاط الاعتراضات عليه، والحق أحق أن يتبع [القبس ص 640]. هذه بعض الأمثلة في طريقة عرضه للمسائل. أما طريقته مع أبواب الموطّأ فهو يذكر الباب الذي ترجم به مالك، ثم بعد ذلك يقول حديث فلان. انظر مثلا ترجمة مالك في الموطّأ 1/ 193، باب النهي عن استقبال القبلة للحاجة. قال الشارح: الحديث الأول حديث أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ذهب أحدكم للغائط" [القبس 415]. ثم بعد ذلك يدمج الحديث بالشرح. وهو لا يكرر المسائل التي يتكلم عليها قبل، بل يحيل عليها سواء كانت المسألة في نفس مباحث الكتاب أو كتاب آخر له، وهذا ما جعل الباحث يجد بعض الصعوبة في

المطلب الثاني مزايا الكتاب

إحالاته على كتبه التي بعضها انعدم في حياته والبعض الآخر لا يزال مخطوطًا ولم يطبع من كتبه إلا النزر اليسير. * * * المطلب الثاني مزايا الكتاب يُعدّ هذا الكتاب من أهم شروح الموطّأ؛ فقد أبان فيه ابن العربي عن علم مالك ومكانته ومكانة كتابه الموطّأ الذي وصفه بأنه أول كتاب ألِّف في شرائع الإِسلام. وقد شرحه هو هذا الشرح الذي أتى فيه بما كان انتقد على أبي الوليد الباجي التقصير فيه، وهو علوم الحديث الذي تضمنه كتاب الموطّأ. قال في المسالك: وأما الباجي فقد أشبع القول في هذا الفن (أي في الفقه) وأغفل كثيراً من علوم الحديث الذي يتضمنه كتاب الموطّأ [المسالك ل 4 (أ)]. كما أنه ناقش المسائل الفقهية والأصولية وأظهر أن مالكًا وضع في كتابه الموطَّأ، مصطلحات فقهية لم يسبق إليها. يقول رحمه الله في كتاب الفرائض: قال مالك: ميراث الصلب الموّطأ [2/ 503]. قال ابن العربي: هي كلمة بديعة هو أول من تلقفها من القرآن في قوله (يَخْرِجُ مِنْ بَيْن الصُّلْبِ وَالتَّرائِب} [القبس ل 154أ]. وقد أشار إلى تعبير آخر لمالك لم يسبق إليه من اختيار المناسبة والترتيب. قول مالك في آخر الموّطأ. [كتاب الجامع 2/ 884]. قال ابن العربي: هذا كتاب اخترعه مالك، رحمه الله تعالى، في التصنيف لفائدتين: إحداهما: أنه خارج عن رسم التكليف المتعلق بالأحكام التي صنَّفها أبوابًا ورتبها أنواعاً. الثانية: أنه لما لحظ الشريعة وأنواعها ورآها منقسمة إلى أمر ونهي، وإلى عبادة ومعامله، وإلى جنايات وعادات نظمها أسلاكاً وربط كل نوع بجنسه. [القبس ل 157 ب من نسخة (الأصل)]. * * *

المطلب الثالث المآخذ التي تؤخذ على الشارح

المطلب الثالث المآخذ التي تؤخذ على الشارح لما كان الخطأ لا يسلم منه أحد فالشارح، كغيره من الناس، يحصل له الخطأ كما يحصل لكل البشر. وهذا الخطأ لا يسقط مكانته إذا عدَّ في جانب ذلك البحر الزاخر من الحسنات. وتتمثل هذه المآخذ في طعنه على الأئمة وقد يصل أحياناً إلى القذع الشديد. يقول في مقدمه المسالك: إنما حملني على جمع هذا المختصر بما فيه، إن شاء الله، كفاية وتنوع أمور ثلاثة؛ وذلك أني ناظرت جماعة من أهل الظاهر الحزمية الجهلة بالعلم والعلماء وقلة الفهم على موطّأ مالك ابن أنس فكلُّ عابه وهزأ به. [المسالك ل 3 ب]. ويقول [في القبس 492]: ويحكى عن قوم أن الصوم في السفر لا يجوز، وأن من صام لا يجزئه، وهم أقل خلقاً وقولهم أعظم فرقاً في الدين وفتقاً، ولولا ما شدَّك من قلوب الناس في بلادنا بهذه المقالة الركيكة ما لفتنا نحوها ليتاً. ويقصد هنا بالقوم الظاهرية. ويقول: ليس في الأمم طائفة أعظم تعلقاً بالظاهر من اليهود ومنه هلكوا .. إلى أن قال: وهذه الطريقة أراد أن يسلكها داود في الدين. [القبس 1117 بتصرف]. هذا عن الظاهرية، وهم الأعداء الألداء له، ولكن غيرهم لم يسلم فيقول مثلاً في أبي حنيفة والشافعي. قال مالك: من حلف لا يأكل الطعام ولا يلبس هذا الثوب أنه لا ينتفع بهما في حال .. وقال أبو حنيفة والشافعي: يبيعه ويأكل منه، وهذه فتوى يهودية. [القبس 1118]. ويقول، وهو يستعرض أقوال الأئمة في مسائل القذف: وأما أبو حنيفة فهو أعجمي ولا يستنكر عليه الجهل بهذه المسألة. [القبس/ 1019]. ويقول في باب الغسل: وقعت للبخاري في جامعه كلمة منكرة فإنه ذكر اختلاف الأحاديث، ثم قال: والغسل أحوط وإنما بيَّنا ذلك لاختلافهم، وهذا خطأ فاحش فكيف ينتقل الغسل من الوجوب إلى الاحتياط. [القبس/ 169]. هذا جزء بسيط من كلامه، رحمه الله، ذكرناه كمثال.

الباب الثاني قسم التحقيق

الباب الثاني قسم التحقيق

ذكر ابتدائه

بسم الله الرحمن الرحيم (¬1) وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قال الإِمام أبو بكر محمَّد بن العربي، رضي الله عنه: هذا أول كتاب أُلِّفَ في شرائع (¬2) الإِسلام وهو آخره؛ لأنه لم يُؤَلَّف مثله إذ بناه مالك، رضي الله عنه، على تمهيد الأصول للفروع ونبّه فيه على معظم أصول الفقه، التي ترجع إليها مسائله وفروعه، وسترى ذلك، إن شاء الله تعالى، عيانًا وتحيط به يقيناً عند التنبيه عليه في موضعه أثناء الإملاء بحول الله تعالى. ذكر ابتدائه: اختلفت مقاصد المؤلفين على ستة أنحاء فمنهم من بدأ بالوحي (¬3)، ومنهم من بدأ بالإيمان (¬4)، ومنهم من بدأ بالاستنجاء (¬5)، ومنهم من بدأ بالوضوء (¬6)، ومنهم من بدأ بالصلاة، ومنهم من بدأ بالوقوت (¬7)، وهو أسعدهم في الإصابة لأن الوحي والإيمان علم ¬

_ (¬1) وفي بقية النسخ بعد البسملة وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم أخبرنا الشيخ الحافظ المحدّث الخطّيب أقضى القضاة أبو القاسم عبد الرحمن بن محمَّد بن عبد الله بن يوسف بن حُبَيْش رضي الله عنه، حدثنا الإِمام الخطيب جمال الإِسلام أقضى القضاة أبو بكر بن العربي، رحمه الله، إملاء علينا من لفظه بداره بقرطبة، حرسها الله، ونحن نكتب في شهور سنة اثنين وثلاثين وخمسمائة قال: هذا كتاب القبس في شرح موطّأ مالك بن أنس، رحمه الله، أول كتاب ألف في شرائع الإِسلام. (¬2) قال الشارح في العارضة 1/ 5: الموطّأ الأصل الأول وكتاب البخاري هو الأصل الثاني في هذا الباب وعليهما بني الجميع كالقُشَيْرِي والتِّرْمِذي. (¬3) وهو البخاري فقال باب بدء الوحي. (¬4) مسلم فقال كتاب الأيمان. (¬5) أبو داود فقال كتاب الطهارة. (¬6) التِّرمذي فقال باب ما جاء في فضل الطهور. (¬7) وهو مالك.

تنبيه

عظيم منفرد بنفسه فإن ذكر منه قليلًا لم يغنه عن المقصود. وإن ذكر كثيراً صرف عما تصدى له، وأما من بدأ بغير ذلك فإنه لا يلزم الاستنجاء ولا الوضوء ولا الصلوات إلا عند دخول الوقت، ولذلك قال محققو علمائنا، رحمة الله عليهم، إنه ليس في الشريعة نفل يجزئ عن فرض قبل الوقت. وسمعت الشَّاشي (¬1)، بمدينة السلام (¬2)، يقول: إن الوضوء واجب عليه في وقت غير معين متى فعله أجزأه وهذا ضعيف لأنه لا يصح وجوب الفرع مع عدم وجوب الأصل ولا وجوب الشرط مع عدم وجوب المشروط. تنبيه: قال مالك، رضي الله عنه: وقوت (¬3) الصلاة، وقد اتفق أرباب اللغة على أن فعولاً جمع الكثرة وأفعالًا جمع القلة (¬4). وكذلك فعل هو، رضي الله عنه، فإنه أدخل تحت الترجمة ثلاثة عشر وقتاً. وكل وقت منها ينفرد عن صاحبه بحكم ويغايره من وجه. الإسناد: ذكر مالك، رضي الله عنه، حديث صلاة جبريل معدداً على خمس (¬5). وفي مسلم ¬

_ (¬1) هو محمَّد بن أحمد بن الحسين بن عمر أبو بكر الشَّاشي الملقَّب بفخر الإِسلام المُسْتَظْهري، رئيس الشافعية بالعراق في عصره، ولد سنة 425 ومات سنة 507 هـ طبقات الشافعية 4/ 58، وفيات الأعيان 1/ 464، الفهرس التمهيدي ص 200. (¬2) بغداد أم الدنيا وسيدة البلاد. وسميت مدينة السلام لأن دجلة يقال لها وادي السلام. معجم البلدان 1/ 456. (¬3) الموطّأ 1/ 3. (¬4) قال أبو الوليد الباجي: وقوت الصلاة جمع وقت كضرب وضروب وفلس وفلوس ووجه ووجوه؛ فوقت الصلاة يتسع لتكرار فعلها مراراً وجميعه وقت لجواز فعلها. المُنْتقى 1/ 3. (¬5) الموطّأ 1/ 3. مالك عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخَّر الصلاة يوماً فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخَّر الصلاة يوماً، وهو بالكوفة، فدخل عليه أبو مسعود الأنْصاري فقال: ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى فصلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - ... والبخاري في كتاب مواقيت الصلاة وفضلها 1/ 92، ومُسلم في كتاب المساجد باب أوقات الصلوات الخمس 1/ 425. قال ابن عبد البر: هذا السياق منقطع عند جماعة العلماء لأن ابن شهاب لم يقل حضرت مراجعة عروة لعمر ابن عبد العزيز وعروة لم يلقَ بشيرًا لكن الاعتبار عند الجمهور بثبوت اللقاء والمجالسة لا بالصيغ. فتح الباري 2/ 5. وقال الشارِح، في المسالك ل 7: قال علماؤنا هذا حديث متصل صحيح مسند عند جماعة أهل=

إشكال وحله

أنه معدد على عشرة، وذكره رضي الله عنه، مجملاً، وكذلك ذكره مسلم وغيره، وروي من طريق ابن عباس وغيره مفسراً. (أَمَّني جِبْرِيلُ عِنْدَ بَابِ الْبَيْتِ مَرَّتَيْنِ) (¬1) الحديث الخ. وفيه نكتة بديعةُ أغفلهَا علماؤنا، رضي الله عنهم، وذلك قوله، -صلى الله عليه وسلم -: "فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ في الْيَوْمِ الأَوَّلِ" معناه ابتداء، وكذلك جميع الصلوات. وصلى بي الظهر في اليوم الثاني معناه فرغ من جميع الصلوات، وكذلك يحدّد الأول من الأوقات والأواخر. إشكال وحله: إذا ثبت هذا فجاء في لفظ الحديث "وَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ في الْيَومْ الْثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شيءٍ مِثْلَهُ لِوَقْتِ الْعَصْرِ بِالأمْسِ" فاحتمل أنْ يكون معنى قوله فصلى بي بدأ أو ختم، فأنشأ هذا بين العلماء اختلافًا في اشتراك الظهر والعصر، وتاللهِ ما بينهما اشتراك، ولقد ¬

_ = النقل وأن في هذا الموضوع محمولة على الاتصال حتى يتبين الانقطاع. وقال الحافظ: هذا لا يُسمى منقطعاً اصطلاحًا وإنما هو مرسل صحابي آخر لم يدرك القصة فاحتمل أن يكون سمع ذلك من النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أو بلغه عنه بتبليغ مَنْ شاهده أو سمعه كصحابي آخر على أن رواية الليث عند المصنف (أي البخاري) نريل الإشكال كله ولفظه فقال عروة: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يقول فذكره. وكذا سياق ابن شهاب وليس فيه التصريح بسماعه له من عروة، وابن شهاب قد جرّب عليه التدليس لكن وقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب قال. كنا عند عمر بن عبد العزيز فذكر الحديث. (فتح الباري 2/ 5). (¬1) أبو داود 1/ 274، والتِّرْمذي 1/ 278 وقال: حسن صحيح، وأحمد رقم 3081 و 3082، وابن الجَارود ص 595، والحاكم في المستدرك 1/ 193، والدَّارْقطني في سننه 1/ 258، والبَيْهقي في السنن الكبرى 1/ 364، والطَّحَّاوي في معاني الآثار 1/ 147. كلهم من طريق عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة عن حكيم بن حكيم بن نافع بن جبير بن مطعم عن ابن عباس. أقول: الحديث فيه عبد الرحمن بن الحارث. أبو الحارث المدني صدوق له أوهام من السابعة، مات سنة 143 وله 63 سنة/ بخ عم ت 1/ 476، وقال في ت ت: قال ابن معين صالح، وقال: أبو حاتم شيخ، ووثَّقه العجلي وابن حبّان. وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال أحمد: متروك ت ت 6/ 55. درجة الحديث: صححه التِّرْمِذي والحاكم والذَّهَبي والنَّوَوي في المجموع 3/ 23، وابن عبد البر. انظر تلخيص الحبير 1/ 173 والشارح في العارضة 1/ 25 وأحمد شاكر في تعليقه على المسند 5/ 35 وعلى سنن الترْمِذي 1/ 282. قلت: والحديث بهذا السند حسن، ولعل من صحَّحه بناء على رواية عبد الرزاق عن عبد الله بن عمر عن عمر بن نافع عن جبير بن مطعم عن ابن عباس. المصنّف لعبد الرَزَّاق 1/ 531. قال ابن دقيق العيد: متابعة حسنة تلخيص الحبير 1/ 173.

إلحاق

زهقت فيه أقلام العلماء لأنه لم يكن معنى قوله: وصلى بي الظهر في اليوم الثاني حين صار ظلّ كل شيء مثله لوقت العصر بالأمس فرغ. لم يكن بياناً وإذا كان معناه فرغ ضرورة لم يكن اشتراك. وتبين بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم، في اليوم الأول بدأ بالعصر حين صار ظلّ كل شيء مثله وفرغ من الظهر في ذلك اليوم في ذلك الوقت، فصار اشتراك آخر الظهر أول وقت العصر والله أعلم. إلحاق: كما بيَّنه جبريل للنبي، عليهما السلام، كذلك بيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، للسائل في حديث أبي موسى (¬1) وغيره، والذي أدخل مالك منه جزءً وترك سائِره إذ لم يكن كتابه على التطويل والاستيفاء، وخص مما ذكر صلاة الصبح وكانت الفائدة في ذلك أن يبيّن أن في الصبح وقتًا واسعاً اختيارياً متعدداً رداً على من يقول إنه واحد وأنه وقت ضرورة. كشف وإيضاح: نزل جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مأموراً مكلَّفاً لا بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم، بأصل الصلاة لأنّ الملائكة، وإن كانوا مكلّفين، فبغير شرائعنا. ولكن الله، عز وجل، كلَّف جبريل، عليه السلام، الإبلاع والبيان كيف ما احتِيج إليه قولًا وفعلًا. فإن قرأت بهذا أمرت صحّ أن يخبر به جبريل عن نفسه وإن قرأت أمرتَ، بفتح التاء، فمعناه أنّ الذي أمرت به من الصلاة البارحة مجملًا هذا تفسيره اليوم مفصلًا وهو الأقوى في الروايتين. وبهذا يتبين بطلان قول من يقول إن في صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، جواز صلاة المعلم بالمتعلم (¬2) أو المفترض خلف المتنفل. وأما حديث عائشة (¬3)، رضي الله عنها، فدل به مالك، رحمة الله تعالى عليه، ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب أوقات الصلاة الخميس 1/ 425 وأبو داود 1/ 279، والنسائي 1/ 260 - 261 كلهم من طريق أبي بكر ابن أبي موسى عن إبيه عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئاً، قال: فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً، ثم أمره فأقام بالظهر حين زالت الشمس والقائل يقول قد انتصف النهار ... (¬2) قال الحافظ استدل بهذا الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره، ويجاب عنه بما يجاب به عن قصه أبي بكر في صلاته خلف النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وصلاة الناس خلفه فإنه محمول أنه كان مبلغًا فقط، واستدل به أيضاً على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل من جهة أن الملائكة ليسوا مكَلَّفين بمثل ما كلّف به الإنس. قاله ابن العربي وغيره. فتح الباري 2/ 4. (¬3) متفق عليه البخاري في مواقيت الصلاة باب فضل صلاة الفجر 1/ 151 ومسلم في كتاب المساجد باب استحباب =

فصل

على مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم، على صلاة الصبح مع الفجر ولو كان نفلاً كما قاله أهل العراق (¬1) ما اختار حياته كلها لنفسه النفل وترك الفرض. وأما حديث أبي هريرة، رضي الله عنه (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلَعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ) (¬2). يقتضي بظاهره أن ركعة واحدة تجزيه وتكفيه، ولكن الأمة أجمعت على أنه لا بدّ أن يضيف لها أخرى. وفي البخاري (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبحِ قبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلْيُصلِّ إِلَيْهِا أُخْرَى) (¬3). كما روى النّسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمْعَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْجُمْعَةِ) (¬4). فصل: قوله: (مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ) استوى ها هنا وقت الضرورة ووقت الاختيار لأنه ليس بعد طلوع الشمس وقت للصبح ولا قبلها وقت ضرورة لها، وكذلك كنا نقول في العصر كما قال الأوزاعي (¬5) وأبو حنيفة (¬6) لولا قول النبي صلى الله عليه وسلم، من طريق أنس وغيره (تِلْكَ صَلاَةُ الْمُنَافَقِيِنَ ثَلاَثاً يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حَتى إذَا ¬

_ = التبكير بالصبح في أول وقتها وهو التغليس 1/ 446، والموطَّأ 1/ 5، وأبو داود 1/ 293، والترمذي 1/ 287، والنسائي 1/ 271 كلهم عن عائشة زوج النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قالت: (لَقَدْ كَانَ نِسَاءٌ مِن الْمُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ الْفَجَرَ مَعْ رَسُولِ اللهِ، - صلى الله عليه وسلم -، مُتلَفِّعَاتٍ بمُرُوطِهِنَّ ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيوتِهِنَّ وَمَا يُعْرَفْنَ مِنْ تَغْليسِ رَسُولِ اللِّه - صلى الله عليه وسلم -) لفظ مسلم. (¬1) هذا القول يقصد به الأحناف ومن وافقهم لأن هذا مذهبهم أي الإسفار بالصبح. انظر فتح القدير 1/ 157. (¬2) متفق عليه البخاري في مواقيت الصلاة باب أدرك من الفجر ركعة 1/ 151، ومسلم في كتاب المساجد باب من أدرك ركعة من الصلاة 1/ 424، والموطأ 1/ 6. (¬3) البخاري في مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب 1/ 146. (¬4) النسائي 3/ 112 من حديث أبي هريرة. درجة الحديث صحيح من خلال الإسناد. (¬5) يقول الأوزاعي إن ركع ركعة من العصر قبل غروب الشمس وركعة بعد غروبها فقد أدركها والصبح عنده كذلك. التمهيد 3/ 277 وانظر فقه الأوزاعي 1/ 130. (¬6) انظر مذهب أبي حنيفة في شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 153 وهو مثل مذهب الأوزاعي.

استلحاق

اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِّ شَيْطَانٍ قَامَ فَنَقَرَ أَرْبَعاً لَا يَذْكُرُ الله فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا) (¬1). فإن قيل إنما وقع الذم بالنقر وقلة الذكر قلنا إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وصفين وعلق الحكم عليهما لم يجز إلغاء أحدهما (¬2). فلذلك قال علماؤنا هذا الحديث للحائض تطهير والصبي يبلغ والكافر يسلم، فأما الناسي يذكر فكل وقت يذكر وقت له، وكذلك المتعمد متى ما ذكر فهو وقته، وإن تمادى الذكر فكل ذكر له وقته وهو داخل تحت قوله: (مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أو نَسِيَها فلْيُصَلِّها إِذَا ذَكَرَها) (¬3) , لأن الناسي هو التارك لغة (¬4). استلحاق: لما جعل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وقت العذر في العصر متصلاً بغروب الشمس وقت الصلاة التي بعدها ركَّب عليه علماؤنا وقت ضرورة العتمة فجعلوا وقت طلوع الفجر وقت الصلاة التي بعدها، وهو إلحاق صحيح بالغ. غائلة وإِيضاح: جعل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أواخر الأوقات الخمس في الصلوات محدداً بمشاهد معاين لا يصح فيه اختلاف ولا يدرك فيه ارتياب إلا العتمة، فإنه جعل آخر وقتها مقدراً بالحزر والتخمين، ولذلك نرى الروايات تختلف ما بين ثلث الليل ونصفه وبهذا أدخل مالك (إِلَى شَطْر الْلَّيْلِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (¬5) لأنه أحد وجهي التحديد والحكمة في أن جعل ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب المساجد باب استحباب التبكير بالعصر 1/ 434، وأبو داود/ 288، وشرح السنة 2/ 212. (¬2) قال القرافي: يجوز تعليل الحكم الواحد بعلَّتين منصوصتين، خلافاً لبعضهم، نحو وجوب الوضوء على من بال ولامس ولا يجوز بمستنبطتين لأن الأصل عدم الاستقلال فيجعلان علة واحدة. حجة الجواز في المنصوصتين أن لصاحب الشرع أن يربط الحكم بعلة وبغير علة وبعلتين فأكثر. حجة المنع أنه لو علَّل بعلتين لاجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان وهو محال وإلا لأستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما فيلزم أن يقع بهما في حالة عدم وقوعه بهما وأن لا يقع بهما حالة وقوعه بهما، وجمع بين النقيضين لأن الوقوع بكل واحد منهما سبب عدم الوقوع من الآخر، فلو حصل العلتان وهو الوقوع بهما ولأن تعليل الحكم بعلتين يفضي إلى نقض العلة وهو خلاف الأصل. شرح التنقيح ص 404. (¬3) مسلم في كتاب المساجد باب قضاء الصلاة الفائتة 1/ 477 وأبو داود 1/ 307، والترمذي 1/ 235 - 236، والنّسائي 1/ 293، وابن ماجه 1/ 227 كلهم عن أنس. (¬4) انظر صحاح الجوهري 6/ 2508. (¬5) مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشْعَرِي أنا صلِّ العصر والشمس بيضاء نقية قدر=

تأصيل

موقوفاً على التخمين أن الظل بالنهار علامة معاينة، فعلق النظر بها، وليس بالليل علامة معاينة {لَا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إلّا وُسْعَهَا} (¬1) فوكلوا إلى التقدير وعذروا في التقصير. تأصيل: نبَّه مالك، رحمه لله تعالى، لحديث عمر، رضي الله عنه، علي أصل كبير من أصول الفقه وهو سكوت باقي القوم على قول بعضهم فإنه يكون إجماعًا (¬2) لأن عمر، رضي الله عنه، كتب إلى الأمصار بكتابه فما اعترضه أحد. توصيل: ونبَّه به أيضاً على أصل آخر من أصول الفقه وهو اتصال عمل الخلفاء بحديث النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فتقوى النفس به أو يأخذ أحاديثه فيترجح على غيره، فلم نجد ها هنا، في هذا الباب لأبي بكر، كلاماً فأردفه كلام عمر، رضي الله عنه، ووجد في الزكاة كلام أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، فأردف كلام النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بهما (¬3). تقرير: ذكر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في كتابه أنْ صَلُّوا الظُّهْرَ إذا كَانَ الفَييْءُ ذِرَاعاً. والمصلون على قسمين واحد وجماعة. فأما الواحد فأول الوقت له أفضل، بلا خلاف بين المالكية والشافعية نعم وقبل النفل، فإن أراد أن يتنفَّل فبعد أن يؤدّي الفرض، وقد وهم في ذلك بعض المالكية وبيناه في موضعه. وأما الجماعة فأول الوقت أفضل لها بلا خلاف. إلا أنه لما كان تألفهم لا يمكن في أول الوقت لأنه يأتي في غفلة، فإلى أن يتأهب له الناس يمضي منه برهة فقدره لهم عمر ¬

_ = ما يسير الراكب ثلاثة فراسخ. الموطّأ 1/ 7. وذكر السُّيوطي أن له شاهداً مرفوعاً من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ حَافَظَ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغافِلِينَ" تنوير الحوالك 1/ 25. درجة الحديث: المرفوع منه صحَّحه الحاكم كما ذكره السُّيوطي تنوير الحوالك 1/ 25. (¬1) سورة البقرة آية 286. (¬2) إذا قال الصحابي قولًا وظهر ذلك في علماء الصحابة وانتشر، ولم يعرف له مخالف، كان ذلك إجماعاً مقطوعاً به. التبصرة في أصول الفقه للشيرازي ص 391 وانظر المنخول من تعليقات الأصول ص 318 والمحصول للشارح ل 52 ل. (¬3) الموطّأ 1/ 245 - 246.

مزيد إيضاح

بربع القامة مصلحة لهم وحرصاً على اجتماعهم على هذه الشعيرة وفي هذا إثبات المقدرات بالقياس رداً على أهل العراق (¬1). وبهذا يتبين أنَّ فضل الجماعة أفضل من فضل أول الوقت، والدليل عليه الحاسم للإشكال أنه لو أن أهل بلد اتفقوا على ترك الجماعة قوتلوا، ولو اتفقوا على ترك أول الوقت لم يلاموا، ومن الرفق بهم أن قدّر لهم وقت العصر ببياض الشمس؛ لأن تقديره بظل الشخص بمثله لا يمكن إلا لمن حصله أول الزوال. ولما كان إهماله عند الخلق لكثرة أشغالهم أكثر من تحصيله عدل بهم إلى البياض لأنه دليله وأقرب في التحصيل منه وحده في المغرب وقتاً واحداً، وقد ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، (أنَّها إِلَى مَغِيب الشَّفَقِ) (¬2) في وقت وصارت المغرب ما بين الشفق والمغرب كالصبح ما بين الفجر والطلوع، إلا أنَّ المبادرة بها أفضل وتزيد على سائر الصلوات في ذلك بأن وقتها يدخل على ذكرى من الخلق وفراغ من أعمالهم فلا وجه لتأخيرها، وقد روي عن مالك أن وقتها عند غروب الشمس واحد (¬3). ولا ينبغي أن يلتفت إليه لأن الموطّأ رواه عنه خلق كثير وكتبه بيده وأقرأه عمره، لمن روى عنه هذا الذي فيه من أنّ المغرب لها وقتان، ولمن روى خلافه فلا يصح أن يترك هذا الخبر المتواتر لذلك الخبر الواحد المظنون. مزيد إيضاح: لما كتب عمر، رضي الله عنه، إلى العمال، في إقامة الصلوات بالناس جماعة، ¬

_ (¬1) قال الشيرازي: يجوز إثبات الحدود والكفّارات والمقدّرات بالقياس. وقال أصحاب أبي حنيفة لا يجوز. التبصرة للشيرازي ص 440، وانظر المنخول من تعليقات الأصول ص 375، والتمهيد في تخريج الفروع على الأصول ص 449. (¬2) مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب أوقات الصلوات الخمس 1/ 426 من حديث عبد الله بن عمرو. قال الشارح في العارضة 1/ 274: والصحيح قول من يقول إن آخر وقتها غروب الشفق بدليل حديث عبد الله بن عمرو، وقت المغرب ما لم يغيب الشفق. وقال البغوي: أصح الأقوال أن لها وقتين وآخر وقتها إلى غيبوبة الشفق. شرح السنة 2/ 316 وكذا قال الباجي. انظر المنتقى 1/ 23. (¬3) قال الباجي: اختلف قول مالك فروي عنه في الموطّأ إن آخر وقت المغرب إذا غاب الشفق. وقال محمَّد بن مسلمة: إن أول وقتها غروب الشمس ومن شاء تأخيرها إلى مغيب الشفق فذلك له وغيره أحسن منه. المنتقى 1/ 14. قلت: رد الشارح هذا الرأي.

تنبيه

فدَّر لهم ربع القامة، ولما كتب إلى أبي موسى الأشْعَرِي في خاصته (¬1) قال له: (صَلِّ الظُّهرَ إِذا زَاغَتِ الْشَّمْسُ). تنبيه: لما رأى مالك، رحمه الله تعالى، أن حديث جبريل في تقدير الأوقات بالظل لم يصِحّ أدخل حديث أبي مسعود المحتمل في قوله: فصلى فصَلَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -" ثم أدخل حديث أبي هريرة في الظل المفسّر. قال: (أَنَا لَعَمْرُ الله أُخْبِركَ صَلِّ الْظُّهْرَ إِذَا كَانَ ظِلُّكَ مِثْلَكَ (¬2) والعَصْرَ إِذَا كَانَ ظِلُّكَ مِثْلَيْكَ)، وغاص (¬3) ذلك الحبر، وهو البخاري (¬4)، على هذه النكتة فقبلها فصار يترجم بما ¬

_ (¬1) قال الباجي: وقوله أنْ صلِّ الظهر إذا زاغت الشَّمس ظاهره مخالف لظاهر كتابه إلى عماله في قوله أن صلوا الظهر إذا فاء الفيء ذراعًا. ويحتمل أن يكون كتب إلى أبي موسى الأَشْعَري، في ذلك، في خاصة نفسه في غير وقت أمارته لأن صلاة الفذ في أول الوقت أفضل، ويحتمل أن يريد بذلك الجمعة، المنتقى 1/ 16. (¬2) الموطّأ 1/ 8 عن يزيد بن زياد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنه سأل أبا هريرة عن وقت الصلاة فقال أبو هريرة ... قال ابن عبد البر: هذا الحديث موقوف عند جماعة رواته والمواقيت لا تدرك بالرأي وإنما تؤحذ بالتوقيت. وقد روي عن أبي هريرة حديث المواقيت من طرق مرفوعاً بأتمِّ من حديث يزيد ابن زياد. التقصي ص 209، ورواه النسَّائي من طريق محمَّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة. النسّائي 1/ 249 - 250. أقول: رواية النسائي فيها محمَّد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي المدني صدوق له أوهام من السادسة. مات سنة 145 على الصحيح/ ع ت 2/ 196. وانظر ت ت/ 375، الكاشف 3/ 84. وقال ابن عدي: ولمحمد بن عمرو حديث صالح وقد حدَّث عنه جماعة من الثقات كل واحد منهم ينفرد عنه بنسخه ويغرب بعضهم على بعض، وروى عنه مالك غير حديث في الموطّأ وغيره وأرجو أن لا بأس به. الكامل 6/ 2229. وقال الذهبي: حسن الحديث، نقله عنه الدكتور نور الدين عتر في تعليقه على الكاشف 3/ 83. درجة الحديث: صححه السّيوطي في تنوير الحوالك 1/ 35 فقال أخرجه النّسائي بسند صحيح، وكذا قال الزرقاني في شرحه 1/ 23. وقال الحافظ رواه النّسائي لإسناد حسن. وقال وصحَّحه ابن السكن والحاكم، وقال الترمذي في العلل حسن والراجح لدي أنه حسن والله أعلم لما تقدم عن محمَّد بن عمرو. (¬3) غاص على الأمر علمه. مختار القاموس 463 وانظر ترتيب القاموس 3/ 428. (¬4) قلت: مراد الشارح أنه ضعَّفه فقد روى الترمذي عن هَنَّاد عن محمَّد بن فضَيْل عن الأعْمَش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لِلْصَّلاَةِ أَوَّلًا وَآخِراً .. إنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حيْنَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ وإِنّ آخِرَ وقتِها حِينَ يغيْبُ الأُفُقُ .. " قال: وسمعت محمداً يقول حديث الأعمش عن مجاهد في المواقيت أصح من حديث محمَّد بن فضيل عن الأعمش، وحديث محمَّد بن فضيل خطأ أخطأ فيه محمَّد بن فضيل. وقال: حدثنا هَنّاد حدثنا أبو أسامة عن أبي إسحاق الفَزَاري عن الأعمش عن مُجَاهِد قال: كان يقال إِن =

لم يصح عنده ويعقبه بتفسير الصحيح. وأما حديث أنَس في خروجهم بعد انقضاء الصلاة إلى بني عمرو بن عوف وقباء فيجدونهم يصلون العصر (¬1)، فإنما قصد به بيان تفاوت الناس في تقديم الصلاة وتأخيرها حسب أَعمالهم وأَشغالهم لتوسعة الباري، تبارك وتعالى، عليهم. وقد اخْتُلِف في الشغل والصلاة إذا تعارضا مع الوقت، فقال أحبارهم (¬2) من فقه الرجل أن يبدأ بشغله قبل صلاته حتى يقيمها بقلب فارغ لها وإلى هذا وقعت الإشارة ¬

_ = للصلاة أولًا وآخراً فذكر نحو حديث محمَّد بن فضيل عن الأعمش نحوه بمعناه. سنن التِّرمذي 1/ 283 - 284. ورواية محمَّد بن فضيل رواها أحمد عنه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة المسند رقم 7172، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 375 - 376، وبن حزم في المحلَّى 3/ 168. قال الشيخ أحمد شاكر، معقباً علي كلام التِّرمذي: أراد التِّرمذي برواية أثر مُجاهد أن يذكر إسناده ليدلَّ على الرواية التي رآها البُخاري صواباً، وهي أنَّ هذا الحديث موقوف من كلام مُجاهد، وكذلك فعل البيهقي، ونقل ابن أبي حاتم في العلل 1/ 151 عن أبيه أنه قال: هذا خطأ وهم فيه ابن فضيل يرويه عن أصحاب الأعمش عن الأعمش عن مجاهد. وهذا التعليل منهم خطأ لأن محمَّد بن فُضَيل ثقة حافظ. قال ابن المديني: كان ثقة ثبتاً في الحديث ولم يطعن فيه أحمد إلا برميه بالتشيع وليست هذه التهمة مما يؤثر في حفظه، وقد رد ابن حزم هذا التعليل وقال ما يضر إسناد من أسند إيقاف من أوقف، ثم قال: والذي اختاره أن الرواية المرسلة أو الموقوفة تؤيد الرواية المتصلة المرفوعة ولا تكون تعليلاً لها. تعليق أحمد شاكر على الترمذي 1/ 285 وانظر المسند رقم 7172 جـ 12/ 161. (¬1) الموطّأ 1/ 8 عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أَنَس بن مَالِك أنه قال: كنا نصلّي العصر ثم يخرج الإِنسان على بني عمرو بن عوف فيجدهم يصلون العصر. وأخرجه البُخاري في كتاب مواقيت الصلاة باب وقت العصر 1/ 144 ومسلم في كتاب المساجد باب استحباب التبكير بالعصر 1/ 434. قال ابن عبد البر هذا يدخل في المسند وهو الأغلب من أمره، وكذلك رواه جماعة الرواة للموطّأ عن مالك، ورواه عبد الله بن المبارك عن مالك عن إسحاق عن أنَس فذكره مسنداً التمهيد 1/ 295، وانظر سنن النّسائي 1/ 252. وقال الحافظ: إخراج المصنف (أي البخاري) لهذا الحديث مشعر بأنه كان يرى أن قول الصحابي كنا نفعل كذا مسند ولو لم يصرح بإضافته إلى زمن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وهو اختيار الحاكم. وقال الدّارْقُطْني والخطيب وغيرهما: هو موقوف، والحق أنه موقوف لفظاً مرفوع حكماً لأن الصحابي أورده في مقام الاحتجاج فيحمل على أنه أراد كونه في زمن النبي، - صلى الله عليه وسلم -. فتح الباري 2/ 27 - 28. (¬2) قلت يقصد بذلك أبا الدرداء؛ فقد روى البخاري، في كتاب الأذان باب، إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة معلقاً. قال وقال أبو الدرداء (من فقه المرء إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ) البخاري 1/ 171، وشرح السنة 3/ 356. قال الحافظ وصله ابن المبارك في كتاب الزهد وأخرجه محمَّد بن نصر في كتاب تعظيم قدر الصلاة من طريقه فتح الباري 2/ 159.

بقوله، - صلى الله عليه وسلم -، في الحديث الصحيح: "إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ (¬1) والصَّلاَة" زاد الدارقطني وَأَحَدُكُمْ صائِمُ، فَلْيَبْدَأْ بِالْعَشَاءِ (¬2). وههنا اختلف العلماء، قديماً وحديثاً، إذا ترك الصلاة في أول الوقت بعد علمه بها هل يتركها إِلى بدلٍ أو يتركها مطلقاً. فمن العلماء من قال إنه يتركها مطلقاً وليس بشيء لأن في ذلك تسوية بينها وبين النفل، ومنهم من قال يتركها إلى بدل وهو العزم على الفعل. فإن قبل لو كان العزم على الفعل بدلاً لأسقطها إذا فعل كسائِرِ الأبدال إذا فُعِلت سقطت مبدلاتها. والجواب أن سائر المبدلات إنما سقطت بأبدالها لأنها جَعِلت بدلاً عن أصل الفعل، وفي مسألتنا جعل العزم بدلاً عن تأخير الفعل، وقد أدخل الدارقطني هذا الحديث في أوهام مالك لمخالفة الجماعة له فيه وانفراده به دونهم (¬3) والله أعلم. ¬

_ (¬1) متفق عليه البخاري في كتاب الآذان باب إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة 1/ 171، ومسلم في المساجد باب كراهية الصلاة بحضرة الطعام 1/ 392، كلاهما عن أنس عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الْصَّلاَةُ فَآبْدَؤُوا بِالْعَشَاءِ". (¬2) لم أطلع عليه في مظانه من سنن الدارقطني، ولم أجد من عزاه له غير الشارح وعزاه الهَيْثَمِي للطبرَاني في الأوسط وقال رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 2/ 46 - 47. وصحح أيضاً هذه الرواية الحافظ فقال، في رواية صحيحه: (إِذَا وُضِعَ العَشَاءُ وَأَحَدُكُمْ صَائِمٌ) .. وقال أيضاً: زاد ابن حبان والطبراني في الأوسط من رواية موسى بن أَعْيُن عن عمرو بن الحارث عن ابن شهاب، وذكر الطبراني أن موسى بن أعين تفرّد بها، وموسى بن أعين ثقة متفق عليه. فتح الباري 2/ 160. (¬3) قال الدارقطني في غرائب حديث مالك: روى مالك، في الموطأ عن الزهري عن أنس: كنا نصلّي العصر ثم يذهب الذاهب إلي قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة موقوفاً، وقد أسنده عنه ابن المبارك وغيره في غير الموطأ. وخالف مالك أصحاب الزهري في قوله إلي قباء فرفعوه كلهم إلي النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا فيه: فيذهب الذاهب إلي العوالي، ولم يقل أحد منهم إلي قباء. غرائب حديث مالك ل 3 ب و 4، وكذا قال مثل الكلام السابق في الالزامات. ص 403. ونقل الحافظ عن ابن عبد البَرّ قوله: لم يختلف على مالك أنه قال في هذا الحديث إلي قباء، ولم يتابعه أحد من أصحاب الزهري، بل كلهم يقولون إلي العوالي وهو الصواب عند أهل الحديث وقول مالك إلى قباء وهم لا شك فيه. وقد عقّب الحافظ على كلام ابن عبد البر بقوله وتعقب بأنه روي عن ابن أبي ذؤيب عن الزُّهري إلى قباء، كما قال مالك. نقله البَاجي عن الدارقطني فنسبه الوهم فيه إلي مالك منتقداً. فإنه وإن كان وهماً احتمل أن يكون منه أو يكون من الزهري حين حدّث به مالكاً، وقد رواه خالد بن مُخلد عن مالك فقال فيه إلي العوالي،=

وقت الجمعة

وقت الجمعة: اتَّبَعَ مالك، رحمة الله تعالى عليه، ذكر الأوقات بوقت الجمعة وهو الثالث عشر من الأوقات التي بنى عليها. واختلف فيه فمنهم من قال: إنها تُصلّى في ضحى النهار وابتدائه لأنها صلاة عيد (¬1)، ومنهم من قال: وقتها وقت الظهر. وعرضت ههنا مسألة تعلَّق بها شيء من هذا الخلاف وهي أن الجمعة هل هي أصل بنفسها والظهر بدل عنها؟ أم هي بدل والظهر أصل. اختلف في ذلك العلماء (¬2) ووقع في الكتاب (¬3) (إِذَا دَخَلَ يَوْمُ الخَمِيسِ يَظُنُّهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمُ الجُمُعَةِ يَظُنُّهُ يَوْمَ الخَمِيسِ) (¬4). وذكر القولين. وفيها قول ثالث أنه يجزي فيهما جميعاً. وفيه قول رابع إنه لا يجزي في واحد منهما ونظيرها إن دخل المسافر خلف المقيم أو المقيم خلف المسافر بنية مطلقة أو بنية القصر أو نية الإِتمام موافقاً لنية إمامه أو مخالفاً لها. والصحيح أنه إذا اختلفت نيته مع نيه إمامه بطلت صلاته لأنه إن دخل يوم الخميس ونوى ركعتين فقد زاد في صلاته ما لم ينوِ، وإن دخل يوم الجمعة وهو يظنه يوم الخميس ونوى ركعتين فقد نقض ما يلزمه وكلاهما لا يجوز فكله لا يجزي، وهذا بيِّنٌ فليتأمل، والذي يصح أن الظهر أصلٌ والجمعة بدل لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ كما قال الجماعة. فقد اختُلف فيه على مالك وتوبع عن الزهري بخلاف ما جزم به ابن عبد البر. وأما قوله والصواب عند أهل الحديث العوالي فصحيح من حيث اللفظ، ومع ذلك فالمعنى متقارب لكن رواية مالك أخص لأن قباء من العوالي وليست العوالي كل قباء. فتح الباري 2/ 29. وانظر المنتقى 1/ 17 - 18، والمسالك 12 ب. (¬1) العيد بالكسر ما اعتادك من هم أو مرض أو حزن ونحوه ترتيب القاموس 3/ 338. وفي النهاية 6/ 316: عاد الشيء يعود عوداً أو معاداً أي رجع. (¬2) قال النووي: قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن يعدهم: لا تجوز الجمعة إلّا بعد زوال الشمس، ولم يخالف في هذا إلا أحمد بن حَنْبل وإسحاق فجوَّزاها قبل الزوال. قال القاضي: وروي في هذا أشياء عن الصحابة لا يصح منها شيء إلا ما عليه الجمهور وحمل هذه الأحاديث على المبالغة في تعجيلها. شرح النووي على مسلم 6/ 48. وانظر فتح الباري 2/ 387، والمغني 2/ 264، بداية المجتهد 1/ 157، الإفصاح لابن هبيرة 1/ 165. (¬3) الكتاب هو المدوّنة لأن الكلام موجود فيها. (¬4) انظر هذا الكلام في المدونة 1/ 104.

صلى الظهر أولًا ثم رجع إلى الجمعة بعد. واختلف الناس في أول جمعة فقيل جؤاثى (¬1)، وقيل عند بني النبيت (¬2)، وقيل عند بني سالم (¬3)، بعبد قدوم النبي، - صلى الله عليه وسلم -، والأشْهُر أنها جمعت ببني النبيت (¬4)، ولكنه بدل يفعل مع القدرة على الأصل كرامة أكرم الله تعالى بها هذه الأمة وشيء يسَّره الله لهم. قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "نَحْنُ الآخَرُونَ السَّابِقُونَ بَيْدَ أَنَّهُمِ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ¬

_ (¬1) "جؤاثى" حصن عبد القيس بالبحرين فتحه العلاء بن الحضرمي أيام أبي بكر، وهو أول موضع جمعت فيه الجمعة بعد المدينة، معجم البلدان 2/ 174. وقال ابن الأثير: أول جمعة جمعت بعبد المدينة بجواثا وهو اسم حصن البحرين النهاية 1/ 310. وروى البخاري من طريق ابن أبي جَمْرَةْ الضبّي عن ابن عباس إنه قال (إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين) البخاري في كتاب الجمعة باب الجمعة في القرى والمدن 2/ 6. ورواه أبو داود 1/ 644 - 645 قال الحافظ: وجه الدلالة منه أن الظاهر أن عبد القيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن نزول الوحي، ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن، فتح الباري 2/ 380. (¬2) كذا في جميع النسخ، وفي حديث أبي داود إِنه لأول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة، أبو داود 1/ 645 وانظر النهاية 5/ 263. والنبيت أبو حي من اليمن اسمه مالك بن عمرو. انظر تعليق محمَّد حامد الفقي على تهذيب السنن 2/ 10. (¬3) ذكره ابن إسحاق. انظر جوامع السيرة ص 93، والسيرة لابن كثير 2/ 271. (¬4) ما شهره الشارح هنا يدل له ما رواه أبو داود في سننه 1/ 645 من طريق محمَّد بن إسحاق عن محمَّد بن أبي أمامة بن سهل عن أبيه عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وكان قائد أبيه بعدما ذهب بصره، عن أبيه كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحَّم لأسعد بن زُرارة فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد ابن زُرارة، قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت في حرة بني بياضة. ورواه البيهقي من طريقين عن ابن إسحاق وقال، في آخره. ومحمد بن إسحاق إذا ذكر سماعه في الرواية وكان الراوي ثقة استقام الإسناد وهذا حديث حسن الإسناد صحيح. السنن الكبرى 13/ 176 - 177، والحاكم في المستدرك 1/ 281 وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وكذا قال الذهبي وابن خزيمة في صحيحه 3/ 112، 113، وابن ماجه 1/ 343. أقول: الحديث مداره على محمَّد بن إسحاق بن يسّار أبو بكر المَطْلَبي مولاهم المدني، نزيل العراق، إمام في المغازي صدوق يدلّس ورُمِيَ بالتشيع والقدر، من صغار الخامسة، مات سنة 150 ويقال بعدها / خت م عـ. ت 2/ 144 وانظر ت ت 9/ 38. درجة الحديث: إسناده حسن كما قال الحافظ في التلخيص 2/ 60 وصحَّحه الحاكم والذهبي، وقال البيهقي: حسن الإسناد صحيح، وعندى أنه حسن لأن ابن إسحاق صرح بالتحديث في أغلب الروايات والله أعلم.

وَأُوتينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَهذا اليَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا الله لَهُ فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ اليَهُودُ غَداً وَالنَّصَارَي بَعْدَ غَدٍ" (¬1). وفي الآثار المأثورة أن جبريل صلوات الله عليه جاء النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بمرآة الصينية وفيها نكتة فقال له النبي، - صلى الله عليه وسلم -: ما هذا؟ قال: الجمعة (¬2). فالمرآة الصينية هى الشريعة ضُربت مثلاً لها، والنكته الجمعة إذ ليس فيها مثلها، ففي ذلك أربع فوائد: الأولى: أن السبق بالفعل لا بالزمان. الثانية: أن الله تعالى هدانا للتمسك بالشريعة وأن أهل الكتاب بدّلوا. الثالثة: أن ابتداء حساب الجمعة يوم الجمعة وخاتمته الخميس، إلا أن الناس أصابتهم رائحة يهودية فأخَّروا أنفسهم وقد قدَّمهم الله تعالى فيبتدؤون بيوم السبت ويختمون بيوم الجمعة. وإلى مثله وقعت الإِشارة بقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬3). الرابعة: أن جعل الجثت محمولة للظروف والظروف خبراً عنها في قوله اليهود غداً (¬4). وقد قال عبد الملك (¬5) بن مروان وكان من الفصحاء: نحن الزمن من رفعناه ¬

_ (¬1) متفق عليه البخاري في كتاب الجمعة باب فرض الجمعة 2/ 2، ومسلم في الجمعة باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة 2/ 585 - 586، كلاهما عن أبي هريرة. (¬2) رواه عبد الرزاق عن مَعْمَر عمَّن سمع أنس يقول: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، المصنف 3/ 256. وأورده الهَيْثَمِي في مجمع الزوائد وعزاه للطّبراني في الأوسط وقال: رجاله رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني وهو ثقة. مجمع الزوائد 2/ 164 من رواية أنس. درجة الحديث: صحيح. (¬3) سورة الملك آية 22. (¬4) قال القرطبي: غداً هنا منصوب على الظرف وهو متعلق بمحذوف وتقديره اليهود يعظمون غداً، وكذا قوله بعد غد. ولا بد من التقدير لأن ظرف الزمان لا يكون خبراً عن الجثة. وقال ابن مالك: الأصل أن يكون المخبر عنه بظرف الزمان من أسماء المعاني كقولك غداً للتأهب وبعد غد للرحيل فيقدر هنا مضافان يكونان ظرفا الزمان خبرين عنهما أي تعييد اليهود غداً وتعييد النصارى بعد غد. قال الحافظ: وقد سبقه إلى ذلك عياض وهو أوجه من كلام القُرْطُبي. فتح الباري 2/ 356. (¬5) عبد الملك بن مروان بن الحكَم الأموي القرشي، أبو الوليد، من أعاظم الخلفاء ودهاتهم. نشأ بالمدينة فقيهاً =

ارتفع (¬1). تبيين. ثبت في الصحيح أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - "كَانَ يُصلِّي الجُمُعَةَ فَيَنْصَرِفُ وَلَيْسَ لِلْحِيطَانِ (¬2) ظلٌّ " وهذا يدل على تبكيره بها، وقد قال ابن عمر: ما كنّا نتغدى ونقيل إلا بعد الجمعة (¬3)، إشارة إلى التبكير إليها لا إلى التبكير بها، وأدخل مالك، رحمه الله تعالى، حديث عمر، رضي الله عنه، موافقاً له فإن الطنفسة (¬4) إنما كان يغشاها ظل الجدار في أول الوقت (¬5)، وذلك يعرف بثلاثة شروط: أحدها: صوب القبلة بالمدينة. والثاني: علو الجدار فإن الظل يختلف فيه. والثالث: عرض الطنفسة فإنها قد تكون بقدر الظل أو أزيد أو أنقص. وقد أُخِذَ على مالك، رضي الله عنه، في تحديد وقت صلاة الجمعة بهذا القدر الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بعد جهد. وهذا لا يتوجه عليه لأنه إنما ساق ذلك من فعل عمر، رضي الله عنه، حجة على من قدَّم الجمعة بالمدينة أو أخَّرها، إشارة إلى أن أول الوقت هو (حدّها)، وأول الوقت يُدرك، في كل موضع، بهيئته. وقد كان الأمراء يؤخِّرونها جداً حتى يخرجوها عن أولها (¬6)، فذكر مالك، رحمه الله تعالى، أيضاً حديث ¬

_ واسع العلم متعبداً. ولد سنة 26 ومات سنة 86هـ، ميزان الاعتدال 2/ 153، تاريخ الطبري 8/ 56، تاريخ بغداد 10/ 388، تاريخ الخميس 8/ 302، تهذيب الأسماء واللغات 1/ 309، طبقات ابن سعد 5/ 223. (¬1) لم أطلع على كلامه هذا. (¬2) متفق عليه: البخاري في المغازي باب غزوة الحديبية 5/ 159، ومسلم في الجمعة باب صلاة الجمعة حين تزول الشمس 2/ 589، كلاهما عن سلمة ابن الأكْوَع. (¬3) رواه ابن أبي شيبة من طريق ثابت بن الحَجّاج عن ابن عمر المصنف 2/ 107. درجة الحديث: صحيح إلى ابن عمر. (¬4) الطنفسة بكسر الطاء والفاء وضمها وكسر الطاء وفح الفاء البساط الذي له خمل رقيق وجمعه طنافس. النهاية 3/ 140. (¬5) روى مالك في الموطأ عن عمه أبي سهل بن مالك عن أبيه أنه قال: كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب يوم الجمعة تُطرح إلى جدار المسجد فإذا غشى الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب وصلى الجمعة، الموطأ 1/ 9. درجة الحديث: صححه الحافظ في الفتح 2/ 387، (¬6) في م أول وقتها.

عثمان رضي الله عنه أنه كان (يُصَلِّي الجُمُعَةَ بِالمَدِينَةِ وَالْعَصْرَ بِمَلَلٍ (¬1)) (¬2)، وبينهما نحو من خمسة فراسخ (¬3). ¬

_ (¬1) ملل بوزن جمل موضع بين مكة والمدينة على سبعة عشر ميلاً، النهاية 4/ 362. وقال الشارح في المسالك ك 14 واختلف الناس فيما بينهما أيَ ملل والمدينة فقال ابن وضّاح: بينهما اثنان وعشرون ميلاً. وقال غيره: ثمانية عشر ميلاً. وروي عن مالك أنه قال: بينِ المدينة وملل نحو من أحد وعشرين ميلاً. وهذا يدل على أنه صلاها في أول الوقت. (¬2) مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبي سليط أن عثمان بن عفان كان صلى الجمعة بالمدينة وصلى العصر بملل. الموطأ 1/ 10. درجة الحديث: صحيح. (¬3) الفرسخ ثلاثة أميال أو اثنا عشر ألف ذراع، مختار القاموس ص 473.

باب من أدرك ركعة من الصلاة

باب من أدرك ركعة من الصلاة ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلاَةَ" (¬1)، وليس معناه أنها تجزيه عن باقيها، وإنما معناه أنه أدرك الفضل ولزمه حكم الإِمام الذي نواه ولزمه في الاقتداء به، ونشأت ههنا عضلة (¬2)، من العضل، ليس عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فيها نص وهو أنه إذا كان مدركاً بركعة للصلاة هل يكون ذلك أولَ صلاته أم آخرها؟ فاضطرب الناس فيه وضرب بينه وبين الأكثر منهم باب لم ينفذوا فيه ولا يحتمل هذا (القبس) إزالة ظلمة الإشكال فيه؛ فالذي يجب أن يعوَّل عليه أن الذي أدرك أول صلاته (فيبني عليها في) الجلوس والقراءة (وهذا الفصل تعرفونه، إن شاء الله تعالى، فلا وجه إلى الإطناب فيه) ولا الإِطالة إلّا أنه دخل عليه فرعان اختلف فيهما علماؤنا وهي اختلاط القضاء بالأداء في مسألة الراعف (¬3) وفي صلاة الخوف (¬4)، ونشأ منه تخريج فرع في صلاة المسافر مع المقيم، والذي يهديكم فيه أن تجعلوا أول صلاته ما أدرك ثم تركبوا الجلوس عليه وتركبوا عليه القراءة، فإن أدرك ركعة وقام إلى الثانية، في صلاة الجهر، جهر بالثانية، وإن كان في صلاة السرّ قرأ بالسورة ثم جلس. ثم اختلف الناس هل يقضي الجهر في الثالثة والسورة أم لا، والصحيح أنه يأتي بها عندنا لأنه لو أدرك ركعتين من رباعية الجهر وقام إلى القضاء ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري في المواقت باب من أدرك من الصلاة ركعة 1/ 100 ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة 1/ 423، والموطّأ 1/ 10 كلهم عن أبي هريرة. (¬2) أعضل الأمر أي اشتد واستغلق، وأمر معضل لا يُهتدى لوجهه، والمعضلات الشدائد. صحاح الجوهري 5/ 1766. (¬3) قال أبو الوليد: اختلف أصحابنا في حكم الراعف، فروى ابن القاسم وابن وهب عن مالك لا يبني حتى يتقدم له ركعة بسجدتيها، فإن رعف قبل ذلك لم يبنِ. وقال ابن الماجشون: إن رعف في الركعة الأولى قطع واستأنف الإقامة. وروى ابن وهب عن مالك فيمن رعف بعد ركعة وسجدة. إن بني أجزأه. وفرق ابن حبيب بين الجمعة وغيرها فقال: إن كان في الجمعة لم يبنِ إلا أن يرعف بعد كمال الركعة، وأما في غير الجمعة فإنه يبني. قال سحنون. إن أحرم تم رعف بني على إحرامه. المنتقى 1/ 84. (¬4) قال القاضي عبد الوهاب إذا صلى بالأولى (أي الطائفة الأولى) ركعتين ففي وقت قضائهم وانتظار الأخرى روايتان إحداهما إذا فرغ من تشهده أشار إليهم فقاموا ثم تأتي الأخرى فيقوم فيصلي بهم ركعة. والأخرى أن يقوم إلى الثانية فيتم الأولى ويثبت. قائِما حتى تأتي الأخرى. الإشراف على مسائل الخلاف 1/ 139.

لجهرِ وقرأ السورة، والأصل في ذلك نكتة بديعة وهي أنه إذا أدرك ركعة، أوما يكون به مدركاً، فقد فاتته أركان وصفات أركان. فليقضِ ما فاته من ركن أو صفة ركن ومن جملتها ما فاته في الركعة التي أدرك فإنه فاته فيها ركن، وهي الجهر والسورة، فمن الناس من ألغاها لأنه جعلها تبعاً لركنها وقد مضى. ومن الناس من قال بل يقضيها في محل مثلها وهو الصحيح كما تقدم. وقد سمعت أبا الوفا (¬1) إمام الحنابلة ببغداد، يقول: من نسي قراءة الفاتحة في الثلاث ركعات قرأها في الركعة الرابعة أربع مرات، ويسند ذلك إلى أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ولا أقول به. تتميم: إذا ثبت أنه يكون مدركاً بركعة لحكم الصلاة فلا يكون مدركاً بأقل منها لا من جهة دليل الخطاب ولكن من حيث أن أقل من ركعة لا يكون في معنى الركعة بحال فإن قيل فقد روى البخاري أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ أَدْرَكَ سَجْدَةً مِنَ الصلاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ" (¬2)، أجيب عنه بثلاثة أجوبة: أحدها: أنّا نقول للمخالفين لنا: أنتم قد تركتم هذا الحديث؛ فإنكم قلتم إنه لو أدرك، بعد سلام الإِمام، مقدار تكبيرة الإحرام لكان مدركاً للصلاة، فإن قيل إنما فعلنا ذلك لأنه لم يرد السجدة بعينها وإنما أراد ركناً من أركان الصلاة والتكبير ركن، قلنا هذا حجة عليكم؛ لأن السجود ليس بركن في نفسه وإنما هو ركن على معنى التبعية للركوع إجماعاً، فكيف ألحقتم ركناً مستقلًا بنفسه وهو تكبيرة الإحرام بركن تابع لغيره وهو السجود. ¬

_ (¬1) أبو الوفاء البغدادي 430 - 513. علي بن عَقِيل أبو الوفاء، ويعرف بابن عقيل عالم العراق وشيخ للحنابلة ببغداد في وقته، كان قوي الحجة، اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته، وكان يعظم الحلَّاج فأراد الحنابلة قتله فاستجار بباب المراتب عدة سنين ثم أظهر التوبة حتى تمكّن من الظهور. له تصانيف أعظمها كتاب الفنون بقيت منه أجزاء وهو أربعمائة جزء. قال الذَّهبى، في كتاب الفنون: لم يصنف في الدنيا أكبر منه والواضح في الأصول. انظر الأعلام 5/ 129، جلاء العين 99، شذرات الذهب 4/ 35، غاية النهاية 1/ 556، ولسان الميزان 4/ 243، وطبقات الحنابلة 413 ومناقب الإمام أحمد 526، ومرآة الزمان 8/ 83، والذيل على الطبقات 1/ 171. (¬2) متفق عليه البخاري في المواقيت باب من أدرك من الصلاة ركعة البخاري 1/ 151، ومسلم في المساجد باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة 1/ 423، والموطأ 1/ 10، وشرح السنة 2/ 249. كلهم عن أبي هُرَيْرَة.

الثاني. "أنّا نقول: قد اتفقنا على ترك هذا الحديث بإجماعنا أن من أدرك السجدة لا يعتد بالركعة". الثالث: أن المراد بالسجود هاهنا الركوع لأنه أخوه جواراً في الركن ومعنى في الخضوع. والدليل القاطع على ذلك تمام الحديث في الصحيح قال: "مَنْ أدرَكَ سَجْدَةً مِنَ الصَّلَاةَ فَقَدْ أدْرَكَ الصَّلَاةَ، والسَّجْدَةُ هِيَ الرَّكْعَةُ" (¬1) فإن كان من قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وهو الظاهر، فلا كلام، وإن كان من قول الراوي فتفسيره، وقد سمع الحديث، أولى من تفسير غيره. ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر، في شرحه لترجمة البخاري باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب أورد فيه حديث أبي سلمة عن أبي هريرة إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته، فكأنه أراد تفسير الحديث، وأن المراد بقوله فيه سجدة أي ركعة وقال وقد رواه الإسماعيلي من طريق حسين بن محمَّد بن شَيْبَان بلفظ: من أدرك منكم ركعة فدل على أن الاختلاف في الألفاظ وقع من الرواة. وقد جاءت رواية مالك بلفظ من أدرك ركعة ولم يختلف على راويها فكان عليها الاعتماد. وقال الخطابي المراد بالسجدة الركعة وسجودها والركعة إنما يكون تمامها بسجودها فسميت على هذا المعنى سجدة. فتح الباري 2/ 38.

باب ما جاء في دلوك الشمس

باب ما جاء في دلوك (¬1) الشمس أدخله مالك، رحمه الله تعالى، لنكتة واحدة وان كان فيه كلام كثير ليبيّن، من قول ابن عمر (¬2) وابن عباس (¬3)، رضي الله عنهما، وهما أصلان في اللغة أن الدلوك الزوال حتى يكون قوله تعالى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} إلى قوله: {مَشْهُودًا} (¬4) متناولًا للصلوات الخمس. ¬

_ (¬1) دلكت الشمس دلوكاً غربت أو اصفرت أو زالت عن كبد ألسماء. مختار القاموس/215، وانظر الصحاح 4/ 1584. وقال الباجي قول عبد الله بن عمر حجة في اللغة لأنه من أهل اللسان مع ما يضاف إلى ذلك من العلم بالشريعة وصحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والدين والورع. وإذا كان يُحتج بقول امرئ القيس والنابغة في اللغة فبأن يُحتج بقوله أَوْلى. المنتقى 1/ 21. (¬2) مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: دلوك الشمس ميلها. الموطّأ 1/ 11، ورواه عبد الرزاق عن سالم عن ابن عمر قال: (دلوك الشمس زياغها بعد نصف النهار وذلك وقت الظهر) مصنف عبد الرزاق 1/ 543. درجة الحديث: صحيح. (¬3) مالك عن داود بن الحصين قال أخبرني مُخْبر أن ابن عباس كان يقول: (دلوك الشمس إذا فاء الفيء وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته) الموطّأ 1/ 11. وقال الشارح، في الأحكام 3/ 207: روى مالك في الموطأ عن ابن عباس أنه قال دلوك الشمس ميلها وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته، ورواية مالك عنه أصح من رواية غيره وهو اختيار مالك في تأويل هذه الآية. أقول: الحديث فيه شيخ مالك داود بن الحصين الأموي، مولاهم، أبو سليمان المدني، ثقة إلا في عكرمة، ورُمي برأي الخوارج من السادسة مات سنة 135/ ع، ت/ 1/ 231. وقال في ت ت: قال ابن المديني ما رَوى عن عكرمة فمنكر ت ت/ 3/ 181. قلت: وروايته هنا عن عكرمة، كما قال الزرقاني , فقد قال قوله (أخبرني مخبر) هو عكرمة، وكان مالك يكتم اسمه لكلام ابن المسيب فيه قاله في الاستذكار، ونقل ذلك في التمهيد عن غيره، ورد بأن مالكاً صرّح برواية عكرمة في الحج وقدَّمها على رواية غيره. وقال أبو داود ما روى داود بن الحصين عن عكرمة فمنكر وحديثه عن شيوخه مستقيم. شرح الزرقاني 1/ 26. وكذا قال الشارح في المسالك ل 15. درجة الحديث ضعيف. (¬4) سورة الإسراء آية 78.

تأصيل: بيَّن مالك، رحمه الله، في هذا الباب، أصلاً من أصول الفقه وهو أن الحكَم إذا تعلَّق باسم له أول واخر تعلق بأوله (¬1). وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافاً كثيراً، وتتعلق به الفروع من كتاب الطهارة إلى أمهات الأولاد (في) آخر الفقه. وللدلوك أول وهو سقوط الشمس عن كبد السماء، وآخر وهو الغروب في رأى العين؛ فكل ذلك من مَثَلٍ أو خبرٍ، أو شعرٍ، أو قرآنٍ يتعلق بهذد الجملة على حد ما يليق به منهما فارقبوه وركبوه. حديث: قوله، - صلى الله عليه وسلم -: "منْ فاتَتْهُ صلاةُ العَصْر فَكَأَنَّما وَتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ" (¬2). أدخل مالك، رضي الله عنه، هذا الحديث في جامع الوقوت بما رأى من تضييع الناس لها خصوصا حتى أخرجوها عن وقتها المختار لها وهو البياض الغالب على الشمس، وقد أدخل فضل. غيرها في موضعه وقدم هذه الصلاة للحاجة إلى تقديمها. وفي البخاري عن بريده "منْ فاتتْهُ صلاةُ العَصْرِ فقد حبط (¬3) عَمَلُهُ" معناه ذهب. ففي حديث ابن عمر جعلها قرينة الأهل والمال، وفي حديث بريدة جعلها معادلة العمل، والمعنيان يتشاركان عند التأويل لأن المراد بقوله. "وَتِرَ أَهلهُ وَمَالَهُ" بقي سليباً محرومًا في الدنيا فضربه مثلاً لبقائه كذلك في الآخرة، وكذلك هو يكون إذا حبط عمله. فأحد اللفظين مَثَل والآخر حقيقة، فإن قيل ظاهر ما ذكرتم يقدح في عقيدة أهل السنة وهي أن الكبائر لا تحبط الأعمال فما تأويل هذا؟ قلنا. أما من يقول بأن مخرج الصلاة عن وقتها (¬4) كافر وقد كشف الغطاء فيه، ولكنه ¬

_ (¬1) قال في نشر البنود: اختلفوا في مقتضى الامر المعلّق على أمر معنى كلي له جزيئات متباينة في القلَّة والكَثرة هل هو الأول، أي الأقل والأخف، أو هو الآخر منهما، أي الأثقل والأكثر والمرجَّح، أي المختار، عند القاضي عبد الوهاب، كما في التنقيح، أن الأمر المعلَّق على اسم يقتضي الاقتصار على أوله، والزائد على ذلك إما مندوب أو ساقط أي غير معتبر. نشر البنود علي مراقي السعود 1/ 184. (¬2) متفق عليه: البخاري في كتاب المواقيت باب إثم من فاتته صلاة العصر 1/ 145 ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب التغليظ في تفويت صلاة العصر 1/ 435 - والموطأ 1/ 11، كلهم عن ابن عمر. (¬3) البخاري في المواقيت باب من ترك العصر 1/ 145. (¬4) قال الذهبي: مؤخر الصلاة عن وقتها صاحب كبيرة وتاركها، أعني الصلاة الواحدة، كمن زنى وسرق لأن ترك كل صلاة أو تفويتها كبيرة، فإن فعل ذلك مرات كان من أهل الكبائر إلا أن يتوب. فإن لازم ترك الصلاة فهو من الأخسرين الأشقياء المجرمين. كتاب الكبائر وتبيين المحارم ص 51. وقال الحافظ: تمسك بظاهر الحديث الحنابلة ومن قال بقولهم من أن تارك الصلاة يكفر. فتح الباري 2/ 32.

يرجع معناه في صلاة العصر إلى الفوت المعقب لغروب الشمس لاختلاف العلماء في أن ما قبل غروب الشمس وقت اختياري للعصر أم لا. وإنما يتوجه الإشكال على من ينكر حبط الكبائر للأعمال. والذي يكشف الغطاء فيه ما مهَّدناه، في كتب الأصول، عند ذكر الآيات والأحاديت المتشابهة والجمع بينها وبين المحكمة وهتك الخفاء عن أن الأعمال لا يحبطها إلا الشرك وأن المعاصي والطاعات متعارضة حتى يحكم الله فيها للعبد بالخاتمة فإن مات على الإيمان فلابد من مغفرتها على أربعة (¬1): أحدها: الخروج من النار، عافانا الله تعالى من ذلك، فاطلبوه هنالك بيد أنّا نذكر لكم ههنا دستوراً مختصراً يستشرف به المبتدى ويشرف به على الغاية المنتهى وذلك أن اللفظ العام (¬2) إذا ورد فلا يخلو إما أن يتعلق بالزمان أو بالأعيان أو بالأمكنة كقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (¬3) فهذه الآية ركن العموم. فإن فيها ذكر الأزمنة كلها كقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} وفيها ذكر الكفار بأجمعهم كقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}. وفيها ذكر الأمكنة كقول: {حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وفيها تعيين (¬4) الغاية لقوله: {فَإِنْ تَابُوا} فمثل هذه الآية هي التي يتعب في تخصيص عموماتها. وأما قوله: "وَتِرَ أَهْلَهُ أَوْحَبِطَ عَمَلُهُ" فليس من ألفاظ العموم وإنما هو خبر عن حال أو صفة؛ فالذي يدَّعي عموم الصفة والحال هو الذي يلزمه الدليل. فإن قيل لقد عرفنا هذا الأصل حق معرفته فهل من مزيد بيان في تفصيل تأويله؟ قلنا: نعم. فيه وجهان: أما أحدهما فمعناه يوقف عمله عنه مدة يكون فيها بمنزلة المحبط حتى يأتيه من ¬

_ (¬1) في ل زيادة أوجه. (¬2) قال في مراقي السعود: ويلزم العموم في الزمان والحل للأفراد والمكان. قال شارحه: يعني أَن عموم العام لجميع أفراده يدل بالالتزام على المطابقة على عموم الأزمان والأحوال والأمكنة؛ إذ لا غنى للأفراد عنها، وهذا مذهب السبكي ووالده والسمعاني، ويدل عليه كلام المحصول كقوله تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا}، الآية. أي كل زان على أي حال من طول وقصر بياض وسواد وغير ذلك، وفي أي زمان كان، وفي أي مكان كان، وخص منه المحصَّن فيرجم وقوله {أقْتُلُوا المُشُرِكِينَ} أي كل مشرك على أي حال كان، وفي أي زمان ومكان، وخص منه البعض كأهل الذمة، أ. هـ. نشر البنود على مراقي السعود 1/ 212، وانظر شرح التنقيح ص 200. (¬3) سورة التوبة آية 5. (¬4) في م تمهيد.

فضل الله عَزَّ وَجَلَّ ما يدرك به ثواب عمله، وإلى هذا التوقيف وقعت الإشارة بحديث يروى (أَوَّلُ مَا ينظُرَ الله فِيهِ مِنْ عَمَلِ العَبْدِ يَوْمَ القِيَامَة الصَّلاَة (¬1)، فَإنْ جَاءَ بِهَا نَظَرَ في سَائِرِ عَمَلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا لَمْ يَنْظُرْ في شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ). فكما أنه في قسم المنهيات أيضاً أول ما يحكم فيه منها الدماء (¬2)، فإن خلص منها نظر في سائر معاصيه وان لم يخلص منها فهذه تكفيه فيتوقف النظر في بقية المعاصي مدة ها هنا كما يتوقف النظر في بقية الطاعات مدة هناك. الجواب الثاني: أن معنى حبط عمله عند الموازنة فإنه إذا وضعت الحسنات ¬

_ (¬1) أبو داود من طريق أنس بن حكيم الضبي قال: خاف زياد، أو ابن زياد، فأتى المدينة فلقي أبا هُرَيْرَة قال فنسبني فانتسبت له، فقال: يا فتى ألا أحدثك حديثاً. قال قلت بلى، رحمك الله، قال يونس وأحسبه ذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ النَّاسُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ أَعْمَالِهِمِ الصَّلاَةُ .. ". أبو داود 1/ 540، وابن ماجه 1/ 458، والحاكم وقال صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه، وكذا قال الذهبي. ورواه أبو داود الطّيالِسي. حدثنا أبو الأشْهَب عن الحسن قال: قدم رجل المدينة فلقي أبا هُرَيْرَة فقال له أبو هريرة: كأنك لست من أهل البلد. قال. أجل. قال: أفلا أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... قال أبو داود: وسمعت شيخنا في المسجد الحرام يحدِّث بهذا الحديث فقال الحسن، وهو في مجلس أبي هريرة لما حدث هذا الحديث: والله لهذا لأبن آدم خير من الدنيا وما فيها. مسند الطّيالسي ص 323 وقال التِّرمذي روى عن أنس بن حَكِيم عن أبي هُرَيْرَة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، نحو هذا سنن الترمذي 2/ 272 وقال الحافظ: أنس بن حَكِيم الضبّي البصريِ روى عن أبي هريرة وعنه الحسن وابن جَدْعَان ذكره ابن المديني في المجهولين من مشايخ الحسن، والحديث الذي روياه له في الصلاة مضطرب. اختلف فيه على الحسن فقيل عنه هكذا، وقيل عنه عن حريث بن قبيصة، وقيل عن صعصعة عن الأحْنَف، وقيل عنه عن رجل من بني سليط وقيل عنه غير ذلك. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن القطان مجهول ت ت 1/ 374. وانظر الكاشف 1/ 140. وعلق الشيخ أحمد شاكر على رواية الترمِذي بقوله هذا حديث مرفوع وإن شك يونس في رفعه لأن مثله لا يقال بالرأي، ولأنه ورد مرفوعاً بالإسناد الذي عند الترمذي. وقال الحاكم، بعد روايته: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه، ووافقه الذهبي ورواه أبو داود عقبه بإسناده من طريق حميد عن الحسن عن رجل من بني سليط عن أبي هريرة/ أبو داود 1/ 541/، فلعل الحسن سمعه من ناس متعددين حريث بن قبيصة وأنس بن حكيم ورجل من بني سليط، أو يكون الرجل المبهم أحدهما وليس هذا اضطراباً فيه يوجب ضعفه بل نهي طرق يؤيد بعضها بعضاً. سنن الترمذي 2/ 272. وانظر كلامه، بأوسع من هذا، في تعليِقه على المسند حديث رقم (7889). درجة الحديث: صححه الحاكم والذهبي وأحمد شاكر والشيخ ناصر في صحيح الجامع الصغير 2/ 352. (¬2) متفق عليه البخاري في الديات 9/ 3، ومسلم في القسامة باب المجازاة في الدماء3/ 1304، كلاهما عن أبي وَائِل عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أولُ مَا يُقْضَى بَيْنَ الناسِ يَومَ القِيَامَةِ في الدِّمَاءِ".

والسيئات في كفتيهما فرجحت كفة السيئات- نعوذ بالله تعالى- فقد بطلت حينئذ وصار صاحبها في قسم العقاب، وبقي أمر الله، عز وجل، فإذا جاء بالفضل بعد الاقتصاص من الزائد أو إسقاطه أدرك ثواب عمله (¬1)، وهذا هو تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} (¬2) فافهموا ذلك. ¬

_ (¬1) لقد زاد الشارح هذه المسألة وضوحاً في العارضة فقال: الحبط على قسمين: حبط موازنة وحبط إسقاط. فأما الكفر فيحبط إسقاطاً حتى لا يبقى للحسنات. وأما المعاصي فتحبط حبط الموازنة، وحبط ذلك عندي جعل الحسنات في كفَّتي الميزان فترجح السيئات فيذهب مثلاً إلى النار فيسقط حكم الحسنات الآن، فإذا أُخرج من النار أو غُفر له أخذ جزاء حسناته. العارضة 1/ 287. وزاد الحافظ عنه وهذا بخلاف قول الإحباطية الذين سَوَّوْا بين الإحباطين وحكموا على العاصي بحكم الكافر وهم معظم القدرية. فتح الباري 1/ 110. (¬2) سورة البقرة آية 264.

باب النوم عن الصلاة

باب النوم (¬1) عن الصلاة ذكر مالك، رضي الله عنه، حديث النوم عند القفول (¬2) من خيبر (¬3)، وقد ثبت في الصحيح أنّ النبي، - صلى الله عليه وسلم -، "نام عن الصلاة ثلاث مرات". الأولى: كان رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، أولهم استيقاظاً (¬4). الثانية: استيقظ قبله أبو بكر وعمر وكبَّر عمر حتى استيقظ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - (¬5). والثالثة: لم يحضرها أبو بكر ولا عمر وإنما كان في ركب ثمانية أو نحوها (¬6). وكل ذلك ثابت بنقل العدل عن العدل. ¬

_ (¬1) قال الزرقاني: أي ما حكمه هل كالإغماء أولاً فتجب اذا انتبه الزرقاني 1/ 22. (¬2) قفل كنصر وضرب قفولاً رجع فهو قافل جمعه قفال والقافلة الرفقة القفال والمبتدئة في السفر تفاؤلاً بالرجوع. مختار القاموس 1/ 509 وقال في النهاية قفل يقفل إذا عاد من سفره، وقد يقال للسفر قفول في الذهاب والمجيء وأكثر ما يستعمل في الرجوع. النهاية 4/ 92 وقال الشارح في المسالك. ل/16 القفول الرجوع. (¬3) خيبر مدينة شمال المدينة المنوَّرة بينها وبين المدينة ثمانية برد أو ستة أميال، سميت خيبر بخيبر بن قانية بن فهلائل وهو أول من نزلها. معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع للبَكْري 1/ 521. (¬4) الموطأ 1/ 13 عن ابن شهاب عن سعيد بن المُسَيّب أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - .. وهذا مرسل. ورواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب قضاء الفائتة واستحباب تعجيل قضائها 1/ 471، وأبو داود 1/ 302 وابن ماجه 1/ 227. كلهم عن سعيد بن المسيب عن أبي هُرَيْرَة. (¬5) هذه الرواية متفق عليها، أخرجها البخاري في كتاب الأنبياء باب علامات النبوة 4/ 232، وفي التيمم باب الصعيد الطيب وضوء المسلم 1/ 93، ومسلم في المساجد باب قضاء الصلاة الفائتة 1/ 474 كلاهما من حديث عمران ابن حصين قال: كُنْت مَعِ النبيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، في مَسِيرَتِهِ فَأَدْلَجْنَا لَيْلَتَنَا حَتى إِذَا كَانَ في وَجْهِ الصُّبْحِ عَرَّسْنَا فَغَلَبَتْنَا أَعينُنُا حَتى بَزَغَتْ الشَمْسُ فكانَ أَوَّل مَنْ اسْتيْقظ أَبُو بَكْرٍ .. (¬6) مسلم في كتاب المساجد باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها 1/ 472، وأبو داود 1/ 304 - 305، والتَرْمِذي 1/ 334 والنسائي 1/ 295، وابن ماجه 1/ 228 كلهم عن أبو قتادة قال: خطبنا رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إِنكُمْ تَسِيرونَ عَشِيَّتَكُمْ وَلَيلَتَكمْ وَتَأْتونَ المَاءَ إنْ شَاءَ الله غَداً .. " قال أبو قتادة ثم قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -."هَلْ تَرَىَ مِنْ أَحَدٍ؟ قُلْتُ هذَا رَاكِبٌ، ثُمَّ قُلْتُ هَذَا رَاكِبٌ آخَرٌ حَتى اجْتمَعْنَا فَكُنَّا سَبْعَةَ رُكَّبٍ".

حقيقة

حقيقة: خلق الله العبد حيّاً داركاً مفكراً قادراً في أحسن تقويم، ثم رده أسفل السافلين، ثم سلَّط عليه السهو والغفلة ليتبين قصور هذه الفضائِل التي فيه حتى لا يقول أنا وأنا، وسلّط عليه النوم وهي آفة تدرك الحواس وركود يقوم بالجوارح لا يلحق القلب ولا الروح ولا النّفس منها شيء، ولذلك قال علماؤنا، رضي الله عنهم، إن الرؤيا إدراك حقيقة وعلم صحيح، والمرء في يقظته ومنامه لا ينفكّ عن حاله التي هو عليها، إن كان في اليقظة في تخليط وتلاعب مع البطالين انتقل إلى مثل ذلك في المنام، وإن كان في يقظته في العلم والتحقيق انتقل إلى مثل ذلك في المنام. فلقفه ملك الرؤيا إلى نفسه وألقى عليه مثل ما كان فيه من التحقيق. لكن الرؤيا أكثر حقا لأنها أقرب إلى الله، عز وجل، ولأنها تأتي بواسطة الملك وليس عنده إلّا الحق فلذلك كانت جزءاً من النبوة (¬1)؛ لأن الملك يلقيها إلى كل عبد ولأجل ذلك كانت بشرى لأنها خبر من الملك عن الله، عز وجل، ونظيرها في اليقظة الفأل (¬2)؛ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، يصغي إليه ويعوِّل عليه. ولكن الفأل أدنى منزلة إذ يكون من طفل وامرأة ومؤمن وكافر في دار الشّعوب (¬3)، وهي اليقظة، والرؤيا تكون من الملك محصلة في حالة الخلوص. لكن لغلبة الشهوات بالآدميين، واستيلاء الغفلات علي العباد، والإقبال على شهوة البطن والفرج. قد يقع العبد من النوم في غمرة فلا يرى شيئاً حقيقة ولا خيالاً يكون نسبة تلك الغفلة في المنام نسبة السكر والوَلَه في اليقظة، وهذه الصبابة تكفي من بحر الرؤيا إذا ثبت هذا فالنبي - صلى الله عليه وسلم -، في حكم الآدمية وجبلة البشر مطهر عن ذلك كله وعن أسبابه في ابتدائه وفي مآله، وكيفما اختلف حاله من نوم أو يقظة في حق وفي تحقيق ومع الملائكة في كل طريق، إن نسى فتأكد من المنسي اشتغل وإن نام فقلبه ¬

_ (¬1) متفق عليه: البخاري في التعير باب رؤيا الصالحين 9/ 38، ومسلم في الرؤيا 4/ 1774، والموطَّأ 2/ 956 كلهم عن أَنَس بن مالك أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الرؤْيا الحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جِزْءٌ مِنْ سِتَّةِ وَأَرْبَعِينَ جِزْءاً مِنَ النبوَّةِ" لفظ البخاري وساقه مسلم عن أنس عن عبادة بن الصَّامت. (¬2) ورد عند الشيخين من حديث أنس، رضي الله عنه، عن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -: (لا عَدْوَى وَلَا طيرَةً وُيعْجِبُنِي الفأْلُ الصَّالِحُ وَالكَلِمَةُ الحَسَنَةُ) البخاري في الطب باب الفأل 7/ 175، ومسلم في كتاب السلام باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم 4/ 1746. (¬3) الشغب والتشغيب تهييج الشر وتشغبهم وتشغب عليهم كمنع وفرح وهيَّج الشر عليهم وهو شغاب ومشاغب وشاغبه سار. مختار القاموس 333. وانظر ترتيب القاموس 2/ 735.

ونفسه على الله، عز وجل، أقبل، وهذا القدر الذي ألقينا إليكم قد علمته الصحابة، رضوان الله عليهم، فإنها قالت في الصحيح: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا نام لا نوقظه حتى يستيقظ لأنّا لا ندري ما هو (¬1) فيه فنومه - صلى الله عليه وسلم -، عن الصلاة، أو نسيانه لشيء منها لم يكن عن آفة وإنما كان بالتصرف من حالة إلى حالة مثلها ليكون لها سنة. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا أَنَا بَشَر مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسَيْتُ فَذَكِّرُوني" (¬2)، فبيّن الاشتراك في البشرية والنسيان وظهر الفرق في سبب ذلك بينه وبين كل إنسان. فقه: أخَّرَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، الصلاة عند الهبوب من النوم حتى اقتادوا لأحد خمسة أوجه أو لمجموعها: أحدهما: انتظار الأمر من الله عز وجل، كيف يكون العمل في ذلك. الثاني: لتحرُّزٍ من العدوِّ واستشراف له. الثالث. كراهية للبقعة التي وقعت فيها الآفة. الرابع: ليعم الاستيقاظ والنشاط إذا رحلوا جميعهم. الخامس: قال أصحاب أبي حنيفة: حتى يزول وقت النهي (¬3) عن الصلاة وفي ¬

_ (¬1) رواه مسلم من رواية عُمران بن حصين. قال النووي قال العلماء: كانوا يمتنعون من إيقاظه، - صلى الله عليه وسلم -، لِمَا كانوا يتوقعون من الإِيحاء إليه في المنام، شرح النووي على مسلم 5/ 190. (¬2) مسلم في كتاب المساجد باب السهو في الصلاة والسجود له 1/ 400، وأبو داود 1/ 620، والنّسائي 3/ 28 كلهم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود. (¬3) قال الباجي: ذهب أبو حنيفة إلى أن تأخير رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، الصلاة وأمره بالاقتياد إنما كان لأنه انتبه حين طلوع الشمس ولا يجوز قضاء الفوائت عنده فأمرهم بالاقتياد إلى أن ترتفع الشمس عن الأفق ويتم طلوعها، فتجوز الصلاة، وهذا الذي ذهب إليه ليس بصحيح لا يحتمله لفظ الحديث لأنّ وقت طلوع الشمس وكونها في الأفق لا يكون لها ضوء يضرب. شيئاً مما على الأرض وإنما تضرب الناس الشمس ويرتفع ضوؤها عليهم بعد ارتفاعها من الأفق يومئذ هذا التأويل قوله في حديث عمران بن حصين: فما أيقظنا إلا حرّ الشمس، ولا يكون ذلك إلا بعد تمكّن ارتفاعها إلى أن قال: ومما يبين فساد ما ذهب إليه قوله - صلى الله عليه وسلم - إن هذا وادٍ به شيطان، فجعل ذلك علَّة خروجهم عن الوادي واقتيادهم رواحلهم شيئاً، ولو كان طلوع الشمس مانعاً من الصلاة وموجباً للاقتياد لعلل به، ولقال اقتالوا فإن الشمس طالعة، وأيضاً فإن أبا حنيفة لا يقول بمقتضى هذاالحديث لأنه يجوز عليه أن يصلّي في هذا الوقت صبح يومه، وإنما منع أن يُصلّى فيه غيرها من الفوائت والذي امتنع النبي، - صلى الله عليه وسلم -، من أدائها في الوادي هي صبح ذلك اليوم فلا يتناول الحديث الخلاف معه. المنتقى 1/ 28، وانظر الزرقاني 1/ 36، والفتح 2/ 67 - 68.

الحديث "حَتَّى إذاً ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وَابْيَضَّتْ نَادى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، بِالْصَّلاَةِ" (¬1) وفي تتبع هذه الأوجه كلام طويل لا يليق بهذا القبس. تفريع: لم يختلف أحد من رواة الأحاديث في نوم النبي - صلى الله عليه وسلم -، في الصحيح أنه، - صلى الله عليه وسلم -، لما استيقظ (¬2) أذَّن بالصلاة وأقام لها وفي ذلك خلاف من العلماء (¬3)، وخلاف مذهبي أيضاً، وفي بعض الطرق أذَّن وأقام أو أذَّن (¬4) أو أقام. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) وفي رواية أبي قتادة. يا بِلَالَ، قُمْ فأَذَّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلاةِ، فتوضأ فلما ارتفعت الشمس وابيضّت قام فصلى. البخاري في المواقيت باب الأذان بعد ذهاب الوِقت 1/ 154. وفي رواية أبي داود، في هذا الحديث: وأذَّن بلال فصلوا ركعتي الفجر ثم صلّو الفجر وركبوا. سنن أبي داود 1/ 305. (¬3) قال الشافعي، في القديم، وأحمد وأبو ثور وابن المنذر: يؤذن للفائتة. وقال الأوزاعي ومالك والشافعي، في الجديد: لا يؤذن لها. قال الحافظ والمختار عند كثير من أصحابه (أي الشافعي) أن يؤذن لصحة الحديث وحمل الأذان هنا على الإِقامة متعقب، لأنه عقب الأذان بالوضوء ثم بارتفاع الشمس فلو كان المراد به الإقامة لما أخَّر الصلاة عنها. فتح الباري 2/ 68. وقال ابن عبد البر ولا أذان إلا للمكتوبات ولا يؤذَّن لنافلة ولا لصلاة مسنونة ولا لصلاة مكتوبة فائتة تُقضى في غير وقتها. الكافي 1/ 196. وقال الشارح في المسالك ل 69 بعد حكايه المذاهب والمنصور من هذه الأقوال قول من قال لا يؤذن، والدليل على ذلك أن الأذان إنما هو إعلام للناس بالوقت، ووقت القضاء ليس بوقت إعلام، وأيضاً فإن الأذان، في غير وقته، تخليط على الناس، فإذا أختص بأوقات الصلوات فلم تشرع في الفوائت إذ الفوائت لا تختص بوقت كالنوافل. (¬4) ورد من رواية الحسن عن عِمران بن حصين، عبد أبي داود، ثم أمر مؤذناً فأذن فصلى ركعتين قبل الفجر ثم قام فصلى الفجر. أبو داود 1/ 308. ورواه الحاكم في المستدرك 1/ 274 وقال حديث صحيح على ما قد قدمنا من صحة سماع الحسن عن عمران وكذا صححه الذَّهبي أيضاً. أقول: الحديث فيه الحسن بن أبي الحسن البصري واسم أبيه يسّار، بالتحتانية والمهملة، الأنصاري مولاهم ثقة فقيه فاضل مشهور، وكان يرسل كثيراً ويدلَّس كان يروي عن جماعة لم يسمع منهم فيتجوَّز ويقول حدثنا وخطبنا يعني قومه الذين حدثوا وخطبوا بالبصرة. مات سنة 110 هـ وقد قارب التسعين / ع ت 1/ 165. وقال في ت ت: قال ابن المديني: سمعت يحيى القَطّان وقيل له كان الحسن يقول سمعت عمران بن حصين، وقال ابن المديني وأبو حاتم لم يسمع منه وليس يصح ذلك من وجه يثبت، وقال أحمد لا نعرف له سماعاً من عتبة ابن غزوان ت ت 2/ 268. درجة الحديث: صححه الحاكم والذَّهبي وظاهر كلام الشارح تضعيفه ويترجح لدي ماذهبا إليه بناء على أن أصل الحديث صحيح كما تقدم.

تنبيه على مقصد

واليقين في الأحاديث الصحاح أَوْلى أن يتبع من الشك. كما أنه لا بد من صلاة ركعتي الفجر لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلاهما في الصحيح، قبل صلاة الصبح (¬1) فلا تلتفتوا لرواية تركهما. تكملة: قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، "إنَّ هذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ" نص في وجود الشياطين ولا خلاف فيه بين أهل السنة؛ وهم نوع من الخلق خلقهم الله تعالى ويسّر لهم التبدل في الصور باختيارهم كما يسّر لنا التصرف في الحركات، وسلّطهم على الخلق تسليطاً سبق به الوعد الحق ليتميز في الوجود المطيع من العاصي بفتنته، كما تميّز عند الله، عز وجل، في علمه وكلمته فتسلّط على "بلال" حتى أضجعه وشغله عن الصلاة وفاتت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وللأُمة، وظن الشيطان أنه قد حصل على صفقة، فهيأ الله تعالى لنا فيها سنة لكل من نام عن صلاة أو نسيها وكمل لنا فيها المثوبة، وهكذا يفعل الله تعالى بالأولياء إذا طالبهم الأعداء قد ينفذ مراده فيهم، ولكن يعقبهم بعد ذلك عقبى جميلة حتى يتمنى العدو أنه لم يكن ما أراد. تنبيه على مقصد: قد بينّا أن مالكاً، رحمه الله، قصد، في هذا الكتاب، التبيين لأصول الفقه وفروعه ومن جملتها مسألة ذكرها في مواضع من موطئه وهي: أن شرع من قبلنا شرع لنا لا خلاف عند مالك فيه، وقد نصّ عليه في كتاب الديات (¬2) على ما يأتي إن شاء الله تعالى. والنكتة المشار إليها، في هذا الحديث، قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬3)، وهذا خطاب لموسى، عليه السلام، أعلمنا النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه متوجه إلينا كتوجهه إلى موسى وأمته. اشتراك وتبيين باحتجاج النبيّ: - صلى الله عليه وسلم -، بما في مسألتنا هذه مسألة لغوية وهي إضافة المصدر إلى المفعول المعنى أقم الصلاة إذا اختلف لك الذكر لها، وغير ذلك من ¬

_ (¬1) ورد في صحيح مسلم من رواية أبي قتادة أنه صلى ركعتين ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصلي كل يوم ... مسلم في كتاب المساجد باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها 1/ 473. (¬2) الموطأ: 2/ 864 قال مالك (وجراح اليهودي النصراني والمجوسي في دياتهم على حساب جراح المسلمين فى دياتهم ..). (¬3) سورة طه آية 14.

فائدة

التأويلات طائح لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد بيَّن المراد بها اللهم إلا أن سائر التأويلات لا يعطيها الاشتقاق ويشهد لها سائر الأدلة (¬1). فائدة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله قَبَضَ أَرْوَاحَنَا" (¬2). وقال: "أخذ بِنَفْسِي الَّذِي أخَذَ بِنَفْسِكَ" وقال علماؤنا، رحمة الله عليهم: هذا دليل على أن النفس والروح شيء واحد واسمعوا جعلكم الله ممن يستمع. مسألة: النفس والروح ليس للشريعة فيها تصريح وإنما كلامها كله فيها تلويح حجبها الله تعالى عن الخلق بالغيب. قال إمام الحرمين (¬3): وجعل لهم (¬4) فيها آية في الدلالة ¬

_ (¬1) قال أبو الوليد: اختلف أهل التفسير في معنى قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. فقال مجاهد: معناه وأقم الصلاة لذكري فيها. وقبل أقم الصلاة لأن أذكرك بالمدح. وقيل معناه أقم الصلاة إذا ذكرتني. وقيل معناه أقم حين تذكرها. قال القاصي أبو الوليد: وهذا أبين الأقوال عندي لأن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، احتج بهذه الآية على قوله: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيها فَلْيُصَليهَا إِذَا ذَكَرَهَا". المنتقى 1/ 29. وانظر مختصر تفسير ابن كثير 2/ 471. (¬2) الموطّأ 1/ 14 مالك عن زيد بن أسلم أنه قال. عرَّس رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ليلة بطريق مكة ووكل بلالَاً أن يوقظهم للصلاة فرقد بلال ورقدوا حتى استيقظوا وقد طلعت عليهم الشمس .. يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا .. قال ابن عبد البر: هذا مرسل باتفاق رواة الموطّأ، وجاء معناه متصلاً من وجوه صحاح. نقلاً عن شرح الزرقاني للموطّأ 1/ 35. درجة الحديث: مرسل صحيح الإِسناد وهو بمعنى الحديث السابق. (¬3) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمَّد بن عبد الله بن حيويه الجُوَيْنِي النيسابوري، إمام الحرمين، أبو المعالي، ولد الشيخ أبي محمَّد، ولد سنة 419 - 478 هـ. هو أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي، ولد في جوين بنواحي نيسابور، ورحل إلى بغداد فمكة حيث جاور بها أربع سنين، وذهب إلى المدينة فأفتى ودرس ثم عاد إلى نيسابور فبنى له الوزير نظام الملك المدرسة النظامية. طبقات الشافعية للسبكي 5/ 165. طبقات الشافعية لابن هداية الله الحسين ص 174، وفيات الأعيان 2/ 341، العبر 2/ 291، تبيين كذب المفتري ص 278، المنتظم 9/ 18، قيل تاريخ بغداد 1/ 174، العقد الثمين 5/ 507. (¬4) لم أطلع علي كلام إمام الحرمين في الإِرشاد ولا في العقيدة النظامية المطبوِعة بتحقيق الكوثري، وفكر أنها رواها الشارح عن الغزالي عن الجُوينْي وقد ذكر الجويني أنه ألَّف كتاباً كبيراً في النفس، فقد قال: جمعت كتاباً سميته كتاب النفس وهو يشتمل على قريب من ألف ورقة. العقيدة النظامية ص 59 ولعل هذا الكتاب مفقود، فقد قال الكوثري. لم نره في تراجم المترجمين لحياته.

تعليق

على التوحيد عظيمة، فإن بين جنبيك موجوداً ترى أفعاله مشاهدة ولا تقدر أن تصل إلى درك حقيقته، ولا تحيط بكيفية صفته، فلا تستنكرنّ وجود الإله الذي نشاهد أفعاله ولا سبيل إلى الإحاطة به، ولا تغترنّ بمن يقول هي جسم (¬1) أو عرض (¬2) فإن ذلك كله ضعف في المعرفة ومرض وقد بيَّنا في كتاب المشكلين معنى الأخبار الواردة فيها. تعليق: قال الأستاذ أبو المظفر (¬3) الإِسفرائيني: قال الله تعانى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (¬4) فأخبر تعالى أنه يتوفاها في الوضعين، وقال عز وجل: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (¬5). وقال تعالى في موضع ثالث: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى (¬6) الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} والثلاثة الأحوال المعدَّدة حالة واحدة في الحقيقة، ووجه الجمع بينها أن الله تعالى هو الفاعل الأول الكلي، جعل إلى ملك الموت جزءاً من أفعاله وهو قبض الأرواح قرن به جنوداً من ملائكته وأوعز إليهم أن يتصرفوا بأمره. فإذا أمر الله عَزَّ وَجَلَّ الملك فبادر إلى أمره أعوانه وتولو حينئذ أمر ربهم، فإذا نسبته إلى الأول الحقيقي قلت إن الله قبض أرواحنا وإذا نسبته إلى الواسطة المقدم لذلك قلت: يتوفّاهم ملك الموت، وإذا نسبته إلى المباشرين ¬

_ (¬1) هذا قول النظام، فقال الروح جسم وهي النفس (مقالات الإِسلامين) 1/ 27. (¬2) وقال جعفر بن حرب: النفس عرض من الأعراض يوجد في هذا الجسم، وهو أحد الآلات التي يستعين بها الإِنسان (مقالات الإِسلاميين) 1/ 29. قلت: وما قاله الشارح هنا فيه نظر فإن الروح جسم ولكنه جسم نوراني. يقول ابن القيم، رحمه الله، عن الروح إنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكاً لهذه الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإِرادية: الروح ص 285. (¬3) هو طاهر بن محمَّد الإِسْفَرَايِيني الشافعي الشهير بشاهفور أبو المظفر، مفسر متكلِّم من تصانيفه تاج التراجم في تفسير القرآن للأعاجم، التبصير في الدين، وتمييز الفرقة الناجية من الفرق الهالكين. مات سنة 471 هـ. معجم المؤلفين 5/ 38. طبقات الشافعية 7/ 114. (¬4) سورة الزمر آية 42. (¬5) سورة السجدة آية 11. (¬6) سورة الأنفال آية 50.

الفعل قلت: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} وانتظمت بذلك الآيات الثلاث المختلفات في الظاهر في سلك الانتظام الواحد (¬1). ¬

_ (¬1) يقول المرحوم الشيخ محمَّد الأمين عن هذه الآية {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} الآية. أسند، في هذه الآية الكريمة، التوفي إلى ملك واحد وأسنده في آيات أخر إلى جماعة الملائكة كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} وقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ}، الآية، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} الآية. وأسنده في آية أخرى إلى نفسه، جلَّ وعلا، وهي قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} الآية. والجواب عن هذا ظاهر وهو إسناده التوفي إلى نفسه؛ لأن ملك الموت لا يقدر أن يقبض روح أحد إلا بإذنه ومشيئته تعالى {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا}. وأسنده لملك الموت لأنه هو المأمور بقبض الأرواح، وأسنده للملائكة لأن ملك الموت له أعوان من الملائكة تحت رياسته يفعلون بأمره وينزعون الروح إلى الحلقوم فياخذها ملك الموت، والعلم عند الله. دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ص 236.

باب النهي عن الصلاة في الهاجرة

باب النهي عن الصلاة في الهاجرة هذا وقت أنشأته الحاجة ورخصت فيه الشريعة رفعاً للمشقة، وليس له تحديد في الشريعة إلا ما ورد في حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، أن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -: (كان يصلي الظهر في الصيف من ثلاث (¬1) أقدام إلى أربعة أقدام، وفي الشتاء من خمسة أقدام إلى ستة أقدام) (¬2)، وذلك بعد طرح ظل الزوال. أما إنه وردت فيه إشارة واحدة وهي في الحديث: (كنّا نصلّي الجمعة وليس للحيطان (¬3) ظلّ)، فلعل الإبراد كان ريثما يكون للجدار ظلّ يأوى إليه المجتاز، وهو وقت يختص (¬4)، بالجماعةٌ. فأما الفذ فليس له إلا أول الوقت ويخص الظهر بصلاة الهاجرة ليس للعصر فيه حظٌّ، فلا يلتفت إلى ما اختلف فيه ابن القاسم (¬5) وأشهب (¬6) فإن موضع العصر إبرادها. ¬

_ (¬1) في م الثلاثة. (¬2) أخرجه أبو داود 1/ 282، والنسائيي 1/ 251. درجة الحديث: صحيح. كما قال الدكتور منصور العبدلي في مرويات ابن مسعود، رضي الله عنه, في الكتب الستة وموطّأ مالك 1/ 417. (¬3) متفق عليه البخاري في المغازي باب غزود الحديبية 5/ 159، ومسلم في الجمعة، باب صلاة الجمعة حين نزول الشمس 2/ 589، وأبو داود 1/ 654 كلهم عن سلمة بن الأكوع. (¬4) قال مالك في المدونة، من رواية ابن القاسم: أحب إليّ أن يصلي الظهر في الشتاء والصيف والفيء ذراع. وقال ابن حبيب: أول الوقت أحب إلينا الأوقات كلها للعامة في ذات أنفسها، فأما الأئمة في المساجد والجماعات فذلك على ما هو أرفق بالناس، ويستحب في الصف تأخير الظهر إلى وسط الوقت وما بعده قليلاً، ويستحب تعجيلها في الشتاء في أول الوقت حين تميل الشمس. وقال ابن القاسم: الرجل في خاصة نفسه يستحب له تقديم الصلاة في أول الوقت إذ هو الأفضل. وقال أشهب: تأخير الظهر في الصيف والشتاء إلى أن يفيءَ الفيءُ زرعاً ثم قال. وهذا في غير الحر. أما في الحر فالإبراد بها أحب إلينا ولا يؤخر إلى آخر وقتها. المنتقى 1/ 31. (¬5) عبد الرحمن بن القاسم المصري الفقيه 128 - 191هـ. ت ت 6/ 252، الديباج 1/ 465. (¬6) أشهب 145 - 204. أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم القيسي الفقيه المصري ت ت 1/ 359 الديباج 1/ 307، المدارك 2/ 447، وفيات الأعيان 1/ 78.

فائدة لغوية

فائدة لغوية: قوله: (أبْرِدوا عَنْ الصَّلاَةِ) كلام قلق في الظاهر ونظامه البين. أبردوا الصلاة. يقال: أبرد الرجل إذا دخل زمان البرد أو مكانه ولكنه مجاز عبر فيه بأحد قسمي المجاز وهو التسبب حسب ما بيَّناه في أصول الفقه (¬1)، فكنَّى عن الشيء بثمرته وهو التأخير، وكأنه قال: تأخروا عن الصلاة صيانة لها عن أن يناط بها التأخير لفظاً فكيف فعلاً، وقد قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لعمر، رضي الله عنه: (أَخَّرْ عَنِّي (¬2) يا عُمَرُ) يعني نفسه. نكتة أصولية: قال: اشتكت النار إلى ربها. اختلف الناس هل هذه الشكوى حقيقة بكلام أم هي مجاز عبّر فيها (¬3) بلسان الحال عن لسان المقال (¬4) كما قال الراجز: يشكو إليَّ جملي طول السّرى ... صبراً جميلًا فكلانا مبتلى (¬5) ¬

_ (¬1) قال في أصول الفقه: المجاز على قسمين أحدهما التشبيه كقوله في الشجاع أسد والبليد حمار تشبيهاً للعاقل بغير العاقل، والثاني التسبب وهو على وجهين: أحدهما أن يعبر عن الشيء بمقدمته السابقة له، الثاني أن يعبر عنه بفائدته - أصول الفقه ل/6. قلت: ومراد المؤلف هنا التعبير عن الشيء بفائدته. (¬2) البخاري في الجنائز باب ما يكره من الصلاة على المنافقين 2/ 121، وفي تفسير سورة براءة باب استغفر لهم أو لا تستغفر لهم 6/ 56 والتِّرمِذي 5/ 276، والنسائي 4/ 67 - 68 كلهم من طريق ابن عباس عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال: لما مات عبد الله بن أبيّ بن سلول دُعي له رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ليصلي عليه، فلما قام رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلّي على ابن أبيّ وقد قال يوم كذا وكذا، فتبسم رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ". (¬3) في م فيه. (¬4) قال السيوطي: اختلف هل هو حقيقة بلسان المقال أو مجاز بلسان الحال أوتكلم عنها خازنها أو من شاء عنها، والأرجح حمله على الحقيقة. كذا رجَّحه ابن عبد البر وقال: أنطقها الله الذي أنطق كل شيء. والقاضي عياض وقال: إن الله قادر على خلق الحياة بجزء منها حتى يتكلم أو يخلق لها كلاماً يسمعه من شاء من خلقه. وقال النّووي: جعل الله فيها إدراكاً وتمييزاً بحيث تكلمت بهذا. وقال ابن المنير: استعارة الكلام للحال وان عدت وسمعت لكن الشكوى وتفسيرها والتعليل له والإذن والقبول والنفس وقصره على اثنين فقط بعيد من المجاز خارج عما ألف من استعماله. ورجّح البيضاوي الثاني فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكل بعضها بعضاً مجاز عن ازدحام أجزائها ونفسها مجاز عن خروج ما يبرز منها. تنوير الحوالك 1/ 37 وانظر فتح الباري 2/ 19. قلت: الأولى، في هذا الموضع، الحمل على الحقيقة لأن الله تعالى لا يعجزه أن ينطق النار أو غيرها من المخلوقات والله أعلم. (¬5) البيت انظره في شرح الشافية الكافية لابن مالك تحقيق الدكتور عبد المنعم أحمد هريدي 1/ 361. وانظره في شرح التسهيل 1/ 47.

وفي الحديث أن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كَذَبَ (¬1) عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوأْ بَيْنَ عَيْنَيْ جَهَنَّمَ مَقْعَداً" قالوا. يا رسول الله أَوَ لِجَهَنَّمَ عينان؟ قال: أَوَ مَا سمعتم إلى قوله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (¬2) وفي الخبر الصحيح عن يوم القيامة ¬

_ (¬1) الحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 147 عن أبي أمامة قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ بيْنَ عَيْنَيِّ جَهَنَمَ" فشق ذلك على أصحابه فقالوا. يا رسول الله نحدث بالحديث نزيد وننقص؟ قال: "لَيْسَ أَعْينكُمْ إِنَّما أَعْنِي الذِي يَكْذِبُ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً يطْلُبُ بِهِ شَيْنَ الإِسْلاَمِ". قالوا: يا رسول الله إنك قلت بين عيني جهنم، وهل لجهنم عينان؟ قال: "نَعَمْ أَمَا سَمِعْتُمْ الله تَعَالَى يَقُولُ إِذَا رَأتهُمُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ. فَهَلْ تَرَاهُمْ إِلّا بعَينَيْنِ". وقال رواه الطبراني في الكبير وفيه الأحوص بن حكيم ضعّفه النسائي وغيره ووثَّقه العجلي ويحيى بن سعيد القطان في رواية. قلت: هو في المعجم الكبير 8/ 155. وقد أورده ابن الجَوْزي في الموضوعات من أجل محمَّد بن الفضل، الذي تأتي ترجمته، وقال ابن الجوزي: هذا الحديث لا يصح, لأن محمَّد بن الفضل قد كذّبه يحيى بن معين والفَلّاس وغيرهما. وقال أحمد بن حنبل: ليس بشيء وإنما وضع هذا الحديث من في نيته الكذب. الموضوعات لابن الجوزي 1/ 95، والحديث ضعيف جدًا ولكن أصله صحيح، ومحمد بن الفضل، الذي يدور عليه الحديث، متفق على تركه ونكارة حديثه؛ فقد قال أحمد بن حنبل: ليس بشيء حديثه حديث أهل الكذب، وقال الجَوْزجاني: كان كذّاباً، وقال عمرو بن علي: متروك الحديث كذّاب، وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: ذاهب الحديث تُرك حديثه، وقال مسلم والنسّائي وابن خراش: متروك الحديث، وقال ابن حبان: يروىِ الموضوعات عن الأثبات لا يحل كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار، وقال ابن عدي: عامة حديثه مما لا يتابعه الثقات عليه، مات سنة ثمانين ومائة، وقال الحاكم أبو عبد الله: روي عن ابن إسحاق وداود بن أبي هند أحاديث موضوعة. ت ت 9/ 401، التاريخ الكبير 1/ 208، الضعفاء والمتروكون 303 ديوان الضعفاء 285، المجروحين 2/ 274. الأَحْوَص بن حكيم الدّمشقي قال ابن معين: ليس بشيء، وقال علي بن المديني: وسمعت يحيى بن معين يقول: الأحوص صالح الحديث، وقال السَّعْدي: ليس بالقوي في الحديث، وقال النسائي: ضعيف، وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه وقد حدَّث عنه من الثقات مثل ابن عُيَيْنه وعيسى بن يونس ومروان الفَزاري وغيرهم وليس فيما يرويه شيء منكر إِلا أن يأتي بأسانيد لا يُتابع عليها: مختصر الكامل للمقريزي ل 43 ب. قلت: الحديث ضعيف من هذا الطريق الطريق محمَّد بن الفضل والأحوص بن حكيم. وقد أورده ابن كثير عن رجل من أصحاب رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - بلفظ مماثل للفظ الذي أورده ابن العربي، تفسير ابن كثير 3/ 325. تفسير ابن جرير 18/ 186. درجة الحديث ضعيف. (¬2) سورة الفرقان آية 12.

"فَيَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ فَيَلْتَقِطُ الكُفَّارَ لَقْطَ الطَّائِرِ حَبَّ السُّمْسُمِ" (¬1) يعني يفصلهم عن الخلق في المعرفة كما يَفصل الطائر حب السمسم من التربة. وليس من شرط الكلام عندنا (¬2) والعلم في القيام بالجسم إلا الحياة، فأما الهيئة واللسان والبَلَه فليس من شرطه، وليس أيضاً من شرطه وجود الحياة بالجسم وجود بنية ولا بله، وسمعت شيخنا أبا بكر (¬3) الفِهْرِي يقول بالمسجد الأقصى، أما قوله اشتكت (¬4) النار إذا قلنا إنه حقيقة فليس يحتاج إلى أكثر من وجود الكلام في الجسم. وأما قوله: تحاجت الجنة (¬5) والنارُ فلا بد من وجهد العلم مع الكلام لأن المحاجة ¬

_ (¬1) وأورده القرطبي 7/ 13 بلفظ: يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق يقول وكلت بكل من جعل مع الله إلهاً آخر، فلهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم يلتقطه، وفي رواية: يخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم. وقال: ذكره رزين في كتابه ونقل تصحيح ابن العربي له. وأخرج التِّرمِذي من حديث أبي هُرَيْرة قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْم القِيَامَة لَهَا عَيْنانِ تَبْصران وأُذُنَانِ تَسَمْعَانِ وَلسَانٌ يَنْطُقُ يَقُولُ إِنِّي وُكِّلْتُ بثَلاَثَةٍ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مع الله إلهَاً آخَرَ وَبِالمُصِّورِينَ" قال الترمذي: وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح: السنن للترمذي 4/ 703. وقد أخرجه أحمد من رواية أبي هريرة: 2/ 336. درجة الحديث: صححه الشارح ونقله القرطبي وأقره ويشهد له حديث أبي هريرة الذي قال فيه الترمذي حسن صحيح. (¬2) عندنا: يقصد الأشاعرة. (¬3) الطَّرْطُوشي 451 - 520 هـ. أبو بكر الفِهْرِيّ محمَّد بن الوليد بن خَلَفْ القرشي الفِهْرِيّ الأندلسي، أبو بكر الطرطوشي، ويقال له ابن أبي رندقة، أديب من فقهاء المالكية الحفّاظ من أهل طرطوش بشرقي الأندلس تفقه ببلاده رحل إلى المشرق. وفيات الأعيان 1/ 479، الديباج 4/ 242، شجرة النور 1/ 124، نفح الطيب 1/ 368، آداب اللغة 3/ 108، بغية الوعاة 1/ 77، بغية الملتمس 125. (¬4) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب المواقيت باب الإِبراد بالظهر من شدة الحر عن أبي هريرة - البخاري 1/ 142، ومسلم في كتاب المساجد باب استحباب الإِبراد بالظهر من شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة ويناله الحر في طريقه، مسلم 1/ 431 ولفظه: "إذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأبرِدُوا بالصَّلاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرَّ مِنْ فِيحِ جَهَنَّمَ وَاشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا .. ". (¬5) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب التفسير في تفسير سورة (ق) باب قوله: {وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} 6/ 173، ومسلم في كتاب الجنة باب النار يدخلها الجبارون 4/ 2186، والترمذي 4/ 694 كلهم عن أبي هُرَيُرَة وانظر زاد المسلم 1/ 157. قال القرطبي: يجوز أن يخلق الله ذلك القول فيما شاء من أجزاء الجنة والنار لأنه لا يشترط عقلاً في=

تتميم

تقتضي التفطن لوجه الدلالة قال لنا الإِمام "أبو سعيد الشهيد الزنجاني" (¬1): ألا ترى إلى قول الهدهد {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ} إلى قوله {الْعَظِيمِ} (¬2) فلم يدرك حديث الشمس وزخرفة الشيطان وصدوف (¬3) الخلق عن الحق ووجود الإله ومعرفته بالخفيات واستوائه (¬4) على العرش العظيم إلا بالعلم وهذا هو التوحيد كله. تتميم: قوله (فَأَذِنَ لَهَا في كُلِّ عَامٍ بِنَفْسَيْنِ) إشارة إلى أنها مطبقة محاط عليها بجسم من جميع نواحيها لم يتصور باضطرابها أن يشقه، كما يفعل كل رأي في مجوف حتى النبات في الصخرة الملساء، وكانت الحكمة في النفس عنها إعلام الخلق بأنموذج منها فأشد ما يوجد من الحر حرها وأشد ما يوجد من البرد بردها. فإن قيل: وهل في النار من برد؟ قلنا: هي دار عذاب وعذاب الأبدان هو ابتلاؤها بما يؤلمها، والحَرَّ عند الإفراط يمزق الجلد كما يمزقه البرد، ولهذا سمّت الأطباء نبتاً يقطع اللحمَ "النار البارد" وعبّر عن نوعي العذاب جميعاً بأحدهما كما تفعله العرب كثيراً. ¬

_ = الأصوات أن يكون محلها حياً على الراجح. نقلاً عن فتح الباري 13/ 436. وقال النووي: هذا الحديث على ظاهره وأن الله يخلق في الجنة والنار تمييزاً يدركان به ويقدران على المراجعة والاحتجاج ويحتمل أن يكون بلسان الحال. نقلاً عن فتح الباري 8/ 597. (¬1) ذكره في العواصم 2/ 35 أنه لقاء بالمسجد الأقصى، كما ذكره ابن فرحون في الديبج 2/ 253 والقاضي عياض في الغنية ص 67 والضبي في بغية الملتمس ص 93 والفهرست لابن النديم ص 258 - 259، وذكره الشّارح في المسالك ل/22 ولم أجد له ترجمه. (¬2) سورة النمل آية 24 - 25. (¬3) صدف عنه يصدف أعرض ترتيب القاموس 2/ 807. (¬4) سيأتي الكلام على الاستواء.

باب النهي عن دخول المسجد بريح الثوم

باب (¬1) النهي عن دخول المسجد بريح الثوم ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ أَكَلَ ثُوماً أَوْ بَصَلاً أَوْكَرَّاثاً فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا". وورد الحديث في الصحيح من طريق ابن عمر (¬2) وجابر (¬3) وأنس (¬4) وأبي سعيد (¬5) ووقع طرف منه في حديث سلمة بن الأكوع وهو قوله (أصابتنا مخمصة بخيبر) (¬6) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد كان نهى عن أكل الثوم والبصل فأصابتهم مجاعة بخيبر فوقعوا في زراعة بصل فأكلوها من الجوع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ فَلَا يَقْرَبْ مَسَاجِدَنَا" (¬7) فقال الناس حرمت حرمت، فبلغ ذلك النبيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، فقام - صلى الله عليه وسلم -، فخطب الناس فقال: "يَا أيُّهَا النَّاسُ لَيْسَ لِي تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ الله وَلَكِنَّهَا شَجَرَةٌ أَكْرَهُ رِيحَهَا" (¬8). وذكر النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، في ذلك ثلاثَ علل قوله "يُؤْذِينَا بِرِيحِ الثُّومِ"، وقوله: "فَإِنَّ ¬

_ (¬1) هذه الترجمة وضعها مالك في الموطأ 1/ 17، ووضع تحتها مرسل سعيد بن المسيّب أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هذهِ الشَّجَرَةِ فَلَا يَقْرَب مَسَاجِدَنَا يُؤْذِينَا بِريحِ الثُّومِ" .. وقد وصله مسلم في كتاب المساجد باب نهى من أكل ثوماً أو بصلاً أو كرّاثًا ونحوها، عن ابن المسيب عن أبي هريرة 1/ 394، وابن ماجه من نفس الطريق 1/ 324. (¬2) مسلم في كتاب المساجد في الباب السابق 1/ 394. (¬3) مسلم في كتاب المساجد في الباب السابق 1/ 394 - 395 بعدة روايات. (¬4) مسلم في كتاب المساجد في الباب السابق 1/ 394، والبخاري في الأطعمة باب ما يكره من الثوم والبقول 7/ 105. (¬5) مسلم في كتاب المساجد في الباب السابق 1/ 395. (¬6) متفق عليه البخاري في عدة مواضع منها في كتاب الأدب باب ما يجوز من الشعر والرجز:8/ 43، ومسلم في الجهاد والسير باب غزوة خيبر 3/ 1427 قال خرجنا مع رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، إلى خيبر فتسيّرنا ليلاً فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هنياتك، وكان عامر رجلاً شاعراً فنزل يحدو بالقوم .. فأتينا خيبر فحاصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة .. (¬7) في م مسجدنا وهي رواية أبي هريرة السابقة، وورد في حديث جابر مسجدنا قال الشارح في المسالك ل21 روى يحيى وجماعة مساجدنا وروت طائفة مسجدنا، والمعنى واحد ومساجدنا أعم وإن كان الواحد من الجنس في معنى الجماعة. (¬8) هذا جزء من حديث أبي سعيد السابق.

الملَائِكَةَ تَتَأذَّى بمَا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ"، وذلك يدل على أنهم مركبون من ريش وجسم لا كما تقوله الفلاسفة أنهم بسائط وتقول (¬1) إنهم يكبرون حتى يملأ أحدهم الأفق، ويصغرون حتى يصير أحدهم كالريضيع، ولذنك قال النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، لصاحبه: "كُلْ مِنَ القِدْرِ الَّذِي فِيهَا الخضْرَوَاتِ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي" (¬2)، إشارة إلى أن الملك يأتيه من غير وعد فربما وجده على تلك الحال. وفي الآثار المرسلة "أَنَّ الرَّجُلَ يِكْذُبُ الكِذْبَةَ فَتُبَاعِدُ عَنْهُ المَلَكَ منْ نَتْنِ رِيحِهِ" (¬3)، وذلك كثير في الشريعة. والعلة الثالثة قوله: فَلَا يَقْرُبْ مَسَاجِدَنَا وَمَسْجِدَنا، فذكر الصفة في الحكم وهي المسجدية، وذكر الصفة في الحكم تعليل لأن الأسماء التي علّقت عليها الأحكام على قسمين: أحدهما مشتق والآخر جامد. فإذا علق الحكم على اسم مشتق أفاد الحكم والعله كقوله أكرم العالم ومعناه لعلمه. وإذا كان الاسم جامداً لم يفد إلَّا ما قيَّدته الإِشارة وهو بيان المحل كقوله أكرم زيداً. وعلى القسم الأول جاء قوله سهى فسجد وزنا فرجم وقتل فقتل (¬4) وهذا يدل على مسألة حسنة من أصول الفقه وهي تعلُّق الحكم الشرعي بعلل كثيرة كامتناع من وطئ الحائض المحرمة الصائمة بخلاف العلل العقلية فإن الحكم لا يتعلق منها إلا بواحدة. ¬

_ (¬1) ليست في بقية النسخ. (¬2) مسلم في كتاب المساجد باب نهى من أكل ثوماً أو بصلاً أو كرّاثاً أو نحوها 1/ 395 من حديث جابر بن عبد الله. (¬3) رواه التَّرْمذي بلفظ: إذاَ كذبَ العَبْدُ تَبَاعَدَ عنهُ المَلَكُ مِيلاً مِنْ نَتَنِ مَا جَاء بِهِ. قال التِّرمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه تفرد به بن عبد الرحيم بن هارون، سنن التِّرمذي 4/ 348. وعزاه الزُبَيْدي في شرح إحياء علوم الدين لابن أبي الدنيا في الصمت. إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 7/ 515، وأبو نعيم في الحلية وقال: غريب من حديث عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر تفرد به عبد الرحيم بن هارون الغساني. الحلية 8/ 197. وعبد الرحيم هذا قال فيه الحافظ عبد الرحيم بن هارون الغساني أبو هشام الواسطي نزيل بغداد ضعيف، كذبه الدارقطني من التاسعة مات بعد 200 هـ ت 1/ 505 وقال في ت ت قال أبو حاتم مجهولاً لا أعرفه وروى له ابن عدي أحاديث منها عن ابن أبي روّاد عن نافع عن ابن عمر الحديث وساق فيه كلام الدارقطني ت ت 6/ 308، الكاشف 2/ 194، والكامل 5/ 1921 - 1922. درجة الحديث: ضعيف. (¬4) انظر في هذا المبحث روضه الناظر لابن قدامة 157، شرح التنقيح ص 390، إرشاد الفحول ص 211.

ترجمة فائدة

ترجمة فائدة (¬1): إدخال مالك هذا الباب في هذا الموضع أنه لما بيّن أوقات الصلوات للواحد والجماعات وذكر التخصيص عليها وعلم أنها تتعلَّق بمحلين زمان، وهو الذي بين ومكان وهو المسجد أراد أن يفيدك أن صلاة الجماعة ليست بفرض إذ لو كانت فرضاً لما جاز أن يتخلف عنها بأكل الثوم. فإن قيل لا يمتنع أن يسقط المباح الفرض كالسفر يسقط الصوم وشطر الصلاة، قلنا: السفر لم يسقط الصوم ولا الصلاة وإنما نقلها إلى بدل بخلاف أكل الثوم فإنه يسقط الجماعة رأساً فدل على أنها ليست بفرض. لَحَق. قوله: "يُؤذينا بِريحِ الثُّومِ" المساجد على ضربين مختطة كمصلى العيدين ومصلى المسافرين إذا نزلوا، ومبنية كسائر المساجد، فإن كانت المساجد مختطة تعلَّق الحكم بعلتين إذاية الملائكة وإذاية الإِنس لأن المسجد المختط غير المبني لا حرمة له، إنما الحرمة للمختط المبني، ولذلك قلنا إنه لا يدخل آكل الثوم مجالس العلم ولا مشاهد الرأي والمشورة في الحرب، نعم ولا الأسواق المختلطة التىِ لا يمكن أحد أن ينفصل من موضعه إلا بتبديد تجارته (¬2). والدليل على صحة ذلك قول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في الصحيح كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وَجَدَ رِيحَهَا مِنْ أَحَدٍ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى البَقِيعَ" (¬3). تحقيق لغوي شرعي: قوله: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ الخَبِيثَةِ" الخبث في اللغة عبارة عن كل ما لا يلائم الحاستين الشم والذوق ويستعار في غير ذلك. والخبيث في الشريعة (¬4) عبارة في الأطعمة عن المحرم وهو معنى قوله: {وَيُحَرِّمُ ¬

_ (¬1) في (م) ترجمه بواحدة أما (ك) و (ص) فما فيهما مثل الأصل وهو الأوْلى. (¬2) في "م" يترك. (¬3) مسلم في كتاب المساجد باب نهى من أكل ثوماً أو بصلاً أو كرّاثاً أو نحوها 1/ 396 من طريق مَعْدان بن أبي طلحة أن عمر خطب يوم الجمعة فذكر نبيّ الله، - صلى الله عليه وسلم -، وذكر أبا بكر .... (¬4) قال ابن الأثير: الخبيث: النجس , النهاية: 2/ 4. وقال ابن منظور: قال ابن الأعرابي: أصل الخبث في كلام العرب المكروه فإن كان من الكلام فهو الشَّتم، وإن كان من المِلَل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار. لسان العرب: 2/ 144.

العمل في الوضوء

عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬1) يريد يحرم عليهم المحرمات أي بعينها. وقال غير مالك من العلماء معنى الخبائث ههنا كل مستكرهٍ، وقد بينا تحقيق الآية في كتاب الأحكام (¬2). العمل في الوضوء: ذكر مالك حديث عبد الله بن زيد (¬3)، وروى وضوء رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، جماعة منهم عبد الله ومنهم عثمان (¬4) وعلي (¬5) وعبد الله ابن عباس (¬6) وجماعة هؤلاء أصولهم. والوضوء ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، آية 157. (¬2) أما إحالته على كتاب الأحكام فقد تكلم هنا باختصار فقال: الخبيث فيه قولان. أحدهما الكافر، والثاني الحرام. والطيب فيه أيضاً قولان. المؤمن، والثاني الحلال، الأحكام: 2/ 696 وقد تكلم القرطبي على الآية كلاماً حيداً فقال: مذهب مالك أن الطيبات هنَّ المحلّلات فكأنه وصفها بالطيب إذ هي لفظة تتضمن مدحاً وتشريفاً، وبحسب هذا نقول في الخبائث إنها المحرّمات ولذلك قال ابن عباس: الخبائث هي لحم الخنزير والربا وغيره، وعلى هذا حلَّل مالك المتقذرات كالحيّات والعقارب والخنافس ونحوها. ومذهب الشافعي أن الطيبات هي من جهة الطعم إلا أن اللفظة عنده ليست على عمومها لأن عمومها بهذا من الطعم يقتضي تحليل الخمر والخنزير بل يراها مختصة فيما حلّله الشرع، ويرى الخبائث لفظاً عاماً في المحرمات بالشرع وفي المتقذرات فيحرم العقارب والخنافس والوزع وما جرى هذا المجرى والناس على هذين القولين. القرطبي: 7/ 300، وقريب من هذا قال ابن عطية في تفسيره: 7/ 180، وانظر زاد المسير 3/ 273. (¬3) متفق عليه البخاري في كتاب الوضوء، باب مسح الرأس كله: 1/ 58، ومسلم في الطهارة، باب وضوء النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: 1/ 210، والتَّرْمذي: 1/ 66، والنّسائي: 1/ 71، وهو الذي ترجم عليه مالك في الموطّأ: 1/ 18، ولفظه من طريق يحيى المازني عن أبيه عن عبد الله بن زيد بن عاصم، وهو جد عمرو بن يحيى، وكان من أصحاب رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد بن عاصم نعم فدعا بوضوء فأفرغ على يديه .. (¬4) متفق عليه، البخاري في كتاب الوضوء، باب الوضوء ثلاثاً ثلاثاً: 1/ 51، ومسلم في الطهارة، باب صفة الوضوء وكماله: 1/ 204، وأبو داود: 1/ 78 والنّسائي: 1/ 64، مختصراً ومطوَّلاً: 1/ 80، وأحمد: 1/ 59. (¬5) أبوداود: 1/ 82، والترمذي 1/ 63، مختصراً وفي: 1/ 67، وقال حسن صحيح، والنّسائي: 1/ 67 - 70، وابن ماجه: 1/ 142، وأحمد في المسند: 1/ 125، وابن خزيمة: 1/ 76. درجة الحديث: جوَّد إسناده الشيخ البنا في الفتح الرباني: 2/ 8، ونقل تحسينه عن الحافظ وصحّحه الشيخ أحمد محمَّد شاكر في تعليقه على الترمذي 1/ 67. (¬6) البخاري في كتاب الوضوء، باب الوضوء مرة مرة: 1/ 51، وأبو داود: 1/ 95، والترمذي: 1/ 60، والنسائي: 1/ 62، وابن ماجه: 1/ 143، وأحمد. انظر الفتح الرباني: 2/ 47.

أصل في الدين وطهارة المسلمين وخصيصة لهذه الأمة في العالمين، وقد روي أن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -: "تَوَضَّأَ فَقَالَ: هذَا وُضُوئي وَوُضُوءُ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي وَوُضُوءُ خَلِيلِي إِبْرَاهِيمَ" (¬1) ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف من طريق عبد الرحيم بن زيد العَمِّي عن أبيه عن معاوية بن قرَّة عن ابن عمر قال: توضأ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، واحدة واحدة فقال: هَذَا وُضوء مَنْ لَا يَقْبَلُ الله مِنْهُ صَلاَةً إلا بِه، ثم توضأ ثنتين ثنتين، وثلاثاً ثلاثاً .. ، سنن ابن ماجة: 1/ 145. أقول: في الحديث عبد الرحيم بن زيد العَمّي، بفتح المهملة وتشديد الميم، البصري، أبو زيد، كذبه ابن معين. مات بعد سنة 184/ ق. ت 1/ 504، وقال في ت ت: قال أبو حاتم. حديثه منكر، وقال أبو داود: ضعيف، وقال النسّائي: متروك الحديث، وقال ابن عدي: يروي عن أبيه عن شقيق عن عبد الله غير حديث منكر وله أحاديث لا يتابع عليها، وقال ابن معين: كذّاب خبيث ت ت: 6/ 305، انظر الكامل: 5/ 1920، الكاشف: 2/ 193. كما أن فيه: زيد الحواري أبو الحواري العَمَّي البصري قاضي هرات، يقال اسم أبيه مُرَّة ضعيف من الخامسة أ. ت 1/ 274 وقال في ت ت روى عن أنس وسعيد بن المسيّب وأبي وائِل وسعيد بن جبير .. وعنه ابناه عبد الرحمن وعبد الرحيم وشعبة والثوري والأعمش وغيرهم. قال ابن معين وأبو حاتم ضعيف، وقال أبو زرعة ليس بالقوي، وقال ابن عدي عامة ما يرويه ضعيف، وقال ابن حبان روى عن أنس أشياء موضوعة، ت ت 3/ 407 وانظر الكامل: 3/ 1055، المجروحين: 1/ 309، تهذيب تاريخ ابن عساكر: 6/ 5، الميزان: 2/ 102، وفيه أيضاً معاوية بن قرة بن إياس بن هلال المزني أبو إياس البصري ثقة عالم من الثالثة، مات سنة 113 وهو ابن 76/ع. ت 2/ 261، قال ابن أبي حاتم لم يلقَ ابن عمر، العلل: 1/ 45، وكذا قال الحاكم في المستدرك: 1/ 150، وانظر ت ت: 10/ 216 - 217. والحديث رواه الإِمام أحمد في المسند: 8/ 87، ورقم 5735 من طريق أبي إسرائيل عن زيد العَمِّي عن ابن عمر. وأبو إسرائيل هو إسماعيل بن خليفة العَبْسِي، بالموحدة، أبو إسرائيل الملائِي كوفي معروف بكنيته، وقيل اسمه عبد العزيز، صدوق سيء الحفظ نسب إليه الغلوفي التشيُّع من السابعة، مات سنة 179 وله أكثر من 80 سنة ت ق ت 1/ 69، وقال العقيلي في حديثه وهم واضطراب وله مع ذلك مذهب سوء، وقال ابن عدي عامة ما يرويه يخالف الثقات ت ت 1/ 293، وانظر الضعفاء: 1/ 75، والكامل: 1/ 285، وقال ابن حبان كان رافضياً يشتم أصحاب رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، المجروحين: 1/ 124. ورواه الدَّارْقطني من نفس الطريق التي سبقت عند الإِمام أحمد، سنن الدارقطني: 1/ 81، ورواه أبو داود الطيالسي عن سلّام الطويل عن زيد العَمِّي عن معاوية بن قرّة عن ابن عمر، مسند الطيالسي ص 260. وسلّام، بتشديد اللام، بن سليم أو سلم أبو سليمان، ويقال له الطويل المدائني، متروك من السابعة. مات سنة 177/ ق. ت 1/ 342 ت. وقال في ت ت قال أحمد روى أحاديث منكرة وكذا قال ابن معين، وقال البخاري تركوه، وقال مرّة تكلموا فيه، وقال النسائي متروك ومرة قال ليس بثقة ولا يكتب حديثه ت ت 4/ 281 - 282، ورواه البيهقي في السنن الكبرى: 1/ 80، من طريق سلّام عن زيد العَمِّي عن =

وذلك لا يصح وهو مشروع في الدين على ستة أقسام، وضوء للدعاء، ووضوء لرد السلام، ووضوء للنوم، ووضوء لقراءة القرآن عن ظهر قلب ووضوء للدخول على الأمراء ووضوء للفضيلة وتجديد العبادة والأصل وضوء الحدث، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ...} (¬1) الآية. وقد اختلفت آراء علمائنا، في هذا التقسيم، اختلافاً طال معه الكلام، والذي يرتبط فيه المرام أن الرجل إذا توضأ بنية رفع الحدث الطارئ عليه فإنه يجوز له أن يفعل كل شيء كان الحدث مانعاً منه، ولا خلاف فيه بين علمائنا، إلا أنه قد ذكر القاضي أبو الحسن (¬2) بن القصّار أن رفع الحدث إن كان مطلقاً صح هذا القول وإن كان مقيداً- بفعل لم يجز إلا ذلك الفعل، متل أن يتوضأ للظهر قال فلا يجوز له أن يصلي به العصر وهذا قول ساقط لأن الحدث ليس بمحسوس وإنما معناه المنع، وإذا زال المنع لم يعد إلا بعود سببه. وأما الوضوء بنية الأقسام المتقدمة فإن الصلاة وأمثالها مما يمنع الحدث منه تجوز به لأنه إنما توضأ ليكون على أكمل الأحوال فيقول في النوم ألقي ربي على طهارة إن مت، ويقول في الدخول على الأمير لا أدري قدر ما أحتبس فربما تحين الصلاة فتجدني طاهراً، وأما ذكر الله فيقول لا أتكلم به إلا على طهرٍ. فأي خلاف يتصور في هذا لولا الغفلة عن وجوه النظر، يبقى وضوء الفضيلة. ¬

_ = معاوية بن قَّرة عن ابن عمر وقال هكذا روى عبد الرحيم بن زيد العَمِّي عن أبيه وخالفهما غيرهما وليسوا في الرواية بأقوياء والله أعلم. درجة الحديث: ضعيف. فقد قال أبو حاتم لا يصح هذا الحديث عن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -. وسئِل أبو زرعة عن هذا الحديث فقال هو عندي حديث واهٍ ومعاوية بن قرَّة لم يلقَ ابن عمر. العلل لابن أبي حاتم: 1/ 45، وقد وهم الهَيْثَمي، رحمه الله، في مجمع الزوائد: 1/ 230 بعد عزوه لأحمد فقال فيه زيد العمِّي وهو ضعيف، وقد وثق وبقية رجاله رجال الصحيح، وفات عليه أن أبا إسرائيل ما روى له أحد من أصحاب الصحيحين، وقد طعن فيه كثيراً، وقد قدّمنا ترجمته. والحق أن كل الطرق السابقة ضعيفة فقد ذهب إلي ذلك المرحوم الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند حديث رقم (5735)، وقبله شيخ الإِسلام ابن تيمية في الاختيارات ص 11، فقال ضعيف عند أهل الحديث. (¬1) سورة المائدة، آية (6). (¬2) هو علي بن أحمد البغدادي أبو الحسن المعروف بابن القصّار تفقه بالأبْهَرِي. قال الشيرازي: له كتاب المسائل لا أعرف لهم (أي المالكية) كتاباً في الخلاف أحسن منه، طبقات الفقهاء للشيرازي ص 168، وانظر الديباج: 2/ 100، شجرة النور الزكية: 1/ 92، وفيها أنه توفي سنة 398.

وهم وتنبيه وقع في الموطأ

قال سحنون (¬1) ومحمد بن عبد الحكم (¬2): لا يصلي به إن كان تبيَّن أنه كان محدثاً، وقال أَشْهب (¬3): يجزيه. وقد روي الوجهان عن مالك، رضي الله عنه، والصحيح أنه لا يجزيه لأنه لم ينوِ الطهارة والإِباحة وإنما نوى الكمال والفضيلة. وهم وتنبيه وقع في الموطّأ: مالك بن أنس عن عمرو بن يحيى المازني (¬4) عن أبيه (¬5) أنه قال لعبد الله ابن زيد بن عاصم، وهو جد عمرو بن يحيى، وهذا وهم قبيح من يحيى (¬6) بن يحيى وغيره، وأعجب منه أنه سئل عنه ابن وضّاح (¬7)، وكان من الأئمة، فقال هو جده لأمه ورحم الله من انتهى إلى ما سمع ووقف دون ما لا يعلم وكيف جاز هذا على ابن وضّاح، والصواب في المدونة التي كان يقرئها ويرويها عن سحنون، وهي بين يديه ينظر في كل حين فيها. وصواب الحديث مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد، وهذا الرجل هو عمارة بن أبي حسن المازني جد عمرو بن يحيى (¬8)، والوضوء يكون في الخمسة ¬

_ (¬1) سَحْنُون 160 - 240 هـ. عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنَّوخِي الملقب بسحنون، انتهت إليه الرياسة في العلم بالمغرب، الديباج: 2/ 30، شجرة النور: 1/ 69. المدارك: 2/ 584، الأعلام: 2/ 520. (¬2) ابن عبد الحكم 182 - 268 هـ. محمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، أبو عبد الله فقيه عصره، انتهت إليه الرياسة في العلم بمصر وقد مات بها، الديباج: 2/ 163، شجرة النور: 1/ 67، الأعلام: 7/ 94. (¬3) اشهب بن عبد العزيز بن داود أبو عمرو صاحب مالك، قال الشافعي: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب ... ولد سنة 145 - توفي سنة 204. انظر طبقات الفقهاء للشيرازي ص 99، الأعلام 1/ 335. (¬4) عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني المدني، ثقة من السادسة، روى له/ ع. ت 2/ 81، ت ت 8/ 118، الخلاصة: 1/ 294. (¬5) يحيى بن عمارة بن أبي حسن الأنصاري المدني، ثقة من الثالثة/ ع ت/ 354، الخلاصة: 1/ 426. (¬6) يحيى بن يحيى بن كثير الليثي مولاهم أبو محمَّد صدوق فقيه قليل الحديث وله أوهام، مات سنة 234 هـ على الصحيح وعمره 80 سنة، ت 2/ 360، ت ت 11/ 300، الديباج: 2/ 352. (¬7) ابن وضّاح 199 - 286 هـ. محمَّد بن وضّاح بن يزيغ أبو عبد الله، مولى عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، محدِّث من أهل قرطبة فهرس ابن خير 150 و255، 274، لسان الميزان: 6/ 415، بغية الملتمس: 123، الأعلام: 7/ 358. (¬8) انظر المدوَّنة: 1/ 2، وانظر كلام ابن عبد البر وابن دقيق العيد على الموضوع في تنوير الحوالك: 1/ 39،=

الأعضاء الأول الكفان وليس غسلهما مشروعاً لنفسه وإنما هو للتأهب للوضوء به. قال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - "إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ في الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثاً فَإِنَ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" (¬1)، فأمر بغسلها استظهاراً وقد كنا نقول كما قال أحمد (¬2) وإسحاق (¬3) إن غسلها واجب إلا أن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، أعقب الأمر الأول في الحديث بقوله فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده فعلل بالشك، والشك لا يوجب حكماً في الدين بيد أنه لما واظب عليها النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، في جميع وضوئه، وبدأ بهما في كل حالة من أحواله، عدها العلماء من جملة الوضوء وحسبوها من جملة الأعضاء اقتداء بفعل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فيها ومحافظة عليها حتى قال علماؤنا: لو أن رجلاً غسل يديه ووجهه ثم عرض عليه الحدث في أثناء الوضوء وجب عليه أن يبتدىء الوضوء، واستحبوا له أن يعود إلى غسل يديه لأنهما من جملته. العضو الثاني: الوجه. قال الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬4). ¬

_ = وفتح الباري: 1/ 290، فقد قال الحافظ والذي يجمع هذا الاختلاف أن يقال اجتمع عند عبد الله بن زيد أبو حسن الأنصاري، وابنه عمرو، وابن ابنه يحيى بن عمارة بن أبي حسن فسألوه عن صفة وضوء النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وتولى السؤال منهم له عمرو بن أبي حسن فحيث نسب إليه السؤال كان على الحقيقة، ويؤيده رواية سليمان ابن بلال عند المصنف (أي البخاري) في باب الوضوء من التور، قال حدثني عمرو ابن يحيى عن أبيه قال: كان عمي، يعني عمرو بن أبي حسن، يكثر الوضوء فقال لعبد الله بن زيد أخبرني فذكره. وحيث نسب السؤال إلى أبي حسن فعلى المجاز لكونه كان الأكبر وكان حاضراً، وحيث نسب السؤال ليحى بن عمارة فعلى المجاز أيضاً لكونه ناقل الحديث وقد حضر السؤال، فتح الباري: 1/ 290، وانظر كلام الشارح في المسالك ل 24. (¬1) متفق عليه فقد أخرجه البخاري في الوضوء، باب الاستجمار وتراً: 1/ 52، ومسلم في الطهارة، باب كراهية غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثاً: 1/ 233، والموطّأ: 1/ 21، وشرح السنة: 1/ 406، كلهم عن أبي هريرة. (¬2) قال في كشاف القناع: فإن كان قائماً من نوم الليل الناقض للوضح فغسلهما ثلاثاً واجب تعبداً كغسل الميت لحديث إذا استيقظ أحدكم ولكون غسلهما واجباً تعبداً وجب ولو باتتا مكتوفتين أو في جراب ونحوه: كشاف القناع: 1/ 103، والمبدع: 1/ 46. وقال ابن هبيرة اتفقوا على استحباب غسل اليدين عند القيام من نوم الليل ثم اختلفوا في وجوبه فقالوا إنه غير واجب إلا أحمد في إحدى الروايتين عنه فإنه أوجبه. الإفصاح: 1/ 71. (¬3) وقال إسحاق: يجب غسل اليدين سواء قام من نوم الليل أو من نوم النهار، وهو قول داود ومحمد بن جرير وقالوا إذا أدخل اليد في الإناء قبل الغسل تنجس الماء. شرح السنة: 1/ 407. (¬4) سورة المائدة، آية 6.

واختلف العلماء هل يتناول هذا الأمر باطن الفم والأنف أم لا؟ فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق وغيرهما إلى وجوب (¬1) ذلك، وقال عامة الفقهاء لا يجب ذلك لأن الأمر إنما يتناول الظاهر دون الباطن، والعرب لا تسمي وجهاً إلا ما وقعت به المواجهة (¬2)، ولكن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، واظب عليهما بالمضمضة والاستنشاق فكان ذلك مأخوذاً من فعله، وقد قال النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، للأعرابي: "تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ الله تَعَالَى" (¬3) فأحاله على القرآن. ¬

_ (¬1) انظر المغني لابن قدامة: 1/ 88، وتفسير القرطبي، 6/ 84، تفسير ابن كثير 2/ 25، فتح القدير للشوكاني: 2/ 16. (¬2) الوجه مستقبل كل شيء، ج أوجه ووجوه، ونفس الشيء ومن الدهر أوله، ومن النجم ما بدا لك منه، ومن الكلام السبيل المقصود وسيد القوم ج وجوه كالوجيه ج وجهاء. ترتيب القاموس: 4/ 579. (¬3) رواه أبو داود من طريق إسحاق بن أبي طلحه عن علي بن يحيي بن خلاد، ومن طريق محمَّد بن عمرو عن علي أيضاً، ومن طريق محمَّد بن إسحاق قال حدثني علي بن يحيي، وكذلك من طريق إسماعيل بن جعفر أخبرني يحيي بن علي سنن أبي داود: 1/ 536 - 538، والنسَّائي من طريق إسحاق بن عبد الله: 2/ 225، وكذلك ابن ماجه: 1/ 156، والبيهقي في السنن الكبرى: 1/ 44 ورواه الترمذي من طريق إسماعيل بن جعفر عن يحيي بن علي بن خلاد: 2/ 100، والحاكم في المستدرك من طريق داود بن قيس. قال ثنا علي بن يحيي بالمستدرك: 1/ 242، ونقل البيهقي: 2/ 373 اختلاف الرواة في إسناد الحديث ورجح بعضها، ثم ساق بسنده عن محمَّد بن عجلان عن علي بن يحيي من آل رفاعة عن أبيه عن عم له بَدْري أنه حدّثه أن رجلاً دخل المسجد فصلّى ورسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يرقبه ... إلى أن قال ورواه محمَّد بن إسحاق ابن يسار عن علي بن يحيي بن خلاد بن رافع عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع، وكذلك قاله داود بن قيس عن علي بن يحيي بن خلاد، ورواه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحه عن علي بن يحيي من رواية همام ابن يحيي عنه وقصر به حماد بن سلمة فقال عن إسحاق عن علي بن يحيي بن خلاد عن عمه، وقال محمَّد ابن عمرو عن علي بن يحيي بن خلاد عن رفاعة بن رافع، والصحيح رواية من تقدم، ووافقهم إسماعيل بن جعفر عن يحيي بن علي بن يحيي بن خلاد بن رافع الزَّوْرَقي عن أبيه رفاعة بن رافع، وقصر بعض الرواة عن إسماعيل في نسب يحيي وبعضهم في إسناده، فالقول قول من حفظ والرواية التي فكرناها موافقة للحديث الثابت عن أبي هُرَيْرَة. أقول: الحديث فيه يحيي بن علي بن يحيي بن خلاد بن رافع الأنصاري الزورقي المدني، مقبول من السادسة، مات سنة 129/ دت س، ت 4/ 352 وقال في ت ت: روى عن أبيه عن جده وعنه إسماعيل بن جعفر، ذكر هذا ابن حبان في الثقات وأنه هو وجماعة أرَّخوا وفاته سنة 129 ت ت 11/ 259، وقال في 11/ 204 في ترجمة يحيي بن خلاد قيل إنه وُلِدَ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، روى عن رفاعة بن رافع وعمر بن الخطاب وعنه ابنه علي بن يحيي وابن يحيي بن علي إن كان محفوظاً، ذكره ابن حبان في الثقات وقال أبو بكر بن أبي عاصم مات سنة 128، وقال الراقدي 129، فإن صح هذا وأنه ولد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد بلغ 120 سنة أو أكثر , قلت: هذه النتيجة الفاسده من تلك المقدمه الباطله وذلك أن ابن أبي عاصم إنما أرَّخ =

العضو الثالث: اليدان، وقد ذكرهما الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه وحدهما بتحديده فقال: {إِلَى الْمَرَافِقِ}. واختلف الناس في دخول المرافق في التحديد وأطالوا في ذلك الكلام وما فهم أحد مقطع المسألة إلا القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب (¬1) فإنه قال: إن قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} حد للمتروك من اليدين لا المغسول منهما وبذلك تدخل المرافق في الغسل (¬2). العضو الرابع: الرأس، وهو رأس في مسائل الوضوء اختلف العلماء في تقدير مسحه على أحد عشر قولاً: ثلاثة لأبي حنيفة (¬3)، وقولان للشافعي (¬4)، وستة أقوال لعلمائنا، والصحيح منها واحد (¬5) وهو وجوب تعميمه لأن الله، عز وجل، لما قال: {فَاغْسِلُوا ¬

_ = وفاة يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد في السنة المذكورة، وأما جده صاحب الترجمة فلم يتعرض له وكذلك الواقدي. درجة الحديث: حسنّه الترمذي ولعل ذلك بناء على أن له شاهداً من حديث أبي هريرة متفق عليه، البخاري في صفة الصلاة، باب أمر النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، الذي لا يتم ركوعه بالإعادة: 2/ 229، ومسلم في الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة: 1/ 298. (¬1) عبد الوهاب: 362 - 422 هـ. وهو ابن علي بن نصر البغدادي، أبو محمَّد، قاضٍ من فقهاء المالكية، ولد ببغداد وولِّي القضاء بالعراق وتوجه إلى مصر فعلت شهرته وتوفي فيها. الديباج 2/ 26، شجرة النور الزكية 1/ 103 - 104 ترتيب المدارك: 4/ 691، تاريخ بغداد: 11/ 31، فوات الوفيات: 2/ 21، طبقات الفقهاء للشيرازي: 168، حسن المحاضرة 1/ 314. (¬2) قال القاضي عبد الوهاب: إدخال المرفقين في غسل اليدين واجب خلافاً لزفر وغيره, لأنه، عليه السلام، كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه ولأنه عضو مغسول كالعينين، الإشراف على مسائل الخلاف: 1/ 8. (¬3) قال ابن العربي في الأحكام: قال أبو حنيفة بمسح الناصية، وأن الفرض أن يمسح الربع الرواية الثالثة له لا يجزيه إلا أن يمسح الناصية بثلاث أصابع أوأربع، الأحكام: 2/ 566. (¬4) قال الشافعي: إنه إن مسح منه شعرة واحدة أجزأه الثاني ثلاث شعرات، الثالث ما يقع عليه الاسم (وانظر أحكام القرآن للكيا الهراسي: 3/ 85)، وقال مالك بمسح الجميع، القول الثاني إن ترك اليسير من غير قصد أجزأه الثالث إن ترك الثالث أجزأه الرابع، وإن مسح ثلثه أجزأه الخامس، إن مسح مقدمه أجزأه. الأحكام: 2/ 566، وقد رجح مسح الكل بعدة مرجحات توجد هناك. (¬5) قال القاضي عبد الوهاب والفرض من الرأس إيعابه خلافاً لأبي حنفية والشافعي لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، والحكم إذا علق باسم وجب استيفاء ما يتناوله، كل رغيفاً وأعطِ درهماً، ولأن الصيغة عموم بدليل حسن تقدير الاستثناء فيه ودخول التخصيص عليه وتم تأكيده بألفاظ العموم، ولأنه عضو ورد الظاهر به مطلقاً من غير تحديد فأشبه الوجه، ولأنه عضو من أعضاء الوضوء فلم يتعلق فرضه بأقل ما يقع عليه الاسم أو بالربع كسائر الأعضاء، ولأنه لو كان له أصل في الوضوء لكان التيمم أولى به ولأنه عضو يعتد بمباشرته في المسح فوجب إيعابه كالوجه في التيمم، الإشراف على مسائل الخلاف: 1/ 8.

وُجُوهَكُمْ} فوجب غسل الجميع بظاهر القرآن، لذلك قال وأمسحوا برؤوسكم فوجب مسح جميع الرأس بظاهر القرآن أيضاً. فإن قيل فما فائدة دخول الباء ههنا فعن ذلك جوابان: أحدهما: أنا نقول فائدتها ههنا، فائدتها في قوله في التيمم فامسحوا بوجوهكم فلو كان مقتضاها التبعيض لافادته في ذلك الموقع وهذا قاطع لهم في كل جواب يحاولونه. الثاني: أن أحداً من المحققين لم يخطر بباله أن الباء للتبعيض لكن أفادت ههنا فائدة بديعة وهي أن الغسل لغة يقتضي مغسولاً به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحاً به. فلو قال امسحوا رؤوسكم لم يفد ذلك ممسوحاً به ولا جزأ مسح اليد على الرأس كذلك مطلقاً فدخلت الباء لتفيد معنى متعلقاً به، وهو الممسوح به وهو الماء فيكون تقديرها وامسحوا برؤوسكم الماء، وذلك فصيح في اللغة على وجهين: أما على القلب كما أنشدوا: كنواحِ (¬1) ريش حمامة نجدية ... ومسحت باللثتين عصف الأثمد (¬2) وإما على الاشتراك في الفعل والتساوي في نسبته كقول الشاعر: مثل القنافذ هداجون قد بلغت ... نجران أو بلغت سوآتهم هجر (¬3) فإن قيل فقد روي: "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ" (¬4). قلنا. هذه حكايته حال وقضية عين وحكايات الأحوال لا تحمل على العموم ولا يحتج بها في الإِطلاق، ولعل النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، فعل ذلك لعذر بدليل أن كل من وصف وضوءه في ¬

_ (¬1) البيت كما أنشده سيبويه لخفاق بن نديه السلمي، شرح أبيات سيبويه، تحقيق الدكتور محمَّد علي سلطان: 1/ 416. (¬2) والأثمد: الكحل المعروف، والكحل حجارة تؤخذ من معدن من المعادن وليس بشيء يثبت فيكون له ورق ولم يكن الأثمد من الأشياء التي تكون في بلاد العرب فهم لا يقفون على حقيقته شرح أبيات سيبويه: 1/ 416. (¬3) البيت كما في ديوان الاخطل: 1/ 209. على العبارات هداجون قد بلغت- نجران أو بلغت سوآتهم هجر. (¬4) متفق عليه، البخاري في الوضوء، باب الرجل يوضىء صاحبه: 1/ 56، والمسح على الخفين: 1/ 62، وفي الصلاة، باب الصلاة في الجبَّة الشامية: 1/ 101، وفي الجهاد باب الجبَّة في السفر والحرب: 4/ 50، وغير ذلك. ومسلم في الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة: 1/ 230 من حديث المُغيرة بن شُعبة عن أبيه قال: تَخَلَّفَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، وَتَخَلَّفْتُ مَعَهُ فَلَمَّا قَضَى حَاجَتَهُ .. مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلى العَمَامَةِ .. لفظ مسلم.

جميع الأحوال ذكر عموم الرأس في الصحيح لا سيما وكان هذا الفعل منه، - صلى الله عليه وسلم -، في السفر وهو مظنة الأعذار وموضع الاستعجال والاختصار وحذف كثير من الفرائض لأجل المشقات والأخطار. العضو الخامس: الرجلان، وقد اتفقت الأمة على وجوب غسلهما وما علمت من رد ذلك إلا الطبري (¬1) من فقهاء المسلمين ... والرافضة (¬2) من غيرهم، وتعلّق الطبري بقراءة الخفض. وقد قرئت هذه الآية على ثلاثة أوجه: فرفع الإِمام نافع وخفضها غيره ونصبها أيضاً نافع وغيره (¬3)، ولكل واحد منهما في العربية وجه ظاهر. وكنا نأخذ كيفية طهارة الرجلين من هذه القراءات لولا أن السنَّة قد أوضحت شأنهما فغسل النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، رجليه دائماً، ورأى قوماً تلوح عراقبهم (¬4) فقال: "وَيْلٌ (¬5) لِلأَعْقَابِ (¬6) مِنَ النَّارِ" ولم يبقَ ¬

_ (¬1) إبن جرير: 224 - 310 هـ. محمَّد بن جرير بن يزيد الطبري، أبو جعفر، المؤرِّخ المفسِّر الإِمام، وُلد في آمل طبرستان واستوطن بغداد، وتوفي بها وعرض عليه القضاء فامتنع والمظالم فأبى، قال ابن الأثير: أبو جعفر أوثق من نقل التاريخ، وفي تفسيره ما يدل على علم غزير وتحقيق، وكان مجتهداً في أحكام الدين لا يقلِّد أحداً- تذكرة الحفّاظ: 2/ 351، والوفيات 1/ 456، طبقات الشافعية 2/ 135 - 140، الأعلام: 6/ 294، قال محمد بن جرير عنه قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ}. والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم. وإذا فعل ذلك بهما المتوضئُ كان مستحقاً اسم ماسح غاسل لأن غسلهما إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء، ومسحهما إمرار اليد، أو ما قام مقام اليد عليهما. فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح وذلك من احتمال المسح، المعْنيَيْن اللذين وصفت من العموم والخصوص اللذين أحدهما مسح ببعض، والآخر مسح بالجميع، تفسير ابن جرير: 6/ 83. (¬2) الرافضة. فرقة من الشيعة بايعوا زيد بن علي ثم قالوا له: يتبرأ من الشيخين فأبى، وقال: كانا وزيرَيْ جدّي، فتركوه ورفضوه وأرْفَضُّوا عنه، والنسبة رافضيّ. ترتيب القاموس: 2/ 366. (¬3) قال ابن الجزري: قرأ نافع وابن عامر والكسائي ويعقوب وحفص بنصب اللام وقرأ الباقون بالخفض. النشر في القراءات العشر 2/ 254. (¬4) في "م " أقدامهم. (¬5) متفق عليه، البخاري في كتاب العلم، باب من رفع صوته بالعلم 1/ 23، وفي باب من أعاد الحديث ثلاثاً: 1/ 34، وفي كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين: 1/ 52، ومسلم في الطهارة، باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما: 1/ 214، وأبو داود 1/ 73، والنسائي: 1/ 78، كلهم من حديث عبد الله ابن عمرو قال. رجعنا مع رسولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماء بالطريق فعجل قدم العصر فتوضؤا وهم عجال فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال رسولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: "وَيلٌ لِلأعْقابِ مِنَ النَّارِ .. " لفظ مسلم. (¬6) في "م" "يَرْبِطُونَ أقْدَامَهُمْ" وهذه الزيادة ليست من حديث عبد الله بن عمرو بل هي من حديث عبد الله بن =

مع هذا إشكال مع الطبري. (تكملة) إذا ثبت هذا فكل من وصف وضوء رسولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، اختلفوا في نقله. فمنهم من قال إنه توضأ (¬1) مرة ومنهم من قال إنه توضأ مرتين (¬2)، ومنهم من قال إنه توضأ ثلاثاً (¬3)، وهذا كله صحيح نقله ثابتة روايته وروي "مَنْ زَادَ عَلى الثَّلَاثِ أَوْ ازْدادَ فَقَدْ تَعَدّى أَوْ ظَلَمَ" (¬4)، وهذا لم يصح. وحذارِ أن تظنَّ أن الذين نقلوا وضوء رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، مرة أو مرتين أو ثلاثاً أنهم أخبروا بذلك عن إسباغ وضوئه فيها أو تكملة طهارته بها، فإن هذا شيء باطن لا يعلمه أحد إلا الله، فلا يصح لأحد من البشر أن يطلع عليه إلا من قِبَل صاحبه، وإنما نقلوا أعداد الغرفات فيحتمل أن يكون النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، عم بواحدة أو اثنتين، والثانية في الثانية، والثالثة في الثالثة فضل، ويحتمل أن يكون عم بالجميع بحسب ¬

_ = الحارث بن جزة الزبيدي من أصحاب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، رواها أحمد في المسند: 1/ 190 - 191. وأوردها الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاها لأحمد، والطبراني في الكبير وقال: رجال أحمد والطبراني ثقات، مجمع الزوائد: 1/ 240. درجة الحديث: صحيح إلا أنه موقوف كما قال الدكتور سيف الرحمن مصطفى في غاية المقصد في زوائد المسند: 2/ 568. (¬1) ورد ذلك من حديث ابن عباس. (¬2) ورد ذلك من حديث عبد الله بن زيد. (¬3) ورد ذلك من حديث عثمان بن عفان. انظر كل ذلك فيما تقدم. (¬4) أخرجه أبو داود من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثاً ... ثم قال: "هكَذَا الوُضوءُ فَمَنْ زَادَ عَلى هذَا أو نَقَصَ فَقَدْ أسَاءَ أو ظَلَمْ وَأسَاءَ". سنن أبي داود: 1/ 30، وابن ماجه: 1/ 146، وقال: فقد أساء أو تعدّى أو ظلم، وابن خزيمة: 1/ 89 وقال: من زاد فقد أساء أو تعدّى وظلم، والبيهقي: 1/ 79، وقال: فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء أو ظلم وأساء، وقوله نقص يحتمل أن يريد به نقصان الوضوء، وقوله ظلم يعني جاوز الحد والله أعلم، والطحاوي في معاني الآثار: 1/ 30، والنسّائي بلفظ أن أعرابياً: 1/ 75، وكذا لأحمد، الفتح الرباني: 2/ 50، قلت: والحديث وإن كان ضعَّفه الشارح بسبب عمرو بن شعيب هنا فقد صحح حديثه في الأيمان والنذور كما سيأتي. وهذا الحديث صححه الحافظ ابن حجر في التلخيص، فقد قال روي من طرق صحيحة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مطولاً ومختصراً .. وقال: يجوز أن تكون الإساءة والظلم وغيرهما مما ذكر مجموعاً لمن نقص ولمن زاد، ويجوز أن يكون على التوزيع، فالإساءة في النقص والظلم في الزيادة وهذا أشبه بالقواعد، والأول أشبه بظاهر السياق. التلخيص: 1/ 94، درجة الحديث: صححه الحافظ وقبله ابن خزيمة.

تتميم

اختلاف أحوال الأعضاء في قبولها للماء ونبوِّها عنه، وبحسب كبر الغَرفة وصغرها، وبحسب وصولها كاملة إلى العضو أو يصيبها شيء من تبديد في الحمل، ولذلك روي عنه أنه غسل وجهه ثلاثاً (¬1) ويديه مرتين بحسب أن الوجه ذو غضون وجوانب مختلفة كالبياض المتصل بالأذن والمارن (¬2) وأجفان العينين من كل الجهتين، وذلك يحتاج إلى المرَّ بالماء عليه وحمله إليه، بخلاف اليد والرجل، فإنهما سطح يستن الماء عليهما استناناً واحداً وتتبعه اليد فلا يفتقر إلى مزيد تكلف. تتميم: اختلف الناس في تكرار مسح الرأس فرأى مالك (¬3) وأبو حنيفة (¬4) أنه لا يكرر، ورأى الشافعي (¬5) تكراره، وقد مهدت ذلك في مسائل الخلاف، والمعمول عليه ههنا أن كل من روى وضوء رسولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، إنما نقل مسح الرأس مرة واحدة. فإن قيل قد روي عن عثمان أنه نقل مسحه ثلاثاً، قلنا. ذلك لم يصح نقله عن عثمان، قال أبو داود أحاديث عثمان الصحاح كلها أن مسح الرأس مرة (¬6) واحدة واختلفت الرواية أيضاً في صفة مسحه فروي (مَسَحَ رأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِيَدهِ وَأَدْبَرَ. وروي: فَأَدْبَرَ بِيَدَيْهِ وَأقْبَلَ) (¬7)، ووجه ¬

_ (¬1) تقدم من حديث عثمان. (¬2) المارن: الأنف أو طرفة أو ما لان منه. ترتيب القاموس: 4/ 234. (¬3) انظر الإشراف على مسائل الخلاف: 1/ 8. (¬4) انظر فتح القدير لابن الهُمام: 1/ 24. (¬5) انظر المجموع: 1/ 402. (¬6) سنن أبي داود: 1/ 80. (¬7) قلت: ورد في حديث عبد الله بن زيد قوله: (بدأ بمقدم رأسه)، وفي حديث الرُّبَيِّع أنه (بدأ بمؤخر رأسه). وحاول الشارح الجمع بين الحديثين كما حاول غيره، فقد روى أبو داود: 1/ 90، والترمذي من حديث الربيع بنت عفراء أن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، مسح برأسه مرتين بدأ بمؤخر رأسه ثم بمقدمه، ثم قال: هذا حديث حسن، وحديث عبد الله بن زيد أصح من هذا وأجود إسناداً، سنن الترمذي: 1/ 48، وأحمد، انظر الفتح الرباني: 2/ 36، بعدة أسانيد، وابن ماجه: 1/ 150، ويقول الشيخ أحمد شاكر، تعليقاً على كلام الترمذي: إنما اقتصر الترمذي على تحسينه ذهاباً منه إلى أنه يعارض حديث عبد الله بن زيد ولكنهما حديثان مختلفان فلا تعارض بينهما حتى يحتاج إلى الترجيح، فكان رسولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، بدأ بمقدم الرأس، وكان يبدأ بمؤخره، وكلٌّ جائز. تعليق أحمد شاكر على الترمذي: 1/ 48 - 49، ورواه البغوي شرح السنة: 1/ 438، والحديث في عبد الله بن محمَّد بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي، أبو محمد المدني، أمه زينب بنت علي. صدوق في حديثه ليِّن ويقال: تغير بآخره من الرابعة، مات بعد 140/ بخ دت ق ت 1/ 448، وقال في ت ت روى عن أبيه وخاله محمَّد بن الخفية وابن عمر وأنس وجابر والربيع بنت معوذ .. وعنه محمَّد ابن عجلان وحماد بن سلمة وشريك القاضي والسفيانان .. قال ابن سعيد وأحمد: منكر الحديث، وقال ابن =

مزيد بيان

الجمع بينهما ينبني على مسألة من اللغة وهو أن الفعل يسمى بأوله وهل يسمى بآخره أم لا؟ ذلك كثير فيها كتسمية الظل في أول النهار فيئاً، وتسمية القافلة في خروجها قافلة، إلى كثير من أمثال هذا. فإذا وضع يديه على ناصيته وأخذ بهما إلى قفاه كان هذا إقبالاً لأنه ابتدأ من القبل، وصح أن يسمى إدباراً بمثل ذلك التقدير إذا بدأ بالمسح من القذال (¬1) راجعاً، ولما خَفِي هذا على بعض علمائنا أنشأ في صفة مسح الرأس هيئة غريبة فقال يضع يديه على الفودين (¬2) مع القمحودة (¬3) ثم يمشي بهما كذلك الرأس كله ثم يعود حتى يرجع إلى المكان الذي بدأ منه وهذا لا معنى له ويرده قوله في الحديث فبدأ بمقدم رأسه وهذا نص. مزيد بيان: كلّ من روى وضوءَ رسولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، من الصحابة، رضوان الله عليهم، قد ذكر مسح الرأس وسكتوا عن الأذنين إلا ابن عباس والرُّبَيِّع بنت معوذ ابن عفراء، أما ابن عباس فرواها مطلقاً فقال: مسح رأسه وأذنيه، وأما الربيع فقيدت وقالت: فمسح رأسه وأمسك مسبحتيه لأذنيه. وقد اختلف العلماء (¬4) في تجديد الماء لهما أو مسحهما بماء الرأس اختلافاً أوجب سكوت الصحابة عن نقلها، والصحيح وجوب تجديد الماء لهما لأنهما ليستا من الرأس لا في الصفة، ولا في الحكم، وقد استوفينا ذلك في مسائل الخلاف. ¬

_ = معين: لا يحتج بحديثه، وقال ابن المديني: كان ضعيفاً، وقال العجلي: تابعي جائز الحديث، وقال الترمذي: صدوق، وقال ابن عبد البر: هو أوثق من كل من تكلم فيه، قال الحافظ: وهذا إفراط ت ت 6/ 13 وانظر الكامل: 4/ 1446 الضعفاء للعقيلي: 2/ 298. درجة الحديث: صححه الشيخ أحمد شاكر وحسنه الترمذي وذلك الأوْلَى من أجل عبد الله المتقدم كما حسنه الأرناؤوطي في تعليقه على شرح السنة: 1/ 438، والنووي في المجموع: 1/ 397. (¬1) القذال: جماع مؤخر الرأس. ترتيب القاموس: 3/ 577. (¬2) الفود: معظم شعر الرأس مما يلي الأذن وناحية الرأس. ترتيب القاموس: 3/ 532. (¬3) والقمحودة: الهنة الناشزة فوق القضاء أو على القذال خلف الأذنين ومؤخر القذال. ترتيب القاموس: 3/ 686، وانظر تاج العروس: 2/ 476. (¬4) قال القاضي عبد الوهاب: وتجديد الماء لهما أفضل خلافاً لأبي حنيفة لأنه، عليه السلام، كان يجدد الماء لهما لأن المغسولات نفلاً تنفرد عن المغسولات فرضاً فيجب أن تنفرد الممسوحات نفلاً عن الممسوحات فرضاً ولأن المسح نوع من الطهارة فوجب أن يكون من مسنونه ما ينفرد عن فرضه كالغسل. الإشراف على مسائل الخلاف: 1/ 10.

حديث: قال أبو هُرَيْرَة، رضي الله عنه، قال رسولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ وَمَنِ اسْتَجْمَرَ (¬1) فَلْيُوتِرْ". عقَّب مالك، رضي الله عنه، حديث عبد الله بحديث أبي هُرَيْرَة ليبيِّن تأكيد المضمضة والاستنشاق (¬2)، وأن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، كما فعلهما فعلاً فكذلك أمر بهما قولاً. وقد اختلف عن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، فروي عنه أنه تمضمض واستنشق من غرفة واحدة (¬3) وذلك كما بيناه يختلف بحسب اختلاف كثرة الماء وقلته وحاجة العضو إلى النظافة واستغنائه لا أن التعديد فيهما سنة كما توهّمه بعض الناس. وأما قوله: "مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ" فإنه يعني بذلك أن يكون بحجر واحد، أو ثلاثة، أو خمسة ولا يكون بالشفع؛ فإنَّ النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، كان يحب الوتر في أفعاله (¬4) كلها. وقد روى مسلم (¬5): "الِاسْتِجْمَارُ توٌّ وَالطَّوَافُ تَوٌّ" يعني وِتراً، واختلف الناس في التطيُب هل هو مثله أم لا؟ فكان مالك، رضي الله عنه، إذا أراد أن يتجمَّر طيباً كسر العود ثلاث كسر حتى يكون وتراً، وروى بعض أصحابه أن أعرابياً قال له: إنا نسمي استعمال الحجارة في الغائِط استجماراً فرجع إليه (¬6)، ومالك كان أوسع حوصلة من أن يكون ذلك الأعرابي يلقنه أن استعمال الحجارة هناك يسمى استجماراً، وإنما أصغى إليه مالك، رضي الله عنه, لأنه رآه يقتصر على ذلك الوضع، ولم يفهم حمله على العموم للفظة المشتركة في الطيب ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري في كتاب الوضوء، باب الاستنثار في الوضوء: 1/ 52، ومسلم في الطهارة، باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار: 1/ 212، والموطأ 1/ 19. (¬2) الموطّأ: 1/ 19. (¬3) متفق عليه، البخاري في الوضوء، باب من تمضمض واستنشق من غرفة واحدة: 1/ 59، ومسلم في كتاب الطهارة، باب وضوء النبي، - صلى الله عليه وسلم -: 1/ 210، من حديث عبد الله بن زيد السابق. (¬4) متفق عليه، البخاري في الدعوات، باب إن لله مائة اسم غير واحد: 8/ 108 ومسلم في الذكر، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها: 4/ 2062 - 2063 كلاهما عن أبي هُرَيْرَة عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: إن لله تِسْعَةَ وَتسْعِينَ اسْماً مَنْ حَفَظَهَا دَخَلَ الجَنةَ وَإنَّ الله وِترٌ يحبُّ الوِتْرَ. (¬5) مسلم في الحج، باب بيان أن حصى الجمار سبع: 2/ 945، من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - (الاسْتِجْمَارُ تَوٌّ وَالطَوَافُ تَوٌّ، ورَمْيُ الجِمَارِ تَوٌّ ..). (¬6) قال الباجي: اختلف مالك وأصحابه في الاستجمار، فروى سحنون في التفسير قال: قال لنا علي بن زياد قلت لمالك: كيف الوتر في الاستجمار؛ فقال: أما أنا فآخذ العودَ فاكسره ثلاث كسر واستجمر بكل كسرة منهن، فإن كان العود مدفوناً أخذتُ منه ثلاث مرات. قال علي: فكلمه في ذلك رجل من قريش، وأنا شاهد، فقال: إن العربَ تسمي الاستجمار بالحجارة من الغائط استجماراً، فرجع إلى ذلك مالك. قال علي: وقوله الأول أحبّ إليّ. قال سحنون: القول ما رجع إليه مالك، المنتقى: 1/ 40 - 41.

وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة

والحجارة وكله نظافة واستطابة (¬1). وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة: قال أبو هُرَيرة، رضي الله عنه، قال رسول الله: - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا في وُضُوئِهِ فَإنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِيَ أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ" (¬2). ففي هذا الحديث فوائد كثيرة أمهاتها ثلاثة: أحدها: ما تقدم من أنه روي في بعض ألفاظه: فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا في وُضُوئِه، بلفظ الأمر (¬3). وروي: فَلَا يَغْمسْ يَدَهُ في الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَها ثَلَاثَاً (¬4). والأمر على الوجوب عندنا والنهي يقتضي الحظر إلا أنّا قد بينا أنه عقب في آخر الحديث بما رد الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، ورد النهي من الحظر إلى الكراهة وهو قوله: فَإنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ باتَتْ يَدُهُ. فمن علمائِنا من قال: إن هذا شكّ، والشكّ لا يوجب حكماً في الشرع بإجماع (¬5). ومن علمائِنا من قال. إنه ظاهر، فإن الغالب من الإنسان أن تجول يده في نومه على جسده ومغابنه (¬6) ومنافذه وخاصة من لا يستنجي، والأصلِ في اليد الطهارة. وهذا الغالب والظاهر قد طرأ (¬7) عليه فأنشأ ذلك مسألة أصولية، وهي إذاً تعارض أصل وظاهر. وقد اختلف علماؤنا أيهما يقدم وقد بيَّنَّاه في موضعه (¬8) لأنه ¬

_ (¬1) قال الباجي: قال أبو الحسن: يجوز أن يقال إنه أخذ من الاستجمار بالبخور الذي تطيب به الرائحة وهذا يزيل الرائحة القبيحة. المنتقى: 1/ 41. (¬2) متفق عليه: البخاري في كتاب الوضوء، باب الاستجمار وتراً: 1/ 52، ومسلم في كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره المشكوك في نجاستها في الإناء: 2/ 323، والموطأ: 1/ 21. (¬3) روية البخاري: فَلْيَغْمِسْ يَدَهُ قبلَ أَنْ يُدْخِلهَا. (¬4) رواية مسلم: فلَا يَغْمِسُ يَدَهُ في الإِنَاءِ حتّى يَغْسِلَهَا ثَلاثاً. (¬5) هذا قول حكاه أبو الوليد ولم يعزه لأحد، المنتقى: 1/ 48. (¬6) والغبن، محرَّكة، الضعف والنسيان وكمنزل الإبط والرفغ، جمعه مغابن. ترتب القاموس: 3/ 369. (¬7) هذا مذهب العراقيين من المالكية. قال أبو الوليد، ذهب شيوخنا العراقيون، من المالكيين وغيرهم، أن النائم لا يكاد أن يسلم من حك جسده، ومس رفغه وإبطه، وغير ذلك من مواضع عرقه، فاستحب له غسل يديه قبل أن يدخلهما في وضوئه على معنى التنظف والتنزه. المنتقى: 1/ 48. وقال الحافظ قوله "منْ نَوْمِهِ" أخذ بعمومه الشافعي والجمهور فاستحبو عقب كل نوم، وخصه أحمد بنوم الليل لقوله في آخر الحديث "بَاتَتْ يَدُهُ" لأن حقيقة المبيت أن يكون في الليل. فتح الباري: 1/ 263. (¬8) انظر المحصول ل 65 - ب، ومختصر ابن اللحام 170.

مختلف المآخذ (¬1) متباين المباني يفتقر إلى مزيد تفهُّم واحتفال في الابتهال، سمعت أبا بكر الفِهْرِيّ بالمسجد الأقصى، طهَّره الله تعالى، يقول: خرجت من الأندلس وقد تفقَّهْتُ بالباجي (¬2) ولزمته مدة ودخلت بغداد فأتيت المدرسة، وكان النائب حينئذ في إقامة التدريس بها أبا سعد (¬3) المتولّي فسمعته يقول مسألة إذا تعارض أصل وظاهر بأيهما يحكم فما علمت ما يقول ولا دريت إلى ماذا يشير، ثم لزمته حتى فتح الله تعالى، وبلغ ما بلغ (¬4). الفائدة الثانية: أن لفظ الحديث، وإن كان غسل اليد فيه منوطاً بالقيام من النوم فإنه محمول على المقصود به من جولان اليد في البدن، وتصرفها في الأغراض المستكرَهة والمستقذَرة، وهذا يقتضي غسل اليد عند محاولة الوضوء سواء كان قائماً من النوم أو مقبلًا على وضوئه عن شغل لوجود العلة فيهما، وأعجب لأحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، مع سعة علمه، يقول: إن هذا مخصوص بنوم الليل (¬5)، والقول الذي ورد على نوم الليل هو آية الوضوء (¬6)، فأما الحديث المتقدم فهو مطلق. الفائدة الثالثة: وهي بديعة، قال علماؤنا، رضي الله عنهم، في هذا الحديث أصل من أصول الشرع وهي الفرق بين أن يرد الماء على النجاسة، أو ترد النجاسة على الماء، فاقتضى هذا الحديث أن الماء إذا ورد على النجاسة أذهبها، كما أنه أفاد أيضاً أن النجاسة إذا وردت على الماء أثَّرت فيه، والملاقاة واحدة. إلا أن الشرع لما رأى أن الضرورة داعية إلى إفراغ الماء على النجاسة قصد إزالتها أُلغي حكمها: تفسير: إذا ثبت أن النجاسة تؤثر في الماء، باتفاق من العلماء، فإنهم اختلفوا في ¬

_ (¬1) في "م" المأخذ. (¬2) الباجي 403 - 474 هـ. سليمان بن خلف التجببي القرطبي، أبو الوليد الباجي، فقيه مالكي كبير من رجال الحديث. رحل إلى المشرق 426 هـ فمكث 3 أعوام وعاد إلى الأندلس. الديباج: 1/ 377، الوفيات: 1/ 215، نفح الطيب: 1/ 361. (¬3) المتولي أبو سعد: 426 - 478 هـ. عبد الرحمن بن مأمون النَّيْسابوري، تولّى التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد وتوفي فيها. الأعلام: 4/ 98. (¬4) كذا في جميع النسخ، ويظهر لي أن العبارة فيها نقص. (¬5) قال ابن قدامة روي عن أحمد وجوبه. المغنى: 1/ 98. (¬6) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [سورة المائدة آية 6].

تفصيل ذلك. فقال العراقيون، وإمامهم أبو حنيفة (¬1): كل موضع تحققنا وصول النجاسة من الماء إليه (يختبر كثيراً كان أو قليلاً)، إلا أن أصحابه حدّوه عنه بالبركة التي إذا حركت أحد طرفيها فإنْ تحرك الطرف الآخر فهو يسير فينجس بما وقع فيه من النجاسة، وإن لم يتحرك الطرف الآخر لم ينجس بوقوع النجاسة فيه، وفي المجموعة نحو منه. وأما (إذا) (¬2) كان الماء يسيراً فإنه ينجس بوقوع النجاسة فيه عند ابن القاسم (¬3) مطلقاً، وعند الشافعي مقيَّداً بأقل من قلتين. وتعلق الشافعي بحديث مداره على ابن جريج (¬4) "إذا بَلَغَ المَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الخَبَثَ" (¬5)، وهو حديث لم يصح. وروي عن مالك، ¬

_ (¬1) قال ابن رشد: أما أبو حنيفة فذهب إلى أن الحد في ذلك من جهة القياس، وذلك أنه اعتبر سريان النجاسة في جميع الماء بسريان الحركة فإذا كان الماء بحيث يظن أن النجاسة لا يمكن فيها أن تسري في جميعه فالماء طاهر، بداية المجتهد: 1/ 19، وانظر البناية في شرح الهداية 1/ 319، وشرح فتح القدير لابن الهمام: 1/ 52. (¬2) في "م" ان. (¬3) قال أبو عمر بن عبد البر: مذهب ابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم كلهم يقول: إن الماء القليل يفسده قليل النجاسة وأن الماء الكثير لا يفسده إلا ما غلب عليه من النجاسة، أو غيرها، فتغيره عن حاله في لونه وطعمه وريحه. ولم يحد واحداً بين القليل والكثير، ونحو هذا قال الشافعي إلا أنه حدّ في ذلك حد الحديث بالقلتين .. الا ستذكار: 1/ 203. (¬4) عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيْج الأموي المكي، ثقة، فقيه، مدلّس، مات سنة 150 ت 1/ 520 تذكرة الحفاظ: 169، الميزان: 2/ 659، الخلاصة: 1/ 178. (¬5) رواه عبد الرزاق عن ابن جريج مرسلاً قال: حُدِّثْتُ أن النبي، -صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِذَا كَانَ الماءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ نَجسْاً وَلَا بَأساً" المصنف: 1/ 79، ورواه البيهقي في السنن الكبرى: 1/ 264 من طريق أبي قرة موسى بن طارق عن ابن جريج قال: أخبرني محمَّد أن يحيى بن عقيل أخبره أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال .. وقال: قال الحافظ أبو أحمد الحافظ محمَّد: هذا الذي يحدث عنه ابن جريج هو محمَّد بن يحيى يحدِّث عن يحيى ابن أبي كثير ويحيى بن عقيل. وقال الدارقطني: حدثنا أبو بكر النيسابوري حدثنا أبو حميد المَصِّيصي حدثنا حُجَّاج عن ابن جريج مثله، سنن الدارقطني: 1/ 24. قلت: ومحمد بن يحيى مجهول، كما قال الحافظ، فقد قال في التلخيص: 1/ 30، فقد قال الحاكم أبو أحمد محمَّد شيخ ابن جريج هو محمد بن يحيى له رواية عن يحيى بن أبي كثير أيضاً. قلت: وكيف ما كان فهو مجهول. ورواه أبو داود: 1/ 52، والترمذي: 1/ 97. والنسائي: 1/ 175، وابن ماجه: 1/ 172، والحاكم في المستدرك: 1/ 132، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأحمد. انظر الفتح الرباني: 1/ 216، وابن خزيمة: 1/ 49، وابن حبان. =

رضي الله عنه، وهو اختيار العراقيين أن الماء لا ينجسه إلا التغير. وروى بعض المدنيين ¬

_ = انظر موارد الظمآن ص60، والدارقطني في السنن: 1/ 15 - 21، بعدة أسانيد والبيهقي في السنن: 1/ 260، والشافعي في مسنده: 1/ 21، وابن حزم في المحلّى: 1/ 151 كلهم من حديث عبد الله بن عبد الله بن عمر ابن الخطاب عن أبيه. أقول: اختلفت أنظار المحدِّثين حول هذا الحديث. قال ابن عبد البر في التمهيد: 1/ 335 ما ذهب إليه الشافعي من حديق القلتين فمذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت من جهة الأثر، ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغها في أثر ثابت ولا إجماع. وقال في الاستذكار: 1/ 204، تكلم إسماعيل (القاضي) في هذا الحديث ورده، وقال الشارع في العارضة: حديث القلتين مداره على مطعون عليه أو مضطرب في الرواية أو موقوف وحسبك أن الشافعي رواه عن الوليد بن كثير وهو إيادي، واختلفت روايته فقيل قلتين أو ثلاثاً، وروي أربعون قلّة، وروي أربعون غرباً، وهو موقوف على أبي هُرَيْرَة وعلي وعبد الله بن عمر .. وعلى كثرة طرقه لم يخرجه من شرط الصحة العارضة: 1/ 83، أما من صحَّحه فهم كثيرون، يقول الحافظ: قال ابن منده: إسناده على شرط مسلم، ومداره على الوليد بن كثير، فقيل عنه عن محمَّد بن جعفر بن الزبير وقيل عنه عن محمَّد بن عباد بن جعفر، وتارة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وتارة عن عبد الله بن عبد الله بن عمر. والجواب أن هذا ليس اضطراباً قادحاً فإنه على تقدير أن يكون الجميع محفوظاً انتقل من ثقة إلى ثقة، وعند التحقيق الصواب أنه عن الوليد بن كثير عن محمَّد بن عباد بن جعفر عن عبد الله ابن عبد الله بن عمر المكبر وعن محمَّد ابن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر المصغر ومن رواه على غير هذا الوجه فقد وهم. وقد رواه جماعة عن أبي أسامة عن الوليد بن كثير على الوجهين، وله طريق ثالثة رواها الحاكم وغيره من طريق حمّاد بن سَلَمَة عن عاصم بن المنذر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه: وسئل ابن معين عن هذه الطريق فقال إسنادها جيد .. وقال ابن دقيق العيد: هذا الحديث قد صححه بعضهم وهو صحيح على طريقة الفقهاء؛ لأنه إن كان مضطرب الإسناد مختلفاً في بعض ألفاظه فإنه يجب عنها بجواب صحيح بأن يمكن الجمع بين الروايات ولكني تركته لأنه لم يثبت عندنا بطريق استقلالي يجب الرجوع إليه شرعاً تعيّن مقدار القلتين. قال الحافظ. قلت كأنه يشير إلى ما رواه ابن عدي من حديث ابن عمر (إذَا بلَغَ المَاءُ قُلَتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجْرٍ لَمْ يُنَجِّسْهُ شَيءٌ)، وفي إسناده المغيرة بن صقلاب وهو منكر الحديث، قال النّفيلي: لم يكن مؤتمناً على الحديث، وقال ابن عدي: لا يتابع علي عامة حديثه. تلخيص الحبير: 1/ 28 - 29، وانظر الكامل: 6/ 2358. وقال الخطابي: كفى شاهداً على صحته أن نجوم الأرض من أهل الحديث قد صحّحوه وقالوا به، وهم القدوة وعليهم المعول في هذ الباب. معالم السنن مع تهذيب السنن: 1/ 58، وقد أطال الكلام عليه الإِمام ابن القيم في تهذيب السنن ورده. انظر تهذيب السنن: 1/ 56 - 74، وقال المبارك فوري: هو حديث صحيح قابل للاحتجاج، وضعَّفه جماعة لكن الحق أنه صحيح، قال الحافظ العراقي في أماليه: صححه الجم الغفير من الأئمة الحفاظ: الشافعي وأبو عبيد وأحمد وإسحاق ويحيى بن معين وابن خزيمة والطحّاوي وابن حبان والدارقطني وابن منده والحاكم والخطابي والبيهقي وابن حزم وآخرون. وقال الحافظ في الفتح. رواته ثقات وصححه جماعة من أهل العلم، وقال أيضاً: الفصل بالقلتين أقوى لصحة الحديث فيه. تحفة الأحوذي 1/ 216 - 217. درجة الحديث: صححه، بالإضافة إلى السابقين، الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: 1/ 97، والشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة: 1/ 149.

عن مالك رضي الله عنه، إنه إن لم يتغير وكان يسيراً إنه مشكوك فيه، منهم عبد الملك (¬1)، ومحمد بن مسلمة (¬2)، والصحيح الذي يدان الله تعالى به أن الماء لا ينجسه إلا ما غيَّر صفاته، وأنه ما دام باقياً على ما خلق فيه من الصفات فإنه على أصله في الطهارة (¬3)؛ لأنه إنما كان ماء بما هو عليه من الصفات طهوراً كماء أُنزل من السماء، فما غيره هو الذي يسلبه حكمه حتى لقد غلا في ذلك بعض المدنيين فروى ابن نافع (¬4) عن مالك، رضي الله عنه، أن يسير النجاسة إذا وقع في كثير من المائعات، كالزيت واللبن، فإنه لا ينجسهما وهذا قول ضعيف من وجهين: أحدهما: أنه ساوى بين الماء والمائعات ولامساواة بينهما. والثاني: أنه صدم الحديث الصحيح وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا وَقَعَتِ الفَأْرَةُ في سَمْنِ أَحَدِكمْ فَإِنْ كَانَ جَامِداً فَأَلْقُوهَا (¬5) وَمَا حَوْلَهَا (¬6) "، الحديث إلى آخره. إذا ثبت أن الماء لا يؤثر فيه إلا التغير فإنه يتركب على هذا الأصل عشر صور: الصورة الأولى: أن يكون معه إناءٌ وشكّ هل وقعت فيه نجاسة أم لا، فعلى القول بأنه طاهر يتوضأ (¬7) ويصلي. وعلى القول بأنه مشكوك (¬8) يتوضأ به عندنا لأن الشك لا ¬

_ (¬1) عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، مات سنة 212 هـ كان فقيهاً فصيحاً دارت عليه الفتوى في أيامه بالمدينة. الديباج: 2/ 6، المدارك، 2/ 260، وفيات الأعيان: 2/ 340، شجرة النور، 1/ 56. (¬2) محمَّد بن مسلمة بن محمَّد بن هشام، أبو هشام، مات سنة 206 هـ. كان أحد فقهاء المدينة من أصحاب مالك، وكان أفقههم وهو ثقة، الديباج: 2/ 156. (¬3) قال ابن رشد: لمالك في الماء اليسير تحلُّه النجاسة ثلاثة أقوال، قول أن النجاسة تفسده، وقول إنها لا تفسده إلا أن تغيِّرَ أحدَ أوصافه، وقول إنه مكروه. بداية المجتهد: 1/ 24. (¬4) عبد الله بن نافع: 186 هـ. روى عن مالك وتفقَّه به وبنظرائه كان صاحب رأي مالك ومفتي المدينة بعده، ولم يكن صاحب حديث، وكان ضعيفاً له تفسير في الموطَّأ، رواه عنه يحيى بن يحيى. الديباج: 1/ 410، شجرة النور، 1/ 56، طبقات ابن سعيد: 2/ 104، المعارف لأبن قتيبة: 174. (¬5) في "ك" ألفوه. (¬6) سنن أبي داود: 2/ 181، من رواية أبي هريرة. وأحمد: انظر الفتح الربابي: 1/ 239، وقال الشيخ البنا: رجاله رجال الصحيح، وعبد الرزاق 1/ 84 درجة الحديث: صححه الشارح وابن قدامة في المغني: 1/ 28، والشيخ البنا. (¬7) في "ك" و"م" و"ص" زيادة به. (¬8) في "ك "و"م" و"ص" نجس.

يوجب حكماً، وعلى قول ابن شهاب (¬1) ونظرائه قال هذا ماء، وفي النفس (¬2) منه شيء يتوضأ به ويتيمم (¬3). الصورة الثانية: أن يتحقق وقوع النجاسة فيه لكنها لم تغيره فعلى القول الأول وهو أنه طاهر يتوضأ به. وعلى القول بأنه نجس يتيمم ويتركه، وقيل يتوضأ به ويتيمم لما تقدم من المعنى، وإذا قلنا بذلك فهل نبدأ بالوضوء أو التيمم؟ اختلف فيه علماؤنا، والصحيح عندي أنه يبدأ بالتيمم لأنه إن كان هذا ماءً نجساً فقد تيمم وصلى بأعضاء طاهرة، وان كان ماءً طاهراً فقد جازت بعد ذلك صلاته به. الصورة الثالثة. إذا كان معه إناءان أحدهما طاهر، والآخر نجس، ففيهما خمسة أقوال: الأول. أنه يتوضأ بهما، ويصلي صلاتين على تفصيل. والثاني: يدعهما ويتيمم. والثالث: إنه يتحرى فيهما ويجتهد فإذا أداه اجتهاده إلى الطاهر توضأ به. والرابع: مثل ما تقدم زاد ويريق الثاني. الخامس: أن الأواني إن كانت يسيرة تحرّى، وإن كانت كثيرة سقط عنه التحري للمشقة فيه ويتوضأ بأيها شاء. قاله القاضي أبو الحسن (¬4). ¬

_ (¬1) الزهري 50 - 125 هـ. محمَّد بن مُسْلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب القرشي الزهري الفقيه الحافظ متفق على جلالته ت 2/ 307 ت ت 9/ 445. (¬2) في "ك" منه شيء وفي "م" وفي القلب. (¬3) ورواه البخاري في كتاب الوضوء، باب الماء الذي يُغسل به شعر الإنسان: 1/ 54 معلقاً، قال البخاري: وقال الزهري إذا ولغ إناء ليس له وضوء غيره ما يتوضأ به، وقال سفيان هذا هو الفقه بعينه، يقول الله تعال {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}، وهذا ماء وفي النفس منه شيء يتوضأ به ويتيمم. قال الحافظ: وقول الزهري هذا رواه الوليد بن مسلم في مصنفه عن الأوزاعي وغيره عنه ولفظه سمعت الزهري في إناء ولغ فيه كلب فلم تجدوا ماء غيره يتوضأ به، وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد من طريقه بسند صحيح. فتح الباري: 1/ 372 - 273، درجة الحديث: صححه ابن حجر. (¬4) أبو الحسن بن القصار تقدم.

وجه الأول: أنه لما شك في الطاهر منهما وجب عليه استعمالهما حتى يحصل له الطاهر بيقين. وجه الثاني: أنه يتركها لئلا يواقع المحظور. وجه الثالث: أنه يتحرى ويجتهد لأن الاجتهاد والتعويل على العلامات والإمارات أصل الشريعة في المشكلات، وهو المفزع في الأمر والنهي والحلال والحرام تمسكنا بذلك أولى، إذ هي مثل ما ذكرناه أو أدنى، وأما من قال إنه يريقه فقصد إزالة الإشكال لئلا يعود ثانية، وأما من فرق بين الكثرة والقلة فلا معنى له لأنه سواء كثرت الشبهات في المشكلات أو قلَّت فإنما المعول فيها على الدلالات والإمارات إلا أن يخرج الأمر عن حد الحصر فيسقط فيه التكليف. الصورة الرابعة: إذا كان معه إناءان طاهر مطهر، والآخر من ماء مستعمل، فإنه يتوضأ بهما جميعاً لأنهما ماآن مطلقان لا نجاسة فيهما عندنا، وعند أبي حنيفة إنه يتركهما جميعاً، رواه أبو يوسف (¬1) وقد بيّناه في مسائل الخلاف. الصورة الخامسة. إذا كان معه اناءان أحدهما ماء، والآخر ماء ورد، فشك أيضاً فيهما توضأ بكل واحد منهما وصلى صلاته لأنهما طاهران. الصورة السادسة: إذا كانا رجلين ومعهما إناءان مشتبهان فاجتهدا، فإن اتفق اجتهادهما على واحد استعملاه واراقا الثاني وأم كل واحد منهما بصاحبه، فإن أدى اجتهاد كل واحد منهما إلى إناء غير الذي رآه الآخر عمل كل واحد منهما بموجب اجتهاده ولم يؤمّ واحد منهما بصاحبه، وهي. الصورة السابعة، والصورة الثامنة: أن تكون الأواني ثلاثة والرجال اثنان، أو ثلاثة، فاختلف اجتهادهم فيلزم كل واحد منهم أن يتوضأ بالإناء الذي يراه طاهراً ويؤمهم أحدهم، فإذا حانت الصلاة الأخيرة جاز أن يؤمهم الآخر ولا يجوز أن يكون الثالث إمامهم لأنه إذا أمّ الأول إحتمل أن يكون النجس وقع في قسم أحد المأمومين، وإذا أمّ الثاني يقول ¬

_ (¬1) أبو يوسف182 هـ. يعقوب بن إبراهيم، أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة كان أول من خوطب بقاضي القضاة، قيل فيه لولا أبو يوسف ما ذُكر أبو حنيفة. تاج التراجم في طبقات الحنفية لابن قطلوبغا 81 ط. الفوائد البهية: 226.

الثالث يجوز أن يكون النجس وقع في حقي فصلاة إمامي صحيحة، وإذا أم الثالث لم يبقَ من تعلّق به الإناء فنجس فلم يجز، وهكذا فرع أبداً متى زادت الأواني أو زاد عدد الرجال فإذا بقي واحد طاهر جازت الإمامة أبداً حتى يبقى واحد فقسه عليه. الصورة التاسعة: فإن أمّ أحدهما بالآخر وقد اختلف اجتهادهما في الأواني فاتفق علماء الأمصار على أن أحدهما لا يجوز أن يؤمَّ الثاني، وقال أبو ثور (¬1): يجوز لكل واحد منهما أن يكون إمام صاحبه (¬2) لأن خطأه عنده ليس بيقين وإنما هو باجتهاد، وهو يرى أن صلاة صاحبه في نفسه صحيحة يلزمه حكمها ولا يجوز له العمل بغيرها، فلذلك يجوز له أن يؤمه فيها، وهذه مسألة عظيمة الموقع مستمدة من بحر تصويب المجتهدين وتخطيئتهم، وقد بيَّناها في موضعها فلا يحتملها هذا الإملاء. الصورة العاشرة. إذا اشتبه عليه إناء ماء وإناء بول، وتتصور هذه المسألة في إناء فيه ماء تغيّر بطول المكث حتى أجن (¬3)، ثم اشتبه بعد ذلك بإناء بول فقال (ش) و (ح): لا يتحرى فيهما ويتركهما (¬4)، وقال أبو زيد (¬5) الملقي، من أصحاب (ش)، يتحرى فيهما وهو الذي تقتضيه أصولنا وبه أقول. تتيمم: ذكر مالك، رضي الله عنه، وضوء النائم. لأن النوم موجب للوضوء واختلف هل هو حدث أو سبب للحدث؟ فعند المزني (¬6) ¬

_ (¬1) أبو ثور 240 هـ. إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان، أبو ثور الكلبي البغدادي الإمام الجليل. قال عنه الإمام أحمد، لما سئل عنه، قال: أعرفه بالسنة منذ خمسين سنة. طبقات الشافعية: 2/ 74، تاريخ بغداد: 6/ 65، تذكرة الحفاظ: 2/ 87، ت 1/ 35 ت ت 1/ 118، شذرات الذهب: 2/ 93. (¬2) حكاه النووي عنه وقال: ولا شك في ضعف مذهبه. المجموع 1/ 197. (¬3) الأجن الماء المتغير الطعم واللون، ترتيب القاموس: 1/ 118. (¬4) قال الرافعي: وإن اشتبه عليه ماء وبول انقطعت رائحته لم يتحرَّ بل يريقهما ويتيمم لأن ماء الورد والبول لا أصل لهما في التطهير فيرد إليه بالاجتهاد. قال النووي: هذا الذي ذكره هو المذهب الصحيح. المهذب مع شرحه المجموع:1/ 195. (¬5) أبوزيد الملقي لم يتضح لي. (¬6) المزني 175 - 264 هـ. إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل أبو إبراهيم المزني، صاحب الشافعي، من أهل مصر. كان مجتهداً عالماً قوي الحجة وهو إمام الشافعيين بمصر، وفيات الأعيان: 1/ 71، الانتقاء: 111، طبقات الشافعية: 2/ 93، شذرات الذهب: 2/ 148، طبقات الشيرازي: 79، النجوم الزاهرة 3/ 39.

وأبي الفرج (¬1) إنه حدث في نفسه، وهي قولة ضعيفة، لما روى مسلم عن أنس، رضي الله عنه، قال: كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيّ، - صلى الله عليه وسلم -، يَنَامُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتوَضَّؤُونَ (¬2)، والأحاديث في ذلك مشهورة. وإذا ثبت هذا فللنائم ثنتا عشرة حالة قائم، وماش، وراكب، ومستند، وراكع، وساجد، وجالس، ومحتبٍ، ومضطجع، ومستند قائمٍ، ومستند جالس، فهذه إحدى عشرة حالة والضابط للمذهب فيها أن من استثقل نوما فعليه الوضوء. وإذا كانت السنة (¬3) والخفقة (¬4) فلا وضوء عليه، ويراعى أيضاً إذا كان المنفذ منفرجاً أو منضغطاً، وقال (ح): من نام قَائِماً أو رَاكِعاً أو سَاجِداً أو جَالِساً فلا وضوء عليه (¬5)، ونحوه لابن حبيب (¬6) إلا في السجود، واحتج بما روي عن النبي، -صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "لَيْسَ الوُضُوءُ عَلَي مَنْ نَامَ قَائِماً أو رَاكِعاً أَوْ سَاجِداً أَوْ جَالِساً، إِنَّمَا الوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مَضْطَجِعاً فَإِنَّهُ إِذَا نَامَ مُضْطَجِعاً اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ" (¬7)، وهذا حديث منكر يرويه ¬

_ (¬1) أبو الفرج الشِّيرازي ثم المَقْدسي 486 هـ. عبد الواحد بن محمَّد بن علي بن أحمد الشِّيرازي ثم المقدسي ثم الدمشقي، الفقيه الزاهد، أبو الفرج الأنصاري، شيخ في وقته وهو حنبلي المذهب. كتاب الذيل على طبقات الحنابلة: 1/ 68، الدارس في تاريخ المدارس: 2/ 65. (¬2) مسلم في الحيض، باب الدليل على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء: 1/ 284، أبو داود: 1/ 137، والترمذي: 1/ 113، والشافعي في مسنده ص 3 والدارقطني: 1/ 130. (¬3) السنة شدة النوم. ترتيب القاموس: 2/ 625. (¬4) خفق النجم خفوقاً غاب، وفلان حرك رأسه إذا نعس. ترتيب القاموس: 2/ 85. (¬5) تفصيل المسألة في فتح القدير: 1/ 32. (¬6) ابن حبيب 180 - 248. هو عبد الملك بن حبيب بن سليمان العباسي الأندلسي القرطبي، أبو مروان، فقيه على مذهب المدنين، مؤرخ، نسَّابة، أديب، لغوي، نحوي، له عدة مؤلفات. معجم المؤلفين 6/ 181، شجرة النور الزكية: 1/ 74. (¬7) أبو داود: 1/ 139. وأخرجه الترمذي: 1/ 111. وأحمد. انظر الفتح الرباني: 2/ 81، والبيهقي في السنن. انظر المهذب في اختصار السنن: 1/ 139، كلهم من طريق عبد السلام بن حرب عن الدالاتي، وهو حديث ضعيف، قال أبو داود: قوله الوضوء على من نام مضطجعاً هو حديث منكر لم يروه إلا يزيد أبو خالد الدالاني، وقال الحافظ: الحديث مداره على يزيد بن أبي خالد الدالاني، وعليه اختلف في ألفاظه، وضعَّف الحديث، من أصله، أحمد والبخاري فيما نقله الترمذي في العلل المفرد، وأبو داود في السنن، والترمذي وإبراهيم الحربي في علله وغيرهم، وقال: قال البيهقي في الخلافيات. تفرد به أبو خالد وأنكره عليه جميع أئمة الحديث. التلخيص: 1/ 120، فقد قال منقطع وانظر الدراية: 1/ 23. درجة الحديث: منكر ومنقطع كما قال الشارح وغيره.

أبو خالد (¬1) عن قتادة (¬2) عن أبي العالية (¬3)، فهو باطل ومنقطع. وتعلّقوا أيضاً بما روي أن النبيَّ، -صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِذَا نَامَ العبْدُ في سُجُودهِ بَاهَى الله تَعَالَى بِهِ مَلَائِكَتَهُ يَا مَلَائِكَتِي اْنْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رُوحُهُ عِنْدِي وَبَدَنُهْ في طَاعَتِي" (¬4)، وهذا أيضاً ضعيف لا أصل له، على أنه يحتمل أن يكون الله سبحانه أبقى عليه الأجر بعد النوم لأن روحه قبضت على طهارة وفي طاعة. وأما الحالة الثانية عشرة. وهي إذا استلقى (¬5) وارتبط ثم نام فكان شيخنا أبو بكر الفِهري (¬6) يقول: الذي يجىء على المذهب أنه لا وضوء عليه، وكذلك قال الجويني، من أصحاب الشافعي، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (¬7). ¬

_ (¬1) يزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدّالاني الأسدي الكوفي صدوق يخطئ كثيراً، وكان يدلّس من السابعة عم ت 2/ 416 وقال في ت ت: ضعفه ابن معين والنسائي، وقال أبو حاتم: صدوق ثقة، وقال الحاكم: أبو أحمد لا يتابع في بعض حديثه، وقال أحمد: لا بأس به، وقال ابن سعيد: منكر الحديث، وقال ابن حبان: كان كثير الخطأ فاحش الوهم خالف الثقات في الروايات لا يجوز الاحتجاج به، وكذا قال ابن عبد البر ت ت 1/ 832 المجروحين: 3/ 105، الميزان: 4/ 422، التاريخ الكبير: 8/ 346. (¬2) قتادة 118. قتادة بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب، ثقة ثبت يقال وُلدَ أَكْمه، مات سنة 117 أو 118/ ع ت 2/ 123، وانظر ت ت وفيه قال شعبة. لم يسمع من أبي العالية إلا ثلاثة أشياء قول على القضاء ثلاثة وحديث يونس بن متى وحديث لا صلاة بعد العصر، وقال يعقوب بن شيبة في المسند: إن قتادة سمع أبي العالية أربعة أحاديث. (¬3) رفيع بن مهران أبو العالية الرِّياحي بكسر الراء وبالتحتانية ثقة كثير الإرسال من الثانية، مات سنة 90 وقيل 93 وقيل بعد ذلك/ ع ت 1/ 252 ت ت 3/ 284، الكاشف: 2/ 312. (¬4) قال الحافظ ابن حجر: رواه البيهقي في الخلافيات من حديث أنس وفيه داود بن الزبرقان وهو ضعيف، ورواه من وجه آخر عن أبّان عن أنس، وأبّان متروك، ورواه ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ من حديث المبارك بن فضالة. تلخيص الحبير: 1/ 129. وذكره المبارك فوري في تحفة الأحوذي وقال: كل طرقه لا تخلو من مقال. تحفة الأحوذي: 1/ 255. درجة الحديث: ضعيف كما قال الشارح وغيره. (¬5) في "م" استقر. (¬6) الفهري تقدم. (¬7) سورة المائدة، آية 6.

الطهور للوضوء

إلى قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} فجمع الله سبحانه في هذه الآية أسباب الوضوء كلها، وقد بيَّنا ذلك في كتاب "أحكام القرآن" مستوفى (¬1)، فما خرج عنها فليس من أسباب الوضوء، ولأجل هذا لما ذكر مالك، رضي الله عنه، الآية في هذا الباب أعقبها بقوله لا يتوضأ من رعاف ولا من دم ولا من قيح إلى قوله أو نوم (¬2). واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال. فمنهم من راعى الخارج من أي مخرج كان، وبه قال (¬3): (ح) وراعى (ش) الخارج المعتاد من أي مخرج كان (¬4)، ووفق الله مالكاً فراعى الخارج المعتاد من المخرج المعتاد، وعنه رواية أنه ينقض الوضوء بالخارج النادر من الخارج المعتاد (¬5)، والصحيح اعتبار الخارج والمخرج المعتادين وعلى ذلك تدل الآية لا أنها خارجة عن العادة فتحمل عليها. الطهور للوضوء: هذه الترجمة تحتمل أربعة أوجه: أحدها: أن تكون الطاء من الطهور والواو من الوضوء مرفوعين. والثاني: أن يكونا منصوبين. والثالث: أن تكون الطاء مرفوعة، والواو منصوبة. والرابع: بعكسه وهو حرف لم تضبطه الرواة إما عن جهالة وإما عن غفلة لمن كان يتقن، وقد اختلف أرباب اللغة في معناهما على هذا الضبط اختلافاً كثيراً والأشهر، والذي استقام على الأمثلة واستمر، أن يكون الفعول بضم الفاء للفعل وبفتحها للمفعول به وهي الآلة، فالطهور والوضوء بفتح الطاء والواو للماء وبضمهما للفعل، فعلى هذا يكون مساق ¬

_ (¬1) أنظر أحكام القرآن: 2/ 563. (¬2) الموطّأ: 1/ 22 قال مالك: الأمر عندنا أنه لا يتوضأ من رعاف ولا من دم ولا من قيح يسيل من الجسد، ولا يتوضأ إلا من حدث يخرج من ذكر أبو دبر أو نوم. (¬3) انظر فتح القدير: 1/ 25، والبناية في شرح الهداية: 1/ 194. (¬4) انظر المجموع: 2/ 4. (¬5) قال الباجي: أما غير المعتاد كالحصى والدم والدود فإن المشهور عن مالك وأصحابه أنه لا يجب به وضوء، وقال محمَّد بن عبد الحكم يجب به الوضوء. المنتقى: 1/ 54.

الترجمة الطهور بفتح الطاء والوضوء بضم الواو (¬1)، حديث: قال أبو هريرة رضي الله عنه: (جَاءَ (¬2) رَجُلٌ إِلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنَّا نَرْكُبُ البَحْرَ (¬3) .. الحديث) إلى آخره، وهو حديث لم يروه أحد عن رسول الله إلا أربعة أبوهُرَيْرَة (¬4)، وجابر (¬5)، والفراسي (¬6)، ¬

_ (¬1) انظر النهاية لابن الأثير: 3/ 147، ولسان العرب: 4/ 504 - 705، وجامع الأصول: 7/ 63. (¬2) قال الحافط ابن حجر: سمى ابنُ بشكوال السائلَ عبد الله المدلجي وقال: قال النووي، في شرح المهذب، اسمه عبيد، وقيل عبد، قال: وأما قول السمعاني، في الأنساب، اسمه العركي فيه إبهام أن العركي اسمه علم له، وليس كذلك بل العركي وصف له وهو ملّاح السفينة كذا في التلخيص 1/ 12 وانظر الأنساب: 9/ 279. وقال ابن العربي، في العارضة: العربي هو الملّاح الذي يقال له عندنا النوتي، عارضة الأحوذي: 1/ 88. (¬3) رواه أبو داود: 1/ 21، والترمذي: 1/ 101، والنسائي 1/ 176، والموطأ: 1/ 22، وابن ماجه: 1/ 136، والحاكم 1/ 140، كلهم عن أبي هريرة من طريق مالك ورواه الدّارمي: 1/ 185، من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن الجَلّاح عن عبد الله بن سعيد المخزومي عن المُغيرة بن أبي بُرْدة عن أبيه عن أبي هُرَيْرَة، ورواه البيهقي في السنن الكبرى: 1/ 3 موافقاً لرواية الموطّأ، والحديث صححه الحاكم وروى له متابعات وشواهد. المستدرك: 1/ 141. وقال الحافظ في ت ت 4/ 42، في ترجمة سعيد بن سلمة المخزومي. روى عن أبي هريرة حديث البحر هو الطهور ماؤه الشيخل ميتته، وصححه البخاري فيما حكاه عنه الترمذي في العلل الفرد حدثه، وكذا صححه ابن خزيمة وابن حبان وغير واحد وقال في الدراية لا بأس به، الدراية: 1/ 54، وقال الترمذي حديث حسن صحيح. سنن الترمذي: 1/ 101. وقال البغوي حسن صحيح. شرح السنة: 2/ 56، وأخرجه أحمد ونقل الشيخ البنا عن ابن الأثير وابن عبد البر تصحيحه. الفتح الرباني 1/ 202 وصححه الشارح في الأطعمة، وقال الشيخ ناصر إسناده صحيح، وقد صححه غير الترمذي جماعة منهم البخاري والحاكم وابن حبان وابن المنذر والطحّاوي والبغوي والخطابي وغيرهم كثير، إرواء الغليل: 1/ 43. (¬4) تقدمت روايته. (¬5) أما حديث جابر فقد أخرجه أحمد. انظر الفتح الرباني: 1/ 202. وابن ماجه 1/ 137، والدارقطني: 1/ 34، والحاكم: 1/ 143، وأورده الحافظ في التلخيص: 1/ 11، ونقل عن ابن السكن قوله. حديث جابر أصح ما روي في هذا الباب. درجة الحديث: حسن لأن فيه أبا القاسم بن أبي الزناد ليس به بأس من التاسعة/ ق ت 2/ 463 ت ت 12/ 203. (¬6) الفراسي صحابي لا يعرف اسمه، الإِصابة: 3/ 202 ت 2/ 521 ت 2/ 521 ت ت 12/ 307، التاريخ الكبير: 7/ 137، الاستذكار: 1 // 202. وحديثه رواه ابن ماجه 1/ 136 وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه 1/ 57: هذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن مسلماً لم يسمع من الفراسي ولا صحبة له، وإنما روى الحديث عن أبيه، فالظاهر أنه سقط من هذا الطريق. ونقل الحافظ عن الترمذي قوله: سألت محمداً عنه فقال هذا مرسل لم يدرك الفراسيُّ النبيَ - صلى الله عليه وسلم -، =

والعركي، وابن عمر (¬1)، وأبو بكر (¬2)، وعلي (¬3)، وعبد الله بن عمرو (¬4). ¬

_ = والفراسي له صحبة، قال الحافظ: قلت فعلى هذا كأنه سقط من الزواية عن أبيه أو أن ابن زيادة فقد ذكر البخاري أن مسلم بن مخشى لم يدرك الفراسي نفسه وإنما يروي عن ابنه والابن ليست له صحبة، ورواه البيهقي من طريق شيخ شيخ ابن ماجة عن يحيى بن بكير عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن مسلم ابن مخشى أنه حدّثه أن الفراسي قال كنت أصيد، فهذا السياق مجرد وهو على رأي البخاري مرسل. التلخيص: 1/ 23، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد، وعزاه للطبراني وحسَّن إسناده: 1/ 215، وضعّفه ابن عبد البر في الاستذكار: 1/ 202، وعندي أنه حسن لقول الهيثمي والحافظ ابن حجر. (¬1) حديث ابن عمر رواه ابن حبان من حديث السري بن عاصم بن سهل الهمداني عن محمَّد بن عبيد الله بن عمر به مرفوعاً؛ المجروحين: 1/ 355، وأعله به وقال: كان ببغداد يسرق الحديث ويرفع الموقوفات لا يحل الاحتجاج به، وإنما هو من قول أبي بكر الصدّيق فأسنده. وقال الحافظ بعد الإِسناد الذي ساق ابن حبان وهذا إسناد مركب ما حدث به هؤلاء قط هكذا، وإنما يعرف من حديث أبي بكر موقوفاً، وكنّاه ابن عدي بأبي سهل وقال له غير حديث سرقه من الثقات وحدث به عن مشايخهم. لسان الميزان: 3/ 12، وانظر الكامل: 3/ 1298، وقال الذهبي: السري بن عاصم مؤدب المعتز بالله وقد ينسب إلى جده، روى عن ابن علية ووهّاه ابن عدي وكذّبه ابن خراش. الميزان: 2/ 117. درجة الحديث: ضعيف. (¬2) رواه الدارقطني في سننه: 1/ 34 من حديث عبد العزيز عن وهب بن كَيْسان عن جابر بن عبد الله عن أبي بكر الصدّيق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سئل عن ماء البحر .. الحديث. وأخرجه من طريق آخر عن عبيد الله بن عمر عن عمرو بن دينار عن أبي الطُّفيل عن أبي بكر موقوفاً. سنن الدراقطني: 1/ 35. أقول: الطريق الأول فيه عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز المدني الأعرج، يعرف بابن أبي وثاب، متروك أحترقت كتبه فحدَّث من حفظه فاشتد غلطُه وكان عارفاً بالأنساب من الثامنة، مات سنة 197/ ت. ت 1/ 511 وانظرت ت 6/ 350 الميزان: 2/ 632. وقال الحافظ: صحيح الدارقطني وابن حبان وقفه. التلخيص: 1/ 24، الدارية: 1/ 54، ونقل الزيلعي عن الذهبي قوله: وهذا سند صحيح (أي الموقوف) نصب الراية: 1/ 99. درجة الحديث: المرفوع ضعيف والموقوف صحيح. (¬3) رواه الحاكم في المستدرك: 1/ 142، من حديث الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه مرفوعاً، وسكت عنه الحاكم، ورواه الدارقطني في سننه 1/ 35 من نفس الطريق، وقال الحافظ هو من طريق أهل البيت وفي إسناد من لا يعرف التلخيص: 1/ 12، وكذا قال الشوكاني في النيل: 1/ 16. درجة الحديث: ضعيف. (¬4) رواه الحاكم في المستدرك: 1/ 143 وسكت عنه والدارقطني في السنن: 1/ 37 كلاهما من طريق عمرو بن =

وأمثلها حديث أبي هُرَيْرَة هذا، واتفقت الصحابة على جواز الوضوء بماء البحر إلا ما روي عن عبد الله بن عمر (¬1) وعبد الله بن عمرو. وكان عبد الله ابن عمرو يقول هو طبق جهنم (¬2)، وروي عنه أنه قال هو نار، وكأن هذا إشارة إلى أنه ماء سخط وعذاب فلا يتوضأ ¬

_ = شعيب عن أبيه عن جده، ووقع في رواية الحاكم الأوزاعي بدل المثنّى (ابن الصبّاح) وهو غير محفوظ. التلخيص: 1/ 12. وهذا الطريق فيه المثنّى بن الصبّاح، بالمهملة والموحدة الثقيلة، اليماني أبو عبد الله، أو أبو يحيى، نزيل مكة ضعيف اختلط بأخرة وكان عابداً من كبار السابعة، مات سنة 149 / د ت ق ت 2/ 228 وانظر ت ت 10/ 35. درجة الحديث. ضعيف. (¬1) رواه ابن أبي شيبة من طريق عقبة بن صهبان قال: سمعت ابن عمر يقول: التيمم أحب إلى من الوضوء من ماء البحر، مصنف ابن أبي شيبة: 1/ 131 موقوفاً وعزاه الشوكاني في النيل: 1/ 17 إلى ابن عمر فقال قوله - صلى الله عليه وسلم -:"لَا تَرْكَبِ البَحْرَ إلَّا حَاجّاً أَوْ مُعْتَمِراً أَوْ غَازِياً في سَبِيلِ الله فإِنَ تَحْتِ البَحْرِ نَاراً وَتَحْتِ النَّارِ بَحْراً" أخرجه أبو داود وسعيد بن منصور في سننه عن ابن عمر مرفوعاً، وقد روى موقوفاً على ابن عمر بلفظ "مَاءُ البَحْرِ لَا يُجْزِي مِنْ وُضُوءٍ وَلَا جَنَابَةٍ إنَّ تَحْتَ البَحْرِ نَاراً ثُمَّ مَاءاً ثُمً نَاراً حَتَّى عَدَّ سَبْعَةَ أَبْحُرٍ وَسَبْعَةَ أنيَارٍ". قلتُ: والذي في سنن أبي داود: 3/ 13 من حديث عبد الله بن عمرو إن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً وليس فيه ذكر لابن عمر. ثم قال الشوكاني وحديث ابن عمر المرفوع قال أبو داود رواته مجهولون وقال الخطابي ضعَّفوا إسناده، وقال البخاري ليس هذا الحديث بصحيح، قلت: وهذا كله قيل في حديث عبد الله بن عمرو. وقال الترمذي: كره بعض أصحاب النبىّ، - صلى الله عليه وسلم -، الوضوء بماء البحر منهم ابن عمر وعبد الله بن عمرو، وقال عبد الله بن عمرو وهو نار. الترمذي: 1/ 102، وكذا نقل البغوي مثل قول الترمذي. شرح السنة: 2/ 56. درجة حديث ابن عمر موقوف وفيه قتادة مدلّس وقد عنعنه فعليه يكون ضعيفاً. (¬2) رواه أبو داود من حديث بشر بن مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم,:"لا يَرْكَبِ البَحْرَ إلَّا حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ في سَبِيلِ الله فَإِنَ تَحْتَ البَحْر ناراً وَتَحْتَ النَّارِ بَحْراً" أبو داود 3/ 13، ورواه البخاري في ترجمة بشر بن مسلم الكندىِ عن رجل عن عبد الله ابن عمر عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وقال الكندي عن عبد الله ابن عمرو عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ولم يصح حديثه، وقال أبو حمزة عن مطرف عن بشر أبي عبد الله عن عبد الله بن عمرو. التاريخ الكبير: 3/ 104 - 105. وقال المنذري في هذا الحديث أضطراب روي عن بشير هكذا، وروى عنه أنه بلغه عن عبد الله بن عمرو، وروى عنه عن رجل عن عبد الله بن عمر وقيل غير ذلك، وقال =

به كما نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، عن الوضوء بماء (¬1) ثمود وحضّ على الوضوء بماء بئر صالح (¬2) التي كانت تردها الناقة هذا ضعيف فإنه لو كان ماء سخط وماء عذاب لما أذن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، في ركوبه فكيف بأن يمدح راكبه وكيف لا يتوضأ به وهو منزل من السماء مخرج بالقدرة إلى التهيؤ للمنفعة وليس فيه أكثر مما أنه لايصلح للشرب وذلك لا يمنع من جواز الوضوء كالماء الأجاج وقد ركبت الصحابة البحر من عهد (¬3) النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، ركوباً طويلاً مراراً فما روي عن أحد منهم أنه احتمل تراباً للتيمم. تنبيه: لما لم يكن هذا الحديث على (¬4) شرط البخاري. بوب عليه فقال باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل (¬5) عنه، وأدخل حديث ابن عمر: سئل رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، عما يلبس المحرم من الثياب (¬6)، وإنما قصد التنبيه على هذا الحديث الذي فيه جواب السائل بأكثر مما سأل عنه في موضعين: ¬

_ = الخطابي ضعفوا إسناد هذا الحديث. مختصر السنن: 3/ 359. وعزاه الشّوكاني لسعيد بن منصور وقال قال أبو داود رواته مجهولون. نيل الأوطار: 1/ 17 وكذا نقل صاحب عون المعبود: 7/ 167. ورواه ابن أبي شيبة من طريق قتادة عن أيوب المَراغي عن عبد الله بن عمرو بلفظ (مَاءُ البَحْرِ لَا يَجْزِي مِنْهُ وُضُوءٌ وَلَا جَنَابَةٌ ..) المصنف: 1/ 131. درجة الحديث: ضعيف. (¬1) متفق عليه، البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف 1/ 79 وفي كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى، {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ}: 6/ 67، ومسلم في كتاب الزهد، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين: 4/ 2285، وأحمد. انظر الفتح الرباني: 20/ 46، كلهم من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هؤُلاَءِ المُعَذّبِينَ إلَّا أَنْ تَكونوا بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أصَابَهُمْ". (¬2) مسلم في الباب السابق: 4/ 2286 من حديث ابن عمر. (¬3) في ك وم زمن. (¬4) في ك وم من. (¬5) البخاري في كتاب العلم: 1/ 32. (¬6) متفق عليه، البخاري في عدة مواضع منها الموضع السابق، وفي الحج باب ما لا يلبس المحرم من الثياب: 2/ 168، ومسلم في الحج باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة 2/ 834، والموطأ: 1/ 324 - 325، وشرح السنة: 7/ 237.

الأول: قوله هو الطهور ماؤه، فإنه لو قال له نعم لكان جواباً محالاً على السؤال وكان يقتضي ألا يجوِّز الوضوء بماء البحر إلا عند خوف العطش وقلة الماء، فأطلق النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، القول إطلاقاً ليبين أنه طهور مطلق وحكم عام. الموضع الثاني: قوله: (الحلَّ ميتته) وكأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فهم من السائل استنكافاً من البحر فأراد النبيُ - صلى الله عليه وسلم -، أن يبين له أنه بركة كله ماؤه طهور وميتته حلال (¬1) وظهره مجاز وقعره جواهر ودرر وقد قال جماعة منهم: (ح) لا تحل ميتته وتعلق في ذلك (¬2) بعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬3) وهذا عموم (¬4) ظاهر وما قلناه أصح لثلاثة أدلة أحدها هذا الحديث الذي تلوناه آنفاً. والثاني: حديث أبي عُبَيْدَة، رضي الله عنه، حين ألقى لهم البحر حوتاً يقال له: العنبر فأكلوه. (¬5) فإن قيل كانت تلك حال ضرورة، قلنا: وهو الدليل الثالث، قد أكل القوم منه وشبعوا وادَّهنوا وتزوَّدوا، لو كانت حال ضرورة ما جاز شيء من ذلك وقد وافقنا أبو (ح) على أكل ما صاده المجوسي من السمك (¬6)، فلو كان الصيد تذكية كما زعموا ما جاز من المجوسي لأنه ليس من أهل الذكاة. تفسير: إذا ثبت أن الماء طهور لا ينجس إلا بماء غيَّر صفاته، لكنه يستحب صيانة قليله عن النجاسة لأنه أكمل في الطهارة وأقوى للنظافة وأطيب على النفس، فأما المياه الكثيرة كالآبار العظام والأنهار الكبار فإِنه يجوز رمي النجاسات والأقذار فيها قصداً، وعلى ذلك هذه الأمة كلها في البلاد التي تكون على الأنهار، وقد سئل النبيُّ- صلى الله عليه وسلم - (عَنْ بِئْرِ ¬

_ (¬1) في "م" حل. (¬2) في ك وص في ذلك. (¬3) سورة المائدة، آية 3. (¬4) قال الجصاص الحنفي قال أصحابنا لا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك، وهو قول الثوري، أحكام القرآن للجصاص: 2/ 479 وانظر شرح فتح القدير لابن الهمام: 8/ 65 وأحكام القرآن للشارح: 1/ 52. (¬5) روي مسلم، في كتاب الصيد والذبائح باب إباحة ميتات البحر، من حديث جابر قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأَمَّرَ علينا أبا عُبَيْدة نتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم نجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة .. وانطلقنا على ساحل البحر فرفع لا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فإذا هي دابة تدعى العنبر .. مسلم: 3/ 1535. (¬6) انظر نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار تكملة فتح القدير 8/ 53، فقد قال إن المجوسي إذا صاد سمكة حلَّ أكلها.

بضَاعَةٍ وَقِيلَ لَهُ إِنَّهَ يُطْرَحُ فِيهَا الجِيَفُ وَالنَتَنُ وَمَا يَنَحى النَّاسُ فَقَالَ المَاءُ طَهُورٌ لاَ يَنْجِسُهُ شَيْءٌ (¬1)). حديث قول الرسول، - صلى الله عليه وسلم - "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسٍ إِنَّما هِيَ مِنَ الطَّوَّافِينَ" (¬2). الحديث قد روى الدارقطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، دُعي إلى دَار قوم فأجاب، ودُعي إلى دار آخرين فلم يجب، فقيل له في ذلك؟ فقال: "إن في دار بني فلان، يعني التي لم يجب إليها، كلباً". فقيل له: في دار بني فلان، يعني الدار التي أجاب إليها هرة؟ فقال: "الهرة سبع (¬3)، يعني أنها سبع المؤذيات للآدميين من الفأر والخشاش"، ولهذا قال في ¬

_ (¬1) أبو داود: 1/ 53 من طريق أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن محمَّد بن كعب عن عبيد الله بن رافع بن خديج عن أبي سعيد الخدري أنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنتوضأ من بئر بضاعة، وقال سمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قَيِّم بئر بضاعة عن عمقها؟ قال: أكثر ما يكون فيها الماء إلى العانة، قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة. قال أبو داود: وقدَّرت أنا بئر بضاعة بردائي؛ مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غيّر بناؤها عما كانت عليه؟ قال: لا، ورأيت فيها ماءاً متغير اللون. وأخرجه الترمذي: 1/ 95 وقال هذا حديث حسن، وقد جوَّد أبو أسامة هذا الحديث فلم يروِ أحد حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد ورواه النسائي: 1/ 174 من طريق أخرى عن أبي سعيد قال: مررت بالنبي، - صلى الله عليه وسلم -، وهو يتوضأ من بئر بضاعة فقلت أنتوضأ منها .. وأخرجه البيهقي في السنن: 1/ 4، والدارقطني: 1/ 31، وقال الحافظ في التلخيص حديث حسن، وقد جوَّده أبو أسامة وصحَّحه أحمد ابن حنبل ويحيى بن معين وأبو محمد بن حزم. تلخيص الحبير: 1/ 24. درجة الحديث: صحيح. (¬2) أبو داود: 1/ 60 من طريق مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحه عن حميدة بنت عبيد بن رفاعة عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة أن أبا قتادة ... رواه الترمذي: 1/ 153 وقال هذا حديث حسن صحيح، والنسائي: 1/ 178 والموطّأ: 1/ 22، وابن ماجه: 1/ 131، والدارمي: 1/ 187 - 188، وابن خزيمة: 1/ 55، وابن أبي شيبة: 1/ 31، والدارقطني: 1/ 71، والحاكم في المستدرك: 1/ 160، وأحمد، انظر الفتح الرباني: 1/ 222، والحديث نقل الحافظ في التلخيص تصحيحه عن البخاري والعقيلي والدارقطني التلخيص: 1/ 54، ونقل تصحيحه في بلوغ المرام عن ابن خزيمة، بلوغ المرام رقم 10، وصححه البغوي في شرح السنة: 2/ 70. درجة الحديث: صحيح. (¬3) رواه الدارقطني في سننه: 1/ 63 من طريق عيسى بن المسيب، حدثنى أبو زرعة عن أبي هُرَيْرَة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يأتي دار قوم من الأنصار، وقال تفَّرد به عيسى بن المسيب عن أبي زرعة وهو صالح =

الحديث، "إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكمْ وَالطَّوَّافَاتِ"، فأشار، - صلى الله عليه وسلم -، إلى أن الحاجة إليها أسقطت. اعتبار حالها في نجاسة سؤرها، رفعاً للحرج وتنبيهاً على أصل من أصول الفقه، وهو أنَّ كلَّ ما دعت الضرورة إليه من المحظور فإنه ساقط الاعتبار على حسب الحاجة وبقدر الضرورة وفي إصغاء الإناء لها فائدتان إحداهما طلب الأجر في ذي الكبد الرطبة. والثانية. الابتداء بتمكينها من الماء إشارة إلى أن طهارة سؤرها أصلية، وأن ما يعرض من حالها المتوهمة بأكلها للنجاسة ساقط الاعتبار، وهذا ما لم تر في (¬1) فمها أذى أو تمشي على عينك من النجاسة إلى الماء، فإن ذلك لا يجوز حتى تغيب عنك فتعود إلى أصلها، الذي حكم لها به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. فأما آثار السباع إذا وردت مياه الفلاة فإنها ساقطة الاعتبار أيضاً بعلَّة أنه لا يمكن الاحتراز منها، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، (سُئِلَ عَنِ المِيَاهِ تَرِدُهَا السِّبَاعُ فَقَالَ. لَهَا مَا حَمَلَتْ في بِطُونِهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابَاً وَطَهُوراً) (¬2)، ويخالف هذا ¬

_ = الحديث، وأخرجه الحاكم في المستدرك: 1/ 183 وقال حديث صحيح ولم يخرجاه، وعيسى هذا ليس بالقوي تفرد عن أبي زرعة إلا أنه صدوق ولم يجرح قط، وتعقبه الذَّهبي وقال ضعفه أبو داود وأبو حاتم، أهـ. وقال ابن أبي حاتم في العلل قال أبو زرعة لم يرفعه أبو نعيم وهو أصح وعيسى ليس بالقوي، العلل: 1/ 44. وقال الحافظ في التلخيص عيسى ليس بالقوي، قال العقيلي لا يتابعه على هذا الحديث إلا من هو مثله، أو دونه، ونقل عن ابن حبّان أنه خرج عن حدِّ الاحتجاج به، وقال ابن عدي هذا لا يرويه غير عيسى وهو صالح فيما يرويه. تلخيص الحبير: 1/ 37 ورواه في الكامل في ترجمة عيسى: 5/ 1892، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه لأحمد وقال: فيه عيسى بن المسيب وهو ضعيف. مجمع الزوائد: 1/ 287 وساقه العقيلي في الضعفاء: 3/ 386. أقول: الحديث فيه عيسى بن المسّيب البَجْلي قاضي الكوفة في إمرة خالد القسري عن الشعبي وقيس بن أبي حازم وإبراهيم النّخعي. وعنه هاشم بن القاسم ووكيع وأبو نعيم، ضعَّفه ابن معين وأبو زرعة وغيرهما وقال أبو حاتم محله الصدق، وضعفه أبو داود والنسائي والدارقطني وجازف الحاكم في مستدركه وأخرج حديثه فصححه، وقال ابن حبّان كان ممن يقلب الأخبار ويخطىء في الآثار ولا يعلمه حتى خرج عن حدّ الاحتجاج به، تعجيل المنفعة ص 329، وانظر المجروحين: 2/ 119، الكامل: 5/ 1892، الضعفاء: 3/ 386، الميزان: 3/ 323، تاريخ ابن معين: 2/ 464. درجة الحديث: ضعيف. (¬1) قال مالك لا بأس إلا أن يرى في فمها نجاسة. الموطّأ: 1/ 23. (¬2) رواه ابن ماجة: 1/ 173 من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء ابن يسار عن أبي سعيد =

الدواجن التي تكون في البيوت فإنه ممكن الاحتراز منها ولا تدعو الحاجة إليها، ويخالف سؤر النصراني وشارب الخمر لأن ذلك معصية لا رخصة فيها ولا اعتبار بها، ويتركب على هذا مسألة أسئِار النساء، قال جماعة منهم: أحمد لا يتوضأ بسؤر المرأة (¬1) لحديث رواه لم يصح، وقد ثبت في الصحيح مخالطة الرجال والنساء (¬2) والوضوء معهن وبما يفضل عنهن، وليس من جملة نواقض الوضوء أَكل ما غيَّرت النار وقد ثبت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّهُ يُتَوضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ وَلَا يُتَوَضَّأ مِنْ لُحُومِ الغَنَمِ" (¬3)، وقد جاء مالك، ¬

_ = الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، "سُئِلَ عَنِ الحِيَاضِ الَّتِي بَيْنَ مَكَةَ وَالمَدِينَةِ تَرِدُهَا السَبَاعُ وَالكِلاَبُ وَالحُمُرُ وَعَنِ الطَّهَارَةِ مِنْهَا فَقَالَ" ... أقول: الحديث فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي، مولاهم، ضعيف من الثامنة، مات سنة 182/ ت ق. ت 1/ 480 وقال ابن حبّان: كان ممن يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف فاستحق الترك. المجروحين: 2/ 57، وانظر الميزان: 2/ 565، التاريخ الكبير: 5/ 284 وقال الذهبي ضعفه. الكاشف: 2/ 164 وقال في ت ت ضعَّفه أحمد، وقال البخاري وأبو حاتم ضعفه علي بن المديني جداً، وضعفه النسائي، وقال أبو زرعة ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بقوي وقال الحاكم وأبو نعيم روى عن أبيه احاديث موضوعة، وقال ابن الجوزي: أجمعوا على ضعفه ت ت 6/ 177 وقال الزيلعي هو معلول بعد الرحمن، نصب الرواية: 1/ 36 وقال البوصيري هذا إسناد ضعيف، مصباح الزجاجة: 1/ 75. درجة الحديث: ضعيف خلاف ما ذهب إليه الشارح، والله أعلم. (¬1) انظر الفتح الرباني: 1/ 211 فقد أخرجه من طريق شعبة عن عاصم الأحول عن أبي حاجب عن الحكم بن عمرو الغفاري، رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نَهَى أنْ يَتَوَضَأَ الرَّجُلُ مِنْ سُؤْرِ المَرْأَةِ" وأبو داود: 1/ 63 من نفس الطريق والترمذي: 1/ 93 وقال هذا حديث حسن وابن ماجة: 1/ 132 وأبو داود الطيالسي: 1/ 42 وابن حبان انظر موارد الظمآن ص 80، والبغوي في شرح السنة: 2/ 28 وقال ولم يصحح محمَّد ابن إسماعيل حديث الحكم بن عمرو وإن صح فهو منسوخ، وصححه الحافظ في بلوغ المرام ص 11 وذكره في الفتح وقال رجاله ثقات ولم أقف له على علّة. فتح الباري: 1/ 300. درجة الحديث: ضعفه الشارع والبخاري والنووي؛ فقد نقل ذلك الحافط في الفتح: 1/ 300 وقال أغرب النووي فقال اتفق الحفّاظ على تضعيفه، وصحّحه ابن خزيمة وابن حبان وابن حجر والشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: 1/ 93. (¬2) البخاري في الوضوء، باب وضوء الرجل مع امرأته، وفضل وضوء المرأة 1/ 60 ولفظه عن ابن عمر. "كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّؤُونَ في زَمَانِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، جَمِيعاً". (¬3) أبو داود: 1/ 128، والترمذي: 1؛122، وابن ماجه: 2؛ 93، وابن خزيمة: 1/ 22 وأحمد. انظر الفتح الرباني: 2/ 94 كلهم عن البراء بن عازب وقال ابن خزيمة لم نر خلافاً بين علماء أهل الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل لعدالة رواته. وعزاه الحافط في، التلخيص، إلى ابن حبان وابن =

رضي الله عنه، في هذا الباب، بأصل بديع فقال: ترك الوضوء مما مست النار، ثم أدخل اختلاف الأحاديث، ثم أدخل عمل الخلفاء بترك الوضوء مما مست النار (¬1)، وهي مسألة من أصول الفقه إذا اختلفت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما عمل بها الخلفاء أرجح (¬2)، وما روي أن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، قرِّب إليه خبزاً ولحماً فأكل منه ثم توضَّأ وصلَّى فحكاية (¬3) حال وقضية عين ونقل صورة ولم يكن الوضوء من الأكل وإنما كان الوضوء من سببه الموجب له ¬

_ = الجارود وقال: قال البهيقي صح في الوضوء من لحوم الإبل حديثان: حديث جابر بن سمرة وحديث البراء قاله أحمد بن حنبل وإسحاق. التلخيص: 1/ 115 - 116، قلت: وحديث جابر رواه مسلم في الحيض، باب الوضوء من لحوم الإبل 1/ 275. درجة الحديث: صحيح. (¬1) الموطّأ: 1/ 25. (¬2) انظر كتاب المحصول للشارح: ل/ 65. (¬3) أبو داود: 1/ 49، والترمذي من طريق محمَّد بن عقيل سمع جابراً قال سفيان وحدثنا محمَّد بن المنكدر عن جابر قال: "خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأَنَا مَعَهُ، فَدَخَلَ عَلى امْرأَةٍ مِنَ الَأنْصَارِ فَذَبَحَتْ لَهُ شَاةً فَأَكَلَ، وأَتَتْهُ بِقَنَاعٍ مِنْ رَطْبٍ فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمَ تَوَضَّأ وَصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ، فَأَتَتْهُ بِعَلَالَةٍ مِنْ عَلَالَةِ الشَّاةِ فَأَكَلَ ثُمَّ صَلَّى العَصْرَ وَلَمْ يَتوَضَّأ". الترمذي: 1/ 116 والموطّأ: 1/ 27 مرسلًا والنسائي: 1/ 108 مختصراً، وابن ماجة 1/ 164 بلفظ. أكَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأَبو بَكْرٍ وَعُمَرَ خُبزاً وَلَحْماً وَلَمْ يَتوَضَّأ، وقال الشيخ محمَّد فؤاد عبد الباقي قال في الزوائِد رجال الإسناد ثقات، ورواه عبد الرزاق في المصنف: 1/ 165، وأبو داود الطيالسي منحة المعبود -1/ 58 كلهم من حديث جابر بن عبد الله، وقال الشيخ أحمد شاكر، في تعليقه على رواية الترمذي: هذا حديث صحيح ليست له علة، وقد حاول بعضهم أن يعلله فنقل البيهقي في المعرفة أنه قال لم يسمع ابن المنكدر هذا الحديث من جابر إنما سمعه من عبد الله بن محمَّد بن عقيل عن جابر وهو مردود برواية ابن جريج عند أحمد. انظر الفتح الرباني: 2/ 103 وأبي داود: 1/ 49، قال أخبرني محمَّد بن المنكدر قال سمعت جابر بن عبد الله يقول: "قُرِّبَ لَلْنَّبيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، خُبْزا وَلَحْما فَأكَلَ ثُمَّ دَعَا بِوُضُوءٍ فَتَوَضَأَ بِهِ ثُمَ صلَّى الظّهْرَ ثُمَّ دَعَا بِفَضْلِ طَعَامِهِ فَأَكَلَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ" والبيهقي في السنن 10/ 154 - 55. ونقل الشوكاني عن النووي قوله: حديث جابر حديث صحيح روه أبو داود، والنسائي وغيرهما من أهل السنن بأسانيدهم الصحيحة، وقال الحافط: يشهد لأصل الحديث ما أخرجه البخاري في الصحيح عن سعيد بن الحارث قلت لجابر. الوضوء مما مست النار؟ قال. لا. وللحديث شاهد آخر من حديث محمَّد بن مَسْلمة أخرجه الطبراني في الأوسط ولفظه "أكَلَ آخِرَ أمْرِهِ لَحْماً ثُمَ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأَ". نيل الأوطار 1/ 247. درجة الحديث: صحيح بالنظر إلى مجموع طرقه.

جامع الوضوء

لأجل الصلاة، وقد أنكر أبيُّ بن كعب وأبو طلحه على أنس، رضي الله عنهم، مسألته التي جاء بها من سفرته وهي الوضوء مما مست النار، فندم أنس، رضي الله عنه، ورجع عن قوله (¬1). والمسألة اليوم ساقطة الاعتبار لإجماع علماء الأعصار عليها، وإنما خص النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، لحوم الإبل بذكر الوضوء في ذلك الحديث للإشارة (¬2) إلى غلظها وزهمتها، والصلاة ينبغي أن تكون على أكمل نظافة (ولأجل) ذلك شرعت فيها الطهارة. جامع الوضوء: ترجم مالك رضي الله عنه، على إزالة النجاسة بالوضوء نفياً فقال ما لا يجب منه الوضوء (¬3) وإثباتاً فقال جامع الوضوء (¬4). واختلف عنه أصحابه في حكمها فقال أشهب ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطّأ: 1/ 27 عن موسى عن عبد الرحمن بن زيد الأنصاري أن أنس بن مالك قدم من العراق فدخل عليه أبو طلحة وأبي بن كعب فقرَّب لهما طعاماً قد مسته النار، فأكلوا منه، فقام أنس فتوضأ فقال أبو طلحه وأبي بن كعب: ما هذا يا أنس أعراقية؟ فقال أنس: ليتني لم أفعل ..... ورواه البيهقي في السنن الكبرى: 1/ 158 والطحاوي في معاني الآثار: 1/ 69 وعبد الرازق في المصنف: 1/ 170. أقول: الحديث فيه عبد الرحمن بن زيد بن عقبة المدني الأنصاري عن أنس، رضي الله عنه، وروى عنه موسى بن عقبة وبكير بن الأشج وعمرو بن يحيى المازني قال أبو حاتم عن أبيه: ما بحديثه بأس، وذكره ابن حبان في الثقات، تعجيل المنفعة ص 250 ووقع في شرح الزرقاني: 1/ 61، والسيوطي في تنوير الحوالك: 1/ 49 عبد الرحمن بن يزيد، والصواب بن زيد كما في تعجيل المنفعة وجامع الأصول: 7/ 222 وأوجز المسالك: 1/ 220. درجة الحديث: نقل السيوطي عن ابن عبد البر عند هذا الحديث قوله: مرسلات مالك كلها صحيحة مسندة تنوير الحوالك: 1/ 49 وصححه عبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول: 7/ 222. (¬2) في "م" إشارة. (¬3) الموطأ: 1/ 24. (¬4) الموطّأ: 1/ 28 وقال عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سئل عن الاستطابة فقال "أولاَ يَجِدُ احدُكُمْ ثَلاَثةَ أحْجَارٍ"، وهو بهذه الطريق مرسل وقد وصله أبو داود: 1/ 37، والنسائي: 1/ 41 - 42 كلاهما من طريق أبي حازم عن أبيه عن مسلم ابن قُرْط عن عروة عن عائشة وأحمد. انظر الفتح الرباني: 1/ 278. والدارقطني: 1/ 54 - 55. وقال إسناد صحيح. أقول: الحديث فيه مسلم بن قُرْط. بضم القاف وسكون الراء بعدها مهملة. المدني مقبول من السادسة/ دس. ت 2/ 246 وقال في ت ت ذكره ابن حبان في الثقات وقال: هو يخطئ. قال الحافظ قلت هو مقل جدّاً وإن كان مع قلة حديثه يخطئ فهو ضعيف وقد قرأت بخط الذهبي لا يعرف وحسَّن الدارقطني حديثه ت ت 10/ 134 وقال الذهبي في الكاشف: 3/ 142 نكرة، وقال السيوطي لا يعرف هذا الحديث بغير هذا الإسناد. النسائي 1/ 42.

إزالتها مستحبة، وقال بن القاسم. هي واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان، وقال ابن وهب: هي فرض في كل حال وبه قال (¬1) (ش)، وقال (ح) (¬2): تلزم إزالتها إذا كانت مجتمعة في موقع واحد على قدر الدرهم البغلي (¬3) بعني به على قدر الدينار، وإنما سمح في هذا المقدار منها قياساً على المخرج فإن الشرع سمح فيما يبقى من أثر النجاسة عليه بعد الاستنجاء فقاس هذا عليه، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سئل عن الاستطابة (¬4)، يعني استعمال الطيب، وهو إزالة الأقذار والأنجاس، وقيل هو استعمال الماء، فإنه أطيب الطيب لأن كل طيّب يعود قذراً في آخر الأمر ويزال بالماء، والماء طيب أبداً لا استحالة فيه وهو من فرض (¬5) الشريعة ومحاسن الملَّة وأول كلمة سمعها نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -، من ربه قال الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (¬6) ولا يلتفت إلى تأويل فيها لا تعضده لغة ولا تشهد له شريعة، وبذلك كانت العرب تتمدح ولذلك قال شاعرهم الأول. ثياب (¬7) بني عوف طهارى نقية وأوجههم عند المشاهد غران. وهي واجبة من طريق الأولى، فإن الله تعالى إذا أوجب الوضوء في الأعضاء لدرء الدرن الظاهر فأَوْلى وأَحْرى أن يوجب إزالة النجس، وقد أمر النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، بغسل الدم بالماء في الصحيح فقال: "حِتِّيهِ ثُمَّ أقْرِصِيهِ (¬8) ثُمَّ اغْسِليِه ¬

_ (¬1) انظر المجموع للنووى: 2/ 94 - 95. (¬2) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام: 1/ 150، والبناية: 1/ 723. (¬3) قال العيني: المراد بالدرهم الشهليلى نسبة إلى موضع يسمى الشهليل، وفي المغرب الشهليلي من الدراهم مقدار عرض الكف، وفي المحيط بالدراهم ما يكون مثل عرض الكف .. ثم قال وفي بعض الكتب قدره بالدرهم البغلي. البناية: 1/ 733. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) في "م" فروض. (¬6) سورة المدثر، آية 4. (¬7) البيت في ديوان امرء القيس ض 213، وتاج العروس: 3/ 444، ولسان العرب: 4/ 506، وعزاه المؤلف في الأحكام: 4/ 1875 إلى ابن أبي كبشة، وتبعه القرطبي في ذلك الجامع لأحكام القرآن: 19/ 63 وانظر مختارات الشعر الجاهلي لمصطفى السقا ص: 69. (¬8) متفق عليه، البخاري في الحيض، باب غسل دم الحيض: 1/ 58، ومسلم في الطهارة، باب نجاسة الدم وكيفية غسله: 1/ 240 والموطأ: 1/ 60 - 61، وأبو داود: 1/ 255، والتِّرْمِذي: 1/ 254 - 255، وشرح السنة: 2/ 76، والنسّائي: 1/ 195 كلهم عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سألت امرأة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله أرأيت إحدانا إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة كيف تصنع فقال. لفظ مسلم.

بِالمَاءِ" ثم قال: "تَنَرَّهُوا مِنَ البَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ القَبْرِ مِنْهُ" (¬1) وقال في الصحيح، وقد سمع عذاب رجل في قبره: "كَانَ هذَا لَا يَسْتَتِر مِنْ بَوْلِهِ" (¬2) وكانت موظفة (¬3) على من تقدَّمَنا من الأمم حتى كان إذا أصاب ثوبَ أحدهم البولُ قرضه بالمقراض وسمح الله تعالى لنا أيتها الأمة فأعطانا الطهارة بالماء، لكن خفّف الله تعالى في الاستنجاء بإزالة النجو بالجمار ولا يضر أثره وهذا جمع عدم الماء اتفاقاً فإن وجد الماء. فقال ابن حبيب: لا يجوز الاستنجاء وهي زلة فإنه إنما شرع والماء موجود واستحبت الشريعة الاجتماع (¬4) بين الأحجار والماء، ومدح الله به أهل قباء فقال: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} (¬5)، واختلف في ذكر هذه الثلاثة الأحجار فقال (¬6) (ش): هي الأصل لا يجوز أقل منها وقال (¬7) (م ح): إذا أنقى بحجر واحد أجزأه، وقد قال النَّبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني: 1/ 127 من طريق أبي جعفر الرازي عن قتادة عن أنس وقال المحفوظ المرسل. ورواه ابن أبي حاتم في العلل، وقال أبي حدثنا أبو سَلَمة عن حمّاد وعن ثُمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مرسل وهذا أشبه عندي، وقال أبو زرعة المحفوظ عن حماد عن ثمامة عن أنس. العلل لابن أبي حاتم: 1/ 26، وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة وقال شارحه المناوي قال الذهبي سنده وسط، فيض القدير: 3/ 269 - 270 أقول: رواية الدارقطني فيها أبو جعفر الرازي التيمي مولاهم مشهور بكنيته واسمه عيسى بن أبي عيسى بن عبد الله بن ماهان وأصله من مرو، وكان يتجر بالري صدوق سيء الحفظ خصوصاً عن المغيرة من كبار السابعة، مات في حدود 60/ بخ عم ت 2/ 406 وانظر ت ت 2/ 56، تهذيب الكمال: 3/ ل 1593 ب الميزان 3/ 510، المجروحين: 3/ 120، ويقول الشيخ ناصر: وعلة هذا الموصول أبو جعفر الرازي وهو ضعيف لسوء حفظه لكن رواه حماد بن سلمة عن ثمامة عن أنس به هكذا، ورواه جماعة عن حماد، ورواه أبو سلمة عن حماد عن ثمامة مرسلاً والمحفوظ الموصول كما قال ابن أبي حاتم: 1/ 26 عن أبي زرعة وقال: قلت وهذا إسناد صحيح. إرواء الغليل: 1/ 310 وصححه أيضاً في صحيح الجامع الصغير: 3/ 55. درجة الحديث صحيح بالشواهد والمتابعات فقد ذكر له الشيخ ناصر في الإرواء عدة شواهد عن أبي هريرة وابن عباس. (¬2) مسلم في الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه. من حديث ابن عباس قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبرين فقال "إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ .. "، مسلم: 1/ 230 - 241. (¬3) أي مفروضة، قال ابن منظور ووظف الشيء على نفسه ووظفه توظيفاً ألزمها إياه. لسان العرب: 3/ 949. (¬4) في "م" الجمع وهو عندي أحسن. (¬5) سورة التوبة، آية 108. (¬6) انظر المجموع للنووي: 2/ 95. (¬7) انظر فتح القدير لأبن الهمام: 1/ 148 - 149.

"مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِر وَمَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لا فَلَا حَرَجَ" (¬1) وفائدة تخصيصه للثلاثة الأحجار بالذكر أنها كافية في الأغلب حجران للصفحتين وحجر للمشربة. حديث: قوله إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "خَرَجَ إلى المَقْبُرَةِ" (¬2) إلى آخره، أما خروجه - صلى الله عليه وسلم - فيحتمل أن يكون اتفاقاً، ويحتمل أن يكون اعتباراً، ويحتمل أن يكون بوحي للترحم وقوله: "السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ" قال قوم يقال لهم بالسلامة وقيل أمر بذلك فيهم فأحياهم الله حتىِ سمعوه، وقيل: بل هي السنة في كل مارٍ بمقبرة وقد روي عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ فَقَالَ: عَلَيْكُمُ السَّلَامُ فَقَالَ رَسُولُ الله،- صلى الله عليه وسلم - قُلْ سلامٌ عَلَيْكَ (¬3) فَإِنَّ السَّلَامَ تَحِيَّةُ المَيِّتِ" (¬4)، فقيل إشارة إلى التأبين كقوله: ¬

_ (¬1) رواه أبي داود من طريق ثور عن الحصين الحبراني عن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنِ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فَقَدْ أَحْسَنَ وَمَنْ لَا فَلاَ حَرَجَ وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ .. " أبو داود 1/ 37، وابن ماجة مختصراً: 2/ 1157، وأحمد. انظر الفتح الرباني: 1/ 261 - 262، وابن حبان. انظر موارد الظمآن ص62 والبيهقي في السنن الكبرى: 1/ 104، وقال وهذا إن صح فإنما أراد، والله أعلم، وتراً يكون بعد الثلاث. وعزاه الحافظ للحاكم بالإضافة إلى من ذكرنا وقال مداره على أبي سعيد الحُبْراني الحمصي وفيه اختلاف، وقيل إنه صحابي ولا يصح والراوى عنه حصين الحُبْراني وهو مجهول، وقال أبو زرعة شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات وذكر الدارقطني الاختلاف فيه في العلل. التلخيص: 1/ 103، وقال في التقريب أبو سعيد الحُبْراني بضم المهملة وسكون الموحدة الحمصي اسمه زياد، وقيل عامر، وقيل عمر، مجهول من الثالثة د ق ت 2/ 428 وفي ت ت قال ابن أبي حاتم. أبو سعيد الحُبْراني سألت أبا زرعة عنه فقال لا أعرفه فقلت ألقي أبا هُرَيْرَة فقال على هذا يوضع، وذكره ابن حبان في الثقات وقال أبو داود، وأبو سعيد من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - .. قال الحافظ أبو سعيد الحُبْراني تابعي قطعاً ت ت 12/ 109. درجة الحديث: ضعيف. (¬2) مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هُرَيْرَة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، "خَرَجَ إِلَى الْمَقبُرَةِ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمُ دار قوْمٍ مُؤْمِنينَ وإنَّا إِنْ شاءَ الله بِكُمْ لَاحِقُونَ .. " الموطّأ: 1/ 28 - 29، ومسلم في الطهارة باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء: 1/ 218 كلاهما عن أبي هُرَيْرَة. (¬3) في "ك" قال - صلى الله عليه وسلم -: عليك سلام تحية الميت. (¬4) أبو داود من طريق طريف ابن مجالد عن أبي جري جابر بن سليم قال: "رَأَيْتُ رَجُلاً يَصْدُرُ النَّاسُ عَنْ رَأيه لَا يقُولُ شَيْئاً إلاّ صَدَروا عَنهُ، قُلت: مَنْ هذا؟ قَالوا. رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، قُلْتُ. عَلَيْكَ السَّلاَم يَا رَسُولَ الله مَرَتَيْنِ، قَالَ. لَا تَقُلْ عَلَيْك السَّلام فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلاَمَ تَحِيَّةُ المَيت .. " سنن أبي داود: 4/ 344، والترمذي: 5/ 71 وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وعزاه المنذري للنسائي، مختصر سنن =

عليك سلام من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق (¬1) وكقوله. عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما (¬2) وقيل هو منسوخ بهذا الحديث وهذا أصح منه، وقوله: دار قوم مؤمنين، كنّى بالدار عن العمرة لها وذلك كثير في فصاحة العرب فتعبر بالمنزل عن أهله، وقوله مؤمنين فحكم لهم بالإيمان إما لما علم من حالهم وكشف له من غيبهم، وإما بظاهر الحال الذي فارقوه عليها والحكم بظاهر الحال في الإيمان واجب من موت في شهادة أو تكلم بكلمة التوحيد عند المنية ولذلك قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ" (¬3) وقوله: وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. قال قوم: معناه إذا شاء الله وليتهم لم يخلقوا ولم يقولوا ذلك ولا تكلموا به، وقيل تأدب النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، بأداب الله عَزَّ وَجَلَّ حين قال له: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ** إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬4) فاستعمل الأدب حتى في الواجب الذي لا بد منه وقيل معناه، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون (في هذه البقعة يعني المدينة (¬5) وقيل إنا إن شاء الله ¬

_ = أبي داود: 8/ 78، "الحاكم في المستدرك: 4/ 186 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه ووافقه الذهبي. درجة الحديث. صححه الترمذي والحاكم والذهبي. (¬1) ذكره ابن عبد البر فى الاستيعاب: 3/ 1158 وقال: قالت عائشة. إِنّي لأحسب القائلَ من الجنّ، وأورده ابن الأثير في النهاية ولم يعزه: 2/ 393 والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 144، وابن سعد في الطبقات: 3/ 374 وعزاه الخطابي إلى الشماخ حسب ما نقل مبارك فوري في تحفه الأحوزي: 7/ 507، وانظر البيان والتبين للجاحظ: 3/ 364، وشرح السنة، 5/ 470. (¬2) البيت لعبدة بن الطيب يرثى به قيم بن عاصم، الصحابي المشهور، انظر الإصابة: 3/ 252، وأورده ابن الأثير في النهاية: 2/ 333، وابن عبد البر في الاستيعاب: 3/ 1296، وابن حجر في الإصابة: 2/ 242 وابن سعد في الطبقات: 7/ 36. (¬3) البخاري في الجنائز، باب الصلاة على الشهيد: 2/ 114 من حديث جابر عبد الله، رضي الله عنهما، قال. كان النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، يجمع بين الرجلين، في قتلى أُحد، في ثوب واحد ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال .. وأبو داود: 3/ 196، والترمذي: 3/ 354، والنسائي: 4/ 62، وابن ماجه: 1/ 485. (¬4) سورة الكهف، آية 23 - 24. (¬5) زيادة من "ك" و"م".

بكم لاحقون) (¬1) على الإيمان ويعود ذلك إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإلى أصحابه معاً (¬2) إذ قد علمنا فيه - صلى الله عليه وسلم - خاصة قطعاً موته على الإيمان وحسن الخاتمة، وقوله. وددت أني رأيت إخواننا، تمنى - صلى الله عليه وسلم - ما لا يكون، والتمنّي تعلُّق الإرادة بما في المستقبل والآسف تعلق الإرادة بالماضي، والتمني لا يجوز إلا في أمور الدين، وقد بيَّنَّا ذلك في شرح كتاب التمنّي واستوفيناه، وفي تشريف الأمة بتمنّي النبيِّ, - صلى الله عليه وسلم -، أن يراها فنحن أولى أن نكون لرؤيته أشد تمنّياً وأكثر تطلّعاً وقوله إخواننا بيان لقوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (¬3) قالت له الصحابة: ألسنا أخوانك؟ قال لهم: بل أنتم أصحابي، فأعطاهم اسماً هو أخص من الأخوة وأشرف منه. والأسماء ثلاثة: صحابي (¬4) وتابعي (¬5) ومؤمن (¬6)، ولكل اسم مرتبته شرحناها في كتاب الدقائق عند ذكرنا رتب الخلق. وقوله: "وَأَنَا فَرَطُهُمُ (¬7) على الحَوْضِ" يريد عند حوضه ينتظر أمته قالت له ¬

_ (¬1) قال الصنعاني: التقييد بالمشيئة للتبرك وامتثالاً لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقيل المشيئة عائدة إلى تلك التربة بعينها. سبل السلام: 2/ 118، وانظر نيل الأوطار: 4/ 127. (¬2) في "م" جميعاً. (¬3) سورة الحجرات آية 10. (¬4) تعريف الصحابي من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -، مؤمناً به، ومات على الإِسلام فيدخل فيمن لقيه من طالت مجالسه أو قصُرت، ومن روى عنه، أو لم يروِ، ومن غزا معه، أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه، ومن لم يره لعارض كالعمى، الإصابة: 1/ 7، مقدمة ابن الصلاح: 262، تدريب الراوي 1/ 394، شرح نخبة الفكر لعلي القارئ: 176، معرفة علوم الحديث للحاكم: 22، الكفاية: 49. (¬5) قال ابن الصلاح قال الخطيب: التابعي من صحب الصحابي وقال: بعد نقل عبارة الخطيب قلت: ومطلقه مخصوص بالتابعي بإحسان، وكلام الحاكم أبي عبد الله وغيره يشعر بأنه يكفي فيه أن يسمع من الصحابي أو يلقاه وإن لم توجد الصحبة العرفية والاكتفاء في هذا بمجرد اللقاء والرؤية أقرب منه إلى الصحابي نظراً إلى مقتضى اللفظين فيهما. مقدمة ابن الصلاح: 271، تدريب الراوي: 1/ 416، شرح نخبة الفكر لعلي القارئ: 184، معرفة علوم الحديث: 41. (¬6) المؤمن هو من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بالقدر خيره وشره، كما جاء في حديث جبريل من رواية عمر بن الخطاب عند مسلم. في كتاب الإيمان: 1/ 37. (¬7) قال الباجي: يريد أنه يتقدمهم إليه ويجدونه عنده يقال: فرطت القوم إذا تقدمتهم لترتاد لهم الماء وتهيىء لهم الماء والرشاء وافترط فلان أنباله، أي تقدمه المنتقى: 1/ 70.

الصحابة، كيف تعرف أمتك؟ قال: لكم سيما ليست لأحد من الأمم غيركم، "تَأتونَ غُرّاً (¬1) مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الوُضوءِ" (¬2) فقيل الوضوء مخصوص بهذه الأمة وقيل هو لسائر الأمم لكن خصت هذه الأمة بتبليج نوره عليهم ليتميزوا لنبيهم، - صلى الله عليه وسلم -، في عرصات الموقف. وفي هذا الحديث تشبيه الرجل الكريم بالخيل كما شبَّه الرجل اللئيم بالحمار، وفيه أن الأغرَّ من الخيل أشرف من البهم (¬3)، وقوله: "فَلَا (¬4) يُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي" معجزة لأنه خبر مُغَيَّبين أحدهما ما وقع من التبديل في الناس بعد موته - صلى الله عليه وسلم -. والثاني ما يكون من الحكم يوم القيامة مما لا يعلمه أحد غيره. وقوله فأقول ربِّ أصحابي، إشارة إلى أنه يأخذهم بالظاهر فيقال: قد بدلوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (¬5). وقال: "فَأَقُولُ فَسُحْقاً فَسُحْقاً" (¬6)، فإن قيل فكيف يكون لهم آثار الوضوء ثم يقال لهم فسحقاً قيل فيه وجهان: ¬

_ (¬1) الغر: جمع للأغر من الغرة بياض الوجه يريد بياض وجوههم بنور الوضوء يوم القيامة. النهاية: 3/ 354. (¬2) متفق عليه، البخاري في كتاب الوضوء، باب فضل الوضوء: 1/ 46، ومسلم في الطهارة باب استحباب اطالة الغرة: 1/ 216 كلاهما عن أبي هريرة. (¬3) البُهُم جمع بهيم وهو في الأصل الذي لا يخالط لونه لون سواه. النهاية 1/ 167. (¬4) قال الباجي: هكذا رواه يحيى وتابعه عليه مطرف، وروى أبو مصعب فيذادن وتابعه ابن القاسم وابن وهب وأكثر رواة الموطأ، وقال ابن وضاح: فلا يذادن لا يفعلن رجل فعلاً يذاد به عن حوضي كما يذاد البعير الضال يريد الذي لا ربّ له فيسقيه، قال ابن وهب: معناه يطردن. المنتقى: 1/ 70. وقال ابن عبد البر: أما رواية يحيى فلا يذادنّ على النهي فقيل إنه قد تابعه على ذلك ابن نافع ومطرف، وقد خرج بعض شيوخنا معنى حسناً لرواية يحيى ومن تابعه أن يكون على النهي أي لا يفعل أحد فعلاً يطرد به عن حوضي وقال لكن قوله: أناديهم ألا هَلُمَّ خبر لا يجوز عليه النسخ ولا بد أن يكون، والله أعلم. الاستذكار: 1/ 242. (¬5) سورة المائدة، آية 117. (¬6) قال الباجي: فسحقاً أي بعداً لهم. المنتقى: 1/ 70، وقال السيوطي: هي بسكون الحاء وضمها لغتان أي بعداً، وهو منصوب على تقدير ألزمهم الله سحقاً وسحقهم سحقاً. تنوير الحوالك: 1/ 51.

أحدهما: أنهم يبعدون في حال ويقربون بعد المغفرة في آخر هذا إن كان التبديل في الأعمال ولم يكن في العقائد. وقيل هم المنافقون (¬1) وكانوا يظهرون الإيمان ويسرّون الكفرَ فيؤتى كل واحد منهم نوراً حتى يظن (¬2) أنه على شيء ثم يكشف له الغطاء. حديث عثمان: روي أنه قال فيه لولا أنه (¬3) بالنون، وروي لولا آية بالياء، وهو الصحيح، وروى مسلم عن عروة أنه قال. لَوْلَا آيَةٌ في كِتَابِ الله مَا حَدَّثْتُكْمُوهُ (¬4)، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} (¬5) الآية. وحديث أبي هريرة في خروج الخطايا باستعمال الوضوء (¬6) في الأعضاء يعني من الذنوب الصغائر دون الكبائر، لقوله في الحديث الصحيح "الصَّلَوَاتُ الخمس وَالجُمُعَة إلى الجُمُعَةِ كَفارَة لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ (¬7) " وتتكفر الكبائِر بالموازنة، وأما نبع الماء ¬

_ (¬1) ليس في "م". (¬2) في "م" يظنون وما في الأصل أحسن. (¬3) قال الباجي: هكذا رواه يحيى بن يحيى ويحيى بن بكير وروى أبو مصعب لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه ثم ذكر مالك ما اعتقد أنه يريد بذلك فقال أراه يريد هذه الآية {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وعلى هذا التأويل يصح رواية يحيى بن يحيى ورواية ابن بكير فيكون معنى قوله: لولا أنه في كتاب الله لولا أن معنى ما أورده عليكم في كتاب الله ما أخبرتكم به ويكون معنى قول أبي مصعب: لولا آية في كتاب الله تتضمن معنى هذا الحديث لما أخبرتكم به كيلا تتكلوا .. وقال: وروى عروة بن الزبير أنه قال يريد قوله تعال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} فعلى هذا التأويل لا تصح روايته، وإنما يجب أن تكون الرواية الصحيحة ما روى أبو مصعب ومن تابعه. المنتقى: 1/ 71، وقال ابن حجر: إن رواية النون تصحيف. فتح الباري: 1/ 261، وهنا يتضح أن ما صححه المؤلف هو الصحيح. والله أعلم. (¬4) مسلم في كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء والصلاة عقبه: 1/ 206، عن طريق ابن شهاب قال: ولكن عروة يحدث عن حمران أنه قال فلما توضأ عثمان قال: والله لأحدثكم حديثاً والله لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه .. قال عروة الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}. (¬5) سورة البقرة آية 159. (¬6) مسلم في كتاب الطهارة، باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء: 1/ 215، والموطّأ: 1/ 32، وشرح السنة 1/ 322، كلهم عن أبي هرَيْرَةَ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِذَا تَوَضَّأَ العَبْدُ المُسْلِمُ أو الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِهِ مَعِ المَاء فَإِنْ غسَلَ يدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ المَاءِ .. ". (¬7) مسلم في الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن: 1/ 209، والترمذي: 1/ 418، وأحمد. انظر الفتح الرباني: 2/ 198، كلهم عن أبي هرَيْرَة.

من بين أصابعه (¬1) فهي خصيصة له لم تكن لأحد قبله ولا بعده (¬2) أنبط (¬3) لموسى عليه السلام الماء من الحجر (¬4) وأنبط لمحمد، - صلى الله عليه وسلم -، من اللحم والدم، وقد أملينا في المعجزات أنه لم يؤتَ نبيّ معجزة ولا فضيلة إلا أوتي محمَّد، - صلى الله عليه وسلم -، مثلها أو أعظم، وكذلك قوله في محو السيئات بالخطايا وكتب الحسنات بها إنما ذلك في الصغائِر كما تقدم. حديث: "إِذَا شَرِبَ الكَلْبَ في إِنَاءِ أحَدِكُمْ" (¬5) الحديث فيه استعمال الشرب في كل حيوان، وفي بعض ألفاظ هذا الحديث "إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ في إِنَاءِ أَحَدِكُمْ" (¬6). والحديث معضل، وقد اختلف الناس فيه هل يغسل للعبادة، أو للنجاسة، والصحيح أنه للعبادة لأنه عدده وأدخل فيه التراب ولا يدخل العدد ولا التراب في إزالة النجاسة. حديث: قوله: "اسْتَقِيمُوا (¬7) وَلَنْ تُحْصُوا" (¬8) معناه ولن تطيقوا أن تستقيموا فسره ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري في كتاب الوضوء، باب التماس الوضوء إذا حانت الصلاة 1/ 53 - 54، ومسلم في كتاب الفضائل، باب في معجزاته - صلى الله عليه وسلم -: 4/ 1783 كلاهما من حديث أنس قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَحَانَتْ صَلَاةُ العَصْرِ فَالْتمَسَ النَّاسُ الوُضُوءَ فَأُتِيَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، بِوُضُوءٍ ... قَالَ فَرَأَيْتُ المَاءَ يَنْبَعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوضَّؤُا عَنْ آخِرِهِمْ" لفط البخاري. (¬2) انظر الخصائص الكبرى: 1/ 309. (¬3) نبط الماء ينبط نبطاً ونبوطاً: نبع. ترتيب القاموس: 4/ 314. (¬4) قال السيوطي: وأوتى موسى نبع الماء من الحجر وقد وقع ذلك لنبينا - صلى الله عليه وسلم -، وزاد بنبعه من بين الأصابع الشريفة وقال: قال أبو نعيم: وهو أعجب إن نبعه من الحجر متعارف معهود، وأما من بين اللحم والدم فلم يعهد. الخصائص الكبرى: 2/ 119. (¬5) متفق عليه، البخاري في الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإِنسان: 1/ 54، ومسلم في الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب: 1/ 234، والموطأ: 1/ 35، كلهم عن أبي هريرة. (¬6) مسلم في الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب: 1/ 234. (¬7) استقيموا يعني على الطريقة النهجة التي نهجت لكم. الاستذكار: 1/ 262. (¬8) ورد بلاغاً في الموطأ: 1/ 34، وقال ابن عبد البر يستند ويتصل من حديث ثوبان عن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، من طرق صحاح. تجريد التمهيد: 250، وقال في الاستذكار يتصل معنى هذا الحديث ولفظه مسنداً من حديث ثوبان، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم - الاستذكار: 1/ 262. قلت: حديث ثوبان أخرجه ابن ماجه من طريق سالم بن أبي الجعد عن ثوبان مرفوعاً بلفظ:"وَاعْلَمُوا أنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالكُمْ الصَّلَاةَ وَلاَ يُحَافِظُ عَلَى الوُضُوءِ إِلاَّ مُؤْمِنٌ" سنن ابن ماجه: 1/ 101 - 102. قال البوصيري رجال إسناده ثقات أثبات إلا أنه منقطع بين سالم وثوبان فإنه لم يسمع منه بلا خلاف. مصباح الزجاجة: 1/ 41، ورواه الطيالسي في مسنده من نفس الطريق ص 134، والبيهقي في السنن الكبرى: 1/ 457، وقال تابعه أبو كبشه السَّلولي عن ثوبان وابن أبي شيبة في المصنّف: 1/ 5 - 6، والخطيب في تاريخه: 1/ 293، والحاكم في المستدرك: 1/ 130، وقال صحيح على شرط الشيخين، ولم =

الحديث الثاني "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم" (¬1) والله أعلم. ¬

_ = يخرجاه، ولست أعرف له علة، ووافقه الذهبي ورواه الطبراني في معجمه الصغير: 1/ 11، وأحمد في المسند: 5/ 276 - 277 - 282. قلت: وهذا الطريق فيه انقطاع؛ فإن سالماً لم يسمع من ثوبان. قال أحمد لم يسمع سالم من ثوبان ولم يلقِهِ بينهما معدان ابن أبي طلحه. وقال أبو حاتم عن أبي زرعة لم يلق ثوبان. ت ت 3/ 432 - 433 وقال البوصيري لم يسمع من ثوبان قاله أحمد، وأبو حاتم، والبخاري وغيرهم. مصباح الزجاجة في زوائِدِ ابن ماجه: 1/ 41، ورواه ابن حبان من طريق الوليد بن مسلم حدثنا ابن ثوبان حدثني حسان بن عطية عن أبي كبشة السَّلولي حدثه أنه سمع ثوبان: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَدَّدُوا وَقَارِبُوا وَاعْلَمُوا أنَّ خَيْرَ أعْمَالِكُمْ الصَّلاَةَ وَلاَ يُحَافِظُ عَلَى الوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ" موارد الظمآن ص 69، ومن نفس الطريق رواه الدارمي في مسنده: 1/ 168 وأحمد: 5/ 282، والطبراني فى الكبير: 1/ 72. قال الشيخ ناصر عن هذا الطريق، قلت: وهذا إسناد حسن متصل ورجاله كلهم ثقات رجال البخاري غير ابن ثوبان، وهو عبد الرحمن بن ثابت، وهو حسن الحديث. إرواء الغليل 2/ 136، ورواه أحمد في المسند: 5/ 280 من طريق عبد الرحمن بن مَيْسرة عن ثوبان مرفوعاً. قال الشيخ ناصر: إسناد صحيح إلى ابن ميسرة، وأما هذا فقد وثَّقه العجلي، وروى عه جماعة منهم حريز بن عثمان، وقال أبو داود: شيوخ حريز كلهم ثقات فالإِسناد صحيح إن شاء الله. إرواء الغليل: 2/ 137. درجة الحديث: صححه المنذري في الترغيب والترهيب: 1/ 98 والبوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه: 1/ 41، والشيخ ناصر شي تعليقه على المشكاة: 1/ 96، وفي صحيح الجامع الصغير: 1/ 322، وفي إرواء الغليل 2/ 135، والزرقاني في شرح الموطأ: 1/ 73. أما حديث عبد الله بن عمرو فقد رواه ابن ماجه: 1/ 102 من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "اسْتَقيمُوا وَلَن تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَ منْ أَفْضَلِ أَعْمَالكُم الصَّلاَةَ وَلا يُحَافِظُ عَلَى الوُضُوءِ إلَّا مُؤْمِنٌ" ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه: 1/ 6، من نفس الطريق مختصراً. أقول: رواية عبد الله بن عمرو فيها ليث بن أبي سليم بن زُنَيْم، بالزاي والنون مصغراً، واسم أبيه أَيْمَن وقيل غير ذلك، صدوق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك من السادسة، مات سنة 148/ خت م ع. ت 2/ 138 وقال ابن حيَّان اختلط في آخر عمره فكان يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل ويأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم، تركه يحيى القطان وابن مهدي وابن معين وأحمد، المجروحين: 2/ 231، وانظر الميزان: 3/ 42، الطبقات الكبرى: 6/ 243 التاريخ الكبير: 7/ 246 ت ت 8/ 465، الكامل: 6/ 1105. درجة الحديث: قال البوصيري إسناده ضعيف. مصباح الزجاجة: 1/ 41، وكذا قال الشيخ ناصر في إررواء الغليل: 2/ 137. (¬1) متفق عيه، البخاري في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: 9/ 117 ومسلم في الفضائل، باب توقيره - صلى الله عليه وسلم - وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه: 4/ 1830 كلاهما عن أبي هُرَيْرَة.

باب المسح على الخفين

باب المسح على الخفين المسح على الخفين سنة من سنن الدين ورخصة للمسلمين ورد (¬1) به الكتاب والسنة، وأجمعت عليه الأمة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (¬2) فأحد التأويلات فيمن قرأها بالخفض إنه أراد به المسح على الخفين (¬3) إذ لا حالة للرجل يتمسح فيها إلا تلك الحالة. وأما السنة فروي المسح على الخفين عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، جماعة من الصحابة أعيانهم ستة عمر (¬4) بن الخطاب، .................................................................. ¬

_ (¬1) في "م" بها. (¬2) سورة المائدة، آية 6. (¬3) قرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو بالخفض. كتاب السبعة في القراءات لأبن ماجد ص 243 ط دار المعارف ط الثانية، تحقيق د/ شوقي ضيف وانظر الإقناع: 2/ 634، تفسير القرطبي: 6/ 91. (¬4) حديث عمر رواه ابن ماجه: 1/ 81 من طريق سعيد بن أبي عروبة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه رأى سعيد ابن مالك، وهو يمسح على الخفين فقال إنكم لتفعلون ذلك فاجتمعنا عند عمر فقال سعد لعمر أفتِ ابن أخي في المسح على الخفين فقال عمر: (كُنَّا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، نَمْسَحُ عَلى خِفَافِنَا لَا نرى بِذَلكَ بَأْساً فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَإِنْ جَاءَ مِنَ الغَائِطِ؟ قَالَ: نَعَمْ). سنن ابن ماجه: 1/ 181، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة: 1/ 78، هذا إسناد رجاله ثقات وهو في صحيح البخاري بغير هذا السياق، وسعيد بن أبي عروبة وإن كان اختلط فقد روى عنه محمَّد بن سواء قبل الاختلاط، ورواه الإِمام أحمد من طريق عبد الله بن عمر عن نافع قال: رأى ابن عمر سعد بن مالك يمسح على خفيه .. الفتح الرباني: 2/ 59. قلب: والسياق الذي أشار إليه البوصيري ما أخرجه البخاري عن طريق أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن ابن عمر أن سعد بن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه مسح على الخفين وأن عبد الله بن عمر سأل عمر عن ذلك فقال: "نَعَمْ إِذَا حَدَّثَكَ شَيْئاً سَعْدُ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ" البخاري في كتاب الوضوء باب المسح على الخفين: 1/ 62. أقول: الحديث من رواية ابن ماجة وأحمد فيها، سعيد بن أبي عروبة قال فيه الحافظ ثقة حافظ له تصانيف لكنه كثير التدليس واختلط وكان من أثبت الناس في قتادة من السادسة، مات سنة 156 أو 157 ع ت 1/ 303 وانظر ت ت 3/ 63. وعندي أن الحديث لا يقل عن درجة الحسن لكثرة طرقه.

........ وعلي (¬1) بن أبي طالب، وسعد (¬2) بن أبي وقاص، وجرير (¬3) ابن عبد الله، وعمرو (¬4) بن أمية الضمري، وبلال (¬5)، مولى أبي بكر، رضي الله عنهم، وأجمعت عليه الأمة لم ينكر ذلك منهم إلا الرافضة (¬6)، وليس لها مذهب يعتبر ولا خلاف يعتدُّ به ولا جماعة يلتفت إليها. وقد اختلفت الروايات عن مالك، رضي الله عنه، فيها وأشد ما روي عنه قوله: إني أقول اليوم مقالة ما قلتها قبل في ملأ من الناس أقام رسولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، والخلفاء بعده، قريباً من أربعين سنة ما مسح أحد منهم على الخفين (¬7) وقد ثبت عن النبيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال. "يمْسَحُ المُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيالِيهِنَّ ¬

_ (¬1) مسلم في الطهارة، باب التوقيت في المسح على الخفين: 1/ 232، والنسائي 1/ 84 وابن خزيمة: 1/ 98، والبهيقي في السنن الكبرى: 1/ 272 كلهم بلفظ "جَعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثَلَاثَةَ أَيَّامِ وَلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيوماً وَلَيْلَةً لِلْمقِيمِ" لفظ مسلم. (¬2) البخاري في كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين: 1/ 62 وانظر لفظه في التعليق رقم 4 الصفحة السابقة. ورواه البيهقي في السنن: 1/ 266، والنسائي: 1/ 82 والموطّأ: 1/ 36. (¬3) متفق عليه، البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في الخفاف: 1/ 108، ومسلم في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين: 1/ 228 قال همام ابن الحارث: رأيت جرير بن عبد الله بال ثم توضأ ومسح علي الخفين ثم قام فصلى فصلى فقال: "رَأَيْت رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَنَعَ مْثل هَذَا" وأبو داود: 1/ 107، والترمذي: 1/ 155، والنسائي: 1/ 81، وابن ماجة: 1/ 180، وأحمد. انظر الفتح الرباني: 2/ 57، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 270. (¬4) البخاري في كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين: 1/ 62، والنسائي: 1/ 81، وأحمد. انظر الفتح الرباني: 2/ 60، والبيهقي في السنن: 1/ 270، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري أن أباه أخبره أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يمسح على الخفين. (¬5) مسلم في الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة: 1/ 231، وأبو داود 1/ 106، والترمذي: 1/ 172، والنسائي 1/ 75 - 76، وابن ماجه: 1/ 86، وأحمد: انظر الفتح الرباني: 2/ 60، والبيهقي في السنن الكبرى: 1/ 271، وابن خزيمة: 1/ 93، والحاكم في المستدرك 1/ 151. (¬6) الروافض قوم من الشيعة سموا بذلك لأنهم تركوا زيد بن علي. قال الأصمعي: كانوا بايعوه ثم قالوا له تبرأْ من الشيخين نقاتل معك، فأبى وقال: كانا وزيري جدي فلا أبرأ منهما، فرفضوه. لسان العرب: 7/ 157، وانظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص 21. (¬7) قال أبو الوليد: روي عن مالك في العتبية ما ظاهره المنع منه وإنما معناه إيثار الغسل عليه وحسبك بما أدخل في موطئه، وهو أصح ما نقل عنه. وقد قال الشيخ أبو بكر في شرح المختصر الكبير بأنه روى عن مالك لا يمسح المسافر ولا المقيم، فإد صحت هذه الرواية فوجهها أن المسحَ منسوخٌ، ثم قال: وعندي أن هذا يبعد لأن ابن وهب روى عنه أنه قال لا أمسح في سفر ولا حضر، وكأنه كرهه وفي النوادر عن ابن وهب أنه قال آخر ما فارقته على المسح في السفر والحضر وكأنه، وهو الذي روى عنه، متأخر وأصحابه مطرف وابن الماجشون فدل =

وَالمُقِيمُ يَوْماً وَلَيْلَةً" (¬1) ثبوتاً لا شك فيه، وقد سئلت عائشة، رضي الله عنها، عن المسح على الخفين (¬2) فأحالت على عليّ ابن أبي طالب، رضي الله عنه، فأسند عليّ رضيَ الله عنه، الحديث إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، بالتوقيت للمسافر والمقيم كما تقدم. ومن نظر إلى مقاطع الشريعة وقرائنها لم يستبعد المسح على الخفين لما في نزعهما من المشقة، وتكلف الوضوء على الرجلين والشقة بعيدة والسير متصل، وقد قال مالك: لا توقيت على المسافر ومسحه على الخفين جائز دائماً ما لم يقع في (¬3) جنابة، وهذا مأخوذ من النظر لا من الأثر، والنظر الذي اقتضى جواز المسح للمسافر، من غير توقيت، يبيحه للمقيم لأنه قد يستغرق شغله نهاره كله. وقد يفوته بنزع الخفين من أمره مما يفوت للمسافر لو نزعهما لكنه في آخر نهاره يرجع إلى قراره ويأوي إلى سكنه فيشق عليه حبس الخفين فضلاً عن أن ينزعهما، فلأجل هذا قلنا إن الصحيح جواز المسح مؤقتاً على ما في حديث عليّ ابن أبي طالب، رضي الله عنه، ¬

_ = ذلك على أنه منعه أولاً على وجه الكراهية لمَّا لم يرَ أهل المدينة يمسحون، ثم رأى الآثار فأباح المسح على الإطلاق. المنتقى: 1/ 77. وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحداً من الصحابة جاء عنه إنكار المسح على الخفين ممن لا يختلف عليه إلا عائشة، وكذلك لا أعلم أحداً من فقهاء المسلمين روي عنه إنكار ذلك إلا مالكاً، والروايات الصحاح عنه بخلاف ذلك وموطؤه يشهد للمسح على الخفين في الحضر والسفر، وعلى ذلك جميع أصحابه وجماعة أهل السنة، وإن كان من أصحابنا من يستحبّ الغسل ويفضله على المسح من غير إنكار للمسح. الاستذكار: 1/ 274، وقال القرطبي: أما مالك فما روي عنه من الإنكار فهو منكر لا يصح، والصحيح ما قاله عند موته لابن نافع قال: إني كنت آخذ في خاصة نفسي بالطهور ولا أرى من مسح مقصراً فيما يجب عليه، وعلى هذا حمل أحمد بن حنبل ما رواه ابن وهب عنه أنه قال: لا أمسح في حضر ولا سفر، قال أحمد. كما روي عن ابن عمر أنه أمرهم أن يمسحوا خفافهم وخلع هو وتوضأ، وقال حبيب إلى الوضوء ونحوه عن أبي أيوب قال أحمد، رضي الله عنه، فمن ترك ذلك على نحو ما تركه ابن عمر وأبو أيوب ومالك، لم ننكر عليه وصلّينا خلفه ولم نعِبْه إلا أن يترك ذلك ولا يراه كما صنع أهل البدع فلا يصلى خلفه. تفسير القرطبي: 6/ 94. (¬1) تقدم قريباً في حديث علي رضي الله عنه. (¬2) مسلم في كتاب الطهارة، باب المسح على الخفين: 1/ 232. (¬3) قال في المدونة: 1/ 41: يمسح المسافر وليس لذلك وقت. وقال ابن عبد البر: روي عن مالك التوقيت في المسح في رسالته إلى بعض الخلفاء وأنكر ذلك أصحابه وروي التوقيت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، من وجوه كثيرة. الاستذكار: 1/ 277.

ولا يمسح عليهما إلا إذا لبسهما على طهارة لقول النبيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، في حديث المغيرة: (دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ) (¬1) وإن لبس خفين فليمسح على الأعلى خاصة، وقد روي أن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، أنه مسح أعلى الخف وأسفله (¬2) وذلك غير لازم لأن المسح مبني على التخفيف فلا يستوفى فيه ما كان يستوفى في الأصل. والخف هو كل ساتر من جلد مخروز يكون على الرجل يمكن متابعة المشي عليه، فهذا هو الذي تتعلق به الرخصة (¬3)، ويكون بدلاً عن الرجلين ولا يبالي لبس منهما واحداً أو أكثر من ذلك؛ لأن حكم الآخر حكم الأول ويعتبر في لبسهما الحاجة دون الرفاهية، فإن لبسهما للرفاهية لم يجز المسح عليهما لأن الرخص موقوفة على الحاجة تجوز بوجودها وتعدم بعدمها. ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري في كتاب الوضوء، باب المسح على الخفين: 1/ 62، ومسلم في الطهارة باب المسح على الخفين: 1/ 230. (¬2) أبو داود من طريق الوليد بن مسلم قال محمود: أخبرنا ثور بن يزيد عن رجاء بن حيوة عن كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة قال "وَضَّأتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، في غَزْوَةِ تّبُوكَ فَمَسَحَ أَعْلَى الْخفَّيْنِ وَأَسْفَلَهُمَا". سنن أبي داود: 1/ 116 وقال: قال أبو داود: وبلغني إنه لم يسمع ثور هذا الحديث من رجاء، ورواه الترمذي: 1/ 162 وقال هذا حديث معلول لم يسنده عن ثور بن يزيد غير الوليد بن مسلم، وقال: قال أبو عيسى: وسألت أبا زرعة ومحمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقالا ليس بصحيح لأن ابن المبارك روى هذا الحديث عن ثور عن رجاء بن حيوة قال حدثت عن كاتب المغيرة مرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه ابن ماجه: 1/ 182 عن وراد كاتب المغيرة، ونقل الحافظ في التلخيص: 1/ 168 عن البخاري في التاريخ الأوسط رواية أخرى متصلة فقال: ثنا محمَّد ابن الصباح ثنا ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير عن المغيرة قال: رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يمسح على خُفين ظاهرهما، قال البخاري: وهذا أصح من حديث رجاء عن كاتب المغيرة، ورواه الدارقطنى في السنن من نفس الطريق التي ذكر ابن حجر أن البخاري أخرجها، كما روى الطريق التي تعد مرسلة أيضاً الدارقطني في السنن: 1/ 195، وأحمد، انظر الفتح الرباني: 2/ 70، والبيهقي في السنن الكبرى: 1/ 290، وابن الجارود في المنتقى ص 38. وقال ابن القيم: هذا حديث ضعفه الأئمة الكبار: البخاري وأبو زرعة والترمذي، وأبو داود والشافعي، ومن المتأخرين أبو محمَّد بن حزم وهو الصواب لأن الأحاديث الصحيحة كلها تخالفه .. وقد تفرد الوليد بن مسلم بإسناده ووصله وخالفه من هو أحفظ منه وأجل، وهو الإمام الثبت عبد الله بن المبارك، فرواه عن ثور عن رجاء قال حدثت عن كاتب المغيرة عن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - .. وقال بعض الحفّاظ: أخطأ الوليد بن مسلم في هذا الحديث في موضعين: أحدهما أن رجاء لم يسمعه من كاتب المغيرة، وإنما قال حدثت عنه، والثاني أن ثور لم يسمعه من رجاء، وخطأ ثالث أن الصواب إرساله. ورواه الوليد معنعناً من غير تبيين. تهذيب السنن: 1/ 126، وقد رد هذه العلل أحمد شاكر، وذهب إلى أن الحديث صحيح. انظر تعليقه على سنن الترمذي: 1/ 164 والحق أنه ضعيف كما قال غيره. (¬3) انظر المنتقى: 1/ 82، بداية المجتهد: 1/ 14.

باب ما جاء في الرعاف

باب ما جاء في الرعاف قال مالك، رضي الله عنه: البناء في الرعاف (¬1) وهي مسألة معضلة ليس في المذهب أشكل منها وردها عامة الفقهاء إلا (ح) (¬2) فإنه قال يبنى فيها، وفي الحدث كله (¬3) ووقع مثل مذهب أبي حنيفة لأشهب (¬4)، وأما البناء في الحدث كله فإنما يبنى على أصل وهو القول بتبعيض الصلاة في الصحة، وقد قال (ش): إذا رأى المصلي حريقاً أو غريقاً أطفأه واستنقذه (¬5) وبنى على صلاته وخالفه (م) و (ح)، والأصول كما ترى متعارضة والصحيح أن الصلاة تبطل بطرقان الحدث وبالاشتغال مع الحريق والغريق وما أشبهه، وليس للعلماء بناء متعلق قوي في البناء في الرعاف إلا حديث ابن عمر (¬6)، وابن عباس (¬7)، ¬

_ (¬1) الموطأ: 1/ 38 - 39. (¬2) في ك صرح باسمه فقال أبو حنيفة. (¬3) انظر مذهب أبي حنيفة في فتح القدير لابن الهمام: 1/ 26. (¬4) أشار ابن عبد البر إلى هذا الرأي بقوله: ومن أصحاب مالك من يرى أن يبني الراعف على ما مضى قليلاً كان أو كثيراً الاستذكار: 1/ 291. (¬5) في هذه المسألة رأيان للشافعية. قال في المهذب: فإن رأى المصلي ضريراً يقع في بئر فأنقذه بالقول ففيه وجهان قال أبو إسحاق المروزي، رحمه الله: لا تبطل صلاته لأنه واجب عليه فهو كإجابة رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ومن أصحابنا من قال تبطل صلاته لأنه لا يجب عليه لأنه قد لا يقع في البئر وليس بشيء. المهذب للشيرازي: 1/ 87، وانظر نهاية المحتاج: 2/ 46، والاستذكار 1/ 291. (¬6) رواه عبد الرزاق في مصنفه من رواية بكر بن عبد الله المزني أنه رأى ابن عمر عصر بذرة بين عينيه فخرج منها شيء ففته بين إصبعيه ثم صلى ولم يتوضأ المصنف: 1/ 145، وابن أبي شيبة في مصنفه: 1/ 138، ورواه الشافعي في مسنده: ص 92 عن عبد الوهاب عن التيمي، ومن طريقه رواه البيهقي: 1/ 141 وعندهما فحكه بأصبعيه وخرّجه البخاري تعليقاً في كتاب الوضوء باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين: 1/ 55. درجة الحديث: صححه الحافظ في الفتح: 1/ 282 فقال وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح. (¬7) رواه الدارقطني بلفظ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا رَعَفَ في صَلاَتِهِ تَوَضَّأَ ثُمَّ بنى عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ صَلاَتِهِ، قال الدارقطني فيه، أي في السند المذكور، عمر بن رياح وهو متروك. سنن الدارقطني: 1/ 156، وأورده =

الوضوء من مس الذكر

رضي الله عنهم، ويبنى على أصل من أصول الفقه وهو أن الصاحب إذا أفتى بخلاف القياس هل يكون أصلاً يرجع إليه أم لا؟ ولا يصح أنه لا يرجع إليه، ولضعف المسألة استحب مالك، رضي الله عنه، للراعف أن يتكلم ولا يبني وعلى ضعفها فقد أكثرت المالكية التفريع فيها وليست عندي من المسائل التي يعوَّل عليها فإنه ليس فيها نص ولا لها نظير. الوضوء من مس الذكر: روي الوضوء من مس الذكر عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، جماعة منهم بسرة (¬1) وهو أصح الأحاديث فيه وأعرض عنه الإِمامان الجعفي والقشيري، والعجب لإِمامنا، رضي الله عنه، ¬

_ = الهيثمي في المجمع وعزاه للطبراني في الكبير وقال فيه محمَّد بن مسلمة ضعفه الناس وقال الدارقطني لا بأس به. مجمع الزوائد: 1/ 246، ورواه الدارقطني من طريق أخرى عن ابن أرقم عن عطاء عن ابن عباس وقال سليمان ابن أرقم متروك. سنن الدارقطني: 1/ 152 - 153، وأورده الروداني في مجمع الفوائد: 1/ 103. أقول: الحديث في طريقه الأول. عمر بن رياح، بكسر أوله وتحتانية، العبدي البصري الضرير متروك وكذّبه بعضهم من الثالثة/ ق. ت 2/ 55 وقال في ت ت. قال البخاري عن عمرو بن علي القلاس هو دجال، وقال النسائي والدارقطني: متروك. وقال ابن عدي: يروي عن طاوس البواطيل ما لا يتابعه أحد عليه والضعف بيِّن على حديثه، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب، وقال العقيلي: منكر الحديث. ت ت 7/ 447 - 448، وانظر الكامل: 5/ 1707، والضعفاء للعقيلي: 3/ 160. وفي الطريق الثاني محمَّد بن مسلمة الواسطي صاحب يزيد بن هارون ضعَّفه أبو القاسم اللالكائي، وقال الدارقطني: لا بأس به. لسان الميزان: 5/ 381 وانظر الكامل: 6/ 2294 كما أن شيخه هنا هو سليمان بن أرقم، أبو معاذ، ضعيف من السابعة/ د ت. ت 1/ 321، وقال في ت ت قال أبو داود وأبو حاتم والترمذي وابن خراش والدارقطني: متروك الحديث ت ت 4/ 168 - 169. درجة الحديث: ضعيف. (¬1) سنن أبي داود: 1/ 125، والترمذي: 1/ 126، والنسائي: 1/ 100 - 101، وابن ماجه 1/ 161، والموطّأ: 1/ 42، والشافعي في الأم: 1/ 15 وأحمد انظر الفتح الرباني: 2/ 86، والحاكم: 1/ 137 وابن الجارود في المنتقى ص 19، والبيهقي: 1/ 129 - 130، وابن خزيمة 1/ 22، والبغوي في شرح السنة 1/ 340. أقول: الحديث قال فيه الترمذي: 1/ 129: حسن صحيح، وقال. هكذا رواه في واحد عن هشام بن عروة عن أبيه عن بسرة. والدارقطني 1/ 146، وقال الحافظ في التلخيص، صححه الترمذي ونقل ممن البخاري إنّه أصح شيء في الباب، وقال قال أبو داود، وقلت لأحمد: حديث بسرة ليس بصحيح؟ قال: بل صحيح، وقال الدارقطني: صحيح ثابت، وصححه أيضاً يحيى بن معين وأبو حامد بن المشرقي =

يرويه في كتابه ويدرسه مدى عمره ثم لا يقول به وتختلف فيه فتواه فتارة يضعِّفه وتارة يقوِّيه وتارة يعتبر فيه الشهوة وتارة يسقطها، ونحن نقبل روايته فنقول الحديث صحيح ولا نقبل تفريعه فنقول: ينتقض الوضوء من مسه بقصد أو بغير قصد إتباعاً لظاهر الحديث، وأخذاً بمطلق الرواية فيه، وفروعه معلومة فلا معنى للإِطالة بسردها (¬1). بيد أن بعض أشياخي ذكر لي منه فرعاً غريباً وهو إذا مسَّ الخنثى ذكره وفرجه انتقض وضوؤه فإذا مسَّ أحدهما وقلنا إن المرأة ينتقض وضوؤها بمس فرجها فمن يغلب الشك ينتقض الوضوء لاحتمال أن يكون قد لمس ما يجب عليه منه الوضوء ومن لا يرى تغليب الشك وهو الصحيح لا ينتفض الوضوء إلا بمسه لهما جميعاً .. تتميم: لما كان هذا الحديث أصلاً في نفسه اختلف العلماء هل يعلّل أم لا؟ فمن علَّله بأن لمسه ربما أفضى إلى خروج الخارج ألحق به المرأة؛ لأن لمسها أيضاً لفرجها قد يفضي إلى خروج الخارج لا سيما وقد روى الدارقطني عن أبي هُرَيْرَة، رضي الله عنه، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا أَفْضَى أَحَدُكُمْ بِيَدِهِ إِلَى فَرْجِهِ فَلْيَتَوَضَّأْ" (¬2)، وهذا عام في الرجل ¬

_ = والبيقي والحازمي، وقال البيهقي: هذا الحديث وإن لم يخرجه الشيخان لاختلاف وقع في سماع عروة منها أو من مروان فقد احتجا بجميع رواته، واحتج البخاري بمروان ابن الحكم في عدة احاديث فهو على شرط البخاري بكل حال، وقال الاسماعيلي في صحيحه في أواخر تفسير سورة آل عمران: إنه يلزم البخاري إخراجه فقد أخرج نطيره. تلخيص الحبير: 1/ 131. درجة الحديث: صحيح كما قال الشارع وغيره. (¬1) انظر الخلاف في الموضوع في بداية المجتهد: 1/ 39، المنتقى: 1/ 89. (¬2) الدارقطني: 1/ 147 من طريق يزيد بن عبد الملك بن المغيرة النفيلي عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، والحاكم: 1/ 138، وقال هذا حديث صحيح. والشافعي: 1/ 34، وأحمد: 2/ 333، والبزار. انظر كشف الأستار عن زوائد البزار: 1/ 149 وقال: لا نعلمه يروى بهذا اللفظ عن أبي هُرَيْرَة إلا من هذا الوجه ويزيد ليِّن الحديث. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 1/ 33 من طريق يزيد المتقدم. ويزيد هذا قال عنه الحافظ في التقريب ضعيف من السادسة/ ق ت 2/ 368 وابن حبان انظر موارد الظمآن ص 77، وشرح السنة: 1/ 341، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد والطبراني في الأوسط والصغير والبزار وفيه يزيد بن عبد الملك النفيلي، وقد ضعَّفه أكثر الناس ووثَّقه يحيى بن معين في رواية مجمع الزوائد: 1/ 245، وعزاه الحافظ في التلخيص إلى ابن حبان في صحيحه من طريق نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك جميعاً عن سعيد المقبري عن أبي هريرة بهذا وقال: احتجاجنا في هذا بنافع دون يزيد بن عبد الملك وقال في كتاب الصلاة: له هذا حديث صحيح سنده عدول نقلته ... وأدخل البيهقي في الخلافيات بين يزيد ابن عبد الملك النفيلي وبين المقبرى رجلاً؛ فإنه أخرجه من طريق الشافعي عن عبد الله بن نافع عن النفيلي =

والمرأة، وأعجب من هذا ما حكاه الدارقطني أيضاً عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين أنه ليس في مس الذكر حديث صحيح (¬1)، مع أنهم يتلون حديث مالك، رضي الله عنه، عن بسرة إلا إن مالوا إلى طريق المعنى وقالوا بقول أبي حنيفة (¬2) بأن قول بسرة وهي امرأة في مثل هذه النازلة التي تتعلق بالرجال ولا يرويها أحد سواها بعيد وهذا قول ضعيف لأن الله تعالى لم يرد أن يجري السنة مجرى القرآن حتى يتولى حفظها كما تولى حفظه، وإنما أراد تعالى أن يكون القرآن محفوظاً نصاً معلوماً قطعاً وأن تكون السنة يلتقطها الرواة التقاطاً ويؤخذ من كل أحد ما سمع منه حتى من النساء والرجال ولذلك قال تعالى. {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (¬3) الآية، فما اجتمع من السنة اجتمع وما خفي منها في وقت سيظهر في وقت آخر، بل كان كثير من الصحابة يقبضون أنفسهم عن ذكرها فلا تستبعدوا بصركم الله تعالى والحالة هذه أن تضبط امرأة ما يفوت رجلاً وأن يذكر امرؤ ما نسي آخر، وأما لمس النساء فقد تناوله القرآن بالبيان قال الله تبارك وتعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬4)، وقرىء: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬5) وكل قراءة قائمة بنفسها حجة في متناولها وقد روي عن جماعة من الصحابة (¬6) ..................................... ¬

_ = عن أبي موسى الحنّاط عن المقبري وقال: قال ابن معين: أبو موسى هذا رجل مجهول. التلخيص: 1/ 134 - 135 وصححه أحمد في المسائل: 309 وقال ابن عبد البر: قال ابن السكن: هذا الحديث من أجود ما روي في هذا الباب لرواية ابن القاسم صاحب مالك عن نافع بن أبي نعيم، وأما يزيد فضعيف والله أعلم، وقال: قال أبو عمر كأَنّ حديث أبي هريرة هذا لا يعرف إلا بيزيد بن عبد الملك هذا حتى رواه أصبغ عن ابن القاسم عن نافع بن أبي نعيم ويزيد بن عبد الملك النفيلي جميعاً عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هُرَيْرَة، وأصبغ وابن القاسم ثقتان فقيهان فصح الحديث بنقل العدل على ما ذكر ابن السكن. الاستذكار: 1/ 311 - 312. درجة الحديث: صحيح من طريقه الثاني. (¬1) لم أطلع على هذا العزو في السنن ولا في العلل للدارقطني بل وجدته نقل عن أحمد في العلل: 5/ 196 تصحيحه لحديت بسرة ولعله في المفقود من نسخة العلل لأن الموجود منها ناقص. (¬2) انظر شرح كنز الدقائق لابن نجيم: 1/ 45، الطبعة الأولى والفتاوى الهندية: 1/ 13. (¬3) سورة الأحزاب آية 34. (¬4) سورة المائدة آية 6. (¬5) قرأ حمزة والكسائي وخلف بغير ألف فيهما، وقرأ الباقون فيها بالألف النشر: 2/ 241 الاقناع: 2/ 630. (¬6) منهم عمر فقد كانت تقبِّله زوجته ولا يتوضأ. مصنف عبد الرزاق: 1/ 135، قال ابن عبد البر بإسناد ثابت من أسانيد أهل المدينة. الاستذكار: 1/ 318، وروي أيضاً عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "يَتوَضَّأُ الرَّجُلُ مِنَ =

................. والتابعين (¬1) واختار أبو حنيفة (¬2) أن الآية كناية عن الجماع حتى روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قال: إِنَّ الله حَييُّ كَرِيمٌ يعْفو ويكنّى باللمس عن الجماع (¬3) وليس إلى ذلك حاجة تدعو، ولا ضرورة توجبه، وإنما يعدل عن التصريح إلى الكناية بدليل يقتضي ذلك، فأما مطلق القول وصريح اللغة فيقتضي ما أشرنا إليه من ظاهر اللمس وبذلك قال مالك، رضي الله عنه، وهو شيخ من شيوخنا (قُبْلَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَجَسُّهَا بِيَدِهِ مِنَ المُلاَمَسَةِ" (¬4). ¬

_ المُبَاشَرَةِ وَمِنَ اللَّمْسِ بِيَدِهِ ومنَ القُبْلَةِ إِذَا قَبَّلَ امْرَأَتَهُ، وكان يقول في هذه الاية: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} قال: هو الغمز. المصنف لعبد الرزاق: 1/ 133، وأعلّه الهيثمي بأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. مجمِع الزوائد: 1/ 247، وكذا قال ابن عبد البر في الاستذكار: 1/ 320، ورواه مالك في الموطأ بلاغاً: 1/ 44. أقول: أثر ابن مسعود فيه انقطاع؛ فقد قال الحافظ أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته، والأشهر أن لا اسم له غيرها، ويقال اسمه عامر، كوفي ثقة من كبار الثالثة والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه، مات بعد سنة 80/ ع ت 2/ 448، وانظر ت ت 5/ 75، والكاشف: 2/ 56. ورواه البيهقي من طريقين، من الطريق المتقدم ومن طريق مخارق عن طارق ابن شهاب أن عبد الله بن مسعود قال في قوله تعالى. {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} قالا: معناه ما دون الجماع. السنن الكبرى: 1/ 124، وهذا الطريق صححه شعيب الأرناؤوطي في تعليقه على شرح السنة: 1/ 345. (¬1) نقله ابن عبد البر عن عبيدة وعامر الشعبي وسفيان وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ومكحول وابن شهاب وربيعة بن عبد الرحمن ومالك. الاستذكار: 1/ 322، وحكاه البغوي في شرح السنة: 1/ 345 عن الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال ابن رشد: والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت دلالته علي المعنيين (يعني الجماع أو اللمس باليد) بالسواء أو قريباً من السواء إنه أظهر عندي في الجماع وإن كان مجازاً لأن الله تعالى قد كنَّى بالمباشرة واللمس عن الجماع وهما في معنى اللمس. بداية المجتهد: 1/ 29 وكذا قال الطبرى في التفسير: 8/ 396 بعد حكايته القولين: الصواب قول من قال عني بقوله: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}. الجماع دون غيره من معاني اللمس. (¬2) انظر البناية في شرح الهداية: 1/ 244. (¬3) عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن عبيد بن عمير وسعيد ابن جرير وعطاء ابن أبي رباح أختلفوا في الملامسة .. مصنّف عبد الرزاق: 1/ 134 والسنن الكبرى: 1/ 125 وابن جرير في تفسيره: 8/ 389. درجة الحديث. حسن من خلال إسناد ابن جرير. (¬4) الموطَّأ 1/ 43، والشافعي في الأم: 1/ 12، والدارقطني في السنن: 1/ 144، وقال صحيح وشرح السنة: 1/ 344، والبيهقي في السنن الكبرى: 1/ 124، من طريق مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه قال: قبلة الرجل أمرأته. درجة الحديث: صححه الدارقطني.

باب غسل الجنابة

باب غسل الجنابة الخارج من الذكر على أربعة أقسام: البول والودي، وهو الذي يخرج بعده وموجبهما واحد وهو الوضوء، والمذي وهو ماء لزج يخرج عند الملاعبة والتقبيل، أو الذكرى وموجبه الوضوء كالأول. وروي عن مالك، رضي الله عنه، فيه (إيجاب) (¬1) غسل الذكر لقول النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فيه فليغسل ذكره (¬2)، ولم يرد هذا الحديث لإِيجاب غسل الذكر تعبداً وإنما المقصود به بيان نجاسة المذي وأنه يلزم غسله كما يلزم غسل البول. والرابع المني: وهو الخارج عند غاية اللذة، وهو الذي يكون به المكلَّف جنباً ويلزم منه الغسل، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬3)، وكان قد وقع بين المهاجرين والأنصار خلاف في اقتصار الغسل على خروج الماء الدافق حتى وقع السؤال عن ذلك والبحث فتبين عندهم فيه الحق وكان الحكم في ذلك صدر الإِسلام ألا يجب الغسل إلا على من أمنى. وروى أبو سعيد الخدري وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "إِذَا أُعْجِلْتَ أَوْ أُقْحِطْتَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الوضُوءُ وَلَا غَسْل عَلَيْكَ وَإِنَّمَا المَاءُ مِنَ المَاءِ" (¬4) ولكن تبيَّن بعد ذلك أن التقاء الختانين موجب للغسل قرآناً وسنة، أما القرآن فقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬5)؛ فإن كان اللمس في أحد التأويلات يراد به الجماع فهو متناول لوجوب ¬

_ (¬1) ليست في "م". (¬2) متفق عليه. البخاري كتاب الغسل، باب غسل المذي: 1/ 76، ومسلم في الحيض، باب المذي: 1/ 247 كلاهما عن علي قال: كُنْت رَجُلًا مَذّاءً وَكُنْتُ أَسْتَحِي أَنْ أَسْأَلَ النبِي، - صلى الله عليه وسلم -، لِمَكَانِ ابنَتِهِ فَأَمَرْتُ الْمِقْدَاد بْنَ الأسْودِ فَسأَلَهُ فَقَال: "يغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيتَوَضَّأُ" لفظ مسلم. (¬3) سورة المائدة آية 6. (¬4) متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين: 1/ 56، ولم يذكر الماء من الماء. ورواه مسلم في الحيض، باب إنما الماء من الماء: 1/ 269. ورواه أبو داود: 1/ 148، وابن ماجه: 1/ 199، وابن خزيمة: 1/ 117. (¬5) المائدة، آية 6.

الغسل. وأما السنة فقول عائشة رضي الله عنها. "إِذَا التَقَى الخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ اَلغُسْلُ فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَاغْتَسَلْنَا" (¬1). فبيَّنت، رضي الله عنها، أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كان يغتسل بالتقاء الختانين دون إراقة الماء، ثم تأكد البيان بما روت عائشة، رضي الله عنها، أن رجلاً سأل رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وعائشة- جالسة هل يجب على الرجل غسل إذا التقى الختانان وان لم ينزل فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لأَفْعَل أَنَا ذلِكَ وَهذِهِ ثُمَّ نَغْتَسِلُ" (¬2) فأحاله، - صلى الله عليه وسلم -، في البيان على فعله ثم تأكد البيان ثالثاً بما روى أبو هُرَيْرَة رضي الله عنه، أن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِذَا جَلَسَ (¬3) بَيْنَ شُعَبِهَا الَأرْبعِ ثُمَّ أَجْهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ" (¬4) فأرسلت الصحابة من المهاجرين والأنصار، حين اختلفوا في ذلك، إلى ¬

_ (¬1) رواه الترمذي: 1/ 180، وابن ماجه: 1/ 199، والشافعي في مسنده: 1/ 38، وأحمد في المسند: 1/ 161 كلهم من طريق القاسم ابن محمَّد عن عائشة موقوفاً عليها، وقالت: فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - فَاغْتَسَلْنَا. ورواه الدارقطني في السنن عن القاسم بن محمَّد عن أبيه عن عائشة: 1/ 111، 112. ورواه أحمد من طريق عبد الله بن رياح أنه دخل على عائشة: فقال إني أريد أن أسألك عن شيء وإني استحييك؟ فقالت: سل ما بدا لك فإنما أنا أمك. فقلت: يا أم المؤمنين ما يوجب الغسل؟ فقالت نحوه موقوفاً. المسند: 6/ 265. وقال الحافظ في التلخيص: صحَّحه ابن حبان وابن القطان وقال أعلّه البخاري بأن الأوزاعي أخطأ فيه. ورواه غيره عن عبد الرحمن مرسلاً، واستدل على ذلك بأن أبا الزناد قال: سألت القاسم بن محمَّد: سمعت في هذا الباب شيئاً؟ فقال: لا. وأجاب من صححه بأنه يحتمل أن يكون القاسم كان نسيه ثم تذكر فحدث به ابنه، أو كان حدث به ابنه ثم نسي قال: ولا يخلو الجواب من نظر. التلخيص: 1/ 142، وصححه من المتأخرين الشيخ أحمد شاكر. انظر تعليقه على سنن الترمذي: 1/ 181، والشيخ ناصر الدين الألباني في السلسلة الصحيحة: 2/ 260 وفي إرواء الغليل: 1/ 121. قلت: وأصل الحديث في صحيح مسلم بلفظ: إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ وَمَسَّ الخِتَانُ الخِتَانَ فَقَدْ وجَبَ الغُسْلُ. مسلم: 1/ 272. (¬2) مسلم في كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين: 1/ 272 من رواية جابر ابن عبد الله عن أم كلثوم عن عائشة. والدارقطني في السنن: 1/ 112. (¬3) في "م" زيادة الرجل. (¬4) متفق عليه. البخاري في كتاب الغسل، باب إذا التقى الختانان: 1/ 80، ومسلم في الحيض، باب نسخ الماء من الماء: 1/ 271، وأبو داود: 1/ 148، والنسائي: 1/ 110. وأحمد. انظر الفتح الرباني: 2/ 114، والدارقطني: 1/ 113، والبيهقي 1/ 163.

عائشة (¬1)، رضي الله عنها، فأعلمته بالأمر على نصّه فأعلمهم به فوقع الاتفاق وارتفع الخلاف واستقر الحكم في الدين، ولا أعلم في ذلك خلافاً بين أحد من المسلمين، إلا أنه وقعت للبخاري، في جامعه، كلمة منكرة فإنه ذكر اختلاف الأحاديث ثم قال: (وَالغُسْلُ أَحْوَطُ وَإِنَّمَا بَيَّنَّا ذلِكَ لِاخْتِلَافِهِمْ) (¬2) وهذا خطأ فاحش (¬3)، كيف ينتقل الغسل من الوجوب إلى الاحتياط بعد ما ثبت ما قدمناه وصح من الأحاديث ما أوردناه؟ فإن قيل اختلفت الأحاديث في ذلك كما قدمتم وجهل المتأخر فلم يعلم الناسخ وبقى الإِشكال فتعين الاحتياط، فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنا نقول ماجهل التاريخ لأن الصحابة قد صرحت بأن المتقدم كان (المَاءُ ¬

_ (¬1) ورد ذلك من حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه: (أَنَّهُمْ كَانُوا جُلُوساً فذَكروا مَا يُوجِب الغسْلَ فاختلفَ في ذلِك رَهْطٌ من المهاجِرينَ وَالَأنْصَارِ، فقال الأَنصَارِيّون: لا يَجِبُ الْغُسْلُ إِلَّا مِنَ الدَّفَقِ أَوْ مِن المَاءِ، وَقَالَ المُهَاجِرُون: إِذَا خَالَطَ فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ، قَالَ أَبُو موسَى. فَأَنا أُشفِيكُمُ مِنْ ذلِكَ قَالَ: فَقمُتُ فَاستَأْذَنْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَأُذِنَ لِي فَقُلْتُ: يَا أُمَّاهُ، أَوْ يَا أُمَّ الْمُؤمِنِينَ إِنَي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ وَإِنِّي أَسْتَحْيِيْكِ، فَقَالَتْ. لَا تَسْتَحِي .. قُلْتُ: مَا يُوجِبُ الغُسْلَ؟ .. قَالَتْ: إذا جَلَسَ بيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ وَمَسَّ الخِتَانُ الخِتَانَ فَقَد وَجبَ الغُسْلُ). مسلم في الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين: 1/ 271، والموطأ 1/ 46 موقوفاً. (¬2) صحيح البخاري، كتاب الغسل، باب غسل ما يصيب من فرج المرأة: 1/ 81. (¬3) أقول: رحمه الله رحمة واسعة فقد شنَّع هنا على البخاري وعليه وعلى داود في العارضة، وهذا مما لا ينبغي لمثله مع أجلَّاء العلماء. فقد قال في العارضة: انعقد الإجماع على وجوب الغسل بالتقاء الختانين، وما خالف في ذلك إلا داود ولا يُعبأ به فإنه لولا الخلاف ما عُرف وإنما الأمر الصعب خلاف البخاري في ذلك، وحكمه أن الغسل مستحب وهو أحد أئمة الدين وأجلّ علماء المسلمين معرفة وعدلاً .. إلى أن قال: ويحتمل قول البخاري الغسل أحوط .. وهو باب مشهور في أصول الفقه وهو الأشبه بإمامة الرجل وعمله. العارضة. 1/ 169 - 170. ورد الحافظ كلام ابن العربي بقوله: أما نفي ابن العربي الخلاف فمعترض فإنه مشهور بين الصحابة ثبت عن جماعة منهم لكن ادَّعى ابن القصّار أن الخلاف ارتفع بين التابعين وهو معترض أيضاً؛ فقد قال الخطابي إنه قال به من الصحابة جماعة، فسمّى بعضهم، قال: ومن التابعين الأعمش وتبعه عياض لكن قال لم يقل به أحد بعد الصحابة غيره وهو معترض أيضاً فقد ثبت ذلك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وهشام بن عروة وعن عطاء أنه قال: لا تطيب نفسي إذا لم أنزل أغتسل من أجل اختلاف الناس لأخذنا بالعروة الوثقى. فعرف بهذا أن الخلاف كان مشهورا بين التابعين ومن بعدهم، لكن الجمهور على إيجاب الغسل وهو الصواب. فتح الباري: 1/ 398.

مِنَ المَاءِ) (¬1) وأن المتأخر وجوب الغسل من التقاء الختانين. الثاني: أن "اَلمّاءُ مِنَ المَّاءِ" وعدم الغسل من التقاء الختانين ليس فيه فائدة محددة؛ لأن الأصل براءة الذمة وفراغ الساحة وعدم تعلّق الحكم بالأسباب، ثم جاء بعد ذلك وجوب الغسل من التقاء الختانين فكانت فائدة محدّدة وحالة ثانية فقضي بها على ما قبلها. فإن قيل كيف خفي على عثمان، رضي الله عنه، حتى كان يفتي بأن الماء (¬2) من ¬

_ (¬1) ورد ذلك صريحاً من حديث الزهري عن سهل بن سعد عن أبي بن كعب قال: (إنَّمَا كَانَ اَلمَاءُ مِنَ اَلمَاءِ رِخْصَةً في أَوَّلِ الإِسْلاَمِ ثُمَّ نهى عنها) وقال الترمذي حسن صحيح: 1/ 184 - 185. ورواه أبو داود من طريق عمرو بن الحارث عن ابن شهاب: حدثني بعض من أرضى أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن أبيّ بن كعب أنجره أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، إنّما جعل ذلك رخصة للناس: في أول الإِسلام لقلة الثياب، ثم أمر بالغسل ونهى عن ذلك، قال أبو داود يعني الماء من الماء. أبو داود: 1/ 146، وأحمد من طريقين: الأولى مثل رواية الترمذي: والثانية مثل رواية أبي داود. الفتح الرباني: 2/ 111، وابن خزيمة: 1/ 112. قلت: وقول ابن شهاب في السند السابق حدثني من أرضى قال فيه ابن خزيمة يشبه أن يكون أبا حازم سلمة ابن دينار. ورواه ابن حبان. انظر موارد الظمآن ص 80. وقال ابن حبان: تتبعت طرقه فلم أرَ أحداً بالدنيا رواه عن سهل بن سعد إلا أبا حازم فيشبه أن يكون الرجل الذي قال فيه الزهري حدثني بعض من أرضى عن سهل بن سعد هو أبو حازم، نقل ذلك عنه الشيخ البنّا في الفتح الرباني: 2/ 111، والبيهقي في السنن: 1/ 165. وقال الحافظ: جزم موسى بن هارون والدارقطني بأن الزهري لم يسمعه من سهل، ثم حكى كلام ابن خزيمة السابق ثم قال: وفي رواية لابن خزيمة من طريق معمر عن الزهري أخبرني سهل بن سعد، فهذا يدفع قول ابن حزم بأنه لم يسمعه منه. التلخيص: 1/ 135. وقال الحازمي: هذا حديث يختلف فيه عن الزهري وعلى الجملة الحديث محفوظ عن سهل عن أبي أخرجه أبو داود. الاعتار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ص 33. وقال الشافعي: حديث الماء من الماء ثابت الإِسناد وهو عندنا منسوخ اختلاف الحديث بهامش الأم: 8/ 495، وجزم الزيلعي بنسخه. نصب الراية: 1/ 81، وقال الحافظ ذهب الجمهور إلى نسخ حديث الماء من الماء. تلخيص الحبير: 1/ 135، وقال أيضاً الجمهور على إيجاب الغسل وهو الصواب. فتح الباري 10/ 399. درجة الحديث: صححه الترمذي وأحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: 1/ 185، وقال فيه الشافعي صحيح الإِسناد، وقد وثَّق رجاله ابن حجر، وقال الحازمي هو محفوظ وقال البيهقي بعد سياقه له وقد رويناه بإسناده آخر موصولاً صحيحاً عن سهل بن سعد. (¬2) البخاري في كتاب الغسل، باب غسل ما يصيب من فرج المرأة: 1/ 80 من حديث زيد بن خالد الجهني، إنه سأل عثمان بن عفان: أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمْنِ، قال عثمان: "يَتَوَضَّأ كَمَا يَتَوَضَّأ لِلْصلاَةِ =

الماء بعد النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قلنا: الآن حان لكم أن تعلموا تنزيل الأحكام في الشريعة؛ فقد خفي ذلك على كثير ممن يعد من العلماء وهو أن الله تعالى كان إذا أنزل على رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، الحكم ويبيِّن له بالوحي لا يبعث النبي، - صلى الله عليه وسلم -، منادياً يقول أيها الناس قد جاء من الشرع كذا وكذا، وإنما كان يخبر، - صلى الله عليه وسلم -، من حضره ثم يترامى البلاغ شيئاً فشيئاً وتتناقله الألسنة وقتاً بعد وقت. نعم وربما أرجأ بيان الخطاب إلى حالة الوقوع ولم يسلمه ابتداء في النازلة قبل أن تقع، وكل من عمل بالحكم السابق قبل بيان هذا الثاني أو قبل بلوغه إليه فعمله صحيح وأجره قائم، وعلى هذا السبيل تكون الحنيفية سمحة ويكون الدين غالباً (¬1) عن الحرج وقد روى الدارقطني عن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "إِذَا الْتَقَتْ المَوَاسِي فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ" (¬2) فبيّن بقوله، - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا الْتَقَى الْخِتانَانِ" أول الفعل وبيّن بقوله: إذا التقت المواسي، ¬

_ = وَيغْسِلُ ذَكَرَهُ". قَالَ عثمان: سمعته من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -. والبيهقي: 1/ 164، وأورده البوصيري، في إتحاف الخيرة، من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عطاء عن زيد بن خالد الجهني أخبره أنه سأل عثمان عن الرجل يجامع امرأته ولا يمني .. ثم ساق بعده حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه ثم قال: وهذه الأحاديث، وما في معناها في هذا الباب، منسوخة بما في الصحيحين وغيرهما أن هذا كان رخصة ثم أمر بالغسل. إتحاف الخيرة 1/ ل 105 و 106. (¬1) في "م" عارياً، وفي ك غائباً، وما في "م" هو الصواب. (¬2) لم أطلع على هذا الحديث بهذا اللفظ وإنما الذي وجدته في العلل كالتالي: (1) قال الدارقطني: أخبرنا علي بن الفضل ثنا محمَّد بن عامر قراءة حدثكم سراد عن زفر عن محمد بن عمر عن أبي سلمة قال، قالت عائشة: "إذَا خَالَطَ الْخِتَانُ الخِتَانَ فَقَدْ وَجبَ الْغُسْلُ "العلل، القسم الأول من المجلد 5/ ل 59 ب. (2) علي بن الفضل بن طاهر بن محمَّد، أبو الحسن البلخي، كان من الجوّالين في طلب الحديث، صاحب غرائب، سمع محمَّد بن الفضل البلخي وأحمد ابن سيار المروزي وأبا حاتم الرازي وأبا قلابة الرقاشي، وكان ثقة حافظاً، قدم بغداد وحدث بها روى عنه الدارقطني ووثقه، مات سنة 323 هـ تاريخ بغداد: 12/ 47 - 48. تذكرة الحفاظ للذهبي: 3/ 871. (3) عمر بن عامر، لم أطلع لهؤلاء على ترجمة. (4) سراد، (5) زفر، (6) محمَّد بن عمر، والصواب بن عمرو كما في كتب الرجال، فقد قال الحافظ محمَّد بن عمرو بن علقمة ابن وقّاص الليثي المدني، صدوق له أوهام من السادسة، مات سنة 145 هـ على الصحيح /ع ت 2/ 196، وانظر ت ت 9/ 375، الكامل: 6/ 2229. (7) أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل اسمه عبد الله وقيل إسماعيل، ثقة مكثر من الثالثة، مات سنة 94 هـ وكان مولده سنة بضع وعشرين/ع ت 2/ 430، وانظر ت ت 12/ 115 - 117.

تقسيم

آخر الفعل، أوضح أن الحكم بهما واحد. قال لنا الشيخ الإِمام فخر الإِسلام أبو بكر محمَّد بن أحمد (¬1) بن الحسين، فقيه الوقت وإمامه: الفرج أشبه شيء بخمسة وثلاثين، وأخرج يده في الدرس وعقدها قال: فمسلك البول ما تحت الثلاثين ومسلك الذكر والحيض ما اشتملت عليه الخمسة. تقسيم: إذا ثبت أن الغسل يجب بالتقاء الختانين تارة وبخروج الماء أخرى، فإن الماء قد يخرج باللذة وقد يخرج عند الضرب والحك واللمس، وقد اختلف علماؤنا فيه اختلافاً كثيراً تضمنته كتب المسائل ولكن يختص مجال الكلام في موقعين. أحدهما: إذا خرج الماء لغير لذة. ولا إشكال عندي في وجوب الغسل فيه لإجماع الأمة على أن من استيقظ ووجد المني ولم ير احتلاماً فعليه الغسل لأنا قد تحققنا خروج الماء فلم يبال أحد عن وجود اللذة. الموضع الثاني. إذا أولجه فيها ولم ينزل. فقلنا عليه الغسل بإجماع فلما اغتسل أنزل. وقد اختلف العلماء في هذا الفرع وهو موضع إشكال؛ بيد أن النظر إذا حقق فإنه يقتضي وجوب الغسل ثانياً لأنهما سببان مختلفان فأوجب كل واحد منهما حكمه وإن كانا متعاقبين كمن بال فتوضأ ثم خرج منه الودي فإنه يتوضأ ثانية. فإن قيل فههنا نازل غريبة وهي إذا أولج فاغتسل فصلى ثم أنزل هل يعيد الصلاة؟ قلنا: فيه احتمال بعيد والصحيح أنه لا يعيدها لأنها قد وقعت موقعها بعد وجود شرطها وهو الغسل، ونزول الماء بعد ذلك أمر ثان كما لو جامع ثانياً أو تذكر فأنزل. تتميم: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {الْكَعْبَيْنِ} (¬2) وذكر أعضاء الوضوء الأربعة معددة معقَّبة ثانياً بعد أول، وثالثاً بعد ثان، ورابعاً بعد ثالث، وقال في غسل الجنابة: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَآطَّهَّرُوا} (¬3) مطلقاً، وقال في الآية الأخرى: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} مطلقاً، فتبين من ذلك أن الترتيب في الوضوء ¬

_ (¬1) الشاشي: 429 - 507 هـ تقدم. (¬2) المائدة، آية 6. (¬3) المائدة، آية 6.

مشروع، وأنه لا ترتيب في غسل الجنابة، فإن قيل فقد وصفت الصحابة غسل النبيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، من الجنابة تارة من فعله لمن رآه، وتارة من قوله لمن أفتاه، فذكروه مرتباً بتقديم الوضوء عليه وصبّ الماء على الرأس وإفاضته على الجسم فليكن ذلك بياناً للترتيب. الجواب: وهو (¬1) فائدة بديعة في أصول الفقه وذلك أن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، متى فعل فعلًا بيَّن فيه مجملاً كان بيانه واجباً، ومتى كان فعله تتميما لحكم معلوم وتفصيلاً لأمر مشروع كان فعله محمولًا على الفضل كقوله. {وَأَقِيمُوا آلصَّلاَةَ} (¬2). لما كان هذا قولاً مجملاً أو عاماً فبيّنه النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، بفعله أو خصصه فوقع ذلك الفصل بياناً لمشكل فوجب امتثاله. أما قوله: {أطَهَّرُوا} أو {حتى تغتسلوا} فهو أمر بيِّن في ذاته، واضح في نفسه، فما وقع من الزيادة (عليه فهو (¬3) بذلك) أجر وفضل يبين ذلك ويوضحه أن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، لما أفتى في غسل الجنابة من سأله عن بعض محتملاته فقال: "إِنَّما يَكْفِيك أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِك ثَلَاثَ حَثْيَاتٍ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ تَضْغُثِيهِ (¬4) بِيَدَيْك ثُمَّ تُفِيضِي الْمَاءَ على سَائرِ جَسَدِك فَإِذَا أَنْتَ قَدْ طَهُرْت" (¬5)، ولم يذكر الوضوء فدل على أنه أجر وفضل وليس بواجب ولا فرض. وأما ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ لأعضاء الوضوء معدودة معقبة فإنه أصل عظيم، وقد قال الجويني (¬6): إن النقلة لوضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل قط أحدٌ منهم أنه نكس وضوءه (¬7)، فاطرد القرآن ¬

_ (¬1) في "م" وهي. (¬2) سورة البقرة، آيه 43 و 110. (¬3) ليست في بقية النسخ. (¬4) قال ابن الأثير: الضغث: معالجة شعر الرأس عند الغسل ليدخل فيه الغسول والماء. النهاية: 3/ 90. (¬5) مسلم في كتاب الحيض باب حكم ضفائر المغتسلة. 1/ 259 عن أم سلمة قالت: يَا رَسُولَ الله إِنِّي أمرأَةٌ أَشدُّ ضفْرَ رَأْسِي فَأَنْقضه لِغَسْلِ الجَنَابَةِ؟ قَالَ: لَا إِنَّمَا يَكْفِيكِ ان تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثِلاثِ حَثْيَاتٍ. رواه أبو داود 1/ 174، والترمذي 1/ 175، والنسائي 1/ 131، وابن ماجه 1/ 198، وأحمد. انظر الفتح الرباني 2/ 135، والدارقطني 1/ 114، وعبد الرزاق 1/ 272، وأبو عوانة في مسنده 1/ 315، والبيهقي في السنن 1/ 181، وابن خزيمة 1/ 122، والنسائي في الكبرى 1/ 151، وشرح السنة للبغوي 2/ 17. (¬6) هو إمام الحرمين وقد تقدمت ترجمته. (¬7) وقوله هذا نقله النووي في المجموع 1/ 447.

والسنة وكذلك روى بعض المدنيين (¬1) عن مالك، رضي الله عنه، أن الترتيب واجب في الوضوء. فيقال للجويني: ما أقوى هذا الدليل وما أبدع هذا الميثاق لولا أنكم قلتم من قدم اليسار على اليمين في الوضوء جاز ولم يروَ قط عن النبيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، أنه نكسهما. فكل عذر لكم عن ذلك فهو عذرنا عن أصل الترتيب في الوضوء، وقد حققنا ذلك في "مسائل الخلاف" فلينظر تمامه فيه، والله أعلم. حديث: روت عائشة رضي الله عنها، أن أم سليم (¬2)، رضي الله عنها (¬3)، قالت: "هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَ هِيَ احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ فَلْتَغْتَسِلْ. فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ، رَضِي الله عَنْهَا: أُفٍّ (¬4) لَكِ، وَهَلْ تَرَىَ ذَلِكَ الْمَرأَةُ فَقَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: تَرِبَتْ يمِينُكَ وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الْشَّبَهُ" (¬5). وَروي: "إِنَّ الْنِّسَاءَ شَقَائِقُ (¬6) الرِّجَالِ". يعني أن الخلقة فيهم واحدة والحكم عليهم بالشريعة سواء. وفي قول ¬

_ (¬1) قال بهذا القول أبو مصعب، صاحب مالك، وذكره عن أهل المدينة ابن عبد البر في الاستذكار 1/ 185. (¬2) في الأصل أم سلمة وهو خطأ والصواب من (ك) و (م). والموطأ 1/ 51. (¬3) قال ابن عبد البر هذا الحديث في الموطأ عن عروة أن أم سليم، وقال ابن أبي أويس عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن أم سليم، وكل من روى هذا الحديث عن مالك لم يذكر فيه عن عائشة فيما علمت إلا ابن أبي الوزير وعبد الله بن نافع أيضاً فإنهما روياه عن مالك عن عروة عن عائشة .. وتابعهما أيضاً عن مالك حباب بن جبلة وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون ومعن بن عيسى، التمهيد 8/ 333. (¬4) قال ابن عبد البر ومعناها أن تقال جواباً لما يستثقل من الكلام ويضجر منه التمهيد 8/ 339. وقال الباجي قالت لها عائشة أف لك على معنى الإنكار لقولها والاغلاظ عليها لما أخبرت به عن النساء المنتقى 1/ 105. (¬5) مسلم في كتاب الحيض باب وجوب الغسل على المرأة 1/ 251، وأبو داود 1/ 162، والنسائي 1/ 112، وعبد الرزاق 1/ 283، والبيهقي 1/ 168. (¬6) أبو داود 1/ 161، والترمذي 1/ 189، وأحمد 6/ 256، وابن ماجه 1/ 197 - والدارمي 1/ 195 - 196 - والحديث عند الجميع من رواية عبد الله بن عمر عن عبيد الله بن عمر عن عائشة وعبد الله هذا: قال فيه الحافظ عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عبد الله العمري المدني ضعيف عابد من السابعة مات سنة 171 وقيل بعدها/ م ع ت 1/ 434. وانظر ت ت 5/ 326، الضعفاء للعقيلي 2/ 280، المجروحين 2/ 6، الكامل 4/ 1459، ترتيب الثقات ص 269، وقال الترمذي ضعفه يحيى بن معين من قبل حفظه سنن الترمذي 1/ 190 وقأل الشوكاني الحديث معلول بعلتين العمري المذكور والثانية التفرد وعدم المتابعات فقصر عن درجة الحسن والصحة. نيل الأوطار 1/ 281. وقد رد الشيخ أحمد شاكر كلام الشوكاني السابق وصححه. تعليق أحمد شاكر على سنن الترمذي 1/ 190 - 191 والذي أراه أن الحديث ضعيف والله أعلم لما تقدم من حال عبد الله بن عمر.

النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -: "وَمِنْ أَيْنَ يَكونُ الْشَّبَهُ" دليل على أن الولد مخلق من الماءين قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا سَبَقَ مَاءُ الْرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأةِ أَذَكَرا، وإذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ آنثاً" (¬1). وروي: إذَا سَبَقَ مَاءُ الرجُل مَاءَ الْمَرْأَةِ أَوْ عَلَا أشْبَهَ الرَّجُلُ أَعمَامَهُ، وَإذَا سَبَق ماءُ الْمَرْأَة مَاءَ الْرَّجُلِ أَوْ عَلَا أَشْبَهَ الرَّجُلُ أَخوَالَهُ (¬2). وتعارض (¬3) الحديثان في الظاهر، والجمع بينهما بيّن وذلك أن للماءين أربعة أحوال. الأول: أن يخرج ماء الرجل أولاً. الثاني: أن يخرج ماء المرأه أولاً. الثالث: أن يخرج ماء الرجل أولاً ويكون أكثر. الرابع: أن يخرج ماء المرأة أولاً ويكون أكثر. ويتم التقسيم بأن يخرج ماء الرجل أولاً ثم يخرج ماء المرأة أولاً فيكون أكثر، أو بالعكس من ذلك، ويتركب على هذا الوجود، الذي أشار إليه النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، بقوله: "وَمِنْ أَيْنَ يَكُونُ الشَّبَهُ"؛ فإذا خرج ماء الرجل أولاً وعلا وكان أكثر جاء الولد ذكراً بحكم السبق واشبه الولد أعمامه بحكم الغلبة والكثرة، وان خرج ماء المرأة أولاً، وكان أكثر من ماء الرجل أو علا، جاء الولد أنثى بحكم سبق ماء المرأة وأشبه أخواله بحكم الغلبة والكثرة. وإن خرج ماء الرجل أولاً لكن لما خرج ماء المرأة بعده كان أكثر وأعلا كان الولد ذكراً بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم غلبة ماء المرأة وكثرته. وإن سبق ماء المرأة لكن لما خرج ماء الرجل كان أعلى من ماء المرأة وأكثر كان الولد أنثى بحكم سبق ماء المرأة وأشبه أعمامه بحكم غلبة ماء الرجل وكثرته. وبانتظام هذه الأقسام يستتب الكلام ويرتفع التعارض عن الأحاديث (¬4). ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب الحيض باب صفة مني المرأة وأن الولد مخلوق من مائهما 1/ 252 من حديث ثوبان رضي الله عنه. (¬2) مسلم في كتاب الحيض، باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، من حديث عروة عن عائشة 1/ 251 - والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 168. (¬3) في م تعارضت. (¬4) قال النووي: قال العلماء: يجوز أن يكون المراد بالعلو هنا السبق ويجوز أن يكون المراد الكثرة والقوة بحسب الشهوة. شرح النووي على مسلم 3/ 225.

باب التيمم

باب التيمم وله ثلاثة أسماء: التيمم قال الله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} (¬1). والوضوء قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّعِيدُ الْطَيِّبُ وُضُوء الْمُسْلِمِ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ إِلَى عَشْرِ حِجَجٍ" (¬2) والطهور قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -، "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ، وذكر خصالًا منها وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ مَسْجِداً ¬

_ (¬1) المائدة آية (6). (¬2) رواه أبو داود في سننه 1/ 235 من طريق عمرو بن بجدان عن أبي ذر، رضي الله عنه، والترمذي 1/ 211 وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي 1/ 171، والحاكم 1/ 176، وقال هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، وكذلك قال الذهبي وأحمد. انظر الفتح الرباني 2/ 192 بلفظ: إلى عشر حجج, مثل لفظ الشارح وكذا الدارقطني 1/ 186، والبيهقي 1/ 221. ونقل الزيلعي في نصب الراية 1/ 148 أن ابن حبان رواه أيضاً في صحيحه ثم قال: وضعّف ابن القطان في كتابه الوهم والإيهام هذا الحديث فقال: وهذا حديث ضعيف بلا شك؛ إذ لا بد فيه من عمرو بن بجدان، وعمرو بن بجدان لا يعرف له حال. وقال ابن حجر: اختلف فيه على أبي قلابة .. وقيل عنه عن رجل من بني عامر وهذه رواية أيوب عنه وليس فيها مخالفة لرواية خالد، وقيل عن أيوب عنه عن أبي المهلّب عن أبي ذرّ، وقيل عنه بإسقاط الواسطة، وقيل في الواسطة محجن أو ابن محجن، أو رجاء بن عامر، أو رجل من بني عامر والاختلاف فيه كله على أيوب ورواه ابن حبان والحاكم من طريق خالد الحذاء كرواية أبي داود وصححه أيضاً أبو حاتم ومدار طريق خالد على عمرو بن بجدان وقد وثَّقه العجلي وغفل ابن القطان فقال إنه مجهول. التخليص الحبير 1/ 162. أقول الحديث فيه عمرو بن بُجْدان، بضم الموحدة وسكون الجيم، العامري بصري، تفرد عنه أبو قلابة من الثانية لا يعرف حاله /ع ت 2/ 66 وقال في ت ت: روى عن أبي ذرّ الغفاري وعنه أبو قلابة قال ابن المديني: لم يروِ عنه غيره. وذكره ابن حبان في الثقات وقال العجلي: بصري تابعي ثقة وقال أحمد: لا يعرف، وكذا قال ابن القطان وقال الذهبي في الميزان مجهول الحال. ت ت 8/ 7، وانظر تاريخ الثقات ص 362، والثقات لأبن حبان 5/ 171 وقال الذهبي في الكاشف 2/ 324 وثق وتقدم قوله في الميزان أنه مجهول. درجة الحديث: صححه الترمذي والحاكم وأقره الذهبي وصححه الشيخ ناصر، ونقل تصحيحه عن ابن حبان والدارقطني وأبي حاتم والحاكم والذهبي والنووي وقال: وله شاهد من حديث أبي هُرَيْرَة وسنده صحيح. إرواء الغليل 1/ 181. قلت: الشاهد الذي إشار إليه رواه البزار. انظر: كشف الاستار 1/ 157 وقال فيه الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 261: رجاله رجال الصحيح.

وَطَهُوراً" (¬1)، وهي خصيصه امتنَّ الله تعالى على هذه الأمة بها، وكرامة ميَّزها بها على غيرها، وفيها حكمتان: إحداهما: أن طهارتهم الأصلية كانت بالماء فنقل الله تعالى منها عند عدمها إلى التراب الذي هو أصل الخلقة لتكون العبادة دائرة بين قوام الحياة وأصل الخلقة. الثانية: أن النفس خلقها الله تعالى على جبلة وهي أنها كلما نزلت عنه وأعرضت كسلت عنه ونفرت، وكلما تمرَّنت عليه واعتادت أنست به واستمرَّت عليه، فلو لم يوظف (¬2) عليها عند عدم الماء حركة في الأعضاء وإقبال على الطهور لكانت عند وجود الماء تبعد عنها العادة فتشق عليها العبادة، فشرع الله تعالى لها ذلك دائماً حتى يكون إنسها بها قائماً، فالخير عادة والشر لجاجة، إذا ثبت أنه قائِم مقام الماء فإنه عامل عمله في إباحة الصلاة ورفع الحدث، فإن الحدث ليس بمعنى حسّي وإنما هو عبارة عن المنع من الصلاة، وإذا تيمم وصلَّى فقد زال المانع وارتفع الحدث، وهذا هو مذهب مالك، رضي الله عنه، الذي لا خلاف فيه، وقد قال بلفظه، في كتابه الذي هو نخبة كلامه ولباب عمله (وَلَا بَأْسَ أَنْ يَؤُمَّ الْمُتَيَمِّمُ لأَنَّ الْمُتَيَمِّمَ قَدْ أَطاعَ الله تَعَالَى وَلَيْسَ الَّذِي وَجَدَ الْمَاءَ بأَطْهَر مِنْهُ وَلَا أَتَمّ صَلَاةٍ) (¬3) .. وهذا نص، فإن قيل قد قيل يصلي فرضين بتيمم واحد قلنا: في ذلك تفصيل مذهبي وبالجملة فيجب أن تعلموا أن الله تعالى مدّ طهارة الماء إلى غاية وهي وجود الحدث، ومد طهارة التيمم إلى غاية وهي وجود الماء، فإذا وجد الماء ارتفع حكم التيمم كما إذا وجد الحدث ارتفع حكم الماء، والذي نقول: إن عليه أن يطلب الماء لكل صلاة فإن وجده استعمله وصلَّى به، وإن لم يجده بقي على حكم التيمم الأول. سمعت الإِمام الشيخ أبا الحسن (¬4) السلمي من أصحابنا ........................ ¬

_ (¬1) الحديث متفق عليه البخاري من حديث جابر بن عبد الله أخرجه في كتاب التيمم 1/ 91 ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة 1/ 370. ولفظه عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "أُعْطيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحدٌ قبْلِي نُصِرْتُ بِالرعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِداً وطَهُوراً". (¬2) كذا في م وط. وفي ك يوجب وهي الصواب. (¬3) الموطأ 1/ 55. (¬4) هو علي بن المسلم بن محمَّد بن علي بن الفتح، أبو الحسن السلمي، الفقيه الفرضي، أحد مشايخ الإِسلام. روى عن جماعة منهم الفقيه نصر المقدسي. روى عنه ابن عساكر وابنه القاسم والسلفي. لزم=

تحديد

.. : علي بن نصر بن إبراهيم المقدسي (¬1) يقول إذا تيمم للصلاة فالتيمم قربة مبيحة للمحظور، وهو فعل الصلاة، فلا تتعدى إباحتها كالكفارة في الظهار. فقلت له: إنما هو للطهارة ورفع المانع كالوضوء بالماء، فقال لي: لو كان كالوضوء بالماء لما لزمه استعمال الماء إذا وجده بالحدث الأول. فقلت له الكلام المتقدم وهو أن الله تعالى مد الطهارة بالماء إلى غاية وهي وجود الحدث، ومد طهارة التيمم إلى غاية هي وجود الماء، وجرى في ذلك كلام كثير أصله مبين في كتاب النزهة. تحديد: قال الله تعالى في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} (¬2)، فطائفة أفرطت فمسحت أيديها إلى الآباط، وقد روي ذلك في الحديث ولم يصح (¬3)، وطائفة فرطت ¬

_ = الغزالي مدة مقامه بدمشق وهو الذي أمره بالتصدّر بعد موت الفقيه نصر، وكان يثني على علمه وفهمه. توفي ساجداً في صلاة الفجر في ذي العقدة سنة 533 طبقات الشافعية للسبكي 7/ 235 - 236 كما ترجمه ابن عساكر وذكر أنه ولد سنة 450 هـ. تبيين كذب المفتري ص 326 - 327، وانظر شذرات الذهب 4/ 102. (¬1) كذا في جميع النسخ، ولعل في الكلام تجريف من النساخ وصواب العبارة وسمعت نصر بن إبراهيم المقدسي وهو شيخ له أيضاً. ونصر بن إبراهيم بن نصر بن إبراهيم بن داود النابلسي المقدسي، أبو الفتح، شيخ الشافعية في عصره بالشام، أصله من نابلس، كان يعرف بابن أبي حافظ وقام برحلة وعمره 20 عاماً. تفقه بصور وصيدا وغزة وديار بكر ودمشق والقدس ومكة وبغداد وأقام 10 سنوات في صور ثم 9 في دمشق واجتمع فيها بالإمام الغزالي وتوفي بها سنة 490 هـ، وكانت ولادته سنة 377 هـ. طبقات الشافعية لابن هداية الله ص 181 - 182، طبقات الشافعية للسبكي 5/ 351، تبيين كذب المفتري ص 286، تهذيب الأسماء واللغات 5/ 125، شذرات الذهب 3/ 395، العبر 3/ 329، مرآة الجنان 2/ 153، وذكره القاضي عياض في الغنية ص 67. (¬2) سورة المائدة آية 6. (¬3) رواه أبو داود من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حدّثه عمّار ابن يسار إنه كان يحدث " أَنَّهُمُ تَمَسّحُوا وَهُمْ معْ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، بِالْصَّعيِدِ لِصلاَةِ الْفَجْرِ فَضَرَبُوا بِأكُفِّهِم الْصَّعيِدَ ثم مَسَحُوا وُجُوهَهُمْ مَسْحَةً وَاحِدةً ثُم عَادوا فَضَرَبُوا بِأَكُفِّهِمْ مَرةً أُخْرَى .. إلى الْمَنَاكِبِ". أبو داود 1/ 224، والنسائي 1/ 167، وابن ماجه 1/ 189، وأحمد انظر الفتح الرباني 2/ 182، والحميدي في مسنده 1/ 79، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 111 مختصراً، والخطيب التبريزي في المشكاة 1/ 167، وأورده الحازمي في الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأثار ص 60 وقال هذا حديث ظاهر الدلالة في النسخ. وقال قال الشافعي: ولا يجوز على عمّار إذا كان ذكر تيممهم مع النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عند نزول الآية إلى المناكب =

فمسحت إلى الكوعين (¬1)، وطائفة توسّطت فمسحت إلى المرافق (¬2)، قالت بأنه بدل عن الوضوء فيحل محل المبدل. وفي الحديث: "إِنَّ الْتَّيَمُّمَ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْذِّرَاعَيْنِ" (¬3)، وصريح الصحيح أنه ضربة للوجه والكفين (¬4) بيّن ذلك النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، للخلق وعلمه للأُمة فليس لأحد في ذلك رأي. ¬

_ = إذا كان من أمر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنه منسوح عنده إذ روي أن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، أمر بالتيمم على الوجه والكفين. وقال البغوي في شرح السنة ما روي عن عمار أنه قال: تيممنا إلى المناكب، فهو حكايته فعله لم ينقله عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، كما حكى عن نفسه التمعك في حال الجنابة فلما سأل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وأمره بالوجه والكفين انتهى إليه، وأعرض عن فعله. شرح السنة: 2/ 114، وقال الحافظ بعد نقله كلام الشافعي المتقدم: ومما يقوي رواية الصحيحين في الاقتصار على الوجه والكفين كون عمار كان يفتي بعد النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بذلك. وراوي الحديث أعْرَف من غيره ولا سيما الصحابي المجتهد. فتح الباري 1/ 444. والحديث حسّنه الحازمي. انظر الاعتبار ص 60 وصححه الأرناؤوطي، محقق شرح السنة. انظر تعليقه على شرح السنة 2/ 114، والألباني في تعليقه على المشكاة 1/ 167. أقول: الحديث صحيح ولكنه منسوخ، والله أعلم. (¬1) روي ذلك عن الأوزاعي وهو مروي أيضاً عن علي، كما قال ابن عبد البر في الاستذكار 2/ 12. (¬2) وهو قول ابن عمر وجابر ومن التابعين قول سالم بن عبد الله والحسن وإبراهيم النخعي، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي. شرح السنة 2/ 114، والاستذكار 2/ 11. (¬3) رواه الدارقطني من رواية جابر وقال رجاله كلهم ثقات والصواب موقوف. سنن الدارقطني 1/ 181. ورواه الحاكم في المستدرك 1/ 180 وقال صحيح الإِسناد. أقول: الحديث فيه عثمان بن محمَّد بن سعيد الدَشْتَكي، بفتح الدال وسكون المعجمة وفتح المثناة بعدها كاف، الأنماطي نزيل البصرة وقد ينسب إلى جده، مقبول من الحادية عشرة/ د. ت/ 14. وقال في ت ت: قال الذهبي شيخ صويلح تكلموا فيه، وقال الحافظ: لم أر لأحد فيه كلاماً إلا أن ابن الجوزي قال تكلم فيه ولم يذكره مع ذلك في الضعفاء وتعقبه ابن العيد بأن ابن أبي حاتم ذكره فلم يذكر فيه جرحاً. ت ت 7/ 151. درجة الحديث: صححه الدارقطني والحاكم ورجح الدارقطني وقفه. (¬4) البخاري في باب التيمم باب المتيمم هل ينفخ فيهما 1/ 92 وفي باب التيمم للوجه والكفين 1/ 93 ومسلم في الحيض باب التيمم 1/ 280. وأبو داود 1/ 228، والنسائي 1/ 168، والدارقطني في السنن 1/ 183، وشرح السنة 2/ 108 كلهم من حديث عبد الرحمن بن أبزي قال: كنت عند عمر فذكر الحديث.

باب تيمم الجنب

باب تيمم الجنب هذه مسألة اختلف الصحابة فيها فكان ابن مسعود، رضي الله عنه، يرى ألاَّ يتيمم الجنب ويقول: لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ (¬1) فِي ذلِكَ لأوْشَكَ إِذَا بَرَدَ عَلَيْهِمِ الْمَاءُ أَنْ يَدَعُوهُ ويتَيَمَّمُوا (¬2). وهذا رد للنصّ بالذريعة وذلك لا يجوز، وإنما علينا أن ننزل الشرع منازله ونضعه مواضعه فمن تعدّاها فقد ظلم نفسه. وقد سأل رجل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عن الجنب هل يتيمم؟ فقال عمر، رضي الله عنه: لا يتيمم، فقال له عمّار: أَمَا تَذْكُر يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ كُنَّا في سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا فَلَمْ نَجِدِ الْمَاءَ فَأَمَّا أَنَا فَتَمَرَّغْت في التُّرَابِ كَمَا تَتَمَرَّغ الْدَّابةُ، فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلْكَفَّين". فَقَالَ لَهُ عُمَر، رَضيَ الله عَنْهُ. إتَقِ الله يَا عَمَّارُ: فَقَالَ عَمَّارُ إنْ شِئْتَ يَا أَمِير اْلمُؤْمِنِينَ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ، فَقَالَ لَهُ: بَلْ نوَلِّيكَ مِنْ ذلِكَ مَا تَوَلَّيْتَ (¬3). وهذا كله ينبني على أصل، وهو الكلام على آية الوضوء وترتيبها والأحكام فيها وكيف مساقها، وقد سمعت أصحابنا بالمشرق يقولون إن فيها ألف سؤال وحشدوا واجتهدوا فكيف (¬4) حتى، بلغوها ثمانمائة ولكن ¬

_ (¬1) في م له والصواب ما أثبتناه كما هو رواية الصحيحين وبقية النسخ. (¬2) متفق عليه. أخرجه البخاري في باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم 1/ 95 - 96، وفي باب التيمم ضربة من رواية شقيق ابن سلمة عن ابن مسعود، ومسلم في كتاب الحيض باب الوضوء من لحوم الإِبل 1/ 276 من رواية شقيق أيضاً، والبغوي في شرح السنة 2/ 110 وقال وروي عن ابن مسعود أنه رجع عن قوله وجوَّز التيمم إذا عدم الماء. قال الحافظ أخرجه عنه ابن أبي شيبة بإسناد فيه انقطاع. فتح الباري 1/ 457. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري 1/ 92 في باب التيمم باب المتيمم هل ينفخ فيهما، وفي باب التيمم للوجه والكفين 1/ 92 وفي باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم 1/ 95، وفي باب التيمم ضربة 1/ 96، ومسلم في كتاب الحيض باب الوضوء من لحوم الإِبل 1/ 276 وزاد فيه: فقال عمر نوليك ما توليت. وأبو داود 1/ 88، والنسائي 1/ 166. وابن ماجه 1/ 188 وأخرجه البغوي في شرح السنة 2/ 108. (¬4) كذا في جميع النسخ والعبارة ليست واضحة.

بزوائد ومعانٍ يستغنى عنها، وقد بينّاها في كتاب الأحكام في نحو من عشرين فصلاً (¬1)، أخترت تلك الفصول بآفاق الكلام وسحبت ذيلها على جميع المقصود ولا شك إلا أن قوله تعالى: {وَإنْ كنْتُمْ جُنُباً فَاْطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا} (¬2) ان هذا الجواب يرجع إلى جميع ما تقدم من الكلام لا ترده لغة ولا يدفعه نظام قول، والشريعة تعضده والآثار الصحيحة تشهد له؛ ففي الصحيح عن عمران بن حصين، رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -: "فَرَغَ مِنْ صَلَاةٍ فَنَظَرَ إِلَى رَجُلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَهُمْ فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصلِّي مَعَنَا؟ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي كنْتُ جُنُباً، فَقَالَ لَهُ: عَلَيْكَ بِالْصَّعِيدِ" (¬3). وهذا نص، فإن قيل فكيف قال عمّار لعمر، رضي الله عنه: إن شئت يا أمير المؤمنين لم أحدث به؟ قلنا: عن ذلك جوابان: أحدهما أن عماراً ذكر أنه جرى ذلك بحضرتك يا عمر فرده عمر، رضي الله عنه، ولم يذكره فتعارض الخبران وصار ذلك كشهادتين متعارضتين في وقت واحد فإحداهما ترد الأخرى، فاستيذان عمار لعمر، رضي الله عنه، في ذكر ذلك لأنه الحاكم فإن ردها لم يفد شيئاً ولا كان لذكرها معنى وإن جوَّزها فحينئذ يدفعها وينشرها. الثاني: ما قدمنا قبل من أن الراوي إذَا كان عنده عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، حديث لم يلزمه أن يذكره ولذلك كان أعيان الصحابة وكبارهم، رضي الله عنهم، لا يذكرون شيئاً مما سمعوا لأن تبليغ الأحاديث فرض على الكفاية. ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن 2/ 556. (¬2) سورة المائدة آية 6. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في موضعين من صحيحه في باب التيمم باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه من الماء 1/ 93 - 94 وفي الأنبياء باب علامات النبوة في الإِسلام 4/ 232. ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب قضاء الصلاة الفائتة 1/ 474 والشافعي في مسنده 1/ 43، والبغوي في شرح السنة 2/ 111.

باب الحيض

باب الحيض هو آفة كتبه الله تعالى على بنات آدم وهو على ضربين: عادة وعلّة. فإذا كان علّة فهي الاستحاضة. وكانت المستحاضات على عهد النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ستاً: فاطمة (¬1) بنت أبي حبيش، وحمنة (¬2) بنت جحش زوج طلحة بن عبيد الله، وأم حبيبة (¬3) بنت جحش زوج عبد الرحمن بن عوف، وزينب بنت جحش (¬4) زوج النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وسودة بنت (¬5) زمعة إحدى أمهات المؤمنين، وسهلة (¬6) بنت سهيل. الصحيح منهن فاطمة (¬7) وحمنة (¬8) وأم ¬

_ (¬1) فاطمة بنت أبي حبيش بن المطلب بن عبد العزى القرشية الأسدية، ثبت ذكرها في الصحيحين. الإصابة 4/ 369. (¬2) حمنة بنت جحش الأسدية، أخت أم المؤمنين زينب وأخوتها، كانت زوج مصعب ابن عمير فقتل عنها يوم أُحُد فتزوجها طلحة بن عبيد الله. كانت من المبايعات وشهدت أُحُداً فكانت تسقي العطشي وتحمل الجرحى وتداويهم وكانت تستحاض. الإصابة 4/ 266. (¬3) أم حبيبة بنت جحش، أخت زينب زوج النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كانت تحت عبد الرحمن بن عوف استحيضت سبع سنين فاستفتت النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فأمرها بالغسل عند كل صلاة، الإِصابة 4/ 423. (¬4) زينب بنت جحش الأسدية، أم المؤمنين، زوج النبي، - صلى الله عليه وسلم -، تزوجها سنة ثلاث وقيل سنة خمس من الهجرة ونزلت بسببها آية الحجاب: الإِصابة 4/ 307. (¬5) سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس القرشية العامرية كان تزوجها السكران بن عمرو، أخو سهيل بن عمرو، فتوفي عنها فتزوجها رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وكانت أول امرأة تزوجها بعد خديجة وتوفيت في آخر زمان عمر ابن الخطاب. الإِصابة 4/ 331. (¬6) سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشية العامرية، أسلمت قديماً وهاجرت مع زوجها أبي حذيفة بن عتبة إلى الحبشة فولدت له هناك محمَّد بن أبي حذيفة. الإِصابة 4/ 329. (¬7) متفق على هذه القصة أخرجها البخاري في الحيض باب الاستحاضة 1/ 84، ومسلم في الحيض باب الاستحاضة 1/ 262،/ وأبو داود 1/ 195، والترمذي 1/ 217، والنسائي 1/ 122، والبغوي في شرح السنة 2/ 140، كلهم عن عائشة أنها قالت: "قَالَتْ فَاطمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيشٍ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إنِّي لَا أَطْهَرُ أَفَأدَعِ الْصَّلاَةَ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: إنَّمَا ذلك عِرْقٌ وَلَيْس بِالْحَيْضَةِ ... ". (¬8) أما قصة حمنة: فرواها أبو داود 1/ 199 من طريق محمَّد بن عبد الله بن عقيل عن إبراهيم بن محمَّد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن أمه حمنة بنت جحش، والترمذي 1/ 221 وقال حسن صحيح، وابن ماجه 5/ 201، وأحمد في المسند 439/ 6، والشافعي في الأم 1/ 51 - 52، والحاكم 1/ 172، 173، =

حبيبة (¬1) وإحدى أمهات المؤمنين غير معيَّنة. وكتاب الحيض معضل في الفقه ما رأيت في رحلتي من يحسنه سوى (¬2) رجلين أبي إسحاق (¬3) إبراهيم بن الآمدية بالمسجد الأقصى، طهَّره الله تعالى، وأبي منصور محمَّد (¬4) بن (¬5) الصباغ بمدينة السلام (¬6)، والحيض على خمسة أقسام: مبتدأة، ويائسة. معتادة، مختلطة، متحيَّرة، وأشدها بلاء المتحيّرة. وأحاديث الحيض أربعة: الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "تَمْكُثُ إِحْدَاكُنَّ الْلَّيَالِي وَالَأيَّامَ لَا تَصُومُ وَلَا تُصَلِّي" (¬7). الثاني: قوله: "لِتَنْظُرْ عَدَدَ اللَّيَالِي وَالَأيامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنَ الْشَهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا فَلْتَتْرُكِ الْصلاَةَ فِيهَا" (¬8). ¬

_ = والبيهقي في السنن 1/ 338 و 339 وشرح السنة 8/ 142 كلهم من طريق عبد الله بن محمَّد بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي، أبو محمَّد المدني، أمه زينب بنت علي، صدوق، في حديثه لين ويقال تغير بأخره من الرابعة مات بعد الأربعين/ بخ د ت ق. ت 2/ 448 وقال في ت ت قال ابن سعد وأحمد منكر الحديث، وقال ابن المديني صدوق في حديثه ضعف شديد جداً، وقال الترمذي صدوق، وقال النسائي ضعيف، وكان أحمد وإسحاق والحميدي يحتجون بحديثه، وقال ابن عبد البر هو أوثق من كل من تكلم فيه. ت ت 6/ 13 - 14. درجة الحديث: حسن. (¬1) قصة أم حبيبة رواها مسلم في كتاب الحيض باب الاستحاضة 1/ 263، وأبو داود 1/ 74، والنسائي 1/ 119 وابن ماجة 1/ 205، وأحمد انظر الفتح الرباني 2/ 172. (¬2) في (ك) و (م) إلا رجلين. (¬3) أبو إسحاق إبراهيم بن الآمدية هكذا كنّاه هنا وكنّاه في العارضة 1/ 198 بأبي محمَّد فقال: ما أبصر بصري ولا بصيرتي في إقامتي ورحلتي من يقوم على مسائل الحيض إلا واحداً من علمائنا وهو أبو محمَّد إبراهيم بن الآمدية المقدسي. وكذا ذكره في العواصم 1/ 39 ولم أطلع على ترجمته. (¬4) كذا في جميع النسخ والعارضة 3/ 207 وفي الكتب التي ترجمت له قالوا أحمد ابن محمَّد. (¬5) أحمد بن محمَّد بن عبد الواحد أبو منصور بن الصباغ البغدادي إمام عالم جليل، تفقّه على القاضي أبي الطيب والحسن بن علي وأبي يعلى الفرّاء، مات سنة 494 ببغداد. طبقات الشافعية للسبكي 4/ 85، البداية والنهاية 12/ 160، المنتظم 9/ 125. (¬6) بغداد حالياً وقد تقدم الكلام عليها. (¬7) مسلم في كتاب الإيمان باب بيان نقصان الإِيمان بنقص الطاعات: 1/ 86 من حديث ابن عمر. (¬8) الموطأ 1/ 62، وأبو داود 1/ 187، والنسائي 1/ 182، وابن ماجه 4/ 201، وأحمد انظر الفتح الرباني 2/ 171 كلهم من حديث سليمان بن يسار عن أم سلمة زوج النبيّ، - صلى الله عليه وسلم - "أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَهْرَاقُ الدِّمَاءَ عَلَى=

الثالث: قوله، - صلى الله عليه وسلم -، وقد سئل عن الاستحاضة: "إِنَّمَا ذلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلاة فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا فَاغْسِلِي الدَّمَ عَنْكِ وَصَلِّي" (¬1). الرابع: قوله: "إِنَّ دَمَ الْحَيْضِ أَسْوَدٌ يُعْرَفُ فَإِذَا أَقبلَتِ الْحَيْضَةُ فَدَعِي (¬2) الصَّلاَةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ" (¬3) الحديث. وروي:" فَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاَةٍ" (¬4). ¬

_ = عَهْدِ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، فَاسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: لِتَنْظُرُ إلى عَدَدِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ اْلَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُين مِنَ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَها ... ". وقال فيه النووي: إسناده على شرطهما، وقال البيهقي: هو حديث مشهور إلا أن سليمان لم يسمعه منها (أي من أم سلمة) وفي رواية (لأبي داود 1/ 189) عن سليمان أن رجلاً أخبره عن أم سلمة. وللدارقطني (في السنن 1/ 208) عن سليمان أن فاطمة بنت أبي حبيش استحيضت فأمرت أم سلمة. وقال المنذري لم يسمعه سليمان. التلخيص 1/ 179. درجة الحديث: صححه النووي والشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة 1/ 176 وعبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول 7/ 374. (¬1) الحديث متفق عليه، فقد أخرجه البخاري في كتاب الحيض باب الاستحاضة 1/ 84، ومسلم في كتاب الحيض باب الاستحاضة 1/ 262، وأبو داود 1/ 195، والموطأ 1/ 61، والترمذي 1/ 217، والنسائي 1/ 117، وابن ماجه 1/ 203، وأحمد في المسند 6/ 194، والبغوي في شرح السنة 2/ 140، كلهم من حديث عائشة. (¬2) في (ك)، و (م) و (ص) فاتركي. (¬3) رواه أبو داود 1/ 197، والنسائي 1/ 123، والطحاوي في مشكل الآثار 3/ 306، والدارقطني 1/ 206 - 207، والحاكم 1/ 174، وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي والبيهقي في السنن 1/ 325 كلهم عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا كَانَ دَمُ الحَيْضَ .. ". درجة الحديث: حسّنه الشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة 1/ 175 وقال: صححه جماعة والظاهر من صنيع ابن القيم أنه يميل إلى تصحيحه؛ فقد نقل الطعون الواردة عليه من ابن القطان وردها. تهذيب السنن 1/ 182. وقال أيضاً: صحح الحديث ابن حبان وابن حزم والنووي وأعلَّه غيرهم بما لا يقدح. إرواء الغليل 1/ 124. (¬4) رواه أحمد في المسند 6/ 42 و 262 من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: "إِنّي أُسْتَحَاضُ فَقالَ: دَعِي الصَّلاة أيامَ حَيْضتِكِ ثُمَّ اغْتَسِلِي وَتَوضَّئِي عِنْدَ كُل صَلاةٍ وَإنَّ قطر الدم على الحصير". وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 280 وقال: رواه أحمد من طريق عروة ولم ينسبه، فقيل هو عروة=

واختلط على العلماء أمر المختلطة، وتحيروا في أمر المتحيرة، ولو أردنا أن نسر كلامهم أو نبيِّن مراميهم لاتسع الخرق وخرج الأمر عن الضبط وأشبه ما في ذلك أحد أصول مالك، رضي الله عنه، وهو أنَّ دم المرأة إذا خرج عن الاعتياد فهي مستحِاضة تصوم وتصلّي ويأتيها زوجها حتى ترى دماً متغيراً فتعمل عليه، فإن تمادى بها فلا تخلو أن تكون مبتدأة أو معتادة، فإن كانت مبتدأة فلتمسك أيام لدّاتها، وإن كانت معتادة فلتمسك قدر عادتها، وقيل تستظهر بثلاثة أيام, والاستظهار مشهور في المذهب ضعيف في الحديث، وقيل تتمادى إلى خمسة عشر يوماً، وهو أكثر الحيض. وروي عن ابن نافع (¬1) وابن الماجشون (¬2) إن أكثر الحيض سبعة عشر يوماً، وهي رواية ضعيفة لا أصل لها والدليل على صحة ذلك أن الله، تبارك وتعالى، جعل عدة الحائض ثلاثة أقراء، وجعل عدة اليائسة ثلاثة أشهر، فقابل كل قرء بشهر، ولا يخلو أن يقابله بأكثر من الحيض (¬3) وأكثر الطهر، وذلك محال؛ لأن أكثر الطهر لا حدّ له أو بأقلهما وذلك أيضاً محال لأن أقل الحيض لا حد له فلم يبق إلا أنه قابله بأقل الطهر وأكثر الحيض وذلك خمسة عشر يوماً، وعلى هذه الأصول التي بيَّنَّا تتفرع جميع مسائل الحيض إن شاء الله. ¬

_ = المزني وهو مجهول وقيل عروة ابن الزبير ولم سمع حبيب منه وحبيب مدلّس وقد عنعنه، وقال البيهقي عقب روايته: زيادة الوضوء لكل صلاة ليست محفوظة. السنن الكبرى 1/ 327. أقول. الحديث فيه حبيب بن أبي ثابت. قيس ويقال هند بن دينار الأسدي مولاهم أبو يحيى الكوفي، ثقة فقيه جليل، وكان كثير الإرسال والتدليس من الثالثة مات سنة 119/ع ت 1/ 148. وقال في ت ت: 2/ 178 قال أبو حاتم: لم يسمع حديث المستحاضة من عروة، وقال البخاري: لم يسمع منه شيئاً وجزم الثوري أنه لم سمع منه وإنما هو عروة المزني آخر، وكذا تبع الثوري أبو داود والدارقطني وجماعة وانظر المراسيل لابن أبي حاتم ص 28، ترتيب ثقات العجلي ص 105، تاريخ ابن معين 2/ 96، الثقات 4/ 137، الكامل 2/ 813، الضعفاء للعقيلي 1/ 263، الميزان 1/ 451. درجة الحديث: ضعيف للانقطاع بين حبيب بن أبي ثابت وعروة بن الزبير أو أن يكون عروة المزني قال الحافظ شيخ لحبيب بن أبي ثابت: مجهول من الرابعة ت/2/ 25. (¬1) هو عبد الله بن نافع ثابت بن عبد الله بن الزبير الزبيري، أبو بكر المدني، صدوق من كبار العاشرة، مات سنة 216/ س ق. ت 1/ 456، ت ت 6/ 50 الديبج 2/ 411. (¬2) عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، أبو مروان المدني، الفقيه، مفتي أهل المدينة صدوق له أغلاط في الحديث من التاسعة وكان رفيق الشافعي مات سنة 213 ت 1/ 520 ت ت 6/ 407, الديباج 2/ 6، المدارك 2/ 260، شجرة النور الزكية 2/ 56، طبقات الفقهاء للشيرازي ص 148، الانتقاء ص 57، نكت الهيمان للصفدي ص 197، وفيات الأعيان 2/ 340 - 341. (¬3) في (م) أو.

باب في بول الصبي

باب في بول الصبي حديث أم قيس بنت محصن حديث صحيح متفق (¬1) عليه وفيه ثلاثة فوائد: أحدها: بيان الغسل وإنما هو تحريك المغسول بالماء خلافاً لأبي (¬2) (ح) و (ش) (¬3) ولما توهَّمه أبو الفرج (¬4) المالكي من أن الغسل صبِّ الماء على المغسول خاصة وفي هذا الحديث فأتبعه بالماء ولم يغسله فبيَّن أن الغسل معنى زائد على صب الماء. الثانية: أن الغرض من إِزالة النجاسة ذهاب (¬5) عينها، وإذا زالت بصبِّ الماء عليها لم يفتقر إلى تحريك اليد بالماء وكان البول من الصبي قد وقع على الثوب فصب عليه الماء في الحال، وهو طري، فأخذته أجزاء الماء فلم يحتج إلى تحريك. الثالثة: قوله: "أُتِيَ بِصَبِيٍّ لَمْ يَأكُلِ الطَّعَامَ"، وقد ظن بعض الناس إن الصبي إذا لم يأكل الطعام لم يغسل بوله لقوله في الحديث: "فَأتْبَعَهُ إِيَّاهُ, ولم يغسله، فخفي عليه تفسير ذلك في اللغة فعاد يطلب التأويل في بول الصبي في غير موضعه، وهذا باب يقع فيه العلماء كثيراً بأن يتأوَّلوا غير موضع التأويل في القرآن والحديث فتبطل المسألة من أصلها كما تأوَّل أيضاً بعضهم من قوله: "أتِي بِصَبِيٍّ لَمْ يَأْكُلِ الطعَامَ" أن بول الأنثى بخلاف بول ¬

_ (¬1) متفق عليه البخاري في كتاب الوضوء باب بول الصبيان 1/ 66، ومسلم في كتاب الطهارة باب حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله 1/ 238، والموطأ 1/ 64، وأبو داود 1/ 261، والترمذي 1/ 104، والنسائي 1/ 157 كلهم عن أم قيس بنت محصن "أنَّهَا أتَتْ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، بِابْنٍ لَهَا لَمْ يَأكلِ الطَّعَامَ فَوَضَعَتْهُ في حجْرهِ فَبَالَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى ان نَضحَ بِالْمَاءِ" لفظ مسلم. (¬2) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 62. (¬3) انظر المجموع للنووي 2/ 185، وشرح النووي على مسلم 3/ 195. (¬4) أبو الفرج عمر بن محمَّد الليثي البغدادي الإِمام الفقيه العمدة الثقة، تفقَّه بالقاضي إسماعيل، وكان من كتابه، وعنه أبو بكر الأبهري وابن السكن وغيرهما، ألَّفَ كتاب الحاوي في مذهب مالك واللمع في أصول الفقه. توفي سنة 331. شجرة النور الزكية 1/ 79، الديباج 1/ 127. (¬5) في (م) إزالة.

الذكر ويحتجون في ذلك بما لا ترضى أن تحكيه (¬1). وبول الذكر والأنثى سواء أكلا الطعام أو لم يأكلا؛ لأن غذاءه من غذاء أمه، وما يستحيل عنه فحكمه حكم ما يستحيل من أمه، وإنما كان يكون للشافعي ومن وافقه كلام لو خلق المولود ابتداء وإلا فهو مخلوق في بطن أمه من لحمها ودمها ورطوباتها ينمو بنمائها ولا شك في أن حكمه حكمها والله أعلم. ¬

_ (¬1) روى أبو داود من طريق يحيى بن الوليد حدثني محل بن خليفة حدثني أبو السمح "قَالَ كنْتُ أخدمُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - .. فَأُتِيَ بَحَسَنٍ أو حُسَيْنٍ، رَضِيَ الله عَنْهمَا، فَبَالَ عَلَى صَدْرِهِ فَجِئْتُ أغْسِلُهُ فَقَالَ: يُغْسَل مِنْ بَوْلِ الجَارِيَةِ وُيرَشُّ مِنْ بَولِ الْغُلَامِ". أبو داود 1/ 262، والنسائي 1/ 158، وابن ماجه 1/ 175، والحاكم 1/ 166، وابن خزيمة 1/ 143. درجة الحديث: حسنه البخاري. التلخيص 1/ 50 ومصطفى الأعظمي في تعليقه على ابن خزيمة 1/ 143، وعبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول 7/ 82. هذا الحديث هو الذي استدل به من فرّق بين الجارية والغلام. قال الحافظ: اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب هي أوجه للشافعية أصحها الاكتفاء بالنضح في بول الصبي لا الجارية، وهو قول عطاء والحسن والزهري وأحمد وإسحاق وابن وهب وغيرهم، ورواه الوليد ابن مسلم عن مالك وقال أصحابه: هي شاذة. والثاني يكفي النضح فيهما وهو مذهب الأوزاعي وحكى عن مالك والشافعي. والثالث: هما سواء في وجوب الغسل وبه قال الحنفية والمالكية. فتح الباري 1/ 327، وانظر شرح النووي على مسلم 3/ 195، وشرح السنة 2/ 85.

باب البول قائما وغيره

باب البول قائماً وغيره ثبت في الصحيح أن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -: "أَتى سُبَاطَةَ (¬1) قَوْمٍ فَبَالَ قَائِماً" (¬2). وثبت عنه، - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان يرتاد لبوله موضعاً كما يرتاد لإقامته منزلَاً، وكان يتجنب العزاز (¬3) من الأرض إذا أراد البراز ويختار الدمث اللين (¬4)، وذلك كله إحتراز من تطاير البول وتعدّيه إلى البدن والثوب، ولذلك بال على السباطة قائِماً للينها. وفي صحيح الحديث: "أنَّهُ عُذِّبَ في الْقَبْرِ مَنْ لَا يَسْتَتِر مِنْ بَوْلِهِ" (¬5) وفي الحديث: "تَنَزَّهُوا مِنَ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْهُ" (¬6)، وقليل البول وسائر النجاسات وكثيرها سواء يلزم اجتنابها ويجب غسل قليلها ¬

_ (¬1) السباطة والكناسة: الموضع الذي يُرمى فيه التراب والأوساخ وما يكنس من المنازل، وقيل هي الكناسة نفسها. النهاية 2/ 335. (¬2) الحديث: متفق عليه البخاري في كتاب الوضوء باب البول قائماً وقاعداً، وفي باب البول عند صاحبه. والتستر بالحائط وفي باب البول عند سباطة قوم 1/ 66، ومسلم في الطهارة باب المسح 1/ 228، وأبو داود 1/ 27، والترمذي 1/ 19، والنسائي 1/ 25، وابن ماجه 1/ 111، الدارمي 1/ 171 كلهم من حديث حذيفة. (¬3) العزاز: الأرض الصلبة. ترتيب القاموس 3/ 215. (¬4) روى أبو داود من طريق أبي التيّاح قال: حدثي شيخ قال: لما قدم عبد الله بن عباس البصرة فكان يحدث عن أبي موسى، فكتب عبد الله إلى أبي موسى يسأله عن أشياء فكتب إليه أبو موسى: إني كنت مع رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ذات يوم فأراد أن يبول فأتى دمثاً في أصل جدار ثم قال - صلى الله عليه وسلم -:"إذَا أَرادَ أحدُكمْ أنْ يَبُولَ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْله مَوْضِعاً". أبو داود 1/ 15 وأحمد. انظر الفتح الرباني 1/ 256. أقول: الحديث فيه شيخ أبي التياح مجهول وبهذا يكون ضعيفاً، والله أعلم. (¬5) متفق عليه، البخاري في كتاب الوضوء باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله 1/ 64، ومسلم في الطهارة باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه 1/ 240 كلاهما من حديث ابن عباس قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحائط من حيطان المدينة أو مكة فسمع صوت انسانين يعذبان في قبورهما فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يُعَذَّبَانِ وَمَا يَعَذَّبَانِ في كِبيرٍ" ثُمّ قَال: "بَلي كَانْ أحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلهِ وَكَانَ لآخرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ .. ". (¬6) رواه الدارقطني عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "تَنَرَّهُوا مِنَ الْبَوْلِ فَإِنَّ عَامَّةَ عَذَاب الْقَبْرِ مِنْهُ" سنن الدارقطني 1/ 127، وقال المحفوظ مرسل.

وكثيرها، ما خلا الدم فإنه يعفى عن يسيره لوجهين؟ أحدهما: أنه لم يحرم منه إلا الكثير لقوله تعالى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} (¬1). والثاني: عدم إمكان الاحتراز منه فإن البدن لا يخلو في الغالب عنه، فسمحت الشريعة بيسيره رفعاً للحرج، ودم الحيض كسائر النجاسات لا يعفى عن شيء منه لانه يمكن الاحتراز عنه. هذا صحيح الروايات ولباب الدلالات فاحذروا ما عداه وقد روى في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد الإمامان محمَّد بن إسحاق (¬2) وعلي (¬3) بن عمر أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -: (أَمَرَ بِحَفْرِ الْمَوْضِعِ وَطَرَحَه مِنَ (¬4) الْمَسْجِدِ) وصححاه والذي ثبت في ¬

_ = أقول: الحديث فيه أبو جعفر الرازي التميمي مولاهم، مشهور بكنيته واسمه عيسى ابن أبي عيسى عبد الله ابن ماهان، وأصله من مرو، وكان يتجر إلى الري صدوق سيء الحفظ خصوصاً عن المغيرة من كبار السابعة. مات في حدود 60/ بخ عـ ت 2/ 406، وانظر ت ت 12/ 56، والكامل 5/ 1894، الضعَفاء 3/ 388، الميزان 3/ 319 - 320، المجروحين 2/ 120، الكاشف 3/ 322، المغني 2/ 500. درجة الحديث: جزم الدارقطني بأنه مرسل، وهو من خلال الإسناد حسن لغيره من أجل أبي جعفر الرازي. (¬1) سورة الأنعام آية 145. (¬2) محمَّد بن إسحاق بن خزيمة السلمي أبو بكر، إمام نيسابور في عصره، كان فقيهاً مجتهداً عالماً بالحديث، ولد سنة 223 - 311 طبقات الشافعية للسبكي 2/ 130، وللسيوطي ص 345. وقد أخرج الحديث في صحيحه 1/ 148 من طريق أنس ولكنه بلفظ مغاير لما ساق الشارح هنا. (¬3) علي بن عمر بن أحمد بن أحمد، أبو الحسن الدارقطني، ولد سنة 306 - 385 وكان إمام عصره في الحديث. الإعلام 5/ 130، تاريخ بغداد 12/ 34، النهاية 1/ 558،اللباب 1/ 404. (¬4) رواه الدارقطني قال: ثنا بن صاعد ثنا عبد الجبار بن العلاء ثنا ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن أنس أن أعرابياً بال في المسجد فقال النبي، - صلى الله عليه وسلم -، "احْفُروا مَكَانَهُ ثُمَّ صبُّوا عَلَيْهِ ذنُوباً مِنْ مَاءٍ" قال الحافظ: وأعله الدارقطني بأن عبد الجبار تفرد به دون أصحاب ابن عيينة الحفاظ، وأنه دخل عليه حديث في حديث وأنه عند ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس مرسلاً وفيه: احفروا مكانه. وعن يحيى بن سعد عن أنس موصولاً. والطريق المرسلة مع صحة إسنادها إذا انضمت إلى أحاديث الباب أخذت قوة وقد أخرجها الطحاوي مفردة من طريق ابن عيينة عن عمرو بن طاوس، وكذا رواه سعيد بن منصور عن ابن عيينة. التلحيص 1/ 49، وانظر معاني الآثار 1/ 14. وعزاه الهيثمي لأبي يعلى فقال: رواه بإسناد رجاله رجال الصحيح عن أنس. مجمع الزوائد 1/ 286. وذكر الحافظ الطريق المرسلة شواهد فمنها ما أخرجه أبو داود والدارقطني من حديث عبد الله بن مغفل بن مقرن، وهو تابعي، قال: قام أعرابي في زاوية من زوايا المسجد فبال فيها. فقال النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -: "خُذُوا مَا بَالَ عَليْهِ مِنَ التُّرَابِ فَألقُوهُ ... " قال أبو داود روي مرفوعاً يعني موصولاً ولا يصح. التلخيص 1/ 49، سنن أبي داود 1/ 265، والدارقطني في السنن 1/ 132، وقال مرسل، ورواه =

النداء للصلاة

الصحيح أنه قال: (صُبُّوا عَلَيْهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ) (¬1) فتبين فيه فائدتان. الأولى: أن النجاسة إذا كوثرت بالماء فغيِّبت بعد أن ظهرت طهرت. والثانية: أن مقدار بول الرجل من النجاسة يطهره مقدار السجل (¬2) من الماء فاسلك (¬3) ذلك في سائر النجاسات وقسه عليه. وقول النبيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، للناس حين صاحوا بالأعرابي اتركوه لوجهين: أحدهما: أن الأعرابي قد كان أراق بعض البول والكل في ذلك كالبعض، والثاني: أنه لو قطع بوله لتنجست ثيابه عليه ولحدث عليه من ذلك داء في بدنه، فترجح في الشريعة جانب تركه حتى يتم البول على قطعه بما يدخل عليه في ذلك من الضرر، وبأنه ينجس موقعين؛ فإذا تُرِك فالذي ينجس موقع واحد. وترجيح الفتوى بالدلالة أصل من أصول الفقه ولا ينفذ فيها عند تعارض الوجوه إلا ماهر، وإنما سكت النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، عن الأعرابي ولم يلمه لجهله بحق المسجد، ومن أصول الشريعة أن الجاهل بالحرام إذا واقعه سلم من العقوبة والآثام، وقوله فيه إنه جهل ذلك مقبول إلا أن يظهر من حاله، وشاهد الأمر والوقت ما يدل على كذبه فيقضي عليه بحكم العالم ولا يعذر بدعواه الجهل. النداء للصلاة: الأذان شعار المسلمين وكلمة الدين والفرق بين المسلمين والكافرين ثبت عن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان إذا غزا فجاءت عماية الصبح انتظر، فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار (¬4)، وبهذا صار الأذان فرضاً من فروض الكفاية إذا أذَّن مؤذِّن واحد في القرية أجزأ عن ¬

_ = الدارقطني من طريق سمعان بن مالك عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: جاء أعرابي فبال في المسجد فأمر النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، بمكانه فاحتفر. سنن الدارقطني 1/ 132، وقال سمعان مجهول، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 286، وعزاه لأبي يعلى وقال فيه سمعان بن مالك، قال أبو زرعة ليس بالقوي، وقال ابن خراش مجهول وبقية رجاله رجال الصحيح، وأورده الحافظ في المطالب العالية 1/ 10، والبوصيري في إتحاف الخيرة 1/ 167 وابن أبي حاتم في العلل 1/ 24 ونقل قول أبي زرعة: هذا حديث ليس بالقوي، ونقل الحافظ عنه أنه قال هو حديث منكر وكذا قال أحمد وقال أبو حاتم لا أصل له. التلحيص 1/ 50، وضعّفه الحافظ في الفتح 1/ 325. درجة الحديث: المرسل منه قد صحّحه الحافظ والهيثمي، أما المرفوع فضعيف. (¬1) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب صب الماء على البول في المسجد 1/ 65، من رواية أبي هُرَيْرَة. (¬2) السَجْل، بفتح المهملة وسكون الجيم، قال أبو حاتم السجستاني هو الدلو ملأى ولا يقال لها ذلك وهي فارغة. وقال ابن دريد، السجل دلو واسعة. وفي الصحاح الدلو الضخمة. فتح الباري 1/ 324. (¬3) في (ك) و (م): فانسب. (¬4) متفق عليه. من حديث أنس بن مالك أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كان إِذا غزا قوماً لم يغزُ بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع =

أهل القرية، ولو اتفقت القرية على ترك الأذان قوتلوا وقد وقع لمالك، رضي الله عنه، لفظة تدل على لزومه لكل جماعة وهي قوله في الموطأ: (وَإِنَّمَا يَجِبُ النِّدَاءُ في مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ) (¬1) ولكن الذي تنخل (¬2) عند علمائنا أن الأذان فرض في القرية في الجملة، متأكد في كل جماعة، مستحب للواحد لحديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه: "إِذَا كُنْتَ في غَنَمِكَ أَوْ في بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بالصلاة فَارْفعْ صَوْتَكَ فَإِنَّه لَا يَسْمع مَدَى صَوْتِ الْمؤَذِّنِ. الحديث ... إلى قوله: يَوْمَ القِيَامَةِ" (¬3) فإن قيل فهل تعقل الجمادات حتى تعلم أو تسمع حتى تشهد فبينوا لنا هذا الإشكال. الجواب: إنا نقول مما يجب أن تعلموه من أصول الدين وتفهموه من الفرق بين كفرة الأطباء والمؤمنين أن الكلام ليس بالهيئة، ولا العلم موقوف على البينة، ولا هو مرتبط بالرطوبة والبلّة وإنما الباري تعالى يخلقه متى شاء، في أي شيء شاء من جماد أو حيوان. ألا ترى المرء في حالة نومه لا يعلم ولا يتكلم حتى يهبه الله تعالى بإذنه ويخلق له ما شاء من علمه، أو لا ترى الطفل على الحالة التي أخبر الله تعالى عنهم (¬4) في قوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (¬5). كيف يعلّمه الثدي، ويخلق له العلم بالقبض على حلمته، ويخلق له العلم بالعض عليه لمصه ويلهمه إلى ازدراده، ويعرفه بقدر الحاجة منه حتى إذا انتهى إليها أخرج الثدي عن فمه. فالذي يخلق هذه العلوم كلها للولد يخلق ما شاء منها للجماد (¬6)، وقد قال ¬

_ = أذاناً كفّ عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم .. البخاري في كتاب الأذان باب ما يحقن بالأذان من الدماء 1/ 158. ومسلم في كتاب الصلاة باب الإِمساك عن الإِغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان 1/ 288. (¬1) الموطأ 1/ 71. (¬2) قال في القاموس: نخله وتنخله وانتخله: صفاه واختاره. ترتيب القاموس ص 597. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب رفع الصوت بالأذان 1/ 158 والنسائي 2/ 12، والموطأ 1/ 69. ولفظه "إِذَا كُنْتَ في غَنَمِكَ أَوْ في بَاديَتِكَ فَأَذّنْتَ للصَّلاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ فَإِنَهُ لَا يَسْمع مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنُّ، وَلَا إِنسٌ وَلَا شَيْءٌ، إلا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". (¬4) كذا في جميع النسخ ولعل الصواب عنها. (¬5) النحل آية 78. (¬6) قال الحافظ ابن كثير عند قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} هذا عام في =

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي (¬1) لأعْرِفُ بِمَكَّةَ حَجَراً كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ انْ أُبْعَثُ يَقُول لَهُ السلَامُ عَلَيْكَ يَا نَبيَّ الله"، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتى يُكَلِّمَ الرَّجُلَ شِرَاكُ نَعْلِهِ وَعَذْبَةُ سَوْطِهِ وَتُخْبِرُهُ بِمَا صَنَعَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ" (¬2). وقد تكلم الثور للرجل حين حمل عليه فقال: "لَمْ أُخْلَقُ لِهذَا إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ" (¬3). ولن تقوم الساعة حتى تتكلم السباع والحيوانات كلها وتظهر الحقائق الخفية التي هي الآن معلومة عند المؤمنين، لما قدمناه من الدلالات، وسيعاينها الخلق بالمشاهدات وقد قال النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -: "الْعَبْدُ الْفَاجِرُ تَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْبِلَادُ وَالْعِبَادُ وَالشَّجَرُ والدَّوَابُ" (¬4)، وراحتها منه إنما هي بأن الكفر والذنوب تحل بالخلق العقوبات، ويلحق الضرر بكل أحد من الناس وكل مخلوق من الشجر والدواب، حتى إنه ليتعذَّر على البهيمة شرب الماء ورعي النبات بذنوب العباد إما بعدم القطر وإما أن يكون موجوداً فتصد عنه فما يكون من أذان أو تلبية أو ذكر الله تعالى فإِن الباري، سبحانه وتعالى، يخلق به العلم لكل شيء إن شاء في الحين ويكون مدَّخراً لوقت الحاجة، وإن شاء يعلمهم بذلك في وقت الحاجة ويقدِّره عندهم، وذلك كله بتدبير الملك الحكيم، وتقدير العزيز العليم، فمهِّدوا ¬

_ الحيوانات والجمادات والنبات، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يأكل. مختصر تفسير ابن كبير 2/ 379. وقال النووي: في الآية خلاف مشهور والصحيح أنه يسبح حقيقة ويجعل الله فيه تمييزاً بحسبه. شرح النووي على مسلم 15/ 36 - 37. (¬1) الحديث رواه مسلم من رواية جابر بن سمرة في كتاب الفضائل باب فضل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة 4/ 1782، والترمذي 5/ 592، عن جابر أيضاً وكذلك أحمد 5/ 89، 95، 105، والبيهقي في دلائل النبوة 1/ 408، والدارمي 1/ 12. (¬2) الترمذي 4/ 476 من رواية أبي سعيد الخدري وأحمد 3/ 84، والحاكم 4/ 467، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي والحديث في سنده شيخ الترمذي سفيان بن وكيع بن الجراح، قال عنه الحافظ: كان صدوقاً إلا أنه ابتلي بوراقه فأدخل عليه ما ليس من حديثه فنصح فلم يقبل فسقط حديثه ت 1/ 312، وقال الذهبي: حسن له الترمذي- ميزان الاعتدال 2/ 173 وانظر ت ت 4/ 123، والحديث من طريق الحاكم صحيح لأن كل سنده ثقات، والله أعلم، وقد صححه الحاكم والذهبي. (¬3) أخرجه البخاري في باب فضائل الصحابة 5/ 6 من رواية أبي هُرَيْرَة والترمذي عن أبي هريرة أيضاً 5/ 615 وأحمد في مسنده 3/ 245، 283. (¬4) الحديث متفق عليه من رواية أبي قتادة. رواه البخاري في الرقاق باب ما جاء في سكرات الموت 8/ 133 ومسلم في الجنائز باب ما جاء في مستريح ومستراح منه 2/ 656، والنسائي 4/ 48، وأحمد 5/ 455.

لأنفسكم سبيل هذه العقائد ووطِّنوها على تحصيل هذه المعارف فإنها أصل التوحيد. تأصيل: روي أن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، علَّمه الله الأذان ليلة الإسراء في السماء بهيئته وصفته (¬1) ثم كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بمكة على تقية من الكفار فلم تكن صلاته ولا صلاة أصحابه بمكة إلا اختلاساً حتى كانت الهجرة ونزل بدار النصرة وتألفت بالإِسلام الكلمة والتأمت على الصلاة الجماعة، فلو أنه يكلف كل أحد أن يترصد الوقت مع ما هم فيه من التخوف، وينتابهم من الأشغال، لشق ذلك عليهم فتشاوروا كيف يكون الاجتماع فاختلفت في ذلك الروايات اختلافاً كثيراً لو سردناه لطال المقال ووقع الملال، لبابها حديثان: الأول: الحديث الصحيح. "أَنَّ النَّاسَ تَشَاوَرُوا مَع رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، كَيْفَ يَرْبُطُونَ الصَّلَاةَ لِوَعْدٍ يَجْتَمِعُونَ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ، رَضَىِ لله عَنْه: أَلَّا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادي بالصلاةِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -: يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بالصَّلاةِ" (¬2). الحديث الثاني: أن النَّبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، أرادَ أن يَتَخِذَ خَشَبَةً أو نَاقُوسَاً لِيَعْلَمُوا بِهِ وَقْتَ الصَّلَاةِ، فَبَيْنَمَا عَبْدُ الله بْنُ زَيْدٍ نَائِمٌ إِذْ رَأَى بِيَدِ رَجُلٍ نَاقُوساً فَقالَ: إِنَّ هذَا لَنَحْوَ مَمَّا يُريدُهُ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لِلَّذِي رَآهُ بَيَدِهِ: أَتُبِيعُهُ؟ فَقَالَ لَهُ. وَمَاذَا تُرِيدُهُ؟ فَأَعْلَمَهُ بِالغَرَضِ فَقَالَ لَهُ: أَولَا أَدُلُّكَ عَلى خَيْرٍ مِنْ ذلِكَ؟ فَقَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ. تُنَادونَ بِالصَّلَاةِ، وَأَلْقَى عَلَيْهِ الأذَانَ، فَلَمّا أَصْبَحَ جَاءَ عَبْدُ الله بْنُ زَيدٍ إِلَى رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَ لَهُ ذلِكَ فَقَالَ ¬

_ (¬1) روى الطبراني في الأوسط من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه لما أَسري برسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، إلى السماء أوحى إليه بالأذان فنزل به فعلمه جبريل. قال الهيثمي، بعد عزوه للطبراني: فيه طلحة بن زيد وقد نسب إلى الوضع. مجمع الزوائد 1/ 329 وقال الحافظ، في فتح الباري: وردت أحاديث تدل على أن الأذان شُرِّع بمكة، ثم ساق هذا الحديث وقال: وفي إسناده طلحة بن زيد وهو متروك. ثم ساق حديثاً آخر عن أنس أن جبريل أمر النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، بالآذان حين فُرضت الصلاة، وقال. إسناده ضعيف أيضاً، ثم قال: ولابن مردويه من حديث عائشة مرفوعاً: لَمَّا أُسْرِيَ بِي أَذَّنَ جِبْرِيلُ فَظَنَّتِ الْمَلاَئِكَة أنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ، فَقَدَّمَنِي فصَلَّيْتُ وَفِيهِ مَنْ لَا يُعْرَف .. ثم قال: والحق إنه لا يصح شيء من هذه الأحاديث، وقال: وقد جزم ابن المنذر بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بغير آذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور في ذلك، على ما في حديث عبد الله بن زيد. فتح الباري 2/ 78 - 79. وهذه الأحاديث كلها ضعيفة كما قال الحافظ. (¬2) الحديث متفق عليه من رواية ابن عمر فقد أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب بدء الآذان 1/ 157، ومسلم في كتاب الصلاة باب بدء الآذان 1/ 285، والترمذي 1/ 362، والنسائي 2/ 2، وأحمد رقم 6357 ج 2/ 148.

رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بالصَّلاَةِ" (¬1). وفي بعض طرق هذا الحديث: "أنَّ عُمَرَ، رَضِيَ الله عنه، لَما سَمِعَ النِّدَاءَ خَرَجَ فَزِعاً يَجُرُّ إِزَارَهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله لَقَدْ رَأيْتُ مِثْلَ الذِي رَأَى عَبْدُ الله بْنُ زَيْدٍ؟ قَالَ النَّبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -: فَالْحَمْدُ لله" (¬2) وبين هذين الحديثين من التعارض ما ترونه، ووجه الجمع بينهما أن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، تشاور مع أصحابه كيف يتحيَّنون وقت الصلاة فقال بعضهم: نتخذ قرناً مثل قرن اليهود، وقال بعضهم: نتخذ ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: أوقدرا ناراً، وقال عمر، رضي الله عنه: نادوا بالصلاة كأنه يقول: الصلاة الصلاة لا تفصيل الأذان وكيفيته. فوقف النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم - ينظر في ذلك فرأى عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، الرؤيا فيه، وسبق عبد الله بن زيد إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فأعلمه وأمر رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، بذلك وقال: "إن هذه الرؤيا حق"، وسمع عمر الأمر فأخبر برؤياه فحمد الله تعالى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، على ما كان من الإرشاد إلى الحق وألهم إليه من انتظام الأمر. وفي هذا الحديث دليل على أصل عظيم من أصول الفقه وهو القول في الدين بالقياس والاجتهاد. ألا ترى إلى مشاورة النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، مع أصحابه في الأذان، ولم ينتظر في ذلك من الله وحياً، ولا طلب منه بياناً، وإنما أراد أن يأخذ فيه ما عند أصحابه من رأي ¬

_ (¬1) أبو داود 1/ 337 من طريق ابن إسحاق، والترمذي 8/ 351 وقال: حديث عبد الله بن زيد حديث حسن صحيح، وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق أتم من هذا الحديث وأطول، وذكر فيه قصة الآذان مثنى مثنى والإقامة مرة، وعبد الله بن زيد هو ابن عبد ربّه، ويقال: ابن عبد ربّ، ولا نعرف له عن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، شيئاً يصح إلا هذا الحديث الواحد في الأذان. ونقل الحافظ كلام الترمذي السابق في ترجمته في الإصابة 2/ 312 ثم قال: وقال ابن عدي: لا نعرف له شيئاً يصح غيره وأطلق غير واحد أنه ليس له غيره وهو خطأ فقد جاءت عنه عدة أحاديث، ستة أو سبعة، جمعتها في جزء. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 390 - 391 من طريق إبراهيم بن سعد، ثم قال: روي عن محمَّد بن يحيى الذهلي قال: ليس في أخبار عبد الله بن زيد في قصة الآذان خبر أصح من هذا، يعني حديث محمَّد بن إسحاق عن محمَّد ابن إبراهيم التيمي عن محمَّد بن عبد الله بن زيد, لأن محمداً سمع من أبيه. ثم قال: وفي كتاب العلل لأبي عيسى الترمذي قال: سألتُ محمَّد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، يعني حديث محمَّد بن إبراهيم التيمي، فقال: هو عندي صحيح. ورواه ابن خزيمة في صحيحه من نفس الطريق مختصراً، 1/ 193 وقال: هذا حديث ثابت صحيح من جهة النقل لأن محمداً سمعه من أبيه ومحمد بن إسحاق قد سمعه من محمَّد بن إبراهيم التيمي وليس هو مما دلسه محمَّد بن إسحاق. درجة الحديث: صحيح. (¬2) هذا هو سياق الترمذي لحديث عبد الله بن زيد المتقدم. سنن الترمذي 1/ 358، وأحمد. انظر الفتح الرباني 3/ 14.

يستنبطونه من أصول الشريعة وينتزعونه من أغراضها، فلما جاءت الرؤيا بنظم الأذان وسرده أمر رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، به بكونه أصوب الآراء لما فيه من الخروج عن التشبه بأهل الكتاب والمجوس، ولما فيه من ذكر الله تعالى، ولأنه معنى اختصت به هذه الأمة لم يكن لأحد من الأمم قبلها ولله الحمد على ذلك كثيراً. حديث: "إِذَا نُوديَ لِلصَّلاَةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَان" (¬1) إلى آخره يحتمل الحقيقة والمجاز. أما الحقيقة فليس يستحيل أن يكون للشيطان حصاص وهو الضراط لما بيَّنَّاه من قبل وذكرنا إنه جسم من الأجسام مؤتلف من طعام وشراب، وفي الحديث (¬2) إِنَّ الشَّيْطَانَ حَسَّاسٌ (¬3)، ¬

_ (¬1) الحديث متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الآذان باب فضل التأذين 1/ 158، ومسلم في كتاب الصلاة باب الأذان وهرب الشيطان عند سماعه 1/ 291، والموطّأ 1/ 69، وابو داود 1/ 355، والنسائي 2/ 21، كلهم من رواية أبي هُريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال. إِذَا نُوديَ للصلاةِ أَدْبرَ الشَّيْطَان لهُ صُرَاطُ حتى لاَ يَسْمع التَّأذِين فإذا قُضيَ التَّأذِينُ أَقْبَلَ .. (¬2) رواه أبو داود 4/ 188 من طريق زهير بن معاوية عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هُرَيْرَة قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نامَ وَفِي يَدِهِ غمْرٌ ولَمْ يَغْسُلْهُ فأَصَابَهُ شَيْءٌ فلا يَلُومنَّ إلا نَفْسَهُ" وابن ماجه من طريق عبد العزير بن المختار عن سهيل به 2/ 1096 وابن حبان من طريق خالد ابن عبد الله عن سهيل أيضاً، والبغوي في شرح السنة 11/ 317 وحسنه. ورواه الترمذي من طريق يعقوب بن الوليد المدني عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي هُرَيْرَة وقال: قال أبو عيسى: غريب من هذا الوجه وقد روي من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هُرَيْرَة. الترمذي 4/ 289 ورواه الحاكم من نفس الطريق في المستدرك 4/ 119 وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه الألفاظ وخالفه الذهبي فقال: قلت: بل موضوع فإن يعقوب كذَّبه أحمد والنسائي. قلت: يعقوب بن الوليد لم يوثّقه أحد بل قد أتهم، قال الحافط: يعقوب بن الوليد بن عبد الله بن أبي هلال الأزدي، أبو يوسف، أو أبو هلال المدني، نزيل بغداد، كذّبه أحمد وغيره من الثامنة/ ت ق. ت 2/ 227 وانظر ت ت 11/ 397 والميزان 4/ 455 ففد ساق له عدة أحاديث، هذا الحديث من جملتها، وساقه كذلك ابن عدي في الكامل في ترجمته 7/ 2604 كما ترجمه العقيلي في الضعفاء 4/ 448 وقال المنذري بعد حكايته تحسين البغوي له قال: وهو كما قال رحمه الله فإن سهيل بن أبي صالح، وإن كان تكلم فيه، فقد روى له مسلم في الصحيح احتجاجاً واستشهاداً، وروى له البخاري مقروناً وقال السلمي: سألت الدارقطني لِمَ ترك البخاري سهيلاً في الصحيح؟ فقال: لا أعرف له عذراً، وبالجملة فالكلام فيه يطول والحديث حسن. الترغيب والترهيب 3/ 152 - 154. درجة الحديث: حسّنه البغويِ والمنذري وصححه ابن حبان، وقال الحافظ في الفتح: 11/ 512 سنده صحيح على شرط مسلم. (¬3) أي شديد الحس والإدراك. النهاية 1/ 384 ت.

وَجَسَّاسٌ (¬1) لَحَّاس (¬2)، فلا يمتنع أن يكون له حصاص لا سيما وهو أذل له في الفرار، وأبلغ لدخول الرعب في قلبه، وأدعى لذهاب قوته حتى لا يملك نفسه من خوف ذكر الله تعالى، وفي الحديث: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ لَعَنَ (¬3) الله الشَّيْطَانَ فَإِنَّهُ إِذا سَمِعَهَا تَعَاظَمَ حَتَّى يَصِيرَ كَالْجَبَلِ وَلْيَقُلْ أَعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَإِنَّهُ إِذَا قَالَها تَضَاءَلَ وَتَصَاغَرَ" (¬4) وهذا حديث صحيح خرّجه النسائي، ولأن الله تعالى قال له: {وَأَن عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدَينِ} (¬5) فما أثَّر ذلك فيه، فكيف يسأل عن لعنة غير الله تعالى. وأما المجاز في معنى الحديث فهو متَّسع ويكون استعارة وعبارة عن فراره ذليلًا خاسياً، كما يفر العير الضروط، وقوله: "حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ" يعني بذلك الوسوسة وهو أمر مكَّن الله تعالى منه الشيطانَ في الإنسان، وجعل دواءه الاستعاذة فقال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬6). وهذا ما لم تتمكن الشهوات في القلوب ولم تَحْلَوْلِ (¬7) المعاصي في النفوس ولا ارتبطت العلائق بالهوى حتى غلبت النفس فليس دواؤها حينئذ الاستعاذة وإنّما ينفع فيها التوبة بحذف الشهوات وقطع العلائق والاستبصار بالحقائق. ¬

_ (¬1) التَّجَسُّس بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر، والجاسوس صاحب سر الشر، والناموس صاحب سر الخير. وقيل التجسس بالجيم أن يطلبه لغيره، وبالحاء أن يطلبه لنفسه. وقيل بالجيم العورات وبالحاء الاستماع، وقيل معناهما واحد في تطلب معرفة الأخبار، النهاية 1/ 272. (¬2) أي كثير اللحس لما يصل إليه. النهاية 4/ 237. (¬3) في (ك) و (م) أخزى. (¬4) الحديث لم أطلع على عزو المؤلف له للنسائي ولعله في سننه الكبرى التي ليست متوفرة، وقد روى الحديث الطبراني في الكبير 1/ 161 وقال فيه عن أبي المليح عن أبيه أسامة وهو ابن عمير. ورواه الحاكم في المستدرك 4/ 292 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وكذا قال الذهبي. وأورده المنذري في الترغيب والترهيب 4/ 80 وعزاه للنسائي والطبراني والحاكم وقال: صحح الإسناد. وأورده ابن الأثير في أسد الغابة 1/ 67، وقال فيه: عن أبي المليح عن أبيه .. والحديث صحيح كما ذهب إليه المؤلف والحاكم والذهبي فكل رجاله ثقات. (¬5) سورة الحجر آية 35. (¬6) سورة فصلت آية 36. (¬7) في (م) تحل.

حديث: سَاعَتَانِ تُفتَحُ فِيهِمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ (¬1) قال أبي، رضي الله عنه (¬2). أبواب السماء مغلَّقة وكذلك أبواب الجنة، لا تفتح إلا لسبب من عروج أمر، أو نزول قضاء، أو ما شاء الله تعالى والباري سبحانه هو الذي يسمع الأقوال، وهو الذي يرفع الأعمال، وهو الذي يقبل الدعاء وقد جعل لذلك علامات وقرنه بأسباب وخصّ به أوقاتاً منها حضرة الصلاة ومنها الاصطفاف عند القتال، فينبغي أن تغتنم تلك الساعة وأمثالها فإنها متهيئة للقبول، ولكن للدعاء شروط يقبل معها ولا يصح دونها وقد بيَّنا، في كتاب المشكلين، شروطه وخصائصه وجماعها عشرون خصلة وثمرتها الإجابة، وكل داعٍ مقبول دعاؤه لقوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ} (¬3)، لكن الإجابة على ثلاثة أوجه: إما أن تقضى له حاجته التي عين، وإما أن يعوض خيراً منها مما لم يعلم الداعي قدرها ولو علمه لرضي بالبدل، وإما أن يدخر له إلى الآخرة وكذلك هو نص. ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطّأ 1/ 70، ونقل السيوطي عن ابن عبد البر أن هذا الحديث موقوف عند جماعة من الرواة ومثله لا يقال من جهة الرأي، وقد رواه أيوب بن سويد ومحمد بن مخلد وإسماعيل بن عمرو عن مالك مرفوعاً، وروي من طرق متعددة عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره، تنوير الحوالك 1/ 91. قلت: الحديث رواه الحاكم مرفوعاً عن أبي حازم أن سهل بن سعد أخبره أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ثَنتَانِ لَا تُرَدَّانِ أو قُل مَا تُرَدَّانِ. الدُّعاءُ عندَ النّدَاءِ وعِنْدَ البَأسِ حِينَ يَلْحُمُ بَعْضُهُمْ بعْضاً" وقال: هذا حديث ينفرد به موسى بن يعقوب وقد يروى عن مالك وموسى بن يعقوب ممن يوجد عنه التفرد ولم يعلق عليه الذهبي. المستدرك 1/ 198، وعبد الرزاق في المصنف 1/ 495، ورواه الدارمي مرفوعاً بإسناد مثل إسناد الحاكم 1/ 272، والبيهقي في السنن 1/ 410، ورواه أبو نعيم في الحلية من طريق بكر بن سهل بن سعد بلفظ: "سَاعَتَانِ تُفْتَحُ فِيهَا أبْوَابُ السَّمَاءِ فَلَمْ تُرَدّ فيهِمَا دَعْوة حُضُور الصلاَةِ وَعِندَ الزحْفِ لِلْقِتَالِ". وقال: غريب من حديث مالك لم يروه عنه في الموطّأ، ورواه أيوب بن سويد وإسماعيل بن عمر أبو المنذر عن مالك نحوه. حلية الأولياء 6/ 343، وقد رواه الطبراني في الأوسط والصغير عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "تُفْتحُ أبوَابُ السمَاءِ لِخَمسٍ لِقِرَاءةِ القرْآنِ وَللِقاءِ الزَّاحِفِينَ ولِنُزُولِ الْقَطْرِ وَلدَعْوةِ الْمَظْلُومِ وَللأَذَان". قال الهيثمي: فيه حفص بن سليمان الأسدي ضعّفه البخاري ومسلم وابن معين وابن المديني، ووثّقه أحمد وابن حبان مجمع الزوائد 1/ 328. أقول: رواية الحاكم والدارمي فيها موسى بن يعقوب صدوق سيء الحفظ. ت، 2/ 289، وانظر ت ت 11/ 378. وأورده الخطيب في المشكاة 1/ 212 وعزاه لأبي داود والدارمي درجة الحديث: صحَّحه الشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة 1/ 212. (¬2) ليست في بقية النسخ، وفي (ك) قال الإِمام الحافظ أبو بكر بن العربي رضي الله عنه. (¬3) البقرة آية 186 وتمام الآية. {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.

الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1): {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} (¬2). فائدة: الأذان إنما وضع، كما قدَّمنا، للإعلام بالوقت، فلا يكون إلا عند دخول الوقت. ولم يشرع الأذان في الدين للنوافل وإنما شرع للإعلام بوقت الفرائض خلا الصبح فإنها يُنادى لها قبل وقتها بقليل لتأهب الناس لها ويوقعونها في وقتها؛ إذ تصادفهم على غفلة وفي وقت يشق عليهم القيام، وقد غلا في ذلك بعض الرواة فقال: يؤذن للصبح عند الفراغ من صلاة العتمة، وقيل: يؤذن لها إذا انتصف الليل أو تثلث، وهذا كله ضعيف لانه ليس في هذه (¬3) الأوقات صلاة فريضة وإنما هي أوقات فضيلة ولم يشرع لها أذان فلا ينبغي أن يتلفت إلى ذلك. حديث: "لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في النِّدَاءِ" (¬4) إلى آخره. أما فضل النداء فمعلوم وأصوله أربعة: أحدها: ما فيه من توحيد الله تعالى وتعظيمه والشهادة لرسوله والدعاء لعبادته. ثانيهما: في حديث أبي سعيد الخدري من فضيلته، حسب ما تقدم من صفته. ثالثها: أن الخلق كلهم في حفظ الوقت في صحيفته يذكر غافلهم ويحرّض متكاسلهم فكلهم يشركه في أجره، ولهذا كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يقول: (لَوْلَا ¬

_ (¬1) روى الإِمام أحمد من رواية أبي سعيد الخدري 3/ 18 قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلاَ قَطِيعَةُ رَحْمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ الله بِهَا إِحْدَي ثَلَاثٍ إِمَّا أَنْ يَعْجّل لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا في الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا قَالُوا إِذاً نُكْثرُ قَالَ الله أَكْثَرُ". قال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه والبزار والطبراني في الأوسط ورجال أحمد وأبي يعلى، وأحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة. مجمع الزوائد 10/ 148. أقول: الحديث فيه علي بن علي وهو ثقة، كما قال الهيثمي، وقد قال الذهبي وثّقه غير واحد. الكاشف 2/ 291، وقال الحافظ في ت 2/ 41 لا بأس به وانظر ت ت 7/ 366. والتاريخ الكبير 6/ 288، والحديث صحيح كما قال الهيثمي. (¬2) سورة الإِسراء آية 21. (¬3) في (م) تلك. (¬4) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب الإِسهام في الأذان 1/ 159 ومسلم في كتاب الصلاة باب تسوية الصفوف وإقامتها 1/ 325 كلاهما من حديث أبي هريرة: "أَنَّ رَسولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في النداءِ والصَّفِّ الأوَّلِ ثُمَ لمْ يَجِدُوا إلّا اَنْ يَسْتَهِمُّوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُّوا، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا في التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا في الْعَتْمَةِ وَالصُّبحِ لأتُوهُمَا وَلَوْ حَبْوَاً".

الْخِلِّيفَى لَأذَّنْتُ) (¬1). رابعها: تجديد الشهادة في كل حين، وقد روي أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، "أَذَّنَ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى رَاحِلَتِهِ في مَطَر وَبَلَّةٍ" (¬2) خرّجه الترمذي وغيره، وقوله - صلى الله عليه وسلم -، في الحديث الصحيح: "الْمُؤَذِّنُونَ أَطوَلُ النّاسِ أَعْنَاقاً يَوْمَ الْقِيامَةِ" (¬3) روي بفتح الهمزة جمع عنق يشير بذلك إلى عزتهم وأمنتهم وارتفاع أقدارهم؛ فإن الرجل إذا كان بهذه الصفة مد جيده وتعالى لما يريده. قال النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -: "لَأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَداً رَجُلاً يحِبُّ الله وَرَسُولَه وُيحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ فَتَطَاوَلَ لَهَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا" (¬4) وفي ضده قال الله تعالى: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي ¬

_ (¬1) الخِلّيفى، بتشديد اللام مع كسر الخاء المعجمة. التلخيص 1/ 212 أي لولا الخلاقة لأذَّنت، وهذا الأثر رواه عبد الرزاق في مصنفه 1/ 486 وابن أبي شيبة في مصنفه أيضاً 1/ 225، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 426، وأورده الحافظ في تلخيص الجبير 1/ 212 وعزاه لأبي الشيخ في كتاب الأذان له وللبيهقي وسعيد بن منصور في سننه، وأورد صاحب كنز العمال 4/ رقم 5478 و 5481، وأورده ابن حجر في المطالب العالية 1/ 65 وعزاه لمسدد، وقال حيب عبد الرحمن الأعظمي: رجاله ثقات، فعليه يكون حسناً. (¬2) الحديث رواه الترمذي 2/ 268 من طريق يعلي بن مرّة عن أبيه عن جده، أنهم كانوا في مسير فانتهوا إلى مضيق وحضرت الصلاة فمطروا، السماء من شوقهم والبلة من أسفل منهم، فأذَّن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وهو على راحلته وأقام فتقدم على راحلته، فصلَّى بهم يومئ إيماءً يجعل السجود أخفض من الركوع. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب تفرد به عمر بن الرماح البلخي ولا يعرف إلا من حديثه، وقد رواه عنه غير واحد من أهل العلم. ورواه أحمد 4/ 173 عن سريج بن النعمان عن ابن الرماح مطولاً والدارقطني مطولاً أيضاً من طريق محمَّد بن عبد الرحمن بن غزوان عن ابن الرماح. سنن الدارقطني 1/ 380، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 7 من طريق ابن الرماح، والخطيب البغدادي في تاريخه من طريق الحسين بن موسى الأشيب عن ابن الرماح 11/ 182، والحديث نقل الحافظ في التلخيص 1/ 212 عن عبد الحق أنه صحح إسناده، وأن النووي حسّنه وقال ضعفه البيهقي وابن العربي وابن القطان لحال عمرو بن عثمان. انظر المجموع 3/ 106، والبيهقي 2/ 7، أما عزوه الابن العربي فقد راجعت عارضة الأحوذي 2/ 203، ولم أجد له كلاماً على هذا الحديث ولعله في موضع آخر. أقول: الذي يظهر لي أن الصواب تضعيف هذا الحديث لأن عمرو بن عثمان لم يوثقه إلا ابن حبان. انظر ت ت 8/ 79، الثقات 5/ 168، التاريخ الكبير 3/ 353 كما أن عثمان بن يعلى مجهول. انظر ت ت 7/ 159 - 160. (¬3) رواه مسلم في كتاب الصلاة من حديث معاوية بن أبي سفيان في باب فضل الأذان وهرب الشيطان منه. 1/ 290، وابن ماجه 1/ 240، وأحمد 4/ 95، 98، وابن حبان. انظم موارد الظمآن ص 96. (¬4) الحديث متفق عليه. رواه البخاري في كتاب الجهاد باب فضل من أسلم على يده رجل 4/ 73 من رواية =

رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} (¬1) ويحتمل أن يشير بطول أعناقهم إلى سلامتهم من الغرق في العرق، وروى إعناقاً، بكسر الهمزة من العنق والعنق بفتح الفاء (¬2) والعين، ضرب من السير؛ تأويله أنهم يأتون يوم القيامة مسرعين غير متثاقلين بربهم واثقين، وأما الصف الأول فليس فيه أثر صحيح يعول عليه حاشى قوله: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا" (¬3)، وقوله (لِيَلِيني مِنْكُمُ أولُو الأحْلَامِ وَالنَّهْي) (¬4) وهي أربع مراتب: الأول: سبق إلى المسجد ودخل إلى الصف الأول وهو أفضلها. ثانيها: تأخر إقباله وصلى في الصف الأخير (¬5). رابعها: تأخر عن إجابة الداعي، فلما جاء المسجد حصل في الصف الأول قال العلماء: هما سواء، وعندي أن الرابع أفضل من الثالث وفي ذلك تطويل لا يحتمله هذا القبس، وقد أطلنا في غير موضع فيه النفس. وأما قوله: (لَاسْتَهَمُّوا عَلَيْهِ) فيتصور الاستهام في الصف الأول عند ضيقه وإقبال الرجال إليه في حالة واحدة، فإن كان أحدهما أفضل فالموضع له، وإن تساوت حالهما أو تشاحا أقرع بينهما. وأما تصور الاستهام في الأذان فمشكل، وقد اختصم قوم بالقادسية (¬6) في الأذان فأقرع بينهم سعد، وهذا إنما يكون بشرطين أحدهما: أن يتساويا في الأمانة. قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -:"الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مؤْتَمَنٌ" (¬7). ¬

_ = سهل بن سعد، وفي كتاب فضائل الصحابة باب فضل علي ابن أبي طالب 5/ 24، ومسلم في كتاب الفضائل باب فضل علي بن أبي طالب 4/ 1871، وأحمد 5/ 333 كلهم عن سهل بن سعد. (¬1) سورة إبراهيم آية 43. (¬2) كذا في جميع النسخ ولعلها بفتح النون والمعين. قال ابن الأثير. وروي أطول إعناقاً، بكسر الهمزة، وأعجل إلى الجنة. يقال أعنق إعناقاً فهو معنق والاسم العنق بالتحريك. النهاية: 3/ 310، قال القاضي عياض: رواه بعضهم إعناقاً بكسر الهمزة أي إسراعاً إلى الجنة. شرح النووي على مسلم 4/ 92. (¬3) مسلم في كتاب الصلاة باب تسوية الصفوف وإقامتها 1/ 326، والترمذي 1/ 435، والنسائي 2/ 93، وابن ماجه 1/ 319 كلهم عن أبي هريرة. (¬4) رواه مسلم في باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الصف الأول عن عبد الله بن مسعود 1/ 323. (¬5) في (ك) و (م) زيادة: فذلك شرها ثالثها سبق إلى النداء لكنه صلّى في الصف الآخر. (¬6) القادسية موضع بفارس. قال ياقوت الحموي: سُميت القادسية بقادس هرات، وقال قال المدائني كانت القادسية تسمى قديساً .. وبهذا الموضع كان يوم القادسية بين سعد بن أبي وقاص والمسلمين والفرس في أيام عمر بن الخطاب في سنة 16من الهجرة وقد انتصر فيها المسلمون. معجم البلدان 4/ 291. (¬7) أبو داود في سننه 1/ 356 من رواية أبي هُرَيُرَة والترمذي 1/ 402، وقال: وفي الباب عن عائشة وسهل بن =

الشرط الثاني: أن يكون صاحب الوقت فهكذا يكون الاستهام إذا وقع التشاح فإذا أذَّن أمينُ الوقت أَذَّن بعده من شاء من غير حجر، ويتصور الاستهام أيضاً في الأذان في صورة أخرى وهي صلاة المغرب فإنه ليس لها إلا مؤذن واحد (وأما فضل التهجير) فليس فيه حديث صحيح في التحديد بل إنه روي أنه قال: "أَوُّلُ الْوَقْتِ رَضْوَانُ الله" (¬1)، وفي ¬

_ = سعد وعقبة بن عامر، ورواه ابن حبان من حديث عائشة وأبي هريرة. موارد الظمآن 108، وأحمد من رواية أبي هريرة وعائشة انظر الفتح الرباني 3/ 8 أقول: تكلم الشيخ أحمد شاكر على رواية الترمذي فقال: اختلف العلماء في صحة هذا الحديث؛ فبعضهم رجَّح أنه عن أبي هُرَيْرة، وبعضهم رجَّح أنه عن عائشة، وبعضهم ضعفه من الروايتين. ولعل هذا هو الذي حمل البخاري ومسلماً على أن يتجنبا إخراجه في الصحيحين وهو حديث صحيح. ثم ساق رواية أحمد رقم 9418 ج 2/ 419 قال أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله،- صلى الله عليه وسلم -، قال: "الِإمَام ضامِنٌ والمُؤذِّنُ مُؤْتمنٌ فأرشَدَ الله الأئمَّة وغفر للمُؤذِّنين". ثم قال: وهذا إسناد صحيح لا مطعن فيه، ونقل ابن حجر في التلخيص 1/ 206 عن ابن عبد الهادي قوله: أخرج مسلم بهذا الإسناد نحواً من أربعة عشر حديثاً. ونقل أيضاً إن الشافعي رواه عن إبراهيم بن أبي يحيى عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة. وأن ابن حبان رواه من طريق الدراوردي، وهو عبد العزيز بن محمد، عن سهيل، ونقل الشوكاني في نيل الأوطار 2/ 13 عن سنن الدارقطني أن رواية إبراهيم ابن حميد الرؤاسي قال الأعمش وقد سمعته من أبي صالح, وأن رواية هشيم عن الأعمش حدثنا أبو صالح عن أبي هريرة. فهاتان الروايتان تكفيان في ترجيح سماع الأعمش إياه وإن شكّ بعد ذلك. ثم قال الشيخ أحمد شاكر: وللحديث إسناد آخر صحيح لا مطعن فيه. قال أحمد في المسند رقم 8896 و 10676 ج 2/ 277 - 278 حدثنا موسى بن داود حدثنا زهير عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي صالح عن أبي هريرة فذكره، فزهير ابن معاوية عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي صالح وهما إمامان ثقتان. فقد ثبت أن الحديث رواه أبو صالح يقيناً، فلو شك الأعمش في سماعه منه لم يكن ذلك بضاره شيئاً، وقد صحح الحديث ابن حبان من رواية أبي هريرة وعائشة ثم قال: سمع أبو صالح هذين الخبرين من عائشة وأبي هريرة جميعاً. انظر تلخيص الحبير 1/ 206 وتعلق أحمد شاكر على سنن الترمذي 1/ 414، والحديث صحيح، والله أعلم. (¬1) الحديث رواه الترمذي من حديث ابن عمر بلفظ "الْوقْت الأول رضْوانُ الله والْوقْتُ الآخرِ عفْوُ الله" 1/ 321. والحاكم 1/ 189: بلفظ خير الأعمال الصلاة في أول وقتها. وقال يعقوب بن الوليد: هذا شيخ من أهل المدينة سكن بغداد وليس من شرط هذا الكتاب إلا أنه شاهد، وتعقبه الذهبي فقال يعقوب كذاب، ورواه الدارقطني بالإِسنادين 1/ 249 باللفظين لفظ الترمذي والحاكم، ورواه البيهقي 1/ 435 من طريق أحمد ابن منيع، شيخ الترمذي، ونقل عن أبي أحمد بن عدي الحافظ إنه قال: هذا الحديث بهذا الإِسناد باطل. وقال البيهقي: يعقوب منكر الحديث ضعَّفه يحيى ابن معين وكذّبه أحمد بن حنبل وسائر الحفاظ =

الحديث الصحيح فيه جملة كافية وهي قوله: "لاَ يَزَالُ أَحدُكُمْ في صلاَةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاة" (¬1). وأما فضل العتمة والصبح ففيها أحاديث صحاح كثيرة أمهاتها أربعة. الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -:"لَوْلاَ أَنْ أَشِقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأخَّرْتُ الْعِشَاءَ إِلَى شَطْرِ الْليْلِ" (¬2). الثاني: قوله: "أَثْقَلُ الصَّلاَةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ الْعَتْمَةُ وَالصُّبْحُ" (¬3)، وهذا صحيح فإنه لا ينشط لهما إلا منشرح الصدر خفيف إلى العمل ثقيل على داعي البطالة والراحة. الثالث: قوله: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُم مَلَائِكَةٌ بِالْلَّيْلِ وَملائِكَةٌ بِالنَّهَارِ"، إلى قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (¬4) والصبح فاتحة الحياة ومبدأ الأعمال كما ¬

_ = ونسبوه إلى الوضع، نعوذ بالله من الخذلان. ونقل الزيلعي في نصب الراية 1/ 127 عن ابن حبان أن يعقوب ابن الوليد كان يضع الحديث على الثقات لا يصح كتب حديثه إلا على سبيل التعجب. وقال أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي 1/ 321: قال البيهقي في المعرفة: حديث (الصلاة في أول الوقت رضوان الله) إنما يعرف بيعقوب بن الوليد وقد كذّبه أحمد وسائر الحفاظ. قال: وقد روي هذا الحديث بأسانيد أخر كلها ضعيفة والحديث ضعيف كما ذكر ذلك المناوي في فيض القدير 3/ 82 والألباني في إرواء الغليل 2/ 287. (¬1) أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة باب فضل السمر في الفقه والخير بعد العشاء 1/ 155 من رواية أنس وكذلك النسائي 1/ 268 وابن ماجه 1/ 226 وأحمد 3/ 267. (¬2) الحديث رواه الترمذي بلفظ "لَوْلَا أَنْ أَشِقَّ عَلَى أُمَّتِي لأمَرْتُهُمْ أَنْ- يُؤَخِّرُوا الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ الليْلِ أَوْ نُصفِهِ". بالشك من رواية أبى هريرة. سِنن الترمذي 1/ 310. ورواه ابن ماجه 1/ 226، وأحمد في المسند رقم 7406 و 9589 و9590، ج 2/ 250 و 433 والحاكم 1/ 146 وفيه إلى نصف الليل بغير شك، وقال: وهو صحيح على شرطهما وليس له علة ولم يعقب عليه الذهبي ورواه أحمد بإسناد آخر رقم 10626 ج 2/ 509 وعزاه الشيخ البنّا لابن حبان والحاكم وقال صحّحاه. الفتح الرباني 2/ 274 وقال الترمذي في سننه 1/ 312: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. درجة الحديث: صححه الترمذي والحاكم. (¬3) الحديث رواه البخاري في موضعين من صحيحه الأول في مواقيت الصلاة باب ذكر العشاء والعتمة 1/ 147 عن أبي هريرة معلقاً، ورواه بعد ذلك في كتاب الأذان موصولاً 1/ 167 باب فضل العشاء في الجماعة، ورواه ابن ماجه 1/ 261، والنسائي من رواية أبيّ بن كعب 2/ 104، وأحمد 5/ 140. (¬4) سورة الإسراء آية 78، والحديث أخرجه البخاري في كتاب التفسير تفسير سورة بني إسرائيل من رواية أبي هريرة بلفظ "تَجْتَمِعُ مَلَائِكَةٌ بِالْليل وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهارِ في صَلاَةِ الصُّبْحِ" يقول أبو هريرة. اقرءوا إن شئتم {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} صحيح البخاري 6/ 108. والترمذي بلفظ "تَشْهَدُ مَلَائِكَةُ الليْلِ وَمَلَائِكَة النَّهَارِ" وقال حديث حسن صحيح، سنن الترمذي 5/ 302 =

كيفية الآذان

أن العصر والعتمة فاتحة الصحائف وربما إذا صلى العتمة لم يصل بعدها أبداً. الرابع: حديث عثمان، رضي الله عنه، عن النبيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ لَيْلَهُ، وَمَنْ صَلَّي الْعِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نصْفَ لَيْلِهِ" (¬1). فمن علم هذه الفضائل يقين علمها، وقدَّرها حق قدرها، سعى إليها يحبو وجاءها يستقل تارة ويكبو، وما توفيقنا إلا بالله. كيفية الآذان اختلفت الرواية فيه عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، من طريق مؤذِّنيه بلال وسمرة وسعد وغيرهم، ومال جماعة من العلماء إلى تربيع التكبير (¬2) وخذوا أخذ الله تعالى بكم ذات اليمين ما مهدناه لكم أصلاً فيما تقدم من أن عمل أهل المدينة فيما طريقه النقل أصل لا يزعزع وقد نقلت الآذان تسع عشرة كلمة نقلاً متواتراً (¬3) فترجح على غيره، وكذلك نقلت الإقامة فرادى حتى الإقامة منها، فكان هذا النقل المتواتر مرجحاً (¬4) على الحديث الصحيح: "أُمِرَ بِلَالٌ (¬5) أَنْ يَشْفَعَ الأذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الِإقَامَةَ إلَّا الِإقَامَة" (¬6). ¬

_ = ورواه البغوي في شرح السنة 2/ 223. ورواه أحمد في المسند. انظر الفتح الرباني 18/ 194. وورد في رواية متفق عليها من هذا الحديث بلفظ "يَتَعَاقَبونَ فِيكُمْ مَلَائِكَة بِالليْلِ وَمَلَائِكَة بِالنهارِ وَيجْتَمِعُونَ في صَلاَةِ الْفجْرِ وَصَلاَةِ الْعَصْرِ .. " انظر البخاري في كتاب المواقيت باب فضل صلاة العصر 1/ 145، ومسلم في كتاب المساجد باب فضل صلاتي الصبح والعصر 1/ 439، والنسائي 1/ 240 - 241 من رواية أبي هريرة. (¬1) رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة 1/ 454. (¬2) هذا مذهب الجمهور قال النووي، وبالتربيع قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء، وبالتثنية، قال مالك: واحتج بهذا الحديث (أي حديث أبي محذورة) وبأنه عمل أهل المدينة وهم أعرف بالسنن. شرح النووي على مسلم 4/ 81 وانظر نيل الأوطار 2/ 16. (¬3) فقد ورد في صحيح مسلم من طريق ابن محيريز عن أبي محذورة. مسلم كتاب الصلاة باب كيف الأذان 1/ 287، وأبو داود 1/ 342. والنسائي 2/ 4/ 5، وابن ماجه 1/ 235، والدارمي 1/ 271، وأحمد 3/ 409 و 6/ 401. (¬4) في (م) زيادة: اعتماداً. (¬5) قال الخطابي قوله (أُمِرَ بَلَالٌ أَنْ يُوتِرَ الِإقَامَة) يريد أن الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، هو الذي أمره بذلك والأمر مضاف إليه دون غيره, لأن الأمر المطلق في الشريعة لا يضاف إلا إليه. معالم السنن 1/ 154. (¬6) الحديث متفق عليه من رواية أنس بن مالك. فقد أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب الأذان مثنى مثنى =

توقيت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاهُّ فَلَا تَقُومُوا حَتى (¬1) تَرَوْني" وهذا إذا كان الإِمام غائباً، فإن كان حاضراً فقال مالك، رضي الله عنه: ليس في ذلك حد معروف وإنما ذلك على قدر حال الناس (¬2). وقال غيره: وقت القيام عند قوله قد قامت (¬3) الصلاة، وإنما أخذوها من هذا اللفظ والأذان الثاني من التكبير إلى التهليل كله إقامة فلذلك جعله مالك، رضي الله عنه، كله وقتاً للقيام لّأنه كله لفظ للإشعار بالصلاة والإعلام بحضورها فيتأهب كل أحد على قدر حاله. تأصيل: انفرد مالك، رضي الله عنه، عن الفقهاء بأن لا يصلى في مسجد واحد بجماعة مرتين (¬4) , وذلك أصل من أصول الدين؛ وذلك أن الجماعة إنما شُرِّعت في الصلاة لتأليف القلوب وجمع الكلمة وصلاح ذات البين والتشاور في أمور الإِسلام، فلا تكون إلا واحدة ولو طرق فيها إلى التبعيض والتثنية لأفسد هذا النظام وتنافرت القلوب ¬

_ 1/ 157، ومسلم في كتاب الصلاة باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة 1/ 286، وأبو داود 1/ 349، والترمذي 1/ 369 - 370، والنسائي 2/ 3، وابن ماجه 1/ 241 والدارمي 1/ 270، وأحمد 3/ 103 و 189 كلهم من حديث أنس. قال الحافظ ابن حجر أثناء الكلام على هذا الحديث: والحديث حجة على من زعم أن الإقامة مثنى مثل الأذان، وأجاب بعض الحنفية بدعوى النسخ وأن إِفراد الإقامة كان أولاً ثم نسخ بحديث أبي محذورة وفيه تثنية الإقامة وهي متأخر عن حديث أنس فيكون ناسخاً، وعورض بأن في بعض طرق حديث أبي محذورة المحسنة التربيع فكان يلزمهم القول به، وقد أنكر أحمد على من ادعى النسخ بحديث أبي محذورة واحتج بأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، رجع إلى المدينة وأقر بلالاً على إفراد الإقامة وعلَّمه سعد القرظي فأذَّن به بعد. كما رواه الدارقطني والحاكم. وقال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح، فإن ربَّع التكبير الأول في الأذان أو ثنّاه أو رجَّع التشهد أو لم يرجِّع أو ثنَّى الإقامة، أو أفردها كلها، أو قد قامت الصلاة، فالجميع جائز. فتح الباري 2/ 84 قلت: وهذا منه للتوفيق بين الروايات. (¬1) الحديث متفق عليه. أخرجه البخاري في باب مواقيت الصلاة باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإِمام عند الإقامة عن أبي قتادة. البخاري 1/ 164. ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب متى يقوم الناس للصلاة 1/ 422، وأبو داود 1/ 368، والنسائي 2/ 31 وزأد فيه حتى تروني قد خرجت. (¬2) الموطَّأ 1/ 71. (¬3) قال البغوي: وقيل يقومون عند قوله حيَّ على الصلاة، فإذا قال قد قامت الصلاة كبَّر الإِمام، روي عن سويد ابن غفلة أنه كان إذا قال المؤذِّن قد قامت الصلاة كبر فسِئِل عن صلاته فقال كذا كانت صلاة عمر. شرح السنة 2/ 313. (¬4) الموطأ 1/ 72.

وافترقت الكلمة وتوصَّل أهل البدع والنفاق إلى الانفراد بآرائِهِم الداخلة على أهل الإِسلام في دينهم، ولذلك منعنا من بنيان مسجد آخر يقصد به تفريق الكلمة وتشتيت الجامعة حتى لو وقع بين أهل محلة كلام أو أراد رجل أن ينتبذ عن جيرته، وكل ذلك لبناء مسجد ينفرد به لم يجز ويمنع من ذلك ويهدم عليه ويرد إلى أصحابه، ولذلك هدم النبي،- صلى الله عليه وسلم -، مسجد الضرار (¬1) وألزم رجوع من ارتيب به إلى من خلص من الأنصار. حديث: "إِنَّ بِلَالاً يُنَادِي بِلَيْلٍ" (¬2) إلى آخره. توهم بعض علمائنا أن في هذا الحديث دليلاً على صحة العمل بخبر الواحد، وليس موضوع الحديث هذا وإنما موضوعه أنه يجوز الاكتفاء بالواحد عن الاثنين وعن الجماعة في صحة العمل علِى قوله إذا جعل ذلك إليه وقلد به كما قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "وَاغْدُ يَا أُنَيْس إِلَى امْرَأَةِ هذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارجمْهَا" (¬3) فأكتفي بالواحد وسيأتي تحقيق ذلك وبيانه (في كتاب الحدود) (¬4) إن شاء الله تعالى: ¬

_ (¬1) وردت قصة مسجد الضرار في سورة التوبة آية 107 وهي قوله {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. قال ابن العربي روي أن اثني عشر رجلاً من المنافقين كلهم من الأنصار من بني عمرو بن عوف بنوا مسجداً ضراراً بمسجد قباء وجاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو خارج إلى تبوك فقالوا يا رسول الله قد بنينا مسجداً لذوي العلة والحاجة والليلة المطيرة وإنا نحب أن تأتينا وتصلي فيه لنا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إني على جناح مضر وشغل ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه فلما نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرب المدينة راجعاً من سفره أرسل قوماً لهدمه فهدم وأحرق. أحكام القرآن 2/ 1012 وانظر تفصيل القصة في تفسير ابن كثير 3/ 451، الدر المنثور 3/ 276، تفسير ابن جرير 11/ 18. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري من رواية ابن عمر ولفظه "إِنَّ بِلَالًا يُنادي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنادي ابنُ أُمِّ مَكْتومٍ" البخاري باب مواقيت الصلاة وفضلها باب الاذان بعد الفجر 1/ 160 ومسلم في كتاب الصيام باب بيان إن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر 2/ 768. والنسائي 2/ 10، وأ حمد 2/ 72، 73، 107، 123. (¬3) الحديث متفق عليه من رواية أبي هُرَيْرَة وزيد بن خالد، فقد أخرجه البخاري في كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة. باب الاعتراف بالزنى 8/ 207، وفي باب أمر غير الإِمام بإقامة الحد غائباً عنه 8/ 212، وفي كتاب الأيمان والنذور باب كيف كانت يمين رسول الله،- صلى الله عليه وسلم -، 8/ 109. ومسلم في كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنى: 3/ 1324 - 1325وأبو داود 4/ 591 والترمذي 4/ 39، وابن ماجه 2/ 852، وأحمد في المسند 4/ 115، 116، والدامري 2/ 177 والرسالة للشافعي فقرة 691، والموطّأ 2/ 822. (¬4) زيادة من ك.

ترجمة

ترجمة: قال مالك، رضي الله عنه: قدر السحور من النداء (¬1)، وهو لفظ مشكل والمعنى المراد به أنه أراد أن يبين قرب وقت السحور من وقت نداء الصبح المحقق لها، وُيعرف أن السنّة تأخير السحور وتقدير الكلام قدر وقت السحور من وقت النداء ويبينه تمام الحديث الذي ذكر مالك، رضي الله عنه، أطرافه ونصّه قال النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -:"إِنَّ بِلَالاً يُنَادي بِلَيْلٍ ليرجع قائِمَكُمْ وُيوقِظَ نَائِمَكُمْ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادي ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ نِدَائِهِمَا إلَّا أن يَنْزِلَ هذَا وَيَصْعَدَ هذَا" (¬2). حديث أدخل مالك رضي الله عنه عن سعيد بن المسيب حديث (مَنْ صَلَّى بِأَرْضٍ فلَاةٍ إلى آخره) (¬3) وفيه مسألتان من أصول الفقه إحداهما: أن المرسل من الأحاديث ¬

_ (¬1) الموطّأ 1/ 74. (¬2) هذا اللفظ، الذي ساق الشارح هنا، هو لفظ حديث عبد الله بن مسعود وليس في الموطّأ، وهو متفق عليه، البخاري في كتاب الأذان باب الأذان قل الفجر 1/ 160 - 161، وفي الطلاق باب الإشارة في الطلاق والأمور 7/ 67 وفي خبر الواحد باب إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة 9/ 107 ومسلم في الصيام باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر 2/ 768 أما قوله (وَلَيْس بَيْنَهُمَا إِلّا أن يَنْزِلَ هذَا وَيَصْعدَ هذا) فهو من حديث ابن عمر المتفق عليه، وهذه الزيادة زادها مسلم في الباب السابق 2/ 768، وأخرجه البخاري دونها في الأذان 1/ 160. (¬3) "من صَلَّى بِأَرْضٍ فَلَاةٍ صلَّى عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ فَإذَا أذَّنَ وَأقَامَ الصَّلاةَ صَلَّى وَرَاءهُ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ أمثال الْجبَالِ"، الموطأ 1/ 74. قال السيوطي: هذا مرسل له حكم الرفع فإن مثله لا يقال من جهة الرأي، وقد ورد موصولاً ومرفوعاً؛ فاخرج سعيد بن منصور في سننه، وابن أبي شيبة في المصنف، والبيهقي في السنن من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: (لَا يَكُونُ رَجُلٌ بِأرضٍ فيَتَوَضَّأ فَإنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ تَيَمَّمَ ثُمَّ ينُادي بِالصَّلاَةِ ثُم يُقِيمُها إِلَّا أمَّ مِنْ جُنُودِ الله مَا لَا يَرَى طَرَفَاهُ)، هذا لفظ ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 219، والبيهقي في السنن 1/ 405 - 406 وقال: الصحيح موقوف، وقد روي مرفوعاً ولا يصح رفعه. وأخرجه النسائي في السنن الكبرى من طريق عبد الله بن المبارك عن سليمان التيمي عنه. انظر تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للحافظ المزي 4/ 32، ورواه البيهقي من طريق داود بن أبي هند عن أبي عثمان النهدى عن سلمان أيضاً فذكره. السنن الكبرى 1/ 406، وانظر تنوير الحوالك 1/ 94 - 95. والحديث موقوف على سلمان كما قال السيوطي والبيهقي. درجة الحديث: صحيح من خلال الإسناد.

(كله) (¬1) كالمسند عنده وبه قال أبو (ح) (¬2) وقال (ش): لا يقبل المرسل بحال وقال بعض أصحابه إلا مراسيل سعيد بن المسيّب، قال لنا جمال الإِسلام محمَّد بن الحسين الشاشي (¬3) لا يقبل الشافعي مرسل أحد، وقال: تتبعت مراسيل سعيد بن المسيب فوجدتها كلها مسندة فإنما قال بحال إسنادها (¬4). المسألة الثانية: أن الصاحب إذا قال قولاً لا يقتضيه القياس فإنه محمول على المسند إلى النبي،- صلى الله عليه وسلم -، وهي مسألة خلاف كبيرة، ومذهب مالك، رضي الله عنه، ومذهب أبي حنيفة فيها أنه كالمسند؛ وقد بيَّنا ذلك في أخذه بمسألة البناء في الرعاف (¬5) بحديث ابن عمر وابن عباس، رضي الله عنهم. وزاد مالك، رضي الله عنه، مسألة ثالثة وهي إذا روى التابعي ما لا يقتضيه القياس ولا يوصل إليه بالنظر (¬6)، ولذلك أدخل عن سعيد صلاة الملائكة خلف المصلّي وقد، بيَّنا ذلك كله في أصول الفقه وإنما أردنا تنبيهكم عليه فاطلبوه في موضعه. وقد أسند هذا الذي روي عن سعيد بن المسيب من طرق وقوله: صلَّى عن يمينه ملك وعن يساره ملك دليل على ما قاله ابن مسعود، رضي الله عنه، في أنه: (إِذَا صَلَّى وَرَاءَ الْإِمَامِ صَلَّى عَنْ يَمِينِهِ واحدٌ وَعَنْ يَسَارِهِ آخَرٌ) (¬7) ومواقف المأموم مع الإِمام سبعة: ¬

_ (¬1) ليست في بقية النسخ. (¬2) قال العلائي: فأما القابلون له المحتجون به فهم مالك وأبو حنيفة وجمهور أصحابهما وأكثر المعتزلة، وهو أحد الروايتين عن أحمد جامع التحصيل ص 27. (¬3) محمَّد بن الحسين أبو بكر القاضي المعروف بفخر القضاة، يضرب به المثل في علم النظر مات سنة 512. (¬4) قال العلائي: قال أبو الحسن بن القطان، وغيره من أصحابنا: كشف الإِمام الشافعي عن حديث ابن المسيب فوجده كله مسنداً متصلاً فاكتفى عن طلب كل حديث بعد فراغه عن الجملة. وذكر أبو نصر ابن الصباغ عن جماعة من أصحابنا أن الشافعي، رحمه الله، إنما احتج بمراسيل ابن المسيّب لأنه عرف من حاله إنه لا يرسل إلا عن الصحابة، رضي الله عنهم، فصار كأنه قال: أخبرني بعض الصحابة أن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -, قال: كذا وكذا .. ونقل المحقق عن العلائي أنه قبل مراسيل الثقات الذين لا يروون إلا عن الثقات دون غيرهم ونسبه إلى جمهور المحدِّثين كعلي بن المديني والبخاري ومسلم وغيرهم. جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي 1/ 36 - 37 تحقيق عمر حسن. (¬5) تقدم. (¬6) قال فيما سبق: إن الصاحب إذا أفتى بخلاف القياس هل يكون أصلاً يرجع إليه أم لا والصحيح أنه لا يرجع. (¬7) رواه مسلم في المساجد باب الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوع من طريق الأعمش عن إبراهيم عن الأسود وعلقمة فذكره مطولًا موقوفاً عليه ثم من طريق منصور عن إبراهيم فذكره مختصراً. فلما صلَّى =

الأول: أن يكون واحد فيقف عن يمينه لحديت ابن عباس (¬1) رضي الله عنهما. الثاني: أن يكونا اثنين صليا خلفه لحديث أنس، رضي الله عنه: "فَقُمْتُ أَنَا وَالْيَتيمُ وَرَاءَهُ" (¬2). الثالث: أن تكون امرأة صلّت خلفه لأنه إذا كان معه رجلان صلَّت المرأة خلفهما فإذا تأخرت عمن وراءه فأحرى أن تتأخر عنه. الرابع: أن يكونا رجلاً وامرأة فإنه يصلِّي الرجل عن يمينه والمرأة خلفهما لما تقدم في حديث أنس، رضي الله عنه، فإن صلَّت المرأة بجنب الإِمام قال (ح): تبطل صلاة الإِمام (¬3)، وهي مسألة ضعيفة له جداً لأنه لم يعرف بها فكيف تبطل صلاته وإن عرف بها ونوى إتمامها فإنما وقعت النية على مقتضى السنة فإذا خالفت هي السنة في نفسها، فلا يتعدى فعلها إلى صلاة إمامها كما لو أحدثت وتجردت أو استدبرت أو وقف الرجل أمام الإِمام وهو الموقف. الخامس: وحزر علماؤنا هذا فقالوا: إذا وقفت المرأة بجنب الإِمام فإنها إساءة موقف فلا تبطل صلاة الإِمام به، كما لو وقف الرجل أمامه، وعندنا نحن إذا وقف الرجل ¬

_ = قال: هكذا فعل رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -. مسلم 1/ 378 - 380، وأبو داود 1/ 408 وأحمد في المسند 1/ 459، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 98، وشرح السنة 3/ 390. (¬1) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره 1/ 57، وفي كتاب الآذان باب يقوم عن يمين الإِمام بحذائه سواء إذا كانا اثنين 1/ 178 و 1/ 217، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/ 525 - 526، وأبو داود 2/ 47، والترمذي 1/ 451 - 452، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، والنسائي 2/ 87، وابن ماجه 1/ 433، وأحمد 1/ 242و 358 كلهم عن مالك عن مخرمة بن سليمان عن كريب مولى ابن عباس عنه، وكذلك هو في المشكاة 1/ 346. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل والطهور وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز وصفوفهم 1/ 217، ومسلم في كتاب المساجد باب جواز الجماعة في النافلة 1/ 457، والترمذي 1/ 454 - 456، والموطّأ 1/ 153. (¬3) نقل العيني هذا الرأي فقال: إذا حاذت الرجل امرأة فسدت صلاته دون صلاتها لأنه ترك ما هو مخاطب به، وقال بعضهم: المرأة لا تصف مع الرجال فلو خالف أجزأت صلاتها عند الجمهور وعند الحنفية تفسد صلاة الرجل دون المرأة وهو عجيب وفي توجيهه تعسف. هكذا نقل العيني ورده بقوله: قلت: هذا القائل لو أدرك دقة ما قاله الحنفية ههنا ما قال وهو عجيب وتوجيهه ما ذكرنا وليس فيه تعسف والعسف على الذي لا يفهم كلام القوم. عمدة القاري 5/ 261، وانظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر 1/ 110، والبناية على الهداية 2/ 337.

افتتاح الصلاة

أمام إمامه صحت صلاته وقال (ح) (¬1) و (ش) (¬2): تبطل وحجتنا على (ش) أنها إساءة موقف فلا تبطل الصلاة كما إذا وقفت المرأة بجنب الإِمام، وحجتنا على (ح) أنه إذا خالف السنة في الوقوف فلم (¬3) تبطل صلاته كما لو كان واحداً ووقف عن يساره. السادس: أن يكونا رجلين وامرأة وقد تقدم. السابع: أن يكونوا نساء ولا رجل فيهن فالموقف من خلفه ولا متعلق لابن مسعود في حديث سعيد، رضي الله عنهما, لأن قوله: "صَلَّى عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ يَسَارِهِ مَلَكٌ" يحتمل أن يريد الملكين الملازمين له فيكونا معه بحكم الاشتراك في العبادة ولزما موقفهما الذي رتَّبه الله تعالى لهما. ويقال إن الموقف المرتب لهما هو جانبا الذقن بإزاء طرفي الفم، والملائكة من شأنهم الذي أمرهم الله به أنهم إذا رأوا صلاة شاركوا فيها وسروا أو جماعة يذكرون الله جلسوا إليهم وحفّوا بهم وذكروا معهم، وإذا رأوا معصية عدلوا عنهم وتباعدوا منهم حتى قد روي في الحديث الصحيح: "إِنَّ مَلَائِكَةً فُضَلَاءَ عَنْ أَعْمَالِ النَّاسِ يَتْبَعُونَ خَلْقَ الذِّكْرِ" (¬4) إلى آخره. افتتاح الصلاة: اعلموا بصَّركم الله تعالى أن هذه العبارة وهي قوله افتتاح الصلاة معناها إن الصلاة فعل متعلق على المكلّف ممتنع الفعل لا يجوز التلبس بها إلا بعد تقديم مفتاح يتألف من عقد وقول وفعل. أما العقد فهي النية ولا خلاف فيها بين الأمة وحقيقتها قصد التقرب إلى الآمر بفعل ما أمر به لحق الآمر خاصة، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلأ لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الْدِّينَ} (¬5)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الأعْمَالُ بِالنَيَّاتِ" (¬6)، وأشرف الأعمال الصلاة هي ¬

_ (¬1) انظر فتح القدير لابن الهمام 1/ 249، والبناية 2/ 338 وعزاه أيضاً للشافعي وأحمد. (¬2) انظر روضة الطالبين للنووي 1/ 358. (¬3) في (م) فلا. (¬4) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الدعوات باب فضل ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ من رواية أبي هُرَيْرَة 8/ 107. ومسلم في كتاب الذكر والدعاء باب فضل مجالس الذكر من روايته أيضاً 4/ 2069 - 2070، ولفظه: "إِنَّ لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَائكَةً سيارَةً فُضَلاَءَ يَتْبَعُونَ مَجَالِسَ الذكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا مَجْلِساً فِيهِ ذِكْرٌ قَعَدُوا مَعهُمْ وَحَفَّ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بَأجْنِحَتِهِمْ حَتى يَمْلَؤُا مَا بَيْنهُمْ وَبَيْنَ الدُّنْيَا". (¬5) سورة البينة آية 5. (¬6) الحديث متفق عليه من رواية عمر الخطاب؛ فقد أخرجه البخاري في كتاب الأيمان باب ما جاء أن الأعمال =

أولها وهي مرادة بمعنى هذا الحديث فيها، والأصل في كل نية أن تكون عقدها مع التلبّس بالفعل المنوي بها أو قبل ذلك بشرط استصحابها، فإن تقدمت النية وطرأت غفلة فوقع التلبس بالعبادة في تلك الحالة لم يعتدّ بها كما لا يعتدّ بالنية إذا وقعت بعد التلبّس بالفعل، وقد رخّص في تقديمها في الصوم لعظيم الحرج في اقترانها بأوله ووقع لعلمائنا مشاحة في تقديمها في الوضوء فيمن خرج يقصد النهر للطهارة فعزبت نيته قبل البلوغ إليه أنه تجزيه وحمل الجهّال الصلاة عليه، وإنما ذلك في الطهارة لاختلاف العلماء في افتقارها إلى النيه بخلاف الصلاة فإن افتقارها إلى النية مجمع عليه فلا يجوز ردّ الأصل المتفق عليه إلى الفرع المختلف فيه. قال أبو الحسن القروي (¬1)، بثغر عسقلان (¬2): سمعت إمام الحرمين يقول: يحضر الإنسان عند التلبّس بالصلاة النية ويجدد النظر في الصانع وحدث العالم والنبوات حتى ينتهي نظره إلى نية الصلاة، قال: ولا يحتاج ذلك إلى زمان طويل وإنما يكون في أوجز لحظة لأن تعليم الجمل يفتقر إلى الزمان الطويل وتذكارها يكون في لحظة. ومن تمام النية أن تكون منسحبة على الصلاة كلها إلا أنّ ذلك لما كان أمراً يتعذر سمح الشرع في عزوب النية في أثنائها. سمعت شيخنا أبا بكر الفهري، بالمسجد الأقصى، يقول: قال محمَّد بن سحنون (¬3): رأيت أبي سحنون ربما يكمل الصلاة فيعيدها، فقلت ¬

_ = بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى 1/ 21، وفي كتاب النكاح باب من هاجر أو عمل خيراً ليتزوج امرأة فله ما نوى 7/ 4 وفي كتاب الطلاق 7/ 39 وفي كتاب العتق 3/ 127. ومسلم في كتاب الإمارة باب قوله: "إِنَّما الأعْمَالُ بالنِّيَّاتِ" 3/ 1515, 1516، وأبو داود 2/ 651، والترمذي 4/ 179، والنسائي 6/ 158 - 159، وابن ماجه 2/ 1413 كلهم من حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إِنَّمَا الَأعْمَالُ بِالنيةِ ولكل امرئ مَا نوى .. ". (¬1) أبو الحسن الفروي هذا لم أطلع على ترجمته. (¬2) هي مدينة بالشام من أعمال فلسطين على ساحل البحر بين غزة وبيت جبرين ويقال لها عروس الشام. وقد نزل بها جماعة من الصحابة والتابعين وحدَّث بها خلق كثير. معجم البلدان 4/ 122، الإنساب للسمعاني 9/ 294. (¬3) محمَّد بن سحنون ولد سنة 202 - 255. هو الإِمام بن الإِمام شيخ الإِسلام وعلم الأعلام الفقيه الحافظ النظّار مع الجلالة والثقة والعدالة، تفقه بأبيه، وسمع ابن أبي حسان وموسى بن معاوية وعبد العزيز ابن يحيى المدني، له كتابه الجامع لفنون العلم وكتابه المسند في الحديث. شجرة النور الزكية 1/ 70، الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب 1/ 169، ترتيب المدارك 3/ 93 - 94.

له: ما هذا يا أبت؟ فقال: عزبت نيتي في أثنائها فلذلك أعدتها، وسيأتي تمام القول في باب قوله النظر في الصلاة إلى ما يشغلك عنها إن شاء الله تعالى. وأما الأفعال فهي الستر واستقبال القبلة والسواك ورفع اليدين. أما الستر فهو فرض إسلامي بإجماع الأمة واختُلِف هل هو من شروط الصلاة أم لا؟ فمشهور مذهبنا إنه ليس من شروط الصلاة والصحيح في النظر أنه من واجبات الصلاة المخصوصة بها. قال النبي،- صلى الله عليه وسلم -، في عهده: "لَا يَحِجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطَّوف بِالْبَيْتِ عرْيَانٌ" (¬1). وأما استقبال القبلة فلا خلاف فيه. وأما السواك فمن جهَّال المحدِّثين من أوجبه (¬2)، وذلك معاندة للنص. ففي صحيح الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلى أُمَّتِي أَوْ عَلَى الأُمَّةِ أَوْ على أمَّتِهِ لَأمَرْتهمْ بِالسِّوَاكِ" (¬3) وفي الصحيح عند كل (¬4) وضوء وفيه أيضاً "عِنْدَ كُلِّ ¬

_ (¬1) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب ما يستر من العورة 1/ 103، وفي كتاب الحج باب لا يطوف بالبيت عريان ولا يحج مشرك 2/ 128، وفي الجزية باب كيف ينبذ إلى أهل العهد 4/ 81، وفي المغازي: باب حج أبي بكر بالناس 5/ 137 وفي تفسير سورة براءة في قوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} 5/ 80، 81، 82، ومسلم في الحج باب لا يحج بالبيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان 2/ 982، وأبو داود 2/ 483، والنسائي 5/ 234، والبغوي في شرح السنة 7/ 121، كلهم من طريق أبي هُريْرة. (¬2) هذه العبارة قاسية منه، رحمه الله، ولا ينبغي إطلاقها على هؤلاء الأئمة, فقد روي ذلك عن إسحاق بن راهويه وداود، قال ابن قدامة: لا نعلم أحداً قال بوجوبه إلا إسحاق وداود لانه مأمور به والأمر يقتضي الوجوب، المغني لابن قدامة 1/ 95، وقد عنوَن ابن خزيمة في صحيحه 1/ 72 لحديث أبي هُرَيْرَة بقوله: باب الدليل على أن الأمر بالسواك أمر فضيلة لا أمر فريضة إذ لو كان السواك فرضاً أمر النبي،- صلى الله عليه وسلم -، أمته شقّ ذلك عليهم أو لم يشق. (¬3) الحديث متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب السواك يوم الحمعة 2/ 5 وقال. "لَوْلَا أنْ أشُقَّ عَلَى أمتي أَوْ عَلَى النَّاسِ لَأمَرْتهمْ بِالسوَاكِ مع كُلً صَلاة". وأخرجه مسلم في الطهارة باب السواك 1/ 220 بلفظ "لَوْلاَ أَنْ أشقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ" وقال: وفي حديث زهير على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة. وأبو داود 1/ 40 وزاد فيه ولأمرتهم بتأخير العشاء، والترمذي 1/ 34، والنسائي 1/ 12، وابن ماجه 1/ 105، والشافعي في مسنده 1/ 27، والبغوي في شرح السنة 1/ 392، كلهم من طريق أبي هريْرَة. (¬4) البخاري في كتاب الصيام باب السواك الرطب واليابس للصائم 3/ 40 معلقاً قال: ويذكر عن أبي هريرة. وقد ورد عند ابن حبان عن عائشة أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال. "لَوْلا أنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتي لَأمَرْتهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعِ الْوُضُوء عِنْدَ كل صَلاَةٍ"، موارد الظمآن في زوائد ابن حبان ص 65، ورواه ابن خزيمة من رواية أبي هريرة بلفظ "لَأمَرْتهُمْ بالسوَاكِ مع كُلِّ وُضوءٍ"، صحيح ابن خزيمة 1/ 73، وقال المحفق له مصطفى الأعظمي: سنده =

(أصلان من أصول الفقه)

صَلاةٍ" فهو - صلى الله عليه وسلم - قد صرَّح بنفي الوجوب فكيف يثبته أحد وفي هذا الحديث الذي ذكره مالك (¬1) ومسلم (¬2). (أصلان من أصول الفقه): أحدهما: إنه يجوز للنبي،- صلى الله عليه وسلم -، أن يفرض بالاجتهاد على أمته لأنه لو كان وحياً من الله تعالى بنفي أو إثبات لبلغه كان فيه حرج أو لم يكن، وقد مهَّدنا ذلك في كتاب المحصول (¬3) وغيره. ثانيهما: أن النص على الأمر على الوجوب لقوله: "لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ" فإذا ارتفع الوجوب بقي التخصيص المستدعي للندب، وقد روى النسائي عن عائشة رضي الله عنها: "السِّوَاك مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلْرَبِّ" (¬4) (وروى الدارقطني عن عكرمة عن ابن عباس في ¬

_ = صحيح ورواه أحمد بلفظ "لأَمَرْتهمْ بالسِّواك معِ الوضُوءِ" وفي رواية له: "لأَمَرْتُهُمْ عِنْد كُلِّ صَلاَةٍ بِوُضُوءٍ ومَعَ كل وضوء بصلاةٍ " الفتح الرباني 1/ 294 - 295. ورواء الحاكم 1/ 146 بلفظ "لوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لفرَضْت عَليْهِمْ الَسِّوَاكَ مع الْوُضُوءِ وَلأَخَرْت صَلاةَ الْعِشاء إِلى نِصْفِ الْليْلِ" وقال: وهو صحيح على شرطهما جميعاً، وليس له علّة، وكذا قال الذهبي. وقال الشيخ أحمد عبد الرحمن البنّا: الحديث رواه ابن خزيمة وابن حبان وصححاه وقال: ذكر ذلك النووي في شرح المهذب .. وقال: قال ابن مندة في حديث الباب: إسناده مجمع على صحته. الفتح الرباني 1/ 294 - 295، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب 1/ 164 وورد الحديث في بعض روايات المبسوط 1/ 66 موقوفاً على أبي هُرَيرة من رواية حميد بن عبد الرحمن عنه بلفظ "لَوْلاَ أَنْ يَشقَّ عَلَى أمَّتهِ لأمَرَهُمْ بِالسواكِ مع كل وُضوءٍ" قال ابن عبد البر: هذا الحدث يدخل في المسند لاتصاله من غير وجه، ولما يدل عليه اللفظ قال: وبهذا اللفظ رواه أكثر الرواة عن مالك. تنويل الحوالك 1/ 85. (¬1) الموطأ 1/ 66 موصولاً. (¬2) مسلم في كتاب الطهارة باب السواك 1/ 220. (¬3) انظر المحصول في أصول الفقه للمؤلف ل 46 ل نشر البنود على مراقي السعود 2/ 324. (¬4) الحديث رواه النسائي 1/ 10، وكذلك ابن خزيمة 1/ 70، وابن حبان انظر موارد الظمآن ص 65، وأحمد في المسند. انظر الفتح الرباني 1/ 290 ورواه البيهقي من عدة طرق عن عائشة. السنن الكبرى 1/ 34، وأورده المنذري في الترغيب والترهيب 1/ 165 أقول: الحديث، باللفظ الذي تقدم، صححه النووي فقد قال: حديث صحيح. وذكره البخاري في صحيحه في كتاب الصيام تعليقاً فقال: قالت عائشة، رضي الله عنها عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -: الَسوَاكُ مَطْهَرَة لِلْفمِ مَرْضَاةٌ لِلْرَبِّ، وهذا التعليق صحيح لأنه بصيغة الجزم وتعليقات البخاري إذا كانت بصيغة الجزم فهي صحيحة. المجموع 1/ 267 - 268، وانظر صحيح البخاري كتاب =

السؤاك عشر خصال) (¬1): "مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرضَاةٌ لِلْرَبِّ مَطْرَدَةٌ لِلْشَّيْطَانِ مَعَرَجَةٌ لِلْمَلائكَةِ يُذْهِبُ الْحِفْرَ وَيَجْلُو الْبَصرَ وَيَشِدِّ اللَّثَّةَ وَيقْطَعَ الْبَلغَمَ وُيطِيبُ الْنَكْهَةَ وَهْوَ مِنَ السُّنَّةِ"، زادنا فيه الفهري بالمسجد الأقصى، "مثراةٌ لِلْمَالِ مَنْهَاةٌ لِلْعَدُوِّ وَيزِيدُ في الْحَسَنَاتِ" (¬2) وأما رفع اليدين فهو الذي صدر به مالك، رضي الله عنه (¬3)، وللعلماء فيه خمسة أقوال، وهي في مذهبنا مروية، وقد استوفيناها في كتاب المسائل وشرح الحديث في غير ما موضع. واختلفت الرواية في الصحيح عن النبي،- صلى الله عليه وسلم -، فيها فروي أنه كان يرفع يديه حذو (¬4) منكبيه، وروي حذو (¬5) أذنيه، ووجه الجمع بينهما إنه كان يجعل آخر الكف مما يلي الساعد بحذاء المنكبين يقيمها ولا يبسطهما فيقع أطراف الأصابع بحيال الأذنين فينتظم المعنى (¬6) بالحديثين. ¬

_ = الصيام باب السواك الرطب واليابس للصائم 3/ 40 معلقاً، ومثل قول النووي قال المنذري في الترغيب والترهيب 1/ 165، وقال الشيخ مصطفى الأعظمي، الحديث صحيح انظر تعليقه على صحيح ابن خزيمة 1/ 70، والحديث أورده الهيثمي في زوائد أبي يعلى. الموصلي ص 208 - 209. (¬1) ما بين القوسين ساقط من (م). (¬2) أما حديث الدارقطني فلفظه. "في السِّوَاكِ عَشرُ خِصَال: مَرْضَاةٌ لِلْرَبِّ تَعَالَى مَسْخَطَةٌ لِلْشَّيْطَانِ وَمَفْرَحَةٌ لِلْمَلاَئِكَةِ جَيدٌ لِلثَّةِ وَمُذْهِب بِالْحَفْرِ ويَجْلُو الْبَصَرَ ويُقَلِّلُ الْبَلغمَ وَهْوُ السُّنَّةُ ويزِيدُ في الْحَسَنَاتِ". قال الشيخ أبو الحسن معلى ابن ميمون ضعيف متروك. سنن الدارقطني 1/ 58، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه بحر بن كنيز السقاء، وقد أجمعوا على ضعفه. مجمع الزوائد 1/ 220، وقال الحافظ ابن حجر: رواه الطبراني من طرق ضعيفة عن ابن عباس بزيادة مجلاة للبصر تلخيص الحبير 1/ 61. وحديث الدارقطني ضعّفه من أجل معلي بن ميمون المجاشعي يقال له الخصاف عن يزيد الرقاشي ومطر الوراق وعنه أزهر بن جميل ومحمد بن يحيى البصري. قال النسائي والدارقطني. متروك. وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وقال ابن عدي: أحاديثه مناكير، وقال ابن حبان: يخطئ إذا حدَّث من حفظه. ميزان الاعتدال 3/ 187، ولسان الميزان 6/ 65. فالحديث ضعيف كما قال الدارقطني وابن حجر والهيثمي وصحّحه السيوطي في الجامع الصغير. انظر فيض القدير 4/ 147 وضعَّفه الشيخ ناصر في ضعيف الجامع الصغير 3/ 241، والإرواء 1/ 105. (¬3) الموطّأ 1/ 75 فقال باب افتتاح الصلاة وساق الحديث الآتي. (¬4) ورد ذلك في الصحيحين. صحيح البخاري في كتاب الأذان باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح من طريق سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتح الصلاة 1/ 187. ومسلم في كتاب الصلاة باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام بلفظ: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه. مسلم 1/ 292. (¬5) ورد في صحيح مسلم من رواية مالك بن الحويرث في الباب السابق. مسلم 1/ 293. (¬6) قال الحافظ وروى أبو ثور عن الشافعي أنه جمع بينهما فقال: يحاذي بظهر كفيه المنكبين وبأطراف أنامله =

وأما الأقوال فهو التكبير ولا خلاف فيه في الجملة، وقد قال الشافعي: يستحب له أن يتكلم بلسانه بنيته فيقول أؤدي ظهر الوقت ثم (¬1) يكبر، وهي بدعة ما رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أحد من السلف إما أنه يستحب للمشوش الخاطر الموسوس الفكر إذا خشي ألا يرتبط له في قلبه عقد النية أن يعقده بالقول حتى يذهب عنه اللبس. والأصل في وجوب التكبير قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (¬2) وبهذا تعلق (ح) في أنه يجوز افتتاح الصلاة بكل اسم من تعظيم الله تعالى. ولو كان بغير العربية حتى لو قال بزرك خداي (¬3) لانعقدت (¬4). وقال (ش) لو قال الله الأكبر لانعقدت (¬5). وقال أبو يوسف الله الكبير لانعقدت (¬6). وههنا تنزيل في النظر يبصركم إن استبصرتم ثم مدارج الفكر قوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}. قوله تبارك وتعالى محتمل لكون المراد بالذكر النية أو الذكر باللسان، وربما كان كون النية مراداً به أظهر لأن محل الذكر محل النسيان لأنه ضده والنسيان لا يصح تضادهما إلا على المحل الواحد، فعلى هذا لا حجة لأبي حنيفة فيه. وإن قلنا إن المراد بذلك الذكر باللسان ففي القرآن الأمر بالذكر مطلقاً، وفي السنة الأمر به مقيداً بصفته ووقته فكان أولى. وإذا تعيَّن التكبير حسب ما عينه الرسول قولاً للأعرابي إذ أعلمه الصلاة فقال له كَبِّرْ وبيَّنه، - صلى الله عليه وسلم -، فعلاً حين قال: الله أَكْبَر (¬7)، فلا يجوز زيادة الألف واللام فيه لأنها زيادة على البيان في عبادة لا مجال للقياس فيها وأيضاً فإن زيادة الألف واللام تُوهِم تخصيصاً بنفي اشتراك كان قبلها وليس مع الله أكبر احتمال ولا لله ¬

_ الأذنين، ويؤيده رواية أخرى عن وائل عند أبي داود بلفظ (حَتَّى كَانتا حَيَالَ مَنْكَبَيْهِ وَحَاذي بِإِبْهَامِهِ أذنيه) وبهذا قال المتأخرون من المالكية فيما حكى ابن الشاسي في الجواهر. فتح الباري2/ 221. (¬1) انظر كلامه في الأم 1/ 86، وقال في المهذب: ومن أصحابنا من قال ينوي بالقلب ويتلفظ باللسان وليس بشيء لأن النية هي القصد بالقلب. المهذب مع شرحه المجموع 3/ 276. (¬2) سورة الأعلى آية 14 - 15. (¬3) هذه كلمة فارسية - ومعناها الكبير. (¬4) انظر مذهب أبي حنيفة في تحفة الفقهاء للسمرقندي 1/ 215، وفتح القدير لابن الهمام 1/ 198، واللباب في شرح الكتاب للقدوري 1/ 67، وأحكام القرآن للجصاص 3/ 472. (¬5) انظر الأم 1/ 87. (¬6) انظر مذهب أبي يوسف في تحفة الفقهاء للسمرقندي 1/ 215، واللباب في شرح الكتاب 1/ 67، وشرح فتح القدير 1/ 199. (¬7) متفق عليه أخرجه البخاري في صفة الصلاة باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر ويجهر فيها ويخافت 1/ 126، وفي باب استواء الظهر في الركوع 1/ 131 وفي كتاب الاستئذان باب =

في ذلك شريك فيفتقر إلى التخصيص وزيادة البيان فيه. وقوله الكبير أقل معنى من أكبر ونحن قد منعنا من الزيادة بالأدلة فالنقصان أولى أن يكون ممنوعاً. وأما الذكر بالعجمية للقادر على العربية فذلك لا يجوز لوجهين: أحدهما: أنّا لا نتحقق صحة المعنى في اللفظ العجمي، كما تحققناه في اللفظ العربي، ولأن ذلك تبديل للعبادة وتغيير وقياس في العبادات، وذلك كله غير جائِزِ. وقد ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في الصحيح: "أَنَّهُ كَبَّرَ في الصَّلاةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَة" (¬1) وأربع تحميدات للمأموم بدلاً من تكبيره وجواباً لقوله: "سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهْ" وأطلق على ذلك كله اسم التكبير إخباراً بالمعظّم عن الأقل. واتفق العلماء على أن التكبيرة الأولى فرض دون سائر التكبيرات ما خلا ابن شهاب فإنه يروي عنه أن تكبيرة الإِحرام ليست بفرض (¬2). ¬

_ = من رد فقال عليك السلام 8/ 47. وفي الأيمان والنذور باب إذا حنث ناسياً في الأيمان 8/ 115. ومسلم في كتاب الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة 1/ 298. وأبو داود 1/ 534، والترمذي 3/ 103، والنسائي 2/ 124، وابن ماجه 1/ 336، كلهم عن أبي هُرَيْرَة ولفظه: "أنَّ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَ رَجُلٌ فصلَّى ثُمَ جَاءَ فَسَلّمَ على رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَرَدَّ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، السلَامَ، قَالَ: "ارْجعْ فَصَلِّ فَإِنكَ لَمْ تُصَلِّ فَرَجعَ الرجُلُ فصلَّى كَمَا كَانَ صَلَّى ثُمَّ جَاءَ إِلَى النبِي، - صلى الله عليه وسلم -، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقالَ رَسولُ الله،- صلى الله عليه وسلم -، وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ ثُمَ قَالَ ارْجعَ فَصَلِّ فَإِنكَ لَمْ تُصَلِّ حتى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مرَّاتٍ فَقَالَ الرجُلُ وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أُحْسِنُ غَيْرَ لهذَا عَلِّمْنِي قَالَ إذَا قُمْتَ في صَلاتِكَ فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرأ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ ... ". (¬1) صحيح البخاري كتاب الأذان باب التكبير إذا أقام من السجود 1/ 200، وأحمد في المسند 1/ 218، و 1/ 292، 339، 351 وفي ج 5/ 342. كلاهما من حديث أبي هُرَيْرَة يقول: "كَانَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ يُكَبرُ حِينَ يَقُول ثُم يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُولُ وهو قائم لِمَنْ حَمِدَهُ حِينَ يَرْفَعُ صلْبَهُ مِنَ الرِّكْعَةِ ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمْ رَبَّنا وَلَكَ الْحَمْدُ .. ". قلت: إنما كان عدد التكبيرات اثنتين وعشرين لأن في كل ركعة خمس تكبيرات فيقع في الرباعية عشرون تكبيرة مع تكبيرة الافتاح وتكبيرة القيام من التشهد الأول. (¬2) قال ابن حجر تكبيرة الإحرام ركن عند الجمهور، وقيل شرط، وهو عند الحنفية، ووجه عند الشافعية وقيل سنة. قال ابن المنذر: لم يقل به أحد غير الزهري فتح الباري 2/ 217 - 218 وقال ابن قدامة. التكبير ركن في الصلاة لا تنعقد إلا به سواء تركه سهواً أو عمداً، وهذا هو قول ربيعة ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور وابن المنذر، وقال سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة والحكم والأوزاعي: من نسي تكبيرة =

تأسيس

ووقع في المدونة وهم نسبة هذا القول إلى سعيد بن المسيب وليس له (¬1) والصحيح أنها فرض لثلاثة أدلة: أحدها: حديثه - صلى الله عليه وسلم -: "تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ" (¬2). الثاني: قوله للأعرابي كبِّر وهذا أمر. الثالث: أن خاتمتها تفتقر عندنا وعنده إلى نطق وهو التسليم ففاتحتها بذلك أولى، وتحريره أحد طرفي الصلاة فتعين النطق فيه أصله الطرف الأخير والله أعلم. تأسيس: رتب مالك، رضي الله عنه، أمر الصلاة في البيان على نحو تلاه فيه غيره من سائر المصنفين للأحاديث على الأبواب، وذكروا ما ورد في ذلك من الأخبار، وزاد مالك، ¬

_ = الافتتاح أجزأته تكبيرة الركوع وقال: ولنا قول النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، تحريمها الكبير يدل على أنه لا يدخل في الصلاة بدونه. المغني 1/ 334. وقال النووي: تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا بها هذا هو مذهبنا ومذهب مالك وأحمد وجمهور السلف والخلف. وحكى ابن المنذر وأصحابنا عن الزهري أنه قال: تنعقد الصلاة بمجرد النية بلا تكبير، قال ابن المنذر: لم يقل به غير الزهري. المجموع 3/ 290. (¬1) انظر المدونة 1/ 63. (¬2) رواه أبو داود 1/ 49 من طريق محمَّد بن عقيل والترمذي من طريقه أيضاً عن محمَّد بن الحنفية عن علي، رضي الله عنه، عن النبي،- صلى الله عليه وسلم -، قال: "مُفْتَاحُ الصلاةِ الطُّهُورُ وَتَحْرِيمُهَا التكْبِيرُ"، وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن، ثم قال: وعبد الله بن محمَّد بن عقيل هو صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وسمعت محمَّد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحميدي يحتجون بحديث عبد الله بن محمَّد بن عقيل. قال محمَّد: وهو مقارب الحديث. سنن الترمذي 1/ 8 ورواه ابن ماجه 1/ 101، وأحمد 1/ 123، و 129، والدارمي 1/ 175، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 161، والدارقطني 1/ 360 ورواه ابن أبي شيبة 1/ 229، والحاكم 1/ 132 وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرّجاه، وكذا قال الذهبي، ورواه البغوي في شرح السنة 3/ 17 وقال حديث حسن. والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 173 و 379، وأبو نعيم في الحلية 8/ 382، والخطيب في تاريخه 10/ 197، والشافعي 1/ 69. وأورده النووي في المجموع 3/ 289 وقال: رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بإسناد صحيح. وقال الحافظ في التلخيص 1/ 216: صحّحه الحاكم وابن السكن، وقال في الفتح 2/ 267: أخرجه أصحاب السنن بسند صحيح، وحسنه المؤلف كما يأتي، وقال الشيخ ناصر الدين الألباني: الحديث صحيح بلا شك فإن له شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة. إرواء الغليل 2/ 9، وانظر نصب الراية 1/ 308، وعندي أن الحديث الصحيح كما ذهب إليه من تقدم من الأئمة ولكثرة شواهده.

رضي الله عنه، عليهم ما جاء فيها من الآثار ولا غنى للناظر عن معرفة الآثار كما لا بدّ له من العلم بالأخبار ليعلم كيف كان تلقي السلف للأحاديث وعلى أي وجه كان قبولهم لها، ويطلع من أي باب تولجوا إليها فلا منهج إلا منهاجهم، وهذه الحالة مشكلة جداً ولأشكالها تقطع العلماء فيها أيادي سبأ (¬1)، ونحن نخرج لكم فيها عن ذخيرة يا طالما شددنا عليها الوكاء، ودافعنا عنه بالارجاء قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬2)، وصلى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صلاته المعلومة ونقلها الناس جملة كأبي حميد الساعدي وأبي هريرة، رضي الله عنهما، وغيرهما ونقلها أيضاً جماعة من الصحابة مفصلة، واجتمع البيان في كل طريق منها، والذي نقل عنه - صلى الله عليه وسلم -، في هيئة الصلاة من الأفعال والأقوال ست وثلاثون خصلة. اختلفت مناهج العلماء فيها على ثلاثة أنحاء: المنحى الأول: أنها كلها واجبة. المنحى الثاني: أن ما تضمنه القرآن منها واجب وما خرج عنه فهو مسنون. المنحى الثالث: المقابلة بين الأقوال والأفعال فما تخلَّص منها إلى الوجوب أو السنة قضي به، وعلى ذلك بني مالك موطّأه وهو المنهج الأسد الأقصد بسطة وإيضاحه أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - قال: "صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي" (¬3) فوجب الانتهاء إلى هذا وتعين الاقتداء به، ثم نظرنا إلى جملة الست والثلاثين خصلة نظراً جملياً ومفصلاً. أما النظر الجملي فمن حديث أبي هُرَيْرَة وغيره: (أنَّ رَجُلًا دَخَلَ على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في الْمَسْجِدِ فَصَلَّي ثُمَّ خَرَجَ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، وَعَلَيْكَ السَّلَام ارْجَعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلَّ إِلى أَنْ بَيَّنَ لَهُ فَقَالَ لَهُ تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ الله ثُمَّ اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَكَبِّر ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى ¬

_ (¬1) هذا مثل عربي يقال: تَفَرَّفوا أَبدي سَبَأ وأَيَاديَ سَبَأ. تبدّدوا. ضرب المثل بهم لأنه لما غرق مكانهم وذهبت جناتهم تبدَّدوا في البلاد. ترتيب القاموس 2/ 504. (¬2) سورة البقرة آية 43. (¬3) الحديث متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الآذان للمسافر 1/ 162، ومسلم في كتاب المساجد باب من أحق بالإمامة 1/ 465، وأبو داود 1/ 161، والترمذي 1/ 399، والنسائي 2/ 908، وابن خزيمة في صحيحه 1/ 206، والبغوي في شرح السنة 2/ 296، كلهم من رواية مالك بن الحويرث واللفظ هنا لفظ البخاري وابن خزيمة والبغوي والباقون رووه باختصار.

تَطْمَئِنَّ رَاكِعاً ثمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَافِعاً ثمَّ اسْجدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِداً ثم ارْفَعْ (¬1) ثم افْعَلْ في صَلَاتِكَ كلِّهَا هكَذَا" (¬2) فذكر - صلى الله عليه وسلم -، في معرض التعلم، ما سبق بيانه من الأركان وسكت عن رفع اليدين، وعن حدّ القراءة، وعن تكبيرة الانتقالات، وعن الجلسة الوسطى، وعن التشهد، وعن الجلسة الأخيرة وعن السلام ثم استقرأنا الشريعة (واستقريناها) (¬3)، فثبت أنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لَا صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ" (¬4)، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَه قَالَ: كلُّ صَلَاةٍ لَم يُقْرَأْ فِيهَا بِأمِّ الْقرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ" (¬5) الحديث. وثبت عنه، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "يَقُولُ الله قَسَمْت الصلَاةُ بيني وَبَيْنَ عَبدِي نِصْفَيْنِ" (¬6) الحديث فتعيَّنت الفاتحة بهذه الأخبار، وترك - صلى الله عليه وسلم - الجلسة الوسطى فلم يجعل ذلك قادحاً في الصلاة، لكنه عوَّض عنها بالسجود قبل السلام وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تَحْريمهَا التَكْبِير وَتَحْلِيلهَا التَّسْلِيم" وهو حديث حسن، ثم اختلفت مناهج العلماء في هذه الأخبار بحسب اختلاف مراتب الأدلة في الكتاب والسنة وارتباطها باللغة، واختلاف الرواية في الأحاديث ¬

_ (¬1) في (ك)، و (م)، و (ص) زيادة: حتى تطمئن جالساً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم. (¬2) هو حديث المسيء صلاته وقد تقدم. (¬3) في (م) استعلم لبابها. (¬4) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها 10/ 192، ومسلم في كتاب الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة 1/ 295، وأبو داود 1/ 514، والترمذي 2/ 25، والنسائي 2/ 137 - 141، وابن ماجه 1/ 273، وأحمد. انظر الفتح الرباني 3/ 193 - 194، وابن خزيمة 1/ 246، والدارقطني 1/ 321 والدارمي 1/ 283 بلفظ "مَنْ لَمْ يَقْرَأ بِأمِّ الْكِتَابِ فَلاَ صَلاَةَ لَهُ" كلهم من طريق عبادة بن الصامت. (¬5) مسلم في كتاب الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة 1/ 297 وأبو داود 1/ 512، والموطأ 1/ 84، والترمذي 2/ 121 و 5/ 201، والنسائي 2/ 135، وابن ماجه 1/ 273، والبيهقي في السنن 2/ 375، وابن خزيمة 1/ 247، كلهم عن أبي هُرَيْرَة. (¬6) مسلم في كتاب الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة 1/ 296، وأبو داود 1/ 512، والترمذي 5/ 201، والنسائي 2/ 135 - 136، وأحمد 2/ 241، 320، والبغوي في شرح السنة 3/ 47، وقال: حديث صحيح كلهم عن أبي هريرة قال: سمعت رسولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، يقول: قال الله تعالى: "قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَينِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلعَبْدِي مَا سألَ فَإذا قَالَ: الحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ الله تَعَالى: حَمِدَنِي عبدي وَإِذَا قَالَ: الرحْمنِ الرحِيمِ قَالَ الله تعالى: أثنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قَالَ: مَجَّدني عَبْدِي .. ".

بالزيادة والنقصان، وعلى هذه الأصول انبنى اختلاف الاجتهاد بين العلماء وانظروا نوَّر الله بصائركم إلى أنموذج يجلو لكم عن بصيرة النظر ويغسل عنكم رحض (¬1) التقليد نورده عليكم في ثمان مسائل: المسألة الأولى: أذَّن النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، وأقام وصلى فتعين الكل بفعله ثم سقط الوجوب في الأذان عن الفذ، كما بيّناه في الدليل الذي أوردناه، وبقيت الإِقامة فمن العلماء من أسقط وجوبها (¬2) نظراً إلى أنها أخت الأذان شرِّعت تنبيهاً للغافل الحاضر واستدعاء للغائب القريب، كما شرِّع الأذان لمثله، ومنهم من أثبت وجوبها (¬3) لقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: "وَأَقِمْ وَكبِّرْ" (¬4) فأمره بالإِقامة كما أمره بالتكبير والاستقبال والوضوء، وحذارِ من ملبسة (¬5) جرت في ألفاظ أصحابنا المغاربة إذ يقولون إن الصلاة تُعاد من ترك السنن لأنه ليس بين السنة والفرض فرق إلا الاعتداد و (¬6) الإِسقاط، فأما أنتم الآن فقد وقعتم على الحديث وقد تعيَّن عليكم أن تقولوا بإحدى روايتيْ مالك الموافقة للحديث وهو أن الإِقامة فرض (¬7) المسألة الثانية. تكبيرة الإحرام وقد تقدمت (¬8). المسألة الثالثة: القراءة: قال (ح): هي فرض لأنها في القرآن، قال الله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (¬9) وهذا وهم لأنه لا خلاف بين العلماء أن الآية إنما نزلت في ¬

_ (¬1) رحض رحضة كمنعه، أو رحضه: غسله: فهو مرحوض والمرحاض المغتسل، وقد يكنى به عن مطرح العذرة والمرحضة شيء يتوضأ فيه مثل الكنيف. مختار القاموس 242. (¬2) كأبي حنيفة ومالك الشافعي فقالوا. هما سنتان، الإفصاح لابن هبيرة 1/ 108. (¬3) كأحمد إذ قال: الآذان والإقامة فرضان على أهل الأمصار على الكفاية إذا قام بها بعضهم أجزأ عن جميعهم. الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة 1/ 108. (¬4) تقدم. (¬5) أي اختلاط في الأمر قال ابن منظور: اللبس اختلاط الأمر. لسان العرب 6/ 204. (¬6) في (م) أو. (¬7) لم أطّلع هذا العزو لمالك في الموطّأ ولا في المدوّنة، ويقول ابن رشد: إنه لم يقل بفرضيتها إلا أهل الظاهر. ثم قال: وقال ابن كنانة، من أصحاب مالك: من تركها عامداً بطلت صلاته. بداية المجتهد1/ 6 وانظر الكافي لابن عبد البر 1/ 201. (¬8) ص 218. (¬9) سورة المزمل آية 20. انظر مذهب الأحناف في أحكام القرآن للجصاص 3/ 469، وقد ردّ المؤلف دليل الأحناف في الأحكام له 4/ 1871.

نسخ قيام الليل بوجوب صلاة الفرض وأن المراد بالقراءة ههنا الصلاة، لكن لما قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقُرَأْ بِفَاتِحِةِ الْكِتَاب" واختلف الناس في هذا الأصل هل يحمل هذا النفي على التمام والكمال، أو يحمل على الإجزاء، اختلفت الفتوى بحسب اختلاف حال الناظر. ولما كان الأشهر في هذا الأصل والأقوى أن النفي على العموم كان الأقوى من رواية مالك، رضي الله عنه، أنَّ من لم يقرأ الفاتحة في صلاته بطلت (¬1). المسألة الرابعة: ثم نظرنا في تكرارها في كل ركعة، فمن تأمَّل قولَ النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، للأعرابي: "ثُمَّ افْعَلْ كَذلِكَ في صَلاَتِكَ كُلَّهَا" لزمه أن يعيد القراءة كما يعيد الركوع والسجود على أنه قد روي أيضاً حديث من طرق كثيرة "كُلُّ رَكْعَةٍ لَمْ يُقْرَأْ فِيهَا بِأمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ" (¬2) هذا مع النظر في أن القيام فرض في الثانية وما بعدها، والقيام لا يراد لنفسه وإنما هو محل لغيره. المسألة الخامسة: الركوع والسجود ولا خلاف فيهما لأنهما ثبتا قرآناً (¬3) وسنةً، ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر روي عن مالك أنه قال: من لم يقرأ بفاتحة الكتاب في ركعتين من صلاته فسدت صلاته. وروي عنه وعن جماعة من أهل المدينة أن من لم يقرأها في كل ركعة فسدت صلاته إلا أن يكون مأموماً وهو الصحيح من القول عندنا. الكافي 1/ 201. (¬2) روى ابن ماجه من طريق أبي سفيان السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -"لَا صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأَ في كل رَكْعَةٍ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وَسُورَةٍ في فَرِيضةٍ أَوْ غيرهَا" ابن ماجه 1/ 274، ورواه ابن عدي في الكامل 4/ 1436، وابن حبان في المجروحين 1/ 381. أقول: الحديث فيه طريف بن شهاب، أو ابن سعد السعدي البصري الأشل، بالمعجمة، ويقال له الأعم بمهملتين، ضعيف من السادسة/ ت ق/ ت 1/ 377 وقال في ت ت: قال النسائي: متروك الحديث، وقال مرة: ضعيف الحديث، ومرة ليس بثقة. وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ضعيف الحديث ت ت 5/ 11 - 12 وانظر الكامل 4/ 1436، والمجروحين 1/ 381، الميزان 2/ 336. درجة الحديث: ضعيف. قال الزيلعي: هو معلول، وقال: قال عبد الحق: لا يصح هذا الحديث من أجله (أي من أجل طريف) نصب الراية 1/ 363، كما ضعَّف إسناده الحافظ في التلخيص 1/ 232 وقد تابعه قتادة في أبي نضرة عن أبي سعيد قال: (أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر) أبو داود 1/ 511 - 512. وهذه المتابعة صححها الحافظ في تلخيص الحبير 1/ 332 ولعله يرتقي بها إلى درجة الحسن لغيره، والله أعلم. (¬3) دليله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} سورة الحج، آية 77. وقال ابن هبيرة: أجمعوا على أن فروض الصلاة سبعة وذكر منها الركوع والسجود. الإفصاح عن معاني الصحاح 1/ 122.

وزادت السنة الطمأنينة فيهما (¬1) والفصل بينهما، وقد تكاثرت الرواية عن ابن القاسم (¬2) وغيره بوجوب الفصل بينهما وسقوط الطمأنينة (¬3) وهو وهم عظيم لأن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، فعلها وأمر بها وعلَّمها، فإن كان لابن القاسم عذر فإنه لم يطلع على هذا فما بالكم أنتم وقد انتهى العلم إليكم وقامت الحجة به عليكم. المسألة السادسة: الجلسة الوسطى: ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فعلها وهي فعل يشتمل على قول فقد تأكدت. لكن لا حرمة إلا لما احترم الشرع ولا قوة إلا لما قوّى الشرع، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قام من اثنتين (¬4) ثم جعل السجود جبراناً فتعين على الكافة الحكم بسقوط وجوبها، ثم اختلفت مذاهبهم في الجبران فمنهم من قال إن الجبران واجب يأتى به قبل السلام (¬5) فإن لم يكن ففي ما بعد السلام على القرب، فإن طال أعاد الصلاة وإليه ¬

_ (¬1) ورد ذلك في حديث المسيء بصلاته. (¬2) ابن القاسم: ت 126 هـ. هو عبد الرحمن بن خالد بن جنادة العتقي المصري، أبو عبد الله، ويعرف بابن القاسم. فقيه جمع بين الزهد والعلم، تفقَّه بالإمام مالك ونظرائِه، مولده ووفاته بمصر، له كتاب المدوَّنة رواها عن مالك. ترتيب المدارك 2/ 433، الديباج 1/ 465، وفيات الأعيان 1/ 276، الانتقاء 50. (¬3) قال القاضي عبد الوهاب: الطمأنينة في الركوع واجبة، خلافاً لأبي حنيفة لحديث أبي حميد. وقال للذي علمه الصلاة: واركع حتى تطمئن راكعاً، وقال: لا تتم صلاة أحد حتى يتوضأ إلى أن قال: ثم يركع حتى تطمئن مفاصله، ولأنه ركن مستحق فكان من شرطه الطمأنينة كالقيام. الإشراف على مسائل الخلاف 1/ 82. (¬4) الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب السهو باب إذا سلم من ركعتين أو ثلاث فسجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو أطول 2/ 85 - 86. مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب السهو في الصلاة والسجود له 1/ 403 عندهما من حديث أبي هُرَيْرَة، ورواه أبو داود 1/ 612، والترَمذي 2/ 247، والنسائي 3/ 20، وابن ماجه 1/ 383، وزاد فيه: ثم سلَّم، وأبو عوانة 2/ 195، والبيهقي 2/ 354، والمنتقى لابن الجارود 93، وأحمد في المسند 2/ 234 - 235. ولفظه عن أبي هُرَيْرَة قال: "صَلَّى بِنَا النَّبيُّ، - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ أو الْعَصْرَ فَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ ذَو اليَدَيْنِ: الصَّلاَةُ يَا رَسُولَ الله أنْقَصْتَ، قالَ النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لأصْحَابِهِ: أحَقّ مَا يقُولُ؟ قَالُوا: نَعَم. فصلى رَكْعَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ .. " لفظ البخاري. (¬5) قال ابن هبيرة: قال الشافعي في المشهور عنه: (سجود السهو) كله قبل السلام، وقال أحمد في الرواية المشهورة عنه: كله قبل السلام إلا في موضعين: أحدهما: أن يسلّم من نقصان في صلاته ناسياً فإنه يقضي ما بقي عليه ويسلم ويسجد للسهو بعد السلام. =

صغوا المالكية (¬1). ومنهم من قال دخول الجبران فيها دليل على سقوطها ومن المحال سقوط الأصل ووجوب الجبران والذي يدان الله تعالى به وجوب الجبران كما فعله النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لكن يأتي به متى ما تذكره طال أم قصر، ولو كان الأصل هو الذي يأتي به لكان لك أن تراعي فيه القرب للاتصال. المسألة السايعة: وهي أصعبها التشهد، قال (ش): هو واجب في آخر الصلاة (¬2)، وقال علماؤنا (¬3) وأصحاب (ح): لا يجب (¬4) لأن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، لم يذكره للأعرابي وهذا فيه ضعف لأنه لم يذكر له السلام، وقد ثبت عن الصحابة، رضي الله عنهم، أنهم قالوا: (كان رسولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، يعلِّمنا التشهد كما يعلّمنا السورة من القرآن) (¬5). وقال ابن مسعود، رضي الله عنه: (كنا نقول إذا صلينا السلام على جبريل السلام على ميكائيل السلام على فلان فقال النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -: قولوا التحيات لله فذكرها) (¬6)، وهذا أمر وقد علمتم وجوبها في الصلاة وقد علمتم فريضتها في طريق التعلم وقد وجب أن يقابل بالقبول. المسألة الثامنة: التسليم، وقد تقدم فيه الحديث ولقد زلّ فيه (ح) حين قال: إن ¬

_ والثاني: إذا شكّ الإِمام في صلاته، فإِنه يبني على غالب فهمه ويسجد أيضاً. وعنه رواية أخرى كمذهب مالك. الإفصاح عن معاني الصحاح 1/ 148. (¬1) انظر الكافي لابن عبد البر 1/ 234. (¬2) انظر المجموع للنووي 3/ 462، فقد قال: الجلوس والتشهد فيه فرضان عندنا لا تصح الصلاة إلا بهما. (¬3) انظر بداية المجتهد 1/ 129، والكافي 1/ 204. (¬4) انظر شرح فتح القدير 1/ 223. (¬5) رواه مسلم في كتاب الصلاة باب التشهد في الصلاة 1/ 302، وأبو داود 1/ 596 - 597، والترمذي 2/ 83، وقال: حسن غريب صحيح، والنسائي 2/ 242 وابن ماجه 1/ 291، والحاكم في المستدرك 1/ 266، وقال صحيح من شرط البخاري، ووافقه الذهبي والبغوي في شرح السنة 3/ 182 - 183، وقال: هذا حديث صحيح وكلهم من طريق ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُعَلِّمُنَا التَشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقرْآنِ .. ". (¬6) حديث متفق عليه رواه البخاري كتاب الاستئذان باب السلام اسم من أسماء الله تعالى 8/ 63، وفي كتاب الدعوات باب الدعاء في الصلاة 8/ 89، وفي كتاب التوحيد باب قول الله تعالى السلام المؤمن 9/ 94، وفي صفة الصلاة باب التشهد في الأخيرة 1/ 137، وفي باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد 1/ 138، وفي العمل في الصلاة باب من سمى قوماً أو سلم في الصلاة من غير مواجهة وهو لا يعلم 2/ 56، ومسلم في كتاب الصلاة باب التشهد في الصلاة 1/ 301، وأبو داود 1/ 591، والترمذي 2/ 81، والنسائي 2/ 240، وابن ماجه 1/ 290، والبغوي في شرح السنة 3/ 180.

الحدث يقوم مقام السلام (¬1) في الخروج عن الصلاة، وكان شيخنا فخر (*) الإِسلام ينشدنا في الدرس ونرى الخروج من الصلاة بضرطة: أين الضراط من السلام عليكم وورد لعلمائنا من هذه المسألة فرعان ضعيفان. أما أحدهما: فروى عبد الملك (¬2) بن حبيب عن عبد الملك (¬3) أن من سلّم من ركعتين متلاعباً فخرج البيان أنه كان عن أربع أنه يجزيه، وهذا هو مذهب أهل العراق بعينه. وأما الثاني: فوقع في الكتب المنبوذة أن الإِمام إذا أحدث بعد التشهد متعمداً أو قبل السلام أنه يجزي من خلفه، وهذا مما ينبغي أن لا يُلتفت إليه في الفتوى وإن عمرت به المجالس للذكرى، وإنما تشبَّث أهل العراق في ذلك بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، حين ذكر أفعال الصلاة فقال في آخر الحديث: "فَإِذَا تَشَهَّدْتَ فَقَدْ انقَضَتْ صَلَاتُكَ فَإِنْ شِئْتَ أنْ تَقُومَ فَقُمْ وَإِنْ شِئْتَ أن تَقْعُدَ فَاقْعُدْ" (¬4) وهذا الحديث لا ¬

_ (¬1) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 226. (¬2) 338 هـ. عبد الملك بن حبيب السلمي القرطبي، أبو مروان، الفقيه الأديب. انتهت إليه رياسة الأندلس بعد يحيى بن يحيى. شجرة النور الزكية 1/ 4. الديباج المذهب في معرفة أعيان المذهب 2/ 8 جذوة المقتبس 263، وبغية الملتمس 364 - 366، ترتب المدارك 3/ 30 - 48، تذكرة الحفاظ 2/ 537 - 538، العِبَر 1/ 427 - 428، ت ت 6/ 390، نفح الطيب 1/ 331 - 332. (¬3) 212 هـ. أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون القرشي، الفقيه الذي لا تكدره الدلاء، مفتي المدينة تفقَّه بأبيه ومالك وغيرهما وبه تفقه ابن حبيب وسحنون. شجرة النور الزكية 1/ 56، الديباج 2/ 6، ترتيب المدارك 2/ 360 - 365، وفيات الأعيان 2/ 340 - 341، طبقات الفقهاء للشيرازي ص 148، العبر 1/ 363، ميزان الاعتدال 2/ 657، 659، الانتقاء57، نكت الهيمان للصفدي 197، ت ت 6/ 407 - 408. (¬4) رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي. أبو داود 1/ 410، وقال عن عبد الله بن عمر وهو غلط مطبعي وإنما هو ابن عمرو والترمذي 2/ 261، وقال حديث إسناده ليس بذلك القوي وقد اضطربوا في إسناده .. وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم هو الأفريقي قد ضعَّفه بعض أهل الحديث منهم يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل ورواه الدارقطني 1/ 379، وقال عبد الرحمن بن زياد ضعيف لا يحتج به. والبيهقي في السنن 2/ 176 وقال: لا يصح وعبد الرحمن بن زياد يتفرد به وهو مختلف عليه في لفظه، وعبد الرحمن لا يحتج به كان يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي لا يحدِّثان عنه لضعفه، وجرَّحه أحمد بن حنبل ويحيى ابن معين وغيرهما من الحفاظ ورواه الطيالسي ص 298، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 274 كلهم من طريق الأفريقي هذا، وهو، كما عرفت، ضعيف، وكما قال الحافظ في ت 1/ 480، وفي التهذيب 6/ 173، انظر ترجمته في التاريخ الكبير للبخاري 3/ 282، الجرح والتعديل 5/ 234، ميزان الاعتدال =

حجة فيه من ثلاثة أوجه: الأول: أن هذا الحديث لم يصح وقد وصيناكم أن الاشتغال بما لم يصح عناء. الثاني: أنه إن كان حجة علينا في ترك السلام فهو حجة على المخالف في ترك النية. الثالث: أن معناه إن شئت أن تقعد فتزيد في الدعاء فافعل وان شئت أن تقوم فسلّم، وفي هذا جمع بين الأخبار وهو أولى من القول ببعضها وإسقاط البعض. حديث علي في النهي (عن قراءة القرآن في الركوع) (¬1) ههنا أصل من أصول الفقه لم يتفطن له إلا مالك، رضي الله عنه، وهو أن مراتب الرواة من الصحابة عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، خمس: المرتبة الأولى: أن يقول الراوي: سمعت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ينهى عن الصلاة بعد العصر يقول: لا تصلى لا تصم وهذا أعلاها لأنه شاهد ونقل اللفظ (¬2). ¬

_ = 2/ 104، الكاشف 2/ 164، المجروجن لابن حبان 2/ 50 - 51. أقول: ما ذهب إليه المؤلف من ضعف الحديث هنا قاله أيضاً في العارضة 2/ 199، وكذلك ضعّفه الخطابي في معالم السنن 1/ 175، فقد قال: قلت هذا حديث ضعيف وقد تكلم أناس في بعض نقلته وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد والتسليم ولا أعلم أحداً قال بظاهره إلا أصحاب الرأي. وقال النووي في المجموع 3/ 481: ضعيف باتفاق الحفاظ ونظراً إلى كل ما تقدم من كلام الأئِمة فإن الحديث ضعيف. (¬1) الحديث رواه مسلم في كتاب اللباس باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر 3/ 1648، وأبو داود 4/ 322، والترمذي 2/ 49، والنسائي 2/ 189 - 190، والبيهقي في السنن 2/ 87، والبغوي في شرح السنة 3/ 108، ومالك فيِ الموطّأ 1/ 80، وأورده النووي في المجموع 3/ 414، كلهم من حديث علي، رضي الله عنه، قال: نَهَاني رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - "عَنِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَب وَعنْ لبَاسِ القَسِّيِّ وَعَنِ الْقِرَاءة في الرُّكُوعِ وَالسجُودِ وَعَنْ لِباسِ الْمعَصْفَرِ". أقول: رواية مالك ليس فيها إلا نهى. (¬2) قال ابن الصلاح: السماع من لفظ الشيخ وهو ينقسم إلى إملاء وتحديث من غير إملاء. وهذا القسم أرفع الأقسام عند الجماهير. مقدمة ابن الصلاح مع محاسن الاصطلاح ص 245. وهذا القول مروي عن القاضي عياض، انظر الإلماع ص 69. وقد أشار هنا الشارح إلى حديث متفق عليه أخرجه البخاري في المواقيت باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس 1/ 152، ومسلم في صلاة المسافرين باب الأوقات التي نُهي عن الصلاة فيها 1/ 566، كلاهما عن أبي هُرَيرَة "أن رسُّولَ الله،- صلى الله عليه وسلم -، نَهى عَن الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْر حَتى تغْرب الشمس وَعَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتى تَطْلعَ الشَمْسُ" لفظ مسلم.

المرتبة الثانية: أن يقول الراوي من الصحابة: سمعت رسول الله،- صلى الله عليه وسلم -، ينهى عن الصلاة بعد العصر (¬1) وعن الصيام يوم (¬2) النحر فهذا فيه أصل من السماع وليس فيه كيفية الأمر والنهي. المرتبة الثالثة: أن يقول الراوي من الصحابة: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر السماع فلا خلاف بين العلماء أنه محمول على السماع قائم مقامه لأن الصحابة كان يأخذ بعضهم عن بعض ويتناوبون في النزول لتحصيل العلم ثم يبلغه إلى صاحبه على المداولة (¬3). واختلف العلماء فيما بعد الصحابة فقال بعضهم: هذا يختص بعصرها لأنها بجملتها عصبة محمولة على العدالة بخلاف عصر التابعين وما بعده، فإن حال العدالة يختلف فيه وقال مالك، رضي الله عنه: إذا قال التابعي قال رسول الله،- صلى الله عليه وسلم -، فهو حجة فإن الحال وإن اختلفت بالتابعين في العدالة فإن القائل قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -،لا يطلقه عليه مع ما في الكذب من الوعيد إلا وهو قد تقلد صحته (¬4). المرتبة الرابعة: أن يقول الصحابي أُمِرنا بكذا ونُهِينا عن كذا وهذا فيه من الاحتمال أكثر (¬5) مما في الأول. ¬

_ (¬1) انظر الحديث السابق. (¬2) متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري. البخاري في الصوم. باب يوم النحر 3/ 56، ومسلم في الصوم باب النهى عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى 2/ 799، وفيه "لَا صوْمَ في يَوميْنِ الْفطْرِ وَالأَضحَى .. ". (¬3) هذه المرتبة عدّها ابن الأثير الثانية. فقد قال: المرتبة الثانية أن يقول الصحابي قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، كذا، أو حدثنا، أو أخبرنا بكذا، وكذلك غير الصحابي عن شيخه فهذا ظاهره القتل وليس نصاً صريحاً، إذ قد يقول الواحد منا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتماداً على ما نقل إليه ولم يسمعه منه، فلا يستحيل أن يقول الصحابي ذلك اعتماداً على ما بلغه تواتراً، أو على لسان من يثق به. مقدمة جامع الأصول 1/ 47. وانظر توضيح الأفكار 1/ 172 - 173. (¬4) لم أطلع على هذا العزو لمالك وقريب منه ما قال ابن عبد البر فقد قال: قالت طائفة من أصحابنا مراسيل الثقات أولى من المسندات، واعتلّوا بأن من أسند لك فقد أحالك على البحث عن أحوال من سماه لك، ومن أرسل من الأئمة حديثاً، مع علمه ودينه وثقته، فقد قطع لك على صحته وكفاك النظر. التمهيد 1/ 3 وانظر شرح النخبة لعلي القاري ص 112، جامع التحصيل ص 29، إرشاد الفحول ص 61، توضيح الأفكار 1/ 283، وتدريب الراوي حس 198. (¬5) قال ابن الأثير: المرتبة الرابعة أن يقول الراوي أُمرنا بكذا نُهِينا عن كذا أو وجب علينا كذا .. فهذا جميعه في حكم واحد ويتطرق إليه الاحتمالات الثلاثة التي تطرقت إلى المرتبة الثالثة واحتمال رابع وهو الأمر فإنه لا يدري إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو غيره من العلماء. جامع الأصول 1/ 49.

المرتبة الخامسة: أن يقول الصحابي: كان الأمر في عهد رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، كذا كقول ابن عباس: "كَانَتِ الْبَتَّةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، وَاحِدةً" (¬1)، وهذا فيه احتمال كثير وخلاف مشهور، وقد بينا أدلة هذه المراتب في كتاب التمحيص وخلصنا إلى المقصود منها في المحصول (¬2)، وقد قال علي، رضي الله عنه، في هذا الحديث: "نَهَانِي رسولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، وَلاَ أَقُولُ نَهَاكُمْ" وهذا تحرير اللفظ واحتراز من الغلط؛ لأن الراوي إذا نهاه النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، عن شيء فقال نهى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، مطلقاً، فقد نقل الخبر عن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، وقاس غيره عليه وجعل الكل منوطاً بالنبي، - صلى الله عليه وسلم -. وقد ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "اَنَّة قَالَ: أَمّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِيهِ بِالدُّعَاءِ فَإِنَّهُ قمن أَنْ يُستَجَابَ لَكُمْ" (¬3)، وفي الموطأ النهي عن قراءة القرآن في الركوع، وفي صحيح مسلم (نهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود) وذلك أن الله تعالى ذكر محال الصلاة وأذكارها ¬

_ (¬1) هذا الأثر رواه مالك عي الموطّأ 2/ 550 بلاغاً وعبد الرزاق في مصنفه 6/ 397، وابن أبي شيبة في مصنفه 5/ 13، والبيهقي في السنن 7/ 337، وقد عنون له مالك في الموطأ ما جاء في البتة ولفظه (أنَّ رَجُلاً قَالَ لعَبْد الله ابْن عَبّاسٍ: إنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي مِائَةَ تَطْلِيقَةٍ فَمَاذَا تَرَى عَلَيَّ؟ فقَالَ لَهُ ابْنُ عَباس: طَلُقَتْ مِنْكَ ولثلاثٍ، وسبْعٌ وتسْعونَ اتَّخَذْت بِهَا آيَاتِ الله هُزُوَاً)، وعزاه السيوطي للشافعي وابن المنذر. الدر المنثور 1/ 286. والأثر صحيح إلى ابن عباس حسب السند الذي ورد به عند عبد الرزاق والبيهقي. (¬2) قال في المحصول: قال بعض الناس: نقل ألفاظ الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، في الشريعة واجب لقول رسوله، - صلى الله عليه وسلم -: "نضر الله امْرَأَ سَمِعَ مَقَالَتي فوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَما سِمعَهَا فَرُبَّ حَامِل فُقْهٍ ليس بِفقِيهٍ .. " وألفاظ الشريعة على قسمين: أحدها: أن يتعلق به التعبد كألفاظ التشهد، فلا بد من نقلها بلفظها. والثاني: ما وقع التعبد بمعناه فهذا يجوز تبديل اللفظ بشرطين أن يكون المبدل ممن يستقل بذلك، وقد قال واثلة بن الأسقع: ليس كلما سمعنا من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، نحدثكم عنه باللفظ، حسبكم المعنى. والدليل القاطع في ذلك قول الصحابة، رضي الله عنهم، عن بكرة أبيهم: نهى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - عن كذا وأمر بكذا, ولم يذكروا صيغة الأمر ولا صيغة النهي وهذا تعلق بالمعنى. المحصول ل 49 ب. وانظر شرح التنقيح ص373, نشر البنود 2/ 68. (¬3) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود 1/ 348، وأبو داود 1/ 545، والنسائي 2/ 189 - 190، والبغوي في شرح السنة 3/ 107، وقال صحيح وأحمد في المسند رقم 1900 كلهم من حديث ابن عباس قال: "كَشَفَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، السَّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَقَال يَا أَيها النَّاسُ إنَّة لمْ يَبْقَ منْ مُبشراتِ النبُوَّةِ إِلَاَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يُرَاهَا المسْلِم أَوْ تُرَى لَهُ أَلاَ إِنِّي نُهِيت أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ =

كيفية القراءة

فلا يجوز التبديل فيها، فمن بدَّلها على قصد التلاعب فسدت صلاته، ومن بدّلها على قصد الاجتهاد في أن المعنى واحد فسدت صلاته أيضاً، ومن بدّلها نسياناً صحَّت صلاته ولو جعل رجلٌ موضع الله أكبر سمع الله لمن حمده، أو بعكسه نسياناً، لم يكن عليه شيء، ولو فعلها عامداً لبطلت صلاته. واختلاف (¬1) السجود في النسيان ينبني على أن التكبير هل فيه سجود مثل القراءة أيضاً أم لا، وينبني أيضاً على معرفة القدر الذي يسجد فيه من التكبير أو تعاد الصلاة منه وهذا كله ضعيف موضعه المسائل. كيفية القراءة: الأصل في ذلك ثلاثة أدلة: الأول: قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (¬2) على أحد القولين، وقوله للأعرابي: "وَاقْرَأ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ". الدليل الثاني: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -"قَرأ في الْمَغْرِبِ بِطُولِ الطُّولَيَيْنِ" (¬3) في الْحَضَرِ وقَرَأَ فِيهَا بِالطُّورِ (¬4) في السَّفَرِ وَقَرَأَ في الْعِشَاءِ بِالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) (¬5) وَقَرَأ في الظُّهْرِ بَقُدرِ آلم ¬

_ = رَاكِعاً أَوْ سَاجِداً أمَّا الركُوع فَعَظِّموا فِيهِ الربَّ عَزَّ وَجَلَّ وَأما السُجُودُ فَاجْتَهِدُوا في الدُّعَاءِ فقمن أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ". (¬1) في ك وم اختلف. (¬2) سورة المزمل آية 20. (¬3) أخرجه البخاري في صفة الصلاة باب القراءة في المغرب 1/ 194، وأبو داود 1/ 509، والنسائي 2/ 170، وأحمد، انظر الفتح الرباني 3/ 226، كلهم من رواية زيد بن ثابت. قال الحافظ: بأطول السورتين الطويلتين وطولى تأنيث أطول والطوليين بتحتانية تثنية طولى وهذه رواية الأكثر. فتح الباري 2/ 247. (¬4) البخاري في صفة الصلاة باب الجهر في المغرب 1/ 194، وفي الجهاد باب فداء المشركين 4/ 55، والتفسير باب تفسير سورة الطور 6/ 116، ومسلم في كتاب الصلاة باب القراءة في الصحيح 1/ 338، وأبو داود 1/ 508، والنسائي 2/ 169، وابن ماجه 1/ 172، والبغوي في شرح السنة 3/ 69 ومالك في الموطأ 1/ 78، كلهم من رواية محمَّد بن جبير بن مطعم عن أبيه. (¬5) حديث متفق عليه أخرجه البخاري في صفة الصلاة باب الجهر في العشاء 1/ 194. ومسلم في كتاب الصلاة =

تَنْزِيلٌ (¬1). وذكر مالك، رضي الله عنه، عن الخلفاء والصحابة والتابعين آثاراً في البقرة (¬2) ويوسف (¬3) وغيرهما. ¬

_ = باب القراءة في العشاء 1/ 339، والترمذي 2/ 115 وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي 2/ 173، وابن ماجه 1/ 272 - 273، والبغوي في شرح السنة 3/ 71، وأحمد، انظر الفتح الرباني 3/ 230، كلهم من رواية البراء بن عازب. قال الشارح في العارضة 2/ 105 - 106: إن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنما كانت تختلف بحسب أحوال المأمومين؛ فليست قراءته في صلاته في السفر كقراءته في صلاة الحضر، ولا قراءته مع مأموم محسوم العلل قليل الشغل كقراءته مع ضد ذلك. قال - صلى الله عليه وسلم -:"إنِّي لأسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ في الصَّلاَةِ فأخفِّف مَخَافَةَ أَنْ تَفْتَتنَ أُمُّه". (أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي 1/ 181). الثانية: أن ركعاته لم تكن سواء في مقدار القراءة، كانت الأولى أطول من الثانية وقد جهل الخلق اليوم حتى صار العالم منهم بزعمه يسويهما والجاهل ربما يطول الثانية ويقصر الأولى، وتراهم يلتزمون في صلاة الصبح من الحجرات ومنهم من يلتزم من الحواريين ويقرأ سورة تلو سورة فتكون الثانية أطول من الأولى، وكذلك في المغرب يقرأ بسورة الضحى ويأتي بسورة تلي سورة فتكون الثانية أطول من الأولى، وكذلك يفعل بجهله في جميع الصلوات ومعنى قراءة القرآن أن يقرأ سورة ثم يقرأ ما بعدها في الركعة الثانية ولا يكون تلوها. الثالث: التزام سورة معلومة في القراءة كما قد بينا من ترتيب الجهال وهذا لا يلزم إنما يقرأ ما اتفق بحسب ما يقتضيه الحال. (¬1) رواه مسلم في كتاب الصلاة باب القراءة في الظهر والعصر 1/ 334، وأبو داود 1/ 506، وأحمد، انظر الفتح الرباني 3/ 222. والطحاوي 1/ 207 وابن خزيمة 1/ 256 - 257 كلهم عن أبي سعيد. (¬2) رواه مالك عن هشام بن عروة عن أبيه. الموطأ 1/ 82، وهذا منقطع لأن عروة لم يدرك أبا بكر، ورواه عبد الرزاق في المصنف 2/ 113 من طريق الزهري عن أنس بن مالك قال: صلَّيْتُ خَلفَ أَبِي بكرٍ الفجرَ فَاسْتَفْتَحَ البَقَرَةَ فَقَرأَهَا في رَكعَتيْنِ، ورواه أيضاً مثل رواية مالك المنقطعة، ورواه البيهقي من الطريقين. السنن الكبرى 2/ 389، والحديث صححه الحافظ في الفتح 2/ 256. (¬3) وورد في الموطأ أيضاً 1/ 82 عن عبد الله بن عامر بن ربيعة يقول: "صلَّيْنَا وَرَاءَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب الصُّبْحَ فَقَرَأ فِيهَا بِسَورَةِ يُوسُفَ وَسُورَةِ الْحَج قِرَاءَةً بَطِيئةً" ورواه البيهقي 2/ 389، وعبد الرزاق في المصنف2/ 114، كلاهما من طريق مالك، وقال في الجوهر النقي: قلت في الاستذكار زعم مسلم ابن الحجاج أن مالكاً وهم فيه، وأن أصحاب هشام لم يقولوا فيه عن أبيه وإنما قالوا عن هشام أخبرني عبد الله بن عامر، وذكر البيهقي في كتاب المعرفة أن أبا أسامة ووكيعاً وحاتم ابن إسماعيل رووه عن هشام عن ابن عامر دون ذكر أبيه، ثم قال البيهقي وهو الصواب، وقد علق الشيخ محمَّد زكريا في أوجز المسالك 2/ 83 على الكلام السابق بقوله: والصواب عندي أن زيادة أبيه في السند وهم والصواب عن هشام قال أخبرني عبد الله بن عامر وذلك أن رواية هشام بلفظ الإِخبار لا يمكن عن عامر بن ربيعة لأن عامراً أكثر ما قيل في موته سنة سبع وثلاثين. انظر الإِصابة 2/ 240، ومولد هشام سنة إحدى وستين انظر ت ت 11/ 51 إلَّا أن يقال إن الرواية لعامر وابنه كليهما صحيحه, إلا أنّ رواية هشام عن عبد الله بن عامر بدون الواسطة أو عن عامر بواسطة عروة فيصح حينئذ، =

الدليل الثالث: حديث معاذ بن جبل وعظه النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إِن مِنْكُمْ مُنْفِرِينَ اقْرَأْ يَعْنِي في الْعِشَاءِ بِسَبِّحِ اسْمِ رَبِّكَ الأعْلَى وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ" (¬1) وقال النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في ذلك، قولاً يضم هذا النشر العظيم، ويجمع خاطر المجتهد، ويسلكه في العبادة إن عقل وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، الحديث إلى قوله، وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيطَوِّلْ مَا شَاء" (¬2) قال علماؤنا: وكذلك إذا علم من جماعة ما علم من نفسه فليحملهم محملها وعليه تخرج قراءة الخلفاء للبقرة ويوسف في الصلاة وقراءته،- صلى الله عليه وسلم -، للأعراف في المغرب (¬3)، ومن أشد ما يجهله الناس في هذا فحراسِ منه أن تجهلوا أن الركعة الأولى في الشريعة أطول من الثانية، فتخطئوا فتسوُّوا بينهما، بل قد انتهت الجهالة بهم إلى أن يجعلوا الثانية أطول من الأولى وهذا مما ينبغي أن تتفطنوا له. الثانية: أن تجتنبوا في صلاتكم تحديد سور القرآن (¬4) وإسقاط غيرها، بل ينبغي أن تعولوا على ما تيسر فإن التحديد ليس إلا للشارع وحده. حديث: قال أبيّ بن كعب إلى قوله والقرآن العظيم (¬5). أدخله مالك، رضي الله عنه ¬

_ = ورواية مالك بلفظ عن هشام عن أبيه، قلت عامر بن ربيعة وابنه عد الله. انظر ت ت 5/ 62، 5/ 270 - 271 فالحديث متصل إلى عمر سواء رواه عامر أو ابنه عبد الله. درجة الحديث. صحيح. (¬1) الحديث متفق عليه، أخرجه البخاري في الجماعة والإِمامة باب إذا طول وكان للرجل حاجة فخرج فصلى 1/ 176، وفي باب من شكا إمامه إذا طول 1/ 180 وفي باب إذا صلى ثم أم قوماً 1/ 181 وفي كتاب الأدب باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولًا أو جاهلاً 8/ 23، ومسلم في كتاب الصلاة باب القراءة في العشاء 1/ 339. كلاهما من رواية جابر بن عبد الله. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الجماعة والإِمامة باب إذا صلى لنفسه فليطول ما شاء 1/ 180، ومسلم في الصلاة باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة 1/ 341، وأبو داود 1/ 502، والترمذي 1/ 461, والنسائي 2/ 94، والموطّأ 1/ 134 كلهم عن أبي هُرَيْرَة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا صَلَّى أَحَدُكمْ بِالنَّاسِ فَلْيُخَّففْ فَإِن فيهمُ الصغيرَ وَالْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَالْمرِيضَ فإِذَا صَلَّى وَحْدة فلْيصَل كَيْفَ شَاءَ". (¬3) روى البخاري من طريق ابن أبي مليكة عن عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم قال لي زيد بن ثابت: (مَالَك تَقْرَأ في الْمغْرِب بِقِصارٍ، وَقَدْ سمِعْتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يَقْرَأُ بَأَطْوَلِ الطَولَييْنِ) البخاري في صفة الصلاة باب القراءة في المغْرب 1/ 194، وأبو داود مطولاً 1/ 509، وفيه قال: قلت وما طول الطوليين؟ قال: الأعراف والأخرى الأنعام. والنسائي 2/ 170. (¬4) في (ك) و (م): القراءة. (¬5) روى مالك من طريق أبي سعيد، مولى عامر بن كريز "أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -,نَادَىَ أبَيَّ بْن كَعبٍ وَهوَ يُصلِّي =

حجة في تعيين الفاتحة في الصلاة لأن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، قال لأبيّ بن كعب: "كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلاَةَ؟ فَقَال: الحَمْدُ لله رَبِّ الْعالَمِينَ" فعيّنها قولاً وفعلاً وبياناً وتنبيهاً أيضاً، وفيه أيضاً إسقاط {بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرحِيمِ} وفيها زحام عظيم قد بينَّاه في مسائِل الخلاف (¬1) وقوله "مَا أَنْزَلَ في التَّوْرَاةِ وَلاَ في الإِنْجِيلِ وَلاَ في الْقرْآنِ مِثْلَهَا" وسكت عن سائر الكتب كالزبور والصحف لأن هذه أفضلها. وإذا كان الشيء أفضل الأفضل كان أفضل الكل كقولك: زيد أفضل العلماء فهو أفضل الناس وفضلها على غيرها يكون من سبعة أوجه: ¬

_ = فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صلاَتِهِ لَحِقَهُ فَوَضَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، يَدهُ على يدِهِ وهو يُريُد أنْ يخرُج من باب المسجد فقال: إنِّي لأرْجُو أَنْ لاَ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ حَتَّى تَعْلَمَ سُورَةً مَا أَنْزَلَ الله في التَّوْرَاةِ وَلَا في الإِنْجِيلِ وَلَا في الْقُرْآنِ مِثْلَهَا". الموطّأ 1/ 83 مرسلاً. قال الحافظ: من الرواة عن مالك من قال عن أبي سعيد عن أبيّ بن كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ناداه. فتح الباري 8/ 107، وأخرجه الحاكم مسنداً من طريق شعبة عن العلاء بن عبد الرحمن أن أبا سعيد مولى عامر أخبره أنه سمع أبيّ بن كعب يقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ناداه. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم 2/ 257، قال الحافظ: ووهم ابن الأثير حيث ظنّ أن أبا سعيد، شيخ العلاء، هو أبو سعيد بن المعلى فإن ابن المعلى صحابي أنصاري من أنفسهم مدني وذلك تابعي مكّي من موالي قريش، وقصد الحافظ هنا أن يبيِّن أن أبا سعيد الذي هنا هو مولى عامر بن كريز وليس الصحابي المشهور. وأخرجه الترمذي من طريق الدراوردي 5/ 155 وقال حسن صحيح، والنسائي 2/ 139 من طريق روح بن القاسم وأحمد من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم 5/ 114، وابن خزيمة من طريق حفص بن ميسرة 1/ 252 كلهم عن العلاء عن أبيه عن أبي هُرَيْرَة قال: خرج النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، على أبي بن كعب، ورواه ابن حبان من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هُرَيْرَة. موارد الظمآن 424. وروى البخاري مثل هذه القصة عن أبي سعيد المعلّى الصحابي في كتاب التفسير باب ما جاء في فاتحة الكتاب 6/ 20، قال الحافظ في الفتح 8/ 157 وجمع البيهقي بأن القصة وقعت لأبيّ ولأبي سعيد بن المعلى وتعين المصير إلى ذلك لاختلاف مخرج الحديثين ولاختلاف سياقهما. وانظر شرح الزرقاني للموطّأ 1/ 174. درجة الحديث: صحيح. (¬1) أقول: هذه مسألة خلافية، وقد تعرض لها الشارح في الأحكام فقال: اتفق الناس على أنها آية من كتاب الله تعالى في سورة النمل واختلفوا في كونها في أول كل سورة فقال مالك وأبو حنيفة: ليست في أوائل السور آية، وإنما هي استفتاح مع ليعلم بها مبتدؤها. وقال الشافعي: هي آية من أول الفاتحة قولاً واحداً، وهل تكون في أول كل سورة؟ اختلف قوله في ذلك .. ثم قال: ويكفيك أنها ليست بقرآن للاختلاف فيها والقرآن لا يختلف فيه، فإنكار القرآن كفرٌ فإن قيل ولو لم يكن قرآناً لكان مدخلها في القرآن كافراً، قلنا: الاختلاف فيها يمنع من أن تكون آية ويمنع من تكفير من يعدها من القرآن، فإن الكفر لا يكون إلا بمخالفة النص والإِجماع في أبواب العقائد. الأحكام 1/ 2 - 3، ونقل القرطبي هذا الكلام وأقره تفسير القرطبي 1/ 93.

الأول: أن الشيء قد يشرّف بذاته كشرف الله تعالى على خلقه وليس هذا لفاتحة الكتاب لأن الذاتية في الكل واحدة وهي كلام الله تعالى. الثاني: أن الشيء قد يشرّف بصفاته وذلك للباري سبحانه على الحقيقة والإطلاق دون سائر المخلوقات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). وفي الفاتحة شيء من هذا الشرف وبهذا شرّف النبيّ،- صلى الله عليه وسلم -، على سائر الآدميين؛ لأن الذات له ولهم واحدة وإنما شرّف بالصفات وهي عظيمة متعددة وقعت الإشارة إلى أفضلها في قوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (¬2)، ووقع التنبيه على جميعها في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (¬3). وفي الفاتحة من الصفات ما ليس في غيرها حتى قيل إن جميع القرآن فيها، وهي عشرون كلمة تضمنت جميع علوم القرآن، ومن شرفها أن الله تعالى قسمها بينه وبين عبده، وهو الثالث. الرابع: أنه لا تصح القراءة إلَّا بها. الخامس: أنه لا يلحق عمل بثوابها, ولله تعالى أن يفاضل بين الثواب في الفعلين وإن استويا. ولهذه المعاني كلها صارت القرآن العظيم كما صارت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن (¬4)، إذ القرآن توحيد وأحكام ووعظ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها التوحيد كله، وبهذا المعنى وقع البيان في قوله،- صلى الله عليه وسلم -، لأبي بن كعب: "أَيّ آيَةٍ في الْقُرْآنِ أعْظَمُ" ¬

_ (¬1) سورة الشورى آية 11. (¬2) {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} سورة الكهف آية 110. (¬3) سورة القلم آية 4. (¬4) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الفضائل باب فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 6/ 233 عن أبي سعيد الخدري، وفي كتاب التوحيد باب ما جاء في دعاء النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى 9/ 92 - 93، عن أبي سعيد أيضاً، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عن أبي الدرداء وأبي هريرة 1/ 556 - 557، وأبو داود 2/ 152. عن أبي سعيد أيضاً، والترمذي 5/ 168 - 169، والنسائي 2/ 171 عن أبي هريرة وأبي سعيد وابن ماجه 2/ 1244 عن أنس بن مالك ومالك في الموطأ 1/ 208، وأحمد 2/ 429 عن أبي هريرة/15، وعن أبي سعيد 23، 35، 43. وورد عن كثير من الصحابة غير هؤلاء وعده بعضهم متواتراً. انظر نظم المتناثر في الحديث المتواتر للكتاني 112 فقد أورده من طريق عشرين صحابياً.

قال: "الله لَا آله إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُومُ قال: لِيَهْنَئَكَ الْعِلْمُ يَا أَبَا الْمُنْذِرِ" (¬1) وإنما كانت أعظم آية لأنها توحيد كلها: كما صار قوله، - صلى الله عليه وسلم -: "أفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلي لَا إله إِلَّا الله" (¬2) الحديث. أفضل الذكر لأنّها كلمات حَوَت جميع علوم التوحيد، والفاتحة تضمنت ¬

_ (¬1) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي 1/ 556، وأبو داود 2/ 151، وأحمد في المسند 5/ 142. (¬2) ورد هذا الأثر في الموطأ 1/ 422، ونقل الزرقاني عن ابن عبد البر قوله لا خلاف عن مالك في إرساله وقال: ولا أحفظه بهذا الإسناد مسنداً من وجه يحتج به وأحاديث الفضائل لا يحتاج إلى محتج به، وقد جاء مسنداً من حديث علي وابن عمر والزرقاني 2/ 396، وانظر التجريد لابن عبد البر 55. ورواه البيهقي وقال: هذا مرسل، وقد روي عن مالك بإسناد آخر موصولاً ووصله ضعيف. السنن الكبرى 5/ 117. وأخرج حديث علي من طريق موسى بن عبيدة عن أخيه عن علي بلفظ: "قالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أكْثَرُ دُعائي وَدُعَاءِ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي بِعَرَفَةَ لَا إلهَ إلَّا الله وحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكَ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قدير" وقال تفرد به موسى ابن عبيدة وهو ضعيف ولم يدرك أخوه علياً. ورواه ابن شيبة من نفس الطريق أي من طريق موسى بن عبيدة عن أخيه عن علي. المصنف 10/ 373 - 374. أقول: الحديث فيه موسى بن عُبيدة، بضم أوله، ابن نَشيط، بفتح النون وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة، الرَبَذي بفتح الراء والموحدة ثم معجمة، أبو عبد العزيز المدني ضعيف ولا سيّما في عبد الله بن دينار وكان عابداً من صغار السادسة. مات سنة 152/ تق. ت2/ 286. وقال في ت ت: قال أحمد: حديثه منكر، وقال ابن معين: لا يحتج بحديثه، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، وضعّفه الترمذي والنسائي، ووثّقه ابن سعد، وقال الساجي: منكر الحديث، وروى عنه وكيع ووثّقه ت ت 10/ 356 وانظر الكاشف 2/ 186، المغني 2/ 685. كما أنه يروي عن أخيه عبد الله بن عبيدة ابن نَشيط، بفتح النون وكسر المعجمة، الرَبَذي بفتح الراء والموحدة بعدها معجمة، ثقة من الرابعة قتلته الخوارج بقديد سنة 130/ خ. ت 1/ 431، وقال في ت ت: قال ابن أبي خيثمة: سألت ابن معين عن عبد الله بن عبيدة فقال: هو أخو موسى ولم يرو عنه غير موسى وحديثهما ضعيف، وضعّفه ابن عدي ووثقه ابن حبان وقال أبو حاتم: عبد الله بن عبيدة عن علي مرسل، وقال ابن خلفون: وثّقه عبد الرحيم وغيره، وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً ليس له راوٍ غير أخيه موسى وموسى ليس بشيء في الحديث لا أدري البلاء من أيهما. ت ت 5/ 309. أما حديث عبد الله بن عمرو فقد رواه الترمذي من طريق حماد بن أبي حميد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "قالَ: خَيْرُ الدعاءِ دُعَاءُ عرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أنا والنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لا إلهَ إِلا الله وحْدهُ لاَ شَريكَ لَهُ لَه الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُل شَيْءٍ قَدِيرٍ" وقال: غريب من هذا الوجه وحماد بن أبي حميد ليس بالقوي عند أهل الحديث. الترمذي 5/ 572. أقول: رواية الترمذي فيها محمَّد بن أبي حميد الأنصاري الزورقي، أبو إبراهيم المدني، لقبه حماد ضعيف =

التوحيد والعبادة والوعظ والتذكير ولا تستبعد ذلك في قدرة الله تعالى فإنّ الله، عز وجل، جمع التوحيد كله في آية الكرسي ثم جمعه في أقل حروف منها وهو {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم جمعه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في كلمات يوم عرفة المتقدمة، ثم جمع علوم القرآن في الفاتحة، ثم جمعها في اثنين قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (¬1). والثانية: قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِن وَالإِنْسَ إِلَا لِيَعْبُدُونِ} (¬2) ثم جمعها في آية واحدة وهي قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَق} (¬3) وقوله: {أفَحَسِبْتُمْ أنَّمَا خَلَقْنَكُمْ عَبَثاً} (¬4). السادس: أنه قال: السبع فهن سبع آيات تضمنت كما تقدم (¬5) من العلوم ما لم يتضمن سواها في قدرها. السابع: المثاني، وهي مثاني بمعاني منها ما تشترك فيه مع القرآن في قوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (¬6)، ومنها ما تنفرد به وهي أنها تثنَّى في كل ركعة، ومنها أنّ الله تعالى جعلها قسمين بينه وبين عبده فقال: "هذه بَيْني وَبَيْنَ عَبْدِي وَلعَبْدِي مَا سَألَ". ومنها أنها قسمان ثناء ودعاء، ومنها أنها وردت على الازدواج: اثنين اثنين. قال: {الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} وهذا كله مثنى، ويصح أن تكون مثاني بهذه المعاني كلها، ويصح أن تكون ببعضها، وذكر أنها سبع آيات كما ذكر - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَ سورَةَ المُلْكِ ¬

_ = من السابعة/ ت ق. ت 2/ 156. وقال في ت ت: قال أحمد: أحاديثه مناكير، وقال البخاري: نكر الحديث، وقال النسائي وأبو زرعة: ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: نكر الحديث ضعيف الحديث، وكذا قال ابن معين والساجي، وقال أبو داود والدارقطني: ضعيف، وقال ابن حبان: لا يحتج به، وقال ابن شاهين في الثقات: قال أحمد بن صالح المصري: محمَّد بن أبي حميد ثقة لا شك فيه حسن الحديث ت ت 9/ 132 - 134، وانظر الضعفاء للعقيلي 4/ 61، المجروحين 2/ 271، الميزان 3/ 531. درجة الحديث: المرفوع منه ضعيف والمرسل صحيح. (¬1) سورة الطلاق آية 12. (¬2) سورة الذاريات آية: 56. (¬3) سورة الحجر آية 85. (¬4) سورة المؤمنون آية 115. (¬5) في (م) تقدم. (¬6) سورة الزمر آية 23.

ثلَاثُونَ آيَةً" (¬1)، وتعديد الآي من معضلات القرآن وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم -, من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قال: "فَقَرَأ الْعَشْرَ الآيَاتِ الخَوَاتِمَ مِنْ سورَةِ آلِ عِمْرَانَ" (¬2). ومن آيات القرآن طويل وقصير ومنها ما ينقطع، ومنه ما ينتهي إلى تمام الكلام، ومنه ما يكون في أثنائِهِ كقوله: أنعمت عليهم، على مذهب أهل المدينة، فإنهم يعدّونها آية وينبغي أن تعول في ذلك على نقل السلف وما تقلدوه. حديث: "قَسَمْتُ الْصلاَةَ بَيْني وَبَيْنَ عَبْدِي" إلى آخره قوله يقول الله: "حَمِدَنِي عَبْدِي وَأَثْنَى وَمَجَّدَ". التمجيد ثناء وتحميد، والثناء حمد وتمجيد، وكل واحد منهما يعبِّر به عن صاحبه ولكنه خص كل واحد منهما بمعناه الأخص. فخصيصة الحمد التمجيد، فهو أعظم صفات الثناء لأنه يتضمن الثناء بما هو المثني عليه في ذاته، وبما صدر عنه من فعله. والثناء هو ذكر محاسن أفعاله، والتمجيد هو الإخبار عن صفاته التي فيها العلو والعظمة, لأن المجد هو نهاية الشرف {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬3) والصفات العلى والأفعال التي لا تدانى فهو المحمود، ومنه إفاضة النعمة ابتداء، وإقالة العثرة وحسن التدارك بعد الزلَّة، وذلك كله مصدره الرحمة وله أن يهلك الخلق بأجمعهم وأن يحسن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود 2/ 119، والترمذي 5/ 164، وقال: حديث حسن، وابن ماجه 2/ 1244، وأحمد، أنظر الفتح الرباني 18/ 315، والحاكم في المستدرك 2/ 497 - 498، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وابن حبان. انظر موارد الظمآن ص 438. وأورده ابن كثير في تفسيره 7/ 66 والسيوطي في الدر المنثور 6/ 246 وعزاه المنذري للنسائي الترغيب والترهيب 2/ 377. كلهم من طريق أبي هُرَيْرَة. درجة الحديث: حسّنه الترمذي وصححه الحاكم والذهبي وابن العربي في العارضة 11/ 119 فقد قال: إسناد حديث سورة الملك في الجملة صحيح وأنها تجادل عن صاحبها وإن كان أبو عيسى قد حسن كل ما روي فيه. (¬2) الحديث متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الوضوء باب قراءة القرآن عند الحدث وغيره 1/ 56 وفي كتاب الأذان باب إذا قام الرجل عن يسار الإِمام فحوله الإِمام إلى يمينه لم تفسد صلاتهما 1/ 117وفي كتاب اللباس باب الذوائب 7/ 140 ومسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/ 526 - 527. قال: "بِتَّ لَيْلَةً عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقَامَ النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، مِنَ الليْلِ فَأتى حَاجَتَهُ ثُمّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ نَامَ ثمَ قَامَ فَأتَى القُرْبَةَ. فَتَوَضَّأ .. ". (¬3) سورة الأعراف آية 180.

إليهم كلهم ولا يخاف عاقبة ولا يرجو عوضاً فهو المالك حقاً وخص يوم الدين لعِظم الأفعال التي فيه، ومن ملك الأعظم والنهاية فقد ملك الأقل والبداية، وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إقرار بالمذلة للمولى والتزام للخدمة وقوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} رد الأمر إليه والتسليم بالكل والتفويض عليه لأنه إن أعان العبد عَبَدَه وإن خذله جحده، وقوله: {إِيَّاكَ لعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتعِينُ} هذه بيني وبين عبدي، نص على أنها آية واحدة، وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} إلى {وَلَا الضَّالِّينَ} فهؤلاء لعبدي نص على أنها أكثر من آية واحدة رداً على المكيّين (¬1)، وبذلك صارت الفاتحة سبع آيات بإسقاط عدّ {بِسْمِ اللِه الرحمن الْرَحِيمَ} .. ¬

_ (¬1) قال البغوي بعد سياقه لحديث أبي هريرة السابق: "قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بيني وَبَيْنَ عبدِي". يستدل بهذا الحديث من لا يرى التسمية آية من الفاتحة لأنه يبدأ بها، وإنما بدأ بـ {الْحَمْدُ للهِ} واختلف أهل العلم فيها. فذهب جماعة إلى هذا. يروى ذلك عن عبد الله بن مغفل وبه قال مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي، وعليه قرّاء المدينة والبصرة. وذهب جماعة إلى أنها آية من الفاتحة وهو قول ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وإليه ذهب الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، وعليه قرّاء مكة والكوفة وأكثر فقهاء الحجاز. شرح السنة 3/ 49.

باب التأمين

باب التأمين قوله: إِذَا أمَّنَ الْإمَامُ (¬1). الحديث. قيل معنى قوله إذا أمن إذا بلغ موضع التأمين كقولهم أحرم إذا بلغ موضع الحرم وأنجد إذا بلغ موضع العلو (¬2) وذلك كقوله: "إِذَا قَالَ الْإمَام غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَالِينَ فَقُولُوا آمِينَ" (¬3) ليجتمع الحديثان. وعليه أثبتت رواية المصريين عن مالك، رضي الله عنه، أن الإِمام لا يؤمِّن, وعلى رواية المدنيين (¬4) يؤمِّن الإِمام سراً وعند (ش) أنه يؤمِّن جهراً (¬5). وقال ابن شهاب: وكان رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - "يَقوُلُ آمِينَ" (¬6). وفي البخاري ويقولها الناس حتى أنَّ للمسجد .............. ¬

_ (¬1) متفق عليه البخاري في كتاب الأذان باب جهر الإِمام بالتأمين 1/ 98، ومسلم في كتاب الصلاة باب التسميع والتحميد والتأمين 1/ 307، والموطّأ 1/ 87، كلهم من طريق أبي هُرَيْرَة أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِذَا أَمَّنَ الْإِمَام فَأمِّنُوا فَإنَّ مَنْ وَافَقَ تَأمِينُهُ تَأمِينَ الْمَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". (¬2) نقل الحافظ عن الشارح أن هذا بعيد لغة وشرعاً وقال: قال ابن دقيق العيد وهذا مجاز فإن وجد دليل يرجحه عمل به وإلا فالأفضل عدمه. فتح الباري 2/ 406. (¬3) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة باب جهر الإِمام بالتأمين 1/ 198، ومسلم باب التسميع والتحميد والتأمين 1/ 307، وأبو داود 1/ 575، والنسائي 2/ 144، ومالك في الموطّأ 1/ 87 , والترمذي 2/ 30، وابن ماجه 1/ 277، وشرح السنة 3/ 60، كلهم عن أبي هُرَيْرَة. (¬4) قال الباجي: اختلف قول مالك في قوله آمين فروى عنه المصريون المنع من ذلك. وبه قال أبو حنيفة، وروى عنه مطرف وابن الماجشون أنه يقولها، وبه قال الشافعي. المنتقى 1/ 162. (¬5) انظر الأم للإمام الشافعي 1/ 95، والمجموع للنووي 3/ 371. (¬6) البخاري كتاب صفة الصلاة باب جهر الإِمام بالتأمين 1/ 198، ومسلم كتاب الصلاة باب التسميع والتحميد والتأمين 7/ 301، وأبو داود 1/ 576، والموطأ 1/ 87. قال الحافظ في الفتح 2/ 264 - 265: قال ابن شهاب: هو متصل إليه من رواية مالك عنه وأخطأ من زعم أنه معلق، ثم هو من مراسيل ابن شهاب وقد اعتضد بصنيع أبي هُرَيْرَة رواية وروي موصلاً، أخرجه الدارقطني في الغرائب والعلل من طريق حفص بن عمر العدني عن مالك عنه، وقال الدارقطني: تفرد به حفص بن عمر وهو ضعيف. وقال الزرقاني: قال ابن عبد البر لم يتابع حفص على هذا اللفظ بهذا الإسناد. شرح الزرقاني للموطّأ 1/ 180، وقال الباجي: هو مرسل لم يسنده أحد غير حفص بن عمر بن عبد الملك، وقد غلط فيه، والصواب أنه مرسل. المنتقى 1/ 162. درجة الحديث: مرسل صحيح.

................. للجة (¬1) وكنت بجامع الخليفة (¬2) إذ قال الإِمام يوم الجمعة ولا الضالين يجهر الناس بآمين حتى نقول انقض المسجد والصحيح عندي أنه يسر بها الإِمام، وبذلك يجتمع الحديثان وقوله: "وَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ آمِينَ" كان يحتمل أن يريد به الحاضرين للصلاة المشاهدين لها إلا أنه قال في الحديث "وَقالَتِ الْمَلَائِكَةُ في السَّمَاءِ آمينَ" (¬3). ووجه الجمع بينهما أن الملائكة الحاضرين تقولها ويقولها من فوقهم حتى تنتهي إلى ملائكة السماء فإنهم صافّون بعضهم فوق بعض درجات إلى العرش (¬4)، على ما ورد في الأثر وفي معنى موافقة تأمين الخلق. تأمين الملائكة خمسة أقوال: الأول: الموافقة في الابتداء وهي النية والإخلاص فلا قبول إلا بهما. الثاني: الموافقة في الفائدة وهي الإجابة والمعنى من استجيب له، كما يستجاب للملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. الثالث: من وافقه في الوقت حتى يتواردوا عليه جميعاً فتعمّ الناس البركة الكائنة من ¬

_ (¬1) البخاري كتاب صفة الصلاة باب جهر الإِمام بالتأمين 1/ 198 وقال البخاري وقال عطاء: آمين دعاء أمَّنَ ابن الزبير ومن وراءه حتى أن للمسجد للجة، معلقاً وقد وصله عبد الرزاق في المصنف 2/ 96 - 97 عن ابن جريج عن عطاء قال: قلت له: أكان ابن الزبير يؤمن على إثر أُمِّ القرآن؟ قال: نعم ويؤمن من وراءه حتى إن للمسجد للجة ثم قال: إنما آمين دعاء، وأخرجه من نفس الطريق البيهقي في السنن الكبرى 2/ 59. درجة الحديث: قال النووي: تعليق البخاري إذا كان بصيغة الجزم كان صحيحاً عنده وعند غيره، المجموع 3/ 370 وقد ذكر ذلك بعد سياقته لهذا الأثر. (¬2) جامع الخليفة هو الإِمام المهدي، وقد بناه في أوائل خلافته سنة 159 هـ. انظر تاريخ مساجد بغداد وآثارها لمحمود شكري الألوسي ص 39، ومساجد بغداد الحديثة ليونس إبراهيم السامرائي ص 159، والمساجد للدكتور حسين مؤنس ص 201. (¬3) متفق عليه البخاري في صفة الصلاة باب فضل التأمين 1/ 198، ومسلم في كتاب الصلاة باب التسميع والتحميد والتأمين 1/ 307، والموطأ 1/ 88، والنسائي 2/ 144 - 145، والبغوي في شرح السنة 3/ 62، وأحمد. انظر الفتح الرباني 3/ 204، من زوائد عبد الله على أبيه كلهم عن أبي هُرَيْرَة. (¬4) روى عبد الرزاق عن معمر قال: حدثني من سمع عكرمة قال: صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد. مصنف عبد الرزاق 2/ 98، وقال الحافظ في الفتح: ومثله لا يقال بالرأي فالمصير إليه أولى. فتح الباري 2/ 265. درجة الحديث: ضعيف لجهالة من حدث معمراً والله أعلم.

الاشتراك مع الملائكة. الرابع: الموافقة في الكيفية وهو بأن يدعو لنفسه وللمسلمين كما تفعل الملائكة لأنها تدعو لجميع الأمة، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ في الأَرْضَ} (¬1). الخامس: أن يدعو في طاعة ولا يمزجها بدنيا فإنها أقرب إلى الإجابة. وقوله: "غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" فيه فائدة حسنة، وهي أنه يغفر له وإن لم يسأل المغفرة لأن الملائِكةِ سألتها له لقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} فأما وقوع المغفرة للذنوب فإنها تكون على الوجه الذي بيَّنَّاه في التفضيل بين الصغائر والكبائر في كتاب الوضوء حسب ما تقدم. وأما قوله "سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ" فيحتمل أن يكون خبراً عن فضل الله تعالى، ويحتمل أن يكون دعاء إلى الله تعالى وإن جاء بلفظ الخبر وهو أظهر وقول المأموم (رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ) جواب لهذا الدعاء وامتثال لمقتضاه تقوله الملائكة كما يقوله المأموم حسبما ورد في الخبر والموافقة كالموافقة المتقدمة. حديث عبد الله بن عمر "اصْنعْ كَمَا كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ ثم قال وَقَبَضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا وَأَشَارَ بِالأُصْبعِ التِي تَلِي الإِبْهَامَ" (¬2). وروى أحمد بن حنبل عن خُفاف (¬3) بن إِيماء "قَالَ كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أشَارَ بِأُصْبَعِهِ كَذلِكَ في الصَّلاَةِ تَقولُ قرَيْشُ هذَا مُحمَّد يَسْحَرُ النَّاسَ وَإِنَّمَا كَانَ يُوَحِّدُ الله" (¬4) فنص على فائدة الإشارة ولهذا ينبغي له أن يقبض الإِبهام ولا يمدها معها ويعقد ¬

_ (¬1) سورة الشورى آية 5. (¬2) الموطّأ 1/ 88، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب صفة الجلوس في الصلاة 1/ 408، والترمذي وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن عمر من هذا الوجه. سنن الترمذي 2/ 88 - 89، والنسائي 2/ 236 - 237، كلهم من حديث علي بن عبد الرحمن المعاوي أنه قال: "رَآنِي عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ وَأنَا أعْبَثُ بِالْحَصى في الصَّلاَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ نَهَاني فَقَالَ: اصْنَعْ كَمَا كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصْنَعُ .. ". (¬3) خُفاف، بضم أوله وفائين، ابن إيماء، بكسر الهمزة بعدها تحتانية ساكنة، الغفاري صحابي مات في خلافة عمر، رضي الله عنه/ م ت 1/ 224 ت ت 3/ 147. (¬4) رواه أحمد. انظر الفتح الرباني 4/ 12 وعزاه الهيثمي في المجمع إلى الطبراني في الكبير وقال: رجاله ثقات. مجمع الزوائد 2/ 140. درجة الحديث: صحيح.

ثلاثاً وخمسين (¬1)، كما جاء في الحديث الصحيح (¬2). ¬

_ (¬1) قال الصنعاني: إشارة إلى طريقة معروفة تواطأت عليها العرب في عقود الحساب وهي أنواع الآحاد والعشرات والمئين والألوف. أما الآحاد فللواحد عقد الخنصر إلى أقرب ما يليه من باطن الكف، وثلاثين عقد البنصر معها كذلك، وللثلاثة عقد الوسطى معها كذلك، وللأربعة حل الخنصر، وللخمسة حل البنصر معها دون الوسطى، وللستة عقد البنصر وحل جميع الأنامل، وللسبعة بسط البنصر إلى أصل الإبهام مما يلي الكف، وللثمانية بسط البنصر فوقها كذلك، وللتسعة بسط الوسطى فوقها كذلك، وأما العشرات فلها الإبهام والسبابة سبل السلام 1/ 251. (¬2) رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب صفة الجلوس في الصلاة 1/ 408 والبغوي في شرح السنة 3/ 175، وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة 1/ 285 كلهم من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كَانَ إِذَا قَعَدَ لِلتشَهُّدِ وَضَعَ يَدهُ الْيُسْرَى وَوَضَعَ يدهُ الْيُمْنَى على رُكبته الْيُمْنَى وَعقدَ ثَلَاثاً وَخَمْسِينَ وَأشَارَ بِالسَّبَّابَةِ".

باب التشهد في الصلاة

باب التشهد في الصلاة ذكر مالك، رضي الله عنه، في هذا الباب تشهُّد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه (¬1). ورجَّحه على تشهُّد ابن عباس، وعلى تشهُّد عبد الله بن مسعود لأن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يعلّمه الناس على المنبر ويعلّمه بين ظهراني المسلمين، وهم الصحابة الذين منهم ابن عباس وعبد الله الراويان للتشهدين الأخيرين ولم يسمع من أحد نكيراً فصار ذلك إجماعاً على الترجيح. قوله: "التَّحِيَّاتُ لله" تفسير يعني الملك وهي السلام وهي البقاء والكل لله، أما البقاء فهو صفة واجبة، وأما الملك فهو بيده يصرفه كيف يشاء، وأما السلام فهو له شرع ودين فإن جعل لغيره فذلك خلاف للشرع، وما كان من قبيل المشروعات فهو لله سبحانه أمره ورضاه، وما وقع على طريق الشرع فهو لله تعالى تقديراً وقضاء فلا يخرج شيء عنه بل الكل له وإليه. والمراد بالتحية ههنا من جملة أقسامها السلام لأنه موضعه وسببه على ما تقدم في حديث عبد الله بن مسعود. "وأما الزَّاكِيَاتُ" فالمراد به كل عمل نام يضاعف عليه الأجر وينمّى فيه الثواب، وكل عمل أيضاً ممحوق فهو لله تعالى بتقدير وخلق، إلا أنه تعالى إذا أضاف الشيء إليه أو ربطه به على طريق الاختصاص كان ذلك تشريفاً له على ما ¬

_ (¬1) الموطّأ 1/ 90 من طريق عبد الرحمن بن عبد القاري أنه سمع عمر بن الخطاب وهو على المنبر يعلم الناس التشهد يقول التحيات لله .. رواه الحاكم في المستدرك من طريق مالك 1/ 265 - 266، وصححه ووافقه الذهبي والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 144، والشافعي في الرسالة ص 268، ونقل الزرقاني عن ابن عبد البر قوله: ما أورده مالك عمر وابنه وعائشة حكمه الرفع لأن من المعلوم أنه لا يقال بالرأي، ولو كان رأياً لم يكن ذلك القول من الذكر أولى من غيره من سائر الأذكار فلم يبقَ إلا أن يكون توقيفاً، وقد رفعه غير مالك عن عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. شرح الزرقاني 1/ 186 وقال أيضاً: رواه ابن مردويه في كتاب التشهد له مرفوعاً. الزرقاني 1/ 187، وأورده الزيلعي في نصب الراية 1/ 442 وقال: هذا إسناد صحيح، ونقل عبد الله ابن صديق في مسالك الدلالة عن الدارقطني في العلل قوله: لم يختلفوا في أن هذا الحديث موقوف، ورواه بعض المتأخرين عن ابن أويس عن مالك مرفوعاً وهو وهم. مسالك الدلالة على متن الرسالة 48. درجة الحديث: صحّحه الحاكم والذهبي والزيلعي.

سواه كما قال تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ} (¬1) يعني ملكاً، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} (¬2) يعني تشريفاً، ثم قال: {وَطَهِّرْ بَيْتِي} (¬3) فزاده اختصاصاً. وأما قوله "الصَّلوَاتُ للهِ" فهو بيِّن لأن العبادات كلها إنما تقع لله بالنية والقربة، والمعاصي من الله بالتقدير والحكمة حتى أن قول الكافر في الله تعالى ثالث ثلاثة تسبيح لله وتقديس له على الوجه الذي بيَّنّاه في قوله تعالى {وَإِنْ مِنْ شِيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (¬4) فقوله التحيات يعني السلام كما قدمناه. وقوله: (الزَّاكِيات) يعني الأعمال النامية، وقوله: {الصَّلوَات} يعني العبادة التي هو فيها من جملة الزكيات. تنبيه: على وهم ثبتت الرواية عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في التشهد، كما قدمناه، واستقرت ألفاظ التشهد عند جميع الأمة إلى أن جاء أبو محمَّد (¬5) بن أبي زيد بوهم قبيح فقال في ذكره للتشهد" وَأَنَّ محَمَّداً عَبْدهُ وَرَسُولُه أَرْسَلهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِمظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ إلى قوله وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَنْ في الْقُبُور" (¬6)، وإنما أوقعه في ذلك أنه رأى الأثر في تشهد الوصية بهذه ¬

_ (¬1) سوره الأعراف آية 128. (¬2) سورة الجن آية 18. (¬3) سورة الحج آية 26. (¬4) سورة الإسراء آية 44، وانظر الكلام عليها في الأحكام للمؤلف 3/ 1203. (¬5) ابن أبي زيد 386. عبد الله أبو محمَّد بن أبي زيد: كان إمام المالكية في وقته وقدوتهم وجامع مذهب مالك وشارح أقواله، وكان واسع العلم كثير الحفظ والرواية. الديباج 1/ 428، شجرة النور الزكية 1/ 96، هدية العارفين 1/ 447. (¬6) رسالة ابن أبي زيد ص 121. أقول: وافق المؤلف في نقده لابن أبي زيد النووي في الأذكار ص 80 حيث قال: وما قاله بعض أصحابنا وابن أبي زيد المالكي من استحباب زيادة على ذلك وهي ارحم محمداً وآل محمَّد فهذا بدعة لا أصل لها. وقال في شرح مسلم 4/ 126 قال القاضي: ولم يجىء في هذه الأحاديث ذكر الرحمة على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وقد وقع في بعض الأحاديث الغريبة. قال: واختلف شيوخنا في جواز الدعاء للنبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، بالرحمة، فذهب بعضهم وهو اختيار أبي عمر بن عبد البر إلى أنه لا يقال، وأجازه غيره، وهو مذهب أبي محمَّد بن أبي زيد وحجه الأكثرين تعليم النبيّ، - صلى الله عليه وسلم - وليس فيها ذكر الرحمة والمختار أنه لا يذكر الرحمة. ونقل السخاوي في القول البديع 70 - 72 عن ابن دقيق العيد أن الصلاة من الله مفسرة بالرحمة، ومقتضاه أن يقال اللهم ارحم محمداً لأن المترادفين إذا استويا في الدلالة قام كل واحد منهما مقام الآخر. وقال ابن حجر: الإنكار على ابن أبي زيد غير مسلم إلا أن يكون لكونه لم يصح، وإلا فدعوى من ادعى إنه لا يقال ارحم محمداً مردود لثبوت ذلك في عدة أحاديث أصحّها في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله، وقال =

الصفة فرأى من قبل نفسه أن يلحقه بتشهد الصلاة، وهذا لا يحل لأن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، إذا أعلم شيئاً وجب الوقوف عند تعليمه، وإذا بيّن ذكريْن في قصتيْن لم يجز أن يبدَّلا فيوضع أحدهما في موضع الآخر، ولا أن يجمع بينهما فإن ذلك تبديل للشريعة واستقصار لما كمَّله النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في التعليم هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم. حديث "الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإمَامِ نَاصِيَتُهُ بِيَدِ شَيْطَانٍ" (¬1) قد بيَّن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، أن ¬

_ = السخاوي: سبقه إلى الجواز، يعني ابن حجر، شيخُنا المجد اللغوي فإنه قال الذي أقوله: أن الدلائل قائمة على جواز ذلك، وممن صرح بجواز ذلك أبو القاسم الأنصاري مضافاً إلى الصلاة لا يجوز مفرداً، ووافقه على ذلك ابن عبد البر والقاضي عياض في الإكمال، ونقله عن الجمهور، وقال القرطبي في المفهم: إنه الصحيح لورود الأحاديث به. واعتذر السخاوي عن ابن أبي زيد فقال: لعل ابن أبي زيد كان يرى أن هذا من فضائل الأعمال التي يتساهل فيها بالحديث الضعيف لاندراجه في العمومات، فإن أصل الدعاء بالرحمة لا ينكر، واستحبابه في هذا المحل الخاص ورد فيه ما هو مضعف فيتساهل في العمل به أو يكون صح عنده بعضها. والأثر الذي يرى السخاوي أنه قد يكون صحّ عند ابن أبي زيد رواه البخاري في الأدب المفرد ص 223 عن أبي هُرَيْرَة، وروى الحاكم في المستدرك 1/ 269 عن ابن مسعود بإسناد فيه رجل لم يسمّ نحو حديث أبي هُرَيْرَة والحديث ضعيف كما عرفت. وانظر التلخيص 1/ 292، ومسالك الدلالة 49 وقال الحافظ في الفتح 11/ 159: بعد نقله كلام ابن العربي ونكيره على ابن أبي زيد فان كان إنكاره لكونه لم يصح فمسلم وإلا فدعوى من ادعى إنه لا يقال ارحم محمداً مردود لثبوت ذلك في عدة أحاديث أصحها في التشهد السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وبركاته، ثم وجدت لابن أبي زيد مسنداً؛ فقد أخرج الطبري في تهذيبه من طريق حنظلة بن علي عن أبي هُرَيْرَة رفعه "مَنْ قَالَ اللَّهُمَّ صل عَلَى مُحَمدٍ وَعَلَى آلِ مُحمَّدٍ كمَا صلَّيْتَ على إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ، وَتَرَحَّمْ عَلَى مُحمَّدٍ وَعَلَى آلِ محمَّدٍ كَمَّا تَرَحَّمْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ شَهدْت لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشَفعْت لَهُ" ورجال سنده رجال الصحيح إلا سعيد بن سليمان مولى سعيد بن العاص الراوي له عن حنظلة بن علي فإنه مجهول. وانظر القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع للسخاوي ص70. أقول: الأوْلى عندي ما ذهب إليه الشارح وغيره لأن الاقتصار على ما صح أولى، والله أعلم. (¬1) الموطأ 1/ 92 من حديث أبي هُرَيْرَة أنه قال: "الذي يَرْفَعُ رَأسَه وُيخْفِضُهُ قَبْلَ الإِمَامِ فَإِنَّمَا نَاصِيَتُهُ بِيَدِ شَيْطانٍ". قال ابن عبد البر هو موقوف في الموطأ، ورواه الدراوردي عن محمَّد بن عمرو عن مليح السعدي عن أبي هُرَيْرَة عن النبي،- صلى الله عليه وسلم -، ومعناه ثابت من حديث شعبة عن محمَّد بن زياد عن أبي هُرَيْرَة عن النبيّ،- صلى الله عليه وسلم -، وإن كان لفظ حديث شعبة غير لفظ حديث مالك هذا. تجريد التمهيد ص 160، وانظر حديث شعبة ص 305. أقول: الطريق الذي أشار إليه ابن عبد البر رواه البزار من طريق ملح بن عبد الله عن أبي هُرَيْرَة عن =

الشيطان لا يألو في إفساد الصلاة على العبد قولًا بالوسوسة حتى لا يدري كم صلّى، وفعلًا بالتقدم على الإِمام حتى يفسد فرض الاقتداء. فأما الوسوسة فدواؤها الذكرى والإقبال على ما هو فيه. وأما التقدم على الإِمام فعلة ذلك طلب الاستعجال ودواؤه أن يعلم أنه لا يسلِّم قبله فلِمَ يستعجل هذه الأفعال. وفي الحديث "أما يَخْشَى الَّذِي يَرْفعُ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِمَامِ أَنْ يُحَوِّلَ الله رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارِ" (¬1)، وليس يريد به عند العلماء المسخْ صورة وإنما يريدون به الحمارية معنى، وهو البله ضرب له الحمار مثلًا لأنه أشد البهائم بلهاً (¬2) في تلك الحال وهذا كقوله، - صلى الله عليه وسلم -:" لِيَنْتَهِيَنَّ أَقْوامٌ عَنْ رفْعِهِمْ أبْصارِهِمْ إلى السَّمَاءِ في الصَّلَاةِ أَوْ لَتُخْطَفُنَّ أَبْصارُهُمْ" (¬3) وليس يريد بذلك إذهابها بالعمى، وإنما يشير به إلى ذهاب فائدتها من العبرة. ¬

_ = النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الذي يَخْفِضُ وَيرْفَعُ قَبْلَ الإِمَامِ نَاصِيَتُهُ بِيَدِ شَيْطَانٍ". قال البزار: لا نعلم روى مليح عن أبي هُرَيْرَة إلَّا هذا. كشف الأستار عن زوائد البزّار 1/ 233، وعزاه الهيثمي إلى البزّار، والطبراني في الأوسط وقال: إسناده حسن. مجمع الزوائد 2/ 78. وعزاه لعبد الرزاق وأن روايته موقوفة فقال: وقد ورد الزجر عن الخفض والرفع قبل الإِمام في حديث أخرجه البزّار من رواية مليح ابن عبد الله السعدي عن أبي هُرَيْرَة مرفوعاً وقد أخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه موقوفاً وهو المحفوظ. فتح الباري 2/ 183. أقول: مليح بن عبد الله السعدي لم أجد له ترجمة في التقريب والتهذيب، وتعجيل المنفعة، وميزان الاعتدال، والكامل والضعفاء للعقيلي، وغير ذلك من الكتب، ولم يذكره إلا ابن أبي حاتم ولم يعدله ولم يجرحه فقال: مليح بن عبد الله السعدي روى عن أبي هُرَيْرَة، وروى عنه محمَّد بن عمرو بن علقمة سمعت أبي يقول ذلك. الجرح والتعديل 4/ 367. درجة الحديث: الذي يظهر لي أنه ضعيف لأن مليحاً لم أجد من وثقه، وقد قال ابن عبد البر: إن معنى الحديث ثابت، وانظر الحديث الآتي. (¬1) متفق عليه. البخاري باب إثم من رفع رأسه قبل الإِمام 1/ 177، ومسلم في الصلاة باب تحريم سبق الإِمام 1/ 320، وأبو داود 1/ 413، والترمذي 2/ 475، والنسائي 1/ 132، والدارمي 1/ 302، وابن ماجه 1/ 308، كلهم من رواية أبي هُرَيْرَة. (¬2) في (ك)، و (م)، و (ص) زيادة ولا حمارية أعظم من أن يلتزم الاقتداء مع الإِمام ثم يخالف ما التزم في تلك الحال. (¬3) مسلم في كتاب الصلاة باب النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة 1/ 321 من رواية أبي هُرَيْرَة وجابر بن سمرة. ورواه البخاري في صفة الصلاة باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة 1/ 191، وأبو داود 1/ 561 - 562، وشرح السنة 3/ 258 كلهم من حديث أنس.

باب السهو

باب السهو هذا باب عظيم في الفقه أحاديثه كثيرة ومسائله عظيمة وفروعه متشعبة ومشغبة يذهب العمر في تحصيلها ولا يتمكن العبد من تفصيلها، فعليكم أن تحفظوا أصولها وتربطوا فصولها، ثم تركبوا عليها ما يليق بها وتطرحوا الباقي عن أنفسكم، منها دخلت المنستير (¬1) رباط أفريقية فلقيت المتعبدين الذين أعرضوا عن الدنيا وأقبلوا على خدمة المولى، وسمعتهم لا يقرؤون من فن الفقه إلا مسائل الوضوء والصلاة التي تختص بما هم فيه، فحدّثوني أن أبا بكر ابن عبد الرحمن الخولاني (¬2)، وكان من أحفظ أهل زمانه بالمسائل، كان يرد عليهم في الأشهر الفاضلة بنيَّة الاعتكاف فيسألونه عن المسائل فإذا أفتاهم قالوا له الرواية في نوازل سحنون بخلاف هذا النص في الكتاب الفلاني على غير ما قلت، حتى طال عليه ذلك فقال لهم: إذا ذكرتم مسألتكم فاذكروا جوابها معها فإن كان جارياً على الأصول أمرتكم بالتمسك به وإن كان خارجاً عن الأصول (¬3) عرفتكم بالصواب فيه. وأصول أحاديث السهو ستة: الحديث الأول: حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه "صَلَّى رَسُولُ الله،- صلى الله عليه وسلم -، إحْدَى صلاَتَيْ الْعِشَاءِ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيِنِ ثُمَّ قَامَ إِلَى جَذْعٍ في جَانِبِ الْمَسْجِدِ فَاسْتَنَدَ إِلَيْهِ مُغْضِباً فَخَرَجَ سُرْعَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ قَصُرَتِ الصَّلاَةُ، وَفِي الْقَوْمِ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَن يُكَلِّمَاهُ فَقَالَ ¬

_ (¬1) المُنَسْتِير، بضم أوله وفتح ثانيه وسكون السين المهملة وكسر التاء المثناة من فوقها وياء وراء، موضع بين المهدية وسوسة بأفريقية بينه وبين كل واحدة منهما مرحلة، وهي خمسة قصور يحيط بها سور واحد يسكنها قوم من أهل العبادة والعلم. قال البكري: ومن محاسن سوسة المذكورة المنستير .. ويقال: إن الذي بني القصر الكبير بالمنستير هرثمة بن أعين سنة 180. معجم البلدان 5/ 209. وقال صاحب شجرة النور الزكية هي قرية بتونس كان يصوم بها أبو بكر بن عبد الرحمن. شجرة النور 1/ 107. (¬2) أحمد بن عبد الرحمن الخولاني، أبو بكر، من أهل القيروان وشيخ فقهائها في وقته مع صاحبه أبي عمران القابسي، توفي سنة 432 هـ. الديباج 1/ 177 - 178، شجرة النور الزكية 1/ 107. (¬3) في (م) عنها.

له رجُلٌ يُقَالُ لَهُ ذو الْيَدَيْنِ: أَقَصُرَتِ الصَّلاةُ أَمْ نَسِيتَ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَ النَّاسُ. نَعَمْ. فَقَامَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، فَصَلى الْرَّكْعَتَيْنِ الْلَّتَيْنِ بَقيَتَا علَيه ثمَ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ ثُمَّ رَفَعَ فَكَبَّرَ ثُمَّ سَجَدَ فَكَبَّرَ ثمَّ رَفَعَ فَكبَّر ثُم سَلَّمَ" (¬1). الحديث الثاني: "رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، صَلَّى الْعَصرَ فَسَلَّمَ منْ ثَلاَثٍ فَقالَ لَهُ رَجلٌ يُقَالُ لَهُ الْخِرْبَاقُ: يَا رسُولَ الله، سَلَّمْتَ مِن ثَلَاثٍ، فَخَرَجَ مُغْضِباً يَجُرُّ رِدَاءهُ وَقَالَ: أَحَقَّاً مَا يَقُولُ لهذَا؟ قَالُوا: نَعَمْ فَصَلَّى الْرَّكْعَةَ الَّتَّي بَقِيَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَلَّمَ كَما تَقَدَّمَ" (¬2). الحديث الثالث: روى ابن مسعود رضي الله عنه: "أَنَ النَّبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، صَلَّى الظهْرَ خَمْساً فَلَمَّا سَلَّمَ توَشْوَشَ الْقَوْمُ فَقَالَ النِّبِي - صلى الله عليه وسلم -: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: أزيدَ في الصَّلاة؟ قَالَ: وَمَا ذلِكَ؟ قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْساً. فَكَبَّر النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ وَقَالَ: مَنْ زَادَ في صَلَاتِهِ أَوْ نَقُصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ" (¬3). الحديث الرابع: روى عبد الله بن مالك بن بحينة "أَنَّ النَّبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، صَلَّى الظُّهْرَ فَقَامَ مِنِ اثْنتَيْنِ وَلَمْ يَجْلِسْ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ بَعْدَ ذلِكَ" (¬4). ¬

_ (¬1) متفق عليه البخاري في كتاب السهو باب من لم يتشهد في سجدتي السهو 2/ 86 وفي باب من يكبر في سجدتي السهو 2/ 86، وفي المساجد باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره 1/ 86، وفي صلاة الجماعة باب هل يأخذ الإِمام إذا شكّ بقول الناس 1/ 120، ومسلم في المساجد باب السهو في الصلاة 1/ 403، وأبو دواد 1/ 612، والترمذي 2/ 247، والنسائي 3/ 20 - 241، وابن ماجه 1/ 383، وابن الجارود 127، والبيهقي 2/ 254، وأحمد 2/ 234 - 235، 248، 284، والبغوي في شرح السنة 3/ 292. (¬2) مسلم كتاب المساجد باب السهو في الصلاة والسجود له 1/ 404 - 405، وأبو داود 1/ 518، والنسائي 3/ 26، وابن ماجه 1/ 384، وأبو عوانة 2/ 198 - 199، والبيهقي 2/ 335، 354 - 359، والطيالسي 847 وأحمد 4/ 427 - 441. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في السهو، باب إذا صلى خمساً 1/ 85، ومسلم في كتاب المساجد باب السهو في الصلاة 1/ 401 - 403، وأبو داود 1/ 519، والترمذي 2/ 238 - 239، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي 3/ 31 - 32، وابن ماجه 1/ 380. (¬4) متفق عليه، أخرجه البخاري في باب ما جاء في السهو إذا قام من ركعتي الفريضة 2/ 85، وفي باب من يكبّر في سجدتي السهو 2/ 87، وفي صفة الصلاة باب من لم يرَ التشهد الأول واجباً 1/ 137 وفي باب التشهد

الحديث الخامس: روى أبو سعيد الخِدريّ رضي الله عنه "أَنَّ النَّبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: إِذَا شَك أحَدُكُمْ في صَلاَتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثاً أَمْ أَرْبَعاً فَلْيَبْنِ عَلَى الْيَقِينِ وَلْيَطْرَحِ الشَّكَّ. وَفِي رِوَايَةٍ فَلْيُصَلِّ رَكْعَةً وَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وَهُوَ جَالِسٌ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَإِنْ كَانتِ الركْعَةُ الّتِي صَلَّى خَامِسَةً شَفَعَهَا بِهَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ وَإِنُ كَانَتْ رَابِعَةً فَالسَّجْدَتَانِ تَرْغِيمٌ لِلْشيْطَانِ" (¬1). الحديث السادس: روى أبو هُرَيْرَة، رضيَ الله عنه، عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، "أنَهُ قَالَ: إِنَّ أحَدَكُمْ يَأتِيهِ الشَيْطَانُ في صَلَاتِهِ فَيَلْبِسُ عَلَيْهِ فَإِذَا وَجَدَ ذلِكَ أَحُدُكُمْ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ" (¬2). أما الحديث الأول فرأيت بالثغر (¬3) من يجاوز فيه الحد، فأخرج منه مائة وخمسين مسألة من الفقه، وقد استوفينا الغرض منه في شرح الصحيح والقدر الذي تستضيئون به الآن أن العلماء اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: القول الأول: أن هذا الحديث إنما كان في صدر الإِسلام أيام كان الكلام مباحاً في الصلاة، ثم نسخ ذلك الله تعالى فأمر بالقنوت فصار الحديث منسوخاً لا متعلق فيه، رواه المدنيون عن ¬

_ = الأول 1/ 137، ومسلم في المساجد باب السهو في الصلاة 1/ 399، وأبو داود 1/ 625، والترمذي 2/ 235 - 236، وقال: حسن صحيح، والنسائي 3/ 34، وابن ماجه 1/ 381، والبغوي في شرح السنة 3/ 289. (¬1) رواه مسلم في كتاب المساجد باب السهو في الصلاة والسجود له 1/ 400، وأبو داود 1/ 621، والنسائي 3/ 27، وابن ماجه 1/ 382، والدارمي 1/ 351، وأبو عوانة 2/ 192، وابن أبي شبية 1/ 175، وابن الجارود في المنتقى 126، وأحمد 3/ 72، 83، 87، من طرق عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري به. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في السهو باب السهو في الفرض والتطوّع 2/ 87، ومسلم في المساجد باب السهو في الصلاة 1/ 398، وأبو داود 1/ 624، والنسائي 3/ 30، وابن ماجه 1/ 384، والبغوي في شرح السنة 3/ 280. (¬3) الثغر مأخوذ من الثغرة وهي الفرجة في الحائط، وهي في مواضع كثيرة منها ثغر الشام وجمعه ثغور، وهذا الاسم يشمل بلاداً كثيرة وهي البلاد المعروفة اليوم. معجم البلدان 2/ 79، اللباب 1/ 213.

مالك رضي الله عنه (¬1). والقول الثاني: أن هذا إنما يكون فيمن سلَّم من اثنتين خاصة دون غيره وإلى هذا صغى سحنون (¬2). القول الثالث: أن معنى هذا الحديث كله مسترسل على الأزمان، عام في جميع الأقوال والأفعال، وهو المشهور من قول علمائنا، رضي الله عنهم، وبه (¬3) قال (ش) وعامة العلماء (¬4). أما اختيار المدنيين أنه منسوخ فقول باطل لأن من شروط النسخ معرفة التاريخيْن وقد جهلت ههنا (¬5)؛ لأن الكلام المنهى عنه هو المطلق وهذا كلام في إصلاح الصلاة لا بدّ لها منه، ولا تتم دونه، وأما اختيار سحنون فهو ضعيف لأن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، قد جرى له ذلك في ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر روى ابن وضاح عن الحارث بن مسكين قال: أصحاب مالك كلهم على خلاف ما رواه ابن القاسم عن مالك في مسألة في اليدين، ولم يقل بقوله إلا ابن القاسم وحده وغيره يأبونه ويقولون إنما كان ذلك في أول الإِسلام، وأما الآن فقد عرف الناس الصلاة فمن تكلّم فيها أعادها. إلى أن قال: وأما الكوفيون. أبو حنيفة وأصحابه والثوري، فذهبوا إلى أن الكلام في الصلاة على كل حال سواء كان سهواً أو عمداً، لصلاح كان أو لغير ذلك، يفسد الصلاة. وزعم أصحاب أبي حنيفة أن حديث ذي اليدين منسوخ بحديث زيد بن أرقم وابن مسعود. ثم قال: أمّا ما أدعاه العراقيون من أن حديث أبي هريرة منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم فغير مسلم لهم، ولكنه أختص من تحريم الكلام معنى ما تضمنه لأن حديث أبي هريرة كان عام خيبر هذا ما لا خلاف بين العلماء فيه فإن قيل كيف يصح الاحتجاج بحديث ابن مسعود في تحريم الكلام في الصلاة بمكة وزيد بن أرقم رجل من الأنصار يقول كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه حتى نزلت {وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ}. قال أبو عمر: زيد ابن أرقم أنصاري وسورة البقرة مدنية. الاستذكار 2/ 223 - 229. وقال البغوي: حدوث هذا الأمر إنما كان بالمدينة لأن راويه أبو هُرَيْرَة وهو متأخر الإِسلام وقد رواه عِمران ابن حصين وهجرته منكرة. شرح السنة 3/ 295. (¬2) هذا القول حكاه عنه ابن عبد البر في الاستذكار وذكر أنه رواه سحنون عن ابن القاسم عن مالك. الاستذكار 2/ 221 - 222، وانظر نيل الأوطار 3/ 134. (¬3) قال ابن عبد البر قال الشافعي وأصحابه وسائر أصحاب مالك إن المصلي إذا تعمَّد الكلام وهو في الصلاة عالماً أنه لم يتمّها فقد فسدت صلاته، فإن تكلم ساهياً أو تكلم وهو يظن أنه قد أكمل صلاته وأنه ليس في صلاة عند نفسه فهذا يبني ولا يفسد عليه كلامه صلاته. الاستذكار 2/ 225. (¬4) انظر مذهب الشافعي في روضة الطالبين للنووي 1/ 315، وشرح النووي على مسلم 5/ 56، وحاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 1/ 316. (¬5) في (ك) و (م)، و (ص) زيادة من شروطه تضاد الأمرين حتى لا يصح أن يجتمعا ولا مضادة ههنا.

مسألة أصولية

السلام من ثلاث في حديث عمران، وقد جرى له أيضاً مثل ذلك في السلام من خمس في حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، وهذا جمود لا يليق بمرتبة سحنون ولا بتدقيقه في الفروع والصحيح أنه جائز كما قلناه في كل مسألة. مسألة أصولية: قد بيَّنَّا في المتوسط والمقسط وغيرهما القول في عصمة الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، من الذنوب وبيَّنَّا، في كتاب المشكلين، تأويل ما ورد في ذلك في القرآن ظاهراً، ورددناه إلى أصل العصمة بالدليل وهو الذي ندين الله تعالى به ونجزم القول على أنهم معصومون، وإن كان الناس قد اختلفوا في الذنوب المتعلّقة بالأفعال فقد اتفقوا على أن الكذب لا يجوز أن يقع منهم لا سهواً ولا عمداً؛ لأن القول هو الذي يتبين به الشرع، فلو جاز أن يتطرق إليه ذلك لما وقعت الثقة فيه بالبيان، فإذا ثبت هذا عدنا إلى قوله، - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ ذلِكَ لَمْ يَكُنْ" وفي رواية أخرى "فَلَمْ تُقْصَرْ وَلَمْ أَنسَ" (¬1)، وقد كان، - صلى الله عليه وسلم -، نسي فإن لم يسلّم متعمداً؛ فمن الناس من قال: هذا نسيان قيل له (¬2): فيه على ذلك إخبار عما كان بأنه لم يكن، وهذا لا يجوز نسياناً عليه لأنه من باب الكذب. سمعت شيخنا (¬3) أبا (¬4) المظفر شاهفور (¬5) يقول. أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لم يقصر صحيح. وقوله: لم أنسَ لم يرد به ولم أنسَ الركعتين، وإنما أراد به ولم أسلّم ساهياً بل سلّمت متعمِّداً، وقد بيَّنَّا تمام الكلام في كتاب المشكلين. وقد اختلف الناس في رجوع النبيّ،- صلى الله عليه وسلم -، إلى القصد هل كان بما ظهر إليه ورأى أم كان بقول الناس وشهادتهم عنده؟ وهذا فصل اختلف الناس فيه وتحزَّبوا كثيراً. فإن وقفنا أنفسنا على النظر فالظاهر أنه عمل بشهادتهم (وكذلك ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب المساجد باب السهو في الصلاة والسجود له 1/ 404 من رواية أبي هُرَيْرَة، وقد تقدم تخريجه أطول من هذا. (¬2) البخاري في كتاب السهو باب عن يكبّر في سجدتي السهود 2/ 86 من حديث أبى هريرة. (¬3) زيادة في (م) سمعت شيخنا أبا المظفر شهفور وهو غلط لأنه لم يدركه. (¬4) وفي (م) أبا سعد الزنجاني محمَّد بن طاهر بالمسجد الأقصى يقول سمعت أبا المظفر وهو الصواب، وفي (ك) أبا بكر الزنجاني، وفي (ص) غير واضح، ولم أعثر على ترجمته. (¬5) هو شهفور بن طاهر بن محمَّد الإسفراييني، أبو المظفر، الإِمام الأصولي الفقيه المفسر ارتبطه نظام الملك بطوس، توفي سنة 471 هـ طبقات الشافعية 5/ 11. سير أعلام النبلاء 18/ 401، تبيين كذب المفتري ص 276.

روي عن مالك، رضي الله عنه، في مثل هذه النازلة) (¬1). وإن استقرينا الأثر فقد روى أبو داود في سننه في هذا الحديث بعينه: "فَلَمْ يَرجِعْ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، حَتَى يَقَّنَهُ الله تَعَالَى" (¬2). وأما حديث عمران فهو نظير حديث ذي اليدين في النقصان والسؤال والرجوع والعمل في السجود. وأما حديث ابن مسعود فشوَّش القوم، أي اضطربوا، ورري وتوشوشوا، أي تكلموا بكلام خفي، وسألهم النبيّ،- صلى الله عليه وسلم -، فأجابوه فيه وليس فيه زيادة على ما تقدم إلا فصلين. أحدهما: أن ذلك كله كان بعد تمام الصلاة بخلاف حديث أبي هريرة وعمران فإنها كانت مراجعة في أثناء الصلاة. وأما الفصل الثاني: فسجوده للركعة الزائدة كما سجد في الحديثين المتقدمين للسلام الزائد. وأما حديث عبد الله بن بحينة ففيه سقوط الجلسة الوسطى وجبرها بالسجود كما تقدم بيانه وفيه السجود قبل السلام. وههنا احتمالان نشأ للعلماء منه نظران. أحدهما: أن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، تذكر ههنا للنقصان من قبل نفسه فسجد قبل السلام، وفي تلك الأحاديث تذكر بعد السلام ولم يرجع النبيّ،- صلى الله عليه وسلم -، إلى الجلوس ويحتمل أن يكون تذكر وهو قائم بأثر الجلوس (¬3)، ويحتمل أن يكون تذكر وهو في الجلوس الآخر، ويحتمل أن يكون تذكر فيما بينهما، وقد روى المغيرة بن شعبة عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ نَسِيَ ¬

_ (¬1) لم أطلع على هذا العزو في الموجود من كتب مالك. وقد نقل الباجي عن ابن حبيب أنه يرجع لقول المأمومين. قال: قال ابن حبيب إذا سلَّم الإمام على يقين ثم شك بني على يقينه، فإن سأل من خلفه فأخبروه أنه لم يتمُّ فقد أحسن وليتمَّ ما بقي ويجزيهم، ولو كان الفذ سلَّم من اثنتين على يقين ثم شك فقد قال أصبغ لا يسأل من حوله فإن فعل فقد أخطأ، بخلاف الإِمام الذي يلزمه الرجوع إلى يقين من معه، فهذه المسألة مبنية على أن الشك بعد السلام على اليقين مؤثر ويوجب الرجوع إلى الصلاة إلا أنه مع ذلك لم يجعلوا له حكم الشك داخل الصلاة؛ لأنه لو شكّ قبل السلام لم يجز له أن يسأل أحداً فإن فعل استأنف الصلاة، قاله ابن حبيب وكذلك لو سلَّم على الشكِّ ثم سألهم، وقاله ابن القاسم وأشهب وابن وهب وقال عبد الملك في الواضحة وكتاب ابن سحنون تجزيه. المنتقى 1/ 173. (¬2) سنن أبي داود 1/ 616، من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة وعبيد الله بن عبد الله عن أبي هُرَيْرَة بهذه القصة قال (وَلَمْ يَسْجُدْ سَجْدَتَيْ السَّهْوَ حَتَّى يَقنه الله). (¬3) في (م) السجود.

الْجَلْسَةَ الْوُسْطَى فَإِنْ تَذَكَّرِ قَبْلَ أن يَسْتَويَ قَائِماً فَلْيَتَمادى. ولا يرجع) (¬1). وروي عن ابن شهاب أنه قال: "كَانَ آخِرُ الَأمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -،الْسُّجُودَ لِلسّهْو قَبْلَ السّلاَمِ" (¬2)، وأخذ به الشافعي في كل حال (¬3). وقد قال (ح): السجود للسهو كله بعد السلام لأنه إن سجد قبل السلام لم يأمن أن يعتريه بعد ذلك السهو (¬4). ونظر مالك، رضي الله عنه، بصادق بصيرته إلى اختلاف الحالين، وهي الزيادة والنقصان، فجعلهما نازلتين وأقرّ كل واحد منهما في نصابها، والذي مال إليه (ش) لا يشبه مرتبته في الأصول لأن حديث عبد الله بن بحينة إن كان آخر الأحاديث فلا يجوز أن يكون ناسخاً لما ¬

_ (¬1) أبو داود 1/ 629، وابن ماجه 1/ 381، وأحمد. انظر الفتح الرباني 2/ 154 والدارقطني 1/ 378 - 379، والبيهقي في السنن الكبرى 2/ 343، كلهم من طريق جابر الجعفي عن المغيرة بن شبل الأحمسي عن قيس ابن أبي حازم عن المغيرة بن شعبة أقول: كل الطرق المتقدمة فيها جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي، أبو عبد الله، الكوفي ضعيف رافضي من الخامسة، مات سنة 127، وقيل 132/ د ت ق ت 1/ 123، وقال في ت ت: قال أبو حنيفة: ما لقيت، فيمن لقيت، أكذب من جابر الجعفي ما آتيه بشيء من رأي إلا جاء فيه بأثر. وقال النسائي: متروك الحديث، ومرة قال: ليس بثقة، وقال ابن عدي: عامة ما قذفوه به أنه كان يؤمن بالرجعة ومع هذا إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق ت ت 4/ 246، وانظر الكامل 2/ 537، الضعفاء للعقيلي 1/ 191، وقال الذهبي: هو من أكبر علماء الشيعة وثقه شعبة فشذّ وتركه الحفاظ. الكاشف 1/ 77 والمجروحين لابن حبان 1/ 208، والمغني 1/ 126، وقد تابع جابراً إِبراهيم بن طهمان وقيس بن الربيع عند الطحاوي في شرح معاني الآثار. 1/ 440 أما إبراهيم فقد قال عنه الحافظ: ثقة يغرب تكلم فيه بالإرجاء ويقال رجع عنه ت 1/ 36، ت ت 1/ 129، والكاشف 1/ 82. وأما قيس بن الربيع فصدوق تغيّر لما كبر، أدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدّث به ت 2/ 128، وت ت 8/ 391، الكاشف 2/ 526. والحديث ضعيف ولكن صححه الشيخ ناصر بالمتابعة المتقدمة. انظر تعليقه على المشكاة 1/ 322. (¬2) رواه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 341 وعزاه للشافعي في القديم عن مطرف بن مازن عن معمر عن الزهري وقال: وذكره أيضاً في رواية حرملة، قال البيهقي: إلا أن قول الزهري منقطع لم يسنده إلى أحد من الصحابة، ومطرف بن مازن غير قوي. أقول: مطرف بن مازن، الذي أشار إليه البيهقي، قال فيه يحيى بن معين: كذّاب، ومرة: ضعيف. الضعفاء للعقيلي 4/ 216، وقال ابن عدي: مطرف بن مازن الصنعاني يُكنى أبا أيوب مات بمنبج وكان قاضي صنعاء. عن ابن معين قال: قال لي هشام بن يوسف: وسألته عن مطرف بن مازن فقال: هو والله كذّاب، وكذا قال يحيى بن معين، وقال النسائي: ليس بثقة. ثم قال: ولمطرف أحاديث أفراد ينفرد بها عمن يرويها عنه ولم أرَ فيما يرويه متناً منكراً. الكامل 6/ 2373، لسان الميزان 6/ 47، الميزان 4/ 125. درجة الحديث: ضعيف لانقطاعه ولضعف مازن. (¬3) انظر الروضة 1/ 315 وشرح النووي على مسلم 5/ 56. (¬4) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 355.

بيَّنَّا؛ لأن من شرط النسخ التماثل في الفعل والتضاد بتعذر الجمع، وحديث عبد الله بن بحينة نقصان فعل. وسائر الأحاديث زيادة قول فكيف يصح أن يقال إن أحدهما رفع الآخر والجمع بينهما ممكن، وأما حديث أبي هُرَيْرَة فاختلف العلماء فيه فمنهم من قال: هو نقض لما تقدم من الأحاديث وتمام له فتارة روي مضافاً وتارة روي مفصولاً. وقال آخرون: بل هو حديث بيِّن فيه حكماً آخر وهو الرجل الذي يكثر عليه الوهم في صلاته، وقد غلب عليه لا يمكنه الاحتراز منه؛ فهذا يغلبه ويسجد سجدتين بعد السلام، وبذلك أفتى القاسم بن محمَّد لمن سأله (¬1). وروي عن مالك، رضي الله عنه إنه (¬2) قال به. وأما السجدتان اللتان قال هما ترغيم للشيطان فإنه معنى ذلك أن الشيطان أراد أن ينقص من صلاته أو يفسدها عليه بإدخال ما ليس منها فيها فيسجد العبد حينئذ إخزاء له لقول النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا سَجَدَ ابْنُ آدَمَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي وَيقُولُ يَا ويلَتَاهْ أُمِرَ ابْن آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْت فَلِيَ النَّارُ" (¬3). وعلى هذه الأحاديث تنبني مسائل السهو كلها تأصيلًا وتفصيلاً وتفريعاً وتعليلاً وقد أشرنا إلى جمل من ذلك في شرح الصحيح فليُنظر فيه، فإن هذه العجالة لا تقتضيه فقد بيَّن في هذه الأحاديث أن سجود السهو بتكبير وسلام ولم يذكر لهما تشهُّداً. واختلف علماؤنا فيه؛ والصحيح سقوطه كما بيَّناه في موضعه، وقد تقدم وروده في هذه الأحاديث. ¬

_ (¬1) الموطأ 1/ 100 "عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَ رَجُلاً سَأَلَ الْقَاسمَ بْنَ مُحمَّدٍ فَقَالَ: إني أَهِمُّ في صَلَاتِي فيَكْثُرُ ذلِكَ عَلَيَّ. فَقالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: امْضِ في صَلاَتِكَ فإِنَّهُ لَنْ يَذْهَبَ عَنْكَ حَتَّى تَنْصَرِف وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا أَتْمَمْتُ صَلاَتِي" لم أرَ من الشرّاح من ساق لهذا الأثر سنداً حتى أبحثه وأحكم عليه. (¬2) قال ابن عبد البر: هذا الباب كله محمول عند مالك وأصحابه على أنه من يكثر عليه الوهم فلا ينفكّ منه أو لا يكاد ينفكّ مه فيسمونه المستنكح بكثرة الوهم، فمن كانت هذه حاله أجزاه أن يسجد سجدتين بعد التسليم لترغيم الشيطان. الاستذكار 2/ 262. (¬3) مسلم كتاب الأيمان باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة 1/ 87. وأخرجه ابن ماجه 1/ 334، وأحمد 3/ 443، كلهم من رواية أبي هُرَيرَة.

النظر في الصلاة إلى ما يشغلك عنها

وأما الطهارة فواجبة لها قبل الصلاة إجماعاً لأنها من جملة الصلاة وهي أيضاً مفتقرة إلى الطهارة في الصحيح من المذهب، وإن كانت بعد السلام, لأنها ركن من أركان الصلاة فافتقرت إلى الطهارة كالركوع والجلوس. فإن قيل: لو كانت من أركان الصلاة ما فعلت بعد تمامها، قلنا: وإن فعلت بعد تمامها فهي من تمامها. فإن قيل: لو كانت من تمامها لفسدت الصلاة بتركها، قلنا: ليس كل ما كان من تمام الصلاة تفسد بتركه كهيئة الجلوس والقراءة والقيام مع السورة. النظر في الصلاة إلى ما يشغلك عنها ذكر فيه حديث أبي جهم (¬1) في الخميصة (¬2). مقدمة أصولية: اعلموا، أفادكم الله تعالى المعارف، أن الصلاة مشتملة على أفعالٍ منها ظاهرة تنتشر على الجوارح، ومنها باطنة تستقر في القلب، وكما أن التكبير يضبط الأفعال المطلوبة بالجوارح ويحرم سائر الأفعال المسترسلة عليها فكذلك عقد القلب بالنية للوقوف بين يدي عالم الخفية والاستقبال للمناجاة مع الله تحرم على القلب سائر الخواطر المسترسلة ويلزمه الإقبال على ما هو بصدده بالكلية، فلا يكون له خاطر إلا في صلاته، ولا يمر على قلبه سواه. إلا أن الباري، تبارك وتعالى، لمّا جعل القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن ورتب عليها لمَّتين لمة من الملك ولمة من الشيطان عسر على العبد ضبط قلبه، وهان عليه ضبط جوارحه، ولهذا كان النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، يقول في كلامه: "لَا ومُقَلِّبُ الْقُلُوبِ" (¬3) فجعلها ¬

_ (¬1) الموطّأ 1/ 97 والحديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب إذا صلّى في ثوب له أعلام 1/ 104، ومسلم في كتاب المساجد باب كراهية الصلاة في ثوب له أعلام 1/ 391، وأبو داود 1/ 240، والنسائي 2/ 72، والبيهقي 2/ 282، وأحمد 6/ 37، 46، 199، 208، من عدة طرق "عَنْ عائشة قَالَت: قَامَ رَسُول الله، - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي في خَمِيصَةٍ ذَاتِ أَعْلامٍ فَنَظر إلى عَلَمهَا فَلَما قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ: اذهبُوا بِهذِهِ الْخَمِيصَةِ إلَى أَبِي جَهْمٍ". (¬2) ثوب خز أو صوف معلم، وقيل لا تسمّى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وكانت لباس الناس قديماً وجمعها الخمائص. النهاية 2/ 81. (¬3) البخاري في كتاب الأيمان والنذور باب كيف كانت يمين رسول الله, - صلى الله عليه وسلم - 8/ 160، والترمذي 4/ 113 عن ابن عمر.

في اليمين أصلاً في التعظيم تنبيهاً على عظيم القدرة، وتعريفاً للعبد أنه تحت الغلبة والذلة. وحين استقرت الحكمة بالقدرة على هذه النسبة ورفع. عنا بفضله ما لا طاقة لنا به سمح للعبد في استرسال الخاطر على القلب في الصلاة بما ليس منها، فإذا تذكَّر عاد إليها. فإن استمر مختاراً من قبل نفسه وأعرض عن صلاته بطلت حتى اختلف العلماء في أفعال الصلاة التي تقع في حال شرود النية إلى الخواطر المسترسلة وعزوب الفكر عن الحضور بين يدي الله تعالى هل تكون مقبولة معتداً بها أم لا؟ فصغا الفقهاء إلى أن ذلك مجزٍ عنه معتدّ به، وماق لزهّاد إلى أنه لا يعتدّ بها ولا يكتب له أجرها (¬1)، وورد في ذلك أثران عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -. أحدهما: "أنَّ الرَّجُلَ لَيصَلّي الصَّلاةَ فَيُكْتبُ لَهُ نِصفُهَا ثُلُثُهَا رُبْعُهَا حَتَّى ذَكَرَ عُشْرهَا" (¬2). والحديث الثاني: "أَوَّلُ ما ينْظَرُ فِيهِ مِنْ عَمَل الْعَبْدِ الصَّلاَةُ فَإِنْ جَاءَ بِهَا نُظِرَ في سَائِرِ عَمَله وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهَا لَمْ يُنْظَرُ لَه في شَيْء" (¬3)، ومن طريق أخرى يقول الله تعالى: ¬

_ (¬1) قال الغزالي: نقل عن بشر بن الحارث فيما رواه عنه أبو طالب المكي عن سفيان الثوري إنه قال: من لم يخشع فسدت صلاته، وروي عن الحسن إنه قال: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. إحياء علوم الدين مع شرحه إتحاف السادة المتقين 3/ 115. (¬2) أبو داود 1/ 503 ونقل الزبيدي عن العراقي إنه أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان وأحمد كلهم من حديث عمّار بن ياسر وقال رجاله رجال الصحيح, إتحاف السادة المنقين 3/ 116. درجة الحديث: رمز له السيوطي بالصحة, وأقره المنّاوي، ونقل عن العراقي قوله: رجاله رجال الصحيح. فيض القدير 2/ 233 - 234، وكذلك صححه الزبيدي. (¬3) أبو داود 1/ 540، وأحمد في المسند 2/ 425، والحاكم 1/ 262، كلهم عن طريق يونس بن عبيد عَنِ الْحسَنِ عَنْ أَنَسٍ بْنِ حَكِيمٍ الضَّبِّي أَنَّه خَافَ زمَنَ زِيَادٍ، أوْ ابْن زِيَادٍ, فَأَتَى المَدِينة فَلَقى أَبَا هريْرَةَ فانْتسبنِي فَانْتسَبتُ لَه فَقال: يَا فتى ألا أحدّثكَ حدِيثا لَعل الله ينَفعكَ به؟ قلْت: بلَى رحِمكَ الله، قَالَ: إنَّ أَوَلَ ما يُحَاسَبُ بِهِ الناس يَوْم القِيَامةِ الصَّلَاة. قالَ. يقُول رَبُّنا عزَّ وَجل لِمَلائِكَتِهِ وَهو أَعْلَمُ. انظُروا في صلاةِ عبديَ أَتمها أَوْ نَقَصَهَا؟ فإِن كانَت تَامة كُتبتْ لَهُ تَامَّة، وإنْ كانَ انْتَقص مِنهَا شَيْئاً قالَ: انْظُروا هَلْ لِعَبْدي مِنْ تَطَوُّع؟ فإن كان لَه تَطوع قَالَ: أتمُوا لِعبْدي مِنْ تطوعِه .. " قال يونس: وأحسبه ذكر النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال الحاكم بعد روايته: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، ورواه الترمذي من طريق همام قال: حدثي قتادة عن الحسن عن حريث بن قبيصة قال: قدمت المدينة فقلت: اللهم يسِّرْ لي جليساً صالحاً، قال: فجلست إلى أبي هرَيْرَة، فقلت: حدّثني بحديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. =

انْظروا هَلْ لِعَبْدي مِنْ تَطَوُّعٍ فَكَلِّمُوا لَهُ بِهَا فَرِيضَتَهُ (¬1) واختلف الناس في هذا التكميل؛ فمنهم من قال: إن ترك العصر مثلاً وصلَّى أربع ركعات متنفّلاً جُبرت بها، وقال أرباب القلوب: لا يرقع الجديد بالخرق (¬2). والذي أراه، وهو الأولى بنا والأقوى في أدلتنا، أن رجلاً إن عزبت نيته مغلوباً أن صلاته كلها مقبولة لأن الله تعالى قد رفع الحرج عنا وإنما بقيت ههنا نكتة أصولية، ننبِّهكم عليها حتى تكونوا من أهلها، إن شاء الله تعالى، وهو أن عزوب النية إن كان بأمر عرض في الصلاة، وبسبب عارض، فالمسألة كما ذكرنا، من غير شك، وإن كانت بأسباب متقدمة قد لزمت العبد من الانهماك في الدنيا والتعلّق بعلائقها الزائدة والتشبث بفضولها التي يستغنى عنها، فيقوى ههنا ترك الاعتداد بالصلاة لأن ذلك من قبله وسببه واقع باختياره. ألا ترى النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، لما ألهته الخميصة عن لحظة في الصلاة ونظر إلى علمها كيف أخرجها من بيته وأسقط المنفعة بها أصلاً حتى لا يتعلق له بها خاطر، فكان الذي أصابه في الصلاة من الإِقبال على الأعلام بحكم البشرية، وكان إخراجها عن ملكه حتى تسلم عبادته مرتبة النبوَّة، وقد روى أبو داود أنه قال: "اذْهَبُوا بِهذِهِ الْخَمِيصَة إِلَى أَبِي جَهْمٍ وَأْتُونِي بِكَرْدِيَّةٍ فَقَالُوا: يَا رَسولَ الله الْخَمِيصَةُ كَانَتْ خَيْراً مِنَ آلْكَرْدِيّ" (¬3) (¬4) واختار - صلى الله عليه وسلم - الخير من جهة العبادة على الخير من ¬

_ = الترمذي 2/ 269 - 271، ورواه أحمد عن يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين الواسطي عن علي بن زيد ابن جدعان عن أنس بن حكيم الضبي قال: قال لي أبو هريرة: إذا أتيت أهل مصرك فأخبرهم أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته المكتوبة". المسند 2/ 290، وابن ماجه 1/ 458. وقال الشيخ أحمد شاكر عن هذا الإسناد الأخير: إسناد صحيح وعلي بن زيد ابن جدعان ثقة وقال عن الذي قبله هذا حديث مرفوع وإن شك يونس في رفعه لأن مثله لا يقال بالرأي ولأنه ورد عن أبي هريرة مرفوعاً بإسناد الترمذي، تعليق أحمد شاكر على الترمذي 2/ 272. درجة الحديث: صححه الحاكم والذهبي وأحمد شاكر والشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة 1/ 419 فقال: الحديث صحيح لشواهده الكثيرة. (¬1) هذا طرف من الحديث السابق. (¬2) لا أدري ماذا يقصد بأرباب القلوب هنا هل هم الصوفية أم ماذا؟ (¬3) أي: رداء كردياً. عون المعبود 3/ 183. (¬4) سنن أبي داود 1/ 562 من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: سمعت هشاماً يحدث عن أبيه عن عائشة بهذا الخبر. أقول: الحديث فيه عبد الرحمن بن أبي الزناد بن عبد الله بن ذكران المدني، مولى قريش، صدوق. =

جهة المالية، وقد روى البخاري أيضًا عن عقبة ابن عامر أن النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -: "صَلَّى فِي فَرُّوجِ (¬1) حَرِيرٍ فَلَمَّا انْصرَفَ نَزَعَه نَزْعًا شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ وَقَالَ: لَا يَنْبَغِي هذَا لِلْمُتَّقِينِ" (¬2)، إشارة إلى أنه كان من أسباب الدنيا ومن جملة علائقها الشاغلة عن العبادة، وقد استوفينا الكلام على هذه الأحاديث في مواضعها، وهذا هو معنى قول عمر بن الخطاب: (مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ) (¬3)، وانتزعها عمر من قول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} (¬4)، فهذا حفظها بالخشوع فيها والإِقبال عليها، ثم قال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (¬5)؛ فهذا هو المداومة ¬

_ = تغير حفظه لمّا قدم بغداد، وكان فقيهاً من السابعة وولي خراج المدينة فحُمِدَ. مات سنة 174 هـ وله 74 سنة/ خت م ع ت/ 480 قال ابن معين: أثبت الناس في هشام بن عروة، وقال أبو حاتم وغيره. لا يحتج به الكاشف 2/ 164، وانظر ت ت 6/ 170، الكامل لابن عدي 4/ 1585، تاريخ بغداد 10/ 228. درجة الحديث: عندي أنه حسن لغيره لأنه رواه عبد الرحمن عن هشام وهو أثبت الناس فيه، كما قال ابن معين. (¬1) هو القباء الذي فيه شق من خلفه. النهاية 3/ 423. (¬2) متفق عليه البخاري في كتاب الصلاة باب من صلى في فرّوج حرير تم نزعه 1/ 105 وفي كتاب اللباس باب القباء وفروج حرير هو القباء 7/ 186، ومسلم في كتاب اللباس والزينة باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء وخاتم الذهب والحرير على الرجل وإباحته للنساء 3/ 1646، والنسائي 2/ 72 وأحمد 4/ 149 و 150. (¬3) الأثر رواه مالك في الموطأ 1/ 6 عن نافع مولى عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله. قال الزرقاني: هذا الأثر منقطع لأن نافعاً لم يلقَ عمر، قال: وهذا وإن كان منقطعاً إلا أنه يشهد له أحاديث أخر مرفوعة منها ما أخرجه البيهقي في الشعب من طريق عكرمة عن عمر قال: "جَاءَ رَجُل فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَيُّ شَيْءٍ أحَبُّ عِند الله فِي الإسْلاَمَ؟ قَالَ: الصَّلَاة لِوَقْتِهَا وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَلَا دِينَ لَهُ وَالصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّين". وفي البخاري عن أنس: "مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قِيلَ الصَّلاَةُ ألَيْس ضَيَّعْتُمْ ما ضَيَّعْتُمْ فِيهَا" وفيه أيضًا: عَنِ الزُّهْرِيِّ دَخَلتُ عَلَى أَنَسٍ بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي فَقلْت لَة: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ. لَا أعْرِف شَيْئًا مِمَا أَدركْتُ إِلا هذِهِ الصَّلَاةَ وَهذِهِ الصَّلاَةُ قَدْ ضُيِّعَتْ" شرح الزرقاني 1/ 21، وانظر البخاري كتاب مواقيت الصلاة باب تضييع الصلاة/ 94. درجة الأثر: منقطع ولكن يشهد له ما في البخاري عن أنس. (¬4) سورة اليؤمنون آية 1 - 2. (¬5) سورة المؤمنون آية 9.

عليها، وقد رأيت من لا يحافظ عليها (إلا جاملًا (¬1) حصيها). فأما (¬2) من يحفظها بالخشوع والإِقبال فلا أقدر أن أستوفي بعددهم كفّي الواحدة، وهذا الذي قال من حفظها وحافظ عليها هو الذي قال تسلية للخلق إذا غلبوا على الحق: "إِنِّي لأُجَهِّزُ جَيْشِي وَأَنَا في الصَّلَاةِ" (¬3)، وفي مثل عمر تعزب النية عبادة أخرى، فأما أمثالنا فإنما تعزب نياتنا بالاشتغال بالدنيا فاحفظوا رحمكم الله قلوبكم عن الخواطر في الصلاة كما تحفظون جوارحكم عن الأعمال من غيرها. وقد رأيت الفقهاء يقولون إذا كثرت الأعمال والكلام في الصلاة بطلت وإن كان سهوًا، وهذا إمامنا سحنون، وكان من العلماء العبّاد، قد ذكَرنا لكم ما حكاه الطرطوسي لنا من رواية ابنه محمَّد عمه من إعادة الصلاة عند عزوب نيته عنها، أَوَلَا ترى إلى أبي طلحة الأنصاري لمّا عزبت نيته في صلاته بالاشتغال ببستانه استهلكه لله تعالى عوضاً عما استهلك الخاطر من صلاته (¬4)، وقد روينا عن ابن عباس: "أَنَّ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلاَمَ، عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْخَيْلُ عَنْدَ الخُروجِ إِلَى الْجِهَادِ فَشَغَلَتْة عَنْ صَلَاةِ الْعَصرِ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ فَعَرْقَبَهَا وَنَحَرَهَا" (¬5). ................................................... ¬

_ (¬1) كذا الأصل وفي (ك) و (م) آلافًا لا أحصيها، وهي الصواب. (¬2) في (ك) و (م) وأما من. (¬3) البخاري في كتاب العمل في الصلاة باب يكفر الرجل الشيء في الصلاة 2/ 59 معلقاً، وقال الحافظ: وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي عثمان النهدي عنه بهذا سواء. درجة الحديث: صحيح كما قال الحافظ في فتح الباري 3/ 90. (¬4) رواه مالك في الموطأ 1/ 98 عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا طلحة كان يصلي في حائطه، وأورده ابن عبد البر في تجريد التمهيد 87، ونقل السيوطي في تنوير الحوالك 1/ 120 عن ابن عبد البر قوله: هذا الحديث لا أعلمه مروياً من غير هذا الوجه وهو منقطع، وكذا نقل الزرقاني عنه ذلك في شرحه للموطأ 1/ 203. درجة الحديث: ضعيف لانقطاعه كما قال ابن عبد البر لأن عبد الله بن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم لم يدرك أبا طلحة فقد مات سنة 135 هـ وعمره 70 ت ت 5/ 164، وأبا طلحة مات سنة 34. (¬5) هذا الأثر أورده السيوطي في الدر المنثور: 5/ 309 وعزاه لابن المنذر فقال: أخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج، رضي الله عنه، عن ابن عباس، رضي لله عنهما، في قوله. حب الخير قال: المال، وفي قوله: ردوها علي، قال: الخيل فطفق مسحاً قال: عقر بالسيف. وابن جريج هنا هو عبد العزيز بن جريج المكي، مولى قريش، ليّن، قال العجلي. لم يسمع من عائشة وأخطأ خصيف فصرح بسماعه، من =

قال لنا الفهري: قال إبراهيم بن أدهم (¬1): "مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لله عَوضَهُ الله" (¬2). لما عقر سليمان الخيل في ذات الله عوَّضه الله تعالى فقال: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} (¬3). وقد نبَّه مالك، رضي الله عنه، في هذا الباب، إلى فقه حسن لا يدركه إلا مثله وهو أنه أدخل هذا الباب في أثناء السهو ليبيِّن لك أن جبران السجود إنما شُرع في الأفعال الظاهرة وليس في الأفعال الباطنة مدخل، وهذا يدل على أن مذهبه الإِجزاء فيها وليس فوقه ولا بعده ما يقتدى به مثله. تحقيق: سها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في صلاته على نحو الغفلة التي أصابته في منامه حسبما بيَّنَّاه هنالك من أنها لم تكن آفة تنزل به، كما لم يكن نسيانه ذهولًا عن الطاعة بغيرها، وإنما كان الباري سبحانه يأخذه لنفسه في الحالين حتى يبين الله تبارك وتعالى به أحكام الشريعة، ولو شاء لبينها قولًا، ولكن الفعل كما بيناه أقوى في البيان وأشد تسلية الناس في هذا الموضع، وإلى هذا المعنى أشار، - صلى الله عليه وسلم -، بقوله. "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسُونَ" (¬4) تتميم: قال مالك، رضي الله عنه، ما يفعل من يسلم من ركعتين ساهياً (¬5)، وكانت الفائدة في تنبيهه على هذه الترجمة أن الحالة في زمان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، احتملت أمرين: ¬

_ = الرابعة/ ع. ت 1/ 508. وقال في تهذيب الكمال. روى عنه خصيف بن عبد الرحمن الجزري وابنه عبد الملك، قال البخاري: لا يتابع على حديثه، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: روى عن عائشة ولم يسمع منها. تهذيب الكمال 2/ ل 835. درجة الحديث: ضعيف. (¬1) إبراهيم بن أدهم بن منصور التيمي البلخي، أبو إسحاق، زاهد مشهور، كان أبوه من أهل الغنى في بلخ ورحل إلى بغداد والشام والعراق والحجاز وأخذ عن كثير من علماء الأقطار الثلاثة. مات سنة 161 هـ في حصن من بلاد الروم. تهذيب تاريخ ابن عساكر 2/ 170، البداية والنهاية 10/ 135، حلية الأولياء 7/ 367 و 8/ 3. (¬2) لم أطَّلع قول إبراهيم هذا. (¬3) سورة ص آية 36. (¬4) متفق عليه وقد تقدم تخريجه. (¬5) الموطّأ 1/ 93، وقد أورد تحت هذه الترجمة حديث أبي هُرَيْرَة المتفق عليه في قصة ذي اليدين وقد تقدم.

أحدهما: نسيانه - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: قصر الصلاة. فأما اليوم فقد سقط أحد الاحتمالين وهو القصر وبقي النسيان، فإذا فعل ذلك الإِمام سبّح به القوم رجاء أن يتذكر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ في صَلاَتِهِ فَلْيُسَبِّحْ" (¬1)، فإنه إذا سبّح التفت إليه، فإن لم يفقه عنه فليصرح له بالكلام فإن الكلام في مصلحة الصلاة جائز إذا احتيج إليه، كما فعل أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (¬2). فإن قيل: إنما تكلم أصحاب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بقدر التقصير وقد زال ذلك العذر اليوم فلا وجه للكلام. قلنا: هذا باطل لأنهم قد تكلموا بعد أن أخبر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أن الصلاة لم تُقصر، وقد استوفينا القول مع المخالفين (¬3) في مسائل الخلاف. ¬

_ (¬1) حديث متفق عليه أخرجه البخاري في الصلاة باب العمل في الصلاة 2/ 79 وفي كتاب الأحكام باب الإمام يأتي قوماً فيصلح بينهم 9/ 92، ومسلم في كتاب الصلاة باب تسبيح الرجل وتصفيق المرأة إذا نابهما شيء في الصلاة 8/ 311، وأبو داود 1/ 578، والترمذي 2/ 205، وقال: حديث أبي هُرَيْرَة حسن صحيح، والنسائي 3/ 11، وابن ماجه 1/ 329، والدارمي 1/ 317، وقد ورد الحديث من رواية أبي هُرَيْرَة وسهل بن سعد. (¬2) يقصد بذلك ما حصل في قصة ذي اليدين السابقة. (¬3) المخالفون هنا يقصد بهم الأحناف. قال ابن الهمام: ومن تكلّم في صلاته عامداً أو ساهياً بطلت صلاته. شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 280. وقال ابن عبد البر: وأما أصحاب أبي حنيفة، الذين لم يجيزوا الكلام في شأن إصلاح الصلاة، فيلزمهم ألا يجيزوا المشي للراعف والخروج من المسجد للوضوء وغسل الدم في الصلاة لضرورة الرعاف، فإن أجازوا ذلك فليجيزوا الكلام في شأن إصلاح الصلاة. والله أعلم. الاستذكار 2/ 235. وانظر المجموع للنووي 4/ 85.

كتاب الجمعة

كتاب الجمعة الجمعة خصيصة فضَّل الله تعالى بها هذه الأمة على سائر الأمم. قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "نَحْنُ الآخِرونَ السَّابِقونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهمْ أوتوأ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ فَهذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا الله لَهُ وَالْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصارى بَعْدَ غَدٍ". رواه مالك وغيره. ومعنى قوله بأيد يريد بقوة على أحد التفسيرين في قوله تعالى: {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} (¬1). وروي بِيد أنهم، فإذا كان المروي بأيد فمعناه نحن السابقون بقوة أتانا الله إياها وفضلنا بها، وإذا كان المروي بَيْد (¬2) فهو استثناء بمعنى غير أنهم سبقونا بإيتاء الكتاب وسبقناهم بالقبول فقالوا سمعنا وعصينا. وقلنا سمِعنا وأطعْنا وأدبروا وأقبلنا وقد بيّن ذلك النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، في حديث ابن عمر وأبي موسى واللفظ لأبي موسى رضي الله عنه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أهْلِ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ كمثل رَجُلٍ اسْتَأجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ ¬

_ (¬1) سورة ص آية 45. قال ابن جرير: يعنىِ بالأيد القوة. يقول. أهل القوة على عبادة الله وطاعته، ويعني بالأبصار أنهم أهل أبصار القلوب يعي به أولي العقول للحق. وروي هذا التفسير عن ابن عباس. تفسير الطبري 23/ 109. (¬2) أقول: لم أجد في الأصول المعزو لها قبل لفظة بأيد وإنما فيها بَيْدَ قال الحافظ ابن حجر: بموحدة ثم تحتانية ساكنة متل غَيْرَ وزناً ومعنى وبه جزم الخليل والكسائي، ورجحه ابن سيدة. وقد روى ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن الربيع عنه أن معنى بَيْدَ من أجل، وكذا رواه ابن حبان والبغوي عن المزني عن الشافعي، وقد استبعده عياض ولا بعد فيه بل معناه أنّا سبقنا بالفضل إذ هُدينا للجمعة تأخرنا في الزمان بسبب أنهم ضلّوا عنها مع تقدمهم .. إلى أن قال: وهي موطأ سعيد بن عفير عن مالك عن أبي الزناد بلفظ: ذلك بأنهم أوتوا الكتاب، وقال الداوب: هي بمعنى على أو مع، قال القرطبي: إن كانت بمعنى غير فنصب على الاستثناء، وإن كانت بمعنى منصب على الظرفية، وقال الطيبي: هي للاستثناء، وهو من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم، والمعنى: نحن السابقون للفضل غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ووجه التأكيد فيه ما أدمج فيه من معنى النسخ لأن الناسخ هو السابق في الفضل وإن كان متأخراً في الوجود. فتح الباري 2/ 354 - 355.

يَعْملُ لِي الْلَّيْلِ فَعَملَتِ الْيَهُودُ إِلَى الظُّهْرِ فَعَجَزُوا ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْملُ لِي إِلَى الْلَّيْلِ فَعَملَتِ النَصارَى إِلَى الْعَصْرِ فَعَجَزُوا ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْملُ لي إِلى الْليْلِ "وفي رواية" إِلَى مَغْرِبَانِ الشَّمْسِ فَعَملْنَا فَأُعْطُوا قِيَراطًا وَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ (وفي رواية) اسْتَكْمَلْنَا أجرَ الْفَرِيضتين فَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارَى مَا بَالَنَا أكثَرُ عَمَلًا وَأقَلُّ أجْرًا قَالَ الله تَعَالَى هَلْ ظُلِمْتُمْ مِن حَقِّكُم شَيْئًا قَالُوا لَا قَالَ فَذلِكَ فَضْلِي أوتيه مَنْ أشَاءُ" (¬1). وروى أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جَاءَنِي جِبْرِيلُ بِمِرْآةٍ في يَدِهِ فيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَقُلْتُ مَا هذَا يَا جِبْرِيلُ فَقَالَ هِي الْجُمُعَةُ التِي أَعْطَاكَ الله، قُلْتُ مَا هذِهِ النُّكْتَةُ السَّوْدَاءُ الَّتِي فيهَا قَال هِيَ السَّاعَةُ". وثبت من حديث أبي هُرَيْرَة، رضي الله عنه، أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "خَيْرُ يَوْمٍ طلُعَت عَلَيْهِ الشَّمسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ ... (¬2) " الحديث إلى آخره .. وهو وإن كان آخر الأيام خلقاً فإنه أفضلها وقتًا خص به أفضل الأنبياء قدرًا وأعلى الأمم مكانًا وفضائلها مفسرة في الحديث، التي منها خلق آدم ووجه الفضيلة فيه انبعاث الخيرات منه من النبوة والعبادة والقيام بحق الإلهية. فإن قيل: وقد صدر عن ذريته ما صدر من المعاصي وهي أكثر. قلنا: لحظة من ¬

_ (¬1) البخاري كتاب مواقيت الصلاة باب من أدرك ركعة من العمر قبل الغروب 1/ 146 من طريق أبي بردة عن أبي موسى عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - " مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتأجرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا إِلَى اللَّيل فَعَمَلُوا إِلَى نِصْفِ النهَارِ فَقَالُوا لَا حَاجَةَ لَنَا في أجرِكَ فاسْتَأجرَ آخَرِينَ فَقَالَ: أكمِلُوا بَقِيةَ يَوْمِكُمْ وَلَكُم الذي شَرَطْتُ فَعَمَلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِين صَلاَةِ الْعَصرِ قَالُوا لَكَ مَا عَمَلْنَا .. " وأورد قبله في نفس الباب حديث ابن عمر والحديث أخرجه البغوي في شرح السنة 14/ 218 - 221 من حديث ابن عمر وأبي موسى أيضًا، وأخرج الترمذي حديث ابن عمر. سنن الترمذي 5/ 153. (¬2) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة باب فضل يوم الجمعة 2/ 585 من حديث أبي هُرَيْرَةَ يقول: "قَالَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: خَيْرُ يَوْمٍ طَلُعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ وَفِيهِ أخْرِج مِنْهَا" وفي رواية أخرى: وَلَا تَقوم السَّاعَةُ إِلا في يَوْمِ الجُمُعَةِ. ورواه الترمذي 2/ 359 مثل رواية مسلم وكذا النسائي 3/ 90، ورواه مالك في الموطّأ 1/ 108، من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هُرَيْرَة مطولًا، ومن نفس الطريق رواه أبو داود 1/ 634 وسيأتي له زيادة تخريج.

التوحيد خير من الدهر كله معصية، وكلمة من الإِيمان أفضل من كفر الخلق بأجمعهم ومن فضائله وجود التوبة فيه وقيام الساعة وهي المقصود الأعظم والغاية المطلوبة، وإصاخة (¬1) البهائم تنتظر قيام الساعة وإنما يخلق الله تعالى لها ذعرًا واستشعارًا في ذلك اليوم دون غيره من الأيام تنبيهًا على شرفه وفيه الساعة المستجابة. وقد اختلف الناس فيها فمنهم من قال هي مخفية الوقت دي جملة اليوم كإخفاء ليلة القدر في جملة العام أو الشهر (¬2). وقد كان في المسجد الأقصى بعض المريدين يعتكف يوم الجمعة من صلاة الصبح إلى الضحى، وفي الجمعة الثانية من الضحى إلى الظهر، وفي الجمعة الثالثة من الظهر إلى العصر، وفي الجمعة الرابعة من العصر إلى المغرب فاستحسنت ذلك بحضرة شيخنا أبي بكر الفهري فقال لي: ومن أين تعلم أنها تحصل له ولعلها تنتقل انتقال ليلة القدر؟ ومنهم من قال: هي حين جلوس الإِمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة (¬3)، ومنهم من قال: هي من العصر إلى غروب الشمس وهي الساعة التي تيب فيها على آدم على ما روي ¬

_ (¬1) قال في النهاية: ما من دابة إلا وهي مصيخة، في مستمعة منصتة. النهاية 3/ 64 ونقل المباركفوري عن الخطابي قوله مسيخة، كما في رواية أبي داود، معناه مصغية مستمعة يقال: أصاخ وأساخ. بمعنى واحد. عون المعبود 3/ 368. (¬2) ورد عند الحاكم من رواية أبي سلمة قال: قلت والله لو جئت أبا سعيد الخدري فسألته عن هذه الساعة لعله أن يكون عنده منها علم فأتيته فقلت يا أبا سعيد إن أبا هُرَيْرَة حدَّثنا عن الساعة التي في يوم الجمعة فهل عندك منها علم؟ فقال سألنا النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عنها فقال: إِني كنت أعلمها ثم نسيتها كما أُنسيت ليلة القدر، ثم خرجت من عنده فدخلت على عبد الله بن سلام فذكر الحديث. قال الحاكم: صحيح وكذا قال الذهبي. المستدرك 1/ 279 - 280 ورواه ابن خزيمة 1/ 122 وروى عبد الرزاق عن معمر قال: سألت الزهري عن الساعة التي يستجاب فيها الدعاء من يوم الجمعة فقال: ما سمعت فيها بشيء أحدثه إلا أن كعبًا كان يقول: لو قسم إنسان جمعه في جمع أتى على تلك الساعة. المصنف 3/ 261، قال ابن المنذر: معناه أنه يبدأ فيدعو في جمعة من الجمع من أول النهار إلى وقت معلوم ثم في جمعة أخرى يبتدىء من ذلك إلى وقت آخر حتى يأتي على آخر النهار. فتح الباري 2/ 417، قلت: لعل هذا هو دليل المريدين الذين حكى عنهم المؤلف، كما سيأتي. (¬3) رواه مسلم في كتاب الجمعة باب الساعة التي في يوم الجمعة 2/ 584 من حديث أبي موسى الأشعري قال: قَالَ لِي عبْدُ الله بْنُ عُمَرَ: أسَمِعْتَ أبَاكَ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، في شَأْنِ سَاعَةِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: قُلْتُ نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "هِيَ مَا بَيْنَ أن يَجْلِس الْإِمَامُ إِلى أن تَنْقضِيَ الْصَّلاَةُ" ورواه أبو داود 1/ 636.

في الإسرائيليات (¬1)، والصحيح أنها من حين خروج الإِمام إلى انقضاء (¬2) الصلاة، كذلك ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهي واجبة على الأعيان، والعجب ممن يقول إنها فرض على الكفاية والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ طَبَعَ الله عَلَى قَلْبِهِ بِالنِّفَاقِ" (¬3) والله تعالى يقول: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (¬4) الآية. وهذه الآية متناولة لكل أحد ومن حديث حفصة الثابت ¬

_ (¬1) روى مالك في الموطّأ عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هُرَيْرَة أنه قال: خَرَجْتُ إِلَى الطُّورِ فَلَقِيتُ كَعْبَ الأحْبَارِ فَجَلَسْت مَعَهُ فَحَدَّثنِي عَنِ التَّورَاةِ وَحَدَّثْتُهُ عَنْ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثْتُهُ أن قُلْتُ: قَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: خيرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ .. وَفِيهِ سَاعَةُ لاَ يُصَادِفُهَا عبد مُسْلِم وَهُوَ يصلِّي يَسْأل الله شَيْئًا إلَّا أعطَاهْ إِياهُ .. فقال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة من يوم الجمعة ... " الموطأ 1/ 108 - 110 وأبو داود 1/ 634، والترمذي 2/ 362، والنسائي 3/ 113، وأحمد 2/ 486، و 5/ 451، 453، وابن خزيمة في صحيحه 3/ 120، والحاكم في المستدرك 1/ 278، 279، والطيالسي في مسنده ص 311. درجة الحديث: صححه الترمذي والحاكم وأقره الذهبي. (¬2) تقدم ذلك ص 259 من حديث أبي موسى وابن عمر. وقال الحافظ: روى البيهقي من طريق أبي الفضل أحمد بن سلمة النيسابوري أن مسلمًا قال: حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه، وبذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة، وقال القرطبي: هو نص في موضع الخلاف لا يلتفت إلى غيره، وقال النووي، هو الصحيح بل الصواب بكونه مرفوعًا صريحًا في أحد الصحيحين. فتح الباري 2/ 421. (¬3) رواه أبو داود 1/ 638، والترمذي 2/ 373، وقال: حديث أبي الجعد حديث حسن، والنسائي 3/ 88، وابن ماجه 1/ 357، والحاكم 1/ 280، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وكذا قال الذهبي والبغوي في شرح السنة 4/ 213، وحسنه وقال: لا يعرف لأبي الجعد الضمري إلا هذا الحديث وله صحبة ولا يعرف اسمه. وأحمد في المسند. انظر الفتح الرباني 6/ 22، والبيهقي 3/ 172، كلهم عن أبي الجعد الضمري، وأبو الجعد هذا نقل الحافظ عن البخاري أنه قال: لا أعرف أسمه ولا أعرف له إلا هذا الحديث، يعني الذي أخرجه أصحاب السنن والبغوي وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، وهو في الترغيب والترهيب من ترك صلاة الجمعة. ووقع في بعض طرقه: وكانت له صحبة وسمّاه غيره أدرع وقيل جنادة وقيل عمر بن بكر يروي عن سلمان الفارسي أيضًا، روى عنه عبيدة بن سفيان الحضرمي وكان على قومه في غزوة الفتح. وقد قتل مع عائشة، رضي الله عنها في وقعة الجمل. الإصابة 4/ 32، ونقل الحافظ عن ابن السكن إنه صحَّحه التلخيص 2/ 56. درجة الحديث: صحيح كما قال الحاكم والذهبي وابن خزيمة وابن حبان وابن السكن والشيخ ناصر. انظر صحيح الجامع الصغير 5/ 28 وانظر موارد الظمآن ص 147. (¬4) سورة الجمعة آية 9.

عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "الرَّواحُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" (¬1)، وظاهر القرآن يقتضي ألا يأتي إليها إلا من سمع النداء دون من لم يسمعه، ولذلك قال علماؤنا البغداديون أن الحد الذي يجب القصد إليها منه فرسخ؛ لأنه إذا كان المؤذن صيِّتًا والموضع مرتفعًا والأصوات هادئة فإنه يسمع من فرسخ (¬2). وفي الحديث الصحيح أن أهل العوالي كانوا يأتون الجمعة (¬3)، وهو نوع من الحد الذي قدمناه. وروي عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - "أَنَّهُ أَمَرَ أَهْلَ قبَاءَ بِإِتْيَانِ الْجُمُعَةِ" (¬4) وهو نوع من التقدير أيضًا ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في سننه 1/ 244، والنسائي 3/ 89، والطحاوي في معاني الآثار 1/ 116، والبيهقي من طريق يحيى بن عبد الله بن بكير قال: ثنا المفضل ابن فضالة بالإِسناد المذكور. السنن الكبرى 3/ 187. درجة الحديث: صحيح من خلال إسناده. (¬2) أنظر الإِشراف على مسائل الخلاف 1/ 124. (¬3) متفق عليه البخاري في كتاب الجمعة باب من أين تؤتى الجمعة 2/ 8 عن عائشة بلفظ: "كَانَ الناسُ يَتَنَاوَبُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِي فَيَأْتُونَ في الْغبَارِ يُصِيبُهُمُ الْغِبَارُ وَالْعَرَقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُمُ الْعَرَقُ فَأَتَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنْسَانٌ منْهُمْ، وَهُوَ عِنْدِي، فَقَالَ الْنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ تَطَهَّرْتُمْ لِيوْمِكُمْ هذَا". وأخرج أيضًا من طريق يحيى بن سعيد إنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة فقالت: قالت عائشة، رضي الله عنها: كَانَ النَّاسُ مِهْنَةَ أَنْفُسِهِمْ وَكَانُوا إذا رَاحُوا إِلَى الْجُمُعَةِ رَاحُوا في هَيْئَتِهِمْ فَقِيلَ لَهُمْ لَو اغْتَسَلْتُمْ. البخاري كتاب الجمعة باب وقت الجمعة 2/ 8، ومسلم في كتاب الجمعة باب وجوب الغسل 2/ 581، وأبو داود 2/ 16، مختصرًا، وابن خزيمة 3/ 127، والنسائي 3/ 93 - 94. (¬4) رواه الترمذي من طريق الفضل بن دكين حدثنا إسرائيل عن ثوير عن رجل من أهل قباء عن أبيه وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. الترمذي 2/ 374 - 375، وقال عقب روأيته: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، شيء. قلت: والحديث فيه ضعيف ومجهول. أما الضعيف فهو ثوير بن أبي فاختة سعيد بن علاقة الكوفي، ضعَّفه أبو زرعة وأبو حاتم والعجلي والساجي ويعقوب بن سفيان وغيرهم. وقال الثوري: ثوير من أركان الكذب، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي والجوزجاني: ليس بثقة، وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن حبان. كان يقلب الأسنايد حتى يجيء في روايته أشياء كأنها موضوعة. انظر ت ت 2/ 36. التاريخ الكبير 2:1/ 183، التاريخ الصغير 127، الضعفاء للنسائي 287، الجرح والتعديل 1:1/ 472، المجروحين 1/ 196، الميزان 1/ 375، ديوان الضعفاء 40، وهو يروي عن رجل مُبْهَم. درجة الحديث: ضعيف.

ولم يأمر سواهم، فصار ذلك كله أصلًا في الحد المذكور يعوَّل عليه وُينتهى إليه. وروى أبو سعيد الخدري عن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّهُ قَالَ: غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ في كُلِّ أُسْبُوعٍ يَوْمًا" (¬2) فاغترت بهذه الألفاظ طائفة مقصّرة وظنوا أن الغسل يوم الجمعة فريضة بظاهر هذه الأحاديث وليس كذلك إنما هو سنة مؤكدة قال أشهب: (قلت لمالك: غسل يوم الجمعة واجب قال: ليس كل ما جاء في الحديث يكون هكذا) (¬3)، وهذا كلام مجمل بديع على عادة السلف؛ إذ كانوا يُجملون الأقوال ولا يبسطونها، والدليل على سقوطه من خمسة أوجه. الأول. قال لنا شيخنا الفهري (¬4) قال لنا قاضي القضاة الدامغاني (¬5) قال لنا أبو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب وضوء الصبيان 2/ 217، وفي كتاب الجمعة باب فضل الغسل يوم الجمعة من طريق مالك 2/ 3، وفي كتاب الشهادات 3/ 232، ومسلم في كتاب الجمعة باب وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال 2/ 580، ومالك في الموطأ 1/ 102، وأبو داود 2/ 5، والنسائي 3/ 93، والحميدي في مسنده 2/ 323، وعبد الرزاق في المصنف 3/ 198، وابن خزيمة 3/ 123، والدارمي في 1/ 361، وابن أبي شيبة 2/ 92، وأحمد 3: 6/ 60، والطحاوي في معاني الآثار 1/ 116، والشافعي. انظر بدائع المنن 1/ 155. (¬2) روه ابن حبان. انظر موارد الظمآن 147، عن الحسن بن سفيان حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثا شبابة بن سوار عن هشام بن الغار عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّ لله حَقّاً عَلَى كُلِّ مُسْلِم أَنْ يَغْتَسِلَ كُلَّ سَبْعَةِ أَيامٍ يَوْماً .. ". أقول: الحديث فيه الحسن بن سفيان النسائي روى عن حبان بن موسى وقتِيبة وإسحاق بن راهويه وأبي بكر بن أبي شيبة. قال ابن أبي حاتم: كتب إلى وهو صدوق .. الجرح والتعديل 3/ 16 قلت: لم أجد له غير هذا كما أن شيخه أبا بكر عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي، بمهملة وزاي، صدوق يخطئ من كبار الحادية عشرة/ خ س ت 1/ 489. وانظر ت ت 6/ 221. درجة الحديث: صححه ابن حبان فقط. (¬3) نقل هذا القول الزرقاني في شرحه 1/ 211، عن ابن عبد البر فقد قال: ليس المراد أنه فرض بل هو مؤول أي واجب في السنة أو في المروءة أو في الأخلاق الجميلة. تم أخرج بسنده عن أشهب أن مالكاً سئل عن غسل يوم الجمعة أواجب هو؟ قال: هو حسن وليس بواجب. (¬4) تقدم. (¬5) الدامغاني 398 - 487 هـ. محمد بن علي بن محمد بن حسن بن عبد الملك بن عبد الوهاب، أبو عبد الله، الدامغاني، شيخ =

الحسين القدوري (¬1)، رئيس الحنفية في وقته، قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "غُسْل يَومِ الْجُمُعَةِ وَاجِبُ عَلَى كُلِّ محْتَلِمٍ" يعني ساقطًا، فيحتمل أن يكون يسقط سقوط الفرائض ويحتمل أن يسقط سقوط السنن فلا يكون له في الحديث متعلق (¬2). الوجه الثاني: روى النسائي وأبو داود عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -. "أَنَّهُ قَالَ. مَنْ تَوَضَّأَ يومَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ فبهَا وَنَعُمَتْ وَمَنْ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضل" (¬3) وهذا نص. الوجه الثالث: روى مسلم عن أبي هرَيْرَةَ عن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَن تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَأَنْصَتَ وَلَمْ يَلْغِ غُفِر له" (¬4) وهذا نص آخر. ¬

_ = الحنفية في زمانه ينعت بقاضي القضاة، ولد بدامغان وتفقه بها وبنيسابور ثم ببغداد سنة 418 هـ، وولي القضاء بها سنة 447 هـ وبقى في القضاء نحو ثلاتين سنة. الجواهر المضيئة 2/ 96، اللباب 1/ 406، معجم البلدان 4/ 27، الوافي 4/ 139، طبقات الحنفية ص 182. (¬1) القدوري 362 - 428 هـ. أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر، أبو الحسين، القدوري. فقيه حنفي ولد ومات في بغداد، انتهت إليه رياسة الحنفية بالعراق. الأعلام 1/ 212، وفيات الأعيان 1/ 21، والجواهر المضيئة 1/ 93، والنجوم الزاهرة 5/ 24. (¬2) راجعت متن القدوري وشرحه ولم أجد هذا القول ولعلّه كان فتوى له شفوية. انظر شرح فتح القدير 2/ 49. (¬3) رواه أبو داود 1/ 97، والترمذي 2/ 369، وقال: حديث حسن، والنسائي 3/ 94، وأحمد. انظر الفتح الرباني 6/ 50 كلهم من رواية الحسن البصري عن سمرة وهو مدلس ولم يصرح بسماعه من سمرة، ورواه الشافعي في الرسالة ص 305، وابن خزيمة أيضًا 3/ 128. قال الحافظ في الفتح 2/ 362: ولهذا الحديث طرق أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة، أخرجها أصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان وله علتان إحداهما من عنعنة الحسن والأخرى أنه اختلف عليه فيه. درجة الحديث: حسّنه الترمذي، كما تقدم، وقوّاه الشيخ ناصر بشواهده الكثيرة، انظر تعليقه على المشكلة 1/ 168، كما حسّنه الأعظمي في تعليقه على ابن خزيمة 3/ 128، وقال الشوكاني قال في الإِمام: من يحمل رواية الحسن عن سمرة على الاتصال يصحح هذا الحديث، وهو مذهب علي ابن المديني كما نقله عنه البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم، وقيل لم يسمع منه إلا حديث العقيقة وهو قول البزار وغيره، وقيل لم يسمع منه شيئًا وإنما حدَّث من كتابه. نيل الأوطار 1/ 295. (¬4) مسلم كتاب الجمعة باب فضل من استمع وانصت في الخطبة 2/ 587، وأبو داود 1/ 276، والترمذي 2/ 371، وقال: حسن صحيح، وأحمد. انظر الفتح الرباني 6/ 53.

عطف

الوجه الرابع: حديث الموطأ "أنَّ رَجُلًا (¬1) دَخَلَ عَلَى عُمَرَ، رَضِيَ الله عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ مَا زِدْتُ عَلَى أَنْ توَضَّأْتُ" (¬2) الحديث إلى آخره. وجه التعلق منه أن عمر والصحابة بأجمعهم أعلموا ذلك الرجل بتأكيد الغسل وأقروه على تركه، ولو كان فرضاً ما سامحوه لأن القوم كانوا أجلّ من أن يقرّوا على منكر. الوجه الخامس: أن أمر النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، بالغسل إنما كان لسبب، روت عائشة في الصحيح "أَنّ النَّاسَ كَانُوا يَتَنَاوَبُونَ الْجُمُعَةَ مِنَ الْعَوَالِي وَغَيْرِهَا، وَكَانُوا عُمُّالَ أنفُسِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ وَكَانُوا يَلْبِسُونَ الصُّوفَ فَيَظْهَرُ مِنْهُمْ رِيحُ الضَّأنِ، زاد النسائي: وَكَانَ يَكُونُ عَلَيْهِمِ الْوَسَخُ فَتَخْرُجُ رَوَائِحُهُمْ فَيَتَأَذَّى بِهَا النَّاسُ، فَأمَرَ النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، بِالْغُسْلِ (¬3) " فَبيّنت رضوان الله عليها، سبب الغسل وأوضحت علته، فارتبط الغسل بها، والفرائض المطلقة لا تتعلق بالعلل العارضة؛ ولذلك قال بعض علمائنا، رحمة الله عليهم: لو اغتسل للجمعة بماء الورد لجاز لحصول المقصود فيه وذهاب العلة المقتضية للاغتسال به. عطف: ذكر علماؤنا أن الجمعة تجب على المكلفين بشروط ويلزمهم أداؤها بأخر. فأما شروط الوجوب فسبعة: العقل، والذكورية، والحرية، والبلوغ، والقدرة، والإقامة في القرية. ¬

_ (¬1) قال الحافظ: سمى ابن وهب وابن القاسم، في روايتهما عن مالك، الرجل المذكور عثمان بن عفان، فتح الباري 2/ 359. (¬2) الموطّأ 1/ 101 مرسلًا من طريق ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أنه قال: دَخَلَ رَجُلٌ .. الحديث. وأخرجه الشيخان: البخاري في كتاب الجمعة باب فضل الغسل يوم الجمعة 2/ 3، من طريق مالك عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر، رضي الله عنهما، ومسلم في كتاب الجمعة من طريق ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَا هُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الجمعةِ إذْ دَخَلَ رَجُل مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَادَاهُ عُمَرُ أَيَّةُ سَاعَةٍ هذِهِ؟ فَقَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ الْيَوْمَ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إلَى أَهْلِي حَتى سَمِعْتُ النِّدَاءَ فَلَمْ أَزِدْ عَلَى أَنْ تَوَضَّأتُ. قَالَ عُمَرُ وَالْوُضُوءُ أَيْضًا .. " مسلم 2/ 580. (¬3) سنن النسائي 3/ 94.

فأما العقل فلا خلاف فيه لأن عديم العقل لا يخاطب بشيء، حسب ما قررناه في الأصول (¬1)، وليس في رفع الخطاب عنهم حديث صحيح (¬2)؛ وإنما يعول فيه على الإجماع، وكذلك البلوغ لا خلاف فيه أيضًا، وهو منوط بالأول لأن الصبي عديم العقل ولا يزال يتدرج في المعرفة حالًا بعد حال حتى يكمل له ويتدارك بعضه ببعض، وليس ذلك مما يدركه الخلق فنصب الله تعالى عليه علامته وهو الاحتلام للغلام والحيض للجارية، فإن عدمها فالسن، وليس في تقديره حديث يعوّل عليه والأصل هو القياس يرجع إليه، إلا أنه روي في الحد حديثان صحيحان يرجع إليهما. أما أحدهما: فإن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم - (أجاز في الغزو ابن خمس عشرة سنة ورد من دونه) (¬3). وأما الثاني: فحكمه في بني قريظة أن يقتل من جرت عليه المواسي (¬4). ¬

_ (¬1) انظر المحصول في علم الأصول ل 3/ أ. (¬2) ورد ذلك في الحديث الآتي وهو صحيح رواه أبو داود في سننه من طريق طارق بن شهاب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ في جَمَاعَةٍ إِلَّا أَرْبَعَةٍ: عبدٍ مَمْلُوكٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبيٍّ أَوْ مَريضٍ. قال أبو داود: طارق بن شهاب قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه شيئاً. سنن أبي داود 1/ 280، والبيهقي 3/ 183. وقال الحافظ في الإِصابة 2/ 220: إذا ثبت أنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو صحابي على الراجح، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح. وقد أخرج له النسائي عدة أحاديث وذلك مصير منه إلى إثبات صحبته، وقد مات سنة 82، وقيل غير ذلك. درجة الحديث: قال الحافظ صححه غير واحد. تلخيص الحبير 2/ 69، وقال في الفتح إسناده صحيح. فتح الباري 2/ 357 وصححه أيضاً القرطبي في تفسيره 18/ 106. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الشهادات باب بلوغ الصبيان وشهاداتهم 3/ 154 - 155، ومسلم في كتاب الإِمارة باب بيان سن البلوغ 3/ 1490 من رواية ابن عمر قال: "عَرَضَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ في الْقِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبعَ عَشَرَةَ سَنَة فَلَمْ يُجِزْنِي ثُمَّ عَرَضَنِي يَوْمَ الْخِنْدَقِ وَأَنَا ابْن خَمْسَ عَشَرَةَ فَأَجَازَني قَالَ نَافِعٌ فَقَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهوَ خَلِيفَة فَحدَّثتُهُ هذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ هَذَا حَدٌّ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَكَتَبَ إِلَى عُمَّالِهِ أَنْ يَفْرِضُوا لِمَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشَرَةَ". (¬4) أبو داود 4/ 561، والترمذي 4/ 145 - 146، وقال: هذا حديث حسن صحيح والعمل على هذا عند بعض أهل العلم أنهم يرون الإِنبات بلوغاً إن لم يعرف احتلامه ولا سنه، وهو قول أحمد وإسحاق، والنسائي 6/ 155، وابن ماجه 2/ 849، والحاكم 3/ 35، وقال صحيح الإِسناد، ولم يخرجاه وكذا قال =

وأما الحرية

ويعترض على الحديث الأول عند علمائنا أن مالكاً، رضي الله عنه، يرى السهم للصبي إذا طاق القتال وإن لم يبلغ (¬1)، ويعترض على الثاني عندهم أن ذلك حكم مخصوص ببني قريظة، وقيل بالكفار وهذا كله تعلق بالمعنى. والحديثان أصلان فليعول عليهما وعلى الرواية التي توافقهما وليطرح ما سواهما. وأما الذكورية فلأن الأنوثة نقصان يخل بالعقل، حسب ما نص الله تعالى عليه (¬2)، وتوجب الحجاب وتمنع من الخلط بالجماعة، فلا ينتظم منهن عصبة ولا تنعقد منهن جماعة في جمعة، بل إن الله تعالى أذن لهنّ في الجماعة على معنى التبعية للرجال رحمة لهن وتوسعة في الأجر عليهن. دخلت نابُلُس (¬3) وهي قرية المنجنيق (¬4) لإبراهيم، عليه السلام، فما رأيت أحسن منها، سكنتها مدة وترددت عليها مراراً فما وقعت فيها عيني على امرأة نهاراً حتى إذا كان يوم الجمعة امتلأ المسجد بهن، ثم لا تقع عين عليهن إلى الجمعة الأخرى. وأما الحرية: فإنها شرط في وجوبها لأن العبد مستغرق بخدمة سيده استغراقاً حجبه عن الشهادات وتحمّلها والحج وآدابه والجمعة والسعي إليها، وليس في ذلك أثر صحيح، والمعوّل في ذلك على الإجماع السابق للخلاف، وقد كان السلف يتناوبون الجمعة أحراراً وما ألزموها قط عبيدهم؛ فإن حضرها العبد والمرأة كانا من أهلها، ولا تجوز إمامة العبد فيها ولا يلتفت إلى رواية جوازها فإنها لم تتعين في ذمته وجوباً فكيف يحتملها ¬

_ الذهبي كلهم من رواية عطية القرظي، درجة الحديث: صححه الترمذي والحاكم والذهبي. (¬1) قال القاضي عبد الوهاب: والمراهق إذا أطاق القتال وقاتل أسهم له خلافاً لأبي حنيفة والشافعي. الإِشراف على مسائل الخلاف 2/ 267. (¬2) في كون شهادة اثنتين من النساء تعدل شهادة رجل واحد لنقصان عقل المرأَة المعتاد عن عقل الرجل المعتاد، وذلك ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} سورة البقرة 282. (¬3) بضم الباء الموحدة واللام والسين مهملة، مدينة مشهورة بأرض فلسطين بين جبلين مستطيلة لا عرض لها، كثيرة المياه بينها وبين بيت المقدس عشرة فراسخ. معجم البلدان 5/ 248. (¬4) قال الجوهري: المنجنيق التي ترمى بها الحجارة معرّبة وأصلها بالفارسية من جي نيك. صحاح الجوهري 4/ 1455، وانظر اللسان 1/ 370، ترتيب القاموس 1/ 542.

وأما القدرة

ويضمنها عن غيره إماماً (¬1). وأما القدرة: فلا خلاف فيها بين الأمة لأن التكليف إنما يناط بالقادر، والاقدرة قد تنتفي عن الإنسان بمعنى يكون فيه كالتقية (¬2) والمرض والسجن أو بمعنى في غيره كالتمريض للقريب أو الغريب وما يشبهه (¬3). وأما الإقامة: فلا خلاف فيها لأن الله تعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة والصيام، فكيف يكلفه عبادة من شرطها الخطبة (¬4) والإمام؟ وأما القرية: فلا خلاف فيها أيضاً، وإنما هي مرتبطة بالشرط السابق من الإقامة وليس لها حد مقدر، ولا يوجد عليه في الشريعة دليل، بيد أن العلماء قالوا في ذلك قولًا صحيحاً. قالوا إذا لزمت الجماعة موضعاً يمكنهم فيه الاستيطان ويستغنون عن غيرهم فقد وجد الأمر كما يجب. ¬

_ (¬1) قال الظاهرية بوجوبها على العبد، وقالوا ليس لسيده أن يمنعه، وإذا منع يكون ظالماً، واستدلوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}، قالوا هذا عام يشمل العبد والحر، واستدل الجمهور بحديث طارق بن شهاب المتقدم، وقالوا الآية عامة خصص فيها العبد كما خصص الصبي والمرأة والمريض. وما ذهب إليه المؤلف هو مذهب الجمهور، وهو الأولى. وقال البغوي في شرح السنة 4/ 226، وذهب أكثرهم إلى أنه لا جمعة على العبيد، وقال داود. تجب عليهم الجمعة، وقال الحسن وقتادة: تجب الجمعة على العبد المخارج. أي إذا اتفقا على ضريبة يردها العبد على سيده كل شهر. انظر فتح القدير 1/ 417، المجموع 4/ 353، المغني 2/ 281، المحلى 5/ 72، 81، فتح الباري 2/ 433. (¬2) كذا في (م)، (ص). وفي (ك) كالنيابة. (¬3) قال البغوي في شرح السنة 4/ 215: أما ترك الجمعة بالعذر فجائز بالاتفاق. (¬4) روى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عمرو بن الحسن قال: "قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، لَيْسَ عَلَى الْمُسَافِرِ جُمُعَة" المصنف 3/ 174. وهذا مرسل صحيح الإِسناد، وقد احتج بالمرسل مالك وأبو حنيفة والجمهور من الحنفية والمالكية وجماعة من المحدثين، وأحمد في رواية، وقال جمهور المحدثين: الحديث المرسل ليس بحجة. قال الإِمام مسلم: والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجهّ. مقدمة صحيح مسلم 1/ 132. درجة الحديث: صحيح.

وأما شروط الأداء فهي الإسلام لأن العبادة لا تصح من كافر، وقد فصل بعض علمائنا فجعل الإِسلام من شروط الوجوب، ولا خلاف في مذهب مالك، رحمه الله، من جميع رواياته، ولا عند أصحابه في أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ولا توجد أبداً لواحد منهم رواية تخالف هذا الأصل فالفتوى (¬1) ذلك واعرفوه. ولها في الأداء شروط الصلاة المطلقة من الطهارة والستر والاستقبال. ومن شروطها الخطبة المعددة المفصولة بجلوس (¬2)، ومن شروطها الإِمام ولسنا نعني به الأمير وإنما نريد به من يقيمها (¬3). وقد قال في ذلك مالك، رضي الله عنه، كلمة لا يخرج مثلها إلا من مشكاة فصاحة النبوة "إنَّ للِّه تَعَالَى فَرَائِضَ في أَرْضِهِ لَا يُضَيُّعَهَا إِنْ وَليَهَا وَالٍ أوْ لَمْ يَلِهَا" (¬4). والبحر الذي استمد منه مالك هذا الكلام العذب هو إقامة الصحابة لصلاة الجمعة وعثمان، رضي الله عنه، محصور واجماع عثمان معهم على ذلك بقوله وقد سئل (إِنه يُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ فَقَالَ الصَّلاَةُ أَحْسَنُ مَا يَفْعَلُ النَّاسُ فَإِنْ أحْسَنُوا فَاحْسِنُ مَعَهُمْ وَإِنْ أسَاؤُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ) (¬5). قال علماؤنا: ومن شروط أدائها المسجد المسقف وما علمت لهذا ¬

_ (¬1) في (ك) و (م): الجارة غير وأضحة. (¬2) متفق عليه البخاري في كتاب الجمعة باب القعدة بين الخطبتين 2/ 14، ومسلم في كتاب الجمعة باب ذكر الخطبتين وما فيهما من الجلسة 2/ 589 من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا". (¬3) هذا هو رأي الجمهور، وخالف الحنفية فقالوا: إذن السلطان شرط فلا تجوز إقامتها إلا للسلطان أو لمن أمره السلطان. انظر شرح فتح القدير 1/ 411 وقال النووي: مذهبنا إنها تصح بغير إذنه (أي السلطان) وسواء كان السلطان في البلد أم لا، وحكاه ابن المنذر عن مالك وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وقال الحسن البصري والأوزاعي وأبو حنيفة: لا تصح الجمعة إلا خلف السلطان أو نائبه. المجموع للنووي 4/ 583، وانظر الكافي لابن عبد البر 1/ 249. (¬4) المدوّنة الكبرى 1/ 153. (¬5) رواه البخاري في كتاب الأذان باب إمامة المفتون والمبتدع 1/ 178. قال أبو عبد الله: وقال لنا محمد بن يوسف حدثنا الأوزاعي حدثنا الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن عدي بن خيار أنه دخل على عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وهو محصور فقال: إنك إمام عامة ونزل بك ما ترى ويصلي لنا إمام فتنة .. =

وجهاً في الشريعة إلى الآن. ومن شروطها العدد من أربعين إلى عشرة وليس في ذلك أصل إلا حديثان. أحد الحديثين: إقامة أسعد لها في هزم النبيت موضع عند حرّة بني بياضة - وهم أربعون (¬1) رجلًا، وهذا ليس فيه حجة لأنه لم يرضه أصحاب الصحيح لأجل سنده، ولا فيه أيضاً أن العدد شرط ولعله كان اتفاقاً. وأما الحديث الثاني. ثبتَ في الصحيح أن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم - "كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَتَفَرَّقُوا عَنْهُ إِلا اثْنَي عَشَرَ رَجُلًا فَلَمْ يَقْطَع خُطْبَتَهُ وَلَا تَرَكَ صَلاَتَهُ" (¬2) وعاتبهم الله تعالى على ذلك فقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}، إلى قوله {الرَّازِقِينَ} (¬3). وقد رتب علماؤنا على هذه النازلة فرعاً غريباً فقالوا: يجب إتمام الجمعة باثني عشر رجلًا ولكنها لا تنعقد إلا بأكثر منهم، رواه أشهب وغيره. والصحيح أن كل ما جاز إتمامها به كان انعقادها عليه، كما أنه لا إشكال في ضعف قول من قال إن الجمعة تنعقد باثنين (¬4) لأن ¬

_ = قال الحافظ: قيل عبر بهذه الصيغة لأنه مما أخذه من شيخه في المذاكرة فلم يقل فيه حدثنا، وقيل إن ذلك مما تحمله بالإجازة أو المناولة أو العرض، وقيل هو متصل من حيث اللفظ مقطع من حيث المعنى، والذي يظهر لي بالاستقراء خلاف ذلك وهو أنه متصل لكنه لا يعبر بهذه الصيغة إلا إذا كان المتن موقوفاً، أو كان فيه راوٍ ليس على شرطه، والذي هنا من قبيل الأول وقد وصله الإسماعيلي من رواية محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن يوسف الفريابي. فتح الباري 2/ 188 - 189. وقال أبو عمر بعد سياقه لهذا الحديث: هذه القصة، والله أعلم، في غير الجمعة والعيد لأن الذي كان يصلّي بهم الجمعة أبو أيوب الأنصاري وسهل بن حنيف وابنه أبو أمامة أسعد بن سهل، وصلى بهم العيد علي ابن أبي طالب .. وكان ابن وضاح وغيره يقولون إن الذي عني عثمان بقوله إمام فتنة عبد الرحمن بن عديس البلوي، وهو الذي أجلب على عثمان بأهل مصر. والوجه عندي في قوله إمام فتنة أي إمامة في فتنة لأن الجماعات والأعياد والجمعات نظامها وتمامها الإمامة. التمهيد 10/ 291 - 295. (¬1) تقدم. (¬2) متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب إذا نفر الناس عن الإِمام 2/ 16، وفي كتاب البيوع باب قول الله تعالى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} 3/ 71، وفي التفسير سورة الجمعة 6/ 189، ومسلم في الجمعة باب قول الله تعالى {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} 2/ 590، وابن خزيمة 3/ 161، وابن حبان. انظر موارد الظمآن 150، والدارقطني 2/ 5، وابن أبي شيبة 2/ 113، وأحمد 3/ 370 كلهم من حديث جابر بن عبد الله. (¬3) سورة الجمعة آية 11. (¬4) نقل ابن حزم عن إبراهيم النخعي قوله: إذا كان واحد مع الإِمام صلينا الجمعة بخطبة ركعتين، وهو قول =

قائدتها لا توجد في ذلك، وكل صورة تذهب بفائدة الحكم والعبادة لا حكم لها. وللجمعة آداب تشترك مع غيرها فيها وتنفرد بها. فمما تنفرد به تجديد البزة وتحسين الشارة، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَا عَلَى أحَدِكُمْ لَوْ اتَّخَذَ ثَوْبَيْنِ لِجُمُعَتِهِ سِوَى ثَوْبَيْ مِهْنَتِهِ" (¬1) وتباع ثياب الجمعة في الدّين لأن الفرض مقدم على السنة وصلاته، وهو فارغ الذمة عن الدين، أحب إليه من صلاته وهو مشغول الذمة به. ومن خصائِصها الطِّيب (¬2) للعلة التي قدمنا آنفاً، فإن الناس كما يتضرَّرون برائحة الوسخ ينتفعون بنفح الطيب. ومن أغرب آدابها ما ذكره بعض علمائنا قال: من آداب الجمعة أن يطأ زوجته ذلك اليوم لما روي في الأثر عن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: (مَنْ غَسَلَ واغْتَسَلَ وَبَكرَ وَابْتَكَرَ ثُمَّ رَاحَ ¬

_ = الحسن بن حي وأبي سليمان وجميع أصحابنا وبه أقول. المحلى 5/ 46. وعن أبي حنيفة والليث بن سعد وزفر ومحمد بن الحسن: إذا كان ثلاثة رجال والإمام رابعهم صلوا الجمعة بخطبة ركعتين ولا تكون بأقل، وعن الحسن البصري: إذا كان رجلان والإمام ثالتهما. وهو أحد قولي سفيان الثوري، وقول أبي يوسف وأبي ثور. المحلى 1/ 46، وانظر شرح فتح القدير 1/ 415. (¬1) قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يونس وعمرو أن يحيى بن سعيد الأنصاري حدثه أن محمد بن يحيى بن حبان حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال .. قال أبو داود: قال عمرو وأخبرني ابن أبي حبيب عن موسى بن سعد عن ابن حبان عن ابن سلام أنه سمع رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يقول ذلك على المنبر. وهذا الأخير مرفوع. ورواه وهب بن جرير عن أبيه عن يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي يجب عن موسى بن سعد عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -. أبو داود 1/ 650 - 651، ورواه ابن ماجه موصولًا 1/ 348، وقال البوصيري: إسناده صحيح ورجاله ثقات، ورواه عبد الرزاق مرسلًا 3/ 203. ورواه مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -. الموطّأ 1/ 110. وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة 1/ 438، وعزاه لابن ماجه وصححه الشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة. درجة الحديث: صححه البوصيري والشيخ ناصر. (¬2) روى الإِمام أحمد في مسنده 4/ 34 بسنده إلى محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن رجل من أصحاب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "حَقٌّ عَلَى كُل مُسْلِمٍ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيتَسَوَّكُ وَيمِسُّ مِنْ طَيبٍ إِنْ كَان لأهْلِهِ". وهذا إسناد صحيح. وأخرجه عن شعبة 5/ 363 بالإسناد المذكور ورواه ابن أبي شيبة 2/ 94 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 172 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وهو في كنز العمال 7/ 759. درجة الحديث: صحيح.

تنبيه على وهم

إِلَى الْجُمُعَةِ) (¬1) الحديث. واختلفت الرواية في ضبط هذا الحديث؛ فمنهم من رواه غسل وبكر بتشديد العين فيهما، ومنهم من رواه بتخفيفه فيهما، ثم اختلفوا في تأويله؛ فمنهم من قال: إن التخفيف والتشديد إنما هو للتعدية وذلك لا يكون إلا بوطئ الزوجة. ومنهم من قال: إن معناه غسل رأسه واغتسل في سائر جسده. ومنهم من قال التشديد إشارة إلى المبالغة في النظافة فإن صبّ الماء المطلق ما لم يقع (¬2) معه محاولة لم يذهب بالدرن، وهذه الاحتمالات تذهب بوطء الأهل على أن ما قالوه من لزوم التعدية بلفظ التشديد صحيح في اللغة إذا صح به الضبط لكن الحديث لم يصح ولا ضبط على أن التعدية قد تكون بإذن لعبده أو لإمرأته في حضور الجمعة، فإذ أتوها توجه عليهم ندب الغسل لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: "إِذَ أَرَادَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ" (¬3) فسقط هذا الأدب عنها وبقي سائرها. تنبيه على وهم: زعم عطاء أن من فاتته الخطبة فقد فاتته الصلاة (¬4)، وهذه وهلة لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 177 وقال: رواه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة وفي إسناده عفير بن معدان وقد أجمعوا على ضعفه. وعفير بن معدان الحمصي المؤذِّن ضعيف من السابعة / ت ق ت 2/ 25، ونقل ابن عدي عن ابن معين قوله ليس بثقة، وقال أحمد منكر الحديث، وقال ابن عدي عامة روايته غير محفوظة. الكامل 5/ 2016، وانظر المغني 2/ 436، الضعفاء للعقيلي 3/ 430، الميزان 3/ 83. درجة الحديث: ضعيف كما قال الهيثمي والشارح حيث سيأتي. (¬2) في (م) يك. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الجمعة باب فضل الغسل يوم الجمعة 2/ 3 ومسلم في كتاب الجمعة 2/ 579. ومالك في الموطّأ 1/ 102، والترمذي 2/ 364، وقال حسن صحيح والنسائي 3/ 93 - 105، وابن ماجه 1/ 346، وابن خزيمة 3/ 126، والدارمي 1/ 361، وعبد الرزاق 3/ 194، والحميدي في مسنده 2/ 276، وابن أبي شيبة في مصنفه 2/ 93 - 96، والطيالسي ص 250، 252، 256، بدائع المنن 1/ 154، معاني الآثار 1/ 115. والحديث له طرق كثيرة قال الحافظ في الفتح 2/ 357: رواية نافع عن ابن عمر لهذا الحديث مشهورة جدًا، فقد اعتنى تخريج طرقه أبو عوانة في صحيحه فساقه من سعين نفساً رووه عن نافع، وقد تتبعت ما فاته وجمعت ما وقع لي من طرقه في جزء مفرد فبلغت أسماء من رواه عن نافع مائة وعشرين نفساً. (¬4) رواه عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قلت لعطاء ما الذي إذا أدركه إنسان يوم الجمعة قصر وإلا أوفى الصلاة؟ قال: الخطبة: مصنف عبد الرزاق 3/ 238. درجة الأثر: صحيح.

يقول: "مَنْ أَدرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلاَةِ فَقَدْ أَدرَكَ الصَّلَاةَ" (¬1)، فهبك أن الخطبة بدل من ركعتين أليس بإدراك ركعة من الظهر يكون مدركاً لأربع فأولى وأحرى بأن يكون بركعة من الجمعة مدركاً لها. فإن قيل إذا أدرك ركعة من الظهر جاء بالثلاث فيصح إدراكه بخلاف ما إذا أدرك ركعة من الجمعة، فإنه إنما يأتي بواحدة وتفوته الخطبة قلنا الجواب عنه من ثلاثة أوجه: الأول: روى النسائي أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ فَقَدْ أَدرَكَ الْجُمُعَةَ" (¬2). الثاني: أن الخطبة فرض على الإِمام والمأموم، ففرض الإِمام منها القول، وفرض المأموم الاستماع فمن لم يسمع لم يتوجه عليه فرض، وكذلك قال بعض علمائنا إن من كان من الجمعة في موضع لا يسمع فيه الإِمام لم يلزمه فيه (¬3) الإنصات، وان كان مندوباً إليه، لقول عثمان رضي الله عنه: "فَإِنَّ لِلْمُنْصِتِ الّذِي لَا يَسْمَعُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ مَا لِلْمُنْصِتِ السَّامِعَ" (¬4). الثالث: إنا لا نسلم أن الخطبة عوض عن الركعتين، وكيف تكون عوضاً عنهما وهي ليست من جنسهما. نعم، وقد قال علماؤنا: ولا تفتقر إلى الطهارة وليس لها مقدار محدد بخلاف الركعتين في ذلك كله، وهذا يبطل دعوى العوضية فيها والأمر أظهر من هذا الإطناب. تتميم: إن ترك رجل الجمعة متعمداً فقد أذنب ذنباً عظيماً، وحرم نفسه أجرًا كريماً على القول بأنها فرض على الأعيان، كما قدمناه، ولذلك كفّارة قدّرها النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى ¬

_ (¬1) متفق عليه البخاري في مواقيت الصلاة باب من أدرك من الصلاة ركعة 1/ 151، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة 1/ 423، وأبو داود 1/ 669، والترمذي 2/ 402 - 403 كلهم عن أبي هُرَيْرَة. (¬2) سنن النسائي 3/ 112 من رواية أبي هُرَيْرَة عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال .. درجة الحديث: صحيح. (¬3) في (م) منه. (¬4) رواه مالك في الموطأ 1/ 104، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن مالك بن أبي عامر أن عثمان بن عفان قال ... وعبد الرزاق 3/ 212، والبغوي في شرح السنة 4/ 259. درجة الأثر: صحيح.

"سمرة بن جندب" عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إنه قال: "مَنْ تَرَكَ الجُمُعَةَ مِنْ غيْرِ عُذْرٍ فَلْيَتَصَّدقْ بِدِينَارٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَنِصفُ دِينَارٍ" (¬1)، رويناه من طرق عديدة إحداها ما خرّجه الشعبي، والله أعلم. ¬

_ (¬1) رواه النسائي 3/ 89 من طريق قتادة عن قدامة بن وبرة عن سمرة بن جندب. أقول: الحديث فيه قدامة بن وبرة، بموحدة وفتحات، العجلي البصري مجهول من الرابعة/ د س. ت 2/ 124 وقال في ت ت. قال أبو حاتم عن أحمد: لا يعرف. وقال مسلم: قيل لأحمد يصح حديث في ترك الجمعة فقال: قدامة يرويه ولا نعرفه، وقال ابن معين: ثقة، وقال البخاري: لم يصح سماعه من سمرة، وقال ابن خزيمة في صحيحه: لا أقف على سماع قتادة من قدامة ولست أعرف قدامة بن وبرة بعدالة ولا جرح. ووثقه ابن حبان. ت ت 8/ 366. وقال البخاري، في ترجمة سمرة بن جندب في التاريخ الكبير 4/ 177: لا يصح حديث قدامة في الجمعة وقدامة بن وبرة مجهول كما قال أحمد، وتبعه الذهبي وابن حجر. انظر الميزان 3/ 386، المغني 2/ 523، الكاشف 2/ 398، وقال: وثق. درجة الحديث: ضعيف كما قال البخاري.

باب الترغيب في صلاة رمضان

باب الترغيب في صلاة رمضان روي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه قال: "إِنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ الله تَعَالَى وَإِنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَال شَهْرَ رَمَضانَ الْمرَادَ (¬1) بِذَلِكَ شَهْرُ الله" (¬2)، وهذا ضعيف سندًا ومعنى، أما طريقه فلم يصحّ، وأما معناه فساقط لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ" (¬3) وقوله: "إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ" (¬4) وهذا يدل على أنه اسم من أسماء الشهر، وقد كانت العرب تسميه في الجاهلية، قبل أن يأتي الشرع بأسماء الله وصفاته وهذا بيِّنٌ في بابه. وشهر رمضان مرغَّب فيه على الجملة والتفصيل، ولفضله أنزل الله تعالى القرآن جملة فيه إلى ¬

_ (¬1) في (م) إنما أراد به. (¬2) لم أطلع على قول ابن عباس هذا وقد روى البيهقي في السنن الكبرى 4/ 202 من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب قال: لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من اسماء الله. وروى ذلك عن مجاهد والحسن البصري قال: والطريق إليهما ضعيف، ورواه من طريق أبي هريرة رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والطريق إلى أبي هريرة والحسن ومجاهد فيها أبو معشر، وهو نجيع السندي، ضعفه يحيى بن معين وكان يحيى القطان لا يحدث عنه. انظر السنن الكبرى 4/ 200. وأورد ابن عراق في تنزيه الشريعة حديث أبي هريرة وعزاه لابن عدي وقال: فيه أبو معشر، قال ابن معين: ليس بشيء ثم قال: واقتصر البيهقي على تضعيفه. تنزيه الشريعة 2/ 153، وأورده ابن عدي في الكامل 7/ 2516. أقول: الحديث فيه نجيع بن عبد الرحمن السندي. المدني، أبو معشر، وهو مولى بني هاشم، مشهرر بكنيته، ضعيف من السادسة أسن واختلط، مات سنة 170 ويقال: كان اسمه عبد الرحمن بن الوليد بن هلال/ م ت 2/ 298. وانظر ت ت 10/ 419، الكامل 7/ 2516، المغنى 2/ 294، الميزان 4/ 246. درجة الحديث: ضعفه البيهقي والشارح والقرطبي في تفسيره 2/ 292. (¬3) حديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان ومن رأى كله واسعًا 3/ 32، ومسلم في كتاب الصيام باب فضل شهر رمضان 2/ 738. والترمذي 3/ 66، والنسائي 4/ 127، وشرح السنة 6/ 214، كلهم عن أبي هُرَيْرَة. (¬4) متفق عليه البخاري في الصوم باب هل يقال: رمضان أو شهر رمصان 3/ 33 وفي كتاب بدء الخلق باب صفة إِبليس 4/ 96، ومسلم في كتاب الصيام باب فضل شهر رمضان 2/ 758، والموطّأ 1/ 311، والنسائي 4/ 127، وشرح السنة 6/ 214، كلهم عن أبي هُرَيْرَة.

السماء الدنيا (¬1)، ثم نزل منجَّمًا بعد ذلك مرة إثر أخرى حتى استوفاه الله تعالى. فلما استوفاه استأثر الله برسول ورفعه إليه إلى الرفيق الأعلى، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَامَ رَمضانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (¬2)، يريد بقوله: (إِيمَانًا) أن فرضه من عند الله، وأن عبادته فيه إنما هي لله تعالى إذ الأعمال كلها تحتمل أن تكون لله ولغيره، ولا عبرة بها إلا أن تكون لله على نية امتثال أمره والتقرّب إليه كمن توضأ تبرُّدًا لا يعتد به عبادة، وكذلك من صام إجمامًا لمعدته لا يعد عبادة، ولذلك قال علماء الحقائق أن الرجل إذا قال أصوم غدًا يقصد بذلك التطبب إنه لا يجزيه (¬3) وكذلك لو قصد بالصلاة رياضة أعضائه لم يجز أيضًا حتى ينوي بذلك الخدمة لمن تجب له القربة. وأما قوله: "احتسابًا" فمذهب المنقطعين إلى الله تعالى أن معناه يصومه لامتثال الأمر لا لطلب الأجر، ومن مذهبهم أن الإخلاص في العبادات إنما يكون بأن يطيع الرجل ربه محبه فيه لا يستجلب بذلك جنة ولا يدفع بذلك نارًا (¬4)، ويروي في ذلك عن عمر بن ¬

_ (¬1) يشير إلى قوله تعالى في سورة البقرة آية 185: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري كتاب الصيام باب التماس ليلة القدر 3/ 59، ومسلم في صلاة المسافرين باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح 1/ 524. والترمذي 3/ 171 - 172، وابن ماجه 1/ 526، والبغوي في شرح السنة 6/ 217 من رواية أبي هُرَيْرَة. (¬3) أقول: لقد أبعد هنا الشيخ النجعة في العزو إلى ما يسميهم علماء الحقائق وكان الأولى أن يعزو للحديث المتفق عليه "إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّات". قال الإِمام ابن القيم: النية هي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي يبنى عليه، فإنها روح العمل وقائده وسائقه والعمل تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يستجلب التوفيق وبعدمها يحصل الخذلان وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة. إعلام الموقعين 4/ 199. وقال النووي: الأعمال تحسب بنية ولا تحسب إذا كانت بلا نية. شرح النووي على مسلم 13/ 54. (¬4) هذا القول الذي حكاه الشارح عمن يسميهم المنقطعين يرده كتاب الله قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وقوله: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90]، وقال تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] وقال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: 65] وقال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 16]. ويقول شيخ الإِسلام ابن تيمية تعليقًا على قول المتصوفة هذا: والمحبة ما لم تقترن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل تضره لأنها توجب التواني والانبساط، وربما آلت بكثير من الجهّال المغرورين إلى أن يستغنوا بها عن الواجبات، وقالوا المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له فإذا =

الخطاب، رضي الله عنه: "أَنُّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا نَظَرَ إِلَى صُهَيْبٍ: نِعْمَ الْعَبْدُ صُهَيْبٌ لَوْ لَمْ يَخَفِ الله لَمْ يَعْصِهِ" (¬1) وآثارًا في ذلك سواه وأنكر ذلك الفقهاء وقالوا: إنه لولا رجاء الجنة وخوف النار ما عبد الله تعالى أحدٌ، وهو الصحيح عندي؛ لأن العبادة حظ النفس وخالصة منفعتها لا يبالي الباري عنها إذ العبادة وتركها بالإضافة إلى جلاله واحدة (¬2)، ولكنه بحكمته البالغة ومشيئته النافذة جعل الدنيا دار عمل وجعل الآخرة دار جزاء، وقد صرح النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بذلك في الحديث المتقدم: "مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ" الحديث إلى آخره، فصرح أنها أجرة، ويكون معنى قوله احتسابًا أنه يعتد الأجرة عند الله مدخرة إلى الآخرة لا يريد أن يستعجل شيئًا منها في الدنيا؛ لأن ما يفتح الله تعالى على العبد في الدنيا من أمل وناله فيها من لذة محسوب من أجره، محاسب ¬

_ = حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل .. إلى أن قال قال بعض السلف: مَنْ عَبَدَ الله بالحب فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجىء، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن. فمتى خلا القلب عن هذه الثلاث فسد فسادًا لا يرى صلاحه أبدًا، ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضعف إيمانه بحسبه. الفتاوى 15/ 20 - 21. وقال ابن القيم بعد حكايته القول السابق عن الصوفية قال: وطائفة ثانية تجعل هذا الكلام من شطحات القوم ورعوناتهم وتحتج بأحوال الأنبياء والرسل والصادقين ودعائهمِ وسؤالهم والثناء عليهم بخوفهم من النار ورجائهم للجنة كما قال تعالى في حق خواص عباده: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57] إلى أن قال: قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] والرغب والرهب رجاء الرحمة والخوف من النار عندهم أجمعين فطلب الجنة محبوب للرب مرضي له، وطلبها عبودية للرب، والقيام بعبوديته كلها أولى من تعطيل بعضها. قالوا: وإذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار ورجاء هذه والهرب من هذه فترت عزائمه وضعفت همته ووهى باعثه، وكلما كان أشد طلبًا للجنة وعملًا لها كان الباعث أقوى والهمة أشد والسعي أتم، وهذا أمر معلوم بالذوق. مدارج السالكين 2/ 76 - 79. وقال القرطبي عند قوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتخوف، فالرجاء والخوف للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامه وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، فيدعو الإنسان خوفًا من عقابه وطمعًا في ثوابه قال الله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}. تفسير القرطبي 7/ 227. قلت: وسيأتي رد الشارح لهذا القول رحمه الله. (¬1) أورده صاحب كنز العمال وعزاه لأبي عبيد في الغريب ولم يسق إسناده وقال: وقد ذكر المتأخرون من الحفاظ أنهم لم يقفوا على إسناده. كنز العمال 3/ 437. ولقد راجعت الغريب لأبي عبيد ولم أجده فيه. (¬2) في (م) سواء.

يوم القيامة به، فعلى العبد أن ينفي ذلك عن قلبه وأن ينوي بعمله الدار الآخرة خاصة بأن يسَّر الله تعالى له في هذه الدار أملًا فذلك فضله يؤتيه من يشاء، ولما استنكر عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن ينام على سرير منسوج بالحبال ليس بينها وبين جنبه حجاب حتى أثرت في جنبه فقال له: "أَوَ في شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابَ أُولَئِكَ قُوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتهِمْ في حَيَاتِهِمْ" (¬1) ورأى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، جابرَ (¬2) بن عبد لله وقد اشترى لحمًا (¬3) بدرهم فقال أما تخاف قول الله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (¬4). وأما قوله: "غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" فعلى نحو ما سبق بيانه من تنزيل الصغائر مع الكبائر في باب الموازنة والإسقاط للحبط، ومن معظم فضائله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتَحَتْ أَبْوَابُ الْجَنةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفّدَتِ الْشَياطِينُ وَنَادَى مُنَادٍ يَا بَاغِي الخَيْرِ هَلُمَّ وَيَا بَاغِي الشَّرِ أقْصِرْ (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب المظالم باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة وغيرها 3/ 174، ومسلم في كتاب الطلاق باب الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن 2/ 1105، وقول الله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} 2/ 1105، والترمذي 5/ 420، 423، وأحمد 1/ 33 - 34 كلهم من رواية ابن عباس عن عمر بن الخطاب. (¬2) في (م) جرير وهو خطأ. (¬3) رواه الحاكم في المستدرك 2/ 455 من رواية ابن عمر وسكت عليه، وقال الذهبي: فيه القاسم بن عبد الله واه، وقال الحافظ: القاسم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمري متروك رماه أحمد بالكذب ت 2/ 118. وقال في ت ت قال أحمد: كذاب، وقال النسائي وأبو زرعة ويعقوب بن سفيان والأزدي: متروك، مات سنة 160 هـ. ت ت 8/ 320، وانظر الكامل 6/ 2061، الميزان 3/ 371. درجة الحديث. ضعيف. (¬4) سورة الأحقاف آية 20. (¬5) الحديث رواه مسلم في كتاب الصيام باب فضل شهر رمضان 2/ 758 وذلك من أوله إلى قوله: (وَصُفِّدَتِ الشَيَاطِينُ) ورواه الترمذي 3/ 66 من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هُرَيْرة باللفظ الذي ساقه الشارح، ورواه ابن ماجه 1/ 256، من نفس الطريق. أقول: رواية الترمذي وابن ماجه فيها أبو بكر بن عياش ثقة، إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابه صحيح من السابعة. مات سنة 193 وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين وقد قارب المائة، وروايته في مقدمة صحيح =

وقوله: (صُفِّدَت آلشَّيَاطِينُ) يحتمل الحقيقة بأن تغلّ بالحديد، ويحتمل المجاز ويكون عبارة عن كفها عن الاسترسال على الخلق، كما كانت تسترسل على الخلق قبل ذلك كقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} (¬1) عبارة عن الكف عن العطاء والحقيقة عندي أولى فإنها أبلغ في الهوان للشيطان. فإن قيل فنحن نرى المعاصي تجري في رمضان كما كانت تجري قبله فأين التصفيد أو فائدته؟ فالجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما: أنا نقول قد روي في الحديث: "وَصُفِّدَتْ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ" فيحتمل أن يريد به أهل الخبث والدهاء منهم يصفدون فيذهب جزء من الشر كبير بهم ونحن نشاهد قلّة المعاصي في رمضان فلا يجوز إنكار ذلك. الثاني: أن يكون معناه في تصفيد الشياطين كلهم عن الاستطالة بأبدانهم ويبقى تسليطهم بالوسوسة والدعاء إلى الشهوات والتنبيه على المعاصي وللشيطان على الإنسان استطالتان: إحداهما: على يديه بالقتل والضرب كما قتلوا سعد بن عبادة (¬2)، وكما قتلوا ¬

_ = مسلم/ فق ع. ت 2/ 399 وانظر ت ت 12/ 34. وللحديث شاهد رواه النسائي من طريق عرفجة قال: كنت في بيت فيه عتبة بن فرقد فأردت أن أحدث بحديث وكان رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كأنه أولى بالحديث مني فحدّث الرجل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "في رَمَضَانَ تُفْتَحُ فِيهِ أبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أبْوَابُ النَّارِ وَيُصَفَّدُ فِيِه كُلُّ شَيْطَانٍ مُرِيدٍ، وَيُنَادِي مُنَادٍ كُلَّ لَيْلَةٍ يَا طَالِبِ الخَيْرِ هَلُمَّ وَيَا طَالِبِ الشَّرِ أمسِكْ". سنن النسائي 4/ 130 ومن نفس الطريق رواه أحمد. انظر الفتح الرباني 9/ 227، والحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه 1/ 421. درجة الحديث: صحيح بشواهده. (¬1) سورة الإسراء آية 29. (¬2) سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة الأنصاري الخزرجي، أحد النقباء وأحد الاجواد، وقع في صحيح مسلم أنه شهد بدراً والمعروف عند أهل المغازي أنه تهيَّأ للخروج فنهش فأقام، مات بأرض الشام سنة خمس عشرة وقيل غير ذلك. ت 1/ 288، وانظر الإصابة 2/ 29 - 30. وقال ابن سعد بعد أن ساق ترجمته: جلس يبول في نفق فأقتل فمات من ساعته ووجدوه قد أخضر جلده. قال ابن سعد: نا يزيد بن هارون عن سعيد ابن أبي عروبة قال: سمعت محمد بن سيرين يحدث =

الأنصاري الذي دخل على أهله من الخندق وكان حديث عهد بعرس (¬1). الثانية: استطالته على قلبه بالوسوسة فإذا جاء رمضان صُفِّدوا عن الاستطالة البدنية وبقي الاسترسال على وسوسة القلب، وكذلك قوله أيضًا (فتحت أبوابها) يعني الجنة (وغلقت أبواب النار) يحتمل الحقيقة بأن يفعل ذلك فيهما، ويحتمل المجاز بأن يكون ذلك عبارة عن تيسير سبل الطاعة التي هي أبواب إلى الجنة وتعذير سبل المعاصي التي هي أبواب النار. ويجوز أن تجتمع الحقيقة والمجاز في هذه الأوجه كلها فتكون مرادة بالحديث موجودة فيه لكن لم يرد من الشرع تعيين في ذلك كله. وأكثر ما يتضاعف الفضل ويكثر الترغيب فيه في العشر الأواخر فقد كان رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا ليله وأيقظ أهله وشد المئزر (¬2)، يعني بقوله شد المئزر أمسك عن النساء وأقبل على (¬3) الله. فن أصولي: قال في الحديث الذي صدر به مالك (¬4)، رضي الله عنه، باب الترغيب أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، والناس صلّوا ليالي ثم ترك النبي، - صلى الله عليه وسلم -، الصلاة واعتذر إليهم بأني خشيت أن تفرض عليكم (¬5)، وذلك أنه سأل لأمته ليلة الإسراء التخفيف والحطّ من ¬

_ = أن سعد بن عبادة بال قائمًا فلما رجع قال لأصحابه: إني لأجد دبيبًا فمات فسمعوا الجن تقول: قد قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين فلم تخط فؤاده. طبقات ابن سعد 3/ 617. (¬1) هذا الأنصاري روى قصته مسلم في صحيحه في كتاب السلام باب قتل الحيات وغيرها 4/ 1756 عن أبي سعيد الخدري ولم يسم هذا الأنصاري صاحب القصة. (¬2) حديث متفق عليه أخرجه البخاري في التراويح باب العمل في العشر الأواخر من رمضان 3/ 61، ومسلم في الاعتكاف باب الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان 2/ 832، والبغوي في شرح السنة 6/ 389 كلهم من حديث عائشة. (¬3) نقل البغوي عن الخطابي قوله شد المئزر يتأول على وجهين: أحدهما هجران النساء وترك غشيانهن والأخر الجد والتشمير في العمل قال رحمه الله يقال شددت لهذا الأمر مئزري أي تشمرت له وعلى الأول كنّى بذكر الإزار عن الاعتزال عن النساء ويكنى عن الأهل بالإزار واللباس قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} شرح السنة 6/ 389. (¬4) الموطأ 1/ 113 باب الترغيب في صلاة رمضان. (¬5) متفق عليه البخاري في كتاب التهجّد باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم -، على صلاة الليل 2/ 62، وفي الجمعة باب من قال في خطبة بعد الثناء أما بعد 2/ 13، وفي التراويح باب فضل من قام رمضان 2/ 58، 59، ومسلم كتاب صلاة المسافرين باب الترغيب في قيام رمضان 1/ 524، والموطّأ 1/ 113، وشرح السنة

خمسين صلاة إلى خمس (¬1)، فلو أجمعوا على هذه الصلاة لجاز أن يقال له سألت التخفيف عنهم فخففنا فتراهم قد التزموا من قبل أنفسهم زائدًا على ذلك فيلزمهم. وكان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بالمؤمنين رؤوفًا رحيمًا، وهذا يدلك على فضل الجماعة وعظيم موقعها في الدين؛ لأن كل أحد كان يصلي في بيته ليلًا ولم يخفِ النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بوجه الفرضيّة بذلك وإنما خافها عند الاجتماع عليها فتركها رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، مدته وأبو بكر، رضي الله عنه، خلافته لاشتغاله بتأسيس القواعد وربط المعاقد وبنيان الدعائم وتحصين الحوزة وسد الثغور بأهل النجدة، ثم جاء عُمر رضي الله عنه، والأمور منتظمة والقلوب لعبادة الله تعالى فارغة والنفوس إلى الطاعات صبة (¬2) فلما رآهم في المسجد أوزاعًا (¬3) رأى أن ينظّم شملهم بإمام واحد أفضل دينًا، وأكثر انتفاعًا فجمعهم على أبي (¬4) اقتداء برسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، في لياليه الثلاث، التي صلى فيها، ولعلمه بأن العلة التي ترك النبي، - صلى الله عليه وسلم -، الصلاة لها من خوف ¬

_ = 4/ 117 كلهم من حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "صَلَّى في الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَصَلَّى بِصَلاَتِهِ نَاسٌ ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ فَاجْتَمَعُوا مِنَ الْلَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أو الرابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ .. قَالَ إِنِّي خَشِيتُ أنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ". (¬1) متفق عليه البخاري في بدء الخلق باب ذكر الملائكة 4/ 133، وفي فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب المعراج 5/ 66. ومسلم في الإيمان باب الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - 1/ 145 - 147 والترمذي 1/ 417، مختصرًا والنسائي 1/ 217 - 223 كلهم من حديث أنس بن مالك. (¬2) قال ابن الأثير: الصبة الجماعة من الناس، وقيل هي شيء يشبه السفرة. النهاية 3/ 4. وقال ابن منظور، الصبة ما صبَّ من طعام وغيره مجتمعًا، وربما سمي الصب بغيرها، والصبة السفرة لأن الطعام يصب فيها وقيل هي شبه السفرة. لسان العرب 1/ 515. قلت: ومراد الشارح أن الناس مجتمعون على الإِسلام. (¬3) أي جماعات متفرقة لا واحد لها من لفظها يقال: وَزَّعْت الشيء بينهم أي فرّقته وقسمته. شرح السنة 4/ 119، وانظر النهاية 5/ 180 - 181. (¬4) رواه البخاري عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خَرَجْتُ مَعْ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، رَضِيَ الله عَنْهُ، لَيْلَةً في رَمَضَانَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوزَاعٌ مُتَفَرقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ وُيصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِي بِصَلاَتِهِ الرَّهْطُ فَقَالَ عُمَرُ إِني أَرَى لَوْ جَمَعْتَ لهؤُلَاءِ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أمْثَلُ ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيّ ابْنِ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلِّونَ بِصَلَاةِ قَارِئِهِمْ قَالَ عُمَرُ: نِعْمَ الْبُدْعَة هذِهِ. البخاري كتاب الصيام باب فضل من قام رمضان 3/ 58 ومالك في الموطأ 1/ 114، والبغوي في شرح السنة 4/ 118 وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة وعزاه للبخاري. المشكاة 1/ 407.

الفريضة قد زال فصار قيام رمضان سنَّة للاقتداء بالنبي، - صلى الله عليه وسلم -، بعد زوال العلة التي تركه لأجلها وصار بدعة لأنه لم يكن مفعولًا فيما سلف من الأزمنة، ونعمت البدعة سنَّة أُحييت وطاعة فُعلت، وهذا يدل على أن الحكم إذا ثبت لعلة واحدة وجد بوجودها وعدم بعدمها. قال لنا فخر الإِسلام أبو بكر الشاشي، بمدينة الإِسلام (¬1) في الدرس إذا ثبت الحكم في الشريعة بعلة وجد بوجودها وعدم بعدمها ما لم تثر العلة لفظا مطلقا، فإن أثارت لفظا مطلقًا تعلَّق الحكم به ولا ينظر إلى العلة وجدت أو عدمت. مثاله ما روي أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إنما سعى في الطواف لإظهار الجلد للمشركين (¬2)، وقد زالت العلة لكن بقي قوله لأصحابه اسعوا (¬3)، وسعيه - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع (¬4) والعلة قد ¬

_ (¬1) هي بغداد حاليًا، وقدم الكلام عليها. (¬2) مسلم كتاب الحج باب استحجاب الرمل في الطواف 2/ 923، والنسائي 5/ 230 - 231، وأحمد. انظر الفتح الرباني 11/ 100 من حديث ابن عباس. (¬3) ورد من رواية عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت أبي شيبة قالت: أخبرتني بنت أبي تجارة، إحدى نساء بني عبد الدار، قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يسعى بين الصفا والمروة فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى لأقول إني لأرى ركبته، وسمعته يقول: "اسْعَوْا فَإِنَ الله كَتبَ عَلَيْكُمُ السَّعْي" رواه الإِمام أحمد في المسند من طريقين: الأولى عن يونس قال: ثنا عبد الله بن المؤمل، والثانية: عن سريج قال ثنا عبد الله بن المؤمل. انظر الفتح الرباني 12/ 76 - 77 ورواه الشافعي في الأم 3/ 49 - 50، والدارقطني 2/ 255، والبغوي في شرح السنة 7/ 141، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 247 وقال رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه عبد الله بن المؤمل وثقه ابن حبان وقال يخطئ، وضعفه غيره، لكن للحديث طريقًا أخرى عند الدارقطني 2/ 255 عن ابن المبارك أخبرني معروف بن مشكان عن أخته صفية قالت: أخبرني نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلن: دخلنا دار ابن أبي حسين فرأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يشتد في السعي .. وقال الحافظ في الإصابة رواه ابن سعد عن معاذ بن هانئ ومحمد بن سنجر عن أبي نعيم وابن أبي خيثمة عن سريج بن النعمان كلهم عن ابن المؤمل. الإصابة 4/ 269، وذكر في الفتح له طريقًا أخرى في صحيح ابن خزيمة مختصرة وقال وعند الطبراني عن ابن عباس كالأولى وإذا انضمت إلى الأولى قويت. فتح الباري 3/ 498. أقول: الحديث فيه عبد الله بن المؤمل بن هبة المخزومي المكي، ضعيف الحديث من السابعة، مات سنة 160/ بخ ت ق ت/4541 وقال في ت ت قال النسائي ضعيف، وقال أبو داود منكر الحديث ووثقه ابن سعد، وقال أبو حبان لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد، وقال ابن نمير ثقة وقال العقيلي لا يتابع على كثير من حديثه ت ت 6/ 46. (¬4) روى مسلم في كتاب الحج باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -2/ 886 من حديث جابر بن عبد الله قال: إِنَّ رَسُولَ الله =

زالت فتعلق الحكم بذلك وسقط اعتبار العلة. تقدير: ليس لصلاة رمضان ولا غيرها تعديد، إنما التعديد والتقدير للفرائض وإنما هو قيام الليل كله إلى طلوع الفجر لمن استطاع أو بعضه على قدر ما تنتهي إليه قدرته (¬1)، ومن الناس من يصلّي في القيام تسعا وثلاثين ركعة (¬2) يختص الإِمام منها باثني عشرة ركعة (¬3). والتقدير الشرعي ثلاث كعدد الوتر أو إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة أو خمس عشرة ركعة (¬4)، عدد ركعات الصلوات الفرضية (¬5) في العدد الآخر منها فأما غير ذلك من الأعداد فلا يحصل في تقدير ولا ينتظم بدليل والله أعلم. ¬

_ = - صلى الله عليه وسلم - مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحِج، ثُمّ أَذَّنَ في النَّاسِ في الْعَاشِرَةِ أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، حَاجٌّ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَيعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِ فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتى أَتيْنَا ذَا الحُلَيْفَةِ .. فَصَلَّى رَسُولُ الله، في الْمَسْجِدِ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى البَيْدَاءِ فَنَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ رَاكِب وَمَاشي وَعَنْ يَمِينهِ مِثْلُ ذلك وَعَنْ يسارِهِ مِثْلُ ذلِكَ وَمِنْ خَلْفِهِ ذَلِكَ .. رواه مالك في الموطأ 1/ 372، وأبو داود 2/ 455، والدارمي 2/ 4 - 49، وابن ماجه 2/ 1022، وشرح السنة 7/ 136، وأحمد 3/ 320، 321، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 7 - 9. (¬1) في (م) قوته. (¬2) عزاه الحافظ إلى محمد بن نصر فقد قال في الفتح 4/ 253 روى محمد بن نصر من طريق داود بن قيس قال: أدركت الناس في إمارة أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز يعني بالمدينة يقومون بست وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث، وقال: قال مالك: هو الأمر القديم عندنا. وعن الزعفراني عن الشافعي: رأيت الناس يقومون بالمدينة بتسع وثلاثين وبمكة بثلاث وعشرين، قال الحافظ: وليس في شيء من ذلك ضيق. (¬3) في (م) زيادة ومنهم من يصليها نيفًا وعشرين ركعة يختص الإِمام منها ثمان. وفي (ك) و (ص): يصلي سبعًا وعشرين. (¬4) في (م) زيادة: أو الأربع عشرة ركعة حسب ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في قيام الليل وحسب عدد ركعات الصلوات. وفي (ك) زيادة: أو سبع عشرة ركعة حسب ما روي عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، في قيام الليل. (¬5) قالت عائشة: (مَا كَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، يَزِيد في رَمَضَانَ، وَلاَ في غيْرِهِ، عَلَى إِحْدَى عَشَرَةَ رَكْعَةً يُصَلّي أَرْبَعًا فَلَا تسْأَلْ عَنْ حُسْنِهن وَطُولهن ثُمَّ يُصّلَّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولهِنَّ ثُمّ يُصَلِّي ثَلَاثًا .. " البخارى في التهجد باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم -، بالليل 2/ 66 - 67، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين باب صلاة الليل وعدد ركعات النبي - صلى الله عليه وسلم -، 1/ 509، والحديث ورد بعدة روايات عن عائشة. وقال الحافظ: الجمع بين هذه الروايات ممكن باختلاف الأحوال، ويحتمل أن ذلك الاختلاف بحسب تطويل القراءة وتخفيفها، فحيث يطيل القراءة تقلّ الركعات وبالعكس، وبذلك جزم الداودي وغيره. فتح الباري 4/ 253.

باب صلاة الليل

باب صلاة الليل إن الله سبحانه وتعالى لو شاء لسوَّى بين الأزمنة والأمكنة في الفضل ولكنه ببالغ حكمته وواسع رحمته جعل لبعضها مزية على بعض في الأجر، وخصّ كل واحد منها بعمل من الطاعة، وإلى هذا أشار الصدّيق، رضي الله عنه، بقوله: "إِنَّ لله عَمَلًا بِالْلَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ وَعَمَلًا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِالْلَّيْلِ" (¬1). فالأول: كالمغرب والعشاء والصبح والوقوف بعرفة والمبيت بالمزدلفة والبيتوتة ليالي مني لغير أصحاب السقاية. والثاني: كالظهر والعصر والصوم والضحية. والليلِ خلق من خلق الله تعالى عظيم جعله الله، عز وجل، سكنًا ولباسًا كما جعل النهار مسرحًا ومعاشًا (¬2)، ولكل واحد منهما حظه، وقد أمر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بقيامه قيل له {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} (¬3) والآية مشكلة وقد جرى الكلام عليها في موضعها من كتاب الأحكام (¬4). وفائدتها أن الله تعالى أمر رسوله، - صلى الله عليه وسلم - بقيام الليل وحدَّ له ما بين الثلث إلى النصف لا يزيد على النصف ولا ينقص من الثلث، وقالت عائشة، رضي الله عنها، "كَانَ قِيَامُ الْليْلِ فَرِيضَةً ثُمَّ نَسَخَهُ الله تَعَالَى فَقَالَ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} " (¬5)؛ يعني بالصلوات. وخص الله الليل بأن جعله موضعًا لإجابة الدعاء، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "جَوْفُ اللَّيْلِ أسْمَعُ" (¬6) ¬

_ (¬1) هذا القول للصديق لم أطَّلع عليه. (¬2) قال تعالى {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا}. سورة المزمل آية 6. (¬3) سورة المزمل آية 1 - 4. (¬4) انظر كتاب الأحكام 4/ 1871. (¬5) مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب جامع صلاة الليل 1/ 512، وأبو داود 2/ 87 - 88، والنسائي 3/ 199 - 200. (¬6) الترمذي من طريق عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة وقال: هذا حديث حسن، سنن الترمذي 5/ 526 - 527.

فأضاف السماع إليه وهو القبول كقول العرب (ليل نائم) (¬1)، وخص الله تعالى آخر الليل بالإجابة أكثر من أوله فقال - صلى الله عليه وسلم -: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ" (¬2) وروي: "إِذَا انْتَصَفَ الْلَّيْلُ (¬3) فَيَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُني فَأَغْفِرَ لَهُ" وهذه الخصيصة لم تجعل للنهار وإن كان محلًا للإجابة أيضًا، ولكن نبَّه على هذا لما فيه من سعة الرحمة بمضاعفة الأجر وتعجيل الإجابة، وقد ذهب قوم إلى أن قيام الليل (¬4) واجب، ......................... ¬

_ = وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة 1/ 388 وقال الشيخ ناصر في تعليقه عليه، رجاله ثقات لكنه من رواية ابن جريج عن عبد الرحمن بن سابط عنه وابن جريج مدلس وقد عنعنه، وعبد الرحمن بن سابط لم يسمع من أبي أمامة، كما قال ابن معين، فلعل تحسين الترمذي للحديث من أجل الشاهدين اللذين علقهما عن أبي ذر وابن عمر فقد قال: وروي عن أبي ذر وابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَّة قَالَ: جَوْفُ الْلَّيْلِ الْآخِرِ الدُّعَاءُ فِيهِ أفْضَلُ وَأرْجَى". أقول: الحديث فيه عبد الرحمن، ويقال ابن عبد الله بن سابط وهو الصحيح، ويقال ابن عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي المكي ثقة كثير الإرسال من الثالثة. مات سنة 118/ م د ت س ق. ت 1/ 480. وقال في ت ت: قيل ليحيى بن معين سمع عبد الرحمن من أبي أمامة؟ قال: لا. قيل من جابر؟ قال: لا هو مرسل وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. له في مسلم حديث واحد في الفتن وذكره البخاري وأبو حاتم وابن حبان في الثقات. ت ت 6/ 180 وانظر المراسيل ص 127، الكاشف 2/ 165. كما أن فيه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم المكي ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل من السادسة. مات سنة 150 أو بعدها، وقد جاوز التسعين، وقيل جاوز المائة، ولم يثبت/ع ت 1/ 520. وقال في ت ت قال الدارقطني: تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح، وقال: ابن عيينة كان يدلس عن الثقات ت ت 6/ 402. (¬1) قال الجوهري، ليل نائم، أي ينام فيه، وهو فاعل بمعنى مفعول فيه. صحاح الجوهري 5/ 2047. (¬2) متفق عليه البخاري في التهجد باب الدعاء والصلاة في آخر الليل 2/ 66، وفي التوحيد باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} 9/ 175. ومسلم في صلاة الصسافرين باب الترغيب في الدعاء والذكر آخر الليل والإجابة فيه 1/ 521 - 522، وأبو داود 3/ 234، والترمذي 2/ 307 - 308، والموطأ 1/ 214 كلهم عن أبي هريرة. (¬3) مسلم في الباب المتقدم 1/ 522 ولفظه "إِذَا مَضَى شَطْرُ الْلَّيْلِ أوْ ثُلُثَاهُ" وفي رواية أخرى "لَشَطْرُ الْلَّيْلِ أو لَثُلُثُ الْلَّيْلِ الْآخِرُ". (¬4) قال الحافظ ابن حجر: لم أر النقل في القول بوجوبه إلا عن بعض التابعين، وقال: قال ابن عبد البر: شذ بعض التابعين فأوجب قيام الليل ولو قدر حلب شاة، والذي عليه جماعة العلماء أنه مندوب إليه. ونقله غيره عن الحسن وابن سيرين قال الحافظ: والذي وجدناه عن الحسن ما أخرج محمد بن نصر وغيره =

تتميم

وربما مال إليها البخاري (¬1) ونزع من ذهب إلى ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَعْقُدُ الشَيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكمْ" (¬2) الحديث إلى قوله كَسْلاَن وهذا لا يصح؛ لأن عائشة، رضي الله عنها، قد صرحت في الصحيح أن قيام الليل منسوخ، ومحمل هذا الحديث بعد ذلك على الصلاة المفروضة وهي الصبح، وأيّ عقدة للشيطان لا تحلها صلاة الفجر والعبد بأدائها قد صار في ذمة الله تعالى حسب ما ورد في الحديث (¬3). تتميم: ورد فيما قدمناه من الأحاديث ألفاظ من المشكل رأينا أن نعطف عليها العنان بالإشارة إلى البيان حتى لا يمر القلب بها عليلًا أو يكون ما يراه منها عنده مجهولًا. قوله: يَنَزِلُ رَبُّنَا: هذا الحديث أمّ في الأحاديث المتشابهة، وقد ذهب كثير من العلماء، وخاصة من السلف، إلى أن يؤمن يها ولا يخوض في تأويلها؛ وقد رأى شيخ القراء (¬4) الوقوف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ} (¬5) ويتبدىء بقوله: والراسخون ¬

_ = عنه أنه قيل له ما تقول في رجل استظهر القرآن كله لا يقوم به إنما يصلي بالمكتوبة؟ فقال: لعن الله هذا، إنما يتوسّد القرآن، فقيل له قال الله تعالى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}، قال: نعم ولو قدر خمسين آية، وكأن هذا هو مستند من نقل عنه الوجوب. فتح الباري 3/ 27. (¬1) رد الحافظ ابن حجر على هذا القول فقد قال في الفتح 3/ 27: ادعى ابن العربي أن البخاري أومأ هنا إلى وجوب صلاة الليل لقوله (يَعْقُدُ الشَّيْطَانُ) وفيه نظر، فقد صرّح البخاري، في خامس ترجمة من أبواب التهجد، بخلافه حيث قال (من غير إيجاب)، وأيضًا فما تقدم تقريره من أنه حمل الصلاة هنا على المكتوبة يدفع ما قاله ابن العربي. وانظر البخاري في التهجد باب تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم -، على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب. البخاري 2/ 62. (¬2) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في موضعين: الأول في التهجد باب عقد الشيطان على قافية الرأس إذا لم يصلِّ 2/ 65، والثاني في بدء الخلق باب صفة إِبليس وجنوده 4/ 147 - 148، ومسلم في صلاة المسافرين باب فيما روي فيمن نام الليل أجمع حتى الصبح 1/ 538، وأبو داود 2/ 72، وابن ماجه 1/ 421 كلهم عن أبي هريرة. (¬3) مسلم في كتاب المساجد باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة 1/ 454، والترمذي 1/ 434، وقال حسن صحيح ورواه أحمد في المسند 4/ 312 - 313 بإسنادين عن الحسن عن جندب مرفوعًا كلهم عن جندب. (¬4) أقول: الذي يترجح لدي أنه أبو عمرو الداني، عثمان بن سعيد بن عثمان، أحد حفاظ الحديث ومن الأئمة في علم القرآن وروايته وتفسيره من أهل دانبة بالأندلس؛ ولد سنة 371 - 444 هـ الأعلام للزركلي 4/ 366، وانظر النجوم الزاهرة 5/ 54، ونفح الطيب 1/ 392 والصلة 398، وبغية الملتمس 399، وغاية النهاية 1/ 503، والنشر في القراءات العشر 1/ 58. (¬5) قال ابن كثير وقال عبد الرزاق كان ابن عباس يقرأ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ويقول الراسخون أمنا به، =

في العلم وهو اختيار إمام الأمة مالك بن أنس، رضي الله عنه، وهو بشهادة الله الحق، ولو ترك الغطاء لما تكلف سير (¬1) الليل ولا تعاطى، وقد تكلم الناس عليها فرأينا أن نخلص من ذلك التأويل ما يقوم عليه الدليل، وعلى هذا الركن عوَّلنا في تأليف كتاب المشكلين وإليه أسندناه. فأما مالك، رضي الله عنه، فقد بدّع السائِل عن أمثاله وصرف (¬2) عن أشكاله ووقف عند الإيمان به (¬3) وهو لنا أفضل قدوة (¬4). وأما الأوزاعي (¬5) (وهو إمام عظيم) فنزع بالتأويل حين قال: وقد سئل عن قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: (يَنْزلُ رَبَّنا فَقَالَ يَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ) (¬6) ففتح بابًا من المعرفة عظيمًا ونهج إلى التأويل صراطًا مستقيمًا (¬7). ¬

_ = وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك ابن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله، وحكى ابن جرير أن قراءة عبد الله ابن مسعود {إِنْ تَأْوِيلَهُ إِلَّا عِنْدَ الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمنّا بِهِ} واختار ابن جرير هذا القول. مختصر ابن كثير 1/ 265، وانظر تفسير الطبري 3/ 122، وتفسير أبي السعود 1/ 440، والمحرر الوجيز 3/ 19. (¬1) في (ك) (ص) سير سير وهي عبارة مشكلة. (¬2) في (م) صرفه. (¬3) رواه البيهقي في الأسماء والصفات ص 408 من طريق ابن وهب قال: كنا عند مالك بن أنس فدخل رجل فقال: يا أبا عبد الله. الرحمن على العرش استوى كيف استواؤه؟ قال: فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع وأنت رجل سوء صاحب بدعة، أخرجوه. وأورده الذهبي في العلو للعلي الغفار وصححه فقد قال روى البيهقي بإسناد صحيح .. مختصر العلو للعلي الغفار ص 103 وجوّد إسناده الحافظ في الفتح 13/ 407. (¬4) إن أفضل قدوة لنا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصواب أن يقول بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام. (¬5) هو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي من قبيلة الأوزاع، أبو عمرو، إمام الديار الشامية في الفقه والزهد وأحد الكتاب المترسّلين، ولد ببعلبك ونشأ في البقاع وسكن بيروت وتوفي بها سنة 157هـ. الأعلام للزركلي 4/ 94. (¬6) الذي في كتاب الأسماء والصفات من طريق محمد بن كثير المصيصي قال: سمعت الأوزاعي يقول: كنا والتابعون متوافرون نقول إنه عز وجل فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة. الأسماء والصفات ص 408. وأورده الذهبي في العلو للعلي الغفار ص 102 وأورده الحافظ وعزاه للبيهقي وقال وأخرجه الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} فقال: هو كما وصف نفسه. فتح الباري 13/ 406. درجة الأثر: قال الحافظ سنده جيد وصححه الذهبي في تذكرة الحفاظ 1/ 182 فقال إسناده صحيح. قلت: لم أطّلع على الذي نقل الشارح عن الأوزاعي ولعله فهمه من هذا النص وهو بعيد، والله أعلم. (¬7) أقول: الأَوْلى عندي ما نقله المؤلف من أن كثيرًا من علماء السلف كانوا يؤمنون بها ولا يخوضون في التأويل وسيأتي مزيد بيان.

شريعة

شريعة: إن الله سبحانه منزَّه عن الحركة والانتقال لأنه لا يحويه مكان، كما لا يشتمل عليه زمان، ولا يشغل حيّزًا كما لا يدنو إلى مسافة بشيء ولا يغيب بعلمه عن شيء، متقدس الذات عن الآفات منزّه عن التغيير والاستحالات إله في الأرض إله في السموات. وهذه عقيدة مستقرة في القلوب ثابتة بواضح الدليل. قال لي شيخ (¬1) العلماء: لا يمكن لأحد أن يعبر عن جلال الله تعالى وكماله إلا بهذه الألفاظ الناقصة التي يعبر بها عنا، فإذا سمعت العبارة عن الله تعالى فيجب عليك الإيمان بمعناها، ثم تعلم أنه ليس له مثل في ذلك لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬2) وهو كلام بديع, ولسعة اللغة في العبارة بالحقيقة والمجاز والحذف والزيادة والتطويل والاختصار يتمكن العالِم بالله تعالى من العبارة عنه والتنزيه به والعلم به عندنا إلى قوله: "يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا". قلنا: صدق ربنا وصدق نبينا والنزول في اللغة في الحقيقة حركة والحركة لا تجوز على الله سبحانه وتعالى، فلم يبق إلا العدول عن حقيقة النزول إلى مجازه وهو النزول بالمعاني، فإن النزول من علو الامتناع إلى علو القبول نزول معنوي كما أن النزول من علو الفوقية إلى سفل المكان نزول حسّيّ وفي الحديث و"أَنْزِلُ لَكَ عَنْ إِحْدَى زَوْجَتَيّ" (¬3) فإنها كانت تحت سلطان نكاحه، وتحت حجره ومنعه فإذا قال لها أنت طالق فقد ارتفع ذلك كله ولكون من أقسام المجاز التعجير عن الشيء بفائدته وثمرته، ويكون ذلك عبارة عن كثرة ما يفيض من الرحمة وينشر على الخلق منها ويوسعهم من عطائه على جميع المعاني من إجابة دعوة، وقضاء حاجة، ونيل مغفرة مما كان قبل ذلك ممتنعًا عليهم كامتناع ما يكون في العلو من فوقهم، وإلى هذا أشار الأوزاعي بقوله: (يَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ)، فجعله من صفات الفعل لا من صفات الذات وهذا فصل بالغ فاتخذوه دستورًا واشرعوه في سائر المشكلات سبيلًا (¬4). ¬

_ (¬1) لم يتضح لي من هو شيخ العلماء الذي يقصده الشارح. (¬2) سورة الشورى آية 10. (¬3) البخاري في النكاح باب قول الرجل لأخيه انظر أي زوجتيّ شئت حتى أنزل لك عنها. البخاري 7/ 4 - 5. عن أنس بن مالك، وفي الوليمة باب الوليمة ولو بشاة 7/ 30، وفي البيوع 3/ 68 - 69 عن عبد الرحمن بن عوف. (¬4) رحمة الله على أبي بكر فقد تكلم على هذا الحديث في شرحه على الترمذي وصوّب هناك ما صوّبه هنا من اختيار التأويل. انظر العارضة 2/ 233 ونحن نخالفه رحمه الله، في هذه المسألة، ونذهب إلى ما ذهب إليه =

وأما قوله: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ثَلَاثَ عُقَدٍ) فإنه عبارة عن ثقل النوم، ونسب ذلك إلى الشيطان حين كان آفة، كما نسبه إلى نفسه تعالى حين كان آية في قوله {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} (¬1). وعلى نحو هذا ورد في الحديث "أَنَّ رَجُلًا نَامَ عَنْ صَلاةِ الصُّبْحِ فَقَالَ: إلِكَ رَجُلٌ بَالَ الشيْطَانُ في أُذُنِهِ" (¬2) فضرب البول في الأذن لأنه مفسد لما يحل فيه مثلًا لفساد العبادة على هذا النائم حين تركها (¬3)، وذلك ¬

_ = السلف من السكوت عن التأويل، ونؤمن بما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة على طريق الإجمال وتنزه الله سبحانه عن الكيف والشبه بخلقه ونقول ما قال البيهقي وأسلمها الإيمان بلا كيف والسكوت عن المراد إلا أن يرد ذلك عن الصادق فيصار إليه. نقله عنه الحافظ في الفتح 3/ 30. وقال أيضًا في السنن الكبرى 3/ 3: كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون كيف، وإذا سئلوا أجابوا بالأثر. أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا أحمد بن عبد الله المروزي يقول، حديث النزول قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من وجوه صحيحة، وورد في التنزيل ما يصدقه وهو قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}. والنزول والمجيء صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال، بل هما صفتان من صفات الله تعالى بلا تشبيه، جل تعالى عما تقول المعطلة لصفاته والمشبهة بها علوًا كبيرًا. وقال أبو عمر ابن عبد البر في شرح هذا الحديث: هذا الحديث فيه دليل على أن الله عز وجل في السماء على العرش من فوق سبع سماوات، كما قالت الجماعة، وهو حجتهم على المعتزلة والجهمية في قولهم إن الله في كل مكان وليس على العرش، والدليل على صحة ما قاله أهل الحق في ذلك قول الله عز وجل {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله عز وجل {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} وقوله {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} وقوله تبارك اسمه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} وقوله {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} وقال {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} وقال جل ذكره {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} وهذا من العلو إلى أن قال: وأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقرَّ بها مشبّه، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله. التمهيد 129/ 7 - 145. (¬1) سورة الكهف آية 11. (¬2) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في التهجد باب إذا نام ولم يصلِّ بال الشيطان في أذنه 2/ 66، وفي بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده 4/ 148، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى الصبح 1/ 537، والنسائي 3/ 204، وابن ماجه 1/ 422 كلهم عن عبد الله بن مسعود. (¬3) قال الحافظ: اختلف في بول الشيطان فقيل هو على حقيقته قاله القرطبي وغيره، وقيل هو كناية عن سد الشيطان أذن الذي نام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر، وقيل معناه أن الشيطان استولى عليه واستخف به حتى اتخذ =

جائز في كلام العرب قال الشاعر: بال سهيل في الفضيخ (¬1) فَفسد (¬2) فنسبه إليه حين اقترن به وإن لم يكن ذلك من فعله، والله أعلم. وعلى هذا النحو جاء قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَإِنَّ الله لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا" (¬3)، والله أعلم. والملال صفة نقص مصدرها العجز، وذلك مستحيل على الله تعالى ولكنه أخبر بها عن نفسه استلطافًا بعبده كما قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (¬4) فأنزل نفسه منزلة المحتاج وهو الغني وكما قال تعالى: عَبْدِي مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي وَجِعْتُ فلَمْ تُطْعِمْنِي وَعَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقِنِي فَيَقُولُ وَكَيْفَ تَمْرَضُ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيَقُولُ مَرَضَ عَبْدِي فُلاَنٌ فَلَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ وَجَاعَ عَبْدِي فُلَانٌ وَعَطِشَ وَلَوْ أَطْعَمْتَهُ وَسَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ (¬5). فكان له تعالى في ذلك فضلان، والله ذو الفضل العظيم. أحدهما: كناية عن المريض والمحتاج بنفسه الكريمة برأيه (¬6). والثاني: استلطافه بقلوب عباده ترفيقًا لهم حتى يميلوا إلى الطاعة، وصار هذا في ¬

_ = كالكنيف المعد للبول إذ من عادة المستخف بالشيء أن يبول عليه، وقيل مَثَلٌ مضروب للغافل عن القيام بثقل النوم كمن وقع البول في أذنه وأفسد حسه والعرب تكني عن الفساد بالبول: بال سهيل في الفضيخ ففسد، وكني بذلك عن طلوعه لأنه وقت إفساد الفضيخ، فعبر عنه بالبول. فتح الباري 3/ 28 - 29. (¬1) الفضيخ عصير العنب وشراب يتخذ من بسر مفضوخ ولبن عليه الماء. ترتيب القاموس 3/ 399. (¬2) لسان العرب 3/ 45. فقال: قال الراجز، ولم يعزه. (¬3) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الإِيمان باب أحب الدين إلى الله أَدْوَمه 1/ 17، وفي كتاب التهجد باب ما يكره من التشديد في العبادة 2/ 48 وفي كتاب اللباس باب الجلوس على الحصير ونحوه 7/ 199، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين باب فضيلة العمل الدائم من قيام الليل وغيره 1/ 540، وفي كتاب الصيام باب صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - 2/ 811، وأبو داود 2/ 48، والنسائي 3/ 218 و 8/ 123، وابن ماجه 2/ 1416، والموطّأ 1/ 118 كلهم عن عائشة. (¬4) سورة الحديد آية 11. قال ابن كثير عند تفسير هذه الآية: يحث الله تعالى عباده على الإنفاق في سبيل الله، وقد كرر الله تعالى هذه الآية في كتابه في غير موضع. تفسير ابن كثير 1/ 531. (¬5) مسلم في كتاب البر والصلة باب فضل عيادة المريض 4/ 1990 من رواية أبي هُريْرَة. (¬6) كذا في جميع النسخ ولعلها برؤيته.

حديث غلبة النوم

أحد قسمي المجاز وهو التسبب (¬1)، وهو التعبير عن الشيء بفائدته وثمرته، وثمرة الملال الترك فكأنه قال: إن الله تعالى لا يترك ثوابكم حتى تتركوا طاعته وكأن هذا أبين لقلوب العامة (¬2)، ولكنه تبارك وتعالى أراد أن يجعل الكتاب منه آيات محكمات ومنه أُخر متشابهات ليرفع الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات (¬3) ويضل الزائغين عن سبل الهدى دركات. حديث غلبة النوم: عن حزب الليل قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: "كَتَبَ الله لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ" (3) وهذا أصل في الشريعة من فضل الله تعالى على الأمة إذا قطع بهم عن العمل قاطع، وقد انعقدت نيتهم عليه فإن الله يكتب لهم ثوابه وفي البخاري (عَنِ النَّبِيِّ، إذَا مَرَضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ الله لَهُ مَا كَانَ يفْعَلُهُ صَحِيحًا مُقِيمًا) (¬4) وقد اعترض على هذا الحديث سندًا ومتنًا؛ أما السند فإنهم ضعفوا السكسكي (¬5) رواية. ¬

_ (¬1) في (م) وهي زيادة وهي قوله وفي أحد قسمي التسبب وهو ... الخ. (¬2) قال النووي: قال العلماء إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد تشريفًا للعبد وتقريبًا له قالوا ومعنى وجدتني عنده أي وجدت ثوابي وكرامتي ويدل عليه قوله تعالى في تمام الحديث لو أطعمته لوجدت ذلك عندي لو سقيته لوجدت ذلك عندي أي ثوابه والله أعلم شرح النووي على مسلم 16/ 126. (¬3) مالك في الموطأ 1/ 117 عن مُحمَّد بْن الْمنْكَدر عنْ سعيد بن جبير عن رجلٍ عنْدهُ رضًا أَنَّهُ أَخْبَرهُ أَنَّ عَائشةَ زوج النبي, - صلى الله عليه وسلم -، أخبرته .. والحديث هنا فيه مجهول إلا أن السيوطي نقل عن ابن عبد البر إن هذا المجهول هو الأسود بن يزيد النخعي فقد أخرجه النسائي من طريقة أبي جعفر الرازي عن محمد بن المنكدر عن سعيد بن جبير عن الأسود بن يزيد عن عائشة، ورواه النسائي أيضًا من وجه آخر عن أبي جعفر عن ابن المنكدر عن سعيد ابن جبير عن عائشة ولم يذكر بينهما أحداً 3/ 257 - 258. ونقل الزرقاني عن الحافظ العراقي قوله وقد جاء من حديث أبي الدرداء بنحو حديث عائشة أخرجه النسائي وابن ماجه والبزار بإسناد صحيح. الزرقاني 1/ 241. وقال السبكي لا يقدح في الحديث إبهامه في رواية أبي داود، حيث علم من طريق آخر وهو ثقة. المنهل العذب المورود 7/ 239، وقد ترجم النسائي لرواية عائشة التي فيها الأسود بن يزيد بقوله اسم الرجل الرضى انظر سنن النسائي 258/ 3. درجة الحديث: صحيح. (¬4) أخرجه البخاري في الجهاد باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة 4/ 70، عن أبي موسى الأشعري. (¬5) هو إبراهيم بن عبد الرحمن السكسكي، أبو إسماعيل، الكوفي مولى صغير بالمهملة ثم المعجمة مصغرًا، =

وأما المتن فإنهم قالوا إن الباري تعالى يعطيه الأجر الذي كان يعمله صحيحًا مقيمًا ولكن غير مضاعف. قلنا لهم: لقد تحجرتم واسعًا، بل يعطيه الله تعالى الأجر كاملًا وقد بيَّنا في غير ما موضع من مجموعاتنا أصلًا يرجع إليه في هذا الاعتراض وهو أن الماري تعالى إنما يثيب العباد على قدر نياتهم لا بمقدار أعمالهم؛ فإن العبد يطيع خمسين عامًا مثلًا فيعطيه الله تعالى جزاء نعيم الأبد، وذلك على قدر النية، لأن نيته قد استمرت على أنه لو عمَّر إلى غير غاية لكانت هذه حاله في الطاعة فيقع ثوابه بإزاء نيته. وقد روي في الآثار عن الأحبار (نيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ من عَمَلِهِ) (¬1) وهذا هو وجه تأويله. وأما تضعيفهم لحديث السكسكي فغير ضائر لنا لأنه قد ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - " أَنَّهُ قَالَ في غَزْوَتِهِ: إِنَّ بِالْمَدِينَة قَوْمًا مَا سَلَكْتُمْ وادِيًا وَلَا قَطَعْتُم شعبًا إِلّا وَهُمْ مَعكُمْ حَبَسَهُمُ الْعذْرُ" (¬2)، حديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ في صَلاَتِهِ فَلْيَرْقُدْ) (¬3) الحديث إلى آخره. ليس في الشريعة دليل على وجوب الوضوء من النوم سواه. ووجه التعلق منه أنه قال: "لَعَلَّه يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فيَسبُّ نَفْسَهُ" فأشار إلى اختلال الحس وذهاب العقل الذي ¬

_ = صدوق ضعيف الحفظ من الخامسة، وروى له البخاري وأبو داود والنسائي، هكذا ترجمه الحافظ في ت 1/ 38. وقال عنه في هدي الساري: قال أحمد ضعيف وقال والنسائي: يكتب حديثه وليس بذلك القوي، وقال ابن عدي: لم أجد له حديثًا، منكر المتن وهو إلى الصدق أقرب، وقال الحاكم: قلت للدارقطني، لم ترك مسلم حديثه؟ فقال- تكلم فيه يحيى بن سعيد، قلت: بحجة؟ قال: هو ضعيف، قال الحافظ: قلت: له في الصحيح حديثان. هدي الساري 1/ 388. وقال في فتح الباري: ولرواية إبراهيم السكسكي عن أبي بردة متابع، أخرجه الطبراني من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده بلفظ "إنَّ الله يكتبُ للمريض أفضَل ما كان يعمل في صِحَّتِهِ ما دَامَ في وثاقِهِ" فتح الباري 6/ 137. والحديث أورده الألباني في صحيح الجامع الصغير 2/ 281 وقال صحيح. (¬1) أورده الألباني في ضعيف الجامع الضمير وعزاه للبيهقي في شعب الإيمان عن أنس وقال ضعيف. الجامع الصغير 6/ 17. (¬2) الحديث رواه البخاري في موضعين في الجهاد باب من حبسه العذر عن الغزو 4/ 31، والغزوات باب غزوة تبوك 6/ 10، وابن ماجه 2/ 923، وأحمد. انظر الفتح الرباني 21/ 204 كلهم عن أنس بن مالك. (¬3) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في الوضح باب الوضوء من النوم 1/ 63، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين باب أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن أن يرقد 1/ 542، وأبو داود 2/ 33، والترمذي 2/ 186 وقال حسن صحيح والنسائي 1/ 99 - 100، وابن ماجه 1/ 436، والموطّأ 1/ 118 كلهم عن عائشة.

يكون معه التحصيل، فربما استرسل وعاؤه وانحل وكاؤه فانتقضت طهارته وهو الغالب من حاله لأنها جبلة لا تنكر وحالة لا ترد فيعارض أصل الطهارة ظاهر هذه الحالة فيسقط الظاهر الأصل، وهي مسألة من أصول الفقه بديعة إذا تعارض أصل وظاهر تختلف فيها الأحوال وتتعارض فيها الأدلة وقد بيّناها في مكانها (¬1). حديث قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} إلى {لِلتَّقْوَى} (¬2) إنما مراده فيها أن الباري تعالى خلق العبد فأمره بالخدمة وضمن له المعيشة، فمن أراد من سيده أن يقوم له بمضمون المعيشة فليقم له بواجب الخدمة. القول في الوتر: أعلموا بصَّركم الله تعالى أن الوتر خاتمة النوافل وذلك أن الباري تعالى شرع الفرائض وترًا شرعًا مفروضًا فشرع كذلك النوافل وترًا شرعًا مسنونًا فإن الله وتر يحب الوتر، ولولا الوتر ما خلق الشفع، وإنما خلق الشفع ليتبين الوتر به فغاية الفرائض سبع عشرة ركعة، وإلى هذا العد انتهى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بالنوافل في صلاة الليل (¬3) مَثْنى مَثْنى فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمْ الْصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ (¬4) صَلَّى. وقد روي فيه (صَلَاةُ الْلّيْل وَالنَّهَارِ مثنى مثنى) (¬5) (¬6) ................................... ¬

_ (¬1) انظر المحصول للمؤلف 65 أوب. (¬2) سورة طه آية 132. هذا الأثر رواه مالك في الموطّأ 1/ 119، وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة 1/ 390. درجة هذا الأثر. صحيح إلى عمر من حيث الإِسناد، وقد ذهب إلى تصحيحه الشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة. (¬3) زيادة من (ك) و (م). لم يزد عليها وإنما يكون الوتر بالليل دون النهار قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صَلَاة الليْل .... الخ. (¬4) البخاري في كتاب الوتر باب ما جاء في الوتر 2/ 30، ومسلم كتاب صلاة المسافرين باب صلاة الليل مثنى مثنى والوتر بركعة من آخر الليل 1/ 516، وأبو داود 2/ 36، والترمذي 1/ 300، والنسائي 3/ 227، وابن ماجه 1/ 418، والموطّأ 1/ 123. كلهم عن ابن عمر. (¬5) قال الحافظ في الفتح: قوله مثنى مثنى أي اثنين وهو غير منصرف لتكرار العدل فيه، قال صاحب الكشاف. وقال آخرون للعدل والوصف وأما إعادة مثنى فللمبالغة في التأكيد، وقد فسره ابن عمر رأوي الحديث فعند مسلم من طريق عقبة بن حريث قال: قلت لابن عمر: ما معنى مثنى؟ قال: تسلم من كل ركعتين، وفيه رد على من زعم من الحنفية أن معنى مثنى مثنى أن يتشهد بين كل ركعتين لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به وهو المتبادر إلى الفهم لأنه لا يقال في الرباعية مثلًا أنها مثنى. فتح الباري 2/ 479. (¬6) زيادة النهار في هذا الحديث عند أبي داود 2/ 29، والترمذي 2/ 491 والنسائي 3/ 227، وابن ماجه =

وهو وهم قبيح (¬1) وكل صلاة رويت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في النهار مثنى شفع وكل صلاة رويت عنه بالليل فرد وتر، إذا ثبت هذا فإن الوتر مسنون غير مفروض في فعله ثواب بفضل الله تعالى، وفي تركه عقاب (¬2) إن شاء الله تعالى ومغفرة برحمة الله. وقال أبو حنيفة: هو واجب يعاقب تاركه وهو في المشيئة (¬3). وليس له في هذه المسألة دليل يُعوَّل عليه، وكل حديث يتعلق به باطل. وقد نزع سحنون (¬4) بهذه المسألة إلى الحنفية فقال: إن من ترك الوتر يؤدب، وإنما التقفها عن أسد (¬5) بن الفرات وهي، لعمر الله، ملح غير فرات فإن ظهر المؤمن حمى لا يستباح إلا إذا عصى، وقد قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في جواب الأعرابي الذي سأله عن فروض الصلاة خمس صلوات، فسأل: ¬

_ = 1/ 419، والموطأ 1/ 119 بلاغًا عن ابن عمر وابن خزيمة 2/ 214. درجة الحديث: بهذه الزيادة صححها الزرقاني فقد قال في شرحه للموطأ: بلاغه، أي مالك، صحيح وقد رواه ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله الأشج أن محمد بن عبد الرحمن بن قرمان حدثه أنه سمع ابن عمر يقول: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) شرح الزرقاني 1/ 245 وصححه الأعظمي وعزى ذلك إلى الألباني. انظر تعليقه على صحيح ابن خزيمة 2/ 214، وكذلك الألباني في صحيح الجامع الصغير 3/ 256 وقال الحافظ ابن حجر: قال ابن عبد البر لم ينقله أحد عن ابن عمر غير علي وأنكروه عليه، وكان يحيى بن معين يضعف حديثه هذا، ولا يحتج به ويقول: إن نافعًا وعبد الله بن دينار وجماعة رووه عن ابن عمر بدون ذكر النهار، قال الترمذي: صحح ما رواه الثقات عن ابن عمر فلم يذكروا فيه صلاة النهار، وقال النسائي. هذا الحديث عندي خطأ، وكذا قال الحاكم في علوم الحديث، وقال النسائي في الكبرى: إسناده جيد إلا أن جماعة من أصحاب ابن عمر خالفوا الأزدي فلم يذكروا منه النهار وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم في المستدرك، وقال الدارقطني: ذكر النهار فيه وهم، وقال البيهقي: هذا حديث صحيح، وعلي البارقي: احتج به مسلم والزيادة من الثقة مقبولة وقد صححه البخاري لما سئل عنه. تلخيص الحبير 2/ 22. درجة الحديث: الراجح لدي صحته لما تقدم. (¬1) قلت. الأَولى عدم التشنيع نظرًا إلى أن هذه الزيادة صححها أئمة كبار كالبخاري وغيره. (¬2) ولعل الصواب في تركه عتاب, ويؤيده ما في المسالك في فعله ثواب تفضل الله به وليس في تركه عقاب المسالك ل 124. (¬3) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 301. (¬4) سحنون تقدمت ترجمته. (¬5) 142 - 213 هـ. أسد بن الفرات بن سنان، مولى بني سليم، قاضي القيروان وأحد القادة الفاتحين. أصله من خراسان، وهو أول من فتح صقلية وتوفي من جراحات أصابته وهو محاصر سرقوسة برًا وبحرًا. الأعلام 1/ 291، الديباج 1/ 205 - 206، المدارك 3/ 150 - 151، شجرة النور الزكية 1/ 75، بغية الملتمس 223 - 224، قضاة الأندلس 54، تراجم إسلامية 152.

هل عليّ غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوّع، قال: فذكرها في دعائم الإسلام، وفي آخر الزمان. وقال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْس صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ الله عَلَى عِبَادِهِ في الْيَوْمِ وَالْلَّيلَةِ" الحديث إلى قوله: "أَدْخَلَه الله الْجَنَّةَ" (¬1). وإيجاب صلاة سادسة خرق في الشريعة لا يرقع وليس لهم فيه حديث أشبه من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْترُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ" (¬2)، ولم يصح من جهة السند ولا قوي من جهة المعنى فإنه إنما أراد بأهل القرآن الذين يقومون به ليلًا، وقيام الليل ليس بفرض في أصله، فكيف يكون فرضًا في وضعه. وقد ناقضوا فقالوا: إن الوتر يفعل على الراحلة (¬3)، فنقول: صلاة تفعل على الراحلة مع الأمن والقدرة فلا تكون واجبة كركعتي الفجر عكسه الصبح. حديث: قال عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما: "بتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمونَةَ في لَيْلَةٍ كانتْ فِيها حَائِضًا فَاضْطَجَعَتْ مَعَ رسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم - في الْوِسَادَةِ" (¬4) الحديث. وإنما ¬

_ (¬1) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب الزكاة في الإسلام 1/ 18، وفي باب العلم باب ما جاء في العلم، وقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} البخاري 1/ 24 - 25، وفي كتاب الحيل باب في الزكاة 9/ 29 ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان الصلوات الخمس التي هي أحد أركان الإسلام 1/ 40 - 41، وأبو داود 1/ 206، والنسائي 1/ 226 - 229 كلهم عن طلحة بن عبيد الله. (¬2) الحديث رواه أبو داود 2/ 127، من طريق عاصم بن ضمرة عن علي والترمذي 2/ 316، وقال حسن، والنسائي 3/ 228 - 229 وابن ماجه 1/ 370، والحاكم 1/ 300، وصحّحه، ورواه أحمد. انظر الفتح الرباني 4/ 273، وابن خزيمة 2/ 136 - 137 وأورده الشيخ ناصر في صحيح الترغيب والترهيب 1/ 243 وصححه. أقول: الحديث فيه عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي صدوق من الثالثة، مات سنة 174/ م. ت 1/ 384، وقال الذهبي وثقه ابن المديني، وقال النسائي ليس به بأس، وقال ابن عدي بتليينه وهو وسط الكاشف 2/ 50، ووثقه العجلي وابن سعد، وقال البزار هو صالح الحديث ت ت 5/ 45، وانظر الكامل 5/ 1866. درجة الحديث: ضعّفه الشارح وصحّحه الحاكم وابن خزيمة والشيخ ناصر وحسّنه الترمذي، وعندي أن تحسين الترمذي له واقع في محله من أجل الخلاف في عاصم. (¬3) المؤلف هنا يناقش الأحناف وانظر دليلهم في شرح فتح القدير 1/ 302. (¬4) الحديث متفق عليه أخرجه البخاريَ في كتاب الوضوء باب قراءة القرآن بعد الحدث وغيره 1/ 56 - 57 ومسلم في كتاب صلاة المسافرين باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/ 525 - 526، ومالك في الموطأ 1/ 121 كلهم من حديث ابن عباس: "أنَهُ باتَ لَيْلةً عندَ مَيْمُونَة، زوْجِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وَهِي خَالتُهُ، قالَ: فاضْطَجعْت في عرْض الْوِسادة واضطَجعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأَهْلَهُ في طُولِها فنامَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، حَتَّى إذا انْتَصَفَ الْلَّيْلُ أَوْ =

فعل ذلك مع النبي، - صلى الله عليه وسلم -، تأدبًا لئلا يحتاج إلى أهله في ليلة الطهر. وقوله (¬1): إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل تفسير لقوله تعالى. {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} (¬2) الآية. وهذا الحزر إنما يكون من ابن عباس، رضي الله عنهما، فإِن النبي كان عالمًا به ومثله الحديث "كُنَّا نُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْقَائِلُ يَقُولُ زَالَتِ الشَّمْسُ لَمْ تَزَلْ وَالنَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، كَانَ بِهِ عَالِمًا" (¬3) وقد روينا في المنثور (¬4) "إِنَ النَّبيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، كَانَ مع جبْرِيلَ فَقَالَ لَه: يَا جِبْرِيلَ زَالَتِ الشّمْسُ فَقَال لَهُ جِبْرِيلُ: لَا ثُمَّ قَالَ. نَعَمْ فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -. مَا هذَا؟ فَقَالَ لَه: إنَّ بِيْنَ قَولِي لَكَ لَا وَقَوْلِي لَكَ نَعَمْ لَقَد سَارَتِ الشَّمْسُ فِيهِ مَسِيرَةَ كَذَا وَكَذَا أَلْفَ عَامٍ" (¬5). وقوله: ثُمَّ قَامَ إِلَى شنٍّ (¬6) مُعَلَّقٍ روي أن شنَّ ميمونة كان من مَسْك (¬7) ميتة وأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال فيه: حين سئل عنه دباغه طهوره (¬8). ¬

_ = قبْلَه بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَه بِقَلِيلٍ استيْقَظ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَل يَمْسَحُ النَّوْمَ عَن وَجْههِ بِيَدهِ ثُمَّ قَرَأَ الْعشر الآيات الْخَوَاتِمِ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْران ثم قامَ إلى شَنّ معَلَّقةٍ فَتَوَضأَ منهَا .. فَصَلَّى رَكْعَتيْنِ ثُمَ رَكْعَتيْنِ ..). (¬1) في (م) و (ك) و (ص) زيادة حتى. (¬2) سورة المزمل آية 2 - 4. (¬3) مسلم في كتاب المساجد باب أوقات الصلوات الخمس عن أبي بكر بن موسى عن أبيه بلفظ "أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ سَائِلٌ يسألُهُ عَنْ مَوَاقِيت الصَّلاَةِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، قَالَ فَأَقَامَ الْفَجْر حِينَ انشق الْفَجْرُ وَالنَّاسَ لا يَكَادونَ يَعْرِف بَعْضهُمْ بَعْضًا ثُّمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ بِالظُّهْرِ حِينَ زالَت الشَّمْسُ وَالْقَائِلُ يَقُولُ قَدِ انْتَصَفَ النهَار وهو كَانَ أَعْلَمُ مُنْهُمْ ... " صحيح مسلم 1/ 429. (¬4) هكذا في جميع النسخ. (¬5) لم أطلع على هذا الأثر. (¬6) الشنان الأسقية الخلقة وأحدها شن وشنة وهي أشد تبردًا للماء من الجدد النهاية 2/ 506. (¬7) المسك بفتح الميم وسكون المهملة الجلد. فتح الباري 9/ 659. (¬8) أبو داود 4/ 368 عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أمه عن عائشة. والنسائي 7/ 176 وفيه عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عائشة والموطّأ 2/ 498 مثل رواية أبي داود وكذلك ابن ماجه 2/ 1194 وورد كذلك عند مسلم 1/ 278 من حديث ابن عباس. أقول: الحديث فيه أم محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن عائشة وعنها ابنها محمد ابن عبد الرحمن، قلت: ذكرها ابن حبان في الثقات. ت ت 12/ 484. ونقل الزيلعي عن ابن دقيق العيد قوله في الإِمام وأعلّه الأثرم بأن أم محمد غير معروفة، ولا يعرف

وقد ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - من طريق ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: "إِذَا دُبغَ الإهَابُ فَقَدْ طَهُرَ" (¬1). وفي هذه المسألة اضطراب كثير بين العلماء بينّاه في كتاب الخلاف لُبَابُه أن ابن حنبل يقول: لا ينتفع بجلد الميتة بحال وإن دبغ لحديث عبد الله بن حكيم (¬2) " أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرٍ "لاتَنْتَفِعُوا مِنَ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا بِعَصَبٍ" (¬3)، قال: وهذا معارض لحديث ابن عباس، رضي الله عنهما، لكن هذا معلوم ¬

_ = لمحمد عنها غير هذا الحديث. وسئل أحمد عن هذا الحديث فقال. ومن هي أمه؛ كأنه أنكره من أجل أمه. نصب الراية 1/ 117. درجة الحديث: ضعّفه الأثرم وأحمد وله شاهد من حديث ابن عباس يرتقي به إلى درجة الحسن والله أعلم. (¬1) رواه مسلم في كتاب الحيض باب طهارة جلود الميتة بالدباغ 1/ 277، وأبو داود 4/ 367، والترمذي 4/ 221، والنسائي 7/ 173، وابن ماجه 2/ 193، والموطّأ 2/ 498، وأحمد في المسند 1/ 219، من طريق عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس. وقال الترمذي: حديث ابن عباس حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروي عن سودة وسمعت محمدًا يصحح حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحديث ابن عباس عن ميمونة وقال: أحتمل أن يكون روى ابن عباس عن ميمونة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو روى ابن عباس. عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر ميمونة. (¬2) كذا في جميع النسخ والظاهر أنه خطأ من النساخ فقد ورد في الإصابة 2/ 346 عبد الله بن عكيم الجهني. قال البخاري: أدرك زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعرف له سماع صحيح، وانظر تجريد أسماء الصحابة للذهبي 1/ 106، وسنن الترمذي 4/ 222، وفتح الباري 9/ 659، وأبو داود 4/ 66، والنسائي 7/ 175، وابن ماجه 2/ 1194. (¬3) رواه أبو داود 4/ 66، والترمذي 4/ 222، وقال: هذا حديث حسن وليس العمل على هذا عند أكثر أهل العلم .. قال: سمعت أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر فيه قبل وفاته - صلى الله عليه وسلم -، بشهرين وكان يقول: كان هذا آخر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ترك أحمد بن حنبل هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده حيث روى بعضهم فقال: عبد الله بن عكيم عن أشياخ لهم من جهينة. ورواه النسائي 7/ 175، وابن ماجه 2/ 1194. وقال المباركفوري قال صاحب المنتقى: أكثر أهل العلم على أن الدباغ يطهر في الجملة لصحة النصوص به وخبر ابن عكيم لا يقاربها في الصحة والقوة لينسخها. ومن ثمّ ترك أحمد هذا الحديث أما اضطربوا في إسناده، وقال المنذري في تلخيص السنن بعد نقل كلام الترمذي هذا. وقال أبو بكر بن الحازم الحافظ: وقد حكى الخلال أن أحمد توقف في حديث ابن عكيم لما رأى تزلزل الرواة فيه، وقال بعضهم: رجع عنه، وقال أبو الفرج عبد الرحمن بن علي في الناسخ والمنسوخ تصنيفه وحديث ابن عكيم مضطرب جدًا فلا يقاوم الأول لأنه في الصحيحين يعني حديث ميمونة. تحفة الأحوذي شرح الترمذي 5/ 402 - 403.

التاريخ وذلك مجهول التاريخ، ولا خلاف بين العلماء أن المعلوم التاريخ هو الذي يقدم وقال ابن شهاب (¬1): ينتفع بجلد الميتة وإن لم يدبغ لقول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "وَقَدْ مَرَّ عَلَى مَيْتَةٍ هَلَّا انْتَفعْتُم بِإِهَابِهَا" (¬2)، ولأشكالها اختلف قول مالك، رضي الله عنه، فيها اختلافًا متباينًا. فمرة قال: يستعمل في الجامد دون المائع، ومرة قال: إن كان ففي الماء وحده، وتارة قال: من سرق جلد ميتة مدبوغًا نظر؛ فإن كان في قيمة دباغه ربع دينار قُطع ولم يعتبر قيمة ذاته، وتارة قال: يستعمل على الإطلاق (¬3) وليس يحتمل هذا القبس الإيضاح والتطويل، ولكننا نشير لكم إلى مشرعة (¬4) قريبة من النظر تسلكون فيها فإن أشكل عليكم شيء من أمرها فإيضاحه في كتاب الأحكام (¬5) قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ¬

_ = درجة الحديث: نقل الحافظ تصحيح ابن حبان وتحسين الترمذي فتح الباري 9/ 659. والظاهر ضعفه فقد نقل الزيلعي في نصب الراية 1/ 121، عن النووي قوله في الخلاصة: وحديث ابن عكيم أعلّ بأمور ثلاثة أحدها: الاضطراب في سنده، والثاني: الاضطراب في متنه فروي قبل موته بثلاثة أيام وروي بشهرين وروي بأربعين يومًا. والثالث: الاختلاف في صحبته قال البيهقي: لا صحبة له فهو مرسل. (¬1) رواه أبو داود من طريق عبد الرزاق 4/ 366 وأحمد 5/ رقم 3452 من طريقه أيضاً وانظر المصنف 1/ 62 ونقل ابن عبد البر عن أبي عبد الله المروزي قوله: ما علمت أحدًا قال ذلك قبل الزهري. انظر التمهيد 4/ 154. وقال الحافظ في الفتح 9/ 658: استدل به الزهري بجواز الانتفاع بجلد الميتة مطلقًا سواء أدبغ أو لم يدبغ، لكن صحّ التقيّد من طرق أخرى بالدباغ وهي حجة الجمهور. درجة الحديث: صححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند 5/ 3452 وقال ابن عبد البر وأما ابن شهاب فذلك عنه صحيح. التمهيد 4/ 156. (¬2) انظر صحيح مسلم 1/ 277. (¬3) قال ابن عبد البر: ذكر ابن عبد الحكم عن مالك ما يشبه مذهب ابن شهاب، قال: من اشترى جلد ميتة فدبغه وقطعه نعالاً فلا يبيعه حتى يبين، فهذا يدل على أن مذهبه جواز بيع جلد الميتة قبل الدباغ وبعد الدباغ .. والظاهر من مذهب مالك غير ما حكاه ابن عبد الحكم، وهو أن الدباغ لا يطهر جلد الميتة ولكن يبيح الانتفاع بها في الأشياء اليابسة ولا يُصلّى عليه، ولا يؤكل فيه. هذا هو الظاهر من مذهب مالك وفي المدونة: من اغتصب جلد ميتة غير مدبوغ فأتلفه كان عليه قيمته. وذكر أبو الفرج أن مالكًا قال: من اغتصب لرجل جلد ميتة غير مدبوغ فلا شيء عليه، قال إسماعيل: إلا أن يكون لمجوسي .. والآثار المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بإباحة الانتفاع بجلد الميتة شرط الدباغ كثيرة جدًا. التمهيد 4/ 157. (¬4) المشرعة، بفتح الراء، والشريعة هي الطريق إلى عبور الماء من حافة نهر أو بحر أو غيره. شرح النووي على مسلم 6/ 53. (¬5) أحكام القرآن 2/ 537 و 1/ 51، وانظر المنتقى 3/ 133، الأشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 4، والقرطبي 2/ 219.

إلى قوله {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} (¬1) وهي أمٌّ من أمهات مسائل الأحكام، فقوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} نص في التحريم لا كلام لأحد فيه ولا مجال للنظر معه. وقوله: الميتة عموم فمن الفقهاء من قال: هو عام في الجثة كلها وجميع أجزائها حرام (¬2). ومنهم من قال: إنما يتناول قوله: الميتة ما يموت (¬3) ولا يموت إلا ما كانت فيه حياة، والعظم والشعر لا حياه فيه فلا يموت فلا يتناوله التحريم (¬4). ومنهم من قال أما العظم ففيه حياة لأنه يحس والتحريم يتناوله ويألم فيموت فيحرم. وأما الشعر فلا حياة فيه فلا يموت فلا يتناوله التحريم، ألا ترى أنه يجز في حال الحياة وكذلك بعد الممات، فهذا مجال تختلف فيه هذه الأحوال ويفتقر كل فن منها إلى النظر والاستدلال فليؤخذ من موضعه فهذه منزلة من النظر. منزلة أخري. لما قال الله تعالى. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} قال: المبيّن لنا ما أشكل منه علينا وقد مرّ بشاة ميتة فقال: "هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغتموه فَانْتَفَعْتمْ بِهِ قَالُوا: يا رَسُولَ الله إِنَّهَا مَيْتَةٌ قَالَ. إِنَّمَا حُرِّمَ أَكْلُهَا" فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن متناول التحريم من عموم القرآن الأكل خاصة، وأن باقي الميتة على الإباحة الأصلية، ثم علم طريق تحصيل الانتفاع بالدباغ الذي جعله الله سبحانه بحكمته خلقًا للحياة؛ فإن الحياة تدفع العفونة عن الجلد ويبقى معها مهيئًا للانتفاع مع اتصاله باللحم، كما يفعل الدباغ بالجلد عند انفراده عن ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية 3. (¬2) هذا هو مذهب أحمد، قال ابن قدامة: كل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس لا يختلف المذهب في نجاسة الميتة قبل الدبغ ولا نعلم أحدًا خالف فيه، وأما بعد الدبغ فالمشهور في المذهب أنه نجس أيضًا. المغني 1/ 66. (¬3) قال ابن رشد: ممن رأى أن الدباغ مطهر الشافعي وأبو حنيفة، وعن مالك في ذلك روايتان إحداهما مثل قول الشافعي، والثانية أن الدباغ لا يطهرها ولكنها تستعمل في اليابسات، والذين ذهبوا إلى أن الدباغ مطهر اتفقوا على أنه مطهر لما تعمل فيه الذكاة من الحيوان أعني المباح الأكل. بداية المجتهد 1/ 61. (¬4) قال القرطبي: وأما شعر الميتة وصوفها فطاهر .. لأنه كان طاهرًا لو أخذ منها في حال الحياة فوجب أن يكون كذلك بعد الموت. تفسير القرطبي 2/ 219، وقال الشارح في الأحكام 3/ 1157: اختلف الفقهاء بحسب اختلاف التأويل فقال مالك وأبو حنيفة: إن الموت لا يؤثر في تحريم الصوف والوبر والشعر لأنه لا يلحقها إذ الموت عبارة عن معنى يحل بعدم الحياة ولم تكن الحياة في الصوف والوبر فيلحقها الموت فيها، وقال الشافعي: ذلك كله يحرم بالموت لأنه جزء من أجزاء الميتة وقد قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وذلك عبارة عن الجملة وإن كان الموت يحل بعضها، وقال: والجواب عن قوله هذا أن الميتة وإن كان اسمًا ينطلق على الجملة فإنه إنما يرجع بالحقيقة إلى ما فيه حياة فنحن على الحقيقة لا تعدل عنها إلى سواها.

اللحم، فأما ابن شهاب فرأى قوله. "هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ" فأقدم عليه، وأما غيره فرأى قوله: فدبغتموه، ولو علمه ابن شهاب لما تعداه. وأما أحمد بن حنبل فإنما كان يصح ما قال بشرطين: أحدهما: لو صح حديثه كصحة حديثنا فإن التعارض بين الخبرين إنما يكون إذا استويا في الصحة. وأما الشرط الثاني: فبأن يتعارض (¬1) الخبران لفظًا، ولا معارضة بينهما ها هنا؛ لأن الجلد يسمى إهابًا قبل أن يدبغ وأديمًا إذا دبغ، فمتناول حديث عبد الله بن عكيم غير متناول حديث عبد الله بن عباس. وأما مالك، رضي الله عنه، فكان حبر الشريعة حبر اللغة لم يخف عليه شيء من هذه الاعتراضات، ولكنه كان حوّاطًا على الدين، ملتفتًا إلى مصالح المسلمين (¬2)، غواصًا على معاني ألفاظ العربية. فتارة نظر إلى قوله "هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ" فأشار إلى مجرد الانتفاع ولم يقل إنه يعود إلى الحالة الأولى، فأعطاه درجة واحدة من الانتفاع حملًا لمطلق اللفظ على أقل ما يقع عليه الاسم، وهو أصل عظيم من أصول الفقه اضطربت فيه أقوال العلماء، ووفر عليه مالك، رضي الله عنه، حظ المعنى ولا سيما في الأَيمان برًا وحنثًا. ثم نظر تارة في أقل درجات الانتفاع، فقال تارة: يستعمل في الجامد لا سيّما والنفس تتقززه في المائع خاصة. وتارة قال: يستعمل في الماء وحده؛ إشارة إلى أنه مخصوص في الإباحة من أصل محرم على خلاف القياس فيقف حيث ورد به الشرع خاصة، وتارة قال: يستعمل على الإطلاق، وهذا القول وإن لم يكن مشهورًا في الرواية فإنه صحيح في الدليل لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال في الصحيح: "إِذَا دُبِغَ الإهَابُ فَقَدْ طَهَرَ" (¬3). واستدعى الماء من شن فقيل إنها ميتة فقال: "دِبَاغُهَا طهُورُهَا" وهذا يسقط كل نظر. حديث: زيد بن خالد رضي الله عنه قال: "لأَرْمُقَنَّ (¬4) الْلَّيْلَةَ صَلَاةَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) في (ص) تعارض. (¬2) في (ك) و (م) و (ص) الخلق. (¬3) تقدم تخريجه. قلت ما رجحه الشارح هنا هو الراجح من حيث الدليل والله أعلم. (¬4) رمقه لحظه لحظًا خفيفًا. مختار القاموس 261.

تتميم

فَتَوَسَّدْتُ (¬1) عَتَبَتَهُ" (¬2)، الحديث (¬3). إن قيل كيف جاز هذا لزيد وهو تجسس وقد قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: (وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا) (¬4) الحديث إلى آخره. وإذا أذن الرجل لمنزل صاحبه ليسمع ما يحتاج إليه كذلك يسمع ما يستغنى عنه أو ما لا يجوز له سماعه، قلنا عنه جوابان: أحدهما: أن يكون ذلك بعلم رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، بمكان زيد. وإذا علم صاحب المنزل بذلك جاز للمتجسس. والثاني: يحتمل أن يكون بغير علمه ولكن زيدًا كان على بعد حتى سمع النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يتوضأ ويقرأ فحينئذ دنا وذلك جائز مع كل أحد. تتميم: الوتر عبادة مؤقتة. روى مسلم عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - "أنَّ وَقْتَ الْوتْرِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ" (¬5). ¬

_ (¬1) الوسادة ما يضعون رؤوسهم عليه عند النوم. تنوير الحوالك 1/ 143. (¬2) العتبة: موضع الباب. المنتقى 1/ 220. (¬3) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/ 531 - 532، وأبو داود 2/ 99، وابن ماجه 1/ 433، والموطّأ 1/ 122 قال الباجي، تعليقًا على هذا الحديث: انفرد يحيى بن يحيى في هذا الحديث بأمرين أحدهما أنه قال في الركعتين الأولين طويلتين، وسائر أصحاب الموطأ قالوا عن مالك في الأولين خفيفتين. والثاني أنه قال طويلتين طولتين ثلاثًا، وسائر أصحاب الموطّأ قالوا ذلك مرتين فقط؛ يعني بذلك المبالغة في طولها. الباجي 1/ 220. ونقل السيوطي عن ابن عبد البر قوله: لم يتابع يحيى على هذا أحد من رواة الموطأ، والذي في الموطأ عند جميعهم: فصلى ركعتين خفيفتين ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين، فأسقط يحيى ذكر الركعتين الخفيفتين وذلك خطأ واضح؛ لأن المحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حديث زيد بن خالد وغيره أنه كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين، وقال أيضًا طويلتين طويلتين مرتين، وغيره يقول ثلاث مرات، وذلك مما عد على يحيى من سقطه وغلطه والغلط لا يسلم منه أحد. تنوير الحوالك 1/ 144. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب ما ينهى عنه من التحاسد والتدابر 8/ 23، ومسلم في كتاب البر والصلة باب تحريم الظن والتجسس والتنافس 4/ 1985، وأبو داود 4/ 280 كلهم من حديث أبي هُرَيْرَة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِن الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ولا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَسَّوا وَلَا تَنَافَسُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ الله إخْوَانًا". لفظ مسلم. (¬5) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب صلاة الليل مثنى مثنى 1/ 520 والترمذي 2/ 332، =

غريبة

ويعطيه قوة حديث مالك، رضي الله عنه، وذلك قوله: "فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى" (¬1). فقوله: فَإِذَا خَشَيَ أَحدُكُمُ الصُّبْحَ، فعل دليل على الخوف، بيد أن مالكًا، رضي الله عنه، قال: إنه يجوز إن طلع الفجر ما لم يصلَّ الصبح، وبالغ حتى قال: يقطع له صلاة الصبح بعد الدخول فيها فإن فعل بعد الفجر فإنما يكون على معنى القضاء كما تفعل ركعتا الفجر بعد طلوع الشمس وقبل صلاة الصبح على معنى القضاء، والأمر في ذلك قريب فأما قطع صلاة الصبح لها فلست أراه. وقد تعلق علماؤنا في ذلك بإسكات عبادة للمؤذن عن الإقامة (1)، والإقامة من جملة الصلاة وهذا ضعيف من وجهين: أحدهما: أن قول عبادة ليس بحجة. والثاني: أن الإقامة وإن كانت من شروط الصلاة على قول فليست من أجزائها (¬2) بحال، وقد بينا ذلك في موضعه. غريبة: قال الشافعي: يوتر الإنسان بواحدة (¬3)، وقال مالك وأبو حنيفة: أقل الوتر ثلاث (¬4) إلا أن علي بن زياد روى عن مالك أن المسافر يوتر بواحدة (¬5)، وهذه مسألة من مسائل ¬

_ = والنسائي 3/ 231، والحاكم في المستدرك 1/ 301 كلهم من طريق أبي نضرة العوفي أن أبا سعيد أخبرهم أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن الوتر فقال: "أَوْترُوا قَبْلَ الصُّبْحِ" لفظ مسلم .. (¬1) مالك عَنْ يَحْيىَ بْنِ سَعِيدٍ أنَّهُ قَالَ: كَانَ عُبَادةُ بْنُ الصَّامِتِ يَؤُمُّ قَوْمًا فَخَرَجَ يَوْمًا إِلَى الصُّبْحِ فَأقامَ الْمُؤَذِّنُ فَأسْكَتَهُ عُبَادة حَتَّى أوْتَرَ ثُمَّ صَلَّ الصُّبحَ. الموطّأ 1/ 126، وهذا الأثر فيه انقطاع لأن يحيى بن سعيد شيخ مالك لم يدرك عبادة بن الصامت، فقد نقل الحافظ عن علي بن المديني إن يحيى لم يسمع عن صحابي غير أنس. انظر ترجمته ت ت 11/ 221 وترجمة عبادة بن الصامت في الإصابة 2/ 268 - 269. درجة الأثر: ضعيف لانقطاعه. (¬2) في (م) على حال. (¬3) انظر الروضة للنووي 1/ 328. (¬4) انظر مذهب أبي حنيفة في شرح فتح القدير 1/ 303. (¬5) لم أجد هذا القول منسوبًا إلى علي في المدونة. انظر المدونة 1/ 120. كما رجعت للقطعة الموجودة من رواية علي بن زياد من الموطأ بتحقيق الشاذلي النيفر وهي تبدأ من =

فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ

الخلاف وكثر فيها النزاع وبسطت فيها الأدلة، فيا ليت شعري إذا صلى ركعة واحدة تكون له وترًا لماذا (¬1). هذا مما لا أرى له وجهًا والله أعلم. فَضْلُ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلاَةِ الْفَذِّ عند علمائنا (¬2) وعند (ح) (¬3) و (ش) (¬4) إن صلاة الجماعة من فروض الكفاية لأنها من شعائر الدين وليست عامة في جميع المسلمين، وعليها ترجم مالك، رضي الله عنه، بقوله (فَضْلُ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَلاَةِ الْفَذِّ) (¬5). ولولا أن صلاة الفذ مجزية ما كان بينها وبين صلاة الجماعة فضل؛ لأن الفضل فرع الأجزاء ومن الممتنع ثبوت الفرع مع عدم الأصل. فإن قيل ولعل المفاضلة أرفع بينهما إذا كانت صلاة الفذ على (¬6) عذر، قلنا: هذا لا يجوز لأن صلاة المعذور مساوية في الإجزاء لصلاة المقدور، حسب ما بيناه من قبل ونص عليه النبي، - صلى الله عليه وسلم -، (حين قال "إِنَ بِالْمَدِينَةِ قَوْمًا مَا سَلَكْتُمْ وَاديًا وَلَا قَطَعْتُمْ شعبًا إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمُ حَبَسَهُمُ الْعذْرُ" (¬7). فإن قيل فقد روى مسلم أن رجلًا ضرير البصر جاء إلى النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، يعتذر إليه ¬

_ = الضحايا إلى الذبائح ولا يوجد فيها كتاب الصلاة الذي هو مظنة هذا الكلام. وعلي بن زياد هذا هو التونسي الثقة الأمين المرجوع إليه في الفتوى، سمع جماعة منهم الليث والثوري، وعنه روى الموطأ وكتبًا أخرى. مات سة 183 بتونس. شجرة النور الزكية 1/ 60، والديباج لابن فرحون 2/ 92، المدارك 1/ 326، وطبقات علماء أفريقية وتونس 220 - 223، ورياض النفوس 1/ 158، والحلل السندسية 1/ 3/ 708 - 771. (¬1) أي أنها لم تسبقها صلاة شفع لتوترها بتلك الركعة الواحدة، كما في لفظ الحديث: "فَإِذَا خَشي طُلُوعَ الْفَجْرِ أوْتَرَ بِرَكْعَةٍ تُوترُ له مَا قَدْ صَلَّى" وقد تقدم تخريجه. وقد ورد ما يدل على مشروعية الوتر بركعة واحدة كما في حديث أبي أيوب عند الحاكم 1/ 302 وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. (¬2) في (ص) و (م) و (ك) زيادة رحمة الله عليهم. (¬3) انظر مذهب الأحناف في شرح فتح القدير 1/ 243. (¬4) وانظر مذهب الشافعي في الروضة 1/ 339. (¬5) الموطّأ 1/ 129. (¬6) في (م) عن. (¬7) مسلم باب ثواب من حبسه عن العذر مرض أو عذر آخر: 3/ 1518.

تفسير

بضرارته عن الإقبال إلى الجماعة (فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم - أتَسْمَعُ النِّدَاءَ قَالَ لَهُ نَعَمْ قَالَ لَا أجِدُ لَكَ رِخْصَةً" (¬1) قلنا عنه ثلاثة أجوبة: أحدها: اتفاق الأمة على أن العذر مسقط للجماعة. نعم ولأصل الصلاة ما عدا الإيماء، فكأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، رأى أن ما ذكر من ضرارة البصر ليس بعذر لأنه كان يتصرف في حوائج نفسه فعبادة ربه أولى. الثاني: أنه كان زمان نفاق فكره النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، إِن رخَّص له أن يتسبب بذلك المنافقون إلى التخلف ويذكرون أعذارًا. الثالث: قال علماؤنا: روي في الحديث أن هذا السؤال من هذا الضرير إنما كان في صلاة الجمعة وهي فريضة على الأعيان. تفسير: ذكر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في تحديد التفضيل بين صلاة الجماعة وصلاة الفذ خمسة وعشرين جزءًا وسبعًا وعشرين درجة (¬2)؛ وذلك مما لا يوقف على تعيينه وقد تكلف الناس جمعها (¬3) على وجه لا أرضاه، أما إنه قد جاء في الصحيح على لسان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إنه أشار إلى ذلك في قوله "صَلاَةُ أحدِكُمْ في الْمَسْجِدِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ في سُوقِهِ وَصَلاَتِهِ في ¬

_ (¬1) مسلم كتاب المساجد باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء 1/ 452، والنسائي 2/ 109 كلاهما عن أبي هُرَيْرَة وأورده ابن الأثير في جامع الأصول 5/ 564 ولم يعزه لغيرهما. (¬2) رواية سبع وعشرين متفق عليها: البخاري في كتاب الأذان باب فضل صلاة الجماعة 1/ 165 - 166، ومسلم في صلاة المسافرين باب فضل صلاة الجماعة 1/ 450، والموطّأ 1/ 129، والترمدي 1/ 420 كلهم عن ابن عمر وقال الترمذي حديث ابن عمر حسن صحيح ثم قال: وهكذا روى نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: تفضل صلاة الجميع على صلاة الرجل وحده بسبع وعشرين درجة. قال أبو عيسى وعامة من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما قالوا بخمس وعشرين إلا ابن عمر فإنه قال بسبع وعشرين. وقال الحافظ في الفتح: قال الترمذي عامة عن رواه قالوا خمسًا وعشرين إلا ابن عمر فإنه قال سبعًا وعشرين. قلت: لم يختلف عليه في ذلك، ثم قال واختلف في رواية الخمس والسبع أيهما أرجح فقيل رواية الخمس لكثرة رواتها، وقيل رواية السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ. ووقع الاختلاف في موضع آخر من الحديث وهو مميز العدد المذكور، ففي الروايات كلها التعبير بقوله درجة أو حذف المميز إلا طرق حديث أبي هُرَيْرَة ففي بعضها ضعفًا وفي بعضها جزءًا وفي بعضها درجة وفي بعضها صلاة، ووقع هذا الأخير في حديث أنس. وألظاهر أن ذلك من تصرف الرواة، ويحتمل أن يكون من التفنن في العبارة وقال أيضًا إن الحكمة، في هذا العدد الخاص، محققة المعنى. ونقل الطيبي عن التروبشتي ما حاصله أن ذلك لا يدرك بالرأي بل مرجعه إلى علم النبوة. فتح الباري 2/ 131 - 132. (¬3) في (م) جمعه.

نكتة أصولية

بَيْتِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ درَجَةً وَذلِكَ أَنَّهُ لاَ يَخْطُو خُطْوَةً إِلَّا كَتَبَ الله لَهُ بِهَا حَسَنَةً" (¬1) الحديث إلى آخره. وهذه المعاني مما لا تدرك بالقياس؛ فاستعمال النظر فيها جهل وعناء وقوله - صلى الله عليه وسلم - (عَلَى صَلاَتِهِ في سُوقِهِ) يعني إذا صلى وحده. وأما لو كان في السوق مسجد مختط لكان مثل سائر المساجد، فإن لم يكن مختطًا وصلى أهل (¬2) السوق جماعة كان بمنزلة البيت يصلَّى فيه جماعة فإنه يكتب فيه أجر الاجتماع وينقصه فضلان أجر الخطا وإعلان الشعار وهذا بالغ فتحققوه وركبوا عليه وافهموه. وأما حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، في همّ النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، بالحرق علي المتخلفين عن الصلاة (¬3) فهو أضعف الحجج لهم لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال فيه: "فَآمُرُ رَجُلًا يَؤُمُّ النَّاسَ ثُمَّ أُخَالِفُ إِلَيْهِمْ" فقد ترك الجماعة فإن قيل تركها لأخرى قلنا هذه دعوى في موضع الاحتمال من غير دليل. ووجه آخر همَّ النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ولم يفعل ولو كان فرضًا لأنفذ ما همّ به. وجه ثالث: إنما كان الغالب على التخلف (¬4) للجماعة أهل النفاق فأراد النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أن يضرم عليهم بيوتهم ليقطع جوارهم (¬5) ويحسم شرارهم. نكتة أصولية: قد بيَّنا فيما سلف وفي غير ما وجه (¬6) من الإملاء أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كان يقضي باجتهاده والشريعة من ذلك ملأى ولذلك همَّ بحرق البيوت ثم تركه إمهالًا أو لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يحرق دور أصحابه، وفيه دليل على إعدام محل المعصية، كما قال ¬

_ (¬1) البخاري كتاب الأذان باب فضل صلاة الجماعة 1/ 166. وأبو داود 1/ 153، والترمذيَ 1/ 421، وابن ماجه 1/ 258 كلهم عن أبي هُرَيْرَة. (¬2) في (م) أهله في جماعة. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري كتاب الأذان باب وجوب صلاة الجماعة 1/ 165، ومسلم في كتاب المساجد باب فضل صلاة الجماعة 1/ 451، ولفظه "أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هُمَمْتُ أَنْ آمُرَ بَحَطَبٍ فَيُحْتَطَبُ ثم آمُرُ بِالصَّلاَةِ فَيؤَذَّنُ لَهَا ثُمَّ آمُرُ رَجُلًا فَيَؤُمُّ النَّاسَ ثُمّ أُخَالِفُ إلَى رِجَالٍ فَأحرِقْ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ ..) لفظ البخاري. (¬4) في (م) التارك وفي (ك) و (ص) العبارة غير واضحة. (¬5) في (ك) و (ص) جوارحهم وهي الصواب. (¬6) في (م) في غير ما موضع وكذا في (ك) و (ص).

فائدة فقهية

مالك، رضي الله عنه , وخالفه في ذلك أبو حنيفة والشافعي، رضي الله عنهما، والصحيح قول علمائنا، والدليل على صحة ذلك ما ثبت في الأثر الصحيح (¬1) من كسر الدنان. وحرق عمر، رضي الله عنه، بيت (¬2) خمار وحين ملكت أمر الدين حرقت قراقر (¬3) كثيرة كانت مخصوصة بالمعاصي. فائدة فقهية: عجبتُ للعلماء حيث عيّنوا في اليمين بالله تعالى وتركوا سائر الأيمان التي أقسم الله تعالى بها في كتابه، وجرت على لسان رسوله من الأيمان كقوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (¬4) وقول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "وَاْلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ" (¬5) وقوله: "لَا وَمُقَلِّبُ الْقُلُوب" (¬6). والذي ظهر لي (¬7) من ذلك أن كل ما ذكر الله ورسوله من الأيمان بغير قولك بالله لمَ يكن في مقطع الحق حتى لما جاء مقطع الحق وذكر كيفية اليمين. قال الله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} (¬8)، وفي الكلام تطويل كثير استوفيناه في كتاب أحكام القرآن (¬9). حديث: أرسل مالك، رضي الله عنه، عن سعيد بن المسيب (في فضل العتمة ¬

_ (¬1) رواه الترمذي 3/ 588، وروى أبو داود أن أبا طلحة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن أيتام ورثوا خمرًا (قَالَ: أهْرِقْهَا، قَالَ: أفَلاَ أُجَمِّلُهَا، قَالَ: لاَ" سنن أبي داود 3/ 326. وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة 2/ 1082 وترجم به البخاري باب هل تكسر الدنان التي فيها خمر 3/ 178. درجة الأثر: صححه الألباني في تعليقه على المشكاة 2/ 1082 والشارح. (¬2) رواه أبو عبيد في الأموال عن يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: وجد عمر في بيت رجل من ثقيف شرابًا فأمر به فأهرق .. الأموال ص 152. درجة الأثر: صحيح. (¬3) القرقارة كوب من زجاج طويل العنق كما في المنجد ولعل الشارح يريد به الأماكن المخصوصة بالمعاصي. (¬4) سورة الذاريات آية 23. (¬5) تقدم تخريجه ص 306 وهو في البخاري في الباب الآتي عن عبد الله بن هاشم 8/ 61. (¬6) أخرجه البخاري في كتاب الأيمان والنذور باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - 8/ 160 وفي كتاب القدر باب يحول بين المرء وقلبه 8/ 157 والترمذي 4/ 113 وقال حسن صحيح، والنسائي 7/ 2 - 3، وابن ماجه 1/ 677 وقالا: لا ومصرف القلوب وقد ورد عند الجميع من رواية ابن عمر. (¬7) في (م) في ذلك. (¬8) سورة المائدة آية 107. (¬9) انظر تفصيل المسألة في الأحكام 1/ 725.

نكتة أصولية

والصبح (¬1) وأوقف على عثمان فضلهما)، وقد بيَّنا أن مسلمًا أسنده (¬2)، وإنما خصهما النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في هذا الموضع بالتنبيه على الفضل لأن الصبح تأتي في وقت فيه النوم والعتمة، تأتي في وقت يستولي فيه على البدن النصب؛ فإذا قابل استيلاء النصب وغلبة النوم إيمانًا ضعيفًا أخَّرهما أو تركهما استخفافًا وتكاسلًا، وإذا غلب اليقين قام إلى فعلهما، وضرب المثل بالمنافقين مجازًا لأنه قد يتركهما من ليس بمنافق. ووجه المجاز في ذلك أن الله تعالى قال في صفة المنافقين {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬3). نكتة أصولية: غفر الله تعالى للرجل الذي وجد غصن شوك على الطريق فنزعه (¬4)، كما غفر للبغي التي سقت الكلب بموقها (¬5) وهذا المقدار من الحسنات لم يوازِ أجره قدر وزر الزنا في السيئات ولكن فيه ثلاث معان: أحدها: أن هذا الفعل إنضاف إلى سواه، وذكر دون غيره تنبيهًا على قدره. الثاني: أنه كان سببًا للتوبة فترتب الغفران عليها وترتبت هي على هذا السبب فأضيف الحكم إلى السبب الأول تنبيهًا على اكتساب الحسنات، فإن الحسنة إلى الحسنة ولاية والسيئة إلى السيئة غواية. الثالث: في معنى غفر الله له أي غفر له من ذنوبه بمقدار هذا الفعل من الأجر. ¬

_ (¬1) مالك عن عبد الرحمن بن حرملة الأسلمي عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ شهُودُ الْعشاءِ وَالصُّبْحِ لَا يَسْتَطِيعُونَهُمَا ..). الموطّأ 1/ 130 قال ابن عبد البر: هذا الحديث مرسل في الموطّأ لا يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسندًا؛ ومعناه محفوظ من وجوه ثابتة. تنوير الحوالك 1/ 151. (¬2) مسلم في كتاب المساجد باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة 4/ 451، ورواه الترمذي 1/ 433، وقال حسن صحيح، وقال وقد روي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن عثمان موقوفًا، وروي من غير وجه عن عثمان مرفوعًا، وأحمد في المسند رقم 408 و 491، وابن خزيمة 2/ 365 وأورده الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/ 168، ولفظ الحديث عن عثمان بن عفان قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ في جَمَاعةٍ فَكَأنَّمَا قَامَ نِصْفَ الْلَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّمَا صَلَّى الْلَّيْلَ كُلَّه". (¬3) سورة النساء آية 142. (¬4) متفق عليه. البخاري في كتاب الأذان باب فضل التهجير إلى الظهر 1/ 166 ومسلم في كتاب الأمارة باب بيان الشهداء 3/ 1521، والموطّأ 1/ 131 كلهم عن أبي هريرة. (¬5) مسلم في كتاب السلام باب فضل سقى البهائم المحترمة وإطعامها 4/ 1761 عن أبي هُرَيْرَة.

فضل الشهداء

فضل الشهداء: خطط الإِسلام أربعة. نبوة. صديقية. شهادة. صلاح (¬1). وقد بيّنا معانيها ومراتبها في كتاب المشكلين على الاستيفاء والإشارة فيه أن النبي من جاءه رسول الله بوحيه. والصديق من صدق فعله قوله واعتقاده على الإطلاق، والصالح من سلم عمله من المفسدات وقوله من المبطلات، واعتقاده من الشبهات وإن نال عمله رحض (¬2) من الكدرات. وأما الشهادة فاختلف العلماء فيها على خمسة أقوال: الأول: أنهم الذين شهد لهم بالإيمان وضمن لهم حسن الخاتمة، وهذا كقول النبي، - صلى الله عليه وسلم -، "أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ" (¬3)، وليس في الحقوق أثبت من حقٍّ شهد به النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فعيل بمعنى مفعول. الثاني: أنه حضر يقينه معاينًا مشاهدًا على جوارحه لائمًا لغيره لأنه قال أنا مؤمن بقلبي محقق بيقيني فيصوم ويصلي ولحج ويتصدق وكلها محتملة أن تكون صدرت عن إخلاص أو لغرض، فإذا بذل نفسه وعرضها للإتلاف في أمر الله تعالى فهو دليل قطعي على صدق النية لأن الجود بالنفس أقصى غاية الجود. فعيل بمعنى فاعل. الثالث. أنه جرى دمه على الأرض أو أُجري، والشهادة وجه (¬4) الأرض. فعيل مطلق أو بمعنى مفعول. الرابع. أن الملائكة شهدته، فعيل بمعنى مفعول. الخامس. أن دليله معه لا يفارقه، قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ أَحَدٍ يُكْلَمُ في سَبِيلِ اللِّه وَالله أَعْلَمُ بِمَن يُكْلَمُ في سَبِيلِهِ" (¬5) الحديث. فعيل بمعنى فاعل أو مفعول. ¬

_ (¬1) يشير إلى الآية 69 من سورة النساء وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}. (¬2) رحض رحضة كمنعة، وأرحضه غسله، فهو مرحوض، والمرحاض: المغتسل، وقد يكنى به عن مطرح العذرة، والمرحضة شيء يتوضأ فيه مثل الكنيف، والرحضاء عرق يغسل الجلد كثرة. مختار القاموس 242. وانظر ترتيب القاموس للأستاذ طاهر أحمد الزواوي 2/ 315. (¬3) البخاري في كتاب الجنائز باب من يقوم في اللحد 2/ 115، وأبو داود 3/ 196 والترمذي 3/ 354 وقال حسن صحيح. والنسائي 4/ 62 كلهم من رواية جابر ابن عبد الله. (¬4) كذا في جميع النسخ. قال في القاموس 1/ 306 وسمي الشهيد لسقوطه على الشهادة أي الأرض. (¬5) حديث متفق عليه أخرجه البخاري في الجهاد باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله =

الشهداء أحد عشر رجلا

الشهداء أحد عشر رجلًا: ثمانية في حديث مالك، رضي الله عنه (¬1). التاسع: من قُتِل دون (¬2) ماله. العاشر: الغريب (¬3). الحادي عشر: صاحب النظرة شهيد (¬4). واختلف فيه على قولين: فقيل هو المخبول الذي اتخذ نظرة، وقيل (¬5) هو المعين. ووراء هذا تعديل (¬6) لا أرضاه وكلهم يغسل ويكفَّن إلا ذا المعترك فإن مالكًا، رضي الله ¬

_ = 4/ 18 - 19، وفي باب من يخرج في سبيل الله عز وجل 4/ 22، ومسلم في كتاب الإمارة باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله 3/ 1495، والترمذي 4/ 184، وقال حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن أبي هُرَيْرَة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والنسائي 6/ 17، ومالك في الموطأ 2/ 461، والبغوي في شرح السنة 10/ 349 - 350 كلهم عن أبي هريرة. (¬1) الموطّأ 1/ 233 وفيه: "الشّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ في سَبِيلِ الله: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْب شَهِيدٌ .. " وأبو داود 3/ 483، والنسائي 4/ 13 - 14 كلهم عن جابر بن عتيك. درجة الحديث: صحّحه ابن حبان وقال النووي: وهو صحيح بلا خلاف وإن لم يخرجه الشيخان. شرح النووي على مسلم 13/ 62، ونقل الزرقاني في شرحه على الموطأ 2/ 73، تصحيح ابن حبان له إضافة إلى النووي، وصحّحه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح 1/ 492. (¬2) البخاري في كتاب المظالم باب من قاتل دون ماله فهو شهيد 3/ 179، وأبو داود 4/ 246، والترمذي 4/ 29 - 30، والنسائي 7/ 114 - 115 كلهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص. (¬3) سنن ابن ماجه 1/ 515 وهو من رواية الهذيل بن الحكم قال عنه البخاري منكر الحديث، وقال العقيلي لا يقيم الحديث، وقال ابن معين هذا الحديث منكر وليس بشيء، وقال الحافظ وقد كتب عن الهذيل ولم يكن به بأس، وقال ابن حبان الهذيل منكر الحديث جدًا. تهذيب التهذيب 11/ 26، وانظر المجروحين لابن حبان 3/ 95. والحديث أورده الخطيب التبريزي في المشكاة وعزاه لابن ماجه، والبيهقي في شعب الإيمان، وضعفه الألباني في تعليقه على المشكاة 1/ 500 وقال السندي في حاشيته على ابن ماجه 1/ 491. قال السيوطي أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات من وجه آخر عن عبد العزيز ولم يصب في ذلك، وقد سقت له طرقًا كثيرة في اللآلئ المصنوعة. قال الحافظ ابن حجر في الترجيح إسناد ابن ماجه ضعيف لأن الهذيل منكر الحديث، وذكر الدارقطني في العلل الخلاف فيه على الهذيل وصحح قول من قال عن الهذيل عن نافع عن ابن عمر، وفي الزوائد هذا إسناد فيه الهذيل بن الحكم قال فيه البخاري منكر الحديث، وقال ابن عدي لا يقيم الحديث. درجة الحديث: ضعيف من رواية ابن عباس، وله شاهد من حديث ابن عمر عند الدارقطني وصححه: موت الغريب شهادة. انظر فتح الباري 6/ 43 ويكون بهذا الشاهد حسنًا. والله أعلم. (¬4) لم أطلع عليه. (¬5) وفي (م) وقالوا. (¬6) في (م) و (ص) تعزيز.

عنه، و (ش) عوّلا على حديث جابر في قتلى أحد (¬1)، والمسألة معروفة. حديث: ذكر مالك، رضي الله عنه، عن محجن (¬2) حديث إعادة الصلاة (¬3). اعْلموا، وفقكم الله تعالى، أنه لا صلاة في يوم واحد مرتين، إلا أن الشريعة أذنت في إعادة الفذ صلاته في الجماعة لفائدتين: أحدهما: خاصة وهي استجلاب الآخر للمصلّي. والثانية: عامة وهي تنقسم قسمين: أحدهما: إظهار شعائر الدين. والثاني: نفى الريبة وسوء الظن، ألا ترى إلى قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "ألَسْتَ بِرَجُلٍ (¬4) مُسْلِمٍ". فإن قلنا إن الصلاة تُعاد في الجماعة لطلب الأجر فتعاد في كل جماعة، وكذلك لإظهار الشعار، وإن قلنا تعاد لنفي الريبة وسوء الظن فتعاد مرة واحدة، ومن ها هنا نشأ الخلاف (¬5). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في المغازي باب من قتل من المسلمين يوم أحد 5/ 131، وأبو داود 3/ 196، والترمذي 5/ 214، وقال حسن صحيح، والنسائي 4/ 79، وابن ماجه 1/ 485، والبغوي في شرح السنة 5/ 365 وقال حديث صحيح. (¬2) محجن بن أبي محجن الديلي. قال أبو عمر معدود في أهل المدينة روى عنه ابنه بسر. فمالك يقوله بضم الموحدة وسكون المهملة، والثوري يقول بالكسر والمعجمة كالجادة. قال أبو عمر الأكثر على ما قال مالك. ويقال إن محجنًا المذكور كان في سرية زيد بن حارثة إلى حسمى في جماى الأولى سنة ست من الهجرة وجزم بذلك ابن الحذاء في رجال الموطأ. الإصابة 3/ 367. (¬3) رواه أحمد 4/ 34، والنسائي 2/ 112، والحاكم 1/ 244 وقال هذا حديث صحيح، ومالك ابن أنس الحكم في حديث المدنيين، وقد احتج به في الموطّأ، والحديث في الموطّأ 1/ 132. وخرجه البغوي في شرح السنة 3/ 430 وحسنه وصححه المعلق عليه، أي على شرح السنة شعيب أرناؤوط ونقل عن ابن حبان تصحيحه. أقول: الحديث فيه بسر بن محجن الديلي، وقيل بكسر أوله والمعجمة، صدوق من الرابعة س. ت 1/ 97 وقال في ت ت بسر بن محجن الديلي كذا قال مالك، وأما الثوري فقال بشر بالمعجمة، ونقل الدارقطني أنه رجع عن ذلك. روى عن أبيه وله صحبة وروى عنه زيد بن أسلم حديثًا واحدًا وهو في الموطّأ. قال ابن عبد البر إن عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني رواه عن زيد فقال بشر بن محجن، وقال ابن حبان من قال بشر فقد وهم، وقال ابن القطان لا يعرف حاله. ت ت 1/ 438 - 439. درجة الحديث: صححه الحاكم وابن حبان وحسنه البغوي وذلك الأوْلى للاختلاف في بسر. (¬4) هذه فقرة من الحديث الذي تقدم. (¬5) قال البغوي أكثر أهل العلم قالوا إذا صلى وحده ثم أدرك جماعة يصلون تلك الصلاة فإنه يصليها معهم أيّ صلاة =

وقد روى سليمان بن يسار (¬1) عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما "أَنَّهُ وَجدَهُ في الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ يُصلُّونَ، قَالَ لَهُ: مَا هذَا يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمنِ؟ قَالَ لَهُ: سَمِعْتُ الْنَّبِى، - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: لاَ صَلاَةَ في يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ" خرجه أبو داود (¬2). وقول محجن (كُنْتُ صَلَّيْتُ فِيَ أَهْلي) حكايه حال وقضية في عين يحتمل لأن يكون صلى في أهله فذًا، ويحتمل أن يكون صلى جماعة، والظاهر أنه كان وحده. وقد روى مسلم (¬3) عن أبي ذر، رضي الله عنه، أنه قال: قال رسولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: "أُمَرَاءٌ يَكُونونَ بَعْدِي يُمِيتونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا، قَالَ لَهُ: فَمَاذَا تَرَى؟ قَالَ: صَلِّ في بَيْتِكَ فَإِنْ أَدرَكْتَ الصَّلاةَ مَعَهُمْ فَهِي لَكَ نَافِلَة" (¬4). وكذلك خرجه الترمذي (¬5) وأبو داود (¬6) والنسائي (¬7) أن الثانية هي النافلة. وروى أبو داود عن يزيد بن عامر، رضي الله عنه قال: "صلَّيْتُ في أَهْلِي ثُمَّ جِئْتُ النَّبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، فَوَجَدْتُهُ يُصلِّي فَجَلَسْتُ حَتَّى انْصَرَفَ فَقَالَ لِي: أَلَسْتَ برَجُلٍ مُسْلِمٍ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصلِّي مَعَنَا؟ قَالَ: قَدْ كُنْتُ صَلَّيْتُ في أَهْلِي، قَالَ ¬

_ = كانت من الصلوات الخمس، وهو قول الحسن والزهري، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال قوم: يعيد إلا المغرب والصبح، وبه قال النخعي والأوزاعي، ويروى ذلك عن ابن عمر. وقال مالك والثوري: يعيد إلا المغرب فإنها وتر النهار فإذا أعادها صارت شفعًا. وقال أبو حنيفة: لا يعيد الصبح والعصر والمغرب لأن الصلاة الثانية نفل ولا يُنتفل بعد الصبح والعصر والمغرب وتر النهار فيصير شفعًا، وقال أبو ثور: يعيد إلا الصبح والعصر. واحتج هؤلاء بقول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلعَ الشَّمْسُ ولاَ بَعْدَ العَصْر حَتَّى تغْرُبَ". وهذا محمول عند الأكثرين على إنشاء تطوع لا سبب له، وها هنا له غرض في إعادة الصلاة وهو حيازة فضيلة الجماعة فلا تدخل تحت النهي. شرح السنة 3/ 430 - 432. (¬1) سليمان بن يسار الهلالي المدني مولى ميمونة، وقيل أم سلمة، ثقة فاضل، أحد الفقهاء السبعة، من كبار الثالتة. مات بعد المائة وقيل قبلها/ ع ت 1/ 331. (¬2) أبو داود 1/ 158، والنسائي 2/ 114، والبغوي في شرح السنة 3/ 431 - 432، وقال المحقق له شعيب أرناؤوط: إسناده حسن. (¬3) في (م) و (ص) زيادة له. (¬4) مسلم كتاب المساجد باب كراهية تأخير الصلاة عن وقتها المختار 1/ 448 - 449. (¬5) الترمذي 1/ 332. (¬6) وأبو داود 1/ 229. (¬7) النسائي 2/ 75، وابن ماجه 1/ 398، والطيالسي، انظر منحة المعبود 1/ 67.

لَهُ: إِذَا صَلَّيْتَ في أهْلِكَ فَصَلِّ مَعَنَا تَكُونُ لَكَ نَافِلَةً وَهذِهِ مَكْتوبَة" (¬1). وقد اختلف الناس فيها على ثلاثة أقوال: فالقولان كما ذكرنا الآن في الحديث. والثالث: أن ذلك إلى الله سبحانه وتعالى (يجعل أيهما شاء صلاته) والصحيح أن الأُولى هي الفريضة (¬2)، لأنها ابتدأت ونويت وفعلت على شرطها في وقتها. وإذا اختلفت الرواية عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وجب الترجيح ورواية من روى أن الأُولى هي الفرض أَوْلى لأن رواتها أكثر، هذا إذا استوت الدرجة فكيف ورواية أبي داود لا تساوي رواية مسلم لاختلاف شرطهما. ¬

_ (¬1) أبو داود 1/ 338 من طريق نوح بن صعصعة عن يزيد بن عامر، والحديث فيه نوح بن صعصعة المكي مستور من الرابعة/ د ت 2/ 308 وقال الحافظ في ت ت حجازي روى عن يزيد بن عامر السوائي وعنه سعيد بن السائب، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني حاله مجهولة. ت ت 10/ 485 وانظر الميزان 4/ 277. درجة الحديث: ضعيف. (¬2) ما رجَّحه الشارح هنا هو الذي رجّحه النووي؛ فقد قال: اختلف العلماء في هذه المسألة ومذهبنا فيها أربعة أقوال. الصحيح أن الفرض هي الأُولى للحديث، ولأن الخطاب سقط بها. والثاني: أن الفرض أكملهما. والثالث: كلاهما فرض والرابع: الفرض أحدهما على الإبهام يحتسب الله تعالى بأيهما شاء. شرح النووي على مسلم 5/ 148.

باب فضل صلاة القائم على صلاة القاعد

باب فضل صلاة القائم على صلاة القاعد هذه الترجمة تداني الترجمه السابقة في المعنى من أن النظر في التفاضل لا يكون إلا بعد التساوي في الإِجزاء، ولا يخلو أن يصلّي قاعدًا في الفرض أو في النافلة. فإن كان في الفرض فلا يكون إلا مع العجز والعذر، كما فعل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، حين أجرى فرسًا فصرع عنه فجحش (¬1) شقه الأيمن وانفكت قدمه فصلى قاعدًا (¬2) الحديث الشهور من رواية أنس وجابر، رضي الله عنهما، إلا أن جابر بن عبد الله زاد في روايته "قَالَ فَلَمَّا انْصَرَفَ لَقَدْ كُدْتُمْ تَفْعَلُونَ بِي فِعْلَ فَارِسٍ وَالرُّومِ بِمُلُوكِهِمَا إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ" (¬3) الحديث. تنبيه على وهم: قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "فِإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا" فأمر بمتابعته ولا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يتابعه في الابتداء ويبتدىء معه التكبير والركوع. وإما أن يكبِّر ويركع في أثناء تكبيرة الإِمام وركوعه. وإما أن يكبِّر بعد ذلك. فلما احتمل اللفظ هذه المعاني الثلاثة تلبَّس الخلق بها فجعلوا يفعلون مع إمامهم ذلك كله ثم تمكن الشيطان من نواصيهم فجذبها حتى فعلوها قبل إمامهم. وقد روى مسلم في صحيحه "لاَ تَسْجِدُوا حَتَّى تَرَوْني قَدْ وَضعْتُ جَبِينِي عَلَى ¬

_ (¬1) أي انخدش جلده وانسحج. النهاية 1/ 241. (¬2) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الجماعة والإمامة باب إنما جعل الإِمام ليؤتم به 1/ 177، ومسلم في كتاب الصلاة باب إتمام المأموم بالإمام 1/ 308، وأبو داود 1/ 164، والترمذي 2/ 194، 195، وقال حسن صحيح والنسائي 2/ 98 - 99، وابن ماجه 1/ 392، ومالك في الموطّأ 1/ 135، والشافعي في الرسالة ص 251 كلهم من رواية أنس بن مالك "أَنَّ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، رَكِبَ فَرَسًا فَصُرعَ عَنْهُ فَجُحِشَ شِقُّهُ الأيْمَنُ فصلى صَلاَةً مِنَ الصَّلوَاتِ وَهُوَ قَاعِد فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا فَلَما انْصَرَفَ قَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لُيؤْتَمَّ بِهِ ..). (¬3) مسلم في كتاب الصلاة باب ائتمام المأموم بالإمام 1/ 309، وابن ماجه 1/ 393.

الأَرْضِ" (¬1)، ولو كبَّر الإمام فقد روي عن مالك، رضي الله عنه، أنه لا يجزيه ولو تم بعده أو معه لأنه اقتدى بمن لم تنعقد صلاته بعد (¬2). فأما إن تم قبل تمامه فلا تجزيه قولًا واحدًا. وأما صلاتهم خلف النبي، - صلى الله عليه وسلم -، جلوسًا فهو منسوخ بصلاتهم خلفه قيامًا في مرضه (¬3)، وقد قال به مالك، رضي الله عنه، وهو الصحيح. وقد روى جابر بن عبد الله ¬

_ (¬1) حديث متفق عليه رواه البخاري في الصلاة باب متى يسجد من خلف الإمام 1/ 177، ومسلم في الصلاة باب متابعة الإمام والعمل بعده 1/ 345، وأبو داود 1/ 168، والترمذي 2/ 70، وقال حسن صحيح، والنسائي 2/ 96، والبغوي في شرح السنة 3/ 413 كلهم عن البراء بن عازب. (¬2) المدونة 1/ 67. (¬3) ذهب الشارح إلى مذهب الشافعي ومن وافقه، فقد قال الشافعي في الرسالة: لما كانت صلاة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قبل مرضه الذي مات فيه قاعدًا والناس خلفه قيامًا استدللنا على أن أمره الناس بالجلوس في سقطته عن الفرس قبل مرضه الذي مات فيه قاعدًا والناس خلفه قيامًا ناسخة لأن يجلس الناس بجلوس الإمام. الرسالة ص 254. وقال في اختلاف الحديث ص 100 - 102، بعد أن روى أحاديث الباب: فنحن لم نخالف الأحاديث الأولى إلا بما يجب علينا من أن نصير إلى الناسخ. الأولى كانت حقًا في وقتها ثم نسخت فكان الحق في نسخها، وهكذا كل منسوخ يكون الحق ما لم ينسخ، فإذا نسخ كان الحق في ناسخه. وقد روي في هذا الصنف شيء يغلط فيه بعض من يذهب إلى الحديث؛ وذلك أن عبد الوهاب أخبرنا عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير عن جابر: أنهم خرجوا يشيّعونه وهو مريض فصلى جالسًا وصلوا خلفه جلوسًا. أخبرنا عبد الوهاب عن يحيى بن سعيد أن أسيد بن خضير فعل ذلك. قال الشافعي: وفي هذا ما يدل على أن الرجل يعلم الشيء عن رسول الله لا يعلم خلافه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول بما علم ثم لا يكون في قوله بما علم، وروى حجة على أحد علم أن رسول الله قال قولًا وعمل عملًا ينسخ العمل الذي قال به غيره وعلمه كما لم يكن في رواية من روى أن النبي صلّى جالسًا وأمر بالجلوس، وصلى جابر بن عبد الله وأسيد بن الحضير وأمرهما بالجلوس وجلوس من خلفهما حجة على من علم من رسول الله شيئًا بنسخه، وفي هذا دليل على أن علم الخاصة يوجد عند بعض ويعزب عن بعض وأنه ليس كالعامة الذي لا يسع جهله ولهذا أشباه كثيرة وفي هذا دليل على ما في معناه منها. ونقل الزيلعي في نصب الراية 2/ 49 عن ابن حبان، بعد أن نقل عنه أنه روى حديث الأمر بالصلاة قاعدًا خلف الإمام إذا صلى قاعدًا، وفي هذا الخبر بيان واضح أن الإمام إذا صلّى قاعدًا كان على المأمومين أن يصلّوا قعودًا، وأفتى به من الصحابة جابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وأسيد بن حضير، وقيس بن فهد ولم يُروَ عن غيرهم من الصحابة خلاف هذا بإسناد متصل ولا منقطع فكان إجماعًا والإجماع عندنا إجماع الصحابة. وقد أفتى به من التابعين جابر بن يزيد ولم يرو عن غيره من التابعين خلافه بإسناد صحيح ولا واهٍ فكان إجماعًا من التابعين أيضًا، وأول من أبطل ذلك في الأمة المغيرة بن مقسم، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان، ثم أخذه عن حماد أبو حنيفة، ثم بعده أصحابه. وأعلى حديث احتجوا به حديث رواه جابر الجعفي عن الشعبي =

في حديثه المذكور في صرعة الفرس: وكان أبو بكر عن يسار النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يسمع الناس (¬1). فأما كونه معه في مرضه فأشهر من ذلك كله حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صَلَاةُ أَحدِكُمْ وَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى النِّصفِ مِنْ صَلَاتِهِ وَهُوَ قَائِمٌ، قَالَ عَبْدُ الله بْن عَمْرو فَجِئْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَوَجَدْتُهُ يُصلِّي فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى رَأْسِهِ فَقُلْتُ لَهُ. يَا رَسُولَ الله قُلتُ) (¬2) الحديث. قال الإمام (¬3) أبو بكر: وإنما وضع يده على رأسه لأحد وجهين: إما تعظيمًا كأنه قبّلها بعد ذلك على سبيل التبرك. وإما لأنه كان في ظلمة فلم يشعر به حتى وجد (¬4) رأسه الكريم وهذا إنما يكون في النافلة. وأما في الفريضة فأجر القاعد كأجر القائم، ولا سيما إن كان من كبر سن، أو من حالة تشق فإن ذلك أدعى إلى كمال الأجر. ¬

_ = قال عليه السلام (لا يؤَمِّنُ أحَدٌ بَعْدي جالسًا وهذا لو صح إسناده لكان مرسلًا والمرسل عندنا وما لم يرو سيان). وقال الشيخ أحمد شاكر: الصحيح الراجح عندنا ما ذهب إليه أحمد بن حنبل من أن الإمام إذا صلى جالسًا لعذر وجب على المأمومين أن يصلوا وراءه جلوسًا على حديث أنس وعائشة، إلى أن قال: ودعوى النسخ يردها سياق أحاديث الأمر بالقعود وألفاظها؛ فإنَّ تأكيد الأمر بالقعود بأعلى ألفاظ التأكيد مع الإنكار عليهم بأنهم كادوا يفعلون فعل فارس والروم يبعد معها النسخ إلا إنْ ورد نص صريح يدل على إعفائهم من الأمر السابق، وأن علة التشبه بفعل الأعاجم زالت وهيهات أن يوجد هذا النص، بل كل ما زعموه للنسخ هو حديث عائشة، أعني صلاة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في مرض موته مع أبي بكر، ولا يدل على شيء مما أرادوا وعلى كل حال هذه مسألة تضاربت فيها آراء العلماء، ومن أراد التوسع فعليه بالرجوع إلى نصب الراية 2/ 49، الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ص 110 - 113، ونيل الأوطار 3/ 208 - 209، الرسالة للشافعي ص 254. (¬1) مسلم في كتاب الصلاة باب إتمام المأموم بالإمام 1/ 309. (¬2) مسلم كتاب صلاة المسافرين باب جواز النافلة قائمًا وقاعدًا. 1/ 507، والنسائي 3/ 223، وابن ماجه 1/ 388، وفيه: فَقَالَ مالِكٌ يَا عَبْدَ الله بْنَ عَمْرو قلْتُ حُدِّثْتُ يَا رَسُولَ الله أَنَّكَ قُلْتَ صَلَاة الرجُلِ قَاعِدًا على نصْف الصَّلاَةِ وَأنْتَ تُصَلِّي قَاعِدًا قَالَ أجلْ وَلَكِنِّي لَسْتُ كَأحَدٍ مِنْكُمُ) لفظ مسلم من حديث عبد الله بن عمرو. (¬3) هو ابن العربي. (¬4) في (ك) و (م) وضع يده على رأسه.

الصلاة الوسطى

وقد روى عمران بن حصين، رضي الله عنه، أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: (صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِع فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَىِ جَنب) (¬1) زاد البخاري (فَصَلِّ نَائِمًا) (¬2)، يعني مضطجعًا لأنها حالة النوم عبَّر عنه مجازًا بأحد قمسي المجاز وهو الخبر عن الشيء بفائدته. الصلاة الوسطى: قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (¬3). تفرق الناس في الكلام فيه على سبعة أقوال: فقيل إنها الصبح، وقيل إنها الظهر، وقيل إنها العصر، وقيل المغرب، وقيل العشاء الآخر وقيل الجمعة، وقيل هي مخبوءة في جملة الصلوات خبيئة الساعة في يوم الجمعة، وليلة القدر في الشهر، والكبائِر في جملة الذنوب ترغيبًا في فعل الطاعة وترهيبًا لاجتناب المعصية. وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: (شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى صَلاَة العَصر) (¬4) ونكتة المسألة أن (وس ط). في تركيب لسان العرب عبارة عن أحد معنيين: إما عن الغاية في الجيد، وإما عن معنى يكون ذا طرفين نسبته إلى الطرفين (¬5) من جهتيهما سواء، وذلك يكون بالعدد والزمان والمكان. فأما الصبح فهي وسط في الزمان فإنها زاهقة (¬6) عن ظلمة الليل مشرقة على ضوء النهار، وهي أيضًا وسط في العدد لأنها اثنتان وللعدد طرفان واحد وأربعة وما بينهما وسط، وهي وسط في الفضل لأنها مشهودة (¬7) ويشاركها فيه العصر، ولأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) رواه البخاري في تقصير الصلاة باب إذا لم يطق قاعدًا صلّى على جنب 2/ 59، وأبو داود 1/ 584، والترمذي 2/ 207، والنسائي 3/ 223 - 224، وابن ماجه 1/ 386، والدراقطني 1/ 380، والبغوي في شرح السنة 4/ 108. (¬2) البخاري في تقصير الصلاة باب صلاة القاعد بالإيماء2/ 59 وقال: قال أبو عبد الله نائمًا عندي مضطجعًا. (¬3) البقرة آية 238. (¬4) متفق عليه، البخاري في تفسير سورة البقرة باب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى 6/ 26، ومسلم في كتاب المساجد باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر 1/ 436، كلاهما عن عليّ. (¬5) انظر أساس البلاغة ص 674 - 675، ولسان العرب 7/ 426. (¬6) أي خارجة عنها. (¬7) وهذا هو قول أبي أمامة وأنس وجابر وأبي العالية وعبيد بن عمير وعطاء وعكرمة ومجاهد وغيرهم، نقله ابن أبي حاتم عنهم وهو أحد قولي ابن عمرو وابن عباس، ونقله مالك والترمذي عنهما، ونقله مالك بلاغًا عن علي =

قال: (مَنْ صَلُى البردين دَخَلَ الْجَنَّةَ) (¬1) وصلاة الصبح في أولها وتشاركها فيه العصر وهي وسط في الفضل أيضًا لأنها أثقل الصلاة على المنافقين لقوله (لَوْ يَعلَمُونَ مَا في الْعَتْمَةِ وَالصُّبْحَ) (¬2). وتشاركها فيه العتمة ولأنها وسط في الفضل أيضًا إذ مصلِّيها في جماعة كمن قام ليله (¬3) وهي خصيصة لها، لا يشاركها فيه واحدة من الصلوات. وأما الظهر فهي وسط في الزمان لأنها نصف النهار وسط في الفضل لأنها أول صلاة صلِّيت (¬4). وأما العصر فإنها وسط في الفضل لأنها مشهودة، ولأنها في أحد البردين، ولقول النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فيها: (مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ الْعَصْر حَبَطَ عَمَلُهُ) (¬5) خرجه البخاري ولحديث البخاري (شَغَلونِا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلاَة الْعَصْرِ)، وهذا نص. وقد تأوله بعضهم بأنها كانت وسطى في الزمان لأنها مفعولة عند إدبار الثلاث التي فاتته وهذا ضعيف. وأما المغرب فإنها وسطى (¬6) في الزمان لأنها مفعولة عند إِدبار النهار والإشراف على ¬

_ = والمعروف عنه خلافه. وهو قول مالك والشافعي واحتجوا له بأن فيها القنوت وقال الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فتح الباري 8/ 196، وانظر شرح السنة 2/ 235، والترمذي 1/ 342، والموطأ 1/ 139، وأحكام القرآن لابن العربي 1/ 225، ونيل الأوطار 1/ 393. (¬1) متفق عليه. البخاري في كتاب المواقيت باب فضل صلاة الفجر 1/ 100، ومسلم في كتاب المساجد باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما 1/ 440. كلاهما عن ابن أبي موسى عن أبيه أبي موسى. (¬2) متفق عليه. البخاري في الأذان باب الإسهام في الأذان 1/ 105 وفي باب فضل التهجير إلى الظهر 1/ 110 وفي باب فضل العشاء في الجماعة 1/ 110، ومسلم في كتاب الصلاة باب تسوية الصفوف وإِقامتها 1/ 325 كلاهما عن أبي هُرَيْرَة. (¬3) تقدم من حديث عثمان. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة باب مواقيت الصلاة وفضلها 1/ 92، ومسلم في كتاب المساجد، باب أوقات الصلوات الخمس 1/ 425، ومالك في الموطأ 1/ 3 - 4، وأبو داود 1/ 107 - 108، والنسائي 1/ 245 كلهم من رواية أبي مسعود الأنصاري. (¬5) البخاري في مواقيت الصلاة باب من ترك العصر 1/ 145، والنسائي 1/ 236، وابن ماجه 1/ 227، كلاهما بلفط: بَكِّرُوا بالصَّلاَةِ في الْيَوْمِ الْغَيْمِ فَإِنَّهُ مَنْ فَاتَتْهُ صَلاَةُ الْعَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ. كلهم عن بريدة الأسلمي. (¬6) قال قبيصة بن أبي ذؤيب: هي صلاة المغرب لأنها وسط وليس بأقلها ولا أكثرها. شرح السنة 2/ 237، وقال =

الليل، ولأنها وسط في العدد، ولأنها وتر والوتر أفضل من الشفع (الله وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ) (¬1) ولأنها جمعت أحوال الصلوات كلها حتى الجهر في القراءة والسر. وأما العتمة فإنها وسطى في الفضل بما تقدم من فضائِلها، ولأن الصحيفة بها تختم (¬2) كما تفتح بالصبح ولأنها مصونة بالنهي عن الحديث بعدها. وأما الجمعة فإنها وسطى في الفضل لكثرة شروطها (¬3)، وكثرة شروط الشيء دليل على فضله، ولأنها مخصوصة بهذه الأمة. هذا منتهى الإشارة إلى جماع الفضائِل فمن نظر إلى تعارض هذه الأدلة قال كلها وسطى. ومنهم من قال كما قلنا هي مخبوة (¬4) للحفاظ على الكل وإذا أردت أن تقف على الصحيح في ذلك بسلوك مدرجة النظر إليه إعلم أن حديث عائشة في الموطّأ (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَصَلَاةِ الْعَصْرِ) (¬5) الحديث لا حجة فيه لاتفاق الأمة على أن القراءة الشاذة لا توجب علمًا ولا عملًا (¬6). ¬

_ = الحافظ: نقله ابن أبي حاتم بإسناد حسن عن ابن عباس. فتح الباري 8/ 196. (¬1) متفق عليه. البخاري في الدعوات باب لله مائة اسم غير واحد 8/ 74، ومسلم في كتاب الذكر باب في أسماء الله تعالى وفضل إحصائها 4/ 2062 - 2063 كلاهما عن أبي هُرَيْرَة قال: لله تَسْعَةُ وَتِسْعونَ اسْمًا مائَةٌ إلا وَاحِدًا لاَ يَحْفظُهَا أحدٌ إِلَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ" لفظ البخاري. (¬2) قال البغوي: لم ينقل عن أحد من السلف أنها صلاة العشاء، وذكره بعض المتأخرين لأنها بين صلاتين لا تقصران. شرح السنة 2/ 237. وقال الحافظ نقله ابن التين والقرطبي واحتج له بأنها بين صلاتين لا تقصران ولأنها تقع عند النوم فلذلك أمر بالمحافظة عليها واختاره الواحدي. فتح الباري 8/ 197. (¬3) ذكره ابن حبيب من المالكية واحتج بما اختصت به من الاجتماع والخطبة وصححه القاضي حسين في صلاة الخوف من تعليقه ورجحه أبو شامة. فتح الباري 8/ 197. (¬4) قاله الربيع خثيم وسعيد بن جبير وشريح القاضي وهو اختيار إمام الحرمين من الشافعية، ذكره في النهاية، كما أخفيت ليلة القدر. فتح الباري 8/ 197 ونقل هذا القول البغوي في شرح السنة 2/ 237 دون أن يعزوه لأحد. (¬5) رواه مالك في الموطّأ 1/ 138، ومسلم في كتاب المساجد باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر 1/ 437 - 438، وأبو داود 1/ 112، والترمذي 5/ 217، وقال حسن صحيح، والنسائي 1/ 236، والبغوي في شرح السنة 2/ 232 - 233 وصححه وعبد الرزاق في المصنف 1/ 578. (¬6) قال السيوطي في الإِتقان: اختلف في العمل بالقراعه الشاذة؛ فنقل إمام الحرمين في البرهان عن ظاهر مذهب الشافعي أنه لا يجوز، وتبعه أبو نصر القشيري، وجزم به ابن الحاجب لأنه نقله على أنه قرآن ولم يثبت. الإِتقان 1/ 82.

وقد أدخل مالك، رضي الله عنه، في الباب عن علي، رضي الله عنه، أنها الصبح (¬1) رادًا على أهل الكوفة (¬2) الذين يقولون إنها العصر. وأما سائر الأدلة في سائِر الصلوات فبيّنة، وإنما يكون مأزق الإشكال بين الصبح والعصر، والصبح أكثر فضائِل منها، حسب ما سطرناه من قبل. وربما توهم الشادي أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ تَرَكَ صلاَةَ الْعَصْرِ حَبَطَ عَمَلُهُ) (3) مزيه لها (¬3) على غيرها وهو وهم؛ لأن من ترك صلاة المغرب أيضًا حبط عمله مزية لها على غيرها على الوجه الذي يحبط بترك صلاة العصر، وكذلك يترك سائِر الصلوات فقوي بهذا كله أنها صلاة الصبح حسب ما ذهب إليه مالك (¬4)، رضي الله عنه، ولله درّه فما كان أرحب ذراعه في النظر وأوسع حوصلته في الوعي. والله أعلم. ¬

_ (¬1) الموطأ 1/ 139، وحكاه البغوي في شرح السنة 2/ 235 ثم قال: والصحيح عنه خلافه، وكدا قال الحافظ في الفتح وقال: وهو قول أبي أمامة وأنس وجابر وأبي العالية وعبيد بن عمير وعطاء وعكرمة ومجاهد وغيرهم، نقله ابن أبي حاتم عنهم، وهو أحد قولي ابن عمر وابن عباس، ونقله مالك والترمذي عنهما، ونقله مالك بلاغًا عن علي، والمعروف عنه خلافه ثم قال: وهو قول مالك والشافعي فيما نص عليه في الأم، واحتجوا بأن فيها القنوت وقد قال الله تعالى {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}، وبأنها لا تُقصَر في السفر، وبأنها بين صلاتي جهر وصلاتي سر. فتح الباري 8/ 196. وانظر تفسير جامع البيان في تفسير القرآن 2/ 350. وبلاغ مالك هذا ضعّفه ابن عبد البر؛ فقد نقل عنه الزرقاني قوله: قد قال قوم إن ما في الموطّأ هنا عن علي أخذه من حديث حسن بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن علي أنه قال: صلاة الوسطى صلاة الصبح، لأنه لا يوجد إلا من حديث حسين وهو متروك كذا قال ثم عقب عليه بقوله: وفيه نظر لما علم أن بلاغ مالك صحيح وحسين ممن كذبه مالك ومحال أبي يعتمد على كذبه. الزرقاني 1/ 286 أقول: حسين هذا قال عنه الذهبي تركه عير واحد. المغني 1/ 172، وقال ابن حبان: كان يروي عن أبيه عن جده نسخة موضوعة، روى عنه إسماعيل بن أبي أويس وكان ينزل في ينبع في مال له خارج المدينة فلما خرج إليه إسماعيل بن أبي أويس وسمع منه ورجع إلى المدينة هجره مالك بن أنس أربعين يومًا. وقال ابن معين ليس بشيء. المجروحين 1/ 244، وانظر الجرح والتعديل 1/ 57 - 58. وعلى هذا فهذه الرواية عن علي لا يعوَّل عليها لضعفها ويعوَّل على ما صح عنه وهو كونها العصر، كما سيأتي. (¬2) المراد بأهل الكوفة أبو حنيفة وأصحابه وهذا هو الصحيح من مذهبهم كما قال صاحب البدر الملتقى من الشرح المنتقى 1/ 70 حاشية على مجمع الأبحر. (¬3) في (م) له. (¬4) أقول: ما رجحه هنا هو الذي رجح في العارضة والأحكام فقد قال في العارضة 1/ 295 بعد أن ساق الأقوال قال: (والصحيح إنها مخفية) زيادة في فضلها، وقال في أحكام القرآن: (وأما من قال إنها غير معينة =

الرخصة في الصلاة في الثوب الواحد

الرخصة في الصلاة في الثوب الواحد: رأى عمر بن (¬1) أبي سلمة رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يصلي في ثوب واححد مشتملًا (¬2). هيئات اللباس كثيرة ورد منها ههنا خمس هيئات. إِلتفاع: وهو الاشتمال الدي يستر فيه الرأس. والتحاف: وهو اللباس لمطلق من غير تفاريج. والاشتمال: هو تعميم البدن بالملبوس، وهو على ضربين صماء ومنفرج. واختلف في تفسير اشتمال الصماء فقيل هو أن يلبس الثوب فيستتر به وقد يكون فرجه منكشفًا (¬3). والثاني: أن تكون يداه تحته ولا يتخذ لها مخرجًا، والصلاة في الأول لا تجوز والنهي فيها على التحريم، والنهي في الثاني على الكراهية لأنه ذريعة إلى أن يسقط الثوب فينكشف الفرج إلا أن يكون تحته إزار وسراويل فإن النهي يسقط حرامًا أو مكروهًا، فإن كان ليس تحته ثوب فليشتمل به على بدنه، ليجعل طرفيه مخالفًا على عاتقيه، وليعقده على ¬

_ فلتعارض الأدلة وعدم الترجيح، وهذا هو الصحيح، فإن الله أخبأها في الصلوات الخمس كما خبأ ليلة القدر في رمضان) أحكام القرآن 1/ 226. ونقل عند الحافظ في الفتح 8/ 196 أنه يرى أنها صلاة العصر، وهذا الرأي لابن العربي الذي عزاه إليه ابن حجر لعله اطله عليه في بعض كتبه، ولم أقف عليه، وقد وقفت له على الترجيح السابق. والقول بأنها صلاة العصر قوله قوي ولعله الراجح، فقد روى الترمذي والنسائي عن علي، رضىِ الله عنه، قوله: (كُنَّا نرَى أَنَّهَا الصُّبْحُ حتى سَمِعْتُ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، يَوْمَ الَأحْزَابِ يَقُولُ: شَغلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسطَى صلاَة الْعَصْر) وقد قال الحافظ في الفتح 8/ 196 دعوى الإِدراج في جملة (صلاة العصر) وأنها مدرجة من تفسير بعض الرواة فقال. (هذا نص في أن كونها العصر من كلام النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وأن شبهة من قال إنها الصبح قوية لكن كونها العصر هو المعتمد)، ثم نقل عن الترمذي أنه قول أكثر علماء الصحابة. ونقل الماوردي وابن عبد البر أنه يقول به أكثر أهل العلم. وانظر أيضًا في ترجيح ذلك شرح السنة 2/ 236 - 237، وتفسير الطبري 2/ 351. (¬1) عمر بن أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي، ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم -، صحابي صغير أمه أم سلمة زوج النبي، - صلى الله عليه وسلم -، مات سنة ثلاث وثمانين على الصحيح ت 2/ 56. الإِصابة 2/ 519. (¬2) متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفًا به 1/ 68، ومسلم في كتاب الصلاة باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه 1/ 368. (¬3) في (م) مكشوفًا.

عنقه، وليفعل كما قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لسلمة بن الأكوع: (زُرُّهُ (¬1) وَلَوْ بِشَوْكَةٍ) (¬2)، فإن لم يجعل طرفيه على عاتقيه وشدّه تحت ذراعيه فهو الاضطباع، افتعال من الضبع، فإن شده كذلك وهو جالس من الركبة إلى القفا فهو الاحتباء. وهذا تنبيه على وجوب ستر العورة في الصلاة، وقد تقدم القول فيها: وأقل ما يجزي فيه الصلاة ثوب واحد يسترها. وقد روى أبو الفرج عن مالك، رضي الله عنه، أن البدن كله عورة في الصلاة من الرجل وهي رواية ضعيفة (¬3). ¬

_ (¬1) بضم الزاي وتشديد الراء، أى يشد إزاره ويجمع طرفيه لئلا تبدو عورته، ولو لم يمكنه ذلك إلا بأن يغرز في طرفيه شوكة يستمسك بها. فتح الباري 1/ 465. (¬2) حديث. في البخاري كتاب الصلاة باب وجوب الصلاة في الثياب معلقًا وقال في اسناده نظر. البخاري 1/ 99، وأبو داود 1/ 170، والنسائي 2/ 70 ورواه أحمد في المسند. انظر الفتح الرباني 3/ 98، وابن خزيمة 1/ 381، والطحاوي في معاني الآثار 1/ 380 قال الحافظ: وصله المصنف، أي البخاري، في التاريخ، وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان واللفظ له من طريق الدراوردي عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة عن سلمة بن الأكوع .. ورواه البخاري أيضًا عن إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن موسى بن إبراهيم عن أبيه عن سلمة، زاد في الإِسناد رجلًا، ورواه أيضًا عن مالك بن إسماعيل عن عطاف بن خالد قال حدثنا موسى بن إبراهيم قال: حدثنا سلمة فصرح بالتحديث بين موسى وسلمة فاحتمل أن يكون رواية أبي أويس من المزيد في متصل الأسانيد أو يكون التصريح في رواية عطاف وهمًا فهذا وجه النظر في إسناده. وأما من صححه فاعتمد على رواية الدراوردي وجعل رواية عطاف شاهدة لاتصالها وطريق عطاف أخرجها أحمد والنسائي. فتح الباري 1/ 465 - 466. أقول: الحديث منه عطاف بن خالد بن عبد الله بن العاص المخزومي، أبو صفوان، المدني، صدوق يهم من السابعة. مات قبل مالك/ بخ قد ت س ت 2/ 24 وقال في ت ت: قال أحمد لم يرضه ابن مهدي، وقال أحمد: صحيح الحديث ومرة قال: ليس به بأس. وقال ابن معين: ثقة صالح الحديث، وقال النسائي: ليس بالقوي، ووثقه العجلي والساجي وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما لا يشبه حديثهم، لا يجوز الاحتجاج به إلا فيما وافقه فيه الثقات ت ت 7/ 221. كما أن فيه أيضًا موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي مقبول من الرابعة د س ت 2/ 280 في ت ت روى عن سلمة بن الأكوع وعنه عبد الرحمن بن الموال وعطاف والدراوردي ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو داود: ضعيف هو وموسى بن محمد بن إبراهيم، وقال ابن المديني: موسى بن إبراهيم وسط ت ت 10/ 332. درجة الحديث: صححه ابن خزيمة وابن حبان فيما نقله الحافظ في ت ت 10/ 332 وكذلك الدكتور مصطفى الأعظمي في تعليقه على ابن خزيمة 1/ 381، وحسنه الشيخ ناصر في صحيح الجامع الصغير 3/ 192 وهو الأقرب إلى الصواب لما قدمناه. (¬3) لم أطلع على هذه الرواية في المدونة. وانظر المدونة 1/ 95 ولا بداية المجتهد ولا الاشراف على مسائل الخلاف.

قد صلى جابر في ثوب واحد مؤتزرًا به وثيابه على المِشْجَب (¬1) وقال لمن أنكر ذلك عليه: (إِنَّما فَعَلْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِي مَنْ هُوَ أَحْمَقُ مِثْلُكَ" (¬2). وأما المرأة فكلها سورة في الصلاة إلا وجهها وكفيها وقال (ح): ليست قدمها عورة (¬3). وقد ثبت أمر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، للنساء بإسبال الدرع على الأقدام (¬4)، وهذا نص وأكمل هيئات الصلاة في اللباس أن يكون في ثوبين لحديت عمر، رضي الله عنه، (إِذا وَسَّعَ الله ¬

_ (¬1) المِشْجَب، بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الجيم بعدها موحدة، هو عيدان تضم رؤوسها ويفرج بين قوائمها توضع عليها الثياب وغيرها. فتح الباري 1/ 467. (¬2) رواه البخاري في الصلاة باب عقد الإِزار على القفا في الصلاة 1/ 99 بهذا اللفظ وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة 1/ 240 ورواه مسلم في الحج باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -2/ 886 وساق حديث جابر الطويل في صفة حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأبو داود 2/ 182، وابن ماجه 2/ 1022. (¬3) انظر شرح فتح القدير 1/ 181. (¬4) الموطأ 1/ 142، وأبو داود 1/ 420، من طريقين: الأولى من طريق مالك عن محمد بن زيد عن أمه أنها سألت أم سلمة ماذا تصلي فيه المرأة من الثياب فقالت: تصلي في الخمار والدرع السابغ الذي يغيب ظهور قدميها، وهذه الطريق موقوفة. ورواه من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن محمد بن زيد عن أم سلمة أنها سألت النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أتصلي المرأة .. قال أبو داود: روى هذا الحديث مالك بن أنس وبكر بن مضر وحفص بن غياث وإسماعيل ابن جعفر وابن أبي ذئب وابن إسحاق عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة، لم يذكر أحد منهم النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قصروا به على أم سلمة رضي الله عنها. سنن أبي داود 1/ 421. وقال ابن عبد البر: هو في الموطّأ موقوف، ورفعه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار. تنوير الحوالك 1/ 159 - 160. أقول: الحديث فيه عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار قال عنه الحافظ صدوق يخطئ/ خ د ت س. ت 1/ 486 وقال في ت ت قال ابن معين في رواية الدوري (في حديثه عندي ضعف) وقال أبو حاتم فيه لين وقال ابن عدي وبعض ما يرويه منكر لا يتابع عليه وهو في جملة من يكتب في حديثه من الضعفاء, وقال ابن المديني صدوق ت ت 6/ 206 - 207، وقال ابن حبان كان ممن ينفرد عن أبيه بما لا يتابع عليه مع فحش الخطأ في روايته لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد. المجروحين 2/ 51 - 52 وانظر الكاشف 2/ 170، والميزان 2/ 572. وقال الزرقاني رواية عبد الرحمن شاذة وهو وإن كان صدوقًا لكنه يخطئ فلعله أخطأ في رفعه. شرح الزرقاني على الموطّأ 1/ 290. درجة الحديث: ضعيف.

الجمع بين الصلاتين

عليكم فَأَوْسِعُوا جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ) (¬1) الحديث. وقد كان من شيوخ الزهاد من له ثياب مطوية لا ينشرها إلا إذا صلّى فإذا فرغ من الصلاة أعادها على عودها ويقول: لقاء الله أفضل حال تزين لها. الجمع بين الصلاتين: نصب الله تعالى أوقات الصلاة محدودة الطرفين متغايرة الذاتين، وجعل لكل صلاة وقتًا يختص بها، ثم لما علم (¬2) الله تعالى من ضعف العباد وقلَّة قدرتهم على الاستمرار في الاعتياد وما يطرأ عليهم من الأعذار، التي لا يمكنهم دفعها عن أنفسهم، أرخص لهم في نقل صلاة إلى صلاة، وفي جمع المفترق منها، كما أذن في تفريق المجتمع أيضًا رخصة في قضاء رمضان إذا أفطره بعذر المرض أو السفر (¬3)، وقد ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ذلك (¬4) ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطأ 2/ 911 وعبد الرزاق في المصنف 1/ 356، من طريق ابن سيرين عن أبي هُرَيْرَة قال: قام رجل إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يا رَسُولَ الله أيُصَلِي الرَّجُلُ في الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟ قَالَ: أَوَ كُلُّكُمْ تَجِدُونَ ثوبين حتَّى إذا كان زَمَنُ عُمَرَ بْنِ الخَطَاب قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أُصلِّي الْعَصْرَ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ؟ فَقَالَ عُمَرُ: إذَا وسَّع الله عليْكم فوسِّعُوا على أَنْفُسِكُمْ، جَمَعَ الرَّجُلُ عَليْهِ ثِيَابَهُ يُصَلِي الرجُلُ في إِزَارٍ وَرِدَاءٍ .. وهذا قطعة من حديث رواه البخاري من طريق حماد بن زيد عن ابن سيرين عن أبي هُرَيْرَة. البخاري كتاب الصلاة باب الصلاة في القميص والسراويل والثبان والقباء 1/ 102. وقال الحافظ: روى ابن حبان حديث الباب، يعني حديث البخاري، من طريق إسماعيل بن علية عن أيوب فأدرج الموقوف في المرفوع، ولم يذكر عمر ورواية حماد بن زيد هذه المفصلة أصح، وقد وافقه على ذلك حماد بن سلمة فرواه عن أيوب وهشام وحبيب وعاصم كلهم عن ابن سيرين أخرجه ابن حبان أيضًا، وأخرج مسلم حديث ابن علية فاقتصر على المتفق على رفعه وحذف الباقي، وذلك من حسن تصرفه والله أعلم. فتح الباري 1/ 476. درجة الحديث: القسم المروي عن عمر موقوف عليه وهو صحيح. (¬2) في (ك) و (م) و (ص) لما يعلم. (¬3) قال تعالى في سورة البقرة آية 184 {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. (¬4) روي البخاري في الصوم باب إذا صام أيامًا ثم أفطر 3/ 43 عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أَنَّ رسولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ في رَمَضَانَ حَتى بَلَغَ الكَدِيدَ أفْطَرَ فَأفطَرَ النَّاسُ، ورواه كذلك مسلم في كتاب الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان 2/ 784 وزاد: وكان صحابة رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره. ورواه مالك في الموطّأ 1/ 294 مثل رواية مسلم إلا أنه قال من أمر رسول اللَه، - صلى الله عليه وسلم -، فهذا الحديث دليل على جواز الفطر في السفر كما قال الشارح. =

وأطنب فيه مالك (¬1)، رضي الله عنه، لأجل قول أهل العراق: أن الجمع بدعة إلا في عرفة واحتجوا بأن أوقات الصلوات ثبتت تواترًا فلا تنسخ بأحاديث الجمع وهي آحاد، وجاز الجمع بعرفة لأن الكافة نقلته عن الكافة وهذا ضعيف (¬2) لأنه يقال له: كما ثبتت أوقاتها تواترًا كذلك ثبتت أعدادها تواترًا ثم زدت أنت فيه صلاة سادسة وهي الوتر بحديث ضعيف (¬3) فالجمع بالأحاديث الصحيحة المتعددة أولى، وليس لهم بعد هذا كلام فيه احتفال. ¬

_ = أما المريض فدليله من السنة ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك، رجل من بني عبد الله بن كعب أخوة بني قشير، قال: غارت علينا خيل لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فانتبهتُ، أو قال فانطلقتُ، إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وهو يأكل فقال: اجلس فأصِبْ من طعامنا هذا، فقلت: إني صائم، قال: اجلس أحدثك عن الصلاة وعن الصيام إن الله تعالى وضع شطر الصلاة أو نصف الصلاة والصوم عن المسافر .. أبو داود 2/ 796، والترمذي 3/ 94 وقال حسن، والنسائي 4/ 180، وأحمد. انظر الفتح الرباني 10/ 126 وقال الشيخ البنا، رحمه الله، صححه الترمذي وغيره، وكذا نقل الحافظ في ت ت 1/ 379 وحسّنه الألباني في تخريجه للمشكاة 1/ 629 وصحيح الجامع الصغير 2/ 132 وصححه عبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول 6/ 410. (¬1) انظر الموطّأ 1/ 143 - 144. (¬2) قال الحافظ: قال قوم لا يجوز الجمع مطلقًا إلا بعرفة ومزدلفة، وهو قول الحسن والنخعي وأبي حنيفة وصاحبيه. فتح الباري 2/ 392. وانظر نصب الراية 2/ 194، ومعاني الآثار للطحاوي 1/ 166. (¬3) أبو داود 2/ 128، والترمذي 2/ 314 وقال: حديث خارجة بن حذافة غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي حبيب، وابن ماجه 1/ 369، والدارقطني في سننه 2/ 30، والحاكم في المستدرك 6/ 301 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه رواته مدنيون ومصريون ولم يتركاه إلا لما قدمت ذكره من تفرد التابعي عن الصحابي ووافقه الذهبي وأخرجه الطحاوي في معاني الآثار 1/ 250، والبيهقي في السنن 2/ 469، والبغوي في شرح السنة 4/ 101، وفي فتوح مصر ص 259. وأورده الزيلعي في نصب الراية 2/ 109 كلهم من رواية خارجة بن حذافة. والحديث ضعيف، كما قال الشارح، فقد قال الحافظ في التلخيص 2/ 17: حديث خارجة بن حذافة ضعّفه البخاري، وقال ابن حبان: إسناد منقطع ومتن باطل، وقال الشيخ أحمد شاكر، بعد حكايته تصحيح الحاكم والذهبي: هو كما قالا؛ لأن رواته ثقات. تعليق أحمد شاكر على الترمذي 2/ 315. والحق مع من ضعّفه؛ فقد قال البخاري عبد الله بن راشد الزروفي عن عبد الله بن مرة روي عن يزيد بن أبي حبيب قال ابن إسحاق الزروفي من حِمْيَر ولا يعرف سماعه من أبي مرة. التاريخ الكبير 5/ 88. وانظر ت ت 6/ 25. وقال الذهبي له عن خارجة في الوتر ولم يصح. الميزان 2/ 501. درجة الحديث: ضعيف.

وللجمع حالتان: حالة سفر وحالة إقامة، وللإِقامة حالتان حالة مطر وحالة مرض. فأما جمع السفر فمن رحل قبل أن تزول الشمس من منزله أو قبل أن تغرب أخَّر الأولى إلى وقت الثانية، ومن رحل بعد زوال الشمس وبعد غروبها قدَّم الثانية إلى الأولى، وقال (ش): الجمع في السفر رخصة متعلقة بعين السفر سواء ارتحل المسافر أو أقام يومه في منزله يجمع بين الصلوات كما يقصر (¬1) وهذا ضعيف لأن صورة الجمع للمسافر إنما وردت مع الرحيل وجدّ السير والرخص لا يتعدى بها محالها. فإن قيل فقد روي من طرق منها في الموطأ أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، "خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ والْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ وَخَرَجَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ" (¬2)، ولا يعبر بدخل وخرج إلا عن حال المقيم، فأما المسافر فإنما يقال فيه نزل وركب. قلنا: هذه حكايته حال وقضية في عين، فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم -، صلى الظهر في آخر وقتها ثم أقام العصر فصلاها في أول وقتها، وكذلك صلى المغرب في آخر وقتها ثم قام إلى العشاء فصلاها في أول وقتها، فيكون جمعًا من حيث الصورة لا من حيث المعنى، وكذلك روى أشهب عن مالك، رضي الله عنه، فيه كما أوردناه (¬3). وإذا احتمل بهذا سقط الاحتجاج به. وأما جمع المقيم المريض فليس له حد إلا بحسب ما يجد المريض من يناوله ويوضئه، أو بحسب ما يعلم أنه يغلب على عقله فيه (¬4). ¬

_ (¬1) نقله الحافظ في الفتح 2/ 583 وعزاه للشافعي في الأُمّ. (¬2) الموطّأ 1/ 143، ومسلم في الفضائل باب في معجزات النبي، - صلى الله عليه وسلم -، 4/ 1784، والبغوي في شرح السنة 4/ 193 - 194 كلهم من حديث معاذ بن جبل قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ يَجْمَعُ الصلاة فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمْعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمْعًا .. (¬3) قال ابن رشد في المقدمات: اختلفوا في إباحة الجمع لغير عذر، فالمشهور أن ذلك لا يجوز، وقال أشهب: ذلك جائز على حديث ابن عباس. مقدمات ابن رشد بهامش المدونة 1/ 112. (¬4) قال البغوي في شرح السنة 4/ 199: ذهب الحسن وعطاء بن أبي رباح إلى أن الجمع بعذر المرضِ جائز وحملًا عليه حديث ابن عباس قال: صَلَّى رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمْعًا بِالْمَدِينةِ مِنْ غَيْرِ خوْفٍ وَلَا سَفَرٍ. قال أبو الزبير: قلت لسعيد بن جبير لم فَعَلَه؟ قال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: لئلا يحرج أمته، أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب الجمع بين الصلاتين في الحضر 1/ 490، وأبو داود 2/ 6، والنسائي 1/ 290، والبغوي في شرح السنة 4/ 198. وقال هذا الحديث يدل على جواز الجمع بلا عذر لأنه جعل العلة أن لا تحرج أمته، وقد قال به قليل من أهل الحديث، وحكي عن ابن سيرين أنه كان لا =

قصر الصلاة

وأما جمع المطر فلا يكون في الظهر والعصر بحال ولكن من شاء مشى إلى المسجد ومن شاء صلى في بيته، وفي مثل هذه الحال "أَمَرَ النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، الْمُنَادِي أَنْ يُنَادِي إِذَا بَلَغَ حَيَّ على الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ أَلَا صَلُّوا في الرِّحَالِ" (¬1). وأما جمع المغرب والعشاء في المطر والطين فاختلفت الرواية فيها عن علمائنا، فروي عن مالك، رضي الله عنه، أنها لا تجوز إلا في البلاد المطيرة الباردة كأرض الأندلس، وعجبًا لهذه الرواية يأثرونها عن مالك (¬2)، رضي الله عنه، وهو يرى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يجمع بالمدينة وهي حجازية لا ثلج بها ولا برد، وأعجب منها أنه روي عن مالك، رضي الله عنه، أن يجمع بين المغرب والعشاء في المطر والطين في أول الوقت. وروى ابن القاسم عن مالك، رضي الله عنه، أنه يؤخر المغرب حتى يكون الظلام فيصلي حينئذ جمعًا وينصرف وعلى الناس إسفار (¬3)، والرواية الأُولى أصح لأنه إذا أخَّر المغرب عن أول وقتها، وقلنا إن لها وقتًا واحدًا يكون قد أخرج الصلاتين معًا عن وقتيهما، وسنة الجمع أن يخرج الواحدة عن وقتها ولا يطمئن إلى الجمع ولا يفعله إلا جماعة مطمئنة النفوس بالسنَّة كما أنه لا يكع (¬4) عنه إلا أهل الجفاء والبداوة. قصر الصلاة: هذا باب عظيم أحاديثه كثيرة ومسائله متشعبة قد جمع العلماء فيها (¬5) أوراقًا فيها للطالب ظل وارف (¬6)، وكل أحد من علمائنا بها عارف، إلا أنّا نشير إلى شذور نجمل لكم بها ذلك المسطور فنقول: أصل الأحاديث حديثان: ¬

_ = يرى بأسًا بالجمع بين الصلاتين إذا كان حاجة أو شيء ما لم يتخذه عادة ... وقال مالك وأحمد وإسحاق: يجوز بعذر المرض. شرح السنة 4/ 199. (¬1) مقفق عليه أخرجه البخاري في باب الأذان باب الأذان للمسافر 1/ 107، وفي باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله 1/ 112، ومسلم في صلاة المسافرين باب الصلاة في الرحال 1/ 484، والنسائي 2/ 14 - 15، وابن ماجه 2/ 301، والموطأ 1/ 73، من حديث ابن عمر. (¬2) لم أطلع على هذا القول في الموطّأ ولا المدونة. انظر المدونة 1/ 115. (¬3) المدونة 1/ 115. (¬4) كع يكع ويكع بالضم قليل كعوعًا جبن وضعف. ترتيب القاموس 4/ 60. (¬5) في (م) و (ك) فيه. (¬6) ورف الظل يرف ورفًا ووريفًا ووروفًا اتسع وطال وامتد. ترتيب القاموس 4/ 599.

التفسير

أحدهما: حديث عائشة رضي الله عنها، (فُرِضَتْ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْن رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ في صَلاَةِ الْحَضَرِ) (¬1). الثاني: حديث يعلى (¬2) بن أمية قال لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه: إنا نجد صلاة الحضر في القرآن وصلاة الخوف ولا نجد صلاة السفر؟ قال له عمر: سألت رسول الله كما سألتني فقال: "هِيَ صَدَقَة تَصَدَّقَ الله بِهَا عَلَى عِبَادهِ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ" (¬3). التفسير: إن ظاهر القرآن يعطىِ أن القِصْر مشروط بالخوف والسفر (¬4) فبيَّن عمر بن الخطاب عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، أن الْقَصْرَ مع الأمن في السفر صدقة من الله تعالى ثبتت بفعل رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، حين كان يقصر الصلاة وهو مسافر خائفًا وآمنًا. إلى هذا المعنى أشار عبد الله بن عمر في جواب الأسدي (¬5) حين قال له: (إِنَّ الله بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا فَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ) (¬6) الحديث. إلا أن الإشكال الأكبر ما روى مسلم عن ابن عباس، رضي الله عنه، أنه قال. (فَرَضَ الله الصلاة عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ في الْحَضَرِ أرْبَعًا ¬

_ (¬1) متفق عليه. أخرجه البخاري في الصلاة باب كيف فرضت الصلاة 1/ 67، ومسلم في صلاة المسافرين باب صلاة المسافرين وقصرها 1/ 478، ومالك في الموطأ 1/ 146. (¬2) يعلى بن أمية، أبو صفوان، التميمي الحنظلي، وقيل أبو خالد، صحابي مشهور كبير حليف لبني عبد مناف. تجريد أسماء الصحابة للذهبي 2/ 144، وانظر الإصابة 3/ 668. (¬3) مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب صلاة المسافرين 1/ 478، وأبو داود 2/ 7 والترمذي 5/ 243، وقال حسن صحيح، وابن ماجه 1/ 339، وأحمد. انظر الفتح الرباني 5/ 94، وابن خزيمة 2/ 71، والبغوي في شرح السنة 4/ 168. (¬4) يعني بذلك قوله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، النساء آية 101. (¬5) هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد، بفتح الهمزة، بن أبي العيص، بكسر المهملة، المكي، أخو خالد، ثقة من الثالثة. ت 1/ 83، وانظر ت ت 1/ 371 - 372. (¬6) رواه مالك في الموطأ 1/ 145 - 146 وقال ابن عبد البر في التقصي معلقًا على هذه الرواية هكذا يروي مالك هذا الحديث عن ابن شهاب عن رجل من آل خالد ابن أسيد، وسائر أصحاب ابن شهاب يروونه عن ابن شهاب عن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد عن ابن عمر وهذا هو الصواب في إسناد هذا الحديث. التقصي ص 150، ورواه النسائي 3/ 117، وابن ماجه 1/ 339، وأحمد، انظر الفتح الرباني 5/ 95، من طريق مالك ورواه ابن خزيمة 2/ 72، ورواية النسائي وابن ماجه وابن خزيمة موصولة من طريق الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أمية بن عبد الله بن خالد أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد صلاة الحضر .. درجة الحديث: صحيح.

وَفِي السَّفر رَكعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكعَةً) (¬1). قال علماؤنا، رحمه الله عليهم: هذا الحديث مردود بالإجماع. جواب آخر: إن هذا لم يخبر به ابن عباس عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أخبر به عن الله، عز وجل، والدين فيحتمل أن يكون أخذه من كلام القرآن لأنه قال: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} (¬2) فخاطب المسافرين الذين صلاتهم ركعتان بالقصر لعلة الخوف فلا بد أن تكون واحدة، وإذا ظهر له ذلك كما ظهر ليعلى، وسأل كما سأل لوجد العلم (¬3) " فَإِنَّمَا شِفَاءُ العَيِّ السُّؤَالُ" (¬4). ¬

_ (¬1) مسلم كتاب المسافرين باب صلاة المسافرين 1/ 479، وأبو داود 2/ 17، وأبو عوانة 2/ 335، وأحمد في المسند. انظر الفتح الرباني 5/ 92 - 93، والبغوي في شرح السنة 4/ 165. (¬2) النساء آية 101. (¬3) قال النووي: هذا الحديث قد عمل بظاهره طائفة من السلف منهم الحسن والضحاك وإسحاق أن راهويه وقال الشافعي ومالك والجمهور: أن صلاة الخوف كصلاة الأمن في عدد الركعات، فإن كانت في الحضر وجب أربع ركعات، وإن كانت في السفر وجب ركعتان ولا يجوز الاقتصار على ركعة واحدة بحال من الأحوال وتأولوا حديث ابن عباس هذا على أن المراد ركعة مع الإمام وركعة أخرى يأتي بها منفردًا .. وهذا التأويل لا بد منه للجمع بين الأدلة. شرح النووي على مسلم 5/ 197. (¬4) رواه أبو داود 1/ 93 من طريق الزبير بن خيريق عن عطاء عن جابر والزبير هذا لين الحديث كما قال الحافظ في ت 1/ 258 وقال في ت ت 3/ 314 - 315، ذكره ابن حبان في الثقات. روى له أبو داود حديثًا واحدًا في التيمم. قال ابن السكن: لم يسند غيره وغير حديث آخر، قال الحافظ: قلت قال أبو داود عقب حديثه في كتاب السنن ليس بالقوي، وكذا قال الدارقطني، ورواه من نفس الطريق البغوي في شرح السنة 2/ 120 كلاهما عن جابر، ورواه ابن ماجه 1/ 189 من طريق الأوزاعي عن عطاء، وكذلك الحاكم في المستدرك 1/ 178 وقال: وقد رواه الهقل بن زياد وهو من أثبت أصحاب الأوزاعي، ولم يذكر سماع الأوزاعي من عطاء. ورواه أحمد من نفس الطريق. انظر الفتح الرباني 2/ 191. أما ابن ماجه والحاكم فروَوْا حديث ابن عباس مختصرًا. ونقل الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي عن البوصيرى قوله في الزوائد: إسناده منقطع، انظر تعليقه على ابن ماجه 1/ 189، وقال الحافظ صحح حديث جابر ابن السكن، وقال ابن أبي داود تفرد به الزبير بن خريق، وكذا قال الدارقطني قال وليس بالقوى وخالفه الأوزاعي قال: بلغني عن عطاء عن ابن عباس .. وقال الدارقطني اختلف فيه على الأوزاعي أرسل آخره عن عطاء. قلت: هي رواية ابن ماجه. وقال أبو زرعة وأبو حاتم لم يسمعه الأوزاعي من عطاء إنما سمعه من إسماعيل بن مسلم عن عطاء بيَّن ذلك ابن أبي العشرين في روايته على الأوزاعي. ونقل ابن السكن عن ابن أبي داود أن حديث الزبير بن خريق أصحّ من حديث الأوزاعي. التلخيص 1/ 156 - 157. درجة الحديث: ضعّف الشيخ ناصر حديث جابر وحسَّن القسم الأول من حديث ابن عباس. مشكاة المصابيح 1/ 166.

على أنه قد روى صلاة الخوف صورة من جملة صورها آخر الروايات فيها فكانت للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، ركعتان وللقوم ركعة (¬1). وسيأتي تمام الكلام في باب صلاة الخوف، إن شاء الله تعالى. وأما حديث عائشة رضي الله عنها: فُرِضَتِ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، فقد أجاب عنه علماؤنا بخمسة أجوبة: أحدها: أنها لم تُخبر بذلك عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وإنما أخبرت عن حال يدركها كل أحد؛ لأن المسافر فرضه ركعتان والمقيم فرضه أربع، وهذا ثابت في الدِّين قطعًا، فإن قيل لو كانت مخبرة عن حال ولم تستند من النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إلى مقال لما كانت في ذلك فائدة لأن كل أحد كان يعلم ما ذكرت وهي كانت أفقه من ذلك. قلنا: قد روى الدارقطني (أَنَّهَا، رَضِيَ الله عَنْهَا، سَافَرَتْ مَعِ النبِي، - صلى الله عليه وسلم -، فَأَتَمَّتْ وَالنَّبِى، - صلى الله عليه وسلم -، يَقْصُرُ مَعَ غَيْرِهَا وَصَامَتْ وَالنَّبِي، - صلى الله عليه وسلم - يفطرُ) (¬2) وإنما هذا كله تحويم على أن المسافر هل يجوز له أن يصلي أربعًا أم لا، وهي مسألة خلاف مشهورة. والأدلة فيها كثيرة، وعمدتنا أن المسافر عندنا فرضه التخيير بين الاثنتين والأربع، إلا أن القصر أفضل لمواظبة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عليه ولفعل الصحابة له قد أتمت عائشة، رضي الله عنها، في السفر، وقد أتم عثمان (¬3)، رضي الله عنه، في السفر. ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه في صلاة الخوف. (¬2) الدارقطني في السنن 2/ 188 من طريق العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود قال: قالت عائشة. قال الدارقطني وإسناده حسن، وعبد الرحمن قد أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق وهو مع أبيه، وقد سمع منها. ورواه النسائي 3/ 122، والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 142 وقال مثل قول الدارقطني السابق، وأورده الزيلعي في نصب الراية 2/ 191 وذكر أن البيهقي صحّح إسناده والذي في السنن هو ما تقدم. درجة الحديث: حسنه الدارقطني والبيهقي. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري في تقصير الصلاة باب الصلاة بمنى 2/ 53، وفي الحج باب الصلاة بمنى 2/ 197 - 198، ومسلم في صلاة المسافرين باب قصر الصلاة بمنى 1/ 482 بلفظ قال نافع: (عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عَنْهُ، صلَّيتُ مَعَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، بِمْنَى رَكْعَتَيْنِ وَأبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمَعْ عُثْمَان صَدْرًا مِنْ إِمَارَتِهِ ثُمَّ أتمَّهَا).

تحقيق

وقد روى أنس بن مالك الكعبي (¬1) عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال له: "أَمَا عَلِمْت أَنَ الله وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ" (¬2). فنص - صلى الله عليه وسلم - على أن الأربع أصلٌ، وأنَّ صلاة السفر حطٌّ من الأصل، وهذا أَوْلى من حديث عائشة لأنه لفظ النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، لا يحتمل تأويلًا، وحديث عائشة، رضي الله عنها، إخبار منها، فالله أعلم كيف نقلته ومن أين نقلته وهو أيضًا يحتمل التأويل (¬3). تحقيق: ثبت الفرق بين صلاة السفر وصلاة الحضر في الدين قطعًا، ولم يذكر حد السفر الذي يقع به الفرق لا في القرآن ولا في السنة، وإنما كان كذلك لأنها كانت لفظة عربية مستقرًا علمها عند العرب الذين خاطبهم الله تعالى بالقرآن، إلا أن الإِشكال وقع في ذلك بين العلماء لأن السفر له أول وليس له آخر في انتهائه، لكن له آخر فيما يقع عليه اسم السفر من البروز عن المنزل، فنحن نعلم قطعًا أن مَنْ برز عن الدور لبعض الأمور أنه لا يكون مسافرًا لغة ولا شرعًا، وأن مَن مشى مسافرًا ثلاثة أيام فإنه مسافر قطعًا، كما أنّا نحكم على مَنْ مشى مسيرة يوم وليلة بأنه مسافر لقول النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في بعض الطرق: "لاَ يِحلُّ لَامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا" (¬4) وهذا هو الصحيح لأنه يتوسط بين الحالتين، وعليه عوَّل مالك، رضي الله عنه، ولكنه لمّا لم يجد هذا الحديث متفقًا عليه (وروي يومًا وليلة وروي مرة ثلاثة أيام) (¬5) لجأ إلى عبد الله بن ¬

_ (¬1) أنس بن مالك القشيري الكعبي، أبو أمية، وقيل أبو أميمة أو أبو مية، صحابي نزل البصرة ت 1/ 85. وانظر ت ت 379، وانظر تجريد أسماء الصحابة 1/ 31 والإصابة 1/ 132. (¬2) رواه البيهقي في السنن الكبرى 3/ 143 من حديث شعبة عن قام بن عروة عن أبيه عن عائشة: (أنْهَا كَانَتْ تُصَلَّي في السَّفَرِ أربَعًا فَقُلْت لَهَا لَوْ صلَّيْتِ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَتْ يَا ابْنَ أُخْتِي لاَ يَشُقُّ عَلَيَّ) صححه الزيلعي في نصب الراية 2/ 192. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في تقصير الصلاة باب في كم يقصر الصلاة 2/ 54، ومسلم في الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره 2/ 977، والموطّأ 2/ 979، والبغوي في شرح السنة 7/ 20 كلهم عن أبي هُرَيرَةَ. (¬4) مسلم كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره 2/ 977 وأبو داود 2/ 140، والترمذي 3/ 472، وقال حسن صحيح، وابن ماجه 2/ 967 - 968 والبغوي في شرح السنة 7/ 19، وأحمد، انظر الفتح الرباني 5/ 86 عن أبي سعيد الخدري قال: "قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، لَا يَحِلُّ لاِمْرَأةٍ تؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ أن تُسَافِرَ سَفَرًا يَكون ثَلَاثَةَ أيَّامٍ فَصَاعِدًا إِلّا وَمَعَهَا أبُوهَا أو ابْنُهَا أوْ زَوْجُهَا أو ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا". (¬5) قال معد الكتاب للشاملة: هذه الحاشية ساقطة من المطبوع.

عمر فعوَّل على فعله فإنه كان يقصر الصلاة إذا خرج إلى ريم (¬1)، وهي أربعة برد (¬2)، لأن ابن عمر كان كثير الاقتداء بالنبي، - صلى الله عليه وسلم -، وتركب على هذا أنه روي عنه في الكتب المشهورة أنه يقصر في ستة وثلاثين ميلًا (¬3) وهي تقرب من يومٍ وليلة لأنه لم يرد بقوله مسيرة يوم وليلة أن يسير النهار كله والليل كله إنما أراد أن يسير سيرًا يبيت فيه عن أهله ولا يمكنه الرجوع إليهم، ولا تستبعدوا أن يكون مالك، رضي الله عنه، عثر على هذا الحديث فركَّب عليه ما ذكرناه واعتبر عليه ما اعتبرناه، لأن القاضي ابن المنتاب (¬4) ذكر أن مالكًا، رضي الله عنه، روى مائة ألف حديث جمع منها في موطّئه عشرة آلاف، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة ويختبرها بالاعتبار والآثار ويحذف حتى عادت إلى خمسمائة. وكذلك أيضًا وقع الإِشكال في مدة الإِقامة وإن أعجبت فلا أعجب من قول ابن عباس ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير: رِيم، بكسر الراء، اسم موضع قريب من المدينة. النهاية 2/ 290، وقال الكاندهلوي: هي واد لمزينة قرب قرب المدينة. أوجز المسالك 3/ 100. (¬2) الموطّأ 1/ 147 مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة، ورواه عبد الرزاق في المصنف 2/ 525 وقال فيه أن ابن عمر سافر إلى ريم فقصر الصلاة، وهي مسيرة ثلاثين ميلًا. ونقل الزرقاني عن ابن عبد البر قوله وأراها، وهما بخلاف ما في الموطأ، ورواه عقيل عن ابن شهاب وقال هي ثلاثون، فيحتمل أن ريم موضع متسع كالإقليم فيكون تقدير مالك عند آخره وعقيل عند أوله. شرح الزرقاني 1/ 298. درجة الأثر: صحح إلى ابن عمر. (¬3) لم أطَّلع على هذا القول لأبن عمر، وقد ساق الحافظ الروايات الواردة عن ابن عمر في المسافة فقال: قد اختُلف على ابن عمر في تحديد ذلك فروي عنه ثلاثة أيام، وروي عنه أنه كان أدنى ما يقصر فيه الصلاة مال له بخيبر، وبين المدينة وخيبر ستة وتسعون ميلًا. قلت: هذا الأثر رواه مالك عن نافع عن ابن عمر. الموطأ 1/ 147 وسنده صحيح. وقال الحافظ: وروى وكيع من وجه آخر عن ابن عمر أنه قال: يقصر من المدينة إلى السويداء وبينهما اثنان وسبعون ميلًا. وروى ابن أبي شيبة عن وكيع عن مسعر عن محارب: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنِّيِ لأُسَافِر السَّاعةَ مِنَ النَّهَارِ فَأَقْصِرُ. وقال الثوري: سَمِعْتُ جبلة بن سحيم سمعت ابن عمر يقول: لَوْ خرَجْتُ مِيلًا قَصَرْتُ الصَّلاَةَ. إسناد كل منهما صحيح، وقال الحافط: وهذه أقوال متغايرة جدًا والله أعلم. فتح الباري 2/ 567. (¬4) هو أبو الحسن عبيد الله بن المنتاب بن المفضل البغدادي، قاضي المدينة المنورة، الإمام الحافظ النظار، تفقّه بالقاضي إسماعيل وبه تفقّه جماعة منهم أبو إسحاق بن شعبان، لم يذكر وفاته. شجرة النور الزكية 1/ 77 وقال ابن فرحون في الديباج 1/ 461 روى عنه ابن القاسم والشافعي.

مع سعة علمه: "أَقَامَ رَسُول الله، - صلى الله عليه وسلم -، بِمَكَّةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ" (¬1) فنحن إن أقمنا خمسة عشر يومًا قصرنا وإن زدنا أتممنا. وروي تسعة عشر (¬2) يومًا (¬3)، وإنما كان متوكفًا للرحيل، متشوفًا إلى القفول (¬4)، والعوارض تلويه حتى تجرد عنها، ومن أقام على هذه الحال سنة قصر الصلاة، ولكن مالكًا، رضي الله عنه، رأى حديث النبي، - صلى الله عليه وسلم -. (يَمْكُثُ الْمهَاجِرُ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ لَيَالٍ) (¬5) فركب عليه وجه التركيب أن الله حرم على المهاجرين الإِقامة بمكة لأنهم تركوها لله تعالى فلم يجز الرجوع فيها، كما لا يجوز الرجوع في الصدقة، فلما أذِن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لهم في ثلاثة أيام، بعد قضاء الحج، على أن الثلاثة ليست في حكم الإِقامة المحرَّمة (فعوَّل على هذا الحديث وتركه لأنه من رواية الوحدان، والله أعلم به) (¬6). وسمعت بعض أحبار المالكية ¬

_ (¬1) رواه أبو داود 2/ 25 من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس، ورواه النسائي 3/ 21 من طريق عراك بن مالك عن عبيد الله ابن عبد الله عن ابن عباس. درجة الحديث: صحيح لأنه وإن كان فيه ابن إسحاق إلا أنه لم ينفرد بل تابعه عراك بن مالك وهو ثقة وسيأتي تصحيح الحافظ لهذه الرواية. (¬2) هذه هي رواية البخاري في باب تقصير الصلاة باب ما جاء في التقصير وكم يقيم حتى يقصر 2/ 53، وفي المغازي باب مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -، بمكة زمن الفتح 5/ 190 - 191، والبغوي في شرح السنة 4/ 176، وأخرجه أبو داود بلفظ سبعة عشر 2/ 24. أقول: قد اختلفت الرواية عن ابن عباس في مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -، بمكة عام الفتح، فروي عنه أنه أقام تسعة عشر يومًا يصلي ركعتين، وروي أنه أقام سبعة عشر، وروي أنه أقام خمسة عشر. قال الحافظ في الفتح 2/ 562 بعد سرد هذه الأقوال: وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأنَّ من قال تسع عشرة عدَّ يومي الدخول والخروج، ومن قال سبع عشرة حذفهما، ومن قال ثماني عشرة عدَّ أحداهما، وأما رواية خمس عشر فضعّفها النووي في الخلاصة وليس بجيد لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظنَّ أن الأصل رواية سبعة عشر فحذف منها يومي الدخول والخروج فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر أرجح الروايات. (¬3) زيادة من (ك) و (م) وإقامة النبي - صلى الله عليه وسلم -، هذه المرة لم تكن نيته في الأول الإقامة وعزمه. (¬4) قفل كنصر وضرب فهو قافل. ترتيب القاموس 3/ 669. (¬5) متفق عليه. أخرجه البخاري في المناقب باب إقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه 5/ 87، ومسلم في الحج باب جواز الإقامة بمكة للمهاجر منها بعد فراغ الحج والعمرة ثلاثة أيام بلا زيادة 2/ 985. وأبو داود 2/ 213، وقال للمهاجرين بعد الصدر ثلاثًا. والترمدي 3/ 284، والنسائي 3/ 122 كلهم عن العلاء بن الحضرمي. (¬6) هكذا ورد في نسخ القبس وفي المسالك ك 658 فعدل في هذا الحديث وتركه لأنه من رواية الوحدان والله أعلم.

صلاة الضحى

يقول: إنما كانت الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإِقامة لأن الله تبارك وتعالى أرجأ فيها من أنزل به العذاب وتيقن الخروج عن الدنيا فقال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} (¬1)، وأدخل قول سعيد بن المسيب (من أجْمَعَ إِقَامَةَ أرْبَعَةِ أيَّام وَهْوَ مُسَافِرٌ أتَمَّ الصَّلاَة) (¬2)، إذ لم نجد أنصّ منه في الغرض، وإن كان ليس بحجة يتوسل به إلى طلب الحجة منه أومن غيره. أما من غيره فعلى طريق التذكرة. وأما منه فبأن نقول: سعيد بن المسيب صحب سبعين بدريًا، ومن الصحابة جملة وافرة، ووعى علمًا كثيرًا فأفتى بهذه الفتوى ولا يقتضيها النظر ولا يعطيها القياس فكانت حجة على ما أشرنا إليه من أصله والله أعلم. صلاة الضحى: الضحى، مقصور، طلوع الشمس والضحاء، ممدود، ضياؤها وإشراقها. قال الشاعر: أعجلها أقدحى الضحاء ضحى ... وهي تنابيك (¬3) عن ذوائب السلم (¬4) يصف إبلًا ضرب عليها بالسير ضحى فقمرها (¬5) فنحرها قبل أن تبلغ الضحى (وَكَانَ ¬

_ (¬1) سورة هود آية 65. (¬2) الموطّأ 1/ 149 وهذا الأثر شيخ مالك فيه عطاء بن أبي مسلم أبو عثمان الخراساني صدوق يهم كثيرًا ويرسل ويدلّس من الخامسة، مات سنة 135 هـ لم يصح أن البخاري أخرج له/ م عـ. ت 2/ 23، وقال في ت ت 7/ 214 ذكره البخاري في الضعفاء 2/ 37 وذلك لنقل قاسم بن عاصم قال: قلت لسعيد بن المسيب: عطاء الخراساني حدثني عنك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أَمَرَ الَّذي وَاقَعَ في رَمَضَانَ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَقَالَ: كَذِبٌ مَا حُدِّثْتُهُ إِنَّمَا بَلَغَنِي أنَّ النَّبيَّ، - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: تَصَدَّقْ. تصدَّقْ". وقال الزرقاني: قال ابن عبد البر بأن مثل قاسم لا يجرح بروايته مثل عطاء أحد العلماء الفضلاء، وقد قال يحيى بن معين: روى مالك عن عطاء الخراساني وعطاء ثقة سمع من ابن عمر. شرح الزرقاني 1/ 301 وعلى هذا فالأثر حسن إن شاء الله. (¬3) كذا في جميع النسخ وهو خطأ، وفي لسان العرب 14/ 475 تناصي ذوائب السلم وهي الصواب. (¬4) البيت عزاه ابن منظور للجعدي. لسان العرب 14/ 275 وذكره الشارح في الأحكام 4/ 1946. (¬5) أقمر: أي ارتقب طلوع القمر. ترتيب القاموس 3/ 687.

النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم - لَا يُصَلِّيهَا (¬1)، وَقَدْ كَانَ يَدَع الْعَمَلَ رِفْقًا بِأُمَّتِهِ وَلَهُ أَجْرُهُ قَائِمٌ فِيهِ). أما أنه روي عنه أنه صلى في دار الرجل (¬2) الضخم (¬3) الضحى وروي عنه أنه قال: (يُصبح كُلً يَوْمٍ عَلَى كُلِّ سُّلَامَى (¬4) مَنِ ابنِ آدَمَ صَدَقَةٌ فَأمْرُهُ بالْمعْروفِ صَدَقَةٌ وَنَهْيُهُ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ وَإمَاطَتُهُ الأذىَ عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ وَرَكْعَتَانِ تُجْزِيَانِ مِنْ ذلِكَ كُلِّهِ) (¬5)، وروي عنه أنه صلّاها. في حديث أم (¬6) هانئ شكرًا لله على ما منحه من فتح مكة فكان ذلك في الضحى بالاتفاق لا بالقصد. وقد اختلفت في حديث أم هانئ (¬7)، فروي أن ذلك كان في بيتها، وروي أنها ¬

_ (¬1) لعل المقصود لا يواظب عليها لأنه سيرد أنه صلاها. (¬2) وهذا الرجل الضخم قيل إنه عتبان بن مالك. قال الحافظ: وهو محتمل لتقارب القصتين، لكن لم أرَ ذلك صريحًا وقد وقع من رواية ابن ماجه .. أن بعض عمومة أنس، وليس عتبان عمًا لأنس إلا على سبيل المجاز لأنهما من قبيلة واحدة وهي الخزرج لكن كل منهما من بطن. فتح الباري 2/ 158. (¬3) الضخم: السمين. وفي هذا الوصف إشارة إلى علّة تخلّفه، وقد عده ابن حبان من الأعذار المرخصة في التأخر عن الجماعة. المصدر السابق. والحديث رواه البخاري في كتاب الأذان باب هل يصلّي الإمام بمن حضر، وهل يخطب يوم الجمعة في المطر 1/ 171. قصة هذا الرجل من طريق أنس بن سرين قال: سمعت أنس بن مالك قال رجل من الأنصار (إِنِّي لَا أسْتَطِيعُ الصلاة مَعَكَ وَكَانَ رَجُلًا ضَخْمًا فَصَنعَ لِلْنَبِيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، طَعَامًا فَدَعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَبُسِط لَهُ حَصِيرٌ أو نَضَحَ طَرْفَ الحَصِيرِ وَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ آلِ الْجَارُودِ لِأنَسٍ أكانَ النبِي، - صلى الله عليه وسلم -، يَصَلِّي الضَحَى؟ قَالَ: ما رَأَيْتُهُ صَلَّاهَا إِلَّا يَوْمَئِذٍ)، وأخرجه في صلاة التطوع باب صلاة الضحى في الحضر 2/ 73 - 74. وأحمد انظر. الفتح الرباني 5/ 33 - 34. (¬4) السُّلاَمَى: كل عظم ومفصل يعتمد عليه في الحركة، وأصل اسلامى عظم في فرش البعير ويجمع السلاميات. شرح السنة 4/ 142. (¬5) رواه مسلم في صلاة المسافرين باب استحباب صلاهَ الضحى 1/ 498 - 499، والبغوي في شرح السنة 4/ 142، وأبو داود 2/ 61، وابن خزيمة 2/ 228 - 229 كلهم من حديث أبي ذر. (¬6) متفق عليه البخاري في كتاب الصلاة باب الصلاة في الثوب الواحد متلحفًا به 1/ 100، وفي الجهاد باب أمان النساء وجوارهن 4/ 122. وفي التطوع باب صلاة الضحى في السفر 2/ 73 وفي تقصير الصلاة باب التطوع في السفر في غير دبر الصلوات 2/ 57، ومسلم في الحيض باب تستر المغتسل بثوب ونحوه 1/ 265 - 266، وفي صلاة المسافرين باب اسهباب صلاة الضحى 1/ 498 - 499، ومالك في الموطأ 1/ 152، وأبو داود 2/ 63 - 64، والترمذي 2/ 338 وقال حسن صحيح، والنسائي 1/ 126. (¬7) أقول: جمع الحافظ بين هذه الروايات بأن ذلك تكرر منه، ويؤيده رواية ابن خزيمة من طريق مجاهد عن أم =

فقه

قالت: جِئْتُ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، بِاْلأَبْطَحِ وَهُوَ يَغْتَسِلُ في قُبَّةٍ لَهُ وَابْنَتُهُ فَاطِمَةٌ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ فعَاجَلَتْهُ بِالْكَلاَمِ قَبْلَ أَنْ يُكْمِلَ غَسْلُة وَكَلَّمَهَا النَبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، في تِلْكَ الْحَالَةِ وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ عَلَى حَاجَتِهِ لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلاَ يُكَلِّمُ وَإِذَا كَانَ في غُسُلِهِ (¬1) فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الَأفْضَلَ أَلَّا يتكلَّمُ. وحديث أم هانئ أصح (¬2)، وهذا الرجل الذي أجارته أم هانئ قيل إنه زوجها وقيل حمواها (¬3) وهو الذي ذكره ابن إسحاق (¬4). وقد قيل كما قدمناه إنه هبيرة بن أبي وهب والله أعلم. فقه: اختلف الناس في أمان المرأة (¬5) لأنها لا تقاتل ولا يملك الأمن إلا من ملك الخوف ¬

_ = هانئ وفيه أنّ أبا ذر ستره لما اغتسل، وفي رواية أبي مرة عنها أن فاطمة بنته هي التي سترته، ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة وكانت هي في بيت آخر بمكة فجاءت إليه فوجدته يغتسل فيصح القولان. وأما الستر فيحتمل أن يكون أحدهما ستره في ابتداء الغسل والآخر في أثنائه. والله أعلم. فتح الباري 3/ 53. (¬1) في (ك) و (م) زيادة ووضوئه. (¬2) قال الحافظ: نقل الترمذي عن أحمد أن أصح شيء ورد في الباب حديث أم هانئ، قال الحافظ: وهو كما قال. فتح الباري 3/ 54. (¬3) قال الحافظ في الفتح 1/ 470 وعند أحمد والطبراني من طريق أخرى عن أبي مرة عن أم هانئ إني أجرت حموين لي. قال أبو العباس بن سريج وغيره: هما جعدة ابن هبيرة ورجل آخر من بني مخزوم كانا فيمن قاتل خالد بن الوليد ولم يقبلا الأمان ثم أجارتهما أم هانئ وكانا من أحمائها. وقال ابن الجوزي: إن كان ابن هبيرة منهما فهو جعدة، كذا قال، وجعدة معدود فيمن له راية ولم تصح له صحبة، وقد ذكره من حيث الرواية في التابعين البخاري وابن حبان وغيرهما، فكيف يتهيأ لمن هذه سبيله في صغر السنن أن يكون عام الفتح مقاتلًا حتى يحتاج إلى الأمان، ثم لو كان ولد أم هانئ لم يهتم علي بقتله لأنها كانت قد أسلمت وهرب زوجها وترك ولدها عندها، وجوَّز ابن عبد البر أن يكون ابنًا لهبيرة من غيرها مع نقله عن أهل النسب أنهم لم يذكروا لهبيرة ولدًا من غير أم هانئ. وجزم ابن هشام في تهذيب السيرة بأن اللذين أجارتهما أم هانئ هما الحارث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزوميان. فتح الباري 1/ 470 وانظر الفتح الرباني 14/ 116 و 21/ 159، والسيرة لابن كثير 3/ 568. (¬4) لم أجد ذلك في القطعة المنشورة من سيرة ابن إسحاق. (¬5) نقل الحافظ عن ابن المنذر قوله: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئًا ذكره عبد الملك، يعنىي ابن الماجشون صاحب مالك، لا أحفظ ذلك عن غيره قال: إن أمر الأمان إلى الإمام، وتأول ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة، وقال: وفي قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -، (يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أدنَاهُمْ) دلالة على إغفال هذا القليل. قال الحافظ: وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون فقال: هو إلى الإمام إن أجاره جاز، وإن رده رد. فتح الباري 6/ 273. وواضح مما سبق أن الإجماع ليس حاصلًا على ذلك.

وهذا لا يصح لأن المرأة وإن كان لا يلزمها القتال فلها أن تقاتل وأن تُؤَمن، هذا ينبني على أصل، وهو أن الأمان هل هو ولاية أم هو عقد يعقد؟ فعندنا أنه عقد (¬1). وقال (ح): هو ولاية لأن فيه إنفاذ قول الغير على الغير وتحجير مما كان مباحًا في الأصل (¬2). والعمدة قول النبي، - صلى الله عليه وسلم - "المُسلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهمْ ويَسْعَى بذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيرِدُّ عَلَيْهِمْ أَقصاهُمْ وَهمْ يدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهمْ" (¬3) الحديث إلى آخره. أدخل مالك، رضي الله عنه، حديث أنس في صلاته مع اليتيم في جامع سبحة الضحى وليس للضحى فيه ذكر وإنما تلقفه من قوله فيه (إِنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم - إِلَى طَعَامٍ صنعَتْهُ) (¬4) والظاهر أن ذلك كَان في وقت الغداة عند تناول الغذاء، وإن كان يحتمل سائر أوقات النهار. ¬

_ (¬1) انظر المدونة 1/ 400 - 401، والحطاب 3/ 361. (¬2) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 4/ 299 - 300. (¬3) أبو داود 4/ 666 - 669، والنسائي 8/ 20، والبغويِ في شرح السنة 10/ 172 كلهم عن علي. درجة الحديث: قال الشيخ شعيب الأرناؤوطي محقق شرح السنة قال في التنقيح سنده صحيح وحسنه الحافظ. انظر الفتح 12/ 261. (¬4) متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل والطهور وحضور الجماعة 1/ 218، مسلم في كتاب المساجد باب جواز الجماعة في النافلة 1/ 457، ومالكِ في الموطأ 1/ 153 كلهم من حديث أنس بْن مالِكٍ "أَنَّ جَدَّتهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم - لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ فأكلَ مِنْهُ فَقَالَ قُومُوا فَلِأصلِّي بِكُمْ فَقُمْتُ إِلَى حَصِرٍ لَنَا اسوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لَبِثَ فَنَضَحتُهُ بِمَاءٍ فَقَامَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، والْيتيمُ مَعِي وَالْعَجوز مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ" لفظ البخاري.

باب السترة

باب السترة فيها أحاديث كثيرة المعول منها على ثمانية أحاديث. أحدها: حديث أبي سعيد الخدري (إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَلاَ يَدَعْ أَحَدًا يَمُرُّ بَيْن يَدَيْهِ) (¬1) إلى آخره. الثاني: حديث أبي جهم (¬2). الثالث: حديث ابن عباس (إِذْ جَاءَ رَاكبًا عَلَى الأتَانِ (¬3) بِمِنىً) (¬4). الرابع: حديث ابن عمر (كَانَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، تُرَكَّزُ لَهُ الْحَرْبَةُ يَوْمَ الْعِيدِ فَيُصَلِّي إلَيْهَا وَالنَّاسُ يَمرُّوُنَ مِنْ ورَائِهَا) (¬5). الخامس: حديث طلحة بن عبيد الله: (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ بَيْنَ يَديْهِ مِثْلَ ¬

_ (¬1) متفق عليه البخاري في كتاب الصلاة باب يرد المصلي من مر بين يديه 1/ 135 - 136، ومسلم في كتاب الصلاة باب منع المار بين يدي المصلي 1/ 362، والموطّأ 1/ 154، وأبو داود 1/ 447 - 448، والنسائي 2/ 66. (¬2) متفق عليه البخاري في الصلاة باب إثم المار بين يدي المصلي 1/ 136، ومسلم في الصلاة باب منع المار بين يدي المصلي 1/ 363، والموطأ 1/ 154، وشرح السنة 4/ 452. قال (لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِّ الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ لَكَانَ أن يَقِفَ أرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أن يَمُر بَيْنَ يَدَيْهِ). (¬3) الأتان، الأنثى، من جنس الحمير. (¬4) متفق عليه. البخاري أبواب سترة المصلي باب سترة الإمام سترة من خلفه 1/ 132. وفي الصلاة باب وضوء الصبيان 1/ 218، وفي الحج باب حج الصبيان 3/ 23 - 24. ومسلم في الصلاة باب سترة المصلي 1/ 361، والموطأ 1/ 155 - 156 وشرح السنة 2/ 460 كلهم من حديث ابن عباس قال: أقبَلْت رَاكِبًا عَلَى حِمَار أتانٍ وَأنا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزُتْ الاحْتِلاَمَ وَرَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، يُصَلّي بِالنَّاسِ بِمِنىً بَيْنَ يَدَيِّ الصَّفِّ فَنَزِلت وَأُرْسِلَتْ الأتَانُ). (¬5) متفق عليه أخرجه البخاري في سترة المصلي باب سترة الإمام سترة من خلفه 1/ 133، وفي باب الصلاة إلى الحرية وفي العيدين باب الصلاة إلى الحربة. وفي باب حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام يوم العيد 2/ 25، ومسلم في الصلاة باب سترة المصلي 1/ 359.

مُؤَخَّرَةِ الرِّحْلَ وَلَا يُبَالِي مَا مَرَّ وَرَاءَهَا) (¬1). السادس: حديث سلمة بن الأكوع: (كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الْمُشَاةِ) (¬2). السابع: حدِيث أبي ذر: (عنْ رسولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّهُ قَالَ: يَقْطَعُ الصَّلاَةَ الْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الَأسْوَدُ قُلْتُ يَا رَسُولَ الله مَا بَالُ الْكَلْبِ الَأسْوَدِ؟ قَالَ: الْكَلْبُ الَأسْوَدُ شَيْطَان) (¬3). الثامن: حديث عائشة، وقد ذكر عندها ما يقطع الصلاة فقالت: لبئس ما عدلتمونا بالكلاب"لَقَدْ رَأَيْتَنِي نَائِمَةٌ مِنْ قِبْلَةِ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، وَهُوَ يُصَلِّي فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي فَقَبَضْتُ رِجْلِيَّ فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ فِيهَا مَصَابِيحُ" (¬4) الحديث. والسترة من محاسن الصلاة ومكملاتها وفائدتها قبض الخواطر عن الإشارة وكفّ النظر عن الاسترسال حتى يكون العبد مجتمعًا للمناجاة التي حضرها والتزمها وبه قال عامة الفقهاء. وقال قوم رأسهم أحمد بحديث أبي هريرة "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا يَسْتُرُهُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَصًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَخِطّ خَطًّا" أخرجه أبو داود (¬5) وغيره. ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب الصلاة باب سترة المصلي 1/ 383، والترمذي 6/ 152، وقال حسن صحيح وأحمد، انظر الفتح الرباني 3/ 129، وأبو داود 1/ 442، والبغوي في شرح السنة 2/ 449، وابن ماجه 1/ 303. (¬2) متفق عليه البخاري في الصلاة باب الصلاة إلى الأسطوانة 1/ 134، ومسلم في الصلاة باب دنو المصلي من السترة 1/ 364، من طريق يزيد بن أبي عبيد عن سلمة وهو ابن الأكوع إنه كان يتحرى موضع مكان المصحف يسبح في وذكر أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرى ذلك المكان وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة. لفظ مسلم. (¬3) مسلم في الصلاة باب قدر ما يستر المصلي 1/ 365، وأبو داود 1/ 450، والترمذي 2/ 161 - 162، وقال حسن صحيح. والنسائي 2/ 63، وابن ماجه 1/ 306 والبغوي في شرح السنة 2/ 462 - 463. (¬4) متفق عليه البخاري في سترة المصلي باب من قال لا يقطع الصلاة شيء 1/ 137 وباب هل يغمز الرجل امرأته عند السجود لكي يسجد 1/ 138 وفي باب الصلاة إلى السرير 1/ 135 وفي باب استقبال الرجل صاحبه أو غيره في الصلاة وهو يصلي 1/ 136 وفي باب الصلاة خلف النائم وفي الوتر باب إيقاظ النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أهله بالوتر 2/ 31، ومسلم في الصلاة باب الاعتراض بين يدي المصلي 1/ 366، والبغوي في شرح السنة 2/ 458. (¬5) أبو داود 1/ 443. وأحمد، انظر الفتح الرباني 3/ 127 - 128، والبيهقي في السنن 2/ 270، وابن خزيمة =

واختلفوا في صورة الخط، فمنهم من قال يكون متقوسًا (¬1) كهيئة محاربينا. ومنهم من قال يكون (¬2) طولاً. واختلفوا فمنهم من قال يكون من المشرق إلى المغرب. ومنهم من قال يكون من الشمال إلى الجنوب (¬3). وهذا الحديث لو صحّ لقلنا به إلا أنه معلول فلا معنى للنصب فيه. ¬

_ = 2/ 13، وابن ماجه 1/ 303، والبغوي في شرح السنة 2/ 451 وقال في إسناده ضعيف. وقال أبو داود عقب روايته لهذا الحديث: قال سفيان لم نجد شيئًا نشد به هذا ولم يجئ إلا من هذا الوجه, قال: قلت لسفيان إنهم يختلفون فيه فتفكر ساعة ثم قال ما أحفظ إلا أبا محمَّد بن عمرو قال سفيان قدم ههنا هنا رجل بعدما مات إسماعيل بن أمية فطلب هذا الشيخ أبا محمَّد حتى وجده فسأله عه فخلط عليه. أقول: الحديث ضعيف، كما قال المؤلف وغيره؛ وذلك أن فيه أبا عمر ومحمد بن حريث مجهول فقد قال عنه الحافظ في ت 2/ 455 , أبو عمرو بن محمَّد بن حريث، أو ابن محمَّد بن عمرو بن حريث، وقيل أبو محمَّد بن عمرو بن حريث مجهول من السادسة، وكذلك جده فقد قال الحافظ في ت أيضاً 1/ 159 حريث رجل من بني عذرة اختلف في اسم أبيه فقيل ابن سليم أو سليمان أو عمار مختلف في صحبته. وعندي أن راوي حديث الخط غير صحابي بل مجهول من الثالثة. وقال في ت ت 2/ 236 قال الطحاوي رواية مجهول، وقال الخطابي قلت أحمد حديث الخط ضعيف، وزعم ابن عبد البر أن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني صحّحاه، وقال الشافعي في سنن حرملة لا يخط المصلي خطًا إلا أن يكون ذلك في حديث ثابت يتبع. ونقل الشوكاني عن الحافظ قوله أورده ابن الصلاح مثالاً للمضطرب وتوزع في ذلك، وقال في بلوغ المرام ولم يصب من زعم أنه مضطرب بل حسن. نيل الأوطار 3/ 5. (¬1) قال أبو داود: وسمعت أحمد بن حنبل سئل عن وصف الخط غير مرة فقال: هكذا عرضًا مثل الهلال. وفي رواية أخري عن أحمد يعني بالعرض حورًا دوارًا مثل الهلال يعني منعطفاً. سنن أبي داود 1/ 444، ونقله البغوي في شرح السنة 2/ 451، وقال النووي في شرح مسلم 4/ 217 فيه ضعف واضطراب ونقل عن القاضي عياض تضعيفه. (¬2) هذا القول لعبد الله بن داود بن عامر الهمداني أبي عبد الرحمن الخريبي نقله أبوداود في سننه 1/ 444 , والبغوي في شرح السنة 2/ 451، وروي كذلك عن أحمد، قال ابن قدامة وقال في رواية الأثرم قالوا طولًا وقالوا عرضًا، وقال وأما أنا فأختار هذا ودور إصبعه مثل القنطرة، وقال ابن قدامة كيف ما خطه أجزأه فقد نقل حنبل أنه قال إن شاء معترضًا وإن شاء طولًا وذلك لأن الحديث مطلق في الخط. المغني 2/ 177. (¬3) نقل هذا الخلاف الذي نقل الشارح النووى في شرح مسلم 4/ 217 وفي الروضة 1/ 294 - 295، ورجح أن يكون الخط طولًا ولم يعز ذلك لأحد.

قال لي أبو الوفاء علي بن (¬1) عقيل وأبو سعيد (¬2) البرداني، شيخ (¬3) مذهب أحمد: كان أحمد بن حنبل يروي أن ضعيف الأثر (¬4) كالعدم لا يوجب حكمًا (¬5)، والنظر أصل من أصول الشريعة عليه عوَّل السلف، ومنه قامت الأحكام وبه فصل بين الحلال والحرام. وأما هيئة السترة فإن تكون في طول الذراع لأنها بقدر الرحل الواردة في الحديث (¬6). وأن تكون بغلظ الرمح لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كان يصلي إليه. وقد تفطَّن مالك، رضي الله عنه، لهذا فجمع بينهما حين قال (السُّتْرَةُ قَدْرَ الذِّراعِ في جلَّةِ الرّمحِ) (¬7)، فإذا وضعها بين يديه فلا يجعلها قبالة وجهه لحديث المقداد (¬8) قال: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّي إِلَى عَمُودٍ أَوْ شَيْءٍ فَعَمَدَ إِلَيْهِ عَمَدًا وَإِنَّمَا كَانَ يَجْعَلُهُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِه) (¬9). ¬

_ (¬1) أبو الوفاء، علي بن عقيل بن محمَّد بن عقيل البغدادي الظفري، أبو الوفاء، ويعرف بابن عقيل، عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد في وقته. كان قوي الحجة , ولد سنة 431 هـ ومات سنة 513 هـ. انظر جلاء العينين 99 , وشذرات الذهب 4/ 35 , وغاية النهاية 1/ 556 , ولسان الميزان 4/ 243 , وذيل طبقات الحنابلة 1/ 171. (¬2) هو محمد بن الحسن بن محمد بن أحمد بن الحسن البرداني , الفقيه الزاهد , أبو سعد , أحد الفقهاء من أصحاب القاضي أبي يعلي , توفي في 18 محرم سنة 496 هـ. ذيل طبقات الحنابلة 1/ 93 - 94 , أقول: كنّاه الشارح هنا بأبي سعد وستأتي عنه كنيته بأبي علي , وهكذا كنّاه الذهبي في سير أعلام النبلاء 19/ 219 ,وتذكره الحفاظ 4/ 1232 , وانظر الأنساب 2/ 144. (¬3) في (ك) و (م) شيخا وهي الصواب. (¬4) في (ك) و (م) زيادة (خير من قوي النظر , وهذه وهلة لا تليق بمنصبه الرفيع لأنه ضعيف الأثر كالعدم). (¬5) انظر الأصول مذهب الإمام أحمد للدكتور عبد الله التركي ص 274 وأعلام الموقعين 1/ 77 وابن حنبل لأبي زهرة ص 339. (¬6) تقدم ص 338. (¬7) المدونة 1/ 108. (¬8) المقداد بن الأسود الكندي هو ابن عمرو بن ثعلبه بن مالك بن ربيعة , أسلم قديمًا ومات سنة ثلاث وثلاثين في خلافة عثمان قيل وهو ابن سبعين سنة. الإصابة 3/ 454 - 455 , تجريد أسماء الصحابة 2/ 92. (¬9) أبو داود 1/ 445 من طريق الوليد بن كامل عن المهلب بن حجر عن ضباعة بنت المقداد ابن الأسود عن أبيها. وأحمد , انظر الفتح الرباني 3/ 131وقال الزيلعي رواه الطبراني في معجمه وابن عدي في الكامل وأعلَّه بالوليد بن كامل , ونقل عن البخاري أنه قال عنده عجائب , ثم قال وأما ابن القطان فإنه ذكر فيه علتين علّة في إسناده وعلّة في متنه. أما التي في إسناده فقال إن فيه ثلاثة مجاهيل ضباعة مجهولة الحال ولا أعلم أحدًا ذكرها, وكذلك المهلَّب بن حجر مجهول الحال , والوليد بن كامل من الشيوخ الذين لم تثبت عدالتهم وليس له من الرواية كثير شئ يستدل به علي حاله. =

وليجعل بينه وبين سترته من المسافة مقدار ما يحتاج لسجوده ولا يتأخر عنها تأخرًا كثيرًا، ولا يتقدم إليها كثيرًا حتي إذا أراد أن يسجد تأخر عنها لأن ذلك عمل في الصلاة، وقد رأيت بعض الغافلين ممن ينتصب للتعلم (¬1) يفعل ذلك وهي جهالة فمتى تركها خالية بمقدار السجود فأراد شيء أن يمرّ بينه وبينها فليمنعه. كَانَ النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، يُصلِّي فَأَرَادَتْ شَاةٌ أن تَمُرَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُتْرَةِ فَدارَأَهَا حَتَي ألصَقَ بَطْنَهَا (¬2) بِالْحَائِطِ فَمَرَّتْ مِنْ وَرَائِهَا (¬3). وكذلك يفعل بكل ما يدارئه ويدافعه بعد أن يعتذر إليه بالغمز والإشارة. رواه أشهب (¬4) عن مالك، رضي الله عنه (¬5). مسألة أصولية: قال النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -: "فَإِنَّمَا هوَ شَيْطَانٌ" (¬6) وليس الشيطان آدمياً ولا ¬

_ وأما التي في متنه فهي أن أبا علي بن السكن رواه في سننه وقال: أخرج هذا الحديث أبو داود من رواية علي بن عياش عن الوليد بن كامل فغير إسناده ومتنه. نصب الراية 2/ 84، والحديث رواه ابن عدي في الكامل 7/ 2541. ترجمة الرجال الذين تكلم فيهم في هذا الإِسناد: - الوليد بن كامل بن معاذ، أبو عبيدة الشامي، لين الحديث. ت2/ 325 وقال ت ت 11/ 147 قال البخاري عنده عجائب، وقال النسائي في الكنى أنا إبراهيم ابن يعقوب أنا علي بن عياض، ثنا أبو عبيد الوليد ابن كامل وكان من علية الناس ثقة وذكره ابن حبان في الثقات. وانظر الكامل لابن عدي 7/ 2541 فقد قال عنه عنده عجائب. - المهلب بن حجر الهمداني شامي مجهول ت 2/ 279، وانظر ت ت 10/ 329. - ضباعة بنت المقداد بن الأسود، ويقال ضبيعة بنت المقدام بن معد يكرب لا تعرف ت 2/ 604 وانظر ت ت 12/ 432. درجة الحديث: ضعيف لجهالة المهلب وضباعة، والله أعلم. (¬1) في (ك) و (م) للتعليم. (¬2) في (ك) و (م) بطنه وهو الصواب. ويؤيده رواية أبي داود في سننه 1/ 188 فما زال يدارئها حتي لصق بطنه بالجدار، وفي رواية أحمد: يقول الراوي حتى نظرت إلى بطن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد لصق بالجدار ومرت من خلفه. انظر الفتح الرباني3/ 137. ورواه البزار. انظر كشف الأستار عن زوائد البزار 1/ 282 - 283. (¬3) رواه أبو داود 1/ 188 , وأحمد. أنظر الفتح الرباني 3/ 136 - 136كلاهما من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهما صدوقان، كما قال الحافظ في ت ت. درجة الحديث. حسن. (¬4) تقدم. (¬5) قول أشهب: هذا لم أجده في الموطأ ولا المدونة، وهو في التاج والإكليل علي مختصر خليل بهامش الحطاب 1/ 533. (¬6) تقدم ص 339.

مزلة قدم

الآدمي شيطانًا، ولكنه لمَّا أراد أن يفعل فعل الشيطان في الشغل عن الصلاة، وقطع المرء عن العبادة، جعل له مثلًا فكان تقدير الكلام فإنما هو شيطان شغلاً عن الصلاة وقطعًا كما تقول زيد البدر حسنًا وعمرو الأسد إقدامًا، والذي يبيّنه ما رواه مسلم عن ابن عمر في هذا الحديث بعينه قال فيه (فَإِنْ أَبَي فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّ مَعَهُ الْقِرْنَيْنِ) (¬1) إشارة بأن صاحبه من الشياطين هو الذي قاده إلى هذا ليقطع صلاته. ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - "أَنَّهُ قَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَة شَيْطَانٌ، قِيلَ لَهُ وَلا أَنْتَ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: وَلاَ أَنَا إِلَّا أَنَّ الله أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فلا يَأَمُرَنِي إِلَّا بِخَيْرٍ" (¬2). مزلة قدم إن لم يجعل سترة جاز. فقد صلى النبي، - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، رواه النسائي وأبو داود، ومثله حديث ابن عباس "زَارَنَا الْنَّبِيُّ، - صلي الله عليه وسلم -، فصلى دونها" رواه النسائي وقال (في بَادِيَةٍ لَنَا وَكَانَتْ لَنَا كَلْبَةٌ وَحِمَارَةٌ فَصَلَّي إِلَى غَيْرِ سِتْرَةٍ وَهُمَا يَدْنوَانِ مِنْهُ لَا يَتَأخَّرَانِ وَلَا يُؤَخِّرُهُمَا) (¬4). ¬

_ (¬1) مسلم كتاب الصلاة باب منع المار بين يدي المصلي 1/ 363، وابن ماجه1/ 307، وأحمد. انظر الفتح الرباني 3/ 132 - 133. (¬2) مسلم كتاب صفات المنافقين وأحكامهم باب تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينًا 4/ 2167 - 2168 عن ابن مسعود. وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير5/ 188، وعزاه لأحمد ومسلم. (¬3) أبو داود 4/ 518 من طريق ابن عيينة حدثني كثير بن أبي كثير بن المطلب بن أبي وداعة عن بعض أهله عن جده أنه رأى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، مما يلي باب بني سهم والناس يمرون بين يديه وليس بينهما سترة .. والنسائي2/ 67 من طريق ابن جريج عن كثير وكذلك ابن ماجه 2/ 986، وأحمد. انظر الفتح الرباني 3/ 145، وابن خزيمة 2/ 15. أقول: الحديث فيه كثير بن أبي كثير يروي عن بعض أهله عن جده وبعض أهله، هذا ليس معروفًا، هذا في رواية أبي داود، أما رواية غيره ففيها ابن جريج وقد رواها بالعنعنة وهو مدلس وقد تقدمت ترجمته. قال الشوكاني في النيل 3/ 6 فيه مجهول والمطّلب وأبوه لهما صحبة، وهما من مسلمة الفتح، وكذا قال الشيخ البنا في الفتح الرباني، وعلى هذا فالحديث ضعيف. (¬4) رواه الطيالسي انظر منحة المعبود 1/ 88، وأبو داود 1/ 459، والنسائي2/ 65، وأحمد. انظر الفتح الرباني 3/ 141، وعبد الرزاق في المصنف 2/ 28 والدارقطني 1/ 369، كلهم من رواية الفضل بن عباس. أقول: الحديث فيه عباس بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، لم يوثقه غير ابن حبان. قال الحافظ في ت ت 5/ 123 ذكره ابن حبان في الثقات، روى له أبو داود والنسائي حديثًا واحدًا في الصلاة، =

وقد غلط بعض الناس ههنا فقالوا: إذا صلى إلى غير سترة فلا يمر أحد بين يديه بمقدار رمية السهم، وقيل بمقدار رمية حجر، وقيل بمقدار رمية رمح، وقيل بمقدار المطاعنة، وقيل بمقدار المضاربة بالسيف (¬1) وهذا كله خطأ أوقعهم فيه قوله (فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتلْهُ) فحملوه على أنواع القتال (¬2)، ولم يفهموا أن القتال هي المدافعة لغة كأن يبدأ وابآلة. نعم حتى قال بعضهم وباللسان وليس بصحيح لما ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - قال في الصائم (إِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أو شَاتمَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ) (¬3)، ففرق بينهما، وحريم المصلي سواء وضع بين يديه سترة أو لم يضعها بمقدار ما يستقل قائمًا وراكعًا وساجدًا لا يستحق من الأرض كلها التي هي المسجد العام، ولا من المسجد الخاص سواها، وسائر ذلك لغيره، ولا يقاتل إلا من أدرك بيديه إذا مّدها وما وراء ذلك لا يمد إليه يدًا ولا يمشي إليه قدمًا، فإن فعل أبطل صلاته، فإن دافعه فنفذ ومشى فلا يقطع الصلاة كائنًا ما كان، وبه قال عامة الفقهاء من الصحابة فمن دونهم. ولله درُّ مالك، رضي الله عنه، فإنه ذكر الأحاديث التي تمنع القطع، وعلم أن هناك أحاديث سواها، فأدخل عن علي بن أبي طالب أحد الخلفاء أنه قال (لَا يَقْطَعُ الصلاَةَ شَيْءٌ) (¬4) وإذا عمل الخلفاء بأحد الحديثين كان ترجيحًا له. ¬

_ = وقال: قلت أعله ابن حزم بالانقطاع قال لأن عباسًا لم يدرك عمه الفضل، قال الحافظ وهو كما قال، وقال ابن القطان لا يعرف حاله. درجة الحديث: ضعيف. (¬1) انظر المغني لابن قدامة 2/ 175. (¬2) قال البغوي المراد بالمقاتلة الدفع بالعنف لا القتل، فإنه يروي في حديث أبي سعيد: وليدرأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله، وهذا إذا كان المصلي يصلي إلى سترة فأراد المار أن يمر بينه وبين السترة، فإن لم يكن بين يديه سترة فليس له دفع المار لأن التفريط من المصلي بترك السترة. شرح السنة 2/ 456. (¬3) متفق عليه، أخرجه البخاري في الصوم باب فضل الصوم 3/ 31، ومسلم في الصوم باب فضل الصوم 2/ 807، ومالك في الموطأ 1/ 310، والبغوي في شرح السنة 6/ 225 كلهم عن أبي هُرَيْرَة. (¬4) الموطّأ 1/ 165 مالك أنه بلغه عن علي بن أبي طالب قال: (لا يقْطَعُ الصَّلاةَ شيْءٌ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي)، ورواه الطحاوي من طريق سعيد بن المسيب عن علي وعثمان. شرح معاني الآثار 1/ 464 وقال الحافظ في الفتح روي سعيد ابن منصور بإسناد صحيح عن علي وعثمان وغيرهما نحو ذلك موقوفاً. فتح الباري 1/ 588. درجة الأثر: صحح روايته عند سعيد بن منصور الحافظ وكذا نقل محمَّد زكريا الكاندهلوي في أوجز المسالك 3/ 155.

الثاني: قال ابن عمر وأنس (¬1) بن مالك والحسن بن أبي الحسن البصري يقطع الصلاة (المرأة والحمار والكلب (¬2) الأسود). الثالث: قال أحمد بن حنبل في نفسي من الحمار والمرأة شيء (¬3). الرابع: يقطعها الكلب الأسود خاصة (¬4). الخامس: والمرأة الحائض (¬5). فأما ما رواه أهل الخلاف عن عبد الله بن عمر (¬6) فضعيف لأن مالكًا روى عن ابن شهاب عن سالم ابنه عنه أنه قال (لاَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَئٌ) (¬7) ومالك، رضي الله عنه، أصح رواية من سواه وسالم ابنه أقعد به من غيره. وأما الحائض فقد روي عن ابن عباس مسندًا إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم - (أنَّهُ قَالَ لَا يَقْطَعُ ¬

_ (¬1) قال ابن قدامة في المغني: روي عن أنس وعكرمة وأبي الأحوص. المغني 2/ 184، وقال الشوكاني قال به جماعة من الصحابة ومنهم أنس وابن عمر. نيل الأوطار 3/ 12. (¬2) روى البزار من حديث أن (يَقْطَعُ الصَّلاة الْكَلْبُ وَالحِمَارُ والمَرْأةُ) كشف الأستار عن زوائد البزار1/ 281 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 60 وقال رجاله رجال الصحيح، وقال الشوكاني في النيل 3/ 11 قال العراقي رجاله ثقات. درجة الحديث: صحيح. (¬3) سنن الترمذي 2/ 163، والبغوي في شرح السنة 2/ 463، وقال ابن قدامة لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم، هذا هو المشهور عن أحمد. نقله الجماعة عنه. المغني 2/ 183. (¬4) هذا القول معزو لإسحاق بن راهويه. انظر سنن الترمذي 2/ 163، وقال الشوكاني حكاه ابن المنذر عن عائشة. نيل الأوطار 3/ 12. (¬5) سيأتي ص 346. (¬6) تقدم قريبًا. (¬7) الموطّأ 1/ 156 عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر كان يقول لا يقطع الصلاة شيء. والدارقطني في السنن 1/ 368 مرفوعًا، ورواه الطحاوي موقوفًا، معاني الآثار 1/ 463، وعبد الرزاق في المصنف 2/ 30. قال الحافظ في الفتح 1/ 588: رواه مالك عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه من قوله، وأخرجها الدارقطني مرفوعة من وجه آخر عن سالم لكن إسناده ضعيف. قلت: وذلك من أجل إبراهيم ابن يزيد الخوزي، بضم المعجمة وبالزاء، أبو إسماعيل المكي، مولى بني أمية، متروك الحديث من السابعة مات 151 ت س. ت 1/ 46، وانظر ت ت 1/ 179. درجة الحديث: الموقوف منه صحيح والمرفوع ضعيف.

الصَّلاَةَ فَذَكَرَ حَتَّى قَالَ وَالْحَائِضُ) (¬1) وهو حديث ضعيف أخرجه أبو داود والدارقطني وضعفاه. وأما سائر الأقوال فقد أسقطها حديث عائشة، رضي الله عنها (لَبِئْسَ مَا عَدَلْتُمُونَا بِالكِلاَبِ) (¬2) وأقواها رواية مسلم عن أبي ذر في قوله (الْكَلْب الأَسْودُ شَيْطَانٌ) (¬3)، وقد قال في ذلك علماؤنا قولًا بديعًا. إن معنى قوله يقطع الصلاة يشغل عنها ويحول دون الإقبال عليها. ولو أراد غير ذلك لقال يفسد الصلاة أو يبطلها (¬4). فأما المرأة فتقطعها بفتنتها، وأما الحمار فيقطعها ببلادته ونكوصه، فإنه إذا زجر لم ينزجر وإذا دفع لم يندفع، وأما الكلب الأسود فبنفرة النفس، فإن السواد مكروه عند النفس، فإذا رأت معه لمعة بيضاء سكنت إليه فإنها خلقت من نور ولذلك تستوحش من الظلام ومن الغيم، وجعلت جهنم (¬5) سوداء كالقار، ولذلك جعل علامة العذاب اسوداد ¬

_ (¬1) أبو داود 1/ 453 وقال: وقفه سعيد وهشام وهمام عن قتادة عن جابر بن زيد والنسائي 2/ 64، وابن ماجه 1/ 305 , وابن خزيمة 2/ 22 ولم أطلع عليه في سنن الدارقطني في مظانِّه ولعله في العلل ولفظه (يَقْطَعُ الصَّلاة الْمَرأَةُ الْحَائِضُ وَالْكَلْبُ). أقول: الحديث صححه العراقي، فقد نقل الشوكاني في النيل 3/ 12 عن العراقي قوله رادًا على ابن العربي في تضعيفه له: إن أراد بضعفه ضعف رواته فليس كذلك فإن جميعهم ثقات، وإن أراد به كون الأكثرين وقفوه على ابن عباس فقد رفعه شعبة ورفع الثقة مقدم على وقف من وقفه وإن كانوا أكثر على القول الصحيح في الأصول وعلوم الحديث. درجة الحديث. صحّحه العراقي والدكتور مصطفى الأعظمي في تعليقه على ابن خزيمة 2/ 22. (¬2) تقدم ص 339. (¬3) تقدم تخريجه ص 339. (¬4) قال الباجي: معنى القطع للصلاة، في هذا الحديث، شغل المصلي عما هو عليه من الإقبال عليها والبعد عن الاشتغال عنها بدليل حديث عائشة، فنفي في حديث عائشة القطع الذي هو بمعنى إفساد الصلاة والمنع من التمادي فيها، ويثبت بالحديث الثاني القطع عن الإقبال عليها والاشتغال بها. المنتقى 1/ 278. (¬5) روى الترمذي من طريق يحيى بن أبي بُكير عن شريك عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هُرَيْرَة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: أُوقِدَ عَلَي النَّارِ ألْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّت ثُمَّ أوقِدَ عَلَيْها أَلفَ سَنَةٍ حتي ابيضَّت ثُّم أوقِدَ عَلَيْهَا ألْفَ سَنَةٍ حَتَّي اسوَدَّتْ فَهِي سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ. قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة في هذا موقوف أصح ولا أعلم أحدًا رفعه غير يحيى بن أبيُ بكير عن شريك. سنن الترمذي 4/ 710، ورواه ابن ماجه 2/ 1445، والبغوي في شرح السنة 15/ 240، ونقل فيه كلام الترمذي المتقدم. والحديث فيه شريك بن عبد الله النخعي الكوفي قال عنه الحافظ صدوق يخطئ كثيرًا تغير حفظه منذ =

وضع اليدين علي الصدر في الصلاة والقنوت وصلاة الرجل وهو حاقن

الوجوه (¬1)، وجعلت علامة النجاة ابيضاض الوجوه (¬2). وضع اليدين علي الصدر في الصلاة والقنوت وصلاة الرجل وهو حاقن اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاث روايات. تركها في كل صلاة لأنها عمل واعتماد يستغنى عنه (¬3)، فعلها في النافلة دون الفريضة لأنها تحتمل العمل دون الفريضة (¬4)، فعلها فيهما جميعًا لأنها استكانة وخضوع (¬5) وهو الصحيح. روى مسلم (أُمِرْنَا أَنْ نَضعَ أَيْمَانَنَا عَلَى شَمَائِلِنا في الصَّلاةِ) (¬6). وأما القنوت ففيها للعلماء ثلاثة أقوال: أحدها: لا يقنت في الصلاة بحال واختاره أحمد (¬7). الثاني: أنه يقنت قبل الركوع واختاره مالك، رضي الله عنه (¬8). الثالث: أنه يقنت بعد الركوع (¬9) واختاره الشافعي، رضي الله عنه. ¬

_ = ولي القضاء بالكوفة. ت 1/ 351، وانظر ت ت 4/ 333. درجة الحديث: ضعيف لضعف شريك بن عبد الله. (¬1) لعله يشير إلى الآيات الكريمات من سورة آل عمران آية 106 - 107 قال تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}. (¬2) {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. (¬3) في رواية ابن القاسم في المدونة 1/ 76 لا أعرف ذلك في الفريضة. (¬4) القول الثاني قال: وكان يكرهه، ولكن في النوافل إذا طال القيام فلا بأس بذلك يعين به نفسه. المصدر السابق. (¬5) القول الثالث قول سحنون عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن غير واحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -, أنهم رأوْا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واضعًا يده اليمنى على اليسرى في الصلاة. المصدر السابق. وهذا الرأي هو الذي رجحه الشارح وهو الصواب، فقد قال مالك في الموطأ 1/ 158 باب وضيع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة. ونقل الزرقاني عن ابن عبد البر قوله لم يأتِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيه خلاف، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ ولم يحكِ ابن المنذر وغيره عن مالك غيره. شرح الزرقاني 1/ 321. (¬6) مسلم كتاب الصلاة باب وضع يده اليمنى على اليسرى بعد تكبيرة الإحرام 1/ 301 عن وائل بن حجر، وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة 1/ 249 وعزاه لمسلم. (¬7) انظر مذهبه في المغني لابن قدامة 2/ 115. (¬8) انظر المدونة 1/ 100. (¬9) قال النووي: مذهب الشافعي أن القنوت مسنون في صلاة الصبح دائمًا، وأما غيرها فله فيه ثلاثة أقوال الصحيح المشهور أنه إن نزلت نازلة كعدو وقحط ووباء وعطش وضرر ظاهر في المسلمين ونحو ذلك قنتوا =

وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الْقُنُوتُ في الصُّبْحِ (¬1) وَالظُّهْرِ (¬2) والْمَغْرِبِ (¬3) وَالْعِشَاءِ). وثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قنت قبل الركوع وبعد (¬4) الركوع، ورأى أحمد ابن حنبل أن قنوت النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما كان لسبب فيما كان ينزل بالمسلمين، والأحكام إذا كانت معلَّقة بالأسباب زالت بزوالها (¬5)، ورأى مالك، رضي الله عنه، والشافعي أن ذلك من كلب العدو ومقارعته معنى دائم فدام القنوت بدوامه، ونظروا أيضًا إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - , وإن كان ثبت عنه القنوت في الصلوات فالذي استمر عليه عمله القنوت في الصبح (¬6) فقصره علماؤنا على ما استمر عليه. ¬

_ في جميع الصلوات المكتوبة وإلا فلا. شرح النووي على مسلم 2/ 176، وانظر الروضة 1/ 330. (¬1) مسلم كتاب المساجد باب استحباب القنوت في جميع الصلوات إذا نزلت بالمسلمين نازلة 1/ 466 من حديث أبي هُرَيْرَة وأبي داود 2/ 142. (¬2) ومن حديث أبي هُرَيْرَة أيضًا أنه قنت في الظهر والعشاء الأخيرة وصلاة الصبح 1/ 468 ومن حديث أنس في صلاة الصبح 1/ 468، وأبي داود 2/ 141. (¬3) وقع في مسلم في نفس الباب عن البراء بن عازب أنه قنت في الصبح والمغرب 1/ 470، وفي البخاري من حديث أنس كان القنوت في المغرب والفجر. البخاري في الوتر باب القنوت قبل الركوع وبعده 2/ 32 وأبو داود 2/ 68. (¬4) مسلم كتاب المساجد باب استحباب القنوت في جميع الصلوات 1/ 468 - 469 من حديث أنس بن مالك قال: قَنَتَ رَسُولُ الله، صَلى الله عَلَيْهِ وسلَّمَ في صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ الرّكُوعِ بِيَسِيرٍ. ومن حديث عاصم عن أنس قال: سأله عن القنوت قبل الركوع أو بعد الركوع؟ فقال. قبل الركوع. (¬5) أقول: رجّح الحافظ ابن حجر مذهب أحمد فقد قال في الدراية 1/ 195: يؤخذ من جميع الأخبار أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان لا يقنت إلا في النوازل، وقد جاء ذلك صريحًا. فعند ابن حبان عن أبي هُرَيْرَة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقنت في الصبح إلا أن يدعو لقوم أو على قوم، وعند ابن خزيمة عن أنس مثله وإسناد كل منهما صحيح، وحديث أبي هرَيْرَة في الصحيحين بلفظ (إِنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، كَانَ إذا أرادَ أن يَدْعُوَ عَلَي أحدٍ أو لأحَدٍ قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوع حَتَّى أنْزَلَ الله {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأمْرِ شَيْءٍ} وأخرج ابن أبي شيبة من حديث علي أنه لما قنت في الصبح أَنكر الناس عليه ذلك فقال إنما استنصرنا على عدونا. (¬6) روى أحمد في المسند عن أنس قال: مَا زَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -, يِقْنَتُ في صَلاَةِ الصُّبْحِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيا. انظر الفتح الرباني 4/ 302. ورواه البزار، انظر كشف الأستار 1/ 269 وزاد: وأبو بكْرٍ حتَّى ماتَ وعُمَرُ حتَّى ماتَ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 139 ورجاله موثوقون، ورواه البغوي في شرح السنة 3/ 124، وعزاه للحاكم وقال إسناد هذا الحديث حسن. والدارقطي 2/ 39، والبيهقي في السنن 2/ 201 كلهم من حديث أبي جعفر =

ولما قنت النبي - صلى الله عليه وسلم -، قبل الركوع وبعده اختار عمر رضي الله عنه، بعده قبل الركوع لما كان أصلح للأمة وأرفق بهم في إدراكهم الركعة (¬1). واختلف قول مالك، رضي الله عنه، في سجود السهو لمن تركه فلم يدخل في ترجمة الموطّأ فيه إلا رواية نافع عن ابن عمر أنه كان لا يقنت في الصلاة تنبيهًا على أنه خفيف لا يلزم في أصله فعلاً ولا يشرع له سجود جبرانًا (¬2). وأما حديث عبد الله (¬3) بن الأرقم (¬4) فاختلف العلماء في تعليله، فمنهم من قال علته ¬

_ = الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك، وأبو جعفر هذا اسمه عيسى بن هامان قال عنه الحافظ صدوق سيء الحفظ. ت2/ 406 وقال في ت ت 12/ 56 قال أحمد ليس بالقوي في الحديث، وقال أحمد في رواية حنبل صالح الحديث، وقال إسحاق ابن منصور عن ابن معين كان ثقة، وقال مرة يكتب حديثه، وقال ابن المديني ثقة، وقال أبو حاتم ثقة صدوق، وقال الساجي صدوق وقال ابن خراش صدوق سيء الحفظ، وقال ابن سعد ثقة، وقال ابن حبان كان ينفرد عن المشاهير بالمناكير لا يعجبني الاحتجاج بحديثه إلا فيما وافق الثقات. ونقل الشيخ البنا عن النووي قوله رواه جماعة من الحفاظ وصححوه وممن نص على صحته الحافظ أبو عبد الله بن محمَّد بن علي البلخي والحاكم أبو عبد الله في مواضع من كتبه والبيهقي، ورواه الدارقطني من طرق بأسانيد صحيحة. الفتح الرباني 3/ 302. درجة الحديث: صححه مَنْ تَقدم مع أن فيه أبا جعفر الرازي، والذىِ يظهر لي أنه حسن لغيره. (¬1) رواه عبد الرزاق في المصنف 3/ 109 عن الثوري عن مخارق عن طارق بن شهاب أن عمر بن الخطاب صلَّي الصبحَ فَلَمَا فَرَغَ مِنَ الْقِرَاءَةِ قَنَتَ ثُمَّ كَبَّرَ حِينَ يِرْكعُ. ورواه الطحاوي في معاني الآثار من طريق الثوري وإسرائيل وشعبة عن مخارق ولفظه: كبَّرَ ثُمَّ قنت ثم كَبَّرَ فَرَكَعَ. معانى الآثار 1/ 250. درجة الأثر: صحيح إلى عمر. (¬2) الموطّأ 1/ 159 مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنّ عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقنت في شَيءٍ من الصَّلاةِ. درجة الأثر: صحيح إلى ابن عمر. قال الباجي لم يدخل في الباب ما فيه القنوت في الصبح على ما كان يعتقده هو من القنوت في صلاة الصبح، ثم أدخل فعل عبد الله بن عمر مخالفًا لما يعتقده هو في ذلك. المنتقى للباجي1/ 281. وقال ابن عبد البر، فيما نقله عنه الزرقاني، لم يذكر فيِ رواية يحيي غير ذلك وأكثر الموطآت بعد حديث ابن عمر: مَالِك عنْ هَشَامَ بْنِ عُرْوَةَ أَنَ أَبَاهُ كَان لا يَقْنت في شَيءٍ من الصلاةِ وَلاَ في الْوَتْرِ إلاَّ أَنَّهُ كَانَ يقْنَتُ في صَلاَةِ الْفجْرِ قَبْلَ أنْ يَرْكَعَ الرَّكْعَةَ الأخِيرَهَ إذَا قَضَى قِرَاءَتَة. شرح الزرقاني1/ 322. (¬3) عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث الزهري، أسلم عام الفتح وكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر وعمر، وولي بيت المال لعمر وعثمان يسيرًا. تجريد أسماء الصحابة 1/ 296، والإِصابة 2/ 272. (¬4) ولفظ الحديث: أنَّ عَبْدَ الله بْن الأرْقَمِ كَانَ يَؤُمُّ أَصْحَابَة فَحَضرَتِ الصلاَةُ يَوْمًا فَذَهَبَ لِحَاجَتِهِ ثم رَجع =

عدم الخشوع والإقبال على أفعال الصلاة، ومنهم من قال علّته أنه انصب للخروج فإذا حقنه فكأنه حبسه في ثوبه (¬1)، وأغفلوا علّة ثالثة وهو أنه إذا حقنه فكأنه نقض طهارته فيكون مصليًا بغير طهور وهذا إذا أخرقه وحرفه. فأما إذا كان يسيرًا فلا اعتبار فيه، وقد رتبنا التفريغ على هذه الوجوه الثلاثة في كتب المسائل فلينظر فيها. انتظار الصلاة: الملائكة تصلّي على العبد ما دام منتظرًا للصلاة تنبيهًا، وما دام في مصلاّه بعد الصلاة نصًا. وقد قال (لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ في صَلَاةٍ مَا كَانَتِ (¬2) الصلاةُ تَحْبِسُهُ) (¬3) وقوله: مَا لَمْ يُحْدِثُ قال مالك رضي الله عنه يريد به (الإحْدَاثَ التي تَنْقُضُ (¬4) الْوُضُوءَ) (¬5) فحدث المعصية أحرى أن يقطعه (¬6). حديث: ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم -، أنه قال لرجل دخل المسجد وهو يخطب (يوم ¬

_ = فَقَالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "إذاا أَرَادَ أَحَدُكم الْغَائِطَ فَلْيَبْدَأْ بِهِ قَبْلَ الصَّلاَةِ" الموطأ 1/ 159، وأبو داود 1/ 22، والترمذي 1/ 262 وقال حسن صحيح، والنسائي 2/ 110، وابن ماجه 1/ 202، والحاكم في المستدرك 1/ 168 وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والدارمي 1/ 332. قال ابن عبد البر لم يختلف على مالك في هذا الإِسناد، وتابعه زهير بن معاوية وسفيان بن عيينة وحفص ابن غياث ومحمد بن إسحاق وشجاع بن الوليد وحماد ابن زيد ووكيع وأبو معاوية والمفضل بن فضالة ومحمد بن كنانة، كلهم رووه عن هشام، كما رواه مالك ورواه وهيب بن خالد وأنس بن عياض وشعيب ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل حدثه عن عبد الله بن الأرقم فأدخلوا بين عروة وعبد الله بن الأرقم رجلاً ذكره أبو داود، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن أيوب بن موسى عن هشام بن عروة قال: خَرَجْنَا في حِجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ مَعْ عَبْدِ الله بْنِ الأرْقَمِ الزِّهْرِي فَأَقَامَ الصلاة ثُمَّ قَالَ صَلُّوا .. الزرقاني 1/ 323. درجة الحديث: صحيح. (¬1) انظر الأقوال في المسألة في المنتقى 1/ 282 , 283. (¬2) في (م) ما دامت، وكذا لفظ مسلم. (¬3) متفق عليه، رواه البخاري في كتاب الأذان باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة 1/ 168، ومسلم في كتاب المساجد باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة 1/ 460، ومالك في الموطأ 1/ 160 من حديث أبي هُرَيْرَة. (¬4) الموطأ 1/ 160. (¬5) في (ك) و (م) زيادة، وقال غيره يريد ما لم يعص وإذا قطع صلاة الملائكة حدث الوضوء. (¬6) قال الحافظ في الفتح 2/ 143 المراد بالحدث الفرج، لكن يؤخذ منه أن اجتناب حدث اليد واللسان من باب الأولى لأن الأذي منهما يكون أشد.

الجمعة) (¬1) على المنبر فجلس قبل أن يركع (قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ تَجْلِسَ (¬2)) (¬3). ذهب (¬4) (ش) (¬5) إلى أن ذلك فضيلة، وقال مالك، رضي الله عنه، ذلك مكروه وهو الصحيح؛ لأن في صلاته انشغالاً عن خطبة الإِمام، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: (إِذا قُلْتَ لِصاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَة وَالإمَامُ يَخْطُبُ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ) (¬6). فإذا منعه بحرمة الخطبة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فرض فأولى وأحرى أن يمنعه عن تحية المسجد وهي فضل. الحديث (¬7) الذي أوردناه آنفًا كان الرجل سليكا الغطفاني (¬8) دخل وهو في هيئة بذة (¬9)، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن يقوم فيصلي حتى يراه الناس فلعلهم أن يعودوا عليه من فضل الله عندهم (¬10). ¬

_ (¬1) ليست في (م). (¬2) زيادة من (ك) و (م) وقال: إذا جَاءَ أَحدكُمُ وَالإِمامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعتينِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ. (¬3) متفق عليه البخاري في الجمعة باب من جاء والإِمام يخطب صلى ركعين خفيفتين2/ 15 ,وباب إذا رأى الإِمام رجلًا وهو يخطب أمره أن يصلي ركعين، ومسلم في الجمعة باب التحية والإِمام يخطب2/ 596 , والترمذي2/ 384 - 385، وأحمد في المسند 3/ 297 و 316 ,317 و 389، والبغوي في شرح السنة 4/ 263 , وأبو داود 1/ 291 كلهم من حديث جابر. (¬4) في (ك) فذهب. (¬5) انظر روضة الطالبين للنووي 2/ 30. (¬6) متفق عليه البخاري في الجمعة باب الإِنصات يوم الجمعة والإِمام يخطب 2/ 15 - 16، ومسلم في الجمعة باب الإِنصات يوم الجمعة 2/ 583، والموطأ 1/ 103 والبغوي في شرح السنة 4/ 258، وأبو داود 1/ 290 , والترمذي 2/ 387، وابن ماجه 1/ 352، كلهم من حديث أبي هُرَيْرَة. (¬7) في (ك) والحديث. (¬8) سليك بن عمرو الغطفاني وقيل بن هدبة الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يخطب تجريد اسماء الصحابة للذهبي 1/ 235 وقد جاء مسمى في هذه القصة عند مسلم من رواية الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر، مسلم في كتاب الجمعة باب التحية والإِمام يخطب 2/ 597. (¬9) قال البغوي: أي رثّ الهيئة، يقال رجل باذ الهيأة وفي هيئته بذاذة وبذة ... وهي الرثاثة وترك الزينة. شرح السنة 4/ 265 - 266. (¬10) ورد عند النسائي من حديث أبي سَعِيدٍ الخِدْرِي يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمْعَةِ وَالنَبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - , يَخْطُبُ بِهَيْئَةٍ بَذَّةٍ فَقَالَ لَه رَسولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، أَصَلَّيْتَ؟ قَالَ. لَا. قَالَ: صَلِّ رَكْعتينِ، وَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدقَةِ فَأَلْقَوْا ثِيَابًا فَأَعْطَاهُ مِنْهَا ثَوْبَيْنِ فَلَمَا كانَتِ الْجُمُعَة الثَّانِيَة جَاءَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - يَخْطَبُ فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصدقَةِ قَالَ فَأَلقي أَحَدَ ثَوْبَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، جَاءَ هذَا فِي يَوْمِ الْجُمعَةِ بِهَيْئَةٍ بَذةٍ فَأَمَرْتُ النَّاس بالصَّدقَةِ

(الالتفات في الصلاة والتصفيق فيها)

فالحديث متأول تارة ومنسوخ أخرى، والمحافظة على ركن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فائدة المرسلين وخلافة الخلق أجمعين أَوْلى بالاعتبار (¬1). (الالتفات (¬2) في الصلاة والتصفيق فيها) بوَّب مالك، رضي الله عنه، على الالتفات في الصلاة لأنه عمل خارج عنها مضاد للإقبال، ولكن سمح في اليسير منه عند الحاجة. روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أَنَّهُ كَانَ يَلْتَفِتُ في الصلاةِ يَمِيناً وَشِمَالاً غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَلْوِي عُنُقهُ) ¬

_ = فَأَلْقَوْا ثِيَابًا ... سنن النسائي 3/ 106 - 107و 5/ 63، والترمذي باختصار وقال حسن صحيح. سنن الترمذي 2/ 385 - 386، ورواه أحمد أطول من رواية النسائي. انظر الفتح الرباني 9/ 186 - 187، والحاكم في المستدرك 1/ 285 - 286، وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وابن ماجه1/ 353، وابن خزيمة 2/ 165 كلاهما مختصرًا. درجة الحديث: صحيح كما قال الترمذي والحاكم والذهبي. (¬1) أقول: رد الحافظ ابن حجر ما ذهب إليه ابن العربي من كون الحديث مؤوَّلًا أو منسوخًا فقال: والحامل للمانعين على التأويل المذكور أنهم زعموا أن ظاهره معارض لقوله تعالى {وَإذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعوا لَهُ وأَنْصِتُوا} وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قُلْتَ لِصاحِبِكَ أَنصتْ وَالإِمَامُ يخْطُب فقَدْ لَغَوْتَ" قال: فإذا امتنع الأمر بالمعروف وهو أمر اللاغي بالإِنصات فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أَوْلى. وعارضوا أيضًا بقوله، - صلى الله عليه وسلم -، للذي دخل يتخطى رقاب الناس وهو يخطب أجلس فقد أذيت، فأمره بالجلوس ولم يأمره بالتحية .. إلى أن قال: ويمكن الجمع وهو مقدم على المعارضة المؤدية إلى إسقاط أحد الدليلين. أما الآية، فليست الخطبة كلها قرآناً وما فيها من القرآن الأمر بالإِنصات حال قراءته عام مخصص بالداخل. أما حديث إِذَا قُلْتَ لِصاحِبِكَ انصت فهو وارد في المنع من المكالمة في الصلاة، ولو سلّم أنه يتناول كل كلام حتى الكلام في الصلاة لكان عمومًا مخصصًا بأحاديث الباب. أما أمره - صلى الله عليه وسلم - لمن دخل يتخطى الرقاب بالجلوس فذلك واقعة عين ولا عموم لها. إلى أن قال وقد أجاب المانعون بأجوبة غير ما تقدم وساق عشرة وأجاب عنها. منها لما تشاغل - صلى الله عليه وسلم - بمخاطبة سليك سقط فرض الاستماع إذ لم يكن منه - صلى الله عليه وسلم -، خطبة في تلك الحال. قال: وادعى ابن العربي أن هذا أقوي الأجوبة، قال الحافظ وهو أضعفها لأن المخاطبة لما انقضت رجع النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلى الخطبة وتشاغل سليك بامتثال ما أمر به من الصلاة فصح أنه صلى حال الخطبة. ومنها تمسك أهل المدينة، خلفًا عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك، أن التنقّل حال الخطبة ممنوع مطلقًا وتعقب بمنع اتفاق أهل المدينة؛ فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد الخدري، روى ذلك الترمذي وابن خزيمة وصححاه وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة، ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحًا ما يخالف ذلك. فتح الباري 2/ 408 - 411. (¬2) هذه الترجمة في الموطأ 1/ 163.

رواه الشعبي وغيره (1). قال علماؤنا، رحمهم الله، وإنّا لنخاف أن يدخل في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -،"وَأَمَّا الْآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ الله عَنْهُ" (¬2). وأما قوله (التَّصُفِيحُ (¬3) لِلِنّسَاءِ) (¬4) فقال (ش): أراد به بيان شرع (¬5)، وقال مالك، رضي الله عنه، أراد به بيان حال (¬6) لأن هذا حكمهن في الشريعة، والحق أحق أن يتّبع قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إِنَّ الشَّيْطَانَ تَعَرَّضَ لِي في صَلَاتي فَإِنْ كَانَ شَيْء فَلْيُسَبِّحِ الرِّجَالُ ولَيُصَفِّق النِّسَاءُ) هذا نص (¬7) قيل كيف يتسلط الشيطان عليه والعصمة قد ضمنت له. فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: إنا نقول: إنما ضمنت له العصمة في الآية من الناس لا من الشيطان. وضمنت له العصمة بدليل آخر من الشيطان في المعاصي دون الوسواس والنزغ. ألا تري إلى قوله تعالى: {وإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزَغٌ فَآسْتَعِذْ بِآللِّه} (¬8). ¬

_ ا) رواية الشعبي، لمِ أطلع عليها، وقد رواه النسائي من طريق ثور بن يزيد عَنْ عِكْرِمَة عَنِ ابْنِ عَبَّاس أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَان يَلْحَظُ في الصلاة يمينًا وشمالًا لا يلوي عنقه خلف ظهره. النسائي 3/ 9، والترمذي 2/ 482 - 483. وقال هذا حديث غريب، والحاكم في المستدرك 1/ 336 وقال صحيح على شرط البخاري، وأقرّه الذهبي، ونقل الزيلعي في نصب الراية 2/ 90 عن ابن القطان قوله: هذا حديث صحيح وإن كان غريبًا لا يعرف إلا من هذه الطريق فإن عبد الله بن سعيد وثور بن يزيد ثقتان، وعكرمة احتج به البخاري فالحديث صحيح. درجة الحديث: صحيح. (¬2) البخاري في كتاب العلم باب من قعد حيث ينتهي به المجلس 1/ 26 وفي الصلاة باب الحلق والجلوس في المسجد 1/ 128، ومسلم في السلام باب من أتى مجلسًا فوجد فرجة فجلس فيها 4/ 1713 والموطّأ 2/ 960، والترمذي 5/ 73، والبغوي في شرح السنة 2/ 298 - 299 كلهم عن أبي واقد الليثي. (¬3) قال ابن الأثير في النهاية 3/ 33 االتصفيح والتصفيق واحد؛ وهو ضرب صفحة الكف في صفحة الكف الآخر. (¬4) متفق عليه، البخاري في كتاب الأذان باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإِمام الأول فتأخر الأول 1/ 174 , ومسلم في الصلاة باب تقديم الجماعة من يصلي بهم 1/ 316، والموطأ 1/ 163، وأبو داود 1/ 578 , وابن ماجه 1/ 330 كلهم عن سهل بن سعد. (¬5) انظر المجموع للنووي 4/ 14. (¬6) انظر بداية المجتهد 1/ 168. (¬7) في (ك) و (م) زيادة فإن. (¬8) سورة الأعراف آية 200.

الثاني: أنه إنما أضاف السهو إلى الشيطان اقتداء بموسى عليه السلام، في قوله {وَمَا أنْسَانِيه إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} (¬1) وقد قال تعالى له: {أوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَي اللهُ فَبِهُدَاهُمُ آقْتَدِهْ} (¬2). الثالث: أنه كان معصومًا من شيطانه قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَلَهُ شَيْطَانٌ قيل له وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ الله قَالَ وَلاَ أَنَا إلا أَنَّ الله أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأسْلَمَ فَلَا يَأْمرَني إِلَّا بِخَيْرٍ" (¬3). فأما من غيره فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ عِفْرِيتًا تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ في الصَّلاَةِ فَدَعَرْتُة (¬4) وَهَمَمْتُ أَنْ أُوثِقُهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ثُمّ ذُكِّرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيُمَانَ {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} (¬5) فَتَرَكْتُهُ وَلَوْلا ذلِكَ لأَصْبَحَ يَلْعَبُ بِهِ وُلْدَانُ الْمَدِينَةِ" (¬6). فإن قيل فقد قال: "إِنِّي لأَنْسَي أَوْ أُنَسَّى لَأسُنَّ" (¬7) فأخبر أن نسيانه سببًا لبيان السنة لا مسببًا للوسوسة من الشيطان. ¬

_ (¬1) الكهف آية 63. (¬2) الأنعام آية 90. (¬3) تقدم ص 343. (¬4) هذه العبارة في جميع النسخ فدعرته وهي رواية مسلم وفيه فذعته. مسلم 1/ 384 - 385. قال النووي هو بالذال معجمة وتخفيف العين المهملة أي خنقته. قال مسلم في رواية أبي بكر بن أبي شيبة فذعته يعني بالذال المهملة وهو صحيح أيضًا ومعناه دفعته دفعًا شديدًا. شرح النووي على مسلم 5/ 29. (¬5) سورة ص آية 35. (¬6) متفق عليه البخاري في كتاب الأنبياء باب قوله الله تعالى: {وَوَهَبْنا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدِ إِنَهُ اوَّابٌ} 4/ 197 وفي تفسير سورة ص 9/ 156، وفي العمل في الصلاه باب ما يجوز من العمل في الصلاة 2/ 81 ومسلم في كتاب المساجد باب جواز لعن الشيطان أثناء الصلاة 1/ 384 كلهم من حديث أبي هُرَيْرَةَ. (¬7) الموطّأ 1/ 100. قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مسندًا ولا مقطوعًا من غير هذا الوجه، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي في الموطأ التي لا توجد في غيره مسندة ولا مرسلة ومعناه صحيح في الأصول. الزرقاني 1/ 205. وقال الحافظ ابن الصلاح في رسالته في وصل البلاغات الأربع في الموطأ ص 11: أحد هذه البلاغات صحيح وهو حديث النسيان، وقال في صفحة 14: وأما حديث النسيان فقد رويناه من وجوه كثيرة صحيحة، ثم ساق بسنده من طريق أبي داود قال: نا عثمان بن أبي شيبة قال نا جرير عن منصور عن إِبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: صلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر حديث السهو وأنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إِنَّمَا أَنَا بشرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسُونَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُوني طَرَف مِنْهُ". وقال الحافظ في الفتح 3/ 101: لا أصل له فإنه من بلاغات مالك التي لم توجد موصولة بعد البحث=

(الصلاة علي النبي , - صلى الله عليه وسلم -)

قلنا: الحديث لم يصح سنده، ومع هذا فله معنى صحيح لأن الشيطان يقصد بتلبيسه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، الفساد فخرجه الله تعالى إلى الصلاح (¬1) كمن يُعطى مثلًا ثيابًا أو سلاحًا بقصد المعصية فيذهب المعطى فيستعملها في الطاعة. (الصلاة علي النبي , - صلى الله عليه وسلم -) رويت الصلاة على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، من طرق منها طريق كعب بن عجرة أنه قال: (قُلْنَا يَارَسُولَ الله قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ فَسَكَتَ حَتَّى أَنْزَلَ الله تَعَالَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: قولُوا الْلَّهُم صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ) (¬2) الحديث. فقول الله تعالى: بيان لفظ الصلاة على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وأنزله في هذه المسألة بالوحي فصار حدًا محدودًا لا يحل لأحد الزيادة فيه ولا النقصان منه. ووهم شيخنا أبو محمَّد ابن أبي (¬3) زيد في هذه المسألة وهمًا قبيحًا خفي فيه عليه علم الأثر والنظر فقال في صفته: الصلاة على النبي، - صلى الله عليه وسلم، اللهم صل على محمَّد وعلى آل محمَّد وأرحم محمدًا (¬4). وقوله: وارحم محمدًا كلمة ليس لها أصل إلا في حديث ضعيف وردت فيه خمسة ألفاظ (الْلَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَدٍ وَارْحَمْ وَبَارِكْ وَتَحَنَّنْ وَسَلِّمْ) (¬5). ¬

_ = الشديد، والحديث الذي ذكره ابن الصلاح بسنده إلى أبي داود رواه في سننه 1/ 268 وهو حديث صحيِح، ولا شك أنه يختلف لفظه مع لفظ الحديث الوارد في الموطّأ ولفظه (إِنِّي لأنْسَى أو أنَسَّى لأِسُنَّ)، وعلى هذا فأرى أن ما ذهب إليه الشارح وقبله ابن عبد البر وابن حجر من تضعيف الحديث هو الصواب، والله أعلم. (¬1) قال الحافظ: إن السهو جائز على الأنبياء فيما طريقه التشريع. ونقل عياض الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية، وخص الخلاف بالأفعال لكن تعقبوه. نعم أتفق على جواز ذلك على أنه لا يقر عليه بل يقع له بيان، إما متصلًا بالفعل أو بعده، كما وقع في حديث ذي اليدين من قوله (لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ) ثم تبين أنه نسي. فتح الباري 3/ 101. (¬2) متفق عليه البخاري في تفسير سورة الأحزاب باب {إِنَ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبيِّ} 6/ 151.الدعوات باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -8/ 95، ومسلم في الصلاة باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعد التشهُّد 1/ 305 وأبو داود 1/ 275 والترمذي 2/ 352 - 354 وقال حسن صحيح والنسائي3/ 47 - 48، وابن ماجه 1/ 293، والبغوي في شرح السنة 3/ 190. (¬3) أبو محمد بن أبي زيد تقدمت ترجمته ص 241. (¬4) تقدم الكلام على هذه المسألة ص 241. (¬5) رواه الحاكم في المستدرك 1/ 269 وليسِ فيه وتحنن وهو من رواية يحيى بن السباق عن رجل من بني الحارث عن ابن مسعود، رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحكى هذا مجهول ويروي عن رجل يهم. نص على ذلك الحافظ، فقد قال في الفتح 11/ 159: اغتر بتصحيح الحاكم لهذا الحديث قوم فوهموا فإنه من رواية يحيى بن السباق وهو مجهول عن رجل مبهم.

ومثل هذا الحديث لا ينبغي أن يُلتفت إليه في العبادة، ثم نزل أبو محمَّد إلى درجة النظر فليته اختار قوله وسلم ولكنه اختار وارحم، وخفي عليه أن قوله: وارحم معنى قوله صلِّ لأن صلاة الله تعالى رحمة. فحذارِ أن يقولها أحد وليقتدِ بالمعلم الأكبر محمَّد - صلى الله عليه وسلم -. أما إنه قد اختلفت الرواية في لفظ الحديث على ثلاثة أوجه: أحدها: اللهم صل على محمَّد وعلى آل محمَّد كما صليت على إِبراهيم وبارك علي محمَّد وعلى آل محمد كما باركت على إِبراهيم (¬1). الثاني: أنه روي: كما باركت على إِبراهيم وعلى آل إِبراهيم (¬2). الثالث: أنه روي بدل قوله: وآل محمَّد وأزواجه وذريته (¬3). وقد اختلف في الآل هل هم أهل بيته (¬4)، أو أمته (¬5)، والصحيح أنهم أمته وقد بيَّناه ¬

_ رواه ابن ماجه عن ابن مسعود من قوله قال قولوا: (الْلَّهْمَ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتَكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ المْرسليِنَ وإِمَام الْمُتقينَ وَخَاتَمِ النبِيِّينَ مُحَمَّدِ عَبْدُكَ وَرَسُولِكَ ..) ابن ماجه 1/ 293. وقال السندي في حاشيته على ابن ماجه 1/ 293 قال في الزاوئد: رجاله ثقات إلا أن المسعودي اختلط بآخر عمره ولم يتميز حديثه الأول من الآخر فاستحق الترك كما قاله ابن حبان. درجة الحديث: ضعيف , كما قال الشارح وبعده ابن حجر. (¬1) ورد ذلك من طريق محمد بن عبد الله بن زيد أنه أخبره عن أبي مسعود الأنصاري أنه قال: أنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير ابن سعد .. رواه مسلم في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - 1/ 305 الموطّأ 1/ 165، 166، والبغوي في شرح السنة 3/ 192. (¬2) ورد ذلك من حديث كعب بن عجرة تقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه من حديث أبي حميد الساعدي. البخاري في الدعوات باب هل يُصلِّى على غير النبي، - صلى الله عليه وسلم -8/ 96، ومسلم في الصلاة باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعد التشهد 1/ 306، ومالك في الموطّأ 1/ 165والبغوي في شرح السنة 3/ 191. (¬4) قال الحافظ: المراد بالآل في التشهد الأزواج ومن حرمت عليهم الصدقة ويدخل فيهم الذرية، فبذلك يجمع بين الأحاديث. وقد أطلق على أزواجه - صلى الله عليه وسلم -، آل محمَّد في حديث عائشة (مَا شَبعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزٍ وأدَمٍ ثَلَاثاً) وفي حديث أبي هُرَيْرَة: الْلَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَدٍ قُوتَاً، وكأن الأزواج أُفردوا بالذكر تنويهًا بهم، وكذا الذرية. وقيل المراد بالآل جميع الأمة، أمة الإجابة. وقال: قال ابن العربي مال إلى ذلك مالك، واختاره الأزهري، وحكاه أبو الطيب الطبري عن بعض الشافعية، ورجَّحه النووي في شرح مسلم، وقيَّده القاضي حسين والراغب بالأتقياء منهم ويؤيده قوله تعالى {إِنْ اولِيَاؤهُ إلا الْمُتَّقُونَ} فتح الباري 11/ 160. وقال النووي: آل النبي - صلي الله عليه وسلم -، المأمور بالصلاة عليهم وفيهم ثلاثة أوجه لأصحابنا الصحيح في المذهب أنهم بنو هاشم وبنو المطلب، وهو الذي نص عليه الشافعي في حرملة، ونقله الأزهري والبيهقي وقطع به جمهور الأصحاب. المجموع 3/ 466. (¬5) في (م) أم هم، وفي (ك) أم أمته.

في موضعه. أما إنَّ أبا هُرَيْرَة قد روى هذ الحديث فزاد فيه "الْلَّهُمَّ صَلِّ عَلَي محَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ" (¬1) الحديث إلى آخره وهو حديث لا بأس به خرَّجه الداودي (¬2). واختلف في معنى قوله: (كما صليت على إِبراهيم) على عشرة أقوال: أحدها: أنه قيل له ذلك قبل أن يعرف بشفوف منزلته. الثاني: أنه سأل ذلك لنفسه وأهل بيته لتتم النعمة عليه والبركة كما أتمها عليهم. الثالث: أنه سأل ذلك له ولأمته. الرابع: أنه سأل ذلك ليضاعف له فيكون لإبراهيم عليه السلام أصليًا وله مضاعفًا. الخامس: أنه سأل الدوام فيه ليجزى إلى يوم القيامة. السادس: أنه يحتمل أن يكون ذلك بدعاء أمته، أعطاهم الله تعالى هذه الفضيلة بأن يُكَرَّم رسوله على ألسنتهم. السابع: أن الله تعالى شرَّع ذلك ثوابًا لهم. قال - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ صَلَّى علَيَّ صلَاةً صَلَّي الله تَعَالَي عَلَيْهِ عَشرًا" (¬3). ¬

_ (¬1) قال أبو داود: حدثنا موسى ابن إِسماعيل حدثنا حبان بن يسار الكلابي حدثني أبو مطرف عبد الله بن طلحة بن عبيد الله بن كريز، حدثني محمَّد بن علي الهاشمي عن المجمر عن أبي هرَيْرَة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، "قَالَ مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الأوْفَى إِذا صَلَّى عَلَيْنَا أَهْلِ البيت فَلْيقل الْلَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ وأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المؤمِنِينَ وَذُرِّيَتهِ وَأَهْل بَيْتِهِ .. " أبو داود 1/ 601. أقول: الحديث فيه حبان بن يسار الكلابي أبو رويحة، بمهملتين مصغرًا، بصري صدوق اختلط من الثامنة/ د ع س. ت 1/ 147. وقال في ت ت: قال أبو حاتم ليس بالقوي ولا بالمتروك، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عدي حديثه فيه ما فيه لأجل الاختلاط الذي ذكر عنه، وقال أبو داود لا بأس به. ت ت 2/ 175 - 176. وقال العقيلي: قال البخاري قال لي الصلت بن محمَّد رأيت حبان آخر عمره فذكر منه الاختلاط. الضعفاء للعقيلي1/ 318، وانظر الكامل لابن عدي 2/ 830، لسان الميزان 2/ 369، المغني في الضعفاء 1/ 198. درجة الحديث: ضعّفه الشيخ ناصر في تعليقه على المشكاه 1/ 294 وهو كما قال لضعف حبان بن يسار. (¬2) الداودي هنا يقصد به أبو داود صاحب السنن, سليمان بن الأشعث، الإِمام المشهور. (¬3) مسلم في الصلاة باب الصلاة على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بعد التشهد 1/ 306 والترمذي 2/ 355، وقال: من صلى علىَّ صلاة، وقال: عنه حسن صحيح، والنسائي 3/ 50، والبغوي في شرح السنة 3/ 195 كلهم عن أبي هُرَيرة.

روينا في الأحاديث المنثورة أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال. "إِنَّ الله وَكَّلَ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ مَلَكًا يُبَلِّغُنِي صَلَاةَ كُلِّ مِنْ يُصَلِّي عَلَي مِنْ أُمَّتي" (¬1). الثامن: أنه أراد أن يبقى له ذلك لسان صدق في الآخرين مقرونًا بما وهب الله تعالى من ذلك لإِبراهيم. التاسع: أن معناه اللَّهمَّ ارحمه رحمة في العالمين تبقي له بها دينه إلى يوم الدين. العاشر: أن معناه اللَّهمَّ صلِّ عليه صلاة تتخذه بها خليلًا كما اتخذت إِبراهيم خليلًا لا جرم فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال في آخر خطبة خطبها. "لَوْكُنْتُ مُتَّخذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَليلًا لَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الله" (¬2). وقد تتبعنا هذه الأقوال بالتنقيح، وشرحناها في شرح الصحيح فخذوها هنا جملة واطلبوها هنالك تفصيلًا (¬3). ¬

_ (¬1) النسائي 3/ 43، وأحمد، انظر الفتح الرباني 14/ 311، والحاكم 2/ 421، وقال صحيح الإِسناد، وأقره الذهبي، وأورده القاضي عياض في الشفاء انظره فيه مع شرحه لملاَّ علي القاري 3/ 824 وعزاه ملّا علي القاري أيضًا للبيهقي في الشعب وابن حبان، ورواه البغوي في شرح السنة 3/ 197، والدارمي2/ 317 وابن القيم في جلاء الأفهام ص 27 كلهم من حديث ابن مسعود. درجة الحديث: صحّحه الحاكم وأقره الذهبي، ونقل الشيخ البنا عن ابن حبان أنه صححه وقال: أورده الهيثمي وقال رجاله رجال الصحيح، وقال الحافظ العراقي الحديث متفق عليه دون قوله سياحين. الفتح الرباني 14/ 311 وصححه الشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة 1/ 291. (¬2) مسلم كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، 4/ 1855، والبغوي في شرح السنة 14/ 77 كلاهما من حديث ابن مسعود. (¬3) قال النووي، بعد أن سرد بعض هذه الأقوال. والمختار في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: حكاه بعض أصحابنا عن الشافعي، رحمه الله تعالى، أن معناه صلِّ على محمَّد، وتم الكلام هنا ثم استأنف وعلى آل محمَّد أي صلِّ على آل محمَّد كما صليت على إبراهيم، فالمسؤول له مثل إبراهيم وآله هم آل محمَّد - صلى الله عليه وسلم - لا نفسه. القول الثاني: معناه: اجعل لمحمد وآله صلاة منك كما جعلتها لإبراهيم وآله. فالمسؤول المشاركة في أصل الصلاة لا قدرها. القول الثالث: أنه على ظاهره والمراد اجعل لمحمد وآله صلاة بمقدار الصلاة التي لإِبراهيم وآله والمسؤول مقابلة الجملة فإن المختار في الآل .. أنهم جميع الأتباع. شرح النووي على مسلم 4/ 125 - 126. وقال السد محمَّد الطاهر بن عاشور: إن التشبيه هنا تمهيد لبساط الإِجابة لأنه تعالى لما تفضل على إبراهيم بصلاة وبركة عظيمة كان مرجوًا أن يتفضل على محمَّد فإنه قد عرف من الله الفضل .. كشف المغطا ص 120.

حديث ابن عمر (¬1) رواه بعضهم يصلّي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو لأبي (¬2) بكر وعمر (¬3). قال لنا الفقيه الإِمام أبو سعيد الزنجاني الشهيد (¬4) قال لنا الأستاذ أبو المظفر (¬5) شاهفور: اختلف الناس هل يُصلِّى على غير النبي، - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ فقيل: ذلك جائز. وقيل: الصلاة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والرضوان لأصحابه والرحمة لسائر المؤمنين وهي خطط مخصوصة تميزت كل مرتبة بخطة منها. وقد تعلق بعضهم بما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أَنَّهُ قَالَ اللَّهُمَّ صلِّ عَلَي آلِ أبي أَوفَي" (¬6). وقيل لا حجة في هذا الحديث لأنه كان مخصوصاً بالنبي، - صلي الله عليه وسلم -، أمر أن يصلي على من جاء بصدفته عوضًا له منها فقيل له {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاتك سَكنٌ لهُمْ} (¬7)، وهذا معنى مختص به. هذه المسألة اجهادية وقد بيّناها في موضعها، والصحيح عندي أن الصلاة مخصوصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬8). فأما ما روي ص ابن عمر أنه كان يصلّي على النبي، - صلى الله عليه وسلم - وعلى أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، فإن معناه يدعو لأبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، كما رواه بعضهم ¬

_ (¬1) مالك عن عبد الله بن دينار قال: رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيصلي على النبي، - صلى الله عليه وسلم - , وعلى أبي بكر وعمر. الموطّأ 1/ 166. (¬2) قال الزرقاني رواية يصلي على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أبي بكر وعمر رواية القعنبى وابن بكير وسائر رواة الموطأ: فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو لأبي بكر وعمر. شرح الزرقانىِ 1/ 337. (¬3) في (م) كان ابن عمر يقف على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيصلي علي النبي - صلى الله عليه وسلم - , وعلي أبي بكر وعمر. وروى بعضهم عن النبي ويدعو لأبي بكر وعمر. وهذا الأثر لم أجده في غير الموطأ وهو صحيح إلى ابن عمر. (¬4) أبو سعيد الزنجاني تقدم ص 248. (¬5) اسمه منصور بن محمَّد ترجم ص 248. (¬6) متفق عليه. البخاري في الزكاة باب صلاة الإِمام ودعائه لصاحب الصدقة 2/ 159 وفي الدعوات باب هل يُصلَّى على غير النبي، - صلى الله عليه وسلم - 8/ 95 - 96 ومسلم في الزكاة باب الدعاء لمن أتى بصدقته2/ 756 - 757 عن عبد الله بأن أبي أوفى قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - "إذا أَتَاهُ قَوْمٌ بصَدَقَتهمْ قَالَ اللَّهُمَّ صلِّ عَلَى آل فُلاَنٍ فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقتِهِ قَالَ اللَّهمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبي أَوْفَى" لفظ البخاري. (¬7) التوبة آية 103. (¬8) ما رجحه الشارح هو مذهب ابن عباس، قال الحافظ ثبت عن ابن عباس اختصاص ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عثمان بن حكيم عن عكرمة عنه قال ما أعلم الصلاة تنبغي على أحد من أحد إلا على النبي، - صلى الله عليه وسلم -, قال الحافظ وهذا سند صحيح وحكى القول به عن مالك وقال ما تعبَّدنا به وجاء نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وعن مالك يكره، وقال عياض عامة أهل العلم على الجواز، وقال سفيان يكره أن يُصلى على غير نبي .. فتح الباري 11/ 169 - 170.

ولكنه ألحق الثاني بالأول لفظاً كما قال الشاعر: علفتها تبنًا وماء باردًا (¬1) ........................... وكما قال الاخر: ورأيت زوجك في الوغا ... متقلدًا سيفًا ورمحا (¬2) حديث: قوله "أَتَرَوْنَ قِبْلَتِي ههُنَا" (¬3) الحديث. قال بعض الناس: معناه أنه كان يرى من وراء ظهره ممن كان على يمينه أو يساره، فإنه كان يلتفت إليه التفاتًا لا يلوي عنقه، وهذا ضعيف لا يميل إليه إلا ضيِّق الحوصلة في العلم بل كان - صلى الله عليه وسلم - يري ما وراءه كما يري ما أمامه فإن الإِدراك معنىً يخلقه الله تعالى في العين على قدر ما يريد أن يبصر الرائي من المرئيات (¬4)، أَوَلا تراه يري الجنة في عرض الحائط (¬5) ولا يراها أحد، ويرى جبريل ولا يراه غيره (¬6). ¬

_ (¬1) البيت لعبد الله بن الزِّبعرى انظر ديوانه ص 32، وذكر محققه مصادر عديدة جاء البيت في أكثرها، وانظر لسان العرب 9/ 255، مجاز القرآن 2/ 62، تأويل مشكل القرآن ص 165، والمحرر الوجيز 1/ 155 وتكملة البيت: حتى غدت همالة عيناها (¬2) البيت نسبه الأخفش في تعليقه على الكامل 3/ 234 لعبد الله بن الزَّبعرَى، وأورده ابن قتيبة في مشاكل القرآن ص 214 ولم ينسبه، وكذلك في معاني القرآن للفرّاء 1/ 121، ومجاز القرآن 2/ 68، ومجمع البيان /111، والبحر المحيط 2/ 464، 6/ 485، واللسان 3/ 367، والمقتضب2/ 51. (¬3) متفق عليه. البخاري في كتاب الصلاة باب عظة الإِمام الناس في تمام الصلاة وذكر القبلة 1/ 114، ومسلم في الصلاة باب الأمر بتحسين الصلاة وتمامها والخشوع فيها 1/ 319، والموطأ 1/ 167، كلهم من رواية أبي هريرة أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَال:"هل ترونَ قبلتِي هنا فو الله ما يخفى علَيَّ ركُوعكمْ ولاسُجودُكمْ إنِّي لأَرَاكُمْ وراء ظهري" لفظ مسلم. (¬4) اقول: ما رجّحه الشارح هنا رجّحه الحافظ ابن حجر فقد قال: والصواب المختار أنه محمول على ظاهره , وأن هذا الإِبصار إدراك حقيقي خاص به - صلى الله عليه وسلم - انخرقت له فيه العادة وعلى هذا عمل المصنف (أي البخاري) فأخرج هذا الحديث في علامات النبوة، وكذا نقل عن الإِمام أحمد وغيره. فتح الباري 1/ 514. (¬5) متفق عليه. البخاري في الاعتصام باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه 9/ 118 وفي العلم باب من برك علي ركبتيه عند الإمام 1/ 34، ومسلم في الفضائل باب توقيره - صلى الله عليه وسلم -،وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه 4/ 1833,1832، والبغوي في شرح السنة 13/ 299 - 300 كلهم عن أنس. (¬6) متفق عليه. البخاري في تفسير سورة النجم باب قوله تعالى: {فَأوْحى إلى عبْدِهَ مَا أَوْحَى} 6/ 176 ,ومسلم في الإيمان باب في ذكر سدرة المنتهى 1/ 158 بعدة روايات، والبغوي في شرح السنة 3/ 349 - 350 كلهم من طريق سليمان الشيباني قال: سألت زرا عن قوله تعالى: {فَكَان قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى* فَأَوْحَى إلي عَبْده ما أوْحي} قال أخبرنا عبد الله أن محمدًا، - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل له ستمائة جناح، لفظ البخاري.

فإذا أدرك نبيك، أيها العبد، ما لم تدرك فاعلمْ أنه يرى من حيث لا ترى وذلك سواء، ولا يستبعد ذلك إلا جاهل؛ فقد خلق الله المرآة دليلاً على غيب القدرة فإنك ترى فيها نفسك وترى فيها ماوراءك، وليس الذي تراه في المرآة مثالاً بل هو نفس المرئي بعينه؛ والدليل القاطع على ذلك أن المرآة تكون فيِ غلظ قشرة البيضة ثم تقابل بها وجهك فتدنو من المرآة فترى الدنو فيها، وتبتعد عنها ذراعًا وذراعين فترى البعد فيها، ومحال أن يكون ذلك الدنو والبعد الكثير في غلظ قشر البيضة، فدل على أن الذي تدرك إنما هو حقيقة المرئي. حديث: "كَانَ يَأْتِي قُبَاءً رَاكِباً وَمَاشِياً" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - "لا تَعْمَلُ الْمَطِيُّ إِلَّا إِلَي ثَلَاثَةِ مَسَاجِدٍ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هذَا وَمَسْجِدِ إِيلِيَّاءَ" (¬2) الحديث. فثبت فضل هذه الثلاثة مساجد بالقول والفعل، ثم حدثت البدع في الخلق فعادوا يختارون المساجد، وليس في الأرض مسجد له فضل على غيره لا هم إلا مساجد الثغور (¬3) لما فيها من فضل الرباط، ولكن تفطَّن مالك، رضي الله عنه، لسعة باعه في العلم، وعِظَمِ اطّلاعه بالنظر، إلى مسألة فأتت من سواه وذلك أنه قال: (مَنْ نَذَرَ أنْ يَصُومَ في مَسْجِدِ الربَاطِ لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ" (¬4) وذلك لأن حماية الثغر تجتمع مع الصوم ولا تجتمع مع الصلاة. حديث أبي قتادة في حمل النبي أمامة قال فيه مالك: "كَانَ يصلي وَهُوَ حَامِلٌ ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في صلاة التطوع باب من أتى مسجد قباء كل سبت 2/ 76، ومسلم في الحج باب فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته 2/ 1016، وشرح السنة 2/ 343، ومالك في الموطأ 1/ 167، كلهم من حديث ابن عمر. (¬2) مسلم في الحج باب لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد 2/ 1014 - 1015، وأبو داود 2/ 216، والبغوي في شرح السنة 2/ 337، والنسائي 2/ 37 - 38، كلهم من حديث أبي هرَيْرَة. قال البغوي: تخصيص هذه المساجد لما أنها مساجد الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، وقد أمرنا بالاقتداء بهم قال الله سبحانه وتعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام 90) ولو نذر أن يصلّي في مسجد من هذه المساجد الثلاثة يلزمه أن يأتيه فيصلي فيه، فإن صلَّى في غيرها من المساجد لا يخرج عن نذره، ولو نذر أن يصلّي في مسجد سواها لا يتعين وعليه أن يصلي حيث شاء. شرح السنة 2/ 337. (¬3) الثغر هو الموضع الذي يكون حدًا فاصلًا بين بلاد المسلمين والكفار، وهو موضع المخافة من أطراف البلاد. النهاية 1/ 213، وانظر لسان العرب 4/ 103. (¬4) انظر بداية المجتهد 1/ 316، ومواهب الجليل 2/ 459.

أُمَامَةَ" (¬1). وروي في الصحيح (كَانَ يُصَلّي (¬2) بِالنَّاسِ، وَرُويَ كَانَ يَؤُمُّ الناسَ (¬3) خَرَجَ النَبِيُ، - صلى الله عليه وسلم -، وَأُمَامَةُ عَلَي عُنُقِهِ فَأحْرَمَ وَهِيَ كَذَلِكَ فَلَمَّا أَرَادَ أنْ يَرْكَعَ وَضَعَهَا في الَأرْضِ فَلَمَّا قَامَ أَخَذَهَا فَرَدَّهَا إِلَي مَوْضِعِهَا حَتَّى أَكْمَلَ صَلاَتَهُ). واختلف الناس فيه؛ فقرأنا في موطأ عبد الله بن يوسف التنيسي (¬4) أنه قال: سالت مالكًا عن هذا الحديث فقال هو منسوخ، وقال غيره إنما احتملها (¬5) لأنها علقت به فلو تركها لأضرّ ذلك بها. والصحيح عندي , من هذه الأقوال، ما أشار إليه مالك، رضي الله عنه، من أنه متروك لأنها إن علقت (¬6) به يمكن أن يشغلها بشئ آخر سواه لضعف عقل الصبي؛ ¬

_ (¬1) متفق عليه. أخرجه البخاري في الصلاة باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة 1/ 137 وفي الأدب باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته 8/ 8، ومسلم في المساجد باب جواز حمل الصبيان 1/ 385، والبغوي في شرح السنة 3/ 263، والموطّأ 1/ 170. (¬2) هي رواية من روايات مسلم. (¬3) لفظ مسلم وفيه كَانَ يَؤُمُّ النَّاسَ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ وَهِي ابنَةُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية أحمد: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُول الله، - صلى الله عليه وسلم - يَحْمِلُ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ .. وَهِيَ صَبِيًةً فَحَمَلَهَا عَلَى عَاتِقِهِ فَصلَّي، - صلى الله عليه وسلم -، وَهِيَ عَلَي عَاتِقِهِ يَضَعُهَا إِذَا رَكَعَ وُيعِيدُهَا عَلَي عَاتِقِهِ إذا قَامَ فَصلَّى رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، وَهِيَ عَلَى عَاتِقِهِ حَتَّي قَضَي صَلاتهُ يَفْعَلُ ذلِكَ بِهَا. انظر الفتح الرباني4/ 117 وكذا عند أبي داود في السنن 1/ 241 وقال الحافظ: دل هذا على أن فعل الحمل والوضع كان منه لا منها، بخلاف ما أوَّله الخطابي حيث قال: يشبه أن تكون الصبية كانت قد ألفته فإذا سجد تعلقت باطرافه والتزمته فينهض من سجوده فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع فيرسلها. قال: هذا وجهه عندي. فتح الباري 1/ 591. (¬4) عبد الله بن يوسف التنيسي أبو محمَّد الكلاعي، أصله من دمشق، ثقة ثبت من أثبت الناس في الموطّأ من كبار العاشرة. ت 1/ 463 , ت ت 6/ 86 - 89 , الأنساب 3/ 98. (¬5) في (ك) و (م) زيادة لأنه لم يجد لها كافلاً في الوقت، وقيل إنما احتملها. (¬6) قال الأبي روى ابن القاسم أنه كان في نافلة، وروى أشهب أنه كان لضرورة أنه لم يجد من يمسكها وهذا يقتضي أنه كان في الفرض وهو ظاهر الحديث: بَيْنَا نَنْتَظِرُهُ لِلظُهْرِ أوْ لِلْعَصْرِ خَرَجَ حاملاً أُمَامَةَ عَلَى عَاتِقِهِ. (أبو داود 1/ 242) وقد يقال على هذا إنه كان في النافلة التي قبل الفرض، لكنه لم لكن يتنفَّل في المسجد بل في بيته قبل أن يخرج، وقيل هو خاص به. الأبي 2/ 245. ونقل الحافظ عن القرطبي قوله: "روى عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك أن الحديث منسوخ وقال قلت روى ذلك الإسماعيلي عقب روايته للحديث من طريقه لكنه غير صريح ولفظه: قال التنيسي قال مالك من حديث النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ناسخ ومنسوخ وليس العمل على هذا. وقال ابن عبد البر: لعله نسخ بتحريم العمل في الصلاة وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وبأن القصة =

إذ لا يثبت له ما يراه وإذا غاب عنه سهاه، وإن احتاج الصغير إلى الضبط فليدفعه إلى غيره، ولو كانت أمها زينب مشتغلة فغيرها كان فارغًا. فليس يثبت عند السير إلا أن الصلاة، في صدر الإِسلام، كانت تحتمل العمل والكلام ثم نسخ الله تعالى ذلك فلا يجوز فيها عمل ولا كلام إلا أن يعود إلى مصلحتها، على اختلاف بين العلماء وقد تقدم. حديث: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَة بِالْلَّيْل وَمَلَائِكَة بِالنَّهَارِ" (¬1) إلى آخره. الباري، تبارك وتعالى، محيط بالكل، عالم بالجميع، له الحجة البالغة التي لا يتطرق إليها اختلال، ولا يتوجه عليها سؤال، فلو شاء ما قرن الملائكة بالخلق لكتب الأعمال ولكنه كما جاء في الحديث. (أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالكمْ أُحْصيهَا عَلَيْكُمْ فَنُوَفِّي كُل أَحَدٍ عَلَى عَمَلِهِ) (¬2)، فإن أقرَّ أخذ به وإن أنكر شهدت كل جارحة على نفسها وذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ} (¬3) الآية إلى آخرها. وخلق الباري الأزمنة كما قدمنا سواء، وفضَّل بعضها على بعض بما شاء، حسب ما ¬

_ = كانت بعد قوله - صلى الله عليه وسلم - إنَّ في الصَّلاةِ لَشُغْلاً؛ لأن ذلك كان قبل الهجرة، وهذه القصة كانت بعد الهجرة بمدة مديدة، وذكر عياض أن ذلك من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، وردَّ بأن الأصل عدم الاختصاص .. وحمل أكثر أهل العلم هذا الحديث على أنه عمل غير متوالٍ لوجود الطمأنينة في أركان صلاته. فتح الباري 1/ 592. وقال النووي: ادَّعى بعض المالكية أن هذا الحديث منسوخ، وبعضهم أنه من الخصائص، وبعضهم أنه كان لضرورة، وكل ذلك دعوى باطلة مردودة لا دليل عليها، وليس في الحديث ما يخالف قواعد الشرع لأن الآدمي طاهر وما في جوفه معفو عنه، وثياب الأطفال وأجسادهم محمولة على الطهارة حتى تتبين النجاسة، والأعمال في الصلاة لا تبطلها إذا قلَّت أو تفرَّقت، ودلائل الشرع متظاهرة علي ذلك، وإنما فعل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ذلك لبيان الجواز. شرح النووي على مسلم 5/ 32 وعندي أن ما نقله الحافظ عن البعض من أنه إذا كان العمل غير متوالٍ والطمأنينة موجودة فلا بأس بذلك، وهو خلاف ما رجحه الشارح. والله أعلم. (¬1) متفق عليه. البخاري في كتاب مواقيت الصلاة باب فضل صلاة العصر 1/ 145، 146، ومسلم في كتاب المساجد باب فضل صلاة الصبح والعصر والمحافظة عليهما 1/ 439، والموطأ 1/ 170 كلهم عن أبي هرَيْرَة وبقية الحديث: "وَيَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلاَةِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَعْرجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عبَادِيَ؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهمْ وَهُمْ يصَلُّونَ وَأَتَياهُمْ وَهُمْ يُصَلُونَ" لفظ البخاري. (¬2) مسلم كتاب البر والصلة باب تحريم الظلم 4/ 1994 - 1995 من حديث أبي ذر عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فيما يروى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَّالَمُوا .. يَا عِبَادي إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أُحْصِيها لَكمْ ثُمَّ أوفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمدِ الله ..). (¬3) سورة فصلت آية 22.

تقدم بيانه. فمن فضائل النهار تعاقب الملائكة ومن فضائل الليل نزول الربِّ إلى سماء الدنيا (¬1). وأما سؤاله تعالى: كيف تركتم عبادي؟ فليس بسؤال استخبار فإنه أعلم بهم، وإنما هو سؤال تشريف يشرّفهم بذكرِه. قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لأُبيّ بن كعب: (إِنَّ الله أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ فَقَالَ أَوَذُكرْتُ هُنَاكَ وَذَرَفتْ عَيْنَاهُ) (¬2). فقول الملائكة: تركناهم وهم يصلون، فيحب الباري تعالى أن يسمع ذكرهم بالطاعة. قال أهل الإشارة (¬3): ذلك لتقوم الحجة على الملايكة حين قالوا {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (¬4). حديث "مرُوا أَبا بَكْرٍ فَلْيُصلِّ بِالنَّاسِ" إلى آخره، قَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ: إِنَّ أبا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسَيْفُ (¬5)، فَمُرْ عُمَرَ، فَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ صلَّى فَأَفَاقَ النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، مِنْ غُمْرَتِهِ وَسَمَعَ صوْتَ عُمَر فَقَالَ: مَا هذَا؟ قِيلَ: عُمَر يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَقَالَ: يَأْبَى الله ذلِكَ والمُسْلِمُونَ، ثَلَاثَاً، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَأَعَادُوا عَلَيْهِ فَأَعَادَ عَلَيْهِمْ إِلَى أَنْ قَالَ إنكُنَّ لأنْتُنَّ صَوَاحِبَ يُوسُفَ" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر ص 286. (¬2) متفق عليه البخاري في تفسير سورة {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} 6/ 216 وفي فضائل أصحاب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، باب مناقب أبيّ بن كعب 5/ 45، ومسلم في صلاة المسافرين باب أستحباب قراءة القرآن على أهل الفضل والحذاق فيه 1/ 550، وفي الفضائل باب فضائل أبيّ بن كعب وجماعة من الأنصار 4/ 1915 كلاهما من رواية أنس بن مالك. (¬3) المراد عنده بأهل الإشارة أصحاب الصوفية. (¬4) سورة البقرة آية 30. قال الحافظ: قيل الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني النبي آدم بالخير واستنطاقهم بما يقتضي العطف عليهم؛ وذلك لإِظهار الحكمة في خلق نوع الإِنسان في مقابلة من قال من الملائكة: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: وقد وجد فيهم من يسبح ويقدس مثلكم بنص شهادتكم. وقال عياض: هذا السؤال على سبيل التعبد للملائكة كما أمروا أن يكتبوا أعمال بني آدم، وهو سبحانه وتعالى أعلم من الجميع بالجميع. فتح الباري 2/ 36 - 37. (¬5) أي سريع البكاء والحزن وقيل الرقيق. انظر شرح السيوطي علي سنن النسائي 2/ 99. (¬6) متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب أهل العلم والفضل أحق بالإِمامة 1/ 172، ومسلم في الصلاة باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما 1/ 313 - 314، والنسائي 2/ 99، والموطأ 1/ 170، 171، كلهم من رواية عائشة قالت: لَمَّا دَخَل رَسُولُ اللِه، - صلى الله عليه وسلم -، بَيْتِي قَالَ: =

ففيه ثلاث فوائد: الفائدة الأولى: تعيير الجنس كله بما يفعله بعضه إذ أعاد ذلك إلى حماية الدين ولم يكن بمتعلقات الدنيا (¬1). الفائدة الثانية: الإشارة إلى نقصان عقلهن الذي جبلن عليه في أصل الفطرة (¬2). الثالثة: وهي أعظمها، أن معناه أنا أدعوكم إلى الحق وأنتن تردن أن تصرفنني إلى الباطل كما فعلت امرأة العزيز يوسف، فإنه كان يدعوها إلى العصمة وهي تدعوه إلى المعصية (¬3). وهذه شهادة منه - صلى الله عليه وسلم - بالتبرئة ليوسف، عليه السلام. وقد مهدنا ذلك في موضعه وهذا كقوله (¬4) "الْلَهُمَّ أَعِنِّي عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ" (¬5) معناه. أعنّي عليهم ¬

_ = "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ قَالَتْ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللِه إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُل رَقِيقُ إذَا قَرأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دمْعَهُ فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَ أَبَا بَكْرٍ .. فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ". (¬1) قال النووي: أي في الظاهر على ما تردن وكثرة لحاحكن في طلب ما تردنه وتملن إليه. شرح النووي 4/ 140. وقال الزرقاني: جمع صاحبة، والمراد أنهن مثلهن في إظهار خلاف ما في الباطن. والخطاب وإن كان بلفظ الجمع فالمراد به عائشة فقط، كما أن صواحب جمع والمراد زليخا فقط. ووجه الشبه أن زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهن الإِكرام بالضيافة ومرادها زيادة على ذلك هو أن ينظرن إلى حسن يوسف ويعذرنها في محبته، وأن عائشة أظهرت سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها كونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه، ومرادها هي زيادة في ذلك وهو أن لا يتشاءم الناس به، وصرّحت هي بعد ذلك به فقالت: لقد راجعته وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب ألاس بعده رجلاً قام مقامه، كما في الصحيحين شرح الزرقاني 1/ 349. (¬2) ورد ذلك في الصحيح من حديث ابن عمر (عَنْ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الاسْتِغْفَارَ فَإِنَّي رَأَيْتكُن أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَتِ امْرَأَة مِنْهُن جَزِلَةً وَمَا لَنَا يَا رَسول الله أَكْثَرِ أَهْلِ النَّارِ قَالَ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتُكَفِّرْنَ الْعَشِيرَ وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ. وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ ..) مسلم كتاب الإِيمان باب نقصان الإِيمان بنقص الطاعات وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله 1/ 86 - 87. (¬3) وذلك في قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} سورة يوسف آية 23. (¬4) في (م) - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) متفق عليه. البخاري في تفسير سورة يوسف باب قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} 6/ 96، ومسلم في صفات المنافقين باب الدخان 4/ 2156 كلاهما عن عبد الله بن مسعود.

بجوع يظهرني عليهم ويبين صدقي عليهم كما كان جوع أهل مصر سبباً لتبرئة يوسف، عليه السلام، وظهور نبوته، وقد قيل كانت الصلاة التي جرى فيها هذا كانت صلاة العشاء الأخيرة. حديث ابن عمر "كَانَ النَّبِي، - صلى الله عليه وسلم -، يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ" (¬1) الحديث. روي عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في النافلة آثار كثيرة قولًا وفعلاً أشهرها اثنتا عشرة ركعة في كل يوم؛ أربع قبل الظهر وركعتان بعدها وركعتان قبل العصر (¬2) وركعتان بعد المغرب (¬3) بالبيت. فقيل لأنها من صلاة الليل وصلاة الليل مخصوصة بالبيت، وقيل كان ينصرف إلى فطره وتقديم الفطر أفضل من صلاة النافلة، وقيل إنما كان ينصرف لينصرف أصحابه إلى عشائهم وراحتهم لأنه كان يشقُّ عليهم أن يتركوه في المسجد ويذهبوا عنه، وقيل إنما كان ينصرف إلى بيته ويخصه بالصلاة فيه، في ذلك الوقت، لأنه الوقت الذي قال الله تعالى فيه: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} (¬4) فكان يحب أن يجعل من صلاته في مضجعه في ذلك الوقت (¬5)، وكذلك الركعتان بعد الجمعة كان يصليهما في بيته وكذلك قال علماؤنا ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في كتاب الجمعة باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها 2/ 16، ومسلم صلاة المسافرين باب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض وبعدهن وبيان عددهن 1/ 504، والموطأ 1/ 166، والترمذي 2/ 290 ولفظه (عنِ آبْنِ عُمَرَ أَن النَّبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، كَانَ يصلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ في بَيْتِهِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْن وَبَعْدَ الْمَغْرِب رَكعَتَيْنِ في بَيْتِهِ ..) لفظ البخاري. (¬2) في (م) و (ك) وركعتان بعد الَعشاء، واختلف الناس في تخصيصه الركعتين بعد المغرب بالبيت. (¬3) أما الركعتان بعد المغرب وبعد العشاء فمتفق عليهما. انظر حديث ابن عمر السابق. (¬4) سورة السجدة آية 16. روى أبو داود في سننه 2/ 35 عن أنس بن مالك في هذه الآية قال: كانوا يتيقظون ما بين المغرب والعشاء يصلون وكان الحسن يقول: قيام الليل. وعزاه السبكي في المنهل العذب المورود 7/ 251 إلى البيهقي والترمذي مختصراً وصححه .. وقال وأخرجه ابن مندة من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس في هذه الآية، قال: يصلون ما بين المغرب والعشاء، وقال: قال العراقي: إسناده جيد، ورواه أيضاً من طرق أخرى. درجة الحديث: صحيح. (¬5) وأرجح الأقوال عندي ما دل عليه الدليل وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ أَفْضَلَ الصَّلاَةِ صَلاَةُ الْمَرْءِ في بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ) البخاري كتاب الأذان باب صلاة الليل 1/ 186، ومسلم في صلاة المسافرين باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوازها في المسجد 1/ 339 - 340.

يصلي الإمام يوم الجمعة الركعتين في بيته (¬1). فأما المأموم فليصليها في بيته، أو حيث شاء، فإن صلاّها في المسجد فلا يصليها، وهي الفضيلة في كل صلاة ألا توصل بنافلة بعدها حتى يقطع ما بينهما بعمل أو كلام. وقد روى الأشعثي (¬2) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (سَلَّمَ مِنْ صَلاَةٍ فَقامَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَجَذَبَة عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ، رَضِيَ الله عَنْه، وَقَالَ (¬3) لَا تُوصِلْ صَلاَةً بِصَلاَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -: أَصَابَ الله بِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّاب) (¬4)، وهذا مما وافق فيه عمر ربه فليلحق به. فهذه أصول النوافل، فمن المستكثر ومن المستقل، فلو ترك رجل النوافل كلها واقتصر على الفرائض ماذا يقال له؟ قلنا: يقال له: أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ لأنه قال له: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ. لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ (¬5). الحديث. وهذا كلام صحيح لكن فيه نكتتان. إِحداهما: أن الفريضة رأس مال والنافلة ربح، ولا يصون رأس المال عن العوارض إلا الربح. ¬

_ (¬1) ونقل الحافظ عن ابن بطال قوله: والحكمة فيه أن الجمعة لمّا كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفّل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت، وعلى هذا فينبغي أن يتنفّل قبلها ركعتين متصلتين بها في المسجد لهذا المعنى. فتح الباري 2/ 426. (¬2) هو سليمان بن الأشعث السجستاني، أبو داود، ثقة حافظ مصنف السنن وغيرها من كبار العلماء. مات سنة 275 هـ. ت 1/ 321، ت ت 4/ 169، تاريخ بغداد 9/ 55. (¬3) في (م) له. (¬4) أبو داود في سننه 2/ 264 من طريق شعبة عن المنهال بن خليفة عن الأزرق ابن قيس قال: صلى بنا إمام لنا يكنى أبا رثمة فقال: صليت هذه الصلاة، أو مثل هذه الصلاة، مع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - .. والحاكم 1/ 270 وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه لأحمد وأبي يعلى وقال رجال أحمد رجال الصحيح. مجمع الزوائد 2/ 234، وانظر الفتح الرباني 4/ 230 - 231 وقال البنّا رجال أحمد رجال الصحيح. درجة الحديث: صحيح. (¬5) متفق عليه البخاري في كتاب الإيمان باب الزكاة من الإِسلام 1/ 18، ومسلم في الإيمان باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام 1/ 40 - 41، كلاهما من حديث طلحة بن عبيد الله قال: "جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللِه - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِيَّ صوْتهِ وَلَا نَفْقَهُ مَا يِقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَإِذَا هوَ يَسْألُ عَنِ الْإِسْلاَمِ فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: خَمْسُ صَلَوَاتٍ في الْيَوْمِ وَالْلَيْلَةِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لاَ إلَّا أَنْ تَطَّوَعَ ..) لفظ مسلم.

الثانية: أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إنما قال له ذلك لأنه كان أول ما أسلم، فأراد أن يطمئن فؤاده عليها، وبعد ذلك يفعل هو سواها مما يظهر من ترغيب الإسلام. قال أهل الإشارة (¬1): لا يتم للرجل القيام بالفريضة حتى تكون له نافلة لأنه إذا أكثر من النوافل جاء إلى الفريضة مطمئن القلب نشيط الجوارح مقبوض القلب عن الخواطر فتكون الصلاة له محفوظة من أولها، وإذا خرج إلى الفريضة من الغفلة وابتدأ بها لم يكن يطمئن فؤاده ولا كمل نشاطه إلا في آخرها فلا يستوي أولها وآخرها. عارضة: كنت بالمسجد الأقصى، طهَّره الله تعالى، حتى جاء إلى الحلقة رجلان فقال أحدهما: كنتُ ألعبُ مع هذا بالشاة فلما توسطنا في الدست وقع بيني وبينه كلام فقلت: امرأتي طالق إن لعبت معك أبداً إلَّا هذا الدست. ثم جاء ما قطع بيننا عن استكماله (¬2) فهل أحنث أم لا؟. فاختلف المفتون، فمنهم من قال: يحنث لقول النبيّ، - صلى الله عليه وسلم - "هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لَا إلَّا إِنْ تَطَّوَّعَ" فإذا تطوع لزمه (¬3). وقال آخرون: لا شيء عليه لأنه حرم بيمينه على نفسه اللعب وأبقى ذلك الدست مباحًا، فإن شاء استوفى المباح استوفاه، وإن شاء أن يتركه تركه، وهذا الذي اختاره الطرطوشي (¬4) وعطاء (¬5) فقيه الشافعية لأن لزوم التطوع بالشروع في النافلة لم يكن من باب الاستثناء وإنما كان من قبيل آخر، وقد بيّنّاه في مسائل ¬

_ (¬1) هذه العبارة قدّمنا غير مرة أنه يطلقها على الصوفية. (¬2) في الأصل إكماله وفي بقية النسخ استكماله. (¬3) قال الحافظ: استدل بهذا على أن الشروع في التطوع يوجب إتمامه تمسكًا بأن الاستثناء فيه متصل، وقال: قال القرطبي لأنه نفي وجوب شيء آخر إلا ما تطوع به والاستثناء من النفي إثبات ولا قائل بوجوب التطوع فيتعين أن يكون المراد إلا أن تشرع في تطوع فيلزمك إتمامه. وتعقبه الطيبي بأن الاستثناء هنا من غير الجنس؛ لأن التطوع لا يقال فيه عليك فكأنه قال لا يجب عليك شيء إلا إن أردت أن تطوع فذلك لك، وقد علم أن التطوع ليس بواجب فلا يحب شيء آخر. كذا قال وحرف المسألة دائر على الاستثناء؛ فمن قال متصل تمسك بالأصل، ومن قال إنه منقطع احتاج إلى دليل، والدليل عليه ما روى النسائي وغيرُه أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، كان أحياناً ينوي صوم التطوع ثم يفطر. وفي البخاري أنه أمر جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه، فدل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام إذا كانت نافلة، بهذا النص في الصوم وبالقياس في الباقي. فح الباري 1/ 107. (¬4) تقدم. (¬5) عطاء: فقيه بيت المقدس وقاضيها ذكره في العارضة 8/ 139 وسماه المقري في نفخ الطيب 2/ 247، وانظر آراء ابن العربي الكلامية 1/ 38، ولم أعثر له على ترجمة.

الخلاف ثم لقيت نصر (¬1) بن إبراهيم بدمشق فسألته فصوَّبها. مزيد بيان: ورد في الصحيح زيادة في هذا الحديث أنه قال: "أَفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ" (¬2) فإن قيل كيف قال النبي - صلى الله عليه وسلم -،هذا وقد ثبت عنه أنه قال: "لَا تَحْلِفُوا بَآبَائِكُمْ وَلَا بِالأُمَّهَاتِ" (¬3). قلنا: قد مهّدنا الجواب في شرح الصحيح عند ذكر هذا الحديث. لبابه أنه ليس بينهما تعارض لأن القول والفعل مخصوص به، ألا ترى إلى قوله (مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِالله أَوْ لِيَصْمُتْ) (¬4)، ثم أقسم الله بالسماء والأرض (¬5) والسحاب (¬6) والرياح (¬7) والسفن (¬8) ولم يكن ذلك معارضة. وقيل إنما كان ذلك في صدر الإسلام أبّان كانت نفوسهم مملوءة من تعظيم غير الله تعالى فنهوا أن يعظموا غيره، فلما امتلأت صدورهم من تعظيم الله عز وجل، وتيقّنوا أنه لا عظيم سواه، رخص لهم في استرسال الألسنة على الأقسام بما شاؤوا من الكلام ما لم يكن ذلك من قبيل الأصنام. ¬

_ (¬1) نصر بن إِبراهم تقدم. (¬2) مسلم في كتاب الإيمان باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام 1/ 41، وأبو داود 3/ 571 بنفس اللفظ. (¬3) أبو داود 3/ 569، والنسائي 7/ 5، وابن حبان. انظر موارد الظمآن ص 286 والبيهقي في السنن 10/ 29، وقالما زاد تمام: ولاَ بالأَنْدادِ ولَا تَحْلِفُوا إلَّا باللهِ ولَا تَحْلفُوا إلَّا وأَنتُمْ صَادقُون، كلهم من رواية أبي هُرَيْرَة. درجة الحديث: صحيح. (¬4) متفق عليه. البخاري في كتاب الأَيمان والنذور باب لا تحلفوا بآبائكم 8/ 164، ومسلم في كتاب الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى 3/ 1266 - 1267، وأبو داود 3/ 569، من حديث عبد الله بن عمر أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهوَ يَسيرُ فِي رَكبٍ يَحْلفُ بِأبيهِ فَقَالَ إِنَّ الله يَنهَاكُمْ أَنْ تخلِفُوا بِآبَائِكمْ .. (¬5) وفي سورة الشمس في قوله تعالي {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)} آية 5 - 6. (¬6) سورة البقرة آية 164 {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}. (¬7) وذلك في سورة المرسلات آية 1، 2، {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)}. (¬8) سورة الذاريات آية 3 {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)}.

وقيل إنما جرى ذلك في اللسان من غير قصد إلى اليمين (¬1)، بمجرى العادة، وإنما نهي عن الحلف بغير الله عَزَّ وَجَلَّ على قصد القسم. ألا ترى إلى قول الله تعالى {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (¬2) قالت عائشة، رضي الله عنها: هي قول الرجل (لَا وَالله وَبَلَى وَالله) (¬3) في أثناء الكلام إذا لم يقصد بها اليمين، ورأت أنها لا تكون يمينًا إلا مع القصد إلى ذلك. وعظَّم مالك، رضي الله عنه، حرمة اللفظ فرأى أنها يمين بمجرد القصد إلى الذكر (¬4)، وما وراء ذلك من تحقيق يطلب في موضع الإحالة إن شاء الله. ¬

_ (¬1) أقول: رجح الحافظ من الأقوال قولين: الأول وهو أن ذلك كان قبل النهي، والثاني أنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف كما جرى على لسانهم عقرى حلقى وما أشبه ذلك. فتح الباري 1/ 107. (¬2) البقرة آية 225. (¬3) البخاري في الأيمان والنذور باب {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} 8/ 168، وأبو داود 3/ 222 - 223 وقال رواه غير واحد عنها موقوفًا على عائشة، ومالك في الموطأ 2/ 477، وابن حبان. انظر موارد الظمآن ص 288، والبيهقي 10/ 48 وقد عزاه الحافظ لمن تقدم. عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة موقوفًا، ورواه الشافعي من حديث عطاء أيضًا موقوفًا. التلخيص 4/ 184 - 185. درجة الحديث: صحح الدارقطني وقفه كما قال الحافظ في التلخيص. (¬4) انظر المدونة 2/ 28 - 29.

باب صلاة العيد

باب صلاة العيد العيد اسم الفعل من عاد عودًا، سمي به تفاؤلًا لأن يعود، كما سميت القافلة في ابتداء خروجها إلى السفر بذلك تفاؤلًا لعودتها (¬1)، وهو يوم ينشر الله تعالى فيه على العباد رحمته ويوفيهم أجرتهم ويتقبل منهم طاعتهم، وهي سنّة. قال علماؤنا: فرض الله تعالى خمس صلوات وسنَّ خمس صلوات، فذكروا الوتر والعيد. وقال (ح): هي واجبة لأنها مؤقتة بوقت مخصوص وتُصَلَّى في الجماعة، وشُرعت لها الخطبة فكانت واجبة أصله صلاة الجمعة (¬2)، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم -، الْمَفْرُوضَ مِنَ الصَّلَوَاتِ فَقَالَ: (وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْس قَالَ. هِلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ). وقال خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة (¬3) وليس ينخرم مثل هذا الأصل بما ذكروه من كلامهم. فإن التوقيت يكون في النفل كما يكون في الفرض، ألا ترى أن ركعتي الفجر مختصة بوقت وليست بواجبة. بيان مرتبة: أمر الله تعالى بطاعته كما نهى عن معصيته، ورتَّب الطاعة المأمور بها في الشريعة على مراتب خمس ركَّب العلماء عليها وذكرها الله تعالى بأسمائها في الأربعة الألفاظ: الأولى: فرض وهو ما ذُمَّ تاركه، ثم رأينا في الشريعة طاعات ندب الله إليها ووعد بالثواب فيها، لكن لم يذم تاركها، فاختار العلماء لهذه المرتبة اسم الندب، ثم رأينا ما كان في هذه المرتبة قد انقسمت حال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيه إلى قسمين منه ما شرع له الجماعة ونصب له هيئة فسميناه سنة. ومنه ما كان يندب إليه ولا يشرع له الجماعة والهيئة فسمّيناه رغيية كقيام رمضان وركعتي الفجر. ¬

_ (¬1) انظر لسان العرب 3/ 319. (¬2) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 422 - 423، والبناية 2/ 850. (¬3) تقدم تخريجه ص 296.

وروي عن أشهب إنه قال: ركعتا الفجر سنّة (¬1). ولعله أخذه من حديث عائشة رضي الله عنها (مَا كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوافِلِ أَشَدَّ تَعَاهُدًا مِنْهُ عَلَى رَكْعَتَي الْفَجْرِ) (¬2). ولسنا نحجر عليه الاسمية، ولكنّا نقول إنها ليست كصلاة العيد، فإذا انفصلت عنها بصفتها (¬3) فلتنفصل عنها باسمها قصد البيان، ثم سمينا ما كان فيه دعاء مجرد ووعد بثواب مطلق فضيلة، مأخوذ من الفضل وهي الزيادة، ثم سمي ما عدا الفرض نفلاً؛ لأن النفل أيضًا هو الزيادة، وإذا تغايرت المعاني فلا بد من تغاير الألفاظ لأنها طبقها، فلا تحقروا هذا الفضل واتخذوه دستورًا فإنه نشأ فيه على النظار غلط عظيم. وأما التكبير في صلاة العيد قبل القراءة فاختلف فيه العلماء اختلافاً كثيراً وليس فيه حديث صحيح يعوَّل عليه (¬4)، لكن يترجح مذهب مالك، رضي الله عنه، على غيره في ¬

_ (¬1) قال صاحب الخطاب: وهو القول الثاني لمالك وبه أخذ أشهب قال ابن عبد البر وهو الصحيح. الخطاب 2/ 79. (¬2) متفق عليه. أخرجه البخاري في التهجد في الليل باب تعاهد ركعتي الفجر 2/ 71 - 72. ومسلم في صلاة المسافرين باب استحباب ركعتي سنة الفجر 1/ 501. (¬3) في (م) بهيأتها. (¬4) روى الترمذي من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كبَّر في العيدين في الأولى سبعًا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسًا قبل القراءة، وقال حديث كثير حديث حسن، وهو أحسن شيء روي في هذا الباب عن النبي، عليه السلام، سنن الترمذي 2/ 416، ورواه ابن ماجه 1/ 406، والبغوي في شرح السنة 4/ 308. والحديث ضعيف من أجل كثير بن عبد الله قال عنه الحافظ في ت ضعيف ت 2/ 132، وقال في ت ت: قال عنه أحمد: منكر الحديث، وقال أبو داود: كان أحد الكذّابين، وقال النسائي والدارقطني: متروك الحديث، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال ابن عبد البر: مجمع على ضعفه ت ت 8/ 422 - 423، وقال ابن حبان: قال ابن أبي أويس: منكر الحديث جدًا روى عن أبيه عن جده نسخة موصوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب، وكان الشافعي يقول هو ركن الكذب. المجروحين 2/ 221 - 222. ومن خلال الترجمة السابقة يظهر ضعيف كثير بن عبد الله الذي حسَّن الترمذي حديثه، ونقل الزيلعي في نصب الراية 2/ 218 عن أحمد بن حنبل قوله: ليس في تكبير العيدين عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، حديث صحيح وإنما أخذ مالك فيها بفعل أبي هُرَيْرَة. وقال الحافظ في التلخيص 2/ 90 أنكر جماعة تحسينه على الترمذي. درجة الحديث: ضعيف كما قال الشارح.

عدد التكبير فيه بالأصل الذي مهدناه لكم من نقل أهل المدينة للعبادات وهيئاتها (¬1). وقد قال (ش) إن السنة أن يقرأ فيها بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)} على حسب ما روى (¬2) مالك، رضي الله عنه، عن أبي واقد الليثي، وليس للقراءة فيها حد محدود، فإنه قد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - (أَنَّهُ قرأ فِيهَا بِغَيْر ذلِكَ) (¬3). وعجبت من الشافعي يستنّ في صلاة العيد قراءة {ق} و {اقْتَرَبَتِ} لأن النَبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يقرأ بهما ويقول يصليها المسافر، والنبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما كان يصليها في الحضر (¬4). فإن قيل لمّا كانت تصلى في الصحراء ويبرز عن المدينة إليها صارت كسائر النوافل. قلنا ولمَ لَمْ ينظر إلى الجماعة والخطبة وذلك أقعد بها من البروز لها. ¬

_ (¬1) انظر المدونة 1/ 169 والإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب 1/ 142، عمل أهل المدينة ص 267. وقال الشارح في الأحكام: اختلف رأي الفقهاء [أي في التكبيرة في العيدين]، فقال مالك والشافعي والليث وأحمد بن حنبل وأبو ثور سبعًا في الأولي وخمسًا في الثانية، إلا أن مالكًا قال: سبعًا في الأولى بتكبيرة الإحرام، وقال الشافعي: سوى تكبيرة الإحرام، قال أحمد وأبو ثور: سوى تكبيرة القيام، وقال الثوري وأبو حنيفة. يكبِّر خمسًا في الأولى وأربعًا في الثانية ست فيها زوائد وثلاث أصليات بتكبيرة الافتتاح .. وإنما يترجح فيها عند النظر إليها. أن يقال إن المرء مخيَّر في كل رواية فمن فعل منها شيئًا تم له المراد منها لأن الغرض نفسه التكبير لا قدره. وإما أن يقال: إن رواية أهل المدينة أرجح لأجل أنهم بالدين أقعد فإنهم شاهدوها فصار نقلهم كالتواتر لها. الأحكام 1/ 87 - 88. (¬2) الموطأ 1/ 180 عن ضَمْرَةَ بْنِ سعِيدٍ المَازِنِيِّ عن عُبيدِ الله بْنِ عبدِ الله بْنِ عُتْبةَ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَألَ أَبَا وَاقِدِ اللَّيْثِيِّ مَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُول الله، - صلى الله عليه وسلم -، في الأضْحَى وَالْفِطْرِ؟ فَقَالَ: كَانَ يَقْرأ بِـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)}، وهذا مرسل لأن عبيد الله بن عبد الله لم يدرك عمر. ورواه مسلم من طريق عُبَيدِ اللِه بْنِ عَبْدِ اللِه بْن عُتْبَةَ عَنْ أَبِي وَأقِدِ اللَّيْثِي قَالَ: سَألَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَمَّا قَرَأَ بِهِ رَسُولُ اللِه، - صلى الله عليه وسلم -، في يَوْمِ الْعيِدِ. مسلم في صلاة العيدين باب كما يقرأ به في صلاة العيدين 2/ 607، والبغوي في شرح السنة 4/ 310، قال النووي: هذه الرواية متصلة فإنه أدرك أبا واقد بلا شك وسمعه بلا خلاف. شرح النووي على مسلم 6/ 181. (¬3) روى مسلم في حديث الْنّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللِه، - صلى الله عليه وسلم -، يقْرأ في الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجمُعَةِ بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)}. مسلم في كتاب الجمعة باب ما يقرأ في صلاة الجمعة 2/ 598. (¬4) انظر مذهب الشافعي في روضة الطالبين 2/ 70، والمجموع 5/ 25.

وكذلك اختلفوا في التكبير المطلق اختلافًا كثيرًا في مذهبنا وعند (¬1) غيرنا وأقواه في النظر أن يكون التكبير من غروب الشمس آخر أيام الصوم لقول الله (¬2) تعالى {وَلِتُكْمِلُوا (¬3) الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (¬4) ففرق بينهما. ¬

_ (¬1) قال الحافظ: وللعلماء اختلاف في ابتدائه وانتهائه فقيل: من صبح يوم عرفة، وقيل من ظهره، وقيل: من عصره، وقيل: من صح يوم النحر، وقيل: من ظهره، وقيل: في الانتهاء إلى ظهر يوم النحر، وقيل: إلى عصره، وقيل: إلى ظهر ثانيه، وقيل: إلى صبح آخر أيام التشريق، وقيل: إلى ظهره، وقيل: إلى عصره. حكى هذه الأقوال كلها النووي إلا الثاني من الانتهاء، وقد رواه البيهقي عن أصحاب ابن مسعود ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، حديث، وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى، أخرجه ابن المنذر وغيره، والله أعلم. فتح الباري 2/ 462. (¬2) في (م) تبارك وتعالى. (¬3) سورة البقرة آية 185. (¬4) قال في الأحكام 1/ 89: وأختار علماؤنا التكبير المطلق، وهو ظاهر القرآن، وإليه أميل. وكانت الحكمة في ذلك علي ما ذكره علماؤنا، رحمة الله عليهم، الإقبال على التكبير والتهليل وذكر الله تعالى عند انقضاء المناسك شكرًا علي ما أولى من الهداية وانفذ به من الغواية، وبدلاً عما كانت الجاهلية تفعله من التفاخر بالآباء والتظاهر بالأحساب وتعديد المناقب.

باب صلاة الخوف

باب صلاة الخوف روي عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة المتشابه منها ست عشرة مرة والصحيح منها ما نذكره الآن. منها حديث يزيد بن رومان (¬1) وفيه "أَنَّ طَائِفَةً صَفَّتْ مَعَهُ وَطَائِفَةً وَاجَهَتْ (¬2) الْعَدُوَّ فَصَلَّى بِالَّتِي مَعَهُ رَكْعَةً تُمَّ أَتَمّوا لأَنْفُسِهِمُ وَجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَأَتَمُّوا لأَنْفُسِهِمْ ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ جَمِيعاً" (¬3). ¬

_ (¬1) يزيد بن رومان المدني، مولى آل الزبير، ثقة، مات سنة 130، شيخ مالك ت 2/ 364 وانظر ت ت 11/ 325. (¬2) في (م) وجاه. (¬3) متفق عليه، البخاري في كتاب المغازي باب غزوة ذات الرقاع 5/ 145، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين باب صلاة الخوف 1/ 575 - 576، والموطّأ 1/ 183، والشافعي في الرسالة فقرة 509 و 677، وأبو داود 2/ 13، والترمذي 2/ 456، وقال الترمذي بعد أن ذكر حديث سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف قال: وروى مالك بن أنس عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمَّن صلى مع النبي، - صلى الله عليه وسلم -، صلاة الخوف، فذكر نحوه وقال: هذا حديث حسن صحيح وبه يقول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. ورواه النسائي 3/ 171. قلت: وقع إبهام لأحد الرواة صبي هذا الحديث وهو قوله (عن صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يوم ذات الرقاع صلاة الخوف). قال الحافظ: قيل اسم هذا المبهم سهل بن أبي حثمة لأن القاسم بن محمد روى حديث صلاة الخوف عن صالح بن خوات عن إليه، أخرجه ابن مندة في معرفة الصحابة من طريقه، وكذلك أخرجه البيهقي من طريق عبيد الله بن عمر عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن أبيه، وجزم النووي في تهذيبه بأنه خوات بن جبير، وقال الرافعي: اشتهر هذا في كتب الفقه والمنقول في كتب الحديث رواية صالح بن خوات عن سهل ابن أبي حثمة، وعمن صلى مع النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: فلعل المبهم هو خوات والد صالح. قال الحافظ: قلت وكأنه لم يقف على رواية خوات التي ذكرتها، ويحتمل أن صالحًا سمعه من أبيه ومن سهل بن أبي حثمة، فلذلك يبهمه تارة ويعينه أخرى، إلا أن تعيين كونها ذات الرقاع إنما هو في روايته عن أبيه وليس في رواية صالح عن سهل أنه صلاّها مع النبي، - صلى الله عليه وسلم -. وقد اتفق أهل العلم بالأخبار على أنه كان صغيرًا في رمن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وممن جزم بذلك الطبري وابن حبان وابن السكن وغير واحد، وعلى هذا تكون روايته لصلاة الخوف مرسلة، ويتعين أن يكون مراد صالح بن خوات ممن شهد مع النبي، - صلى الله عليه وسلم -، صلاة الخوف غيره والذي يظهر أنه أبوه كما تقدم. فتح الباري 7/ 422 - 425.

ومنها حديث سهل بن أبي حثمة (¬1) فذكر مثل ما تقدم لكنه قال: إِنَّ الطَّائفَة الأُوْلى لَمَّا قَضَتِ الْرَّكعَة سَلَّمُوا وانْصَرَفُوا وَالإِمَامُ قَائمٌ. والطائفة الثانية صَلَّتْ مَعِ النَّبِيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ النَبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَضوْا بَعْدَ سَلَامِهِ. ومنها حديث ابن عمر فذكر أنَّهُمْ كَانُوا طَائِفَتَيْنِ فيُصلِّي الإِمَامُ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً ثُمَّ يَسْتَأْخِرُونَ، وَتَأْتِي الطَّائِفةُ الأُخْرَى فَيُصَلُّونَ مَعَهُ رَكْعَةً ثُمّ يَنْصرِفُ الْإمَامُ، وَقَدْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وُيسَلِّمُ ثُمَّ تَقُومُ الطَّائفَتَانِ فَيُصَلُّونَ لأَنْفسِهِمْ رَكْعَةً رَكْعَةً (¬2). ومنها ما أخرجه البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيّ، - صلى الله عليه وسلم -، صَلَّى بِالطَّائفَةِ الأوْلَى الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ، حسب (¬3) ما تقدم. ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطأ 1/ 183 عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن صالح ابن خوات أن سهل بن أُبي حثمة حدثه (أنَّ صَلاَةَ الْخَوْفِ أن يَقُومَ الإِمَامُ وَمَعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أصْحَابِهِ وَطَائِفَةٌ مُوَاجِهَةٌ لِلْعَدُوِّ ..). وقد نقل السيوطي عن ابن عبد البر قوله: هذا الحديث موقوف على سهل في الموطّأ عند جماعة الرواة عن مالك ومثله لا يقال بالرأي، وقد روي مرفوعًا مسندًا لهذا الإسناد عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - تنوير الحوالك 1/ 192. والحديث متفق عليه. فقد أخرجه البخاري بالإسناد الذي ذكر ابن عبد البر في المغازي باب غزوة ذات الرقاع 5/ 145 - 146. ومسلم: في كتاب صلاة المسافرين باب صلاة الخوف 1/ 575، وأبو داود 2/ 30، والترمذي 2/ 456، وقال: هذا حديث صحيح لم يرفعه يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد، وهكذا رواه أصحاب يحيى بن سعيد موقوفًا ورفعه شعبة عن القاسم بن محمد. قال الشيخ أحمد شاكر: والمرفوع صحيح أيضًا لأن شعبة ثقة حافظ حجة فرفعه إياه مقبول محتج به. انظر تعليقه على سنن الترمذي 2/ 456. (¬2) متفق عليه. البخاري في المغازي باب غزوة ذات الرقاع 5/ 146، وفي صلاة الخوف 2/ 17 - 18، وتفسير سورة البقرة باب قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} 6/ 38، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين باب صلاة الخوف 1/ 574، وأبو داود 2/ 35، والترمذي 2/ 453، والنسائي 3/ 171. (¬3) البخاري في تفسير سورة البقرة باب قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} 6/ 38، والموطّأ 1/ 184، وابن ماجه 1/ 399، وشرح السنة 4/ 277 - 278 كلهم (عَنْ نَافِعٍ أن عبدَ اللِه بْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صلاَةِ الْخَوْفِ قالَ يَتَقَدَّمُ الإِمَامُ وَطَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ فَيُصَلِّي بِهِمُ الإِمَامُ رَكْعَةً وَتكُونُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُوِّ لَمْ يُصلُّوا ..). قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر حدثه إلا عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -. وقال ابن عبد البر: رواه عن نافع جماعة ولم يشكوا في رفعه منهم ابن أبي ذئب وموسى بن عقبة وأيوب بن موسى، ورواه الزهري عن سالم عن ابن عمر مرفوعًا، ورواية موسى بن عقبة - صلى الله عليه وسلم - نافع في الصحيحين، وكذا فيهما =

وروي أيضاً عن جابر مثله (إلا أنه قال فيه أنه: لَمَّا سَجَدَتِ الطَّائفَةُ الأوْلَى معَهُ جَاءَتِ الطَّائفَةُ الأُخْرَى وَسَجَدَتْ أَيْضًا ثُمَّ عَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا ثُمَّ رَكَعَ بِالطَّائفَة الأوْلَى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وَسَجَدَ بِهِمْ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ جَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَسَجَدَتُ ثُمَ سَلَّمُوا جَمِيعًا) (¬1). ومنها ما روى مسلم عن جابر أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - (صَلَّى بِكُلِّ طَائِفةٍ (¬2) رَكْعَتَيْنِ) (¬3). وروى أبو داود عن حذيفة أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - (صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً رَكْعَةً ثُمَّ سَلَّمَ وَلَمْ يَقْضُوا) (¬4). ثم تحزب الناس فيما روي من الأخبار في صلاة الخوف، فمنهم من قال صلاة الخوف مخصوصة بالنبي، - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬5) قاله أبو يوسف (¬6). قلنا: لم يذكر قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فيهم على أنه شرط إنما ذكر على أنها صفة حال، والدليل عليه أنّ في يوم الخندق فاته الظهر والعصر فلم يصليهما حتى غابت الشمس. ومنهم من قال: المعمول به من هذه الأخبار ما وافق القرآن وذلك في قوله تعالى ¬

_ = رواية سالم عن أبيه، ورواه عبيد الله بن عمر عن نافع ابن عمر مرفوعًا كله بغير شك. أخرجه ابن ماجه بإسناد جيد. شرح الزرقاني 2/ 372. (¬1) متفق عليه. البخاري في المغازي باب غزوة ذات الرقح 5/ 147، ومسلم في صلاة المسافرين باب صلاة الخوف 1/ 576، والنسائي 3/ 175، وابن خزيمة 2/ 295. (¬2) مسلم كتاب المسافرين باب صلاة الخوف 1/ 576. (¬3) في (ك) و (م) فصارت للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، أربع ركعات ولكل طائفة ركعتان. (¬4) أبو داود 2/ 38، والنسائي 3/ 168، والحاكم 1/ 335 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي ورواه أحمد. انظر الفتح الرباني 7/ 6، والبيهقي في السنن 3/ 261 - 262، والطحاوي في معاني الآثار 1/ 310، وقال فيه صاحب عون المعبود محمد شمس الحق أبادي: رجال إسناده رجال الصحيح عون المعبود 4/ 123. درجة الحديث: صحّحه الحاكم والذهبي وصاحب عون المعبود وعبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول 5/ 744 ونقل السيوطي عن الإِمام أحمد قوله: أحاديث صلاة الخوف صحاح كلها. شرح السيوطي للنسائي 3/ 168. (¬5) سورة النساء آية 102. (¬6) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 443، والبناية على شرح الهداية 2/ 932، فقد قال العيني وأجاب الجمهور في الرد عليه بما فعله الصحابة، رضي الله عنهم، بعده عليه السلام وأن سببها الخوف وهو يتحقق بعده كما في حياته.

{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (¬1) الآية إلى آخرها. وهو الذي اختاره مالك، رضي الله عنه، في رواية ابن القاسم (¬2). واختار الليث وأشهب رواية ابن عمر (¬3). وقال أحمد بن حنبل: كل ما صح عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فأنت فيه بالخيار ما صليت به منه فهو جائز (¬4). وقالت طائفة: ما تحقق من الصفات أنه قد جاء بعده خلافه فالأول منسوخ لا يعمل به (¬5). وقالت طائفة: صلاة الخوف إنما هي صلاة ضرورة فإنما تكون بحال الضرورة (¬6)، ولذلك اختلفت صلاة النبي، - صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إنما قصد (¬7) الإمكان وهذا الذي أختار (¬8)، وهو الذي ثبت عند النظر، لكن من أدركته ضرورة فلا يخرج عن صفة من الصفات التي رويت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن يغلب. ¬

_ (¬1) سورة النساء آية 102. (¬2) المدونة 1/ 162 - 163 قال الحافظ: ما ذهب إليه مالك من ترجيح هذه الكيفية وافقه الشافعي وأحمد وداود على ترجيحها لسلامتها من كثرة المخالفة ولكونها أحوط لأمر الحرب مع تجويزهم الكيفية التي في حديث ابن عمر، ونقل عن الشافعي أن الكيفية التي في حديث ابن عمر منسوخة، ولم يثبت ذلك عنه. وظاهر كلام المالكية عدم إجازة الكيفية التي في حديث ابن عمر، واختلفوا في كيفية رواية سهل بن أبي حثمة في موضع واحد وهو أن الإِمام هل يسلّم قبل أن تأتي الطائفة الثانية بالركعة الثانية أو ينتظرها في التشهد ليسلموا معه. فبالأول قال المالكية والحنفية حيث أخذوا بالكيفية التي في هذا الحديث تبين أن يكون العدو في جهة القبلة أصلاً، وفرَّق الشافعي والجمهور فحملوا حديث سهل على أن العدو كان في غير جهة القبلة فلذلك صلى بكل طائفة وحدها جميع الركعة. وأما إذا كان العدو في جهة القبلة أصلاً فعلى ما في حديث ابن عباس أنّ الإِمام يحرم بالجميع ويركع بهم، فإذا سجد سجد معه صف وحرس صف. فتح الباري 7/ 424. (¬3) انظر قوانين ابن جزي ص 98. (¬4) المغني لابن قدامة 2/ 412. (¬5) نقل هذا القول أيضًا الحافظ في الفتح ولم يعزه لأحد. فتح الباري 7/ 424. (¬6) نقله أيضًا الحافظ ولم يعزه. المصدر السابق. (¬7) في (ك) و (م) قدر. (¬8) أقول: ما رجحه الشارح هنا هو الأرفق بالأمة وهو الأَوْلى، والله أعلم.

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف اختلفت الرواية عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فيها، فروي أنه صلى ركعتين في أربع سجدات. وروى مسلم عَنْ عَائِشَةً، رَضِيَ الله عَنْهَا، أَنَّهُ صلَّى رَكْعَتَيْنِ في ثَلَاثِ رَكْعَاتٍ وأَربَعِ سَجْدَاتٍ (¬1). وروى مسلم عن ابن عباس (أَنَّهُ صلَّى ثَمَانِيَ رَكْعَاتٍ في أَربِع سَجْدَاتٍ) (¬2). وروى أبو داود عن أبيّ بن كعب (أَنَّهُ صلَّى خَمْسَ رَكْعَاتٍ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ في الرَّكعَة الأُولى ثُمَّ فَعَلَ فَي الثَّانِيَةِ مَثْلَ ذلِكَ) (¬3). وروي أبو بكرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أَنَّهُ صَلَّاهَا (¬4) رَكْعَتَيْنِ) وهو مذهب (ح) (¬5)، والذي ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب الكسوف باب صلاة الكسوف 2/ 620 , وأبو داود 1/ 697 - 698 والنسائي 3/ 129 - 130. (¬2) مسلم كتاب صلاة الكسوف باب ذكر من قال إنه ركع ثماني ركعات في أربع سجدات 2/ 627، وأبو داود 1/ 699، الترمذى 2/ 446 وقال حسن صحيح، والنسائي 3/ 129، وأحمد. انظر الفتح الرباني 6/ 216، كلهم من طريق حبيب بن أبي ثابت عن طاوس عن ابن عباس، ونقل الحافظ في التلخيص 2/ 96، عن ابن حبان قوله هذا الحديث ليس بصحيح لأنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن طاوس ولم يسمعه حبيب من طاوس، وقال البيهقي حبيب وإِن كان ثقة فإنه كان يدلّس ولم يبين سماعه فيه من طاوس، وقد خالفه سليمان الأَحول فوقفه وروى حذيفة نحوه قاله البيهقي. وانظر السنن الكبرى 3/ 327. وقال الشيخ ناصر الألباني في تعليقه على المشكاة 1/ 469: وهذه الرواية مع ورودها في صحيح مسلم فإنها شاذة لمخالفتها لحديث ابن عباس المتفق عليه. (¬3) أبو داود 1/ 699، وورد في المسند من زوائد عبد الله على أبيه. انظر الفتح الرباني 6/ 217، والحاكم في المستدرك 1/ 333 وقال الشيخان قد هجرا أبا جعفر الرازي ولم يخرجا عه، وحاله عند سائر الأمة أحسن الحال، وهذا الحديث فيه ألفاظ ورواته صادقون، ورواه البيهي 3/ 329 وقال: هذا سند لم يحتج الشيخان بمثله وهذا تَوْهين منه للحديث لا أنه تقوية للحديث، كما فهمه بعض المتأخرين، هكذا ورد في نيل الأوطار 4/ 20. والحديث فيه أبو جعفر عيسى بن عبد الله بن ماهان الرازي تقدم ص 189. ونقل الزيلعي في نصب الراية 2/ 227 عن النووي قوله لم يضعه أبو داود، وهو حديث في إسناده ضعف، ونقل الشوكاني عن ابن السكن أنه صححه. نيل الأوطار 4/ 20 والظاهر أنه ضعيف، والله أعلم. (¬4) البخاري في الكسوف باب الصلاة في كسوف الشمس 2/ 42 وفي باب الصلاة في كسوف القمر 2/ 49، والنسائي 3/ 124، والحاكم في المستدرك 1/ 334 - 335، وعزاه الحافظ في التلخيص 2/ 95 لابن حبان، ولم أطّلع عليه في موارد الظمآن. (¬5) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 434، والبناية 2/ 896.

في البخاري عن أبي بكرة (أَنَّهُ قَالَ فَإِذَا رَأيْتُمْ دْلِكَ فَصَلُّوا (¬1) مطْلَقًا). وروى أبو داود عن قبيصة (¬2) بن المخارق الهلالي (أَنَّ النَّبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم - صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ إِذَا رَأَيتُمْ ذلِكَ فَصَلُّوا كَأَحْدَتِ صَلاَةٍ صَلَّيْتُمُوهَا) (¬3). والذي يظهر من ذلك، والله أعلم، أنه - صلي الله عليه وسلم - كان يصلي في الكسوف بقدر مدة الكسوف، فإن طال أمده طوَّل الصلاة، وإن قصر أمده قصَّر الصلاة. وأكثر الروايات أربع ركعات في أربع سجدات، فعليه فليعوَّل، وليست في صلاة الكسوف خطبة وإنما فيها كلام بحسب الحال وأفضله ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال (ش) فيها خطبة (¬4) وتعلق بالحديث الصحيح (أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، لَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاةِ الْكُسُوفِ وَ (¬5) خَطَبَ النَّاسَ) (¬6) وإنما معنى ذلك تكلم بكلام له بال، وذلك قوله (إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الله تَعَالَى). إيضاح مشكل: فإن قيل وأي آية في الكسوف وإنما كسوف الشمس حيلولة القمر بين الناس وبينها، وكسوف القمر أن تقع في ظل الأرض وهي أمور حسابية. قلنا: طلوع الشمس وغروبها آية، والسموات والأرض كلها آيات، إلا أن الآيات على ضربين منها مستمر عادة فيشق أن يحدث لها عبادة، ومنها ما يأتي نادرًا فشرع للنفس البطّالة الآمنة التعبد والرهبة عند جريان ما يخالف الاعتياد ذكرى لها وصقلًا لصريرها. ¬

_ (¬1) البخاري في الكسوف باب الصلاة في كسوف الشمس 2/ 42. (¬2) قبيصة بن المخارق صحابي سكن البصرة ت 2/ 123، وتجريد أسماء الصحابة 2/ 11. (¬3) أبو داود 1/ 701، والنسائي 3/ 144، والحاكم في المستدرك 1/ 333 وقال صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وقال: وعندي أنهما علَّلاه بحديث ريحان ابن سعيد عن عباد بن منصور عن أيوب عن أبي قلابة عن هلال بن عامر عن قبيصة، وحديث يرويه موسى بن إسماعيل عن وهيب لا يعلّله حديث ريحان وعباد، وكذا قال الذهبي. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 3/ 333 وقال: هذا لم يسمعه أبو قلابة عن قبيصة إنما رواه عن رجل وهو هلال بن عامر أن قبيصة. ونقل الزيلعي في نصب الراية 2/ 230 عن النووي في الخلاصة قوله: وهذا لا يقدح في صحة الحديث فإن هلالاً ثقة ... ورواه أحمد، انظر الفتح الرباني 6/ 193. درجة الحديث: قال فيه الشيخ البنّا: سكت عنه أبو داود والمنذري وسنده صحيح، كما صححه من قبله الحاكم وأقره الذهبي، وكذلك صححه النووي. (¬4) انظر مذهبه في روضة الطالبين للنووي 2/ 85، والمجموع 5/ 53. (¬5) الواو ليست في (م) و (ك) ويستغنى عنها. (¬6) انظر حديث عائشة السابق.

توحيد

مزيد أيضاح: إِعلموا، وَفَّقَكم الله تعالى، أن شيئًا من الحركات العلوية في السموات ليس لها تأثير في الموجودات الأرضية، لا من الأبدان ولا من الأحوال ولا من شيء من الأشياء، وإنما الكل يتعلق بقدر الله تعالى، هو الذي يخلق بعضها مع بعض ويخلق بعضها في أثر بعض فإذا رآه الغافل قال لهذا من هذا {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (¬1). ومن أَغرب ما سمعت في الدنيا ما أنا أبو الحسين (¬2) المبارك بن عبد الجبار (¬3) ببغداد قال: أنا أبو القاسم محمد بن عبد الملك بن بشران (¬4) قال أنا محمد بن عطية (¬5) الزاهد قال (أنفَاسُ الْعَبْدِ الَّتِي تَجْرِي في بَدَنِهِ وَتَخْرُجُ عَلَى فَمِهِ هِيَ الَّتِي تُحَرَّكُ الأفْلَاكَ في السَّموَاتِ عَدَداً بِعَدَدٍ وَتَقْدِيراً (¬6) بِتَقْدِيرٍ)، وذكر ذلك عن جماعة من الأوائل (¬7)، فأضرب طائفة بطائفة وارجع إلى الله تعالى في الجميع، وإلى هذا المعنى أشار النبي - صلى الله عليه وسلم -، بقوله: "لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلا لِحَيَاتِهِ" (¬8) وهذا معلوم قطعاً. توحيد: قوله "ما مِنْ أَحَدٍ أغيَرَ مِنَ الله" (¬9)، والغيرة هي تغير النفس عند الحفاظ على الأهل والقيام بالأنفة في حمايتها، وذلك كله محال على الله تعالى لأنه هو الموجود الذي لا ¬

_ (¬1) سورة النساء آية 78. (¬2) في (ك) و (م) أبو الحسن، وهو الصواب. (¬3) هو ابن الطيوري المبارك بن عبد الجبار بن أحمد، أبو الحسن، الأزدي البغدادي الصيرفي المعروف بابن الطيوري، عالم بالحديث، ثقة، مكثر له مصنفات، توفي سنة 500 هـ. الأعلام 6/ 151، والرسالة المستطرفة 92، ولسان الميزان 5/ 9. (¬4) هو محمد بن عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن بشران، ولد سنة 373 هـ ومات سنة 448 هـ. قال الخطيب: وصليت عليه في جامع المدينة. تاريخ بغداد 2/ 348 - 349، شذرات الذهب 3/ 246، الرسالة المستطرفة ص 120. (¬5) محمد بن عطية لم أعثر على ترجمة. (¬6) لم أطّلع على هذا الكلام. (¬7) هذا كلام لم يثبت نقلاً ولا يتفق مع العقل ولانظريات العلم الحديث، وقد رده الشارح وكان الأوْلى عدم نقله لقلة فائدته. (¬8) تقدم. (¬9) متفق عليه. البخاري في صلاة الكسوف باب الصدقة في الكسوف 2/ 42 - 43، ومسلم في كتاب الكسوف باب صلاة الكسوف 2/ 618، ومالك في الموطأ 1/ 186 كلهم عن عائشة.

يتغير، وإنما ضرب له ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، مثلاً عبّر به عن وعيد الله تعالى في الزنا وعن عقوبته عليه في الدنيا بالجلد والرجم، وفي الآخرة بالنار. والغيور إذا وجد في نفسه الحفاظ قال وفعل فعبّر النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن وعيده وعذابه بالغيرة تقريبًا له إلى الأفهام على ما قدمناه لكم من قبل (¬1). غائلة وبيان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللِّه لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كثِيراً" (¬2). هذا موضع هوَّلت به المبتدعة والملحدة على أهل الدين فقالوا إن فيما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، من أخبار الآخرة أموراً عظيمة ومعاني غريبة وذكروا باطلاً كثيرًا، وليس في قوله: "لَوْ تَعْلَمْونَ مَا أَعْلَمُ" إلا أحد معنيين. الأول: أن معناه لو علمتم عذاب الله بالمشاهدة، كما رأيته أنا في النار، لبكيتم، أو يكون معناه لو دام علمكم كما يدوم علمي لأن علم الأنبياء صلوات الله عليهم متواصل لا يقطعه جهل ولا يدركه سهو وعلومنا تدخل عليه (الخيالات) (¬3) والغفلات بالانهماك في الشهوات فتركن النفس إلى البطالات حتى تصدأ فلا يصقلها إلا الذكر. تحقيق: قوله - صلى الله عليه وسلم - "رَأيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ" (¬4). وفي رواية (في عُرْضِ هذَا الْحَائِطِ) (¬5) قد بينا لكم أن الإراك يخلفه الله تبارك وتعالى متى شاء لمن شاء حتى يدرك وهو في مقامه من العرش إلى الفرش، ومن آخر الملكوت ¬

_ (¬1) قلتُ: والحق أننا نؤمن بهذه الصفة وغيرها من الصفات الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أهل السنة والجماعة يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه العزيز من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط مع فرق الأمة، كما أن الأمة وسط في الأمم، فهم وسط في صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة. مجموع الفتاوى 3/ 141 وسيأتي كلام ابن عبد البر. (¬2) هذا جزء من الحديث السابق ص 381. (¬3) زيادة من (م) و (ك). (¬4) جزء من حديث ابن عباس السابق. (¬5) البخاري في مواقيت الصلاة باب وقت الظهر عند الزوال وقال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالهاجرة 1/ 143، وفي كتاب الاعتصام باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} البخاريَ 9/ 118 من حديث أنس وفيه: عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ آنِفاً في عُرْضِ هذَا الْحائطِ فلَمْ أَر الْيَوْمَ كالْخيْرِ والشَّرِّ.

إلى بطن الحوت، وقد قال (¬1) تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)} (¬2). وقد قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (إِنْ كُنْتَ دَخَلْتَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصفْهُ لَنَا: فَكَرْبتُ كَرْبَةً مَا كَربْتُ مِثْلَها قَطُّ فَجَلَّى الله لِيَ عَنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَنْدَ دَارِ أبِي جَهمٍ بِالْبَلاَطِ فَطَفِقْتُ أُخْبِرهُمْ عَنْ آيَاتِهِ) (¬3). فإن قيل: وكيف تكون الجنة والنار في عرض الحائط؟ قلنا: حضرات يومًا مجلسًا جري فيه هذا السؤال فقال بعض الأشياخ: صقل الله تعالى له الحائط ثم كشف له الحجب فتمثلت له الجنة والنار في ذلك الجرم الصقيل، وهذا تقصير عظيم، وذلك إن كان جائزًا في حكم الله تعالى، وهو دون قدرته، ولكن لا تدعو الحاجة إليه وإنما يعدل عن الظواهر إذا خالف أدلة العقول. وقوله: في عرض الحائط متعلق بقوله رأيت، كما قال: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (¬4). فقيل قوله: في عين حمئة متعلق بوجدها: لا بتغرب والقول الأول صحيح. وأما الثاني فجوز أن يكون قوله: في عين حمئة متعلقًا بتغرب كما تقول غربت الشمس في البحر وذلك مجاز ما رأته العين وغاية ما أدركه البصر. وقوله (تَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا فَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَت الدنيا) وإنما ذلك لأن طعام الجنة مخصوص بصفتين: أحدهما: عدم التغيير والاستحالة. والثانية. عدم الانقطاع بدوام البقاء كلما قطعت منه حبة نشأت مائة كطعام البركة (¬5)، ¬

_ (¬1) في (م) الله تعالى. (¬2) سورة الانعام آية 75. (¬3) متفق عليه البخاري في تفسير سورة الإسراء 6/ 104، ومسلم في كتاب الإيمان باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال1/ 156 كلاهما من حديث جابر بن عبد الله. (¬4) سورة الكهف آية 86. (¬5) لعله يشير إلى قصة بركة طعام أبي بكر وهي كما رواها ابه عبد الرحمن قال: (إن أصحَابَ الصُّفَّةِ كَانوا أَنَاسًا فُقَرَاءَ وأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال منْ كان عنْدَهُ طعَامُ اثْنَيْن فلْيذْهب بثالِثٍ وإنْ أَرْبَعٍ فَخَامِسٍ أو سادِسٍ وَأنَّ أَبَا بَكْر جاء بثلاثةٍ فَانطَلَق النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، بعَشَرَة .. وَأَنَّ أبَا بَكْرٍ تعَشَّى عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ لَبثِ حَيْثُ صُلِّيَتِ الْعشاءُ .. فجاءَ بَعْدَما مَضى من اللَّيْل ماشاءَ الله فَقالَت امْرأتهُ وَما حَبَسَك عَنْ أضْيَافِكَ، أَوْ قَالَتْ ضَيْفِكَ، =

وقد قال بعض الناس إن طعام الجنة إذا أراده العبد خلق الله تعالى مثله في البطن، وليس كذلك بل يقوم ويقطعه ويأكله ويخلق مثله (¬1)، وقد بيَّنَا ذلك في موضعه. وقوله (وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أهلِهَا النِّسَاءُ). إن الله، عَزَّ وَجَلَّ، خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً، ثم يسّر كل أحد لما خلقه له ويسّره لعمل يؤديه إليه وجبله عليه، فخلق المعصية في النساء أكثر، ونقصان الجبلة فيهن أوفى. وبيَّن في الحديث أن العبد يدخل النار بالمعاصي وإن كان معه الإيمان رداً على المرجئة. وقد بيَّنَّاه في موضعه، وذكر عذاب القبر، وهو أصل من أصول السنة لا ينكره إلا غبيّ أو ملحد، نص الله تعالى عليه في القرآن (¬2) وذكره النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في أحاديث ¬

_ = قَالَ أوَمَا تعَشَّيْتُمْ قَالَتْ أبَوْا حَتَّى تَجِيءَ قَدْ عُرِضُوا فَأبوْا .. قَالَ وَأيم الله مَا كُنَّا نَأخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إلَّا ربا مِنْ أسْفَلِهَا أَكْثَرَ مِنْهَا قَالَ يَعْنِي حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَتْ أكثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْل ذلِكَ فَنَظَر إِلَيْهَا أبُو بَكْرٍ فإِذَا هِيَ كَمَا هِيَ أو أكثَرَ مِنْهَا ..). البخاري كتاب الموأقيت باب السمر مع الضيف 1/ 156 - 157 ومسلم في كتاب الأشربة باب إكرام الضيف وفضل إيثاره 3/ 1627 - 1628. (¬1) رواه الطبراني في معجمه الكبير 2/ 100 من طريق ريحان بن سعيد عن عباد ابن منصور عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال: (قَالَ رَسُول اللِه - صلى الله عليه وسلم -، إنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَزَعَ ثَمَرَةً مِنَ الجَنَّةِ عَادَتْ مَكَانَها أُخْرَى). والحديث فيه ريحان بن سعيد بن المثنى السامي، بالمهملة، الناجي، بالنون والجيم، أبو عصمة البصري، صدوق ربما أخطأ من السادسة. مات سنة ثلاث أو أربع ومائتين. ت 1/ 255، وقال الحافظ في ت ت 3/ 301 قال العجلي ريحان الذي يروي عن عباد منكر الحديث، وقال البرديجي: فأما حديث ريحان عن عباد عن أيوب عن أبي قلابة فهي مناكير، وقال ابن قانع ضعيف. وقال الآجري: سألت أبا داود عن ريحان بن سعيد فكأنه لم يرضه. سؤالات الآجري 235. وانظر الجرح والتعديل 1/ 2/ 517 تهذيب الكمال 3/ 23 ميزان الاعتدال 2/ 376 - 378، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 414، رواه الطبراني والبزار ورجال الطبراني. وأحد إسنادي البزار ثقات وقال ابن كثير في نهاية البداية 2/ 427 قال الحافظ الضياء: عبّاد تكلم فيه بعض العلماء. درجة الحديث: ضعيف. (¬2) {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)} [غافر آية 45 - 46]، وقوله: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)} [الطور: 45 - 47].

كثيرة (¬1). والمرء يصرف بين الحياة والموت منذ خُلِقَ إلى أن يدخل الجنة أو النار خمس مراتب: الأولى: في صُلب آدم ولا يؤمن بها إلا سنّي. والثانية: حياة الدنيا ولا ينكرها أحد لأنها مشاهدة. والثالثة: في القبر ولا يضيق عنها إلا حوصلة ملحد. والرابعة: حياة الآخرة. والخامسة: روي في الآثار أن الله أمر إِبراهيم، عليه السلام، فنادى أيها الناس حجوا، ثم أوجد له الخلق وأسمعهم النداء فمن أجابه حج ومن لم يجبه لم يحج (¬2)، وذلك قوله تعالى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (¬3) وهذا (¬4) جائز في حكم الله وقدرته لو صح ومعنى قوله {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أعلمهم به، فإن قيل أنتم تقولون يقام الميت (في قبره) (¬5) ويقعد ونحن نشاهده ساكناً لا يتحرك. قلنا: إن كان هذا السائل كافراً فكلامنا معه في كتب الأصول فتبين متعلق القدرة وكيفية الإدراك. وإن كان من جلدتنا، قلنا: يكون هذا كما يأتي جبريل إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وهو في أصحابه فيكلمه بمثل صلصلة الجرس فلا يرى أحد شيئاً ولا يسمع صوتاً (¬6). ¬

_ (¬1) منها حديث عائشة المتفق عليه وفيه "وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيَّ أنَّكُمْ تُفْتَنُونَ في الْقُبُورِ مِثْلَ أوْ قَريباً مِنْ فتُنَةِ الدَّجَّالِ". البخاري في الكسوف باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف 2/ 47، ومسلم في صلاة الكسوف باب ما عُرض على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار 2/ 624. (¬2) قال ابن كثير ورد عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف. وأوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة. تفسير ابن كثير 4/ 432، وانظر تفسير القرطبي 12/ 38. (¬3) سورة الحج آية 27. (¬4) في (م) وذلك. (¬5) ليست في (ك) و (م). (¬6) متفق عليه. البخاري في كتاب بدء الوحي باب حدثنا عبد الله بن يوسف 1/ 2 - 3 ومسلم في كتاب الفضائل باب عرق النبي - صلى الله عليه وسلم -، في البرد وحين يأتيه الوحي 4/ 1816، ومالك في الموطأ 1/ 202، 203 كلهم عَنْ عَائِشَةَ أم الْمُؤْمِينَ، رَضِيَ الله عَنْهَا، أنَّ الْحَارِثِ بْنَ هِشَامٍ، رَضِيَ الله عَنْهُ، سألَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله؟ كيفَ يَأتِيكَ الْوَحْيُ؟

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء الاستسقاء هو طلب السقي كما أن الاستضحاء هو طلب الضحو (وَقَدِ اسْتَسْقَى النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم - وَاسْتَضْحَى) رواه أنس (¬1). وسننها كسنة صلاة العيد يبرز إليها مثلها. وقال (ح) ليس لها ذلك لأنها لكشف ضرر دنيوي (¬2) فأشبهت الزلازل (¬3). قلنا: قد خرج النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، إليها وجمع فيها وخطب وحوَّل رداءه تفاؤلاً. وقال (ح): ليس من السنة أن يحوِّل رداءه (¬4) والأثر الصحيح يقضي عليه (¬5). وأن الذي قال أبو حنيفة ليقوى؛ لأن صلاة العيد لم يعدل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قط بها عن طريقتها. وأما الاستسقاء فإِن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قد استسقى في خطبة الجمعة (¬6)، وأدخل الدعاء ¬

_ (¬1) متفق عليه البخاري في كتاب الاستسقاء باب الاستسقاء في خطبة الجمعة من طريق شريك بن عبد الله عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ بَابِ الْقَضَاءِ وَرَسُولُ اللِه، - صلى الله عليه وسلم -، قَائِم يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، قَائِماً ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللِه هَلَكَتِ الأمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ فَادْعُ الله يُغَيِثنَا فَرَفَعَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: اللهم أَغِثْنَا، الْلهُمَّ أَغِثْنَا. قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاللِه مَا نَرَى في السَّمَاءِ مِنْ سَحَاب وَلاَ قَزْعَةً وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلَعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ قَالَ فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التَّرْسِ فَلَمَّا تَوَسَّطَتْ في السَّمَاءِ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ فَلاَ وَاللِّه مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتّاً .. البخاري 2/ 34 - 35، ومسلم في الاستسقاء باب الدعاء في الاستسقاء 2/ 612 - 613، من طريق شريك بن عبد الله عن أنس أيضًا، ومالك في الموطأ 1/ 191. (¬2) في (م) دنيا. (¬3) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 439، والبناية على شرح الهداية 2/ 912. (¬4) انظر المصدر السابق 1/ 440، والبناية 2/ 920. (¬5) متفق عليه البخاري في الاستسقاء باب الاستسقاء في المصلى 2/ 39 وفي باب الاستسقاء وخروج النبي، - صلى الله عليه وسلم - 2/ 32، وفي باب الجهر بالقراءة في الاستسقاء 2/ 38، ومسلم في الاستسقاء باب صلاة الاستسقاء 2/ 611، وأبو داود 1/ 689، والترمذي 2/ 442، وقال حسن صحيح، ومالك في الموطّأ 1/ 190، والبغوي في شرح السنة 4/ 398 كلهم عن عبد الله ابن زيد المازني يقول: خَرَجَ رَسُولُ اللِه، - صلى الله عليه وسلم -، إلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى وَحَوَّلَ رِدَاءَهُ حِينْ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ. لفظ مسلم. (¬6) تقدم.

فيه، ولم يخرج إليه، ولكن الذي يصحُّ أن يقال إن شاء خرج، كما فعل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فهي سنّة، وإن شاء دعا أيضًا في موضعه فهي سنّة. حديث: روى زيد بن خالد الجهني (عَنِ النَّبِيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّهُ قَالَ أَصْبحَ مِنْ عِبَادي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ) (¬1). إنما بوَّب مالك، رضي الله عنه، فقال الاستمطار بالنجوم (¬2)، وأدخل هذا الحديث في أبواب الاستسقاء لوجهين: أحدهما: أن العرب كانت تنتظر السقيا في الأنواء فقطع النبي - صلى الله عليه وسلم -، هذه العلاقة بين القلوب وبين الكواكب. الثاني: أن الناس أصابهم القحط في زمن عمر، رضي الله عنه، فقال عمر للعباس: (كَمْ يُسْقَى لِنَوْءِ الثُّرَيَّا فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: زَعَمُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا تَعْتَرِض في الأُفُقِ سَبْعًا فَمَا مَرَّتْ حَتَّى نَزَلَ المَطَرُ) (¬3)، فانظر إلى عمر والعباس وقد ذكروا الثريا ونؤها وتوكّفوا (¬4) ذلك في وقتها، وقد بيَّنَّا معنى هذا الحديث في شرح الصحيح على الاستسقاء والذي تفتقرون إليه الآن أنّ من انتظر المطر من الأنواء على أنها فاعلة له من دون الله فهر كافر، ومن اعتقد أنها فاعلة لكن بما جعل الله فيها فهو أيضاً كافر؛ لأنه لا يصح أن يكون الخلق والأمر إلا لله كما قال تعالى {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (¬5) ومن انتظرها وتوكَّف المطر ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في صلاة الاستسقاء باب قول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)} [الواقعة/82] 2/ 41، وفي كتاب الأذان باب يستقبل الإِمام الناس إذا سلَّم 1/ 214، ومسلم في الإِيمان باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء 1/ 83 - 84، ومالك في الموطأ 1/ 192، وأحمد. انظر الفتح الرباني 6/ 252، وتحام الحديث (فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنا بِفَضْلِ الله وَرَحْمَتِهِ فذَلِكَ مُؤْمن بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ وَأمَّا منْ قَالَ بِنَوْء كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِر بِي مُؤْمِن بِالْكَوْكَبِ). (¬2) الموطّأ 1/ 192. (¬3) هذا الأثر ورد عن سعيد بن المسيب قال: أخبرني من سمع عمر بن الخطاب وهو يستسقي فلما استسقى التفت إلى العباس .. رواه ابن جرير في تفسيره 27/ 208 وأورده ابن كثير في تفسيره 6/ 538 وقال: هذا محمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر لا أن ذلك النوء مؤثر بنفسه في نزول المطر فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده. وأورده القرطبي في تفسيره أيضًا 17/ 230، وأورده صاحب كنز العمال وعزاه لسفيان بن عيينة في جامعه ولابن جرير. كنز العمال 8/ 433. درجة الأثر: ضعيف لجهالة الواسطة بين سعيد وعمر. (¬4) قال في ترتيب القاموس 4/ 653 توكف لهم: يتعدهم وينظر في أمورهم والخير ينتظر وكفه ولفلان يتعرض له حتى يلقاه. (¬5) سورة الأعراف آية 54.

منها على أنها عادة أجراها الله تعالى فلا شيء عليه. فإن الله قد أجرى العوائد في السحاب والرياح والأَمطار بمعاني ترتبت في الخلقة وجاءت على نسق في العادة، ولذلك (¬1) أدخل مالك، رضي الله عنه، مبيّنًا لهذه الحقيقة قوله (إِذَا أنْشَأتْ بَحْرِيَّةً ثُمَّ تَشَامَتْ فَتِلْكَ عَيْن غُرَيْقَةٌ) (¬2). ¬

_ (¬1) في (م) ولهذا. (¬2) الموطّأ 1/ 192، والشافعي في الأُم 1/ 225 بلفظ (إذا نَشَأَتْ بَحْرِيةً ثُمّ اسْتَحَالَتْ شَاميَّةً فَهُوَ أَمْطَرَ لَهَا). ونقل الزرقاني عن ابن عبد البر قوله: لا أعرف هذا الحديث بوجه فيِ غير الموطّأ إلا ما ذكره الشافعي فيِ الأم عن محمد بن ابراهيم بن أبي يحيى عن إسحاق بن عبد الله (أَنَّ النَّبِيّ، - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: إذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةً ثمَ اسْتَحَالَتْ شَامِيَّةً فَهُوَ أَمْطَرَ لَهَا) قال: وابن أبي يحيى وإسحاق ضعيفان لا يحتج بهما. شرح الزرقاني 1/ 389 - 390. وقال ابن الصلاح: وأما حديث إذا نشأت بحرية .. فذكر ابن عبد البر أنه لم يرد بمعناه إلا فيما رواه الشافعي عن إبراهيم بن يحيى قال وإبراهيم متروك الحديث. قال ابن الصلاح ولم يسنده الشافعي أيضًا فهو منقطع عنده .. وساق ابن الصلاح بسنده إلى حمزة بن محمد الكتاني الحافظ قال: كل شيء رواه مالك في الموطّأ مسنداً ومرسلاً فقد روي عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، من غير جهته إلا حديثين أحدهما (إنِّي لَا أنسى لأسن والآخر إِذَا نَشَأَت بَحْرِيَّةً ..) إلى أن قال: والقول الفصل في ذلك كله أن هذه الأحاديث الأربعة لم ترد بهذا اللفظ المذكور في الموطّأ ولا ورد ما هو في معنى واحد منها بتمامه في غير الموطّأ إلا حديث (إذا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةً) من وجه لا يثبت، والثلاثة الأُخر واحد وهو حديث (لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ورد بعض معناه من وجه غير صحيح، واثنان منها ورد بعض معناهما من وجه جيد أحدهما صحيح وهو حديث النسيان والآخر حسن وهو حديث وصية معاذ رضي الله عنه. ثم ساق بسنده إلى محمد بن عمر الواقدي قال نا عبد الحكيم بن عبد الله ابن أبي فروة قال سمعت عوف بن الحارث يقول سمعت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذَا نَشَأتْ بَحْرِيَّةً فَتِلْكَ عَيْن أو قَالَ عَامُ غُرَيْقَة) يعني مطراً كثيراً .. وقال: ليس إسناده بذاك لمكان محمد بن عمر والظاهر أنه الواقدي، والله أعلم، إلى أن قال: وأما قول ابن عبد البر عن حديث الشافعي إنه رواه عن إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث فيه تساهل من حيث أنه غيره بما ظن أنه منه، وكأنه تبع في ذلك رأي الربيع بن سليمان صاحب الشافعي، رحمه الله .. وساق بسنده إلى محمد بن يعقوب قال: سمعت الربيع يقول إذا قال الشافعي أخبرني الثقة يريد به يحيى بن حسان، وإذا قال أنا من لا أتهم يريد به إبراهيم بن أبي يحيى، وإذا قال بعض الناس يريد به أهل العراق، وإذا قال بعض أصحابنا يريد به أهل الحجاز، وقال البيهقي وقد قال الشافعي أنا الثقة غير معمر والمراد به إسماعيل بن علية لتسميته إياه في موضع آخر، وقال البيهقي في قوله أنا الثقة لا يوقف على مراده به إلا بظن غير مقرون بعلم. رسالة ابن الصلاح في وصل البلاغات الأربع في الموطّأ ص 10 - 13. أقول: الحديث ساقه ابن الصلاح كشاهد لحديث الباب، رواه الطبراني في الأوسط, كما ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 216 - 217 ونقل عن الطبراني قوله تفرد به الواقدي، وقال الهيثمي، قلت: وفي الواقدي كلام وقد وثقه غير واحد وبقية رجاله لا بأس بهم وقد وثقوا. درجة هذا الحديث: ضعيف كما قال ابن عبد البر.

باب استقبال القبلة للحاجة

باب استقبال القبلة للحاجة في هذا الباب ستة أحاديث: الأول: حديث أبي أيوب الأنصاري قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: (إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكمْ لِلْغَائِطِ أَوْ الْبَوْلِ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا بِفَرْجِهِ" (¬1). الثاني: حديث ابن عمر أنه كان يقول: "إِنَّ نَاسًا يَقُولُون إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ فَلَا تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ. قَالَ عَبْدُ الله لَقْدِ ارْتَقَيْتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا فَرَأَيْتُ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، عَلَى لِبْنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ" (¬2). الثالث: حديث سلمان قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّما أَنَا لَكُمْ مَثَلُ الْوَالِدِ أُعَلِّمُكُمْ فَلَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ وَلَا لِبَوْلٍ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا" (¬3). وهذه الأحاديث صحاح لا غبار عليها. الرابع: روى أبو هريرة (¬4) نحو حديث سلمان، أخرجه أبو داود. الخامس: حديث جابر (نَهَى رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، عَنِ اسْتَقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ ثُمَّ رَأَيْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ بِعَامٍ يَسْتَقْبِلهَا) (¬5) خرّجه الترمذي. ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في كتاب الوضوء باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول 1/ 48، ومسلم في كتاب الطهارة باب الاستطابة 1/ 224، والموطّأ 1/ 193. (¬2) متفق عليه. البخاري في الوضوء باب من تبرَّز على لبنتين 1/ 48 - 49، ومسلم في الطهارة باب الاستطابة 1/ 224 - 225، ومالك في الموطّأ 1/ 193 - 194، ورواه الشافعي في الرسالة فقرة 812 بتحقيق أحمد شاكر، وأبو داود 1/ 21، والترمذي 1/ 16، والنسائي 1/ 23 - 24، وأحمد. انظر الفتح الرباني 1/ 274. (¬3) مسلم في كتاب الطهارة باب الاستطابة 1/ 223، وأبو داود 1/ 17، والترمذي 1/ 24، وأحمد. انظر الفتح الرباني 2/ 272، وابن حزيمة 1/ 41، وابن ماجه 1/ 115. (¬4) مسلم في كتاب الطهارة باب الاستطابة مختصراً 1/ 224، وأبو داود 1/ 18، والنسائي 1/ 38، وابن ماجه 1/ 114، وأحمد. انظر الفتح الرباني 2/ 272، وابن حبان. انظر موارد الظمآن ص 62. (¬5) سنن الترمذي 1/ 15 وقال حسن غريب، وأبو داود 1/ 21، وابن ماجه 1/ 117 وأحمد. انظر الفتح الرباني 1/ 273 - 274 وابن خزيمة 1/ 34، وابن حبان انظر موارد الظمآن ص 63، والحاكم 1/ 154، وقال الذهبي: هو على شرط مسلم، ورواه الدارقطني في السنن 1/ 58 - 59 وقال: رواته كلهم ثقات. =

السادس: حديث (عَائِشَة قَالَتْ بَلَغَ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ نَاساً يَقُولُونَ لَا تَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ وَلاَ بَوْلٍ فَقَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، أَوَ قَدْ فَعَلُوهَا حَوَّلُوا بِمِقْعَدِي إِلَى الْقِبْلَةِ) خرّجه الدراقطني (¬1). ¬

_ = وقال الحافظ في التلخيص 1/ 114: صححه البخاري فيما نقله عنه الترمذي وحسّنه هو والبزار وصحّحه أيضًا ابن السكن وتوقف فيه النووي لعنعنة ابن إسحاق، وقد صرح بالتحديث في رواية أحمد وغيره، وضعفه ابن عبد البر بأبان بن صالح، ووهم في ذلك فإنه ثقة باتفاق، وأدعى ابن حزم إنه مجهول فخلط. درجة الحديث: يترجح لدي تحسين الترمذي والبزار من أجل ابن إسحاق وقد تقدم. (¬1) سنن الدارقطني 1/ 59 - 60 بعدة أسانيد عن خالد الحذّاء عن عراك بن مالك عن عائشة وأحمد. انظر الفتح الرباني 1/ 275، وابن ماجه 1/ 117 وقال النووي في شرح مسلم 3/ 154 إسناده حسن، وقال السندي في حاشيته على ابن ماجه رجاله ثقات معروفون وأخطأ من قال خلاف ذلك، وقد علل البخاري الخبر بما ليس بقادح فيه فقال: وجاء عن عائشة أنها كانت تنكر قولهم لا تستقبلوا القبلة، وهذا أصح؛ فإن ثبوت ما قال لا يستلزم نفي هذا فبعد صحة الإسناد يجب القول بصحتها. حاشية السندي على ابن ماجه 1/ 137. وقال البخاري: خالد بن أبي الصلت. عن عمر بن عبد العزيز وعراك مرسل، روى عه خالد الحذاء ومبارك بن فضالة وواصل مولى أبي عيينة، قال موسى: حدثنا حماد عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت كنا عند عمر بن عبد العزيز فقال عراك بن مالك: سمعت عائشة قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: حَوّلوا مقعدتي إلى القبلة بفرجه، قال موسى: حدثنا وهيب عن خالد عن رجل أن عراكاً حدّث عن عمرة عن عائشة عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وقال بكير حدثني بكر عن جعفر بن ربيعة عن عراك عن عروة أن عائشة كانت تنكر قولهم لا تستقبل القبلة وهذا أصح. التاريخ الكبير 3/ 155 - 156. وقال الذهبي في الميزان في ترجمة خالد بن أبي الصلت: أن هذا الحديث منكر 1/ 232، وقال ابن قدامة في المغني 1/ 120: حديث عائشة وإن كان مرسلاً فإن مخرجه حسن. وقال ابن حزم في المحلّى: إنه ساقط لأن رواية خالد الحذاء، وهو ثقة، عن خالد بن أبي الصلت، وهو مجهول، لا ندري ما هو، وأخطأ فيه عبد الرزاق فرواه عن خالد الحذاء عن كثير بن الصلت وهذا أبطل وأبطل لأن خالداً الحذاء لم يدرك كثير ابن الصلت. نيل الأوطار 1/ 100. خالد بن أبي الصلت البصري مدني الأصل كان من جهة عمر بن عبد العزيز بواسط وهو مقبول ت/ 214. وقال الحافظ في ت ت 3/ 98 أنكر أحمد قول من قال عن عراك عن عائشة، وقال إنما هو عراك عن عروة عن عائشة ولم يسمع عراك منها، وقال أبو محمد مجهول، وقال عبد الحق ضعيف، وتعقب ابن مفوز كلام ابن حزم فقال هو مشهور بالرواية معروف يحمل العلم ولكن حديثه معلول، وقال الترمذي في العلل الكبير: سألت محمداً عن هذا الحديث فقال فيه اضطراب والصحيح عن عائشة قولها، وفكر أبو حاتم نحو قول البخاري وأن الصواب عراك عن عروة عن عائشة قولها، وأن من قال فيه عن عراك سمعت عائشة مرفوعاً وهم فيه سنداً ومتناً. وانظر الثقات لابن حبان 6/ 252، والكاشف 1/ 270 وقال ثقة. من خلال ما تقدم يترجح لديّ ضعيف الحديث، وهو الذي صرح به الشارح.

ثم اختلف الناس في العمل بهذه الأحاديث على ثلاثة أقوال. فمنهم من قال لا تستقبل القبلة لغائط ولا بول لا في الصحاري ولا في البنيان (¬1). ومنهم من قال ذلك في الصحراء خاصة (¬2)، ومنهم من قال يجوز الاستدبار في البنيان ولا يجوز الاستقبال (¬3). والمنع عام في الصحراء من الوجهين وهو (قول) (¬4) (ح). أما من قال بعموم النهي في كل موضع فيتعلق بظاهر حديث أبي أيوب. وأما من قال يجوز الاستدبار وحده فهو الذي في حديث ابن عمر فقال به وتحقيق الكلام في المسألة أن حديث ابن عمر معارض لحديث أبي أيوب. وقد اختلف الناس في تعارض القولين والفعلين (¬5) اختلافاً كثيراً بيَّنَّاه في المحصول (¬6) لبابه أن القولين إذا تعارضا بأن تعلَّقا بمعنيين متنافيين في حق شخص واحد في وفت واحد فإن ذلك مستحيل لأنه من باب تكليف المحال فإن وردا فأحدهما ناسخ للآخر (¬7). وأما اختلاف الفعلين فلا تضاد بينهما لذاتيهما كالقولين أيضًا لا تضاد بينهما لذاتيهما فلا تعارض بينهما إلا أن يقتضيا بيان معنى ولتعلقا في بيانه تعلق القولين، كما قدمنا، ¬

_ (¬1) وهو قول أبي أيوب الأنصاري ومجاهد وإِبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبي ثور وأحمد في رواية. شرح النووي على مسلم 3/ 154. وقال الحافظ: وهو المشهور عن أبي حنيفة ورجّحه من المالكية ابن العربي، ومن الظاهرية ابن حزم وحجتهم أن النهي مقدّم على الإباحة. فتح الباري 1/ 246. أقول: سيأتي قريباً ترجيح الشارح لهذا الرأي. (¬2) قال الحافظ: هو مذهب مالك والشافعي وإسحاق وهو أعدل الأقوال لإعماله جميع الأدلة. فتح الباري 1/ 246. (¬3) وقائل هذا القول أبو يوسف تمسكاً بظاهر حديث ابن عمر. فتح الباري 1/ 246. (¬4) أقول: زيادة يقتضيها السياق. (¬5) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 297. (¬6) كتاب المحصول للمؤلف ص ل 46 ب أفعال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، في نازلة على وجهين مختلفتين فصاعداً، فإن العلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال منهم من قال بالتخيير، ومنهم من أجرى الفعل مجرى القول فحكم بتقديم الفعل إذا تأخر على الفعل المتقدم، ومنهم من رجح أحد الفعلين بدليل آخر من قياس أو غيره. وانظر شرح التنقيح للقرافي ص 292، والمنخول من تعليقات الأصول ص 227. (¬7) في (م) فأحدهما ناسخ للأول والأَوْلى ما في الأصل.

فالحكم فيهما واحد. وأما إذا تعارض القول والفعل فقال قوم يقدم القول لأنه عام والفعل مختص بالنبي، - صلى الله عليه وسلم -، فيقف عليه ولا يكون هنالك تعارض (¬1). وهذا كلام إن ظهر عند الإطلاق لم يصح عند السبر والتقسيم لنكتة بديعة وهي أن كل أمر ورد من جهة الله تعالى على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بتكليف الخلق فإن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، داخل فيه يلزمه من ذلك ما يلزمهم، وهي مسألة خلاف في أصول الفقه هل يدخل الآمر تحت الأمر أم لا (¬2). وهي مسألة مغلطة (¬3) قد بيَّنَّاها أيضًا هنالك (¬4)، فإذا ثبت أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، داخل في الأمر مع الخلق، ثم ثبت أنه تركه فذلك نسخ في حقه وبقي أن ينظر هل يكون نسخاً في حق غيره أم لا، والصحيح أن النسخ مقصور عليه إلا أن يدل علي تعديه، وقد دل الدليل العام على تعديه إلى غيره قال الله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬5). فأرشدنا إلى الاقتداء به وثبت بالتواتر المعنوي أن الصحابة، رضي الله عنهم، كانوا يلجؤون إلى فعله (¬6) عند المشكلات، كما يلجؤون إلى قوله. فإذا ثبت هذا وصح جواز الاستدبار في البنيان فجواز الاستقبال يؤخذ من طريقين: أحدهما. طريق المعنى، وهو قياس الاستقبال على الاستدبار في البنيان في جوازه، ¬

_ (¬1) إذا تعارض قول وفعل فاختلف الناس فيه فمنهم من قال الفعل أولاً لأنه أقوى، ومنهم من قال القول أَوْلى لأن له صيغة ولا صيغة للفعل ولأن القول متناول أشياء كثيرة والفعل يختص بصورته .. والصحيح في النظر أن القول أقوي لأنه لا احتمال فيه والفعل محتمل فلا يترك الصريح للاحتمال. المحصول ل 47 أب، وانظر شرح التنقيح ص 292. (¬2) قال القرافي: ويندرج النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في العموم عندنا وعند الشافعية، وقيل علو منصبه يأبى ذلك، وقال الصيرفي: إن صدر الخطاب بالأمر بالتبليغ لم يتناوله وإلا تناوله .. وأما الفرق بين الأمر بالتبليغ وغيره فلأن الظاهر في الخطاب الذي يبلغه لغيره لأنه لا يندرج فيه لغة كقوله تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ونحو ذلك، فهذا لا يتناوله من حيث اللغة بل بدليل منفصل أو يقال هو مأمور بأن يقول لنفسه أيضًا لأنه من جملة المؤمنين، وكذلك يندرج المخاطب في العموم الذي يتناوله لأن شمول اللفظ يقتضي جميع ذلك. شرح التنقيح ص 197 - 198. (¬3) المغلطة: الكلام يغلط فيه ويغالط به. ترتيب القاموس 3/ 410. (¬4) في (م) في كتب المسائل. (¬5) سورة الأحزاب آية (21). (¬6) يدل لذلك أن الصلاة والزكاة والحج والصوم وسائر الأحكام إنما ذكرت في القرآن مجملة بيَّنتها السنّة. قال تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} انظر شرح الزرقاني 2/ 19.

كا استوى الاستقبال والاستدبار في الصحراء في منعه وتحريره أن نقول الاستقبال في البنيان أحد القصدين إلى الكعبة بالحاجة فاستوى حكمهما كالاستقبال والاستدبار في الصحراء في منعه. الثاني: التعلّق بحديث جابر وعائشة المتقدمين، وإنما قدمنا المعنى عليهما لعدم صحتهما على أن علماءنا قد قالوا أن الحديث بالنهي عن الاستقبال والاستدبار لو ورد مطلقاً لما لزم تكليفه له في البيوت لوجهين. أما أحدهما فلقول النبي، - صلى الله عليه وسلم - (إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمُ إِلَى الْغَائِطِ) فجعل محل الحكم الصحراء وهذا تعلق بالظاهر، لكن تبقى ههنا نكته وهي أن العلماء قد اتفقوا على أن الحكم الوارد لا تأثير له في المكان ولا يختص به إلا بدليل، وكذلك الزمان. ولأن الحكم يسترسل عليهما جميعاً حتى يوافقه الدليل أو يغيره، وههنا دليل قوي يوقف هذا الحكم على الصحراء وهو أن الناس لو كلّفوا ذلك في البنيان لحرجوا وما استطاعوه، واللفظ العام لا يتناول موضع المشقة ولا يتعلق بها فيه حرج وكلفة. تتميم: اختلف العلماء في المحترم بهذا النهي ما هو؟ فمنهم من قال المحترم القبلة، ومنهم من قال المحترم المصلون (¬1)، وفي آثار السلف (إِنَّ لله عِبَاداً يُصَلُّونَ مِنْ خَلْقِهِ يِعُنِي مِنَ الْجِنِّ (¬2) وَالإِنْسِ فَيَلْزِمُ (¬3) أَنَّ يَحْتَرِمُوا وَلَا يَتَكَشَّفُ عَلَيْهِمْ) (¬4) وهذا ¬

_ (¬1) نقل الحطاب القولين ولم يعزهما لأحد، كما فعل الشارح الحطاب 1/ 280. (¬2) في (م) والملأيكة. (¬3) في (م) فينبغي. (¬4) رواه البيهقي في السنن 1/ 93 من طريق عيسي الخياط قال: قلت للشعبي إني لأعجب لاختلاف أبي هريرة وابن عمر قَالَ نَافِعُ عَنْ ابنِ عُمَرَ دَخَلْتُ بيت حَفْصَةَ فَحَانَتْ مِّني التِفَاتَةٌ فَرَأيْت كَنِيفَ رَسُولِ اللِه، - صلى الله عليه وسلم -، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ أبو هُرَيْرَةَ إِذَا أَتَى أحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يَسْتَدْبِرْهَا. قال الشعبي صدقا جميعاً. أما قول أبي هُرَيْرَةَ فَهُوَ في الصَّحْرَاءِ إِنَّ للِه عِبَاداً مَلاَئِكَة وَجِنّاً يُصَلِّونَ فَلاَ يَسْتَقْبِلُهُمْ أحد بِبَوْلٍ وَلَا غَائِطٍ وَلَا يَسْتَدْبِرُهُمْ، وَأمَّا كُنُفُكُمْ هذِهِ فَإِنَّمَا هِيَ بَيْتٌ يُبْنَى لاَ قِبْلَةٌ فِيهِ. وقال البيهقي عقب روايته: عيسى بن أبي عيسى الخياط هذا هو عيسى بن ميسرة ضعيف. ورواه ابن ماجه من طريق عيسى هذا مختصراً 1/ 117. أقول: عيسى هذا قال عنه الحافظ متروك ت 2/ 100، وانظر ت ت 8/ 224 - 225، والميزان 3/ 320 - 321، والمجروحين 2/ 117. درجة الحديث: ضعيف.

ضعيف لوجهين: أحدهما: أن الفعل المباح لا يسقط بالمحتمل البعيد، ومن أين يعلم المتوضئ أن هنالك من يصلي؟ أو من أين يظنه والمصلي يلزمه أن يكون بصره بين يديه؟ على ما قاله كثير من العلماء، فذلك أجمع لخشوعه وأضم لنشر خاطره. الثاني: أن الله تعالى لم يتعبدنا إلا بما نرى ونسمع، وهذا بيِّن عند التأمل فإن قيل فما الدليل علي أنه لحرمة القبلة قلنا ثلاثة أشياء: أحدها: قول النبي، - صلى الله عليه وسلم - (فَلا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةِ) فنص عليها وعلق الحكم (¬1) بالقبلة وهي أصل التعظيم والحرمة، وكيف يجوز أن يعدل بالحرمة عنها إلى غيرها. فإن قيل فنقول فتحترم أيضًا لحرمة (¬2) المصلِّي، قلنا قد أسقطنا هذا الكلام بالدليل فلا معنى لإعادته. الثاني: قال النبي، - صلى الله عليه وسلم - (مَنْ جَلَسَ مُسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أوْ بَوْلٍ ثُمَّ تَذَكَّرَ فَانْحَرَفَ لَمْ يَقُمْ مِنْ مَكَانِهِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ) (¬3) خرجه البزار. الثالث: أن حرمة الصلاة تتعلق بمحلين: مسجد وقبلة، ثم ثبت أن المسجد يُحترم لأنه بقعة مخصوصة بالصلاة، فكذلك ينبغي أن تُحترم القبلة لأنها جهة مخصوصة بالصلاة، وهذا هو مذهب مالك، رضي الله عنه؛ لأنه عقَّب الباب بقوله: باب النهي عن البُصاق في القبلة (¬4)، فأفهمك أنها إذا احترمت عن البصاق إلى جهتها فأوْلى وأَحْرى أن تُحترم عن البول والغائط وهما نجسان (¬5). قال لنا فخر الإسلام (¬6) قال لنا أبو إسحاق الشيرازي (¬7): لو كانت الحرمة للقبلة لما ¬

_ (¬1) في (م) بها. (¬2) في (م) المصلين. (¬3) هذا الحديث لم أعثر عليه في كشف الأستار ولا مجمع الزوائد، ولا غير ذلك من المراجع المتوفرة لدي. (¬4) الموطّأ 1/ 194. (¬5) في (م) قال القاضي، وهو الشارح. (¬6) فخر الإسلام تقدم. (¬7) أبو إسحاق الشيرازي هو إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي العلامة المناظر، ولد بفيروز أباد وانتقل إلى شيراز فقرأ على علمائها، وانصرف إلى البصرة ومنها إلى بغداد سنة 415 هـ، وكان مرجع الطلاب ومفتي الأُمة في عصره، واشتهر بقوة الحجة في الجدل والمناظرة. ولد 393 - 476 هـ. الأعلام 1/ 51، طبقات السبكي 3/ 88، وفيات الأعيان 1/ 4، واللباب 2/ 232.

جاز الفصد إليها ولا الحجامة لأنها نجاسة تستقبل بها. قلنا. هذه الأمور الضرورية كالفصد والحجامة والقيء والرعاف، التي تأتي العبد بغير اختياره، لا يتعلق بها هذا التكليف كما لم يتعلق بالبنيان. توحيد: قوله: فإن الله قبل وجهه الباري تعالى يتقدس عن أن يحد بالجهات (¬1)، أو تكتنفه الأقطار ولكن في ذلك معنيان. أحدهما: ما قدمناه لكم من أن الله تعالى بلطفه وسابغ نعمته إذا أراد أن يكرم شيئاً من خلقه أضافه إليه أو أخبر بنفسه عنه. والثاني: أن هذا المصلِّي قد اعتقد أنه بين يدي الله، عزّ وجلّ، كما هو، والتزم التعظيم لمن توجَّه له والبصاق إهانة فكيف يصح له أن يأتيَ بفعلٍ يناقض اعتقاده (¬2). ¬

_ (¬1) إننا لا نوافق الشيخ في هذه المسألة بل نؤمن من ذلك بما ورد عن الله وعن رسوله دون أن نكيِّف أو نؤول من ذلك شيئاً؛ ففي صحيح مسلم من حديث (مُعَاوِيةَ بْنِ الْحَكَمِ السَّلْمِي .. قَالَ: كَانَتْ لِي جَارِيَة تَرْعَى غَنَماً لِي قِيل أحد والجوانة، فَاطَّلَعْت ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّئْبُ قَدْ ذَهبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا وَأنا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسِفُ كَمَا يَأسفْون لكِنِّي صَكَكْتُهَا صكَّةً، فَأتيْتُ رَسُولَ اللِه, - صلي الله عليه وسلم -، فَعَظَّمَ ذلِكَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أفلاَ أُعتِقها؟ قَالَ: إِئْتنِي بِهَا، فأتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا: أينَ الله؟ قَالَتْ: في السَّمَاءِ، قالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالَتْ: أنْتَ رَسُولُ الله، قَالَ: أَعتَقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَة) مسلم في كتاب المساجد باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته 1/ 380. قال ابن القيم رحمه الله: وإذا كان العلو والفوقية صفة كمال لا نقص فيه ولا يستلزم نقصاً ولا يوجب محذوراً ولا يخالف كتاباً ولا سنة ولا إِجماعاً، فنفي حقيقتها عين الباطل. مختصر الصواعق المرسلة 2/ 215. وقال أبو عمر: من الحجة في أنه عَزَّ وَجَلَّ على العرش فوق السموات السبع أن الموحدين أجمعين من العرب والعجم إذا كربهم أمر أو نزل بهم شدة رفعوا أيديهم إلى السماء يستغيثون ربهم. وهذا أشهر وأعرف عبد الخاصة والعامة من أن يحتاج فيه إلى حكاية لأنه اضطرار لم يؤنبهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، للأمة التي أراد مولاها عتقها إن كانت مؤمنة، فاختبرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بأن قال لها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، ثم قال لها: من أنا؟ قالت رسول الله، قال أعتقها فإنها مؤمنة، فأكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، منها برفعها رأسها إلى السماء واستغنى بذلك عما سواه. وأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيِّفون شيئاً من ذلك ولا يحدّون فيه صفة محصورة. التمهيد 1/ 134. (¬2) ونقل الزرقاني عن ابن عبد البر قوله: هذا كلام خرج مخرج التعظيم لشأن القبلة، وقد نزع به بعض المعتزلة القائلين بأن الله في كل مكان وهو جهل واضح. شرح الزرقاني 1/ 394.

باب مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -

باب مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - " قَالَ الْنَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، صَلاَةٌ في مَسْجِدِي هذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ (¬1) إِلَّا المسْجِدَ الحَرَامَ" (¬2)، وقد كنا روينا حديثاً في المنثور أنه قال "مَنْ صَلَّى في مَسْجِدِ مَكَّةَ ففوَ خَيْرٌ مِنْ مَائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، وَمَنْ صَلَّى في مَسْجِدِي هذَا فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سوَاهُ، وَمَنْ صَلَّى في مَسْجِدِ إِيلِيَّاءَ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ صَلاَةٍ فيمَا سِوَاهُ" (¬3). ولم أرضَ أن أكتبه لبطلانه، وصحح أحمد بن حنبل (صَلاَةٌ في مَسْجِدِي هذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَإِنَّهُ يَزِيدُ عَلَى مَسْجِدِي هذَا بِمائَةِ صَلاَةٍ) (¬4). والمسألة سهلة المبدأ صعبة المنتهى، واستيفاؤها في كتاب الجامع (¬5)، إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) في (م) زيادة مسجد. (¬2) البخاري في صلاة التطوع باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 2/ 76، ومسلم في كتاب الحج باب الصلاة في مسجدي مكة والمدينة 2/ 1012، ومالك في الموطّأ 1/ 196 كلهم عن أبي هُرَيْرَة. (¬3) هذا الحديث لم أعثر عليه. (¬4) أحمد في المسند. انظر الفتح الرباني 23/ 247، ورواه ابن حبان، انظر موارد الظمآن ص 254، بلفظ (صَلاَةٌ في مَسْجِدِي هذَا أَفضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلاَةٌ في ذلِكَ أَفْضلُ مِنْ مَائَةِ صَلَاةٍ في هذَا - يعني في مسجد المدينة)، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 5/ 246، كلهم عن عبد الله بن الزبير، وقال الحافظ: قال ابن عبد البر: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه ومن رفعه أحفظ وأثبت ومثله لا يقال بالرأي. فتح الباري 3/ 67. وقال النووي: رواه أحمد والبيهقي وغيرهما بإسناد حسن، شرح النووي على مسلم 9/ 164، وقال البزار، بعد روايته: لا نعلم أحداً قال: إنه يزيد عليه مائة إلا ابن الزبير. كشف الأستار 1/ 214، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 4 وقال: رجال أحمد والبزار رجال الصحيح. درجة الحديث: صحيح. (¬5) انظر كتاب الجامع ل 276 من نسخة ك.

الأمر بالوضوء لمن مسَّ القرآن (¬1) قال علماؤنا: لا يجوز للمحْدِث أن يمس المصحف لقول الله تعالى {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} (¬2)، فإن قيل هذا خبر والخبر من الله لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره لأنه يكون كذباً وذلك مستحيل في وصفه، فدل على أن المراد به خبر الله تعالى عن الملائكة المقربين (¬3) في الصحف التي عندهم. هذا منتهى كلامهم وهو ساقط جداً لأن الخبر لا يجوز أن يكون بمعنى الأمر، كما لا يجوز أن يكون الأمر بمعنى الخبر، كما لا يجوز أن يكون كل واحد منهما بمعنى النهي، ولا يجوز أن يكون النهي بمعناهما لأن الكلام له حقيقة ينفرد بها عن العلم والإرادة، وكذلك أيضاً أقسامه من الأمر والنهي والخبر والاستخبار لها حقائق ينفرد كل واحد منها حقيقة عن صاحبه، ولهذا المعنى الذي فهمه مالك، رضي الله عنه، من أن الخبر لا يجوز أن يقع من الله تعالى كذباً، ومن أن الخبر لا يجوز أن يكون بمعنى الأمر، أو بمعنى النهي، قال، رضي الله عنه: إن هذه الآية، والتي في {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} (¬4) سواء يريد أنهما راجعتان إلى الملائكة وصحفها (¬5)، وهذا بالغ في البيان لمن كان له قلب، بيْد أني أقول في ذلك قولاً حسناً وهو أن المصحف لا يمسه إلا ¬

_ (¬1) وضع مالك، تحت هذا العنوان، حديثاً عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن في الكتاب، الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لعمرو بن حزم "أَنَّ لاَ يَمِسَّ الْقُرْآنَ إِلَأ طَاهِرٌ" الموطأ 1/ 199. قال ابن عبد البر: لا خلاف في إرسال هذا الحديث، وقد روي من وجه صالح، وهو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف عند أهل العلم معرفة يُستغنى بها في شهرتها عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول، ولا يصح عليهم تلقي ما لا يصحّ. الزرقاني 2/ 7 ورواه البيهقي من طريق معمر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال: كان في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا على طهر، ورواه بإسناد آخر من طريق سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد عن أبيه عن جده موصولاً بزيادات كثيرة في الزكاة والديّات وغير ذلك ونقص عما ذكرنا. السنن الكبرى 1/ 87 - 88، ورواه البغوي من طريق أبي مصعب عن مالك. شرح السنة 2/ 47. وهو حديث صحيح ساق له الزيلعي في نصب الراية طرقاً وشواهد يتقوى بها ويصح. نصب الراية 1/ 196 - 199. درجة الحديث: صحيح. (¬2) سورة الواقعة آية 79. (¬3) في (م) المطهرين. (¬4) يريد بها قوله تعالى {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)} آية 11 - 13. (¬5) الموطأ 1/ 199 قال مالك أحسن ما سمعت في هذه الآية {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} إنما هي بمنزلة هذه الآية التي في عبس وتولى: قول الله تارك وتعالى {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)} [عبس/ 11 - 16].

تحزيب القرآن

طاهر، وأن قوله {لَا يَمَسُّهُ} خبر، وأن الخبر لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره من الله تعالى (¬1). ولكن ها هنا دقيقة يجب أن يتفطن لها الأريب وذلك أن قوله {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} خبر عن الشرع وما بيَّن فيه، وكذلك قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2) خبر عن الشرع وما بيَّن فيه، فإن وجدنا محْدِثاً يمس المصحف ووجدنا مطلَّقة لا تلتزم التربص، فلا يكون ذلك من الشرع كما قال (لَا صَلاَةَ إِلّا بِطَهُورٍ) (¬3). فلا يريد نفي الوجود لأنا نجد كثيراً ممن يصلّي وهو محدث وإنما معناه لا صلاة إلا بطهور شرعاً، فإن وجدت بغير طهور فلا تكون من الشرع، وهذا نفيس، فإنه يجتمع لك فيه سلامة الحقيقة في ذاتها من خلطها بغيرها وبقاء اللفظ على صيغته العربية التي وضع لها، وصحة التوحيد في تنزيه الله عزَّ وجلَّ عن الكذب وقرار الشريعة في نصابها بأن لا يشاركها في حكمها ما ليس منها. تحزيب القرآن: اعلموا، نوَّر الله تعالى بصائركم، أن حزب موضوع عند (¬4) العرب لجمع المفترق وضم المنتشر؛ فالحزب كل مجموع من مفترق قبله (¬5)، وإنما بوَّب مالك (¬6)، رضي الله عنه، عليه لنكتة بديعة وهي أن الله تعالى قال لرسوله، - صلى الله عليه وسلم - {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)} (¬7). ¬

_ (¬1) قال الباجي: ذهب مالك إلى تأويل هذه الآية {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} إلى أنه خبر عن اللوح المحفوظ، وذهب جماعة من أصحابنا إلى أن المراد به المصاحف التي بأيدي الناس وأنه خبر بمعنى النهي, لأن خبر الله تعالى لا يكون خلافه، وقد وجد من يمسه غير طاهر ثبت أن المراد به النهي. المنتقى شرح الموطّأ 1/ 344. (¬2) سورة البقرة آية 228. (¬3) مسلم في الطهارة باب وجوب الطهارة للصلاة 1/ 204، والبغوي في شرح السنة 1/ 329 كلاهما من رواية ابن عمر. (¬4) في (م) في لسان. (¬5) الحِزب، بالكسر، الورد والطائفة والسلاح وجماعة الناس، والأحزاب جمعه وجمع كانوا تألَّبُوا وتظاهروا على حرب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وجند الرجل وأصحابه الذين على رأيه .. وحازبوا وتحزبوا صاروا أحزاباً وقد حزبتهم تحزيباً، وحزبه الأمر نابه واشتد عليه أو ضغطه. ترتيب القاموس 1/ 631، وانظر اللسان 1/ 308. (¬6) الموطأ 1/ 200 فقال: باب ما جاء في تحزيب القرآن. (¬7) سورة القيامة آية 16 - 17.

فأخبر تعالى أن جمعه إليه، فوجب أن يوقف بذلك الإخبار عنه إليه حتى جاء قول عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، (مَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنَ الْلَّيْلِ) (¬1) فصار ذلك قدوة في الإذن في إطلاقه، وهذا كما اختلف الناس هل يجوز أن يقال حفظت القرآن لقوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (¬2)، فمن الناس من أذن فيه ومنهم من منعه لهذه الخصيصة (¬3)، وكما قال تعالى {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} (¬4)، كذلك قال (إن علينا قرآنه)، ثم يجوز إجماعاً أن يقول قرأت، كذلك يجوز أن يقول جمعت وحفظت، والمعنى واحد وليس في التحزيب أثر صحيح عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إلا ما قيل لعبد الله بن عمرو وأقرأه في شهر (¬5)، ثم انتهى التقسيم بالناس فيه إلى ستين (¬6) جزء والأمر في ذلك قريب. ¬

_ (¬1) الموطأ 1/ 200 قال يَحْيى عَنْ مَالِكٍ بنِ الحُصَيْنِ عَنِ الأعْرَجِ عَنْ عَبْدِ الْرحْمنِ بْنِ عَبْدِ الْقَارِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قالَ: (مَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنَ الْلَّيْلِ فَقَرَأة حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ إِلَى صَلاَةِ الظُّهْرِ فَإِنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ اوْ كَأَنَّهُ أَدْرَكَهُ) ورواه الإمام أحمد، انظر الفتح الرباني 18/ 29. ومسلم في كتاب المسافرين باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض 1/ 515، وفيه (فَقَرَأةُ فِيمَا بَيْنَ صلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلاَةِ الظُّهْرِ كُتِبَ لهُ كَأَنَّمَا قَرَأَةُ مِنَ الْلَّيْلِ). وأبو داود 2/ 75 - 76، والترمذي 2/ 474 - 475 وقال حسن. والنسائي 3/ 259، وابن ماجه 1/ 426 كلهم بلفظ مسلم من طريق عبد الرحمن ابن عبد القاري قال: سمعت عمر بن الخطاب. أقول: رواية الموطأ قال عنها ابن عبد البر: وهم فيها داود بن الحصين، شيخ مالك, لأن المحفوظ من حديث ابن شهاب عن السائب بن يزيد وعبيد الله عن عبد الرحمن القاري عن عمر (مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ فَقَرَأةُ مَا بَيْنَ صَلاَةِ الْفَجْر وَصَلَاةِ الظُّهُر كُتِبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَةُ مِنَ اللَّيْلَ. ومن أصحاب ابن شهاب من رفعه بسنده إلى عمر عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -. وهذا عند العلماء أوْلى بالصواب من رواية داود بن الحصين حين جعله من زوال الشمس إلى صلاة الظهر لأن ذلك وقت ضيِّق قد لا يسع الحزب .. ولأن ابن شهاب اتقن حفظاً وأثبت نقلاً .. الزرقاني 2/ 9. (¬2) سورة الحجر آية 9. (¬3) قال القرطبي: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} مِنْ أن يزاد فيه أو ينقص منه. قال قتادة وثابت البناني: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلاً أو تنقص منه حقاً، فتولى سبحانه حفظه فلم يزل محفوظاً. وقال غيره: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} فوكَّل حفظه إليهم فبدَّلوا وغيَّروا. تفسير القرطبي 10/ 5. (¬4) سورة القيامة آية 17. (¬5) متفق عليه. البخاري في الصوم باب صوم يوم وإفطار يوم 3/ 52، وفي فضائل القرآن باب في كم يقرأ القرآن 6/ 242، ومسلم في كتاب الصيام باب النهي عن صوم الدهر 2/ 812 - 814. وأبو داود 2/ 809، والنسائي 4/ 214. (¬6) كذا في جميع النسخ، ولعلها حزباً.

حديث: اختلفت قراءة عمر وهشام فجوَّز النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لكل واحد منهما قراءته وقال: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) (¬1). واختلف الناس في ذلك اختلافاً متبايناً، وقد بينَّاه في جزء مفرد، وذلك أن جبريل، عليه السلام، لما نزل على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بالقرآن نزل بحرف قال له إن أمتي لا تطيق ذلك، فنزل بحرفين ثم لم يزل يستزيده حتى بلغ السبعة (¬2)، ولم تتعين هذه السبعة بنص من النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ولا بإجماع من الصحابة. وقد اختلفت فيه الأقوال فقال ابن عباس: اللغات سبع، والسموات سبع، والأرضون سبع وعدّد السبعات، وكان معناه أُنزل بلغة العرب كلها (¬3)، وقيل هذه الأحرف في لغة واحدة، وقيل هي تبديل الكلمات إذا استوى المعنى كقوله: هَلُمّ وَتَعَالَ (¬4). وكما ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في كتاب فضائل القرآن باب أُنْزل القرآن على سبعة أحرف 6/ 227. ومسلم في فضائل القرآن باب بيان أن القرآن أُنزل على سبعة أحرف وبيان معناه 1/ 560، وأبو داود 2/ 158 - 159، والترمذي 5/ 193 - 194، والنسائي 2/ 150، والموطّأ 1/ 201، والشافعي الرسالة ص 273، والطيالسي ص 9، وأحمد 1/ 24 - 40 - 42، والطبري 1/ 15 وشرح السنة 4/ 502، كلهم عن عبد الرحمن بن عبد القاري عن عمر. (¬2) متفق عليه. البخاري في كتاب فضائل القرآن باب أُنزل القرآن على سبعة أحرف 6/ 227، ومسلم في فضائل القرآن باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه 1/ 561 عندهما من حديث ابن عباس. قال الحافظ، معقباً على رواية ابن عباس عند البخاري: هذا مما لم يصرح ابن عباس بسماعه له من النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وكأنه سمعه من أبي بن كعب؛ فقد أخرج النسائي من طريق عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبيّ نحوه والحديث مشهور عن أبيّ. أخرجه مسلم وغيره. فتح الباري 9/ 24، وانظر سنن النسائي 2/ 153. (¬3) نقل هذا القول أبو شامة في المرشد الوجيز في علوم تتعلق بالكتاب العزيز ص 97، وعزاه لابن العربي في القبس. (¬4) رواه أحمد في المسند (عَنْ أبي بَكْرَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، قَالَ: يَا مُحَمَّدَ إِقْرأْ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ قَالَ مِيكَائِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: اسْتَزِدْهُ فَاسْتَزَاده، قَالَ فَاقْرأهُ عَلَى حَرْفَيْنِ .. كُلُّ شَافٍ كَافٍ مَا لَمْ تَخْتُمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ وَآيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ نَحْوَ قَوْلِكَ تعَالَ وَأقبلْ وَهَلُمَّ وَاذْهَبْ وَاسْرعْ أو عَجِّلْ. الفتح الرباني 18/ 50، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد والطبراني بنحوه، إلا أنه قال: وَاذْهَبْ وأدْبِرْ، وفيه علي بن زيد ابن جدعان، وهو سيء الحفظ وقد توبع, وبقية رجال أحمد رجال الصحيح مجمع الزوائد 7/ 151. أقول علي بن زيد بن جدعان قال فيه الحافظ ضعيف من الرابعة مات سنة 131 وقيل قبلها/ بخ م ع. ت 2/ 37، وأنظر ت ت 7/ 322 - 324، وقال السيوطي في الاتقان 1/ 167: سنده جيد وقال: وإلى =

روي عن ابن مسعود كالصوف المنفوش (¬1). وقيل أن يجعل بدل (¬2) غفوراً رحيماً، وبدل عليماً (¬3) حكيماً، ما لم يختم آية رحمة بعذاب وآية عذاب برحمة (¬4)، والذي يتحصل من هذه المسألة على عظيم الاختلاف فيها أمران. أما أحدهما فسقوط جميع اللغات وجميع القراءات إلا ما ثبت في المصحف بإجماع من الصحابة، وأن ما كان أذن فيه قبل ذلك ارتفع وذهب (¬5). (جَاءَ حُذَيفَةُ بْنُ الْيَمَانِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكِ النَّاسَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا في الْقُرْآنِ ¬

_ = هذا ذهب سفيان ابن عيينة وابن جرير وابن وهب وخلائق ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء ورواه البغوي في شرح السنة 4/ 509 - 510. أقول تجويد السيوطي لاسناد الحديث فيه عندي نظر فهو ضعيف لضعف علي ابن زيد. (¬1) قال الحافظ في الفتح 9/ 29: السابع ما يتغير بإبدال كلمة بكلمة ترادفها مثل العهن المنفوش، في قراءة ابن مسعود وسعيد بن جبير كالصوف المنفوش، وهذا وجه حسن لكن استبعده قاسم بن ثابت في الدلائل ثم قال: لكون الرخصة في القراءات إنما وقعت وأكثرهم يومئذ لا يكتب ولا يعرف الرسم، وإنما كانوا يعرفون الحروف بمخارجها. وانظر المرشد الوجيز لأبي شامة ص 95. (¬2) في (م) مكان. (¬3) في (م) كريماً. (¬4) أبو داود 2/ 160، والبغوي في شرح السنة 4/ 510، من حديث أبيّ وإسناده حسن، وله شاهد من حديث أبي هُرَيْرَة عند أحمد 2/ 332 - 440، وابن جرير 1/ 22 من حديث (أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: "أُنْزِلَ الْقرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أحْرُفٍ عَلِيمٍ حَكِيمٍ غَفُورٍ رَحِيمٍ" قال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 151: ورجال أحد روايتَيْ أحمد رجال الصحيح، ورواه البزار بنحوه. درجة الحديث: صحّح الشيخ أحمد شاكر رواية أبي هريرة عند الطبري. انظر تفسير الطبري 1/ 46 وعليه يرتقي بذلك إلى الصحة، والله أعلم. (¬5) أقول: ما ذهب إليه الشارح هو الذي ذهب إليه قبله البغوي؛ فقد قال: جمع الله تعالى الأُمة بحسن اختيار الصحابة على مصحف واحد، وهو آخر العرضات على رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -. كان أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، أمر بكتبه جمعاً بعد ما كان مفرقاً في الرقاع ليكون أصلاً للمسلمين يرجعون إليه ويعتمدون عليه، وأمر عثمان بنسخه من المصاحف وجمع القوم عليه وأمر بتمزيق ما سواه قطعاً لمادة الخلاف، فكان ما يخالف الخط المتفق عليه في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ، ورفع منه باتفاق الصحابة والمكتوب بين اللوحين هو المحفوظ من الله عَزَّ وَجَلَّ للعباد، وهو الإمام فليس لأحد أن يعدو في اللفظ إلى ما هو خارج من رسم الكتابة والسواد، شرح السنة 4/ 511. وانظر تفسير الطبري جامع البيان 1/ 21 - 67، والفتح الرباني 9/ 23، وما بعدها، والنشر في القراءات العشر 1/ 18 - 53، وأبو شامة في المرشد الوجيز ص 144، والإبانة في معاني القراءات ص 22.

كَمَا اخْتَلَفَ الْيهُودُ وَالنَّصَارَى في التَّوْرَاةِ وَالإِنْجيلِ) (¬1) فاجتمعت الصحابة، رضي الله عنهم، على ما في المصحف وسقط ما وراءه، وتمم الله علينا هذه النعمة بما ضمن من حفظ كتابه للأمة حين قال تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (¬2)، وذهبت كل صحيفة كانت في الأرض سواه حتى أن ابن مسعود كان، رضي الله عنه، يذكره ذلك وقال: يا أيها الناس إني غالٌّ مصحفي فمن استطاع منكم أن يغلَّ مصحفه فليفعل (¬3) فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬4) فما بقي منها على الأرض حرف. الثاني: أن القراءة لكل أحد إنما تكون (¬5) بقدر استطاعته؛ فمن كانت ياؤه جيماً، أو كافه شيناً، أو لامه ميماً فإنه يجوز له أن يقرأ بذلك، وهذا هو المقدار الذي تفتقرون إِليه، وما سواه، مستراح منه. فإن قيل: فما تقولون في هذه القراءات السبع التي أُلِّفَتْ فيها الكتب؟. قلنا: إنما أرسل أمير المؤمنين المصاحف إلى الأمصار الخمسة (¬6) بعد أن كتبت بلغة قريش، فإن القرآن إنما نزل بلغتها، ثم أذن رحمة من الله تعالى لكل طائفة من العرب أن تقرأ بلغتها على قدر استطاعتها، فلما صارت المصاحف في الآفاق غير مضبوطة بنقط ولا معجمة بضبط قرأها الناس فما أنفذوه نفذ، وما احتمل الوجهين طلبوا فيه السماع حتى وجدوه، فلما أراد بعضهم أن يجمع ما شذَّ عن خط المصحف من الضبط جمعه على سبعة أوجه (¬7) اقتداء بقوله - صلى الله عليه وسلم - "أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ". وليست هذه الروايات بأصل في التعيين بل ربما خرج عنها ما هو مثلها، أو فوقها، كحروف أبي جعفر (¬8) المدني فإنها فوق حروف عبد الله (¬9) بن كثير المكي, لأنه أشهر منه ¬

_ (¬1) البخاري في فضائل القرآن باب جمع القرآن 6/ 226، والبغوي في شرح السنة 4/ 519 - 521، والمصاحف لابن أبي داود ص 18 - 19، والمرشد الوجيز لأبي شامة ص 49 - 50، كلهم من حديث أنس. (¬2) سورة الحجر آية 9. (¬3) المصاحف لابن أبي داود ص 15 - 16. (¬4) سورة آل عمران آية 161. (¬5) في (م) إنما هي. (¬6) انظر فتح الباري 9/ 31 - 32. (¬7) في (م) أحرف. (¬8) أبو جعفر القاري المدني المخزومي مولاهم، اسمه يزيد بن القعقاع، وقيل جندب ابن صيرور، وقيل فيروز، ثقة من الرابعة. مات سنة 127 وقيل 130 هـ، ت 2/ 406 وت ت 12/ 58، والنشر في القراءات العشر 1/ 178، والإقناع في القراءات السبع 8/ 73. (¬9) عبد الله بن كثير، أبو معبد، إمام أهل مكة في القراءة .. أخذ القراءة عرضاً عن مجاهد ابن جبر ودرباس =

وأعلم وأقرأ، وأمثاله من قراء الأمصار. حديث: كَيْفَ يَأتِيكَ الْوَحْيُ: كان الوحي (¬1) يأتي رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، على ثلاثة أنواع: أحدها: كَدَوِيّ النَّحْلِ، ورواه عمر، رضي (¬2) الله عنه. الثاني: في مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ في شدة الصوت وَهُوَ أَشَدُّهُ. وقد كان يأتيه رجل فيكلمه (¬3) وهو أخفه، وإنما كان الباري سبحانه يقلِّب عليه هذه الأحوال زيادة في الاعتبار وقوة في الاستبصار. حديث قوله (أُنْزِلَتْ {عَبَسَ وَتَوَلَىّ} في عَبْدِ الله بن أمِّ مَكْتُومٍ) (¬4) أشار مالك، ¬

_ مولى ابن عباس، وعنه جرير بن أبي حازم وأبو عمرو بن العلاء. الجرح والتعديل 2/ 2/ 144، غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 443. (¬1) الموطّأ 1/ 202. (¬2) رواه الترمذي 5/ 326، وعزاه المزي في تحفة الأشراف إلى النسائي في سننه الكبرى وقال: هذا حديث منكر لا نعلم أحداً رواه غير يونس بن سليم، ويونس لا نعرفه. تحفة الأشراف 8/ 83، والحاكم في المستدرك 2/ 392، وقال: صحيح وأقره الذهبي. وأحمد، انظر الفتح الرباني 18/ 214، وأورده ابن كثير في تفسيره، انظر مختصر الصابوني له 2/ 558. والحديث فيه يونس بن سليم، قال عنه الحافظ: مجهول من التاسعة ت 2/ 385، وانظر ت ت 11/ 439، والكاشف 3/ 304، والعقيلي في الضعفاء 4/ 460، الميزان 4/ 481. درجة الحديث: ضعيف. (¬3) متفق عليه، البخاري في كتاب بدء الوحي 1/ 2، ومسلم في الفضائل باب عرق النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في البرد حين يأتيه الوحي 4/ 1816 - 1817 كلاهما عن عائشة، وفيه قوله: (أحْيَاناً يَأتِيني مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وهوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ .. وَأَحْيَاناً يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ). وقال الحافظ: أما دويّ النحل فلا يعارض صلصلة الجرس لإسماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين، كما في حديث عمر يسمع عنده كدوي النحل، وصلصلة الجرس بالنسبة إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فشبِّهه عمر بدوي النحل، بالنسبة إلى السامعين، وشبَّهه هو - صلى الله عليه وسلم - بصلصلة الجرس بالنسبه إلى مقامه. فتح الباري 1/ 19. (¬4) الموطّأ 1/ 203 (عنْ هِشَام بْنِ عُرْوَةَ عن أبِيهِ أنّهُ قَالَ: أنْزِلَت {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} في عبد الله). قال الزرقاني: لم يختلف الرواة عن مالك في إرساله. شرح الزرقاني 2/ 15. ورواه الترمذي عن سعيد بن يحيى الأموي عن أبيه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. سنن الترمذي 5/ 432، وقال حديث غريب، وقال: وروى بعضهم هذا الحديث عن هشام بن عروة عن أبيه ولم يذكر عائشة. أقول: ورد في متن النسخة التي عليها شرح المباركفوري حسن غريب ولعلها هي الصواب، فقد نقل الحافظ في الفتح 8/ 692 ذلك، وانظر تحفة الأحوذي 9/ 251، ورواه ابن حبان عن الحسن بن سفيان عن =

رضي الله عنه، به وبالحديث الذي بعده إلى تحصيل علم من علوم القرآن وهو معرفه أسباب نزول الآية (¬1) والسور، فإن معرفة (¬2) الأسباب (¬3) معينة على درك التأويل. حديث أبي سعيد الخدري (يَخْرُجُ فَيكُمْ قَوْمٌ تَحْقُرُونَ (¬4) صَلَاتَكُمْ) (¬5)، الحديث إلى آخره، وفي الحديث معجزة للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، بإنذاره بما يأتي، وفيه دليل لمن يرى أن البدع لا تذهب الإيمان ولا يكفر صاحبها. وقد اختلف الناس في تكفير المتأوِّلين، وهم الذين لا يقصدون الكفر وإنما يطلبون الإيمان فيخرجون إلى الكفر والعلم فيؤوّل بهم إلى الجهل، وهي مسألة عظيمة تتعارض فيها الأدلة، ولقد نظرتُ فيها مرة فتارة أكفر وتارة أتوقف إلا فيمن يقول إن القرآن مخلوق، أو أن مع الله خالقاً سواه، فلا يدركني فيه ريب ولا أبقي له شيئاً من الإيمان (¬6). حديث (مَكَثَ ابنُ عُمَرَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ يَتَعَلَّمُهَا) (¬7) أراد به مالك، ¬

_ = عبد الله بن عمر الجعفي عن عبد الرحيم بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. موارد الظمآن ص 438. ورواه الحاكم في المستدرك 2/ 514 من طريق الحسين بن محمد بن زياد عن يحيى بن سعيد الأموي عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة .. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، فقد أرسله جماعة عن هشام بن عروة وصوَّب الذهبي إرساله، وقال السيوطي في الدر المنثور 5/ 386: أخرجه الترمذي وحسّنه وابن المنذر وابن حبان والحاكم وصحّحه وابن مردويه. ورواه ابن جرير 3/ 32، وقال ابن عبد البر: أسند هذا الحديث من لا يوثق بحفظه، وهي قصة مشهورة عند أهل السير والتفسير. التقصي ص 201. درجة الحديث: رجح الذهبي وابن عبد البر وقفه. (¬1) في (ك) و (م) الآيات. (¬2) في (م) معرفته. (¬3) في (ك) أسباب النزول. (¬4) متفق عليه، البخاري في فضائل القرآن باب من راءى بقراءة القرآن 6/ 244 من طريق مالك، ومسلم في كتاب الزكاة باب ذكر الخوارج وصفاتهم 2/ 744 وفيه (تَحْقُرُونَ صلَاتَكُمْ مَعْ صلَاِتهِمُ وَصِيَامَكُمْ مَعْ صِيَامِهِمْ وَعِلْمَكُمْ مَعْ عِلْمِهِمْ يَقْرَؤُونَ الْقرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرِقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرِقُ السهْمُ مِنَ الرَّحِيَّةِ). (¬5) قال الباجي: أجمع العلماء على أن المراد بهذا الحديث الخوارج الذين قاتلهم علي. شرح الزرقاني 2/ 19، وقال ابن كثير: المذكورون في حديث أبي سعيد هم الخوارج، وهم الذين لا يجاوز إيمانهم حناجرهم. فضائل القرآن لابن كثير بهامش التفسير له 4/ 50 (¬6) قال في شرح العقيدة الطحاوية ص 357: قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال: بخلق القرآن، وانظر الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص 186، وأصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 3/ 378 وما بعدها. (¬7) الموطأ 1/ 205 (عَنْ مَالِكٍ أنَّهُ بَلَغهُ أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ مَكَثَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثَمَانِيَ سِنِينَ). وقد ذكر =

رضي الله عنه، أن يبيِّن مسألةً اختلف الناس فيها وهي إذا قرأ القرآن هل يقرؤه كذلك ذكراً باللسان دون تتبع بالبيان، أم لا يرحل عن آية حتى يحكمها ذكراً ودراية. فنبّه مالك، رضي الله عنه، على ذلك بفعل ابن عمر، رضي الله عنهما، في سورة البقرة وقد قال الله تعالى {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} (¬1). قالوا: يذكر الحرف ويعلم معناه ويعمل به فهذا هو حق التلاوة. وقالوا أيضاً في قوله تعالى {لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} (¬2): معناه ليس عندهم من القرآن إلا الذكر خاصة باللسان، وأعظم ما يلقى به العبد ربّه يوم القيامة قرآن جمع ولم يعمل به، وقد قال أبو هُرَيْرَة، رضي الله عنه، عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، (يُؤْتَى بِالْقَارِىءِ فَيُقَالُ لَهُ مَاذَا عَمِلْتَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْت الْقُرْآنَ فِيكَ. فَيَقُولُ الله لَهُ: كَذِبْتَ، وَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: كَذِبْتَ بَلْ أرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ قارئ فَقَدْ قِيلَ) (¬3). حديث {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} تعدل ثلث القرآن (¬4) قد تقدم، وقوله ({تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} تُجَادِلُ عَنْ صَاحِبِهَا) (¬5) زاد فيه في الصحيح (وَهِيَ ثَلَاثُونَ آيَةً) (¬6)، ومعنى ¬

_ السيوطي والزرقاني أنه وصله ابن سعد في الطبقات عن عبد الله بن جعفر عن أبي المليح عن ميمون بن مهران. تنوير الحوالك 1/ 209، وشرح الزرقاني 2/ 19، وقد راجعت في ترجمة كل هذا الإسناد في المطبوع من طبقات ابن سعد ولم يسق هذا الأثر في ترجمة أحد منهم ولعله في الذي لم يُطبع من الطبقات. درجة هذا الأثر: صحيح من خلال الإسناد الذي ذكره السيوطي والزرقاني. (¬1) سورة البقرة آية 121. (¬2) سورة البقرة آية 78. (¬3) مسلم في كتاب الإمارة باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار 3/ 1513 - 1514، والترمذي 4/ 591 - 593، والنسائي 6/ 23 - 24. (¬4) البخاري في كتاب فضائل القرآن باب فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} 6/ 233 من حديث أبي سعيد، والحديث عده السيوطي متواتراً، وكذلك المنّاوي والكتّاني. انظر الأزهار المتناثرة للسيوطي 215، وفيض القدير للمنّاوي 4/ 520، ونظم المتناثر للكتاني 112. (¬5) قال الزرقاني: هذا لا يؤخذ بالرأي بل بالتوقيف، وقال: وقد أخرج ابن مردويه والطبراني عن أنس مرفوعاً سورة من القرآن خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}. شرح الزرقاني 2/ 25. أما رواية الطبراني فقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 127: رجاله رجال الصحيح. درجة الحديث: ضعيف لأن حميد بن عبد الرحمن لم يلق الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن يتقوّى بحديث أنس السابق، وبحديث أبي هُرَيْرَة الآتي فيرتقي إلى درجة الحسن. (¬6) أقول لعل الشارح هنا أطلق الصحيح على أحد كتب السنن، فقد أخرجه أبو داود 2/ 119 - 120، والترمذي 5/ 164، وقال حسن، ولم يعزه ابن الأثير لأحد من أصحاب السنن إلا لهما. جامع الأصول 9/ 364، وابن ماجه 2/ 1244 وأحمد في المسند. انظر الفتح الرباني 18/ 315، والحاكم في المستدرك 1/ 565 وقال: =

تجادل تدافع عنه بالحجة، يعني لمن أراده من الملائكة بالعذاب، وقد روي عن عبد الله ابن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال (إِذَا وُضِعَ الرَّجُلُ في قَبْرِهِ أُتِيَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْهِ فَتَمْنَعُ مِنْهُ سُورَةُ الْمُلْكِ، وُيؤْتَى مِنْ قِبَلِ بَطنِهِ فَتَمْنَعُ مِنْهُ سُورَةُ الْمُلْكِ، وُيؤْتَى مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ فَتَمْنَعُ مِنُهُ) (¬1) كأنه يقول والله أعلم: تقول الرجلان علي كان يقوم بها، وتقول البطن فيَّ وعائها، ويقول الرأس فيَّ كان يتلوها. وهذه خصيصة جعلها الله تعالى فيها لما تضمَّنت من المعاني في التوحيد، فإنها مجردة للتوحيد ليس فيها حكم، والتوحيد موجب للنعيم منجٍ من العذاب المقيم، ولذلك لما سمع النبي، - صلى الله عليه وسلم -، رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} قال: (وُجِبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) (¬2). ¬

_ = صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والبغوي في شرح السنة 4/ 473، وابن حبان. انظر موارد الظمآن ص 438، كلهم عن أبي هُرَيْرَة. أقول: الحديث فيه عباس الجُشَمي، بضم الجيم وفتح المعجمة، يقال اسم أبيه عبد الله، مقبول من الثالثة/ع ت 1/ 400 وقال في ت ت 5/ 135: روى عن عثمان وأبي هُرَيْرَة، وعنه قتادة وسعيد الجريري. ذكره ابن حبان في الثقات خرَّجوا له حديثاً واحداً في فضل سورة تبارك. درجة الحديث: ضعيف. (¬1) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 128 وعزاه للطبراني، وقال فيه عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه ضعيف، وبقية رجاله رجال الصحيح. أقول: عاصم قال عنه الحافظ صدوق له أوهام، حجة في القراءة، وحديثه في الصحيحين مقرون من السادسة. ت 1/ 383 وقال في ت ت 5/ 39: وثقه ابن سعد وأحمد والعجلي وأبو زرعة وابن معين وابن حبان، وقال الذهبي في الميزان 2/ 357: هو حسن الحديث. درجة الحديث: أرى أنه حسن لتحسين الذهبي لحديث عاصم، والله أعلم. (¬2) الموطّأ 1/ 208، والترمذي 5/ 167 - 168 وقال حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك بن أنس والنسائي 2/ 171، والحاكم في المستدرك 1/ 566 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وكذا قال الذهبي: يقول أبو هريرة (أقبَلْت مَعَ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، فَسَمِعَ رَجُلاً يَقْرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} فَقَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: وَجَبَتْ ..) درجة الحديث: صحيح.

باب ذكر الله تعالى

باب ذكر الله تعالى حديث أبي هريرة (مَن قَالَ لَا إِلهَ إلاَّ الله) (¬1) إلى آخره. هذا أفضل كلام قاله النبي، - صلى الله عليه وسلم -، والنبيون من قبله، وإنما كان أفضل بما جمع من المعنى، وذلك لأن قوله لا إِله إلا الله نفيٌ لكل إلهٍ سواه بجميع المعاني وقوله (وَحْدَهُ) تأكيد للنفي من كل وجه، وقوله (لَا شَريكَ لَهُ) إشارة إلى نفي أن يكون هو جعله معيناً أو ظهيراً كما كانت العرب تقول (لَبيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلاَّ شَرِيكاً هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَك) (¬2) وقوله (لَهُ المُلْكُ) بيان أن له الخلق والتصريف والتكليف والهداية والإِخلال والثواب والعقاب، والملك عبارة عما يتصرف في المخلوقات من القضايا والتدبيرات، وقوله (وَلَهُ الحَمْدُ) بيان بأن الخير بوجود ذلك كله راجع إليه والثناء فيه عائد عليه، وقوله (وَهُوَ عَلَى كُلٍّ شَيْءٍ قَدِيرٍ) بيان لأن قدرته ليست فيما ظهر خاصة بل هو قادر على ما ظهر وما لم يظهر وعلى ما وجد وعلى ما لم يوجد. وأما ما ورد من مغفرة. الذنوب ومحو الخطايا بهذه الأذكار فقد تقدم، لكنا نجدّد به عهداً لما طرأ ها هنا من الزيادة وهي قوله (غُفِرَت لَهُ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثُل زَبَدِ الْبَحْرِ). إعلموا، وفقكم الله تعالى، أن غفران السيئات يكون بثلاثة أوجه: الأول: إما بفضل الله ورحمته ابتداء كقوله في الحديث (يَقْولُ لَهْ: عَبْدِي أتَذْكرُ يَوْمَ كَذَا إذْ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا حَتَّى إذَا رَأَى الرَّجُلَ أَنْ قَدْ هَلَك يَقُولُ أَنَا سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدَّنْيَا وَأَنَا ¬

_ (¬1) الموطأ 1/ 209، والبخاري كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس وجنوده 4/ 153، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب فضل التهليل والتسبح والدعاء 4/ 2071، ولفظه (مَنْ قَالَ لاَ إلهَ إلاَّ الله وحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْك ولَهُ الْحَمْدُ ؤهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير في يَوْمٍ مائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رقَابٍ وَكُتبَ لَهُ مَائَة حَسَنَةٍ وَمُحيَتْ عَنْهُ مائَةُ سَيئة وَكانَتْ لَهُ حِرْزاً مِنَ الشَّيْطَانِ). (¬2) ورد ذلك من حديث أنس قال: (كَانَ النَّاسُ بَعْدَ إسْمَاعِيلَ عَلَى الْإسْلاَمِ فَكَانَ الشَّيْطَانُ يُحَدِّثُ النَّاسَ بالشَّيْء يُريدُ أنْ يَرُدَّهُمْ عَنِ الْإسْلاَمِ حَتْى أَدْخَل عَلَيْهِمْ في التلْبِيةِ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ .. فمَا زَال حَتَّى أَخْرَجَهُمْ مِنَ الإسْلَام إلى الشِّرْكِ)، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 3/ 223، وانظر كشف الأستار 2/ 15. درجة الحديث: صححه الهيثمي.

أغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) (¬1). الثاني: بالموازنة توضع صحائف الحسنات في كفة الحسنات، وتوضع صحائف السيئات في كفة السيئات، ثم يخلق الله تعالى فيها الثقل (بحسب) (¬2) ما يعلم من إخلاص (العبد) (¬3) بالطاعة وإصراره على المعصية وندمه على الذنب أو جرأته وحرصه على الخير أو كسله (¬4). والثالث: إذا دخل النار يأخذ منه بها ما شاء من الاقتصاص، وما يغفره أكثر مما يأخذه. و (¬5) إما أن تكون هذه الأذكار عائدة لفضل الله تعالى فتلحقه بالقسم الأول، وإما بالموازنة، وإما بالشفاعة حديث أبي الدرداء جعل فيه ذكر الله أفضل من الجهاد (¬6). ¬

_ (¬1) البخاري في المظالم باب قول الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} 3/ 168 وانظر جواهر البخاري ص 273/ - 274، وأحمد في المسند 2/ 74 و 105 كلهم من حديث ابن عمر. (¬2) ليست في (م) ولا (ك). (¬3) في (م) صاحبها. (¬4) يدل لقول الشارح هذا حديث عبد الله بن عمرو الذي رواه الإمام أحمد في المسند 2/ 221 - 222 قال: (قَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ فَيُوضَعُ في كَفَّةٍ فَيوضَع مَا أحْصِيَ عَلَيْهِ فَيَتَمَايَلُ الْمِيزَانُ قَالَ: فَيُبْعَث بِهِ إلَى النَّارِ، فَإذَا أُدْبِرَ بِهِ إِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ مِنْ عَنْدِ الْرَّحْمنِ يَقولُ لاَ تَعْجِلُوا فَإنَّهُ قَدْ بَقِيَ لَه، فَيُؤْتَى بِبِطَاقَةٍ فيهَا {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} فَتُوضَعُ مَعَ الرَّجُلِ في كَفَّةٍ حَتَّى يَمِيلَ بِهِ الْمِيزَانُ) وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 82، وقال: وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن. أقول: الحديث فيه عبد الله بن لهيعة صدوق من السابعة، خلط بعد احتراق كتبه، ورواية عبد الله بن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرها، وله في مسلم بعض شيء مقرون. مات سنة 174 هـ وقد ناف على الثمانين/ م د ت ق. ت 1/ 444 وقال في ت ت: قال أبو داود عن أحمد، ومن كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه واتقانه ت ت 5/ 373. درجة الحديث: قال فيه الهيثمي فيه ابن لهيعة وحديثه حسن وبقية رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 10/ 82 وذلك الأَوْلى عندي لأن ابن لهيعة وإن كان مدلِّساً فقد صرح هنا بالتحديث فالحديث حسن. (¬5) في (م) فاما. (¬6) الموطأ 1/ 211 مالك عن زياد بن أبي زياد أنه قال: قال أبو الدرداء: ألا أخبركم بخير أعمالكم. أقول الحديث ورد موقوفاً ومنقطعاً في الموطأ وأخرجه الترمذي عن زياد بن أبي بحرية عبد الله بن قيس عن أبي الدرداء مرفوعاً. الترمذي 5/ 458 وقال غريب إنما نعرفه من حديث دراج وابن ماجه 2/ 1245، والحاكم في المستدرك 1/ 496 من طريق زياد بن أبي زياد مولى ابن عياش وأبي بحيرة عن أبي الدرداء وقال الحاكم صحيح الإسناد ووافقه الذهبي ووقع عند الحاكم عن زياد بن أبي زياد وأبي بحيرة والظاهر أن الوار في رواية الحاكم سهو من النساخ بدل لفظه عن كما يدل عليه رواية الترمذي ولأن زياد لم يرو عن أبي الدرداء لأن =

والمفاضلة بين الأعمال قد بيَّنَّا تحقيقها في غير ما موضع، فقد تُفضل الأعمالُ الأعمالَ بذواتها كالتوحيد يفضل سائر الطاعات بذاته، وقد تفضل الأَعمالُ الأَعمالَ بثوابها كما جعل ثواب الصلاة أكثر من ثواب الصيام، والذكر أفضل الأَعمال لأنه توحيد وعمل؛ وقد ورد في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه بمنزلة الحصن الذي يعتصم فيه من العدو، وكذلك يعتصم به من الشيطان والنار، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه مشى يوماً مع أصحابه حتى وقف على الجبل (¬1) فقال: هذَا جُمْدَانُ (¬2) سِيرُوا سَبُقَ المُفْرِدونَ، قِيلَ: يَا رَسُولَ الله مَنْ هُمُ؟ قَالَ: الَّذِينَ اهْتَزُّوا بِذِكْرِ الله يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أوْزَارَهُمْ (¬3). قوله: (الْمُفْرِدُونَ) يعني الذين أفردوا الله بالوجود الحقيقي، وبعموم العلم والقدرة، وبعموم الخلق فلا خالق سواه، وباختصاص الإِرادة يفعل ما يشاء. وبأن المرجع إليه، ومعناه: لم يروا إلا الله وكأنه يريد من الموحدين به الذين يروا الله واحداً فرداً. قوله: (الَّذِينُ اهْتَزُّوا بِذِكْرِ الله) يعني الذين غلب عليهم الذكر في الأقوال، والطاعة في الأعمال حتى يكونوا كما روي عن الحسن البصري أنه قال (أدْرَكْتُ قَوْماً لَوْ رَأيْتُمُوهُمْ لَقُلْتُمْ مَجَانِينَ وَلَوْ رَأوْكُمْ لَقَالُوا فُسَّاقٌ) (¬4). وغلطتْ هاهنا الصوفية فقالوا (¬5): إن المراد به الذكر الدائم باللسان من غير فتور حتى إذا رآه الرجل قال هذا مجنون (¬6)، وليس كذلك إنما المراد به الذي ليس له عمل إلا الله تعالى؛ إن صلّى وصام فللَّه تعالى، وإن ¬

_ = بينهما أكثر من مائة سنة. والحديث أورده النووي في رياض الصالحين ص 543. وأخرجه أحمد في المسند 6/ 447، والبغوي في شرح السنة 5/ 15. درجة الحديث: حسنه البغوي في شرح السنة وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وكذلك شعيب الارناؤوطي في تعليقه على رياض الصالحين وشرح السنة. (¬1) في (م) جبل، وكذلك لفظ مسلم. (¬2) جُمدان، بضم أوله وبالدال المهملة، على بناء فعلان جبل بالحجاز بين قديد وعسفان من منازل بني سُليم. معجم ما استعجم 1/ 391. (¬3) مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب الحث على ذكر الله 4/ 2062 والترمذي 5/ 577 وقال حسن غريب كلاهما عن أبي هُرَيْرَة، والحاكم في المستدرك 1/ 495 وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وفات عليه أنه في صحيح مسلم، وأشار الذهبي إلى أنه في البخاري ومسلم، ولم أطلع عليه إلا في مسلم. (¬4) حلية الأولياء 2/ 134. (¬5) في (م) فقالت. (¬6) لم أطلع على هذا القول للصوفية.

جلس فيقول أجمُّ نفسي للطاعة فهذه طاعة (¬1)، وإن وطئ وطئ ليعصمَ نفسَه وأهلَه، فهذه طاعة، وإن تطيَّب يقول (¬2): أتطيب اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنفعة للجليس، وترفيعاً للملائكة فلا يكون له عمل حتى في النوم إلا وهو لله تعالى، فهذا هو الذاكر الشاكر. ¬

_ (¬1) في (ك) و (م) بزيادة وهي: إن أكل أكل ليتقوى على عبادة الله فهذه عبادة. (¬2) في (م) قال.

باب الدعاء

باب الدعاء (الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ) (¬1) ولا أحد أحب إليه السؤال من الله تعالى، وقد اختلفت شيوخ الصوفية في الدعاء أفضل أم الذكر المجرد (¬2). فمنهم من قال: الذكر المجرد أفضل لقوله تعالى: (مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِيي السَّائِلِينَ) (¬3) وقد قيل في كريم المخلوقين: إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرُّضه الثناء (¬4) فكيف برب العالمين. قالوا لأن في الدعاء تحكماً بأن يقِول أفعل .. لي وهو الفاعل لما يشاء، وهذا كله معلوم، إلا أنه قد قال تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (¬5). الآية، وقال {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬6)، وقال ربنا (هَلْ مُنْ دَاعٍ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي 5/ 456 وقال حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة، والحديث من رواية انس. أقول: الحديث ضعيف, لأن فيه الوليد بن مسلم، قال عنه الحافظ ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية من التاسعة، مات آخر سنة 194 أو أول 195/ع. ت 2/ 336 وانظر ت ت 11/ 151 كما أن فيه ابن لهيعة عنعنه وهو مدلس، وقد تقدمت ترجمته ص 408. والحديث أورده الشيخ ناصر في ضعيف الجامع الصغير 3/ 158 وضعفه وهو كما قال. (¬2) في (م) أيهما أفضل الدعاء أم الذكر المجرد. (¬3) رواه الترمذي وقال حسن غريب، سنن الترمذي 5/ 184 وفي شرح المباركفوري 8/ 244 حسن صحيح غريب والظاهر أنه غير صواب لما يأتي. ورواه الدارمي 2/ 441 كلاهما عن أبي سعيد الخدري. أقول: الحديث فيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمْداني بالسكون، أبو الحسن الكوفي، نزيل واسط ضعيف من التاسعة. ت 2/ 154 وانظر ت ت 9/ 120 وقال الذهبي في الميزان 3/ 514 بعد نقل ترجمته: ونقل هذا الحديث من روايته، حسّنه الترمذي ولم يحسن. وفيه أيضاً عطية بن سعد بن جُنادة، بضم الجيم بعدها نون خفيفة، العوفي الجدلي الكوفي أبو الحسن، صدوق يخطئ كثيراً، كان شيعياً مدلساً من الثالثة. مات سنة 111/ بخ د ت ق ت 2/ 24. وانظر ت ت 7/ 224، والمجروحين 2/ 176. درجة الحديث: ضعيف. (¬4) البيت لأمية بن أبي الصلت، انظر ديوانه ص 334 وذكره ابن عبد البر في التمهيد 6/ 45. (¬5) سورة البقرة آية 186. (¬6) سورة غافر آية 60.

فَأسْتَجِيبُ لَهُ) (¬1)، وإن الباري تعالى يحب السؤال ويعطي عليه جزيل الثواب ومن الغريب فيَ ذلك أن الدعاء المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من الذكر المأثور. قوله: (مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتي) معناه أن العبد ليس في كل حالة يدعو تارة وتارة يذكر، وإذا دعاه استجاب له، وإذا ذكره أعطاه أفضل مما سأله؛ فهو الكريم في الحالين. وقولهم: إن في الدعاء تحكماً؛ فإنما كان يكون ذلك لو كان أمراً وإنما هو طلب وتضرّع وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، منبهاً على هذه الدقيقة (لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ الْلَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، الْلَّهُمَّ ارْحَمْني إِنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ الْمَسْألَةَ (¬2)) (¬3). ومن آداب الداعي أن لا يستبطىء الإجابة ففي الخبر الصحيح (إنَّ الدَّاعِي بَيْنَ ثَلَاثٍ إمَّا أنْ يُعْطَى مَا سَألَ، وَإِمَّا أنْ يُعْطَى خَيْراً مِنْهُ، وَإِمَّا أنْ يُدَّخَرَ لَهْ في الآخِرَةِ) (¬4)، وفي الأحاديث المنثورة أن الباري تعالى يؤخر إجابة المؤمن حباً في ذكره، ويعجل إجابة الكافر بغضاً في قوله (¬5). ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في كتاب للتوحيد باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} 9/ 115، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين باب الترغيب في الذكر والدعاء آخر الليل 1/ 522، والموطّأ 1/ 214، وأحمد 2/ 504 كلهم عن أبي هُرَيْرة. (¬2) متفق عليه. البخاري في كتاب الدعوات باب ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له 8/ 92، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب ليعزم بالدعاء ولا يقل إن شئتَ 4/ 2063، ومالك في الموطأ 1/ 213، وأبو داود 2/ 77 كلهم عن أبي هُرَيْرَة. (¬3) في (م) زيادة: فلا مكره له. (¬4) الموطّأ 1/ 217 (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أنَّهُ كَانَ يَقُول: مَا مِنْ دَاع يَدْعُو إلَّا كَانَ لَه إحْدَى ثَلَاثٍ ..) وقال ابن عبد البر في التقصِّي ص 53 - 54: هذا الحديث محفوظ عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، من حديث أبي سعيد الخدري، وقد ذكرناه في كتاب التمهيد لأن مثله يستحيل أن يكون رأياً واجتهاداً وإنما هو توقيف, لأن مثله لا يقال بالرأي. وقال القرطبي خرّجه أبو عمر بن عبد البر وصحّحه أبو محمد عبد الحق. تفسير القرطبي 2/ 310. درجة الحديث: صحّحه الشارح وأبو محمد عبد الحق وابن عبد البر. (¬5) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 151 عن جابر بن عبد الله عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إنَّ الْعَبْدَ يَدْعُو الله وَهُوَ يُحِبُّهُ فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيل اقْضِ لِعَبْدِي هذَا حَاجَتَهُ وَأَخِّرْهَا فَإنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ، وَإنَّ الْعَبْدَ لَيَدْعُو الله وَهُوَ يُبغِضهُ فَيَقولُ الله عَز وَجَل: يَا جِبْرِيل اقْضِ لِعَبْدِي حَاجَتَة وَعَجِّلْهَا فَإنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَسْمَعَ صَوْتَهُ) قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك. أقول: ما قاله الهيثمي في إسحاق بن عبد الله قاله الحافظ، قال: متروك من الرابعة. مات سنة 144/ د ت ق. ت 1/ 59، وانظر ت ت 1/ 240، والميزان 1/ 193، والمجروحين 1/ 131. درجة الحديث: ضعيف.

حديث (الْلَّهُمَّ فَالِقَ الإِصْبَاحِ قال فيه أمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي) وفي رواية (وَاجْعَلْهُمَا الْوَارِثَ مِنِّي) (¬1). فإن قيل: وكيف يكون السمع والبصر وارثين للبدن وهما يفنيان معه؟ قال الأستاذ أبو المظفر (¬2): هو مجاز على أحد معني الوارث، وذلك أن الوارث هو الذي لا يموت قبل الموروث، وهو الذي يبقى بعده، فيكون معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، اللهم لا تعدمهما قبلي. وقال بعض الناس (¬3) (¬4) وأمتعني بأبي بكر وعمر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -، في أبي بكر وعمر هما السمع والبصر (¬5)، وهذا تأويل بعيد إنما المراد بهما الجارحتان. ¬

_ (¬1) الموطأ 1/ 212 - 213 عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، كان يدعو، قال ابن عبد البر: لم يختلف الرواة عن مالك في إسناد هذا الحديث ولا في متنه، وقد رواه أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن مسلم بن يسار قال: كان دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكره. التقصّي ص 231. أقول: الحديث مرسل لأنه روي من طريق مسلم بن يسار قال عنه الحافظ مسلم ابن يسار المصري أبو عثمان الطنبذي، مولى الأنصار، مقبول من الرابعة / بخ ص د ت ق. ت 2/ 247 وقال في ت ت: ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني يعتبر به ت ت 10/ 141. وأبو خالد الأحمر هو سليمان بن حيان الأزدي، أبو خالد الأحمر، الكوفي صدوق يخطئ من الثامنة. مات سنة 190 أو قبله وله بضع وسبعون /ع. ت 1/ 323 - ، وانظر ت ت 4/ 181. درجة الحديث: ضعيف لأن مسلم بن يسار لم يوثقه غير ابن حبان. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) في (م) زيادة معناه. (¬4) وقال ابن كثير: قال سعيد بن جبير وعكرمة ومقاتل بن حيان والضحاك. صالح المؤمنين أبو بكر وعمر. تفسير ابن كثير 7/ 56، وانظر القرطبي 18/ 189. (¬5) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 52 (عَنِ ابنِ عُمَرَ قَالَ: أَرَادَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - اَنْ يَبْعَثَ رَجُلاً في حَاجَةٍ قَدْ أَهَمَّتْهُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَمِينهِ وَعُمَرُ عَنْ يَسَارِهِ، فَقَالَ لَه عَلِيُّ: مَا يَمْنَعُكَ مِنْ هذَيْنِ؟ فَقَالَ: كَيْفَ أَبْعَثُ بِهذَيْنِ وَهُمَا مِنَ الدِّينِ بِمَنْزِلَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنَ الرَّأْسِ). رواه الطبراني، وفيه فرات بن السائب وهو متروك. أقول: فرات بن السائب هو أبو سليمان، وقيل أبو المعلى، الجزري عن ميمون بن مهران وعنه حسين بن محمد المروزي وشبابة وجماعة. قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال أحمد: قريب من محمد بن زياد الطحان في ميمون يتهم بما يتهم به ذلك. الميزان 3/ 341 وقال ابن حبان: كان ممن يروي الموضوعات عن الاثبات ويأتي بالمعضلات عن الثقات، لا يجوز الاحتجاج به، ولا الرواية عنه، ولا كتابة حديثه إلا على سبيل الاختبار. المجروحين 2/ 207. درجة الحديث: ضعيف.

حديث عائشة، رضي الله عنها: (أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِك) (¬1)، الرضا: هو تعلُّق الإِرادة بالثواب، والسخط هو تعلُّق الإرادة بالعقاب، والمعافاة تعلُّق الإِرادة بالسلامة، والعقوبة تعلُّق الإرادهّ بالعذاب والمحن (¬2). ¬

_ (¬1) الموطأ 1/ 214. مَالِك عَنْ يَحْيىَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ بنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ أَنَّ عَائِشَةَ أُم الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كُنْتُ نَائِمَةً إلَى جَنْبِ رَسُولِ اللِه، - صلى الله عليه وسلم - .. قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرساله، وهو يسند من حديث الأعرج عن أبي هُريْرَة عن عائشة من طرق صحاح ثابتة. التقصّي ص 224. الحديث أخرجه مسلم في كتاب الصلاة باب ما يقال في الركوع والسجود 1/ 352 من طريق الأعرج عن أبي هُرَيْرَة عن عائشة. وأبو داود 1/ 546 مثل رواية مسلم، والترمذي من طريق مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي أن عائشة .. سنن الترمذي 5/ 524 وقال: حديث حسن قد روي من غير وجه عن عائشة، والنسائي 2/ 210 مثل رواية مسلم أيضاً. (¬2) قال الخطابي: في هذا معنى لطيف؛ وذلك أنه استعاذ بالله تعالى، وسأله أن يجيره برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته والرضا والسخط خبران متقابلان، وكذلك المعافاة والعقولة، فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له، وهو الله سبحانه وتعالى، استعاذ به منه لا غير، ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه، وقوله: (لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ) أي لا أطيقه ولا آتي عليه، وقيل لا أحيط به. نقلاً عن شرح النووي على مسلم 4/ 204. قلت: لقد ذهب الشارح هنا إلى التأويل، وهذه عادته رحمه الله وغفر لنا وله، والحق أنه يجب الإيمان بكل ما أخبر به الله عن نفسه، أو أخبر به عنه رسوله من غير تحريف ولا تبديل، ولا تكييف ولا تمثيل، لأنه لا يصف الله أعلم من الله قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} وهذا هو مذهب السلف. قال شارح الطحاوية: ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب والرضا والعداوة والولاية والحب والبغض، ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى، كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام، وسائر الصفات، قال: ولا يقال إن الرضا إرادة الإحسان, والغضب إرادة الانتقام فإن هذا نفي للصفة. العقيدة الطحاوية نقلاً عن الكواشف الجلية عن معاني الواسطية ص 131. وقال الآجري: أهل الحق يصفون الله، عز وجل، بما وصف به نفسه، عز وجل، وبما وصفه به رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وعن صحابته، رضي الله عنهم، وهذا مذهب العلماء ممن اتبع ولم يبتدع ولا يقال فيه كيف؟ بل التسليم له والإيمان إن الله، عز وجل، يضحك كذا روي عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وعن صحابته، رضي الله عنهم، فلا ينكر هذا إلا من لا يحمد حاله عند أهل الحق. الشريعة للآجري ص 277، وانظر الفتاصى 6/ 119، وأقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات للشيخ مرعي بن يوسف الكرمي المقديي ص 90 تحقيق جميل عبيد عبد المحسن القراري، رسالة ماجستير بجامعة أم القرى قسم العقيدة.

قال شيوخ الزهد (¬1): ترقَّى النبي - صلى الله عليه وسلم -، في هذا الدعاء من مقام إلى مقام حتى أنتهى إلى المقام الأشرف (¬2). قال أولاً: (أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ) ثم قال (وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ) ثم نظر فإذا به لم يستطع، في تلك الحالة، أن يحصي متعلقات الصفات فقال (وَبِكَ مِنْكَ) فردَّ الأمر إلى الذات، فنقله الله تعالى أيضاً في مقامات الكرامات من منزلة إلى أخرى فقال له: {طهَ} يا رجل (¬3)، ثم قال {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)} (¬4)، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)} (¬5) يا من تزمل بكسائه، وتدثر به. قُمْ إلى عبادة ربك، على معنى الملاطفة في الخطاب، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، لعلي بن أبي طالب، رضي الله عنه: (قُمْ يَا أبَا تُرَابٍ) (¬6). ثم نقله إلى مرتبة أخرى أشرف منها فقال: {يس} يا سيد، ولو ثبت هذا بالنقل لكان حسناً. وقال عَزَّ وَجَلَّ أيضاً: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} (¬7) فأقسم ¬

_ (¬1) لم أعرف قائل هذا القول. (¬2) رواه أبو نعيم في دلائل النبوة من طريق أبي يحيى إسماعيل بن إبراهيم التيمي عن سيف بن وهب عن أبي الطفيل: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ لِي عِنْدَ رَبِّي عَشَرَةَ أَسْمَاءٍ قَالَ أَبْو الطُّفَيْلِ: حَفِظْتُ مِنْهَا ثَمَانِيَةَ: مُحَمَّد، وَأَحْمَد، وَأَبُو الْقَاسِم، وَالْفَاتِح، وَالْخَاتِم، وَالْعَاقِب، وَالْحَاشِر، وَالْمَاحِي، قَالَ أَبو يَحْيَى: وَزَعَمَ سَيْفْ أَن أَبَا جَعْفَرٍ قَالَ لَه إنَّ الإسْمَيْنِ البَاقِيَيْنِ طهَ ويس) دلائل النبوة ص 12. أقول: الحديث فيه سيف بن وهب، أبو وهب، ليّن الحديث من الخامسة/ بخ. ت 1/ 344، وقال في ت ت: روى عن أبي الطفيل وأبي جعفر الهاشمي، ضعفه النسائي وأحمد. ت ت 4/ 298 وقد روى عنه أبو يحيى إسماعيل بن إبراهيم الأحول التيمي الكوفي، ضعيف من الثامنة/ ت ق. ت 1/ 66، وانظر ت ت 1/ 281، والكاشف 1/ 120. درجة الحديث: ضعيف كما قال الشارح. (¬3) قال الحافظ: ومما وقع من أسمائه في القرآن بالاتفاق: الشاهد، المبشر، النذير، المبين، الداعي إلى الله، السراج المنير، والمذكر، والرحمة، والنعمة، والهادي، والشهيد، والأمين، والمزمل والمدثر، فح الباري 6/ 557 - 558. (¬4) سورة المزمل آية 1. (¬5) سورة المدثر آية 1. (¬6) متفق عليه، البخاري في كتاب الأدب باب التكني بأبي تراب وإن كانت له كنية أخرى. البخاري 8/ 55، ومسلم كتاب الفضائل باب فضائل علي بن أبي طاب 4/ 1874، كلاهما (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: إنْ كَانَتْ أحَبُّ أسْماءِ عَليٍّ، رَضِيَ الله عَنْهُ، إلَيْهِ لأبُو تُرَابٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَفْرَحُ أنْ يُدَعَى بِهَا وَمَا سَمَّاهُ أبُو تُرَاب إلَّا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، غَاضَبَ يَوْماً فَاطِمَة فَخَرَجَ فَاضَطَجَعَ إِلَى الْجِدَارِ بلَى الْمَسْجِدِ فَجَاءَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتْبَعُهُ ..) لفظ البخاري. (¬7) سورة الحجر آية 72.

بحياته ثم زاده شرفاً فأقسم بغبار خيله فقال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} (¬1) ومقاماته في الشرف كثيرة، وهذا أنموذح منها. حديث ابن عباس، رضي الله عنهما (الْلَّهُمَّ إِنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَاب جَهَنَّمَ) (¬2). جهنم دار أعدت للكافرين كما أعدت الجنة للمتقين، وخلقت قبل خَلق السموات والأرضين. وقالت المبتدعة إنها لم تخلق بعد؛ لأنه لا فائدة من خلقها قبل الحاجة إليها (¬3). قلنا: ومن الذي يلزمه أن (¬4) يعرفنا وجه الحكمة فيما فعل فبفضله، وإن شاء أن يبقينا في حالة الجهالة فحقه، له الحجَّة ومنه الفضل والمنَّة، ولو لم يكن من فائدتها إلا معاينة الملائكة والأنبياء لها، ورؤية المؤمن والكافر عند الموت مقعديهما فيهما وعذاب القبر قد تقدم (¬5). وأما الدجَّال (¬6) فسيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى. وأما المسيح فهو بالميم المفتوحة والسين المكسورة المخففة والحاء المهملة، لا يقوله بالسين المشدّدة إلا من شدّ الجهل عليه رباطه، ولا يقولها بالخاء المعجمة إلا من أدركته عجمة الضلالة. وبناء (م س ح) في كلام العرب على ثمانية (¬7) معان يشترك فيها مسيح الهدى ومسيح الضلالة في معان، ويتفرد مسيح الضلالة أيضاً عن مسيح الهدى في ذلك بمعان. فما ينفرد به عيسى، عليه السلام، أنه كان يمسح على ذي العاهة فيبرأ (¬8) فعيل بمعنى فاعل. وأما ما ينفرد به مسيح ¬

_ (¬1) سورة العاديات آية 1. (¬2) الموطأ 1/ 215، ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب ما يستعاذ منه في الصلاة 1/ 413 ولفظه أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، كَانَ يُعَلِّمُهُمْ لهذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهمُ السورَةَ مِنَ الْقرْآنِ يَقُولُ (اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جهنم، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ). (¬3) هذا القول قال به المعتزلة. انظر شرح العقيدة الطحاوية ص 476. (¬4) في (م) و (ك) أن يفعل لفائدة معجلة أومؤجلة الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فإن شاء أن (¬5) تقدم. (¬6) تقدم. (¬7) انظر لسان العرب 2/ 593. (¬8) قال ابن كثير: قال بعض السلف سمي مسيحاً لكثرة سياحته، وقيل لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما، وقيل لأنه كان إذا مسح أحداً من ذوي العاهات برئ. تفسير ابن كثير 2/ 39 - 40، وانظر تفسير القرطبي 4/ 89.

توحيد

الضلالة فإنه كان ممسوح إحدى العينين (¬1) فعيل بمعنى مفعول. وأما ما يشتركان فيه فالدجال يمسح الأرض محنة والمسيح بن مريم يمسحها منحة (¬2). وأما فتنة المحيا فالمراد به ما يفتن المرء به في الدنيا، وأما فتنة الممات ففتنة المحتضر عند هبوب رياح الشكوك ونزغات الوساوس، واجتهاد الشيطان أن يقطع به في ذلك المقام عن قول لا إله إلا الله وبعد الموت وعند إقبال الملك بالهول يقول من ربك إلى آخر الخبر (¬3). توحيد {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬4) لا يظهر فيها إلا هو، وهو بمعنى قوله الظاهر، وقيل هو الهادي لأن الهدى نور (¬5)، وقيل معناه المنور (¬6)، وهذا صحيح حقيقة فإنه (¬7) نورها وبعيد لغة (¬8)، وأما القيوم والقيام (¬9) فهو الذي يدبرها {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي 4/ 89، وابن كثير 2/ 39 - 40. (¬2) انظر المصدرين السابقين. (¬3) روى مسلم من طريق سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [سورة إبراهيم 27] قال: نزلت في عذاب القبر فيقال له من ربك فيقول ربي الله ونبي محمد - صلى الله عليه وسلم - فذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}. مسلم كتاب صفة الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه 4/ 2201 ورواه عن خيثمة عن البراء أيضاً 4/ 2202، والنسائي 4/ 101، عن خيثمة عن البراء وعزاه للنسائي في سننه الكبرى المزي في تحفة الأشراف 2/ 14. (¬4) {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} سورة النور آية 35. (¬5) حكى ابن الجوزي فيه قولان: الأول: (هَادي أَهْلِ السَّموَاتِ وَالأرْضِ) رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس .. الثاني: (مُدَبِّرُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ) قاله مجاهد والزجاج. انظر زاد المسير 6/ 40، ومختصر ابن كثير 2/ 605، والفتاوى الكبرى 6/ 392. (¬6) قال ابن الجوزي قرأ أبيّ بن كعب وأبو المتوكل، وابن السميفع (الله نور) بفتح النون والواو وتشديدها ونصب الراء زاد المسير 6/ 40. (¬7) في (ك) و (م) فقد. (¬8) لم يرد مطلقاً في القرآن، ولا في السنة وقال علماؤنا: هو بمعنى منورها العارضة 13/ 42. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: من قال منور السموات والأرض لا ينافي أنه نور وكل منور نور فهما متلازمان. الفتاوى 6/ 392. وقال ابن القيم: النور صفة كمال وضده صفة نقص، ولهذا سمى الله نفسه نوراً وسمى كتابه نوراً، وجعل لأوليائه النور ولأعدائه الظلمة فقال {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} مختصر الصواعق المرسلة ص 368. (¬9) ذكر تفسيره في الأمد الأقصى فقال: القيوم الدائم الذي لا يزول، الثاني: القيوم على كل نفس بالرعاية له =

الأرْضِ} (¬1)، ويصرف هيآتها، ويجري ما قدر من الأقوات والمعايش على أهلها في الأحيان والأوقات بمختلف الصفات وبتنويع الصناعات، وهو الرب الذي يرتبها بنقلها من حالة إلى حالة، وتركيب شيء منها على شيء حتى تنتظم أجزاؤها ويستوي في الكمال أنواعها، ويستمر على الاستقامة دوامها من غير خلل ودون نسج، وهو الحق أي الموجود (¬2) الذي ليس له أول ولا يكون له آخر، وقوله الحق، أي الذي لا يجوز عليه كذب، ولقاؤه حق، أي لا بد أن يكون، والجنة حق، والنار حق، أي موجودتان (¬3)، والساعة حق (¬4)، وهي موضع اللقاء، أي كائنة وكل شيء من ذلك حق، وأصدق كلمة قالها الشاعر: ألَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا الله بَاطِلُ (¬5) وقد استوفينا بيان ذلك في كتاب الأمد. وقوله: (لَكَ أسْلَمْتُ) (¬6) هو متعدي سلم، وله معان كثيرة بيَّناها في كتاب شرح الصحيح (¬7)، ومعناه ها هنا: نفيت ما سواك، وكذلك (آمَنْتُ) متعدي آمن ومعناه على هذا أخذت الأمن أو رجوته، وإلى هذا يرجع صدقت الذي يقول (¬8) الناس إنه معنى أمن نعم هو معناه ولكن بالمجاز في الدرجة الثانية (وَعَلَيْكَ تَوَكَلْتُ) (¬9) الباري وكيل الخلق ألقوا إليه بمقاليدهم وتخلوا له عن آرائهم وأفعالهم إلا ما أذن لهم فيه من العمل والسعي وتحصيل ¬

_ = والمدبر لجميع أمور العالم، الثالث: أنه الذي لا تفنيه الدهور بإنقلاب الأمور. الأمد الأقصى ل 9 أ. (¬1) سورة الحج آية 65. (¬2) قال في العارضة: أي الموجود الذي لا يدركه عدم. عارضة الأحوذي 13/ 40، وقال القرطبي: هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به لا ينبغي لغيره؛ إذ وجوده بنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم، بخلاف غيره. الزرقاني 2/ 40. (¬3) انظر الأمد الأقصى ل 20 ب. (¬4) أي يوم القيامة. وهي مما يجب أن يصدق بها. شرح الزرقاني 2/ 40. (¬5) ويقية البيت: وكل نعيم لا محالة زائل .. البيت في ديوان لبيد ص 232، وشرح الكافية تحقيق الدكتور أحمد هريدي 2/ 722. (¬6) أي قتدت وخضعت لأمرك ونهيك. شرح الزرقاني 2/ 41. (¬7) هذا الشرح مفقود، وقد ذكره في عدة مواضع من هذا الشرح. (¬8) في (م) يظن. (¬9) أي فوّضت أمري تاركاً النظر في الأسباب العادية. شرح الزرقاني 2/ 41.

المنافع، فإن أسقطوا ما أذن لهم فيه من ذلك فهو التفويض (وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ) (¬1) معناه رجعت، الرجوع على قسمين: رجوع غافل، كرجوع النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ورجوع تارك كرجوع الصحابة، رضي الله عنهم، ومن آمن من الكفار والدعوي (¬2) بعد الغفلة لكل مؤمن إنابة (وَبكَ خَاصَمْتُ) الخصام وهو المنازعة في المقال بالحجة (¬3)، (وَإِلَيْكَ حَاكمْتُ) (¬4) المحاكمة هي عرض الخصام على المنفذ لأحد وجهيه، وقد نفذ الباري الحق بدليله وأبانه لأوليائه بهدايته، ولعظيم خطر هذا المقام وكثرة ما يعرض فيه من تلاطم أمواج الشبه في بحر الخصام ما كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يقول أول ما يستيقظ من النوم: "اللَّهُمَّ فَاطِرُ السَّموَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفونَ. إِهْدِنِي لِمَا اخْتَلَفوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ فَإِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ" (¬5). وأما قوله (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْتُ) فدعوة أجيبت في خاصته، وإنّا لنرجوها لأنفسنا ببركة قدوته. حديث قول سعيد (إنَّ الرَّجُلَ يُرْفَعُ بدُعَاءِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ) (¬6) أصح منه وأولى قول النبي، - صلى الله عليه وسلم - "إِذَا مَاتَ الْمَرْءُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ" (¬7) فذكر ولداً صالحاً يدعو له. حديث: قول هشام بن عروة أن قوله تعالى {وَلَا تَجْهَرْ (¬8) بِصَلَاتِكَ} (¬9) نزلت في ¬

_ (¬1) رجعت إليك مقبلاً بقلبي عليك. شرح الزرقاني 2/ 41. (¬2) في (م) والذكر. (¬3) أي خاصمت من خاصمني من الكفار أو بتأييدك ونصرك قاتلت. شرح الزرقاني 2/ 41. (¬4) أي كل من جحد الحق وما أرسلتني به لا إلى من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه. وقدم جميع صلات هذه الأفعال عليها إشعاراً بالتخصيص وافادة للحصر. شرح الزرقاني للموطًا 2/ 41. (¬5) مسلم كتاب صلاة المسافرين باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه 1/ 534، والنسائي 3/ 212 - 213، وابن ماجه 1/ 431 - 432، وأحمد 6/ 156 كلهم عن عائشة. (¬6) الموطّأ 1/ 217، مالك عَنْ يَحْيىَ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّب كَانَ يَقولُ: إِنَّ الرَّجل ليرْفَعُ بِدُعَاءِ وَلَدِهِ .. قال ابن عبد البر هذا الحديث في الموطأ هكذا، وهذا لا يدرك بالرأي، وقد روي بإسناد جيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، من حديث أبي هرَيْرَة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنَّ الله لَيَرْفَعُ لِلْعَبْدِ الدَّرَجَة فَيَقُولُ يا رَبِّ أنّى هذِهِ الدَّرَجةُ فَيُقَالُ بِاسْتغْفَارِ ابْنك لَكَ) التقصي ص 213. درجة الحديث: جوَّد إسناده ابن عبد البر ولم أطلع عليه عند غيره. (¬7) مسلم في كتاب الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته 3/ 1255، وأبو داود 3/ 300، والترمذي 3/ 660، والنسائي 6/ 251 كلهم عن أبي هُرَيْرَة. (¬8) سورة الإسراء آية (110). (¬9) الموطأ 1/ 218 مرسلاً عن هشام بن عروة عن أبيه. قال الحافظ: وتابع مالك على إرساله سعيد بن منصور عن =

الدعاء وهذا من العلم الذي نبَّه عليه مالك، رضي الله عنه، في معرض أسباب الآيات، وليس كما قال عروة، وإنما نزلت هذه الآية لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كان يصلي بمكة ويجهر فإذا سمع المشركون قراءته سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فنزلت الآية المذكورة ثم نسخ الله تعالى ذلك بظهور الإسلام (¬1). حديث: أدخل مالك، رضي الله عنه، بلاغاً حديثاً هو صحيح ثابت السند، ثابت السبيل إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال عليه السلام (مَن سَنَّ سنَّةً حَسَنَةً في اْلِإسْلَامِ كَانَ لَه أَجْرهَا وَأجْرُ مَنْ عَمَلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ سَنَّ سنَّةً سَيِّئَةً في الإسْلاَمِ كَانَ لَه وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَملَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ أوْزَارِهِمْ (¬2) شَيْئاً). فإن قيل: هذا الحديث مخالف لظاهر القرآن قال الله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)} (¬3). قلنا: بل هو موافق له قال الله تعالى {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} (¬4). ¬

_ = يعقوب بن عبد الرحيم عن هشام بن عروة. فتح الباري 8/ 405، ووصله البخاري في الدعوات باب الدعاء في الصلاة من طريق مالك عن سُعير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} أنزلت في الدعاء. البخاري 8/ 89. ومسلم في الصلاة باب التوسط في القراءة في الصلاة الجهرية بين الجهر والإسرار 1/ 329، وأورده السيوطي في الدر المنثور 4/ 207 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وأبي داود في الناسخ والمنسوخ والبزار والنحاس وابن نصر وابن مردويه والبيهقي في السنن. قال الحافظ: أنزل ذلك في الدعاء، هكذا أطلقت عائشة وهو أعم من أن يكون ذلك داخل الصلاة أو خارجها. فتح الباري 8/ 405. (¬1) قال الحافظ الآية منسوخة بقوله {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} فتح الباري 8/ 406 قلت: وهذا يؤيد ما ذهب إليه الشارح من أنها في الصلاة لا في الدعاء، كما قال عروة. (¬2) مالك أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: مَا مِنْ دَاع يَدْعُو إلَى هُدَىً إلَّا كَانَ لَهُ مَثْل أَجْرِ مَنْ اتبَعَه لاَ يَنْقُصُ ذلِك مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئاً .. الموطّأ 1/ 218، ورواه مسلم في كتاب الزكاة باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة 2/ 704، 705، والنسائي 5/ 75 - 77 عندهما من حديث المنذر بن جرير يحدث عن أبيه، وأورده النووي في رياض الصالحين وعزاه لمسلم رياض الصالحين ص 94 - 95. (¬3) سورة الأنعام آية 164. (¬4) سورة العنكبوت آية 13.

وجه الحكمة فيه والجمع بينه وبينه أن كل معصية اختصت بصاحبها ولم تتعدّه فوزرها مقصور عليه، وكلما تعدَّته فإنه يتعدى. والتعدّي يكون بوجهين؛ يكون بالفعل نفسه ويكون بتعليم الجاهل، وتنبيه الغافل والتعليم من أعظم أنواع التعدي وقد قال النبي، - صلى الله عليه وسلم - (مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ إِلَّا وَعَلَى ابنِ آدم الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا) (¬1) , لأنه أوَّل من سنَّ القتل. حديث: كان أبو الدرداء يقول: (نَامَتِ الْعُيُونُ وَغَارَتِ النُّجُومُ وَأنْتَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (¬2)، الحديث. إن الله أذن في دعائه، وعلم الدعاء في كتابه لخليقته، وعلم النبي، - صلى الله عليه وسلم -، الدعاء لأمته فاجتمعت فيه ثلاثة أشياء العلم بالتوحيد، والعلم باللغة والنصيحة لأمته، فلا ينبغي لأحدٍ أن يعدل عن دعائه وقد احتال الشيطان للناس في هذا المقام فقيض لهم قوم سوء يخترعون لهم أدعية يشتغلون بها عن الاقتداء بالنبي، - صلى الله عليه وسلم -، وأشدَّ ما في الحال أنهم ينسبونها إلى الأنبياء صلوات الله عليهم فيقولون: دعاء آدم (¬3) دعاء نوح (¬4) دعاء يونس (¬5) دعاء أبي بكر الصديق (¬6)، فاتقوا الله في أنفسكم ولا تشتغلوا من الحديث بشيء ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في عدة مواضع منها في الديات باب قول الله تعالى {وَمَنْ أحْيَاهَا} 4/ 3، وفي الاعتصام باب إثم من دعا إلى ضلالة 9/ 127 ومسلم في القسامة باب بيان إثم من سنَّ القتل 3/ 1303 - 1304، والترمذي 5/ 42 وقال حسن صحيح، والنسائي 7/ 81 - 82 كلهم عن عبد الله بن مسعود. (¬2) هذا الدعاء أورده مالك في الموطأ بلاغاً، ولم أطلع عليه عند غيره. الموطّأ 1/ 219. (¬3) ورد عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال (لَمَّا أُهْبِطَ آدَمُ إلَى الأَرْضِ قَامَ وَجَاءَ إلَى الْكَعْبَةِ فَصَلَّىَ رَكْعَتَيْنِ فَألْهَمَهُ هذَا الدُّعَاءَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سَرِيرَتِي وَعَلَانَّيتِي فَاقْبَلْ مَعْذِرَتي، وَتَعْلَمُ حَاجتِي فَاعْطِنِي سؤْلِي، وَتعْلَمُ مَا في نَفْسي فَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي ..) قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه النضر بن طاهر وهو ضعيف. مجمع الزوائد 10/ 183. أقول: الحديث فيه النضر بن طاهر روى عن سويد أبي حاتم قال ابن عدي: يسرق الحديث ويحدث عمن لم يره ممن لا يحتمله سنه. قال ابن أبي عاصم: سمعت منه ثم وقفت منه على كذب، ثم رأيته بعد ما عمي، يحدث عن الوليد بن مسلم بما ليس من حديثه فتتابع في الكذب، ميزان الاعتدال 4/ 258 - 259، درجة الحديث: ضعيف. (¬4) لم أطلع على دعائه. (¬5) أما دعاء يونس فهو: لَا إِله إِلاَّ انتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ رواه الترمذي من طريق إبراهيم ابن محمد بن سعد عن أَبيه عن سعد (بن أبي وقاص). سنن الترمذي 5/ 529 - 530، والحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي 2/ 583، وأورده السيوطي في الجامع الصغير وصححه وتبعه في ذلك المناوي في فيض القدير 3/ 526 والحديث صححه من تقدم. (¬6) كان يقول: اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ عُمْرِي آخِرَة وَخَيْرَ عَمَلِي خَوَاتِمَهُ وَخَيْرَ أيَّامِي يَوْمَ ألْقَاكَ. مصنف ابن أبي شيبة 10/ 321، عن وكيع بن الجراح عن كثير بن زيد عن المطلب. =

النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر

إلا بالصحيح منه والفائدة في إدخال مالك، رضي الله عنه، لحديث أبي الدرداء ها هنا أن الدعاء وإن كان الأفضل فيه التيمن بما روي عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، والتبرك بألفاظه الصحيحة الفصيحة فإنه يجوز لكل أحد من العلماء بالله تعالى أن يدعو بما شاء غير المأثور، ولكن لا يخرج عن التوحيد. ألا ترى إلى قول أبي الدرداء، رضي الله عنه: (نَامَتِ الْعُيُون وَصَدَقَ وَغَارَتِ النُّجُومُ وَصَدَقَ وَأنْتَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فَصَدَقَ) والحيّ في الحقيقة هو الذي لا ينام، والقيوم هو الذي لا يحول ولا يزول. النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر أحاديثه ثمانية: الأول: (نَهَى النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، عَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَعَنِ الصَّلاة بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ) (¬1). الثاني: (لَا تَحَرُّوا بِصَلَاِتكمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ وَلاَ غُرُوبهَا) (¬2). الثالث: الحديث الذي ذكره مالك، رضي الله عنه، في الموطّأ عن أبي عبد الله ¬

_ والحديث فيه كثير بن زيد الأسلمي أبو محمد المدني بن ما فَنّة، بفتح الفاء وتشديد النون، صدوق يخطئ من السابعة مات في آخر خلافة المنصور/ زدت ت 2/ 131 - 132، وقال في ت ت 8/ 413 قاله أبو زرعة صدوق فيه لين، وقال أحمد ما أرى به بأساً، وقال ابن معين ليس به بأس، ووثقه ابن حبان. كما أن فيه المطلب بن عبد الله بن حنطب بن الحارث المخزومي صدوق كثير التدليس والإرسال من الرابعة/ د م. ت 2/ 254، وقال في ت ت قال أبو حاتم روايته عن جابر يشبه أنه أدركه، وقال وفي روايته عن غيره من الصحابة مرسلة، قال وعامة حديثه مراسيل ووثَّقه أبو زرعة وابن سعد والدارقطني وقال ابن أبي حاتم في المراسيل عن أبيه لم يسمع من جابر ولا من زيد بن ثابت. ولم يدرك أحداً من الصحابة إلا سهل بن سعد ومن في طبقته، وقال أبو زرعة حديثه عن أبي بكر وسعد مرسل. ت ت 10/ 178 وانظر المراسيل لابن أبي حاتم ص 210. درجة الحديث: ضعيف لأن المطلب لم يدرك أبا بكر. (¬1) متفق عليه، البخاري في المواقيت باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس 1/ 152، ومسلم في صلاة المسافرين باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها 1/ 566، والموطّأ 1/ 221، والبغوي في شرح السنة 3/ 319، والشافعي في الرسالة فقرة 872 تحقيق أحمد شاكر. وفي اختلاف الحديث ص 125، وفي الأم 1/ 129 - 130 كلهم عن أبي هُرَيْرَة. (¬2) متفق عليه. البخاري في كتاب مواقيت الصلاة باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس 1/ 152، ومسلم في صلاة المسافرين باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها 1/ 567، والموطأ 1/ 220، والبغوي في شرح السنة 3/ 318، والشافعي في الرسالة فقرة 873 كلهم عن ابن عمر.

الصنابحي مرسلًا (¬1) ¬

_ (¬1) ولفظه عن عبد الله الصنابحي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال (إنَّ الشَّمْسَ تَطَلَعُ وَمَعَهَا قَرْنَ شَيْطَانٍ فَإذَا ارْتَفَعَتْ فَارَقَهَا ثُمَّ إذَا اسْتَوَتْ قَارَنَهَا فَإذَا دَنَتْ لِلْغُرُوبِ قَارَنَهَا فَإذَا غربَتْ فَارَقَهَا، وَنَهَى رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، عَنِ الصَّلاَةِ في تِلْكَ السَّاعَةِ) الموطأ 1/ 219، أقول: ما ذهب إليه الشارح هنا من أن الحديث مرسل هو مذهب ابن عبد البر، فيما نقله عنه السيوطي، فقد قال: هكذا قال جمهور الرواة عن مالك، وقال طائفة، منهم مطرف وإسحاق ابن عيسى الطباع عن عطاء عن أبي عبد الله الصنابحي قال وهو الصواب وهو عبد الرحمن ابن عسيلة تابعي ثقة ليست له صحبة، قال وروى زهير بن محمد هذا الحديث عن زيد بن أسلم عن عطاء عن عبد الله الصنابحي قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو خطأ، والصنابحي لم يلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزهير لا يحتج به. تنوير الحوالك 1/ 220، ونقل الحافظ عن الترمذي قوله: سألت محمد بن إسماعيل عنه فقال: وَهِم فيه مالك وهو أبو عبد الله واسمه عبد الرحمن بن عسيلة ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال سويد ابن سعيد عن حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن عطاء عن عبد الله الصنابحي: سَمِعْتُ رسُولَ الله يَقولُ: (إنَّ الشَّمْسَ تَطْلَعُ معْ قِرْنَيْ شَيْطَانٍ) الحديث. قال أبو غسان محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عطاء عن عبد الله الصنابحي عن عبادة في الوتر، وهكذا رواه زهير بن محمد عن زيد بن أسلم، فاتفق حفص ابن ميسرة وأبو غسان وزهير على قولهم عبد الله، فنسبة الوهم في ذلك إلى مالك وحده فيه نظر، ت ت 6/ 91. وجاء في حاشية الأم 1/ 130: عن السراج البلقيني قال: حديث الصنابحي هذا هو في الموطّأ، روايتنا من طريق يحيى بن يحيى، وأخرجه النسائي من حديث قتيبة عن مالك كذلك. وأما ابن ماجه فأخرج الحديث من طريق شيخه إسحاق بن منصور الكوسج عن عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي عبد الله الصنابحي (كذا وقع في كتاب ابن ماجه عن أبي عبد الله)، وأعلم أن جماعة من الأقدمين نسبوا الإِمام مالكاً إلى أنه وقع له خلل في هذا الحديث باعتبار اعتقادهم أن الصنابحي، في هذا الحديث، هو عبد الرحمن بن عسيلة، أبو عبد الله، وإنما صحب أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، وليس الأمر كما زعموا بل هذا صحابي غير عبد الرحمن بن عسيلة، وغير الصنابحي ابن الأعسر الأحمسي، وقد بيَّنت ذلك بياناً شافياً في تصنيف لطيف سميته الطريقة الواضحة في تبيين الصنابحة. أقول: وكلام البلقيني السابق واضح في كون الصنابحة ثلاثة، وذهب إلى ذلك الحافظ في الإصابة 4/ 148. وقد ترجم ابن سعد في الطبقاث تسمية من نزل الشام من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر عبد الله الصنابحي وساق هذا الحديث وقال فيه الصنابحي: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فهذا جزم من ابن سعد بأنه صحابي، وروايته بإسناد صحيح أنه سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر الطبقات 7/ 426. وأيَّد ما ذهب إليه البلقيني أحمد شاكر في تعلقيه على الرسالة بنقول نفيسة بين فيها خطأ المتقدمين من الأئمة في توهم مالك، وأثبت أن الصنابحة ثلاثة: الصنابح بن الأعسر الأحمسي صحابي، وأبو عبد الله عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي تابعي، والثالث عبد الله الصنابحي صحابي سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يخطىء فيه مالك. =

وهو مسند من طريق عقبة بن عامر (¬1) وعمرو بن عنبسة (¬2). الرابع: (إِذَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأخِّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى تَبْرُزَ وَإِذَا غَابَ حَاجِبُ الشَّمْسِ فَأخِّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى تَغِيبَ) (¬3). الخامس: (نهى النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، عَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَعَنِ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ إلَّا بِمَكَّةَ) خرجه الدارقطني (¬4). ¬

_ ومالك الحكم والحجة في حديث أهل المدينة وروايتهم، وقد تابعه غيره في حديث الباب، فلا يحكم بخطئه إلا بدليل قاطع إذ هو الحجة على غيره. الرسالة ص 319، وصدق رحمه الله فإن تخطئة مالك ليست سهلة وخاصة في حديث أهل المدينة. والحديث أخرجه النسائي 1/ 275، وابن ماجه 1/ 397، والبغوي في شرح السنة 3/ 320، والشافعي في الرسالة ص 317 - 320. درجة الحديث: صحيح. (¬1) مسلم في صلاة المسافرين باب الأوقات التي نُهي عن الصلاة فيها 1/ 568 - 569، والترمذي 3/ 348 - 349، وقال حسن صحيح، والنسائي 4/ 82، وابن ماجه 1/ 486 - 487، والبغوي في شرح السنة 3/ 327 - 328، وابن أبي شيبة 2/ 352. (¬2) مسلم كتاب صلاة المسافرين باب إسلام عمرو بن عنبسة 1/ 569 - 571 وأحمد. انظر الفتح الرباني 2/ 287 - 288. (¬3) متفق عليه، البخاري في كتاب المواقيت باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس 1/ 152، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها 1/ 568، ومصنف ابن أبي شيبة 2/ 354 كلهم عن ابن عمر. (¬4) سنن الدارقطني 1/ 424 - 425، وأحمد انظر الفتح الرباني 2/ 299 - 300، والبيهقي في السنن 2/ 461 وقال: هذا الحديث من أفراد عبد الله بن المؤمل، وعبد الله بن المؤمل ضعيف إلا أن إبراهيم بن طهمان قد تابعه في ذلك عن حميد، وأقام إسناده، وساق البيهقي سياقاً أخر بسنده إلى خلاد بن يحيى قال: ثنا إبراهيم بن طهمان ثنا حميد، مولى غفرة، عن قيس بن سعد عن مجاهد قال: جاء أبو ذر فأخذ بحلقة الباب. وساقه. وقال حميد الأعرج: ليس بالقوي ومجاهد لا يثبت له سماع من أبي ذر، ورواه بسند ثالث من طريق أليسع بن طلحة القرشي من أهل مكة قال: سمعت مجاهداً يقول: بلغنا أن أبا ذر قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. قال البيهقي أليسع بن طلحة قد ضعفوه، والحديث منقطع، مجاهد لم يدرك أبا ذر .. السنن الكبرى 2/ 461 - 462، ونقل الحافظ عن أبي حاتم الرازي قوله لم يسمع مجاهد من أبي ذر، وكذا أطلق ذلك بن عبد البر والبيهقي والمنذري وغير واحد، وقال ابن عدي: أنا أشك في سماع مجاهد من أبي ذر. تلخيص الحبير 1/ 200 - 201، وانظر المراسيل لابن أبي حاتم ص 205. والحديث فيه عبد الله بن المؤمل المخزومي المكي، ضعيف الحديث من السابعة مات سنه 160/ بخ ت ق. ت 1/ 454. =

السادس: قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أحَداً طَافَ بِهذَا الْبَيْتِ أنْ يُصَلِّيَ أيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ" (¬1). السابع: حديث أم سلمة أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - (صَلَّى في بَيْتهَا بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ فَأرْسَلَتْ إِلَيْهِ الْجَارِيَةَ إِلَى أنْ قَالَ فِيهِ إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ شَغَلُوني عَنِ الركْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ فَهُمَا هَاتَانِ) (¬2). الثامن: قالت عائشة، رضي الله عنها (مَا تَرَكَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، قَطُّ في بَيْتي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَرَكْعَتَيْنِ بَعُدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَوَفَّاهُ الله تَعَالَى) (¬3) خرَّجه البخاري. واختلف الناس في قوله لا صلاة بعد العصر والصبح، أو نهى عن الصلاة بعد الصبح والعصر. هل يريد بذلك الوقت أم نفس الصلاة، وعلى هذا انبنى اختلاف العلماء في صلاة الجنازة بعد العصر إذا بقي من وقت العصر شيء، فإن قلنا المراد به بعد صلاة العصر لم يصلّ على الجنازة، وإن قلنا إن المراد به بعد وقت العصر صُلِّى على الجنازة، ¬

_ وقال في ت ت قال النسائي: ضعيف وأبو داود منكر الحديث، ووثقه ابن سعد، وقال ابن حبان في الضعفاء لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد، وقال العقيلي لا يتابع على كثير من حديثه، وقال الدارقطني ضعيف سيء الحفظ ت ت 6/ 46، وانظر الضعفاء للعقيلي 2/ 302، المجروحين 2/ 27، الميزان 2/ 510، وقد ضعف الشارح الحديث كما ضعفه صاحب العناية على الهداية بهامش شرح فتح القدير 1/ 162. درجة الحديث: ضعيف لانقطاعه ولضعف عبد الله بن المؤمل. (¬1) أبو داود 2/ 449، والترمذي 3/ 220، وقال حسن صحيح والنسائي 1/ 284 وابن ماجه 1/ 398، والدارمي 2/ 70، والدارقطني 1/ 423، وابن حبان. انظر موارد الظمآن ص 164 - 165، والحاكم في المستدرك 1/ 448 وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وأخرجه البغوي في شرح السنة 3/ 331 وقال حسن صحيح مثل قول الترمذي، والطحاوي في معاني الآثار 2/ 186 .. كلهم من حديث جبير بن مطعم. درجة الحديث: صححه الترمذي والحاكم والذهبي والبغوي. (¬2) متفق عليه. البخاري في السهو باب إذا كلم وهو يصلي فأشار بيده واستمع 2/ 88 ومسلم في صلاة المسافرين باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعد العصر 1/ 571 - 572، والبغوي في شرح السنة 3/ 333. (¬3) متفق عليه، البخاري في كتاب المواقيت باب ما يصلى بعد العصر من الفوائت 1/ 153، وفي الحج باب الطواف بعد الصبح والعصر 2/ 190، ومسلم في صلاة المسافرين باب معرفة الركعتين اللتين كان يصليهما النبي - صلى الله عليه وسلم - 1/ 572، والبغوي في شرح السنة 3/ 336.

والصحيح أن المراد به بعد صلاة العصر لوجهين: أما أحدهما: فهو أن العصر والظهر والمغرب قد صارت بالعرف أسماء أعلام للصلوات، فمطلق اللفظ إليها يرجع، والخطاب عليها يحمل. والثاني: أنه قال (لَا صَلاَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتى تَطْلعَ الشَّمْسُ) ولو أراد الوقت لاستحال هذا الكلام لأنه ليس بين وقت الصبح وبين طلوع الشمس حدّ للنهي المذكور. واتفق الناس على تناول القول للوقتين المتطرفين (¬1)، واختلفوا (¬2) في الوسط، وهو الصلاة عند الزوال، فقال مالك، رضي الله عنه: لا نهي فيه، وقال (ش): فيه النهي إلا وقت (¬3) الجمعة لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال أبو سعيد الخدري (نَهَى رَسُول الله، - صلى الله عليه وسلم -، عَنِ الصَّلاةِ عِنْدَ الزَّوَالِ إلَّا يَوْمَ الْجِمعة) (¬4). قلنا: هذا حديث باطل، فإن قيل: فحديثا عقبة وعمرو، وهما صحيحان، فماذا تقولون فيهما؟ قلنا: قول الراوي في ذلك الحديث وقد نهى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، عن الصلاة في تلك الساعات؛ يعني بعد العصر وبعد الصبح لأنها ساعات كثيرة دون وقت الاستواء؛ ¬

_ (¬1) في (م) زيادة جميعاً. (¬2) في (م) .. الوقت. (¬3) في (ك) وهي زيادة إلا وقت وفي (م) يوم. (¬4) رواه الشافعي في مسنده من حديث أبي هُرَيْرَة. مسند الشافعي ص 63، والبيهقي من طريقه، كما سيأتي، وأشار إلى أثر أبي سعيد في الرسالة فقرة 897 بقوله: فقد صنع أبو سعيد الخدري كما صنع عمر والبيهقي في السنن بعد أن ساق حديث أبي هُرَيْرَة، رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُحْرَمُ، يَعْني الصَلاة، إذا انْتَصَفَ النهَار كُل يَوْمٍ إلَّا يومَ الجمعةِ" قال: وروي في ذلك عن أبي سعيد الخدري. السنن الكبرى 2/ 464 - 465. وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة 1/ 330 من حديث أبي هريرة وعزاه للشافعي، وقال الشيخ ناصر في ضعيف الجامع الصغير 6/ 30 - 31 ضعيف، وقال عنه في تعليقه على المشكاة إسناده ضعيف جداً لأنه من رواية الشافعي عن إبراهيم بن محمَّد، وهو ابن أبي يحيى الأسلمي حدثني إسحاق بن عبد الله، وهو ابن أبي فروة، وهما متروكان. قلت: وهذا هو كلام الحافظ فيهما. فقد قال إبراهيم بن محمَّد بن أبي يحيى الأسلمي أبو إسحاق المدني متروك من السابعة مات سنة 184، وقيل 191/ ق. ت 42، وانظر ت ت 1/ 158 فقد نقل عن الربيع قوله: سمعت الشافعي يقول كان إبراهيم قدرياً، قيل للربيع: ما حمل الشافعي على أن روى عنه؟ قال: يقول لأن يخر إبراهيم من بعد أحب إليه من أن يكذب، وكان ثقة في الحديث. أما إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة الأموي مولاهم المدني فمتروك أيضاً، وهو من الرابعة. مات سنة 144/ د ت ق. ث 1/ 59، وقال في ت ت: قال البخاري تركوه، وقال أحمد لا تحلّ عندي الرواية عنه، وقال أبو ذرعة وأبو حاتم والنسائى متروك، وكذا قال الدارقطني والبرقانى. ت ت 1/ 240.

إذ وقت الاستواء لا يتعلق به تكليف لأنه لا يعلم إلا مع الرصد، ووضع القائم في الأرض وافتقاده في كل وقت، وذلك حرج عظيم لا يرد به تكليف، بل قد ورد الخبر برفع الحرج والكلفة في الدين (¬1)، ولهذا المعنى قال (ش): يجوز يوم الجمعة؛ لأن الناس لا يمكنهم أن يدخلوا إلى المسجد دفعة واحدة، ولا بد أن يردوا عليه أفذاذاً، فلو قيل لهم لا تصلوا، مخافة دخول وقت الاستواء، لكان ذلك منع طاعة بالشك وقطعاً بالتأهب للصلاة، فإنه ربما أصاب أحدهم النوم فيصلي ليذهب عنه، فكما روعي المشقة يوم الجمعة (¬2) يراعي سائر الأيام (¬3)، واختلف الناس أيضاً في صلاة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في وقت النهي، فقال (ش): صلاته، على ما ورد في الحديث، دليل على أن كل صلاة لها سبب (¬4) تجوز في وقت النهي، ويبقى النهي عن الصلاة المطلقة، وهذا لا يصح؛ لأن وقت الركعتين بعد الظهر ليس بسبب إذ هي نافلة، والنوافل لا تُقضى، ولكن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كان قد أنفرد عن أمته بأنه إذا عمل عملًا أثبته فكان يصلي بعد الظهر، فلما شغل صلَّى بعد العصر، فلما كان بعد ذلك استمر عليه وتمادى على عادته، وكذلك يحتمل أن يكون فعل في الصبح. والعمدة القاطعة ما قدمنا من قبل من أن الفعل مختص بالنبي، - صلى الله عليه وسلم -، لا يتعدى إلى غيره إلا بدليل فيبقى النهي على حاله، ويبقى فعل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، مختصاً به بصفته، ويتعضد ذلك بضرب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عليها (¬5). ولو كان ذلك من شرائع الدين ما ضربه عمر، ولا أقره الصحابة على ذلك. وأما حديث النبي، - صلى الله عليه وسلم -: (لَا تَمْنَعُوا أحَداً طَافَ بِهذَا الْبَيْتِ أنْ يُصَلِّيَ أيَةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِن ليلٍ أوْ نَهَارٍ" فإنه عام يخصه ¬

_ (¬1) قال تعالى في سورة الحج آية 178 {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. (¬2) في (م) زيادة كذلك. (¬3) قال الحافظ: وقد استثني الشافعي، ومن وافقه، من ذلك يوم الجمعة، وحجتهم أنه ندب الناس إلى التبكير يوم الجمعة ورغَّب في الصلاة إلى خروج الإمام، وجعل الغاية خروج الإِمام وهو لا يخرج إلا بعد الزوال فدلّ على عدم الكراهة. فتح الباري 2/ 63. (¬4) قال البغوي: جوز الشافعي فيها (أي في اوقات النهي) كل تطوّع له سبب من قضاء سنة، أو ورد، أو تحية مسجد إن اتفق دخوله، أو صلاة خوف إن وجد فيها. شرح السنة 3/ 326، وانظر المجموع 4/ 170. (¬5) الموطّأ 1/ 221 من حديث ابن شهاب عن السائب بن يزيد أنه رأى عمر .. ورواه عبد الرزاق عن الزهري (عَنِ السَّائِبْ بنِ يزِيدِ قَالَ: ضَرَبَ عُمَر المُنْكدر إذ رآهُ سبّح بَعد العصرِ). مصنف عبد الرزاق 2/ 429. درجهّ الأثر: سنده صحيح إلى عمر.

ما تقدم من الأحاديث. وأما قوله في حديث الدارقطني (إِلَّا بِمَكَّةَ) فإنه لم يصح، فلا يشتغل به. نكتة أصولية: لا خلاف بين المتقدمين والمتأخرين من العلماء أن العام والخاص إذا تنافيا فإنهما يتعارضان كقوله تعالى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬1) فإنه أمر بالقتل، وقوله، - صلى الله عليه وسلم -: (نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصبْيَانِ) (¬2) منع من القتل مخرج للمرأة عن قوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} بنص عن نص، ومخرج لقتل الصبيان عن قتل المشركين بظاهر عن نص، فإذا تماثل الخبران في الحكمين وأحدهما عام والآخر خاص فلا خلاف بين العلماء المتقدمين والمتأخرين إلى زماننا هذا أنهما يتوافقان كقوله (لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتى تَطْلعَ الشَّمْسُ)، وقوله (لاَ تَجرُّوا بِصَلَاتِكُمْ طلُوعَ الشَّمْسِ) فإنهما متماثلان في الحكم المبين به (وأحدهما أعم من الآخر، يتماثل العام والخاص لكن يقيد الخاص مزيد تأكيده في الحكم المبين به) (¬3)، فاحتفظوا بهذا الأصل فقد زلت فيه أمة ثم وجدنا النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قد قال: "مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّها إِذَا ذَكَرَهَا" (¬4) فتعارض هذا الأمر (إِذَا ذَكرهَا) بعد الصبح مع النهي عن الصلاة بعد الصبح، فقدَّم مالك (¬5) والشافعي الأمر على النهى (¬6)، وقدَّم أبو حنيفة (¬7) النهي على الأمر، ولقد كان على قبلة لو تمادى عليها، ولكنه ناقض فقال: إن تذكر صبح اليوم أو عصر اليوم في وقت النهي صلاهما (¬8)، فتناقض مناقضة ¬

_ (¬1) سورة التوبة آية (5). (¬2) متفق عليه. البخاري في الجهاد باب قتل النساء في الحرب 4/ 74، ومسلم في الجهاد باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب 3/ 1364، والموطّأ 2/ 447، والبغوي في شرح السنة 11/ 47 كلهم من حديث ابن عمر. (¬3) انظر هذا المبحث في شرح التنقيح للقرافي ص 421 - 422. (¬4) متفق عليه. البخاري في مواقيت الصلاة باب من نسى صلاةً فليصلِّ إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة 1/ 154، ومسلم في المساجد باب قضاء الصلاة الفائتة 1/ 477، من رواية قتادة عن أنس عندهما، وفي رواية أخرى، عند مسلم: (إذا رَقَدَ أَحَدكمْ عَنِ الصلاة وَغَفِلَ عَنْهَا فَلْيصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإن الله يَقول: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}، وأبو داود 1/ 307، والترمذي 1/ 335 - 336 وقال حسن صحيح والنسائي 1/ 293 - 294. (¬5) انظر الزرقاني 2/ 46. (¬6) وانظر مذهب الشافعي في شرح السنة 3/ 326، والمجموع 4/ 173. (¬7) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 160 - 162. (¬8) انظر شرح فتح القدير 1/ 163.

بيِّنة لكنه تعلق بان قوله (لَا صَلاَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ) يعني بعد صلاة العصر، وهو لمّا يصلّي العصر بعد، قلنا له: يجوز النفل في ذلك الوقت، فقالت طائفة من أصحابه: لا يجوز، فانقطعوا. وقالت طائفة أخرى: يجوز النفل، وهو الصحيح من مذهبهم، فلزم أن نرجع معهم إلى أصل المسألة، فنقول: قد يقدّم الأمر على النهي ها هنا بتأكيد قوله (لَا وَقْتَ لَهَا إِلَّا ذلِكَ). وبالجملة فإن المسألة عسرة المأخذ معهم وقد استوفيناها في مسائل الخلاف (¬1). والله أعلم. ¬

_ (¬1) في (ك) زيادة: وَالله وليُّ التوْفيقِ لاَ رَبّ غَيْرُهُ وَلاَ خير إلَّا خَيْرُهُ نَسْألهُ الْهدايَةَ. وفي (م) يتلوه كتاب الجنائز إن شاء الله. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمَّد وآله.

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز قال علماؤنا، رضي الله عنهم: الجنازة لفظ ينطلق على الميت، وينطلق على الأعواد التي يحمل عليها، ويقال: بفتح الجيم وكسرها. وسمعت عن ابن الأعرابي (¬1) إنه قال: إذا فُتِحت فهو الميت، وإذا كُسِرت فهي الأعواد، وإني لأخاف أن يكون أخذ ذلك من هيئة الحال وليس ذلك كما زعم علماؤنا أنهما لغتان وإنما الجنازة نفسه (¬2). فإن سميت به الأعواد فإن ذلك مجاز (¬3)، والدليل عليه الحديث الصحيح عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -،أنه قال: "إذا وُضِعتِ الْجَنَازَةُ عَلَى السّرِيرِ وَاحْتَملَهَا الرجَالُ عَلَى أعْنَاقهِمْ فَإنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ قَدِّمُوني قَدِّمُوني، وَإِنْ كَانَتْ غيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ يا ويلَها إلَى أيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا" (¬4). حقيقة اعتقادية: اعلموا، وفقكم الله تعالى، أن الموت ليس بعدم محض، ولا فناء صرف، وإنما هو تبدُّل حال بحال، وانتقال من دار إلى دار، وسير من غفلة إلى ذكر، أو من حال نوم إلى حال يقظة وهي المقصود الأول، ولو لم تكن الحالة كذلك لكان الخلق عبثاً، ولكانت السموات والأرض وما بينهما باطلاً، وقد بيَّنَّا، في كتاب الأصول، ما علَّمنا الله تعالى في كتابه من وجوب البعث واقتضاء الثواب والعقاب على تفاوت الأعمال فلينظر هناك. تأديب: جبل الله الخلقَ على حب الحياة وكراهية الممات، فإن كان ركوناً إلى الدنيا وحبّاً لها ¬

_ (¬1) محمَّد بن زياد المعروف بابن الأعرابي، أبو عبد الله، راوية، علامة باللغة، من أهل الكوفة، كان أحول أبوه مولى للعباس بن محمَّد بن علي الهاشمي. ولد سنة 150 ومات سنة 231 هـ. انظر وفيات الأعيان 10/ 492، تاريخ بغداد 5/ 282، الوافي بالوفيات 3/ 79، طبقات النحوين واللغويين ص 213، إرشاد الأريب 7/ 5، الفهرست لابن النديم 69، بغية الوعاة 1/ 249. (¬2) في "ك" و "م" الميت بنفسه. (¬3) قال الحافظ: الجنازة بالفتح والكسر لغتان. قال ابن قتيبة: وجماعة الكسر أفصح وقيل بالكسر للنعش وبالفتح للميت وقالوا: لا يقال: نعش إلا إذا كان عليه الميت. فتح البارى 3/ 109. (¬4) البخاي كتاب الجنائز باب حمل الرجال الجنازة دون النساء 2/ 108، والنسائي 4/ 41، وأحمد. انظر الفتح الرباني 8/ 2 - 4 كلهم عن أبي سعيد الخدري.

وإيثاراً فله الويل الطويل من الغبن، وإن كان خوفاً من ذنوبه ورغبة في عمل صالح يستفيده فالبشرى له من المغفرة والنعيم، وإن كان حياءً من الله تعالى لما اقتحم من مجاهرته فالله تعالى أحق أن يستحى منه، قال النبي، - صلى الله عليه وسلم - "يَقُولُ الله تَعَالَي إِذَا أحَبَّ عَبْدِي لِقَاءه أحْبَبْتُ لِقَاءهُ وَإِذَا كَرِهَ لِقَائِي كَرِهْتُ لِقَاءَة" (¬1)، وهذا الحديث ركبه على هذه الثلاثة الأحوال. فبحسب ذلك يكون التأويل، وقد روي، في الصحيح، عن عائشة، رضي الله عنها، زيادة حسنة في هذا الحديث: قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله كُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ قَالَ لَهَا لَيْسَ كَذلِكَ وَلَكِنَّ الْعَبْدَ يَعْنِي إذاً قُبِضَتْ رُوحهُ عَلَى بُشْرَى أحَبَّ لِقَاءَ الله فَأحَبَّ الله لِقَاءه، وإذَا قُبِضَتْ عَلَى غَضَبٍ كَرِهَ لِقَاءَ الله فَكَرِهَ الله لِقَاءهُ) (¬2)، وعلى هذا يخرج حديث أبي هُرَيْرَة، رضي الله عنه، في الرجل الذي لم يعمل خيراً قط فقال لأهله إذا مات فَحَرِّقُوه وَاذرُوا نِصْفَهُ في الْبَر وَنصْفَة في الْبَحْرِ (¬3) الحديث. فإنَّ هذا رجلٌ كره الموت من خشية الله تعالى فتلقاه الله، عزَّ وجلَّ، بمغفرته. وقد تباين الناس في تأويل هذا الحديث، فمنهم من أوَّل لفظه فقال معنى لئن قدر الله على لئن ضيق وهذا تأويل بعيد لوجهين: أحدهما: أنه لو خاف التضييق ما ذرى نصفه في البر ونصفه في البحر ولَلَقِيَ الله كذلك. والثانى: أن في بعض طرق الصحيح (¬4): (ذُرُوا نِصْفِى في الْبرِّ وَنصْفِى في الْبَحر لعلِّي أضلُّ (¬5) ............. ¬

_ (¬1) البخاري كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} 9/ 177، والموطّأ 1/ 240، والبغوي في شرح السنة 5/ 262 كلهم عن أبي هُرَيرة. (¬2) مسلم كتاب الذكر والدعاء باب من أحب لقاء الله ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه 4/ 2065 - 2066. (¬3) متفق عليه. البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} 9/ 177 - 178، ومسلم في كتاب التوبة باب سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه 4/ 2109 - 2110، والموطأ 1/ 240، والنسائي 4/ 112 - 113. (¬4) في (ك) و (ص) الحديث ولعله هو الصحيح لما يأتي لأن هذه الزيادة ليست في الصحيح. (¬5) قال ابن قتيبة: قالوا رَويتم أن رجلاً قال لبنيه: إذا متُّ فَأحْرقونى ثم أذروني في الْيَمِّ لعلِّي أضلُّ الله ففعلوا ذلِكَ فجمعهُ الله ثُمَّ قَال له: مَا حَمَلَكَ، أو كلاماً هذَا معناهُ، على ما فعَلْت؟ قالَ: مخافتك يا رَبّ، فغَفرَ له قالوا: وهذا كافر، والله لا يغفر للكافر، وبذلك جاء القرآن.

... الله) (¬1). وهذا تصريح بنفي والعلم الخفي عن الباري، وتقصير القدرة عن جمع المفترق، وقد اختلف الناس فيمن أقر بالذات، وأنكر الصفات، أو بضعها هل يحكم له بالإيمان والتفسيق، أم يقضى عليه بالكفر والتعطيل؟ وقد بيَّنَّا ذلك في إكفار المتأوّلين، والمختار لكم منه قبل هذا بلمعة فانظروها. والصحيح عندي، في تأويل هذا الحديث، أن هذا الرجل كان مؤمناً بشرع من قبله، في زمن الفترة وعند تغير الملل ودروسها، ومَن اتَّبع الدين، على هذه الحال، وطلب التوحيد، بين هذه الشبه، فإن ما أدرك منه ينتفع به، وما فاته يسامح فيه، وهذا قسّ (¬2) ابن ساعدة وزيد بن عمرو (¬3) ¬

= قال أبو محمد: ونحن نقول في (أضِلُّ الله) أنه يعني أفوت الله. تقول: ضللت كذا وكذا وأضللته، ومنه قول الله تعالى: {فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} أي لا يفوت ربي. وهذا رجل مؤمن بالله مقرٌ به خائف له، إلا أنه جهل صفة من صفاته فظنّ أنه إذا أُحرِق وذُري في الريح أنه يفوت الله فغفر الله تعالى له بمعرفته تأنيبه ومخافته من عذابه وجهله بهذه الصفة من صفاته، وقد غلط في صفات الله تعالى قوم من المسلمين ولا يحكم لهم بالنار بل ترجأ أمورهم إلى من هو أعلم بهم وبنيَّاتهم. مختلف الحديث ص 119. ونقل الزرقاني عن ابن عبد البر قوله: قال بعض العلماء هذا رجل جهل بعض صفات الله، وهي القدرة، ولا يكفر جاهل بعضها وإنما يكفر مَنْ عاند الحق. شرح الزرقاني 2/ 86. وقال ابن أبي جمرة: كان الرجل مؤمناً لأنه قد أيقن بالحساب وأن السيئات يعاقب عليها، وأما ما أوصى به فلعله كان جائزاً في شرعهم، وذلك لتصحيح التوبة، وقد ثبت في شرح بني إسرائيل قتلهم أنفسهم لصحة التوبة. فتح الباري 11/ 315. (¬1) أقول: الحديث بهذا اللفظ عند أحمد عن شيخه مهنأ بن عبد الحميد، أبو شبل، عن حماد بن سلمة عن أبي قزعة عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إِن رَجُلاً كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَزَقَهُ الله مَالًا وَوَلَداً حَتَّى إِذا ذهبَ عَصْرٌ وَجَاءَ عَصْرٌ، فَلَما حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: أي بَنِي! أيُّ أبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ فَقَالُوا: خَيْرَ أبٍ .. فَأذرُوني نِصْفِي في الْبَرَّ وَنصْفِي في الْبَحْرِ لَعَلَّي أضِلُّ الله). المسند 4/ 427، وفي 5/ 3 عن عفان عن حماد بن سلمة به. وعن يحيى بن سعيد قال: ثنا بهز عن أبيه عن جده 5/ 4. والحديث صحيح. (¬2) مات في 23 قبل الهجرة. قس بن ساعدة بن عمرو بن عدي بن مالك، أحد حكماء العرب ومن كبار خطبائهم في الجاهلية، كان أسقف نجران، ويقال: إنه أول عربي خطب متوكئاً على سيف أو عصا، وأول من قال في كلامه: أما بعد. طالت حياته وأدرك النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قبل النبوة ورآه في عكاظ. الأعلام 6/ 39، والبيان والتبيين للجاحظ 1/ 27، وعيون الأثر 1/ 68، وخزانة الأدب 1/ 267. (¬3) زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي، نصير المرأة في الجاهلية، وأحد الحكماء، وهو ابن عم عمر بن الخطاب، لم يدرك الإِسلام وكان يكره عبادة الأوثان ولا يأكل مما ذبح عليها .. رآه=

وورقة (¬1) وأشباههم فأما والشريعة غراء، والملة بيضاء، والجادة مشياء، والبيان قد وقع بالأسماء والصفات والتوحيد كله، فلا عذر لأحد فيه وعلى هذا المعنى أيضاً يخرج قوله (مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَراحٌ مِنْهُ) (¬2)، فإن العبد المؤمن يحب لقاء الله تعالى بوجهين (¬3): أما أحدهما: فبالبشرى فيستريح، وأما إذا رأى الحق قد درس، والباطل قد رأس فيتمنى الموت حينئذ، وقال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَتَمَنِّيَنَّ أحَدُكُمُ الْمَوْت لِضَرٍّ نَزَلَ بِهِ وَلْيَقُلْ اللهم احْيني مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْراً لي وَتَوَفَني مَا كَانَتَ الْوَفَاةُ خَيْراً (¬4) لي). وقال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: (لَنْ تَقُومَ الساعةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ) (¬5). فإن قيل: فما معنى قول النبي، - صلى الله عليه وسلم - (أرسَلَ الله مَلَكَ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامَ، لِيَقْبِضَ رُوحَهُ فَصَكَّهُ فَفَقَأ عيْنَهُ فَرَجِعَ إِلَى الله فَقَالَ أرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ فَرَدَ الله عَلَيْهِ عَيْنَهُ) (¬6). الحديث. ¬

_ = النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قبل النبوة. توفي قبل مبعث النبي،- صلى الله عليه وسلم -، بخمس سنين. الأعلام 3/ 100، والإصابة 1/ 569. مات سنة 12 قبل الهجرة. (¬1) ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، من قريش، حكيم جاهلي اعتزل الأوثان قبل الإِسلام. أدرك أوائل عصر النبوة ولم يدرك الدعوة. وهو ابن عم خديجة، أم المؤمنين. الأعلام 9/ 131، الروض الآنف 1/ 124 - 127، 156، والإصابة 3/ 633. (¬2) متفق عليه. البخاري في الرقاق باب سكرات الموت 8/ 133 ومسلم في الجنائز باب ما جاء في مستريح ومستراح منه 2/ 656، والموطّأ 1/ 241 - 242، وشرح السنة 5/ 270، كلهم عن أبي قتادة قال: (الْعَبْد الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأذَاهَا إلى رَحْمَةِ الله، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَريحُ مِنْة العِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَر وَالدَّوَابُ) لفظ البخاري. (¬3) في (م) من. (¬4) متفق عليه. البخاري في الدعوات، باب الدعاء بالموت والحياة 8/ 94، ومسلم في الذكر والدعاء باب تمني كراهية الموت لضر نزل به 4/ 2064، والترمذي 3/ 302، وقال حسن صحيح كلهم عن أنس بن مالك. (¬5) متفق عليه. البخاري في كتاب الفتن باب لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور 9/ 73، ومسلم في الفتن وأشراط الساعة باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء 4/ 2231، والموطأ 1/ 241 كلهم عن أبي هريرة. (¬6) متفق عليه، البخاري في الجنائز باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة ونحوها 2/ 113، ومسلم في الفضائل باب فضائل موسى عليه السلام 4/ 1842، والنسائي 4/ 118 - 119 كلهم عن أبي هريرة.

قلنا: لم يكن هذا من موسى، عليه السلام، كراهية في الموت، وإنما كان غضباً من موسى، عليه السلام، لسرعة غضبه، وما كان قط غضبه إلا في الله لا لمعنى من معاني الدنيا. قال علماؤنا: وإنما غضب ها هنا لأنه كان عنده أن نبياً لم يقبض قط حتى يخيَّر، فلما جاء بغير تخيير استنكر ذلك وأدركته حمية الإلهية. ألا ترى إلى قول عائشة، رضي الله عنها، حين سمعت النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يقول (اللَّهُمَّ الرَّفِيقُ الأعْلَى) فعلمت أنه كان حديثه الذي كان يحدثنا به، تعني قوله (أنَّ نَبِيّاً لَمْ يُقْبَضْ حَتَّى يُخَيَّرَ) (¬1)، وقد روى أبو مويهبة (¬2) أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قبل وفاته بليال نزل إليه جبريل عليه السلام (فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الْخُلْدِ في الدُنْيَا أوْ بَيْنَ الْمَوْتِ) (¬3)، وهذا من بلاء الله تعالى الحسن لأنبيائه، عليهم الصلاة والسلام, لأنه يخيِّرهم قبل الموت بين البقاء في الدنيا، على النعيم والنبوة والملك، وبين لقاء الله تعالى فلا يؤثرون على الله تعالى شيئاً لعظيم معرفتهم به وأن لقاءه عن رضوان هو الشرف الأكبر والنعيم الأوفر. تتميم: روى النسائي وغيره، وألفاظهم متقاربة، (أنَّ الْمَلَائِكَةَ إِذَا نَزِلَتْ لِقَبْضِ رُوحِ ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في كتاب المغازي باب مرض النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ووفاته 6/ 12، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب فضل عائشة، رضي الله عنها 4/ 1894، والموطّأ 1/ 239 بلاغاً كلهم عن عائشة. (¬2) أبو مويهبة، ويقال أبو موهبة وهو قول الواقدي، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهد غزوة المريسيع وكان ممن يقول لعائشة جملها. روى عنه عبد الله بن عمرو وهو من أقرانه، كذا ذكره الحافظ في الإصابة 4/ 186 في ترجمته. (¬3) رواه الإِمام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق. انظر الفتح الرباني 21/ 223، والحاكم من نفس الطريق وقال صحيح على شرط مسلم، ورواه معزواً به يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني عبد الله بن ربيعة عن عبيد بن عبد الحكم عن عبد الله بن عمرو عن أبي مويهبة، رضي الله عنهم، عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، نحوه، وصححه الذهى أيضاً. المستدرك 3/ 55 - 56، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/ 24 وعزاه لأحمد والطبراني وقال: إنهما روياه بإسنادين ورجال أحدهما ثقات إلا أن الإسناد الأول عن عبيد بن حنين عن عبد الله بن عمرو عن أبي مويهبة، والثاني عن عبيد بن حنين عن أبي مويهبة. أقول: الرواية الأُولى عند الإِمام أحمد عن عبيد بن حنين عن أبي مويهبة، ونبه الحافظ، في الإصابة، على خطأ وقع في والد عبيد فقال: وقع في رواية بعضهم عبيد بن حنين، بمهملة ونونين، وبه جزم ابن عبد البر، وإنما هو عبيد ابن جبير، بجيم وموحدة، ونبه على ذلك ابن فتحون. الإصابة 4/ 188. درجة الحديث: صححه الحاكم والذهبي، وقد صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث. وعندي أنه حسن من أجل ابن إسحاق، وقد تقدم الكلام عليه.

فقه

الْعَبْدِ عَلَى الرِّضَى نَزِلوا بِقِطْعَةِ مِنِ اسْتَبْرُقٍ) (¬1) الحديث، كأنه مهاد للروح وحمل للنفس على طريق الكرامة، ولا يخلو أن تكون الروح جسماً كما أشار إليه الفقهاء (¬2)، أو تكون عرضاً كما اختاره المتكلمون. فإن كانت جسماً فلا يرتسم محلها مثل كل جسم، وإن كانت عرضاً فلا تنفصل عن البدن إلا بجزء منه تقوم به ولعله، كما بينّاه، الجزء المذكور في حديث أبي هريرة (كُلُّ ابنِ آدَمَ تَأْكُلُة الأرَضُ إِلَّا عَجبَ الذَّنْبِ مِنْهُ خُلِقَ وَفِيهِ يُرَكَّبُ) (¬3). وعلى هذه الحالة يقع السؤال في القبر والجواب، ويعرض عليه المقعد بالغداة والعشي، ويعلق في شجر الجنة، وسيأتي تمامه في الجهاد (¬4). فقه: إن كان الميت كبيراً فهو محمول على ظاهر الإيمان الذي كان عليه، وإن كان صغيراً فحكمه حكم خاصته حتى قال علماؤنا: إن الرجل إذا اشترى الأبوين ومعهما ولد صغير ومات أنه محمول على حال الشاري من الإيمان لا على حال أبويه، وقد قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأبَوَاهُ يهَوِّدانَهُ" (¬5) الحديث. ¬

_ (¬1) رواه النسائي من طريق قسامة بن زهير عن أبي هريرة. سنن النسائي 4/ 8 وأحمد من طريق سعيد بن يسار عن أبي هريرة. انظر الفتح الرباني 7/ 71 - 72، وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة وعزاه لأحمد والنسائي. مشكاة المصابيح 1/ 511 - 512. درجة الحديث: صححه الشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة، ونقل الشيخ البنا عن صاحب التنقيح قوله: رجاله رجال الصحيح. الفتح الرباني 7/ 72. (¬2) قال ابن القيم رحمه الله: واختلفوا في تعيين ذلك الجسم على وجوه، وساق ستة أوجه رجح السادس منها وهو أن الروح جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكاً لهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه الأعضاء، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح، وهذا هو القول الصواب في المسألة وهو الذي لا يصح غيره وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دلَّ الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة. وأدلة العقل والفطرة. الروح ص 41. (¬3) مسلم في كتاب الفتن واشراط الساعة باب النفختين 4/ 2271، والموطأ 1/ 239، وأبو داود 4/ 236، والنسائي 4/ 111 - 112. (¬4) 2/ 577 (¬5) متفق عليه. البخاري في كتاب القدر باب الله أعلم بما كانوا فاعلين 8/ 153، ومسلم في كتاب القدر باب=

فحكم الأبناء بحكم الآباء في الظاهر، ووكل الباطن إلى الله تعالى سبحانه {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} (¬1)، فجعل الأبناء في كتابه تبعاً للآباء في حكم الدنيا، وكذلك يكون في الجنة، إن شاء الله تعالى، والأخبار في ذلك متعارضة، وقد بيَّنَّاها في شرح الصحيح، فإن جهل حال الميت وذلك في ثلاث صور: الصورة الأولى: أن ينهدم حائط على قوم مسلمين فيهم كافر فإنهم يُغسِّلون ويُصلّى عليهم وينوى بالدعاء المسلم (¬2). الصورة الثانية: أن يكونوا كلهم كفاراً إلا واحداً لم يتعين في الصورتين فإنهم لا يُغسَّلون ولا يُصلّى عليهم، في إحدى الروايتين، يجعلون الأقل تبعاً للأكثر، وروي في النازلة الأولى أنهم يُغسَّلون وُيصلى عليهم أيضاً وينوى بالدعاء المسلم. الصورة الثالثة: أن يوجد رجل بفلاة من الأرض ولا يُدرى أمسلم هو أم كافر، فإنه لا يُصلَّى عليه. وقال ابن وهب (¬3): ينظر إليه على ثوب هل هو ختن أم لا؟ والصحيح عندي أن ينظر إلى غالب أهل الأرض، فيحكم له بحكم الغالب من أهلها، وذلك يتبين في مسائل اللقيط، إن شاء الله تعالى. تقسيم: إذا ثبت هذا فإن للميت ستة حقوق. حضوره، غسله، كفنه، حمله، الصلاة عليه، دفنه. أما حضوره فإنه يجب على كافة المسلمين، وخصوصاً الأولياء، أن يحضروا عند الميت إذا احتضر، كما يجب عليهم تمريضه إن مرض، والرفق به فيما يحتاج إليه، وتذكيره بالله تعالى إذا خيف الموت عليه، قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُم لاَ إلهَ إلا الله" (¬4). ¬

_ = معنى كل مولود يولد على الفطرة 4/ 2048، والموطّأ 1/ 241، وأبو داود 4/ 229، والترمذي 4/ 447 كلهم عن أبي هرَيْرَة. (¬1) سورة الطور آية 21. (¬2) في (م) المسلمين. (¬3) هو عبد الله بن وهب بن مسلم الفهري بالولاء المصري، أبو محمَّد، فقيه الأئمة، من أصحاب مالك، ولد سنة 125 ومات سنة 197 هـ، الأعلام 4/ 289، ت ت 6/ 71، تذكرة الحفاظ للذهبي 1/ 279، الانتفاء ص 48. (¬4) مسلم في كتاب الجنائز باب تلقين الموتى لا إله إلا الله 2/ 631، وأبو داود 3/ 487، والنسائي 4/ 5، والترمذي 3/ 306، وابن ماجه 1/ 464، كلهم عن أبي سعيد الخدري.

وهذا لا خلاف فيه، وأما غسله فاختلف الناس فيه. فأكثر الخلق على أنه واجب وليس فيه أثر (¬1) وإنما فيه أفعال غسل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وغُسِّل هو أيضاً مع طهارته، وهذا يدل على فرضيته (¬2)، ولم يرد بلفظ الأمر إلا في حديث واحد هو قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -، للنسوة اللاتي غسَّلنَ ابنته (إِغْسِلْنَهَا ثَلاثاً أوْ (¬3) خَمْساً) الحديث. قال علماؤنا: غسل الميت عبادة ليس لنجاسته، والدليل عليه قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ" (¬4) فذَكر الصفة في الحكم، وذِكر الصفة في الحكم تعليل كأنه قال لا ينجس لِإيمانه (¬5). قال القاضي (¬6): الشديد (¬7) لو لم ينجس بالموت لما كان ما يبين عنه من أعضائه في حال الحياة نجساً، قلنا: ليس للأبعاض حكم الجملة في حقيقة ولا شريعة فهذا اعتبار فاسد. واختلف علماؤنا هل غسله للنظافة أو للعبادة- (¬8)، والذي عندي أنه تعبُّد ونظافة، كالعدة عبادة وبراءة للرحم، وإزالة النجس (¬9) عبادة ونظافة، ولذلك يسرَّح رأسه تسريحاً خفيفاً، خِلافاً لأبى حنيفة (¬10) , لأن في تسريحه وصبِّ الماء عليه زيادة في النظافة، وكلما حقّق المقصود فهو مشروع، ويمضمض خلافاً لأبي حنيفة حين قال لا فائدة في مضمضته ¬

_ (¬1) في (ك) و (م) أمر. (¬2) قال الحافظ: الجمهور على وجوبه .. وقد توارد به القول والعمل وغسل الطاهر المطهر فكيف بمن سواه. فتح الباري 3/ 126. (¬3) متفق عليه. البخاري في الجنائز باب غسل الميت ووضوئه 2/ 93، ومسلم في الجنائز باب غسل الميت 2/ 646، وأبو داود 3/ 503، والترمذي 3/ 315، والنسائي 4/ 28، وابن ماجه 1/ 468، والبغوي في شرح السنة 5/ 304 كلهم عن أم عطية الأنصارية. (¬4) متفق عليه. البخاري في الغسل باب عرق الجنب وأن المسلم لا ينجس 1/ 79، ومسلم في الحيض باب الدليل على أن المسلم لا ينجس. انظر مسلم بشرح النووي 4/ 66، وأبوداود 1/ 59، والترمذي 1/ 207 - 208، والنسائي 1/ 45 - 146، وابن ماجه 1/ 178 كلهم عن أبي هريرة. (¬5) انظر هذا المبحث في شرح التنقيح ص 389 - 390. (¬6) القاضي هو الشارح نفسه. (¬7) هذه العبارة في كل النسخ الشديد وأغلب الظن عندي أنها الشهيد. (¬8) قال ابن رشد: قيل إنه فرض على الكفاية، وقيل سنة على الكفاية، والقولان كلاهما في المذهب, بداية المجتهد 1/ 226. (¬9) في (م) النجاسة وفي (ك) النجاسات. (¬10) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 451.

لأنه لا يقذف (¬1) الماء، قلنا: مرور الماء على المحل وخروجه عنه تنظيف له فإنه غسل يعم جميع البدن فشرعت فيه المضمضة كغسل الجنابة. واعلموا، وفَّقكم الله تعالى، أن الميت كله عورة؛ فلذلك يستحب أن يغسل على ثوب، وقد نهى أصحاب رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، عن نزع قميصه حين غُسِّل فيه (¬2)، وما أحسن الاقتداء به حياً وميتاً، ويستحب أن يُطيَّب بالكافور، خلافاً لأبي حنيفة، ولولا أمر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه (قَالَ عَلَى مَنْ غَسَّلَ الْمَيِّتَ- الْغُسْلَ وَعَلَى مَنْ حَمَلَة الْوُضُوءَ) (¬3). ولو كان هذا الحديث صحيحاً لما ¬

_ (¬1) انظر شرح فتح القدير 1/ 449. (¬2) أبو داود 3/ 502 من طريق ابن إسحاق قال: حدثني يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير قال: سمعت عائشة تقول: لَمّا أرَادُوا غَسْلَ النبِيّ، - صلى الله عليه وسلم -، قَالُوا: وَالله مَا نَدْرِي انُجَرِّدُ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، مِنْ ثِيَابِهِ كمَا نُجَردُ مَوْتَانَا أمْ نغْسِلُه وَعَلَيْهِ ثِيَابُة؟ فَلَمَّا اختَلَفوا أَلْقَى الله عَلَيْهِمِ النوْمَ حَتى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إلَّا وَذقْنُهُ في صَدْرِهِ ثُمَّ يكَلِّمُهمْ مُكَلِّم مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لاَ يَدْرُونَ مَنْ هُوَ: أنِ اغْسُلُوا النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، وَعَلَيْهِ ثِيَابُة فَقَامُوا إلَى رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، وَغَسَّلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ يُصِبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ .. ورواه أحمد من نفس الطريق. انظر الفتح الرباني 21/ 252، والحاكم في المستدرك 3/ 59 - 60، وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرِّجاء، وابن حبان انظر موارد الظمآن ص 529، ورواه ابن ماجه من قول عائشة قالت: لَوْ كُنْتُ اسَتقْبَلْت مِنْ أمْرِي مَا استَدْبَرْتُ مَا غَسَّلَ النبِي - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ نِسَائِهِ 1/ 470. ونقل السندي عن البوصيري قوله: هذا حديث إسناده صحيح ورجاله ثقات لأن ابن إسحاق وإن كان مدلِّساً لكن جاء عنه التصريح بالتحديث في رواية الحاكم وغيره .. حاشية السندي على ابن ماجه 1/ 477، وانظر مصباح الزجاجة 2/ 26، وقال فيه الشيخ البنّا: الحديث صحيح، رجاله كلهم ثقات. الفتح الرباني 21/ 252. درجة الحديث: صححه الحاكم وابن حبان والسندي والبنا. (¬3) رواه أبو داود 3/ 511 من طريق عمرو بن عمير عن أبي هُرَيْرَة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَنْ غسَّلَ الْمَيِّتَ فلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَة فَلْيَتَوَضأ". والترمذي 3/ 318 من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هرَيْرَة وقال حديث أبي هرَيْرَة حديث حسن، ورواه الطيالسي في مسنده عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة. منحة المعبود 1/ 160، وابن ماجه مثل رواية الترمذي 1/ 470، وعزاه السبكي للبيهقي ونقل عنه أنه قال: وفيه عمرو بن عمير إنما يُعرف بهذا الحديث وليس بالمشهور. المنهل العذب المورود 8/ 323. أقول: الحديث فيه عمرو بن عمير الحجازي مجهول من الثالثة/ د. ت 2/ 75، وقال في ت ت روى عن أبي هريرة حديث من غسَّل ميتاً فليغتسل، وعنه القاسم ابن عباس اللهبى قال ابن القطان: هو مجهول الحال، وقال الذهبي في الميزان تفرد عنه القاسم المذكور. ت ت 8/ 84 - 85، وقال الحافظ أيضاً: هذا الحديث رواته ثقات إلا عمرو بن عمير فليس بمعروف. وروى الترمذي وابن حبان من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هرَيْرَة نحوه. وهو معلول لأن أبا صالح لم يسمعه من أبي هرَيْرَة. وقال ابن =

خفي على المهاجرين حين قالوا لأسماء ابنة عميس، وقد غسَّلت أبا بكر زوجها: لَا غُسْلَ عَلَيْكِ (¬1)، ولهذا ردَّ مالك، رضي الله عنه، هذا الحديث ونعْم ما اعتمد في الرد؛ لأن الحديث إذا تركه الخلفاء والمهاجرون يكون ذلك غمزاً أبيه فكيف بالضعيف؟ وكما تغسل المرأة زوجها فكذلك يغسل الزوج زوجته، وقال (ح) لا (¬2) يغسلها، وقد قالت عائشة، رضي الله عنها: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَّلَ رُسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، إلَّا نِسَاؤُهُ (¬3). فإن قيل نكاح النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لا ينقطع بالموت لقول الله عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا} ¬

_ = أبي حاتم عن أبيه الصواب عن أبي هريرة موقوف. فتح الباري 3/ 327، ونقل الشوكاني عن الحافظ قوله: وهو لكثرة طرقه أسوأ أحواله أن يكون حسناً، نيل الأوطار 1/ 298، وقال الذهبي: ليس فيمن غسّل ميتاً فليغتسل حديث ثابت. نقلاً عن أوجز المسالك 4/ 201. درجة الحديث: عندي أنه ضعيف. (¬1) الموطّأ 1/ 223 مَالِكٌ عَنْ عبد الله بْنِ أبِي بَكْر أن أسمَاءَ بِنْتَ عُمَيْس غَسَّلَت أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيق حِين توُفّي .. ورواه عبد الرزاق من نفس الطريق المصنف 3/ 410، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 3/ 397 من طريق محمَّد بن عمرو الواقدي عن محمَّد بن عبد الله بن أخي الزهري عن الزهري عن عروة عن عائشة وقال: وهذا الحديث الموصول وإن كان راويه محمَّد بن عمرو الواقدي، صاحب التاريخ والمغازي، فليس بالقوي، وله شاهد مرسل عن ابن أي مليكة وعن عطاءِ بن أبي رباح عن سعد بن إبراهيم أنَّ أسْمَاءَ بِنتَ عُمَيسٍ غسّلتْ زَوْجَهَا أبَا بكرٍ، رَضِيَ الله عنه. قلت: الشاهد الذي أشار إليه في المصنف لعبد الرزاق 3/ 408، أقول الرواية الموصولة فيها محمَّد بن عمرو بن واقد الواقدي المدني القاضي نزيل بغداد، متروك مع سعة علمه من التاسعة مات سنة 207 وله 80 سنة/ ق ت 2/ 194، وقال في ت ت: قال البخاري: متروك الحديث تركه أحمد وابن المبارك وابن نمير وإسماعيل بن زكريا، ومرة قال كذَّبه أحمد، وقال النسائي: الكذّابون أربعة الواقدي بالمدينة، ومقاتل بخراسان، ومحمد بن سعيد المصلوب بالشام، وذكر الرابع ت ت 9/ 363، وانظر الكاشف 3/ 82، والكامل 6/ 2245، المغني في الضعفاء 2/ 619، الضعفاء والمتروكون للنسائى ص 93. كما أن شيخ الواقدي هنا هو: محمَّد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدنى ابن الزهري، صدوق له أوهام من السابعة. مات سنة 152 وقيل بعدها/ع. ت 2/ 80، وانظر ت ت 9/ 278. درجة الحديث: الموصول منه ضعيف. أما المرسل فقد نقل الكاندهلوي عن النيموي قوله: هذا الحديث مرسل قوي. أوجز المسالك 4/ 199، وحسَّنه عبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول 7/ 338. (¬2) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 2/ 451، والمسوي للدهلوي 1/ 238. (¬3) انظر التخريج في التعليق الثاني 438.

{أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} (¬1). قلنا: إن انقطع النكاح بالموت بقيت أحكامه من الميراث والولاء والعدة وهي محبوسة لحقه إذا مات، فلذلك يكون له غسلها إذا ماتت لأنه حكم من أحكام النكاح. فإن قيل كيف يغسلها ويلمسها وهو يطأ أُختها, لأنه يجوز له بنفس الموت أن يتزوج أُختها (¬2)، فإِن جوَّزتم له ذلك كان جمعاً بين الأختين. قلنا: هذا ليس عبادة وليس من جنس لمس الأخت حتى يتصور الجمع بينهما. وأما كفنه فهو من رأس ماله. كُفِّن مصعب بن عمير في نمرة ولم يوجد له غيرها (¬3)، وكذلك حمزة (¬4)، رضي الله عنهما، واختلف العلماء على أن الكفن هل يتعدد أم هو واحد؟ والصحيح أنه يتعدد، وأنه متى احتاج إلى الكفن أخذه مرة أو مرتين، كما كان في حياته؛ إذ ليس لورثته إلا الفضلة عن حاجته، فإن لم يكن له مال فكفنه على جميع المسلمين يخرجونه من بيت مالهم، فإن عدم أو تعذر فعليهم أجمعين حتى يقوم به أحدهم، وليكن الكفن حسناً معناه صفيقاً (¬5)، وليس المراد بالحسن علو القيمة ولا شرف الرفعة وإنما هو الكثافة والتستر (¬6) وهو معنى الحديث "إِذا كَفَّنَ أحَدُكُمْ أخَاة فَلْيُحْسِنْ كَفَنَهُ" (¬7). ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب آية 53. (¬2) في (م) الأخت. (¬3) ضرب من الأكسية. شرح السنة 5/ 320، وانظر شرح النووي على مسلم 67، والحديث متفق عليه من رواية خباب بن الأرت؛ فقد أخرجه البخاري في الجنائز باب إذا لم يجد كفناً إلا ما يواري رأسه أو قدميه غطى رأسه 2/ 98، وفي فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - 5/ 71 - 72، وفي المغازي باب غزوة أُحُد 5/ 121 - 122، وفي باب من قُتل من المسلمين يوم أُحد 5/ 131، ومسلم في الجنائز باب في كفن الميت 2/ 649. (¬4) البخاري في الجنائز باب إذا لم يجد إلا ثوباً واحداً 2/ 98، وفي المغازي باب غزوة أُحُد 5/ 121 (مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أبِيهِ قَالَ: أُتيَ عبد الرحْمنِ ابن عَوْفٍ، رَضِيَ الله عَنْهُ، يَوْماً بِطَعَامٍ، وَكَانَ صَائِماً، فَقَالَ: قُتِلَ مصْعب بْنُ عميْرٍ، وَهوَ خيْرٌ مِني، كُفِّنَ في برْدةٍ إنْ غَطَّى رَأْسَة بَدَتْ رجْلاهُ، وإنْ غَطَّى رَجْلَاة بَدَا رَأسَة، وَأرَاة قَالَ: قُتِلَ حَمْزَة، وَهوَ خَيْرٌ مِنِّي، ثُمَّ بَسَطَ لَنَا في الدُّنْيَا مَا بَسَطَ ..). والحديث أورده الخطيب في المشكاة 1/ 510، وعزاه للبخاري فقط. (¬5) ثوب صفيق: ضد سخيف. ترتيب القاموس 2/ 832 وانظر اللسان 10/ 198. (¬6) في (ك) و (م) الستر. (¬7) مسلم في كتاب الجنائز باب كفن الميت 2/ 651، وكذلك هو في شرح السنة 5/ 315، كلاهما من حديث جابر.

معناه فليحسنه بالتستر، ويستحب أن يكون وتراً، وقد روى البزار وغيره أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كفن فىٍ سبعة أثواب (¬1)، قال علماؤنا: ثلاثة سحولية وقميص وسراويل وعمامة، فهذه ستٌّ، والقطيفة (¬2) التي فرشت (¬3) له حين نازع فيها شقران (¬4) هي السابعة. وقول عائشة، رضي الله عنها: (لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عَمَامَةٌ) (¬5) نفي لوجودها أو نفي لتعديدها في الثلاثة الأثواب، وقد اختلف الناس في الكفن هل هو مال موضوع بضيعة لا مالك له ولا صاحب أو له مالك وهل ذلك المالك الورثة أو الميت، وذلك يتبين في كتاب السرقة (¬6) إن شاء الله تعالى. وأما حمله فإنه من فروضه إن لم يكن له مال، فإن كان له مال فماله يحمله، وقد رأيت في جميع ديار المشرق، صانها الله تعالى، أنه ليس للموتى حامل مخصوص، ولا فئة إجارة مشروعة، ولكن إذا جُعل الميت على السرير نادى منادٍ: أحملوا تُحملوا، فيتبادر ¬

_ (¬1) رواه أحمد في المسند 1/ 94 من طريق محمَّد بن علي بن عقيل عن محمَّد بن الحنفية عن علي. أما رواية البزار فلم أطلع عليها في كشف الأستار، وعزاه الهيثمي لأحمد والبزار فقال رواه أحمد بإسناد حسن والبزار. مجمع الزوائد 3/ 23، وابن أبي شيبة في المصنف 3/ 262. والحديث فيه عبد الله بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي، أبو أحمد المدني، صدوق، في حديثه لين، ويقال تغير بآخرة من الرابعة. مات بعد 140/ بخ د ت ق ت 2/ 448، وانطر ت ت 6/ 13، وفي التلخيص 2/ 115 علي بن عقيل سيء الحفظ، يصلح حديثه للمتابعات فأما إذا انفرد فيحسن. وأما إذا خالف فلا يقبل. وقد روى الحاكم من حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر ما يعضد رواية ابن عقيل عن ابن الحنفية عن علي. درجة الحديث: حسّنه الهيثمي والحافط. ولعل ذلك بالنظر إلى المتابعات والشواهد. (¬2) القطيفة كساء خمل. النهاية 4/ 84. (¬3) روى الترمذي من طريق جعفر بن محمَّد عن أبيه قال: الذي ألحد قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أبو طلحة، والذي ألقى القطيفة تحته شقران مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال حسن غريب. وروى علي بن المديني عن عثمان بن فرقد هذا الحديث. الترمذي 3/ 365. درجة الحديث: نقل الحافظ تحسين الترمذي وسكت عليه. التلخيص 2/ 138. (¬4) شُقْران، بضم أوله وسكون القاف، مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيل اسمه صالح شهد بدراً، وهو مملوك ثم عتق، أظنه مات في خلافة عثمان. ت 1/ 354، وانظر ت ت 4/ 360. (¬5) متفق عليه. البخاري في الجنائز باب الثياب البيض للكفن 2/ 95 - 96، ومسلم في كتاب الجنائز باب في كفن الميت 2/ 649، قالت عائشة، رضي الله عنها: (أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، كفِّنَ في ثِلَاَثة أثواَبٍ يَمَانيةٍ بِيض سُحُوِليَّةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ قَمِيصٌ وَلاَ عَمَامَةٌ) لفظ البخاري. (¬6) انظر كتاب السرقة ل 65 من النسخة م.

الناس إليه فيحملونه دَوَلاً (¬1) حتى يوضع على قبره، فإذا حُملت الجنازة فالسنَّة أن يمشي أمامها، كما روى مالك، رضي الله عنه، عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء من بعده إلى زمانه (¬2)، وقد قال مالك، رضي الله عنه: إن كان ماشياً فأمامها وإن كان راكباً فخلفها (¬3)، وقال أهل العراق: المشي خلفها أفضل (¬4) لقول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ تَبعَ جَنَازَةً) (¬5) في كل ¬

_ (¬1) أي متداولين متناوبين على حمله. (¬2) الموطأ 1/ 225 مَالِك عَنْ ابنِ شِهَاب أن رَسولَ اللِه - صلى الله عليه وسلم -، وَأبَا بكرٍ وَعمَرَ كانُوا يمْشونَ أمَامَ الْجَنَازَةِ. قال ابن عبد البر: هكذا هذا الحديث في الموطأ مرسل عند جميع الرواة، ووصله عن مالك، خارج الموطأ، يحيى بن صالح وعبد الله بن عون وحاتم بن سليمان وغيرهم عن مالك عن الزهري عن سالم عن أبيه، وكذا وصله جماعات ثقات من أصحاب الزهري كابن أخيه وابن عيينة ومعمر ويحيى ابن سعيد وموسى بن عتبة وزياد بن سعد وعباس بن الحسن على اختلاف على بعضهم، ثم أسند هذه الروايات كلها. ورواية ابن عيينة أخرجها أصحاب السنن الأربعة. الزرقاني 2/ 55؛ فقد رواها أبو داود عن القعنبي عن سفيان ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه 3/ 522، والترمذي عن قتيبة وأحمد ابن منيع وإسحاق بن منصور ومحمود بن غيلان قالوا حدثنا سفيان .. قال الترمذي وأهل الحديث كلهم يرون أن الحديث المرسل في ذلك أصح .. قال ابن المبارك حديث الزهري، في هذا، مرسل أصح من حديث ابن عيينة. سنن الترمذي 3/ 330. ورواه النسائي من طريق قتيبة عن سفيان به 4/ 56، وابن ماجه من طريق سهل بن أبي سهيل عن سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه 1/ 475، وأحمد. انظر الفتح الرباني 8/ 15، والبغوي في شرح السنة 5/ 332، والبيهقي في السنن الكبرى من نفس الطريق 4/ 23 وقال عقب روايته روي موصولاً، وقيل مرسلاً، ومن وصله واستقر على وصله، ولم يختلف عليه فيه، وهو سفيان بن عيينة حجة ثقة والله أعلم. درجة الحديث: نقل الحافظ تصحيحه عن ابن المنذر وابن حزم. التلخيص 2/ 118، وقد تقدم مثل ذلك عن البيهقي 4/ 23. (¬3) انظر مواهب الجليل شرح مختصر خليل 2/ 227 وبداية المجتهد 1/ 233. (¬4) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 469. (¬5) روى أبو داود من طريق (يحْيىَ بن عبيدَ الله التيَمِي عَنْ أبِي مَاجِدةَ عَنْ ابنِ مَسْعودٍ قَالَ: سَألنَا نَبِيَّنَا - صلى الله عليه وسلم -، عَنِ المَشْي معِ الْجَنَازَةِ فَقَالَ: مَا دونَ الْخَبَبِ إنْ يكنْ خَيْراً تَعْجَلْ إلَيْهِ وإنْ يَكن غَيْرَ ذلِكَ فَبَعْدَ الأهلِ النَّارُ وَالْجَنَازَة مَتْبوعَةٌ وَلَا تتبع لَيْس مَعَهَا مَنْ يَقْدِمهَا). قال أبو داود وهو ضعيف هو يحيي بن عبد الله وهو يحيي الجابر، قال أبو داود وهذا كوفي وأبو ماجدة بصري .. لا يعرف سنن أبي داود 3/ 525، ورواه الترمذي من طريق أبي ماجدة هذا ثم قال هذا حديث لا يعرف من حديث عبد الله بن مسعود إلا من هذا الوجه، قال سمعت محمَّد بن إسماعيل يضعف حديث أبي ماجدة لهذا، وقال محمَّد قال الحميدي قال ابن عيينة قيل ليحيى من أبو ماجدة هذا؟ قال طائر طار فحدثنا، وقد ذهب بعض أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وغيرهم إلى هذا، ورأوا أن المشي خلفها أفضل، وبه يقول سفيان الثوري وإسحاق قال إن أبا ماجدة رجل مجهول لا يعرف، سنن الترمذي =

حديث ورد فيه ذكر ذلك، والتابع يكون خلف المتبوع، وهذا لا يصح لأن التابع للملك قد يمشي بين يديه لما يحتاج إليه، فليس يلزم من الاتباع تأخر التابع عن المتبوع، وتلك جهالة باللغة، ويستحب ترك الركوب فيها. وقد روى المغيرة (¬1) وثوبان، رضي الله عنهما، عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كراهية ذلك، وفي لفظ حديث ثوبان أنَّ النبيَّ، - صلى الله عليه وسلم - "قَالَ لأِصْحَابِهِ أمَا تَسْتَحْيُونَ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ يَمْشونَ وَأنتُمُ تَرْكَبونَ" (¬2) خرجه النسائي وأبو داود. وأما الصلاة عليه، فاختلف العلماء فيها، فمنهم من قاله إنها فريضة، ومنهم من قال إنها سنة، وإذا قلنا إنها فريضة فإنها من فرائض الميت من قام بها أجزأة لا من فرائض الناس، وهذا الذي يعبّر العلماء عنه بفرض كفاية (¬3). فإن قيل ميّزوا لنا فرض الكفاية من ¬

_ = 3/ 333 - 333، ورواه ابن ماجه من طريق أبي ماجدة مختصراً على قوله الجنازة متبعة وليست بتابعة ليس معها من تقدمها سنن ابن ماجه 1/ 476، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 25، وقال وأبو ماجدة مجهول ويحيى الجابر ضعّفه جماعة من أهل النقل. والبغوي في شرح السنة 4/ 25، ونص على جهالة أبي ماجدة، وكذا أورده الخطيب التبريزي في المشكاة ونص على جهالته 1/ 526، وقال الحافظ في التلخيص ضعّفه البخاري وابن عدي والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم. التلخيص 2/ 120. درجة الحديث: ضعيف. (¬1) رواه أبو داود بلفظ (الراكبُ يَسِيرُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ وَالمَاشي خَلْفَهَا وأمَامَهَا). أبو داود 3/ 522، والترمذي 3/ 350، وصحّحه أحمد. انظر الفتح الرباني 8/ 15، والنسائي 4/ 85، وابن ماجه 1/ 475، والحاكم في المستدرك 1/ 355، وقال صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 24 - 25، وابن حبان، انظر موارد الظمآن ص 195. درجة الحديث: صحح إسناده الألباني في تعليقه على المشكاة 1/ 525، بالإضافة لمن تقدم. (¬2) رواه الترمذي من طريق أبي بكر بن أبي مريم عن راشد بن سعد عن ثوبان وقال حديث ثوبان قد روي عنه موقوفاً، قال محمد الموقوف أصح. الترمذي 3/ 333، وابن ماجه من نفس الطريق 1/ 475، ورواه البغوي في شرح السنة 5/ 335، وإسناده الترمذي وابن ماجه فيه أبو بكر بن أبي مريم ضعيف، كما قال الحافظ في ت 2/ 398، وانظر ت ت 12/ 28 - 30، وقد رواه أبو داود من طريق آخر (عَنْ ثَوْبانَ أن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، أتيَ بِدَابةٍ، وَهُوَ مَعِ الْجَنَازةِ، فأبَى أنْ يَرْكَبَهَا، فَلَمَّا انصَرَفَ أتىَ بِدَابْةٍ فَرَكبِ فَقِيلَ لَه فَقَالَ: إنه المَلَاِئكةَ كَانَتْ تَمْشِي فَلَمْ أكنْ لأرْكبُ وَهمْ يَمْشونَ فَلَما ذهبُوا رَكَبتُ). سنن أبي داود 3/ 521، ورواه الحكم من نفس الطريق وقال صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وكذا قال الذهبي. المستدرك 1/ 357. درجة الحديث: صحح الطريق الثاني الشيخ ناصر الألباني في تعليقه على المشكاة 1/ 527، وشعيب الأرناؤوطي في تعليقه على شرح السنة 5/ 335. (¬3) انظر مواهب الجليل 2/ 213 والمجموع للنووي 5/ 211 والمدونة 1/ 169.

تنبيه على وهم

(فروض) (¬1) الأعيان، قلنا: ذلك بيِّن. أمّا فرض العين فيتعين على كل عين فعله، وأمّا فرض الكفاية فهو الذي يخاطب به الكل. إن فعله واحد أُثيب الجميع، وإن لم يفعل أثم الجميع. فإن قيل: ومتى خوطب الجميع فيلزمهم فعله. إذا قلنا إنما خوطب به واحد وجماعة غير معينين تعينهم المبادرة إلى الفعل لمن يسّر الله تعالى ذلك له، وليس يستحيل خطاب واحد غير معين (¬2) (¬3)، وقد قال كثير من علمائنا إن الكل خوطب به، وقد بينَّا ذلك في كتب الأصول (¬4). تنبيه على وهم: قال بعض علمائنا: الصلاة على الميت فرض لقول الله تعالى {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} (¬5) فحرَّم الله تعالى الصلاة على المنافقين فوجب بذلك الصلاة على المؤمنين (¬6)، وهذه عثرة لا لعاً (¬7) لها لوددت أن تمحى من كتبنا ولو بماء المقلة، وكأنه أشار على غفلة إلى مسألة بديعة من أصول الفقه وهي أن النهي عن الشيء أمر بضده، أو الأمر بالشيء نهي عن ضده على الاختلاف والتفصيل الذي في كتب الأصول (¬8)، وتلك المسألة صحيحة مليحة، وليست مسألة هذا منها, لأن الصلاة على المنافقين ليست بضد الصلاة على المؤمنين لا فعلًا ولا تركاً، ولو تفطَّن لهذا التحقيق ما سقط في هذه المغواة (¬9)، ولم ¬

_ (¬1) في (م) فرض. (¬2) كالخطاب بفروض الكفاية انظر شرح التنقيح ص 155. (¬3) كالخطاب بخصال الكفارة في الواجب المخير. انظر شرح التنقيح ص 152. في (ك) و (ص) زيادة، كما لم يستحل الخطاب بواحد غير معين، وهذه الزيادة غير واضحة لدي. (¬4) انظر شرح التنقيح عند الكلام على فرض الكفاية ص 155. (¬5) سورة التوبة آية 84. (¬6) بحث الشارح هذه القضية في أحكام القرآن فقال: وقد وهم بعض أصحابنا فقال إن الصلاة على الجنازة فرض على الكفاية بدليل قوله {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} فنهى الله عن الصلاة على الكفار فدل على وجوبها على المؤمنين، وهذه غفلة عظيمة؛ فإن الأمر بالشيء نهي عن أضداده كلها عند بعض العلماء لفظاً وباتفاقهم معنى. أما النهي عن الشيء فقد اتفقوا في الوجهين على إنه أمر بأحد أضداده لفظاً أو معنى، وليست الصلاة على المؤمنين ضداً مخصوصاً للصلاة على الكافرين بل كل طاعة ضد لها، فلا يلزم من ذلك تخصيص الصلاة على المؤمنين دون سائر الأضداد. الأحكام 2/ 980. (¬7) دعاء للعاثر بأن ينتعش. صحاح الجوهري 6/ 2483. (¬8) انظر تفصيل المسألة في كتاب المحصول في علم الأصول ل 23 ب. (¬9) المغواة جمع مغاو، والمغويات المضلة، يقال حفر لأخيه مغواة أي ورطة المنجد ص563 وانظر لسان العرب 15/ 141.

يختلف العلماء في أنها الصلاة، وإنما اختلفوا في الوضوء لها والقراءة فيها، فقال العلماء بأجمعهم، إلامن شذَّ منهم، لا بد من الوضوء فيها، ويلزم من شرط الوضوء أن يشترط القراءة ضرورة لأن الذي قال (لاَ صَلَاةَ إِلَاَ بَطَهُورٍ) (¬1) هو الذي قال (لَا صَلَاةَ إِلا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) (¬2)، ولا يعلم هذا إلا بهذا ولا ينجي من هذا الملتطم حديث أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه: (أنَا لَعَمْرُ الله أُخْبِرُكَ أتَّبِعُهَا مِنْ أهْلِهَا) (¬3). وذكر الدعاء ولم يذكر القراءة، فإن قول أبي هريرة وحده لو سلم (¬4) ما كان حجة فكيف وقد عارضه ما روى البخاري عن ابن عباس، رضي الله عنهما، إنه قال (السُنَّةُ أنْ يَقْرَأ في صَلَاةِ الجَنَازَةِ بِالْفَاتِحَةِ) (¬5)؛ وابن عباس أفقه من أبي هريرة. ومن أغرب مسائل الصلاة على الميت ما قال الشافعي: يُصلّى على الغائب (¬6). وقد كنت ببغداد في مجلس فخر الإِسلام (¬7) فيدخل عليه الرجل من خراسان فيقول له كيف حال فلان فيقول له مات فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون ثم يقول لنا قوموا فلأصلي لكم فيقوم فيصلّي عليه بنا وذلك بعد ستة أشهر من المدة وبينه وبين بلده ستة أشهر من المسافة والأصل في ذلك عندهم صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، على النجاشي (¬8) قال ¬

_ (¬1) مسلم كتاب الطهارة باب وجوب الطهارة للصلاة 4/ 201 والبغوي في شرح السنة 1/ 329 كلاهما من حديث ابن عمر. (¬2) متفق عليه. أخرجه البخاري في صفة الصلاة باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر 1/ 192 ومسلم في الصلاة باب قراءة الفاتحة في كل ركعة 10/ 295 وأبو داود 1/ 514 والترمذي 2/ 25 والنسائي 2/ 137 - 138 وابن ماجه 1/ 273 كلهم من حديث عبادة ابن الصامت. (¬3) الموطّأ 1/ 228، وأخرجه عبد الرزاق عن مالك 3/ 488 والبغوي في شرح السنة 5/ 357، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه لأبي يعلى وقال رجاله رجال الصحيح، مجمع الزوائد 3/ 33، وأورده كذلك في المقصد العلي ص 450، وعزاه المؤلف المسند أبي يعلى ص 595، وأورده الحافظ في المطالب العالية وعزاه لمسدد وصح إسناده 1/ 215، ورواه ابن حبان انظر موود الظمآن ص 192 من طريق سعيد بن أبي سعيد عن أبي هُرَيرَة. درجة الحديث: صحيح. (¬4) في (م) لم (¬5) البخاري في كتاب الجنائز باب قراءة فاتحة الكتاب 2/ 112 والترمذي 3/ 346 وقال حسن صحيح والنسائي 4/ 75 والدارمي 1/ 191 والبغوي في شرح السنة 5/ 353. (¬6) انظر المجموع 5/ 250 - 253. (¬7) تقدمت ترجمته. (¬8) متفق عليه. البخاري في كتاب الجنائز باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه 4/ 92 ومسلم في الجنائز باب التكبير على الجنازة 2/ 656 والموطّأ 21/ 26، والبغوي في شرح السنة 5/ 339 كلهم عن أبي هُرَيرَة، رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نَعَى النَّجَاشِى في اليَوْمِ الذِي مَات فيهِ ..) لفظ البخاري.

علماؤنا، رضي الله عنهم: النبي - صلى الله عليه وسلم -، بذلك مخصوص لثلاثة أوجه: أحدها: إن الأرض دحيت له جنوباً وشمالاً حتى رأى المسجد الأقصى ورأى نعش النجاشي، قال المخالف: وأي فائدة في رؤيته وإنما الفائدة في لحوق بركته. الثاني: أن النجاشي لم يكن له هناك ولي من المؤمنين يقوم بالصلاة عليه، قال المخالف: هذا محال عادة، ملك على دين لا يكون له اتباع والتأويل بالمحال محال. الثالث: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - , إنما أراد بالصلاة على النجاشي إدخال الرحمة عليه، واستئلاف بقية الملوك بعده إذا رأوا الاهتمام به حياً وميتاً، قال المخالف: بركة الدعاء مِن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومِن سواه تلحق الغائب الميت باتفاق من الأمة، والذي عندي في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه علم أن النجاشي، ومن آمن معه، ليس عندهم من سنة الصلاة على الميت أثر، فعلم أنهم سيدفنونه بغير صلاة فبادر إلى الصلاة عليه (¬1)، والمسألة عريضة (¬2) المدرك وحقيقتها في مسائل الخلاف وفي خروج النبي - صلى الله عليه وسلم -، بأصحابه إلى المصلى حين صلّى على النجاشي دليل على أنه لا يُصلّى على الميت في (¬3) المسجد. قال علماؤنا: إلا عند ضيق خارج المسجد، وحديث عائشة، رضي الله عنها: (مَا صَلَّى رَسُولُ الله، صلَّى الله عَلَيْه وسلَّمَ عَلَى سُهَيْلٍ بْنِ بَيْضَاءَ إلَّا في المسجد) (¬4). فحرف الجر متعلق بصلى لا بحالة سهيل ¬

_ (¬1) ما رجحه الشارح هنا هو الذي رجَّحه الخطابي والروياني؛ فقد نقل الحافظ عن الخطابي قوله (لاَ يُصَلِّى عَلَى الْغَائِبِ إلا إذا وَقَعَ مَوْتهُ بِأرْضٍ لَيْس بِهَا مَنْ يُصَلِّي عَليْهِ) واستحسنه الروياني من الشافعية، وبه ترجم أبو داود في السنن الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك ببلد آخر. فتح الباري 3/ 188، وذكر ابن القيم في زاد المعاد عن شيخ الإِسلام ابن تيمية. الصواب أن الغائب إن مات ببلد لم يصل عليه فيه صُلِّي عليه صلاة الغائب، كما صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم -، على النجاشي لأنه مات بين الكفار، ولم يُصلّ عليه، وإن صُلِّي عليه حيث مات لم يصلّ عليه صلاة الغائب لأن الفرض سقط بصلاة المسلمين عليه. زاد المعاد 1/ 301. (¬2) في (ك) و (م) عويصة، وهي الصواب. (¬3) هذا هو مذهب المالكية والأحناف، أما غيرهم فيجوز عنده ذلك أخذاً من حديث عائشة الآتي. انظر فتح الباري 3/ 188 وشرح النووي على مسلم 7/ 40. (¬4) الموطأ 1/ 229 - 230 مَالِك عَنْ أبِي النَّضْرِ، مَوْلَى عمَر بْنِ عُبَيْدِ الله، عَنْ عَائِشَةَ أنهَا أمَرَتْ أنْ يُمَرَّ عَلَيْهَا بِسعْدٍ بْنِ أبْي وَقَّاص في الْمَسْجِدِ حِينَ مَاتَ لِتَدْعوَ لَهُ. ونقل السيوطي عن ابن عبد البر قوله هكذا هو في الموطأ عند جمهور الرواة منقطعاً، ورواه حماد بن خالد الخياط عن مالك عن أبى النضر عن أبي سلمة فانفرد بذلك عن مالك. تنوير الحوالك 1/ 228 ورواه مسلم موصولاً من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير أنَّ عَائشة أمَرَتْ أنْ يمَرَّ بِجَنَازَةِ سَعدٍ بنِ أبِي وَقّاص في المسجِدِ فَتُصَلِّي عَلَيْهِ فَأنكرَ الناس ذلكَ عَلَيْهَا فَقالَتْ ما أسْرع ما نَسِي النَّاسُ (ما صلَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، عَلَى سهيْلٍ بْنِ بَيْضَاء إلَّا فِي الْمَسْجدِ). مسلم في =

ابن بيضاء، وكانت عائشة، رضي الله عنها، رأت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في المسجد فأخبرت عما رأت، ولقد صليتُ بِتَوْزَر (¬1) على القاضي (¬2) بن هلال في المسجد جعلته عند الباب القبلي وقمتُ أنا في المسجد إماماً، وصلى الناس كلهم ورائي في المسجد لأن العرب كانت تمنع من الخروج إلى المصلّى، وعلى هذا النحو صلَّى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في المسجد (¬3). وأما الصلاة على القبر فليست بمشروعة عند مالك (¬4)، رضي الله عنه، وهو الصحيح من قول سائر العلماء، وصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -, على القبر إنما كانت لأنه دُفن بغير صلاة، إذ قال لهم: آذِنوني به، فلم يفعلوا، فوقعت الصلاة غير مجزية، فوجب إعادة الصلاة (¬5). ولكن قال مالك رضي الله عنه، إنما يُصلّى على القبر إذا كان حديثاً (¬6). والصحيح إنه إذا دُفن بغير صلاة صُلِّي عليه أبداً، وأما دفنه فإن السنَّة فيه الإسراع، وروي ¬

_ = كتاب الجنائز باب الصلاة على الجنازة في المسجد 2/ 668، وأبو داود من طريق أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة 3/ 207، والترمذي مثل إسناد مسلم 3/ 530، والنسائي 4/ 68 وابن ماجه 1/ 486، وساقه البغوي بإسنادين: الأول عن أبي النضر عن عائشة، والثاني عن أبي النضر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة 5/ 350 - 351 وقال النووي: هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم، وقال: خالف الضحاك حافظان مالك وابن الماجشون فروياه عن أبي النضر عن عائشة مرسلاً، وقيل عن الضحاك عن أبي النضر عن أبي بكر بن عبد الرحمن، ولا يصح إلا مرسلًا .. قال: وهذه الزيادة التي زادها الضحاك زيادة من ثقة وهي مقبولة لأنه حفظ ما نسي غيره فلا تقدح فيه. شرح النووي على مسلم 7/ 40 - 41. (¬1) تَوْزَر، بالفتح ثم السكون وفتح الزاء، مدينة في أقصى أفريقية من نواحي الزاب الكبير من أعمال الجريد مغمورة، بينها وبين قفصة عشرة فراسخ، وأرضها سبخة بها نخل كثير. مراصد الاطلاع 1/ 280 وانظر معجم البلدان 2/ 57. (¬2) القاضي بن هلال لم أعثر على ترجمته. (¬3) الموطّأ 1/ 230، وعن مالك رواه عبد الرزاق في المصنف 3/ 526. درجة الحديث: صحيح. (¬4) وهو أيضاً مذهب أبي حنيفة، انظر شرح فتح القدير 1/ 485. (¬5) قد صحّ ذلك من حديث ابن عباس المتفق عليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (مَرَّ عَلى قبرٍ دُفِنَ ليلًا فقالَ: مَتَى دُفِنَ هذَا؟ قَالوا البَارِحَةَ، قَالَ: أفلا آذنتموني؟ قَالُوا: دفَنّاه في ظلْمَةِ الليل فَكَرَهْنَا أنْ نوقظَكَ، فَقَامَ فصفَفنا خَلْفَه قَال ابن عَبَّاسٍ وَأنا فيهم فَصَلَّى عَلَيْهِ) البخاري في الجنائز صفوف الصبيان مع الرجال في الجنائز 2/ 109 ومسلم في الجنائز باب الصلاة على القبر 2/ 658 والبغوي في شرح السنة 5/ 361. (¬6) في رواية ابن القاسم وإنمَا يُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ مَا لَمْ يُطْلَ. المدونة 1/ 170.

أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال لأهل بيت أخّروا دفن ميتهم "عَجِّلُوا بِدَفْنِ جِيفَتِكُمْ وَلَا تُؤَخِّرُوهَا" (¬1). فإن قيل فلم أُخِّر دفنُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلنا: لثلاثة أوجه: أحدها: أن الناس لم يتفقوا على موته فكيف يُدفن رجلٌ قال واحد مات، وقال آخر لم يمت (¬2). الثاني: إنه إنما أُخِّر دفنه لأنه لم يعلم أين يدفن فقال قوم: يدفن في البقيع، وقال قوم: في المسجد، وقال قوم: يحبس حتى يحمل إلى أبيه إِبراهيم إذا فتحت (¬3) حتى قال العالم الأكبر (¬4)، سمعته يقول: ما دُفن قط نبي إلا حيث يموت (¬5). الثالث: أنهم اشتغلوا في الخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة فنظروا فيها حتى استتب الأمر وانتظم الشمل واستوثقت الحال، واستقرت الإمامة في نصابها فرجعوا بعد ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنظروا في دفنه فغسَّلوه وكفَّنوه ودفنوه، واختُلف هل صُلَّي عليه أم لا؟ فمنهم من قال: لم يصلِّ عليه أحدٌ، وإنما وقف كل أحد يدعو لأنه ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في سننه من طريق الحصين بن وحوح أنَّ طَلْحَةَ بْنِ الْبُرَّاءِ مَرضَ فَأتَاة النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، يَعُودُهُ فَقَالَ (إنِّي لاَ أرَى طَلْحَةَ إلَّا قَدَ حَدَثَ فِيهِ الْمَوْتُ فَآذنُوني بِهِ وَعَجِّلوا فَإنَّة لاَ يَنْبَغِي لِجِيفَةِ مسلِمٍ أنْ تُحبَسَ بَيْنَ ظَهْرَاني أهْلِهِ)، سنن أبي داود 3/ 510 والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 386 والحديث فيه سعيد بن عثمان البلوي قال عنه الحافظ مقبول من السادسة ت 1/ 302، وقال في ت ت ذكره ابن حبان في الثقات ت ت 4/ 62. كما أن فيه عروة ويقال عزرة، بزاي وراء مع فتح أوله، ابن سعيد مجهول من السادسة جاء في الإسناد بالشك/ د ت 2/ 19 وانظر ت ت 7/ 185، ونقل المنذري عن البغوي قوله، ولا أعلم روى هذا الحديث غير سعيد ابن عثمان البلوي وهو غريب. مختصر سنن أبي داود 4/ 304. درجة الحديث: ضعيف. (¬2) والقائل لم يمت عمر، رضي الله عنه، انظر السيرة لابن كثير 4/ 479 وطبقات ابن سعد 2/ 266. (¬3) كذا في جميع النسخ والعبارة غير واضحة. (¬4) هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. (¬5) الموطّأ 1/ 231 مَالِك أنة بَلَغَهُ أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، توُفِّيَ يَوْمَ الْإثْنَيْن وَدُفِنَ يَوْمَ الثلَاثاءِ. قال ابن عبد البر: هذا الحديث لا أعلمه يُروى على هذا النسق بوجه من الوجوه غير بلاغ مالك هذا، ولكنه صحيح من وجوه مختلقة، وأحاديث شتى جمعها مالك. تنوير الحوالك 1/ 229 ورواه ابن ماجه من طريق ضعيف سيأتي الكلام عليها سنن ابن ماجه 1/ 521. وأخرجه ابن سعد من طريق داود ابن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس ومن طريق هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة. طبقات ابن سعد 2/ 292. درجة الحديث: صححه ابن عبد البر كما تقدم.

كان أشرف من أن يُصلَّى عليه (¬1)، وهذا ضعيف فإن السنة تقام بالصلاة عليه في الجنازة، كما تقام بالصلاة عليه في الدعاء فتقول: الْلَّهُمَّ صَل عَلَى مُحَمَّدٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَذلِكَ مَنْفِعَةً لَنَا. وقيل لم يصلَّ عليه لأنه لم يكن هنالك إمام، وهذا ضعيف؛ فإن الذي كان يقيم بهم صلاة الفريضة هو الذي كان يؤمُّ بهم في الصلاة عليه، وقيل صلَّى عليه الناس أفذاذاً لأنه كان آخر العهد به فأرادوا أن يأخذ كل أحد بركته مقصودة دون أن يكون فيها تابعاً لغيره (¬2)، والله تعالى أعلم بصحة ذلك. ¬

_ (¬1) روى ابن ماجة مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الله عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابنِ عَباسٍ قَالَ .. ثُمَّ دَخَلَ الناس فَصَلَّوا عَلَيْهِ أرْسَالاً لَمْ يَؤُمهمْ عَلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، أحدٌ. سنن ابن ماجه 1/ 521 وعزاه الحافظ إلى البيهقي من نفس الطريق. التلخيص 2/ 131، والحديث فيه حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي المدني، ضعيف من الخامسة مات سنة 140 أو بعدها/ ت ق ت 1/ 176 وقال في ت ت تركه أحمد بن حنبل وعلي ابن المديني والنسائي. وقال البخاري: يقال إنه كان يتهم بالزندقة، وقال ابن عدي هو ممن يكتب حديثه ت ت 2/ 341 - 342. درجة الحديث: ضعف الحافظ إسناده. التلخيص 2/ 131. وروى الحاكم مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرحْمنِ عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَني عَنِ الْأشْعَثِ ابنِ طَلِيق عَنْ مُرَّةَ بْنِ شَراحِيلَ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعود، رَضِيَ الله عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلْنَا مَنْ يصَلِّي عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله فَبَكَى وَبَكيْنَا ... ثُم قَالَ: أولُ مَنْ يصَلِّي خَلِيلِي وَجَلِيسِي جِبْرِيل وَمِيكَائِيل ثُمَّ إسْرَافِيل ثُمَّ مَلِك الْمَوْتِ مع جُنُود مِنَ الْمَلَاِئكَةِ ثُمَّ لَيَبْدَأ بالصلاة عَلَى رِجَال أهْلِ بَيْتي ثُم نِسَاؤُهُمْ ثُمَّ ادْخلوا أفْوَاجاً أفْوَاجاً فرَادى .. ثم قال عبد الملك في هذا الإسناد مجهول، وقال الذهبي لو استحيى الحاكم لما أورد مثل هذا. المستدرك 3/ 60. وقال الحافظ في التلخيص 2/ 132 سنده واه. درجة الحديث: ضعيف. (¬2) نقل الحافظ عن ابن عبد البر قوله: وصلاة الناس عليه أفذاذاً مجمع عليه عند أهل السنن وجماعة أهل النقل لا يختلفون فيه .. وكذا قال ابن دحية وبه جزم الشافعي قال: وذلك لعظم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بأبي هو وأمي وتنافسهم في ألا يتولى الإمامة في الصلاة عليه واحد. التلخيص 2/ 132.

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة ولها اسمان الزكاة والصدقة، وقد تكلم (¬1) الناس عليها وأوردوا كثيراً فيها فما بلغوا مشرعة (¬2)، وقد مهدنا ذكر ذلك في غير ما موضع، وخاصة في شرح الصحيح (¬3). والآن نحيلكم عن ذكر لبابه فانه نفيس غرٍ يب وقال تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬4)، وقال تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬5). قال علماؤنا إن الزكاة مأخوذة من النماء، يقال زكا الزرع إذا نما، والزكاة اسم (¬6) منه، فلما وجب في المال النامي سُميت زكاة، وقيل لأنها تنمو في ذاتها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "فَيُرَبِّيهَا لأِحَدِكُمْ كَمَا يُرَبِّي فَلْوَهُ (¬7) وَفَصِيلَهُ" (¬8) (¬9)، وقيل لأن المال الذي خرجت منه ينمو لأدائها بالبركة، وقيل لأن صاحبها ينمِو عند المسلمين في الخير وعند الولاة في الشهادة والإمامة ومنه قول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} (¬10)، ¬

_ (¬1) في (ك) و (م) العلماء. (¬2) قال في المشوف: شرعك ما بلغك المحل .. المشوف المعلم في ترتيب إصلاح حروف المعجم 1/ 423 وفي القاموس: شرعك ما بلغك المحل أي حسبك من الزاد ما بلغك مقصدك، يضرب في التبليغ باليسير. ترتيب القاموس 2/ 699. (¬3) هذا من كتبه التي لم تظهر بعد، وقد تكلم عليه في العارضة 3/ 90 وفي عدة مواضع من هذا الكتاب. (¬4) سورة النور آية 56. (¬5) سورة التوبة آية 103. (¬6) انظر كلام الحافظ في الفتح 3/ 262 على الزكاة. (¬7) الفلو: المهر الصغير، وقيل هو الفطيم من أولاد ذوات الحافر. النهاية 3/ 474. (¬8) الفصيل من أولاد الإبل، فعيل بمعنى مفعول، وأكثر ما يطلق في الإبل وقد يقال في البقر، النهاية 3/ 451. (¬9) الموطأ 2/ 995 مالك عن يحيى بن سعيد عن الحباب بن سعيد بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال، وهذا مرسل، وقد وصل في غير الموطّأ؛ فقد أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب لا يقبل الله صدقة من غلول 2/ 134 وفي كتاب التوحيد باب قول الله تعالى {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 9/ 154 ومسلم في الزكاة باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها 2/ 702 والترمذي 3/ 49 والنسائي 5/ 57 - 58 وابن ماجه 1/ 590 كلهم من حديث أبي هرَيْرَة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ تَصَدَّقَ بَعدْل تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيبٍ وَلاَ يَقْبَلُ الله إلَّا الطيِّبَ وإنَّ الله يَتَقَبَّلهَا بِيَمِينهِ ثُمَّ يُرَبِيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُربي أحدكُم فَلْوَةُ حَتَّى تَكونَ مِثْل الْجبَلِ) لفظ البخاري. (¬10) سورة الأعلى آية 14.

قاله ابن عرفة (¬1) النحوي. وأما الصدقة فلم يتعرض لها (¬2) صنف الفقهاء (منهم) (¬3)، والذي عندي في ذلك أن الزكاة اسم مشترك يقال على النماء والطهارة بمعنيينِ مِختلفين. فأما النماء فأمثلته كثيرة، وأما الطهارة فقول الله تعالى: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} (¬4)، وقال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} (¬5) يريد طهرها، وذلك كثير. والطهارة أقعد بها من النماء، وإن كانا جميعاً فيها لتمّكن المعنى لغة، ولقصد الحديث لها نصاً. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، في صدقة الفطر من حديث ابن عباس إلى قوله فيها طُهْرَةٌ لِصِيَامِكُمْ مِنَ اللغْوِ وَالرَّفَثِ" (¬6)، خرّجه أبو داود، وخرَّج النسائي عن عبد الله أو ثعلبة بن صعير (¬7)، وذكر صدقة الفطر في حديثة المشهور إلى أن قال: "أمَّا غَنِيكُمْ فَيُزَكيهِ الله تَعَالَى بِهَا وَأمَّا فَقِيرُكُمْ فَيرُد الله تَعَالَى عَلَيْهِ أفْضَلَ مِمَّا أعْطَى" (¬8)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، لابن ¬

_ (¬1) ابن عرفة هو إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي العتكي، أبو عبد الله، من أحفاد المهلّب ابن أبي صفرة، امام في النحو، وكان فقيهاً رأساً في مذهب داود مسنداً في الحديث ثقة، ولد بواسط ومات ببغداد سنة 323 وكان مولده سنة 244، الأعلام 1/ 61، وانظر تاريخ بغداد 6/ 159، لسان الميزان 1/ 109، أنباء الرواة 1/ 176، شذرات الذهب 2/ 298 - 299 تاريخ ابن كثير 11/ 183، ابن خلكان 1/ 11. (¬2) في (ك) و (م) أحد. (¬3) ساقطة من (ك) و (م). (¬4) سورة الكهف آية 74. (¬5) سورة الشمس آية 9. (¬6) أبو داود 2/ 262، وابن ماجه 1/ 585، والحاكم في المستدرك 1/ 409 وقال صحيح على شرط البخاري، وكذا قال الذهبي، وأخرجه الدارقطني في السنن 2/ 138 وقال ورواته ليس فيهم مجروح، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 163، كلهم من طريق مروان ابن محمَّد عن أبي يزيد الخولاني، وكان شيخ صدق، وكان ابن وهب يروي عنه: ثنا يسار بن عبد الرحمن الصدفي عن عكرمة عن ابن عباس، وتعقب ابن دقيق العيد الحاكم فقال لم يخرج الشيخان لأبي يزيد ولا ليسار شيئاً الإلمام ص 228. درجة الحديث: حسّنه النووي في المجموع 6/ 126، وابن قدامة في المغني 3/ 56 والألباني في إرواء الغليل 3/ 332. (¬7) عبد الله بن ثعلبة بن صعير، بمهملتين مصغراً، ويقال ابن أبي صعير، له رؤية ولم يثبت له سماع. مات سنة 87 أو 89 وقد قارب 90 سنة. / خ د س ت = 1/ 405 وانظر ت ت 5/ 166. (¬8) أبو داود 4/ 112، هذا الحديث لم يعزه المزي في تحفة الأشراف 4/ 297 لأحد من الستة إلا لأبي داود، وكذلك الخطيب في المشكاة 1/ 571، ورواه الحاكم في المستدرك 3/ 276، والحديث في إسناده النعمان بن راشد، أبو إسحاق الرقّي، مولى بني أمية، صدوق سيء الحفظ من السادسة/ خت م ع ث =

ربيعة (¬1) وصاحبه (¬2) حين جاءاه يسألانه ولاية الصدقة فقالا: (نُصِيبُ، يَا رَسُولَ الله. مَا يُصِيبُ النَاسُ وِنُؤَدي مَا يُؤَدُّونَ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الصدَقَةَ لَا تحل لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّما هِيَ أوْسَاخُ النَاسِ") (¬3)، خرّجه مسلم. فإن قيل هذه أحاديث متعارضة رويتم في حديث آخر إنها أوساخ الناس وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم -، القيء لها مثلاً فقال "الْعَائِدُ في صَدَقَتِهِ كَالْكَلْب يِعُودُ في قَيْئهِ" (¬4) ثم رويتم من طريق آخر "إِنَّ الصَدَقَةَ لَتَقَعُ في كَفِّ الرحْمنِ قَبْلَ انْ تَقَعَ في كَف السَّائِلِ" (¬5)، وكف الرحمن مقدس عن القيء والوسخ. قلنا: هذا مهم (¬6) من التعارض، وهو ميدان فات علماءنا الاستباق به، والجواب عنه بديع وذلك أن الباري تعالى بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أفصح الخلق بأفصح الكلام فضرب الأمثال وصرف الأقوال وسلك في كل شعب من المعاني قدرة على القول، واستلطافاً للقلوب في جانبي الرغبة والرهبة اللتين انتظم بهما التكليف وارتبط بهما الثواب والعقاب، وبيَّن الأحكام الشرعية التي بُعث لإيضاحها فإن المعاني العقلية معلومة لا تفتقر إلى بيانه، ولا تعرَّض هو ¬

_ = 2/ 304 وقال في ت ت ضعّفه يحيى القطان وابن معين، وقال أحمد مضطرب الحديث، وضعّفه أيضاً أبو داود والنسائي والعقيلي. ت ت 10/ 452. درجة الحديث: نقل الحافظ عن ابن السكن قوله عن عبد الله بن ثعلبة يقال له صحبة وحديثه في صدقة الفطر مختلف فيه، وصوابه مرسل، وليس يذكر في شيء من الروايات الصحيحة سماع عبد الله من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا حضوره إياه، وكذا قال البخاري ت ت 5/ 166 هذا علاوة على أنه من رواية النعمان بن راشد المتقدم، فالحديث ضعيف. (¬1) هو عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي صحابي سكن الشام ومات سنة 62 هـ ت 1/ 517، الإصابة 2/ 430. (¬2) هو الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشي. استشهد في خلافة عمر .. ت 2/ 110 والإصابة 3/ 208. (¬3) حديث مسلم في كتاب الزكاة باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة 2/ 752 وأبو داود 3/ 147 - 148 والنسائي 5/ 105 - 106 كلهم عن عبد المطلب ابن ربيعة ابن الحارث حدثه (قَالَ: اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ ابنُ الحَارِثِ وَالعَباس بْن عَبْدِ الْمُطلِبِ فَقَالَا ..). (¬4) متفق عليه. البخاري في كتاب الزكاة باب هل يشتري صدقته 2/ 157 من طريق زيد ابن أسلم عن أبيه قال: سَمِعْتُ عُمَرَ، رضِيَ الله عَنْهُ، يَقول .. ومسلم في كتاب الهبات باب كراهية شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه: 3/ 1239 والموطّأ 1/ 282، والبغوي في شرح السنة 9/ 506 كلهم من حديث عمر، رضي الله عنه، يقول: حَمَلْتُ عَلَى فرسٍ في سَبِيلِ الله فَأَضَاعَهُ الذِي كانْ عِنْدهُ فَأَردَتُ أَنْ أَشْتَريَه وَظَننت أَنهُ يَبِيعَهُ بِرخْصٍ ... (¬5) يأتي ص 453. (¬6) كذا في جميع النسخ ولعله هذا باب مهم.

أيضاً إليها وليست إلا أوصاف الشريعة من حسن أو قبيح، أو حلال أو حرام، أو طاعة أو معصية بصفات لأعيان قائمة بها كالصفات الحسية من الألوان والأكوان، وإنما هي عبارة عن تعلق خطاب الشرع بالعين على وجه المدح، أو في سبيل الذم، فتختلف التسميات على هذه المسميات بحسب اختلاف تعلّق خطاب الشارع، وقد مهدنا ذلك في كتب الأصول، فإذا ثبت هذا فليس بممتنعٍ وصف الشيء الواحد بالضدّين من أحكام الشرع. فقد تكون العين الواحدة. حلالاً حراماً في حالة واحدة في حق شخصين أو في حالين في حق شخص واحد. فالصدقة طُهرة للمال في حق صاحب المال وقيء إن رجعت إليه، ورزق حسن في يد المستحق إذا حصلت في يديه ولو بقيت في المال لغيَّرته وأخبثته، فإذا خرجت عنه خرجت طاهرة في ذاتها فطهّرته؛ أي منعته من أن يخبث ببقائها فيه، فلا تقع في كف الرحمن إلا وهي طاهرة مطهَّرة؛ ولا تبقى عند الغني إلا وتكون خبيثة مخبّثة، وضرب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كف السائل مثلاً بكف الرحمن ترغيباً في العطاء وحثاً على الصدقة، ولذلك قال بعض علمائنا إن اليد العليا هي يد السائل واليد السفلى هي يد المعطي، والتفسير الذي وقع في الحديث من أن اليد العليا هي المنفِقَة (¬1) فذلك من كلام الراوي وصله بكلام (¬2) النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد روى النسائي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (الْيَدُ الْعُلْيَا يَدُ الْمُعْطِي) (¬3)، وهو الصحيح. وجهل من يقول إن اليد العليا يد السائل لأن يد المعطي هي يد الله تعالى بالعطاء، ويد السائل هي يد الله تعالى بالأخذ كلاهما يتصرف بحكمه وتجنب أمره، وجميع ذلك مضاف إليه. وأما الصدقة فهي اسم للزكاة ولكل مال أُعطي حسبة ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري في الزكاة باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى 2/ 140 ومسلم في الزكاة باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة 2/ 717 والموطّأ 2/ 998 وأبو داود 2/ 297 والنسائي 5/ 61 كلهم عن ابن عمر. (¬2) نقل السيوطي عن ابن عبد البر قوله: هذا التفسير نص من الشارع يرفع الاختلاف في تأويله، وادعى أبو العباس الداني في أطراف الموطّأ أنه مدرج في الحديث تنوير الحوالك 3/ 158. وقال الحافظ، بعد ذكر الكلام السابق: وجدت في كتاب العسكري في الصحابة بإسناد له فيه انقطاع عن ابن عمر أنه كتب إلى بسر بن مروان أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْر مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَلَا أحَسَبُ الْيَدَ السفْلَى إلا السائِلَةَ وَلَا الْعُلْيَا إلَّا الْمُعْطِيَةَ) فهذا يشعر بأن التفسير من كلام ابن عمر، ويؤيده مارواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: (كُنا نَتَحَدث أن الْيَدَ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَة) فتح الباري 3/ 297. (¬3) النسائي 5/ 61 من حديث طارق بن عبد الله المحاربي، رضي الله عنه، وأورده ابن الأثير في جامع الأصول 6/ 462 وصحح إسناده عبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول.

(حكمة وحقيقة وتوحيد)

واشتقاقها من الصدق وأصله استواء القول ظاهراً وباطناً، لساناً وجناناً، أولاً وآخراً حتى استعمل في المواضع (¬1). قال الله تعالى {مُبَوَّأَ صِدْقٍ} (¬2)، وقالت العرب (رمح صَدق) (¬3)، وقالوا (أخ صدق) (¬4) وذلك لعموم الاستواء والحسن في جميع ذلك كله من الوجهه التي بيّناها، وقالوا في مبالغة الفعل للفاعل فيه صدوق، فإذا دفع الزكاة فقد صدق في اعتقاد الدين بما يظهر من فعله، وقد ظهر الصدق في وفاء الله تعالى بعهده على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وإن أفاض المال في سبيل الخير فقد زاد صدقه في دينه. (حكمة وحقيقة وتوحيد) إن الله تعالى، وله الحمد، أنعم على العبد نعمتين: نعمة في البدن وجعل شكرها العبادات البدنية كالصوم والصلاة، وأنعم على العبد أيضاً بنعمة المال وجعل شكرها أداء الزكاة، فإذا قام العبد بالعبادات البدنية فقد أدّى نعمة الله تعالى عليه في المال، والزكاة عبارة عن جزء من المال معين مقدر، هكذا قال أكثر العلماء. وقال (ح) حقيقة الزكاة إنها جزء من المال مقدَّر غير معيَّن (¬5)، وكذلك اختلف في حقيقتها السلف بمثله، وما قلناه أولى، والدليل عليه الحكم والحكمة. أما الحكم فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "في كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ" (¬6)، ولم يقل في كل مائة شاة دينار، كما يقول أبو حنيفة (¬7). فإن قيل فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "في كُلِّ خَمْسٍ مِنِ الْإبِلِ شَاةٌ" فتحقق إنه أراد في مالية خمس من الإبل قدر مالية شاة، قلنا عنه جوابان: أحدهما: أن نقول هذا تكلُّف؛ إنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (في كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الْإبِلِ شَاة) ما أراد بقوله في كل إصبع خمس من الإبل (¬8)، وليس في الإصبع إبل، وإنما ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ ولعلها في عدة مواضع. (¬2) سورة يونس آية 93. (¬3) والصدق، بالفتح، الصلب من الرماح. صحاح الجوهري 4/ 1506 وتاج العروس 6/ 405. (¬4) الصدق: الصلب من الرجال ... وقال الخليل الصدق الكامل من كل شيء يُقال رجل صدق وهي صدقة ... تاج العروس 6/ 405. (¬5) انظر فتح القدير 1/ 513. (¬6) رواه البخاري في الزكاة باب زكاة الغنم 2/ 146، وأبو داود 2/ 214 - 224 والنسائي 5/ 28، وأحمد في المسند. انظر الفتح الرباني 8/ 211 - 215، والبغوي في شرح السنة 6/ 3 - 6 كلهم من رواية ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس بن مالك. (¬7) انظر فتح القدير لابن الهمام 1/ 508. (¬8) لم أطلع على قوله خمس من الإبل وإنما الذي في حديث عمرو بن حزم عشر من الإبل. قال ابن رشد قال جمهور العلماء وأئمة الفتوى مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وغيرهم: إن في كل إصبع عشراً من =

مقدمة لا خلاف في وجوبها

أراد تجب بالجناية على الإِصبع خمس من الإبل، وتجب بملك خمس من الإبل شاة. الثاني: هبكم أنا قلنا أراد بقوله في مالية خمس من الإبل شاة فعدلنا عن الظاهر لاستحالة وجو الشاة في الإبل فلم نعدل عن الظاهر في الشاة بل نقول في قدر مالية خمس من الإبل شاة نفسها، وأما الحكمة فإن الله تعالى بفضله ضَمِنَ الرزقَ لعباده فقال {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} (¬1)، ثم خلق الرزق والقوت في الأرض فخص بإرادته، وقدرته بملكه، بعض من ضمن له الرزق من خلقه، ثم أوعز إلى الغنى، الذي خصه بملكه، أن يعطي الفقير قدراً معلوماً من قوته تحقيقاً لضمانه ووفاءً بعهده وتوكيلاً منه إلى الغني في أداء ما وجب عليه بفضله من ضمانه للفقير من رزقه حتى يشترك الأغنياء والفقراء في جنس الأعيان المملوكة فتكون غنم بغنم، وبقر ببقر، وإبل بإبل، وذهب بذهب، وورق بورق، وحب بحب، وتمر بتمر فيعم الاختصاص ويتحقق الاشتراك وينجز الوفاء بالعهد. مقدمة لا خلاف في وجوبها: فلا معنى للإطناب فيه وجلب الآثار عليه، وهي تجب بستة شروط: الحرية والملك، وبشرط أن يكون تاماً، والحول والنصاب ومجيء الساعي، وليس من شرطها الإِسلام, لأنه ليس في مذهب مالك، رضي الله عنه، خلاف أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع، وليس من شرطها البلوغ والعقل؛ لأنه لا خلاف بين المالكية أنها تجب على الصبي والمجنون. أما الحرية فاجتمعت عليها الأمة حتى نشأ بعض المبتدعة فقال إن العبد تجب عليه الزكاة (¬2). قلنا: وإن كان العبد عندنا يملك فإنه ليس بملك مستقر؛ إذ لسيده انتزاعه كل يوم فلم يثبت له قِدَم لحظة فكيف أن يمر عليه الحول. فإن قيل كما لم يثبت له قِدَم في الاستقرار ويطأ جواريه عندكم كذلك يؤدي الزكاة؛ فإن إباحة الفرج أعظم. ¬

_ = الإبل، وإن الأصابع في ذلك سواء .. وعمدتهم في ذكل ما جاء في حديث عمرو بن حزم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال (وَفِي كُلّ إصْبَع مِمَّا هُنَالِكَ عَشر مِنَ الْإبِلِ) .. بداية المجتهد 2/ 351 وسيأتي تخريجه. وانظر فتح الباري 12/ 226. (¬1) سورة هود آية 6. (¬2) لعله يقصد بالمبتدع هنا أبا ثور؛ نقل ابن قدامة عنه وعن عطاء ذلك، المغني 2/ 464. وقال النووي: مذهبنا أنه لا زكاة في مال المكاتب، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف. قال ابن المنذر: وهو قول العلماء كافة إلا أبا ثور فأوجبها على المكاتب في كل شيء، وحكاه العبدري وغيره عن داود. المجموع 5/ 330، وانظر بداية المجتهد 1/ 245 - 246، وفقه أبي ثور جـ282.

الجواب إنا نقول: قف ليس هذا من كلام (¬1) المخالف لنا ليس من أهل القياس (¬2) فلا تمكنوه أن يدخل معكم فيه فيشغب (¬3) عليكم، وارجعوا معه إلى الأصل، وأما المكاتب فإنه مستغرق المال لحق السيد من الكتابة ولهذا قلنا إن المديان بقدر النصاب لا زكاة عليه. وأما الحول ومجيء الساعي فأصل ذلك بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، المصدقين على رأس العام (¬4)، وحمل العلماء التقدير على الماشية بالنظر وذلك أنه مال يعتبر فيه النصاب فاعتبر فيه الحول، وليس فيه أثر يلتفت إليه فلا تشغلوا به بالاً، والزكاة مختصة بالأموال النامية التي هي بعرضة ذلك من النماء وهي ثلاثة أجناس: العين وتشمل الذهب والفضة، والحرث ويشمل الحب والثمرة، والماشية وهي عبارة عن ثلاثة أنواع الإبل والبقر والغنم. وقول الله {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬5)، إن قلنا إن المراد به الطهارة فهو مجمل، وإن قلنا إن المراد به النماء فهو عام في كل نماء ونامي (¬6) يوجب بظاهر عمومه إيتاء النماء من كل مال نامي إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصص العموم فقال "لَيْسَ فِيمَا دونَ خَمْسِ ذوْدٍ صَدقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دونَ خَمسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ مِنَ التمْرِ صَدقةٌ" (¬7). وقال أبو هُرَيْرَة، رضي الله عنه: قَالَ النبِي - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ في فَرَسِهِ وَلَا في عَبْدِهِ صَدَقَةٌ" (¬8)، ¬

_ (¬1) في (ك) و (م) و (ص) كلامك. (¬2) يقصد بذلك أبا ثور كما تقدم قريباً. (¬3) الشغب والتشغيب تهييج الشر: مختار القاموس ص 333 وترتيب القاموس 2/ 725. (¬4) ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: أمَرَ رَسُول الله، بِصَدَقَةٍ فَقِيلَ مَنع ابنُ جَميل وَخَالِد بْن الْوَليدِ وَعَبَّاسُ بْن عَبْدِ الْمُطلِبِ فَقَالَ رَسُول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "مَا يَنْقُمُ ابنَ جَمِيلٍ إلَّا انهُ كَانَ فَقِيراً فَأغْنَاة الله وَرَسُولُهُ. وَفِي رواية مسلم: بَعَثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عُمَرَ عَلَى الصَّدقَةِ ... البخاري في الزكاة باب قول الله تعالى {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} 2/ 151، ومسلم في الزكاة باب تقديم الزكاة ومنعها 2/ 676 وأبو داود 2/ 115، والَنسائى 5/ 33. (¬5) المزمل آية 20. (¬6) في (م) في كل مال نام. (¬7) متفق عليه. البخاري في الزكاة باب زكاة الورق 2/ 143 - 144، ومسلم في الزكاة 2/ 673، والموطّأ 1/ 244، وأبو داود 2/ 94، والترمذي 3/ 22، والنسائي 5/ 17، وابن ماجه 1/ 571 كلهم عن أبي سعيد الخدري. (¬8) متفق عليه. البخاري في الزكاة باب ليس على المسلم في عبده صدقة) 2/ 149، ومسلم في الزكاة باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه 2/ 675 - 676 وأبو داود 2/ 251، والترمذي 3/ 24، والنسائي 5/ 35 وابن ماجه 1/ 579، والبغوي في شرح السنة 6/ 22.

رواه الأئمة زاد الدارقطني "إلَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ" (¬1)، وروى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، معناه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالْرقيق فَأدُّوا صَدَقَةِ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أرْبَعِينَ درْهَماً" (¬2)، خرجه الترمذي. واجتمعت الأمة على أن الذهب داخل في قوله خمس أواق، وإنما خص الورق في الحديث الثاني لأنه كان مالهم إنما كان التبر عندهم سلعة والمسكوك (¬3) قليل وإلا فلا خلاف بين الأمة، وإنما اختلفوا في فرع من فروعه وذلك إذا اتخذ منه حلياً (¬4)، وهي مسألة عويصة لأن الدليل فيها علينا أن ندَّعي إخراجها من عموم الحديث، وليس فيه أثر صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا في النفي ولا في الإثبات فلا تشتغلوا بالأثار المروية فيها فإنه عناء. والمعوَّل فيها على نكتة بينَّاها في مسائل الخلاف أقواها أن النية والقصد المتعلق بالنماء والزيادة إذا أخرج المال من جنسه بسقوط الزكاة، وهو العوض، فيجب فيه إذا قصد به النماء وأخرج عن أصله من القنية لذلك العين إذا عدل بها عن جهة النماء إلى جهة القنية يخرج عن جنسها في وجوب الزكاة بسقوطها. وأما الماشية فهي الإبل والغنم والبقر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "مَا مِنْ صَاحِبِ إبلِ لَا يُؤَدي زَكَاتَهَا إلَّا .. وَلَا مِنْ صَاحِب بَقَرٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلَا ... وَلَا مِنْ صَاحِبِ غنمٍ لَا يُؤَدي زَكَاتَهَا إلَّا .. " الحديث (¬5) إلى آخره. ¬

_ (¬1) سنن الدارقطني 2/ 127، ومسلم في الزكاة باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه 2/ 676، والبغوي في شرح السنة 6/ 23. (¬2) الترمذي 3/ 16، وأبو داود 2/ 232، والنسائي 5/ 37 مختصراً، وابن ماجه 1/ 570، والبغوي في شرح السنة 6/ 47 وحسّنه، وهو في المسند من زوائد عبد الله، انظر الفتح الرباني 8/ 238. وقال الترمذي، بعد روايته لهذا الحديث: روى هذا الحديث الأعمش وأبو عوانة وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي، وروى سفيان الثوري وابن عينية وغير واحد عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: وسألت محمَّد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال كلاهما عندي صحيح عن أبي إسحاق يحتمل أن يكون عنهما جميعاً. سنن الترمذي 3/ 16. درجة الحديث: حسنه البغوي ونقل المبارك فوري عن الحافظ تحسينه، تحفة الأحوذي 3/ 251. (¬3) الدنانير والدراهم المضروبة يسمى كل واحد منهما سكة لأنه طبع بالحديد، النهاية 2/ 384. (¬4) وردت في زكاة الحلي وعدم زكاتها أحاديث متعارضة ومتكلم فيها جميعاً، ومن أراد الاطلاع عليها فعليه بنصب الراية 2/ 369 - 374 والتلخيص الحبير 2/ 186 - 187 وإرواء الغليل 3/ 294، وصدق الشارح في قوله: ليس فيه أثر صحيح عن النبى - صلى الله عليه وسلم -، لا في النفي ولا في الإثبات. (¬5) مسلم في كتاب الزكاة باب إثم مانعي الزكاة 2/ 685، والنسائي 5/ 27 من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله عَنِ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إبِلٍ وَلاَ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّهَا إلا أُقعِدَ لَهَا يَوُمَ الْقِيَامَةِ بِقَاع قَرْقَرٍ =

وأما الحب والتمر فهما جنسان يجب الزكاة، في مذهبنا، من أنواعها في عشرين نوعاً باختلاف في ذلك بين العلماء وأهل المذهب يأتي تفصيله، إن شاء الله تعالى، جملتها أن المقتات من النبات هو الذي تتعلق به الزكاة عندنا. وقال (ح) تتعلق بالخضروات (¬1) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فِيمَا سَقتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بالنضحِ أوْ دَالِيَةً أوْ كَانَ عَثَرِياً (¬2)، نِصْفُ الْعُشْرِ" (¬3)، وهذا عام في كل ثابت مسقى سماوياً كان أو غير سماوي. الجواب أنا نقول، وهي مسألة أصولية، أن الألفاظ الموضوعة للعموم قد تأتي على قصد الخصوص، والألفاظ الموضوعة للخصوص قد تأتي على قصد العموم، وإنما يعول في ذلك على القصد. وقوله (فِيمَا سَقَتِ السمَاءُ وَفيمَا سُقِيَ بِالنضْحِ) لم يأتِ لبيان الشمول في النوعين، وإنما جاء لبيان الفرق بين مقدار الزكاة في القسمين. هذا وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْسَ فِيمَا دونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صِدِقِةٌ" (¬4)، فقضى بهذا الخاص على ذلك العام لو كان مستوفياً لبيان العموم فكيف وليس به؟ وقد قال بعض الناس معنى قوله "لَيْسَ فِيمَا دونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ" ليس في غير خمسة أوسق، وذكر أن (دون) قد تأتي بمعنى (غير) قال الله تعالى: {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} (¬5) يريد من غيري (¬6). وقد تبين أن المراد في هذا الحديث بقوله (دون) (أقل) بما ورد في الحديث الآخر، قال. رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وَلَيْسَ في حَبِّ وَلاَ تَمْرٍ صَدَقَةٌ حَتى تَبْلُغَ خَمْسَةَ أوْسُقٍ) (¬7)؛ فعم الحب والتمر وبين أن (دون) بمعنى (أقل) وعيَّن ذلك في المقتات الذي تدعو الحاجة إليه، ويتشاح ¬

_ = تَطَؤُهُ ذات الظلْفِ بَظلْفِهَا وَتنْطَحهُ ذَاتُ الْقَرْنِ بِقَرْنهَا لَيْسَ فِيهَا يَؤْمَئِذٍ جَمَّاء وَلَا مَكْسورَة الْقَرْنِ، وَلاَ مِنْ صَاحِبِ مال لَا يؤَدي زَكَاتَة إلَّا تَحَوَّلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجاعاً أقرَعَ" .. (¬1) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 2/ 3. (¬2) العثري هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي، كما قال الخطابي. فتح الباري 3/ 349. (¬3) حديث البخاري في الزكاة باب العشر فيما سقي من ماء السماء وبالماء البخاري 2/ 155، وأبو داود 2/ 252، والنسائي 5/ 41، وابن ماجه 1/ 581، والبغوي في شرح السنة 6/ 42. ونقل الحافظ في التلخيص قول أبي ززعة الصحيح وقفه على ابن عمر ذكره ابن أبي حاتم في العلل. التلخيص الحبير 2/ 179، ورواه مسلم 2/ 675 والنسائي 5/ 41، 42 من حديث جابر، والترمذي 3/ 31، وابن ماجه 1/ 581 من حديث أبي هُرَيْرَة، والنسائي 5/ 42 وابن ماجه 1/ 581 من حديث معاذ بن جبل. (¬4) تقدم تخريجه ص 456. (¬5) سورة الإسراء آية "2". (¬6) أي رباً تكلون إليه أموركم. تفسير أبي السعود 3/ 424. (¬7) تقدم.

الناس فيه، وتمتد الآمال نحوه وإلا فقد كانت الخضروات بالمدينة وقراها فما تعرض النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أحد من الخلفاء (¬1) لها، وأما النصاب فلا خلاف فيه، وأما نصاب الماشية فتقدر بالنص (¬2)، وأما نصاب الورق فبمثله (¬3)، وأما نصاب الذهب فتقدر، بإجماع الصحابة، على حمل أحد النصابين على الآخر، والجامع بينهما أن قيمة الدينار في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، عشرة دراهم حتى جاء الحسن البصري فقال: إن نصاب الذهب أربعون ديناراً (¬4)، وهي دعوى لا تشبه منصبه في العلم، فإن قائلًا لو قال له في المعارضة بل نصاب الزكاة ثلاثون ديناراً لما انفكَّ عن ذلك. إذا ثبت هذا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -، علَّق الزكاة في العين بالورق، فإذا اتفق الناس على جريها عدداً هل تتعلق الزكاة بها فيه ولا يعتبر الوزن، أم لا بد من الوزن؟ فقال عامة الفقهاء: لا بد من الوزن؟ وقال مالك، رضي الله عنه: يعتبر العدد ويسقط الوزن إلا أن يكون النقصان يسيراً كالحبة في الدينار أو الحبتين (¬5). قال ¬

_ (¬1) قال الشارح في العارضة ملخصاً ما ورد في كتابه أحكام القرآن 2/ 746 - 754 في. تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} إلى قوله {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، فامتن الله تعالى على خلقه في إثبات الأرض، ثم قال لهم كلوا مما انعمت به عليكم وآتوا حقه إذا جمعتموه بأيديكم وأويتموه إلى رحالكم، فكما خلقه نعمة ومكَّن منه نعمة أوجب فيه الحق قال مالك: الحق ها هنا الزكاة وصدق، ومن قال غير هذا فقد وهم، وتعين حمل هذا على عمومه إلا ما خصه دليل يصح تخصيصه. فأما من حمله على عمومه فاستثنى الحطب والقصب والحشيش فلا يقال إنه تخصيص لأنه قال: {وكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}، فإنما أوجب إيتاء الحق فيما يوكل، وإلى هذا النحو أشار حماد، وعليه دار من قال ماله ثمرة باقية، ولكنه خصه بالمقتات بإشارة قوله: {يَوْمَ حَصَادِهِ}؛ وكأنه أشار بيوم الحصاد إلى يوم الجرين .. وأقوى المذاهب في المسألة مذهب أبي حنيفة دليلًا وأحوطها للمساكين وأولاها قياماً وشكراً للنعمة، وعليه يدل عموم الآية والحديث، وقد رام الجويني على تحقيه أن يخرج عموم الحديث من بين يدي أبي حنيفة بأن قال: إن هذا الحديث لم يأتِ للعموم وإنما جاء بتفصيل الفرق بين ما تقل مؤنته وتكثر، وأبداً في ذلك وأعاد، وليس يمتنع أن يقضي الحديث الوجهين العموم والتفصيل وذلك الحمل في الدليل واضح في التأويل. العارضة 3/ 133. (¬2) تقدم. (¬3) تقدم (¬4) قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الذهب إذا كان عشرين مثقالاً قيمتها مائتا درهم أن الزكاة تجب فيها إلا ما حكي عن الحسن أنه قال: لا زكاة فيها حتى تبلغ أربعين. المغني 3/ 37، وقال الشوكاني: بعد أن حكى عن الحسن مثل ما حكى الشارح وروى عنه مثل قول الأكثر. نيل الأوطار 4/ 200. وقال الشارح في العارضة: ولا يصح عن أحد من السلف اعتبار الأربعين إلا الحسن، وإذا كان الأثر ضعيفاً والنظر معدوماً والنصاب في الفضة يعرف الذهب محمول عليه والله أعلم. العارضة 3/ 104. (¬5) انظر المنتقى للباجي 2/ 96.

في كتاب محمَّد أو الثلاث (¬1)، وهنا ينبني على الأصل، وهو أن القياس والمصلحة هل يقدمان على العموم (¬2) أم لا؟ ومذهب مالك، رضي الله عنه، أنهما يقدمان على العموم، وكذلك قال عامة الفقهاء فيلزم الغني أداء الزكاة من هذا الدينار للفقير، فإن قال الغني هو ناقص، قال الفقير يجوز عندك جواز الوازن، فكما ساويت به الغني الذي معه الدينار الوافي في وصف الغناء والقدرة على الاقتناء فكذلك تساويه في وجوب الزكاة، ولاجواب لهم عن هذا، ولا لغيرهم من العلماء، واختُلِف في المعدن هل يعتبر فيه النصاب أم لا؟ وهل تؤخذ أيضاً منه الزكاة (¬3) أم لا؟ والصحيح أنه يعتبر فيها لأن ذهب داخل في عموم الحديث (¬4)، ولا يعتبر فيه الحول لأنه نما بنفسه فصار بمنزلة الحرث والثمرة (¬5) والله أعلم. فإن قيل المعدن وإن كان داخلاً بصفة الذهبية في الحديث المتقدم، فإنه خارج عنها بتخصيص الحديث الآخر وهو قوله (في الرِّكَازِ الْخُمُسُ) (¬6)، والمعدن ركاز لأنه مأخوذ من ¬

_ (¬1) لم أجد هذا القول. (¬2) انظر شرح التنقيح للقرافي ص 203، نشر البنود على مراقي السعود 1/ 258، مذكرة الشيخ محمَّد الأمين الشنقيطي على روضة الناظر ص220. (¬3) ذهب قوم إلى ما ذهب إليه الشارح عملاً بما رواه مالك في الموطأ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد من علمائهم (أنَّ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، اقْتَطَعَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنيِّ معَادن الْقَبَلِيةِ وَهِي مِنْ نَاحِيَةِ الْفرَعِ فَتِلْكَ الْمَعَادنُ لاَ يؤْخَذُ مِنْهَا إلَى الْيَوْم إلَّا الزكَاةُ) الموطّأ 1/ 248 - 249، وأبو داود 3/ 173 عن عبد الله بن مسلمة عن مالك، وأبو عبيد في الأموال 423 عن إسحاق بن عيسى ويحيى بن عبد الله بن بكير عن مالك، والبغوي في شرح السنة 6/ 60، ورواه الحاكم في المستدرك 1/ 404 وقال صحيح ووافقه الذهبي، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 152 وهو عندهما موصولاً. قال البيهقي: وقد روي عن عبد العزيز الدروازدي عن ربيعة موصولاً، وساق بسنده عن الحارث بن بلال عن أبيه أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، أخذ من المعادن القبلية الصدقة. درجة الحديث: صححه الحاكم والذهبي، وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأبو عبير .. فقالوا الواجب فيه الخمس. البناية في شرح الهداية 3/ 138 وانظر بداية المجتهد 1/ 258. (¬4) تقدم. (¬5) قال ابن رشد: إن مالكاً والشافعي راعيا النصاب في المعدن وإنما الخلاف بينهما أن مالكاً لم يشترط الحول واشترطه الشافعي. بداية المجتهد 8/ 251، وقال النووي: الصحيح المنصوص في معظم كتب الشافعي وبه قطع جماعات، وصحّحه الباقون، أنه لا يشترط (أي الحول) بل يجب في الحال، وبه قال مالك وأبو حنيفة وعامة العلماء من السلف والخلف. والثاني يششرط، وهو مذهب أحمد والمزني، وقال جماعة من الخراسانيين: إن قلنا فيه الخمس لم يعتبر الحول وإلا فقولان والمذهب أنه لا يشترط المجموع 6/ 81 وانظر المغني لابن قدامة 3/ 55. (¬6) متفق عليه. البخاري في الزكاة باب في الركاز الخمس 2/ 160، ومسلم في الحدود باب جرح العجماء=

تتميم

الارتكاز، وهو الثبوت والاستقرار. قلنا الذي قال (وَفي الرِّكَازِ الْخُمُسُ) أخذ من المعادن الزكاة، والركاز إنما هو مال دُفن في الأرض فصار فيها مركوزاً، وأما المعادن فإنما هي من جملة الأرض ومن أجزائها وأبعاضها حتى تخلص منها (¬1). تتميم: اختلف الناس هل في المال حق سوى الزكاة أم لا؟ فروي عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: (في الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزكَاةِ) (¬2) وتلا قول الله تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} (¬3) إلى آخر الآية .. ونزعوا بكل آية في القرآن تتضمن الإنفاق والعطاء والتصدق (¬4)، والصحيح ما ذهب إليه فقهاء الأمصار ¬

_ = والمعدن والبئر جبار 3/ 1334، والموطأ 2/ 868 - 869، والبغوي في شرح السنة 6/ 57 كلهم من حديث أبي هُرَيْرَة، رضي الله عنه، ان رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - قال: "الْعَجْمَاءُ جبَارٌ وَالْبِئْر جُبَارٌ وَالْمَعْدن جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ" لفظ البخاري. (¬1) نقل الحافظ عن ابن بطال قوله: ذهب أبو حنيفة والثوري وغيرهما إلى أن المعدن كالركاز، واحتج لهم بقول العرب أرْكَزَ الرجل إذا أصاب ركازاً وهي قطع من الذهب تخرج من المعادن. قال الحافظ: والحجة للجمهور تفرقة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بين المعدن والركاز بواو العطف فصح أنه غيره. فتح الباري 3/ 364. (¬2) رواه الترمذي من طريق أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت: سَألتُ أوُ سُئِلَ النَّبِي، - صلى الله عليه وسلم -، عَنِ الزكَاةِ فَقَالَ .. قال الترمذي: هذا حديث إسناده ليس بذاك، وأبو حمزة، ميمون الأعور، يضعف، وروى بيان ابن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهذا أصح سنن الترمذي 3/ 48 - 49، ورواه ابن ماجه بالإسناد الذي أخرجه به الترمذي بلفظ "لَيْسَ في الْمَالِ حَق سِوَى الزكَاةِ" سنن ابن ماجه 1/ 570, والبغوي في شرح السنة 6/ 68، وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة 1/ 597، ورواه البيهقي في السنن الكبرى وقال: هذا حديث يعرف بأبي حمزة، ميمون الأعور كوفي، وقد جرَّحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فمن بعدهما من حفاظ الحديث، والذي يرويه أصحابنا في التعاليق: ليس في المال حق سوى الزكاة. قال: قلت فلست أحفظ فيه إسناداً. والذي رويت في معناه ما قدمت، وساق قبله ما عزاه لأبي داود في المراسي (مَنْ أدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَقَدْ أدَّى الْحَق الذي عَلَيْهِ وَمَنْ زَادَ فَهوَ أفْضَلُ) السنن الكبرى 4/ 84، أقول: الحديث فيه ميمون أبو حمزة الأعور القصّاب، مشهور بكنيته، ضعيف من السادسة/ ت ق. ت 2/ 292. وقال ابن حبان: كان فاحش الخطأ كثير الوهم، يروي عن الثقات ما ليس من حديث الإثبات، تركه أحمد بن حنبل وابن معين. المجروحين 3/ 5 - 6، وانظر الميزان 4/ 127 وت ت 10/ 395. درجة الحديث: ضعيف، ضعَّفه الشارح في الأحكام 1/ 59، وفي العارضة 3/ 163، وقبله الترمذي والبيهقي، كما تقدم. (¬3) سورة البقرة آية 177. (¬4) قال في الأحكام: كان الشعبي، فيما يؤثر عنه، يقول في المال حق سوى الزكاة، ويحتج بحديث يروى عن فاطمة بنت قيس أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: (في الْمَالِ حَق سِوَى الزّكَاةِ) وهذا ضعيف لا يثبت عن الشعبي، ولا عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، الأحكام 1/ 59.

تقسيم واستيفاء ترتيب

من أن الزكاة طُهرة للمال وكفارته لا يبقى بعدها حق فيه، وقد قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -، للسائل عن الفرائض وفي طريق التعليم: "هَلْ عَلَى غَيْرَهُن؟ قَالَ: لَا" (¬1)، وهذا نص إنصاف: نحن وإن قلنا انه ليس في المال حق سوى الزكاة فإنما ذلك ابتداء فأما العوارض والطوارىء فقَد تتعين الحقوق في الأبدان بالنصرة للمظلومين ودفع الظالمين زائداً على الجهاد، وفي الأموال بإغناء المحتاجين وفكّ الأسرى من المسلمين، وقد قال مالك، رضي الله عنه: يجب على كافة الخلق أن يفكوا الأسرى ولو لم يبقَ لهم درهم (¬2)، ولا خلاف بين الأمة في هذين الفصلين، فافهموا تنزيلهما واعلموا أوجه الخلاف فيهما. تقسيم واستيفاء ترتيب: أتقن مالك، رضي الله عنه، في كتاب الزكاة اتقاناً صار لجميع الخلق معياراً فهم يقتفون في ذلك أثره (¬3)، ويترقون إلى درجته، وأنى لهم؛ فإنه لمّا أصل الزكاة حسن ترتيبها فبدأ بالعين الذي هو أصل الأموال ومعيار الأملاك وحقيقة الغنى فاستوفى وجوهه التي تتعلق بها الزكاة، والتي لا تتعلق من معدن وركاز وحلي، واتبع ذلك بأموال الصبيان والأموال المستفادة بالمواريث وبين حكمه إذا كان صماراً (¬4)، وذكر العروض التي تجب فيها الزكاة بإنزالها منزلة العين في النية، ويين الكنز المذموم، وهو كل مال لا تؤدَّى زكاته؛ ثم عقَّب ذلك بالماشية والثمار، وهذا ترتيب بديع لمن نظره دون أن يراه لأحد ثم لحظ الشريعة لحظة أخرى أعظم من هذه الأُولى فعلم أن أموالها منقسمة إلى أربعة أقسام: الصدقة والجزية والفيء والغنيمة، فأفرد للفيء والغنيمة كتاباً، وأدخل الجزية في كتاب الزكاة لأنه مال موظف على الأبدان فصار من نوع زكاة الفطر وأشبه شيء بصدقة المال لأنها متعلقة بالبدن تعلق مالك بالمال، ثم رأى غيره أن يلحقها بالفيء والغنيمة وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى. ما لا زكاة فيه من الحلي: أدخل مالك، رضي الله عنه حديث القاسم عن عائشة ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) قال القرطبي: قال مالك، رحمه الله، يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم وهذا إجماع. تفسير القرطبي 2/ 242 وانظر الأحكام للشارح 1/ 60. (¬3) في (ك) و (م) و (ص) آثاره. (¬4) في (ك) و (م) و (ص) صغاراً لعلها هي الصواب. قال في مختار القاموس: والأصفران الزعفران والذهب، والصفراء الذهب. مختار القاموس ص 357.

زكاة مال الصبيان

رضي الله عنها أنها كانت تلي بنات أخيها يتامى فلا تخرج من حليهن الزكاة (¬1)، ليبين بذلك بطلان الحديث المروي عن عائشة، رضي الله عنها، أنَها قَالَتْ: دخَل عليَّ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - وفي يَدِي فتْخ (¬2) وَهيَ الْخَوَاتمُ، فقالَ: مَا هذا؟ فقُلْتُ صَنعْتُهَا أتزينُ بِهَا لكَ، فَقَالَ: أَتؤَدِّينَ زَكَاتَها؟ قُلْتُ: لَا، قَال: هي حَسْبُكِ مِنَ النَّارِ (¬3). فبيَّن مالك، رضي الله عنه، أن هذا لو سمعته من النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لما تركت إخراج الزكاة من هذا الحلي، وقصد بذلك أيضاً الرد على أهل العراق في أن الراوي إذا أفتى بخلاف ما رواه سقطت روايته (¬4). زكاة مال الصبيان: روي عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه حث على التجارة في أموال الصبيان ¬

_ (¬1) الموطأ 1/ 250 مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة. والشافعي في مسنده 34 والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 138. درجة الأثر: صحيح إلى عائشة. (¬2) الفتخ: هي خواتم كبار تلبس في الأيدي وربما وضعت في أصابع الأرجل .. وتجمع على فتخات وفتاخ .. النهاية 3/ 408. (¬3) أبو داود 2/ 213 والدارقطني في السنن 2/ 105 - 106، وقال محمَّد ابن عطاء مجهول، وهو الراوي عن عبد الله بن شداد، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 139، وقال: قال علي بن عمر محمَّد بن عطاء مجهول، قال الشيخ هو ابن عمرو ابن عطاء، وهو معروف، والحاكم في المستدرك 1/ 389 - 390 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرّجاه، وكذا قال الذهبي. وقال صاحب عون المعبود: والحديث أخرجه الدارقطني في سننه عن محمَّد بن عطاء فنسبه إلى جده دون أبيه، ثم قال: ومحمد بن عطاء مجهول، قال البيهقي في المعرفة: هو محمَّد بن عمرو بن عطاء لكنه لما نسب إلى جده ظن الدارقطني أنه مجهول وليس كذلك. وتبع الدارقطني في تجهيل محمَّد ابن عطاء عبد الحق في أحكامه، وتعقبه ابن القطان فقال: لمّا خفي على الدارقطني أمره فجعله مجهولاً وتبعه عبد الحق في ذلك، وإنما هو محمَّد بن عمرو بن عطاء أحد الثقاث، وقد جاء مبيناً عند ابي داود بينه شيخه محمَّد بن إدريس الرازي، وهو أبو حاتم الرازى، إمام الجرح والتعديل. عون المعبود 4/ 428. أقول: محمَّد بن عمرو بن عطاء القرشي العامري المدنيّ ثقة من الثالثة، مات في حدود 120، ووهم من قال بن ابن القطان تكلّم فيه/ ع. ث 2/ 196 وانظر ت ت 9/ 373، وقال المنذري: لا اعتبار بما ذكره الدارقطني من أن محمَّد ابن عطاء مجهول. الترغيب والترهيب 1/ 556. درجة الحديث: قال الحافظ في التلخيص 2/ 178: إسناده على شرط الصحيح وعليه فهو صحيح، لا كما قال الشارح أنه باطل .. (¬4) انظر المعنى في أصول الفقه للخبازي ص 216 فقد قال: مخالفته (أي الصحابي) (قولاً أو عملاً قبل الرواية أو لم يعرف التاريخ لا تسقطه وبعد تسقطه) ..

أولياؤهم لئلا تأكلها الصدقة (¬1)، ولكن عوَّل مالك، رضي الله عنه، على حديث عمر بن الخطاب، رضي الله عنه, لأنه خليفة، وكان يأمر بذلك، ولم يثبت له مخالف من الصحابة (¬2)، رضي الله عنهم. وقال أهل العراق: ليس في مال الصبي ¬

_ (¬1) ورد ذلك من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند الترمذي 3/ 32 أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، خطب الناس فقال: "ألَا مَنْ وُلّيَ يَتيماً لَه قال فَلْيَتجِرْ فِيهِ وَلَا يَتْرُكُهُ حَتَّى تَأكلَهْ الصَّدَقَةُ". وقال في إسناده مقال لأن المثنى بن الصباح ضعيف، ورواه البغوي في شرح السنة 6/ 63، ورواه مالك في الموطّأ 1/ 251 بلاغاً: أنهُ بَلَغَة أن عُمَرَ بنَ الْخَطابِ قَالَ: اتَّجرُوا في أمْوَالِ الْيَتَامَى لاَ تَأكلهَا الزكَاةُ. ورواه الشافعي في مسنده 2/ 224 عن سفيان عن عمرو ابن دينار أَنَّ عمر بن الخطاب قال .. أقول: الحديث فيه المثنى بن الصبّاح، بالمهملة والموحدة الثقيلة، اليماني الأبناوي، بفتح الهمزة وسكون الموحدة بعدها نون، أبو عبد الله، أو أبو يحيى، نزيل مكة، ضعيف اختلط بآخره وكان عابداً من كبار السابعة مات سنة 149/ د ت ق ت 2/ 228 وانظر ت ت 10/ 35. كما أن فيه عمرو بن شعيب بن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، صدوق من الخامسة مات سنة 118 هـ/ ز ع. ت 2/ 72 وانظر ت ت 8/ 48 وستأتي ترجمة أوسع من هذا له ورأي الشارح فيه. درجة الحديث: ضعيف وقد نقل الحافظ عن الدارقطني قوله: والصحيح من كلام عمرو، وسيأتي الكلام على رواية عمرو. (¬2) رواه مالك 1/ 251 بلاغاً، ورواه الشافعي عن سفيان عن عمرو بن دينار أن عمر بن الخطاب قال: ابتَغُوا في أمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَسْتَهْلَكْهَا الزكَاة. مسند الشافعي 2/ 224 وهذا فيه انقطاع لأن عمرو بن دينار لم يدرك عمر. انظر ت ت 8/ 28 - 30، ورواه البغوي في شرح السنة 6/ 63 من نفس الطريق، والبيهقي في السنن 4/ 107 بنحو من حديث سعيد بن المسيب أن عمر، رضي الله عنه، قال. قال البيهقي هذا إسناد صحيح، ورده ابن التركماني بقوله كيف يكون صحيحاً ومن شرائط الصحة الاتصال، وسعيد ولد لثلاث سنين مضين من خلافة عمر، ذكره مالك، وانكر سماعه منه، وقال ابن معين، رآه وكان صغيراً ولم يثبت له سماع منه. الجوهر النقي مع البيهقي 4/ 107. أقول: سعيد بن المسيب روايته عن عمر فيها كلام كثير للعلماء. قال الحافظ سعيد ابن المسيب أحد الأعلام الأثبات الفقهاء الكبار من كبار الثانية: اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل، وقال ابن المديني: لا أعلم من التابعين أوسع علماً منه، مات بعد 90 وقد ناهز 80/ ع. ت 1/ 305، وقال في ت ت قال أبو طالب قلت لأحمد سعيد بن المسيب؟ فقال ومن مثل سعيد؟. سعيد ثقة من أهل الخير، فقلت له: سعيد عن عمر حجة، فقال: هو عندنا حجة قد رأى عمر وسمع منه وإذا لم يقبل سعيد عن عمر فمن يقبل، وقال الميموني عن أحمد مرسلات سعيد صحاح لا نرى أصح من مرسلاته، وقال الربيع عن الشافعي إرسال سعيد عندنا حسن، وقال يحيى بن سعيد كان ابن المسيب يُسمّى راوية عمر، كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته، وقال مالك: بلغني أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره، وقال مالك: لم يدرك عمر ولكن لما كبر أكبَّ على المسألة عن شأنه وأمره، وقال سعيد: ولدتُ لسنتين مضتا من خلافة عمر.

زكاة العروض

زكاة (¬1)، وقد قال الله تعالى لرسوله، - صلى الله عليه وسلم -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬2). كما قال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} (¬3)، وقال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "الزَكَاةُ حَق المَالِ" (¬4)، فحيث ما وجد المال تؤخذ منه الزكاة كما يؤخذ منه العشر، وإن كان صبياً، فإن قيل هي عبادة ولا يتعلّق بالصبي تكليف. قلنا: وإن كانت عبادة تجوز فيها النيابة فإن تعذر إعطاء الصبي ناب عنه وليُّه. زكاة العروض: احتج مالك، رضي الله عنه، بكتاب عمر بن عبد العزيز، وهو خليفة (¬5) عدل وهو أصل عظيم، والذي نحققه أن الزكاة قد تقرر وجوبها في العين وتجد من الناس خلقاً كثيراً يكتسبون الأموال ويصرفونها في أنواع المعاملات وتنمى لهم بأنواع التجارات، فلو سقطت الزكاة عنهم لكان جزء من الأغنياء يخرجون عن هذه العبادة وتذهب حقوق الفقراء في تلك الجملة، وربما اتخذ ذلك ذريعة إلى إسقاط الزكاة والاستبداد بالأموال دون الفقراء، فاقتضت المصلحة العامة، والأمانة الكلية في حفظ الشريعة ومراعاة الحقوق، أن توخذ الزكاة من هذه الأموال إذا قصد بها النماء. ¬

_ = وقال الحافظ: وقع لي حديث بإسناد صحيح لا مطعن فيه تصريح سعيد بسماعه من عمر. ت ت 4/ 84، وانظر جامع التحصيل في أحكام المراسيل ص 34 فقد نقل عن ابن القطان وغيره قال: كشف الإِمام الشافعي عن حديث سعيد ابن المسيب فوجده كله مسنداً متصلاً فاكتفى عن طلب كل حديث بعد فراغه عن الجملة. درجة الحديث: من خلال ما تقدم يترجح لدي تصحيح البيهقي. (¬1) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 1/ 483. (¬2) سورة التوبة آية 103. (¬3) سورة الذاريات آية 19 {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}. (¬4) متفق عليه. البخاري في كتاب الزكاة باب وجوب الزكاة 2/ 91، ومسلم في كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله 1/ 51، وأبو داود 2/ 198، والترمذي 3/ 5 - 4، والنسائي 5/ 14 كلهم من حديث أبي هريرة: قال "توفي رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ نُقَاتِل النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتى يَقُولُوا لاَ الهَ إلَّا الله". (¬5) الموطأ 1/ 552 مالك عن يحيى بن سعيد عن زريق بن حيان، وكان زريق على جواز مصر في زمان الوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز، فذكر أن عمر ابن عبد العزيز كتب إليه (انظر من مر بك من المسلمين فخذ مما ظهر من أموالهم مما يريدون من التجارات من كل أربعين دينار فما نقص فبحساب ذلك ..) والأثر فيه زريق بن حيان الدمشقي، أبو المقدام، ويقال بتقديم الزاء، قيل اسمه سعيد بن حيان، وزريق لقب، صدوق من السادسة مات سنة 105 وله 80 سنة/ م ت 1/ 250 وانظر ت ت 3/ 273. درجة الأثر: صحيح.

باب الكنز

باب الكنز أدخل مالك رضي الله عنه حديث ابن عمر أنه المال الذي لا تؤدى زكاته (¬1) وصدق لأن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) فاختلف الناس هل هذة الآية عامة في كل نفقة أو مخصوصة بالزكاة؟ (¬3) وقد بيَّنَّا أن الكنز ¬

_ (¬1) الموطّأ 1/ 256 مالك عَنْ عَبْدِ اللِه بْنِ دينَارٍ أنهُ قَالَ: سَمِعْت عبد الله بنَ عمَرَ يَسْألُ عَنِ الْكَنْزِ مَا هوَ؟ فَقَالَ: (هُوَ الْمَالُ الذِي لاَ تُؤَدَّى مِنهُ الزَّكاةُ)، والبيهقي في السننِ الكبرى 4/ 83 وقال هذا هو الصحيح موقوف، والبخاري من طريق ابن شهاب عن خالد بن أسلم قال: خرَجْنَا مَعَ ابن عُمَرَ .. فذكره البخاري في الزكاة باب من أدى زكاة ماله فليس بكنز 2/ 132، والشافعي في مسنده 1/ 224 ورواه البيهقي أيضاً من رواية عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر بلفظ (كُلُّ مَا أدَّيْتَ زَكَاتَهُ وإنْ كَان تَحْتَ سبْعِ أرَاضِينَ فَلَيْس بِكَنْزٍ، وَكُلَّ مَا لَا تُؤَدِّي زَكَاتَهُ فَهوَ كَنْزٌ وإن كانَ ظَاهراً عَلَى وَجْهِ الْأرْضِ) قال هذا هو الصحيح موقوف. وكذلك رواه جماعة عن نافع وجماعة عن عبيد الله بن عمر، وقد رواه سويد بن عبد العزيز وليس بالقوي عن عبد الله بن عمر مرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، السنن الكبرى 4/ 82، والبغوي في شرح السنة 5/ 477 وقال الحافظ: الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً .. ووصله البيهقي والطبراني من طريق الثوري وقال إنه ليس بمحفوظ. فتح الباري 3/ 272. درجة الحديث: الموقوف منه صحيح والمرفوع ضعيف لأنه من طريق سويد بن عبد العزيز السلمي، مولاهم، الدمشقي، قاضي بعلبك أصله واسطي نزل حمص لين الحديث من الثامنة مات سنة 194 وله 80 سنة/ ت ق. ت 1/ 340، وقال في ت ت قال أحمد متروك الحديث، وقال ابن معين ليس بثقة، وقال البخاري في حديثه مناكير أنكرها أحمد، وقال النسائي ليس بثقة ومرة قال ضعيف، وضعفه ابن حبان جدا ت 4/ 276 وانظر المجروحين 1/ 350 والميزان 2/ 247 والمغني 1/ 291. (¬2) سورة التوبة آية 34. (¬3) قال الشارح في كتاب الأحكام: اختلف الصحابة في المراد بهذه الآية؛ فذهب معاوية إلى أن المراد بها أهل الكتاب، وخالفه أبو ذر وغيره فقال المراد بها أهل الكتاب والمسلمون .. وتنقيح الأقوال وجلاء الحق ينحصر في ثلاثة مدارك: المدرك الأول أن الكل من فقهاء الأمصار اتفقوا على أنه ليس في المال حق سوى الزكاة، وإذا لم يكن في المال حق سواها وقضيت بقي المال مطهراً. المدرك الثاني أن الآية عامة في أهل الكتاب وغيرهم وقد أكد ذلك بقوله {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} .. وأما الكنز فهو مال مجموع، لكن ليس كل مال دين لله تعالى فيه حق، ولا حق الله سوى الزكاة فإخراجها يخرج المال عن وصف الكنزية، ثم إن الكنز لا يكون إلا في الدنانير والدراهم أو تبرها، وهذا =

صدقة الماشية

هو المال الذي يُحبس عن الحقوق المتعينة، كانت أصلية كالزكاة أو عارضة كفك الأسير وإطعام الجائع ونحوه. حديث "مُثلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعاً (¬1) أقْرَعَ" (¬2) ثبت ذلك عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، من طريق أبي هُرَيْرَة وغيره، وهذه العقوبة إنما تكون، كما قلنا، فيمن منع الحقوق (الواجهة) ومعنى (مُثِّلُ لَهُ شُجَاعَ أقْرَعَ) حقيقة لأن المال جسم والشجاع جسم فيغير الله تعالى الهيئات والصفات والجسم واحد، وكون المثل في الذات لا في الصفة بخلاف قوله: (يُؤْتَى بِالْمَوْتِ في صُورَةِ كَبْشٍ) (¬3)، وخصّ بذلك الشجاع لأنه أول عدو اكتسبه الإنسان وبه خرج من الجنة. صدقة الماشية: ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في صدقة الماشية ثلاثة كتب، كتاب أبي بكر الصدّيق بعد موت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، رواه أنس، رضي الله عنه، واستقر (¬4) عنده، وكتابه إلى عمرو بن حزم واستقر عندهم (¬5)، وما في كتاب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ¬

_ = معلوم لغةً، ثم إن الحلي لا زكاة فيه؛ فتخلص من هذا أن كل ذهب أو فضة اُدِّيَت زكاتهما، أو اتخذت حلياً، فليسا بكنز، وذلك قوله سبحانه {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} وهذا يدل على أن الكنز في الذهب والفضة خاصة، وأن المراد بالنفقة الواجب لقوله {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ولا يتوجب العذاب إلا على تارك الواجب. أحكام القرآن 2/ 929 وذكر المدرك الثالث. (¬1) الشُجاع: الحية الذكر، والأقرع الذي انحسر الشعر عن رأسه من كثرة سمّه. شرح السنة 5/ 476. (¬2) البخاري في الزكاة باب إثم مانع الزكاة 2/ 132 والبغوي في شرح السنة 5/ 478 ولفظ الحديث (مَنْ آتَاه الله مَالاً فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثلَ لَهُ ماله شُجَاعاً أقْرع له زَبِيبتانِ يطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأخُذُ بِلِهْزِمَتيهِ يَعْنِي بِشَدْقَيْهِ ثُم يقُولُ أنا مَالُكَ ..). (¬3) متفق عليه البخاري في تفسير قوله تعالى {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم: 39]، البخاري 6/ 117 ومسلم في صفة الجنة ونعيمها 4/ 2188، والبغوي في شرح السنة 5/ 198 كلهم من حديث أبي سعيد الخدري قال: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (يُؤتى بِالْمَوتِ كَهَيْئَةِ كبشٍ أمْلَح، فينَادي يَا أهلَ الْجَنةِ .. خُلُودٌ فَلَا مَوْتٌ وَيا أهْل النَّارِ خلودٌ فَلَا مَوْتٌ ..) لفظ البخاري. (¬4) البخاري في الزكاة باب العرض في الزكاة 2/ 144، وفي باب لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع، وفي باب ما كان من خليطين فإنفما يتراجعان بالسوية، وفي باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض 2/ 145، وأبو داود 2/ 214، والنسائي 5/ 18، وابن ماجه 1/ 575، والبغوي في شرح السنة 6/ 3 - 6، والدارقطني 2/ 113، وأورده النووي في المجموع 5/ 583. (¬5) الحديث عزاه الزيلعي في نصب الراية 2/ 339 إلى النسائي وأبي داود في المراسيل فقال: رواه النسائي في الديات عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود عن الزهري ثم أخرجه عن سليمان ابن أرقم عن الزهري به، وقال هذا أشبه بالصواب وسليمان بن أرقم متروك الحديث ورواه أبو داود في المراسيل ص 14 عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات وبعث به مع عمرو ابن حزم .. وقال =

وعليه عوَّل مالك، رضي الله عنه، لطول مدة خلافته وسعة بيضة الإِسلام في أيام ولايته وكثرة مصدِّقيه فما من أحد اعترض فيه (¬1). ¬

_ = النسائي وسليمان بن أرقم متروك. ورواه عبد الرزاق في مصنفه أنبأ معمر عن عبد الله بن أبي بكر به 4/ 4، والحاكم في المستدرك 1/ 395 عن سليمان بن داود عن الزهري به وقال إسناده صحيح، وهو من قواعد الإِسلام، ورواه ابن حبان من طريق سليمان بن داود عن الزهري به، موارد الظمآن ص 202 - 203 والبيهقي في السنن الكبرى بإسناد ابن حبان، وقال: قد أثنى على سليمان بن داود الخولاني أبو زرعة الرازي وعثمان بن سعيد الدارمي وجماعة من الحفّاظ، ورأوا هذا الحديث الذي رواه في الصدقة موصول الإسناد حسناً، والله أعلم. السنن الكبرى 4/ 89 - 90. وقال الزيلعي: قال أحمد بن حنبل: كتاب عمرو بن حزم في الصدقات صحيح. وقال: قال بعض الحفاظ المتأخرين: ونسخة كتاب عمرو بن حزم تلقَّاها الأئمة الأربعة بالقبول .. ثم قال: قال الشافعي في الرسالة: لم يقبلوه حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونقل عن الفسوي قوله: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة أصح منه كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتابعون يرجعون إليه، ويدعون آراءهم. نصب الراية 2/ 339 - 342، والحديث صحَّحه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الرسالة ص 423، وقال الحافظ في ت ت، بعد أن ساق ترجمة سليمان بن داود. قلت: أما سليمان بن داود فلا ريب في أنه صدوق، لكن الشبهة دخلت على حديث الصدقات من جهة أن الحَكَم بن موسى غلط في اسم والد سليمان فقال سليمان بن داود، وإنما هو عن سليمان بن أرقم، قال صالح: كتب عن مسلم ابن الحجاج هذا الكلام، وقال ابن مندة: قرأت في كتاب يحيي بن حمزة بخطه عن سليمان بن أرقم عن الزهري. وأما من صحّحه فأخذه على ظاهره في إنه سليمان بن داود وقوي عندهم أيضاً بالمرسل الذي رواه معمر عن الزهري. ت ت 4/ 190. درجة الحديث: الراجح أنه صحيح لكثرة من صحّحه. (¬1) الموطّأ 1/ 257، مَالِكٍ أنهُ قَرَأ كِتَابَ عمر بْنِ الْخَطَّابِ في الصَّدقَةِ قَال فَوَجَدْتُ فِيهِ في أرْبَعٍ وَعِشرِينَ مِنَ الإبِلِ فَدُونَهَا الْغَنَمُ في كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ. وأبو داود 2/ 214 - 224، والترمذي وقال حديث حسن والعمل على هذا عند عامة الفقهاء وقد روى يونس بن يزيد، وغير واحد، عن الزهري عن سالم هذا الحديث ولم يرفعوه وإنما رفعه سفيان بن حسين. سنن الترمذي 3/ 17، ورواه الحاكم في المستدرك 1/ 392 - 393، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 88، وأحمد انظر الفتح الرباني 8/ 207 كلهم من طريق سفيان بن حسين، ورواه الدارقطني من طريق سليمان بن الأرقم. سنن الدارقطني 2/ 113، وأبو داود من طريق ابن المبارك عن يونس عن الزهري قال: هذه نسخة كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي كتبه في الصدقة. أبو داود 2/ 226، وقال البيهقي رواه عن الزهري عن سالم عن أبيه جماعة فوقفوه، وسفيان بن حسين وسليمان بن كثير رفعاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، السنن الكبرى 4/ 88. وقال الحافظ: أخرجه ابن عدي من طريقه، وهو لين الحديث في الزهري تلخيص الحبير 2/ 159، والمراد بذلك سفيان بن حسين، وقال الزيلعي: كتاب عمر أسنده سفيان بن حسين وسليمان بن كثير عن الزهري عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكتبه عمر عن رأيه إذ لا مدخل للرأي فيه وعمل به، وأمر عماله فعملوا =

زكاة البقر

زكاة البقر: وأما زكاة البقر، ثبت أيضاً عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، والمعول فيه على حديث معاذ (¬1) لأن تهامة ونجداً لم تكن أرض بقر وإنما احتيج إلى بيان حالها باليمن. صدقة الخلطاء: هذه مسألة عسيرة قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوَيةِ" (¬2). واختلف الناس في الخليطين هل هما الشريكان أم الجاران؟ واختلف الناس فيما يكونان به خليطين، وفي وقت الخلطة، وفي كيفية التراجع عند اختلاف نسبة الأعدادِ؟ وهذا كله قد بيَّناه في موضعه بأصوله وفروعه وفي قوله: (لَا يُفَرقُ بَيْنَ مُجْتَمَعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفَرَّقٍ) دليل على ما قلناه (¬3) في الحوطة في الزكاة ومنع ¬

_ = به، وأصحاب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، متوافرون، وأقرأ ابنه عبد الله بن عمر وأقرأه عبد الله ابنه سالم ومولاه نافعاً وكان عندهم حتى قرأه مالك بن أنس. نصب الراية 2/ 344 - 345. درجة الحديث: حسَّنه الترمذي، قال الزرقاني: ولعل ذلك بالنظر إلى شواهده، شرح الزرقاني 2/ 112، وكذلك النووي في المجموع 5/ 432. (¬1) الموطأ 1/ 259 مَالِكٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْس عَنْ طَاوسٍ الْيَمَانيِّ أن معَاذَ بْنَ جَبَل، وأبو داود 2/ 234، والترمذي 3/ 20 وقال حديث حسن، وروى بعضهم هذا الحديث عن سفْيَانَ عَنِ الأعْمَشِ عَنْ أبِي وَائل عَنْ مَسْروقٍ أن النبى، - صلى الله عليه وسلم -، بَعَثَ مُعَاذاً إلَى الْيَمَنِ فَأمَرَهُ أنْ يَأخُذَ. وهذا أصح، وابن حبان، انظر موارد الظمآن ص 203، ورواه النسائي 5/ 25 - 26، وابن ماجه 1/ 576، والحاكم 1/ 398 وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، وكذا قال الذهبي وعبد الرزاق في مصنفه 4/ 21 - 22. والبغوي في شرح السنة 6/ 19 كلهم من رواية أبي وائل عن مسروق عن معاذ وفي رواية أخرج عن أبي داود، والنسائي من طريق أبي وائل عن معاذ، وقال الحافظ: رجح الترمذي والدارقطني في العلل الرواية المرسلة، قال: ويقال إن مسروقاً لم يسمع من معاذ، وقد بالغ ابن حزم في تقرير ذلك، وقال ابن القطان: يحكم لحديثه بالاتصال على رأي الجمهور. وقال ابن عبد البر: إسناد متصل صحيح ثابت، وقال أيضاً: لا خلاف بين العلماء أن السنة في زكاة البقر ما في حديث معاذ وأنه النصاب المجمع عليه. تلخيص الحبير 2/ 160، وضعَّف ابن حزم حديث معاذ هذا بأن مسروقاً لم يلق معاذاً، ثم استدرك على نفسه فقال: وجدنا حديث مسروق إنما ذكر فيه فعل معاذ باليمن في زكاة البقر وهو بلا شك قد أدرك معاذاً وشهد حكمه وعمله المشهور المنتشر فصار نقله لذلك ولأنه عن عهد الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، نقلاً عن الكافة عن معاذ بلا شك فوجب القول به. المحلى 6/ 16. درجة الحديث: حسّنه الترمذي وقال الشيخ عبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول 4/ 596: الحديث حسن بشواهده، حسّنه الترمذي وغيره، وقال الشيخ إبراهيم محمَّد نور سيف، بعد بحث سند هذا الحديث والخلاصة إنه ضعيف من ناحية الإرسال اعتضد بالاعتبار فصار حسناً لغيره مرويات معاذ بن جبل في مسند الإِمام أحمد 1/ 413. (¬2) هذا اللفظ ورد في حديث أنس السابق. (¬3) في (ك) و (م) قيل.

التطرق إلى إسقاطها، والذي يعوَّل عليه ها هنا من هذا الباب ثلاثة معان: الأول: أن الخليطين أصل في الشريعة (¬1). والثاني: أنهما اللذان لا تنفصل غنماهما، فإن انفصلت في المراح خاصة والراعي والدلو والمسرح واحد عفي عنه عند علمائنا وفيه تفصيل طويل (¬2). والثالث: أنهما ليسا الشريكين؛ إذ لو كانا شريكين لما احتيج (¬3) إلى التراجع، وهذا أعسر فصل (¬4) على (ش) (¬5). حديث: قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، (نعَمْ نَعُدُّ السَّخْلَةَ وَلَا نَأْخُذُها) (¬6)، هذا ليس بجواب إلا على مذهب أهل السنة؛ فإن عمر بن ¬

_ (¬1) قال النووي: الخلطة تؤثر في الزكاة ويصير مال الشخصين أو الأشخاص كمال الواحد، ثم قد يكون أثرها في وجوب الزكاة، وقد يكون في تكثيرها، وقد يكون في تقليلها. المجموع 5/ 432 - 433. (¬2) قال الحافظ: والخلطة عندهم أن يجتمعا في المسرح والمبيت والحوض والفحل، والشركة أخص منها، واستدل له بقوله، وفي جامع سفيان الثوري عن عُبَيْدِ الله بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِع عَنْ ابن عُمَرَ عَنْ عُمَرَ (مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإنهمَا يَتَراجَعَانِ بِالسوَيةِ؛ قلْتُ لِعبيدِ الله مَا يَعْني بِالْخَلِطَيْنِ؟ قَالَ: إذَا كَانَ الْمَرَاحُ وَاحِداً وَالرَّاعِي وَاحِداً"، فتح الباري 3/ 315، وانظر المغني لابن قدامة 3/ 445، والموطأ 1/ 263. (¬3) هذا قول أبي حنيفة، قال الحافظ: اختلف في المراد بالخليط فقال أبو حنيفة: هو الشريك، واعترض عليه بأن الشريك قد لا يعرف عين ماله، وقد قال: إنهما يتراجعان بينهما بالسوية، ومما يدل على أن الشريكِ لا يستلزم أن يكون شريكاً قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} وقد بين قبل ذلك بقوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} فتح الباري 3/ 315. (¬4) في (ك) و (م) دليل على الشافعي. (¬5) وذلك أن الشافعي يقول معنى قوله: (وَلاَ يفَرِّق بينَ مجتَمَعٍ) أن يكون رجلان لهما أربعون شاة فإذا فرّق بينهما لم يجب عليهما فيها زكاة؛ إذ كان نصاب الخلطاء عنده نصاب ملك واحد في الحكم. فقه الزكاة 1/ 220، وانظر الروضة للنووي 2/ 173، وبداية المجتهد 1/ 264. أما مالك فإنه يقول: معنى قوله: (وَلَا يُفَرّقُ بينَ مُجتَمِع) أنّ معنى الخليطين يكون لكل واحد منهما مائة شاة وشاة فيكون عليهما فيها ثلاث شياه، فإذا افترقا كان على كل واحد منهما شاة، فإذا أظلمهما المصدق فرَّقا غنمهما لم يكن علي كل واحد منهما إلا شاة واحدة، فنهى عن ذلك فقيل: (لاَ يُجْمَع بَيْنَ مُتَفَرق وَلَا يُفَرق بينَ مجْتَمِع خشْيَة الصدقَةِ) الزرقاني 2/ 120. فعلى مذهب مالك النهي إنما هو حجه نحو الخلطاء الذين كل واحد منهم له نصاب. (¬6) الموطأ 1/ 265. من حديث ثور بن زيد عن ابن لعبد الله بن سفيان الثقفي عن جده سفيان أن عمر بن الخطاب .. والبغوي في شرح السنة 6/ 21. وأخرج الشافعي نحوه من طريق بشر بن عاصم عن أبيه أن عمر .. مسند الشافعي 1/ 238، وأخرجه أبو عبيد في الأموال مختصراً من طريق الأوزاعي عن سالم ابن عبد الله المحاربي أن عمر بعث مصدقاً .. ص 455، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 100 بإسناد مالك والشافعي، رحمهما الله. درجة الحديث: صحّح سنده النووي. انظر نصب الراية 2/ 355.

من يجوز له أخذ الصدقة

الخطاب، رضي الله عنه، قال لسفيان (¬1): (قلْ لَهُمْ نَعد عَلَيْهِم السخلَةَ يَحْمِلُهَا الراعِي ولَا نَأخُذُهَا كَمَا تَعُدُّ عَلَيْهِمِ الربا (¬2) وَالأكُولَةَ (¬3) وَلَا نَأخُذُهَا) وهذا قياس النظير على النظير تحقيقه، كما قال عَدل بين غدا (¬4) المال وخياره وذلك أنا نمتنع عن أخذ الكريمة نظراً لصاحب المال، ونمتنع عن أخذ السخلة نظراً للفقراء، وفيها وجه آخر؛ وذلك أن الساعي لو أخذها ما أمكنه حلبها فسقط اعتبارها من كل وجه، ولذلك قلنا: إن المصدق لا يختار الصدقة إنما يقول لرب المال: عليك شاة فجِىءْ بها، فإذا جاء بالوسط لزمه قبوله. من يجوز له أخذ الصدقة: بيَّن الله تعالى مصرف الزكاة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (¬5)، إلى آخر الآية، فتعينت لهم، ثم روي عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال:"لَا تَحِلّ الصدَقَةَ لِغَنيِّ إلَّا لِخَمْسَةٍ" (¬6) وكما أنه حرَّم الصدقة على كل أحد عدا الأصناف، فكذلك أيضاً حرَّم المسألة على من كان عنده غداء وعشاء (¬7)، وفي رواية وعلى من كان ¬

_ (¬1) سفيان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث الثقفي الطائفي صحابي، وكان عامل عمر على الطائف ت 1/ 311. (¬2) الربى: التي قد وضعت وهي تربي ولدها. المنتقى 2/ 144. (¬3) الأكولة: هي شاة اللحم التي تسمن لتؤكل. المنتقى 2/ 144. (¬4) قال مالك: (فَغِذَاءُ الْغَنَمِ مِنْهَا كَمَا رِبْحُ الْمَالِ مِنْهُ) الموطأ 1/ 266، وفسّره الباجي بقوله: غذاء الغنم صغارها، والمراد أن لا يأخذ الساعي خيار المال ولا رديئه وإنما يأخذ الوسط. المنتمى 2/ 144. (¬5) سورة التوبة آية 60. (¬6) الموطّأ 1/ 268، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار والحاكم من طريق مالك، في المستدرك 1/ 407 وقال صحيح. فقد يرسل مالك الحديث ويصله أو يسنده ثقة، والقول فيه قول الثقة الذي يصله، وأبو داود 2/ 286 من طريق مالك، ومن طريق أخرى عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري وابن ماجه 1/ 589 مثل رواية أبي داود، وهو موصول عندهما وكذلك البغوي في شرح السنة 6/ 89. درجة الحديث: قال شعيب الأرناؤوطي: إسناده صحيح، انظر تعليقه على شرح السنة السابق. (¬7) الدارقطني من طريق عمرو بن خالد عن حبيب بن أبي ثابت عن عاصم ابن ضمرة عن علي أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: (مَن سألَ مَسْألَة عَنْ ظَهْرِ غِنى اسْتَكْثَرَ بِهَا رَضَفَ جَهَنم ..) وقال عمرو بن خالد: متروك، ورواه عبد الله في المسند في زوائده على أبيه من طريق حسن بن ذكوان عن حبيب ابن أبي ثابت عن عاصم بن ضمرة عن علي .. انظر الفتح الرباني 9/ 93، 94. أقول: الحديث فيه عمرو بن خالد القرشي، مولاهم، أبو خالد، كوفي نزل واسط، متروك، رماه وكيع بالكذب من الثامنة. مات بعد سنة 120/ ق ت 2/ 69، وقال الذهبي كذبوه، الكاشف 2/ 328، وقال أحمد وأبو حاتم والنسائي والدارقطني متروك الحديث ت ت 8/ 26. درجة الحديث: جوَّد إسناده المنذري في الترغيب والترهيب 1/ 575 والراجح عندي ضعفه لضعف خالد ولضعف الحسن بن ذكوان في رواية عبد الله. قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده ضعيف جداً لانقطاعه =

زكاة الزيتون ونحوها

عنده أوقية (¬1) وهو الصحيح، فأما العامل فيأخذ منها نصيبه أجرة له على تكفل ذلك، وأما الغارم وهو أحد رجلين: إما رجل مثلًا له مائة دينار وعليه مائة دينار فهو فقير غارم يحل له أخذ الصدقة ولا تؤخذ منه عندنا. وقال (ش) تؤخذ منه ويُعطى (¬2)، وقد بينَّاها في مسائل الخلاف. وأما الرجل الذي اشتراها بماله، أو الذي أهدى له المتصدق عليه، فذلك مجاز لأنها ليست بصدقة بعد الشراء والهدية وإنما هي في خالص ملك، وقد بيَّن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، ذلك بقوله (قَدْ بَلَغَتْ مَحَلِّهَا) (¬3). وأما المغازي في سبيل الله فإنهم أهل الديوان يفرض لهم العطاء وتصرف إليهم الصدقة. زكاة الزيتون ونحوها: قال الله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} (¬4) الآية. واختلف الناس في وجوب الزكاة في جميع ما تضمنت أو بعضَه، وقد بيَّنا ذلك في الأحكام (¬5)، لبابه أن الزكاة إنما تتعلق بالمنبتات، كما قدمنا، دون ¬

_ = فإن الحسن بن ذكوان لم يسمع من حبيب بن أبي ثابت. قال ابن أبي حاتم في المراسيل ص 17 عن ابن معين الحسن بن ذكوان لم يسمع من حبيب بن أبي ثابت شيئاً إنما سمع من عمرو بن خالد عنه وعمرو بن خالد لا يساوي حديثه شيئاً إنما هو كذاب. المسند بتحقيق أحمد شاكر 2/ 1251 والميزان 1/ 227 - 228. (¬1) رواه أبو داود 2/ 279 وقال زاد هشام في حديثه وكانت الأوقية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أربعين درهماً، والنسائي 5/ 98، وأحمد. انظر الفتح الرباني 9/ 92، والدارقطني في السنن 2/ 118 كلهم من طريق عبد الرحمن بن أبي الرجال عن عمارة بن غزية عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَألَ وَلَهُ قِيمَةُ أوقِيةٍ فَقَدْ ألْحَفَ". رواه البغوي في شرح السنة 6/ 85، والحديث فيه عبد الرحمن بن أبي الرجال، قال فيه الحافظ: صدوق ربما أخطأ من الثامنة/ ع ت 1/ 479، وقال في ت ت وثقه أحمد وابن معين والمفضل الغلابي والدارقطني، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ. ت ت 6/ 169. درجة الحديث: سكت عنه أبو داود والمنذري وصححه شعيب الأرناؤوطي في تعليقه على شرح السنة 6/ 85. وعندي أنه حسن من أجل ابن أبي الرجال. (¬2) انظر الروضة للنووي 2/ 317 - 319، والمجموع 6/ 206 - 210. (¬3) متفق عليه. البخاري في الزكاة باب قدركم يعطى في الزكاة والصدقة 2/ 99 ومسلم في الزكاة باب إباحة الهدية للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، ولبني هاشم وبني المطلب 2/ 756، كلاهما عن أم عطية، رضي الله عنها، قالت: بُعِثَ إلَى نَسيبَةِ الأنْصَارِيَةِ بِشَاةٍ فَأرْسَلَتْ إلَى عَائِشَةَ، رَضِيَ الله عَنْهَا، مِنْهَا فَقَالَ النبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -: (عِنْدُكُمْ شَيْء فَقلْتُ: لاَ إلَّا مَا أرْسَلَتْ بِهِ نَسِيبَةُ مِنْ تِلْكَ الشَّاةِ، فَقَالَ: هَاتِ فَقَدْ بَلغَتْ مَحَلَّهَا) لفظ البخاري. (¬4) سورة الأنعام آية 99. (¬5) انظر كتاب الأحكام 1/ 755.

الجزية

الخضروات، وقد كان بالطائف الرمان والفرسك (¬1) والأترج (¬2) فما اعترضه رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ولا ذكره ولا أحد من خلفائه .. الجزية: هي فعلة من جازاه كأنها تجزىء عنهم فيما كان واجباً من القتل (¬3). وقال (ش) (¬4): تجزىء عنهم فيما لزمهم من كراء الدار إذا نزلوا بدار الإِسلام فتعيَّن عليهم الكراء، والصحيح أنها بدل عن القتل قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ} (¬5) الآية. سمعت أبا الوفاء علي (¬6) بن أبي عقيل في مجلس النظر يتلوها ويحتج بها فقال {قَاتِلُوا} وذلك أمر بالعقوبة ثم قال: {الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} وذلك بيان للذنب الذي أوجب العقوبة، وقوله: {وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} تأكيداً للذنب في جانب الاعتقاد، ثم قال: {وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} زيادة للذنب في مخالفة الأعمال، ثم قال: {وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام، ثم قال: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} تأكيداً للحجة لأنهم كانوا يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، ثم قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} فبيَّن الغاية التي تمتد إليها العقوبة وعيَّن البدل الذي ترتفع به، وهذا من الكلام البديع، فقبلها النبي، - صلى الله عليه وسلم -، حتى من المجوس، على ما رواه عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه. لأن قوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} كما بينَّاه لم يكن شرطاً وإنما كان تأكيداً للحجة، وقال - صلى الله عليه وسلم -، في المجوس:"سُنَّوا بِهِم سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ" (¬7)، وهذا عموم اتفق ¬

_ (¬1) الفرسك كزبرج الخوخ أو ضرب منه أجرد أحمر أو ما ينفلق عن نولت. ترتيب القاموس 3/ 469. (¬2) الأترج والأترنج: واحدته أنرجة وأترجة. شجر من جنس الليمون. المنجد. في مادة اترج. (¬3) الجزية: أورد الحافظ في تفسيرها عدة أقوال، فقال: الجزية من جزأت الشيء إذا قسمته ثم سهلت الهمزة. وقيل من الجزاء أي لأنها جزاء تركهم ببلاد الإِسلام أومن الإجزاء لأنها تكفي من توضع عليه في عصمة دمه. فتح الباري 6/ 259. (¬4) انظر الروضة للنووي 10/ 307 وفح الباري 6/ 259. (¬5) التوبة آية 29. (¬6) تقدمت ترجمته. (¬7) البخاري في كتاب الجزية باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب 4/ 117 من حديث بجالة قال: أتانَا كِتَابُ عُمَرَ ابْنِ الخَطَابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ وَفِيهِ (وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنَ الْمَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عبد الرَّحْمنِ بْنُ عَوْفٍ أَن رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، أَخَذَهَا مِنْ مَجوسِ هَجَر)، وأبو عبيد في الأموال ص 40. ورواه مالك في الموطأ 1/ 278 عَنْ جَعْفَرِ بْنِ محمَّدٍ عَنْ أبيهِ أن عُمَرَ بْنَ الْخَطابِ ذكَرَ الْمَجُوسَ فَقَالَ: =

العلماء على تخصيصه في الجزية خاصة دون سائر أحكام التحريم، وههنا نكتة وهي أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فرض الجزية على الكفار جملة بالبحرين (¬1)، بدومة الجندل (¬2)، وتولى ¬

_ = مَا أدرِي كَيْفَ أصْنَع في أمْرِهِمْ؟ فَقَالَ عَبد الرحْمنِ ابن عوْفٍ: أشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يَقُول: (سنُّوا بِهِمْ سُنةَ أهْلِ الْكِتَابِ). قال الحافظ هذا منقطع مع ثقة رجاله، وقال رواه ابن المنذر والدارقطني في الغرائب من طريق أبي علي الحنفي عن مالك فزاد فيه عن جده وهو منقطع أيضاً لأن جده علي بن الحسين لم يلقَ عبد الرحمن بن عوف ولا عمر، فإن كان الضمير في قوله عن جده يعود على محمَّد بن علي فيكون متصلاً لأن جده الحسين بن علي سمع من عمر ابن الخطاب ومن عبد الرحمن بن عوف. فتح الباري 6/ 261 ورواه البغوي في شرح السنة 11/ 169 من طريق مالك وقال ابن عبد البر هذا منقطع إلا أن معناه متصل من وجهه حسان. الزرقاني 2/ 139، وله شاهد عند الطبراني من حديث مسلم بن العلاء ابن الحضرمي قال (سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سَنَّةَ أهْلِ الْكِتَابِ في أخْذِ الْجِزْيَةِ فَقَطْ)، أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 13 وقال وفيه من لم أعرفهم. وروى أبو عبيد في الأموال ص 44 عن أبي موسى الأشعري قال: لولا أني رأيت أصحابي يأخذون منهم الجزية ما أخذتها -يعني من المجوس- وسنده صحيح، ورواه الشافعي في مسنده 2/ 126، والبيهقي في السنن 9/ 189، وأبو عبيد في الأموال ص 40، كلهم من طريق مالك. وقال الزيلعي رواه البزار في مسنده، والدارقطني في غرائب حديث مالك من حديث أبي علي الحنفي ثنا مالك عن جعفر بن محمَّد عن أبيه أن عمر .. قال البزار رواه جماعة عن جعفر عن أبيه لم يقولوا عن جده، وجده هو علي بن الحسين، وهو مرسل، ولا نعلم أحداً قال فيه عن جده إلا أبا علي الحنفي عن مالك. وقال الدارقطني لم يقل فيه عن جده ممن رواه عن مالك غير أبي علي الحنفي وكان ثقة. نصب الراية 3/ 448 - 449. درجة الحديث: رجَّح ابن عبد البر انقطاعه، كما تقدم، ورجاله ثقات إلا جعفر بن محمَّد بن الحسين ابن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو عبد الله، المعروف بالصادق، صدوق إمام كما قال الحافظ في ت 1/ 132، وعلى هذا يكون حديثه حسناً، والله أعلم .. (¬1) ورد ذلك في الموطأ 1/ 278 وابن أبي شيبة من طريق مالك 12/ 242، وعزاه الزيلعي في نصب الراية إلى الدارقطني في غرائب حديث مالك، والطبراني في معجمه عن الحسين بن أبي كبشة قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن الزهري عن السائب بن يزيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، (أخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجوسِ الْبَحْرَيْنِ). قال الدارقطني لم يصل إسناده غير الحسين بن أبي كبشة البصري عن عبد الرحمن ابن مهدي عن مالك، ورواه الناس عن مالك عن الزهري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مرسلاً ليس فيه السايب وهو المحفوظ. نصب الراية 3/ 448، ورواه الترمذي من طريق السائب بن يزيد وقال: سألت محمداً عن هذا فقال: هو مالك عن الزهري عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -. سنن الترمذي 4/ 147 والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 190. درجة الحديث: مرسل صحيح. (¬2) أبو داود من حديث أنس بن مالك وعثمان بن أبي سليمان أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - (بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أوكَيْدَرِ دومة الجندل فَأخِذَ فَأتوهُ بِهِ فَحَقَنَ لَه دمَهُ وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ) أبو داود في السنن 3/ 427، وسكت عنه، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 9/ 186، والحديث فيه ابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه وسكت عنه المنذري ووثَّق رجال إسناده. الشوكاني في النيل 7/ 268.

زكاة الفطر

الكفار أداءها عن أنفسهم بما يصلح لهم، فلما استوثق الأمر لعمر، رضي الله عنه، ووقع بين الكفار التظالم فيها وخيف من بعضهم التحامل على بعض، ولم يكن من النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فيها تقدير على الأعيان مفصلاً ولا على الكل مجملاً، تولَّى عُمر، رضي الله عنه، فرضها مع الصحابة على الاجتهاد: على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، وجعل أعلاها أربعة دنانير، ولو كان معه بيت مال. وفرض عليهم مع ذلك ضيافة المسلمين ومؤنة لمن يحرس أهل الذمة ويمنع من يطرق إليهم الأداية (¬1) على ما تقرر في عهد عمر، رضي الله عنه، على ما أوردناه في الكتاب الكبير، والذي يدل على أن الجزية بدل عن القتل لا عن الدار أخذ عمر، رضي الله عنه، العشور من أهل الذمة إذا تصرفوا بالتجارة عوضاً عن تصرفهم بيننا وانتفاعهم بأموالنا، وإنما قصد عمر، رضي الله عنه، إلى العشر لأنه رأى الله تعالى قد جعله غاية الزكاة فقال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "فِيمَا سَقَتِ السمَاءُ الْعُشْرُ" (¬2) فجعله غاية الكراء في الاقتداء. زكاة الفطر: اختلف العلماء، إسلاماً ومذهباً، هل هي واجبة أم لا؟ وهل يُعتبر في أدائها النصاب أم لا؟ وفي قدرها ووقت وجوبها؟. فأما فرضها فلا إِشكال فيه لتوارد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بها وحضّه على أدائها (¬3)؛ وذلك يبين أن معنى قوله في هذا الحديث (فَرَضَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -) (¬4) أوجبَ ................................ ¬

_ = درجة الحديث: سكت عنه أبو داود والمنذري وقال الدهلوي في حاشيته على بلوغ المرام 2/ 294 فيه: عنعنه ابن إسحاق إلا أن رجاله ثقات. وعندي أنه ضعيف من أجل ابن إسحاق. (¬1) الموطّأ 1/ 279 عن نافع عن أسلم مولى عمر .. والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 195 من طريق عبيد الله عن نافع عن أسلم مولى عمر. والبغوي في شرح السنة 11/ 174 وأبو عبيد في الأموال ص 49 من حديث أبي بن بكير عن مالك. درجة الحديث: صحح إسناده شعيب الأرناؤوطي في تعليقه على شرح السنة 11/ 174. (¬2) حديث تقدم. (¬3) قال البغوي صدقة الفطر فريضة، وهو قول عطاء وابن سيرين وعامة أهل العلم. وذهب أصحاب الرأي إلى أنها واجبة ليست بفريضة، والواجب عندهم أحط رتبة من الفريضة. شرح السنة 6/ 71، وقال ابن رشد الجمهور على أنها فرض، وذهب بعض المتأخرين من أصحاب مالك إلى أنها سنّة، وبه قال أهل العراق وقال قوم هي منسوخة بالزكاة. بداية المجتهد 1/ 203 وانظر شرح فتح القدير لابن الهمام 2/ 281. (¬4) ورد ذلك من حديث ابن عمر عند الشيخين ومالك وغيرهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعاً مِنْ تَمْر أوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كل حُرٍّ أوْ عَبْدٍ ذكَرٍ أوْ أنثَى مِنَ الْمسْلِمِينَ". الموطّأ 1/ 284، والبخاري في كتاب الزكاة باب صدقة الفطر صاع من طعام 2/ 161، ومسلم في الزكاة باب=

......................... لا قدَّرَ (¬1)، كما تأوَّله من نفى وجوبها. وأما أنا فأقول: معناه أوجَبَ وقدَّرَ وإن كانا مختلفين، وقد بيَّنَّا في أصول الفقه صحة تأول اللفظ الواحد للمعنيين المختلفين (وأما أنا فأقول معناه) (¬2). وأما وقت وجوبها فالأظهر فيه من إضافتها. فإذا قيل لك ما هي؟ قلت: زكاة الفطر، فهذا اسمها الذي تُعرف فيه وسببها الذي تجب به (¬3). وأما وقت أدائها فقيل الصلاة، وفي الحديث (هِيَ طُهْرَةٌ لِصِيَامِكُمْ مِنَ اللَّغْوِ وَالرفَثِ تُؤَدَّى قَبْلَ الصلاةِ فَمَنَ أداهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا هِيَ صَدَقَةٌ) (¬4). وأما اعتبار النصاب فيها فهو مذهب (ح) (¬5)، وذلك ساقط لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذكر فرضها مطلقاً وأخذها من كل أحد، ولو اعتبر فيها النصاب لوجبت فيه كسائر الصدقات. فإن قيل فما تجدون فيها؟ قلنا: هي مسألة اجتهادية ليس فيها نصٌّ ولا لها نظير فمن بقى عنده، بعد أدائها، قوت يومه فليخرجها إن قدر من قِبَلِهِ، وإن لم يقدر فليس وراء ذلك أصل يرجع إليه، ولا دليل يعول عليه، بيد أني تعلقتُ بذلك بنكتة وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (مَن سَألَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ مَسْألَتهُ خدُوشاً في وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قِيلَ: وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: اوقِيَّةٌ) (¬6)، فيُشبه أن يقال: كل من تحل له المسألة فلا يخرجها، ومن حرمت عليه يخرجها، والله أعلم. ¬

_ = زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير 2/ 677، والبغوي في شرح السنة 6/ 70. ووردت في هذا الحديث زيادة لفظة (مِنَ الْمسْلِمِينَ) من رواية مالك. قال ابن دقيق العيد: حتى قيل إن مالكاً تفرد بها، وليس بصحيح، فقد تابع مالكاً على هذه اللفظة من الثقات سبعة إلا أن فيهم من مس وهم: عمر ابن نافع، والضحاك بن عثمان، والمعلي بن إسماعيل، وعبد الله بن عمر، وكثير بن فرقد، وعبد الله بن عمر العمري، ويونس بن يزيد. نصب الراية 2/ 415، وقال الحافظ بعد سرد من روى هذه الزيادة غير مالك وفي الجملة ليس فيمن روى هذه الزيادة أحد مثل مالك. فتح الباري 3/ 370. (¬1) قال بهذا القول بعض المتأخرين من أصحاب مالك ورأوا أنها سنَّة، وبه قال أهل العراق، بداية المجتهد 1/ 203، وقال الزرقاني قال شهب وابن اللبان من الشافعية وبعض أهل الظاهر أنها سنة مؤكدة وأولوا فرض بمعنى قدر. شرح الزرقاني 2/ 147. (¬2) هذه الجملة ليست في بقية النسخ ولا معنى لها. (¬3) قال الحافظ: أضيفت الصدقة للفطر لكونها تجب بالفطر من رمضان، وقال ابن قتيبة: المراد بصدقة الفطر صدقة النفوس مأخوذة من الفطرة التي هي أصل الخلقة والأول أظهر ويؤيده قوله في بعض طرق الحديث (زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ)، فتح الباري 3/ 367. (¬4) تقدم. (¬5) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 2/ 283 وشرح السنة 6/ 72. (¬6) أبو داود 2/ 277 والترمذي وقال حسن، وقد تكلم شعبة في حكيم بن جبير من أجل هذا الحديث.=

كتاب الصيام

كتاب الصيام وهو في اللغة عبارة عن الترك والإمساك، وكذلك هو في الشريعة. لكن الشريعة سلكت سبيل اللغة في تخصيص المسمى ببعض متناولاته التي يعطيها اشتقاقه كالقارورة والدابة وأمثالها. وهو الإمساك عن الطعام والجماع ولم تختلف في ذلك شريعة، قال الله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬1). قيل: يعني شهراً بشهر، وقيل: يعني صفة بصفة، ولعله أراد الوجهين، وقد بيَّنا ذلك في الأحكام (¬2). ثم رفق الله تعالى بهذه الأمة فأباح لها الطعام والجماع الليل كله لأجل رجل من الأنصار (¬3) لم ¬

_ = الترمذي 3/ 40 - 41، والنسائي 5/ 97، وابن ماجه 1/ 589، والبغوي في شرح السنة 6/ 83، وأحمد انظر الفتح الرباني 9/ 90، كلهم من طريق حكيم بن جبير عن محمَّد بن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله ابن مسعود، والحاكم 1/ 407 من نفس الطريق. وحكيم ابن جبير قال فيه الحافظ: حكيم بن جبير الأسدي، وقيل مولى ثقيف، الكوفي، ضعيف رمي بالتشيع من الخامسة/ ع. ت 1/ 193. وقال في ت ت: تركه شعبة من أجل حديث الصدقة، يعني (مَنْ سَألَ وَلَة مَا يُغْنِيهِ) وقال أبو حاتم منكر الحديث، وقال الدارقطني متروك. ت ت 2/ 446. درجة الحديث: حسنه الترمذي، كما تقدم، وأغرب الشيخ ناصر فصحَّحه في تعليقه على المشكاة 1/ 578 رغم أن حكيم بن جبير ضعيف وضعَّفه أحمد شاكر في تعليقه على المسند رقم 3675 وهو الحق. (¬1) سورة البقرة آية 183. (¬2) أحكام القرآن 1/ 74. (¬3) هذا الرجل مختلف في اسمه فقيل قيس بن صرمة، وقيل صرمة بن قيس، وقيل قيس ابن مالك بن أوس بن صرمة المازني. أسد الغابة 4/ 217، وذكره ابن عبد البر باسم قيس بن مالك. الاستيعاب 3/ 1298، وذكر الحافظ الاختلاف في اسمه فقال: والجمع بين الروايات أنه أبو قيس صرمة بن أبي أنس قيس ابن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي ابن النجار .. فمن قال قيس ابن صرمة قَلَبَهُ، كما جزم الداودي والسهيلي وغيرهما بأنه وقع مقلوباً في حديث الباب، أي في صحيح البخاري، ومن قال صرمة بن مالك نسبه إلى جدّه، ومن قال صرمة بن أنس حذف أداة الكنية من أبيه، ومن قال أبو قيس ابن عمرو أصاب كنيته وأخطأ في اسم أبيه، وكذا من قال أبو قيس بن صرمة وكأنه أراد أن يقول أبو قيس صرمة فزاد فيه ابن. فتح الباري 4/ 130. الإصابة 5/ 478، وحديثه في البخاري في الصيام باب قول الله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} 2/ 36 من رواية البراء بن عازب، ورواه أبو داود 2/ 737، والترمذي 5/ 410 والنسائي 4/ 147 - 148.

يتفق له أن يصيب طعاماً حتى نام (¬1)، وروي أن عمر، رضي الله عنه، وطئ بعد النومِ فأنزل الله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (¬2) وهذا يبعد عليه ارتكابه، فإن صح فههنا تظهر المنازل وذلك لأن معصية عمر، رضي الله عنه، أوجبت شريعة وأباحت الفعل له ولجميع الأمة بما أتاهم الله تعالى من شرف المنازل .. (وَنَهَى النبي - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْوِصَال. رِفْقاً بِهمْ، فَقَالُوا: إنَّكَ تُوَاصِلُ، فَقَالَ: لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أبِيتُ يُطْعِمُني ربِّي وَيَسْقِيني فَوَاصلُوا فَوَاصَلَ بِهِمْ حَتَّى آخِرِ الشَّهْرِ ثُمَّ قَالَ: لَوْ زَادَ لَزِدتُكُمْ، كَالْمُنْكِلِ لَهُمْ) (¬3). وإنما نهى عن الوصال لأنه يشبه فعال أهل الكتاب ويضعف الأبدان، والمقصود العبادة مع بقاء القوة، وإنما واصلوا بعد نهيه عن الوصال لأنهم فهموا منه أنه كان نهي رِفْق لا نهي عزم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "فَصْلٌ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أهْلِ الْكِتَابِ أكْلَةُ السُّحُورِ" (¬4) (¬5)، ولذلك استحب مالك الفطر لمخالفة أهل (¬6) الكتاب وروى الترمذي (أحَبُّ عِبَادِ الله إلَى الله أعْجَلُهُمْ (¬7) فِطْراً)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، (لَا يَزَالُ ¬

_ (¬1) روى الإِمام أحمد بإسناد فيه ابن لهيعة عن كعب بن مالك قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذات ليلة وقد سمر عنده فوجد امرأته قد نامت فارادها فقالت: إني نمت، فقال: ما نمت، ثم وقع بها وصنع كعب ابن مالك مثل ذلك، فغدا عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} انظر الفتح الرباني 18/ 83، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه لأحمد وقال: وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وقد ضعف جممع الزوائد 6/ 217، وهذا إشارة منه أنه مدلّس وإذا عنعن يكون ضعيفاً، وقد صرح هنا بالتحديث، والحديث له شاهد من حديث البراء بن عازب عند البخاري، كما تقدم، ورواه ابن جرير من نفس الطريق، وقال محققه أحمد شاكر: وعندي أن سنده صحيح، وذلك أنه يصحح حديث ابن لهيعة. تفسير الطبري 3/ 497، وذكره ابن كثير في تفسيره 1/ 420 عن الطبري فقط. درجة الحديث: حسَّنه الهيثمي والسيوطي في الدر المنثور 1/ 197. (¬2) سورة البقرة آية 187. (¬3) متفق عليه. البخاري في الصوم باب التنكيل لمن أكثر الوصال 3/ 34، ومسلم في الصيام باب النهي عن الوصال في الصوم 2/ 774، وشرح السنة 6/ 262، والموطأ 1/ 301، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 267 كلهم عن أبي هرَيْرَة. (¬4) في (م) السحر وكذا رواية الحديث. (¬5) مسلم في الصيام باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر 2/ 770 - 771 وأبو داود 2/ 757، والترمذي 3/ 88 - 89، والنسائي 4/ 146، والبغوي في شرح السنة 6/ 352من حديث عمرو بن العاص. (¬6) انظر المنتقى للباجي 2/ 42. (¬7) الترمذي 3/ 83 وقال حسن غريب، وابن خزيمة في صحيحه 3/ 276، والبغوي في شرح السنة 6/ 256 =

الدِّينُ ظَاهِراً مَا عَجَّلَ النَاسُ الْفِطْرَ) (¬1) أخرجه النسائي، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، لرجل: (إنْزَلْ فَأجْدِحْ لَنَا، فَقَالَ الرجُلُ لَهُ: إِنَّ عَلَيْكَ نَهَاراً، فَقَالَ لَهُ: إنْزلْ فَأجْدِحْ لَنَا، قَالَ لَهُ: إنَّ عَلَيْكَ نَهَاراً، قَالَ: إنْزَلْ فَأَجْدِحْ (¬2) لَنَا) ثم قال (إِما أقْبَلَ الليلُ مِنْ ههُنَا وَأدبَرَ النَّهَارُ مِنْ ههُنَا وَغَرُبَتِ الشَّمسُ فَقَدْ أفْطَرَ الصَّائِمُ) (¬3)، فأنكر الرجل سرعة الفطر فأعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن ذلك هو الحق، ووقعت ببغداد نازلة تتعلق بهذا الحديث؛ وذلك أن رجلاً قال، وهو صائم، إمرأته طالق إن أفطرت على حار وعلى بارد. فرفعت المسألة إلى أبي نصر بن الصباغ (¬4)، إمام الشافعية بالجانب الغريي، فقال: هو حانث؛ إذ لا بد من الفطر على ¬

_ = وابن حبان. انظر موارد الظمآن ص 223 وأحمد انظر الفتح الرباني 7/ 10، كلهم عن أبي هُرَيْرَة، وفي طريق الإسناد إليه قرة بن عبد الرحمن المعافري البصري قيل اسمه يحيى، صدوق له مناكير من السابعة، مات سنة 147. / م ع، ت 2/ 125 وقال أحمد منكر الحديث. وقال النسائي ليس بقوي، وقال ابن معين ضعيف، وقال أبو داود في حديثه نكارة، وذكره ابن حبان في الثقات. ت ت 8/ 373. درجة الحديث حسّنه الترمذي والبغوي. ولعله حسن لغيره. (¬1) لم أجده في سنن النسائي الصغرى، وعزاه المنذري للنسائي أيضاً من حديث أبي هُرَيْرَة تهذيب السنن 3/ 235، وأبو داود 2/ 763، وابن ماجه 1/ 542 وقال محققه قال في الزوائد إسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه ابن خزيمة 1/ 431، وابن حبان انظر موارد الظمآن ص 223، والحاكم في المستدرك 1/ 431 وقال: صحيح على شرط مسلم، وكذا قال الذهبي. درجة الحديث: حسَّن إسناده مصطفى الأعظمي في تعليقه على ابن خزيمة، والشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة 1/ 622 وكذلك عبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول 6/ 375 والراجح أنه صحيح. (¬2) الجدح أن يخاض السويق بالماء ويحرّك حتى يستوي، والمجدح العود الذي تخاض به الأشربة لترق وتستوي .. شرح السنة 6/ 259. (¬3) متفق عليه. البخاري في الصوم جاب الصوم في السفر والإفطار 3/ 43 ومسلم في الصيام باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار 2/ 772 والبغوي شرح السنة 6/ 258 كلهم عن عبد الله بن أبي أوفى. قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، في سَفَر فَقَالَ لِرَجلٍ انْزِلْ فَاجْدَحْ لي .. فَنَزِلَ فَجَدَحَ لَه) .. لفظ البخاري. (¬4) هو عبد السيد بن محمَّد بن عبد الواحد، أبو نصر بن الصباغ، فقيه شافعي من أهل بغداد ولادة ووفاة، كانت الرحلة إليه في عصره وتولّى التدريس بالمدرسة النظامية أول ما فتحت وعمي في آخر عمره. له الشامل في الفقه وتذكرة العالم والعده في أصول الفقه، ولد سنة 400 ومات سنة 477 هـ. الأعلام 4/ 132، ووفيات الأعيان 3/ 301، وطبقات الشافعية 3/ 230.

"تنبيه"

أحد هذين. ورفعت المسألة إلى أبي إسحاق الشيرازي (¬1) بالمدرسة فقال: لا حنث عليه لأنه قد أفطر بدخولها على غير هذين وهو دخول الليل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وساق الحديث إلى قوله (فَقَدْ أفْطَرَ الصَّائِمُ) وفتوى ابن الصباغ أشبه بمذهب مالك، رضي الله عنه، في تعليق الإيمان بالمقاصد، وفتوى أبي إسحاق الشيرازي صريح مذهب الشافعي، رضي الله عنه، فإنه يعلّقها بالألفاظ ولا يلتفت إلى المقاصد، وكما حرّم الطعَام والجماع على الصائم لعلّه يتَّقي بصيامه فمَه وفرجَه عن الشهوات فكذلك يلزمه أن يصون جوارحه عن السيئات. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ يَدَع قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" (¬2). وكما يقول الفقيه للصائم، إذا أكل أو جامع: افسدتَ صومَك ولن يجزئك في الامتثال في الأمر ولا الاجتناب في النهي، فكذلك يقول له الزاهد: إذا كذبت أو اغتبتَ أو فعلتَ معصية لم يتقبل منك صيامك. فأحد (الحكمين) (¬3) تأثيره في الدنيا والحكم الآخر لا يظهر إلا في الآخرة .. " تنبيه" قوله: فليس لله حاجة إذا عصى في ترك الطعام والجماع، وليس لله حاجة في شيء فإنه يتقدس عن الحاجات (¬4)، وإنما ضربه مثلًا في أن أحدهما إذا ترك فليترك الآخر، أو فعل فليفعل الآخر، إشعاراً بارتباطهما, لأن قول الزور والعمل به أقوى في التحريم من الطعام والجماع, لأن الطعام والجماع (كانا محلّلين) قبل الصيام، وكان قول الزور وأخواته حراماً ثم تأكَّد تحريم ذلك كله بالصيام فكان بأن تؤثر في الإبطال أولى وأحرى .. تكملة: من تمام الحديث المتقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، (كُل عَمْلِ ابنِ آدم لَهَ إلَّا الصيَامُ فَإنَهُ لي وَأنَا أُجزِي بِهِ، الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلا الصَيامَ فَإنَهُ لِي وَأنَا ¬

_ (¬1) هو إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي الشيرازي، أبو إسحاق، العلامة المناظر .. بني له الوزير نظام الملك المدرسة النظامية على شاطىء دجلة فكان يدرس فيها ويديرها، عاش فقيراً صابراً، وكان حسن المجالسة، طلق الوجه، فصيحاً مناظراً، له تصانيف كثيرة، ولد سنة 393 - 476 هـ الأعلام 1/ 51، طبقات الشافعي 3/ 88، وفيات الأعيان 1/ 4، اللباب 2/ 232. (¬2) حديث متفق عليه، البخاري في الصوم باب فضل الصوم 3/ 22، ومسلم في كتاب الصيام باب فضل الصيام 2/ 807، والموطأ 1/ 310 كلهم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الصيام جُّنة فلا يَرْفثْ وَلَا يَجْهَلْ وَإن امْرؤٌ قاتَلهُ أوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ إنِّي صَائمْ مَرتَيْنِ" لفظ البخاري. (¬3) في (م) القولين. (¬4) في (م) الحادث واما تأويل تلك في أن.

أُجزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ الله مِنْ ريحِ الْمِسْكِ يَذَرُ (¬1) طَعَامَهُ وَشَرَابهُ مِنْ أجْلِي" فَنَبَّه تبارك وتعالى على فضل الصيام بقوله (الصَّوْمُ لي) (¬2)، وقد قال علماؤنا في ذلك سبعة أوجه: الأول: إضافته إليه تشريفا وتخصيصاً كإضافة المساجد والكعبة تنبيهاً على شرف الكل .. الثاني: أنه أراد بقول (الصَّوْمُ لي)، الصوم لا يعلمه غيري لأن كل طاعة لا يقدر المرء أن يخفيها أو إن اخفاها عن الناس لم يخفِها عن الملائكة .. والصوم يمكنه أن ينويه ولا يعلم به ملك ولا بشر .. الثالث: أن المعنى: الصوم صفتي؛ لأن الباري تعالى لا يطعم فمن فضل الصيام على سائر الأعمال أن العبد يكون فيه (¬3) علي صفة من صفات الرب عز وجل، وليس ذلك في أعمال الجوارح إلا في الصوم، فأما في أعمال القلوب فيكون ذلك كثيراً كالعلم والكلام والإرادة .. الرابع: أن المعنى (الصَّوْمُ لي)، أي من صفة ملائكتي؛ فإن العبد في حالة الصوم ملك لأنه يذكر ولا يأكل، ويمتثل العبادة ولا يقضي شهوة .. والخامس: (الصَّوْمُ لي) أن المعنى فيه أن كل عمل أعلمكم مقداره إلا الصوم فإني انفردت بعلمه لا يطلع عليه أحد .. السادس: أن معنى (الصَّوْمُ لي) أي يُقمع عدوي، وهو الشيطان, لأن سبيل الشيطان إلى العبد اقتضاء الشهوات فإذا تركها العبد بقي الشيطان لقاً لا حراك به ولا حيلة له .. السابع: أنه روي في الأثر (أن الْعَبْدَ يَأتي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتِهِ، وَيَأتي قَدْ ضَرَبَ هذَا وَشَتَمَ هذَا وَأخَذَ مَالَ هذَا فَتُدْفَعُ حَسَنَاتُهُ لِغُرَمَائِهِ إلَّا الصِّيَام .. يَقُولُ الله تَعَالَى هُوَ لي لَيْسَ لَكُمْ إلَيْهِ سَبِيلٌ) (¬4). ¬

_ (¬1) في (م) يدع. (¬2) في (م) الصيام. (¬3) في (م) به. (¬4) لم أطلع على هذا الأثر بهذا اللفظ، ووجدت ما يقاربه عن سفيان بن عيينة من قوله (كُل عَمَلِ ابنِ آدم لَه =

وهذا إن صح بديع، وقوله: (لَخُلُوفُ فَمِ الصائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ الله مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) (¬1). مثل وجه التمثيل فيه أن المسك محبوب للنفس والصوم أحب إلى الله تعالى، وأقرب إليه، من حب المسك اليكم وقربه من أنفسكم، إشارة إلى أن المسك أطيب الطيب .. كذلك الصوم أفضل العبادة. فإن قيل فهل يكون أفضل من الصلوات بهذا المعنى؟ قلنا: العبادة على ضربين: متعدية ولازمة، فالصوم أفضل اللازمة لأنه منها، فإن قيل: والصلاة لازمة فهل هو أفضل منها؟ قلنا: لا أفضل من الصلاة، وإنما يكون فضل الصوم بعدها، وقوله: (وَللصائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَة عِنْدَ الْإفْطَارِ) بلذة الطعام، وقال أهل (العبادة) (¬2): فرحته تمام الصيام، وإذا لقي الله تعالى كان أشد فرحاً. حديث: قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -، (وَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلَالَ وَلا تُفْطِرُوا حَتى تَرَوْهُ فَإنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ) (¬3)، الحديث إلى آخره. أمر الله تعالى بصوم رمضان وربطه برؤية الهلال، قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬4) ولوجوبه ثلالة شروط: البلوغ والصحة والإقامة. فإن العبادات عندنا واجبة على الكفار (¬5)، وإنما سقط القضاء بدليل، وكذلك يجب الصيام عندنا على المجنون (¬6)، في تفصيل بيانه في كتب المسائل، وألزم الله تعالى، عند ¬

_ = إلَّا الصَّوْمَ فَإنه لي فَقَالَ إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ يُحَاسِبُ الله عَزَّ وَجلَّ عَبْدَة وَيؤَدي مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ مِنْ سَائِرِ عمَلِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى إلًا الصوْم فَيَتَحَملُ الله مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ وَيُدْخِلُة بِالصوْمِ الْجَنَّةَ) الترغيب والترهيب 2/ 82، وقال الحافظ روى البيهقي من طريق إسحاق بن أيوب ابن إحسان الواسطي عن أبيه عن ابن عيينة قال: إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُحَاسِبُ الله عَبْدهُ وُيؤدِّي مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ مِنْ عَمَلِهِ حَتى لَا يَبْقَى لَهُ إلَّا الصوْم فَيَتَحَمل الله مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَظَالِمِ وَيدْخِلُة بالصوْمِ الْجَنة، فتح الباري 4/ 109. درجة الحديث: قال المنذري هو غريب، الترغيب والترهيب 2/ 82. (¬1) تقدم. (¬2) في (م) الفقه. (¬3) متفق عليه. البخاري في كتاب الصوم باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا رَأيْتم الْهِلاَلَ فَصُومُوا) 3/ 34، ومسلم في كتاب الصيام باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال 2/ 759، ومالك في الموطّأ 1/ 286، والبغوي في شرح السنة 6/ 227 كلهم من حديث ابن عمر. (¬4) سورة البقرة آية 185. (¬5) انظر تفصيل ذلك في شرح التنقيح ص 73. (¬6) أما عند الشافعي فلا يجب عليه. انظر المجموع 6/ 254.

نكتة أصولية

رؤية الهلال، بالصوم وتعليقه به إحصاء هحل شعبان. قال أبو هُريْرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "احْصُوا هلَال شعْبَانَ لِرَمضَانَ" خرّجه الترمذي (¬1). نكتة أصولية: قال بعض التابعين (¬2) إن غم الهلال عمل على تقديره بالحساب، فإذا قال الحاسب: هو الليلة على درجة من الشمس يمكن أن يظهر فيها عادة لو لم يكن غير فإنه يعمل على قوله في الصوم والفطر لقوله: (فَاقْدُرُوا لَهُ) يريد فاحسبوا تقدير منازله التي عبر الله عنها بقوله {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ (¬3) مَنَازِلَ}. وسقط بعض المتأخرين من الرحالين (¬4) ها هنا سقطة كبيرة فنسب هذا القول لبعض الشافعية (¬5)، وما قال هذا القول أحد قبل التابعي، ولا بعده غيره، ونحن لا ننكر أصل الحساب، ولا جري العادة، في تقديم المنازل ولكن لا يجوز أن يكون المراد بتأويل الحديث ما ذكر لوجهين: أحدهما: فما تفطن له مالك وجعله أصلاً في تأويل الحديث لمن بعده، وذلك أنه قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الأول: (فَاَقدُرُوا لهُ) (¬6)؛ فجاء بلفظ محتمل ثم فسَّر الاحتمال في ¬

_ (¬1) الترمذي 3/ 71، والبغوي في شرح السنة 6/ 240 وجوَّد إسناده محقّقه، والحديث فيه محمَّد بن عمر بن علقمة بن وقاص الليثي المدني، صدوق، له أوهام من السادسة، مات سنة 145 على الصحيح/ ع. ت 2/ 196، وفي ت ت روى له البخاري مقروناً بغيره، ومسلم في المتابعات. ت ت 9/ 375. درجة الحديث: حسن لغيره. (¬2) هو مطرف بن عبد الله بن الشِخِّير، بكسر الشين المعجمة وتشديد الخاء المعجمة المكسورة بعدها تحتانية ثم راء، العامري الحرشي، بمهملتين مفتوحتين ثم معجمة، أبو عبد الله البصري، ثقة عابد فاضل من الثانية، مات سنة 95/ ع، ت 2/ 253، وقال في ت ت قال ابن حبان: ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان من عباد أهل البصرة وزهّادهم ت ت 10/ 174. (¬3) سورة يس آية 39. (¬4) لعله يقصد بذلك أحمد بن صباح النهشلي، أبو جعفر بن أبي سريج الرازي المقري، ثقة، حافظ، له غرائب من العاشرة، مات سنة 204/ خ د ب. ت 1/ 17، وانظر ت ت 1/ 44، وتهذيب الكمال 1/ ل 26، ونقل القول عنه البغوي في شرح السنة 6/ 230 وابن رشد في البداية 1/ 207. وقد ناقش الشارح ابن الصباح في العارضة وشنّع عليه كثيراً فقال: وهذه هفوة لا مرد لها، وعثرة لا لعاً منها، وكبوة لا استقبال منها، ونبوة لا قرب معها، وزلة لا استقرار بعدها. أوه يا ابن سريج أين مسألتك السريجية؟ وأين صوارمك السريجية؟. تسلك هذا المضيق في غير الطريق، وتخرج إلى الجهل عن العلم .. فكأن وجوب رمضان جعله مختلف الحال يجب على قوم لحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب الجمل، إن هذا لبعيد عن النبلاء فكيف عن العلماء. العارضة 3/ 208. (¬5) نقل الحافظ عن ابن عبد البر في هذه المسألة قوله المعروف عن الشافعي ما عليه الجمهور. فتح الباري 4/ 122. (¬6) الموطّأ 1/ 286.

فقه

الحديث الثاني فقال: (فَأكْمِلُوا الْعَدَدَ ثَلَاِثينَ) (¬1) فكان هذا تفسير التقدير. وأما الثاني فلا يجوز أن يعوَّل في ذلك على قول الحساب لا لأنه باطل ولكن صيانة لعقائد الناس أن تناط بالعلويات وأن تعلق عباداتها بتداور الأفلاك ومواقعها في الاجتماع والاستقبال، وذلك بحر عجاج إن أدخلوا فيه، وأين هذا لمن عَقِل من التابعين وغيرهم من قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا أُمِّيِّةُ (¬2) لَا نكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ الشهْرَ هكَذَا" (¬3) الحديث. فإذا كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ينفي عن نفسه تعريف الأنامل المعتادة عند أهل الحساب فأولى وأحرى أن ينفي عن نفسه تعريف الكواكب وتعديلها. فقه: وإن كان الحكم منوطاً بالرؤية فليس يتفق لكل أحد أن يراه؛ لأن ظهوره لحظة عن غفلة فإنما يراه بعضٌ دون بعضٍ ويلزم الصوم لمن لم يَرَه بمن رأى. واختلف الناس فيمن يلزم به الصوم، فقيل يلزم باثنين لأنهما (¬4) أصل الحقوق الخفية. وقيل يلزم بواحد، وممن قاله (ش) (¬5)، وقد روى ابن عمر قال: (رَأيتُ الْهِلاَلَ عَلَى عَهْدِ النبِي، - صلى الله عليه وسلم -، فَأعْلَمْتُهُ فَأمَرَ بِالصَّوْمِ) (¬6) أخرجه أبو داود. ¬

_ (¬1) الموطأ 1/ 287. (¬2) قال الخطابي: إنما قيل لمن لا يكتب ولا يقرأ أمي لأنه منسوب إلى أمة العرب، وكانوا لا يكتبون ولا يقرؤون، ويقال إنما قيل له أمي على معنى أنه باق على الحال الذي ولدته أمه لم يتعلم قراءة ولا كتابة. شرح السنة 6/ 229 - 230. (¬3) متفق عليه. البخاري في الصيام باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا نكتب ولا نحسب 3/ 35، ومسلم في الصيام باب وجوب صوم رمضان 2/ 761، والبغوي في شرح السنة 6/ 228 من حديث ابن عمر. (¬4) هذا مذهب مالك. انظر بداية المجتهد 1/ 209، قال البغوي وهو أظهر قولَي الشافعي. شرح السنة 6/ 244. (¬5) انظر المجموع 6/ 275 (¬6) أبو داود 2/ 756، وابن حبان انظر موارد الظمآن ص 221، والحاكم في المستدرك 1/ 423 وقال صحيح على شرط مسلم. والدارقطني في السنن 2/ 156 وقال تفرَّد به مروان ابن محمَّد عن ابن وهب وهو ثقة، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 412 وقال هذا الحديث يعد من إفراد مروان بن محمَّد الدمشقي رواه عنه الربيع بن سليمان، وقال الشيخ ناصر لم ينفرد به مروان بن محمَّد عن ابن وهب، وهو ثقة فقد تابعه هارون بن سعيد الأيلي ثنا عبد الله بن وهب به أخرجه الحاكم وعنه البيهقي إرواء الغليل 4/ 16. درجة الحديث: صحَّحه الحكم ووافقه الذهبي وابن حزم في المحلى 6/ 236 فقال خبر صحيح، وأقره الحافظ في التلخيص 2/ 187، وصححه أيضاً النووي في المجموع 6/ 276.

بديعة

وكثرت في ذلك الآثار (¬1). قال علماؤنا: هذه حكايته حال، وقضية عين، ويحتمل أن يكون رآه قبل ابن عمر غيره فسقط الاحتجاج به، وهذا بيِّن جداً. فأما الفطر فاتفق العلماء على ألا يكون إلا باثنين إلا أبا ثور فإنه قال: يفطر بقول الواحد (¬2)، وجعله من باب الإخبار، وخبر الواحد يلزم العمل به، ولقد تفطَّن لمشكل وتعرض لعظيم قد بيَّنَّاه في مسائل الخلاف، وأقوى ما لكم على هذه الحالة في التمسك به أنه مسبوق بالإجماع إذْ استيفاء البيان معه، ولا يمكن في هذه العجالة. بديعة: قال مالك، رضي الله عنه: ويقال للذي قال يُصام بشهادة واحد: أرأيتَ إن لم يرَ آخر الشهر؛ الكلام إلى آخره، فقال: أيصام أحد وثلاثون يوماً؟ (¬3) معناه لا سبيل إلى ذلك إذ ليس من شهر واحد وثلاثين، ويقال له: أرأيتَ إن جرى هذا في الصوم بشاهدين أليس يصام أحد وثلاثون يوماً؟ فما يلزم في الشاهد الواحد يلزم في الشاهدين لا محالة، ذريعة ربما خطر بالبال الاحتراز عن هذه الحال فيقول المرء أصوم قبل الشهر مخافة أن أواقع للفطر فيه، وهذه معصية عظيمة في الدين، قال عمار: (مَنْ صَامَ يَوْمَ الشك فَقَدْ عَصَى أبا الْقَاسِمِ) (¬4)، وقال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: (لاَ تَقْدُمُوا الشهْرَ بِيَوْمٍ ................ ¬

_ (¬1) وروي نحوه عن علي، رواه الشافعي من طريق فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ أن رَجُلاً شَهِدَ عِنْدَ عَلِيٍّ، رَضِيَ الله عَنْه، عَلَى رُؤيةِ هِلَالِ رَمَضَانَ فَصَامَ وَأحْسُبهُ أمَرَ الناسَ أنْ يَصوموا وَقَالَ: أصومُ يَوْماً مِنْ شَعْبَانَ أحَبُّ إلَيَّ أنْ أفْطِرَ مِنْ رَمَضَانَ. الأم 2/ 80، ورواه البغوي في شرح السنة 244. درجة الأثر: صححه النووي في المجموع 6/ 283. (¬2) انظر المجموع 6/ 281. (¬3) الموطأ 1/ 287. (¬4) رواه أبو داود 2/ 749 - 750، والترمذي 3/ 71، والنسائي 4/ 153، وابن ماجه 1/ 527، وابن خزيمة في صحيحه 3/ 205، وابن حبان ص 222، والحاكم في المستدرك 1/ 424 وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه البغوي في شرح السنة 6/ 241 والدارقطني في سننه 2/ 157 وقال: هذا إسناد حسن صحيح رواته كلهم ثقات، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 208، والطحاوي في معاني الآثار 1/ 356 كلهم من طريق عمرو بن قيس الملائي عند أبي إسحاق عن صلة عن عمار، وقال ابن عبد البر: هذا حديث مسند عندهم لا يختلفون في ذلك. نصب الراية 2/ 442، وعلقه البخاري بصيغة الجزم عن صلة عن عمار في الصوم باب قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا رَأيتُم الْهِلاَلَ فَصومُوا وَإذا رَأيْتُموة فَأفْطِروا" 4/ 34.

..................................... وَلَا يَوْمَيْنِ) (¬1) بل روى أبو داود (وإذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ حَتَّى يَأتيَ رَمَضَانُ) (¬2)، وهذا إنما فعله النبي، - صلى الله عليه وسلم -، احترازاً مما فعل أهل الكتاب لأنهم كانوا يزيدون في صومهم على ما فرض الله عليهم أولاً وآخراً حتى بدَّلوا العبادة، فلهذا لا يجوز استقبال رمضان ولا تشييعه (من أجله) قلنا في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتّاً مِنْ شَوالَ" (¬3) الحديث، لأنه لا يحل ¬

_ = درجة الحديث: قال الترمذي حسن صحيح، وكذا قال الدارقطني وصححه ابن حزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي. (¬1) متفق عليه. البخاري في الصيام باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين 3/ 35، 36، ومسلم في الصيام باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين 2/ 762 كلاهما من رواية أبي هُرَيْرَة. (¬2) أبو داود 2/ 751، وقال: كان عبد الرحمن لا يحدِّث به، قلت لأحمد: لم؟ قال: لأنه كان عنده أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كان يصل شعبان برمضان، وقال عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، خلافه ورواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 161، والترمذي 3/ 115، وابن ماجه 1/ 528، والبغوي في شرح السنة 6/ 238، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 209، وقال: قال أحمد ابن حنبل: هذا حديث منكر، وكان عبد الرحمن لا لحدث به، وقال النسائي: لا نعلم أحداً روى هذا الحديث غير العلاء، وروي عن الإِمام أحمد أنه قال: هَذا الحديث ليس بمحفوظ، قال: سألت عنه ابن مهدي فلم يصححه ولم يحدِّثني به وكان يتوقاه. قال أحمد: والعلاء ثقة لا ينكر من حدثه إلا هذا. نصب الراية 2/ 441، أقول: العلاء هو بن عبد الرحمن ابن يعقوب الحُرَقي، بضم المهملة وفتح الراء بعدها قاف، أبو شِبْل، بكسر المعجمة وسكون الموحدة، المدني صدوق، ربما وهم، من الخامسة. مات سنة بضع وثلاثين ز م ع 2/ 93، وقال في ت ت قال أبو داود: انكروا على العلا .. حديث إذا انتصف شعبان فلا تصوموا. ت ت 8/ 187. درجة الحديث: صحح إسناده شعيب الأرناؤوطي في تعليقه على شرح السنة 6/ 238، والراجح عندي أنه حسن لغيره من أجل العلاء بن عبد الرحمن. (¬3) مسلم في الصيام باب استحباب صيام ستة أيام من شوال تباعاً لرمضان 2/ 822، والترمذي 3/ 132 وقال حسن صحيح، وأبو داود 2/ 324 وفيه (فَكَأنَّمَا صَامَ الدهْرَ)، وابن ماجه 1/ 547، والدارمي 2/ 21، وأحمد. انظر الفتح الرباني 10/ 221، والبغوي في شرح السنة 6/ 331 كلهم من حديث سعد بن سعيد عن عمر بن ثابت الأنصاري عن أبي أيوب الأنصاري، وسعد بن سعيد هو أخو يحيى بن سعيد، ضعيف؛ فقد قال فيه الحافظ: سعد بن سعيد بن قيس عمرو الأنصاري، أخو يحيى، صدوق سيء الحفظ من الرابعة، مات سنة إحدى وأربعين ومائة، روى له البخاري تعليقاً ومسلم والأربعة ت 1/ 287، وانظر ت ت 3/ 470، والحديث رواه الحميدي في مسنده 1/ 188، وتناوله العلماء بالدراسة قديماً؛ فقد تكلم على طرقه العلائي في رسالته رفع الإشكال عن حديث صيام ستة أيام من شوال فقال: حديث أبي أيوب، رضي الله عنه، أصح ما في الباب، أخرجه مسلم في صحيحه من حديث إسماعيل بن جعفر وعبد الله بن المبارك الإِمام وابن نمير ثلاثتهم عن سعد بن سعيد به، وأخرجه الأئمة أصحاب السنن من حديث عبد العزيز بن محمَّد الدراوردي وأبي معاوية الضرير وودق بن عمرو الكندي ومحمد ابن عمر ابن علقمة =

تتميم

صلتها بيوم الفطر ولكن يصومها متى كان, لأن المقصود بالحديث: من صام رمضان فقد حصلت له مثوبة عشرة أشهر، ومن صام ستة أيام فقد حصلت له مثوبة ستين يوماً وذلك الدهر؛ فأفضلها أن يكون في عشر ذي الحجة؛ إذ الصوم فيه أفضل منه في شوال، فإن قال: لعلّي أموت؟ قيل له: فصمها في شعبان. تتميم: ولأجل هذا قال العلماء: إنه إذا ثبت أصل الصوم بالشهادة مشي بالخبر فكل من سمعه لزمه، إلا أن في ذلك تفاصيل كثيرة للعلماء، فليس هذا موضعها، من أهمها ما روى مسلم وغيره عن كريب (قَالَ: أرْسَلتْني أمُّ الْفَضْلِ إلَى الشامِ فَأهْلَلْنَا هلَالَ رَمَضَانَ عِنْد مُعَاوَية ليْلةَ الْجُمُعة وقدمْنا المْدينة فَسَألني ابنُ عَباس فَأخْبرْتهُ، فَقَالَ: لكنا أهْلَلْناهُ لَيْلة السبْتِ فَلَا نزَال نَصُومُهُ حَتى تُكْمِلهُ. فقُلْتُ: أولا نكْتَفِي برُؤْيةِ مُعَاوِيَة وأصْحَابه؟ فَقالَ: لَا، هكَذَا أمرَنَا رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - (¬1). واختلف الناس في تأويل هذا الحديث؛ فمنهم من قال: إنما فعل ذلك ابن عباس لأجل اختلاف الآثار في ارتفاع الهلال وانخفاضه وعلوه في الأفق وسفله، وإليه أشار البخاري بقوله: (باب لأهل كل بلد رؤيتهم) (¬2)، وهذا لا يستنكر ¬

_ = كلهم عن سعد بن سعيد به، ورواه عبد الملك بن جريح وسفيان الثوري وروح بن القاسم وقرة بن عبد الرحمن وعمر بن علي المقدمي، كلهم عن سعد بن سعيد، فهؤلاء خمسة عشر نفساً من الثقات رووه عن سعد بن سعيد، وسعد بن سعيد روى عنه شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعبد الملك ابن جريج وسليمان بن بلال، وهؤلاء أئمة كبار. قال أحمد بن حنبل: كان شعبة آية وحده في هذا الشأن، وقال محمَّد ابن سعد: شعبة أول من فتش عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين وصار علماً يُقتدى به وتبعه عليه بعده أهل العراق وسعد بن سعيد الأنصاري، ذكره ابن حبان في الثقات من طبقة التابعين. رفع الإشكال ل 21. ونقل السبكي والبنا عن الجزري قوله: حديث أبي أيوب لا شك في صحته، وتابع سعداً على روايته أخواه عبد ربه ويحيى وصفوان بن سليم وغيرهم، المنهل العذب المورود 10/ 192، والفتح الرباني 10/ 221. قلت: متابعة صفوان ابن سليم تقدمت عند أبي داود والحميدي في مسنده والدارمي، وأما متابعة يحيى ابن سعيد فهي عند النسائي في الكبرى, كما ذكر المزي في تحفة الأشراف 3/ 100. درجة الحديث: صحَّحه البغوي والعلائي والجزري .. (¬1) مسلم في الصيام باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم وإنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت 2/ 765، وأبو داود 2/ 299، والترمذي 3/ 76 - 77، والنسائي 4/ 131، والدارقطني في السنن 2/ 171. (¬2) أقول: هذه الترجمة في مسلم، كما تقدم.

في مطالع النيّرات؛ فإن سهيلًا يظهر في بعض الأوقات دون بعض، وينات نعش نيِّر شمالي تراه في آخر الصيف حيث يطلع سهيل، يطلع من كواكبه السبعة اثنان وتبقى خمسة، ونراها كلها في بلادنا هذه مستقلة عن الأفق، بعيدة عن الغروب، ومنهم من قال في تأويل الحديث الصحيح: أن السماء كانت مصحية فلم يره أحد من أهل المدينة فكانت رؤيتهم أقوى من خبر كريب إذ لم يكونوا يرجعون من المعاينة إلى الخبر فليس الخبر كالمعاينة (¬1). حديث: روى عبد الله بن عمر أنه قال: لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر (¬2)، وأسندته حفصة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (قَالَ لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ الْليْلِ) (¬3) وحمل مالك، رضي الله عنه، هذا الحديث على عمومه في النفل والفرض والحق معه (¬4)؛ لأن القصد بالفعل إنما يكون حالة الفعل، فأما بعده فمحال أن يرجع إليه لأن المستقبل لا يلحق الماضي حساً ولا حكماً، وغلط الشافعي، رضي الله عنه، في النفل فقال: إنه ¬

_ (¬1) رواه الإِمام أحمد من حديث سعيد ابن جبير عن ابن عباس. المسند 1/ 215 و 271. درجة الحديث: صحيح. (¬2) الموطّأ 1/ 288، موقوفاً عليه. (¬3) رواه أبو داود 2/ 833 عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن حفصة، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - .. والترمذي 2/ 108، والنسائي 4/ 196، وابن ماجه 1/ 542، والدارمي 2/ 6، وأحمد في المسند 6/ 287، والدارقطني في السنن 2/ 172، وابن خزيمة 3/ 212، والبيهقي في السنن 4/ 202. وقال هذا حديث قد اختلف على الزهري في إسناده وفي رفعه إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وعبد الله بن أبي بكر أقام إسناده ورفعه، وهو من الثقات الأثبات، ورواه الطحاوي في معاني الآثار 2/ 55، والبغوي في شرح السنة 6/ 268 كلهم مثل رواية أبي داود، وهذا الحديث اختلف في رفعه ووقفه. قال الحافظ: اختلف الأئمة في رفعه ووقفه، فقال ابن أبي حاتم عن أبيه: لا أدري أيهما أصح، لكن الوقف أشبه، وقال أبو داود: لا يصح رفعه، وقال الترمذي: الموقوف أصح، ونقل في العلل عن البخاري أنه قال: هو خطأ وهو حديث فيه اضطراب، والصحيح عن ابن عمر موقوف، وقال النسائي: الصواب عندي موقوف ولم يصح رفعه، وقال أحمد: ما له عندي ذلك الإسناد، وقال البيهقي: رواته ثقات إلا أنه روي موقوفاً، وقال البخاري في تاريخه الصغير ص 68 بعد ذكره اختلاف الناقلين: غير المرفوع أصح، وقال الطحاوي في معاني الآثار 2/ 55: هذا الحديث لا يرفعه الحفّاظ الذين يروونه عن ابن شهاب ويختلفون عنه فيه اختلاف يوجب اضطراب الحديث بما هو دونه. وقال الخطابي: أسنده عبد الله بن أبي بكر وزيادة الثقة مقبولة، وقال ابن حزم: الاختلاف فيه يزيد الخبر قوة، وقال الدارقطني: كلهم ثقات. تلخيص الحبير 2/ 200، وقال النووي إسناده صحيح في كثير من الطرق فيعتمد عليه ولا يضر كون بعض طرقه ضعيفاً، أو موقوفاً، فإن الثقة الواصل له مرفوعاً معه زيادة علم فيجب قبولها .. والحديث حسن. المجموع 6/ 289. درجة الحديث: عندي أن تحسين النووي له أوْلى. (¬4) انظر شرح الزرقاني 2/ 157.

صيام الذي يصبح جنبا

يجزي بنية من النهار (¬1)، وساعده (ح) على هذا اللفظ، وزاد بأن قاس الفرض عليه بأن قال: ويجوز أيضاً رمضان بنية من النهار (¬2). والذي أوقعهم في ذلك الحديث المشهور أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، "دَخَل بَيْتَهُ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ؟ قالوا: لَا. قَالَ: فَإنِّي صَائِم" (¬3)، قالوا: ولم يكن طلبه للطعام عبثاً. وإنما كان ليأكل، فلما لم يجد نوى الصوم. قلنا: وفي أي وقت كان هذا من النهار؟ لعله كان بعد الظهر وأنتم لا تقولون به (¬4)، فليس لكم على هذا الحديث حجّة. ونحن نقول: إنه نوى الصيام ليلاً، وطلب الطعام على أصلكم لا يضر لأن التطوع عندكم لا يلزم التمادي فيه (¬5)، فقد خرج الحديث عن أيديكم من كل وجه، فإن قيل فيلزمكم في قولكم أن صوم التطوع لا يجوز الإفطار فيه (¬6)، قلنا: هذه مسألة أخرى، وإذا بطلت مسألتكم وخرج عن أيديكم دليلكم لا يجوز الانتقال إلى مسألة أخرى، وقد بيَّنا نحن تحقيق الجواب عن هذا في مسائل الخلاف فلينظر هناك ان شاء الله تعالى. صيام الذي يصبح جنباً: ذكر حديث عائشة والسائل إلى آخره قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"وَأَنَا أُرِيدُ الصَيامَ وَأُصْبحُ جُنُباً" (¬7)، فأحال على فعله ليبين أنه أسوة وأنه والقول سواء في وجوب الاقتداء حتى يقوم دليل التخصيص له به وقوله: (إنِّي لأرْجُو أَنْ أكُونَ أَخْشَاكُمُ لله)، إن قيل من أي شيء كان يخاف رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، والأنبياء، عليهم السلام، قد أَمِنُوا من سوء ¬

_ (¬1) انظر المجموع للنووي 6/ 290، وشرح السنة 6/ 270. (¬2) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 2/ 44. (¬3) حديث مسلم في الصيام باب جواز صوم النافلة بنيَّة من النهار: 2/ 808 - 809، والترمذي 3/ 111، والنسائي 4/ 193، وشرح السنة 6/ 270 - 271 كلهم عن عائشة أم المؤمنين قالت: (دَخَلَ عَلَى النبِيُ، - صلى الله عليه وسلم -، ذَات يَوْم فَقَالَ: هلْ عِنْدَكمْ شَيءٌ؟ فَقلْنا: لَا. قَالَ: فَإنَّي إذنْ صَائِمٌ ..) (¬4) انظر المجموع 6/ 324. (¬5) انظر المجموع 6/ 324. (¬6) هذا الزام من الشافعية للمالكية. (¬7) الموطأ 1/ 289 ولفظه: عنْ عَائِشةَ أنَّ رَجلاً قَالَ لِرَسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وَهوَ وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأنَا أسْمَعُ: يَا رَسُولَ الله إنِّي أُصْبح جنُباً وَأنَا أريد الصِّيَامَ. فَقَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: وأنَا أُصْبحُ جُنُباً وَأرِيدُ الصِّيَامَ فَأغْتَسِلُ فَأصوم ... والحديث رواه أيضاً مسلم في الصيام باب صحةَ صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب 2/ 781، وابن خزيمة في صحيحه 3/ 249، وعزاه الحافظ للنسائي. فتح الباري 4/ 147.

الخاتمة. وقد قيل لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (¬1)، فلم يبق للخشية وجه. وقد أجبنا عن هذا السؤال في الكتاب الكبير (¬2)، وأقوى وجه فيه أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إن كان قد أَمِن العقاب فإنه كان يخشى من العتاب (¬3)، هذا جواب أهل الإشارة (¬4)، وقال سائر العلماء: إنما غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بشرط امتثاله لما أمر به واجتنابه لما نُهي عنه (¬5). ¬

_ (¬1) سورة الفتح آية (2). (¬2) الكتاب الكبير ذكره أيضاً في المسالك على موطأ مالك ك 295. (¬3) هذا الكلام هنا هو عيب كلامه في المسالك ل 295 دون زيادة أو نقص، ويدل لقول الشارح قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}. [التوبة آية 43] وقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [سورة عبس آية 1،2] قال أبو جعفر النحاس: عفا الله عنك معناه قولان. 1 - أحدهما أنه افتتاح الكلام كما تقول أصلحك الله كان كذا وكذا. 2 - القول الآخر وهو أولى لأن المعنى عفا الله عنك ما كان من ذنبك في أن أذنت لهم، ويدل على هذا {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} لأنه لا يقال: لم فعلت ما أمرتك به. والأصل أن يقال: لم فعلت لأحد فعل شيئاً لم يؤمر به. إعراب القرآن للنحاس 2/ 21. وقال القرطبي: أخبره بالعفو قبل الذنب لئلا يطير قلبه فرقاً وقيل {عَفَا الله عَنْكَ} ما كان من ذنبك في أن أذنت لهم .. ونقل عن القشيري قوله: هذا عتابَ تلطف إذ قال: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} وكان عليه السلام أذن من غير وحي نزل فيه. قال قتادة وعمرو بن ميمون: ثنتان فعلهما النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ولم يؤمر بهما: أذنه لطائفة من المنافقين بالتخلف عنه ولم يكن له أن يمضي شيئاً إلا بوحي، وأخذه من الأسرى الفدية فعاتبه الله كما تسمعون. قال بعض العلماء: إنما بدر منه ترك الأولى فقدم له العفو على الخطاب الذي هو صورة العتاب، القرطبي 8/ 155. وقال في سورة عبس: هذه الآية عتاب من الله لنبيه، - صلى الله عليه وسلم -، في إعراضه وتوليه عن عبد الله بن أم مكتوم، ونظير هذه الآية في العتاب قوله في سورة الأنعام: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} وكذلك في سورة الكهف: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. القرطبي 19/ 212 - 214، وانظر زاد المسير 3/ 444، ومختصر تفسير ابن كثير 2/ 145، وتفسير أبي السعود 5/ 155. (¬4) هذا ما يطلقه على أهل الصوفية. (¬5) قال ابن كثير: هذا من خصائصه، - صلى الله عليه وسلم -، التي لا يشاركه فيها غيره. وليس حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو - صلى الله عليه وسلم - في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة لم ينلها بشر سواه. مختصر تفسير ابن كثير 3/ 340.

الرخصة في القبلة للصائم

الرخصة في القبلة للصائم: ثم ذكر مالك حديث أم سلمة، رضي الله عنها، وهو مثل الذي قبله في الاقتداء بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإحالة الصحابة في قصد البيان عليه كما كان هو يحيل، - صلى الله عليه وسلم -, عليه وقول السائل (الله يحلُّ لرسوله ما شاء) يعني أنه لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يختص بأشياء ظن أن هذا منها فبيِّن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أن الأصل الاسترسال على الاستدلال بجميع أفعاله حتى يقوم الدليل على تخصيصه (¬1) بها. وقوله إني لأتقاكم لله ذكر قوله أخشاكم مقروناً بالرجاء وذكر قوله أتقاكم على القطع ورجاء رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قطعٌ لأنه لم يخب ظنه بربه، وقطعه قطع لأنه خبر عن حقيقة حاله أعلمهم بذلك على سبيل الاعتقاد والإعلام بالدين، لا علي سبيل الفخر على المسلمين؛ وقد روت عائشة، رضي الله عنها، أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -: (كَان يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ) (¬2) وكانت تقول: (وَأيُّكمْ يَمْلِكُ نَفْسَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، يَمْلِكُ نَفْسَهُ). فلذلك شدد فيه ابن القاسم عن مالك في كل صوم لأنها لا تدعو إلى خير (¬3)، ورخص فيها هْي التطوّع من رواية ابن وهب (¬4)، ........ ¬

_ (¬1) حديث أم سلمة المشار إليه ورد في الموطأ 1/ 291 - 292 مرسلاً مِنْ طريق عَطَاءِ بْنِ يَسار أنُّ رَجُلاً قَبَّلَ أمْرَأتَة وَهوَ صَائم في رَمضَانَ فَوَجَدَ في ذلِكَ وَجْداً شَدِيداً فَأرْسَلَ أمْرَأتَهُ تسْأل لَه عَنْ ذلِكَ فَدخلتْ عَلَى أمِّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَتْ ذلِكَ لَهْا فَأخْبَرَتْهَا أم سَلَمَةَ أن رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يَقَبِّلُ وَهوَ صَائِم فَرَجَعَتْ فَأخْبَرَتْ زَوْجَهَا بِذلِكَ فَزَادهُ ذلِكَ شَرْاً وَقَالَ لَسْنَا مِثْلَ رَسُولِ اللِه - صلى الله عليه وسلم - .. ورواه الشافعي من طريق مالك وقال قد سمعت من يصل هذا الحديث، ولا يحضرني ذكر من وصله. الرسالة ص 404 - 405، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من الأنصار أنه أخبره أنه قتل امرأته على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو صائم فأمر امرأته فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن ذلك .. المصنف 4/ 184، ورواه أحمد في المسند قال حدثني عبد الرزاق وساق الحديث .. المسند 5/ 434، وطريق عبد الرزاق موصولة، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 166 إلى أحمد وقال رجاله رجال الصحيح وأقره الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه للرسالة ص 405، وصححه أيضاً الحافظ في الفتح 4/ 151. درجة الحديث: صحيح. (¬2) متفق عليه. البخاري في الصيام باب المباشرة للصائم 3/ 38 من طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة .. ، ومسلم في الصوم باب القبلة للصائم 2/ 777 وفي رواية عبيد الله بن عمر عن القاسم عنها عند مسلم 2/ 777 (يُقَبِّلُني وَهُوَ صَائمٌ). (¬3) قال الباجي: وفي المجموعة قال ابن القاسم شدد مالك في القبلة للصائم في الفرض والتطوع. المنتقى 2/ 47. (¬4) قال الباجي: وروى ابن وهب في موطئه عن مالك: أما القبلة في التطوع فأنا أرجو أن يكون ذلك واسعاً، =

الصيام في السفر

................................... وذكره ابن حبيب (¬1). والصحيح عندي ما في الحديث من قولها: (وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إرْبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، يَمْلِك إرْبَهُ) فلا ينبغي لأحدٍ أن يعترضها إلا أن يكون شيخاً كبيراً منكسر الشهوة، ولعل هذا السائل كان كذلك؛ لأن في تعاطيها تغريراً بالعبادة وتعريضاً لها لأسباب الفساد، وذلك مكروه باتفاق من الأمة حيث يتوقع، فهذا مثله .. الصيام في السفر: قالت الشافعية: الفطر أفضل (¬2) في السفر، وقال (ح) الصوم أفضل إلا عند لقاء العدو (¬3)، ولا خلاف فيه بينهم. ويحكى عن قوم (¬4) أن الصوم في السفر لا يجوز، وإن من صام لا يجزيه، وهم أقل خلقاً وقولهم أعظم فرقاً في الدين وفتقاً، ولولا ما شدَّك من قلوب الناس في بلادنا بهذه المقالة الركيكة ما لفتنا نحوها ليتاً (¬5). وقد قال الله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (¬6) وهذا نص. فإن قيل فقد قال بعد ذلك: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬7)؛ فأوجب العله على المسافر مطلقاً من غير اعتبار فطر أو صوم، وقال - صلى الله عليه وسلم - في قوم صاموا في السفر (أُولَئِكَ العُصَاةُ) (¬8) .. وقال أيضاً: ¬

_ = وأما الفريضة فإن ترك ذلك أحب إليّ. المنتقى 2/ 46، وقد راجعت القطعة الموجودة من موطأ ابن وهب ولم أجد ذلك ولعله في المفقود من هذا الموطأ. (¬1) وروى ابن حبيب عن مالك أنه شدّد في القبلة في الفريضة وأرخص فيها في التطوع وتركها أحب إليّ من غير ضيق المنتقى 2/ 47. (¬2) قال الشافعي: الصوم أحب إلينا لمن قوي عليه. الأم 2/ 87. وقال النووي: قال الشافعي والأصحاب إن تضرر بالصوم فالفطر أفضل وإلا فالصوم أفضل وقال الخراسانيون قولاً شاذاً ضعيفاً ان الفطر أفضل مطلقاً والمذهب الأول: المجموع 6/ 261 وقال الحافظ ذهب أكثر العلماء ومنهم مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أن الصوم أفضل لمن قوى عليه ولم يشق عليه وقال كثير منهم الفطر أفضل عملا بالرخصة .. وقال آخرون أفضلهما أيسرهما .. فتح الباري 4/ 183. (¬3) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 2/ 79. (¬4) يقصد الشارح بهذا الكلام الرد على الظاهرية القائلين بهذا القول وقد ساق ابن حزم في المحلى 6/ 243 أدلتهم ورد على المخالفين فلينظر هناك وانظر المغني لابن قدامة 3/ 149. (¬5) الليث بالكسر صفحة العنق وهما ليتان، الصحاح في اللغة والعلوم 2/ 467. (¬6) سورة البقرة آية 184. (¬7) البقرة آية 184. (¬8) مسلم في الصوم باب جواز الصوم والفطر في رمضان للمسافر 2/ 785 والترمذي 3/ 89 وقال حسن =

(لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصَّوْمُ في السَّفَرِ) (¬1)، وإنما نسب المعصية إلى الصائمين، ونفى أن يكون الصوم في السفر براً في صيام رمضان. فالجواب أنا نقول قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} جملة هي أحد قسمين: القسم الأول هو قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬2) فقسم الله تعالى في الآية الأولى المخاطبين بالصيام قسمين. أحدهما: مريض ومسافر. والثاني: قادر على الصيام. وإنما تقابل هذان القسمان لأن القسم الأول معناه من كان له عذر يمنعه من الصيام، فقسم العذر بالمرض والسفر، ثم قابله بالقسم الثاني وهي الطاعة على الصوم؛ فجعل على الذي لا يقدر على الصيام عدة من أيام أخر، وجعل على القادر الفدية، إن لم يرد الصوم. قال ابن أبي ليلى (¬3): يا أصحاب (¬4) محمَّد إن هذه لما نزلت شق عليهم فأمروا بالفدية ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها، قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (¬5)، معناه. فأفطر فعليه عدة من أيام أخر. ويهذا ينتظم ¬

_ = صحيح، والبغوي في شرح السنة 6/ 311 والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 246 كلهم من حديث جبر بن عبد الله. (¬1) متفق عليه. البخاري في الصوم باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، لمن ظلل عليه واشتد الحر: (ليس مِنَ البر الصِّيامُ في السَّفَرَ) 3/ 44، ومسلم في الصيام باب جواز الصوم والفطر في رمضان للمسافر 2/ 786، والبغوي في شرح السنة 6/ 308 والبيهقي في السنن 4/ 242 - 243. كلهم من حديث جابر بن عبد الله. (¬2) سورة البقرة آية 185. (¬3) عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني، ثم الكوفي، ثقة من الثانية. اختلف في سماعه من عمر، مات بوقعة الجماجم سنة 86 وقيل غرق/ ع، ت 2/ 496، وانظر ت ت 6/ 260. (¬4) كذا في جميع النسخ ولعل الصواب نا أصحاب محمَّد. (¬5) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، في الصوم باب وعلى الذين يطيقونه فدية ولفظه: وَقَال نكير حَدَّثنَا الأعمش حدثنا عمرو بن مرة حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم -: (نَزَلَ رَمَضَانُ فَشَق عَلَيْهمْ فَكَانَ مَنْ أطْعَمَ كل يَوْم مِسْكِيناً تَرَكَ الصوْمَ مِمَّنْ يَطِيقهُ ورخص لهم في ذلك فنسختها {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فأمروا بالصوم، البخاري 3/ 45. وقد وصله البيهقي ولفظه (أُحِيلَ الصَّوْم عَلَى ثَلَاَثةِ أحْوَالٍ قَدِمَ الناس الْمَدِينَةَ وَلاَ عَهْدَ لَهُمْ بِالصِّيامِ فَكَانوا يَصومونَ ثَلاَثَةَ إيامٍ مِنْ كل شَهْرٍ حَتى نَزَلَ (شَهْر رَمَضَان) فَاسْتَكثروا ذلِكَ وَشَقَّ عَليْهِمْ فَكَانَ مَنْ أطْعَمَ مِسْكِيناً كُل يَوْم تَرَكَ الصِّيَامَ مِمنْ يطِيقُهُ رُخِّصَ لَهُمْ في في ذلِكَ) =

التقسيم ويستتب الكلام ويرتبط مع آخره بقوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} يعني أن ينتقلوا عن الأداء إذا تعذر إلى القضاء، ثم قال ولتكملوا العدة ولو صام مرتين لزاد عليها. وأما قوله (أولئك العصاة وليس من البر) فيعارضه حديث أنس رضي الله عنه: (سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِر وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصائِمُ) (¬1) .. وروى حمزة بِن عمرو الأسلمي (¬2) أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال له في الصوم في السفر (إنْ شِئْتَ فَصُمْ وإنْ شِئْت فَافْطِرْ) (¬3). فإن قيل فإذ تعارضت الأحاديث ما الحكم فيها؟ قلنا: لو علم التاريخ لحكمنا بالآخر منها على الأول، فإذا جهلت التواريخ فاختلف الناس على ثلاثة أقوال فمنهم من قال يؤخذ بالأشد منها لأنه الأحوط والدين يحتاط له .. ومنهم من قال يؤخذ بالأخف لأن الله تعالى قد رفع الحرج وبعث النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بالحنيفية السمحة. ومنهم من قال يسقط ويطلب دليل آخر فإن أمكن الترجيح فيجب العمل به (¬4). وههنا تترجح أحاديث الجواز على أحاديث المنع؛ لأن هذا الذي قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إنما كان في سفرة واحدة، وهذا الذي قال لأنس ابن مالك الأنصاري، رضي الله عنه، ولحمزة بن عمرو الأسلمي ولأنس ابن مالك الكعيي (¬5). وقد قال له إذن فكل. قال له أنس إني صائم ¬

_ = ونسخه {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. قالَ (فأمِروا بِالصِّيَام) السنن الكبرى 4/ 200. درجة الحديث: قال النووي: علقه البخاري بصيغة الجزم فيكرن صحيحاً كما تقررت قاعدته، المجموع 6/ 250 وقد تقدم وصل البيهقي له، وقد أشار الحافظ إلى وصل البيهقي بقوله وصله أبو نعيم في المستخرج والبيهقي من طريقه. فتح الباري 4/ 188. (¬1) متفق عليه. البخاري في الصوم باب لم يعبْ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، بعضهم بعضاً في الصوم والإفطار 3/ 44، ومسلم في الصيام باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية 2/ 788، والموطأ 1/ 295 والبغوي في شرح السنة 6/ 305. (¬2) حمزة بن عمرو الأسلمي. يكنى أبا صالح، وقيل يكنى أبا محمَّد، يعد في أهل الحجاز. مات سنة 61 هـ وهو ابن 71 سنة، ويقال ابن 80 سنة، وروى عنه أهل المدينة وكان يسرد الصوم. الاستيعاب 2/ 375، أسد الغابة 2/ 55. (¬3) متفق عليه، البخاري في الصوم باب الصوم في السفر والإفطار 3/ 43، ومسلم في الصيام باب التخيير في الصوم والفطر في السفر 2/ 789، والموطأ 1/ 295، والبغوي في شرح السنة 6/ 305. (¬4) انظر كتاب المحصول في علم الأصول للشارح ل 65 أب. (¬5) أنس بن مالك القشيري ثم الكعبي، أبو أمية، وقيل أميمة، أو أبو مية، صحابي نزل البصرة/ عم. =

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الله وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ الصوْمَ وَشَطْرَ الصلاة" (¬1)، كان في أوقات مختلفة، وأيضاً فإن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إنما قال ليس من البر الصيام في السفر حين رأى رجلاً قد ظلَّل عليه من شدة الحر فسأل عنه فقيل إنه صائم فقال فيه: "لَيْس مِنَ الْبِر الصيَامُ في السفَرِ"، وقد روي، عنه عليه السلام، أنه قال: (لَيْسَ مِنْ أم بر أم صوم في أم سفر) (¬2)؛ وهي لغة للمقول له قالها النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قصد الإفهام (¬3). وقول النبي، - صلى الله عليه وسلم - "أُوْلَئِكَ العُصَاةُ" قالها في قوم صاموا بعد فطر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وأمره بالفطر. وقال "تَقَوُّوا لِعَدُوكُمْ" (¬4). وكذلك قال علماؤنا إن الفطر في الجهاد أفضل لما فيه من القوة على العدو والحرب، فأما قول الشافعية وأخوانهم إن الفطر (¬5) أفضل فانتزعوا بقوله في الحديث: (ثُمَّ أَفْطَرَ فَأفْطَرَ النَّاسُ (¬6)، وَكَانُوا يأخُدونَ بَالأحْدَثِ فَالأحدَثِ مِنْ أَمْرِ ..... ¬

_ = ت 1/ 85 وانظر ت ت 1/ 379، والإصابة 1/ 85، وقال وقع عند ابن ماجه أنس ابن مالك رجل من بني عبد الأشهل وهو غلط، وفي رواية أبي داود عن أنس بن مالك رجل من بني عبد الله بن كعب، أخوه قشير لامن قشير، وهذا هو الصواب، وبذلك جزم البخاري في ترجمته، وعلى هذا فهو كعبي لا قشيري، وانظر الاستيعاب 1/ 111، والتاريخ الكبير 1/ 30. (¬1) رواه أبو داود 2/ 796، والترمذي 3/ 94 - 95، وقال حديث أنس بن مالك الكعبي حديث حسن ولا نعرف لأنس بن مالك هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث الواحد والعمل على هذا عند أهل العلم. ورواه النسائي 4/ 180 - 181، وابن ماجه 1/ 533، وأحمد انظر الفتح الرباني 10/ 126، والبغوي في شرح السنة 6/ 315، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 231، وابن جرير في تفسيره 3/ 435. درجة الحديث: حسنه الترمذي كما تقدم، ونقل الحافظ في ت ت 1/ 379 عن الترمذي أنه صححه واقره على ذلك وقال وفي رواية ابن ماجه رجل من بني عبد الأشهل، وهو غلط .. (¬2) رواه أحمد انظر الفتح الرباني 10/ 107، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 242، من رواتة كعب بن عاصم الأشعري، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 161 وعزاه ص لأحمد، والطبراني في الكبير وقال ورجال أحمد رجال الصحيح. درجة الحديث: صحيح. (¬3) قال الحافظ: يحتمل أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خاطب بها .. الأشعري لأنها لغته، ويحتمل أن يكون الأشعري هذا نطق بها على ما ألف من لغته فحملها الراوي عنه وأداها باللفظ الذي سمعها به، وهذا الثاني أوجه عندي. تلخيص الحبير 2/ 217. (¬4) مسلم في كتاب الصيام باب أجر المفطر في السفر إذا نوى العمل 2/ 789، وأبو داود 2/ 765، والترمذي 3/ 93 مختصراً، والنسائي 4/ 188 كلهم عن أبي سعيد. (¬5) تقدم الكلام على المسألة. (¬6) متفق عليه. البخاري في الصوم باب إذا صام أياماً من رمضان ثم سافر 3/ 43، ومسلم في الصيام باب جوز الصوم والفطر في شهر رمضان 2/ 784، والموطأ 1/ 294، والبغوي في شرح السنة 6/ 310 كلهم من

................................. رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - في الفطر في السفر (عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ الله التي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا) (¬2)، خرَّجه النسائي قالوا ولأنه أرفق بالبدن، وكان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يحب الرفق في الأمر كله (¬3)، قلنا: قد قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يأْخُذَهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبٌ أَنْ يَصُومَ فَلْيَفْعَلْ" (¬4) صححه الدارقطني، وثبت (أيضاً) عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - (أَنَّهُ سَافَرَ فَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ صَامَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْطَرَ فَلَمْ يَعِبِ الصائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصائِمِ) (¬5) وقالت عائشة، رضي الله عنها: "سَافَرْتُ مَعَ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، فَأَفْطَرَ وَصُمْتُ) (¬6)، صححه الدارقطني والقاضي ¬

_ = حديث ابن عباس وهو من مرسلاته، فقد نقل الحافظ عن القابسي أن هذا الحديث من مرسلات الصحابة لأن ابن عباس كان، في هذه السفرة، مقيماً مع أبويه بمكة فلم يشاهد القصة، فكأنه سمعها من غيره من الصحابة. فتح الباري 4/ 182 وشرح الزرقاني 2/ 166. (¬1) جملة (كَانوا يأخذُون بِالْأحْدَثِ فَالْأحْدَثِ مِنْ أمْرِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -) مدرجة من قول الزهري، وبذلك جزم البخاري، كما قال الحافظ: وظاهره أن الزهري ذهب إلى أن الصوم في السفر منسوخ ولم يوافق على ذلك. فتح الباري 4/ 181. وترجم ابن خزيمة على ذلك بقوله باب ذكر البيان على أن هذه الكلمة (إنمَا يُؤْخَذُ بِالآخَرَ) ليس من قول ابن عباس. صحيح ابن خزيمة 3/ 262. (¬2) النسائي 4/ 176 من طريق الأوزاعي: حدثني يحيى بن أبي كثير قال أخبرني محمَّد بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله، ونقل الحافظ عن ابن القطان قوله إسناده هذه الزيادة حسن متصل. تلخيص الحبير 2/ 217، وقال الشيخ ناصر خلاصة القول أن هذه الزيادة إسنادها صحيح ولا يضره تفرد يحيي ابن أبي كثير بها لأنه ثقة ثبت كما في ت 2/ 356، وإنما يخشى البعض من التدليس، وقد صرَّح هنا بالتحديث فأمنا بذلك تدليسه. إرواء الغليل 4/ 56. درجة الحديث: الراجح عندي صحته، كما قال الشيخ ناصر وقبله الحافظ. (¬3) متفق عليه. البخاري في كتاب الأدب باب الرفق في الأمر كله 8/ 14، ومسلم في كتاب السلام باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف الرد عليهم 4/ 1706، كلاهما من حديث عائشة. (¬4) سنن الدراقطني 2/ 189 - 190 من طريق عمرو بن الحارث عن محمَّد بن عبد الرحمن عن عروة عن أبي مراوح، ومن طريق ابن لهيمة وعمرو بن الحارث أيضاً عن الأسود عن عروة عن أبي مراوح عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: يا رسول الله إني أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح. درجة الحديث: صححه الدارقطني. (¬5) تقدم. (¬6) الدارقطني في سننه 2/ 188 وقال: وهو إسناد حسن، ولعل الشارح اطلع على تصحيحه له في موضع آخر غير السنن. وقد حسّنه النووي. انظر المجموع 6/ 265.

كفارة من أفطر في رمضان

على ذلك كله الآية المحكمة باجماع وهي قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (¬1) فإن فيه تمام الأجر وحفظ الزمان المعين والمبادرة بالعبادة، فإن قيل: فقد قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في قوم صاموا في السفر وقعدوا، وآخرين سقوا واستقوا واطحنوا لهم واعتجنوا "ذهبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأجْرِ" (¬2) فجعل أجر أهل الفطر في السفر أكثر من الصيام. قلنا: قد اتفقنا على أن من أفطر في السفر ليس له أجره في الصوم فضلاً عن أن يكون أجره مثل أجر الصائم أو فوقه، وإنما أراد - صلى الله عليه وسلم - أن أجر الخدمة في السفر والقدرة على العدو أفضل من أجر الصائم لأنه يتقوى لعدوه، ولأنه يحصل له مثل أجر الصائم لخدمته له، قال النبي، - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ فَطَّرَ صَائِماً فَلَهُ مثلُ أَجْرِهِ" (¬3) وكذلك نقول نحن: إن الفطر عند مداناة العدو أفضل. كفارة من أفطر في رمضان: ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - (أَنَّ رَجُلاً (¬4) جَاءَ يَضْرِبُ نَحْرَهُ وَينْتفُ شَعْرَهُ وَيقُولُ هَلَكْتُ احْتَرَقْتُ- وفي رواية (هَلَكَ الأبْعَدُ) - فَقَالَ لهُ النبِي، - صلى الله عليه وسلم -: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْتِقَ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا) (¬5) الحديث إلى آخره. وثبت عنه أيضاً عن أبي هُرَيْرَة، رضي الله عنه، أن رجلاً ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 184. (¬2) متفق عليه. البخاري في الجهاد باب الخدمة في الغزو 4/ 42، ومسلم في الصيام باب أجر الفطر في السفر إذا تولى العمل 2/ 788، والنسائي 4/ 182 كلهم من حديث أنس بن مالك. (¬3) رواه الترمذي 3/ 171 وقال حسن صحيح من حديث زيد بن خالد الجهني، وأحمد مثل لفظ الترمذي، انظر الفتح الرباني 10/ 10، وابن حبان انظر موارد الظمآن ص 225، وابن ماجه 1/ 555، وابن خزيمة بلفظ (مَنْ جهَّزَ غَازِياً أَوْ جهزَ حَاجاً أوْ خَلَفَهُ في أَهْلِهِ أَوْ فَطَّرَ صَائِماً كان لَه مِثْل أجُورهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقصَ مِنْ أجُورِهِمْ شَيْئاً) صحيح ابن خزيمة 3/ 277، ورواه النسائي دون ذكر الحج والصوم 6/ 46، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 311. درجة الحديث: قال فيه الترمذي حسن صحيح، كما صححه الأعظمي في تعليقه على ابن خزيمة. (¬4) قال الحافظ في الفتح لم أقف على تسميته إلا أن عبد الغني، في المبهمات، وتبعه ابن بشكوال جزما بأنه سليمان، أو سلمة بن صخر البياضي. وقال وروى ابن عبد البر في التمهيد من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن الرجل الذي وقع على امرأته في رمضان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، هو سليمان ابن صخر. قال ابن عبد البر: أظن هذا وهماً لأن المحفوظ أنه ظاهَرَ من امرأته، وقع عليها في الليل لا أن ذلك كان منه بالنهار. ويحتمل أن يكون قوله، في الرواية المذكورة، وقع على امرأته في رمضان، أي ليلاً، بعد أن ظاهر فلا يكون وهماً ولا يلزم الاتحاد. فتح الباري 4/ 164. (¬5) الموطأ 2/ 297 مرسلاً عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب، قال ابن عبد البر: هكذا الحديث عند =

(أَفْطَرَ في رَمَضَانَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، أَنْ يكفِّرَ بِعَتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ) (¬1) الحديث. واتفق الناس على أن من وطئ أهله في رمضان متعمداً أنه قد أتى كبيرة وعليه الكفارة، واختلفوا فيمن وطئها ساهياً فذهب عامة الناس إلى أنه لا كفّارة عليه؛ لأن الذنب موضوع عنه، ونزع بذلك بعض علمائنا وتعلق بوجهين: أحدهما: أن الأعرابي الذي واقع أهله يحتمل أتى يكون أتى ذلك سهواً، ويحتمل أن يكون أتاه عمداً. والثاني: أنه إذا وجبت الكفارة في العمد فمثله في السهو ككفارة القتل، وهذا فاسد. أما الأعرابي فكان متعمداً غلبته شهوته، وزلّت به قدم، فجاء يضرب نحره وينتف شعره ويقول هلكت احترقت، ومحال أن يكون هذا مجيء الناسي بل هذا مجيء المتعمد المجترى. فإن قيل: فلم تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أدب وتثريب (¬2)؟ قلنا: لأنه جاء مستفتياً، والشريعة قد قضت بالمصلحة في ذلك وهي رفع العقوبة والتثريب عن المستفتي ¬

_ = جماعة رواة الموطأ مرسلاً، وهو متصل بمعناه من وجو صحاح إلا قوله: أن تهدي بدنة، فغير محفوظ. الزرقاني 2/ 173، ورواه عبد الرزاق في مصنفه 4/ 195، والييهقي في السنن الكبرى 4/ 227 وقال: وروي ممن أوجه اخر عن سعيد بن المسيب، واختلف عليه في لفظ الحديث والاعتماد على الأحاديث الموصولة، وبالله التوفيق. أقول هذا الحديث شيخ مالك فيه عطاء بن أبي مسلم، أبو عثمان، الخراساني، واسم أبيه ميسرة، وقيل عبد الله، صدوق يهم كثيراً ويرسل ويدلّس في الخامسة. مات سنة 135، ولم يصح أن البخاري أخرج له/ م ع. ت 2/ 23، وقال في ت ت: وثّقه ابن معين وابن أبي حاتم والدارقطني وابن سعد، وضعّفه البخاري وذكر حديثه عن سعيد بن المسيب عن أبي هُرَيْرَة أن النبيّ، - صلى الله عليه وسلم -، أمر الذي واقع في شهر رمضان بكفارة الظهار وقال لا يتابع عليه، ثم ساق بإسناده له عن سعيد بن المسيب أنه قال كذب على عطاء ما حدثته هكذا .. وقال ابن حبان كان رديء الحفظ ولا يعلم فبطل الاحتجاج به ت ت 7/ 212 - 215 وانظر التاريخ الكيير للبخاري 6/ 474، والمجروحين 2/ 130، والميزان 3/ 73، والكاشف 2/ 266 - 267. درجة الحديث: الظاهر عندي أنه مرسل حسن لأن عطاء متكلم فيه، والله أعلم. (¬1) متفق عليه. البخاري في الصوم باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدَّق عليه فليكفِّر 3/ 41، وفي باب المجامع في رمضان هل يطعم أهله من الكفارة إذا كانوا محاويج 3/ 42، ومسلم في الصوم باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم 2/ 781، وأبو داود 2/ 786، والترمذي 3/ 102، وابن ماجه 1/ 534، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 227، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 194، وأحمد انظر الفتح الرباني 10/ 89، والبغوي في شرح السنة 6/ 282. (¬2) التثريب: كالتأنيب، والتعبير والاستقصاء في اللوم. لسان العرب 1/ 235.

لأنه لو فعل ذلك مع واحد ما جاء غيره بعده ولانْسَدَّ باب الاستفتاء ويقي الخلق في ظلمة الجهالة والمعصية (¬1). وأما احتجاجه بكفارة القتل فهي وهلة عظيمة؛ لأن كفارة القتل وردت في الخطأ فقلنا العمد أولى (¬2)، وخالفنا في ذلك جماعة من العلماء (¬3). فأما ها هنا فوردت الكفارة في العمد فكيف يجوز أن يقلب القوس ركوة (¬4) فيحمل عليها الخطأ، هذا من أفسد وجوه النظر فتفطنوا له. واختلف الناس في هذه الكفارة هل هي مرتبة كسائر الكفارات، أم هي على التخيير؟ فقال علماؤنا: هي على التخيير لقوله في حديث أبي هريرة: أو. وهو نصّ. فإن قيل: قد قال في الحديث الثاني (هَلْ تَسْتَطِيعُ) وناقله بالعجز من خصلة إلى أخرى؟ قلنا: يحتمل أن يكون ناقله قصد الترتيب، ويحتمل أن يكون ناقله ليعلم ما عنده من هذه الخصال فيأخذه بالأولى منها؛ والأولى منها عند مالك الإطعام، ليس لعينه، ولكنه لأنه أنفع بالحجاز لجوعهم وأكثر ثمناً لقلة القوت عندهم (¬5). وقال ابن حبيب (¬6) من علمائنا: بل هي على الترتيب (¬7) وهو الحق لأن أوفى (¬8) حديث أبي هُرَيْرَة تحتمل التخيير وتحتمل التفصيل فلا يرد الظاهر بمحتمل. ¬

_ (¬1) قال الحافظ: استدل بهذا على أن من جاء مستفتياً أنه لا يعزَّر لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصيه؛ وقد ترجم لذلك البخاري في الحدود وأشار إلى هذه القصة وتوجيهه أن مجيئه مستفتياً يقتضي الندم والتوبة والتعزير إنما جعل للاستصلاح ولا استصلاح مع الصلاح، وأيضاً فلو عوقب المستفتي لكان سبباً لترك الاستفتاء، وهي مفسدة، فاقتضى ذلك أن لا يعاقب. هكذا قرره الشيخ تقي الدين. فتح الباري 4/ 164. (¬2) هذا هو مذهب مالك والشافعي، قال القرطبي: كان مالك والشافعي يريان على قاتل العمد الكفارة، كما في الخطأ. قال الشافعي: إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب في العمد أولى. تفسير القرطبي 5/ 331، وانظر كلام الشارح في الأحكام 2/ 474، وانظر أحكام القرآن للكيا الهراسي الشافعي 2/ 444، والأم 2/ 85. (¬3) لعله يقصد بذلك الأحناف لأن ذلك هو مذهبهم. انظر أحكام القرآن للجصاص 2/ 245. (¬4) هذا مثل يضرب في الإدبار وانقلاب الأمور. صحاح الجوهري 6/ 2361. (¬5) روى ابن الماجشون عن مالك أن الإطعام أفضل. قال الباجي وجرى عليه العراقيون ووجه ذلك أنه يحيا به جماعة لا سيما في أوقات الشدائد والمجاعات. المنتقى 2/ 54. (¬6) ستأتي ترجمته. (¬7) ونقل الباجي عنه قوله: وأنا أقول بالحديث للذي لم يأتِ فيه تخيير ولكن بالترتيب كالظهار. المتتقى 2/ 54. (¬8) قال ابن عبد البر: هكذا روى هذا الحديث مالك، ولم يختلف رواته عليه بلفظ التخيير، وتابعه ابن جريج وأبو أويس عن ابن شهاب، ورواه جماعة من أصحاب ابن شهاب على ترتيب كفارة الظهار: هَلْ تسْتَطِيعُ =

"وهم وتنبيه"

" وهم وتنبيه" لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، للأعرابي "كُلْهُ" ظنَّت طائفة أن الكفارة ساقطة عنه، وقالوا بأن ذلك مخصوص (¬1) به، ولم يتنبهوا لفقه عظيم وهو أن هذا رجل ازدحمت عليه جهة الحاجة وجهة الكفارة فقدم الأهم، وهو الاقتيات، وبقيت الكفارة في ذمته إلى حين القدرة، حسب ما أوجبها عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قال علماؤنا: ولم يذكر القضاء لعلمه به، وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال له: "صُمْ يَوْماً مَكَانَهُ وَاسْتَغْفِرِ الله" (¬3)، أخرجه الدارقطني. واختلف ¬

_ = أَنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً؟ قال: لَا. قال: فَعَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قال: لا. قال: فَهَلْ تَجِدُ إطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِيناً؟ قال: لَا. الحديث. شرح الزرقاني 2/ 172 والمغني 3/ 141. وقال الحافظ: سلك الجمهور في ذلك مسلك الترجح بأن الذين رووا الترتيب عن الزهري أكثر ممن روى التخيير .. وقال: روي الترتيب عن الزهري .. تمام الثلاثين نفساً أو أزيد. ورجح الترتيب أيضاً بأن راويه حكى لفظ القصة على وجهها فمعه زيادة علم من صورة الواقعة. وراوي التخيير حكى لفظ راوي الحديث فدلّ على أنه من تصرّف بعض الرواة، إما لقصد الاختصار أو لغير ذلك. ويترجح الترتيب أيضاً بأنه أحوط لأن الأخذ به مجزيء وسواء قلنا بالتخيير أو لا بخلاف العكس .. فتح الباري 4/ 167 - 168. (¬1) قال ذلك الإِمام الزهري، رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري. المصنف 4/ 194، ومن طريقه أبو داود 2/ 785، والبغوي في شرح السنة 6/ 287. قال أبو داود: زاد الزهري وإنما كان ذلك رخصة له خاصة، فلو أن رجلاً فعل ذلك اليوم لم يكن له بد من التكفير، وقال الحافظ: وإلى هذا نحا إمام الحرمين ورد بأن الأصل عدم الخصوصية .. فتح الباري 4/ 171. (¬2) هذا مذهب البغوي وابن دقيق العيد. قال الحافظ قال ابن دقيق العيد قوله وأما الكفارة فلم تسقط بذلك ولكن ليس استقرارها في ذمته مأخوذ من هذا الحديث، وأما ما اعتلّوا به من تأخير البيان فلا دلالة فيه لأن العلم بالوجوب قد تقدم ولم يرد في الحديث ما يدل على الإسقاط لأنه كما أخبره بعجزه ثم أمره بإخراج العرق دلّ على أن لا سقوط عن العاجز ولعله أخَّر البيان إلى وقت الحاجة وهو القدرة. فتح الباري 4/ 172، وقال البغوي صارت في ذمته إلى أن يجدها كالمفلس يُمهل إلى اليسار. شرح السنة 6/ 287. (¬3) أبو داود في سننه 2/ 786، والدارقطني في سننه أيضاً 2/ 190، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 226 كلهم من طريق هشام بن سعد عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هُرَيْرَة. قال الزيلعي: قال ابن القطان وعلة هذا الحديث ضعف هشام بن سعد، وقال عبد الحق في أحكامه: طرق مسلم في هذا الحديث أصح وأشهر وليس فيها صوم يوماً ولا مكتلة التمر ولا الاستغفار، وإنما يصح القضاء مرسلاً .. وهذا المرسل في موطأ مالك .. وصوم يوماً مكان ما أصبت، نصب الراية 2/ 453. والحديث فيه هشام بن سعد المدني، أبو عباد أو أبو سعد، صدوق له أوهام ورمي بالتشيع، من كبار السابعة. مات سنة 160 أو قبلها/ خت م ع ت 2/ 318، وقال في ت ت قال العجلي جائز الحديث =

الناس فيما يصام؛ فمنهم من قال يصوم يوماً، وهو العالم (¬1)، ومنهم من قال يصوم اثني عشر يوماً؛ لأن الله تعالى رضي من اثني عشر شهراً بشهر، ويعزى إلى ربيعة (¬2). ومنهم من قال يصوم ثلاثين يوماً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -، لعبد الله بن عمرو ابن العاص "صُمْ يَوْماً مِنَ الشَّهْرِ وَلَكَ أجْرُ مَا بَقِيَ" (¬3)، وقد خرَّج الدارقطني فيه أن يصوم ثلاثين يوماً (¬4)، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في المصنفات أنه قال:"مَن أفْطَرَ يَوْماً مِنْ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدَاً مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا عِلَّةٍ لَمْ يِقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وإنْ صَامَهُ" (¬5). ¬

_ = حسن الحديث، وقال أبو زرعة محله الصدق، وقال النسائي ضعيف، وقال مرة ليس بالقوي وروى له ابن عدي أحاديث منها حديثه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة (جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أَفْطَرَ في رَمَضَانَ فَقَالَ لَه: أَعْتِقْ رَقَبَةً) الحديث، وقال مرة عن الزهري عن أنس وقال والروايتان جميعاً خطأ، وإنما رواه الثقات عن الزهري عن حميد عن أبي هُرَيْرَة، وهشام خالف فيه الناس وله غير ما ذكرت ومع ضعفه يكتب حديثه، وقال الساجي صدوق وضعَّفه ابن عبد البر ت ت 11/ 39. درجة الحديث: ضعّفه ابن القطان والزيلعي والسبكي ونقل ذلك عن العيني. انظر. المنهل العذب المورود 10/ 133. (¬1) لعله يريد مالكاً لما تقدم من حديثه. (¬2) رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 198. (¬3) مسلم في كتاب الصيام باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به 2/ 817، والنسائي 4/ 217 كلاهما عن شعبة عن زياد بن فياض عن عياض عن عبد الله بن عمرو. (¬4) سنن الدارقطني 2/ 191 من طريق عمرو بن مرة عن عبد الوارث الأنصاري قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَفْطَرَ يَوْمَاً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ وَلَا عذرٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ ثَلَاثِينَ يَوْماً، وَمَنْ أَفْطَرَ يَوْمَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ سِتُّونَ، وَمَنْ أَفْطَرَ ثَلَاَثةَ أَيامٍ كَانَ عَلَيْهِ تِسْعُونَ يَوْماً". وقال: ولا يثبت هذا الإسناد ولا يصح عن عمرو بن مرة. الحديث فيه عبد الوارث الأنصاري، مولى أنس بن مالك، يروي عن أنس. روى محمَّد بن إسحاق عن مختار بن أبي مختار عنه. الثقات لابن حبان 5/ 130، وكذا في التاريخ للبخاري 6/ 118، وقال في الجرح والتعديل روى عنه يحيى بن عبد الله الجابر وجابر الجعفي وفطري الخشاب وأبو هاشم وسلمة بن رجاء وقال: سمعت أبي يقول ذلك وسألته عنه فقال هو شيخ. الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 6/ 74. وقال الذهبي بعد أن ساق هذا الحديث في ترجمته، ونقل كلام الدارقطني فيه قال قال الترمذي عن البخاري عبد الوارث منكر الحديث، وقال ابن معين مجهول الميزان 2/ 160. درجة الحديث: ضعيف. (¬5) رواه أبو داود 2/ 789، والترمذي 3/ 101، وابن ماجه 1/ 535، ونقل محققه عن السندي أن البخاري قال فيه لا أعرف لابن المطوس حديثاً غير حديث الصيام، ولا أدري أسمع من أبيه عن أبي هُرَيْرَة أم لا، ورواه الدارمي 2/ 10، وأحمد 2/ 386 و 442 و 458 و 470، والدارقطني 2/ 211 - 212، والبغوي

تكملة

وإذا كان هذا فيوم بيوم والتوبة معروضة إذ لا سبيل إلى قضائه أبداً بعينه، ولا مثله يرجى أبداً فلم يبق إلا أن يقابل يوم بيوم ويقابل عظيم الذنب بخالص التوبة .. تكملة: قال (ش): لما أوجب النبي - صلى الله عليه وسلم -، على الأعرابي الكفارة وترك المرأة دل على أنه لا كفارة عليها إذ لو وجبت لبيَّن وجوبها (¬1) عليها، كما قال في حديث العسيف "وَاغْدُ يَا أنَيْسُ عَلَى امْرَأة هذَا فَإنِ اعتَرَفَت فَارْجُمْهَا" (¬2). قلنا، يا عجباً لكم يشتركان في وجوب الصوم، وفي تحريم الجماع، وفي الهتك وموجبه من الإثم وفائدته من اللذة ويفترقان في الكفارة. أين هذا من تحريكم في النظر وإلحاقكم أقرب من هذا بأبعد منه في أحكام سردناها في موضعها، وإنما سكت النبي - صلى الله عليه وسلم -, لأن بيانه لحكم الرجل بيانه لحكم المرأة، وهما سيان، وإنما لم يبعث النبي إليها بالبيان لأن زوجها يبلغه وغيره كتبليغ سائر الأحكام، ¬

_ = في شرح السنة 6/ 290، ورواه البخاري معلقاً بصيغة التمريض في الصوم، باب إذا جامع في رمضان 3/ 29، قال: ويذكر عن أبي هريرة رفعه (مَنْ أَفْطَرَ يَوْماً مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ)، وابن خزيمة 3/ 238 وقال لا أعرف ابن المطوس ولا أباه غير أن حبيب بن أبي ثابت قد ذكر أنه لقي أبا المطوس .. والحديث فيه المطوس، وهو يزيد وقيل عبد الله بن المطوس، ليِّن الحديث من السادسة/ ع، ت 2/ 473، وقال في ت ت: وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم لا يسمى، وقال أحمد لا أعرفه ولا أعرف حديثه عن غيره، وقال البخاري لا أعرف له غير حديث الصيام، وقال ابن حبان يروي عن أبيه ما لا يتابع عليه. ت ت 12/ 382، وقال الذهبي لا يعرف هو ولا أبوه. الميزان 3/ 381، وانظر لسان الميزان 7/ 483. وقال الحافظ: حصلت في هذا الحديث ثلاث علل: الاضطراب والجهل بحال أبي المطوس والشك في سماع أبيه من أبي هريرة. وهذه الثالثة تختص بطريقة البخاري في اشتراط اللقاء. فتح الباري 4/ 161. درجة الحديث: ضعيف .. (¬1) قال البغوي: والمشهور من قول الشافعي أنه لا تجب إلا كفَّارة واحدة وهي على الرجل دونها، شرح السنة 6/ 288. وقد ناقش الحافظ الشافعية في المسألة في الفتح 4/ 170، وقوله قريب من قول الشارح، وانظر الأم 2/ 85. (¬2) متفق عليه. البخاري في كتاب الأيمان والنذور باب كيف كانت يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - 8/ 161، ومسلم في الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنى 3/ 1324 - 1325، والموطأ 2/ 822، والشافعي في الرسالة ص 248 تحقيق أحمد شاكر، والحديث رواه الشافعي عن مالك، والبغوي في شرح السنة 10/ 274، وأبو داود 4/ 591 والترمذي 4/ 39 وابن ماجه 2/ 852 كلهم عن أبي هُرَيْرَة وزيد بن خالد الجهني.

تنبيه

ولم يرسل رسولاً لأن استيفاء الكفارة ليس إليه وإنما هي موكولة إلى أمانة المكفِّر يخرجها إذا قدر متى شاء، بخلاف الحد فإن استيفاءه إلى الإمام .. تنبيه: قال الأعرابي: احترقت هكلت، قال له، وماذا فعلت؟ قال: أصبت أهلي وأنا صائم. فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم -، بالكفارة، وتعلقت بمعنى الفعل وهو هتك الحرمة بالفطر لا بلفظه، وهي الإصابة. وقال (ش): يتعلق الحكم بلفظ الجماع (¬1) لأن الأكل ليس في معناه، ألا ترى أنه لم يساوه في تحريم الملة فذلك لا يساويه في تحريم رمضان؛ فإن الرجل إذا زنى بزوج الغير يُرجم، فإذا أكل مال الغير أُدِّب. قنا: وإن افترقا في تحريم الملة إلا أنهما قد استويا في التحريم ها هنا، وفي الهتك فإنهما يباحان جميعاً ليلًا في الزوجة (ويحرمان) نهاراً إباحة مستوية (¬2) وتحريماً مستوياً، وزيادة التحريم في ملك الغير مسألة أخرى لها حكمها وقد نيطت بها عقوبتها، فأما في مسألتنا فقد هتك حرمة رمضان بفطر متعمداً فلزمته الكفارة كما لو جامع، ويعتضد هذا بقوله إن رجلاً أفطر في رمضان فأمره أن يكفِّر (¬3)، وهذا هو الإيماء الصريح الدال على صحة علَّة الأصل كقوله زَنى فرُجم، وَسها فَسجد، وسرق فقُطع (¬4) ولا يحصى ذلك كثرة .. حجامة الصائم: اختلف الناس في حجامة الصائم؛ فذهب جماعة إلى أنه يُقضي بفطر الحاجم والمحجوم منهم أحمد بن حنبل (¬5) للحديث المروي في ذلك (أَفْطرَ الحَاجِمُ ¬

_ (¬1) انظر الأم 2/ 85 والمجموع 6/ 331. (¬2) في (م) ويحرمان. (¬3) تقدم. (¬4) قال الشيخ محمَّد الأمين الشنقيطي: أما مالك وأبو حنيفة فألغيا خصوص الوقاع وأناطا الحكم بانتهاك حرمة رمضان فأوجبا الكفارة في الأكل والشرب عمداً فزاد الأكل والشرب على الوقاع تنقيحاً بزيادة بعض الأوصاف. انظر مذكرة الشيخ محمَّد الأمين على روضة الناظر ص 244. (¬5) قال في الإنصاف: هذا هو المذهب فيهما وعليه جماهير الأصحاب. الإنصاف 3/ 302، ونقل المنذري عن الإِمام أحمد قوله: أحاديث أفطر الحاجم والمحجوم، ولا نكاح إلا بولي يشد بعضها بعضاً، وأنا أذهب إليها. مختصر المنذري مع تهذيب السنن 3/ 205، وانظر شرح السنة 6/ 302.

وَالْمَحْجُومُ) (¬1)، وقد كنا، في أثناء دروس مسائل الخلاف، قيّدنا عن يحيى ابن معين أنه قال لا يصح في ذلك حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وخرج الأئمة منهم ابن عباس: احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو صائم (¬3)، وحديث أنس (هَلْ كُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائمِ؟ قَالَ: نعَمْ، وَلَكِنْ مَخَافَةَ التَّغْرِيرِ) (¬4). وكنت متردداً بين حديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين فعل فعله يخالف القول، وأسوق النظر على هذين الأصلين وأقابل وجوه الترجيح بينهما حتى أخبرنا القاضي أبو المظفر (¬5) قال أخبرنا أبو نعيم (¬6) قال أخبرنا ابن فارس (¬7) ............................................. ¬

_ (¬1) سيأتي قريباً. (¬2) نقل الزيلعي عن صاحب التحقيق فقال: ضعف يحيى بن معين هذا الحديث وقال إنه حديث مضطرب ليس فيه حديث يثبت، قال: ولما بلغ أحمد هذا الكلام قال إنه مجازفة. نصب الراية 2/ 482. (¬3) متفق عليه. البخاري في الصوم باب الحجامة والقيء للصائم 3/ 43، ومسلم في الحج باب الحجامة للمحرم 2/ 862، والترمذي 3/ 146 وقال حسن غريب من هذا الوجه، وعزاه المنذري للنسائي. مختصر سنن أبي داود 3/ 246. (¬4) البخاري في الصوم باب الحجامة والقيء للصائم 3/ 43. من طريق يحيى بن إياس حدثنا شعبة قال: سَمِعْتُ ثَابِتاً البُنَانِي قَالَ: سُئِلَ أنس بْن مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْه: أكنْتُمْ تَكْرَهُونَ الْحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ؟ قَالَ: لاَ، إلَّا مِنْ أجْلِ الضَّعْفِ، وأبو داود 2/ 774، قال الحافظ: وقد سقط من هذا الإسناد رجل بين شعبة وثابت؛ فقد رواه الإسماعيلي وأبو نعيم والبيهقي من طريق جعفر بن محمَّد القلانسي وأبي قرفاصة محمَّد بن عبد الوهاب وإبراهيم بن الحسين كلهم عن آدم بن أبي إياس، شيخ البخاري، فيه، فقال عن شعبة عن حميد قال سمعت ثابتا وهو يسأل أنس بن مالك فذكر الحديث، وأشار الإسماعيلي والبيهقي إلى أن الرواية التي وقعت في البخاري خطأ، وأنه سقط حميد، قال الإسماعيلي وكذلك رواه علي بن سهل عن أبي النضر عن شعبة عن حميد. فتح الباري 4/ 178. (¬5) هو أحمد بن محمَّد بن المظفر الخوافي، الفقيه الشافعي. كان أنظَر أهل زمانه، تفقَّه على إمام الحرمين وصار أوجه تلاميذه، ولِّي القضاء بطوس ونواحيها، وكان مشهوراً بين العلماء بحسن المناظرة وإفحام الخصوم. توفي سنة خمسمائة بطوس. وفيات الأعيان 1/ 96 - 97، وطبقات الشافعية 4/ 55. (¬6) أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، حافظ مشهور. ولد ومات بأصبهان سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. ومات سنة ثلانين وأربعمائة. الأعلام 1/ 150، وفيات الأعيان 1/ 91 - 92، وطبقات الشافعية 4/ 18، والبداية والنهاية 12/ 45، تبيين كذب المفتري ص 246، تذكرة الحفّاظ 3/ 1092، طبقات القراء 1/ 71، لسان الميزان 1/ 201، المنتظم 8/ 100. (¬7) أحمد بن فرس بن زكريا القزويني الرازي، من أئمة اللغة والأدب. ولد سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ومات سنة خمس وتسعين وثلاثمائة هـ. وفيات الأعيان 1/ 118، والأعلام 1/ 184، الديباج 1/ 163، يحيي أعلام النبلاء 17/ 103، الوافي في الوفيات 7/ 278، نزهة الألبا ص 320 - 322، بغية الوعاة 1/ 352.

............................................... قال أخبرنا يونس (¬1) قال أخبرنا أبو داود (¬2) قال أخبرنا هشام (¬3) الدستوائي أن يحيى بن (¬4) أبي كثير حدثه أن أبا قلابة (¬5) حدّثه أن أبا أسماء (¬6) الرحي حدثه عن ثوبان أن رسول الله، قال: "أفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ" (¬7)، فقلت: هذا حديث صحيح لا كلام فيه، وكنت تارة أحمله على ظاهره وتارة أتاوَّله فأقول: إن معنى أفطر كذا على التأويلات المعلومة التي لا تقوم على ساق حتى أخبرنا أبو الحسن ¬

_ (¬1) يونس بن حبيب بن عبد القادر بن عبد العزيز، أبو بشر. روى عن أبي داود الطيالسي، وعامر بن إبراهيم، وبكر بن بكار، ومحمد بن كثير الصنعاني. قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه بأصبهان وهو ثقة .. الجرح والتعديل 9/ 237، وانظر الثقات 9/ 290. (¬2) سليمان بن داود بن الجارود، أبو داود الطيالسي، البصري، ثقة. حافظ غلط في أحاديث من التاسعة، مات سنة 204/ خت م ع. ت 1/ 223 وانظر ت ت 4/ 182 - 186. (¬3) هشام بن أبي عبد الله سنبر، بمهملة ثم موحدة، وزن جعفر، أبو بكر الدستوائي، بفتح الدال وسكون السين المهملتين وفتح المثناة ثم مد، ثقة، ثبت، وقد رمي بالقدر، من كبار السابعة، مات سنة 154، وله 78 سنة ع، ت 2/ 319 وانظر ت ت 11/ 43، تهذيب الكمال 3/ ل 1440. (¬4) يحيى بن أبي كثير الطائي، مولاهم، أبو نصر اليمامي، ثقة، ثبت لكنه يدلِّس ويرسل من الخامسة. مات سنة 132، وقيل قبل ذلك/ ع. ت 2/ 356، وانظر ت ت 11/ 268. (¬5) هو عبد الله بن زيد بن عمرو، أو عامر الجرمي، أبو قلابة البصري، ثقة، فاضل كثير الإرسال- قال العجلي فيه نصب يسير من الثالثة. مات بالشام هارباً من القضاء سنة 104 وقيل بعدها/ ع. ت 1/ 417 وانظر ت ت 5/ 224. (¬6) هو عمرو بن مرثد، أبو أسماء الرحي، الدمشقي، ويقال اسمه عبد الله، ثقة من الثالثة، مات في خلافة عبد الملك/ بخ م ع ت 2/ 78 وانظر ت ت 8/ 98. (¬7) الحديث رواه الطيالسي في مسنده ص 233، وأبو داود 2/ 770، وابن ماجه 1/ 537، وأحمد انظر الفتح الرباني 10/ 34، والحاكم في المستدرك 1/ 429، وابن خزيمة 3/ 226، وابن حبان، انظر موارد الظمآن ص 226، وعزاه الحافظ إلى النسائي في سننه الكبرى, تلخيص الحبير 2/ 205 كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان، والبيهقي في السنن 4/ 265، وعبد الرزاق 4/ 209. وقال الحافظ قال علي بن سعيد النسوي سمعت أحمد يقول هو أصح ما روي فيه، وكذا قال الترمذي عن البخاري، ورواه المذكورون من طريق يحيى بن أبي كثير أيضاً عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس، وصحح البخاري الطريقين تبعاً لعلي بن المديني، نقله الترمذي في العلل، تلخيص الحبير 2/ 205، ونقل في الفتح عن عثمان الدارمي صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم من طريق ثوبان وشداد قال وسمعت أحمد يذكر ذلك، وقال المروزي قلت لأحمد إن يحيي بن معين قال ليس فيه شيء يثبت فقال هذا مجازفة، وقال ابن خزيمة صح الحديثان جميعاً، وكذا قال ابن حبان والحاكم. فتح الباري 4/ 177. درجة الحديث: صحيح كما قال الشارح وغيره.

المبارك بن عبد الجبار (¬1) أخبرنا القاضي أبو الطيب (¬2) أنا علي ابن عمر (¬3) نا عبد الله بن محمَّد بن عبد (¬4) العزيز نا خالد بن مخلد (¬5) نا عبد الله (¬6) ابن المثنى عن ثابت (¬7) عن أنس قال (مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، بِجَعْفَرِ بْنِ أبي طَالِبٍ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فَقَالَ أفْطَرَ هذَانِ، ثُمَّ رَخَّصَ رَسُولُ الله، بَعْدَ ذلِكَ في الْحِجَامَةِ لِلصَّائِمِ) (¬8)، وهذا نص بين فيه ثلاث فوائد: ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) هو طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري، أبو الطيب، قاضي من أعيان الشافعية. ولد في طبرستان سنة 348 ومات سنة 450 هـ، واستوطن بغداد وولِّي القضاء بريع الكرخ. شرح مختصر المزني. طبقات الشافعية 5/ 12، وفيات الأعيان 2/ 307، تاريخ بغداد 9/ 358، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 247، طبقات الفقهاء للشيرازي 106، طبقات ابن هداية الله ص 150، النجوم الزاهرة 5/ 63. (¬3) علي بن عمر بن أحمد بن مهدي، أبو الحسن، الدارقطني تقدم. (¬4) عبد الله بن محمَّد بن عبد العزيز المرزبان، أبو القاسم، البغوي. حافظ للحديث، بغوي الأصل، ولد ببغداد سنة 213 ومات سنة 317 بها. طبقات الحنابلة 1/ 190، المنهج الأحمد 1/ 319، تاريخ بغداد 10/ 111، غاية النهاية 1/ 450، شذرات الذهب 2/ 275، العبر 2/ 170، تذكرة الحفاظ 2/ 348، واللباب 1/ 164. (¬5) خالد بن مخلد القَطَواني، بفتح القاف والطاء، أبو الهيثم، البجلي، مولاهم، الكوفي، صدوق يتشيع وله إفراد. من كبار العاشرة مات سنة 213 وقيل بعدها/ خ م كد ت س ق. ت 1/ 218 ت ت 3/ 116، تهذيب الكمال ج 1/ ل 363 ب. (¬6) عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري، أبو المثنى، البصري. صدوق كثير الغلط من السادسة/ خ ت ق. ت 1/ 445 وانظر ت ت 5/ 387 - 388 وتهذيب الكمال 2/ ل 372 أوالميزان 2/ 74. (¬7) ثابت البناني، بضم الموحدة ونونين مخففتين، أبو محمَّد، البصري. ثقة، عابد من الرابعة. مات سنة بضع وعشرين ومائة وله ست وثمانون سنة/ ع ت 1/ 115 ت ت 2/ 2، تهذيب الكمال 1/ 170 ل أ. (¬8) سنن الدارقطني 2/ 182، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 268 وقال: قال علي ابن عمر الدارقطني: كلهم ثقات ولا أعلم له علة. والحديث شاذ الإسناد والمتن، كما نقل ذلك الزيلعي عن صاحب التنقيح قوله: هذا حديث منكر لا يصح الاحتجاج به لأنه شاذ الإسناد والمتن .. وقال: ثم إن خالد ابن مخلد القطواني وعبد الله بن المثنى وإن كانا من رجال الصحيح فقد تكلم فيهما غير واحد من الأئمة. ولو سلم صحة هذا الحديث لم يكن فيه حجة لأن جعفر بن أبي طالب، رضي الله عنه، قتل في غزوة مؤتة وهي قبل الفتح. نصب الراية 2/ 480 - 481. وأورده الحافظ في الفتح من رواية الدارقطني ثم قال: ورواته كلهم من رجال البخاري إلا أن في المتن ما ينكر لأن فيه أن ذلك كان في الفتح وجعفر قتل قبل ذلك. فتح الباري 4/ 178. درجة الحديث: ضعيف.

صيام يوم عاشوراء

أحداهما: بين الحاجم والمحجوم. ثانيها: استقرار الحظر والمنع. ثالثها: نسخ ذلك بالرخصة، صحّحه علي بن عمر الحافظ. أما إنه وإن رجعنا إليه، كما يجب علينا في النظر، فقد بقي قول أنس في الصحيح انها تكره لموضع التغرير وذلك تعريض العبادة للفطر بضعف النفس عند إخراج الفضيلة، ويكون ذلك ثانياً من باب الاحتياط على العبادة فإن إحتاج إليها احتجم فإن ضعف أفطر. صيام يوم عاشوراء ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوم عاشوراء كانت تصومه قريش في الجاهلية، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قدم المدينة فوجد اليهود تصوم يوم عاشوراء وقالوا هذا يوم نجَّى الله فيه موِسى من فرعون وأغرق فرعون، وكانوا يلبسون فيه حليهم وشارتهم (¬1)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: نحْنُ أحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، وَصَامَهُ وَأمَرَ بِصِيَامِهِ .. وَكَانَ هُو الْفَريضَةَ حَتَّى فَرَضَ الله سُبْحَانَهُ رَمَضَانَ تَرَكَ عَاشُورَاءَ (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"هذَا يَوْمُ عَاشُورَاء وَلَمْ يكتُبِ الله عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ وَأنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ" (¬3). وكان يرسل إلى قرى الأنصار في يوم عاشوراء: (إنَّ مَنْ أصْبَحَ صَائِماً فَلْيُتَمَّ صِيَامَهُ وَمَنْ أكَلَ فَلْيُتمَّ بَقِيَّةَ يَومِهِ) (¬4) وقال: إنِّى لَا أحْتَسِبُ عَلَى الله أنْ يُكَفِّرَ ذنُوبَ سَنَةٍ (¬5) قَبْلَهُ. وقال رجل لابن عباس: كَيفَ أصُومُ ¬

_ (¬1) قال ابن الآثير: الشارة الرؤاء والمنظر الحسن والزينة. جامع الأصول 6/ 308. (¬2) متفق عليه. البخاري في الصوم باب صيام يوم عاشوراء 3/ 57، ومسلم في الصيام باب صوم يوم عاشوراء 2/ 792، والموطأ 1/ 299، وأبو داود 2/ 817، والترمذي 3/ 127 كلهم عن عائشة .. أما قوله: وكانوا يلبسون شارتهم وحليهم، فهذا من حديث أبي موسى الأشعري. البخاري في الباب السابق 3/ 57 وفي الفضائل 5/ 89، ومسلم في الباب السابق 2/ 796. (¬3) متفق عليه. البخاري في الصوم باب صوم يوم عاشوراء 3/ 57، ومسلم في الصيام باب صيام يوم عاشوراء 2/ 795، والموطّأ 1/ 299، والنسائي 4/ 204 كلهم عن حميد بن عبد الرحمن قال: سَمِعْت معَاوَيةَ ابْنَ أبي سفيانَ رَضِيَ الله عَنْهمَا يَخْطب يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقول: يَا أهْلَ الْمَدِينَةِ أيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: هذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَكتب الله عَلَيْكُمْ صِيَامَة .. (¬4) متفق عليه. البخاري في الصوم باب صوم الصبيان 3/ 48، ومَسلم في كتاب الصيام باب من أكل في عاشوراء فليكف بقية يومه 2/ 798 كلاهما عن الرُبَيِّعِ بنِتِ معْوَذٍ بْنِ عَفْرَاءَ قَالَتْ: أرْسَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إلَى قرَى الأنصَارِ التي حَوْلَ الْمَدِينَةِ منْ كَانَ أصْبَحَ صَائِماً فَلْيتِمَّ صَومَهُ .. (¬5) الترمذي 3/ 126، وهو جزء من حديث طويل رواه مسلم في الصوم باب صوم يوم عاشوراء والاثنين =

عَاشُورَاءَ؟ قَالَ: إِذَا رَأيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّم فَاعْدُدْ ثُم أصْبحْ في التَّاسِعِ صَائِماً، فَقُلُتُ: أهكَذَا كَانَ يَصُومُهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نعَمْ (¬1). وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لَئِنْ عِشْتُ إِلَى قَابِلٍ لأصُومَنَّ التَّاسِعَ" (¬2). وهذه هي الأحاديث الصحاح تفرَّقت فنظمناها لكم، وأما قوله، - صلى الله عليه وسلم -: (نَحْنُ أحَق بِمُوسَى مِنْكُمْ) فلم يكن ذلك باتباع لليهود ولا اقتداء بهم، ولكنه أُوحِي إليه (¬3) في ذلك ففعل بمقتضاه، ولكن فيه الاقتداء بموسى، عليه السلام، وموسى ممن أُمِرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، أن يقتدي به في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (¬4). وقد روي عنه في يوم عاشوراء: (إِنَّ فِيهِ تِيْبَ عَلَى آدَمَ، وفيه اسْتَوَتْ سَفِينَة نُوحٍ عَلَى الْجُودي، وفيه أُنجِيَ مُوسَى مِنْ فِرْعَوْنَ وَفِيهِ وُلدَ عِيسَى) رواه (¬5) ابن (¬6) رُشَيْد عن أبي سعيد الأنصاري (¬7) في كتاب ........... ¬

_ = والخميس 2/ 818 - 819 من حديث عبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة. درجة الحديث: حسَّن إسناده عبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول 6/ 312، والحق أن الحديث صحيح. (¬1) مسلم في الصيام باب أي يوم يُصام في عاشوراء 2/ 797، وأبو داود 2/ 819، وابن خزيمة 3/ 291، وشرح السنة 6/ 338، والبيهقي في السنن 4/ 287 كلهم عن الحكم بن الأعرج قال: انْتَهَيْت إلَى ابنِ عَباسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ رداءهُ في زَمزمٍ فَقلت أخْبِرني عَنْ صَومِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ .. (¬2) مسلم في الصيام باب أي يوم يصام في عاشوراء 2/ 797 - 798، وأبو داود 2/ 818، وشرح السنة 6/ 340، والسنن الكبرى 4/ 287 كلهم عن أبي غطفان عن ابن عباس. (¬3) هذا القول معزو للمازري. قال الحافظ: واستشكل رجوعه - صلى الله عليه وسلم - إلى اليهود في ذلك، وأجاب المازري باحتمال أن يكون أُوحِي إليه بصدقهم، أو تواتر عنده الخبر بذلك، زاد عياض: أو أخبره من أسلم منهم كابن سلام .. ثم قال: غاية ما في القصة أنه لم يحدث له بقول اليهود تحديد حكم، وإنما هي صفة حال وجواب سؤال. فتح الباري 4/ 248. (¬4) سورة الأنعام آية 90. (¬5) داود بن رشيد، بالتصغير، الهاشمي، مولاهم الخوارزمي، نزيل بغداد من العاشرة مات سنة 239 ت 1/ 231 ت ت 3/ 184، تهذيب الكمال 1/ ل 384. (¬6) في (ك) و (م) رشدين، والصواب رشيد، كما في ترجمته عند الجميع. (¬7) أبو سعيد الأنصاري، ويقال أبو سعد، وهو عمر بن حفص بن ثابت الحلبي مقبول ت 2/ 427، وانظر ت ت 12/ 108، وتهذيب الكمال 3/ ل 1608، والتاريخ الكبير للبخاري 2/ 365 - 366، والجرح والتعديل 3/ 178، والكنى للدولابي ص 186، وقد ذكره فيمن كنيته أبو سعد، والذي يظهر أنه أبو سعيد، كما ظهر من صنيع الحافظ فقد قال أبو سعيد الأنصاري ويقال أبو سعد، روى عن زكريا ابن أبي =

..................................... الصحابة (¬1) له عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن قيل: وكيف تصومه الوحوش؟ قلنا: ليس الصوم في الآدميين على صفة واحدة؛ فقد كان صوم من تقدم بأن لا يتكلم، فلا يبعد أن يضع الباري تعالى للوحوش إمساكاً يكون لهم صوماً، ولقد ذكرتُ يوماً هذا الحديث فعمد بعض الجهّال إلى دابته وجعل بين يديها تبناً فلما أكلت قال: أين ما ذكر النبي عن الوحوش، وجوابه مع التجهيل ما تقدم، فإن قيل: عاشوراء فاعولاء من ع ش ر (¬2)، فكيف قال في الحديث الصحيح: (أصْبح يوم التاسِع صَائِماً)، وبناء فاعولاء من التاسع تاسوعاء؟ قلنا: قد ترددنا في هذا الحديث زماناً، وسألنا عنه أقواماً فوقف في الوجوه هو وحديث عائشة رضي الله عنها (آلَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، مِنْ نِسَائِهِ شَهْراً، فَلَمَّا كَانَ صَبيحَةَ تِسْع وَعَشْرِينَ أعُدُّهُنَّ عَدّاً دَخَلَ عَلَىَّ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إنكَ آلَيْتَ شَهْراً؟ قَالَ: إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ) (¬3)، فما هو إلا أن يئست من علم ذلك حتى أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عبد القادر ابن يوسف (¬4) البغدادي قال: أنا ابن بشران (¬5) قال أنا أبو عمر ¬

_ = زائدة وعنه مروان الرقي. قال مسلم وغيره: أبو سعد، عمر بن حفص بن أبي ثابت الأنصاري الحلبي من رهط عبد الله بن رواحة، روى عن أبيه ومسعر وعنه داود ابن رشيد وهشام بن عمار وأبو همام الوليد بن شجاع ت ت 12/ 108. (¬1) والحديث رواه ابن حبان في كتابه المجروحين في ترجمة حبيب بن أبي حبيب الخزططي المروزي، من أهل مرو، يروي عن أبي حمزة وإبراهيم الصائغ، روى عنه أهل مرو، وكان يضع الحديث على الثقات، لا تحل كتابة حديثه ولا الرواية عنه إلا على سبيل القدح فيه. روى عن إبراهيم الصائغ عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وساق الحديث. المجروحين 1/ 265، وكذا قال الذهبي وساق الحديث في ترجمته .. ثم قال، وذكر (أي حبيب بن أبي حبيب) حديثاً طويلاً موضوعاً .. الميزان 1/ 451، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات 2/ 202، وابن عراق في تنزيه الشريعة 2/ 150، وأورده صاحب مواهب الجليل 2/ 403. درجة الحديث: موضوع، كما قال الذهبي. (¬2) قال ابن منظور عاشوراء وعشوراء، يمدان: اليوم العاشر من المحرم، وقيل التاسع. قال الأزهري: ولم يسمع من أمثلة الأسماء اسماً على فاعولاء إلا احرفاً قليلة .. لسان العرب 4/ 569. (¬3) مسلم في كتاب الطلاق باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقول الله تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} 2/ 1111 - 1113، والنسائي 4/ 136 - 137. (¬4) أحمد بن عبد القادر بن يوسف، أبو الحسين المقرى، قرأ عليه أبو الكرم الشهرزوري، غاية النهاية في طباقات القراء 1/ 70. قال الذهبي مات سنة 492، تذكرة الحفاظ ص 1230. (¬5) هو محمد بن عبد الملك بن محمَّد بن عبد الله بن بشران. تقدم.

مسألة أصولية

الزاهد (¬1) في كتاب يوم وليلة (¬2): قال العرب في أشهرها تقدم النهار إِليها قبل الليل، وتجعل الليلة المستقبلة لليوم الماضي، فعلى هذا مخرج الحديث. وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ لأصُومَنَّ التَّاسِعَ) فمخرجه على العدد المعروف. قال علماؤنا، رضي الله عنهم: ويحتمل أن يريد مخالفة اليهود، ويحتمل أن يريد به لأصومنَّ التاسع مع (¬3) العاشر، وقد تعلق (ح) بقوله، - صلى الله عليه وسلم - (مَنْ أصبَحَ صَائِماً فَلْيتمَّ صَوْمَهُ) (¬4) على أن الصوم بنيَّة من النهار (¬5) يصح، وليس في ذلك حجة من وجهين: أما أحدهما: فإنه يحتمل أن يأمرهم بالصيام ويقف القضاء والإجزاء على دليل آخر، وقد بيناه، ويحتمل أن يكون الأمر إِنما بلغ إِليهم في ذلك الحين فلزمتهم الشريعة وتوجه عليهم بالأمر بالصوم حينئذ. مسألة أصولية: ومن علمائنا من قال: إِن صوم يوم عاشوراء أجزأ بنيَّة من النهار ثم نسخ الصوم في عاشوراء بشهر رمضان. ومنهم من قال: إِن كان نسخ فرض الصوم فلم ينسخ فرض النية (¬6) ولا وقتها، والصحيح أن الحكم إذا نسخ نسخ بجميع صفاته؛ إذ يمتنع أن ينسخ ¬

_ (¬1) هو محمَّد بن عبد الواحد بن أبي هاشم، أبو عمر المطرز، المعروف بغلام ثعلب، أحد أئمة اللغة المكثرين من التصنيف، ولد سنة 261 ومات سنة 345. إرشاد الأريب 7/ 26، تاريخ بغداد 2/ 356، المنتظم 6/ 380، لسان الميزان 5/ 268، طبقات الحنابلة 2/ 67، سير أعلام النبلاء 15/ 508، نزهة الألباء 190 - 195. (¬2) لم أطلع عليه، وقد ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 15/ 508. (¬3) قال الحافظ: قال بعض أهل العلم يحتمل أمرين: أحدهما: أراد نقل العاشر إلى التاسع. والثاني: أراد أن يضيفه إليه في الصوم، فلما توفي - صلى الله عليه وسلم - قبل بيان ذلك كان الاحتياط صوم اليومين، وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر، والله أعلم. فتح الباري 4/ 246. (¬4) متفق عليه. تقدم. (¬5) وانظر شرح فتح القدير لابن الهمام 2/ 47، والبناية 3/ 271. (¬6) قال الآبى: قيل كان صيامه في صدر الإِسلام قبل فرض رمضان واجباً ثم نسخ علي ظاهر الحديث، وقيل كان سنّة مرغباً فيه ثم خفف فصار مخيراً فيه، وقال بعض السلف: إن فرضه لم يزل باقياً لم ينسخ وانقرض القائلون بهذا وحصل الإجماع اليوم على خلافه، وكره ابن عمر قصد صيامه بالتعيين. شرح الآبي على مسلم 3/ 251.

صيام يوم العيد والدهر

الأصل ويبقى الوصف (¬1)، وتمام هذه المسألة في التخصيص. صيام يوم العيد والدهر ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (أنَّهُ نهى عَنْ صِيَامِ يَوْمَن يَوْمِ الْفِطْرِ وَيوْمِ الأضْحَى وَقَالَ: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ وَالْآخَرُ يَوْم تَأكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ) (¬2) وأرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وصرح بقوله (يُنَادي عَلَى أَيَّام منىِّ إنهَا أَيَّامُ أكلٍ وَشُرْبٍ) (¬3). وثبت في الصحيح عن ابن عمر أنه أرخص في صيامها للمتمتع (¬4) لقول الله تعالى {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} (¬5)، ولا يتفق ذلك إلا في أيام مني، فلما كانت ضرورة سامحت فيها الشريعة، وكذلك يروى عن عائشة رضي الله عنها (¬6). والأيام المنهيُّ عن صيامها ثمانية: أيام مني ثلاثة ويوما العيد ¬

_ (¬1) في (م) الفرع. (¬2) متفق عليه. البخاري في الصوم باب سهم يوم الفطر 3/ 55، ومسلم في الصوم باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى 2/ 799، والموطأ 1/ 178، والبغوي في شرح السنة 6/ 349 كلهم عَنْ أبي عُبَيْدٍ، مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ، قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ فَصَلَّى ثُم انْصَرَفَ فَخَطَبَ الناسَ فَقَالَ .. (¬3) مسلم في كتاب الصيام باب تحريم صوم أيام التشريق، من رواية أبي الزبير عن ابن كعب ابن مالك عن أبيه أنه حدثه أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، بعثه وأوس بن الحدثان (أيَّامَ التشْرِيقِ فَنَادى أنَّهُ لَا يَدْخلِ الْجَنَّةَ إلَّا مؤْمِنٌ وَأَيام مِنى أَيَّامُ أَكلٍ وشُرْبٍ)، مسلم 2/ 800. وكذلك عنده عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "أَيَّامُ التشْرِيقِ أَيَّام أَكلٍ وَشُرْبٍ" مسلم في الباب السابق 2/ 800. (¬4) البخاري في الصوم باب صيام أيام التشريق 3/ 56، وبعد أن ساق حديث ابن عمر قال: وعن ابن شهاب عن عروة عن عائشة مثله، ورواه الدارقطني من طريق عبد الله بن عيسى عن الزهري عن عروة عن عائشة، وعن سالم عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قالا فذكره. سنن الدارقطني 2/ 285، ومن نفس الطريق أخرجه الطحاوي في معاني الآثار 2/ 243، والبيهقي في السنن 4/ 298، والدارقطني 2/ 186 من طريق يحيى بن سلام عن شعبة عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى عن الزهري. وقال الدارقطني: يحيى بن سلام ليس بالقوي، وكذلك رواه الطحاوي من نفس الطريق. معاني الآثار 2/ 243. (¬5) سورة البقرة آية 196. (¬6) رواه مالك في الموطأ 1/ 426 عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، والبخاري في الباب السابق 3/ 56، وقال تابعه إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب .. قلت يقصد بذلك مالك. قال الحافظ في الفتح 4/ 243 قوله (أي قول البخاري): =

ويوم الجمعة. وثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ وَلَا لَيْله بِقِيَامٍ) (¬1) وَيوْم السبْتِ، روى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، نهى عن صومه، وقال: إِنْ لَمْ يَجِدْ أحَدُكمْ إلَّا لَحَا شَجَرَةٍ فَلْيَمْضَغْهُ (¬2). ويوم الشك:. روى عمار بن ياسر وغيره، واللفظ لعمار، قال: (مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أبَا الْقَاسِمِ) (¬3) واختلف الناس في النهي عن صوم يوم العيد، فقال عامة العلماء إنها شريعة غير معلّلة. وقال (ح): إن النهي معلّل بعلة وهي أن الناس أضياف الله أذن لهم في الأكل عنده يوم الفطر ومن قربانهم يوم النحر فصار النهي لمعنى (¬4)، وخالف بهذا النهي عن الليل إذ صار النهي فيه لغير معنى، وهذا إنما أرادوا أن يركَّبوا عليه مسألة، وهي من نذر أن يصوم يوم العيد، فقال علماؤنا النذر باطل، وقال (ح) يلزمه النذر ويقضي لأن النبي ليس لمعنى في المنهي عنه (¬5)، وهذا ¬

_ = وتابعه إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب وصله الشافعي، قال: أخبرني إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة في الْمُتَمَتِّعِ إذا لَمْ يَجِدْ هَدْياً لَمْ يَصُمْ قَبْلَ عَرَفَةَ فلْيَصُمْ أَيَّامَ مِنىً، قال: وعن سالم عن أبيه مثله، ووصله الطحاوي من وجه آخر عن ابن شهاب بالإسنادين بلفظ: إنهما كانا يرخصان للمتمتع، فذكر مثله. لكن قال أيام التشريق، وهذا يرجح كونه موقوفاً لنسبة الترخيص إليهما؛ فإنه يقوي أحد الاحتمالين في رواية عبد الله بن عيسى عن الزهري، قال فيها لم يرخص وأبهم الفاعل، فاحتمل أن يكون مرادهما من له الشرع فيكون مرفوعاً، أو من له مقام الفتوى في الجملة فيحتمل الوقف، وقد صرح يحيى بن سلام بنسبة ذلك إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وإبراهيم بن سعد بنسبة ذلك إلى ابن عمر وعائشة، ويحيى ضعيف، وإبراهيم من الحفّاظ فكانت روايته أرجح، ويقويه رواية مالك، وهو من حفّاظ أصحاب الزهري فإنه مجزوم عنه بكونه موقوفاً. وقال النووي: أحاديث ابن عمر وعائشة في صوم المتمتع صحيحة. المجموع 6/ 442. (¬1) مسلم في الصوم باب كراهية صيام يوم الجمعة منفرداً 2/ 801، وشرح السنة 6/ 360 كلاهما عن أبي هُرَيْرة. (¬2) الترمذي 3/ 120 وقال حديث حسن، وأبو داود 2/ 805، وابن خزيمة 3/ 317، وابن حبان انظر موارد الظمآن ص 234، والحاكم في المستدرك 1/ 435 وقال صحيح على شرح البخاري ولم يخرجاه، والبغوي في شرح السنة 6/ 361 وأحمد 6/ 368 كلهم عن عَبْدِ الله بْنِ بِسْرٍ السَّلَمِيِّ عَنِ اخْتِهِ الصَّمَّاءِ أَنَّ النَّبيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ .. " والحديث ضعفه الشارح، كما سيأتي، ولعله نظر إلى اضطرابه، إلا أن الشيخ ناصر رجَّح أن هذا الاضطراب يقدح في الحديث .. انظر إرواء الغلل 4/ 118 - 122، وقال النووي صحّحه الأئمة المجموع 6/ 439، وقال الحافظ صحّحه ابن السكن انظر تلخيص الحبير 2/ 229، كما صحّحه الحاكم والذهبي ومصطفى الأعظمي في تعليقه على ابن خزيمة. وقوى إسناده شعيب الأرناؤوطي في تعليقه على شرح السنة 6/ 361. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 2/ 55 - 56 وعمدة القارئ 11/ 114. (¬5) انظر شرح فتح القدير 2/ 101.

فاسد، بل النهي شريعة وقوله (إنّ الْخَلْقَ أضْيَافُ الله تَعَالَى يَبْطل بِزَمَانِ الْليْلِ فَإنَّهُمْ أضْيَافُه كلَّ لَيْلَةٍ وَمَنْ نَذرَ الْليْلَ لَا يَلْزَمُهُ فِيهِ قَضَاءٌ وَيَبْطُلُ بِزَمَانِ الْحَيْضِ فَإنَ الْحَائِضَ لَوْ نَذَرَتْهُ لَمْ يَلْزِمْهَا قَضَاؤُهُ)، وأما أيام مني فقد عينها النبي - صلى الله عليه وسلم -، للأكل والشرب فتعينت لذلك كزمان الليل، لكن كما بيَّناه أرخص فيها للمتمتع ضرورة. وأما اليوم الرابع فاختلف العلماء فيه في ابتداء صومه وفي لزوم نذره في اتصال التتابع به، والأصل في اختلافهم أن عبادته تنقضي في صبحه وليس معموراً بها كله، وإن كانوا قد اختلفوا في ذلك، والصحيح أنه ملحق بها لتناول اللفظ له معها. وأما يوم الجمعة فإنما نُهي عنه لما روى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال (لَا صَوْمٌ يَوْمَ، عِيدٍ) (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، في يوم الجمعة (هذَا عِيدُنَا أهْلُ الْإسْلاَمَ) (¬2). ¬

_ (¬1) النسائي في سننه الكبرى 2/ ل 53 ب، قال: أخبرني محمَّد بن قدامة المصيصي عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم عن سهم عن قزعة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "لا صومٌ يَوْمَ عِيد" وعزاه العيني للنسائي مثل الشارح: انظر عمدة القاري 11/ 104. درجة الحديث: صحيح من خلال إسناده. (¬2) رواه أحمد من طريق أبي بشر (*) عن عامر بن ليدن (**) الأشعري عَنْ أبِي هريرَةَ قالَ: سَمِعْتُ رَسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يَقول: إنَّ يَوْمَ الْجمعَةِ يَوْمُ عِيدٍ فَلاَ تَجْعَلوا يَوْمَ عِيدكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ إلَّا أنْ تَصُومُوا قَبْلهُ أوْ بعْدَهُ" الفتح الرباني 14810، والحاكم في المستدرك 1/ 437 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرّجاه، إلا أن أبا بشر هذا (يعني أحد رجال السند) لم أقف على اسمه وليس ببيان ابن بشر ولا بجعفر ابن أبي وحشية، قال: وله شاهد بغير هذا اللفظ مخرَّج في الكتابين (يعني الصحيحين)، وقال الذهبي: قلت مجهول وشاهده في الصحيحين. وقال الحافظ: الحديث أخرجه البزار، وقال: أبو بشر مؤذن مسجد دمشق. تلخيص الحبير 2/ 215: أبو بشر إن كان هو ما قال البزار فقد وُثِّق، قال الحافظ. ...................... (*) أبو بشر مؤذن مسجد دمشق روى عن عمر بن عبد العزيز وراشد بن سعد وعنه معاوية ابن صالح الحضرمي. روى أصبغ بن زيد الورّاق عن أبي بشر عن أبي الزاهرية، فيحتمل أن يكون هو هذا. قال ابن سعد: مات سنة 130، قال الحافظ: قلت قال العجلي أبو بشر المؤذن شامي تابعي ثقة، وقال ابن معين: أبو بشر عن أبي الزاهرية لا شيء. ت ت 12/ 21، وانظر تهذيب الكمال 8/ 790 ب وقال: روى عن عامر بن ليدن الأشعري وعمر بن عبد العزيز. (**) عامر بن ليدن الأشعري: روى عنه أبو بشر، مؤذن دمشق، لكن حديثه مرسل؛ رواه موصولاً بأبي هريرة، وصله أبو صالح الكاتب، لكن الذي أسقط أبا هُريرة منه أسد بن موسى وهو أوثق من أبي صالح فقال: ثنا معاوية بن صالح حدثني أبو بشر عن عامر بن ليدن الأشعري قال: سمِعْتُ =

وقال: (إنَّ هذا يَوْمٌ جَعَلَهُ الله عِيداً) وتحديد يوم عيد، فكره صومه، أصله الفطر والأضحى. وغمر الدارقطني الحديث، وقال: قد ورد موقوفاً (¬1)، واعلموا أن ورود الحديث تارة موقوفاً وتارة مسنداً ليس بغمز فيه، فإن الراوي قد يخبر عن نفسه بما سمع من نبيه والحديث صحيح لا إشكال فيه ولا معدل لأحد عنه. وأما يوم السبت فلم يصح فيه الحديث، ولو صح لكان معناه مخالفة أهل الكتاب وأما يوم الشك فقد تقدم .. وأما صوم الدهر فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو في الحديث الصحيح "صُمْ يَوْماً وَأفْطرْ يَوْماً" قَالَ: إنِّي أَطِيقُ أفْضل مِنْ ذلِكَ، قالَ: "لَا أفْضَلُ مِنْ ذلِكَ" وقال:"لَا صَامَ منْ صَام الْأبَدَ ثَلاثاً" (¬2) .. وقال علماؤنا: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن صم الأبد؛ هو لمن صام فيه الأيام المنهي عنها بدليل قول حمزة بن عمرو له إني رجل أسرد الصوم، ولم ينكر عليه، - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، ولو كان ممنوعاً لما أقره على الخيرية عن نفسه وصار محتمل الحديثين على حالين .. وأما من كان فيه رجاء للقوة وتتوكف منه المنفعة ففطره أفضل من صومه، وفي مثله لا يُقال: لا صام من صام الأبد؛ لأنه يهدم الأعلى بالأدنى، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة بقولي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صُمْ صوم أخِي داوُدَ؛ كان يصُومُ يَوْماً ويفْطِرُ يَوْماً وَلَا يَفِرُّ إذا لَاقَى". وأما من لا منفعة في بدنه، ولا في علمه فالصوم أفضل له، وقد اتفق العلماء على أنَّ من نذر صوم الدهر فإنه يلزمه، وترَّكب على هذا فرع غريب وهو إذا أفطر بعد ذلك فيه ¬

_ رَسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يَقُول: "إنَّ يَوم الْجُمُعَةِ يَوم عِيدِكمْ" الحديث. تجريد أسماء الصحابة للذهبي 1/ 287. (¬1) لم أجد كلام الدارقطني هذا في السنن, ولعله في العلل. درجة الحديث: صححه الشارح وحسَّنه الهيثمي في مجمع الزوائد 3/ 199؛ والراجح أنه صحيح وله شاهد في الصحيحين من حديث محمَّد بن عباد قال: سألت جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، نهى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم. قال البخاري: زاد غير أبي عاصم أن يفرد بصوم. البخاري 3/ 54 ومسلم 2/ 801 وزاد: نعم ورب هذا البيت. (¬2) متفق عليه. البخاري في الصوم باب صوم داود عليه السلام 3/ 52، ومسلم في الصوم باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرَّر به، 4/ 812 - 815، والبغوي في شرح السنة 6/ 362 كلهم عن أبي العباس الشاعر عن عبد الله بن عمرو. (¬3) تقدم.

فطر المريض

متعمَّدأ فقال كافة الناس: ليستغفر الله ولا شيء عليه، وقال ابن نافع (¬1) وعبد الملك (¬2): عليه الكّفارة لأنه لا يجد محلاً فارغاً للقضاء فتكون الكفارة عوضاً منه، وهذا ضعيف لأنه ليس فيه خبر ولا له نظير في نظر. فطر المريض (¬3) تفطَّن مالك، رضي الله عنه، في المريض لنكتة وهي أن المريض يفطر بمجرد المشقة وإن لم يخف تزايد المرض. وقال غيره من العلماء: لا يفطر إلا إذا خاف زيادة المرض (¬4)، وقول الله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (¬5). قال مالك (¬6)، رضي الله عنه: فأرخص الله تعالى للمسافر في الفطر بنفس السفر، فكذلك أرخص للمريض بنفس المرض (¬7)، فإن قيل: إنما أرخص بالفطر للمسافر لأجل المشقة باتفاق من الأمة. وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله تعالى: {يُريدُ الله بِكُمُ اليسْرَ} (¬8). لكن المشقة لمَّا كانت تختلف في السفر باختلاف حال الناس في الحضر وتعذر حصر ذلك، علّق الحكم على ضابط ظاهر منحصر وهو السفر كالعدَّة وُضعت لبراءة الرحم، ولا شغل ¬

_ (¬1) هو عبد الله بن نافع، مولى بني مخزوم، المعروف بالصائغ، أبو محمَّد، فقيه تفقَّه بمالك وروى عنه. توفي بالمدينة في رمضان سنة 186. من آثاره تفسير الموطّأ. معجم المؤلفين 6/ 158، الديباج 1/ 409. (¬2) عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون المدني المالكي، أبو مروان، فقيه من آثاره كتاب كبير في الفقه. هدية العارفين 1/ 623. وانظر الديباج 2/ 6 ومعجم المؤلفين 6/ 184. (¬3) الموطّأ 1/ 302، قال يحيى: سمعت مالكاً يقول: الأمر الذي سمعت من أهل العلم أن المريض إذا أصابه المرض، الذي يشق عليه الصيام معه ويتعبه ويبلغ ذلك منه فإن له أن يفطر، وكذلك المريض الذي اشتد عليه القيام في الصلاة ... (¬4) قال القرطبي: قال جمهور العلماء: إذا كان به مرض يؤلمه ويؤذيه، أو يخاف تماديه، أو يخاف أن يزيده صح له الفطر. قال ابن عطية: وهذا هو مذهب حذّاق أصحاب مالك وبه يتناظرون. تفسير القرطبى 2/ 276. وقال ابن قدامة: المرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه. قيل لأحمد: متى يفطر المريض؟ قال: إذا لم يستطع. قيل: مثل الحمى؟ قال: وأي مرض أشدّ من الحمى. وحُكي عن بعض السلف أنه أباح الفطر بكل مرض حتى من وجع الأصبع والضرس. المغني 3/ 155. (¬5) سورة البقرة آية 184. (¬6) ليست في (ت) و (م). (¬7) الموطّأ 1/ 302. (¬8) سورة البقرة آية 184.

نكتة أصولية

في اليائسة والصغيرة حتى تبرى الرحم منها، ولكن لما تعذَّر ضبط سن الصغر من الكبر وضبط حال اليائس من الحائض أوجب الله تعالى العدة على الكل صيانة للفراش وحفظاً للأنساب (¬1) أما المرض فهو أمر منضبط؛ كل أحد أعلم بنفسه، فإن أمن زيادة وهي العلة التي لأجلها أبيح له الفطر صام، وإن خاف الزيادة أفطر (¬2). قلنا: هذا الذي ذكرتموه صحيح وليس بمعترض على كلامنا ولا على نكتة مالك، رضي الله عنه، فإنه الله تعالى علَّق الفطر بنفس المرض وصوم المريض مشقة وإن لم يخف الزياده والله قد رفع المشقة بقوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكمُ اليسْرَ}. نكتة أصولية: فإن قيل قد قال الله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ومن أصول القواعد، باتفاق من أهل السنة، أنه لا يكون ما لا يريد تعالى، ونحن نرى مريضاً يصوم ومسافراً يصوم، فيكف وقع هذا وهو أخبر أنه لا يريده؟ قال القاضي أبو بكر: قول الله تعالى {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ} يأمركم، وعبَّر بالإراده عن الأمر مجازاً، وهذا الطريق في الاستعارة (¬3)، وإن كانت مهيعاً، لكن مرتبته أجلّ من هذا الجواب؛ لأن التأويل إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة ها هنا لأن معنى قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسْرَ} يريد أن يكلَّفكم اليسر ولا يريد أن يكلَّفكم العسر، وكذلك فعل تعالى كما أخبر في وجهي النفي والإثبات (¬4). ¬

_ (¬1) انظر المغني لابن قدامة 8/ 105. (¬2) نقل الزرقاني عن ابن عبد البر قوله: هذا شيء يؤتمن عليه المسلم؛ فإذا بلغ المريض حالاً لا يقدر معها على الصيام أو تيقن زيادة المرض به حتى يخاف عليه جاز الفطر. قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} فإذا صحّ كونه مريضاً صح له الفطر- شرح الزرقاني 2/ 184. (¬3) إننا نؤمن بما ورد عن الله على مراد الله دون أن نؤَؤل من ذلك شيئاً اقتداء بسلفنا الصالح في الصفات. (¬4) قال الحافظ ابن كثير: انما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار لإرادته لكم اليسر، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم. مختصر ابن كثير 1/ 162. وقال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة والأصل فيه قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} والمرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو يُخشي تباطؤ برئه .. المغني 3/ 155.

الصيام عن الميت

الصيام عن الميت ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في الصِحاح أنه قال: "مَنْ مَات وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وليُّهُ" (¬1). وعن ابن عباس أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - "فَقَالَتْ: يَا رَسولَ الله إن أمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْها صَومٌ أفَأقْضِيه عَنْهَا؟ ... إلى قولهْ: فَدَيْنُ الله أحَق أنْ يُقْضَى" (¬2). واختلف الناس في القول به، فمن قال به أحمد (¬3) بن حنبل، وقال الحسن بن أبي الحسن: إن صام عنه ثلاثون رجلاً من قومه يوماً أجزأه (¬4) .. وهذه مسألة تصعب على الشاذين إذا صدمتهم هذه الظواهر، وتسهل على العالِمين (¬5)، وخذوا فيها، وفي أمثالها، دستوراً يسهل عليكم السبيل ويوضح لكم عن الدليل كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَهُ عَنْهُ وَليُّهُ" .. قلنا: لا يخلو هذا الميت أن يكون قَدر على الصوم وتركه، أو لم يقدر قط عليه، فإن لم يقدر عليه لم يجب عليه شيء، وإن قدر عليه وتركه مختاراً فكيف تشتغل به ذمة وليه .. وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِزةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬6) وقال تعالى: {وَأَنْ ليْسَ ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في الصوم باب من مات وعليه صوم 3/ 46، ومسلم في الصوم باب فضل الصيام عن الميت 2/ 803، وأبو داود 2/ 791 - 792. قال أبو داود: هذا في النذر، وهو قول أحمد بن حنبل، كلهم عن عائشة. (¬2) متفق عليه. البخاري في الصوم باب ما جاء في الصوم عن الميت 3/ 46، ومسلم في الصوم باب قضاء الصيام عن الميت 2/ 804. (¬3) انظر المغني 2/ 153 - 153، وشرح السنة 6/ 326، وفقح الباري 4/ 193. (¬4) علّقه البخارى في الصوم باب من مات وعليه صوم 3/ 46، قال الحافظ: وصله الدارقطني في كتاب الذبح من طريق عبد الله بن المبارك عن سعيد بن عامر، وهو الضبعي، عن أشعث عن الحسن فيمن مات وعليه صوم ثلاثين يوماً فجمع له ثلاثون رجلاً فصاموا عنه يوماً واحداً أجزأ عنه. قال النووي في شرح المهذب: هذه المسألة لم أر فيها نقلاً في المذهب وقياس المذهب الإجزاء. وقال: قلت: لكن الجواز مقيَّد بصوم لم يجب فيه التتابع لفقد التتابع في الصورة المذكورة. فتح الباري 4/ 193 وانظر المجموع 6/ 371. أقول: هذا الأثر فيه أشعث بن إسحاق بن سعد بن مالك بن هانئ الأشعري القمي، ابن عم يعقوب، صدوق من السابعة. ت 1/ 79 وقال في ت ت: وثقة النسائي وابن حبان ت ت 1/ 350. درجة الأثر: حسن. (¬5) في (ك) و (ص) على أهل العلم، وفي (م) العلماء. (¬6) سورة الزمر آية 7.

لِلْإنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} (¬1) .. وهاتان الآيتان محكمتان عامتان غير مخصوصتين، ركن في الدين، واصل للعالمين وأم من أمهات الكتاب المبين، إليها ترد البنات وبها يستنار في المشكلات، وقد عارضت هذه الأحاديث ظاهرها وباطنها فكان جعل القرآن أمّاً والحديث بنتاً يتناول واجباً في النظر؛ فإذا ثبت هذا فقوله: "أرَأيتِ لَوْ كَانَ عَلَى اُمِّكِ ديْنَ أكُنْتِ تَقْضِيه" إشارة إلى ما تنبعث إليه نفوس الأبناء والأولياء إلى مراعاة الآباء والأقرباء في تحمّل ديونهم وحفظ أعراضهم ومطابقة أغراضهم، حتى أن أهل الجاهلية كانوا ينحرون على قبر الكريم بعد مماته إحياء لفعله في حياته (¬2)، فدين الله أحق أن يُقضى. فإن قيل: وكيف يقضى؟ قلنا: جبر الشيء قد يكون بصورته وقد يكون بنظيره شرعاً؛ فلن تمكَّن من صورته فَبِهَا وَنَعِمَتْ، وإن تعذر فالنظير الشرعي. وقد كان ما اختل من الصوم للحي يجبره بالقضاء وقد تعذر بالصدقة والكفارة، وقد أمكنت الصدقة للولي ولو تفطّن لهذه الأغراض الحسن وأحمد لما تاهوا (¬3) عن سبيل المسألة، ولتفطّنوا إلى ما تفطَّن له مالك (¬4)، رضي الله عنه، إذ قال: (لَا يُصَلِّي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ وَلَا يَصُومُ أحَدٌ عَنْ أحَدٍ) فإن قيل هذا رأيكم ولا يرد نص الحديث بالرأي قلنا: حدث حدثان امرأة فإن أبت فأربع (أو فأربعة) (¬5)، فإن أخذنا برواية مَنْ قال أربع سكتنا عنه، والسكوت جواب. وإن أخذنا برواية من قال أربعة (¬6)، وهو أشبه بالرفق قلنا: وكان هذا الذي تقدّم كلامنا، أو رأينا، إنما استقرينا أدلة الشريعة ودخلنا إليها من أبوابها إذ ليس لها ¬

_ (¬1) سورة النجم آية 39. (¬2) قال الخطابي: كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد يقولون: نحن نجازيه على فعله ليأكلها السباع والطير فيكون مطعماً في مماته كما في حياته. شرح السنة 11/ 227. قلت: ولا يخفى على المسلم العاقل أن ذلك لا يجوز في عهد الإِسلام بل ذلك من عادات الجاهلية فلا يجوز الذبح على القبور اليوم. (¬3) كذا في جميع النسخ وفي المسالك ل 307 تاها ولعلها هي الصواب. (¬4) وغيره كالشافعي في الجديد وأبي حنيفة. انظر فتح الباري 4/ 193. (¬5) زيادة ليست في (ك) ولا (ص). (¬6) لعل هذا تقريع على محذوف، ولم نجد بعد البحث في النسخ، التي بين أيدينا، هذا المحذوف، ولم يسق هذا الكلام الغير واضح في المسالك بل. اكتفى بقوله: وأما الحسن وأحمد فإنهما تاها عن المسألة وسبيلها ولم يتفطّنا لِما تفطّن له مالك إذ قال: (لايُصَلِّي أحدٌ عَنْ أحَدٍ وَلاَ يصومُ أحدٌ عَنْ أحَدٍ) والصحيح من هذه المسألة أن هذه عبادة مختصة بالبدن فلم تدخلها النيابة كالصلاة. المسالك ل 307.

قضاء رمضان والكفارات

باب واحد، ورددنا بناتها إلى أمَّهاتها لتُعلم أنسابها حسب ما أمرنا به في قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} إلى قوله: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (¬1) المعنى: وأمَّا الذين في قلوبهم هدى فيردون البنات الَمشكلات إلى الأمهات البينات؛ فأنتْ إن اتبعت حديثاً واحداً دون أن تضربه بسائر الآيات والأحاديث وتستخلص الحقَّ من بينها فأنت ممن في قلبه زيغ، أوعليه رين، والذي تفطَّن له مالك، رضي الله عنه، تلقَّفه من عبد الله بن عمر تعليماً لا تقليداً (¬2). قضاء رمضان والكفارات فيها أحكام كثيرة معظمها أربعة: الأول: وقت فعلها. أما قضاء رمضان فوقته العام كله أثراً ونظراً. أما الأثر فقول عائشة (إنْ كَانَ لَيَكُونُ على صَوْم رَمَضَان) (¬3) الحديث. فإن قيل: فإن كان لعائشة شغل فليس لغيرها شغل، قلنا: ذلك الشغل كان مباحاً والمباح لا يزاحم الفروض، فلولا أن التأخير كان جائزاً ما تأخر بذلك الشغل. وأما الكفارات: فوقتها منوط بأسبابها تارة ومسترسلة على العمر تارة. فأما كفارة الظِهار فتقف على مطالبة المرأة، فإن طلبت تعيَّن وقتها، وإن تركت فوقتها العمر ما لم يغلب على الظن الفوت وهذا معنى اتفقت عليه الأمة (¬4) وهو العمدة لعلمائنا الأصوليين في أنَّ مطلق الأمر ليس على الفور (¬5). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية 7. (¬2) الموطأ 1/ 303 بلاغاً مالك (أنهُ بَلَغَهُ أن عَبْدَ الله بْنَ عُمر كَانَ يسْأل: هَلْ يصوم أحدٌ عَنْ أحَدٍ أوْ يُصَلِّي أحدٌ عَنْ أحَدٍ، فَيَقولُ: لَا يَصُوم أحدٌ عَنْ أحَدٍ وَلاَ يُصَلي أحدٌ عَنْ أحدٍ). درجة الحديث: ضعيف لانقطاعه بين مالك وابن عمر. (¬3) متفق عليه. البخاري في الصوم باب متى يُقضى قضاء رمضان 3/ 45، ومسلم في الصوم باب قضاء رمضان في شعبان 2/ 802، والموطّأ 1/ 308، وشرح السنة 6/ 319، وأبو داود 2/ 791، والترمذي 3/ 152، والنسائي 4/ 191كلهم (عَنْ عائِشةَ قَالَتْ: كَانَ يَكونُ عَلَىّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَان فمَّا أسْتَطِيعُ أنْ أقْضِيَ إلَّا في شَعْبَانَ ..). (¬4) قوله: (تقف على مطالبة المرأة) أي يتوقف أداء الكفارة على وقت طلب الرجل من المرأة الجماع لقول الله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [سورة المجادلة آية 3] كما فضَّل ذلك الشارح في أحكام القرآن ص (1754). (¬5) انظر المحصول ل 21 أ.

والثاني: قضاء من أفطر ناسياً. واختلف العلماء فيه فقالت جماعة: لا قضاء على من أفطر ناسياً، واختاره (ش) (¬1) ونزع لقول النبي، - صلى الله عليه وسلم -، للسائل: "الله أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ" (¬2). قالوا: وهذا ينفي القضاء لأنه لم يتعرض له، وحمله علماؤنا على أن المراد به نفي الإثم عنه. فأما القضاء فلابد منه لأن صورة الصوم قد عدمت، وحقيقته بالأكل قد ذهبت، والشيء لا بقاء له مع ذهاب حقيقته كالحدث يبطل الطهارة سهواً جاء أو عمداً، وهذا الأصل العظيم لا يرده ظاهر محتمل للتأويل (¬3) وقد صحَّح الدارقطني أن النبي، - صلى الله عليه وسلم - قال له "الله أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ وَلَا قَضَاءٌ عَلَيْكَ" (¬4). وهذه الزيادة إن صحَّت فالقول بها ¬

_ (¬1) الذي عزاه الشارع إلى الإِمام الشافعي هو مذهب أكثر العلماء كما قال البغوي: (ذهب عامة أهل العلم إلى أنَّ الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً لصومه لا يفسد صومه غير ربيعة ومالك فإنهما أوجبا عليه القضاء)، شرح السنة 6/ 292. وقال الحافظ: (ذهب الجمهور إلى عدم الوجوب، وعن مالك يبطل صومه ويجب عليه القضاء). قال عياض: هذا هو المشهور عنه وهو قول شيخه ربيعة. فتح الباري 4/ 155. (¬2) متفق عليه. البخاري في الصوم باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً. البخاري 3/ 40، ومسلم في الصوم باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر 2/ 809، وشرح السنة 6/ 291 كلهم من حديث أبي هُرَيْرَة. (¬3) قال الشارح في العارضة: تطلَّع مالك إلى هذه المسألة من طريقها فأشرف عليها فرأى في مطلعها أن عليه القضاء لأن الصوم عبارة عن الإمساك عن الأكل، فلا يوجد مع الأكل لأنه ضده، وإذا لم يبقَ ركنه وحقيقته ولم يوجد لم يكن ممتثلاً ولا قاضياً ما عليه. ألا ترى أن مناقض شرط الصلاة، وهو الوضوء، الحدث إذا وجد سهواً أو عمداً أبطل الطهارة لأن الأضداد لا تجتمع مع أضدادها شرعاً ولا حساً وليس لهذا الأصل معارض إلا الكلام في الصلاة .. إلا أن قال في تعليل ذلك: (لأن الكلام من محظوراتها وليس من أضدادها)، العارضة 3/ 247. ويظهر لي أن الشارح، رحمه الله، يميل إلى مذهب الجمهور من عدم وجوب القضاء حيث ختم كلامه بالحديث الذي ينفي القضاء وردّ على من تأوله من المالكية هنا - وفي (العارضة) - وإن كان قد علّق الأخذ به على صحة الحديث، وهو قد صحّحه ابن خزيمة 3/ 239، وابن حبان - موارد الظمآن ص (227) .. والحاكم في المستدرك 1/ 430 - فالشارح، رحمه الله، يظهر ميله لمذهب الجمهور وإن تطرق إلى القاعدة التي بني عليها مالك هذا الأصل في (العارضة) فهو يتطرق إلى ذلك في تذييل يذكر فيه تأويل قوله: (فَلاَ يفطر) بأنه لم تسقط مع أكله حرمة الصوم وإن انعدمت حقيقته. (¬4) سنن الدارقطني 2/ 179 من طريق محمَّد بن عيسى الطباع عن ابن علية عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة ولفظه "إنَّمَا هُوَ رِزْق سَاقَهُ الله وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ"، وقال: إسناده صحيح وكلهم ثقات وروى الدارقطني إسقاط القضاء من رواية أبي رافع وأبي سعيد المقبري والوليد بن عبد الرحمن وعطاء بن يسار، كلهم عن أبي هُريرة .. وأخرج أيضاً من حديث أبي سعيد رفعه "مَنْ أكَلَ في شَهْرِ رَمَضَانَ نَاسِياً فَلاَ قَضَاء عَلَيْهِ" .. وقد ذكر الحافظ أنه في صحيح مسلم- ص 1155 - بدون الزيادة، أي ففيها شائبة شذوذ .. =

الحكم الثالث

واجب وقد قال فيها بعض علمائنا (¬1): أراد فلا قضاء عليك على الفور وهذا باطل. الحكم الثالث: قال علماؤنا: يقضى رمضان متفرقاً وكذلك أيام الكفّارة (¬2)، وقد اختلف في هذه المسألة الصحابة، رضوان الله عليهم، ابن عمر (¬3) وابن عباس وأبو هُريرة (¬4) وسواهم؛ فكان أبو هريرة يقول: يقضي متقرقاً وهو الذي شك (¬5) فيه مالك، رضي الله عنه، وقد احتج مجاهد بقراءة أُبي بن كعب (فصِيامُ ثَلَاَثة أيَّام مُتتابعاتٍ) (¬6) , ثم سقط قوله متتابعات. ¬

_ = قال الحافظ بعد سياقه للإسناد الأخير والذي قبله من الأسانيد (وإسناده) أي الأخير: وإن كان ضعيفاً لكنه صالح للمتابعة، فأقل درجات الحديث بهذه الزيادة يكون حسناً فيصلح للاحتجاج به، وقد وقع الاحتجاج في كثير من المسائل بما هو دونه في القوة ويتعضد أيضاً بأنه قد افتى به جماعة من الصحابة من غير مخالفة لهم منهم، كما قاله ابن المنذر وابن حزم- وغيرهما- علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو هُريرة وابن عمر. فتح الباري 4/ 157. درجة الحديث: حسّن الحافظ الزيادة، كما تقدم. (¬1) لم أطَّلع على قائل هذا القول. (¬2) انظر المنتقى 2/ 66، وبداية المجتهد 1/ 299. (¬3) الموطأ 1/ 304 (مَالِك عَنْ نَافِعٍ أنَّ عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ كانَ يَقولُ: يَصُومُ قَضَاة رَمَضَانَ مُتَتَابِعاً مَنْ أفْطَرَهُ مِنْ مرَضٍ أوْ في سفرٍ). ورواه عبد الرزاق عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال: صمه كما أفطرته. المصنف 4/ 241 وشرح السنة 6/ 322. درجة الأثر: صحيح. (¬4) مَالِك عَنْ ابنِ شهَابٍ أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عَباس وَأبَا هُرَيرَةَ اخْتَلَفَا في قَضَاء رَمَضَانَ فَقَالَ أحَدُهُما: يُفَرَّقُ بَيْنَهُ، وَقَال الآخَرُ: لَا يُفَرَّقُ بَيْنَة، لاَ أدري أيهمَا قَالَ: لَا يُفَرَّق بَينَهُ. الموطّأ 1/ 304. ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس موصولاً .. المصنف 4/ 243، وأخرجه البيهقي من نفس الطريق. السنن الكبرى 4/ 258. ونقل الزرقاني عن ابن عبد البر قوله: لا أدري عمَّن أخذ ابن شهاب هذا، وقد صح عن ابن عباس وأبي هريرة أنهما أجازا تفريق قضاء رمضان وقالا: لا بأس بتفريقه لقول الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} شرح الزرقاني 2/ 187. درجة الحديث: صحيح كما قال ابن عبد البر. (¬5) الموطأ 1/ 305 مالك عن حميد بن قيس المكي أنه أخبره قال: كنت مع مجاهد، وهو يطوف بالبيت، فجاء إنسان فسأله عن صيام أيام الكفارة امتتابعات أم يقطعها؟ قال حميد: فقلت له: نعم يقطعها إن شاء. قال مجاهد: لا يقطعها فإنها في قراءة أبي بن كعب (ثَلَاثة أيام مُتتَابِعَاتٍ). درجة الأثر: صحيح ولكنها قراءة شاذة، كما سيأتي. (¬6) هذه زيادة من الأصل وليست في باقي النسخ.

الحكم الرابع

وروي عن عائشة أنها قالت: (نزلت فعدة من أيام أخر متتابعات). (وروي عن عائشة أنها قالت) (¬1) أي ثم سقط قوله: متتابعات تريد من المصحف (¬2). وقد بينا في كتاب الأصول أن القراءة الشاذة لا توجب حكماً، وأنها لا تلحق بالقياس فكيف بخبر الواحد لأنه إذا سقط أصلها فأولى وأحرى أن يسقط حكمها (¬3). الحكم الرابع: إذا أسلم الكافر في بعض يوم، قال ابن القاسم وجماعة: يلزمه الإمساك عن الأكل (¬4). وقال آخرون: يجوز له الأكل، وهو الصحيح لأن الله تعالى قد أسقط عنه بعض اليوم بإسلامه، وإذا أسقط البعض سقط الكل لأنه لا يتجزأ، فإن قيل يلزمكم عليه ما يلزمكم إذا قال لزوجته: أنت طالق نصف طلقة أو نصف يوم يكمل عليه الجميع (¬5) عدداً وزماناً، قلنا: ها هنا ألزم نفسه البعض مما لا يتجزأ فلزمه الجميع؛ إذ لم يسقط عنه أخذ الباقي، والكافر بإسلامه والتزامه للشرائع قد أسقط عنه الذي التزم به نصف اليوم فلا سبيل إلى أن يعود إليه ما أسقط الله تعالى عنه فصار يوماً لا أثر له في حقه فلم يتعلق به حكم من أحكامه (¬6). حديث عائشة وحفصة قال لهما النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "اقْضيَا يَوْماً ......................... ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة. المصنف 4/ 241 - 242، والبيهقي من طريقه في السنن الكبرى 4/ 258 وقال تريد نسخت لا يصح له تأويل غير ذلك. ورواه ابن حزم في المحلى 6/ 261، والدارقطني 2/ 192، وصححه، وقال الباجي: وأمّا ما تعلق به مجاهد من قراءة أبي فإنها عند قوم تجري مجرى أخبار الآحاد والذي ذهب إليه الباقلاني، وهو الصحيح، لا يصح التعلق إلا بما ثبت على وجه التواتر لأنه إذا لم يكن متواتراً لم يكن قرآناً، وإذا لم يصح كونه قرآناً لا يصح التعلق به. المنتقى 2/ 66. درجة الأثر: صحيح وقد صرح فيه ابن جريج بالتحديث. (¬2) أنظر المحصول ل 50 ب فقال القراءة الشاذة لا توجب علماً ولا عملاً. (¬3) أنظر المنتقى 2/ 67، والزرقاني 2/ 189، والمدونة 1/ 188. (¬4) هذا قول أشهب وعبد الملك ابن الماجشون. المنتقى 2/ 67. (¬5) هذا هو مذهب الجمهور إلا أصحاب الرأي، فقد اشترطوا أن يضاف إلى جزء شائع أو أحد من خمسة أعضاء: الرأس والوجه والرقبة والظهر والفرج طلقت، وإن أضافه إلى جزء معين غير هذه الخمسة لم تطلق. المغني 7/ 488. (¬6) قال الباجي: وهل يلزمه الإمساك في ذلك اليوم من وقت إسلامه إلى آخره من قال من أصحابنا إن الكفار مخاطبون بشرائع الإِسلام، وهو مقتضى قول مالك، وأكثر أصحابه أوجب عليه الإمساك بقية يومه .. رواه ابن نافع عن مالك وقاله الشيخ أبو القاسم. ومن قال من أصحابنا: ليسوا مخاطبين بشرائع الإِسلام قال لا يلزمه الإمساك في بقية يومه، وهو مقتضي =

................................................................................... مَكَانه" (¬1)، أدخله مالك، رضي الله عنه، في مراسيل ابن شهاب يعارضه ما صحَّ عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وثبت أنه دخل على عائشة فقال لها: "هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لَا، قَالَ: فَإني صَائِمٌ، ثُمَّ خَرَجَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا بِطَعَامٍ أوْ جَاءها زَورٌ فَأرْسَلَتْ إلى النبِي، - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ لَهُ: عِنْدَنَا شَيْءٌ، قَالَ لَهَا: وَمَا هُوَ؟ قَالَتْ لَهُ: حيسن، فَقَالَ: قَرِبِيه، فَأكَلَ مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: لَقَدْ كُنْتُ صَائِماً" (¬2) قال النسائي في نحوه عائشة: (مَثلُ الصائِمِ الْمُتَطَوَّعِ مَثَلُ رَجُلٍ أخْرَجَ صَدَقَتَهُ ¬

_ = قول أشهب وعبد الملك بن الماجشون وقاله ابن القاسم .. المنتقى 2/ 67. (¬1) الموطأ 1/ 306 مرسلاً ولفظه: عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شَهَاب أن عَاِئشةُ وَحَفْصَةَ، زَوْجَيْ النبي - صلى الله عليه وسلم -، أصْبَحَتَا صَائِمَتَيْنِ فَأهْدِيَ لَهُمَا طَعَامٌ فَأفْطَرَتَا عَلَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ عَائِشةُ: فَقَالَتْ حَفْصَةُ، وَبَدَرَتْنِي بِالْكَلاَمِ وَكانَتْ بِنْتَ أبِيهَا: يَا رَسُولَ الله إنِّي أصْبَحْتُ أنا وَعَاِئشةُ صَائِمَتَيْنِ مُتَطَوعتَيْنِ فَأهْدِيَ إلَيْنَا طَعَامٌ فَأفْطَرْنَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقْضِيَا .. قال ابن عبد البر: لا يصح عن مالك إلا المرسل نقلاً عن الزرقاني 2/ 189، وقد وصله أبو داود من طريق ابن جريج عن ابن الهاد عن زميل، مولى عروة، عن عروة بن الزبير عن عائشة، أبو داود 2/ 826، ورواه الترمذي 3/ 112، وأحمد 6/ 263، والطحاوي 2/ 108، وابن حزم في المحلى 6/ 270 وقواه، وشرح السنة 6/ 372، قال الترمذي، بعد أن ساق هذا الحديث: روى صالح بن أبي الأخضر ومحمد بن أبي حفصة، هذا الحديث عن الزهري عن عروة عن عائشة مثل هذا أي مثل سياقه له، وقال: وروى مالك بن أنس ومعمر وعبيد الله بن عمر وزياد بن سعد وغير واحد من الحفّاظ عن الزهري عن عائشة مرسلاً ولم يذكروا فيه عن عروة وهذا أصح لأنه روي عن ابن جريج قال: سألت الزهري قلت له: أحدَّثك عروة عن عائشة؟ قال: لم أسمع من عروة في هذا شيئاً، ولكني سمعت في خلافة سليمان بن عبد الملك من ناس عن بعض مَنْ سأل عائشة عن هذا الحديث، سنن الترمذي 5/ 444. قال الشارح في العارضة: لم يلتفت إليه أحد من الأئمة (أي هذا الحديث) لأن ابن شهاب ذكر أنه لقى رجلاً عند باب عبد الملك بن مروان فأخبر به، وقد بيَّنه النسائي فأخرجه عن زميل، مولى عروة، لأجل هذة القصة قطعه مالك واتَّهمه وعوَّل على أنَّ هذا الحديث يعضده المعنى. العارضة 3/ 272. قلت: قد تقدم أن أبا داود أخرجه من طريق زميل. وقال البغوي: المرسل أصح شرح السنة 6/ 373. قال الحافظ: قال الخلّال: اتفق الثقات على إرساله وشذَّ مَنْ وصله وتوارد الحفاظ على الحكم بضعف حديث عائشة. فح الباري 4/ 212. درجة الحديث: المرسل منه صحيح والموصول ضعيف لأن فيه زميل بن عباس مجهول. انظر ت 1/ 263 ت ت 9/ 339. (¬2) مسلم في الصيام باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال وجواز فطر الصائم نفلاً من غير عذر 2/ 808، وأبو داود 2/ 824، والترمذي 3/ 111، والنسائي 4/ 194 - 195، وشرح السنة 6/ 270 - 271 والدارقطني في السنن وصحّحه 2/ 176.

تكملة واستدراك

فَمَا أعطَى مِنْهَا نَفَذَ وَمَا بَخُلَ مِنْهُ (¬1) وَأمْسَكَهُ (¬2) بَقِي)، زاد الدارقطني عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّائِمُ الْمُتَطَوَّعُ أمِيرُ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَامَ وإنْ شَاء أفطَرَ" (¬3). قلنا: المرسل عندنا كالمسند وقد بينَّاه في كتاب الأصول (¬4)، فإذا ثبت ذلك وتعارض الحديثان قال المخالف نحمل قوله: (أقضيا يوماً) مكانه على الاستحباب. قلنا: يحمل أكل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، على أنه كان مجهوداً بالجوع، وهي كانت غالب أحواله، فكان يصوم إذا عدم رغبة في الأجر. ويفطر إذا وجد للحاجة في الأكل؛ والدليل عليه قول الله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أعْمَالَكُمْ} (¬5)، وكلُّ من بدأ بعمل الله تعالى وشرع فيه بفعله فلا وجه لإبطاله (¬6). تكملة واستدراك: ذكر مالك، رضي الله عنه، الاستدلال على وجوب المضي في النوافل بالحج (¬7)، ¬

_ (¬1) في (ك) و (م) وفي (ص) العبارة غير واضحة. (¬2) النسائي في الصغرى 4/ 194 من طريق مجاهد عن عائشة، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 4/ 275، وعزاه لمسلم عن أبي كامل الجحدري وزاد فيه قال طلحة: فحدثت مجاهداً بهذا الحديث فقال: ذلك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها. (¬3) سنن الدارقطني 2/ 175، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 276 من حديث أم هانئ، والحديث فيه سماك ابن حرب بن أوس البكري، أبو المغيرة، صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة وقد تغير بآخره فكان ربما يلقن من الرابعة. مات سنة 123 هـ ت 1/ 332 وانظر ت ت 4/ 232. وفيه أيضاً أبو صالح باذان، بالذال المعجمة، ويقال آخره نون، أبو صالح مولى أم هانئ، ضعيف مدلِّس من الثالثة ت 1/ 93، وقال ابن معين: ليس به بأس وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء، وقال أبو حاتم، يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال النسائي ليس بثقة، وقال الحافظ وثَّقه العجلي وحده. ت ت 1/ 416 - 417. درجة الحديث: ضعيف. (¬4) انظر شرح التنقيح ص 379، وجامع التحصيل في أحكام المراسيل، وقد فصَّل القول فيه جداً، وحكى فيه ثلاثة أقوال: القبول مطلقاً والرد مطلقاً والتفصيل، جامع التحصيل ص 27. (¬5) سورة محمَّد آية 33. (¬6) قال النووي: قال الشافعي والأصحاب: إذا دخل في صوم تطوّع أو صلاة تطوع استحب له إتمامها لقوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلوا أعْمَالَكُمْ} وللخروج من خلاف العلماء، المجموع 6/ 393. ونقل الحافظ عن ابن عبد البر قوله: ومن احتج بقوله تعالى {وَلَا تبْطِلُوا أعْمَالَكُمْ} فهو جاهل بأقوال أهل العلم؛ فإن الأكثر على أن المراد بذلك النهي عن الرياء كأنه قال: لا تبطلوا أعمالكم بالرياء بل أخلصوها الله، وقال آخرون: لا تبطلوا أعمالكم بارتكاب الكبائر. فح الباري 4/ 213. (¬7) الموطأ 1/ 306. قال مالك: لا ينبغي أن يدخل الرجل في شيء من الأعمال الصالحة والصيام والحج وما =

حكم الفطر في رمضان علة

والحج مخصوص لا يقاس عليه. ألا ترى أنه إذا أفسده يلزمه المضي فيه ويأتي بمناسكه كما يأتي في الحج الصحيح، بخلاف الصلاة فإنه لو أفسدها ما مضى فيها فانقطع هذا الإلحاق فلا يعوَّل عليه. حكم الفطر في رمضان علة: أما المريض (¬1) والمسافر (¬2) فقد تقدما، وأما الحائض فتقضي الصوم دون الصلاة للأثر الصحيح (¬3). وأما الذي لا يقدر على الصيام من كبر فقد اختلف الناس في وجوب الفدية عليه (¬4)، وقد بيَّنَّا أن قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} أو يطوقونه كيفما قرئ منسوخ على ما ثبت في الحديث الصحيح (¬5)؛ فليس على العاجز عن الصيام من الكبر فدية لأنه لم يتوجه عليه خطاب فيفتدي مما لزمه (¬6). وأما الحامل والمرضع فعن مالك، ¬

_ = أشبه هذا من الأعمال الصالحة التي يتطوع بها الناس فيقطعه حتى يتمه على سننه ... (¬1) تقدم. (¬2) تقدم. (¬3) متفق عليه، البخاري في الحيض باب لا تقضي الحائض الصلاة 1/ 88، ومسلم في الحيض باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة 1/ 265، وأبو داود 1/ 180، والترمذي 1/ 234، وقال: وهو قول عامة الفقهاء لا اختلاف بينهم في الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، والنسائي 1/ 191، وابن ماجه 1/ 207 كلهم عن عائشة قالت (كَانَ يُصِيبُنَا ذلِكَ فَنؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصلاة)، لفظ مسلم. (¬4) قال ابن قدامة: الشريخ الكبير والعجوز إذا كان يجهدهما الصوم ويشق عليهما مشقة شديدة فلهما أن يفطرا ويطعما لكل يوم مسكيناً، وهذا قول ابن عباس وأبي هريرة وأنس وسعيد بن جبير وطاوس وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي. وقال مالك: لا يجب عليه شيء لأنه ترك الصوم لعجزه فلم تجب فدية؛ كما لو تركه لمرض اتصل به الموت، وللشافعي قولان كالمذهبين. المغني 3/ 151. (¬5) مسلم في كتاب الصيام باب بيان نسخ قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} بقوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَهْرَ فَلْيَصُمْهُ} 2/ 802 من حديث سلمة بن الأكوع، وانظر تفسير ابن جرير 2/ 77، ومختصر ابن كثير 1/ 159، وأحكام القرآن للطبري 1/ 100. (¬6) قال ابن عبد البر: والصحيح في النظر قول مالك ومن وافقه أن الفدية لا تجب على من لا يطيق الصيام لأن الله لم يوجبه على من لا يطيقه، والفدية لم تجب بكتاب ولا سنة صحيحة ولا إجماع، والفرائض لا تجب إلا بهذه الوجوه والذمة برئة. نقلاً عن شرح الزرقاني 2/ 192، وانظر المحصول في علم الأصول ل 50 ب للشارح.

رضي الله عنه في ذلك روايتان (¬1)، وقال (ش) تفتدي الحامل (¬2) ولا تفتدى المرضع؛ لأن الحامل تخاف على نفسها والمرضع تخاف على غيرها، فصارت المرضع بمنزلة من يمرض مريضاً في رمضان فيضعف عن الصوم فلا فدية عليه. والصحيح أنه ليس على المرضع ولا على الحامل فدية، على أنه قد روي عن ابن عباس أنه قال: نسخ قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} إلا في الحامل والمرضع (¬3). وأراد ابن عباس بقوله: نسخ خص، والتخصيص حكايه مذهب والمذهب من الصاحب لا تقوم به حجهّ (¬4) على ما تقدم بيانه، وأما من أخَّر رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر؟ فقال (ح): لا فدية عليه (¬5)، وقال سائر العلماء: عليه الفدية (¬6)، ولست أعلم في ذلك دليلاً في الشريعة إلا أن الدارقطني أسند إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، الفدية (¬7)، ولم يصح. ¬

_ (¬1) إحداهما: لا اطعام عليهما، وبه قال أبو حنيفة. والثانية: عليهما الإطعام ويخرج على هذه الرواية الإطعام على الشيخ الكبر. المنتقى 2/ 70، وانظر الكافي 1/ 240، والزرقاني 2/ 192. (¬2) انظر الروضة للنووي 2/ 383، والمجموع 6/ 267 - 268، ومغني المحتاج 1/ 440. (¬3) أبو داود من طريق قتادة أن عكرمة حدثه أن ابن عباس قال اثبتت للحبلى والمرضع وعن قتالة عن عزرة عن سعيد بن حبير عن ابن عباس {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحبلى والمرضع إذا خافتا. قال أبو داود: يعني على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. أبو داود 2/ 738 - 739، والطبري في تفسيره 2/ 79، والبيهقي 4/ 230. درجة الحديث: حسّنه الشيخ محمَّد الشربيني في شرحه على المناهج 1/ 440، وصححه الشيخ ناصر وقال: إسناده على شرط الشيخين. إرواء الغليل 4/ 18. (¬4) هذه مسألة خلافية بين علماء الأصول. قال الشيرازي: إذا قال الصحابي قولاً ولم ينتشر لم يكن ذلك حجة ويقدم القياس عليه في قوله الجديد (أي الشافعي) وقال في القديم: هو حجة يقدم على القياس ويخص العموم به وهو قول مالك وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الجبائي. التبصرة ص 395، وانظر التمهيد للأسنوي 483. (¬5) انظر شرح فتح القدير 2/ 81. (¬6) انظر نيل الأوطار 4/ 318 وبداية المجتهد 1/ 299. (¬7) سنن الدارقطني 2/ 197 من طريق إبراهيم بن نافع أبي إسحاق الجلاّب عن عمر بن موسى بن وجيه، ثنا الحكم عن مجاهد عن أبي هُريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في رجل أفطر في شهر رمضان من مرض ثم صح ولم يصم حتي أدركه رمضان آخر قال "يَصُومُ الشهْرَ الذي أَفْطَرَ فيه وَيُطْعمُ مَكَانَ كل يَوْمٍ مِسكيناً" إبراهيم ابن نافع وابن وجيه ضعيفان. أقول: إبراهيم بن نافع البصري عن مقاتل قال أبو حاتم كان يكذب كتبت عنه. المغني 1/ 28، وقال ابن عدي: منكر الحديث ت ث 1/ 174، كما أن عمر بن موسى ضعيف أيضاً. قال ابن حبان: كان =

إيضاح مشكل

إيضاح مشكل: روى مالك، رضي الله عنه، حديث عمر، رضي الله عنه، حين أفطر في يوم ذي غيم ثم ظهرت الشمس بعد فطرهم فقال عمر، رضي الله عنه: (الْخطْبَ يَسِيرٌ وَقَدِ اجْتهَدْنَا) (¬1). فقال مالك، رضي الله عنه: يريد بقبوله الخطب يسير القضاء، وقد رواه أبو عبيد في حديث عمر، رضي الله عنه، فذكر الحديث بنصه وقال: لا نقضيه، ما تجانفنا (¬2) فيه الإثم، ثم فسر الخطب الذي أشار إليه بسقوط القضاء لأنه لم يتعمد فطره (¬3)، وهذه المسألة تُبنى على مسألة الأكل ناسياً فإن النسيان في المحظور على ضربين. أحدهما: أن يفعل المحظور ذاهلًا عن فعله. والثانى: أن يفعله قاصداً إليه جاهلاً بحظره، وكلاهما لا إثم فيه لكن الأحكام في المسائل تختلف باختلاف هذين الضربين، وهذه المسألة تخالف مسألة الناسي لأنه لا ¬

_ = ممن يروي المناكير عن المشاهير فلما كثر في روايته عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات حتى خرج عن حد العدالة إلى الجرح استحق الترك. المجروحين 2/ 86، وقال ابن معين: ليس بثقة. الضعفاء للعقيلي 1/ 190. درجة الحديث: ضعّفه النووي بالإضافة إلى الشارح. المجموع 6/ 364. (¬1) الموطأ 1/ 303، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 217 من طريق مالك والشافعي قال: أخبرنا مسلم عن زيد بن أسلم عن أخيه خالد بن أسلم أن عمر بن الخطاب أفطر في رمضان ... مسند الشافعي 1/ 277، ورواه عبد الرزاق وزاد فيه: نقضي يوماً، مصنف عبد الرزاق 4/ 178. ورواه محمَّد بن الحسن في موطئه عن مالك عن زيد ابن أسلم أن عمر بن الخطاب أفطر .. موطّأ محمد ص 128. والحديث شيخ مالك فيه زيد بن أسلم وهو يروي عن أخيه خالد بن أسلم القرشي العدوي، مولى عمر، صدوق من الخامسة ت 1/ 211. وقال في ت ت: وثّقه ابن حبان والدارقطني وقال ليس بالمكثر. ت ت 3/ 80. وقال الذهبي: قد وثق. الكاشف 1/ 266، وانظر الثقات 4/ 198، والجرح والتعديل 3/ 320، والتاريخ الكبير 3/ 140 وكل هؤلاه لم يذكر أحد منهم أنه روى عن عمر، وعلى ذلك يكون الحديث منقطعاً بين خالد بن أسلم وعمر. ورواه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة عن زيد عن أخيه عن أبيه. المصنف 3/ 25. درجة الحديث: صحيح لأنه وإن كان ورد منقطعاً عند مالك ضد وصل عند ابن أبي شيبة. (¬2) يقول: ما ملنا إليه ولا تعمَّدناه ونحن نعلمه وكل مائل فهو متجانف. غريب الحديث لأبي عبيد 2/ 313، وانظر النهاية 1/ 307، والفائق 1/ 218. (¬3) غريب الحديث له 2/ 313، وابن أبي شيبة 3/ 24، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 217، كلهم من طريق زيد بن وهب عن عمر ... قال البيهقي: وكان يعقوب ابن سفيان يحمل على زيد بن وهب بهذه الرواية المخالفة للروايات المتقدمة وبعدها مما خالف فيه، وزيد ثقة إلا أن الخطأ غير مأمون. وقال الحافظ: زيد ابن وهب ثقة جليل لم يصب من قال في حديثه خلل روى له/ ع. ت 1/ 277. درجة الحديث: صحيح.

الثاني

ملامة على الناسي، فأما من أفطر في يوم الغيم فتتوجه إليه الملامة وينسب إلى التفريط بقلة الصبر وترك التثبت فإنه التزم الصوم بيقين النهار فلا يجوز أن يخرج عنه إلا بيقين الليل فليته خلص من الكفارة لتقريره بالعبادة فضلاً عن أن يسقط عنه القضاء (¬1) فإن قيل: قلتم إن الملامة لا تتوجه على الناس والعقلاء المتشرعون يوجهون عليه الملامة فيقولون لم نسيت ولا تنس وقد قال الله تعالى لرسوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (¬2) قلنا: أما قول الله تعالى {فَلَا تَنْسَى} فليس بنهي، إنما هو خبر عن أنه لا ينسى ما يُوحى إِليه بعد إلقائه عليه إلا ما شاء الله أن ينساه فيكون نسخاً له ورفعاً لحكمه (¬3)، وأما توجه الملامة فصحيح لكن النسيان على ضربين: نسيان لا يمكن الانفكاك عنه هو جبلة البشرية وسجية الآدمية فهذا ليس فيه ملامة بحال. الثاني: نسيان اقتضاه الإكباب عني الشهوات والتشبث بالمشغلات فهذا يقال له لا تنس، ويكون مورد نهيه حذف الفضول التي جلبت إليه الغفلات وعرضته للنسيان (¬4)، وقد نسي النبي، - صلى الله عليه وسلم -، صلاة العصر يوم الخندق حتى غربت الشمس (¬5)، ولكن للشغل بعبادة عظيمة ونازلة في الدين كبيرة وهي حماية البيضة ومدافعة العدو والاحتراز من غفلة يجد العدوّ بها نهزة (¬6)، ولم يتركها كما زعم بعض الناس متعمداً (¬7) لأنه لو ذكرها لصلاّها صلاة الخائف حسب الإمكان كما فعل قبل يوم الخندق وبعده. ¬

_ (¬1) هذه مسألة اختلف فيها الأئمة والجمهور على أن عليه القضاء، قال الحافظ ذهب الجمهور إلى إيجاب القضاء عليه .. وجاء ترك القضاء عن مجاهد والحسن , وبه قال إسحاق وأحمد في رواية واختاره ابن خزيمة. فتح الباري 4/ 200. (¬2) سورة الأعلى آية 6 و 7. (¬3) انظر تفسير الآية في أحكام القرآن للشارح 4/ 1919، ومختصر تفسير ابن كثير 3/ 630، تفسير زاد المسير 9/ 89، تفسير أبي السعود 5/ 518. (¬4) قال الشارح في الأحكام: النسيان هو الترك لغة، والترك على قسمين: ترك بقصد وترك بغير قصد، والتكليف إنما يتعلق بما يرتبط بالقصد من الترك: أحكام القرآن 4/ 1919. (¬5) متفق عليه. البخاري في تفسير سورة البقرة باب حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى 6/ 37، ومسلم في كتاب المساجد باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى هي صلاة العصر 1/ 436، وأبو داود 1/ 287، والترمذي 5/ 217، وابن ماجه 1/ 224، والبغوي 2/ 234 كلهم من حديث علي. (¬6) النهزة بالضم الفرصة وانتهزها اغتنمها. ترتيب القاموس 4/ 450، صحاح الجوهري 3/ 900. (¬7) أشار الحافظ ابن كثير في السيرة 3/ 227 إلى أن البخاري فهم ذلك من حديث ابن عمر (لاَيصلَّيَن أحدٌ =

كتاب الاعتكاف

كتاب الاعتكاف العكوف: في اللغة والقرآن هو اللبث ببقعة مخصوصة (¬1) قال الله تعالى {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} (¬2)، وقال {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬3) فجرت الشريعة على عادتها في قصر اللفظ المشترك على بعض متناولاته، أو تخصيص العام على بعض محتملاته، كما فعلت اللغة فصار في الشريعة عبارة عن ملازمة المسجد في العبادة، وله ثلاثة أركان: النية والصوم وملازمة المسجد، وأقلّه يوم وليلة. وقال: (ش) أقله لحظة (¬4)، وقد كنا بمدينة السلام (¬5) إذا دخلنا المسجد مع فخر الإِسلام (¬6) فأقام ساعة فيه يقول: لا تنسوا نية الاعتكاف يكتب لكم ثوابه، وهذا لأن الصوم عندنا شرط فيه (¬7). وقال (ش): ليس (¬8) بشرط لقول عمر، رضي الله عنه: "يا رَسُولَ الله إنِّي نَذَرْت أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً في الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ لَه النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: أْوفِ بِنَذْرِكَ" (¬9) قلنا: قد روي أنه قال له (إِنِّي نَذَرْتُ ¬

_ = الْعَصْرَ إِلَّا في بَنِي قُرَيْظَة). الحديث. وقد حكى الحافظ هذا القول بصيغة التمريض ولم يعزه لأحد فقال: قيل كان عمداً لكونهم شغلوه فلم يمكنوه من ذلك وهو أقرب. فتح الباري 2/ 96. وقال النووي: قال العلماء يحتمل أنه أخَّرها نسياناً لا عمداً، وكان السبب في النسيان الاشتغال بالعدو، ويحتمل أنه أخَّرها عمداً للاشتغال بالعدو وكان هذا عذراً قبل نزول صلاة الخوف، وأما اليوم فلا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العدو والقتال بل يصلي صلاة الخوف على حسب الحال. شرح النووي على مسلم: 5/ 130. (¬1) قال الحافظ: الاعتكاف لغة لزوم الشيء وحبس النفس عليه، وشرعاً المقام بالمسجد من شخص مخصوص على صفة مخصوصة وليس بواجب إجماعاً إلا على من نذره، وكذا من شرع فيه فقطعه عامداً عند قوم. فتح الباري 4/ 271. (¬2) سورة الأعراف آية 138. (¬3) سورة الحج آية 25. (¬4) انظر الروضة للنووي 2/ 391، والمجموع 6/ 489. (¬5) قدّمنا أنها بغداد حالياً. (¬6) تقدم ترجمته. (¬7) انظر المنتقى للباجي 2/ 82 وبداية المجتهد 1/ 315. (¬8) نظر الروضة للنووي 2/ 393، وفح الباري 4/ 274، والمجموع 6/ 485. (¬9) متفق عليه. البخاري في الاعتكاف باب الاعتكاف ليلاً 3/ 63، ومسلم في الأيمان باب نذر الكافر وما =

أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْماً وَلَيْلَةً) (¬1) .. جواب آخر: ابعرب تعبَّر بالليلة عن اليوم والليلة (¬2) ولذلك قالوا: صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعا وعشرين أكثر مما صمنا معه ثلاثين (¬3)، فعبّروا بالليل عن النهار. فإن قيل: فكيف قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، لعمر رضي الله عنه:"أُوفِ بِنَذْرِكَ" .. ونذر الكافر لا يلزم بعد الإِسلام بإجماع (¬4). قلنا: لما كان عمر، رضي الله عنه، نذره في الجاهلية فأسلم أراد أن يكفر ذلك بمثله في الإِسلام، فلما نواه وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، عنه أعلمه أنه لزمه، وكل عبادة أو عمل ينفرد به العبد عن غيره يلزمه بمجرد النية العارضة الدائمة كالنذر في العبادات (¬5)، والطلاق في الأحكام وإن لم يتلفظ ¬

_ = يفعل إذا أسلم 3/ 1277، والبغوي في شرح السنة 6/ 402، وأبو داود 3/ 616، والترمذي 4/ 112، والنسائي 7/ 21، والبيهقي في السنن 4/ 318، وأحمد أنظر الفتح الرباني 14/ 182، ومصنف عبد الرزاق 4/ 352، والدارقطني في سننه 2/ 198، وابن خزيمة في صحيحه 3/ 347. (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولم أجد في المراجع المتوفرة لدي هذا اللفظ، ولعلها يوماً أو ليلة وتكون الهمزة سقطت وذلك أنه ورد في البخاري (اعتكف ليلة)، وفي مسلم (يوماً). قال الحافظ: وجمع ابن حبان وغبره بين الروايتين بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة فمن أطلق ليلة أراد بيومها ومن أطلق يوماً أراد بليلة .. فتح الباري 4/ 274، وكذا قال الزيلعي. انظر نصب الراية 2/ 489. (¬2) هذا قرب من كلام ابن خزيمة فقد قال العرب قد تقول يوماً بليله وتقول ليلة تريد بيومها. صحيح ابن خزيمة 3/ 348. (¬3) أبو داود 2/ 742، والترمذي 3/ 73، وأحمد رقم 3776 و 3840 و 3871 و 4209 و 4300، البيهقي في السنن الكبرى 4/ 250 والدارقطني في السنن 2/ 198، وأورده المنذري في مختصر سنن أبي داود وسكت عنه، كما سكت عنه أبو داود قبله كلهم من حديث ابن مسعود. والحديث في دينار الكوفي، والد عيسى، مقبول من الثالثة/ عخ د ت، ت 1/ 237، وقال في ت ت 3/ 217 ذكره ابن حبان في الثقات. درجة الحديث: صحّحه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند. انظر الأرقام السابقة .. وحسّنه المبارك فوري. انظر تحفة الأحوذي 3/ 371، وعبد القادر أرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول 6/ 282. وقال الدكتور الشريف منصور: الحديث ضعيف ولكن ضعفه ينجبر بالمتابع، أو الشاهد، فيرتقى بأحدهما إلى الحسن لغيره، وقد ورد للحديث شاهد ذكره الحافظ في الفتح من حديث عائشة، رضي الله عنها، بمثل اللفظ المذكور وعزاه لأحمد وذكر أن إسناده جيد. مرويات ابن مسعود 2/ 778. وانظر فتح الباري 4/ 123 ويترجح لديّ ضعفه. (¬4) قال النووي: لا ينعقد على الصحيح. المجموع 6/ 480. (¬5) النذر: إيجاب المرء فصل البر على نفسه. شرح الزرقاني 2/ 359.

بشيء من ذلك. رواه أشهب عن مالك، رضي الله عنه، نصاً ونقله عنه جميع أصحابه تنبيهاً فيمن قال لزوجته أسقني ماء وأراد الطلاق فإنه يلزمه بإجماع (¬1) منهم، وقوله أسقني ماء ليس بصريح ولا بكناية فهو بمنزلة الإشارة فلا يقع الطلاق حينئذ إلا بمجرد النية .. ألا ترى إلى اتفاق الأمة على أنه لو قال لزوجته أنت طالق، ويريد بذلك من وثاق أنه لا يلزمه شيء .. وأما وجوب النية فيه فباتفاق لأنه عبادة (¬2). وأما الصوم فليس لأحد من علمائنا على وجوب الصوم دليل به إحتفال وأكثر ما عوّل عليه مالك، رضي الله عنه، قول الله تعالى {أَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬3) .. فخاطب بذلك الصائمين، وهذا لا حجَّة فيه لأنه خطاب خرج عن (¬4) حال فلا يلزم أن يكون شرطاً في جميع الأحوال، وقد اعتكف النبي - صلى الله عليه وسلم -، عشراً من شوال (¬5)، ولم يذكر فعل الصيام ولا تركه .. والمسألة عسرة المأخذ (¬6) في الشريعة وليس له عندي سبيل إلا ما أومأنا إليه في مسائل الخلاف من أن الاعتكاف هو ملازمة المسجد بالنيّة، فالنية تقطع قلبه عن الدنيا وعلائقها والمسجد يمنع بدنه من الاشتغال بأشغالها لأن المساجد {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (¬7)، ليس فيها عمل في غيره فلا يجوز له أن يعمل من الدنيا إلا ¬

_ (¬1) انظر مواهب الجليل 4/ 58، والمنتقى 4/ 16. (¬2) انظر الإفصاح لابن هبيرة 1/ 255، وبداية المجتهد 1/ 230. (¬3) سورة البقرة آية 187. وانظر الموطأ 1/ 315 قال مالك بعد ذكره للآية: إنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام .. والأمر عندنا أنه لا اعتكاف إلا بصيام. قال الباجي: هذا مذهب فقهاء المدينة وأهل الكوفة وأبي حنيفة والثوري وغيرهما المنتقى 2/ 81 وانظر بداية المجتهد 1/ 230. (¬4) في (م) على. (¬5) متفق عليه، البخاري في الاعتكاف باب الاعتكاف في شوال 3/ 66، ومسلم في الاعتكاف باب متى يدخل من أراد الاعتكاف في معتكفه 2/ 831، والبغوي في شرح السنة 6/ 392، والموطأ 1/ 316، كلهم من حديث عمرة عن عائشة. (¬6) هذه مسألة خلافية بين العلماء. قال ابن هبيرة: اختلفوا هل يصح الاعتكاف بغير صوم؟ فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد، في إحدى روايتيه: لا يصح بغير صوم، فجعلوا الصوم من شروطه. وقال الشافعي وأحمد في الرواية المشهورة عنه: يصح بغير صوم .. الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة 1/ 255، وانظر المغني 3/ 188. (¬7) سورة النور آية 36.

ضرورة الآدمية وهي الطعام والشراب ومآله فمُنع من الأكل نهاراً لأنه أحد الأسباب المنقطعة عن الدنيا، ومنع من الخروج عن المسجد إلا لحاجة الإنسان أو لتحصيل القوت (¬1)، ومنعه مالك تفطُّناً لهذه الدقيقة من قراءة العلم (¬2) لأنه من أسباب الدنيا وقصره على الذكر المجرد. وقال غيره من العلماء يقرأ العلم (¬3) إذا أخلصت له النية لله تعالى، وبه أقول، والشرط في الاعتكاف يأتي في الحج إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) انظر المدوَّنة 1/ 204، وانظر مواهب الجليل 2/ 461. (¬2) وانظر مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 2/ 462. (¬3) أشار ابن قدامة إلى الخلاف في هذه المسألة، ورجَّح ما رجَّحه الشارح فقد قال: أما قراءة القرآن وتدريس العلم ومناظرة الفقهاء ومجالستهم وكتابة الحديث، ونحو ذلك مما يتعدى نفعه، فأكثر أصحابنا على أنه لا يستحب، وهو ظاهر كلام أحمد. وقال أبو الحسن الآمدي: في استحباب ذلك روايتان، وأختار أبو الخطاب أنه مستحب وهو مذهب الشافعي. المغني 3/ 201.

باب/ ليلة القدر

باب/ ليلة القدر وهي ليلة القَدَر والقَدْر والقدر. فأما الأول: فالمراد به الشرف لقولهم لفلان قدر في الناس يعنون بذلك مزية وشرفاً (¬1). والثاني: القدر بمعنى التقدير قال الله تعالى {فِيهَا يُفْرَقُ كُل أمْرٍ حَكِيم} (¬2) قال علماؤنا يلقي الله تعالى فيها إلى الملائكة ديوان العام (¬3). والقدر الثالث: الزيادة في المقدار قال الله تعالى {حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينُ* إنَّا أنزَلْنَاهُ في لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (¬4). والبركة هي النماء والزيادة، قيل ليلة النصف من شعبان (¬5)، والصحيح أنها ليلة القدر (¬6)، فالمباركة في الدخان هي ليلة القدر في هذه السورة إلا أن الإنزال واحد (¬7)، وعمي هذا على المفسرين لأحاديث نميت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، في فضائل ¬

_ (¬1) انظر شرح النووي على مسلم 8/ 57، وفقح الباري 4/ 255. (¬2) سورة الدخان آية 4. (¬3) انظر المرجعين السابقين. (¬4) سورة الدخان آية 1 - 3. (¬5) هذا القول عزاه القرطبي إلى عكرمة وقال: والأول أصح، أي قول من قال إنها ليلة القدر. تفسير القرطبي 16/ 126. وقال في سورة البقرة {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} نصّ في أن القرآن نزل في شهر رمضان وهو يبين قوله عَزَّ وَجَلَّ {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} يعني ليلة القدر، ولقوله {إنَّا أنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ}. وفي هذا دليل على أن ليلة القدر إنما تكون في رمضان لا في غيره. تفسير القرطبي 2/ 297، وانظر فتح القدير للشوكاني 4/ 554، والمجموع 6/ 448، وقال ابن كثير: ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان، كما روي عن عكرمة، فقد أبعد النجعة فإن نص القرآن أنها في رمضان. تفسير ابن كثير 6/ 245. قلت: والراجح هنا هو ما رجَّحه الشارح من أن ليلة القدر لا تخرج عن رمضان. (¬6) في (ك) و (م) و (ص) زيادة: ولو لم يكن في شرفها إلا نزول القرآن فيها قال الله عز وجل {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [سورة القدر آية: 1]. (¬7) روى الإِمام أحمد من حديث واثلة بن الأصقع أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أُنزِلَ الْفِرْقانُ لأرْبَعٍ وَعِشْرِينَ =

النصف من شعبان ليس لها أصل في الصحة فلا تحفلوا بها، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، أعلم بها فتلاحى (¬1) رجلان فشغله تلاحيهما (¬2) فمحيت وكان خيراً لنا لأن الطاعة تكون أعمّ في طلبها والرجاء أكثر في تحصيلها، وقد اختلف الناس في ميقات رجائها فقيل هو العام كله. قال ابن مسعود: (مَنْ يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ) (¬3). والثاني: أنها في شهر رمضان (¬4) لقوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} (¬5) فجعله محلاً عاماً في لياليه وأيامه لنزول القرآن ثم قال {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (¬6) فجعله خاصاً في ليلة القدر منه. الثالث: أنها ليلة سبع عشرة من رمضان قاله ابن الزبير (¬7)، ورواه ابن مسعود عن ¬

_ = خَلَتْ مِنْ رَمَضانَ" الفتح الرباني 18/ 46، وأورده الحافظ في الفتح وقال: هذا كله مطابق لقوله تعالى: {شَهْر رَمَضَانَ الذِي أنْزِلَ فِيهِ الْقرْآنَ} ولقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض. درجة الحديث: حسنه الشيخ البنا في الفتح الرباني 18/ 46. (¬1) هي المخاصمة والمنازعة والمشاتمة. فتح الباري 4/ 268. (¬2) البخاري من حديث أنس قال: أَخْبَرَنِي عُبَادةُ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النبى، - صلى الله عليه وسلم -، خَرَجَ عَلَيْنَا ليخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلاَحَى رَجُلاَنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ... فَرُفِعَتْ. البخاري في التراويح باب تحرّي ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر 3/ 61، وشرح السنة 6/ 380، وأورده الخطيب التبريري في المشكاة 1/ 647. (¬3) رواه مسلم في كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها من طريق عبدة وعاصم بن أبي النجود سمعا زر بن حبش يقول سألت أبيّ بن كعب، رضي الله عنه، فقلت: إن أخاك ابن مسعود يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر، فقال رحمه الله: أراد أن لا يتّكل الناس أما إنه قد علم أنها في رمضان وأنها في العشر الأواخر وأنها ليلة سبع وعشرين ثم حلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين .. مسلم 2/ 828، وعبد الرزاق في المصنف 2/ 252 - 253، وأبو داود 2/ 106 - 107، والترمذي 3/ 160، وأخرجه مسلم أيضاً في صلاة المسافرين باب الترغيب في قيام رمضان: 1/ 525. (¬4) قال الحافظ: هو قول ابن عمر، رواه عنه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، ورواه أبو داود مرفوعاً عنه (أبو داود 2/ 111 - 112 قال أبو داود: رواه سفيان وشعبة عن أبي إسحاق مرفوعاً عليه لم يرفعاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -). وفي شرح الهداية الجزم به عن أبي حنيفة، وقال به ابن المنذر والمحاملي وبعض الشافعية ورجَّحه السبكي. فتح الباري 4/ 263 وانظر شرح النووي على مسلم 8/ 57، المجموع 6/ 459، نيل الأوطار 4/ 364. (¬5) سورة البقرة آية 185. (¬6) سورة القدر آية 1. (¬7) عزاه الحافظ للحارث بن أبي أسامة من حديث ابن الزبير، فتح الباري 4/ 265. =

النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وإلى ذلك إشارة من كتاب الله تعالى وهي قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} (¬2). ذلك ليلة سبع عشرة من رمضان. الرابع: أنها ليلة إحدى وعشرين لرؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -، "أنة يَسْجُدُ في صَبِيحَتِهَا في مَاءٍ وَطِينٍ" (¬3) وكان ذلك فيها. الخامس: أنها ليلة ثلاث وعشرين، وهي رواية عبد الله ابن أنيس (¬4) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5) وقد روى أهل التزهد أن جماعة منهم سافروا في البحر في رمضان فلما كان ليلة ثلاث وعشرين سقط أحدهم من السفينة في البحر فجرجر الماء في حلقه فإذا به حلو، وكان ما ينزل من السماء في تلك الليلة من البركة والرحمة يقلب الإجاج الملح عذباً (¬6) فما ¬

_ = وأورده محمَّد بن نصر في قيام الليل عن خارجة بن زيد أن زيداً كان لا يحيى ليلة من رمضان كإحيائه ليلة سبع عشرة، مختصر قيام الليل له ص 112. (¬1) أبو داود 2/ 110، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 310. والحديث فيه شيخ أبي داود حكيم بن سيف قال فيه أبو حاتم: شيخ صدوق لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به، ليس بالمتين، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: مات بالرقة بعد 235 هـ، وقال سعيد الحرّاني: مات 238 هـ، وقال ابن عبد البر: شيخ صدوق لا بأس به عندهم. ت ت 2/ 449، وانظر الميزان 1/ 586، وتهذيب الكمال 2/ ل 62 أ، وقال الذهبي في الكاشف: قال أبو حاتم: ليس بالمتين ووثَّقه غيره، الكاشف 1/ 185. درجة الحديث: حسن لغيره لوجود حكيم بن سيف وباقى الإسناد صحيح، كما قال النووي في المجموع 6/ 472. (¬2) سورة الأنفال آية 41. (¬3) متفق عليه. البخاري في كتاب الاعتكاف باب الاعتكاف في العشر الأواخر 3/ 62، ومسلم في كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها 2/ 824، والموطأ 1/ 319، والبغوي في شرح السنة 6/ 383 - 384 كلهم عن أبي سعيد الخدري. (¬4) عبد الله بن أنيس بن سعد الجهني، ثم الأنصاري، حليفهم عقبي روى عنه أولاده عطية وعمرو وحمزة وعبد الله وبسر بن سعيد وغيرهم، ويكنّى أبا يحيى. تجربد أسماء الصحابة للذهبي 1/ 298، وانظر الإصابة، القسم الرابع ص 15. (¬5) رواه مالك في الموطأ من طريق أبي النضر، مولى عمر بن عبيد الله، أن عبد الله بن أنيس. الموطَّأ 1/ 320، وهو منقطع كما قال ابن عبد البر لأن أبا النضر لم يلقَ عبد الله ابن أنيس. انظر الزرقاني 2/ 216، وقد وصله مسلم من طريق الضحاك ابن عثمان عن أبي النضر عن بسر بن سعد عن عبد الله بن أنيس. انظر .. مسلم في كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر 2/ 827، وأحمد انظر الفتح الرباني 10/ 281، ولفظه أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "رَأَيْت لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثم أَنْسِيتُهَا وَأَرَاني صبحها أَسجُدُ فَى مَاءٍ وَطِينٍ، قَالَ فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ ... ". (¬6) هذه الحكاية عن أهل الزهد لم أجدها، وقد نقل الحافظ عن البيهقي في فضائل الأوقات من طريق =

ظنك بها إذا وجدت ذنباً وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيماناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيماناً وَاحْتِسَاباً" (¬1) الحديث. وإن قام الشهر كله فقد نالها، وإن أتفق أن يصوم منه ليلة فصادفها فقد نالها. السادس: أنها ليلة خمس وعشرين وفي ذلك أثر (¬2). السابع: أنها ليلة سبع وعشرين، قاله أُبيّ وقال: أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بآية أن الشمس تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها كأن الأنوار المفاضة في الخلق تلك الليلة تغلبها (¬3). وكان ابن عباس يحلف أنها ليلة سبع وعشرين وينزع في ذلك بإشارة عليها بني الصوفية عقدهم في كثير من الأدلة ويقول: أعددت حروف {إِنا أنزَلْنَاهُ} فقولك هي: هو الحرف السابع والعشرون (¬4). ¬

_ = الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة أنه سمعه يقول إن المياه المالحة تعذب تلك الليلة، وروى ابن عبد البر من طريق زهرة ابن معبد نحوه .. فتح الباري 4/ 260، وانظر الدر المنثور 8/ 583. (¬1) متفق عليه، البخاري في التراويح باب فضل ليلة القدر 3/ 59، ومسلم في صلاة المسافرين باب الترغيب في قيام رمضان والتراويح 1/ 524، كلاهما عن أبي هرَيُرَة. (¬2) هذا القول ذكره الحافظ في الفتح وعزاه للشارح في العارضة (انظر العارضة 4/ 8) وقال: وعزاه ابن الجوزي في المشكل لأبي بكرة. فتح الباري 4/ 264. (¬3) مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح 1/ 525، وفي الصيام باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها .. 2/ 828، وأبو داود 6/ 102، وأحمد انظر الفتح الرباني 10/ 284، والبيهقي في السنن 2/ 314، والبغوي في شرح السنة 6/ 387، والترمذى 3/ 160 وقال: حسن صحيح. قال الحافظ: والقول بأنها ليلة السابع والعشرين هو الجادة من مذهب أحمد ورواية عن أبي حنيفة وبه جزم أبي بن كعب وحلف عليه، كما أخرجه مسلم. وروى مسلم من طريق أبي حازم عن أبي هُرَيْرَة قال: تذاكرنا ليلة القدر فقال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّكمْ يَذْكُرُ حِينَ طَلُعَ الْقمَرُ وَهُوَ مِثلُ شَقِّ جَفْنَةٍ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْفَارِسِيّ: إيْ لَيْلَةَ السَّابع وَالْعِشرِينَ فَإِنَّ الْقَمَرَ يَطْلُعُ فِيهَا بِتِلْكَ الصّفَةِ". مسلم 2/ 829، وفي الباب عن ابن عمر عند مسلم 2/ 823 قال:"رَأَى رَجُل أَن لَيْلَةَ الْقدْرِ لَيْلَةُ سَبْع وَعِشْرِينَ فَقَالَ النبي، - صلى الله عليه وسلم -: أَرَى رُؤياكم في الْعُشرِ الأوَاخِرِ فَاطْلُبوهَا في الْوَتْرِ مِنْهَا"، وانظر فتح الباري 4/ 264. (¬4) نقل هذا القول عنه ابن قدامة في المغني 3/ 183، وقال الحافظ: ونقله ابن حزم عن بعض المالكية وبالغ في إنكاره، ونقله ابن عطية في تفسيره وقال: إنه من ملح التفاسير وليس من متين العلم. فتح الباري 4/ 265، وحكاه النووي في المجموع 6/ 460، وقال القرطبي: قال أبو بكر الوراق: إن الله تعالى قسَّم ليالي هذا الشهر، شهر رمضان، على كلمات هذه السورة فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال هي، وأيضاً فإن ليلة القدر كرر ذكرها ثلاث مرات وهي تسعة أحرف فتجيء سبعاً وعشرين. تفسير القرطبي 20/ 136. قلت: لعل أبا بكر الوراق، الذي ذكره القرطبي، هو الذي أشار إليه الحافظ ببعض المالكية، وفي رأي أن القول المحكي عن الصوفية والذي لا مستند له ينبغي عدم ذكره.

والثامن: أنها ليلة تسع وعشرين (¬1). التاسع: أنها في أشفاعٍ هذه الأفراد، وادعت ذلك الأنصار في تفسير قوله عليه السلام (اطْلبُوهَا في تَاسِعَةٍ تبْقى، قَالُوا: هِيَ لَيْلَةُ ثَنتَيْنِ وَعِشْرِينَ، قَالُوا وَنَحْنُ أعْلَمُ مِنْكُمْ) (¬2). فهذه ثلاثة عشر قولًا الصحيح منها أنها لا تعلم (¬3)، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد حضّ على رمضان وحضَّ بالتخصيص العشر الأواخر، وكان - صلى الله عليه وسلم - فيها يحيي ليله ويوقظ أهله ويشد المئزر (¬4)، وصدق - صلى الله عليه وسلم - أنها في العشر الأواخر وفي الأحاديث دليل. بين على أنها منتقلة (¬5) غير مخصوصة بليلة لأن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم -، خرجت في عام ليلة إحدى وعشرين، واستفتاه رجل ليختار له عند عجزه عن عموم الجميع فاختار له ليلة ثلاث وعشرين (¬6)، وما كان عليه السلام ليبخس المستشير حظه منها. ومن فضل الله على هذه الأمة أنه أعطاها قيراطين من صلاة العصر إلى غروب الشمس وأعطى اليهود والنصارى جميعاً قيراطين من أول النهار إلى صلاة العصر (¬7)، وأعطاهم ليلة القدر فجعل لهم عاماً بألف شهر بما فاتهم في تقاصر الأعمار التي كانت لمن قبلهم أدركوه فيها فخفَّ عنهم شغب الدنيا، وأدركوا عظيم الثواب في الآخرة والحمد لله رب العالمين (على ذلك) (¬8). وقد روى الترمذي وغيره أن ¬

_ (¬1) لم أجده معزواً، وقال الحافظ: حكاه ابن العربي أي الشارح. فتح الباري 4/ 265. (¬2) مسلم في كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها: 2/ 826 - 827، وأحمد في المسند انظر الفتح الرباني 10/ 277 - 278، والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 308، وأبو داود 2/ 110 كلهم من حديث أبي سعيد. (¬3) قال الحافظ: وأنكر هذا القول النووي وقال: تظاهرت الأحاديث بإمكان العلم بها. فتح الباري 4/ 266، وانظر العارضة 4/ 9، والمجموع 6/ 461. (¬4) متفق عليه. البخاري في صلاة التراويح باب العمل في العشر الأواخر من رمضان 3/ 61، ومسلم في كتاب الاعتكاف باب الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان 2/ 832، وأبو داود 2/ 50، والترمذي 3/ 161 وقال: حسن صحيح، والنسائي 3/ 218، وشرح السنة 6/ 388 كلهم عَنْ عَائِشةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: (إذاَ دَخَلَ الْعِشْرُ أَحْيَا الْليْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِيزَر" لفظ مسلم. (¬5) قال الحافظ بعد أن ساق الأقوال فيها: وأرجحها كلها أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل، كما يفهم من أحاديث الباب. فتح الباري 4/ 266. (¬6) تقدم. (¬7) البخاري في مواقيت الصلاة باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب 1/ 146، وأحمد 2/ 121 كلاهما من حديث ابن عمر. (¬8) ليست في بقية النسخ.

النبي - صلى الله عليه وسلم - (أُرِيَ في مَنِامِهِ بَني أُمَيَّةَ يِنْزُونَ عَلَى منْبَرِهِ نَزْوَ الْقِرَدةِ فَشَقَّ ذلِكَ عَلَيْهِ فَأنْزَلَ الله تَعَالَى: {إنَّا أنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ} إلَى قَوْلهِ {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خير مِنْ ألْفِ شَهْرٍ} يَمْلَكُهَا بَنو أمَيَّةَ بَعْدكَ، قَالَ: فَحَسَبْنَاهِا فَوَجَدْنَاهَا ألْفَ شَهْرٍ لاَ تَزِيدُ يَوْماً وَلاَ تَنْقَصُ يَوْماً) (¬1) وهذا لا يصح. والذي روى مالك، رضي الله عنه، من أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أورِيَ تَقَاصُرَ أعْمَارِ أُمَّيهِ) (¬2) أصح منه وأولى، ولذلك أدخله ليبيِّن بذلك الفائدة فيه ويدل على بطلان هذا الحديث .. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث القاسم ابن الفضل عن يوسف ابن مازن والقاسم بن الفضل الحراني هو ثقة، وثّقه يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، ويوسف ابن سعد رجل مجهول لا نعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه، سنن الترمذي 5/ 444 - 445. ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن به 30/ 260، والحاكم في المستدرك 3/ 170 - 171، وقال ابن كثير: روى هذا الحديث الحاكم في مستدركه من طريق القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن به وقول الترمذي إن يوسف هذا مجهول فيه نظر، فإنه قد روى عنه جماعة منهم حماد ابن سلمة وخالد الحذاء ويونس ابن عبيد وقال فيه يحيى بن معين: هو مشهور، وفي رواية عن ابن معين هو ثقة، ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن، كذا قال وهذا يقتضي اضطراباً في هذا الحديث والله أعلم، ثم هذا الحديث منكر جداً، قال شيخنا أبو الحجاج المزي: هو حديث منكر. قلت: وقول القاسم بن الفضل .. إنه حَسَب مدة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص ليس بصحيح؛ فإن معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، استقلَّ بالملك حين سلَّم إليه الحسن بن علي الأمرة سنة أربعين، واجتمعت البيعة لمعاوية وسمي ذلك عام الجماعة ثم استمروا فيها متتابعين بالشام وغيرها لم تخرج عنهم إلا مدة دولة عبد الله بن الزبير في الحرمين والأهواز وبعض البلاد قريباً من تسع سنين، لكن لم تزل يدهم على الأمرة بالكلية بل عن بعض البلاد إلى أن استلبهم بنو العباس الخلافة في سنة اثنين وثلاثين ومائة فيكون مجموع مدتهم اثنين وتسعين سنة وذلك أزيد من ألف شهر فإن ألف شهر عبارة عن ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر. تفسير ابن كثير 4/ 530، وانظر الدر المنثور 8/ 569. أقول: يوسف بن سعد الجمحي، مولاهم البصري، ويقال هو يوسف بن مازن ثقة من الثالثة / ت س. ت 2/ 380 وقال في ت ت: قال الترمذي مجهول وقال ابن معين ثقة ت ت 11/ 413 وانظر الجرح والتعديل 9/ 230. درجة الحديث: ضعيف كما قال الشارح وغيره. (¬2) الموطأ 1/ 321 قال ابن عبد البر: هذا أحد الأحاديث الأربعة التي لا توجد في غير الموطأ لا مسنداً ولا مرسلاً الزرقاني 2/ 219. وقال ابن الصلاح في رسالته: أما حديث ليلة القدر فقد ورد معناه من وجه غير صحيح رسالته في وصل =

كتاب الحج

كتاب الحج وهو في اللغة القصد وغيره، وخص ها هنا بقصد البيت على ما قدمناه من الطريقة في تخصيص التسمية ببعض المسميات، وهو فرض من فروض الإِسلام صركن من أركانه. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬1). وفرضه مرة في العمر. وقد قال بعض الناس فيما أملى علينا الشيخ الإِمام أبو الحسن العبدري (¬2): يجب في خمسة أعوام مرة، ورووْا في ذلك حديثاً سندوه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحديث (¬3) باطل والإجماع صاد في ........................................... ¬

_ البلاغات الأربع في الموطأ لابن الصلاح ص 11 تحقيق عبد الله بن صديق. درجة الحديث: ضعيف. (¬1) سورة آل عمران آية 97. (¬2) هو رزبن بن معاوية، أبو الحسن العبدري الأندلسي السرقسطبي، مصنْف تجريد الصحاح. جاور بمكة دهراً وتوفي في المحرم سنة 535 هـ. شذرات الذهب في أخبار من ذهب 4/ 106، والرسالة المستطرفة ص 17، وروضات الجنات ص 286، وتذكرة الحفاظ اللذهبي 4/ 1281. (¬3) أورده الهيثمي فيِ مجمع الزوائد عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن الله يَقُولُ إنْ عَبْداً أَصَحَحْتُ لَهُ بَدنهُ وَأَوْسَعْت عَلَيْهِ في الرَّزْقِ لَمْ يَغْدِ إليَّ في كِلِّ أرْبَعَةِ أعْوَامٍ لَمَحْرُومٌ) رواه الطبراني في الأوسط، وأبو يعلى إلا أنه قال: خمسة أعوام، ورجال الجميع. رجال الصحيح. مجمع الزوائد 3/ 206. وأورده ابن الجوزي من طريق خلف بن خليفة قال أنا العلاء ابن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد .. العلل المتناهية 2/ 74 - 75، وكذلك السيوطي في الجامع الصغير وضعَّفه، وقال المناوي: فيه صدقة ابن يزيد الخراساني ضعَّفه أحمد، وقال ابن حبان: لا يجوز الاشتغال بحديثه ولا الاحتجاج به، وقال البخاري: منكر الحديث، ثم ساق له في الميزان هذا الخبر وفي اللسان عقبه هذا منكر وكذا قال ابن عدي. ورواه الطبراني من حديث أبي هُريْرَة بلفظ: إنَّ الله تعَالَى يَقُولُ إنْ عَبْداً أصْحَحْت لَه بَدَنَهُ وَأوْسَعْت عَلَيْهِ الرزْقَ ثُم لَمْ يَغْدُ إليَّ بَعْدَ أرْبَعَة أعْوَام لَمَحْرُومٌ. قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح وبه يعرف أن اقتصار المصنف على الطريق الذي أثره غير جيد، فيض القدير 2/ 310. قلت: وتمام كلام ابن عدي لا أعلمه يرويه عن العلاء غير صدقة، وإنما يروي هذا خلف بن خليفة عن العلاء بن المسيب عن أبي سعيد. فلعل صدقة سمع بذكر العلاء فظن أنه العلاء بن عبد الرحمن، وهي طريق سهل عليه وليس كذلك .. وقال العقيلي: صدقة ابن يزيد الخراساني عن العلاء فذكر إن عبداً، ثم قال: وجاء عن أبي سعيد وفيه =

......................................... وجوههم (¬1)، وليس يجب غيره عندنا وبه قال (ح) وجماعة (¬2)، وقالت جماعة منهم الشافعي: إن العمرة (¬3) واجبة كوجوب الحج واستدل عليه بقوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬4). وروي في حديث جبريل إنه قال: ما الإِسلام؟ قال: أن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج وتعتمر وتغتسل مدني الجنابة (¬5). والصحيح ما قلناه من الأثر والنظر. أما الأثر فقول الله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} (¬6) ولم يذكر العمرة. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بُنيَ الإسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ " فذكر الحج ¬

_ = لين، وقال أبو حاتم، ضعيف .. وذكره ابن الجارود والساجي والعقيلي في الضعفاء. لسان الميزان 3/ 187 - 188. وأورده الذهبي في الميزان من طريق صدقة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة. الميزان 2/ 313 وانظر التاريخ الكبير للبخاري 4/ 295. وقال ابن الجوزي: قال الدارقطني وقد رواه عبد الرزاق عن الثوري عن العلاء عن أبيه، ورواه ابن فضل عن العلاء عن يونس بن حبان عن أبي سعيد ولا يصح منها شيء. العلل المتناهية 2/ 75، وعزاه القرطبي لعبد الرزاق أيضاً، تفسير القرطبي 4/ 142. درجة الحديث: ضعيف، كما قال الشارح وغيره كالسيوطي والمناوي وليس كما قال الهيثمي إنه صحيح. (¬1) وقال النووي: حكى صاحب البيان وغيره عن بعض الناس أنه يجب كل سنة. قال القاضي أبو الطيب: قال بعض الناس يجب الحج كل سنتين مرة، قالوا: وهذا خلاف الإجماع قائله محجوج بإجماع من كان قبله المجموع 7/ 9. (¬2) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 2/ 116. (¬3) انظر المجموع للنووي 7/ 7، وشرح لسنة 7/ 15. (¬4) سورة البقرة آية 196. (¬5) هذه الرواية التي ساقها الشارح قد وردت عند ابن خزيمة في صحيحه وترجم عليها بقوله: ذكر البيان إن العمرة فرض وإنها من الإِسلام كالحج سواء، إلا أنها تطوّع غير فريضة على ما قال بعض العلماء. وساق بسنده عن المعتمر بن سليمان عن أبيه عن يحيى بن يعمر عن ابن عمر. صحيح ابن خزيمة 4/ 356. وساقه مسلم من نفس الطريق إلا أنه لم يذكر متنه. صحيح مسلم في كتاب الإيمان باب بيان الإيمان والإِسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله: 1/ 38، وأشار إلى رواية ابن خزيمة هذه. الحافظ في الفتح 3/ 579. درجة الحديث: صحيح. (¬6) آل عمران، الآية 97.

خاصة (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي:"وَحَجُ الْبَيْتِ، قَالَ: هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا" (¬2). ولأن البيت سبب من أسباب العبادة فلا يتعلق به وجوب شيئين كالزوال والغروب، فأما قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فليس يقتضي لزوم الفعل ابتداء وإنما فيه تمامه بعد فعله. وأما حديث جبريل فقد رواه العالم (¬3) وليس فيه وتعتمر فلا تقبل هذه الزيادة لأن الحديث مطلقاً أشهر منها، وشروط وجوبه أربعة: الحرية والعقل والبلوغ والاستطاعة وليس الإِسلام من شروط الوجوب وإنما هو من شروط الأداء لأن قول مالك، رضي الله عنه، لم يختلف قط أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع. فأما الحرية فلا خلاف فيها لأن العبد مملوك لسيده مستغرق المنافع فهو يدخل في خطاب الشرائع كلها ما لم يكن في ذلك تعطيل للسيد ولا قطع به عن الانتفاع والسفر يمنعه منه ويسقط منفعته فيه فلا يجوز له السفر إلا بإذنه فسقطت الاستطاعة فسقط الخطاب وقد بيَّنا ذلك في أصول الفقه (¬4). وأما البلوغ فأجمعت الأمة عليه. أما إن الصبي إذا حَجَّ أو حُجَّ به كتب الله تعالى له الأجر من فضله، ولوليه الأجر زيادة من رحمته، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنَ امْرَأةً رَفعَتْ إلَيْهِ مَوْلُوداً في مِحَفَّةٍ (¬5) لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله ألِهذَا حِجُّ؟ قَالَ: نعَمْ وَلَكِ أجْرٌ (¬6) "، أما العقل فمثل البلوغ. ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في كتاب الإيمان باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بُنِيَ الإْسْلاَم عَلَى خَمسٍ" 1/ 9، ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان أركان الإِسلام 1/ 45، كلاهما من حديث عمر. (¬2) مسلم في الإيمان باب السؤال عن أركان الإِسلام 1/ 41 - 42. وأبو داود 1/ 131، والترمذي 3/ 14 - 15، والنسائي 4/ 121 - 122 كلهم عن أنس. (¬3) لا أدري ماذا يقصد بالعالم هنا ولعله يقصد عمر لأن هذه الزيادة ليست من حديثه. (¬4) انظر المحصول: ل 4 ب و 5أوشرح التنقيح ص 162. (¬5) المحفة، بالكسر، شبه الهودج إلا أنه لا قبَّة عليها. شرح الزرقاني 2/ 394. (¬6) الموطّأ 1/ 422 مرسلاً عن أكثر رواة الموطأ، ووصله الشافعي وابن وهب ومحمد ابن خالد وأبو مصعب وعبد الله بن يوسف فزادوا فيه: عن ابن عباس ان النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بامرأة .. الزرقاني 2/ 392، ورواه مسلم من طريق سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس .. مسلم في كتاب الحج باب صحة حج الصبي وأجر من حج به 2/ 974، وأبو داود 2/ 352، والنسائي 5/ 120، والطحاوي 2/ 256، والبغوي في شرح السنة 7/ 23، وأحمد انظر الفتح الرباني 11/ 29، كلهم مثل رواية مسلم. ونقل الزرقاني عن ابن عبد البر قوله: من وصل هذا الحديث وأسنده فقوله أولى وأصح، =

وأما الاستطاعة فهي عندنا على حال المستطيع من صحة بدنه وكثرة جلده، وقال أكثر علماء الأمصار: الاستطاعة الزاد والراحلة، ورووا في ذلك أثراً ضعيفاً لا يلتفت إليه (¬1). والصحيح في الاستطاعة، لغة وعقلاً، أنها صفة المستطيع كيف ما تصرفت وجوهها، وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف ولذلك قلنا إن من بلغ معضوباً لا حج عليه (¬2). وبه قال أكثر العلماء. وقال (ش): يلزمه إن يحج عنه غيره من ماله إن لم يقدر هو أن يحج بنفسه (¬3) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -، في الحديث الصحيح وقد قيل له يا رسول الله "إِنَّ فَرِيضَةَ الله عَلَى عِبادهِ في الْحِجَّ أدرَكَتْ أبِي شَيْخاً كَبِيراً لَا يَسْتَطِيعُ أنْ يَثْبَتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أفَأحِجُّ عَنْه؟ قَالَ: أرَايْت لَوْ كَانَ عَلَى أبِيك دَيْن أكُنْتِ قَاضِيَتُهُ: قَالَتْ: نَعَمُ؛ قَالَ: فَدَيْنُ الله أحَق أنْ يُقْضَى (¬4) ". ¬

_ = والحديث صحيح مسند ثابت الاتصال لا يضره تقصير من قصّر به لأن الذين أسندوه حفّاظ أثبات. شرح الزرقاني 2/ 394 - 395. (¬1) رواه الترمذي من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمَّد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر. سنن الترمذي 3/ 177 وقال حديث حسن عن ابن عمر، والبيهقي في السنن 4/ 327. وإبراهيم هذا قال فيه الحافظ: متروك الحديث من السابعة، مات سنة 151هـ ت 1/ 24، وانظر ت ت 1/ 179 - 180، والكاشف 1/ 51، والميزان 1/ 75، ورواه الحاكم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. المستدرك 1/ 442، والدارقطني في السنن 2/ 216، وقال البيهقي: الصواب عن قتادة عن الحسن مرسلاً، السنن الكبرى 4/ 327، وقد قال الحافظ عن إسناد رواية الدارقطني وسنده صحيح إلى الحسن ولا أرى الموصول إلا وهماً. تلخيص الحبير 2/ 221. ورواه الحاكم من حديث حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس أيضاً. المستدرك 1/ 442، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذا اللفظ إلا أن الراوي عن حماد بن سلمة هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني قال فيه الحافظ: عبد الله بن واقد، أبو قتادة الحراني، أصله من خراسان متروك وكان أحمد يثني عليه وقال: لعله كبر واختلط وكان يدلس من التاسعة، مات سنة 220 هـ، ت 1/ 193 وانظر ت ت 6/ 66. أقول: ساق له الحافظ في التلخيص طرقاً أخرى وقال: طرقها كلها ضعيفة، وقال عبد الحق إن طرقه كلها ضعيفة، وقال أبو بكر بن المنذر لا يثبت الحديث في ذلك مسنداً والصحيح من الرويات رواية الحسن المرسلة. تلخيص الحبير 1/ 221. درجة الحديث: كل طرقه ضعيفة إلا الطريق المرسلة عن الحسن صحيحة. (¬2) انظر مذهب المالكية في شرح الزرقاني 2/ 291 - 292. (¬3) انظر المجموع 7/ 100 - 101، وشرح السنة: 7/ 26. (¬4) متفق عليه. البخاري في الحج باب وجوب الحج وفضله 2/ 163، ومسلم في الحج باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت 2/ 973، والموطأ 1/ 359، وشرح السنة 7/ 25، كلهم عن ابن عباس أنه قال: كَانَا الْفَضْل بْن عَباسٍ رَيفَ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَاءتهُ امْرَاةٌ مِنْ خَثْعَم فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُر إلَيْهَا =

قلنا: لا حجة في هذا الحديث من أربعة أوجه: أحدها: إنه خبر واحد يخالف الأدلة القطعية في سقوط التكليف عن العاجز، والحديث إذا خالف قواطع الأدلة تؤَوَّل أو رُدَّ إن لم يمكن تأويله (¬1). جواب ثان: قال (ش): يلزمه إن يحج من ماله والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الوجوب على الولي وكلُّنا لا نقول به. الثالث: إنه قال "أرَأيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أبِيكِ (¬2) ديْنٌ" ولا يلزم الولي قضاء ديون وليه كذلك لا يلزمه الحج عنه. الرابع: (قَالَ: فَدَيْنُ الله أحَقُّ أنْ يُقْضَى) ولا خلاف بين العلماء أن دين الآدمي أحق من دين الله لأن الله تعالى هو الغني والخلق هم الفقراء؛ فيقدم حق العبد لفقره ويؤخر حق الله تعالى لغناه. فإن قيل: فما فائدة الحديث؟ قلنا: فائدته تركه لأنه لا يصح أن يقال ¬

_ = وَتَنْظُرُ إلَيْهِ فَجَعَلَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، يَصْرفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إلَى الشَّقِّ الآخَرِ فَقَالَتْ: إن فَرِيضَةَ الله أدرَكَتْ أبِي شَيْخاً كَبيراً لَا يَثْبَتُ عَلَى اْلراحِلَةِ أفأحِجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَم. وفي رواية أخرى عن ابن عباس عن البخاري (فَاقْضِي الله فَهوَ أحَقُّ بِالْقَضَاءِ). البخاري في الأيمان والنذور باب من مات وعليه نذر 8/ 177. (¬1) هذا هو مذهب مالك. قال القرطبي: رأى مالك أن ظاهر حديث الخثعمية مخالف لظاهر القرآن فرجّح ظاهره، ولا شك في ترجيحه من جهة تواتره، ومن جهة أن القول المذكور قول امرأة ظنت ظناً. قال: ولا يقال قد أجابها النبي - صلى الله عليه وسلم -، على سؤالها ولو كان ظنها غلطاً لبيَّنه لها لأنا نقول إنما أجابها عن قولها (أفحج عنه) قال "حجي عنه" لما رأى من حرصها على إيصال الخير لأبيها. قال الحافظ: وتعقب بأن تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -، لها على ذلك حجة ظاهرة. فتح الباري 4/ 70. وقال أبو عمر: حديث الخثعمية خاص بها لا يجوز أن يتعدى إلى غيرها لقوله تعالى {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، وكان أبوها ممن لا يستطيع فلم يكن عليه الحج فكانت ابنته مخصوصة الجواب، وممن قال بذلك مالك وأصحابه. شرح الزرقاني 2/ 292. (¬2) أقول: جاء هذا الحديث بألفاظ مختلفة؛ ففي بعضها أن السائل رجل وأنه سأل عن أبيه. وفي بعضها إنه قال إن أمي عجوز كبيرة، وفي رواية إن أبي أو أمي، وفي أخرى أن امرأة سألت عن أمها. قال الحافظ: اتفقت الروايات كلها عن ابن شهاب عن أن السائله امرأة وأنها سألت عن أبيها، وخالفه يحيى بن أبي إسحاق عن سليمان فاتفقت الرواة عنه على أن السائل رجل، ثم رجح الحافظ رواية ابن شهاب لقوة سندها ثم قال: والذي يظهر لي من مجموع هذه الطرق أن السائل رجل وكانت ابنته معه فسألت أيضاً والمسؤول عنه أبو الرجل وأمه جميعاً. فقول الشابة إن أبي لعلها أرادت به جدها لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسمع كلامها ويراها رجاء أن يتزوجها فلما لم يرضها سأل أبوها عن أبيه ولا مانع أن يسأل أيضاً عن أمه، وتحصَّل من هذه الرويات أن اسم الرجل حصين بن عوف الخثعمي. فتح الباري 4/ 68.

بظاهره ومن قدر على تأويله بفضل علمه فليقل إنه خرج مخرج الحث على البر بالآباء في قضاء ديونهم عند عجزهم والصدقة عنهم بعد موتهم وصلة أهل ودهم. وقد قال سعد (¬1) للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ أمَّي (¬2) افْتلِتَتْ (¬3) نَفسُها وإنَّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ (¬4)) الحديث. وأما سننه فهي ثلاث عشرة سنة: إفراد الحج، وترك التمتع، والإحرام من الميقات، وطواف القدوم، وركعتا الطواف، والمبيت بمنى يوم التروية، والجمع بعرفة، والمبيت بالمزدلفة، ورمي الجمار، وتأخير رميها، والحلق أو التقصير، وتأخير الطواف يوم النحر أو أيام التشريق، والمبيت ليالي الرمي بمنى. فهذه سننه التي يجب بتركها الدم عند علمائنا في تفصيل طويل وما عدا هذا من السنن فإنها أركان وفضائل. فالأركان منها التي لا يجزي إلا فعلها وهي أربعة: الإحرام وهو النية، والطواف، والوقوف بعرفة، والسعي باختلاف بين العلماء. وبرواية ضعيفة عندنا. وقال ابن الماجشون (¬5): رمي جمرة العقبة وحدها ركن، ¬

_ (¬1) سعد هو ابن عبادة بن دليم بن حارثة، سيد الخزرج، أبو ثابت الساعدي، نقيب بني ساعدة. شهد بدراً عند ابن الكلبي والواقدي والمدايني ولم يذكره ابن عقبة ولا ابن إسحاق وكان أحد الأجواد. تجريد أسماء الصحابة للذهبي 1/ 215، والإصابة 3/ 65 - 66، وفتح الباري 3/ 255 و 5/ 389. (¬2) عمرة بنت مسعود بن قيس، يقال أم سعد بن عبادة، ويقال أم سعد ابن زيد ابن مالك النجاري، أختها عمرة الصغرى زوجة أوس بن يزيد بن أصرم، وأختها عمرة الثالثة امرأة أبي حسان بن ثابت، وأختهن عمرة الرابعة هي والدة سعد ابن عبادة، توفيت سنة خمس، وأختهن غمرة الخامسة والدة قيس بن عمرو. ذكر ابن سعد أن الخمسة أسلمن وبايعن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -. تجريد أسماء الصحابة للذهبي 2/ 289، والإصابة 8/ 33. (¬3) بضم المثناة وكسر اللام، أي سلبت على ما لم يسم فاعله يقال أقتلت فلان أي مات فجأة وآقتلتت نفسه كذلك. فتح الباري 3/ 255. (¬4) متفق عليه. أخرجه البخارى في الجنائز باب موت الفجاة البغتة 2/ 127، وفي كتاب الوصايا باب ما يستحب لمن يتوفى فجأة ان يتصدقوا عنه 4/ 10، ومسلم في الزكاة باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه 2/ 696، وفي كتاب الوصية باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت 3/ 1254، وشرحِ السنة 6/ 199 كلهم (عَنْ عَائِشةَ أنَّ رَجُلاً قَالَ لِلْنَّبِيّ، - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أُمي اقْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَأرَاهَا لَوْ تَكَلَّمتْ تصَدَّقَتْ ..). (¬5) تقدمت ترجمته.

فأما الإحرام فلا خلاف في وجوبه وركنيته لأن الأعمال بالنيات (¬1) وخصوصاً العبادات وخصوص الخصوص الحج. وأما الطواف فلا خلاف فيه. قال الله سبحانه: {وَلْيَطَوَّفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2). وأما الوقوف بعرفة فهو الحج. في الحديث المأثور "الْحِجُّ عَرَفَةٌ (¬3) " يعني معظم الحج ومقصوده، وأما السعي فاختلف العلماء فيه قديماً وحديثاً: فقال (ح) (¬4): يجزي فيه الدم، ووقعت رواية عبد الله (¬5) عن مالك، رضي الله عنه، في العتبية وهي ساقطة. السعي ركن عظيم وله في الحج منزلة كبيرة والدليل على ركنيته قوله تعالى: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله} (¬6)، الآية إلى آخرها، أنزلها الله تعالى رداً على من كان يمتنع من السعي (¬7)، فإِن قيل فقد قال الله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} قلنا: لم يفهم ¬

_ (¬1) البخاري في كتاب الإيمان باب ما جاء إن الأعمال بالنية 1/ 21، ومسلم في الأمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّما الأعْمَالُ بِالنيةِ) 3/ 1515، كلاهما من حديث عمر رضي الله عنه. (¬2) سورة الحج آية 29. (¬3) أبو داود 2/ 485، والترمذي 3/ 237، والنسائي 5/ 264، وابن ماجه 2/ 1003، والدارمي 2/ 59، وأحمد انظر الفتح الرباني 12/ 119، والحاكم في المستدرك 1/ 464، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 173، والدارقطني 2/ 240 - 241، وابن حبان انظر موارد الظمآن ص 249، كلهم من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي. درجة الحديث: صححه النووي. انظر المجموع 8/ 95 - 113 وقال عبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول 3/ 242: إسناده صحيح. (¬4) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 2/ 157 وفتح الباري 3/ 499. (¬5) هو عبد الله بن يوسف التنيسي، بمثناة ونون ثقيلة بعدها تحتانية مهملة، أبو محمَّد الكلاعي، أصله من دمشق، ثقة متقن من أثبت الناس في الموطأ، من كبار العاشرة. مات سنة 218/ خ د ت س. ت 2/ 463، وقال في ت ت: سمع من مالك وعنده الموطأ ومسائل عن مالك سوى الموطأ- ت ت 6/ 86 - 87. (¬6) سورة البقرة آية 158. (¬7) ورد عند الشيخين من رواية عاصم قال: قُلْتُ لأِنَس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ: أكُنْتُمْ تَكْرَهونَ السعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: نَعَم، لِأنهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنزَلَ الله {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ}. البخاري في الحج باب ما جاء في السعي بين الصفا والمروة 2/ 195، ومسلم في الحج باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به 2/ 930، والترمذي 9/ 205، واللفظ السابق للبخاري.

هذه المسألة أحد فهم عائشة وكلامها معروف في الحديث (¬1)، تفسيره: أنه إذا قال الرجل لآخر: لا جناح عليك أن تفعل كذا، فمقتضاه رفع الحرج في الفعل (¬2)، ولم يكن في الشريعة حرج في الطواف بين الصفا والمروة، وكيف يكون فيه حرج وهو من شعائر الله؟ وإنما كان الحرج في قلوب طائفة من الناس كانوا يطوفون قبل ذلك بين الصفا والمروة للأصنام، فلما جاء الإِسلام كرهوا أن يدخلوا البقعة التي كانوا يكفرون فيها أو يفعلون الفعل الذي كانوا يشركون به فرفع الله تعالى ذلك الجناح عن قلوبهم وأمرهم بالطواف، وأخبرهم أنه من الشعائر كما كانوا يطوفون بالبيت في الجاهلية للأصنام التي كانت فيه، ثم جاء الإِسلام وطهّر البيت من الأصنام وصار الطواف لله وحده، وكذلك الصفا والمروة، وأما رمي الجمار فليس بركن، ووهم فيها عبد الملك (¬3) وليس في ركنيتها دليل يعوَّل عليه، بيد أن العلماء بعد اتفاقهم على أن عرفة ركن الحج اختلفوا في وقت الوقوف فيه فقالت جماعة: فرض الوقوف بالليل منهم (م) (¬4)، وقالت جماعة: فرض الوقوف بالنهار منهم (ش) (¬5)، و (ح) (¬6)، وقالت طائفة: الفرض الوقوف ليلاً أو نهاراً (¬7)، واحتجوا بما روى عروة ابن مضرس أنه قال يا رسول الله (أكْلَلْتُ رَاحِلَتي وَأتعَبْتُ مَطِيتي وَأقْبَلْتُ مِنْ جَبَلِ طَيىَءٍ وَالله مَاتَرَكْت مِنْ جَبَل إلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ لي مِنْ حَجِّ؟ فَقَالَ لَهُ: مَنْ شَهِدَ ¬

_ (¬1) روي الشيخان من طريق الزهري قال عروة: سألتُ عَائِشةَ رَضِيَ الله عَنْهَا، فَقُلْتُ لَهَا: أرَأيْتِ قَوْلَ الله تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَوَالله مَا عَلَى أحَدٍ جنَاحٌ أنْ لَا يَطوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قالَتْ: بِئْس مَا قلْتَ يَا ابنَ أخْتِي إنَّ هذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لَا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ولَكِنهَا نزَلَتْ في الأنْصَارِ كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلموا يهُلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتي كَانوا يَعْبدُونَها .. البخاري في الحج باب وجوب الصفا والمروة 2/ 193، ومسلم في كتاب الحج باب بيان أنّ السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به 2/ 928،والموطأ 1/ 373، وشرح السنة 7/ 139، وأبو داود 2/ 452 - 454، والترمذي 5/ 208 - 209، والنسائي 5/ 237 - 238. (¬2) انظر كلام الشارح في أحكام القرآن 1/ 46 والعارضة 6/ 94 - 96. (¬3) عبد الملك هو ابن الماجشون تقدم والقول عزاه له النووي في المجموع 8/ 179، وأشار الحافظ إلى هذا القول بقوله: وعندهم، أي المالكية، رواية أن رمي جمرة العقبة ركن يبطل الحج بتركه. فتح الباري 3/ 579. (¬4) انظر بداية المجهد 1/ 348 - 349. (¬5) انظر المجموع للنووي 8/ 94. (¬6) وانظر عمدة القاري شرح صحيح البخاري 10/ 5، وشرح فتح القدير 2/ 169. (¬7) قائل هذا القول هم الحنابلة، انظر المغني لابن قدامة 3/ 370 - 371.

مَعَنَا هذِهِ الصَّلَاةَ - يَعْنَي صَلَاةَ الصُّبْحِ- بِالْمُزْدلِفَةِ وَقَدْ وَقَفَ قَبْلَ ذلكَ بَعَرَفَة لَيْلًا أوْ نَهَاراً فَقَدْ تَمَّ حِجُّة (¬1)). رواه الجماعة وأخرجه الدارقطني في الإلزامات (¬2) ودليلنا قول الله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} (¬3)، واتفق الخلق على وجوب هذا الأمر، وبيَّن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كيفيته بأن وقف حتى غربت الشمس (¬4) فدل على أن الدليل أصل لانتظاره إياه واعتماده بوقوفه. فإن قيل: فقولوا إن الليل والنهار ركن لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وقف بهما جميعاً، قلنا: لا قائل به فلا يجوز إحداث قول ثالث بين الأمة وقد بينّاه في أصول الفقه. وأما حديث عروة فقد تركه الإمامان لأنه لم يروه عن عروة إلا واحد وكان مذهبهما أن الحديث لا يثبتانه حتى يرويه اثنان (¬5)، وهذا مذهب باطل، وهو مذهب القدرية بل رواية ¬

_ (¬1) أبو داود 2/ 448، والترمذي 3/ 238 وقال: حسن صحيح، والنسائي 5/ 263، وابن ماجه 2/ 1004، وأحمد في 4/ 261 - 262، والحاكم في المستدرك 1/ 463 وقال: حديث صحيح على شرط كافّة أئمة الحديث، وهي قاعدة من قواعد الإِسلام وقد أمسك عن إخراجه الشيخان .. على أصلهما أن عروة بن مضرس لم يحدِّث عنه غير عامر الشعبي، وقد وجدنا عروة بن الزبير حدَّث عنه .. ، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 173 - 174، والدارقطني في السنن 2/ 239 - 240. درجة الحديث: صحّحه الترمذي والحاكم والشارح كما سيأتي قريباً، ونقل الحافظ عن الدارقطني أنه صححه. تلخيص الحبير 2/ 256 كما صححه ابن رشد في البداية 1/ 349 فقال: حديث مجمع على صحته. (¬2) انظر الإلزامات للدارقطني ص 98 تحقيق مقبل هادي. (¬3) سورة البقرة آية 199. (¬4) ورد ذلك في حديث جابر الطويل في وصف حجة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، رواه مسلم في الحج باب حجة النبي، - صلى الله عليه وسلم - 2/ 886. (¬5) ما عزاه الشارح هنا للشيخين حكاه قبله عنهما الحاكم والبيهقي، قال الحاكم في المدخل: لم يخرجا، أي الشيخين، في الصحيحين عن أحد من هذا القبيل (أي من لم يرو عنه إلا واحد وتبعه على ذلك البيهقي وغلطوه في ذلك) تدريب الراوي 2/ 266، وقال الحازمي: أما قول الحاكم .. إن اختيار البخاري ومسلم إخراج الحديث عن عدلين عن عدلين إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فهذا غير صحيح ... وقد صرّح بنحو ما قلت من هو أمكن منه في الحديث وهو أبو حاتم محمَّد بن حبان البستي .. قال: وأما الأخبار فإنها كلها أخبار الآحاد لأنه ليس يوجد عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، خبر من رواية عدلين، وروى أحدهما عن عدلين وكل واحد منهما عن عدلين حتى ينتهي ذلك إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -. فلما استحال هذا وبطل ثبت أن الأخبار كلها أخبار الآحاد، ومن اشترط ذلك فقد عهد إلى ترك السنن كلها لعدم وجود السنن إلا من رواية الآحاد .. وقد أخرجا في كتابيهما أحاديث عن جماعة من الصحابة ليس لهم إلا راوٍ واحد وأحاديث لا تعرف إلا من جهة واحدة. شروط الأئمة الخمسة ص 41، وانظر توضيح الأفكار 1/ 109.

غسل المحرم

الواحد عن الواحد صحيحة إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وقد بيَّنَّا ذلك في أصول الفقه، ومع أن الحديث صحيح لكنه محتمل أن يكون فيه تفصيل أو شكّ من الراوي فيطلب الدليل على صحة أحد الاحتمالين فوجدنا النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قد اعتمد الليل فدلّ على أنه العمدة. غسل المحرم: ذكر علماؤنا في الحج أربعة أغسال: غسل الإحرام، وغسل دخول مكة، وغسل عرفة (¬1)، وغسل طواف الإفاضة (¬2). والذي أعرف منه غسلان: غسل الإحرام فإن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، اغتسل وهو محرم وأمر أصحابه أيضاً أن يغتسلوا عند الإحرام (¬3)، واغتسل، ¬

_ (¬1) قال ابن قدامة: ولا يشترط للوقوف. طهارة. ونقل عن ابن المنذر قوله: أجمع من تحفَّظ من أهل العلم على أنه لو وقف بعرفة غير طاهر مدرك للحج ولا شيء عليه. المغني 3/ 373، وقال النووي: اتفق العلماء على أنه يستحب الغسل عند إرادة الإحرام بحج أو عمرة، المجموع 7/ 212. (¬2) قال ابن قدامة: الطهارة من الحدث والستارة شرائط لصحة الطواف في المشهور عن أحمد، وهو قول مالك والشافعي. وعن أحمد أن الطهارة ليست شرطاً، فمتى طاف للزيارة غير متطهِّر أعاد ما كان بمكة فإن خرج إلى بلده جبره بدم .. وقال أبو حنيفة: ليس شيء من ذلك شرطاً. المغني لابن قدامة 3/ 343. (¬3) روى الترمذي من طريق عبد الله بن يعقوب المدني عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن خارجه ابن زيد بن ثابت عن أبيه أنه رأى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، تجرد لإهلاله واغتسل. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب. سنن الترمذي 3/ 193، والدارقطني في السنن 2/ 220 - 221، وقال: قال ابن صاعد: هذا حديث غريب ما سمعناه إلا منه. ورواه البيهقي مثل رواية الدارقطني ونقل كلام ابن صاعد وقال: وروي من غير أبي غزية، السنن الكبرى 5/ 32، وعزاه الحافظ للطبراني وضعّفه العقيلي. تلخيص الحبير 2/ 251، والحاكم في المستدرك من طريق يعقوب بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس بلفظ: اغْتَسَلَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ لَبِسَ ثِيَابَهُ فَلَمَّا أتى الْحُلَيْفَةَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ قَعَدَ عَلى مِنْبَرِهِ فَلَمَّا اسْتَوَى بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ أَحرَمَ بِالْحِجِّ). المستدرك 1/ 447 وقال: صحيح الإسناد وكذا قال الذهبي. ورواه البيهقي في السنن الكبرى من نفس الطريق وقال: يعقوب بن عطاء غير قوي، السنن الكبرى 5/ 32 - 33. أقول: حديث زيد فيه عبد الله بن يعقوب بن إسحاق المدني مجهول الحال من التاسعة ت 1/ 194، وقال في ت ت: روى عن ابن أبي الزناد وعبد الله بن عبد العزيز بن صالح وعنه ابن وهب وعبد الملك بن محمَّد بن أيمن وعبد الله بن أبي الزناد .. قال ابن القطان: أجهدت نفسي في التنقيب عن حاله فلم أجد أحداً ذكره، ت ت 6/ 85، وانظر الكاشف 2/ 129، والميزان 2/ 527. وأما ابن أبي الزناد، وهو عبد الرحمن بن أبي الزناد عبد الله بن ذكران المدني، مولى قريش، فصدوق تغير حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيهاً من السابعة، ولِّي خراج المدينة فحمد مات سنةْ130 هـ =

لبس المحرم

- صلى الله عليه وسلم -، لدخول (¬1) مكة بفج وليس غسل الإحرام لرفع حدث وإنما هو التأهب للقاء الله تعالى؛ ولذلك تغتسل الحائض وحدثها قائم، فأما المحرم فيجوز أن يغتسل تبرداً لكن لا يضغث (¬2) رأسه إلا إذا اغتسل من الجنابة، وكره مالك، رضي الله عنه، أن ينغمس في الماء لئلا يقتل الماء القمل (¬3) وليس الماء بقاتل لها بمجرد إلاغتسال (¬4)، نعم ولا بالتحريك للشعر. لبس المحرم: (رَوَى ابنُ عُمَرَ أنَ رَجُلًا سَألَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، مَا يَلْبُسُ الْمُحْرَمُ مِنَ الثيَابِ) (¬5). الحديث إلى آخره. قال الناس: فيه إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه، واختلف في تأويله فيحتمل أن يريدوا بذلك أنه سأل عما يلبس فذكر له ما لا يلبس، والمنهيِ عنه أكثر من المأمور به ويحتمل أن يريدوا بالزيادة قوله: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبِسِ الْخُفَيْنِ وَليَقْطَعْهُمَا ¬

_ = وله 74، ت 1/ 201 - 202، ت ت 6/ 170 - 171، الكاشف 2/ 146. وأما حديث ابن عباس ففيه يعقوب بن عطاء بن أبي رباح المكي، ضعيف من الخامسة، مات سنة 155 هـ، ت 1/ 387، وقال في ت ت: قال أحمد: منكر الحديث، وقال أبو زرعة والنسائي والساجي: ضعيف، وقال ابن معين: ليس بذاك ت ت 11/ 392 - 393، وانظر الكاشف 3/ 256، وقد تقدم تضعيف البيهقي له. درجة الحديثين: ضعيفان ويشهد لهما من جهة المعنى ما رواه مسلم في الحج باب إحرام النفساء واستحباب اغتسالها للإحرام، وكذا الحائض من حديث: عَائِشَةَ قَالَتْ: نَفِسَتْ أسْمَاءُ بِنْت عمَيْسٍ بِمُحَمِّدٍ بنِ أبِي بَكْرٍ بِالشَّجَرَةِ فَأمَرَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، أبَا بَكْرٍ يَأَمُرهَا أنْ تَغْتَسِلَ وَتَهِلَّ، مسلم 2/ 869، ومن حديث جابر أيضاً. (¬1) متفق عليه. البخاري في الحج باب الاغتسال عند دخول مكة 2/ 177، وفي باب دخول مكة ليلاً أو نهاراً. ومسلم في الحج باب المبيت بذي طوى .. والاغتسال لدخول مكة 2/ 919، وشرح السنة 7/ 97، كلهم من حديث ابن عمر. (¬2) الضغث: معالجة شعر الرأس عند الغسل. النهاية 3/ 90. (¬3) انظر شرح الزرقاني 2/ 226. (¬4) في (ك) و (م) الانغماس وهي أنسب مع ما قبلها. (¬5) وبقية الحديث (لَا يَلْبِس الْقَمِيص وَلَا العَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا البَرانِس وَلَا الْخِفاف إلَّا أحدٌ لَا يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبِسْ خفيْن وَلْيَقْطَعْهُمَا أسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ وَلاَ تَلْبَسُوا ينَ الثِّيَابِ شَيْئاً مَسَّة الزَّعْفَرَان أَوِ الْوَرْس). البخاري في الحج باب ما يلبس المحرم من الثياب 2/ 168 - 169، ومسلم في الحج باب ما يباح للمحرم وما لا يباح 2/ 834، والموطأ 1/ 324 - 325 كلهم عن ابن عمر.

أسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ)، وقيل يحتمل أن يريدوا بالزيادة قوله: (وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثيَابِ مَا مَسَّهُ الزعْفَرَانُ وَالْوَرْسُ.) فسأله عن الثياب فزاده الطيب (¬1). وعجباً لأحمد بن حنبل يقول: لا يلبس الخفين مقطوعة أسفل من الكعبين (¬2)، وهو نص في الحديث، وقول عمر بن الخطاب لطلحة بن عبيد الله: إنكم أيها الرهط أئمة يُقتدى بكم (¬3). أما جملتهم فيقتدي به جميع الناس وأما آحادهم فيقتدي بهم العامي الذي لا علم عنده (¬4)، وقد قال (ش) في أحد قوليه إن قول الواحد من الصحابة (¬5) حجة، وقد بيَّنا في أصول الفقه استحالة ذلك. قال لنا فخر الإِسلام (¬6) في الدرس: الدليل على قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -:"أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ" (¬7)، فضمن الاهتداء في الاقتداء، ولو كان الحديث صحيحاً لأثرنا فيه نظراً ولكنه لم يصح فوجب إلغاؤه؛ والدليل على ما قلناه قول عمر لطلحة: فلو أن رجلاً ¬

_ (¬1) انظر تفصيل هذا المبحث في شرح النووي على مسلم 8/ 73، وفح البارى 3/ 401 وهو مهم جداً. (¬2) انظر المغني لابن قدامة 3/ 281، وفح الباري 3/ 402. (¬3) رواه مالك في الموطأ عن نافع أنه سمع أسلم مولى عمر يحدث عن عبد الله بن عمر أن عمر .. الموطأ 1/ 326، والبيهقي من طريق مالك. السنن الكبرى 5/ 60. درجة الأثر: صحيح. (¬4) قال ابن عبد البر: الأقتداء بأصحاب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، منفردين إنما هو لمن جهل ما يسأل عنه، ومن كانت هذه حاله فالتقليد لازم له ولم يأمر أصحابه أن يقتدي بعضهم ببعض إذا تأوَّلوا تأويلاً سائغاً جائزاً ممكناً في الأصول وإنما كان كل واحد منهم نجماً جائزاً أن يقتدي به العامي الجاهل بمعنى ما يحتاج إليه في دينه، وكذلك سائر العلماء مع العامة. جامع بيان العلم وفضله 2/ 90. (¬5) قال الشيرازي: إذا قال الصحابي قولاً ولم ينتشر لم يكن ذلك حجة ويقدم القياس عليه في قوله الجديد، وقال في القديم: هو حجة يقدم على القياس ويخص العموم به، التبصرة للشيرازي ص 395. وقال الأسنوي في التمهيد: قول الصحابي حجة فيما ليس فيه للاجتهاد مجال كذا نص عليه الشافعي في اختلاف الحديث، التمهيد في تخرج الفروع على الأصول ص 483. (¬6) تقدم. (¬7) الحديث أورده ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله وذكر إنه رواه البزار من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وربما رواه عبد الرحيم عن أبيه عن ابن عمر، وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قِبَلِ عبد الرحيم بن زيد لأن أهل العلم قد سكتوا عن الرواية لحديثه، والكلام أيضاً منكر عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، جامع بيان العلم وفضله 2/ 90، وأورده العجلوني في كشف الخفاء 1/ 132. أقول: عبد الرحيم بن زيد العمي تقدم وهو ضعيف عند الجميع، وقد كذّبه يحيى بن معين. درجة الحديث: ضعيف كما قال الشارح وابن عبد البر.

الطيب في الحج

جاهلاً رأى هذا الثوب، ولم يقل عالماً (¬1). وأما تخمير المحرم وجهه فالعمدة فيه إنه مأمور بكشف رأسه الذي هو مستور دائماً فكيف أن يستر (¬2) وجهه (¬3)؟ الطيب في الحج: ذكر فيه حديث عائشة (كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم - (¬4)) الحديث وروي (كُنْتُ أنظُرُ إلَى وَبِيصَ الطَّيب في مَفَارِقِ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ مُحْرَمٌ (¬5)). واختلف الناس في ذلك اختلافاً متبايناً؛ فالشافعي، من فقهاء الأمصار، رأى أخذ الحديث بظاهره (¬6). وانتهت الكراهية بقوم فيه لأن يقول عالمهم: لأن أُطلى بقطران أحبُّ إليَّ من أن أصبح محرماً أنضح طيباً (¬7). واختلف الناس في تأويل هذا الحديث على أربعة أقوال: فمنهم من قال: كان ذلك خصوصاً للنبي، - صلى الله عليه وسلم - (¬8). ¬

_ (¬1) قال له عمر: فلو أن رجلاً جاهلاً رأى هذا الثوب لقال إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام فلا تلبسوا أيها الرهط شيئاً من هذه الثياب المصبغة. (¬2) هذه مسألة اختلف فيها الأئمة: ذهب الشارح إلى مذهب مالك وأبي حنيفة. قال النووي: مذهبنا إنه يجوز للرجل المحرم ستر وجهه ولا فدية عليه، وبه قال جمهور العلماء. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز كرأسه، واحتج لهما بحديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المحرم الذي خرّ من بعيره: (وَلاَ تخَمِّرُوا وَجْهَهُ وَلاَ رَأْسَهُ). المجموع 7/ 268، وانظر مسلم في كتاب الحج باب ما يفعل بالمحرم إذا مات 2/ 865، والبخاري أيضاً في الجنائز باب الكفن في ثوبين 2/ 96. (¬3) وفي (ك) زيادة والله يوفق برحمته. (¬4) لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت. الموطأ 1/ 328، والحديث متفق عليه. البخاري في الحج باب الطيب عند الإحرام 2/ 168، ومسلم في الحج باب الطيب للحرم عند الإحرام 2/ 846، والبغوي في شرح السنة 7/ 45. (¬5) متفق عليه. البخاري في الغسل باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب 1/ 76، ومسلم في الحج باب الطيب للمحرم عند الإحرام 2/ 847، كلاهما عن عائشة. (¬6) انظر المجموع للنووي 7/ 221. وفتح الباري 3/ 398، وشرح السنة 7/ 47. (¬7) متفق عليه. البخاري في كتاب الغسل باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب 1/ 76، ومسلم في الحج باب الطيب للمحرم عند الإحرام 2/ 849، كلاهما من رواية محمد بنِ المُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْد الله بْنَ عُمَرَ عَنِ الرجلِ يتطيب ثم يُصْبح مُحْرَماً، فَقَالَ: مَا أحِبُّ أَنْ أصْبحَ محْرَماً أَنْضَح طِيباً لأن أُطْلَى بقَطْرَانٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَفْعَلَ ذلِكَ، فَدخَلْت عَلَى عَائِشَةَ فَأخْبَرْتهَا أَنَّ أبنَ عُمَرَ قَال- .. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَا طَيبْت رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ إحْرَامِهِ ثم طَافَ عَلَى نِسَائه ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرَماً .. (¬8) قال المهلب وأبو الحسن بن القصار وأبو الفرج المالكية .. قال الحافظ بعد نقل هذا القول: ورجّحه =

قلت: وهذا قول حسن قوي في النظر؛ وذلك أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بما روي عنه من الآثار، وقامت عليه الأدلة من سائر الأخبار (حُبَّبَ إلَيَّ مِنْ دنْيَاكُمُ (¬1) ثَلَاثٌ (¬2)) الحديث. فلما أدخل الله تعالى حبها في قلبه خصَّه بكل واحدة منها بفرضه. فأما الصلاة فأفرده فيها بقيام الليل (¬3)، وأما النكاح فأفرده بالزيادة في العدد (¬4) ويإسقاط الصداق في الموهوبة (¬5) ¬

_ = ابن العربي بكثرة ما ثبت له من الخصائص في النكاح .. وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالقياس. فتح الباري 3/ 399. (¬1) النسائي 7/ 61، وأحمد في المسند 3/ 128 - 199 - 285، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 78، والحاكم في المستدرك 2/ 160 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وكذا قال الذهبي، وأورده السيوطي في الجامع الصغير وعزاه لأحمد، وفد وهَّمه المناوي بنسبته إلى أحمد في المسند وإنه ما أخرجه إلا في الزهد، وقال من جملة من قال ذلك المؤلف نفسه، فيض القدير 3/ 371، والحديث من رواة أنس. قلت: والصواب إن أحمد أخرجه كما تقدم، والحديث فيه محمَّد بن عبد الرحمن الطفاوي، أبو المنذر البصري، صدوق يهم من الثامنة/ خ د ت س، ت 2/ 185 وقال في ت ت: قال علي ابن المديني: كان ثقة وقال أبو داود وأبو حاتم: ليس به بأس، زاد أبو حاتم: صدوق صالح إلا أنه يهم أحياناً، وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات. ت ت 9/ 309. درجة الحديث: نقل المناوي عن العراقي قوله إسناده جيد، وعن ابن حجر إنه حسن، فيض القدير 3/ 371. والظاهر إنه حسن لغيره لأن محمَّد بن عبد الرحمن صدوق يهم، وحسّنه الشيخ ناصر الألباني في تعليقه على المشكاة 3/ 1448. (¬2) هذه اللفظة الراجح عدم صحتها؛ فقد قال المناوي: زاد الزمخشري لفظ ثلاث وهو وهم. قال العراقي في أماليه: لفظ ثلاث ليست في شيء من كتب الحديث وهي تفسد المعنى، وقال الزركشي: لم يرد فيه لفظ ثلاث وزيادتها مخلّة للمعنى، وقال ابن حجر: لم تقع في شيء من طرقه وهي تفسد المعنى إذا لم يذكر بعدها إلا الطيب والنساء ثم لم يضفه إلى نفسه. فيض القدير 3/ 370. درجة هذه الزيادة باطلة كما قال الشيخ ناصر الألباني في تعليقه على المشكاة 3/ 1448. (¬3) قال القرطبي: اختلف هل كان قيام الليل فرضاً على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وحده أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء أو عليه وعلى أمته ثلاثة أقوال: الأول: قول سعيد بن جبير لتوجيه الخطاب إليه خاصة. الثاني: قول ابن عباس قال: كان قيام الليل فريضة على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الأنبياء قبله. الثالث: قول عائشة وابن عباس وهو الصحيح. تفسير القرطبي 19/ 33 وقال أيضاً إن قيام الليل كان واجباً عليه إلى أن مات لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ} والمنصوص أنه كان واجباً عليه ثم نسخ. تفسير القرطبي 14/ 211. (¬4) قال في الأحكام ص 1554: عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على عدة من النساء وسردهم، وقال: ومات عن تسع. (¬5) قال تعالى في سورة الأحزاب آية 50 {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}. قال القرطبي: أي أحللنا لك امرأة تهب نفسها من غير صداق. تفسير القرطبي 4/ 208.

وبالاستغناء عن الولي والشهود، وخصَّه بالطيب (¬1) وهو محرم ليكمل له المتاع بما يحب في كل حال (¬2)، وقد تكلمنا على هذا الحديث بالاستيفاء في الكتاب الكبير (¬3). ومنهم من قال: إن ذلك الطيب الذي كانت عائشة تدهن به رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، إنما كان طِيبَ لونٍ لا طِيبَ ريحٍ، وقد روي ذلك في الآثار (¬4). وقد تفطن له مالك، رضي الله عنه، بثقابة ذهنه فذكر الحديث في أول الباب ثم قال في آخره: (لَا بَأسَ أنْ يَدْهَنَ الْرَّجُلُ بِدِهْنٍ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ) (¬5) ومنهم من قال: كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يتطيب ثم يطوف علي نسائه ثم يغتسل من الجنابة ويغتسل للإحرام فيبقى بريق الطيب ووبيصه ونضارته وتذهب عينه (¬6). وكذلك روي في الحديث (كُنْتُ أطَيِّبُ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، ثُمّ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ ثُمَّ يَحْرمُ) (¬7) ومنهم من قال: هذا منسوخ أو مخصوص (¬8) بالحديث الصحيح قطعه مالك في ¬

_ (¬1) في (ك) و (م) زيادة بأطيب الطيب. (¬2) تقدم في ذلك حديث عائشة. (¬3) انظر المسالك على موطأ مالك ل 324 ب، وليس هو الكتاب الكبير الذي يشير إليه بدليل إشارته إليه في المسالك. (¬4) روى النسائي من طريق ضمرة بن ربيعة عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "طَيَّبْتُ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، لإحْلاَلِهِ وَطَيبتُة لإحْرَامِهِ طِيباً لاَ يُشبِهُ طِيبُكُمْ هذَا"، قال الراوي ليس له بقاء. سنن النسائي 5/ 137 قال الحافظ: ويرد هذا التأويل رواية مسلم من طريق عبد الرحمن بن القاسم بطيب فيه مسك. فتح الباري 3/ 399، وانظر رواية مسلم في كتاب الحج باب الطيب للمحرم 2/ 849. أقول: الحديث فيه ضمرة بن ربيعة الفلسطيني؛ أبو عبد الله، أصله دمشقي، صدوق يهم قليلاً من التاسعة. مات سنة 202/ بخ ع، ت 1/ 374. وقال في ت ت: وثقه ابن معين والنسائي وابن سعد وابن حبان، وقال الساجي صدوق يهم عنده مناكير، وقال العجلي ثقة. ت ت 4/ 460. درجة الحديث: حسن لغيره والله أعلم. (¬5) الموطأ 1/ 330. (¬6) هذا القول حكاه الحافظ عن بعض المالكية ولم يعينه (واستدل هذا القائل بالحديث الآتي) (ثُم طَافَ عَلى نِسَائهِ فَأصْبَحَ مُحْرَماً). فإن المراد بالطواف الجماع، وكان من عادته أن يغتسل عند كل واحدة ومن ضرورة ذلك أن لا يبقى للطيب أثر. ويرده رواية البخاري (ثُم أصْبَحَ مُحرَماً يَنْضَحُ طِيباً). انظر البخاري في الغسل باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب من طريق محمَّد بن المنتشر عن أبيه عن عائشة 1/ 76، ومسلم في الحج باب الطيب للمحرم 2/ 849، ثم قال الحافظ: فهو ظاهر في أن نضح الطيب وهو ظهور رائحته كان في حال إحرامه. فتح الباري 3/ 398. (¬7) انظر تخريج الحديث فيما سبق. (¬8) هذا قول ابن عبد البر فقد قال: لا خلاف بين جماعة أهل العلم بالسير والآثار أن قصة صاحب الجهة كانت =

تتميم

الموطّأ وأسند في الصحيحين، وفي كل كتاب قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -، للأعرابي (¬1): (انْزَعْ قَمِيصَكَ وَاغسِلْ عَنْكَ أثَرَ الطِّيب أوِ الصُّفْرَةِ) (¬2)، فتعارض ها هنا على هذا الوجه قوله وفعله فوجب الرجوع إلى قوله لأنه قال في حالة فعله، وهذه نكتة بديعة فافهموها. تتميم: إذا ثبت هذا فقد روي في الحديث الصحيح أن أعرابياً وقصت به ناقته في لحافين جردان (¬3) فسقط فوقص فمات فقال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "كفِّنُوهُ في ثَوْبَيْهِ وَلَا تُغَطُّوا رَأسَهُ وَلَا تَمَسُّوهُ طِيباً فَإنَّهُ يُبعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبياً" (¬4) قالت جماعة منهم (ش): كذلك يفعل بكل محرم لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ذكر الحكم وهو منع الطيب وستر الرأس وذكر العلة وهو بقاء الإحرام فوجب أن تطرد (¬5). قال علماؤنا: إنما يكون ذلك إذا كانت العلة مشاهدة أو في حكم مشاهدة (¬6)، فأما إذا كانت غائبة فلا يطرد الحكم بها. وقوله: "يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبياً" أمر مغيب لا يعلمه إلا رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ولسنا نعلم أن كل محرم يبعث (ملبياً) (¬7). وفات علماء الشافعية ها هنا نكتة وذلك أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، جعل علة منع الطيب التلبية يوم القيامة (¬8) معلولاً للموت على الإحرام فحينئذ كنا نحكم به لكل محرم، وقد أشار مالك، رضي الله عنه، إلى كلمة ذكرها من قبل نفسه وهي من حديث صحيح (¬9)، حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك قوله: "إنَمَا يَعْمَلُ الْرَّجُلُ مَا دَامَ حَيّاً فَإِنْ مَاتَ انْقَطَعَ عَنْهُ الْعَمَلُ" (¬10) ¬

_ = عام حنين بالجعرانة سنة ثمان وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر. قال ابن قدامة، بعد نقل كلام ابن عبد البر: فعند ذلك إن قدر التعارض فحديثنا ناسخ لحديثهم (أي حديث عائشة) المغني 3/ 274، وانظر المجموع 7/ 22، وفتح الباري 3/ 395. (¬1) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، فتح الباري 3/ 394. (¬2) الموطّأ 1/ 328، والبخاري في الحج باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب 2/ 167، ومسلم في الحج باب ما يباح للمحرم وما لا يباح وبيان تحريم الطيب عليه 2/ 836، كلاهما من طريق صفوان بن يعلي بن أمية عن أبيه. (¬3) كذا في جميع النسخ والصواب جردين. قال في تاج العروس 2/ 317: ثوب جرد، أي خلق. (¬4) متفق عليه: البخاري في الجنائز باب كيف يكّفن المحرم 2/ 96، ومسلم في الحج باب جواز غسل المحرم بدنه ورأسه 2/ 865، وأبو داود 3/ 561، والنسائي 5/ 144 كلهم من حديث ابن عباس. (¬5) انظر شرح النووى على مسلم 8/ 128. (¬6) انظر شرح الزرقاني 2/ 233. (¬7) في (ك) و (م) و (ص) يلبّي. (¬8) في (ك) و (م) زيادة: وإنما كان يكون ما قالوا. (¬9) في (م) من صحيح حديث وهي الأولى. (¬10) لم أطلع على هذا العزو.

مواقيت الإهلال

قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: (إِذَا مَاتَ الْمَرْءُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ" (¬1)، وإذا كان العمل منقطعاً بالموت فالطيب جائز كما لو أحلّ في الحياة من إحرامه. مواقيت الإهلال: ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، تحديد المواقيت (¬2). فلما كان في زمن عمر، رضي الله عنه، وفتح الله تعالى العراق شكوا إليه أن نجداً أجور لهم عن طريقهم فوقَّت لهم ذات عرق (¬3)، وهذا دليل على صحة القول بالقياس كما قال جميع العلماء وعلى صحة القول بالمصلحة كما قال مالك، رضي الله عنه، وقد بيَّنا ذلك في أصول الفقه. إِشارة: كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إذا أحرم يقول في التلبية "لَبَيْكَ الْلَّهُمَّ لَبَّيكَ" (¬4) والداعي بالحج كان إبراهيم، عليه السلام (¬5)، قيل له: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ (¬6) رِجَالًا} الآية، فقيل للخلق قولوا لبيك اللهم، وأسقطوا الواسطة لأنه لم يكن إلا عارية وبسط هذه ¬

_ (¬1) مسلم في الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته 3/ 1255، والبغوي في شرح السنة 1/ 300 كلاهما عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هُرَيْرَة. (¬2) ثبت عند الشيخين من حديث ابن عباس قال: وَقَّتَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، لأهْلِ الْمَدينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلأِهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ وَلأهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ وَلأهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ ... البخاري في الحج باب مهل أهل مكة للحج والعمرة 2/ 165، وفي باب مهل أهل الشام، وفي باب مهل من كان دون المواقيت، وفي باب مهل أهل اليمن 2/ 166. ومسلم في الحج باب مواقيت الحج والعمرة 2/ 838، وأبو داود 2/ 353 - 354، والنسائي 5/ 123 - 124. (¬3) البخاري في الحج باب ذات عرق لأهل العراق 2/ 166، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 27، والبغوي في شرح السنة 7/ 40. وقال البغوي: والصحيح أن عمر بن الخطاب حدَّها لهم على موازاة قرن لأهل نجد، شرح السنة 7/ 39. (¬4) الموطّأ 1/ 331، والبخاري في الحج باب التلبية 2/ 170، ومسلم في الحج باب التلبية وصفتها ووقتها 2/ 841، وشرح السنة 7/ 49 كلهم من حديث ابن عمر. (¬5) قال ابن عبد البر: قال جماعة من أهل العلم: معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم حين أذَّن في الناس بالحج. قال الحافظ، بعدما نقل كلامه: أخرجه عبد ابن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم بأسانيدهم في تفاسيرهم عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغير واحد، والأسانيد إليهم قوية. فتح الباري 3/ 409، وانظر تفسير القرطبي 12/ 38، وأحكام القرآن للشارح 3/ 1267. (¬6) سورة الحج آية 27.

إفراد الحج

الإشارة وإيضاحها يكون في مواضع أخرى (¬1). إفراد الحج: ذكر حديث عائشة (خَرَجْنَا مَعْ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، عَامَ حِجَّةِ الْوَادع فَمِنَّا مَنْ أهَلَّ بِعُمْرَةٍ) إلى آخره، وثبت أنها قالت: فَآمَرَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أنْ يَحِلَّ .. وكان نساؤه لم يسقن الهدي (¬2). وثبت عن ابن عباس نحوه (¬3). وصح أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال لعلي حين قدم من اليمن: (بِمَ أهْلَلْتَ قال: أهْلَلْتُ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: هَلْ سُقْت الْهَدْيَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأمَرَهُ أنْ يَبْقَى عَلَى إحْرَامِهِ) (¬4). وذكر له أبو موسى مثلاً ذلك ولم يكن معه هدي فأَمره أن يحل (¬5). وعن جابر بن عبد الله نحوه (¬6)، وثبت أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، تمتع من حجه (¬7). ¬

_ (¬1) بسط الشارح الكلام على التلبية في العارضة 4/ 41 وأحال على مسائل الخلاف لأنه تكلَّم فيها على التلبية بأوسع مما في العارضة. وانظر كلام النووي عليها في المجموع 7/ 40، وفتح الباري 3/ 409. (¬2) متفق عليه. البخاري في الحج باب التمتع والإقران والإفراد بالحج 2/ 174 - 175، ومسلم في الحج باب بيان وجوه الإحرام 2/ 877، والموطّأ 1/ 335، كلهم عن عائشة قالت: خَرَجْنَا مَعْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاع فَمِنَّا مَنْ أهلَّ بِعُمْرَةٍ وَمِنّا مَنْ أهل بِالْحَجَّ وَأهلَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالْحَج فَأمَّا مَنْ أهلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ وَأمّا مَنْ أهلَّ بِحِج أو جَمَعَ الْحِجَّ وَالْعُمْرَةَ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ، لفظ الموطّأ. (¬3) مسلم في الحج باب متعة الحج 2/ 909، وأبو داود 2/ 397، ولفظه: عَنْ ابنِ عَباس، أهلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، بِعُمْرَةٍ وَأهلَّ أصْحَابُهُ بحِجٍّ فَلَمْ يَحِلّ النبيُ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ أَصحَابِهِ وَحَلَّ بَقِيَّتُهُمْ. لفظ مسلم. (¬4) متفق عليه. البخاري في الحج باب من أهلَّ في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -. البخاري 2/ 172، ومسلم في الحج باب إهلال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهديه 2/ 914، والترمذي 3/ 290 كلهم من حديث أنس بن مالك. (¬5) متفق عليه. البخاري في الحج باب متى يحل المعتمر 3/ 8، ومسلم في الحج باب نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام 2/ 894 - 895، والنسائي 5/ 154. (¬6) متفق عليه، البخاري في الحج باب تقضي الحائض المناسك كلّها إلا الطواف بالبيت .. 2/ 195 - 196، ومسلم في الحج باب بيان وجوب الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران وجواز إدخال الحج على العمرة: 2/ 883 - 884. (¬7) متفق عليه. البخاري في الحج باب من ساق البدن معه 2/ 205، ومسلم في الحج باب وجوب الدم على =

وثبت عن أنس وغيره أنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَبَّيْكَ بِحِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ (¬1) مَعاً" وثبت أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لما نزل العقيق جاءه جبريل فقال له: صَلِّ في هذَا الْوَادي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةً في حِجَّةٍ (¬2)، إلى أحاديث سواها مختلفة كاختلافها، فإن قيل وهو سؤال وجهته الملحدة واعترض به الطاعنون على الشريعة قالوا: كيف تثقون بالرواية وهذا رسول الله في حجة واحدة قد اجتمع أصحابه حوله وأحدقوا إِليه وتشوَّفوا نحوه يقتدون به ويعملون بعمله لم تنتظم روايتهم ولا انضبط بقولهم ما كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عليه فهذا حالهم فيما قصدوا إليه بالتحصيل فكيف يكون فيما جاء عرضاً (¬3). واختلف في ذلك جواب العلماء على أربعة أقوال. فكان أول من تكلم عليه (ش) في كتاب مختلف الحديث له، وهو كتاب حسن، فتح فيه الطريقة وكشف الحقيقة (¬4)، ثم تعرَّض له بعد ذلك جماعة. فأما ابن قتيبة (¬5) فهوى على أم رأسه لأنه لبس ما لم يكن من بزّه (¬6). وأما الطحاوي فتكلم عليه في ألف وخمسمائة ورقة قرأناها بالثغر (¬7) المحروس فأجاد فيما تعلَّق بالفقه الذي كان بابه وكان منه تقصير في غيره (¬8). وأما التحقيق فيها فلا يوصل إليه إلا بضبط القوانين وتمهيد ¬

_ = التمتع 2/ 901، وأبو داود 2/ 397، والنسائي 5/ 151 - 152، والبغوي في شرح السنة 7/ 66 كلهم من حديث ابن عمر. (¬1) متفق عليه. البخاري في عدة مواضع منها في الحج باب رفع الصوت بالإهلاك 2/ 170، وفي الجهاد باب الخروج بعد الظهر 4/ 59، وفي الإرداف في الغزو والحج 4/ 67، ومسلم في الحج باب في الإفراد والقران بالحج والعمرة 2/ 905. (¬2) البخاري في الحج باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: الْعَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ 2/ 167، والبغوي في شرح السنة 7/ 73 وأحمد انظر الفتح الرباني 11/ 151، كلهم من حديث عمر، رضي الله عنه. (¬3) هذا القول نقله البغوي ولم يعزه لأحد، وقد قال ما نصه: طعن جماعة من أهل الجهل، ونفر من الملحدين، في أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأطالوا لسان الجهل في أهل الرواية .. شرح السنة 7/ 87. وانظر كلام ابن حبان في تهذيب السنن 2/ 326 على هذه المسألة فقد نقله ابن القيم رحمه وأقره، وابن حبّان نقل اعتراض الملحدة وأجاب عنه بالجمع بين الأحاديث وأنه لا تضاد بينها. (¬4) سيأتي كلامه. (¬5) انظر مختلف الحديث لابن قتيبة ص 337. (¬6) البزّ: الثياب أو متاع البيت من الثياب ونحوها. مختار القاموس ص50. وانظر ترتيب القاموس 1/ 265. (¬7) الثغر: هو الموضع الذي يكون حداً فاصلاً بين بلاد المسلمين والكفار، وهو موضع المخافة من أطراف البلاد. النهاية. قلت: والشارح يقصد بالثغور هنا ثغور الشام لأنه عاش فيها فترة وقرأ على علمائها. (¬8) يقصد الشارح بذلك كتابه مشكل الأثار وهو مطبوع ومتداول بين طلاب العلم.

الأصول وحمل الفروع عليها بعد ذلك، وقد أشرنا إِليه في قانون التأويل. وقال (ش): وجه الجمع بين هذه الأحاديث أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أفرد الحج فعلًا وغيره بما نسب إليه إنه فعله إنما معناه أمر به، والآمر تعدُّه العرب فاعلاً وتخبر به عن الفعل، تقول: رجم الحاكم الزاني، وقطع اللص لما أمر وإن كان لم يتناول ذلك (¬1). وهذا التأويل، وإن حسن في مواضع فليس هذا منها لأن ظواهر الأحاديث المتقدمة تدفعه فتأملوها. وقال غيره: كان أمر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في إحرامه موقوفاً حتى يبين الله له كيف يكون فيه، وروى في ذلك أثراً (¬2). واتقن علماؤنا المتأخرون الجواب فقالوا: إن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لما أمره الله تعالى بالحج وأحرم انتظر الوحي بكيفية الالتزام وصورة التلبية فلم ينزل عليه شيء فاعتمد ظاهر ما، أمر به فقال: "لَبيْكَ اللهم لَبيْكَ بِحِجَّةٍ" (¬3) فسمعه جابر وعائشة فسمعا الحقَّ ونقلا الحقَّ، وانتظر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أن يقرَّ على ذلك أو يبين له فيه شيء فلم يكن فقال: لَبيْكَ بِحِجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، فسمعه أنس وهو تحت راحلته حين قال: ما تعدوننا إلا صبياناً؛ لقد سمعت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، يصرخ بهما جميعاً لبيك بحجة وعمرة معاً (¬4)، فسمع الحقَّ ونقل الحقَّ، وسار النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، على هذه الحالة حتى نزل بالعقيق فنزل عليه جبريل وقال له: (صَلَّ في هذَا الْوادي الْمُبَارَكِ وَقُلْ عُمْرَةٌ في حِجَّةٍ) (¬5)، فكشف له قناع البيان عن القرآن واستمر عليه والتزم من ذلك ما التزمه وخرج حتى دخل مكة فأمر أصحابه أن يفسخوا الحج إلى العمرة فقالوا له: كَيْفَ نفْعَلُ ذلِكَ وَقَدْ أهْلَلنا بِالْحِجَّ؟ قَالَ لَهُمْ: إِفْعَلُوا مَا أمرْتُكُمْ بِهِ، فَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لأحْلَلْتَ كَمَا تَحِلُّونَ، ¬

_ (¬1) انظر اختلاف الحديث المطبوع بهامش الأم 7/ 408 - 410 وشرح السنة 7/ 88. (¬2) رواه الشافعي عن سفيان عن ابن طاوس وإبراهيم بن ميسرة أنهما سمعا طاوسا يقول خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسمي حجاً ولا عمرة ينتظر القضاء قال فنزل عليه القضاء وهو يطوف بين الصفا والمروة وأمر أصحابه أن من كان منهم من أهل بالحج ولم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة فقال (لو اسقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي) مسند الشافعي 1/ 372 ومن طريق الشافعي رواه البيهقي في السنن الكبرى 5/ 6 وقال النووي ظاهر الأحاديث الصحيحة كلها أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يحرم إحراماً مطلقاً بل معيناً وقد قال الشيخ أبو حامد في تعليقه وصاحب البيان وآخرون من أصحابنا المشهور في الأحاديث خلاف ما قاله الشافعي في هذا وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم هو وأصحابه بالحج فلما دخل مكة فسخه إلى العمرة لمن لم يكن معه هدي المجموع للنووي 7/ 166. درجة الحديث مرسل صحيح. صححه النووي في المجموع 7/ 166. (¬3) تقدم. (¬4) تقدم. (¬5) تقدم.

وَقَالَ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمري مَا أستدْبَرْتُ مَا سِقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتَهَا عُمْرَةً (¬1)، فارتفع التناقض وزال التعارض وانتظم القول من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - والعمل منه ومن أصحابه (¬2). فأما (م) (¬3) و (ش) (¬4) فقالا: الإفراد أفضل؛ لأنه هو المفروض وتخليص الفرض عن السنة أو عن فرض آخر يمزج منه أولى. وأما أحمد بن حنبل في جماعة فقالوا: التمتع أولى (¬5) بما ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إنه قال: "لَوِ أسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ" الحديث. فتمنى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أن يكون متمتعاً ولا يتمنى إلا الأفضل. قلنا: ولا يفعل إلا الأفضل فكيف يفوته الله تعالى الأكمل ويرده إلى الأدون. وأما قولهم في الحديث تمتع رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فقد احتج به أيضاً، والمراد بقوله تمتع جمع بين الحج والعمرة وهو متاع ولم يرد به المتعة المطلقة لأنه قد تمنّاها، ولو كان فيها ما تمناها، وأما التمني فلا حجة فيه لأنه إنما تمنّى المتعة رفقاً بأمته وتطييباً لنفوسهم حين أمرهم بها، فقالوا له: وكيف نفعلها وأنت لا تفعلها؟ وأما المعاني التي تعلَّق بها مالك، رضي الله عنه، والشافعي ففعل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يسقطها وقد كان قارناً فوجب امتثال ¬

_ (¬1) رواه مسلم في الحج باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - 2/ 886، والبغوي في شرح السنة 7/ 82 كلاهما من حديث جابر الطويل. (¬2) قال القاضي عياض: أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث؛ فمن مجيد منصف، ومن مقصر متكلَّف، ومن مطيل مكثر، ومن مقتصر مختصر، قال: وأوسعهم في ذلك فقهاً أبو جعفر الطحّاوي ثم معه في ذلك أبو جعفر الطبري ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة ثم المهلّب والقاضي أبو عبد الله بن المرابط والقاضي أبو الحسن بن القصار، والحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيرهم. قال القاضي: وأولى ما يقال في هذا ما لخصناه من كلامهم واخترناه من اختياراتهم مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أباح للناس فعل هذه الأنواع الثلاثة ليدل على جواز جميعها؛ إذ لو أمر بواحد لكان يظن أن غيره لا يجزي فأضيف الجميع إليه وأخبر كل واحد بما أمر به وأباحه ونسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إما لأمره به وإما لتأويله عليه، وإما إحرامه، - صلى الله عليه وسلم -، بنفسه فأحرم بالأفضل مفرداً بالحج، وبه تظاهرت الروايات الصحيحة، وأما الرواية بأنه كان متمتعاً فمعناها أمر به. وأما الرواية بأنه كان قارناً فإخبار عن حالته الثانية لا عن ابتداء إحرامه، بل إخبار عن حاله حين أمر أصحابه بالتحلّل من حجهم وقلبه إلى عمرة لمخالفة الجاهلية إلا من كان معه هدي، فكان هو، - صلى الله عليه وسلم -، ومن معه هدي في أخر إحرامهم قارنين بمعنى أنهم أدخلوا العمرة على الحج، وفعلَ ذلك مواساة لأصحابه وتأنيساً لهم في فعلها في أشهر الحج لكونها كانت منكرة عندهم في أشهر الحج، ولم يمكنه التحلل معهم لسبب الهدي، وإعتذر إليهم بذلك في ترك مواساتهم، وصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قارناً في أخر أمره .. تنوير الحوالك 1/ 310 - 311. (¬3) انظر بداية المجتهد 1/ 255، وشرح الزرقاني 2/ 251. (¬4) انظر شرح السنة 7/ 74 والمجموع 7/ 152. (¬5) انظر المغنى لابن قدامة 3/ 262 - 264.

العمرة في أشهر الحج

فعله وإسقاط الاعتراضات عليه والحق أحق أن يتبع، وقد قال عمر بن الخطاب: أن نَأْخُذ بِكِتَابِ الله فَإِنَّ الله أمَرَ بِالإتْمَامِ فَقَالَ: {وَأتِمُّوا الْحج وَالْعُمْرَةَ للِّه} (¬1) وَإنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، فَإِنَّ رَسُولَ الله "جَمَعَ بَيْنَ الْحج وَالْعُمْرَةِ" (¬2)، فخشى عمر، رضي الله عنه، أن جمع الناس دائماً بينهما أن تذهب مرتبتهما في الدين وتخفى مكانتهما على المسلمين، فأمرهم بالتفرقة بينهما ليكون ذلك أبين لهما إن شاء الله. العمرة في أشهر الحج ذكر مالك، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اعتمر ثلاثاً (¬3)، ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (حَجَّ ثَلَاثَ حِجَجٍ) (¬4) وفي مسلم أنه حج حجتين (¬5). وثبت أنه اعتمر أربع عمر الحديبية ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 196. (¬2) متفق عليه. البخاري في الحج باب متى يحل المعتمر 3/ 8، ومسلم في الحج باب في نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام 2/ 895، والنسائي 5/ 153. كلهم من حديث أبي موسى الأشعري. (¬3) الموطّأ 1/ 242. مالك عن هشام ابن عروة عن أبيه أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر إلا ثلاثاً، إحداهن في شوال واثنتين في ذي القعدة وهذا مرسل. درجة الحديث: مرسل سنده صحيح .. (¬4) رواه الترمذي 3/ 178 - 179: (أن النَّبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، حَجَّ ثَلَاثَ حِجَجٍ؛ حِجَّتَيْنِ قَبْلَ أنْ يُهَاجِرَ وَحِجَّةٍ بَعْدَ مَا هَاجَرَ مَعَهَا عُمْرَةٌ) من طريق زيد بن حبان عن سفيان عن جعفر بن محمَّد عن أبيه عن جابر، وقال: هذا حديث غريب من حديث سفيان لا نعرفه إلا من حديث زيد بن حباب .. وقال سألت محمداً عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري عن جعفر عن أبيه عن جابر عن النبي،- صلى الله عليه وسلم -، ورأيته لا يعدّ هذا الحديث محفوظاً وقال: إنما يروي عن الثوري عن أبي إسحاق عن مجاهد مرسلاً، ورواه ابن خزيمة من طريق زيد: حدثني سفيان الثوري عن جعفر بن محمَّد عن أبيه عن جابر بن عبد الله .. صحيح ابن خريمة 4/ 352. أقول: الحديث فيه زيد بن الحُباب، بضم المهملة والموحدتين، أبو الحسين العُكْلي، بضم المهملة وسكون الكاف، أصله من خراسان وكان بالكوفة ورحل في الحديث فأكثر منه وهو صدوق يخطئ في حديث الثوري من التاسعة مات سنة 203/ م ع. ت 1/ 273. وقال في ت ت: قال ابن معين كان يقلب حديث الثوري ولم يكن به بأس ت ت 3/ 402 وانظر الميزان 1/ 362. درجة الحديث: ضعيف لأن رواية زيد هنا عن سفيان وهو ضعيف فيه. (¬5) مسلم في الحج باب بيان عدد عُمَر النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمانهن 2/ 916 من حديث زيد بن أرقم (أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، =

وقضاها وعمرة حنين من الجعرانة وعمرته التي قرنها مع حجته (¬1)، وإنما بوَّب عليه مالك، رضي الله عنه، لأن الله تعالى يقول {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (¬2) فنسبها إلى الحج؛ وهذا يقتضي اختصاصها به فجاء من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما يبيَّن جواز العمرة فيها؛ وإنما جازت العمرة قبل الحج وإن كانت نفلاً وهو فرض لأن وقت العبادة إذا اتسع جاز النفل فيها قبل الفرض كالظهر وغيرها فكيف إذا لم يدخل وقتها؟. حديث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الْعمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةُ كفَّارَةٌ لِمَا بينَهُمَا وَالْحِجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلا الْجَنَّة) (¬3). وأما الحج المبرور فقال علماؤنا: هو الذي لا رفث فيه ولا فسوق مع الصيانة من سائر المعاصي. وقال أهل الإشارة: الحج المبرور هو الذي لم يتعقبه معصية (¬4)، والأول أرفق بالخلق وأظهر عند الفقهاء والسلف، وكذلك قال أبو ذر للرجل (¬5) الذي مر عليه وهو يريد الحج: (ايتنف العمل) (¬6) إشارة إلى أن ذنوبه قد حُطَّت فصار كيوم ولدته أمه ¬

_ = غزَا تِسْعَ عَشَرَةَ وَأنهُ حَجَّ بَعْدَمَا هَاجَرَ حِجَّةَ الْوَدَاعِ. قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى) ورواه أحمد، انظر الفتح الرباني 11/ 63. (¬1) متفق عليه. البخاري في العمرة باب كم اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم -3/ 1 - 2، ومسلم في الحج باب بيان عُمَر النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمانهن 2/ 916، وأبو داود 2/ 506، والترمذي 3/ 179 كلهم عن قتادة عن أنس. (¬2) سورة البقرة آية 197. (¬3) متفق عليه. البخاري في العمرة باب وجوب العمرة وفضلها 3/ 1، ومسلم في الحج باب فضل الحج والعمرة ويوم عرفة 2/ 983، والموطأ 1/ 346، وشرح السنة 7/ 6 كلهم عن أبي هُرَيْرَة. (¬4) يقصد الشارح هنا بأهل الإشارة الصوفية. يقول الغزالي: علامة الحج المبرور أن يعود زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة متأهباً للقاء رب البيت بعد لقاء البيت، إحياء علم الدين 1/ 261. (¬5) قال الزرقاني لم يسم. شرح الزرقاني 2/ 400. (¬6) الموطأ 1/ 424 ومن طريق مالك رواه عبد الرزاق في المصنف 5/ 5، قال ابن عبد البر: هذا لا يجوز أن يكون مثله رأياً وإنما يدرك بالتوقيت من النبي - صلى الله عليه وسلم -. الزرقاني 2/ 400. أقول: محمَّد بن يحيى بن حبان لم يدرك أبا ذر وعلى هذا فالحديث منقطع. وروى الحديث مرفوعاً، أبو حنيفة في جامع المسانيد عن محمد بنِ مالك بْنِ زبَيْرٍ الْهَمَدَانيِّ عَنْ أبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا نريدُ الْحجَّ فَرَأيْنَا أبَا ذر بِالْرَّبْذَة .. قَالَ: إن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: مَنْ خَرَجَ حَاجّاً وَأَخْلَصَ النيَّةَ فَلْيَسْتَأنِفِ الْعَمَلَ فَإنَّ الله تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لَه مَا تَقَدمَ مِنْ ذَنْبِهِ. جامع المسانيد 1/ 502. درجة الحديث: المرفوع منه ضعيف لأن محمَّد بن مالك بن زيد الهمداني قال فيه الحافظ: ما أرى به بأساً. تعجيل المنفعة ص 376، وذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. الجرح والتعديل 8/ 88.

فليستأنف العمل كما يستأنفه في أول أوقات التكليف، والعمرة في الحج كالتكفير لكنه يحتمل أن يريد به إنه كفارة ما لم يغش الكبائر كالصلوات؛ فأما الحج فليس بينه وبين الجنة حجاب وستأتي نكتة ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى. حديث: قال أبو بكر بن عبد الرحمن (¬1) الخولاني: (جَاءَتِ امْرأةٌ إِلَى النبِي - صلى الله عليه وسلم -) الحديث، هذه المرأة هي أم معقل (¬2) قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مَا مَنَعَكَ أنْ تَحِجَّي مَعَنَا؟ قَالَتْ إنَّ أبَا مَعَقَل تَرَكَ جَمَلاً في سَبِيلِ الله، قَالَ لَهَا: هَلْ لاَ حَجَجْتِ عَلَيْهِ فَإنَّ الْحجَ في سَبِيلِ الله؟ وَلكِنِ اعْتَمِرِي في رَمَضَانَ فَإِنَّ عُمْرَةَ في رَمَضَانَ تَعْدُلُ حِجَّةً) (¬3) وَفِي ¬

_ (¬1) أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوني المدني قيل اسمه محمَّد، وقيل المغيرة، وقيل أبو بكر، اسمه وكنيته أبو عبد الرحمن، وقيل اسمه كنيته، ثقة فقيه عابد من الثالثة. مات سنة 74 وقيل غير ذلك/ ع ت 2/ 398 ت ت 12/ 30. (¬2) أم معقل الأسدية زوج أبي معقل، ويقال إنها أشجعية ويقال أنصارية. روى حديثها أصحاب السنن الثلاثة .. عمرة في رمضان تعدل حجة ويقال إنها المراد بما وقع في حديث ابن عباس في الصحيح (أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال لاِمْرَأةٍ مِنَ الأنصارِ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَحِجَّي مَعَنَا؟ قالَتْ: كَانَ لَنَا نَاضِحٌ فَرَكِبَهُ أبو فُلَانٍ وَابنُة، لِزَوْجِهَا وَابنِهَا، فَالَ: فَإذَا كَانَ في رَمَضانَ اعْتَمِرِي فَإِنْ عُمْرَة في رَمَضَانَ تَعْدُلُ حِجَّةً)، ولكن ثبت في مسلم أنها أم سنان. فلما أن يكون اختلف في كنيتها وإما أن تكون القصة تعدَّدت وهو الأشبه. الإصابة 8/ 309. (¬3) الموطأ 1/ 346، ونقل الزرقاني عن ابن عبد البر قوله هكذا لجميع رواة الموطّأ وهو مرسل ظاهر، لكن صح أن أبا بكر سمعه من تلك المرأة فصار بذلك مسنداً. شرح الزرقاني 2/ 269. وقال الحافظ: أخرجه عبد الرزاق عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن معقل بن أبي معقل عَنْ أمَّ مَعْقَلٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (عُمَرَة في رمضَانَ تَعْدُلُ حِجَّة). الإصابة 3/ 446، وكذا قال الشارح في العارضة 4/ 164 ولم يذكر أبا سلمة، ورواه أبو داود من طريق أبي عوانة عن إبراهيم بن المهاجر عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال: أخبرني رسول مروان، الذي أرسله إلى أم معقل، قالت: كَانَ أبو مَعْقلٍ حَاجّاً مَع رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا قَدم قالَتْ أمُّ مَعْقَل قَدْ عَلِمْتُ أنْ عَلَى حِجَّة وإن لأِبِي عْقَل بِكْرَاً، فَقَالَ أَبُو مَعْقَلٍ: صَدَقَتْ قَدْ جَعَلْتة في سَبِيلِ اللهِ .. فَأعْطَاهَا الْبِكرَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُول اللهِ قَدْ كَبِرْتُ وَسَقِمْت فَهَلْ مِنْ عَمَل يجْزِي عَني. أبو داود 2/ 503 ورواه الترمذي من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود عن أبي معقل عن أم معقل، وقال: حسن غريب من هذا الوجه. سنن الترمذي 3/ 276، والنسائي من طريق الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن كما ذكر ذلك الحافظ في الإصابة 4/ 181. والحديث عزاه المزي في تحفة الأشراف 8/ 459 إلى سنن النسائي الكبرى, ورواه ابن ماجه من طريق ابن أبي شيبة عن أبي إسحاق عن الأسود عن أبي معقل. سنن ابن ماجه 2/ 996. قال الحافظ: في =

بعض الرويات (تَعْدُلُ حِجَّة مَعِي) (¬1) وعدل العمرة في رمضان بحجة يكون لأحد ثلاثة أوجه: أحدها: أن ينسحب فضل رمضان على العمرة فيجتمع من الوجهين ما يعادل الحج. ثانيهما: إنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال وذكر رمضان: (لله تَعَالَى في كُلَ لَيْلَةٍ عُتَقَاءٌ مِنَ النَّارِ (¬2) كَمَا أنَّ لَهُ يَوْمَ عَرَفَةٍ عُتَقَاءَ مِنَ النارِ). ثالثها: إن المعتمر في رمضان أجاب الداعيين داعي الحج وهو قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} (¬3) الآية، وأجاب داعي رمضان وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وَنَادى مُنَادٍ يَا بَاغيَ الْخَيْرِ أقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الْشرِّ أقْصِرْ) (¬4) ومن دُعي فأجاب ومن أجاب دعاءه ¬

_ = رواية ابن ماجه فيها ابن أبي شيبة ضعيف لكن تابعه شريك عن أبي إسحاق. أخرجه ابن السكن من طريقه وأبو نعيم من طريق مطين عن شيخ له عن شريك. قال ابن مندة: رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود عن أبي معقل عن أم معقل. الإصابة 4/ 181، 182. ورواه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام عن امرأة من بني أسد بن حزيمة يقال لها أم معقل قالت أردت الحج .. الفتح الرباني 11/ 34. كما رواه من طريق أخرى عن يحيى بن سعيد عن هشام قال حدثني يحيى ابن أيضًا كثير عن أبي سلمة عن معقل ابن أم معقل عن أم معقل الأسدية، الفتح الرباني 11/ 33. درجة الحديث: صححه الشارح في العارضة 4/ 164. (¬1) هذه الزيادة وردت عند أبي داود 2/ 505 وقد صححها الشارح أيضاً في العارضة 4/ 164. (¬2) رواه البزار من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، إن للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عُتَقاءَ في كُل يَوْم وَلَيْلَةٍ، يعني من رمضان. انظر كشف الأستار عن زوائد البزار 1/ 457، والحديث فيه أبان بن أبي عياش، فيروز البصري، أبو إسماعيل العبدي، متروك من الخامسة. مات في حدود 140 د. ت 1/ 31. وقال الحافظ في ت ت: قال ابن سعد وابن معين ووكيع والحاكم أبو أحمد وأحمد ابن حنبل: متروك الحديث، ومرة قال أحمد: منكر الحديث ت ت 1/ 97. درجة الحديث: أورده الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: فيه أبان ابن أبي عياش وهو ضعيف. مجمع الزوائد 3/ 143، وأورده الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص 419 وصححه، ولا أدري كيف صححه مع وجود أبان فيه والراجح عندي ضعفه والله أعلم. (¬3) سورة الحج آية 27. (¬4) الترمذي 3/ 66 من طريق أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وقال: حديث أبي هريرة، الذي رواه أبو بكر بن عياش، حديث غريب لا نعرفه من رواية أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هُرَيْرَة إلا من حديث أبي بكر. وابن ماجه 1/ 526، والحاكم 1/ 421 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة. وكذا قال الذهبي. =

نكاح المحرم

تعيّن عليه الثواب. وقوله في الزيادة: تعدل حجة معي زيادة في التفضيل فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذا وقف مع الخلق فدعا ودعوا معه كانت تلك وسيلة كريمة إلى الإجابة، فلما استأثر الله تعالى برسوله خلَّف فينا شهر رمضان ننال تلك البركة فيه كما قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} ثم استأثر الله تعالى برسوله ثم قال: {وَمَاكَانَ} الآية؛ إلى قوله: {يَسْتَغْفِرُونَ} (¬1) فصار الاستغفار خلفاً لنا من الأمن من العذاب من وجود شخصه الكريم (¬2) معنا. نكاح المحرم ذكر مالك، رضي الله عنه، حديث عثمان في النهي عن نكاح المحرم (¬3) وضعفه البخاري (¬4) وصحح رواية ابن عباس في أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، تزوج ميمونة وهو محرم (¬5)، ¬

_ وأخرجه البغوي في شرح السنة 6/ 215. أقول: الحديث فيه أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي المقري الحنّاظ .. مشهور بكنيته والأصح إنها اسمه، ثقة، عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابه صحيح من السابعة. مات سنة 174 وقيل قبل ذلك بسنة أو بسنتين وقد قارب المائة ق ع ت 2/ 399، وانظر ت ت 12/ 34. تهذيب الكمال 7/ 792، الميزان 4/ 499، التاريخ الكبير 9/ 14، المغني 2/ 774، الكاشف 3/ 316، طبقات ابن سعد 6/ 69 و373 و 446، وتذكرة الحفاظ للذهبي 265، ترتيب ثقات العجلي ل 61. أقول: الحديث وإن كان ضعَّفه الترمذي بسبب أبي بكر بن عياش فله شاهد يتقوى به من حديث عطاء ابن السائب عن عرفجة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. سنن النسائي 4/ 130، والفتح الرباني 9/ 227، وقال الشيخ البناء بعد سياقه له، أي لحديث عرفجة: سنده جيد وله شاهد من حديث أبي هريرة، أي الحديث المتقدم. درجة الحديث: حسن لغيره والله أعلم. (¬1) سورة الأنفال آية33. (¬2) ذكر القرطبي عدّة أقوال في تفسير هذه الآية. انظر تفسير القرطبي 7/ 399. (¬3) الموطّأ 1/ 348، ومسلم في الحج باب تحريم نكاح المحرم وكراهية خطبته 2/ 1030، وأبو داود 2/ 421، والترمذي 3/ 199، والنسائي 5/ 192، وابن ماجه 1/ 362، وشرح السنة 7/ 250، والدارقطني 2/ 267، وابن حبان، انظر موارد الظمآن ص310. (¬4) ترجم على ذلك بقوله في الحج باب تزويج المحرم وذكر حديث ابن عباس، البخاري 3/ 19. قال الحافظ، أثناء الكلام على حديث ابن عباس: أورد فيه حديث ابن عباس في تزويج ميمونة، وظاهر صنيعه إنه لم يثبت عنده النهي عن ذلك ولا أن ذلك من الخصائص، وقد ترجم في النكاح باب نكاح المحرم ولم يزد على إيراد هذا الحديث. فتح الباري 4/ 52. (¬5) متفق عليه. البخاري في الحج باب تزويج المحرم 3/ 19، وفي المغازي باب عمرة القضاء 5/ 117، =

فأدخلها من طريق أهل المدينة عن سعيد بن المسيب، يريد بذلك التقوي على رد رواية مالك، رضيِ الله عنه، ومذهبه وقد رور الدارقطني وصحّحه عن أبي رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (تَزَوَّجَ مَيْمُونةَ وَهُوَ حَلَالٌ) (¬1)، واحتمل أن يكون قوله (تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ) أي نازل بالحرم فلم يكن ليرد نصاً من حديث عثمان (¬2). المحتمل من حديث ابن عباس وهبك أن البخاري ضعَّف ثبتهما فهذا عمر بن الخطاب قد فسخ نكاح طريف (¬3) المرّي حين عقده وهو محرم (¬4). فهذا الحديث اتصل به ¬

_ = وفي النكاح باب نكاح المحرم 7/ 12، ومسلم في النكاح باب تحريم نكاح المحرم وكراهية خطبته 2/ 1031، وأبو داود 2/ 423، والترمذي 3/ 198 - 199، والنسائي 5/ 191 عن عدة طرق عن ابن عباس. وابن ماجه 1/ 361، والبغوي في شرح السنة 7/ 251. (¬1) سنن الدارقطني 3/ 262 ولم يذكر فيه تصحيحاً، ورواه الترمذي 3/ 200 وقال: حديث حسن ولا نعلم أحداً أسنده غير حمّاد عن مطر، ورواه أحمد في المسند 6/ 393، والبغوي في شرح السنة 7/ 252، وقال: حديث حسن، ورواه ابن حبّان انظر موارد الظمآن ص310 والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 270 وقال: إن هذا الأمر إن كان يؤخذ من طريق الإسناد واستقامته، وهكذا مذهبهم، فإن حديث أبي رافع، الذي ذكروا، إنما رواه مطر الوراق، ومطر عندهم ليس ممَّن يحتج بحديثه، وقد رواه مالك وهو أضبط منه فقطعه. قال يونس: أنا ابن وهب إن مالكاً حدَّثه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان ابن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعث أبا رافع مولاه ورجلاً من الأنصار فزوَّجاه ميمونة بنت الحارث وهو بالمدينة قبل أن يخرج. وأخرجه صاحب المشكاة 2/ 824. أقول: حديث أبي رافع فيه مطر ابن طمهان الورّاق، أبو رجاء السلمي، مولاهم الخرساني، سكن البصرة، صدوق كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف من السادسة. مات سنة 125 وقيل 127 / خت م ع. ت 2/ 252 وانظر ت ت 10/ 167. والحديث وإن كان ضعّف من أجل مطر فإن له شاهداً في الصحيح عن يزيد ابن الأصم عَنْ مَيْمُونَةَ أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ. مسلم في النكاح باب تحريم نكاح المحرم: 2/ 1032، وأبو داود 2/ 422. وعلى هذا يترجح لدي تحسين الترمذي والبغوي والتبريزي للحديث والله أعلم. (¬2) قال الحافظ يجمع بينه وبين حديث ابن عباس على أنه من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال ابن عبد البر: اختلفت الآثار في هذا الحكم لكن الرواية أنه تزوّجها وهو حلال جاءت من طرق شتى، وحديث ابن عباس صحيح الإسناد، لكن الوهم إلى الواحد أقرب من الوهم من الجماعة فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا فتطلب الحجة من غيرهما، وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم فهو المعتمد. فتح الباري 9/ 165. (¬3) طريف بن أبان بن جارية بن فهم بن عبلة بن أنمار، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم -. قاله هشام بن الكلبي. أسد الغابة 3/ 75، الإصابة 2/ 223. (¬4) الموطأ 1/ 349، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 66، والدارقطني في السنن 3/ 260، كلهم من طرِيق مالك عن داود بن الحصين عن أبي غطفان بن طريف المري أَخْبَرَ أن أبَاهُ طَرِيفاً تَزَوَّجَ أمْرَأة وَهوَ مُحْرِمٌ فرَدَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ نِكَاحِهُ. =

ما يجوز للمحرم أكله من الصيد

عمل الخلفاء فقوي بذلك مكانه؛ وقد بينا في مسائل الخلاف أن لو ثبت نكاح النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو محرم اختصاصه بما لا يشاركه غيره فيه من الأحكام وخصوصاً في النكاح. ما يجوز للمحرم أكله من الصيد هذه مسألة عظيمة اختلف فيها العلماء واضطربت فيها المذاهب (¬1) اضطراباً كثيراً على أقوال أصولها ثلاثة: الأول: يؤكل كل صيد إذا لم يكن تناول صيده من المحرم. الثاني: يؤكل ما لم يقصد به المحرم معيناً. الثالث: إنه لا يؤكل كل صيد يلتقي به المحرمون مخافة أن يكون قصد به، وفي ذلك نكتة بديعة وهي أن الله تعالى قال: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬2)، والمراد به لا تصيدوه فحرَّم سبب الأكل ونبَّه فيه على تحريم الأكل، فاقتضى ظاهر الآية الامتناع من أكله واقتضى نصها تحريم صيده (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، للصعب بن جثامة: "وَقَدْ أهْدَى لَهُ حِمَاراً وَحْشِيّاً إنا لَمْ نرُدّهُ عَلَيْكَ إلَّا انا حُرُمٌ" (¬4) فاقتضى ذلك تحريم ما صيد من أجل المحرم. ويحتمل أن يكون الحمار حيّاً فامتنع النبي - صلى الله عليه وسلم -، من قبوله لأنه لو قبله كان يلزمه إرساله فرأى إبقاءه على مُلْك صاحبه أولى، والأول أظهر في التأويلين. وحديث أبي قتادة نصّ في أن يأكل المحرم ما لم يصد من أجله (¬5). ¬

_ = درجة الحديث: صححه الشيخ ناصر فقال: سند صحيح على شرط مسلم. إرواء الغليل 4/ 228. (¬1) في (م) المذهب. (¬2) سورة المائدة آية 95. (¬3) انظر كلام الشارح على الآية في كتاب الأحكام 2/ 664. (¬4) الموطأ 1/ 353، وهو متفق عليه. البخاري في الحج باب إذا أهدى للمحرم حماراً وحشياً 3/ 16، ومسلم في الحج باب تحريم الصيد للمحرم 2/ 850، وشرح السنة 7/ 261. (¬5) متفق عليه. البخاري في كتاب الجهاد باب ما قيل في الرماح 4/ 49, ومسلم في الحج باب تحريم الصيد للمحرم 2/ 852، والموطأ 1/ 350 وشرح السنة 7/ 262، ولفظه: أنهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، حَتى إذَا كَانُوا بِبَعْض طَرُيقِ مَكةَ تَخَلَّفَ مَعْ أصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِينَ وَهُوَ غَيْرُ مُحْرِم فَرَأى حِمَاراً وَحشاً فَاستَوَى عَلَى فَرَسِهِ ... فَقَتَلَة فَأكَلَ مِنْة بَعْضُ أصْحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأبى بَعْضُهُمْ، فَلَما أدرَكوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، سألوة عَنْ ذلِكَ فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ طُعْمَة أطْعَمَكموهَا الله. لفظ الموطّأ. قال الحافظ: جمع الجمهور بين ما اختلف من ذلك بأن أحاديث القبول محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه ثم يهدي منه للمحرم، وأحاديث الرد محمولة على ما صاده الحلال لأجل المحرم، قالوا: والسبب =

أمر الصيد في الحرم

ومن شك في شيء فليدعه فإنما هي عشر ليال كما قالت عائشة (¬1)، فإن قيل إنما منع الله تعالى من الصيد في حق المتعمد، وأنتم قد جعلتم المخطىء مثله، الجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أنا نقول إنما ذكر الله تعالى المتعمد لأنه الأغلب، فأما الخطأ فلا يقع في قتل الصيد إلا نادراً بل لم نسمعه وإنما تكلم في تصوير مسألة. الثاني: إن قوله متعمداً حال من القاتل مفعولة القتل ليس المقتول، وقد بيَّنا ذلك في الرسالة الملجئة. الثالث: إن أفعال الحج كلها من ارتكاب المحظورات خطؤها وعمدها سواء فالصيد مثله. أمر الصيد في الحرم اتفق العلماء أن المراد بقوله تعالى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يعني متلبَّسين بالإحرام (¬2) يحكم فيه ويجب المثل في جزائه (¬3). فأما إن قتل في الحرم فإن من علمائنا من ¬

_ = في الاقتصار على الإحرام عند الاعتذار للصعب أن الصيد لا يحرم على المرء إذا صيد له إلا إذا كان محرماً، فبيَّن الشرط الأصلي وسكت عما عداه فلم يدل عن نفيه. فتح الباري 4/ 33 - 34. (¬1) هذا القول لم أطلع عليه. (¬2) قال الرازي: يحتمل أنه أراد به وأنتم محرمون بحج أو عمرة، ويحتمل دخول الحرم يقال: أحرم الرجل إذا دخل الحرم، كما يقال أبحر إذا أتى بحراً، وأعرق إذا أتى العراق، وأتهم إذا أتى تهامة، والثالث الدخول في الشهر الحرام كما قال الشاعر: قتلوا الخليفة محرماً ... والوجه الثالث خلاف الإجماع؛ فلا يكون مراداً بالآية فيبقى الجهان الأولان. أحكام القرآن للكياالهراسي. 3/ 282. (¬3) قال في الأحكام: مثل الشيء حقيقته وهو شبهه في الخلقة الظاهرة، ويكون مثله في معنى وهو مجازه فإذا أطلق المثل اقتضى بظاهره حمله على الشبه الصوري دون المعنوي لوجود الابتداء بالحقيقة في مطلق الألفاظ قبل المجاز حتى يقتضي الدليل ما يقضي فيه من صرفه عن حقيقته إلى مجازه؛ فالواجب هو المثل الخلقي ويه قال الشافعي .. وقال أبو حنيفة: إنما يعتبر بالمثل في القيمة دون الخلقة، والدليل على صحة ما ذهبنا إليه الآية المتقدمة وذلك من أربعة أوجه: الأول: ما قدمناه من أن المثل حقيقة هو المثل من طريق الخلقة. الثاني: أنه قال من النعم فبيَّن جنس المثل ولا اعتبار عند المخالف بالنعم بحال. الثالث: أنه قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وهذا ضمير راجع إلى مثل النعم لأنه لم يتقدم ذكر سواه يرجع إليه، والقيمة التي يزعم المخالف أنه يرجع إليها لم يتقدم لها ذكر. =

ما يقتل المحرم من الدواب

قال إنه ليس مثل الأول ورواه بعضهم عن مالك (¬1) وهو رد للعربية وحط لمرتبة الحرم في الشريعة؛ فإن منزلة الحرم كمنزلة الإحرام في وجوب الاحترام وقوله {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يقال فيه أحرم الرجل إذا تلبّس بالإحرام كما يقال أحرم الرجل إذا دخل الحرم، وكما يقال أحرم إذا دخل في الشهر الحرام ومن هذا قوله: قتلوا الخليفة ابن عفان مجرماً ... فدعا فلم ير مثله مخذولا (¬2) يعني أنه كان في البلد الحرام، وهي المدينة، وفي الشهر الحرام، وهو ذو الحجة فلا ينبغي أن يشتغل بتلك الرواية .. ما يقتل المحرم من الدواب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسُ فَوَاسِقٍ يُقْتَلْنَ في الْحِل وَالْحَرَمِ" (¬3)، فذكرها، واختلف الفقهاء في إلحاق غيرها بها وَاعَجَباً لمن يلحق الجصى بالبر (¬4) في الربا ولا يلحق الفهد والنمر والذيب (¬5) بهذه، وقد نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -، في هذا الحديث على العلة، وهي القسق، ولم يتعرَّض لعلة الربا في البر بتنبيه ولكنه فهم من ذكر الأعيان الأربعة التنبيه على أمثالها فههنا أولى، ولا وجه لقول من قال: إن من يبتدئ الأذاية بخلاف من لا يبتديها لأن من كانت الأذاية في طبعه فواجب قتله ابتدأ أو لم يبتدئ لوجود فسقه الذي صرَّح النبي - صلى الله عليه وسلم -، به. ألا ترى أن الحربي يقتل ابتدأ بالقتال أو لا لاستعداده لذلك ووجود سببه ¬

_ = الرابع: أنه قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} والذي يتصور فيه الهدي مثل المقتول من النعم، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هدياً .. أحكام القرآن للشارح 2/ 670، وانظر أحكام القرآن للكيا الهراسي 3/ 290، وأحكام القرآن للجصاص الحنفي 2/ 473. (¬1) يرى الباجي أن مَنْ قتل الصيد في الحرم فعليه الجزاء سواء كان حلالاً أو محرماً فقال: الدخول في الحرم إحرام يتعلق به النسك ويمنع التصيد فأوجب أن يجزى بقتل الصيد كالإحرام بالحج أو العمرة. المنتقى 2/ 252. (¬2) صحاح الجوهري 5/ 1897، تاج العروس 8/ 239، والمنتقى 2/ 252، وأحكام القرآن للرازي 2/ 282، ولسان العرب 12/ 123 وقال: قال الراعي. (¬3) متفق عليه. البخارى في الحج باب ما يقتل المحرم من الدواب 3/ 17، ومسلم في الحج باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم 2/ 857، والموطأ 1/ 356، وشرح السنة 7/ 266 كلهم من حديث ابن عمر، ورواه مسلم أيضاً عن عائشة 2/ 857 في الباب السابق. (¬4) قلت: يشير بذلك إلى مذهب الأحناف. انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 5/ 279. (¬5) قال العيني: قال أبو حنيفة: المراد بالكلب هنا -أي في الحديث- الكلب خاصة، ولا يلحق به في الحكم سوى الذئب. عمدة القارئ 10/ 181.

من أحصر بعدو

فيه، ولا تعجب من (ح) (¬1) في هذا، وأعجب من بعض علمائنا حيث يقول: إن صغار ما يقتل كباره من هذه الفواسق لا يقتل لأنه لم يؤذِ بعد (¬2)، وكيف تكون الأذاية جبلَّته وينتظر به وجودها؟ وقد قتل الخضر عليه السلام الغلام (¬3) ولم توجد بعد منه فتنة فهذا أولى، وقد قال الله تعالى في الكفار {وَلَا يَلِدُوا إلَّا فَاجِراً كفّاراً} (¬4). فكيف في هذه الفواسق؟ من أحصر بعدو (¬5) الأصل في هذا الباب حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، يوم الحديبية (¬6)، وفيه نزلت الآية (¬7) واختلف الناس فيها اختلافاً كثيراً؛ فمنهم من قال: الآية تتضمن المريض يقال: أحصر بالمرض وحصر بالعدو (¬8)، ومنهم من قال: الآية في العدو (¬9) لا في المريض، ومنهم من ¬

_ (¬1) مذهب الأحناف في هذه المسألة؛ فقد قال العيني: أصحابنا اقتصروا على الخمس إلا أنهم ألحقوا بها الحية لثبوت الخبر والذئب لمشاركته للكلب في الكلبية، وألحقوا بذلك ما ابتدأ بالعدوان والأذى من غيرها، وقال بعضهم: وتعقب بظهور المعنى في الخمس وهو الأذى الطبيعي والعدوان المركب، والمعنى إذا أظهر في المنصوص عليه تعدى الحكم إلى كل ما وجد فيه ذلك المعنى .. عمدة القارئ 15/ 182. وقال الطحاوي: اتفق العلماء على تحريم قتل البازي والصقر، وهما من سباع الطير، فدل ذلك على اختصاص التحريم بالغراب والحدأة وكذلك يختص التحريم بالكلب وما يشاركه في صفته وهو الذئب. نقلاً عن فتح الباري 4/ 39. (¬2) نقل ذلك عن ابن القاسم وأشهب الباجي في المنتفى 2/ 262. (¬3) سورة الكهف آية 74، قال تعالى: {حَتى إذا لَقيَا غُلامَاً فَقَتَلَه}. (¬4) سورة نوح آية 27. (¬5) ذكر مالك تحت هذه الترجمة قوله: مَنْ حُبِسَ بِعَدوَ فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَإنهُ يَحِلُّ مِنْ كُل شَيْءٍ وَيَنْحَرُ هَدْيَهُ وَيحْلِقُ رَأْسَهُ حَيُثُ حُبِسَ. وَلَيْس عَلَيْهِ قَضَاءٌ ... الموطأ 1/ 360. (¬6) متفق عليه. البخاري في المغازي باب غزوة الحديبية 5/ 162 - 163، ومسلم في الحج باب جواز التحلل بالإحصار وجواز القرآن 2/ 903، والموطأ 1/ 360 كلهم عَنْ ابنِ عُمَرَ، رَضِيَ الله عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ حِينَ خَرَجَ إلى مَكةَ معْتَمِراً في الْفِتنةِ: إنْ صدِدتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كما صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، فَأهَلْ بِعمْرَةٍ مَنْ أجْلِ أنَّ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، أهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيةِ. (¬7) يقصد، والله أعلم، بالأية قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} سورة الفتح آية 25. (¬8) يطالع الأحكام 1/ 119 و 3/ 706. (¬9) قال الحافظ: صح ذلك عن ابن عباس. أخرجه عبد الرزاق عن معمر، وأخرجه الشافعي عن ابن عيينة =

قال: هي فيهما جميعاً (¬1)، والذي يكشف القناع في ذلك ثلاثة أمور: أحدها: أن الآية نزلت في الحديبية وشأنها وكان حبس عدو ولم يكن حبس مرض. والثاني: أنه قال تعالى {فَإذا أمِنتُمْ} وهذا يدل على أن السابق كان حبس خوف. والثالث: أن الأصل فيمن أحرم بقصد البيت فلا يحله إلا البيت خرج حبس العدو من ذلك بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبقي سائر ذلك على أصله، وقد عضد ذلك بعض علمائنا بالاتفاق على أن الضال لا يدخل في الآية، فإذا لم يكن الضلال عذر فالمرض مثله وهذا لباب المسألة (¬2)، ثم اختلف العلماء بعد ذلك فمنهم من قال: عليه القضاء إذا حصره العدو (¬3) وليس عليه هدي (¬4)، ومنهم من قال: عليه الهدي ولا قضاء عليه (¬5) والنبي - صلى الله عليه وسلم -، حين صده العدو، أهدى وقضى (¬6) فأما الهدي فكان معه ابتداء فلا حجة فيه لأنه لم يوجهه بنفس الصيد. ¬

_ = كلاهما عن ابن طاوس عن ابن عباس قال: لا حصر إلا من حبسه غدو فيحل بعمرة وليس عليه حج. فتح الباري 4/ 3. وقال الشارح في الأحكام، قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} منعتم بالعدو خاصة، قاله ابن عمر وابن عباس وأنس والشافعي وهو اختيار علمائنا. الأحكام 1/ 119، وانظر أحكام القرآن للكيا الهراسي 1/ 134 - 135. (¬1) وقال الحافظ: قال النخعي والكوفيون الحصر الكسر والمرض والخوف. فتح الباري 4/ 3 وقال الشارح: قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} منعتم بأي عذر، كان قاله مجاهد وقتادة وأبو حنيفة. الأحكام 1/ 119. (¬2) انظر الأحكام للشارح 1/ 119، وأحكام القرآن للرازي 1/ 334. (¬3) قائل هذا القول هم الأحناف يقول الجصاص: اختلفوا .. فمن أحصر وهو محرم بحج تطوع أو بعمرة تطوع، فقال أصحابنا (أي الأحناف): عليه القضاء سواء كان الإحصار بمرض أو عدو وإذا أحل منهما بالهدي .. وقال: والدليل على وجوب القضاء قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}؛ وذلك يقتضي الإيجاب بالدخول، ولما وجب الدخول صار بمنزلة حجة الإِسلام والنذر فيلزمه القضاء بالخروج منه قبل تمامه سواء كان معذوراً فيه أو غير معذور لأن ما قد وجب لا يسقطه العذر. أحكام القرآن للجصاص 1/ 279. (¬4) قال ابن القاسم: الذي عليه الهدي من أحصر بمرض يتحلل بالعمرة ويهدي. أحكام القرآن للشارح 1/ 120. (¬5) هذا مذهب مالك كما ورد في الموطأ 1/ 360؛ لم يعلم أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، أمر أحداً من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئاً ولا يعودوا لشىء. قال الباجي بعد كلام مالك للسابق: يريد مالك أن يستدلَّ بذلك على أن القضاء غير واجب لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قد أصابه هو وأصحابه مثل هذا في محفل عظيم وعدد كثير .. فيه ألف وأربعمائة ولا يجب شيء إلا بإيجاب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ومحال أن يجب ذلك عليهم ولا يأمرهم به ومحال أن يأمرهم ولا يبلغنا مع كثرة عددهم وتواتر جمعهم .. المنتقى 2/ 274. (¬6) تقدم.

الصلاة بعد الصبح وبعد العصر في الطواف

وأما القضاء فلم يفعله أيضاً بأصل وجوب استقر في ذمته وإنما كان ليظهر صدقه فيما أخبر به من دخول البيت والطواف والسعي فيه، وليبلغ أمله من إخزاء المشركين فأما من صده المشركون عن حجه فأجره قائم وحجه تام، وقد بيَّنا ذلك في كتب المسائل. فأما المريض فلا يحله إلا البيت الذي قصد إليه لأنه يتفق أن يحمل فإن تعذر ذلك أو وقع اليأس فهو مثل الأول (¬1). الصلاة بعد الصبح وبعد العصر في الطواف روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"يَا بَني عَبْدِ الْمُطَّلِب، يَا بَني عَبْد مَنَافٍ لاَ تَمْنَعُوا أحَداً طَافَ بِهذَا الْبَيْتِ أنْ يُصَلَّيَ إيةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْل أوْ نَهَارٍ" (¬2)، وروى/ أبو ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "لَا صَلَاةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشمس، وَلاَ صَلَاةَ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتى تَغْربَ الشَّمس إِلَّا بِمَكَةَ" (¬3). فلما كان هذا الحديث مروياً ولم تصح طرقه أدخل مالك، رضي الله عنه، فعل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، (حِينَ طَافَ بِالْبَيْتِ وَالشمسُ لَمْ تَطْلُع ورَحَلَ حَتَّى صَلَّاهَا بِذِي طُوًى) (¬4)؛ فكان فعل عمر في الصحابة، وهو الخليفة المهدي، أولى من ذلك الحديث المروي ولو كانت تلك الوصية من النبي - صلى الله عليه وسلم -، متقدمة وذلك الحديث عن أبي ذر صحيحاً لكان بمكة مشهوراً ولما خفي على عمر حاله (¬5). ¬

_ (¬1) هذا مذهب عبد الله بن عمر وإليه مال مالك؛ فقد روى في الموطأ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ (الْمُحْصَرُ بِمَرَض لا يَحِلُّ حَتى يَطُوفَ بِالْبيتِ وَيسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) الموطأ 1/ 361 وهو أيضاً مذهب الشافعي وأحمد. انظر الإفصاح لابن هبيرة 1/ 300. (¬2) تقدم. (¬3) تقدم. (¬4) الموطأ 1/ 368 عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عبد القارئ أخبره .. درجة الأثر: صحيح. (¬5) هذه مسألة مختلف فيها بين الأئمة وقد أجمل البغوي القول فيها فقال: اختلف أهل العلم في الرخصة في صلاة التطوع في هذه الأوقات الثلاثة، بمكة فذهب قوم إلى جوازها بعد الطواف إذا طاف في شيء من هذه الأوقات يصلي بعده ركعتين، روي عن ابن عباس .. وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، وقيل الرخصة عامة في جميع التطوعات لأنه روي في حديث أبي ذر إلا بمكة وذلك لفضيلة البقعة .. =

القول في الهدي

القول في الهدي إن الله سبحانه لو شاء لأمن من في الأرض جميعاً كما أنه لو شاء لأيَّد الأنبياء بآية تذهل لها الألباب وتخضع لها الرقاب ولأوطأهم رقاب الخلق حتى ينقادوا إليهم وذلل لهم الجبابرة حتى يطيعوهم، ولكنه ابتلى بعضنا ببعض ورفع بعضنا على بعض حكمة بالغة ومشيئة نافذة، فكان مَنْ سلف من الأنبياء قبل محمَّد، عليه وعليهم الصلاة والسلام، ما بين مظهر من الخلق أو مغلوب بالملوك والجبابرة أو منصور بالقتال. ولما بعث الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم -، اختار له جزيرة العرب وأنزل بها أباه إسماعيل، عليه السلام، ومهَّد الله حالها من ذلك الحين بلاد جدب ومواضع وحشة تنفر عنها قلوب الخلق، ومهد فيها العرب لما أراد الله تعالى من فضيلتهم وكأنوا قوماً فوضى لا ملك عندهم. وقد كان نفذ القضاء بأنَّه لا بدَّ للخلق من وازع حين كانت الاستطالة والتظالم سليقة الجبلة .. وجعل الله تبارك وتعالى الذمام في العرب والجوار .. دفعاً عن المظلوم، ثم لم يستقل هذا الخصوص بعموم التظالم في الخلق فجعل الكعبة معظمة في النفوس .. وذا هيبة في القلوب، وألقى في روعهم أنها مواضع أمن لا يُراع فيها أحد ولا يُؤخذ فيها بحق، وبالغ في تعدية الأمن فحرم أذاية الصيد وزاده تأكيداً بأن حرَّم الحطب والحشيش حتى تمكنت تلك الهيبة في قلوبهم وصار الحرم مأوى لأمنهم وامتنَّ بذلك عليهم فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (¬1) ثم كان البيت نائياً عن أقطار العرب فلم تكن تعمّ العصمة فجعل الأشهر الحرم، وهي ثلث العام، محرَّمة معظَّمة ليستريح إليها المضطهدون ويأمن فيها الخائفون، وقرر ذلك في نفوسهم تقريراً نتهى إلى أن يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يروعه. ثم كانت الأشهر الحرم لا تستقل بعموم الزمان فجعل الهدي قائماً مقامه؛ فكان إذا خاف الرجل حلق رأسه وأشعر هديه وقلّده وخرج باسم البيت لا يروعه أحد. فقامت هذه العواصم مقام الملك العاصم يقوم بأحوال الخلق في المصالح ويدفع عنهم المضار، وعن هذا المعنى عبّر تعالى بقوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} (¬2) الآية. فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، بالنبوَّة على أمة خالية من الملوك والقوة فكان ذلك أسمح للقبول وأبلغ في ¬

_ = وكرهه قوم، كما في سائر البلاد، وبه يقول مالك والثوري وأصحاب الرأي، وقالوا: إذا طاف بعد الصبح لم يصلِّ حتى تطلع الشمس أو بعد العصر حتى تغرب الشمس .. شرح السنة 7/ 332. (¬1) سورة العنكبوت آية 67. (¬2) سورة المائدة آية 97 ..

نيل المأمول، وقد كان الهدي قرباناً مشروعاً لآدم عليه السلام (¬1)، ثم مهَّده الله بين إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام (¬2)، ولم يزل مستمراً على تلك السبيل حتى أوضح الله تعالى فيه لرسوله البيان فقال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} (¬3) إلى قوله: {تَشْكُرُونَ} فصارت هذه الآية أصل الشريعة في الهدايا لأنه تبارك وتعالى بيَّن شرعيتها في شعيرتها، وأمر بحملها، أو بعثها، وضمن لنا الخير فيها بقوله: {لَكمْ فِيهَا خير} بالعصمة أولاً من الظلم وبالفدية آخراً من النار، وأمر بنحرها لله العظيم، وأباح أكلها رفقاً بالخلق وبيَّن أنَّ ذلك كله راجع إلينا ودائر علينا حين قال وهو القدوس: {لَنْ يَنَالَ الله لحومها ولا دماؤهما ولكن يناله لله التقوى منكم} (¬4) الآية. المعنى أنه ليس المقصود إراقة الدم ولا تفرقة اللحم وإنما المقصود إذعان الخلق إلى الطاعة وأمتثالهم ما لا تهتدي إليه عقولهم قياماً بحق الربوبية وتقية من عقوبة العبودية، ولما قال الله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} (¬5). فأباح الأكل بعد بلوغ الهدي مِحله ووقعت الإِباحة على ذلك الشرط وتشعَّبت السبل على علمائنا باختلاف أحوال الهدي فاضطربت لذلك أقوالهم اضطراباً تحصَّل منه خمسة أقوال. الأول: إنه لا يؤكل من الهدي لا قبل النحر ولا بعده. الثاني: إنه يؤكل قبل وبعد. الثالث: إنه يؤكل بعد ولا يؤكل قبل. الرابع: إنه يؤكل كله إلا جزاء الصيد ونحوه. الخامس: إنه يؤكل كله إلا هدي الفساد. لكل قول من هذه الأقوال منحى نزع به صاحبه، والأصل في ذلك الآية المحكمة المتقدمة التي ذكرها الله تعالى في معرض الامتنان، وأباح الأكل منها، مبالغة في ¬

_ (¬1) يدل له قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} المائدة: آيه 27. (¬2) يدل له قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}، إلى قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}، البقرة آية 127 - 128. (¬3) سورة الحج آية 36. (¬4) سورة الحج آية 37. (¬5) سورة الحج آية 36.

الإحسان؛ فلما استقر هذا العموم في نصابه ظهر من الشريعة أن جزاء الصيد على المحرم وجب غرمة فمحال أن يأكل ما غرم فترجع ذمته مشغولة كما كانت وهو قياس جلىّ مخصص به العموم باتفاق، ولقد روى ابن نافع (¬1) إنه يجوز أكل جزاء الصيد استمراراً على العموم وتقديماً له على القياس الجلي، وقال ابن المواز: لا يأكل من هدي (¬2) الفساد لأنه وجب عليه عقوبة على طريق التغليظ فكيف يخفف عنه بإباحة الأكل له فينتقض أصل التغليظ ويجتمع الضدان، وهذا أيضاً قياس جلي تخصص بمثله العموم، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قيل له: "كَيْفَ نَصْنَعُ بِمَا عُطِبَ مِنْهَا؟ قَالَ: انْحَرْهَا وَخَلَّ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنهَا" (¬3)، وبهذا تعلَّق من منع الأكل قبل بلوغ الهدي محله (¬4). قلنا: لم يمنعه من الأكل ولا جرى له ¬

_ (¬1) هو أبو محمَّد عبد الله، ويعرف بالأصغر، بن نافع بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما، وله أخ اسمه عبد الله يعرف بالأكبر لم يكن فقيهاً. الفقيه، الثقة، المحدث، الأمين. سمع مالكاً وصحبه أربعين سنة، توفي سنة 216 هـ. شجرة النور الزكية 1/ 56. (¬2) هو أبو عبد الله محمَّد بن إبراهيم الإسكندري، المعروف بابن المواز، الإِمام الفقه، الحافظ، النظار، تفقَّه بابن الماجشون وابن عبد الحكم واعتمد أصبغ وروى عن أبي زيد ابن أبي الغمر والحارث ابن مسكين ونعيم بن حماد. ألَّف الكتاب الكبير المعروف بالموازية، وهو من أجلِّ الكتب التي ألَّفها المالكيون وأصحها وأوعبها، رجَّحه القابسي على سائر الأمهات. ولد سنة 180، ومات سنة 269 أو 281. شجرة النور الزكية 1/ 68. (¬3) الموطأ 1/ 380 مرسلاً، والبغوي في شرح السنة 7/ 192 من طريق مالك، وأبو داود 2/ 368، والترمذي 3/ 253 وقال: حديث ناجية حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم. قالوا في هدي التطوع: إذا عطب لا يأكل هو ولا أحد من أهل رفقته ويخلي بينه وبني الناس يأكلونه، وقد أجزأ عنه؛ وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق وقالوا: إن أكل منه شيئاً غرم مقدار ما أكل منه, ورواه النسائي في الكبرى كما في التحفة 9/ 3، وابن ماجه 2/ 1036، والمستدرك 1/ 447، وأحمد انظر الفتح الربني 13/ 47، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 243، وابن حبان. انظر موارد الظمآن ص 242، أقول: الحديث ورد عن أحمد والترمذي وابن ماجه عن ناجية الخزاعي وعند أبي داود والبيهقي عن ناجية الأسلمي، وكلهم يرورنه عن هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية، ورواه مالك في الموطأ عن هشام بن عروة. عن أبيه أن صاحب هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: يا رَسُولَ الله كيف أصنعُ بِمَا عَطَبَ مِنَ الْهَدْي؟ قال الحافظ: بعد ذكر طرق هذا الحديث ولم يسم أحد منهم: والد ناجية لكن قال بعضهم الخزاعي، ويعضهم الأسلمي، ولا يبعد التعدد فقد ثبت من حديث ابن عباس أن ذؤيباً الخزاعي حدّثه أنه كان مع البدن. الإصابة 3/ 542. قلت: حديث ابن عباس أن ذؤيباً حدَّثه، أخرجه مسلم في الحج باب ما يفعل بالهدي إذا عطب في الطريق 2/ 963. درجة الحديث: صححه الترمذي والحاكم وابن حبان. (¬4) قال النووي: قال أصحابنا: لا يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي الأكل منه بإجماع لحديث ناجية .. =

صيام يوم عرفة

ذكر، وإنما أخبره بوجه العمل فيه، وبقي جواز الأكل على أصله وقوله {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} خرج مخرج الغالب من الأحوال لا على طريق الشرط، وأبدع من هذا كله أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان في حجته قارناً ومعه الهدي فلما نحرها بمنى أمر بطبخها، وجعل في القدر من كل بدنة بضعة فأكل من لحمها وشرب من مرقها، وفيها لحم هدي القرآن ولم يميِّزه ولا فصله (¬1). فأما ما نذر للمساكين فلا ينبغي أن تذكروه في هذه المسائل (¬2)، ولا أن تجعلوه من جملتها كما فعل بعض علمائنا؛ لأن ذلك صدقة والصدقة لها حكمها فلا تدخل في الهدي، وهذه أصول طرق الخلاف ومطالع النظر، وتركيب الأقوال عليها مبسوط في مسائل الفقه. صيام يوم عرفة: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ سَنَةٍ قَبْلَهُ وَسَنَةٍ بَعْدَهُ" (¬3) قال علماؤنا: ومعنى هذا إذا لم يجد قبله ذنوب عامين، فإن وجد قبله ذنوب عامين كأنهما العامين اللذين يكفّران ومع حثّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، على صومه وإخباره عن فضله فإنه أفطره يوم حجِّه وذلك لوجهين: أحدهما: لئلا يشق على أمته. الثاني: ليسنّ فطره لمن كان حاجاً فإنه أقوى له على الدعاء والعبادة فيكون ذلك تخصيصاً للحاج من عموم الحديث، ويبقى الفضل لغير الحاج. والتأويل الأول هو الأشبه بمذهب مالك، رضي الله عنه, لأنه أدخل في الباب أن عائشة كانت تحجّ وتصوم يوم عرفة حاجّة (¬4) كأنها فهمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما أفطره خوف المشقة على أمته. ¬

_ = وهل يجوز للفقراء من رفقة صاحب الهدي الأكل منه فيه وجهان .. أصحهما لا يجوز، وهو المنصوص عن الشافعي وصحَّحه الأصحاب للحديث، ومن جوَّزه حمل الحديث على أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، علم أن رفقة ذلك المخاطب لا فقير فيهم وهذا تأويل ضعيف. المجموع 8/ 370. (¬1) ثبت ذلك من حديث جابر الطويل، أخرجه مسلم في الحج باب حجة النبي، - صلى الله عليه وسلم -. مسلم 2/ 886. (¬2) قال مالك: يؤكل من كل الهدي الواجب الإجزاء الصيد ونذر المسكين وفدية الأذى. بداية المجتهد 1/ 306، وانظر كلام الشارح في الأحكام 3/ 1279 (¬3) مسلم في الصيام باب ثلاثة أيام من كل شهر، وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس 2/ 818، وأبو داود 2/ 807، والترمذي 3/ 138، والنسائي 7/ 204، وابن ماجه 1/ 551 وهو عند الثلاثة مختصراً، وأحمد أنظر الفتح الرباني 10/ 234 بلفظ (يُكَفرُ سنَتَيْنِ مَاضِيَةً وَمُسْتَقْبلَة)، وابن خزيمة 3/ 291، وشرح السنة 6/ 342 كلهم من حديث أبي قتادة. (¬4) الموطّأ 1/ 375 - 376 مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمَّد أن عائشة أم المؤمنين كانت تصوم يوم عرفة ... درجة الأثر: صحيح.

(تنبيه) على منزلة الحج

(تنبيه) على منزلة الحج (¬1): الحج (¬2) ركن عظيم في الدين، ومن أعظم عبادات المسلمين شرعه الله تعالى للعباد ذكرى، ولينبههم على الدار الأخرى، ولتطمئن عليه الأنفس متحققة بالإيمان، وقد أنكرته الملحدة فقالت إن فيه تجريد الثياب ويخالف ذلك الحياء، والسعي وهو يناقض الوقار ورمي الجمار، لغير مرمى وذلك يضاد العقل؛ فصاروا إلى أن هذه الأفعال كلها باطلة. قلنا: ليس من شروط الولي مع العبد أن يفهم المقصود بجميع ما يأمره به ولا أن يطلع على فائدة تكليفه، وإنما يتعين عليه الامتثال ويلزمه الانقياد من غير طلب فائدة ولا سؤال عن مقصود، ولهذا المعنى كان يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان يقول في تلبيته "لَبَّيكَ إله الْحَقِّ" (¬3) إشارة إلى حضور هذا الاعتذار في وقت هذه الأفعال المناقضة للعادة، وقد تكلم على فوائده وأشاد بمقاصده كثير من الناس من لدن ابن (¬4) أسد إلى ابن هوازن (¬5)؛ فمجموع ما أشاروا إليه أن الله تعالى شرع الحج للقصد إليه والسفر نحوه، فيخرج عن الأهل والمال، وينخلع عن جميع ما معه إلا عن ثوبين هما كفنه إذا سافر السفر الحقيقي وهما بزته إذا سافر هذا السفر المقدم له، ويحرم على نفسه زهرة الحياة الدنيا من الطيب والنساء ليقطع شهوته ويدوم عمله كما يكون في القبر، ويقطع المفاوز إلى المقصد الأعلى حتى ينتهي إليه فيطوف ببيته الذي وضعه له، كما يطاف بسرادقات الملوك، ثم يستلم الركن الذي وضع له تملقاً وتذللاً، كما يستلم تراب أفنية الأمراء، ثم يبرز عن البيت إلى المسعى ¬

_ (¬1) في (ك) و (م) زيادة وهي على أن منزلة الحج ركن عظيم. (¬2) هذه زيادة يحتاج إليها في السياق وليست في النسخ. (¬3) النسائي 5/ 161 من حديث أبي هُريرَة وابن ماجه 2/ 974، وأحمد انظر الفتح الرباني 11/ 177، والحاكم 1/ 450 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وكذا قال الذهبي والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 45، وابن خزيمة 4/ 172، وابن حبان، انظر موارد الظمآن ص 242. وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة وقال: صحيح. السلسلة الصحيحة 5/ 11. درجة الحديث: صححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والذهبي والشيخ ناصر. (¬4) ابن أسد هو الحارث بن أسد المحاسبي الزاهد المشهور، أبو عبد الله البغدادي، صاحب التصانيف، مقبول من الحادية عشرة. مات سنة 243 هـ. ت 1/ 139، وانظر ت ت 2/ 134، تاريخ بغداد 8/ 211، طبقات الشافعية 2/ 275، حلية الأولياء 10/ 73، ميزان الاعتدال 1/ 227، صفوة الصفوة 2/ 207، ابن خلكان 1/ 126. قلت: وهناك الحارث بن أسد صاحب مالك ولكن ليس له تأليف. نهاه مالك عن الفتيا، وكان يقول: لم يرني مالك أهلاً للعلم. الديباج 1/ 339. (¬5) ابن هوازن، لم أطلع له على ترجمة.

فيتردد هنالك سبعاً ويخبّ ويرمل زيادة في الاجتهاد وحضاً للنفس على الاستعداد، ثم يخرج إلى عرفة، وهو الموقف الأكبر، فيمثل فيه مع جميع الخلائق، كما يمثل بالمحشر، فيتضرعون ويدعون ويجتهدون ويخلصون وينتظرون الرحمة ويتشوقون. فالذي يقطع به أن قصدهم لا يخيب، وأن دعوتهم بحرمة الجماعة لا تردّ. قال القاضي أبو بكر: كان شيخنا القاضي أبو المعالي عزيزي بن شيذلة (¬1) الواعظ يقول: كان شيخنا الدامغاني (¬2)، صاحب سوق العروس، يقول، إذا حضر بعرفة: (اللهم اقبلني معهم وإن كنت زائفاً فقد يسمح الناقد وإن كان عارفاً) (¬3) ثم يعود متوجهاً إلى حضرة القدس فيرمي بالجمار من يعترضه فيما فعل أو ينكر عليه ما أتى به، ثم يعود إلى باب الملك فيطوف به كأنه يستقضي ما رجاه ويستنجز ما دعاه، ثم يعقد النية ويصحح الرَّجاء أن ذلك العمل مقبول، والدعاء غير مردود، ما لم يكن معه ما يناقضه من طلب فخر أو إعراض عن خدمة الملك التي قصد إليها بإكباب على مخالفتِه وانتهاك لمحارمه. توفية: قد بيَّنا أن الحج له أركان لا يتم إلا بها وفيه محظورات لا يجوز فيه فعلها، وهي على قسمين منها ما يفسد الحج كالوطء (¬4)، ومنها ما يُجبر بالنسك كسائر المحظوِرات سواه، وهذا معلومِ بإجماع من الصحابة، رضي الله عنه، قال الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (¬5). فالرفث هو الوطء وما تعلَّق ¬

_ (¬1) عزيزي بن عبد الملك بن منصور الجيلى، أبو المعالي، المعروف بشيذلة. واعظ من فقهاء الشافعية له اشتغال بالأدب، من أهل جيلان، ولي القضاء ببغداد ومات بها سنة 494 هـ. الأعلام 4/ 232، هدية العارفين 1/ 663، وفيات الأعيان 1/ 318. (¬2) هو محمَّد بن علي بن محمَّد بن حسن بن عبد الملك بن عبد للوهاب، أبو عبد الله الدامغاني، شيخ الحنفية في زمانه، ينعت بقاضي القضاة، ولد بدامغان وتفقَّه بها وبنيسابور ثم قدم بغداد سنة 418 وولي بها القضاء سنة 447 هـ، وطالت أيامه وانتشر ذكره. قال ابن قاضي شهبة: كان مثل القاضي أبي يوسف في أيامه حشمة وجاهاً وسؤدداً وبقي في القضاء نحو ثلاثين سنة. الأعلام 6/ 276، معجم البلدان 4/ 27/الوافي 4/ 139. (¬3) لم أطلع على هذا الدعاء. (¬4) قال في الأحكام: إذا وقع الوطء، في الحج أفسده لأنه محظور كالأكل في الصوم أو الكلام في الصلاة .. أحكام القرآن للشارح 1/ 134، وقال القرطبي: أجمع العلماء على أن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج وعليه الحج من قابل والهدي، تفسير القرطبي 2/ 407. (¬5) سورة البقرة آية 197.

به (¬1)، والفسوق هو الذبح لغير الله (¬2) تعالى، وإنما تكون الهدايا له ولا جدال؛ أي لا تقول طائفة نقف بالمزدلفة وطائفة نقف بعرفة، بل الموقف لكل واحد وهو بعرفة. وأما الجدال والفسق فقد انقطعا شرعاً ووجوداً، وأما الرفث فانقطع شرعاً ولم ينقطع وجوداً، فإذا وجد أفسد الحج كما قلنا وقد قال قوم: إن المراد بالفسوق ها هنا سائر المعاصي (¬3)، معناه أن الحج يحرم الوطء المباح ويحرم سائر المعاصي المحظورة؛ أي يزيد تحريمها تأكيداً فيصون حجه عن المباحات والمحظورات وهو المبرور. فأما الجدال فلا مدخل له في شيء من ذكل وبذلك قرأ الأكثرون {فَلاَ رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ} بالرفع والتنوين (¬4) واتفقوا على قوله، ولا جدال أنه بالنصب وعدم التنوين، وقد بيّنا حكمة ذلك في ملجئة المتفقهين (¬5). ¬

_ (¬1) وقال في الأحكام: الرفث كل قول يتعلق بالنساء .. وقد يطلق على الفعل من الجماع والمباشرة، قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، وكان ابن عمرو وابن عباس يريان أن ذلك لا يمتنع إلا إذا روجع به النساء، فإذا ذكره الرجل منفرداً عنهن لم يدخل في النهي وفيه نظر، فإن الحج منع فيه من التلفظ بالنكاح وهي كلمة واحده فكيف بالاسترسال على القول يذكر كله، الأحكام 1/ 133. (¬2) هذا أحد ثلاثة أقوال ذكرها الشارح في الأحكام: الأول جميع المعاصي، الثاني: أنه قتل الصيد، والثالث: هو الذي ذكره هنا، وقال: الصحيح أن المراد بالآية جميعها، الأحكام 1/ 134. (¬3) هذا القول عزاه القرطبي لابن عباس والحسن وقال: وكذلك قال عمر وجماعة: إتيان معاصي الله، عز وجل، في حال إحرامه بالحج كقتل الصيد وقص الظفر وأخذ الشعر، وقال ابن زيد ومالك: الفسوق الذبح للأصنام ومنه قوله تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ}. تفسير القرطبي 2/ 407 - 408. (¬4) هذه قراءة ابن كثير وأبي عمرو. الإقناع في القراءات السبع: 2/ 608. (¬5) هكذا قال أيضاً في الأحكام 1/ 135. وقال القرطبي: اختلف العلماء في المعنى المراد به هنا (أي الجدال) على أقوال ستة: الأول: قاله ابن مسعود وابن عباس وعطاء الجدال هنا أن تماري مسلماً حتى تغضبه فينتهي إلى السباب فأما مذاكرة العلم فلا نهي عنها. وقال قتادة الجدال السباب. الثالث: قول ابن زيد ومالك: الجدال أن يختلف الناس أيهم صادف موقف إبراهيم، عليه السلام، كما كانوا يفعلون في الجاهلية. الرابع: أن تقول طائفة الحج اليوم وتقول الأخرى الحج غداً. الخامس: قال مجاهد وطائفة: الجدال المماراة في الشهور. السادس: قول محمَّد بن كعب القرطبي: الجدال أن تقول طائفة: حجنا أبر من حجكم ويقول الآخر مثل ذلك. تفسير القرطبي 2/ 410.

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "مَثْلُ الْمُجَاهِدِ في سَبِيلِ الله كَمَثَلِ الصَّائِمِ" (¬1) الحديث. قال علماؤنا، رضي الله عنهم: جهاد العدو الظاهر فرض من فروض الكفاية (¬2)، وهم الكفار، وجهاد العدو الباطن فرض من فروض الأعيان، وهو الشيطان، وقد ترددت أحواله في الشريعة على خمس مراتب؛ فكان النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمسلمون في أول الإِسلام مأمورين بالإعراض عن المشركين والصبر على إيذائهم والاستسلام لحكم الله تعالى فيهم. ثم أذن له في القتال فقيل له: {أذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (¬3)، ثم فرض عليهم على العموم فقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (¬4)، وقال: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (¬5)، ثم قيل له وهي الخامسة التي استقرت عليها الشريعة: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} (¬6) خاصة. فأما قوله {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُل فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَة} (¬7) الآية، ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في الجهاد باب أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، البخاري 4/ 18، ومسلم في الإمارة باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى 3/ 1498، والموطّأ 2/ 443 كلهم من حديث أبي هريرة قال: سمِعْتُ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، يَقُول: "مَثَلُ الْمُجَاهِدِ في سَبِيلِ الله وَالله أعْلَمُ بِمَنْ يجَاهِدُ في سَبِيلِهِ كمَثَلِ الصائِمِ الْقَائمِ ... " لفظ البخاري. (¬2) قال ابن رشد: أجمع العلماء على أنه فرض على الكفاية لا فرض عين إلا عبد الله بن الحسن فإنه قال: إنه تطوعٍ، وإنما صار الجمهور لكونه فرضاً لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} وأما كونه فرضاً على الكفاية .. إذا قام به البعض سقط عن البعض فلقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} وقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ولم يخرج قط رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، للغزو إلا وترك بعض الناس ... فاقتضى ذلك كون هذه الوظيفة فرضاً على الكفاية. بداية المجتهد 1/ 307. (¬3) سورة الحج آية 39. (¬4) سورة التوبة آية 36. (¬5) سورة التوية آية 41. (¬6) سورة التوية آية 122. (¬7) سورة التوية آية 122. قال الشارح في الأحكام: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} قال ابن عباس: نسختها {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ...} ثم قال: أما نسخ بعض هذه لبعض فيفتقر إلى معرفة التاريخ فيها، وأما الظاهر فنسخ الاستنفار العام لأنه الطارئ فإن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كان يغزو في فئام من الناس ولم يستوفِ قط جميع الناس إلا في غزوة العسرة. الأحكام 2/ 1018.

فالمراد بذلك الرحلة في طلب العلم ليس للجهاد فيها أثر، وقد نبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -، على عظيم موقعه في الدين، وهي عبادة بدنية مالية تحتمل الدنيا بأن يقاتل الرجل لها، وتحتمل الآخرة بأن يسعى في لقاء الله تعالى وفي سبيله وإعلاء كلمته، وإنما ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم -، له مثلاً بالصائم القائم الذي لا يقتر فنبَّه على هذه المراتب الثلاث من فضله. أما مرتبة الصيام فلأنه ترك لذَّاته وأعرض عن نسائه وماله وهذا صوم عظيم. وأما قوله القائم فمثلاً لما هو فيه من العمل بالسير إلى العدو أولاً ولمقابلته ونكايته آخراً. وأما المرتبة الثالثة وهي الدوام فليست إلا للمجاهد لأن الصائم قد يفطر ويطأ ويلتذ، والقائم قد ينام ويستريح، وعمل المجاهد دائم في انكفافه وأفعاله فلا يعادل هذا عمل من الأعمال، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "الْخَيْلُ ثَلاَثَةٌ" (¬1) فذكر أنها لرجل وزر، وهو الذي يربطها لأذاية المسلمين، ولرجل ستر وهو الذي يتخذها مكتسباً يتعفف بها عن المسألة ويقيم حقَّ الله في رقابها وظهورها إذا تعيَّن عليه الغزو فيها، ولرجل أجر وهو الذي ربطها في سبيل الله، فكل ما يكون من فعلها في أثناء تصرفاتها وحركاتها فذلك كله في حسناته لأن النيَّة الأولى انسحبت عليها، وبفضل الله تعالى على العبد بالإجزاء بها فيكتب له ما يأتي بعدها، وكذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "تَكَفَّلَ الله لِمَنْ جَاهِدَ في سَبِيلِهِ" (¬2) الحديث معناه التزم وكفى بالله كفيلاً، والتزامه إخباره لأن خبره صدق ووعده حق، ثم قال: لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته في الإيمان أولاً والثقة بالضمان آخراً، وقوله: أن يدخله الجنة يعني إن قتل. وكذلك روى مسلم في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قال: "قَعَدَ الشيْطَانُ لِابْنِ آدَمَ في طَرِيقِ الإيمانِ فَقَالَ لَهُ: أتُسَلِمْ وَتَذِرْ دِينَكَ وَدينَ آبَائِكَ فَخَالَفَهُ فَأسْلَم ثُمَّ قَعَدَ لِهُ في طَرِيقِ الْهُجْرَةِ فَقَالَ لِهُ: أتُهَاجِرْ وَتَدَعْ أرْضَكَ وَديَارَكَ فَخَالَفَهُ فَهَاجَرَ، ثُم قَعَدَ لَهُ في طَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ لَهُ: أَتُجَاهِدْ فَتُقْتَلْ فَتَذِرْ عِيَالَكَ وَأَطْفَالَكَ فَحَقٌّ عَلَى الله إذاً فَعَلَ ذلِكَ أنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ" (¬3)، وقوله: أو يرده إلى ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في الجهاد والسير باب الخيل لثلاثة 4/ 35، ومسلم في الزكاة باب إثم مانعي الزكاة 2/ 680، والموطأ 2/ 444 كلهم عن أبي هرَيْرَة. (¬2) تقدم وهو متفق عليه. البخاري 9/ 166 ومسلم 3/ 1496 كلاهما حديث أبي هريرة. (¬3) لم أطَّلع على هذا العزو لمسلم ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف لغير النسائي، انظر التحفة 3/ 264، وهو في سنن النسائي 6/ 21 من طريق سالم بن أبي الجعد عن سيرة بن أبي فاكهة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس له في الكتب الستة سوى هذا الحديث. انظر التحفة 3/ 264. درجة الحديث: حسن من خلال إسناده.

مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة. روى مسلم: (أيَّمَا سريَّةٍ أصابَتْ ذهبَ ثُلُثَا أجْرِهَا وَأيَّمَا سَرِيَّةٍ أخْفَقتْ (¬1) كَمَلَ لَهَا الأجْر) (¬2). واختلف الناس في هذا الحديث؛ فمنهم من ردَّه لأجل أن الله قد ظفر رسوله وغنمه في بدر وغيرها أفيقول أحد: إنه ذهب ثلثا ذلك الأجر ومنهم من أوله (¬3)، وأشبه ما قيل فيه: إِن السرية إذا أخفقت زيدت على أجر الجهاد أجر الخيبة فإن أصابت نقص ذلك المزيد (¬4) وتقديره بالثلثين أو الثلث سر لا يطلع عليه إلا صاحب الشريعة. حديث قال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -"ألَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ مَنْزِلَةً" (¬5) إلى آخره، أما قوله: رَجُلٌ أخَذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ في كُل زَمَانٍ وَأوَانٍ ¬

_ (¬1) قال النووي: قال أهل اللغة: الإخفاق أن يغزوا فلا يغنموا شيئاً، وكذلك كل طالب حاجة إذا لم تحصل فقد أخفق. شرح النووي على مسلم 13/ 52. (¬2) مسلم في كتاب الإمارة باب بيان قدر ثواب من غزا فغنم ومن يغنم 3/ 1514، وأبو داود 3/ 18 كلاهما من حديث عبد الله بن عمرو. (¬3) قال الحافظ: سبق إلى هذا الإشكال ابن عبد البر، وحكاه عياض وذكر أن بعضهم أجاب عنه بأنه ضعَّف حديث عبد الله بن عمرو لأنه من رواية حميد بن هانئ، وهذا مردود لأنه ثقة محتج به عند مسلم، وقد وثقه النسائي وابن يونس وغيرهما، ولا يعرف فيه تجريح لأحد. فتح الباري 6/ 9. وقال النووي: قولهم أبو هانئ مجهول غلط فاحش بل هو ثقة مشهور روى عنه الليث بن سعد وحيوة وابن وهب وخلائق من الأئمة، ويكفي في توثيقه احتجاج مسلم به في صحيحه. شرح النووي على مسلم 13/ 52. القول الثاني: منهم من حمل نقص الأجر على غنيمة أخذت على غير وجهها، قال الحافظ وظهور فساد هذا الوجه يغني عن الإطناب في ردَّه إذ لو كان الأمر كذلك لم يبقَ لهم ثلث الأجر ولا أقل منه. القول الثالث: ومنهم من حمل نقص الأجر على من قصد الغنيمة في ابتداء جهاده، وحمل تمامه على من قصد الجهاد محضاً وفيه نظر. فتح الباري 6/ 9. هذه الأقوال ساقها الحافظ مع الرد عليها. (¬4) قلت: هذا ما رجَّحه النووي فقد قال النووي: الصواب، الذي لا يجوز غيره، أن الغزاة إذا سلموا أو غنموا يكون أجرهم أقلّ من أجر من لم يسلم أو سلم ولم يغنم، وإن الغنيمة في مقابلة جزء من أجر غزوهم فإذا حصلت لهم فقد تعجَّلوا ثلثي أجرهم المترتب على الغزو وتكون الغنيمة من جملة الأجر. شرح النووي على مسلم 13/ 52. (¬5) الموطأ 2/ 445 مرسلاً من طريق عطاء بن يسار إنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. وقد وصله الترمذي من طريق ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن عطاء بن يسار عن ابن عباس. سنن الترمذي 4/ 182 وقال: حسن غريب، والنسائي 5/ 83 من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن عطاء بن ياسر عن ابن عباس من نفس الطريق، وابن حبان انظر موارد الظمآن ص 384. أقول: طريق الترمذي فيها عبد الله بن لَهِيعة، بفتح اللام وكسر الهاء، بن عقبة الحضرمي، أبو عبد الرحمن المصري، القاضي. صدوق من السابعة خلط بعد احتراق كتبه وقد تقدم. درجة الحديث: حسن من خلال إسناد الرواية الثانية.

وَحَالَةٍ وَمَكَانٍ. وأما قوله: رَجُل مُعْتَزُلٌ في غَنِيمَتِهِ، فالمراد به في وقت الفتنة (¬1) وإلا فالجماعة والجمعة وإفاضة العلم وإقامة الحدود وإظهار الشعائر هو معنى الدين. ولما كان هذا قليلاً في الخلق في الأزمنة خرج كلام النبي، - صلى الله عليه وسلم - على الغالب. حديث (بَايَعنَا رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطاعَةِ" (¬2) إلى آخره. يعني بالسمع: القبول، وبالطاعة: الانقياد في الطاعة، والعسر: الفقر والمشقَّة، واليسر: الغناء والسعة. (وَشَرُّ النَّاسِ رَجُلٌ بَايَعَ إِمَاماً لَا يُبَايِعهُ إِلا لِلدُّنْيَا فَإِنْ أعْطَاهُ مِنْهَا رَضِيَ) (¬3) الحديث. وأما قوله المنشط والمكره: فيعني به الخروج معه في منافع الإِسلام كان الدعاء في حال نشاط أو في حال كسل. وأما قوله: وألا ننازع الأمر أهله. فيعني بقوله أهله: من ملكه لا من يستحقه فإن الأمر فيمن يملكه أكثر منه فيمن يستحقه، والطاعة واجبة في الجميع لأمر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بذلك لكل أمير ولو كان عبداً حبشياً (¬4) لما في ذلك من مصلحة الخلق فإن الخروج على من لا يستحق الأمر إباحة للدماء وإذهاب الأمن وإفساد ذات البين، فالصبر على ضرره أولى من التعرض لهذا الفساد كله. لما خرج ابن الأشعث (¬5) على الحجّاج (¬6) حين ظهر ظلمه وشاع ¬

_ (¬1) هكذا نقل الزرقاني أنه قول الجمهور. شرح الزرقاني للموطأ 3/ 8. (¬2) متفق عليه. البخاري في كتاب الأحكام باب كيف يبايع الإِمام الناس 9/ 96، ومسلم في كتاب الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية 3/ 1470، والموطأ 2/ 445 كلهم عن عبادة ابن الصامت. (¬3) متفق عليه. البخاري في الأحكام باب من بايع رجلاً لا يبايعه إلا للدنيا 9/ 98 - 99، ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالمعطية وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله 1/ 103، والنسائي 7/ 246كلهم عن أبي هريرة. (¬4) ورد عند البخاري من حديث أبي التياح عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسْمَعُوا وَأطِيعُوا وإن اسْتعْمِلَ حَبَشِىٌ كَأنَّ رَأسَة زَبِيبَةٌ" البخاري في كتاب الأذان باب إمامة العبد والمولى 1/ 178، ورواه في الأحكام من رواية شعبة عن أبي التياح عن أنس وقال فيه: وإن استعمل عليكم عبد حبشي ... 9/ 78، ومسلم في الإمارة باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية .. من حديث أبي ذر قال: إنَّ خَلِيلِي أوْصَاني أن أسْمَعَ وَأطِيعَ وَإنْ كَانَ عَبْداً مجَدَّع الْأطْرَافِ، مسلم 3/ 1467، وابن ماجه 2/ 955. (¬5) هو عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس الكندي أمير من القادة الشجعان، وهو صاحب الوقائع مع الحجَّاج، وقد لجأ، بعد معركة دير الجماجم مع الحجَّاج وفشله فيها، إلى رتبيل فحماه مدة ثم قتله وبعث برأسه إلى الحجَّاج فأرسله الحجَّاج إلى عبد الملك بالشام وكان ذلك سنة 85 هـ. الأعلام 4/ 98، تاريخ الطبري 8/ 39. (¬6) الحجَّاج بن يوسف بن عقيل الثقفي، الأمير المشهور الظالم، وقع ذكره في الصحيحين وغيرهما وليس بأهل أن يروى عنه. ولي إمارة العراق عشرين سنة، ومات سنة خمس وتسعين. ت 1/ 154 ت ت 2/ 210، وابن خلكان 2/ 29.

تعدَّيه جاءوا إلى الحسن بن أبي الحسن (¬1) البصري في جماعة من القّراء يدعونه إلى الخروج معهم فقال لهم (إنَّ الحجاج عُقُوبَةُ الله في الْعِبَادِ، وَعُقُوبَةُ اللهِ لاَ تُقَابَلُ بِالسَّيْفِ وإنمَا تُقَابَلُ بِالتوبةِ) (¬2). وأما قوله: أنْ نَقُولَ بِالْحقَّ وَلَا نَخَافُ لَوْمَةَ لَائِمِ فصحيح. فأما إن خاف العقوية فيسقط عنه فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلسانه ويبقى بقلبه، وهل يجوز له أن يقتحمه وان أدى إلى قتله. واختلف (¬3) الناس في ذلك. والصحيح عندي أنه لا يجوز التعرّض له، وقد بيَّناه في كتب الأصول. وأما حديث عمر (مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ) (¬4) إلى آخره فكلام فصيح لا تنزل بعبد شدة إلا فرجها الله تعالى إما بزوالها وإما بأفضل من ذلك وهو لقاء الله عند الموت وأما قوله: (وَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ) فإنها فصاحة عربية لأن الله تعالى ذكر العسر مرتين بصيغة التعريف؛ فالأول هو الثاني، وذكر اليسر مرتين بصيغة التنكير، فالثاني غير الأول حسب ما تقتضيه اللغة العربية (¬5). وأما قوله تعالى ¬

_ (¬1) الحسن بن أبي الحسن البصري واسم أبيه يسار الأنصاري، مولاهم, ثقة، فقيه، فاضل، مشهور، وكان يرسل كثيراً ويدلّس. قال البزار: كان يروي عن جماعة لم يسمع منها فيتجوز ويقول حدثنا وخطبنا، يعني الذين حدثوا وخطبوا بالبصرة. مات سنة عشر ومائة. ت 1/ 165 ت ت 2/ 263، تذكرة الحفَّاظ ص 71. (¬2) هذا الأثر رواه ابن سعد في الطبقات عن شيخه محمَّد بن الفضل أبو الفضل 7/ 164. درجة الأثر: صحيح. (¬3) الواو ليست في (ك) ولا (م) وذلك الأولى عندي. (¬4) الموطّأ 1/ 446، عَنْ زيدِ بْنِ أسْلَمَ قَالَ: كَتَبَ أبو عبيدَةَ إلَى عُمَرَ يَذْكُرُ لَهُ جموعاً مِنَ الرُّوم وَمَا يَتَخَوَّف مِنْ أمْرِهِمْ، فَكَتَب إلَيْهِ عُمَر: أمَّا بَعْدُ، فَإنَّهُ مَهْمَا يِنْزِل بِعبد مُؤْمِنٍ مِنْ منْزَلِ شِدَّةٍ يَجْعَلِ الله بَعْدَهُ فَرَجاً وإنهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْر يُسْرينِ .. وهذا الأثر منقطع لأن زيد بن أسلم لم يدرك أبا عبيدة. قال الحاكم: صحَّ عن عمرو على أنه لن يغلب عسر يسرين وقال: وقد روي بإسناد مرسل وساقه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الحسن، المستدرك 2/ 528. وأخرجه ابن جرير من نفس الطريق، تفسير ابن جرير 30/ 151. وقال الحافظ: رواه مرفوعاً ابن مردويه من حديث جابر بإسناد ضعيف ولفظه (أوْحَى الله إلَيَّ أن مَع الْعُسْرِ يُسْراً إنَّ معَ الْعسْرِ يُسْراً وإنه لَنْ يغْلِبَ عُسرٌ يسْرَينِ)، ثم قال: وأخرجه عبد بن حميد عن ابن مسعود بإسناد جيد من طريق قتادة، فتح الباري 8/ 712. درجة الحديث: ضعيف لأن المرسل منقطع، كما قال الحافظ في الفتح 8/ 712 وحكم أيضاً بضعف المرفوع. (¬5) ورد في البخاري في تفسير سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ} 6/ 213، قال ابن عيينة: أي إنَّ مع ذلك العسر يسراً. قال الحافظ: وهذا مصير من ابن عيينة إلى اتباع النحاة في قولهم إن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، وموقع التشبيه إنه كما ثبت للمؤمنين تعدد الحسنى كذا ثبت لهم تعدد اليسر، أو إنه ذهب إلى أن المراد بأحد اليسرين الظفر وبالآخر الثواب فلا بد للمؤمن من أحدهما، فتح الباري 8/ 712.

فائدة الجهاد

{اصْبِرُوا} (¬1) فمعناه أحبسوا أنفسكم على الأذى في ذات الله تعالى، وعن الشهوات التي تقطع عن الله تعالى، وأما قوله: {وَصَابِرُوا} فمعناه قابلوا صبر غيركم به. قال الله تعالى: {إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون} (¬2) وقال تعالى: {إنْ يَمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله} (¬3) وأما قوله: {وَرَابِطُوا} فمعناه إذا فعلتم ذلك التزموه فإن الأعمال إِنما هي بالمداومة ومعيارها إنما يظهر عند الخاتمة. فائدة الجهاد: نيل الفضيلة الغنيمة بتحقيق الموعد (¬4). أما نيل الفضيلة فقد بدأ به مالك، رضي الله عنه، وقد روي عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وقد قيل له: يَا رَسُولَ الله، مَا بَالُ النَاسِ يُفْتَنُونَ في قبُورِهِمْ إلَّا الشُّهَدَاء؟ فَقَالَ: كَفَى بِبَارِقَةِ السّيُوفِ فِتنَةٌ (¬5) خرّجه الشعبي (¬6) وقال: قال رسول الله: (مَنْ قَتَلَهُ أهْل الْكِتَابِ فَلَهُ أجْرُ شَهِيدَيْنِ) (¬7) وقال: (قَفْلَةٌ كَغَزْوةٍ) (¬8) فجعل أجر المجاهد في رجوعه كأجره في مسيره (¬9)، خرّجه الداودي (¬10) وعن ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية 200. (¬2) سورة النساء آية 104. (¬3) سورة آل عمران آية 140. (¬4) في (ك) و (ص) المواعد ولعل الصواب الوعد. (¬5) رواه النسائي 4/ 99 من طريق راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأورده السيوطي في الجامع الصغير وعزاه للنسائي، وصحَّحه في الجامع الصغير، انظره مع شرحه، فيض القدير 5/ 4، وكذلك الألباني في صحيح الجامع الصغير 4/ 164، والروداني في جمع الفوائد 2/ 12. درجة الحديث: صحيح. (¬6) هو عامر بن شراحيل .. الشعبي الحميري، أبو عمرو راوية من التابعين يُضرب به المثل بالحفظ. ولد سنة 19 ومات سنة 103 بالكوفة وبها نشأ. الأعلام 4/ 18. ت ت 5/ 65 الوفيات 1/ 244، حلية الأولياء 4/ 310، تذكرة الحفَّاظ للذهبي 1/ 79، تهذيب تاريخ ابن عساكر 7/ 138، تاريخ بغداد 12/ 227. (¬7) لم أطَّلع عليه. (¬8) أبو داود 2/ 12، والحاكم في المستدرك 2/ 73 وقال: صحيح على شرط مسلم، وكذا قال الذهبي وأحمد. انظر الفتح الرباني 14/ 7، وشرح السنة 11/ 14، كلهم عن عبد الله بن عمرو. درجة الحديث: صحيح كما قال الحاكم والذهبي. (¬9) قال الخطابي: يُحتمل وجهين، أحدهما: أن يكون أراد به القفول عن الغزو والرجوع إلى الوطن، يقول: إن أجر المجاهد في انصرافه إلى أهله كأجره في إقباله إلى الجهاد. الثاني: أن يكود أراد بذلك التعقيب وهو رجوعه ثانياً في الوجه الذي جاء منه منصرفاً وأن لم يلقَ عدواً. شرح السنة 11/ 15. (¬10) تقدم.

أبي هريرة أنّ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: (مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدَّثْ بِهِ نَفْسَهُ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ) (¬1) خرّجه القشيري. وأما تحصيل الغنيمة فهي خصيصة هذه الأمة، قال - صلى الله عليه وسلم -: (فُضَّلْنَا عَلَى النَاسِ بِسِتٍّ فقال: وأُحلَّت لنا الغنائم ولم تحل لأحد سود الرؤوس قبلنا (¬2) وليس يناقض ذلك القتال لتكون كلمة الله هي العليا لأن من تمام القتال لتعلو كلمة الإِسلام. المال أفضل وجوه الغنيمة قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "الإبِلُ عِزٌّ لأِهْلِهَا وَالْغَنَمُ بَرَكَةٌ وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الأجْرُ وَالمَغْنَمُ" (¬3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "جُعِلَ رِزْقي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي" (¬4) فلما كان أفضل الخلق جعل الله رزقه في أفضل وجوه ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب الإمارة باب ذمّ من مات ولم يغزُ ولم يحدِّث نفسه بالغزو 3/ 1517. (¬2) مسلم في كتاب المساجد 1/ 371، والترمذي 4/ 123 ولفظه: عَنْ أبِي هريرَةَ فُصَّلْتُ عَلَى الْأنْبِيَاءِ بِسِتٍ". قلت: وهذا لفظ أحمد في المسند. انظر الفَتح الرباني 14/ 70. (¬3) ابن ماجه 2/ 773 عن عروة البارقي يرفعه قال: الْإبِلُ عِزٌّ لأِهْلِهَا وَالْغَنَمُ بَرَكَةٌ، وقال السندي: قال في الزوائد: إسناده صحيح على شرط الشيخين بل بعضه في الصحيحين وإنما تفرَّد ابن ماجه بذكر الإبل والغنم فلذلك ذكرته، حاشية السندي على ابن ماجه 2/ 47. قلت: هو كما قال: انظر البخاري في الجهاد باب الخيل معقود بنواصيها الخير إلى القيامة 4/ 34، ومسلم في الإمارة باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة مسلم 3/ 1493. درجة الحديث: صححه الشارح والهيثمي. (¬4) البخاري في الجهاد باب ما قيل في الرماح 4/ 33 بلفظ: وَيُذْكَر عَنِ ابنِ عمَر عَنِ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وهو طرف من حديث طويل أخرجه الإِمام أحمد ثنا أبو النضر ثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ثنا حسان بن عطية. عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (بُعِثْتُ بِالسيفِ حَتى يُعْبد الله لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقي تَحْتَ ظِلِّ رِمْحِي وَجُعِلَ الْذُّلَّةُ وَالصِّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أمْرِي وَمَنْ تَشبَّهَ بِقَوْمٍ فَهوَ منهمْ) المسند 2/ 50 ورواه أيضاً في 1/ 92، والحديث فيه أبو المنيب الجُرَشي، بضم الجيم وفتح الراء بعد معجمة، الدمشقي، ثقة من الرابعة/ د. ت 2/ 477، وانظر ت ت 12/ 248. وقال في الفتح 6/ 98: لا يعرف اسمه. وفيه أيضاً عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العنسي بالنون الدمشقي الزاهد صدوق يخطئ، ورَمي بالقدر وتغيّر بآخرة من السابعة. مات سنة 165 وهو ابن 90/ بخ ع ت 1/ 174 وقال في ت ت، قال أحمد: عنده مناكير، ومرة قال: لم يكن بالقوي، وقال ابن معين والعجلي وأبو زرعة: لين، وقال ابن معين: ضعيف، وقال دحيم: ثقةُ رمي بالقدر، وقال أبو حاتم: ثقة يشوبه شيء من القدر وتغيَّر عقله في آخر حياته وهو مستقيم الحديث، وضعَّفه النسائي، ووثَّقه ابن حبان ت ت 6/ 50، وللحديث شاهد مرسل عند ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي عن سعيد بن جبلة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بلفظه. المصنف 12/ 349، وأشار الحافظ في الفتح 6/ 98 إلى أن إسناد هذه الرواية حسن. درجة الحديث: حسنٌ بشواهده.

الكسب. خرّجه البخاري وقال عبد الله ابن حوالة (¬1): بعثنا رسول - صلى الله عليه وسلم -، لنغنم فرجعنا ولم نغنم (¬2). خرّجه الداودي. وهذا يدل على جواز الجهاد قصد الغنيمة خاصة، وفي أثناء ذلك يحصل إعلاء كلمة الله تعالى مما تفيده السرايا من غيظ العدو وضعفه. وأما تحقيق الموعد فقال - صلى الله عليه وسلم -: "زُويتْ لي الأرْضُ فأرِيتُ مشَارقها وَمغاربها" (¬3) الحديث. ولا سبيل لعموم الملك إلا طريق- للجهاد، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لاَيزالُ أهْلُ الْغرب ظاهرين على الْحقِّ لاَ يضُرُّهُمْ مَنْ خذلَهُمْ إلَى أن تَقُوم السَّاعةُ." (¬4). قال قوم: هم أهل المغرب (¬5)، وقال قوم منهم علي بن المديني: هم العرب (¬6)، وقال قوم: هم المخصوصون بالجهاد المثابرون عليه النبي لا يضعون أسلحتهم فهم أبداً في غرب، وهي (¬7) الحدة. خرّج ذلك مسلم، وهذا يكون بجوْب القفار (¬8) وخَوْض البحار تحقيقاً للموعد الحق المذكور حين قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "نَاسٌ مِنْ أُمَّتي عُرضوا علىَّ يرْكبُون ¬

_ (¬1) عبد الله بن حوالة الأزدي، أبو حوالة، نزل الأردن ودمشق. تجريد أسماء الصحابة 1/ 329. قال ابن الأثير: توفي بالشام سنة ثمانين. أسد الغابة 3/ 148، والإصابة 4/ 69. (¬2) أبو داود 3/ 41 - 42. أقول: الحديث فيه أسد بن موسى بن إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك الأموي، أسد السنة، صدوق يغرب وفيه نصب من التاسعة. مات منة 212 وله ثمانون سنة/ خت د س. ت 1/ 63، وثَّقه النسائي والعجلي والبزّار ت ت 1/ 260. درجة الحديث: حسن لغيره والله أعلم. (¬3) مسلم في الفتن باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض 4/ 2215، وأبو داود 4/ 450، وابن ماجه 4/ 1302، وأحمد في المسند 5/ 278 عن ثوبان. (¬4) مسلم في الامارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تزالُ طائِفَةٌ بنْ أُمَّتي ظاهرِينَ عَلَى الحَق لاَ يضرهمْ مَنْ خَالَفهُمْ" 3/ 1525 عن سعد بن أبي وقاص. (¬5) حكى هذا القول النووي ولم يعزه لأحد. شرح النووي على مسلم 13/ 68. (¬6) انظر شرح النووي على مسلم وزاد: المرد بالغرب الدلو الكبير لاختصاصهم بها غالباً شرح النووي على مسلم 13/ 68. (¬7) نقل للحافظ هذا القول ولم يعزه لأحد. فتح الباري 13/ 295، ونقل عن النووي قوله: يجوز أن تكون للطائفة جماعة متعدده من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدِّث ومفسر قائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتميعن بلد واحد بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد وأن يكونوا في بعض دون بعض. فتح الباري 13/ 295. (¬8) هي الأرض الخالية التي لا ماء بها. النهاية 4/ 89.

ثَبَجَ (¬1) هذَا الْبَحْرِ الأخْضَرِ غُزاةً في سَبِيلِ الله" (¬2)، وهذا يدل على طلب تحقيق الموعد من وراء البحار، وقد علم - صلى الله عليه وسلم - بلوغ الدين هنالك. ولذلك قال في الحديث الصحيح: "اعْمَلْ مِنْ ورَاءِ الْبِحَارِ فَإِنَّ الله لَنْ يَتْرُكَ مِنْ عَمَلِكِ شَيْئاً" (¬3). وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "لَا هِجْرَةً بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنيَّة" (¬4) فلئن كانت الهجرة قد ذهبت فإن الجهاد باقٍ خلفاً عنها، على أن الداودي قد روى عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "لَا تَنْقَطِعُ الهجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التوبةُ وَلَا تَنْقَطِعُ التويةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا" (¬5)، ومعنى هذا أن الهجرة كانت مستحبة في صدر الإِسلام ثم كانت واجبة إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لتتمكن الدوحة وتتسع الدار وتنتشر الملَّة، فلما فتح الله تعالى عليه مكة انقطع الوجوب وبقي الاستحباب إلا في موطنين؛ أما أحدهما: فهجرة المسلم من أرض الحرب إلى دار الإِسلام وهذا ¬

_ (¬1) أي وسطه ومعظمه. النهاية 1/ 206. (¬2) متفق عليه. البخاري في الجهاد باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء 4/ 19، ومسلم في الإمارة باب فضل الغزوفي البحر 3/ 1518، والموطأ 2/ 464 كلهم عن أنس بن مالك. (¬3) متفق عليه. البخاري في الزكاة باب زكاة الإبل 2/ 145، ومسلم في الإمارة باب المبايعة بعد فتح مكة على الإِسلام والجهاد والخير وبيان معنى لا هجرة بعد الفتح 3/ 1488، وأبو داود 3/ 6، والنسائي 7/ 143، وأحمد في المسند 3/ 14 كلهم عن أبي سعيد الخدري. (¬4) متفق عليه البخاري في الجهاد باب وجوب النفير 4/ 28 ومسلم في الامارة باب المبايعة بعد فتح مكة على الإِسلام والجهاد والخير وبيان معنى لا هجرة بعد الفتح 3/ 1487 وشرح السنة 10/ 371 والدارمي 2/ 239 كلهم عن ابن عباس. (¬5) أبو داود 3/ 7 وأحمد في المسند 4/ 99 والدارمي 2/ 239 وذكره البغوي بصيغة روي عن معاوية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة .. وقال وفي إسناده مقال. شرح السنة 10/ 371 وصدق البغوي فان الحديث فيه أبو هند البجلي شامي مقبول من الثالثة/ دس. ت 2/ 484 وقال في ت ت: قال عبد الحق: ليس بالمشهور وقال ابن القطان: مجهول ت ت 12/ 268 أما باقي رجاله فثقات، وفي الباب ما يشهد له فقد أخرج أحمد في المسند 4/ 1671 عن عبد الله بن السعدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تنقطع الهجرة مادام العدو يقاتل) فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الهجرة خصلتان إحداهما تهجر السيئات والأخرى تهاجر إلى الله ورسوله ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه. قال الشيخ أحمد شاكر عن إسناد هذا الحديث إنه صحيح. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 250 وقال: روى أبو داود والنسائي بعض حديث معاوية ورواه أحمد والطبراني في الأوسط والصغير من غير ذكر. حديث ابن السعدي والبزار من حديث عبد الرحمن بن عوف وابن السعدي فقط ورجال أحمد ثقات. درجة الحديث حسن لغيره بهذه المتابعة والله أعلم.

فرض عين على من نزل به. الثاني: هجرة الرجل ماله وأهله للخروج إلى العدو عند الاستنصار به أو عند استنفاره لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفُرُوا" وكذلك "إذا اسْتنْصِرْتُمْ فَانْصُرُوا" وفي غير هذين الموضعين تكون هذه الهجرة فرض كفاية (¬1). ويتعلق بهذا ويرتبط به قتال الخوارج (¬2) إذا ظهروا يطلبون مالاً أو ملكاً فإن قتالهم فرض وقتلهم قربة وسنبين الآن، إن شاء الله تعالى، بعضاً من الفرض فيهم ولا ينقطع الجهاد إلا بالإِسلام. قال - صلى الله عليه وسلم -:"أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَاسَ حَتى يَقُولُوا لاَ الهَ إلا الله" (¬3) الحديث. فإن لم يكن إسلام فالجزية بالقرآن، قال الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬4) الآية .. وذلك من الله تعالى على وجه الرفق بنا حتى ننجِّي من الحرب أنفسنا وتكثر بالجزاء أموالنا وزاد في الرفق بأن قال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (¬5)، وهذا وإن كان خاصاً للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، فإن الآية محكمة (¬6) إلى أن تقوم الساعة إذا رأى الإِمام ذلك، واحتاج الناس إليه ينعقد (¬7) الصلح على ما يمكنه من ضعف المسلمين وقوَّتهم ولا يمنع ذلك من إجابة الناس الكفار إليه إذا كان للمسلمين منفعة فيه، ولا أعظم من حالة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يوم الحديبية التي انكرها عمر، رضي الله عنه، حين قالوا للنبي، - صلى الله عليه وسلم -: وعلى إن تردَّ إلينا من- جاءكم منا مسلماً، قال ¬

_ (¬1) نقل الحافظ عن الخطابي قوله: كانت الهجرة فرضاً في أول الإِسلام على من أسلم لقلِّة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجاً فسقط فرض الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى ذويه من الكفار؛ فانهم كانوا يعذِّبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه .. قال الحافظ: وهذه الهجرة باقية في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها .. ونقل عن الطيبي قوله: إن الهجرة التي انقطعت هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر والخروج في طلب العلم، والفرار بالدين من الفتن والنية في جميع ذلك. فتح الباري 6/ 37. (¬2) الخوارج هم الذين يكفِّرون علياً وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل وكل من رضي بتحكيم الحكمين .. والخروج على الإِمام الجائر. الفرق بين الفرق ص 73 مقالات الإِسلامين 1/ 167. (¬3) متفق عليه. البخاري في الزكاة وجوب الزكاة 2/ 131، ومسلم في الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله 1/ 52، والبغوي في شرح السنة 1/ 66 كلهم عن أبي هريرة. (¬4) سورة التوبة آية 29. (¬5) سورة الأنفال آية 61. (¬6) قال في الأحكام. وأما قول من قال منسوخة بقوله: {قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافة} فدعوى فإن شروط النسخ معدومة فيها. الأحكام 2/ 864. (¬7) كذا في النسخ ولعلها يعقد.

له سهيل: وأول ما أقاضيك على أبي جندل ولده، وقد جاء يوسف في قيده فقال له النبي، - صلى الله عليه وسلم -: نعم، فصاح أبو جندل: يا معشر المسلمين أُرَدُّ إلى الكفار يفتنوني عن ديني (¬1). قال علماؤنا: ورسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، كان أعرف وصدقوا، وفيه نكتة بديعة؛ وذلك أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، إنما رد إلى سهيل ولده فماذا يصنع الوالد بالولد، وأيضاً فإن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قد كان أذن لهم بالتلفظ بالكفر، وهو الذي كانت الكفار تطلبه فيتلفظون به حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده .. وقد قال علماؤنا: إن دعوة الكفار شرط في القتال (¬2)، وقد قال مالك، رضي الله عنه: يدعون مرة (¬3)، وقال أخرى لا يدعون (¬4). وقد قال آخرون من علمائنا: ذلك اختلاف حال لا اختلاف قول، والذي عندي أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قد فرغ من الدعوة وقد كتب إلى هرقل (¬5) والنجاشي (¬6)، وكتب إلى الأقيال (¬7) والعباهلة (¬8) وبيَّنَ الإِسلام بالحج (¬9) عشر سنين. أما إنه بعث معاذاً إلى اليمن فقال: "ادْعُهُمْ إلَى شَهَادةِ أنْ ¬

_ (¬1) البخاري في الغزوات باب غزوة الحديبية 5/ 161 - 162 من طريق عروة بن الزبير أنه سمع مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة يخبران خبراً من خبر رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، في عمرة الحديبية .. وانظر سيرة ابن هشام 2/ 203، والسيرة لابن كثير 3/ 319، وجوامع السيرة ص 208، والروض الأنف 6/ 483. (¬2) قال ابن رشد: إن ذلك بالاتفاق. بداية المجتهد 1/ 329، وقال ابن رشد الجد: في المقدمات تجب الدعوة قبل القتال ليبين لهم عَلامَ يقاتلون لا من أجل أن دعوة الإِسلام لم تبلغهم. مقدمات ابن رشد 1/ 266. (¬3) المدونة 2/ 2 من رواية ابن القاسم، وانظر الكافي 1/ 466. (¬4) قال ابن حبيب: قال مالك: إذا وجبت الدعوة فإنما يدعوا إلى الإِسلام جملة من غير ذكر الشرائع إلا أن يسألوا عنها فلتبين لهم وكذلك يدعون إلى الجزية مجملاً. الحطاب 3/ 350. (¬5) هرقل هو ملك الروم وكتابه: متفق عليه. البخاري في الجهاد باب هل يرشد المسلم أهل الكتاب أو يعلمهم الكتاب 4/ 53، وفي باب دعاء النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إلى الإِسلام 4/ 54 - 57، وفي تفسير سورة آل عمران 6/ 43، ومسلم في الجهاد باب كتاب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إلى هرقل يدعوه إلى الإِسلام 3/ 1393 كلاهما عن ابن عباس أن أبا سفيان أخبره .. (¬6) هو ملك الحبشة وقصته في الكتب الآتية من طريق ابن إسحاق. البداية والنهاية 3/ 83، الطبري 2/ 294، أسد الغابة 1/ 62، زاد المعاد 3/ 60، الوثائق السياسية ص 43، السيرة الحلبية 3/ 67، عيون الأثر 2/ 335، مكاتيب النبي، - صلى الله عليه وسلم -1/ 121، وطبقات ابن سعد 1/ 258. (¬7) قال ابن سعد: وكتب رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، إلى أقيال حضرموت وعظمائهم، طبقات ابن سعد 1/ 283، ومكاتيب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قلت: وكلام ابن منظور، الآتي، يدل على أن الاقيال هم العباهلة. (¬8) قال الجوهري: وعباهلة اليمن ملوكهم الذي أُقِرِّوا على ملكهم لا يزالون عنه. صحاح الجوهري 5/ 1757، وقال ابن منظور: الأقيال العباهلة من أهل حضرموت. قال أبو عبيد: العباهلة هم الذين أقروا على ملكهم لا يزالون عنه. لسان العرب 11/ 422. (¬9) كذا بالنسخ ولعلها الحجج.

النهي عن قتال النساء والولدان

لَا إلهَ إلَّا الله وَأنَ مُحَمَداً رَسُولُ الله فَإنْ هُمْ أجَابُوكَ إلَيْهَا فَأعْلِمْهِمْ" (¬1) الحديث. وقال في حديث بريدة "ادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ (¬2) خِلَالٍ" الحديث. وأغار - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق (¬3) وهم غارون، وأتى خيبر ليلاً فصبحها على (¬4) غرَّة، وذلك كله لتقدم الدعوة. النهي عن قتال النساء والولدان: إعلموا نوّر الله تعالى قلوبكم أن موضع الجهاد، كما قلنا، لإعلاء كلمة الله تعالى، وكسب الحلال من مال الله تعالى، وقتل أعداء الله عز وجل. واختلف العلماء في علة القتل فمنهم من قال علته الكفر. قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (¬5) أي كفر، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬6)، فذكر الصفة في الحكم منبِّهاً بها على التعليل، وقال أهل الكوفة: علَّة القتل المحاربة (¬7). قال تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} وهذا أصل عظيم تنبني عليه مسائل من الأحكام كثيرة، وقد استوفيناها في كتاب مسائل الخلاف بالبيان، وأقمنا على أن العلة الكفر لا الحرابة واضح البرهان، ولكن مع هذا قال علماؤنا: لا يقتل من الكفار أحد عشر كافراً ويقتل كافر واحد، وهذا من بديع الفقه، وذلك أن الله تعالى قال: {فاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬8) فكان هذا العموم من أصول الدين تناول اثني عشر شخصاً قتل واحد وترك ¬

_ (¬1) البخاري في الزكاة باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا 2/ 158، ومسلم في الإيمان باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإِسلام 1/ 50 كلاهما من حديث ابن عباس عن معاذ بن جبل. (¬2) مسلم في الجهاد 3/ 1357، وأبو داود 3/ 83، والترمذي 4/ 162، وابن ماجه 2/ 953 كلهم من حديث بريدة. (¬3) متفق عليه. البخاري في كتاب العتق باب من ملك من العرب رقيقاً. 3/ 194، ومسلم في الجهاد باب جواز الإغارة على الكفار 3/ 1356، وأبو داود 3/ 97، وأحمد رقم 4857 - 4875 - 5124 كلهم من حديث ابن عمر. (¬4) متفق عليه. البخاري في الجهاد باب دعوة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إلى الإسلام 4/ 58، ومسلم في الجهاد باب غزوة خيبر 3/ 1426 - 1427، والموطأ 2/ 469 كلهم عن أنس. (¬5) سورة البقرة آية 193. (¬6) سورة التوية آية 29. (¬7) انظر مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر 1/ 636. (¬8) سورة التوية آية 5.

أحد عشر، وبهذا السبب كاع من كاع (¬1) من علمائنا المتكلمين عن القول بالعموم وذلك غير ضائر فيه لأنه عرضة للتخصيص وللتعليل فوجد كما بيَّناه في أصول الفقه (¬2) بظاهره وتعليله حتى تبين ما تبين دليله. فأما الأثنا عشر فرجل شيخ مفند (¬3) عسيف أجير راهب في صومعته، راهب في كنيسته، زمن مجنون مريض امرأة صبي، فيقتل الرجل بلا خلاف وكذلك الشيخ. وأما المفند والعسيف ففر مالك، رضي الله عنه، من القول بقتلهما (¬4)، قال عبد الملك (¬5): وكذلك الأجير الصانع بيده مثلهما. والذي عندي أنهم يقتلون لأن علة القتل الكفر وهي موجودة فيهم، وقد قال سحنون (¬6): إن حديث العسيف لم يثبت وكان الشعيي قد خرَّج أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال لخالد: "لاَ تَقْتُلَنَّ ذُرِّيةً وَلاَ عَسِيفاً" (¬7)، والذي صح الامتناع من قتل النساء والصبيان (¬8) إلا إن قاتلا فَيُقتلان، قال سحنون (¬9): حالة القتال، وقال ابن القاسم (¬10): في كل وقت وقال أصبغ (¬11): إن قَتَلا في حال ققالهما قُتِلا. ¬

_ (¬1) قال الجوهري: جبن وهاب صحاح الجوهري 3/ 1277، وقال ابن منظور: الكاعة جمع كائع وهو الجبان كبائع وباعة. لسان العرب 8/ 317. (¬2) انظر مبحث العموم في كتاب المحصول ل 28 ب. (¬3) المفند: قيل الضعيف الرأي وإن كان قوي الجسم، وقيل الضعيف الجسم، وقيل الضعيف الرأي والجسم معاً .. لسان العرب 3/ 338. (¬4) انظر الحطاب 3/ 351، والملونة 1/ 372. (¬5) عبد الملك هو ابن الماجشون تقدم، وانظر قوله في الحطاب 3/ 352. (¬6) تقدمت ترجمته. (¬7) أبو داود 3/ 121 وابن ماجه 2/ 948 ولم يسق لفظه بل ساق حديث ابن عمر المتفق عليه وساق بسنده إلى المرقع عن جده رباح بن الربيع عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وعزاه المزي للنسائي في الكبرى, تحفة الأشراف 3/ 166، ورواه ابن وهب كما في المدونة: 1/ 370، والحكم في المستدرك 2/ 122، وأحمد 3/ 488. درجة الحديث: صححه الحاكم وأقرَّة الذهبي. (¬8) متفق عليه. من حديث ابن عمر أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فأنكر ذلك ونهى عن قتل النساء والصبيان. البخاري في الجهاد باب قتل الصبيان في الحرب 4/ 74 من طريق الليث عن نافع عن ابن عمر، ومسلم في الجهاد باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب 3/ 1364 من نفس الطريق، والموطأ 2/ 447، وشرح السنة 11/ 47، وابن ماجه 2/ 947. (¬9) انظر الحطاب 3/ 352. (¬10) تقدمت ترجمته. (¬11) ستأتى ترجمته لاحقاً.

والصحيح قول ابن القاسم لأن العلة، وهي الكفر، قد اقترن بها شرطها وهي الأذاية (¬1) وأما الراهب إن كان في الكنيسة مع الناس فحكمه حكمهم، وأما إن كان في صومعته فيترك لحديث الصديق (فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا أنفُسَهُمْ (¬2) لَهُ). وكذلك المرأة إذا ترهَّبت .. قال مالك، رضي الله عنه: والنساء أحق ألا أن يهجن (¬3)، وقال سحنون: بل يسبين (¬4)، وهو الأصح، لتهيئها للمنفعة والمالية، وأما الزَّمِن (¬5) والمجنون الذي لا يفيق فهو في حكم المفند، وأما إن كان يفيق فإنه يُقتل، ويتعلق بهذا ما قال الصديق: (لَا تَقْطَعَنً شَجَرا مُثْمِراً) وهو قد شاهد قطع النبي، - صلى الله عليه وسلم -، نخل (¬6) البويرة (¬7)، وكانت من أشرف النخل، وكان الرَّجاء في تحولها للمسلمين أعظم من الرَّجاء في تحول أرض الشام لهم، فلا فائدة في قول من قال: إن الصديق إنما نهاجم عنها لأنه رجاها (¬8)، كما أنه لا معنى لقول من قال أيضاً إن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إنما قطعها ليتسع له المنزل (¬9)؛ فإنه تعليل بدعوى وترك أما صرح به الله تعالى حين قال: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً} (¬10) إلى قوله: {وَلْيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} .. فبين تعالى أن المقصود غيظ الكافر واخزاؤه ووهنه، فيكون ذلك من باب النففة على عياله وتجهيز الجيوش لضعفه فإنَّ نفيسِ المال يضعف قلوب الرجال فهذه فائدته .. وإذا احتاج إليه الِإمام فعله. وأما قوله: (لَا تَخْرُبَنَّ عَامِراً) فمثله، وأما قوله: (وَلَا تَحْرُقَنَّ نَخْلًا وَلَا تَغْرِقَنَّهُ) فإنما ذلك لأن النحل حيوان كريم ولا يوصل إلى رزقه إلا ¬

_ (¬1) قال ابن عرقة: يقتل كل مقاتل حال ققاله، وقال ابن سحنون: ولو كان شيخاً كبيراً. المواق بهامش الخطاب 3/ 351. (¬2) الموطأ 2/ 447، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 89 من طريق مالك وعبد الرزاق في المصنف 5/ 199 عن أبي جريج قال أخبرني يحيى بن سعيد. درجة الحديث: فيه انقطاع لأن يحيى بن سعيد لم يدرك أبا بكر وهو بذلك ضعيف. (¬3) لم اطلع عليه ولعلها يُسبين. (¬4) ورجح ابن عبد البر في الكافي 1/ 466 ما رجحه الشارح من أنهن يسبين. (¬5) رجل زمن. أبي مبتلى بَيِّنُ الزمانة، والزمانة: العاهة. لسان العرب 13/ 199. (¬6) متفق عليه. البخاري في تفسير سورة الحشر باب قوله: {ما قطعتم من لينة} 6/ 183 - 184، ومسلم في الجهاد والسير باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها 3/ 1365، والبغوي في شرح السنة 11/ 54 كلهم عن ابن عمر. (¬7) البويرة: بضم الباء الموحدة، وهي موضع نخل بني النضير. شرح النووي على مسلم 12/ 50. (¬8) حكى الحافظ هذا القول ولم يعزه لأحد. فتح الباري 6/ 155. (¬9) حكاه أيضًا البغوي ولم يعزه لأحد شرح السنة 11/ 54. (¬10) سورة الحشر آية 5.

عارضة

بالتدخين عليه، فأما حرقه أو تغريقه فعذاب لا يحلّ، وقد جمعت هذه الوصية من الصديق، رضي الله عنه، ليزيد ابن (¬1) أبي سفيان وصايا من المحاسن في الشريعة وجملاً من الأحكام. عارضة: وعلى ذكر يزيد بن أبي سفيان فإن أبا بكر، رضي الله عنه، اختاره في أمراء الأجناد وبعثه إلى الشام، فلما مات استخلف أخاه معاوية فأقره عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، طول أيامه، ثم ولِّي عثمان، رضي الله عنه، فأمضى ما أقرَّ عمر لم يكن له فيه أثر، ثم زحف المبطلون إلى عثمان، رضي الله عنه، يطلبون منه المحال فكانت نازلة عظيمة في الإِسلام فوجب على الصحابة أن يتشاوروا في هذه النازلة مع خليفتهم فأرسلوا إليه يأخذون رأيه فقال: يتركون، فلم يجز لهم أن يخالفوا رأيه في نفسه فَقُتِلَ عثمان، رضي الله عنه، وتفرق الجمع من هذه البلبلة العظمى وبويم لأحق خلق الله بالِإمامة بعده، وهو علي ابن أبي طالب، رضي الله عنه، فطلب من معاوية عقد البيعة فقال له: أبرز عن نفسك قتلة عثمان فنحن أولياؤه وحينئذ نبايعك، وقال علي: بايع واحضر واطلب حقك تبلغ إليه. ووقف الصحابة على هذا الخلاف، علي يطلب عقد البيعة وجمع الكلمة ويقع التناصف بعد ذلك في الحقوق، ومعاوية في أولياء عثمان يطلبون التبرِّي من قتلة عثمان وحينئذ يعقدون البيعة. وصار من الصحابة في كل طريق فريق وتبارزوا وتقاتلوا ونشأت الحرب واستوفى الله تعالى وعده وأنجز أمره، ولم يكن أحد من الطائفتن في باطل وإنما كان على مرتبة من الحق، وجانب علي عندنا أقوى فيه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الخوارج (يَخْرُجُونَ عَلى حِينٍ فِرْفَةٌ مِنَ النَاسِ يَقْتُلُهُمْ أدنى الطائِفَتَنْ إلى الْحَقِّ) (¬2)، فبيَّن عليه السلام أنَّ كل أحد منهم كان يجتذب طرف الحق وعلي كان أدنى إليه. قال لنا أبو علي الحضرمي (¬3): قال لنا الأذربي (¬4)، قال لنا ¬

_ (¬1) يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي, أخو معاوية، صحابي مشهور أمَّره عمر على دمشق سنة تسع عشرة. مات بالطاعون. ت 2/ 356 وانظر ت عنه 11/ 332. (¬2) مسلم في كتاب الزكاة باب ذكر الخوارج وصفاتهم 2/ 745، وأبو داود 5/ 50، وأحمد 3/ 5، 25، 33 كلهم عن أبي سعيد الخدري. (¬3) أبو علي الحضرمي هو محمَّد بن الحسن محمَّد بن أحمد بن الحسن البرداني، تقدم. (¬4) الأذربي: وقعت بهذا اللفظ في النسخ، والظاهر أنه تحريف وأن الصواب الأزجي. هكذا في اللباب 1/ 45 فقال: الأزجي، بفتح الألف والزاي وفي آخرها الجيم، هذه النسبة إلى باب الأزج وهي محلة كبيرة ببغداد كان منها جماعة كبيرة من العلماء والزهَّاد وكلهم إلا ما شاء الله على مذهب أحمد بن حنبل، =

القاضي (¬1)، وإنما كانت الحكمة من الله تعالى فيما وقع من الحرب بين الصحابة تعلَّم الناس منهم كيفية قتال المسلمين بأن لا يذفف (¬2) على جريحهم ولا يتبع مدبرهم ولا تسبى نساؤهم ولا تغتنم لموالهم. فإن قيل فهيك أن عثمان قد رضي بالقتل فالحادثة لم تنزل به وحده، والمصيبة لم تخصه، بل كان الفساد على جميع المسلمين، فكيف ساعدته الصحابة على هذا الغرض ولم تقم بما كان يتعين عليها من هذا المفترض. فالجواب: أنا أقول الطائفة المبطلة إنما جاءت تطلب شخص عثمان لا شيء سواه فاستسلم عثمان لأمر الله وقال للصحابة: لا يسلّ السيف في الإِسلام بسببي أبداً، ولا يتقاتل الناس فتراق دماؤهم في حياتي، فذلك الذي أوقف للصحابة لأنهم ما كانوا يصلون إلى حماية عثمان إلا بعد أن يقتل من الطائفتين، ربما قُتِل الحسن والحسين، فكره عثمان أن يكون فتح هذا الباب بسببه وفدى الحال والأمة بنفسه حتى تكون صحيفته مبيضة من دم أحد، فتحذار أن تُسَوَّد صحفكم من مخالفة هذا الاعتقاد الذي قدَّمناه والكلام بينهم بغير سداد (¬3). حديث: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بَعَثَ سرِيَّةً يَقُولُ لَهْمُ: (اغْدُوا بِسْمِ الله) (¬4) الحديث. فقوله: تُقَاتِلُونَ مَنْ كَفَرَ بِالله دليل على أن العلة هي الكفر، وقوله: لَا تَغِلُّوا يعني لا تخونوا في الغنائم، فذلك خطب عظيم في الدين وكفر لنعمة المنة بإباحة الغنائم ¬

_ = رحمه الله تعالى. والمشهور بهذه النسبة أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن أحمد بن الفضل الأزجي توفي في المحرم سنة 444 هـ، وقال الذهبي: الشيخ الإِمام المحدث المفيد أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن أحمد بن الفضل ابن شكر البغدادي الأزجي، روى عن الدارقطني وعنه الخطيب. سير أعلام النبلاء 18/ 18 - 19. تاريخ بغداد 10/ 468، وانظر الإنسان 1/ 180. (¬1) هو محمَّد بن الحسين بن محمَّد بن خلف الفرَّاء البغدادي الحنبلي، أبو يعلى، محدث فقيه أصولي مفسَّر، ولد سنة 380 - 458 هـ. معجم المؤلفين 6/ 254، سير أعلام النبلاء 18/ 89، طبقات الحنابلة 2/ 193، تاريخ بغداد 2/ 256، المنتظم 8/ 243 - 244، اللباب 2/ 413 - 414. (¬2) الذف: الإجهاز على الجريح وكذلك الذفاف .. قال أبو عبيد: يروى بالذال والدال جميعاً .. وقد دففت على الجريح تذفيفاً إذا أسرعت قتله. صحاح الجوهري 4/ 1362. (¬3) انظر ما قرره الشارح في العواصم من القواصم ص 58. (¬4) الموطّأ 2/ 448 عَنْ مالِكٍ أنهُ بَلَغَة أن عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إلَي عَامِل مِنْ عُمَّالِهِ أنهُ بَلَعَنَا أن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، كَانَ إذَا بَعَثَ سرِيَّةً يَقُولُ لَهُمْ: اغْدُوا بِاسمِ الله .. وقد وصله مسلم في الجهاد والسير باب تأمير الأمير الأمراء على البعوث 3/ 1357، وأبو داود 3/ 85، والترمذي 4/ 162، وابن ماجه 2/ 953، كلهم من طريق سفيان الثوري عن علقمه بن مرثد عن سليم بن بريدة عن أبيه.

وعون للعدو يغلب المنة في الرعب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ) (¬1)، والمسلمون ينصرون بعده على قدر طاقتهم. فإذا كان الغلول ذهبت هذه الفائدة عنهم وانعكس النصر عليهم، كما أنه إذا فشا فيهم الزنا كثر فيهم الموت لأنهم طلبوا تكثير الوجود من غير طريق الشرع فسلَّط الله تعالى عليهم الفناء، كما أنهم إذا كفروا نعمة الله تعالى في الميزان الذي هو عيار الأموال طلباً لنمائها بالمعصية عاقبهم الله تعالى بأن سدَّ عليهم باب الرزق من السماء، ولهذا المعنى قال العبد الصالح: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬2)، كما أنهم إذا حكموا بغير الحق فاستطالوا على الناس واستعدوا عليهم بالباطل سلَّط عليهم من يفنيهم (¬3) مثله، كما أنهم إذا استعانوا على أعداء الله بنكث أيمان الله قلب الله الحال وحكم بغلبة العدو لهم ولذلك قال تعالى {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} (¬4) أي لا يحل لأحد أن يخون النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يعلم بخيانته، وذلك أعظم في معصية الخائن وذنبه، فليست خيانة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كخيانة غيره، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن الغلول عار في الدنيا ونار في الآخرة، وأخبر عن مدعم (¬5) أن الشملة التي غلها اشتعلت عليها ناراً (¬6)؛ كل ذلك تنبيه للخلق وتحذير. ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا ينبغي له أن يغل أمتنع عن الصلاة على بعض المقتولين، وقال إن صاحبكم قد غل فوجدوا الأمر كما قال (¬7)، وامتناعه عن الصلاة ¬

_ (¬1) البخاري في التيمم 1/ 91 وفي الصلاة باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَطُهُوراً" 1/ 119، والنسائي 1/ 209 كلاهما عن جابر بن عبد الله. (¬2) سورة هود آية 86. (¬3) في (م) زيادة بالباطل. (¬4) سورة آل عمران آية 161. (¬5) مدعم: عبد أسود أهداه رفاعة الجذامي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعتقه قُتل بخيبر فغل شملة. تجريد أسماء الصحابة 2/ 66 وانظر الإصابة 3/ 394. أقول: ضبط صاحب المغني في ضبط الأسماء بقوله مدعم، بمكسورة وسكون دال وفتح عين مهملتين، عبد أسود. المغني ص 227. (¬6) متفق عليه. البخاري في كتاب الأيمان والنذور باب هل يدخل في الأيمان والنذور الأرض والغنم والزرع والأمتعة 8/ 178، وفي المغازي باب غزوة خيبر 5/ 176، ومسلم في الأيمان باب غلط تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن 1/ 108، وأبو داود 3/ 155، والنسائي 7/ 24، والموطأ 2/ 459، وشرح السنة 11/ 116 كلهم عن أبي هُرَيْرَة. (¬7) الموطّأ 2/ 458 عَنْ يحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيىَ بْنِ حَبّانٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ قَالَ: تُوُفَّيَ رَجُلٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَأَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُ النَّاسِ لِذلِكَ فَزَعَمَ زَيْدٌ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: إنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ غَلَّ فِي سَبِيلِ الله، فَفَتَحْنا مَتَاعَهُ فَوَجَدْنَا خَرَزَاتٍ مِنْ خَرَزِ =

على بعض المقتولين عار لحقه وعقوبة حلَّت به كما كَبَّر - صلى الله عليه وسلم - على من غلّ من القبائل تكبيره على الميت (¬1). إشارة إلى أن العاصي ميت وأن المطيع حيّ قال الله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (¬2) وذلك تأديب وتنبيه والله أعلم، وأما قوله لا تمثلوا فإن الأمة أجمعت على تحريم المثلة وليس فيها حديث صحيح بلفظها (¬3)، ولكن وردت أحاديث ¬

_ = يَهُودَ مَا تُسَاوِينَ دِرْهَمَيْنِ. وقد سقط من الموطأ من رواية يحيي أبو عمرة، شيخ محمَّد بن يحيي. قال ابن عبد البر: وهو غلط إلا أنهم اختلفوا فقال القعنبي وابن القاسم وأبو مصعب ومعن بن عيسى وسعيد بن عفير عن محمَّد بن يحيي بن حبان عن أبي عمرة واسمه عبد الرحمن، وفي التقريب أبو عمرة الأنصاري عن زيد بن خالد صوابه عن أبي عمرة واسمه عبد الرحمن ت 2/ 456، وانظر تنوير الحوالك 2/ 15 - 16. كما نبه ابن عبد البر خطأ آخر في هذا الحديث وهو قوله (يَوْمَ حُنَيْنٍ) قال: وإنما هو يوم خيبر، وعلى ذلك جماعة الرواة وهو الصحيح. تنوير الحوالك 2/ 16، والحديث رواه أبو داود 3/ 155، والنسائي 4/ 64، وابن ماجه 2/ 950، وأحمد في المسند 4/ 114 و5/ 192، وشرح السنة 11/ 117. درجة الحديث: صحيح. (¬1) الموطّأ 2/ 458 عَنْ يَحْيىَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِي بَرْدَةَ الْكنانِيَّ أنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أَتَى النَّاسَ في قَبَائِلِهِمْ يَدْعُو لَهُم وَأَنَّهُ تَرَكَ قَبِيلَةً مِنَ الْقَبَائِلِ ... قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث روى مسنداً من وجه من الوجوه. تنوير الحوالك 2/ 15. أقول: الحديث فيه عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة، نقل الزرقاني عن ابن ماكولا: سئل أبو زرعة الرازي عن اسم أبي بردة فقال: لا أعرفه. شرح الزرقاني 3/ 30. ورجَّح الشيخ زكريا الكاند هلوي أن يكون المغيرة بن أبي بردة الراوي حديث الوضوء فإنهم اختلفوا في اسمه .. قال الحافظ في التعجيل: عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني حجازي أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في الوضوء بماء البحر، وعنه يحيي بن سعيد، ذكره ابن حبان في الثقات وقال: روى عنه أهل المدينة. تعجيل المنفعة ص 237، وأوجز المسالك على موطأ مالك 8/ 333. درجة الحديث: ضعيف لكونه منقطعاً. (¬2) سورة الأنعام آية 122. (¬3) البخاري في المغازي باب قصة عكل وعرينة بلاغاً، قال قتادة: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال، 5/ 165، والنسائي من طريق قتادة عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحث في خطبته على الصدقة وينهى عن المثلة. النسائي 7/ 101 قال الحافظ بعد استعراضه لحديث النسائي: هذا وقد تبيَّن أن الذي أخرجه النسائي من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث عن هشام عن قتادة عن أنس قال (نَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمَثَلَةِ إِدْرَاجاً) وأن هذا القدر من الحديث لم يسنده قتادة عن أنس، وإنما ذكره بلاغاً ولما نشط لذكر إسناده ساقه بذكر وسائِط إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فتح الباري 7/ 459، ورواه البخاري بلاغاً قال قتادة: بلغنا، وعبد الرزاق في المصنف 5/ 214، وأحمد في المسند 3/ 494. وانظر الفتح الرباني 14/ 67. وقال البنّا: سنده جيد. درجة الحديث: صححه الشيخ ناصر في إرواء الغليل 7/ 290، وصحيح الجامع الصغير 6/ 56، وعندي أنه حسن لغيره.

صحيحة (¬1) في المعنى، وقد روي عن ابن شهاب أنه قال: كان قطع النبي - صلى الله عليه وسلم -، للرعاء وسمل أعينهم في صدر الإِسلام ثم نسخ ذلك بتحريم المثلة (¬2)، وهذا ليس بصحيح؛ إنما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، بهم ما فعلوا بالرعاء على تفصيل يأتي في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى. وحد المثلة الزيادة على العقوبة أو العدول عن صفتها كأنه يخرج بها المعاقب عن مثله؛ فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لِسَريَّةٍ بَعَثَهَا: إذا لَقِيتُمْ فُلاناً وَفُلَاناً فَأَحْرِقُوهُمْ بِالنَّارِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ بَعْد ذلِكَ: كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ بِكَذَا وَأَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا الله فَإِذَا لَقَيْتُمُوهُمَا (¬3) فَاقْتُلُوهُمَا) والعلة في ذلك أن التمثيل تعذيب، والتعذيب لا يجوز إلا لله تعالى أو ما يكون من استيفاء الحق في الحد. ¬

_ (¬1) ورد ذلك عند الشيخين في قصة العرنيين من رواية أنس قال: إنَّ ناساً مَنْ عَكْلٍ وَعُرَيْنَةَ قَدِمُوا الْمَدِينَة عَلَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَتَكَلَّمُوا بِالْإسْلاَمِ فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ إنّا كُنَّا أَهْلَ ضِرْعٍ وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِذَوُدٍ وَرَاعٍ ... البخاري في المغازي باب قصة عكل وعرينة 5/ 164، وفي عدة مواضع من البخاري، ورواه مسلم في القسامة باب حكم المحاربين والمرتدين 3/ 1296، وأبو داود 4/ 531، والترمذي 1/ 106، والنسائي 7/ 93 - 94. (¬2) لم أطلع على هذا القول لابن شهاب وقد ساق الحافظ ابن كثير الأقوال ورد عليها دون نسبتها لأحد فقال: اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين هل هو منسوخ أو محكم فقال بعضهم هو منسوخ بالآية {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ فَسَادًا ...} وزعموا أن فيها عتاباً للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ومنهم من قال: هو منسوخ بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن المثلة وهذا القول فيه نظر، ثم قائله مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي أدَّعاه عن المنسوخ، وقال بعضهم: كان هذا قبل أن تنزل الحدود وفيه نظر فإن قصته متأخرة. ومنهم من قال: لم يسمل النبي - صلى الله عليه وسلم -، أعيتهم وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبيَّن حكم المحاربين، وهذا القول أيضاً فيه نظر. مختصر تصير ابن كثير 1/ 511، وانظر نواسخ القرآن لابن الجوزي ص 310، وأحكام القرآن للشارح 2/ 592، وزاد المسير 2/ 343. (¬3) أبو داود 3/ 124 من طريق مُحَمَّدٍ بْنِ حَمْزَةَ الأسْلَمِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَّرَهُ عَلَى سرِيَّةٍ .. والحديث فيه محمَّد بن حمزة بن عمرو الأسلمي المدني مقبول من الثالثة/ خت م د س. ت 2/ 156. وقال في ت ت: حجازي روى عن أبيه وعنه أبناؤه ... ذكره ابن حبان في الثقات وضعَّفه ابن حزم، وعاب ذلك عليه القطب الحلبي وقال: لم يضعَّفْه أحد قبله، وقال ابن القطان: لا يعرف حاله. ت ت 9/ 127 وانظر الثقات 5/ 357. وقال الذهبي: وثق، الكاشف 3/ 35، وترجمه أيضاً البخاري في التاريخ الكبير 1/ 59 وساق الحديث في ترجمته. درجة الحديث: ضعيف ولكن ضعفه ينجبر.

باب الأمان

باب الأمان قال علماؤنا، رضي الله عنهم: الإِمام مخيَّر في الأعداء بين خمسة أشياء: القتل، المنّ, الفداء، الرقّ، الجزية، وقال (ح): لا يجوز المن (¬1)، وللعلماء في ذلك تفصيل طويل وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، منَّ (¬2) وأمتنَّ (¬3) والإمام ناظر للمسلمين فينظر فيما هو أعود عليهم بالمصلحة وأنفع لهم في الآجلة والعاجلة، فما أنفذ من ذلك بحسب ما يظهر له مضى، وقد بيَّنا ذلك في مسائل الخلاف. فأما أمان سائر الناس ففيه أيضاً خلاف كثير وتفصيل لعلمائنا جملته أن الأمان إذا وقع في جيش فيه الإِمام هل ينفذ أم يرجع؟ الرأي فيه إلى الإِمام؛ فإن غاب الإِمام عن موضع الأمان نفذ أمان الرجل البالغ الحر المسلم (¬4)، واختلف في أمان العبد (¬5) والمرأة (¬6) واتفق على أن الصبي لا أمان له لأنه لا اعتبار بعبادته في الشرع، وهذا المعنى ينبني على أن الأمان عندنا من باب الحسبة فيقوم به كل أحد، وعند المخالف أنها ولاية (¬7) وتنفيذ قول الغير على الغير ولا يكون ذلك إلا لمن يصلح للولاية ليس العبد والمرأة، وقد أوضحنا القول في مسائل الخلاف، وقد أجاز بعض ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن للجصاص الحنفي 3/ 392. (¬2) ورد ذلك من حديث إياس بن سلمة عن أبيه مسلم في الجهاد والسير باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى 3/ 1375. (¬3) منَّ عليه منّاً ومنينى كخليفى أنعم، وأصطنع عنده صنعية ومنه امتنَّ، ترتيب القاموس 4/ 288. (¬4) قال ابن رشد: جمهور العلماء على جواز أمان الرجل الحر المسلم إلا ما كان من ابن الماجشون يرى أنه موقوف على إذن الإِمام. بداية المجتهد 1/ 382 - 383. (¬5) قال البغوي: يروى ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق شرح السنة 11/ 90، وقال الحافظ: وأما العبد فأجاز الجمهور أمانه قاتَلَ أو لم يُقاتل. فتح الباري 6/ 274. (¬6) الجمهور على جوازه وكان ابن الماجشون وسحنون يقولان: أمان المرأة موقوف على إذن الإِمام بداية المجتهد 1/ 280، وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن أمان المرأة جائز، وانفرد ابن الماجشون فقال: لا يجوز. الإجماع لابن المنذر ص 73، وانظر الفتح 6/ 273. (¬7) قال ابن قدامة: يصحّ أمان الإِمام لجميع الكفار وآحادهم لأن ولايته عامة لجميع المسلمين, المغني 8/ 398.

الصحابة (¬1) بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأنفذه، وأجارت أم هانئ (¬2) فأنفذ جوارها، ويحتمل أن يكون بياناً لحكم الشريعة، ويحتمل أن يكون ذلك تجويزاً للفعل، وقد روى أهل الكوفة، منهم سفيان الثوري وغيره: (عَنْ عُمَرَ، رَضِيَ الله عَنْهُ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً - مِنْكُمُ يَطْلُبُونَ الْعِلْجَ حَتَّى إِذَا أَسْنَدَ في الْجَبَلِ أَمَّنَهُ بِلِسَانِهِمْ الَّذِي يَفْهَمُونَ فَإذَا قَبِلَ ذلِكَ الْعِلْجُ قَتَلَهُ وأَنَا أَقْتُلُ مَنْ فَعَلَ ذلِكَ (¬3)، واختُلف في الحديث فقيل إنه لم يصح فلا يشتغل به وقيل إنما قاله عمر، رضي الله عنه، تغليظاً، كما قال في نكاح المتعة: لا أُوتِي بِرَجُلٍ إِلاَّ رَجَمْتُهُ بِالْحِجَارَةٍ (¬4) وهذا بعيد لأن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، قد قال لعكرمة حين ولاه: لَا تُوعِدَنَّ عَلَى مَعْصِيَةٍ بِأَكْثَرٍ مِنْ عُقُوبَتِهَا (¬5) فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ أَثَمْتَ وَإِنْ تَرَكْتَ كَذَبْتَ. وقيل يرجم في نكاح المتعة لإجماع الأمة (¬6) عليه، ويقتل في هذا الأمان على معنى قتل المسلم بالكافر، وقد بيَّنا فساد هذا في مسائل الخلاف، وقيل إنما يقتل بالغدر بمن أمّن لما في ذلك من المعصية في الدين والمضرَّة بالمسلمين. وأما الإشارة بالأمان فهي ماضية لا خلاف أعلمه فيها إذا كانت معهودة بينهما، والإشارة تقوم مقام الكلام في كل موطن؛ ووقعت ¬

_ (¬1) منهم زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع، روى قصتها البيهقي بسند قوي كما قال الحافظ في الإصابة 4/ 122. (¬2) وأجارت أم هانئ بنت أبي طالب، بنت عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاختة وقيل هند وقيل فاطمة، أسلمت يوم الفتح وهرب زوجها هبيرة المخزومي إلى نجران ولها منه أولاد، تجريد أسماء الصحابة 2/ 237، وحديثها تقدم. (¬3) رواه عبد الرزاق عَنِ الثَّوْرِيَّ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أبِي وَائِلٍ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ وَنَحْنُ بِخَانْقِينَ إِذَا حَصَرْتُمْ قَصْراً فَلاَ تَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ الله وَحُكْمِنَا وَلكِنْ انْزُلُوهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ ثُمَّ اقْضُوا فِيهِمْ مَا شِئْتُمْ، فَإِذَا لَقِيَ رَجُلٌ رَجُلاً فَقَالَ لَه (مَتْرَسْ) مَعْنَاهُ (بِالْفَارِسِيَّةِ لَا تَخَفْ) فَقَدْ أَمَّنَهُ وَإِذَا قَالَ لَا تَدْهَلْ (وَمَعْنَاهُ لاَ تَخَفْ) فَقَدْ أَمَّنَهُ وَإِذَا قَالَ لَا تَخَفْ فَقَدْ أمَّنَهُ فَإِنَّ الله يَعْلَمُ الْأَلْسِنَةَ. مصنف عبد الرزاق 5/ 219، ومالك في الموطأ 2/ 448 عن رجل من أهل الكوفة، ورواه البيهقي في السنن الكبرى من طريق الثوري عن الأعمش مختصراً. السنن الكبرى 9/ 96، والبغوي في شرح السنة 11/ 90 مختصراً أيضاً. درجة الحديث: صحيح. (¬4) سيأتي ذلك. (¬5) قال له ذلك حين وجَّهه إلى عمّان، أنظر عيون الأخبار لابن قتيبة 1/ 109، وأبو بكر الصديق لعلي الطنطاوي ص 287. (¬6) قال ابن رشد: أكثر الصحابة وجميع فقهاء الأمصار على تحريمها، أي نكاح المتعة. بداية المجتهد 2/ 58، وقال ابن قدامة: هو نكاح باطل نص عليه أحمد فقال: نكاح المتعة حرام. المغني 7/ 178.

القول في الغنيمة

بدمشق نازلة وهي أن رجلاً أبكم كان يصلي فكلَّمه رجل في شيء فأشار إليه بجوابه فاختلف الناس هل تبطل صلاة الأبكم بتلك الإشارة أم لا تبطل، فقال شيخنا أبو الفتح (¬1): لا تبطل لأن الإشارة في الصلاة لا تبطلها إجماعاً، وقيل شيخنا أبو حامد (¬2): تبطل صلاته لأن إشارته كلامه والكلام محرَّم على الأبكم في الصلاة على قدره. القول في الغنيمة هي خصيصة أمتنَّ الله تعالي بها على هذه الأمة كما تقدم، وحكم فيها بحكمه وبيَّنها بكلامه فقال تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} (¬3) إلى قوله {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ} وهذه الآية من أمهات آيات الأحكام، وقد اضطرب فيها علماء الإِسلام وبعد فيها نيل المرام، وقد أوضحناها على غاية القدرة في كتاب أحكام القرآن (¬4) وأصعب فصولها مسائل الخمس ولصعوبته جعله العلماء كتاباً منفرداً، فإن الله تعالى قال فيه قولاً، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، قولاً آخر وفعل فيه فعلاً آخر فاضطربت المسألة على بعض العلماء واتسقت لبعضهم، فقال أبو العالية (¬5): يقسم الخمس على ستة أقسام. قال (ش) يقسم الخمس على خمسة (¬6) أقسام للنبي - صلى الله عليه وسلم -، منها خمس الخمس، وقالت طائفة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. سهم الصفيّ من الخمس، وقيل: من رأس المال يصطفي جارية أو عبداً أو سيفاً أو فرساً أو ما شاء ثم تقع القسمة (¬7)، وقالت طائفة: قوله: فإن لله استفتاح كلام الأرض كلها ¬

_ (¬1) هو نصر بن إِبراهيم تقدم. (¬2) هو محمَّد بن محمَّد بن محمَّد الغزالي الطوسي، أبو حامد، حجة الإِسلام، فيلسوف، مولد ووفاته في طبرستان قصبة طوس بخراسان، رحل إلى نيسابور ثم إلى بغداد فالحجاز فبلاد الشام فمصر وعاد إلى بلده، ولد سنة 450 ومات سنة 505 هـ. الأعلام 7/ 22، وفيات الأعيان 1/ 463، طبقات الشافعية 4/ 101، شذرات الذهب 4/ 10، مفتاح السعادة 2/ 191 - 210، تبيين كذب المفتري ص 291 - 306. (¬3) سورة الأنفال آية 41. (¬4) انظر أحكام القرآن 2/ 844. (¬5) رفيع بالتصغير ابن مهران وقوله هذا نقله البغوي في شرح السنة 11/ 139، والحافظ في الفتح 6/ 218، والقرطبي 8/ 10، والأحكام للشارح 2/ 844. (¬6) أنظر فتح الباري 6/ 216، وبداية المجتهد 1/ 284، وتفسير القرطبي 8/ 10. (¬7) هذا القول حكاه ابن رشد ولم يعزه لأحد وقال: وأجمعوا على أن الصفي ليس لأحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أبا ثور فإنه قال: يجري مجرى سهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، بداية المجتهد 1/ 286.

والسموات لله (¬1)، وقال علماؤنا، رضي الله عنهم: الخمس موكول إلى رأي الإِمام يفعل فيه ما يراه أصلح للمسلمين وأنفع في الدين (¬2) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَالِي مِمَّا أَفَاءَ الله عَلَيْكُم إلاَّ الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ" (¬3)، ولم يقل خمس الخمس. وقيل: يجوز أن يعطي الإِمام للغانمين من الخمس على طريق النفل، وهو جمهور المذهب، أن النفل من الخمس. وقالت طائفة من العلماء: قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، "أَنَّهُ كَانَ يَنْفُلُ مِنَ الْخُمُسِ وَالرُّبُعِ بَعْدَ الْخُمُسِ في الْبَدْأَةِ وَالرَّجْعَةِ" (¬4)، وهذه كلها أحاديث صحيحة طريق النظر فيها على الاختصار أنا لو تركنا والآية لقسمنا الخمس على خمسة أقسام، كما فعله الشافعي، رضي الله عنه، حسب ما يقتضيه ظاهر القرآن، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما صرفه على خلاف ظاهر القرآن علمنا أن الله تعالى قد جعل إليه الحكم فيه؛ فإن رأى أن يجعله فيمن سمى الله تعالى فعل فإنه بيان لبعض محله، وإن شاء أن يصرفه إلى غير ذلك من المصالح ¬

_ (¬1) حكاه ابن رشد ولم يعزه لأحد. بداية المجتهد 1/ 285. (¬2) هذا القول حكاه القرطبي وعزاه لمالك وقال: وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا تفسير القرطبي 8/ 11. (¬3) ورد من حديث عمرو بن عنبسة قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ بَعِيرٍ ثُمَّ قَالَ .. أبو داود 3/ 188، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 339، والحاكم في المستدرك 3/ 616. درجة الحديث: صححه ناصر في إرواء الغليل 5/ 73، وعبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول 2/ 690، ورواه مالك مرسلاً عَنْ عَبْدِ الْرَّحْمنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْروٍ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، حِينَ صَدَرَ مِنْ حُنَيْنٍ وَهُوَ يُرِيدُ الْجِعِرانَةَ سَأَلَهُ النَّاسُ حَتَّى دَنَتْ بِهِ نَاقَتُهُ مِنْ شَجَرَةٍ فَتَشَبَّكَتْ برِدَائِهِ ... إلى أن قال: مَالِي مِمَّا أفَاءَ الله عَلَيْكُم وَلاَ مِثْلُ هذِه إِلاَّ الْخُمُس وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ. الموطأ 2/ 458. قال ابن عبد البر: لا خلاف عن مالك في إرساله. شرح الزرقاني 3/ 28، وقد وصله النسائي من طريق حماد بن سلمة عن محمَّد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. النسائي 7/ 131، والبيهقي 6/ 336. درجة الحديث: حسَّنه الشيخ ناصر في إرواء الغليل 5/ 74 وهو كذلك لأن ابن إسحاق صرّح بالتحديث في رواية البيهقي، كما أن للحديث شاهداً آخر عند النسائي من حديث عبادة بن الصامت. النسائي 7/ 131، وحديث عبادة بن الصامت حسنه الحافظ في الفتح 6/ 241، وكذلك حسنه الشيخ ناصر في إرواء الغليل 5/ 74. (¬4) أبو داود 3/ 181 من طريق مكحول عن زياد بن جارية التميمي عن حبيب بن مسلمة الفهري أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ينفل الثلث بعد الخمس، وفي رواية أخرى عن مكحول عن ابن جارية عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس إذا قفل، وفي رواية ثالثة الربع في البدأة والثلث في الرجعة. ورواه ابن ماجه 2/ 951. درجة الحديث. صحَّحه الشارح وعبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول 2/ 679.

صرفه؛ فقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم -، منه للمؤلفة قلوبهم وليس لهم في الآية (¬1) ذكر مع وجود الفقراء والمساكين واليتامى الذين نص الله عليهم، وقد قال بعض علمائنا وهو سحنون: إن النفل يجوز بعد الخمس بالثلث والربع (¬2)، حسب ما ثبت في الحديث الصحيح فيكون هذا أيضاً اعتماداً في الأربعة الأخماس على ما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس يريد تفريق النفل العمل بالاستواء فيه بين أهل الجيش لأنه لو كان كذلك لكانت قسمته، وإنما يريد تفضيل بعضهم علي بعض وهذا معنى حديث ينفل الثلث والربع بعد الخمس وأما حديث ابن عمر (وَنُفَّلْنَا بَعِيراً بَعِيراً) (¬3) فهو من الخمس جرت لهم سهامهم بأحد عشر بعيراً ونفلوا من الخمس بعيراً بعيراً وهذا يدل على أن الإِمام إن رأى أن ينفِّل من الخمس فعل، وإن رأى أن ينفَّل من الأربعة الأخماس بعض المستحقين فعل، يقصد بذلك أهل الغناء والمصلحة، فأما الأربعة أخماس فهي للغانمين وهم الذين يؤمنون كما قدمنا وأما الأجراء (¬4) ¬

_ (¬1) قال في الأحكام: وأعطى منه المؤلفة قلوبهم وليسوا ممن ذكر الله في التقسيم، وردَّ على المجاهدين بأعيانهم تارة أخرى فدل على أنَّ ذكر هذه الأقسام بيان مصرف ومحل لا بيان اسحقاق وملك، وهذا ما لا جواب عنه لمصنف. أحكام القرآن للشارح 2/ 848. (¬2) انظر المنتقى للباجي 3/ 195. (¬3) مالك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - "بَعَثَ سرِيَّةٌ فِيهَا عَبْدُ الله بْنُ عُمَرَ قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إبِلًا كَثِيرَةً فَكَانَ سُهْمَانُهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيراً وَنُفَّلُوا بَعِيراً بَعِيراً" الموطأ 2/ 450. قال ابن عبد البر: اتفق رواة الموطأ على روايته بالشك إلا الوليد بن مسلم فرواه عن شعيب ومالك جميعاً فقال: اثني عشر، فلم يشكّ وكأنه حمل رواية مالك عن رواية شعيب وهو منه غلط، وكذا أخرجه أبو داود عن القعنبي عن مالك والليث، بغير شك، فكأنه حمل رواية مالك على رواية الليث، والقعنبي إنما رواه في الموطأ على الشك فلا أدري من القعنبي جاء هذا حين خلط حديث الليث بحديث مالك أم من أبي داود، وقال سائر أصحاب نافع: اثني عشر بعيراً بلا شك، لم يقع الشك فيه إلا من قبل مالك. شرح الزرقاني 3/ 15، ناقلاً عن ابن عبد البر وابن حجر، وبقية كلام الحافظ قوله: هكذا رواه مالك بالشك والاختصار وإبهام الذين نقلهم، وقد وقع بيان ذلك في رواية ابن إسحاق عن نافع ولفظه: خَرَجْنَا فِيهَا فَأصَبْنَا نِعَماً كَثِيراً وَأَعْطَانَا أَمِيرُنَا بَعِيراً بَعِيراً لِكُلَّ إنْسَانٍ، ثُمَّ قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَسَمَ بَيْنَنَا غَنِيمَتَنَا فَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنّا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً بَعْدَ الْخُمُسِ. وأخرجه أبو داود أيضاً من طريق شعيب ابن أبي حمزة عن نافع ... أنظر سنن أبي داود 3/ 177 وقال: وأخرجه ابن عبد البر من هذا الوجه وقال في روايته إن ذلك الجيش كان أربعة آلاف. فتح الباري 6/ 239. والحديث متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الخمس باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين 4/ 109، ومسلم في الجهد والسير باب الأنفال 3/ 8068، والبغوي في شرح السنة 11/ 111. (¬4) قال مالك: إن كان شهد القتال وكان مع الناس عند القتال وكان حراً فله سهمه وإن لم يفعل ذلك فلا سهم =

والنساء (¬1) والعبيد (¬2) فاختلف فيهم فقيل لا يسهم لهم، وأما الأجير فلأنه لم يقصد للغزو وإنما قصد الخدمة فيوفر عليه حكم قصده، وقال علماؤنا: فإن قاتل أسهم (¬3) له لأنه ظهر من فعله تحقيق قصده في القتال، وكذلك العبد، وكذلك المرأة إن قاتلت، وكذلك الصغير إذا وقف في الصف وأطاق القتال عند علمائنا (¬4) فإن هذه الأحوال تبيَّن أنهم غانمون لأنهم مقاتلون فيدخلون في عموم قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ}، والصحيح أن النساء لا يسافر بهن إلا في الجيوش المأمونة، وإذا سافرن فلا يسهم لهن وإن قاتلن؛ فقد ¬

_ = له. الموطأ 2/ 451 ونقل الباجي عن سحنون قوله: هذا المشهور من المذهب، وقد روى أشهب عن مالك لا يسهم للأجير وإن قاتل. ورجَّح الباجي أنه يستحق الغنيمة وقاسه على التجارة في الحج. المنتقى 3/ 178. (¬1) قال البغوي: العمل .. عند أكثر أهل العلم أن العبيد والصبيان والنسوان إذا حضروا القتال يرضخ لهم ولا يسهم، وذهب الأوزاعي إلى أنه يسهم لهم وقال: لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أسهم للصبيان والنسوان بخيبر وإسناده ضعيف لا تقوم به حجة. شرح السنة 11/ 104 ... قلت: الحديث الذي أشار إليه رواه البيهقي في السنن الكبرى 9/ 52 من طريق هشام بن عروة عن يحيي بن عباد بن عبد الله بن الزبير وقال: ويحيى بن عباد فيه مرسل .. وقال: قال الشافعي: روى مكحول أَنَّ الزُّبَيْرَ حَضَرَ خَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لَهُ رَسُولُ اللهِ، - صلى الله عليه وسلم -، خَمْسَةَ أسْهُمٍ سَهْمٌ لَهُ وَأَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ لِفَرَسَيْهِ، فذهب الأوزاعي إلى قبول هذا من مكحول منقطعاً وهشام بن عروة أحرص لو زيد الزبير، رضي الله عنه، لفرسين أن يقول به وأشبه إذا خالفه مكحول أن يكون أثبت في حديث أبيه منه .. وحديثه مقطوع ولا تقوم به حجة فهو كحديث مكحول. درجة الحديث: ضعيف. وقد ثبت من وجه صحيح ما يخالفه؛ فقد روى مسلم من حديث ابن عباس أنه لم يضرب لهن بسهم. مسلم في الجهاد والسير باب النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يسهم ... 3/ 1444، قال النووي: المرأة تستحق الرضخ ولا تستحق السهم، وبهذا قال أبو حنيفة والثوري والليث والشافعي وجماهير العلماء. شرح النووي على مسلم 12/ 190. (¬2) أما العبد فقد قال النووي: يرضخ له ولا يسهم له، وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء، وقال مالك: لا رضخ كما قال في المرأة، وقال الحسن وابن سيرين والنخعي والحكم: إن قاتل أسهم له. شرح النووي على مسلم 12/ 191. ونقل ابن هبيرة الاتفاق على عدم الاسهام للمرأة والمملوك. فقد قال: اتفقوا على أن من حضرها من مملوك أو امرأة أو ذمِّي رضخ لهم على ما يراه الإِمام ولا يسهم لهم. الإفصاح عن معاني الصحاح 2/ 279. (¬3) انظر التعليق رقم 4 صفحة 602. (¬4) نقل الباجي عن مالك قوله: (يُسَهَمُ لِلْمُرَاهِقِ إِذَا أَطَاقَ الْقِتَالَ) المنتقى 3/ 179.

سافرت النساء مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووقفت في الصف وقاتلت وما أسهم لهن (¬1) أما انهن يحذين (¬2) وينفَّلن على الاختلاف المتقدم في كيفية الحذيا والنفل، وكذلك قال علماؤنا: لا يسافر بالمصحف إلى أرض العدو إلا أن يكون جيشاً مأموناً. قال مالك، رضي الله عنه: مخافة أن يناله العدو (¬3)، فورد الحديث في الموطأ قاصراً من وجهين. أحدهما: أنه قال نهى ولم يقل لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثاني: أنه جعل التقية من كلام مالك، رضي الله عنه (¬4)، وفي الحديث الصحيح بنقل العدل عن العدل عن ابن عمر، رضي الله عنه، قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوَّ لِئَلَّا يَنالَهُ الْعَدُوُّ" (¬5) وهذا نص في الوجهين، وقد سمعت بعض أشياخي يقول: إن النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو إنما هو السفر بالعلماء مخافة أن تفنيهم الشهادة، قال: فأما السفر بالمصحف فلا يؤثر فيه العدو، وهو مُحكم في قلوب الرجال المشحونة بالتوحيد والقرآن فكيف بأوراق المصحف وقد كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن إلى ¬

_ (¬1) ثبت ذلك من حديث ابن عباس عند مسلم في الجهاد والسير باب النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يسهم 3/ 1444. (¬2) الحذية والحذوة والحذيا وأحذى الرجل أعطاه مما أصاب. لسان العرب 14/ 171. (¬3) ولفظه في الموطأ: مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - (أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوَّ) الموطأ 2/ 446. (¬4) ونقل الحافظ عن ابن عبد البر قوله: هكذا قال يحيي الأندلسي وابن بكير وأكثر الرواة عن مالك، ورواه ابن وهب عنه فقال: خشية أن يناله العدو فجعله من المرفوع. وكذا قال عبيد الله بن عمر وأيوب عن نافع: "نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَة أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ". قال الحافظ: أشار إلى تفرد ابن وهب برفعها عن مالك وليس كذلك فقد تابعه عبد الرحمن بن مهدي عند ابن ماجه بلفظ (مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ) ولم يجعله قول مالك، وقد رفعها ابن إسحاق أيضاً عن أحمد والليث وأيوب عند مسلم فصحَّ أن التعليل مرفوع .. وليس بمدرج ولعل مالكاً كان يجزم برفعه ثم صار يشك فيه فجعله من تفسير نفسه .. قال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء أن لا يسافر بالمصحف في السرايا والعسكر الصغير المخوف عليه وفي الكبير .. خلاف فمنع مالك .. مطلقاً وفصل أبو حنيفة وأدار الشافعي الكراهة مع الخوف وجوداً وعدماً .. فتح الباري 6/ 134. (¬5) البخاري في الجهاد والسير باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو 4/ 68، ومسلم في كتاب الإمارة باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم 3/ 1490، والموطأ 2/ 446.

الكفار (¬1) وقال علماؤنا: إنما كتب إليهم بالآية والآيتين على معنى الوعظ (¬2)، وحرمة الآية والآيتين كحرمة الألفين .. لكن علماءنا لم يجعلوا للقليل في ذلك حكم الكثير ولأجله جوَّزوا للجُنُب أن يقرأ الآيات اليسيرة على معنى التعوُّذ (¬3)، وإذا ثبت أن الغنيمة للغانمين فأجمعت الأمة على أنهم لا يجعل لهم التصرف فيها قبل القسمة، وقد استثنى من ذلك علماؤنا ما تدعو الحاجة إليه من طعام يأكلونه أو دابة يركبونها (¬4) ما لم يعجفوها (¬5)، والعجب من علمائنا أنهم احتجّوا على جواز أكل الطعام قبل التقسيم بحديث عبد الله بن مغفل في الجراب من الشحم الذي قال يوم خيبر: (قَدْ نزَوْتُ لِأخُذَهُ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَحْيَيْتُ) (¬6)، ويا ليت شعري هل في أخذه له اختصاص؟ إنما كانت تكون الحجة لو رآه النبي - صلى الله عليه وسلم -، يأكله فهذا من عظيم الغفلة (¬7)، أما إنه ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أمر بإكفاء القدور التي أطبخت من الإبل والغنم ثم قسَّم الغنيمة (¬8)، وإنما المعول في ذلك ¬

_ (¬1) ورد في صحيح البخاري في كتاب بدء الوحي من حديث أبي سفيان 1/ 5 وفيه {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [سورة آل عمران: 64]. (¬2) هكذا قال الباجي في المنتقى 3/ 165. (¬3) انظر شرح السنة 2/ 43. (¬4) الموطأ 2/ 451 (قَالَ مَالِكٌ: لاَ أَرَى بَأْساً أَنْ يَأْكُلَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا دَخَلُوا أَرْضَ الْعَدُوَّ مِنْ طَعَامِهِمْ مَا يَجِدُونَ مِنْ ذَلِكَ كُلَّهِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ في الْمَقَاسِمْ. قَالَ مَالِكٌ: وَأَنَا أَرَى أَنَّ الإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ يَأْكُلُ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ إِذَا دَخَلُوا أَرْضَ الْعَدُوَّ). (¬5) عجف الدابة يعجفها وأعجفها: هزلها .. مختار القاموس ص 408. (¬6) متفق عليه. البخاري في كتاب الخُمُس باب ما يصيب من الطعام في أرض الحرب 4/ 116، وفي الذبائح باب ذبائح أهل الكتاب: 7/ 120، ومسلم في الجهاد والسير باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب. 3/ 1393، ولفظه (كُنَّا مُحَاصرِينَ قَصْرَ خَيْبَرَ فَرَمَى إنْسَانٌ بِجِرَابٍ فِيهِ شَحْمٌ فَنَزَوْتُ لآخُذَهُ فَالْتَفَتُّ فَإذَا النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ ..). (¬7) ما ذهب إليه الشارح هنا رجَّح الحافظ خلافه والحق معه إن شاء الله، فقد قال: ولعله استحيا من فعله ذلك ومن قوله معاً، وموضع الحجة منه عدم إنكار النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بل في رواية مسلم ما يدل على رضاه فإنه قال فيه: (فَإذَا رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، مُتَبَسَّماً)، وزاد أبو داود وزاد أبو داود الطيالسي في آخره (فقال: هُو لَكَ) وكأنه عرف شدة حاجته إليه فسوَّغ له الاستيثار به. فتح الباري 6/ 256، وانظر منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود 1/ 238. (¬8) البخاري في الشركة باب قسمة الغنم 3/ 181، وفي كتاب الذبائح باب ما ندّ من البهائم فهو بمنزلة الوحش 7/ 120، وفي باب التسمية على الذبيحة ومن ترك متعمداً 7/ 118، ومسلم في الأضاحي باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلَّا السنن والظفر 3/ 1558، وأبو داود 3/ 247 وغيرهم من حديث رافع بن خديج.

على المصلحة فإن المسلمين يدخلون بلاد العدو فتطرأ الحاجة وتعرض الفاقة فلو قسمت الغنيمة قبل التحصيل لكان ذلك فساداً في القضية وخرماً في الحال، ولو منع الناس الأكل منها حتى تقع المقاسم لأضر ذلك بهم فجوَّز الأكل بالمعروف وهذا من دلائل المصلحة وأحكامها التي انفرد بها مالك، رضي الله عنه (¬1)، فإذا قسَّم الإِمام الغنيمة فإن خرج إلى يده مال مسلم معين خرَّجه له (¬2)، وإن علم أنه لمسلم، ولم يتعين، فمشهور المذهب أنه يقسم فإذا جاء صاحبه فهو أحق به بالثمن (¬3)، وقيل: لا يقسم ويوقف فإن يئس منه تصدّق به، وكذلك قال (ح) (¬4)، وقال (ش) (¬5): صاحبه أحق به يأخذه متى شاء دون ثمن، وقد بيَّناه في مسائل الخلاف. والصحيح عندي أخذه له دون شيء؛ فإن الملك الثابت بالإِسلام لا تبطله اليد العادية الطارئة، ويسهم للخيل سهم واحد عند أكثر العلماء لكل فرس (¬6)، وقيل سهمان للفرس (¬7). والأول أصح؛ وهذا أمر مخصوص باتفاق من العلماء لا يلحق الفرس في ذلك حيوان ولو كان الفيل الذي غناؤه في القتال أعظم ووقعه في النفوس أكبر، وخصت الخيل لأنه ليس في الحيوانات أشرف منها لما خُصَّت به من الجري والكر والفر وتيسير التصرف والتذليل بحكم المصرف، وهي متفاوتة خلقاً في الجودة والدناءة، ¬

_ (¬1) قال الدكتور محمَّد سعيد رمضان البوطي: وإنما يعمل الإِمام مالك بالمصلحة إذا لم يعارضها نص من كتاب أو سنَّة ولا أصل من أصول الشريعة الثابتة ضوابط المصلحة في الشريعة الإِسلامية ص 190. (¬2) انظر المنتقى للباجي 3/ 184. (¬3) قال الباجي: الذي عليه جمهور أصحابنا أنه يقسم بين الغانمين ولا يكون له إذا قدم إلا بالثمن بمنزلة ما لم يعرف أنه لمسلم. وقال القاضي أبو محمَّد: إن علم أنه لمسلم لم يجز للجيش تملّكه وقسمه ولزم تركه إلى أن يأتي ربه. المنتقى 3/ 184. (¬4) انظر فتح الباري 6/ 182. (¬5) انظر فتح الباري 6/ 182. (¬6) قال ابن المنذر: انفرد النعمان فقال: يسهم للفرس سهم. الإجماع لابن المنذر ص 72، وقال النووي قال أبو حنيفة: للفارس سهمان فقط؛ سهم لها وسهم له، قالوا: ولم يقل بقوله هذا أحد إلا ما روي عن علي وأبي موسى. شرح النووي على مسلم 12/ 83، وانظر فتح القدير 5/ 493. (¬7) هذا هو مذهب الجمهور، وممن قال بذلك ابن عباس ومجاهد والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي والثوري والليث والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن جرير وآخرون. شرح النووي على مسلم 12/ 83، والذي يظهر أنّ الثاني أرجح والله أعلم. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن للفرس سهمين وللراجل سهماً. الإجماع لابن المنذر ص 72، وانظر مراتب الإجماع لابن حزم ص 116.

متباينة خلقاً في الجماح والإقدام والنفار والإنس، متفاضلة في الشريعة في الشيات (¬1) والألوان من مشهور الحديث "يَمُنُ الْخَيْلِ شقْرُهَا" (¬2) وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان يكره الشكال (¬3) فيها، ويستحب كل كميت أغر محجل فإن لم يكن كميت فأدهم أغر محجل وأشقر (¬4)، وقال أبو عبيد: الشكال المكروه أن تكون محجل الثلاث مطلق الواحد ووهم (¬5) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الْخَيْلِ الْأَدْهَم الْأَرْثَم الْأَقْرَح الْمُحَجَّل الثَّلَاثَ الْمُطْلَق اليَمِينِ" (¬6). فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشية، والذي عندي في الشكال أحد وجهين: ¬

_ (¬1) الشية كل لون يخالف لون الفرس وغيره، النهاية لابن الأثير 2/ 522. (¬2) أبو داود 3/ 48 من طريق شيبان عن عيسى بن علي عن أبيه عن جده ابن عباس، والترمذي 4/ 203 وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث شيبان، ورواه الإِمام أحمد في المسند رقم 2454، وشرح السنة 10/ 389. والحديث فيه عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي الحجازي ثم البغدادي. صدوق مقلّ كان معتزلاً للسلطان من السابعة. مات سنة 173 وله ثمانون سنة/ د ت. ت 2/ 100. وانظر الجرح والتعديل 4/ 1/ 282 وت ت 8/ 221. درجة الحديث: حسَّنه الترمذي وأحمد شاكر. (¬3) رواه مسلم في كتاب الإمارة باب ما يكره من صفات الخيل 3/ 1494، وشرح السنة 10/ 389 ولفظه (كَانَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، يَكْرَهُ الشّكَالِ مِنَ الْخَيْلِ) من حديث أبي هُرَيْرَة. (¬4) رواه أبو داود 3/ 22 من طريق عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشمي، وكانت له صحبة قال: قَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُمْ. بِكُلَّ كُمَيْتٍ أَغَرٍّ مُحَجَّلٍ أَوْ أدْهَمٍ أَغَرٍّ مُحَجَّلٍ" ورواه النسائي 6/ 218 - 219، والبغوي في شرح السنة 10/ 389. والحديث فيه عقيل بن شبيب، بمعجمة وموحدتين، وقيل سعيد مجهول من الرابعة/ بخ د س، ت 2/ 29، وقال في ت ت: ذكره ابن حبان في الثقات وقال ابن القطان: مجهول الحال، وكذا قال أبو حاتم في العلل، واختلف عنده في اسم أبيه فقيل شبيب وقيل سعيد. ت ت 7/ 253، وقال الذهبي وثِّق: الكاشف 2/ 274، وقال الذهبي في الميزان بعد أن ساق الحديث من روايته: لا يعرف هو ولا الصحابي إلا بهذا الحديث. الميزان 3/ 88. درجة الحديث: ضعيف. (¬5) انظر شرح السنة 10/ 389، ساق النووي في شرح مسلم عدة تفسيرات للشكال فلتنظر هناك 13/ 18 - 19. (¬6) الترمذي 4/ 203 وقال: حسن غريب صحيح، وابن ماجه 2/ 933، وأحمد في المسند 5/ 300 كلهم عن أبي قتادة. درجة الحديث: صححه الترمذي.

إما أن تكون اليدان محجلة خاصة وهو موضع القيد. وإما أن يكون التحجيل في اليدين والرجلين باختلاف يمين يد مع يسار رجل، أو يسار يد مع يمين رجل، وهذا الذي يكره في الخيل هو الذي يُتقى فيه الشؤم المذكور في الحديث وهو مذهب البخاري وعليه بوَّب (¬1). وقوله الأَرثم يعني الذي بشفته العليا بياض، وقوله الأقرح يعني الذي بجبينه غرَّة مستديرة، وأما حديث أبي قتادة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال فيه: "مَنْ قَتَلَ قَتَيلاً لَهُ عَلَيْهِ بَيَّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ" (¬2) بعد انقضاء القتال، فقال (ش) وغيره: إن ذلك إخبار عن حكم الشرع (¬3)، وقال مالك وغيره: إن ذلك نفل من الإِمام وحكم النفل وحلّه أن يكون بعد القتال؛ لأنه إن كان قبل القتال كان تحضيضاً على القتال طلباً للدنيا (¬4) وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (قَضَى بِالسَّلَبِ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ) في حديث معاذ بن عمرو بن الجموح (¬5)، ورده في حديث خالد من يد آخذه (¬6)، وأعطاه تارة أخرى من النفل، كما ¬

_ (¬1) ذكر ذلك في الجهاد فقال: باب ما يذكر من شؤم الفرس 4/ 35 وساق بسنده إلى ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: سَمِعْتُ الْنَّبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (إنَّمَا الشُّؤْمُ في ثَلَاثَةٍ في الْفَرَسِ وَالْمَرْأةِ وَالدَّارِ). (¬2) متفق عليه. البخاري في الجهاد باب من لم يخمس الأسلاب 4/ 112، وفي المغازي باب قول الله تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} 5/ 127، ومسلم في الجهاد والسير باب استحقاق القاتل سلب القتيل 3/ 1370، والموطّأ 2/ 454 - 455، وأبو داود 3/ 70، وشرح السنة 11/ 105. (¬3) انظر شرح السنة 11/ 108، فتح الباري 6/ 247، وشرح النووي على مسلم 12/ 59. (¬4) قال ابن رشد: قال مالك: لا يستحق القاتل سلب المقتول إلا أنه ينفله له الإِمام على جهة الاجتهاد وذلك بعد الحرب، وبه قال أبو حنيفة والثوري. بداية المجتهد 1/ 290، وانظر المنتقى 3/ 190، وشرح الزرقاني 3/ 25. (¬5) متفق عليه البخاري في الجهاد باب من لم يخمّس الأسلاب 4/ 73، ومسلم في الجهاد والسير باب استحقاق القاتل سلب القتيل 3/ 1372، وشرح السنة 11/ 383 كلهم من حديث إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف. (¬6) روى مسلم من طريق عبد الرحمن بن جبير عن أبيه عن عوف بن مالك قال: (قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلاً مِنَ الْعَدُوَّ فَأَرَادَ سَلبَهُ فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَكَانَ وَالِياً عَلَيْهِمْ، فَأَتَى رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، عَوْف بْن مَالِكٍ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لِخَالِدٍ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ قَالَ: اسْتَكْثَرْتهُ يَا رَسُولَ الله، قَالَ ادْفَعْهُ إلَيْهِ فَمَرَّ خَالِدٌ فَجَرَّهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ: هَلْ أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسْولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، فَسَمِعَهُ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَغْضَبَ فَقَالَ: لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ، لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدُ ...)، مسلم في الجهاد والسير باب استحقاق القاتل سلب القتيل 2/ 1272، قال النووي: وهذا الحديث قد يستشكل من حيث إن القاتل قد استحق السلب فكيف منعه إياه ويجاب عنه بوجهين: أحدهما: لعله أعطاه بعد ذلك للقاتل، وإنما أخَّره تعزيراً له ولعوف بن مالك لكونهما أطلقا ألسنتهما =

الشهداء في سبيل الله

قسَّم للفرس سهمين وللرجل سهماً من النفل (¬1) أيضاً، وظنّ مالك، رضي الله عنه، أن ذلك أصل في الشريعة أيضاً، والصحيح أن ذلك كله تنفيل لا تأصيل. الشهداء في سبيل الله: تقدم تعديدهم. أخبر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عن فضلهم بأنه يأتي يوم القيامة وجرحه يثعب دماً؛ اللون لون الدم والريح ريح المسك (¬2)، وهذا معنى كونه شهيداً لأنه يأتي بشاهده معه، وعلى هذا أدخله مالك، رضي الله عنه، وأدخل أيضاً قوله لشهداء أحد: "هؤُلَاءِ أَشْهَدُ عَلَيْهِمْ" (¬3)؛ فيكون الأول فعيلاً بمعنى فاعل، ويكون الثاني فعيلاً بمعنى مفعول، وقد تضمَّن حديث أبي قتادة في فضل الشهداء فائدة حسنة وهي أنها تكفِّر كل خطيئة إلا الدين (¬4)؛ يعني إلَّا حقوق الآدميين، وذلك أن الله تعالى بفضله يكفِّر جميع الذنوب ¬

_ = في خالد، رضي الله عنه، وانتهكا حرمة الوالي ومن ولَّاه. الوجه الثاني: لعله استطاب قلب صاحبه فتركه صاحبه باختياره وجعله للمسلمين، وكان المقصود بذلك استطابة قلب خالد، رضي الله عنه، للمصلحة في إكرام الأمراء. شرح النووي على مسلم 12/ 64. (¬1) ثبت ذلك من حديث ابن عمر عند الشيخين البخاري في الجهاد والسير باب سهام الفرس 4/ 37، ومسلم في الجهاد والسير باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين 2/ 1282، ولفظه: (أَنَّ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْماً). (¬2) متفق عليه. البخاري في كتاب الجهاد باب من يجرح في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ 4/ 22، ومسلم في الإمارة باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله 3/ 1496، والموطّأ 2/ 461 كلهم عن أبي هُرَيْرَة ولفظه: (لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ في سَبِيلِ الله، وَالله أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلمُ في سَبِيلِهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَماً، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرَّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ). (¬3) الموطأ 2/ 461، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ الله أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ، - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ لِشُهَدَاءِ أُحُدٍ .. قال ابن عبد البر: مرسل عند جميع الرواة لكن معناه يستند من وجوه صحاح كثيرة، شرح الزرقاني 3/ 37، ويشهد له ما رواه البخاري في غزوة أحُد باب من قتل من المسلمين يوم أحد بسنده إلى جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما (.. أَنَّ رَسُولَ اللهِ، - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذاً لِلْقُرْآنِ فَإذَا أُشِيرَ لَه إلَى أَحَدٍ قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هؤُلاَءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ..) البخاري 6/ 131. درجة الحديث: صحيح. (¬4) الموطأ 2/ 461، ومسلم في كتاب الإمارة باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين 3/ 1501، =

المتعلقة بحقه ويبقى للعباد حقوقهم بعدله حتى يتناصفوا فيها، وقد بيَّنا كيفية التناصف من العباد في المعاد في كتاب الأصول. حديث: قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: (كرم المرء تقواه) (¬1) إلى آخره، قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (¬2)، فلن يشرِّف المرء ولا يجلّ قدره إلا قدر تقواه، كما أنه لا فخر بحسب ولا نسب ولا استعداد بهما إنما الاستعداد بالدين، قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "النَّاسُ مَعَادِنٌ خِيَارُهُمْ في الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ في الْإسْلَامِ إذا فَقهُوا" (¬3)، كما أن الرجل لا تكون له مروءة إلا بحسن الخلق، وهي مأخوذة من المرء؛ فإن الرجل لا يكون رجلاً بصورته الظاهرة التي يشاركه فيها البهائم وإنما يكون امرءاً بأخلاقه الباطنة التي بها شرف الآدمية فلا يكون سبعاً ضارياً في الأدَاية، ولا ثعلباً في المكر والخيانة، ولا خنزيراً في الجشع والحرص إلى غير ذلك من الأخلاق، البهيمية الدنيئة ثم قال: "الْجُرْأَةُ وَالْجُهْنُ غَرَائِزٌ يَبْغُضُهَا الله تَعَالَى حَيْثُ شَاءَ"؛ يريد أن ما تقدَّم يصحُّ اكتسابه بخلاف الجرأة والجبن فإنها وضع من الله تعالى فيه، وذلك بحسب ما يكون من قوة قلبه وضعفه، إما أنه قد يكتسب العبد فيها دربة بمكافحة الحروب ولم يكن في الأمة ولا يكون ¬

_ = قال النووي: فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا يكفر حقوق الآدميين وإنما يكفر حقوق الله تعالى، شرح النووي على مسلم 13/ 29. (¬1) الموطّأ 2/ 463 منقطعاً عن يحيي بن سعيد أن عمر، ويحيى لم يدرك عمر وقد ورد مرفوعاً عند أحمد 2/ 365 من طريق مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "كَرَمُ الرَّجُلِ دِينُهُ وَمُرُوؤَتُهُ عَقْلُهُ وَحَسَبُهُ خُلْقُهُ"، ورواه الحاكم من نفس الطريق وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ورد قوله الذهبي بقوله: قلت الزنجي ضعيف، المستدرك 2/ 163. وعزاه السيوطي للبيهقي، وقال المناوي في شرحه للجامع الصغير أنه رواه من وجهين في السنن الكبرى وضعَّفهما عن أبي هريرة. فيض القدير 4/ 550. أقول: الحديث المرفوع فيه مسلم بن خالد المخزومي، مولاهم المكي، المعروف بالزنجي، فقيه، صدوق، كثير الأوهام من الثامنة مات سنة 176 أو بعدها/ دق. ت 2/ 245 وقال في ت ت قال البخاري منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس به بأس ومرة ثقة وقال مرة ضعيف، وقال أبو حاتم لا يحتج به، وضعفه أبو داود، وقال ابن المديني ليس بشيء ت ت 10/ 126 الميزان 4/ 202. درجة الحديث: ضعيف. (¬2) سورة الحجرات آية 13. (¬3) متفق عليه. البخاري في كتاب الأنبياء باب قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ في يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} 4/ 119، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة باب خيار الناس 4/ 1958 كلاهما عن أبي هريرة.

كشجاعة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، فإن الشجاعة والجرأة إنما حدّهما ثبوت القلب عند حلول المصائب ولا مصيبة أعظم من موت النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فظهرت فيها شجاعة أبي بكر وعلمه، قال الناس: لم يمت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، منهم عمر، رضي الله عنه، وخرس عثمان، رضي الله عنه، واستخفى عليّ، رضي الله عنه، واضطرب الأمر فجاء أبو بكر، رضي الله عنه، وكان غائباً، فكشف الثوب عن وجهه الكريم وقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، ثم خطب الناس فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (¬1) الآية، فخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم (¬2)، ولم يعلم أحد حيثُ يدفن، فقال أبو بكر، رضي الله عنه: سمعته يقول: (لَمْ يُدْفَنْ قَطُّ نَبِيٌّ إلَّا حَيْثُ يَمُوت) (¬3) وطلبت فاطمة ميراثها فقال: سمعته يقول: "إنّا مَعْشَرُ الأنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" (¬4) وارتدت العرب فمنعت الزكاة فقال له عمر، رضي الله عنه، وسواه: اقنع منهم بالصلاة حتى يتمهَّد الإِسلام، فقال: وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ الله لَقَاتَلْتهُمْ عَلَيْه (¬5) , وقيل له: أمسك جيش أُسامة تستعين به على قتال أهل الردة، فقال: وَاللهِ لَوْ لَعِبَتِ الْكِلابُ بخَلَاخِيلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا رَدَدْتُ جَيْشاً أَنفَذَهُ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال له عمر، رضي الله عنه: ومع من تقاتلهم؟ قال له: وَحْدِي (¬6) حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفتِي. فكان هذا أصلاً في أن لا يرد حاكم حكماً أنفذه غيره قبله وإن رأى الناس خلافه (¬7). ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية 144. (¬2) روى القصة الإِمام أحمد، انظر الفتح الرباني 23/ 61 - 62 وسيأتي الكلام على الحديث قريباً .. وانظر البداية والنهاية 5/ 242 - 243، وابن الأثير في الكامل 2/ 220 - 225، ومغازي رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، لعروة بن الزبير ص 223، والسيرة لابن كثير 4/ 491. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) متفق عليه. البخاري في فرض الخمس 4/ 96، وفي الفرائض باب قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: (لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ) 8/ 185، ومسلم في الجهاد والسير باب قول النبي، - صلى الله عليه وسلم - (لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ) 3/ 1380 كلاهما من حديث عائشة. (¬5) متفق عليه، البخاري في كتاب الاعتصام باب قول النبي، - صلى الله عليه وسلم - (بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلَمِ) 9/ 115، ومسلم في كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويؤمنوا بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - 1/ 51 - 52 كلاهما عن أبي هريرة. (¬6) تاريخ الطبري 3/ 212 البداية والنهاية 6/ 304، وأبو بكر الصديق لعلي الطنطاوي ص 182. (¬7) قال مالك: وليس عليه كشف أحكام من قبله ولا التعقيب عليه، وقال محمَّد بن مسلمة: يمضي حكم =

ثم اختلف المهاجرون والأنصار فيمن تكون الإمامة، فقصدهم في محلهم وتوسَّط مجتمعهم وخطب خطبته المعروفة عليهم فقال: (إِنَّ هذَا الأَمْرَ لَا يُصْلِحُ إلَّا لِقُرَيْشِ هُمْ أَصْلُ الْعَرَبِ وَأَهْلُ الله، وَقَدْ قَالَ الْنَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -: "الأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ" (¬1)، وَقَدْ سَمَّانَا الله الصَّادِقِينَ وَسَمَّاكُمُ الْمُفْلِحِينَ، وَقَدْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا حَيْثُ كُنَّا فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (¬2)، وَقَدْ قَالَ حَتَّى في آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا: أُوصِيكُمْ بِالأَنْصَارِ خَيْراً وَلَوْ كَانَ لَكُمْ في الأَمْرِ شَيْءٌ مَا وَصَّى بِكُمْ (¬3) وأما قوله: القتل حتف من الخوف فإن ذلك إشارة إلى أن الأجل بيد الله تعالى وأن خير مواقعه الشهادة التي يحتسب نفسه فيها الشهيد على الله تعالى. ¬

_ = الحاكم قبله ما لم يخالف كتاباً أو سنة أو تأويلاً مجمعاً عليه منهما الكافي 2/ 959 - 960، وانظر الأشراف على مسائل الخلاف 2/ 280. (¬1) عَن حَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وَأَبُو بَكْرٍ في طَائِفَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ: فَجَاءَ فَكَشَفَ عَنْ وَجْهٍ فَقَبَّلَهُ وَقَالَ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمَّي مَا أَطْيَبُكَ حَيّاً وَمَيْتاً، وَلَقَدْ عَلِمْتَ يَا سَعْدُ أَنَّ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَوْ سَلَكَتِ النَّاسُ وَادِياً سَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ، وَلَقَدْ عَلِمْت يَا سَعْدُ أَنَّ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ وَأَنْتَ قَاعِدٌ: قُرَيْشٌ وُلَاةُ هذَا الأَمْرِ فَبِرُّ النَّاسِ تُبّعٌ لِبِرَّهِمْ وَفَاجِرهُمْ تُبَّعٌ لِفَاجِرِهِمْ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: صَدَقْتَ نَحْنُ الْوُزَرَاءُ وَأَنْتُمْ الأُمَرَاءُ. رواه أحمد، وفي الصحيح طرف من أوله ورجاله ثقات إلا أنَّ حميد بن عبد الرحمن لم يدرك أبا بكر .. مجمع الزوائد 5/ 191، وأشار إلى ذلك الحافظ في الفتح 3/ 114 فقال رجاله رجال الصحيح لكن في سنده انقطاع. وقال: حديث الأئمة من قريش جمعت طرقه عن نحو أربعين صحابياً لما بلغني أن بعض فضلاء العصر ذكر أنه لم يرو إلا عن أبي بكر الصدّيق، فتح الباري 7/ 22، وكذا قال الكتاني في نظم المتناثر ص 103، وحديث أبي بكر، وإن كان منقطعا، فقد ورد متصلاً عند الشيخين من حديث ابن عمر بلفظ: لاَ يَزَالُ هذَا الأمْرُ في قُرَيشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ .. البخاري في المناقب باب مناقب قَريش 6/ 389، ومسلم في كتاب الإمارة باب الناس تبع لقريش والخلافة في قريش 3/ 1451، وعن أبي هريرة أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: النَّاسُ تُبّعٌ لِقُرَيشٍ .. في هذَا الشَّأْنِ مُسْلِمُهُمْ تُبّعٌ لِمُسْلمِهِمْ وَكَافِرهُمْ تُبّعٌ لكَافِرِهِمْ ... البخاري في المناقب باب قول الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} 6/ 385، ومسلم في فضائل الصحابة باب خيار الناس 4/ 1958، وعدّه الكتانى متواتراً ونقل ذلك عن السيوطي وابن حجر والسخاوي نظم المتناثر ص 103، وانظر الفتح الرباني 23/ 61 - 62، وذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار خطبة أبي بكر هذه 2/ 233 - 234، وابن عبد ربه في العقد الفريد 4/ 258. (¬2) سورة التوبة آية 119. (¬3) ورد ذلك في حديث ابن عباس عند البخاري في المناقب باب علامات النبوة في الإِسلام 4/ 248، وشرح =

كتاب الذبائح

كتاب الذبائح إن الله تبارك وتعالى شرَّف الآدمي، خلق له غيره ويسره له في جلب منفعة أو دفع مضرة، وزاد في المنَّة حتى أذن له في إيلام الحيوان الذي هو نظيره في اللذة والألم، وأمره بإتلاف نفسه وإنزال الألم به تارة في التقرُّب إِليه كالهدايا والضحايا وتارة في التلذذ به كذبحه للأكل، وجعله على قسمين قسماً متأنساً يدركه بغير حول ولا حيلة، وآخر لا يحصل إِليه بالحول والحيلة كالدرّاج (¬1) والطائر، ويسر له الأسباب التي يصيد بها الدوارج وعلَّمه الحيل التي ينزل بها الطير من العلو .. وقد فسرنا هذه الأنواع في سورة العقود من كتاب الأحكام (¬2)، وأمر سبحانه إخباره عن هذه المنة بالرفق والتؤدة فقال: "إِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقَتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْذَّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" (¬3)، ولا بد من اعتبار الذبائح والذبح والمذبوح، فأما الذابح فأن يكون بيّناً عارفاً؛ فإِنَّ المجوسي محرم الذبح والذمي مأذون له في ذبحه لأنه صاحب كتاب، قال الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬4). قلت للشيخ الإِمام أبي الفتح نصر بن إبراهيم (¬5) بدمشق: قد حرَّم الله علينا طعام المشركين من أهل الأوثان والمجوس وذبائحهم، وأي شرك أعظم من أن يقول إن عيسى هو الله أو ولده. قال لي: قد أخبر الله تعالى في كتابه عنهم وعلمه منهم، وأذن بعد ذلك في ¬

_ = السنة 14/ 178 ولفظه: (خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ ... ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَيَقلُّ الأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا في النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ في الطَّعَامِ فَمَنْ وُلّيَ مِنْكمْ شَيْئاً يَضُرُّ فِيهِ قَوْماً وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِم وَيتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِم). (¬1) الدراج والدارجة ضرب من الطير للذكر والأنثى. وأرض مدرجة أي ذات درّاج، لسان العرب 2/ 270. (¬2) انظر كتاب الأحكام 2/ 523. (¬3) مسلم في الصيد باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة 3/ 1548، وأبو داود 3/ 244، والترمذي 3/ 22، والنسائي 7/ 227، وابن ماجه 2/ 1058 كلهم عن شدّاد بن أوس. (¬4) سورة المائدة آية 5. (¬5) تقدمت ترجمته.

طعامهم وذبيحتهم رخصة منه لشبهة الكتاب الذي معهم، وأما اشتراطنا العرفان في الذبائح فلأنه إن لم يعرف الذابح الم البهيمة وحرم الأكل بإفساد الذبح، وإنما جاز إيلامها لفائدة الانتفاع بها. وأما المذبوح فأن يكون مأذوناً في أكله حلالاً في نفسه حياً، ومعنى قولنا حياً احترازاً من المنخنقة (¬1) والموقوذة (¬2) والمتردية (¬3) والنطيحة (¬4) وما أكل السبع (¬5) حسب ما ورد في القرآن والخليسة (¬6) وهي التي تنتزع من يد الذئب حسب ما ورد في السنة .. وقد اختلف العلماء والراوية عن مالك، رضي الله عنه، في هذه الأعيان الخمسة بالأحوال الخمسة هل تُذكَّى فتُؤكل أم قد فسدت بناء على أن قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬7)، هل هو استثناء متصل أو هو مقطوع عن الأول مبينا لحكم مبتدأ. والصحيح عندي أنه راجع إلى الأول متصل به ولا يجوز فصله عنه إلا بدليل، وقد بيَّنا ذلك في كتاب الأحكام (¬8). وأما الذبح فقال علماؤنا: لا بدّ فيه من النية وإنهار الدم بقطع الأوداج والحلقوم والمريء من جهة الحلق دون القفا وهو على ثلاثة أقسام: ذبح ونحر وعقر. فالذبح للغنم وما شاكلها، والنحر للإبل وما أشبهها، والعقر في كل محل عند عدم القدرة. وعلى هذا حمل علماؤنا الحديث حين قيل للنبي، - صلى الله عليه وسلم -: (الذَّكَاةُ إنَّمَا تَكُونُ في الْحَلْقِ وَالْلبَّةِ؟ فَقَالَ: لَوْ طَعَنْتَ في خَاصِرَتِهَا (¬9) فَخُذْهَا أَجْزَأَك) (¬10)، والبقر مذبوحة لقول الله تعالى في القرآن: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا ¬

_ (¬1) هي التي تخنق بحبل بقصد أو بغير قصد أو بغير حبل، الأحكام 2/ 536. (¬2) هي التي تقتل ضرباً بالخشب أو بالحجر. المصدر السابق. (¬3) هي الساقطة من جبل أو بئر. المصدر السابق. (¬4) هي الشاة التي تنطحها الأخرى بقرونها. المصدر السابق. (¬5) كان أهل الجاهلية إذا أكل السبع شاة أكلوا بقيتها، قاله ابن عباس وقتادة. الأحكام 2/ 537. (¬6) ورد عند الترمذي من حديث أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ عَنْ أبِيهَا أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ، عَنْ لُحُومِ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبْعِ وَكُلَّ ذِي مَخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ وَعَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأهْلِيَّةِ وَعَنْ الْمَجَثَّمَةِ وَعَنِ الْخَلِيسَةِ .. سنن الترمذي 4/ 71 - 72، وأورده ابن الأثير في جامع الأصول وعزاه للترمذي، جامع الأصول 4/ 499. درجة الحديث: حسّنه عبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول. (¬7) سورة المائدة آية 3. (¬8) انظر الأحكام 2/ 539 فقد قال وقد روي عنه (أي عن مالك) أنه لا يؤكل إلا ما كان، بذكاة صحيحة، والذي في الموطأ عنه أنه ان كان ذبحها ونفسها تجري وهي تطرف فليأكلها وهذا هو الصحيح من قوله الذي كتبه بيده وقرأه على الناس من كل بلد عمره فهو أولى من الروايات الغابرة. وانظر الموطأ 2/ 490. (¬9) في (ك) و (م) و (ص) ليس فيها خاصرتها، وكذلك ليست في الأصول التي فيها الحديث. (¬10) أبو داود 3/ 250، والترمذي 4/ 75، والنسائي 7/ 228، وابن ماجه 2/ 1063 كلهم عَنْ أَبِي الْعَشْرَاءِ عَنْ =

بَقَرَةً} (¬1) منحورة بحديث النبي، - صلى الله عليه وسلم -: (نَحَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ) (¬2). وعن علمائنا في أكل جميع ما ذُبح إذا نُحر، وأكل جميع ما يُنحر إذا ذُبح على الإطلاق روايتان، والصحيح عندي في الغنم ونوعيها ذبحها لا نحرها، والأصل في ذلك كله حديث رافع قال: كُنَا بِذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ تَهَامَةَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ الله إِنَّا لَاقُوا الْعَدُوَّ غَداً وَلَيْسَ مَعَنَا مِدًى إلَّا الْقَصَبُ وَفِي رِوَايَةٍ إِلاَّ الْلِّيطُ (¬3)، وَهِيَ الْقَصَبُ اْلمَشْقُوقَةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، أَعْجِلْ، أَوْ أَرِنْ، مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذَكَرَ اسْمَ الله فَكُلُوا لَيْسَ السَّنُّ والْظُّفْرُ وَسَأُحَدَّثُكُمْ أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ وَأَمَّا الظُّفْرُ فَمِدَى الْحَبَشَةِ) (¬4) وفي الحديث أربعة معان: أحدها: أن الصحابة فهمت أن الذبح بالحديد فسألت هل يلحق به المحدد من غيره أم لا؟ فأخبر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه مثله لحصول المقصود من إنهار الدم وقد ذبحت أمة (¬5) شاة بمر (¬6): ¬

_ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إلَّا في الْحَلْقِ وَاللُّبَّةِ؟ قَالَ ... ورواه أحمد، انظر الفتح الرباني 17/ 154، والبيهقي 9/ 246، والمحلى 7/ 449. والحديث فيه أبو العشراء الدارمي عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى عنه حماد بن سلمة قيل اسمه يسّار بن بكر بن مسعود بن خولي بن حرملة ابن قتادة من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم، قال الميموني: سألت أحمد عن حديث أبي العشراء في الذكاة قال: هو عندي غلط ولا يعجبني ولا أذهب إليه إلا في موضع ضرورة، قال: ما أعرف أنه يروى، عن أبي العشراء حديث غير هذا، يعني حديث الذكاة، وقال البخاري: في حديثه واسمه وسماعه من أبيه نظر، وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن سعد: مجهول. ت ت 12/ 167. وانظر المغني في الضعفاء 2/ 798، الكاشف 3/ 358. درجة الحديث: ضعيف لجهالة أبي العشراء قاله الحافظ في ت 2/ 451، وقال في التلخيص لا يعرف حاله 4/ 138 وقال الذهبي في الميزان. قلت: ولا يُدرى من هو ولا من أبوه أنفرد عنه حماد بن سلمة. نقل ذلك محققاً الكاشف عزت عطية وموسى محمَّد على الموشّى. انظر الكاشف 3/ 358 وقال الخطابي: ضعَّفوا هذا الحديث لأن رواته مجهولون، نقل ذلك البنّا في الفتح الرباني 17/ 154 وصحّحه الحافظ ابن كثير. انظر مختصر تفسير ابن كثير 1/ 481 وعندي أنه ضعيف لما تقدم. (¬1) سورة البقرة آية 67. (¬2) متفق عليه. البخاري في الحج باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن 2/ 209، ومسلم في الحج باب وجوب الإحرام، 2/ 876، والموطأ 1/ 393 كلهم عن عائشة. (¬3) هذه رواية مسلم في كتاب الأضاحي باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم 3/ 1559. (¬4) تقدم، وهو في البخاري 7/ 120 - 121 من حديث رافع بن خريج وكذلك مسلم 3/ 8. (¬5) قال الحافظ: لم أقف على اسمها. فتح الباري 9/ 631. (¬6) المروة حجر أبيض وقيل هو الذي يقدح منه النار. فتح الباري 9/ 631.

وكثر ذلك في الأخبار حتى روي في الحديث أن رجلاً (¬1) نحو بوديرا (¬2) وتد (¬3) فأجزأ لعمله عمل المحدود سمعت القاضي الزنجاني (¬4) والبستي (¬5) والصاغاني (¬6) والدهستاني (¬7) يحكون عن إسرافيل (¬8) (¬9) ...................................... ¬

_ = وقد ترجم البخاري في صحيحه لهذه القصة في الذبائح بقوله باب ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد، وبقول باب ذبيحة المرأة والأمة 7/ 118 - 119، وساق تحت الباب الأول بسنده عَنْ نَافِع سَمِعَ ابْنَ كَعْبٍ بْنَ مَالِكٍ يُخْبِرُ ابْنَ عُمَرَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ جَارِيَةً لَهُمْ كَانَتْ تَرْعَى غَنَماً بِسَلْعٍ فَأبْصَرَتْ بشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا مَوْتاً فَكَسَرَتْ حَجَراً فَذَبَحتهَا بِهِ .. وَمِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَّةَ عَنْ نَافعٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله أَنَّ جَاريَةً لكَعْبٍ بنِ مَالِكٍ تَرْعَى غَنَماً لَهُ بالْجَبَلِ الَّذِي بِالسُّوْقِ وَهُوَ بِسَلْعٍ فَأُصِيبَتْ بِشَاةٍ فَكَسَرَتْ حَجَراً فَذَبَحَتْهَا بِهِ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، فَأمَرَهُمْ بِأكْلِهَا. وساق تحت الثاني من طريق مالك عن رجل من الأنصار عن معاذ بن سعد، أو سعد ابن معاذ، أخبر .. فذكره، ورواه مالك في الموطأ من الطريق الثاني الموطأ 2/ 489، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 281. (¬1) روى مالك من طريق عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأنْصَارِ مِنْ بَني حَارِثَةَ كَانَ يَرْعَى لَقْحَةً لَهُ بأُحْدٍ فَأَصَابَهاَ الْمَوْتُ فَذَكَّاهَا بِشِظَاظٍ .. الموطأ 2/ 489، قال ابن عبد البر: هو مرسل عند جميع الرواة، شرح الزرقاني 3/ 81، وهو مرسل كذلك عن أبي داود 3/ 249 وقال في روايته، فأخذ وتداً فوجأ به في ليلتها حتى أهريق دمها. ووصله النسائي 7/ 226 من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، وكذلك البيهقي في السنن 9/ 281. درجة الحديث: صحيح. (¬2) هذه العبارة في كل النسخ وغير واضحة لدي. (¬3) الوتد ما رز في الأرض أو الحائط من خشب. ترتيب القاموس 1/ 647، تاج العروس 2/ 521. (¬4) تقدم. (¬5) لم أعثر عليه. (¬6) الصاغاني: محمَّد بن حامد بن الجراح المقدسي أبو عبد الله الصاغاني، عرف بالملخص، من أهل بلخ، ولد سنة 432 هـ وقدم بغداد حاجاً سنة 442 ومات سنة 505 هـ. الجواهر المضيئة 3/ 113، ط. الحلبي وشركاه تحقيق د. عبد الفتاح محمَّد الحلو سنة 1978. (¬7) الدهستاني، نسبة إلى مدينة مشهورة عند مازندران بناها عبد الله بن طاهر. اللباب 1/ 518، الجوار المضيئة 1/ 108. أما صاحب الترجمة المنسوب إلى دّهستان فهو إبراهيم بن محمَّد، أبو إسحاق، الفقيه الدهستاني، ولَّي قضاء الري. قال القرشي: وبلغنا أن وفاته سنة 503، قال الدينوري الحنبلي: كان يحفظ قواعد أبي زيد الدبوسي على وجهها ويتكلم في مناظرته بها. الجواهر 1/ 108 - 110. (¬8) إسرافيل كذا في جميع النسخ ولعله تحريف من النساخ عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، يسمع من أبي حنيفة ومن جده، وثقه أحمد ويحيى، ولد سنة 100 ومات سنة 161 هـ، الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية 1/ 379، وتذكرة الحفاظ 1/ 214. (¬9) وفي بقية النسخ زيادة والروحانين بعد إسرائيل.

............................................ وعبد الله (¬1) ابن أبي زيد القاضي وغيرهم من رؤساء الحنفية أنهم قالوا: إنما شرع الله تعالى الذكاة لتميز الحلال، وهو اللحم، من الحرام، وهو الدم، وجعل في مجتمع العروق ليسيل الدم كله حتى لا يبقى من الحرام شيء مع الحلال، وحرِّمت الميتة لأجل امتزاج الحرام، وهو الدم، مع الحلال، وهو اللحم، قالوا: وهذه من الحكمة في قوله (مَا أنْهَرَ الدَّمَ). فاللبن يخلصه الله تعالى وحده من الفرث والدم واللحم، يخلصه العبد بكسبه من الدم بالذكاة وهذا معنى تسميتها ذكاة مطيَّبة. ثانيها: إن قوله: (مَا أَنْهَرَ الدَّمَ) لم يبيِّن، - صلى الله عليه وسلم -، كيفية إنهار الدم من مواضعه أما أني رأيت لأبي أمامة الباهلي أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَا فَرَى الأَوْدَاجَ" (¬2) وكذلك يروى عن عطاء (¬3) وعن كثير من العلماء، والأوداج هي مجرى الدم دون الحلقوم والمريء، لكن علماءنا، رضي الله عنهم، شرطوا في الذكاة خمسة شروط: قطع الحلقوم، قطع الأوداج، قطع المريء، وضع الخرزة، التي هي مناط ذلك كله من جهة الرأس؛ لأنك إن ذبحت ¬

_ (¬1) وفي بقية النسخ عبيد بن أبي زيد وفي تاج التراجم ص 36 عبيد الله بن عمر بن عيسى أبو زيد الدبوسي له كتاب الأسرار وكتاب تقويم الأدلة، توفي ببخارى سنة 430 وهو ابن 63 سنة، وورد كذلك باسم عبيد الله في الجواهر المضيئة 2/ 499، والفوائد البهية ص 109، وفي وفيات الأعيان 3/ 48 عبد الله. (¬2) رواه الطبراني في معجمه الكبير عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة. نصب الراية 4/ 186، وأورده الهيثمي في المجمع: 4/ 34 وقال: وفيه علي بن يزيد وهو ضعيف وقد وثق، وأورده الحافظ في الدراية 2/ 207 وعزاه للطبراني. أقول: علي بن يزيد، أبو عبد الملك الألهاني، عن القاسم: شامي منكر الحديث. الضعفاء للعقيلي 3/ 254، وقال ابن حبان يروي عن القاسم أبي عبد الرحمن، روى عنه عبيد الله ابن زحر ومطر بن يزيد منكر الحديث جداً فلا أدرى التخليط ممن هؤلاء، في إسناده ثلاثة ضعفاء سواه .. وعلى جميع الأحوال يجب التنكب عن روايته لما ظهر لنا عمن فوقه ودونه من ضد التعديل. المجروحين 2/ 110، ونقل الذهبي عن النسائي قوله ليس بثقة، وقال أبو زرعة ليس بقوي، وقال الدارقطني متروك. الميزان 2/ 240، وانظر الضعفاء والمتروكين للنسائي ص 311، والتاريخ الكبير للبخاري 6/ 301 وت 1/ 533 وفيه عبيد الله بن زحر صدوق يخطئ من السادسة وانظر ت ت 7/ 12. درجة الحديث: ضعيف، وقد ضعفه الشارح في الأحكام 1/ 542. (¬3) رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: الذبح قطع الأوداج. مصنف عبد الرزاق 4/ 465، وذكره البخاري في الذبائح باب النحر والذبح 7/ 121، وأشار الحافظ إلى أن رواية عبد الرزاق منقطعة. فتح الباري 9/ 640. درجة الحديث: ضعيف للانقطاع.

فوقها لم تقطع شيئاً من ذلك كله، ولا جرى من الدم إلا ما يكون في الرأس وما حوله (¬1) ويموت دم البدن فيه، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على قولين، والذي يقتضيه الحديث الصحيح المطلق وحديث أبي أمامة المفسّر قطع الأوداج لقوله: "مَا أَنْهَرَ الدَّمَ" وقطع الحلقوم لأن من الأطباء من يقول إذا سلم الحلقوم طبت الأوداج فيمكن أن يعيش فيكون حينئذٍ إنما مات مقتولًا لا مذكىً، ولا أظن أن من قطعت أوداجه يعيش أبداً ولذلك قال علماؤنا: إنه إذا قطع بعض ذلك ولم يستوف أجزأه، وأما المريء الذي روى أبو التمام (¬2) فلا أعلم له وجهاً (¬3)، وقد قال علماؤنا إذا قطع الرأس في الذبح لم يؤكل، وكذلك إذا كانت فيه من أول الذبح إبانة الرأس (¬4) لأنه لم يقصد ذكاة إنما قصد قتلاً، وقيل يجزيه لأنه ذكاة وزاد فلا تضره الزيادة. ثالثها: قوله: (وَذَكَرَ اسْمَ اللهِ) وفيه غريبة لم يذكرها أحد من العلماء وهي إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه، وقد اختلف العلماء في التسمية هل هي شرط في الحل مع الذكر أم لا؟ فمشهور مذهبنا أنها شرط (¬5) وقال (ش) ليست بشرط (¬6)، وهي مسألة عسرة جداً عمدتنا فيها قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} (¬7). فإن قيل المراد بالآية ما ذبح لغير الله تعالى، قلنا: ظاهرها تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه فنحن مع ظاهر اللفظ ومطلق القول من غير التفات إلى السبب، حسب ما بيناه في مسائل الخلاف، وقد ¬

_ (¬1) الواو ليست في (ك) و (م) و (ص). (¬2) أبو التمام الثقفي أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم -، رواية خمر في معجم الأوسط للطبراني، تجريد أسماء الصحابة للذهبي 2/ 163، وأسد الغابة 6/ 40 ولم أطلع على قوله هذا. (¬3) قال الشارح في الأحكام 1/ 542: ليس في الحديث الصحيح ذكر الذكاة بغير إنهار الدم، فأما فري الأوداج وقطع الحلقوم والمريء فلم يصح فيه شيء. (¬4) قال ابن رشد: المسألة الرابعة وهي أن قطع أعضاء الذكاة من ناحية العنق فإن المذهب أنه لا يجوز، وهو مذهب سعيد بن المسيب وابن شهاب وغيرهم، وأجاز ذلك الشافعي وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور، وروي ذلك عن عمر وعلي وعمران بن حصين. بداية المجتهد 1/ 336. (¬5) قال ابن رشد: اختلفوا في حكم التسمية على الذبيحة على ثلاثة أقوال: فقيل هي فرض على الإطلاق، وقيل بل هي فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان، وقيل بل هي سنّة مؤكدة، وبالقول الأول قال أهل الظاهر وابن عمر والشعبي وابن سيرين، وبالقول الثاني قال مالك وأبو حنيفة والثوري، وبالقول الثالث قال الشافعي وأصحابه وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة. بداية المجتهد 1/ 328، وانظر أحكام القرآن للشارح 2/ 736. (¬6) انظر مغني المحتاج 4/ 272. (¬7) سورة الأنعام آية 121.

اتفق علماؤنا وغيرهم على أنه يستحب استقبال القبلة بالذبيحة وإحداد الشفرة لأنه من حسن الذبيحة، والتؤدة على الذبيحة حتى تموت لأن القطع منها قبل الموت زيادة في عذابها إذ فيها بقية من الإحساس. رابعها: وأما قوله: "لَيْسَ السَّنُّ وَالظُّفْرُ" وذلك بيان لأن الذكاة موقوفة على المحدّد المطلق الذي لا يكون فيه عرض ولا يكون معه عض ولا رض كالسن في الفم والظفر المتصلة باللحم، وإذا كانت التسمية عندنا شرطاً فكل طعام يقدمه المسلم إلى المسلم يأكله وإن لم يدرِ هل سمى الله تعالى عليه أم لا (¬1)، كما جاء في حديث عائشة، رضي الله عنها، الذي أرسله (¬2) مالك، رضي الله عنه، عن عروة حتى إذا شاهدته لم يسم فحينئذ يكف عنه كما فعل عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما (¬3)؛ وفي هذه المسألة غلب الظاهر من حال المسلم، وهي التسمية، على الأصل وهو تحريم الذبيحة، حسب ما تقدم في أصول الفقه. وقد أدخل مالك، رضي الله عنه، حديث جارية كعب في الشاة التي أدركتها قبل أن تموت فذكَّتها بحجر، ونص مالك، رضي الله عنه، في موطّئه على المسألة فقال: (إِنْ كَانَتْ ذُبِحَتْ وَنفَسُهَا يَجْرِي وَهِيَ تَطْرِفُ فَلْتُؤْكَلْ) (¬4) وهذا الذي قواه عمره كله فلا يلتفت إلى غيره. ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر: ما ذبحه المسلم ولو لم يعلم هل سُمي عليه أم لا يجوز أكله حملاً على أنه سمى إذ لا يظن بالمؤمن إلا الخير - شرح الزرقاني 3/ 81. (¬2) مَالِك عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ نَاساً مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ يِأْتونَنَا بِلِحْمَانٍ وَلَا نَدْرِي هِلْ سَمّوا الله عَلَيْهَا أَمْ لاَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، سَمُّوا الله عَلَيْهَا ثُمَّ كُلُوهَا. الموطأ 2/ 488، قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك في إرساله. الزرقاني 3/ 80، وقد وصله البخاري في كتاب التوحيد من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في الصيد باب ذبيحة أهل الكتاب 7/ 120، وأبو داود 3/ 254، والنسائي 7/ 237، ونقل الحافظ عن الدارقطني قوله الصواب وقفه التلخيص 1/ 151. (¬3) رواه مالك في الموطأ 2/ 489 عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا وَتلَا هَذِهِ الآيَةَ: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، وهو مرسل لأن ثور بن زيد لم يدرك ابن عباس. قال ابن عبد البر يرويه ثور عن عكرمة عن ابن عباس كما رواه الداروردي، وهو محفوظ من وجوه عن ابن عباس، شرح الزرقاني 3/ 82، وقال ابن حجر في تخريج أحاديث الكشّاف: هذا منقطع لأن ثوراً لم يلقَ ابن عباس وإنما أخذه عن عكرمة فحذفه مالك. الكافي الشاف بتخريج أحاديث الكشاف ص 52. درجة الأثر: ضعيف لوجود الانقطاع فيه. (¬4) الموطّأ 2/ 490.

ذكاة ما في بطن الذبيحة

ذكاة ما في بطن الذبيحة: جاء في الأثر "ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ" (¬1)، واتفق الرواة على رفع الذكاة الأولى واختلفوا في رفع الذكاة الثانية ونصبها وطال بينهما النزاع، وقد أوضحناها في مسائل الخلاف، والأمر فيها قريب قال (ح): ذكاة الأم (¬2) تجزي. قال (م): لا بدّ من ذبحه (¬3) .. قال (ش): وغاص عليّ الصواب يذبح إذا تم خلقه لأنها تكون نفساً آخرى ¬

_ (¬1) روي عن أحد عشر صحابياً سردهم الزيلعي فقال: روي عن أبي سعيد، وجابر، وأبي هريرة، وابن عمر، وأبي أيوب، وابن مسعود، وابن عباس، وكعب بن مالك، وأبي الدرداء، وأبي أمامة، وعلي. نصب الراية 4/ 189. وسأنتقي منها، أولاً، حديث جابر رواه أبو داود 3/ 253، والدارمي 2/ 84، وأبو نعيم في الحلية 7/ 92 و 9/ 236، والدارقطني 4/ 273 , والحاكم 4/ 114، والبيهقي 9/ 334 - 335 من طرق عنه، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، والحديث فيه عبيد الله بن أبي زياد القداح، أبو الحصين المكي، ليس بالقوي من الخامسة. مات سنة 150/ د ت س. ت 1/ 533 وانظر ت ت 7/ 14 وفيه أيضاً أبو الزبير المكي وهو مدلس, وقد عنعن، وقد ضعَّف الحديث ابن حزم بعبيد الله وبمن قبله، المحلى 7/ 419. درجة الحديث: ضعيف. وروي من حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود 3/ 252 - 253، والترمذي 4/ 72 وقال حسن، وابن ماجه 2/ 1067، والدارقطني 4/ 274، وموارد الظمآن ص 265، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 335، وشرح السنة 11/ 228. درجة الحديث: حسّنه الترمذي وكذا نقل الزيلعي عن المنذري تحسينه له. نصب الراية 4/ 189، وكذلك البغوي. وورد كذلك عن ابن عمر أنه كان يقول: إذا نحرت الناقة فذكاة ما في بطنها ذكاتها .. الموطأ 2/ 490 مرسلاً وهو صحيح، ورواه البيهقي 9/ 335 وقال: الصحيح موقوف، والحاكم في المستدرك من طريق محمَّد بن الحسن الواسطي عن محمَّد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر. قال الزيلعي: رجاله رجال الصحيح وليس فيه غير ابن إسحاق وهو مدلّس، وقد عنعن ولم يصرح بالسماع فلا يحتج به، ومحمد بن الحسن الواسطي ذكره ابن حبان في الضعفاء وروى له هذا الحديث. انظر المجروحين 2/ 275، ونصب الراية 4/ 190، وضعَّفه السيوطي في الجامع الصغير, انظره مع شرحه فيض القدير 3/ 563، ونقل الحافظ عن ابن عدي قوله، اختُلف في رفعه ووقفه على نافع، ثم قال: ورواه أيوب وعدد جماعة عن نافع عن ابن عمر موقوفاً وهو الصحيح. تلخيص الحبير 4/ 158. درجة الحديث: الموقوف منه صحيح والمرفوع ضعيف. (¬2) قال ابن المنذر: لم يُروَ عن أحد من الصحابة وسائر العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه إلا ما روي عن أبي حنيفة. تلخيص الحبير 4/ 158، وانظر شرح السنة 11/ 229. (¬3) انظر بداية المجتهد 1/ 442.

القول في الأطعمة

مودعة في الأولى، فأما إذا لم يتم خلقه فهو كعضو من أعضائها ولا يذكّى العضو الواحد مرتين. والصحيح عندي أنه إن خرج حياً ذُكِّي وإن خرج ميتاً لم يُذكَّ لأن غير ذلك فيه لا يمكن، وذبحه بعد موته لا يفيد. القول في الأطعمة قال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬1)، واختُلف في تفسيرها فقيل هي المحرمة شرعاً وقيل هي المستخبثة جبلّة وطبعاً على العموم وعند الناس لا على الخصوص وعند بعض الأشخاص، وقد قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (أَحَرَامٌ هُوَ الضُّبُّ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ) (¬2) يشير إلى كراهية الاعتياد، وهي مخافة الكراهة أصل الاستخباث، وقال الله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ} (¬3) الآية. فحرم الله تعالى، في هذه الآية، عشرة ترجع إلى أربعة وهي: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به (¬4) والمنخنقة وأخواتها داخلة في الميتة إن لم تدرك ذكاتها وقال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ في مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} (¬5) فذكر الأربعة التي ترجع إليها الآية المتقدمة، وروي عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن هذه الآية من آخر ما نزل من القرآن (¬6) فقال البغداديون من أصحابنا: إن كل ما عداها حلال لكنه يكره أكل السباع، وعند فقهاء الأمصار منهم (م) و (ش) و (ح) وعبد الملك أن أكل ذي ناب من السباع حرام (¬7)، وليس يمتنع أن تقع الزيادة بعد قوله تعالى: ¬

_ (¬1) سورة الأعراف 157. (¬2) متفق عليه. البخاري في كتاب الذبائح والصيد باب الضب 7/ 125، ومسلم في الصيد والذبائح باب إباحة الضب 3/ 1543 من طريق ابن عباس أن خالد بن الوليد، الذي يقال له سيف الله أخبره .. والموطّأ 2/ 968، وشرح السنة 11/ 237. (¬3) سورة المائدة آية 3. (¬4) في (ك) و (م) زيادة: لأن قوله تعالى {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} داخل في قول الله تعالى {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ}. (¬5) سورة الأنعام آية 145. (¬6) ذكره السيوطي وعزاه لإمام الحرمين في البرهان وتعقَّبه ابن الحصار بأن السورة مكية باتفاق، ولم يرد نقل بتأخير هذه الآية عن نزول السورة بل هي في محاجَّة المشركين ومخاصمتهم وهم بمكة. الإتقان 1/ 28. (¬7) قال ابن قدامة: أكثر أهل العلم على تحريم كل ذي ناب من السباع يعدو به ويكسر إلا الضبع منهم مالك =

{قُلْ لَا أَجِدُ في مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} بما ورد من الدليل فيها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَحِلّ دَمُ امْرئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ) (¬1) فذكر الكفر والزنا والقتل، ثم قال علماؤنا: إن أسباب القتل عشرة بما ورد من الأدلة إذ النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما يخبر عما وصل إليه من العلم عن الباري، سبحانه وتعالى، وهو يمحو ما يشاء ويثبت وينسخ ويقدر، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبَاعِ حَرَامٌ" (¬2)، وروي أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير (¬3). (وَرَوَى مُسْلِمٍ عَنْ مَعْن (¬4) عَنْ مَالكٍ، رَضِيَ الله عَنْهُ، نَهَى عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ الطَّيْرِ) (¬5) والأول أصح. وتحريم كل ¬

_ = والشافعي وأبو ثور وأصحاب الحديث وأبو حنيفة وأصحابه، وقال الشعبي وسعيد بن جبير وبعض أصحاب مالك: هو مباح لعموم قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ في مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} وقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ}. المغني 9/ 408. (¬1) متفق عليه. البخاري في الديات باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ...} 9/ 6 ومسلم في القسامة باب ما يباح به دم المسلم 3/ 1302 من طريق مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: قَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَحِلُّ دَمُ أمْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإحْدَى ثَلَاثٍ". (¬2) مالك في الموطأ 2/ 496 عَنْ ابْنِ شَهَابٍ عَنْ أَبِي إدْرِيسٍ الخُولانِيَّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشْنِيَّ أَنَّ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبَاعِ حَرَامٌ" قال ابن عبد البر: هكذا قال يحيي في هذا الحديث ولم يتابعه أحد من رواة الموطّأ عليه، ولا من رواه عن ابن شهاب، وإنما لفظهم: أَنَّ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم - (نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبَاعِ) شرح الزرقاني 3/ 90. والحديث متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد باب أكل كل ذي ناب من السباع 7/ 124، ومسلم في الصيد والذبائح باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير 3/ 1533 من عدة طرق والحديث عند الجميع عن أبي ثعلبة الخشني، رضي الله عنه، أن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع .. (¬3) مسلم في كتاب الصيد والذبائح باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير 3/ 1534، وشرح السنة 11/ 234 وصححه، والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 315 كلهم من حديث ابن عباس. (¬4) معن هو ابن عيسى بن يحيي الأشجعي مولاهم، أبو يحيي المدني القزاز، ثقة ثبت. قال أبو حاتم: هو أثبت أصحاب مالك من كبار العاشرة. مات سنة 198/ ع. ت 2/ 267، وانظر ت ت 10/ 252. (¬5) ما بين القوسين ليس في (ك) ولا (م)، وعلى هذا يتبين أنه خطأ من النسَّاخ لعدة أمور منها أن مسلماً لا يمكن أن يروي عن معن لأن معناً مات سنة 198 هـ، ومسلم ولد سنة 204 فبين ولادة مسلم ووفاة معن 26 سنة، انظر ترجمة مسلم في ت ت 10/ 126، هذا بالإضافة إلى أن هذه الرواية ليست في بقية النسخ. والطير لا ناب له وإنما له مخلب.

ذي ناب من السباع وهو صريح المذهب وبه ترجم مالك، رضي الله عنه، في الموطأ حين قال: (تَحْرِيمُ أكْلِ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ)، ثم ذكر الحديث وعقبه بعد ذلك بأن قال: (وَهُوَ الأَمْرُ عِنْدَنَا) (¬1)، فأخبر أن العمل اطرد مع الأَثر، وقد اختلف العلماء إذا خالف العمل الأثر؛ فمنهم من قدم الأثر وهم الأكثر، ومنهم من طرح الأثر وقدم العمل، وهو مالك، رضي الله عنه، والنخعي وقد قال النخعي: (لو وجدت أصحاب محمَّد يتوضؤون إلى الكوعين لتوضأت كذلك) (¬2)، وصدق لأنهم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا يتركون العمل بما سمعوا إذا ثبت سماعهم له إلا عند دليل آخر مثله، وفيه تفصيل طويل بيَّناه في أصول الفقه (¬3). معارضة: قال الله تعالى حين ذكر ما حرم {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} وقال تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬4) فإذا ذبح النصراني في عيده وللمسيح وأهل به لغير الله تعالى فقد اختلف فيه كما قدمنا، وتعلَّق من منعه بأن قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (¬5) تخصيص لعموم قول تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} والصحيح أنه لا ¬

_ (¬1) الموطّأ 2/ 496. (¬2) لم أطّلع عليه. (¬3) انظر المحصول في علم الأصول للشارح ل 65 أوب مبحث الترجيح. (¬4) سورة المائدة آية 5. (¬5) يقول المغفور له الشيخ محمَّد الأمين: في وجه الجمع بين قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} مع قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} فيما إذا لم يذكر الكتابي على ذبيحته اسم الله، ولا اسم غيره، فحاصله أن لقوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} وجهين من التفسير أحدهما وإليه ذهب الشافعي، وذكره ابن كثير في تفسيره لها أنه قوي أن الراد بما لم يذكر اسم الله عليه هو ما أهل به لغير الله. الوجه الثاني: أنها على ظاهرها، وعليه فبين الآيتين أيضاً عموم وخصوص من وجه وتنفرد آية {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فيما ذبحه الكتابي وذكر عليه اسم الله فهو حلال بلا نزاع وتنفرد آية {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} فيما ذبحه وثني أو مسلم لم يذكر اسم الله عليه، فما ذبحه الوثني حرام بلا نزاع ... ويجتمعان فيما ذبحه الكتابي ولم يسم الله عليه فيتعارضان فيه فيدلّ عموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} على الإباحة ويدل عموم {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} على التحريم فيصار إلى الترجيح .. فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وقال بعضهم بترجيح عموم {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ..} والذي يظهر .... أن لعموم كل من الآيتين مرجح، وأن مرجع آية التحليل أقوى وأحق بالاعتبار. دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ص 97 - 99، وانظر تفسير ابن جرير 6/ 44، القرطبي 7/ 116، مختصر تفسير ابن كثير 1/ 479، زاد المسير 2/ 283، أحكام القرآن للرازي 3/ 42.

يخصه لأن النصراني لا يذبح إلا لله إلا أنه جهل في اعتقاده أن المسيح هو الله تعالى بخلاف المشركين فإنهم يذبحون للنصب مع اعتقادهم أنها غير الله تعالى، وأما قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} فهو عام في جميع أجزائها إلا في الشعر فإنه ليس بميت وإلا في الجلد حالة الدباغ وجواز الانتفاع كما تقدم (¬1)، وأما قوله تعالى {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} فإن العلماء اختلفوا في جلده؛ فقال مالك، رضي الله عنه: لا يباح لكن لا بأس بالانتفاع بجلده بعد الدباغ (¬2)، وبه قال أبو يوسف (¬3)، وخالفه جميع العلماء في ذلك (¬4) فقالوا: لا يحلّ ذلك في حال، وتعلق مالك: رضي الله عنه، بعموم قوله "أَيَّما إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ" (¬5) لأنه لا يكون في تحريمه أعظم من الميتة التي كانت الجاهلية تأكلها، وكذلك قال مالك، رضي الله عنه: يباع شعر الخنزير وينتفع به لأنه لا خنزيرية فيه، ومنع ذلك أصبغ (¬6)، والصحيح عندي أنه لا يحل شيء من الخنزير في حال من الأحوال (¬7)، وإنما أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في الدباغ في جلد الميتة لأنه يخلف الحياة، وقد روى الدارقطني وغيره "دِبَاغُ الْأَدِيمِ ذَكَاتُهُ" (¬8)، والخنزير خارج عن هذا كله. واختلف علماؤنا في الضبع ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) انظر بداية المجتهد 1/ 78 فقد حكى عن مالك فيها روايتين. (¬3) هو يعقوب بن إبراهيم، مات ببغداد سنة اثنتين وثمانين ومائة، وكان من أصحاب الحديث ثم غلب عليه الرأي وأخذ الفقه عن محمَّد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، ثم عن أبي حنيفة وولّي القضاء لهارون الرشيد. طبقات الفقهاء ص 134، الأعلام 9/ 252، أخبار القضاة لوكيع 3/ 254، تاريخ بغداد 2/ 242. (¬4) انظر رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين 1/ 204، والبناية 1/ 360. (¬5) الموطّأ 2/ 498، ومسلم في الحيض باب الوضوء مما مست النار 1/ 273، وشرح السنة 3/ 97، وأبو داود 4/ 367، والترمذي 4/ 221، والنسائي 7/ 173، وابن ماجه 2/ 1193 كلهم عن ابن عباس. (¬6) أصبغ بن الفرج بن سعيد الأموي مولاهم الفقيه المصري، أبو عبد الله، ثقة مات مستتراً أيام المحنة سنة 225 من العاشرة/ خ د س، ت 1/ 81، وانظر ت ت 1/ 361. (¬7) هذا مذهب ابن جرير؛ فقد قال: الخنزير حرام جميعه لم يخصص منه شيء. تفسير ابن جرير 6/ 44، وانظر مختصر ابن كثير 1/ 479. (¬8) سنن الدارقطني 1/ 45، وأبو داود 4/ 368 - 369، والنسائي 7/ 173، وأحمد. انظر الفتح الرباني 1/ 231، وابن حبان، انظر موارد الظمآن ص 61، والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 17 كلهم عن جون ابن قتادة عن سلمة بن المحبق. درجة الحديث: قال الحافظ: إسناده صحيح. تلخيص الحبير 1/ 61 وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 3/ 104.

ما يكره من الدواب

والثعلب (¬1) فقال (ش): هما حلالان، وقال (ح): هما حرام، وكذلك قال ابن الجلاب (¬2) من علمائنا، وقال غيرهم: ذلك مكروه، وروى الدارقطني عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال "الضَّبُعُ صَيْدٌ وَفِيهَا إِذَا قَتَلَهَا الْمُحْرَمُ كَبشٌ" (¬3) وعموم قوله، - صلى الله عليه وسلم -: "أَكْلُ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبَاعِ حَرَامٌ" (¬4) أولى بالمحافظة عليه من الحديث الذي لم يصح. ما يكره من الدواب اختلف العلماء في الخيل والبِغال والحمير فقال مالك، رضي الله عنه: أنها مكروهة (¬5)، وقال (ش): أكل الخيل حلال (¬6)، وقال جابر: (ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ ¬

_ (¬1) قال ابن هبيرة: قال أبو حنيفة: لا يحل أكلهما، وقال مالك والشافعي: هما مباحان، وقال أحمد: الضبع مباح، وفي الثعلب روايتان. الإفصاح عن معاني الصحاح 2/ 313. (¬2) هو عبيد الله بن الحسن أبو القاسم بن الجلاب ويقال ابن الحسن، تفقَّه بالأبهري وغيره وله كتاب في مسائل الخلاف. توفي سنة 378 هـ، الديباج 1/ 461، شجرة النور 1/ 92. (¬3) سنن الدارقطني 2/ 245، وأبو داود 4/ 158 - 159، والترمذي 4/ 252 وقال: حسن صحيح، وابن ماجه 2/ 1078، والنسائي 7/ 200، والحاكم في المستدرك 1/ 452 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه، وسكت عنه الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 183، وابن حبان. انظر موارد الظمآن ص 243، والطحاوي في مشكل الآثار 4/ 371، والدارمي 2/ 74، والمنتقى لابن الجارود ص 155، وأحمد في المسند 3/ 8. درجة الحديث: صححه الترمذي ونقل ذلك في علله الكبير عن البخاري. انظر نصب الراية 3/ 134، وقال الحافظ: وأعلَّه ابن عبد البر بعبد الرحمن بن أبي عمّار فوهم لأنه ثقة، وثّقه أبو زرعة والنسائي ولم يتكلم فيه أحد ثم أنه لم ينفرد به. تلخيص الحبير 4/ 152. (¬4) تقدم (¬5) قال الشارح في الأحكام 3/ 1144: قال ابن القاسم وابن وهب: قال مالك: قال الله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} فجعلها للركوب والزينة ولم يجعلها للأكل ونحوه .. وأجاب عن حديث جابر بقوله: قال علماؤنا: كانت هذه الرواية عن جابر حكايته حال وقضية عين فيحتمل أن يكونوا ذبحوا للضرورة ولا يحتج بقضايا الأحوال المحتملة .. وقال القرطبي في المفهم مذهب مالك كراهة الخيل ضعيف إلا أن تحمل على التحريم شرح الزرقاني 3/ 91، ونقل الحافظ عن ابن أبي جمرة قوله الدليل في الجواز مطلقاً واضح لكن سبب كراهة مالك لأكلها لكونها تستعمل غالباً في الجهاد، فلو انتفت الكراهة لكثر استعماله ولو كثر لأدى إلى قتلها فيفضي إلى فنائها فيؤول إلى النقص من إرهاب العدو الذي وقع الأمر به في قوله تعالى: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}. قال الحافظ تعليقاً على كلام ابن أبي جمرة، قلت: فعلى هذا فالكراهة لسبب خارج وليس البحث فيه؛ فإن الحيوان المتفق على إباحته لو حدث أمر يقتضي أن لو ذبح لأفضى إلى ارتكاب محذور لامتنع ولا يلزم من ذلك القول بتحريمه. فتح الباري 9/ 650. (¬6) انظر شرح السنة 11/ 255، ومختصر تفسير ابن كثير 2/ 324.

اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَرَساً فَأَكَلْنَاهُ) (¬1)، وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أذن في لحوم الخيل وحرّم لحوم الحمر (¬2)، ولا إشكال في أن لحوم الحمر الأهلية حُرَّمت يوم خيبر لثبوت ذلك في الرواية الصحيحة (¬3)، ثم اختلف في تحريمها على خمسة أقوال: أحدها: أنها رجس. الثاني: أنها حمولة فخشي أن تفنى. الثالث: أنها جلالة. الرابع: أنها لم تخمّس. الخامس: أنها لم تقسم. فأما قوله إنها رجس فكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). وأما قوله إنها حمولة (¬5) أو جلالة أو لأنها لم تخمس (¬6) فهو كلام الراوي وكل ذلك في البخاري. وأما قوله إنها لم تقسم فهو قريب من قوله في البخاري لأنها لم تخمس في المعتل فأما تحريمها أو تحليلها. فاختلف فيه العلماء وعن مالك، رضي الله عنه، في ذلك روايتان (¬7)، والصحيح ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب الصيد والذبائح باب أكل لحوم الخيل 3/ 1541 من حديث أسماء. (¬2) مسلم في الباب السابق من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ، - صلى الله عليه وسلم -، (نَهَى يَوْمَ خَيْبَرٍ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ وَأَذنَ في لُحُومِ الْخَيْلِ) 3/ 1541. (¬3) ورد في حديث سلمة بن الأكوع المتفق عليه وفيه: فَأَوْقَدُوا نِيرَاناً كَثِيرَةً فَقَالَ رَسُولُ اللهِ، - صلى الله عليه وسلم -: مَا هذِهِ النَّيرَانُ، عَلَى أَيِّ شَيءٍ تُوقِدُونَ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمٍ، قَالَ: أَيُّ لَحْمٍ؟ قَالُوا: لَحْمُ حُمُرِ الأنْسِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، أَهْرِيقُوهَا وَاكْسُرُوهَا ... البخاري في الصيد والذبائح باب آنية المجوس والميتة 7/ 117، ومسلم في الجهاد والسير باب غزوة خيبر 3/ 1427. (¬4) البخاري في الذبائح والصيد باب لحوم الحمر الأنسية: 7/ 124 من حديث أنس بن مالك. (¬5) روى البخاري بسنده إلى ابن عباس في الغزوات باب غزوة خيبر 8/ 113 قال ابن عباس: لا أدري أَنَهَى عنه رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، من أجل أنه كان حمولة الناس. (¬6) وساق البخاري بسنده إلى ابن أبي أوفى قال: وتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمّس. وقال بعضهم: نهى عنها البتة لأنها كانت تأكل العذرة. البخاري 8/ 112. قال الحافظ في أثناء كلامه على هذه الأحاديث في الفتح: قلت وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم تخمَّس، أو كانت جلالة، أو كانت انتهبت الحديث المذكور قبل هذا حديث جابر فيه أنها رجس .. قال القرطبي: قوله فإنها رجس ظاهر في عود الضمير على الحمر لأنها المتحدث عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها وهذا حكم المتنجس .. فتح الباري 9/ 656. (¬7) قال الباجي: وأما الحمير فاختلفت الرواية عن مالك فيها فقيل إنها محرَّمة، وقيل مكروهة غير محرَّمة. ذكر ذلك القاضي أبو محمَّد، وذكر القاضي أبو الحسن رواية الكراهة خاصة. المنتقى 3/ 133، وقال =

القول في المستثنى من ذلك

أن التحريم منسوخ بما نزل بعده بقوله تعالى {قُلْ لَا أَجِدُ في مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} (¬1) إلا أن مالكاً، رضي الله عنه، لسعة علمه وذكاء فهمه، استنبط الكراهية من أن الله تعالى لما ذكر الأنعام، وما امتن به منها، ذكر في وجه الامتنان الركوب خاصة وكراهية أكل الخيل والبغال والحمير لأجل أنها كراع في سبيل الله تعالى وهو أحد الأقوال في تحريم الحمر يوم خيبر لأنه روي في الصحيح (أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، في ذلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله أكَلْتُ الْحُمُرَ أفْنَيْت الْحُمُرَ فَأَمَرَ الْمُنَادِيَ فَنَادَى أَلَا إنَّ لُحُومَ الْحُمُرِ قَد حُرَّمَتْ) (¬2). القول في المستثنى من ذلك حرَّم الله تعالى الميتة ثم استثنى حال الضرورة فقال {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (¬3) ثم استثنى من المستثنى فقال {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} (¬4). سمعت الفهري (¬5) يقول بالمسجد الأقصى وقد قيل له أو قلت له: إذا خرج باغياً أو متعدياً فوجد الميتة أيأكل أم يموت؟ قال: يموت ولا يأكل، وقد قال القاضي عبد الوهاب (¬6): إذا أراد أن يأكل فليتب فإذا تاب ارتفعت عنه سمة البغي والعدوان (¬7)، ودخل تحت قوله تعالى {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} ثم اختلف العلماء بعد ذلك في مسألتين: أحدهما: هل يأكل من الميتة حتى يشبع أم يأخذ بقدر سد الرمق؟؟ وعن مالك، رضي الله عنه، في ذلك روايتان؛ فالذي في الموطّأ فالأكل والشبع والزاد، وهو كتابه ¬

_ = النووي: قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم، ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافاً لهم إلا عن ابن عباس وعن المالكية ثلاث روايات ثالثهما الكراهية. فتح الباري 9/ 656. (¬1) سورة الأنعام آية 145. (¬2) تقدم. (¬3) سورة الأنعام آية 119. (¬4) سورة البقرة آية 173. (¬5) تقدم. (¬6) هو أبو محمَّد عبد الوهاب بن علي بن نصر، كان فقيهاً متأدباً شاعراً، كان ببغداد ثم انتقل إلى مصر ومات بها سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. طبقات الفقهاء للشيرازي ص 168، المدارك 2/ 691، ابن خلكان 2/ 387، تبيين كذب المفتري ص 250، العبر 3/ 149. (¬7) انظر الأشراف على مسائل الخلاف 2/ 257.

توحيد

وصفوة مذهبه ولبابه (¬1)، وكذلك ينبغي أن يكون لأن الضرورة قد رفعت التحريم وأثبتت الإباحة وصيَّرت الميتة في حقه كالمذكاة. وأما المسألة الثانية: فهو مال الغير هل يقدمه على الميتة في الضرورة أو يقدم الميتة عليه؟؟ ولا خلاف بين الأمة أنه إذا أمن من العقوبة أنه يأكل من مال الغير لأن مال الغير يقبل الإباحة بالإذن، والميتة لا تقبل الإباحة بحال. وهناك مسألة ثالثة: في مذهب المخالف ليست في مذهبنا وهو أكل لحم الآدمي عند الضرورة (¬2) إذا وجده ميتاً، فقالوا: لا يؤكل لأن حرمته ميتاً كحرمته حياً، ومنهم من قال: إنه يؤكل، والأول عندي اصحّ، ثم قال تعالى {وَالدَّمُ} (¬3) في هذه الآية التي في العقود، ثم خصص في آية الأنعام فقال {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} فاقتضى ذلك تحليل ما خالط العروق وجرى عند تقطيع اللحم وذلك لأنه أمر لا يتأتى الانفكاك عنه، ولا يمكن الاحتراز منه، كما اتفق العلماء على أن دم الحوت حلال لأنه مستثنى من الميتة والدم إذ لم يشرع فيه ذكاة، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. توحيد رُوِيَ أنَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، نَزَلَ بَلْدَحَ (¬4) فَجَالَسَهُ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو بْن نَفِيلٍ (¬5) فَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، سُفْرَةً (¬6) فِيهَا لَحْمٌ فَقَالَ زَيْدُ: إِنَّي لَا آكُلُ مِمَّا تَذُبَحُونَ عَلَى أنْصَابِكُمْ (¬7). فقيل في ¬

_ (¬1) الموطّأ 2/ 499. (¬2) ذكر ان هذا مذهب الشافعي. الأحكام 1/ 58، وكذلك عزاه له القاضي عبد الوهاب في الأشراف: 2/ 258. (¬3) قال في الأحكام 2/ 756: الصحيح أن الدم إن كان مفرداً حرم منه كل شيء، وإن خالط اللحم جاز لأنه لا يمكن الاحتراز منه، وإنما حرم الدم بالقصد إليه. (¬4) هو مكان في طريق التنعيم بفتح الموحدة والمهملة بينهما لام ساكنة وآخره مهملة ويقال هو واد، فتح الباري 7/ 143. (¬5) زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى العدوي والد أحد العشرة سعيد بن زيد، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يُبَعَثُ أَمَّةً وَحَدَهُ". تجريد أسماء الصحابة 1/ 215، الإصابة 2/ 613. (¬6) السفرة: طعام يتخذه المسافر. النهاية 2/ 373. (¬7) البخاري في الفضائل باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل 5/ 50، وفي الصيد والذباح باب ما ذبح على النصب والأصنام 7/ 79، وأحمد في المسند 2/ 89 و 127 كلاهما عن ابن عمر.

السؤال: كيف تنزَّه زيد عما يذبح للأنصاب (¬1) واحتمله النبي - صلى الله عليه وسلم -، للزاد، وهذا مما اتفقت الملل على تحريمه، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، على ملَّة إبراهيم؟ أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة كثيرة لبابها أربعة. الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن يلتزم قبل المبعث شرعاً وإنما كان منزَّهاً معصوماً من كل دناءة ومضلَّة حتى جاءه الحق وهو معنى قوله تعالى {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (¬2) في أولى الروايات (¬3). الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان على شرع قبل المبعث ومن آياته أن أحداً لم يعلمه ولا نقله. الثالث: أن هذا خبر واحد وخبر الآحاد فيما طريقه العلم لا العمل لا يوجب شيئاً (¬4). الرابع: أن المحرم الذبح على النصب والإهلال لغير الله تعالى فهذا هو المحرم القبيح (¬5) الكفر، فأما أكله بعد ذلك فليس من الذبح في شيء. ألا ترى أن الأضحية تذبح لله تعالى ثم تؤكل للدنيا، والعبادة إنما هي في الذبح أو النحر خاصة فكان النبي - صلى الله عليه وسلم -، منزهاً عن الدناءة والحرام والكفر ولم يكن هنالك شرع في تحريم الأكل فكان يأكل من طعام أهل بيته قبل البعث كما نأكل نحن من طعام أهل الكتاب بعد ذبحهم (¬6)، وهذا وإن كان كارهاً خارجاً عن الأصل ولكن بالقول الأول أقول. ¬

_ (¬1) في (م) الأصنام. (¬2) سورة الضحى آية 7. (¬3) في (م) التأويلات. (¬4) الراجح أنه لا فرق بين العلم والعمل كما رجحه د. أحمد محمود عبد الوهاب في رسالته خبر الواحد وحجته ص 136؛ فقد قال بعد سوق الأدلة على ذلك: فتبين بما ذكر أن خبر الواحد حجة توجب العمل مثل خبر التواتر، فكما يجب العمل بخبر التواتر في كل ما دلّ عليه سواء كان في الأحكام أم في العقائد، فكذلك دل عليه خبر الواحد العدل. (¬5) انظر كلام الحافظ في الفتح على هذه الأقوال ومناقشتها 7/ 143 - 144. (¬6) في (م) بعد حكمهم والأولى ما في الأصل.

باب الصيد

باب الصيد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} (¬1) وقال تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} (¬2) الآية. وقال تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬3). وفي الصحيح عن عدي ابن حاتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا أَرْسَلْتَ كَلَبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ الله فَكُلْ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ أخْذُهُ وَإنْ قَتَلَ فَإِنْ أَدْرَكْتَهُ حَيّاً فَاذْبَحْهُ أَنْتَ وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ فَلَا تَأْكُلْ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعْ كَلْبِكَ كَلْباً آخَرَ قَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيَّهُمَا قَتَلَهُ" (¬4). وروى أبو ثعلبة الخشني عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ فِأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ" (¬5)، وقال أيضاً: "إذاً أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ الله فَكُلْ وَإنْ أَكَلَ مِنْهُ" (¬6)، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال في حديث عدي في الصحيح: "وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقاً في الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّكَ لاَ تَدِرِي أَسَهْمَكَ قَتَلَهُ أَمِ الْمَاءَ" (¬7). وروى عديٌّ أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: يَا ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية 94. (¬2) سورة المائدة آية 4. (¬3) سورة المائدة آية 96. (¬4) مسلم في كتاب الصيد والذبائح باب الصيد بالكلاب المعلَّمة 3/ 1531 من طريق الشعبي عن عدي بن حاتم. (¬5) متفق عليه. البخاري في الصيد والذبائح باب صيد القوس 7/ 111، ومسلم في الصيد والذبائح باب الصيَّد بالكلاب المعلَّمة 3/ 1532. (¬6) أبو داود 3/ 272. والحديث فيه داود بن عمرو الأزدي الدمشقي عامل واسط. صدوق يخطئ من السابعة/ د، ت 1/ 233، وقال الحافظ في ت ت 3/ 196: وثقة ابن معين، وقال العجلي: يكتب حديثه وليس بالقوي، وقال أبو زرعة لا بأس به، وقال أبو حاتم: شيخ، وقال أبو داود: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات .. درجة الحديث: حسنه الزيلعي في نصب الراية 4/ 312. (¬7) متفق عليه، البخاري في الصيد باب إذا غاب عنه 7/ 113، ومسلم في كتاب الصيد والذبائح باب الصيد بالكلاب المعلمة 3/ 1531.

رَسُولَ الله (إِنَّي أَصِيدُ بِالْمعْرَاضِ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: مَا خَرَقَ فَكُلْ وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ) (¬1)، زاد النسائي فيه (فَإِنَّهُ وَقِيذٌ) (¬2). وروى مسلم عن أبي ثعلبة "إذا أَرْسَلْتَ سَهْمَكَ فَقَتَلَهُ فَكُلْ وَإِنْ غَابَ عَنْكَ فَأَدْرَكْتَهُ فَكُلْهُ مَا لَمْ يِبِتّ" (¬3) وروي "بَعْدَ ثَلَاثٍ" (¬4) وروي "إِلاَّ أَنْ يَنْتنَ" (¬5) زاد النسائي "أَوْ يَأْكُلَ مِنْهُ سَبْعٌ" (¬6). أما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} (¬7)، فإنه قد توهَّم بعض الناس أن المراد به تحريم الصيد في حال الإحرام وهذا عضلة (¬8) إنما المراد به الابتلاء به في حالتيْ الحِلّ والحرمة ليعلم الله مشاهدة منا ما علمه غيباً من امتثال من امتثل واعتداء من اعتدى، فإنه عالم الغيب والشهادة يعلم الغيب أولاً ثم يخلق المعلوم فيعلمه مشاهدة يتعيَّن المعلوم ولا يتغير العلم (¬9). وقوله تعالى {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} قال مالك، رضي الله عنه: يعني في المقدور عليه {وَرِمَاحُكُمْ} يعني في المتعذّر المطلوب؛ وخص الرمح لأنه الغالب في التصرف وكل محدد يلحق به لأنه مثله. والمعراض قد بيَّنه ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري في الذبائح والصيد باب صيد المعراض 7/ 111، وفي كتاب التوحيد باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها 6/ 96، ومسلم في كتاب الصيد والذبائح باب صيد الكلاب المعلمة 3/ 1529، وأبو داود 3/ 268، والترمذي 4/ 65، والنسائي 7/ 183 , وابن ماجه 2/ 1072. (¬2) النسائي 7/ 180 و 183، وهي في البخاري في الذبائح والصيد باب صيد المعراض 7/ 111، وابن ماجه 2/ 1072، وروى الترمذي منه قول وقيذ وقال صحيح. سنن الترمذي 4/ 69. (¬3) لم أطَّلع على هذا اللفظ في مسلم، وقد ذكره مالك رأياً له. الموطّأ 2/ 492 وعزاه له الزيلعي في نصب الراية 4/ 316. (¬4) مسلم في كتاب الصيد والذبائح باب إذا غاب عنه الصيد ثم وجده 3/ 1533. (¬5) المصدر السابق، وأبو داود 3/ 278، والدارقطني في سننه 4/ 295. (¬6) النسائي 7/ 193، وهذه الزيادة صحيحة. (¬7) سورة المائدة آية 94. (¬8) قال ابن الأثير: أصل العضل المنع والشدة يقال أعضل بي الأمر إذا ضاقت عليك فيه الحيل. النهاية 3/ 254 لسان العرب 11/ 453. (¬9) قال المؤلف في الأحكام 2/ 656: اختلف في المخاطب بهذه الآية على قولين: أحدهما: أنهم المحلّون قاله مالك. الثاني: أنهم المحرمون، قاله ابن عباس: وتعلق من عموم بأن قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} مطلق في الجميع وتعلق من خص بأن قوله {لَيَبْلُوَنَّكُمُ} يقتضي أنهم المحرومون، فتكليف الامتناع الذي يتحقق به الابتلاء هو مع الإحرام، وهذا لا يلزم لأن قوله {لَيَبْلُوَنَّكُمُ} الذي يقتضي التكليف كله ابتلاء وإن تفاضل في الكثرة والقلة وتباين في الضعف والشدة. وانظر تفسير القرطبي 6/ 300.

النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يجوز الصيد به فهذه الآية تناولت صيد المباشرة من الصائد دون واسطة، وتفصيل ذلك يأتي إن شاء الله تعالى. وأما قوله تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬1)، فهذا التحريم إلى غاية، فإذا انقضت الغاية فقد ارتفع التحريم، وليس هذا من باب النسخ إنما النسخ ارتفاع الحكم المطلق وهو أحد شروط النسخ على ما تقرر في موضعه (¬2) .. وأما قوله تعالى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} (¬3) فيتعلَّق به كل جارحة من بهيمة كالكلب (¬4) والفهد، أو طائر كالبازي والصقر، ولكنه ذكر التكليب لأحد معنيين، قال بعض علمائنا: التكليب هو التعليم وهو في المعنى الثاني وهو الأصح، وإنما ذكر التكليب لأنه الأغلب، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال (مَنِ اقْتَنَى كَلْباً إلَّا كَلْبَ صَيْدٍ أوْ كَلْبَ مَاشِيَةٍ وَفِي بَعْضِ الطُّرُق ضَارَيةً أَوْ حَرثٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قَرَاطَانِ (¬5) وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية 96. (¬2) قال في الأحكام: لما قال الله تعالى {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} جرى على عمومه على كل صيد بري وبحري حتى جاء قوله تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا}، فأباح البحر إباحة مطلقة، وحرَّم صيد البر على المحرمين فصار هذا التقسيم والتنويع دليلاً على خروج صيد البحر عن النهي. ثم قال {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} عام في التحريم بالزمان وفي التحريم بالمكان وفي التحريم بحالة الإحرام إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبراً وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف. أحكام القرآن للشارح 1/ 666 وقال الرازي: لما قال {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وقابله بصيد البر فقال {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} علم أنه إنما حرم للأكل فانصرف إلى ما يؤكل بحال، ثم قال {مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} فمدّ التحريم إلى غاية، والذي هو محرم لعينه لا يقال فيه حرم عليكم ما دمتم حرماً ويجعل في مقابلة صيد البر، فهذا هو الذي يستدل به الشافعي في تخصيص الآية في مأكول اللحم. أحكام القرآن للرازي 3/ 287. (¬3) سورة المائدة آية 4. (¬4) اشترط الإِمام أحمد في الكلب أن لا يكون بهيمياً لأنه شيطان. انظر المغني 9/ 372 - 373، وسيأتي رد الشارح على ذلك منقولاً من الأحكام، وكذلك قال الباجي أنه مذهب الحسن البصري والنخعي وابن حبّان وابن راهويه. المنتقى 3/ 123. وقال في الأحكام {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} عام في الكلب الأسود والأبيض، وقال من لا يعرف أن صيد الكلب الأسود لا يؤكل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فَإِنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ شَيْطانٌ" وهذا إنما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم -، في قطع الصلاة؛ فلو كان مثله لقاله، ونحن على العموم حتى يأتي من النبي - صلى الله عليه وسلم -، لفظ يقتضي صرفنا عنه .. ثم قال: روى أشهب وغيره عن مالك أن البازي والصقر والعقاب، وما أشبه ذلك من الطير، إذا كان معلّماً يفقه الكلب وبه قال عامة العلماء. الأحكام 2/ 546. (¬5) متفق عليه. البخاري في كتاب الذبائح والصيد باب من اقتنى كلباً ليس بكلب صيد أو ماشية =

هُرَيْرَةَ أَوْ زَرْعٍ) (¬1)، وقيل ذلك لعبد الله بن عمر فقال: إن أبا هريرة كان صاحب زرع يعني أنه إذا كان صاحب زرع يكون أعلم بالمسألة ممن ليس بصاحب زرع (¬2)، وهذا من لطف الله تعالى فإنه جعل البهائم على ضربين مسخّرة، مقدوراً عليها ومستوحشة ممتنعة بنفسها، ثم أذن في طلبها بالسلاح والجوارح، كل ذلك ابتلاء منه بحكمته وقدرته ولتعليم الجارح شرطان. أحدهما: الاشلاء (¬3) والانشاء. الثاني: الإجابة عند الدعاء ووقع في ألفاظ علمائنا الانزجار عند الزجر وليس (¬4) بشرط، وهذا يستوي فيه البهائم والطير، وليس يلزم في الأشلاء رؤية المصيد، بل يجوز أن يرسله ويشليه في الجملة ولكن بشرط النيَّة؛ فإن الاصطياد ذكاة والنية فيها شرط، كما تقدم، وذكر اسم الله على ما تقدم في الذبائح، فإن فعل هذا وغاب عنه المصرع فإن بات يكره مالك، رضي الله عنه، أكله في الموطأ (¬5)، وقال في الكتاب: لا تؤكل وإن أنفذت مقاتله (¬6)، وقال أشهب (¬7): هو مكروه، كما قال مالك، رضي الله عنه، وقال عبد الوهاب (¬8): يؤكل إذا أنفذت المقاتل، وجوزه ابن المواز (¬9) في السهم ومنعه في الكلب ¬

_ = 7/ 112، ومسلم في المساقاة باب الأمر بقتل الكلاب 3/ 1201، والموطأ 2/ 969، وشرح السنة 11/ 208 كلهم من حديث ابن عمر. (¬1) متفق عليه. البخاري في المزارعة باب اقتناء الكلب للحرث 3/ 135، ومسلم في المساقاة باب الأمر بقتل الكلاب: 3/ 1203، وشرح السنة 11/ 209. (¬2) قال الخطابي في قول ابن عمر: يرحم الله أبا هُرَيْرَةَ، كان صحب زرع قال أراد تصديق أبي هُرَيْرَة وتوكيد قوله وجعل حاجته إلى ذلك شاهداً له على علمه لأن من صدقت حاجته إلى شيء كثرت مسألته عنه حتى يحكمه. شرح السنة 11/ 209. (¬3) شلاء: قال الجوهري أشليت الكلب دعوته. صحاح الجوهري 6/ 2395. (¬4) وقال ابن رشد: أما اختلافهم في الانزجار فليس له سبب إلا اختلافهم في قياس سائر الجوارح في ذلك على الكلب لأن الكلب الذي لا ينزجر لا يسمى معلَّماً باتفاق، أما سائر الجوارح إذا لم تنزجر هل تسمى معلّماً أم لا فيه التردد وهو سبب الخلاف. بداية المجتهد 1/ 391. (¬5) الموطأ 2/ 492. (¬6) انظر المدونة 3/ 52. (¬7) تقدمت ترجمته. (¬8) تقدمت ترجمته. (¬9) هو أبو عبد الله محمَّد بن إبراهيم الإسكندري، المعروف بابن المواز، الإِمام الفقيه الحافظ النظَّار، تفقه بابن الماجشون وابن عبد الحكم واعتمد أصبغ. ولد سنة 180 هـ ومات سنة 269 أو 281 هـ. شجرة النور الزكية 1/ 68.

والبازي. وفي الحديث الصحيح كما قدمناه كله "مَا لَمْ يَبتْ"، ومحمله والله أعلم على أنه لم تنفذ مقاتله. وفي البخاري في رواية "إِنْ وَجَدْتَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَكُلْهُ مَا لَمْ يَنْتنْ" (¬1)، وهذا محمول على أنه أنفذت مقاتله وأما زيادة النسائي "مَا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ سَبَعٌ" فإن السهم إذا أنفذ المقاتل لم تبالِ عن أكل السبع بعد ذلك، وإن لم تنفذ المقاتل فيحتمل أن يكون السبع هو الذي قتله، وكذلك القول في الصيد الغريق مثله، وقد روي في بعض الطرق عن عدي بن حاتم عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (أنَّهُ قَالَ: كُلْهُ مَا لَمْ يَبِتْ فَإِنَّ الْلَّيْلَ خلق مِنْ خَلْقِ الله عَظِيمٌ وَلاَ تدْري مَا أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ) (¬2) , والقول في أيضاً مثله؛ والمعنى في ذلك أن الأصل التحريم والذكاة مبيحة، فمتى ما وقع الشكّ فيها بقي الحظر على أصله، والذي أراه أنه إذا وجد فيه سهمه وطلبه ولم يدركه حتى مات أو بات ولم يجد فيه أثر سبع ولا ماءً أكله لأنه لا يمكنه في التذكية أكثر من هذا. وأما قوله في الحديث "إِنْ أَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَاذْبَحْهُ" فصحيح؛ لأن قتل الصيد إنما هو بدل عن العجز لعدم القدرة، فإذا قدر على الذكاة الأصلية لزمه فعلها، وأما إن كان الكلب غير معلم فلا بد من الذكاة لأن المقصود من الكلب الذي ليس بمعلم حبسه لا ذكاته. وأما قوله في الحديث "وَإِنْ وَجَدْتَ مَعْ كَلْبِكَ كَلْباً آخَرَ فَلَا تَأْكُلْهُ" إلى آخره فإنه لا يؤكل، وهذا الحديث هو الأصل في اشتراط النية في الصيد والذكاة؛ لأنه قال له "إنَّمَا ذَكَرْت اسْمَ الله عَلَى كَلْبِكَ" فلو كان ذلك الكلب الآخر لرجل سواه سمى وأشلاه ولم يعلم أحدهما بالآخر كانا شريكين فيه وأكلاه وليس من شرط الاشتراك أن يتفقا على ذلك. ¬

_ (¬1) البخاري في الذبائح والصيد باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة 7/ 113 معلقاً وقال: قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَدِيّ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمِي الصَّيْد فَيَقُتَفِي أَثَرَهُ الْيَوْمَيْنَ وَالثَّلَاَثة ثُمَّ يِجِدهُ مَيْتاً وَفِيهِ سَهْمُهُ قَالَ يَأْكُلُ إِنْ شَاءَ. وقد وصله أبو داود عن الحسين بن معاذ عن عبد الأعلى به 3/ 272، وابن أبي شيبة في المصنف 5/ 372. درجة الحديث: صحيح. (¬2) رواه البيهقي في السنن الكبرى 9/ 241 من طريق مُوسَى بْنِ أَبِي عَائَشَةَ عَنْ أَبِي رُزَيْنٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِصَيْدٍ فَقَالَ: إِنِّي رَمَيْتُهُ مِنَ اللَّيْلِ فَأَعْيانِي .. وقال: مرسل، قاله البخاري، ورواه أبو داود في المراسيل ص 42، وابن أبي شيبة في المصنف 5/ 366، وقال الزيلعي في نصب الراية 4/ 315: أعلَّه عبد الحق بالإرسال وأقره ابن القطان عليه: درجة الحديث: مرسل صحيح

"تبيين مشكل"

" تبيين مشكل" فإن أكل الكلب منه، فقال سعد بن أبي وقاص: كُلْ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إلَّا بُضْعَةٌ وَاحِدَةٌ (¬1)، وعن مالك، رضي الله عنه، في ذلك روايتان (¬2)، وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، في ذلك محمول على أحد وجهين: إما أن يكون في أول التعليم، وإما أن يحمل على الكراهية بدليل حديث أبي ثعلبة: قَالَ لَنَا الْخَطِيبُ أبو الْمُطَهِّرِ الْهَمَدَانِي (¬3) قَالَ أَبُو بَكْرٍ شَيْخنَا (¬4) الْجَحْدِي وَغَيْرُهُ: إِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ الْمُعَلَّمُ مِنَ الصَّيدِ لاَ يُقَالُ إِنَّ التَّعْلِيمَ قد بطل؛ لأن الأكل الذي وقع من الكلب قد يكون لفرط جوع أو لنسيان، والعالم الماهر قد ينسى المسألة حتى لا يبقى لها في قلبه أثر فكيف البهيمة، فإن خرق المحدد الصيد فإن قطعه نصفين أكله كله، وإن أبان الأقل أكل الأكثر، والذي عندي أنه إن كان الأقل الذي أبين مما لا حياة معه أكل الكل، وإن كان تبقى بعده الحياة أكل الأكثر إكمالاً كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله} (¬5) الآية. اختلف العلماء في صيد الكتابي فقال في الكتاب لا يؤكل صيده وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} ليس بمعارض لقوله {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} فإن هذه الآية في طعام الكتابيين عامة في الصيد وغيره، وآية الصيد خاصة غير منافية لهذه العامة، وإنما يُقضى بالخاص على العام إذا تعارضا، وأيضاً فإن الآية إنما نزلت في الذين آمنوا لأجل بيان حكم الحل والحرام وذلك يختلف الحال فيه على المسلم دون الكتابي (¬6). ¬

_ (¬1) الموطّأ 2/ 493 بلاغاً: مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ فَقَالَ سَعْدٌ: كُلْ وَإِنْ لَمْ تَبْقَ إلَّا بُضْعَةً وَاحِدَة. (¬2) قال ابن رشد الجد روى: ابن نافع عَنْ مَالِكٍ أنَّهُ قَالَ: إنْ أَكَلْتَ مِنْ صَيْدِهَا فَلاَ يُؤْكَلُ. وقال ابن القاسم: لا أدري ما هذه الكلاب تأكل فيؤكل صيدُها, ولكن إن كانت تفقه وإلا فلا يؤكل صيدها إلا أن تدرك ذكاته قبل أن ينفذ مقاتله. مقدمات ابن رشد 2/ 317. (¬3) لم أطلع عليه. (¬4) ليس في (ك) و (م) و (ص) الجحدي. (¬5) سورة المائدة آية 94. (¬6) قال في الأحكام: قال مالك: لا يحل صيد الذمي بناء على أن الله خاطب المؤمنين المحلين في أول الآية فخرج عنهم أهل الذمة لاختصاص المخاطبين بالإيمان فيقتضي ذلك اقتصاره عليهم إلا بدليل التعميم، وليس هذا من باب دليل الخطاب الذي هو تعليق الحكم بأحد وصفي الشيء ليدل على أن الآخر بخلافه، ولكنه من باب أن أحد الوصفين منطوق به مبين حكمه، والثاني مسكوت عنه وليس في معنى ما نطق به. =

باب ما جاء في صيد البحر

فأما المجوسي فلا سبيل إلى صيده لأن اسم الله لا بد منه والمجوسي يذبح لغير (¬1) الله تعالى، وقد قال الله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ}. باب ما جاء في صيد البحر أما صيد البحر فهو حلال على الإطلاق، قال الله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} (¬2) فقوله صيد ما حول بعمل وقوله وطعامه (ما لفظه البحر) (¬3)، ولم يحاول أخذه، وكذلك تأوَّله عبد الله ابن عمر (¬4)، وقال (ح) (¬5): وغير ما لفظه البحر لا يؤكل، ومعنى قوله تعالى {وَطَعَامُهُ} يعني أحل لكم صيد البحر. وأكله (¬6)، وهذا عيٌّ لا يليق ¬

_ = فإن قيل إن كان مسكوت عنه فحمله عليه بدليل قوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} قلنا: هذا يدل على جواز أكل طعامهم والصيد باب آخر فلا يدخل في عموم ذكر الطعام ولا يتناوله مطلق لفظه. أحكام القرآن 2/ 663. (¬1) وقال أيضاً في الأحكام 2/ 663: أما صيد المجوسي فإنه لا يؤكل إجماعاً لأن الصيد الواقع منه داخل تحت قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} والمجوسي .. يفعل جميع أفعاله لغير الله سبحانه. (¬2) سورة المائدة آية 96. (¬3) علق البخاري في كتاب الذبائح والصيد باب قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وقال عمر صيده ما اصطيد وطعامه ما رمى به. البخاري 7/ 116 والبيهقي من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة السنن الكبرى 9/ 254 وقال الحافظ وصله المصنف (أي البخاري) في التاريخ وعبد بن حميد من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة. فتح الباري 9/ 615. درجة الحديث: حسنه شعيب الأرناؤوطي في تعليقه على شرح السنة 11/ 249. (¬4) عن ابن عمر يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كل دابة من دواب البحر ليس له دم يتقصد فليست له ذكاة رواه الطبراني في الكبير إلا أنه قال ينعقد. وفيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك. مجمع الزوائد: 4/ 35 - 36. أقول سويد الذي اعل به الهيثمي الحديث قال فيه الحافظ سويد بن عبد العزيز السلمي مولاهم الدمشقي قاضي بعلبك أصله واسطي نزل حمص لين الحديث من الثامنة مات سنة 194 وله 86 سنة/ ت ق. ت 1/ 340 وقال في ت ت 4/ 276 قال أحمد متروك الحديث وقال ابن معين ليس بثقة وقال البخاري في حديثه مناكير وقال النسائي ليس بثقة ت ت 4/ 276. درجة الحديث ضعيف. (¬5) قال الجصاص الحنفي وعندنا أن ما قذفه البحر ميتاً فليس بطاف وإنما الطافي ما يموت في البحر حتف أنفه. أحكام القرآن للجصاص 1/ 478. وقال البغوي حرم أبو حنيفة جميع حيوانات البحر إلا السمك والصواب أن الكل حلال وإن اختلفت صورها. شرح السنة 11/ 250. (¬6) انظر أحكام القرآن للشارح 2/ 684 - 685.

بكلام الباري سبحانه وتعالى، وتعلق من رأى ذلك بأحاديث لا أصل لها أمثالها ما روى أبو داود عَنْ جَابرٍ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنَّهُ قَالَ: "مَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ أَوْ خَرَجَ عَنْهُ فَكُلُوهُ وَمَا طَفَا فَلَا تَأَكُلُوهُ" (¬1)، وقد ضعَّفه أبو داود، والصحيح ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال في البحر: "هُوَ الطَّهُورَ ماؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ" (¬2) رواه مالك (¬3)، رضي الله عنه، وغيره. وفي الصحيح عَنْ (جَابِرٍ أَنَّهُمْ خَرَجُوا في غَزْوةِ السَّيْفِ (¬4) مَعْ أَبِي عُبَيْدَةَ فَفَنَى زَادُهُمْ عَلَى صِفَةٍ ذَكَرَهَا فَأَلْقَى لَهُمُ الْبَحْرُ حُوتاً يُقَالُ لَهُ الْعَنْبَرُ فَأَكَلُوا منْهُ شَهْراً وَادَّهَنُوا وَشَبِعُوا وَسَمِنِوا وَجَاؤُوا منْهُ بِفَاضِلِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَسَأَلُوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، عَنْ ذلِكَ وَأَهْدَوْا إِلَيْهِ مِنْهُ فَأكَلَهُ) (¬5). ¬

_ (¬1) أبو داود 4/ 166 من طريق يحيى بن سليم الطائفي عن إسماعيل ابن أمية عن أبي الزبير عن جابر ... قال أبو داود: روى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبي الزبير، أوقفوه على جابر. وقد أُسند هذا الحديث أيضاً من وجه ضعيف عن ابن أبي ذيب عن أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورواه ابن ماجه 2/ 1082، والحديث ضُعّف من أجل يحيى بن سليم الطائفي نزيل مكة صدوق سيء الحفظ. مات سنة 193 أو بعدها/ ع ت 2/ 349، وانظر ت ت 11/ 226، والضعفاء للعقيلي 4/ 406، وترتيب الثقات للعجلي ص 468، والحديث فيه عنعنة أبي الزبير أيضاً وقد تقدم الكلام عليه. درجة الحديث: ضعفه أبو داود. والشارح، وقال الدميري: هو حديث ضعيف باتفاق الحافظ لا يجوز الاحتجاج به؛ نقل ذلك محمَّد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على ابن ماجه 2/ 1082، وقال ابن القيم: والحديث إنما ضُعَّف لأن الناس رووه موقوفاً على جابر، وأنفرد برفعه يحيى بن أبي سليم وهو مع سوء حفظه قد خالف الثقات وانفرد عنهم، ومثل هذا لا يحتج به أهل الحديث فهذا هو الذي أراد أبو داود وغيره من تضعيف الحديث. تهذيب السنن بهامش معالم السنن 5/ 325. (¬2) تقدم. (¬3) الموطأ 1/ 22. (¬4) هو بكسر المهملة وسكون التحتانية وآخره فاء أي ساحل البحر. فتح الباري 8/ 87. (¬5) متفق عليه. البخاري في الشركة في الطعام من طريق وهب بن كيسان عن جابر 3/ 180، وفي الغزوات باب غزوة سيف البحر عن وهب أيضاً وعن عمرو بن دينار كلاهما عن جابر 5/ 210 - 211، ومسلم في الصيد والذبائح باب إباحة ميتات البحر من طريق أبي الزبير عن جابر 3/ 1535، والموطأ 2/ 930.

كتاب الضحايا

كتاب الضحايا اختلف العلماء، رضي الله عنهم، في الأضحية؛ فمنهم من قال إنها واجبة وهو (ح) (¬1)، ومنهم من قال إنها سنة وهو (ش) (¬2). فأما علماؤنا فقال مالك، رضي الله عنه، إنها سنة مستحبَّة في الموطأ (¬3)، وقال محمَّد بن الموازهي (¬4) واجبة، وقال ابن القاسم (¬5): من اشتراها ثم تركها حتى مضت أيام الأضحى فقد أثم؛ فكأنه أوجبها بالشراء، ومال ابن حبيب (¬6) إلى الوجوب، وقد سئل عبد الله بن عمر عن الأضحية أواجبة هي أم لا؟ فقال: (ضَحَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَضَحَّى الْمُسْلِمُونَ) (¬7) وأبى أن يجيب فيها ¬

_ (¬1) انظر شرح فتح القدير لأبن الهمام 7/ 67. (¬2) انظر روضة الطالبين للنووي 3/ 192. (¬3) الموطأ 2/ 487. (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) تقدم. (¬6) عبد الملك بن حبيب الأندلسي، أبو مروان، الفقيه المشهور، صدوق ضعيف الحفظ كثير الغلط من كبار العاشرة. مات سنة 239. ت 1/ 518، وانظر الديباج المذهب 2/ 8، وجذوة المقتبس ص 263 - 265 - ترتيب المدارك 3/ 30 - 48، تذكرة الحفاظ 2/ 537 - 538، بغية الوعاة ص 312، نفح الطيب 1/ 331 - 332، ت ت 6/ 390. (¬7) رواه الترمذي من طريق الحجاج بن أرطأة عن جبلة بن سحيم أن رجلاً سأل ابن عمر عن الأضحية أواجبة هي .. وقال الترمذي: حسن صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأضحية ليست بواجبة ولكنها سنة من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يُستحب أن يُعمل بها، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك. الترمذي 4/ 92. أقول: ورد في سنن الترمذي حسن صحيح، وورد في الفتح قول الحافظ وللترمذي محسناً من طريق جبلة بن سحيم وساق الحديث، فتح الباري 10/ 3؛ وفي هذا دليل على إقرار الحافظ لتحسين الترمذي وعلى أن قوله في هذه النسخة حسن صحيح ليس بصحيح لأن الحجاج بن أرطاه، أبو أرطأة الكوفي، القاضي أحد الفقهاء صدوق كثير الخطأ والتدليس من السابعة مات سنة 145/ م ع ت1/ 152، وقال في ت ت: قال ابن معين صدوق ليس بالقوي يدلّس، وقال أبو زرعة صدوق يدلس، وكذا قال أبو حاتم وزاد عن الضعفاء, وقال النسائي ليس بالقوي، وقال ابن عدي إنما نقم الناس عليه تدليسه عن الزهري وغيره ربما أخطأ في بعض الروايات، فأما أن يتعمد الكذب فلا وهو ممن يكتب حديثه، وقال يعقوب بن شيبة: واهي الحديث في حديثه اضطراب كثير وقال صدوق، وقال الساجي: كان مدلساً صدوقاً سيء الحفظ ليس بحجة في الفروع، وقال ابن خزيمة لا يحتج به. ت ت 2/ 169، وانظر الضعفاء للعقيلي =

بنفي أو إثبات، واستدل من نزع إلى الوجوب بما روى مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "عَلَى أَهْلِ كِلَّ بَيْتٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ في كُلَّ عَامٍ" (¬1)، والعتيرة هي المذبوحة في رجب. وتعلَّق من نفى الوجوب بحديث يرويه شعبة بن الحجاج عن مالك بن أنس، رضي الله عنه، خرّجه مسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ وَأَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلاَ يَحْلِقْ شَعْراً وَلَا يُقَلِّمَنَّ ظِفْراً حَتَّى يَنْحَرَ أَضْحِيَتَهُ" (¬2). فعلق الأضحية بالإرادة والاختيار والواجبات لا تعلّق بها لأنها ثبتت قسراً في الذمة، والأصل براءة الذمة وفراغ الساحة، وقد تعارضت أدلة الوجوب فلم يبقَ إلا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو محمول على الاستحباب، وقد روى الدارقطني عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "ثَلَاثٌ هِي عَلَيَّ فَرْضٍ وَهِيَ لَكُمْ تَطَوُّعٌ" فذكر الأضحى (¬3). وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان (يُضَحَّي بِكَبْشَيْنِ أمْلَحَيْنِ سَمِينَيْنِ) (¬4)، وقال أبو داود ¬

_ = 1/ 277، والكامل لابن عدي 2/ 641. درجة الحديث: حسن لغيره. (¬1) هذا العزو لمسلم ليس بصحيح وإنما هو في سنن أبي داود 3/ 226، وقال: العتيرة منسوخة، هذا خبر منسوخ، والترمذي 4/ 99 وقال حسن غريب، والنسائي 7/ 167، وابن ماجه 2/ 1045، وأحمد انظر الفتح الرباني 13/ 116، والبيهقي 9/ 260 كلهم من طريق أبِي رَمْلَةَ عَنْ مِخْنِفِ بْنِ سَلِيمٍ أنَّهُ شَهَدَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، يِخْطُبُ يَوْمَ عَرَفَةَ قَالَ: عَلَى أَهْلِ كُلَّ بَيْتٍ في كُلّ عَامٍ أضْحِيَةٌ وَاجِبَةٌ وَعَتيِرَةٌ. درجة الحديث: ضعيف لجهالة أبي رملة. قال الزيلعي قال عبد الحق إسناده ضعيف، قال ابن القطان وعلتَّه الجهل بحال أبي رملة واسمه عامر فإنه لا يعرف إلا بهذا الحديث يرويه عن ابن عون. نصب الراية 4/ 211، وانظر ت ت 5/ 84، الكاشف 2/ 58 وقد ضعف الحديث الشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة 2/ 466، وقال الحافظ استدل من قال بالوجوب بما ورد في حديث مخنف .. ولا حجة فيه لأن الصيغة ليست صريحة في الوجوب المطلق وقد ذكر معها العتيرة وليست بواجبة عند من قال بوجوب الأضحية. فتح الباري 10/ 4. (¬2) مسلم في كتاب الأضاحي باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره وأظفاره شيئاً. من طريق سعيد بن المسيب عن أم سلمة 3/ 1565، وأبو داود 3/ 228، والترمذي 4/ 102، والنسائي 7/ 211، وابن ماجه 2/ 1052، والدارقطني 4/ 278. (¬3) سنن الدارقطني 4/ 282، والبيهقي 9/ 264 كلاهما من طريق جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس، والحديث فيه جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي، أبو عبد الله الكوفي، ضعيف رافضي من الخامسة. مات سنة 127 هـ وقيل سنة 132 هـ،/ د ت ق. ت 1/ 123، وانظر ت ت 2/ 46، والضعفاء للعقيلي 1/ 191، والكامل لابن عدي 2/ 537. وساق الحديث في ترجمته، وقال الزيلعي: قال صاحب التنقيح وروي من طرق أخرى وهو ضعيف على كل حال. نصب الراية 4/ 206. درجة الحديث: ضعيف. (¬4) متفق عليه. البخاري في الأضاحي باب التكبير عند الذبح 7/ 133 وفي باب أضحية النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بكبشين =

مُوجِبَيْنِ (¬1) (¬2). وروى مالك في الموطأ وغيره (ضَحَّى رَسُولُ اللِه - صلى الله عليه وسلم -، بِكَبْشٍ أَقْرَنٍ فَحْلٍ يَنْظُرُ في سَوَادٍ وَيَبْرُكُ في سَوَادٍ وَيَطَأُ في سَوَادٍ" (¬3)، وروى الترمذي وغيره (مَا عَمَلَ ابْنُ آدَمَ مِنْ عَمَلٍ يَوْمِ النَّحْرِ أَفْضَل مِنْ إِرَاقَةِ دَمٍ إِنَّهَا لَتَأْتِي بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ الدَّمُ لَيَقَعُ مِنَ الله بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يقَعَ في الْأَرْضِ) (¬4)، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , أنه قال (وَلَا فَرْعٍ وَلاَ عَتِيرَةٍ) (¬5) رواه البخاري. وقال العلماء. العتيرة التي نهى عنها هي ¬

_ = أقرنين 7/ 133، وفي باب من ذبح الأضاحي بيده 7/ 131، ومسلم في الأضاحي باب استحباب الضحية 3/ 1556 - 1557 كلاهما عن أنس. (¬1) أي منزوعي الأنثيين، والوجاء: الخصاء. تهذيب السنن 4/ 101. (¬2) رواه أبو داود عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ عَنْ يَزيد بْنِ أبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله قَالَ: ذَبَحَ النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، يَوْمَ الذَّبْحِ كَبْشيْنِ أقْرَنَيْنِ أمْلَحَيْنِ مُوجِبَيْنِ .. أبو داود 3/ 231، ورواه ابن ماجه 2/ 1043، وأحمد انظر الفتح الرباني 13/ 62. والحديث فيه أبو عياش بن النعمان المعافري المصري، مقبول من الثالثة/ د ق. ت 2/ 458، وقال في ت ت 12/ 194 قال الحاكم أبو أحمد لا أعرف اسمه روى حديث جابر بن عبد الله في الأضحية. وقال الحافظ في التلخيص 4/ 158 لا يعرف. وفيه أيضاً محمَّد بن إسحاق بن يسار وقد تقدم. درجة الحديث: ضعيف. (¬3) مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ضَحَّى مَرَّةً بِالْمَدِينَةِ قَالَ نَافِعٌ: فَأمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ لَهُ كَبْشاً فَحِيلاً أَقْرَنَ ثُمَّ أَذْبَحهُ يَوْمَ الأَضْحَى في مُصَلَّى النَّاسِ .. الموطأ 2/ 483. وهذا كما ترى موقوف، وقد روي مرفوعاً إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، من حديث أبي سعيد، قال: كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "يُضَحِّي بِكَبْشٍ أَقْرَن فَحِيلٍ يَنْظُرُ في سَوَادٍ وَيأْكُلُ في سَوَادٍ وَيَمْشِي في سَوَادٍ) أبو داود 3/ 231، والترمذي 4/ 85 وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حفص بن غياث، والنسائي 7/ 221، وابن ماجه 2/ 1046، وله شاهد في صحيح مسلم في الأضاحي باب استحباب الأضحية من حديث عائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، أَمَرَ بِكَبْشٍ أَقْرَن يَطَأُ في سَوَادٍ وَيَبْرُك في سَوَادٍ وَيَنْظُرُ في سَوَادٍ ... مسلم 3/ 1557. درجة الحديث: صحيح. (¬4) سنن الترمذي 4/ 83 من طريق أبي المثني عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث هشام بن عروة إلا من هذا الوجه. ورواه ابن ماجه 2/ 1045، وشرح السنة 4/ 342 والحديث فيه أبو المثنّى الخزاعي اسمه سليمان بن يزيد ضعيف من السادسة/ ت ق. ت 2/ 469، وقال في ت ت 12/ 221 قال أبو حاتم: منكر الحديث ليس بقوي، وذكره ابن حبان في الثقات وفي الضعفاء وقال شيخ يخالف الثقات في الروايات لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا للاعتبار. درجة الحديث: ضعيف. (¬5) متفق عليه. البخاري في العقيقة باب العتيرة 7/ 110، ومسلم في الأضاحي باب الفرع والعتيرة 3/ 1564 كلاهما عن أبي هُرَيْرَةَ.

باب ما يستحب من الضحايا

التي كانت تذبح للآلهة (¬1)، وقد روى أبو داود والنسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال، وقد سئل عن ذبح الجاهلية: "اذْبَحُوا في أَيَّ شَهْرٍ كَانَ وَأطْعِمُوهُ" (¬2) فالذي يتحصّل من هذا كله أنها سنّة مؤكَّدة إذ تركَها جماعةٌ من الصحابة مع القدرة عليها مع عموم حالها واشتهار فعلها وتعلق قلوب الخلق بها, ولو كانت واجبة لما تركها أحد منهم (¬3). باب ما يستحب من الضحايا ولا استحباب فوق ما فعله النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ولا اختيار فوق اختياره، وقد اختار الأقرن الكحيل المسود الأطراف، كما اختار في الخيل (المبيض الاطراف) (¬4). فأفضل الأضحية الكبش الأقرن الأسحل المسود الأطراف السمين، وذلك أصح من رواية أبي داود والنسائي في الموجبين فإن الوجاء نقص، وقد اختلف العلماء فيه؛ فمن أغرب ما روي عن مالك، رضي الله عنه (أَنَّ الْخَصِيَّ أوْلَى مِنَ الْفَحْلِ) (¬5). وقال علماؤنا: لأنه أسمن، قلنا: ولكنه ليس بأكمل، وقال مالك، رضي الله عنه، في المبسوط: الذكر والأنثى سواء، يعني في الإجزاء فأما في الفضل فالذكر أفضل وأطيب. " باب ما يُتَّقى من الضحايا" فيه حديث البراء المشهور (الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ ¬

_ (¬1) قال الخطابي: العتيرة النسيكة التي تعتر أي: تذبح، وكانوا يذبحونها في شهر رجب ويسمونها الرجبية. معالم السنن مع تهذيب السنن 4/ 222. (¬2) أبو داود 3/ 255، والنسائي 7/ 169، وابن ماجه 2/ 1057 - 1058، والطحاوي في المشكل 1/ 465، وأحمد انظر الفتح الرباني 13/ كلهم من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي المليح قال قال نبيشة: نادى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... درجة الحديث: قال النووي: رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة، قال ابن المنذر وهو حديث صحيح. المجموع للنووي 8/ 444. (¬3) نقل الشوكاني عن النووي أنه قال: من قال بسنيتها أبو بكر وعمر وبلال وأبو مسعود البدري، وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وعطاء ومالك وأحمد وأبو يوسف وإسحاق وأبو ثور والمزني وابن المنذر وداود وغيرهم، نيل الأوطار 5/ 126. (¬4) تقدم. (¬5) لم أطلّع على هذا الرأي لمالك في الموطأ ولا المدوَّنة، ويقول ابن عبد البر عند مالك فحول الضأن ثم خصيانها ثم إناثها، ثم فحول المعز ثم خصيانها ثم إناثها ثم البقر والإبل. الكافي 1/ 421.

مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لاَ تُنْقِي) (¬1)، وقد اختلف العلماء في هذا الحديث فقال ابن الجلاب (¬2) والقاضي أبو الحسن (¬3) بن القصار: هذه العيوب لا تجزئ في الضحايا وما سواها يجزئ وهذا قول غريب، ولا أعجب ممن يلحق بالأعيان الأربعة في الربا البر والشعير والتمر والملح كل مقتات، ولا يلحق بهذه العيوب الأربعة كل عيب؛ إذ يَفهم من هذا الحديث أن المقصود منه السلامة من العيوب الظاهرة البيِّنة دون اليسير الخفي، وقد روى أبو داود وغيره عن عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ الله (¬4) السَّلَمِي أَنَّ الْنَّبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم - (نَهَى أَنْ يُضَحَّى بالمُصْفَرَّةِ وَالْمُتَأصَّلَةِ وَالْبَخْقَاءِ وَالمُشِيعَةِ) (¬5)، وفي حديث علي، رضي الله عنه قال: ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 482 عَنْ عُبَيْدِ بْنِ فَيْرُوزٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أن رَسُولَ اللِه، - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ مَا يُتَّقَى مِنَ الضَّحَايَا ... وفي إسناده انقطاع، وقد وصله أبو داود 3/ 235 - 236، والترمذي 4/ 86 وقال: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبيد بن فيروز عن البراء والعمل على هذا عند أهل العلم، والنسائي 7/ 214، وابن ماجه 2/ 1050، وأحمد انظر الفتح الرباني 13/ 80، والحاكم 4/ 223. درجة الحديث: قال فيه الترمذي حسن صحيح، وقال النووي في شرح المهذب حديث البراء، رضي الله عنه، صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم بأسانيد حسنة، قال أحمد بن حنبل ما أحسنه من حديث، وقال الترمذي: حسن صحيح، المجموع 8/ 399. (¬2) هو عبيد الله بن الحسن أبو القاسم بن الجلاب، ويقال ابن الحسين بن الحسن. تفقه بالأبهري وغيره وله كتاب في مسائل الخلاف وكتاب التفريع في المذهب. توفي منصرفه من الحج سنة 378 هـ، الديباج 1/ 461، شجرة النور الزكية 1/ 92. (¬3) هو علي بن عمر المعروف بابن القصار، تفقه بأبي بكر الأبهري وله كتاب في مسائل الخلاف كبير لا أعرف لهم كتاباً في الخلاف أحسن منه. طبقات الفقهاء للشيرازي ص 169، الديباج 1/ 100 وفيه توفي سنة 398 هـ، ترتيب المدارك 4/ 602، شجرة النور 1/ 92. (¬4) اختلف في اسم أبيه وجزم الحافظ بأنه ابن عبد؛ فقد قال عتبة بن عبد السلمي، أبو الوليد صحابي شهير، أول مشاهده قريظة. مات 87 هـ ويقال بعد 90، وقد قارب المائة/ د ق. ت 2/ 5، وقال في الإصابة: قال البخاري ويقال ابن عبد الله ولا يصح، وجزم ابن حبان بأن عتبة بن عبد الله السلمي أبو الوليد كان اسمه عتلة ... ويقال نشبة .. فغيَّره النبي، - صلى الله عليه وسلم - .. إلى عتبة بن عبد. الإصابة 2/ 454 ت ت 7/ 98. أقول: كل الكتب التي أخرجت الحديث قالوا عتبة بن عبد، كما سيأتي. (¬5) أبو داود 3/ 236، وأحمد انظر الفتح الرباني 13/ 78 - 79، والحاكم في المستدرك 4/ 225 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وفيه أبو حميد الرعيني مجهول من السادسة/ د. ت 2/ 414، وقال في ت ت: شامي روى عن يزيد ذي مصر وعنه ثور بن يزيد الحمصي. قلت: قال ابن حزم هو وشيخه مجهولان. ت ت 12/ 79 وفيه أيضاً يزيد: ذو مِصْر، بكسر الميم وسكون المهملة، المَقْرائِي، بفتح الميم وسكون القاف وفتح الراء بعدها همزة، الحمصي، مقبول من الثالثة/ د. ت 2/ 373، وقال في ت ت: ذكره ابن حبان في الثقات وقال: وقع في المحلى من طريق أبي جميل الرعيني عن أبي مضر بهذا الحديث فقال وهما مجهولان فصحَّف ذي مصر. ت ت 11/ 375. درجة الحديث: ضعيف.

(أَمَرَنَا رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، أَنْ نَسْتَشْرِفَ الْعَيْنَ وَالأذُنَ وَلَا نُضَحَّي بِخَرْقاءٍ وَلَا بِشَرْقَاءٍ وَلَا مُقَابَلَةً وَلاَ مُدَابِرَةً) (¬1) وقال فيه أيضاً (وَلاَ بَعَضْبَاءِ الْقَرَنِ وَالأُذُنِ) (¬2). فالخرقاء: التي خرق أذنها. والشرقاء: المقطوعة الأُذن، والمقابلة: ما كان من ذلك أمام، والمدابرة ما كان من خلف، والعضباء المكسورة القرن، والمصفرة المريضة، والمستأصلة التي ذهب قرنها، والبخقاء التي طمس عينها، والمشيعة التي هزلت حتى تمشي في آخر الغنم. وفي هذا التفسير اختلاف كثير والإشارة إليه ما قلناه، والعيوب إنما تكون في البدن كله فالمرض يجمعها، أو في الأطراف وهي الرجل والذنب والأُذن والقرن. فأما الرجل فقد وقع عليه النص في الحديث، وأما العين فكذلك أيضاً، وأما الأذن فما وقع في حديث علي وغيره فيها نقص الجمال ولا ينقص الطيب ولا القدر، وأما القرن فلا اختلاف بين العلماء أن الأجم يجزىء لكن القرن زيادة جمال وقدّر بخلاف أن يكون كسيراً فإنه يذهب الجمال فيجزىء حينئذ، فإن أدمى كان مرضاً لا يجزىء. وكذلك قال علماؤنا: وأما الذنب فإن نقص منه أقل من الثلث أجزأ، فإن نقص منه الثلث ففي كتاب محمد (¬3) النصف كثير، فجاء من هذا أن الثلث قليل، وعند ابن حبيب (¬4)، وأهل الرأي (¬5) أن الثلث كثير ولا سيما ¬

_ (¬1) أبو داود 3/ 237، والترمذي 4/ 86 وقال: حسن صحيح، والنسائي 7/ 216، وابن ماجه 2/ 1050، وأحمد انظر الفتح الرباني 13/ 77، والحاكم 4/ 222 وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وشرح السنة 4/ 337. درجة الحديث: صححه الترمذي والحاكم والذهبي. (¬2) أبو داود 3/ 238، والترمذي 4/ 90 وقال: حسن صحيح، والنسائي 7/ 217، وابن ماجه 2/ 1051، وأحمد انظر الفتح الرباني 13/ 77، والحاكم في المستدرك 4/ 224 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. أقول: الحديث فيه جري تصغير جرو بن كليب السدوسي بصري عن علي بن أبي طالب مقبول من الثالثة/ ع ت 1/ 128، وقال في ت ت: قال ابن المديني: مجهول ما روى عنه غير قتادة، وقال أبو حاتم: شيخ لا يحتج بحديثه، وذكره ابن حبان في الثقات، وثَّقه العجلي وصحح حديثه، الترمذي ت ت 2/ 78. درجة الحديث: ضعيف لا كما ذهب إليه الترمذي. (¬3) محمَّد بن المواز تقدمت ترجمته. (¬4) تقدم (¬5) قال في مجمع الأنهر: وفي ذهاب النصف روايتان وتجوز إن ذهب أقل منه، أي من النصف، وقيل إن ذهب أكثر من الثلث لا تجوز. مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر: 2/ 520.

وقت الأضحية

في أذناب غنم المشرق فإنها هي المقصودة من الحيوان؛ إذ سمن الغنم كلها، في تلك البلاد، في أذنابها, ولذتها في تلك الشحوم حتى ترى الشاة لا تستطيع المشي لعظم ذنبها. فبهذا المعنى راعى العلماء الذنب وتكلَّموا عليه، فأما بلادنا فلو عدم الذنب كله ما أثَّر إلا في الجمال خاصة. ووقع في الموطأ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ (أَنَّهُ كَانَ يَتَّقِي فِي الضَّحَايَا وَالْبُدُنِ الَّتي لَمْ تُسنّ) (¬1). وفي التأويلات أصحها ما لم تبلغ السن الذي يجزىء في الأضحية، وذلك الجذع من الضأن وهو ما دخل في السنة الثانية، والثني من المعز وهو ما دخل في السنة الثالثة لقول النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لأبي بردة: "تُجْزِيكَ وَلَا تُجْزِي لِأحَدٍ مِنْ بَعْدِكَ" (¬2). وجاء في الحديث أنه ضحَّى (¬3) بعتود، وولد الغنم ساعة ما يولد سخلة ثم يقوى فيكون بهيمة ثم يزداد فيكون جفراً ثم يستقل فيكون عتوداً. وقت الأضحية: من أعجب ما ورد في ذلك قول (ش): إنه يجوز الذبح قبل صلاة الإِمام (¬4) مع أن النصّ في ذلك من كل طريق وعند كل فريق ولو لم يكن إلا حديث أبي بردة ابن نيار قال له النبي, - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذبح قبل الصلاة: "تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ" وأمره أن يعيد، وكذلك القديم (¬5) ابن أشقر، والأمر أقوى من ذلك وأشهر. فأما ما عدا اليوم الأول فإن العلماء اختلفوا في ذلك ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 482 مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ كَانَ (يَتَّقِي مِنَ الضَّحَايَا وَالْبُدُنِ الَّتِي لَمْ تُسِنّ). درجة الأثر: صحيح. (¬2) متفق عليه. البخاري في العيد باب التكبير للعيد 2/ 24، وفي باب سنة العيدين لأهل الإِسلام 2/ 20، وفي باب الأكل يوم النحر 2/ 21، وفي باب الخطبة بعد العيد 2/ 23 وغير ذلك، ومسلم في الأضاحي باب وقتها 2/ 1552 - 1554 بعدة روايات عن البراء بن عازب. (¬3) متفق عليه. البخاري في الشركة باب قسمة الغنم والعدل فيها 3/ 184، وفي الأضاحي باب أضحية النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بكبشين أقرنين 7/ 131، ومسلم في الأضاحي باب سن الأضحية 3/ 1556 كلاهما من حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، رَضِيَ الله عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيّ، - صلى الله عليه وسلم -، أَعْطَاهُ غَنَماً يُقْسِمُهَا عَلَى صَحَابَتِهِ ضَحَايَا فَبَقِيَ عَتود فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيّ، - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: ضَحِّ أَنْتَ بِهِ. (¬4) انظر المجموع للنووي 8/ 389. (¬5) في (ك) و (م) و (ص): تقويم من اشقر، والعبارة غير واضحة لدي ولم أجد في الصحابة من يقارب هذا إلا قرة بن اشتر الجذامي ثم الضبابي الغفاري. ذكره ابن إسحاق فيمن كان مع زيد بن حارثة في غزوة =

الشركة في الضحايا

اختلافاً كثيراً؛ فمنهم من قال: لا تذبح في اليوم الثاني إلا وقت الذبح في اليوم الأول، ومنهم من قال: يذبح بعد طلوع الفجر، واختاره أصبغ (¬1). والأول عندي أولى لأن اليوم الثاني لاحق للأول في صفته فيلحق به في وقته، ومنهم من قال لا تجزىء الأضحية ولا الهدي ليلاً، واختاره (¬2) مالك، رضي الله عنه. وروى ابن القصار (¬3) عنه أنه يجزىء وينبني هذا الخلاف على قوله تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (¬4). ونحن ممن يقول: إن الأيام لفظ ينطلق على الليل (¬5) والنهار ولكن جرت السنة بالذبح نهاراً، وقال أشهب (¬6): يجزىء بالليل الهدي دون الأضحية لأن الله ذكر في الهدي الأيام، وهي مشتملة على الليل والنهار كافة كما تقدم، وجرى العمل في الأضحية بذبحها نهاراً، وخذوا من هذا نكته بديعة وذلك أن كل قربة تكون مختصة بالمتقرِّب فهي جائزة ليلاً ونهاراً وأفضلها الليل، وكل قربة تتعدى إلى الغير، وخصوصاً الصدقة، فإنها لا تفعل ليلاً إنما تفعل نهاراً حيث ينتشر المحتاج ولو لم يكن في ذلك إلا قصة أصحاب الجنة {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (¬7). الشركة في الضحايا: ذكر مالك رضي الله عنه في الباب حديث جابر بن عبد الله في الاشتراك في ذلك (¬8) ¬

_ = بني جذام، من أرض جشمى. وذكر أيضاً فيمن أسلم من بني الضبيب، وذكر أنه قاتل الرهط الذين خرجوا على دحية الكلبي وكان فيهم النعمان بن أبي جعال فرماه قرة فأصاب ركبته وقال: خذها وأنا ابن ليثى. قال الرشاطي: ضبط عن ابن إسحاق بالضاد والزاي المعجمتين، وذكره ابن حبان بالصاد والراء المهملتين. الإصابة 3/ 332. (¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) قال النووي: مذهبنا جواز الذبح ليلاً ونهاراً في هذه الأيام. لكن يكره ليلًا. وبه قال أبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور والجمهور وهو الأصح عن أحمد، وقال مالك: لا يجزيه الذبح ليلاً بل يكون شاة لحم وهي رواية عن أحمد، المجموع 8/ 391، وانظر أحكام القرآن للرازي 1/ 176، وأحكام القرآن للشارح 1/ 140، مختصر ابن كثير 1/ 183، وبداية المجتهد 1/ 437. (¬3) تقدم. (¬4) كذا ورد في جميع النسخ والصواب {وَاذْكُرُوا اللَّه فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} البقرة آية 203. (¬5) انظر الأحكام له 1/ 141. (¬6) تقدمت ترجمته. (¬7) سورة القلم آية 17 - 18. (¬8) الموطأ 2/ 486، ولفظه عنه قال (نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، عَامَ الْحُدَيْبِيَّةِ الْبُدْنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ =

وهو محمول على التطوع (¬1) إلا أن يكونوا أهل بيت فان الشاة الواحدة تجزي عنهم ألا ترى إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (عَلَي أَهْلِ كُلَّ بَيْتٍ أُضْحَاةٌ) (¬2) وإلى حديث أبي أيوب: "كُنَّا نُضَحَّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ) (¬3)، واشتراك أهل البيت في ذلك رخصة ورفق؛ فأما اشتراك الأجانب فلا يكون في إقامة السنن وإنما يكون في النوافل وقد روى مسلم عن جابر (نحَرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، عَنْ نِسَائِهِ وَذَبَحَ) (¬4) وإنما فعل ذلك إما بأن أدخلهم في أهل البيت وهم منه، وإما بأنه كان في التطوُّع لا في الفرائض والسنن, وإنما يكون الذبح عن الموجود لا عن المعدوم والحمل في حيِّز العدم حتى يثبت وجوده بالولادة إلا أنه إن ولد في اليوم الثالث شرعت له الأضحية لأنه زمانها (¬5)، فأما إذا كان في البطن فلا يذكر في أهل البيت ولا يفرد بضحية عنهم (¬6). حديث: (كَانَ النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، قَدْ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الضَّحَايَا بَعْدَ (¬7) ثَلاثٍ)، ثم ¬

_ = سَبْعَةٍ)، ورواه مسلم في الحج باب الاشتراك في الهدي .. 2/ 955، وأبو داود 3/ 240، والنسائي 7/ 222 من طريق أخرى عن عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كُنَّا نِتَمَتَّعُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَنَشْتَرِكُ فِيهَا، وسنده صحيح، أي حديث النسائي. (¬1) تقدم. (¬2) الموطأ 2/ 486، والترمذي 3/ 31 وقال: حسن صحيح، وابن ماجه 2/ 1051، والبيهقي 9/ 268 من طريق عمارة بن عبد الله بن صياد عن عطاء بن يسار أخبره أن أبا أيوب. درجة الحديث: صححه الترمذي. (¬3) مسلم في الحج باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -2/ 886، وأبو داود 2/ 455. وابن ماجه 2/ 1022. (¬4) أما الذبح فقد ورد في رواية أخرى عن جابر بلفظ: كُنَّا نَتَمَتَّعُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَنَذْبَحُ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ نَشْتَركُ فِيهَا .. مسلم في الأضاحي باب الاشتراك في الهدي، 2/ 956، وفي رواية أخرى عَنْ جَابِرٍ قَالَ: ذَبَحَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، عَنْ عَائِشَةَ بَقَرَةً يَوْمَ النَّحْرِ. (¬5) قال الباجي: قال ابن حبيب: مَنْ ولِدَ له مولود في أيام النحر وقد ضحى أو لم يضح فعليه أن يضحي عنه. قال: ووجه ذلك أن وقت لزوم الأضحية هو وقت أدائها، وهو إلى غروب الشمس من آخر ثاني أيام التشريق، فمن ولدَ لَه مولود في ذلك الوقت، أو أسلم من المشركين في ذلك الوقت، ثبت في حقه حكم الأضحية. المنتقى 3/ 100. (¬6) قال الباجي: لم يضحّ عما في بطن المرأة لأنه ليس له حكم الحي حتى يستهل صارخاً بعد الولادة، ألا ترى أنه لا يرث ولا يورث ولا يحكم له بحكم الوصية والأضحية من أحكام الحي؟ .. المنتقى 3/ 100. (¬7) الموطأ 2/ 484، ومسلم في الأضاحي باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة في أول الإِسلام، وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء 3/ 1562، وأحمد أنظر الفتح الرباني 13/ 106، كلهم من حديث جابر بن عبد الله.

قال، - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ عَلَيْكُمْ فَكُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَادَّخِرُوا (¬1)، وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الأنْتِبَاذِ فَانْتَبِذُوا وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا وَلاَ تَقُولُوا هُجْراً (¬2) " وهذا أبيَن ما يكون من النسخ وأوضحه لاجتماع شروط النسخ الخمسة فيه (¬3). واختلف علماؤنا في قوله: (وَتَصَدَّقُوا) هل هو واجب أو مستحب؟؟ فمنهم من قال: إنه واجب لأنه أمر بقربة، ومنهم من قال: إنه مستحب وهو الصحيح لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، كان نهاهم من أجل المحتاجين فلما زالت الحاجة زال الحكم، وهو الوجوب بالصدقة، وبقي الاستحباب في أهل التصدق على حاله (¬4)، وقد روى الترمذي عن علي، رضي الله عنه، أنه قال: "أوْصَانِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، أنْ أُضَحيَ عَنْهُ" (¬5)، فعلى هذا يُستحب للرجل أن يضحي عن وليّه في وقت الأضحية، كما يستحب أن يحج عنه في وقت الحج، وأن يتصدَّق عنه في كل وقت؛ فإن منفعة فعل الحي عن الميت تصل إليه باتفاق من الأمة، وإن كان في تفصيل ذلك اختلاف، والصحيح عندي أنه يصل إليه كل عمل (¬6)، وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) مسلم من حديث عائشة تحت الترجمة السابقة 3/ 1561، وأحمد أنظر الفتح الرباني 13/ 101 - 102، والموطأ 2/ 484 - 485. (¬2) أما قوله ونهيتكم عن الانتباذ إلى آخره فهذا من حديث أبي سعيد الخدري .. الموطأ 2/ 485، والبخاري في كتاب المغازي باب حدثني خليفة 5/ 68 - 69 وفي الأضاحي باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي ويتزوَّد منها 7/ 89 , والنسائي 7/ 233 - 234. (¬3) أنظر الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار ص 155 - 158. (¬4) قال الباجي: أما قوله: (فَتَصَدَّقُوا) فعلى الاستحباب دون الوجوب، قاله القاضي أبو محمَّد لأنه لا خلاف اليوم بين الفقهاء في ذلك. المنتقى 3/ 94. (¬5) الترمذي 4/ 84 وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث شريك، وأبو داود 3/ 228، وأحمد في المسند. انظر الفتح الرباني 13/ 110، ورواه عبد الله في زوائده على أبيه. الفتح الرباني 13/ 109 وكلهم من طريق شريك عن أبي الحسناء عن الحكم عن علي، وأبو الحسناء مجهول. قال الترمذي: قال محمَّد (يعني البخاري) قال علي بن المديني: وقد رواه غير شريك قلت له أبو الحسناء ما اسمه فلم يعرفه، قال مسلم اسمه الحسن. الترمذي 4/ 85، وقال الحافظ قيل اسمه الحسن وقيل الحسين مجهول ت 2/ 412، وانظر ت ت 12/ 74 - 75، وقال الدولابي في الكنى, حدثنا العباس بن محمَّد عن يحيى ابن معين قال أبو الحسناء روى عن شريك والحسن بن صالح، كوفي الكنى ص 151، وقال الهيثمي أبو الحسناء لا يُعرف، روى عنه شريك، مجمع الزوائد 4/ 23 وقال الشارح في العارضة 6/ 290 مجهول. درجة الحديث: ضعيف. (¬6) قال الترمذي: رخَّص بعض أهل العلم أن يُضحّى عن الميت ولم يرَ بعضهم أن يُضحى عنه، وقال عبد الله بن المبارك: أحب إليّ أن يُتَصَدَّقَ عنه ولا يُضحى عنه، وإن ضحى فلا يأكل منها شيئاً ويُتصدق بها =

باب العقيقة

باب العقيقة قال مالك، رضي الله عنه: سُئِلَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: (لاَ أُحِبُّ الْعُقُوقَ (¬1) وَكَأَنَّهُ كَرِهَ الاسْمَ)، وأدخل مالك، رضي الله عنه، هذا الحديث مقطوعاً مجهولاً. وفي صحيح البخاري أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال: "مَعِ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِقُوا عَنْهُ دَماً وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى" (¬2)، وقال النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في العقيقة: "عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ مُتَكَافِئَتَانِ ¬

_ = كلها. سنن الترمذي 4/ 85. وقال الشارح: الصدقة والأضحية سواء في الأجر عن الميت، وإنما قال: لا يأكل منها شيئاً لأن الذبائح لم يتقرب بها عن نفسه وإنما تقرَّب بها عن غيره فلم يجز له أن يأكل من حق الغير شيئاً، عارضة الأحوذي 6/ 290 - 291. (¬1) الموطأ 2/ 500 عن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي ضُمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ أنَّهُ سُئِلَ رَسُول الله، - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: (لا أُحبُّ الْعُقُوقَ وَكَأَنَّهُ كَرِهَ الاسْمَ ..) قال ابن عبد البر: ولا أعلم معنى هذا الحديث روي عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إلا من هذا الوجه، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه أبو داود والنسائي. شرح الزرقاني 3/ 97، ورواه أبو داود من رواية عَمْرو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، عَنِ الْعَقِيقَةِ فَقَالَ: لَا يُحِبُّ الله الْعُقُوقَ .. أبو داود 3/ 262، والنسائي 7/ 162 - 163، وأحمد انظر الفتح الرباني 13/ 112 - 114 مطولاً، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 330. درجة الحديث: قال فيه الشيخ البنا: سنده جيد، وقال الشيخ ناصر: إسناده حسن، مشكاة المصابيح 2/ 1209، وكذلك شعيب الأرناؤوطي في تعليقه على شرح السنة 11/ 264. (¬2) البخاري في العقيقة باب إماطة الأذى عن الصبي في العقيقة 7/ 109 من حديث سلمان بن عامر الضبي معلقاً، وأبو داود من طريق حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر الضبي قال .. أبو داود 3/ 261، والترمذي 4/ 97 من نفس الطريق ومن طريق أخرى عن عبد الرزاق عن ابن عيينة عن عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، مثله، وقال: حسن صحيح، والنسائي من طريق حماد بن سلمة قال: حدثنا أيوب وحبيب ويونس وقتادة عن محمَّد بن سيرين عن سلمان بن عامر الضبي .. النسائي 7/ 164، والحاكم 4/ 238، وابن ماجه 2/ 1056، من طريق هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن سلمان بن عامر .. ومن نفس الطريق رواه عبد الرزاق في المصنف 4/ 329، ومن طريق عطاء عن ابن عون وسعيد عن محمَّد بن سيرين عن سلمان بن عامر، ورواه أحمد انظر الفتح الرباني 13/ 122. قلت: فهذه طرق كثيرة عن جماعة من الثقات رووه عن ابن سيرين عن سلمان بن عامر مرفوعاً وابن =

وَعَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابعِ وَيُحْلَقُ رَأَسُهُ وَيُدْمَى" (1). قال العلماء: قوله: (يُدْمَى) من تصحيف قتادة، وإنما هو (يُسَمَّى) (¬2) لأنه ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى" والأذى من تلطيخ الدم. وفي الصحيحين أنه جيء بابن أبي طلحة إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فسماه وحنَّكه (¬3) ولم يذكر عقيقة، وقد روى النسائي أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ سيرين ثقة لا يسأل عنه فالسند صحيح. وقال الحافظ بعد أن ساق طرقه: وبالجملة فهذه الطرق يقوّي بعضها بعضاً. والحديث مرفوع لا يضره رواية من وقفه: فتح الباري 9/ 592 وصححه أيضاً البغوي في شرح السنة 11/ 263. = (1) أبو داود 3/ 259 من طريق همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، قال: كُلُّ غُلاَمٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقةٍ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابعِ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُدْمَى .. وقال: وهو وهم من همام وإنما قالوا: يُسمّى، فقال همام: يدمى، ورواه الترمذي 4/ 101 والنسائي 7/ 166 وقالا: يسمى بدل يدمى، وابن ماجه 2/ 1056 مثل رواية النسائي، وأحمد 5/ 7 - 8 وقال: قال بهز في حديثه: ويدمى ويسمى و 5/ 17 وفيه ويسمى، وقال همام في حديثه: وراجعناه ويدمى، قال همام: فكان قتادة يصحف الدم فيقول إذا ذبح العقيقة تؤخذ صوفه فتستقبل أوداج الذبيحة ثم توضع على يافوخ الصبي إذا سأل غسل رأسه ثم حلق بعد. المسند 5/ 18، والحاكم في المستدرك 4/ 237 وقال الذهبي: صحيح، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 299. (¬2) قال أبو داود: وهذا وهم من همام ويدمى وقال: خولف همام في هذا الكلام وهو وهم من همام وإنما قالوا يُسمى فقال همام يُدمى، قال أبو داود: وليس يؤخذ بهذا، وقال الحافظ: تعليقاً على كلام أبي داود، قلت: يدل على أنه ضبطها أن في رواية بهز عنه ذكر الأمرين التدمية والتسمية، وفيه أنهم سألوا قتادة عن هيئة التدمية فذكرها لهم فكيف يكون تحريفاً من التسمية وهو يضبط أنه سأل عن كيفية التدمية. تلخيص الحبير 4/ 146، وقال ابن حزم في المحلّى في قول أبي داود وهو وهم من همام قال: بل وهم أبو داود لأن هماماً ثبت، وبين أنهم سألوا قتادة عن صفة التدمية المذكورة فوصفها لهم. المحلّى 7/ 525 وقال ابن عبد البر: يحتمل همام في هذا الذي انفرد به فإن كان حفظه فهو منسوخ. نقلاً عن الفتح الرباني 13/ 128. درجة الحديث: صححه الترمذي والذهبي وعبد الحق كما في التلخيص 4/ 146، وقال الحافظ: وأعلَّ بعضهم الحديث بأنه من رواية الحسن عن سمرة وهو مدلس، لكن روى البخاري في صحيحه من طريق الحسن أنه سمع حديث العقيقة من سمرة كأنه عني هذا. التلخيص 4/ 146. (¬3) متفق عليه. البخاري في العقيقة باب تسمية المولود غداة يولد: 7/ 109، ومسلم في كتاب الآداب باب استحباب تحنيك المولود وحمله إلى صالح يحنّكه وجواز تسميته يوم ولادته 3/ 1690 كلاهما من حديث أنس.

(عَقَّ عَنِ الْحَسَنِ بِكَبْشٍ) (¬1)، وروى الترمذي أنه أَذَّنَ في أُذنه حين وُلِدَ (¬2)، وقال: هذا حديث صحيح فصارت تلك سنّة، ولقد فعلتها بأولادي والله يهب الهدى. وثبت أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أمر فاطمة بحلق شعر رأس بنيها وأن تتصدق بزنته فضة (¬3)، (وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَحْلِقُ رَأْسَ الْمَوْلُود وَتُلَطِّخُهُ بِالدَّمِ فَشَرَّع النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، التَّصَدُّقَ بِزِنَتِهِ فُضَّةً)، وقال العلماء: يُلطخ بالخلوق رأسه (¬4)، وقال علماؤنا، رحمة الله عليهم: العقيقة أخت ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، وهو يوافق رواية أبي داود 3/ 261 - 262 وفيه كبشاً - كبشاً، ورواية النسائي بكبشين، كبشين 7/ 166، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 9/ 299 مثل رواية أبي داود كلهم من حديث ابن عباس، وقال الحافظ: صححه عبد الحق وابن دقيق العيد. التلخيص 4/ 147، وصححه الشيخ ناصر في إرواء الغليل 4/ 379 ونقل ذلك عن عبد الحق الأشبيلي في الأحكام الكبرى له. وصححه أيضاً في تعليقه على المشكاة 2/ 1208. (¬2) سنن الترمذي 4/ 97 وقال: حسن صحيح، ورواه أبو داود 5/ 333، وأحمد انظر الفتح الرباني 13/ 133، والبيهقي 9/ 305، وعبد الرزاق في المصنف 4/ 336، وشرح السنة 11/ 273 كلهم عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه قال: رأَيتُ رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - ... والحديث فيه عاصم بن عبيد الله بن عاصم ابن عمر بن الخطاب العدوي المدني، ضعيف من الرابعة. مات في أول دولة بني العباس سنة 132، ت 1/ 384، وقال في ت ت: قال يعقوب بن شيبة، وأبو حاتم والبخاري: منكر الحديث ت ت 5/ 46، وقال في التلخيص بعد سياقه لهذا الحديث ومداره على عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف. التلخيص 4/ 193، وكذا قال الذهبي في تعقيبه على الحاكم في المستدرك 3/ 179 حيث قال: صحيح الإسناد، فقال: قلت عاصم ضعيف وحسنه الشيخ ناصر في إرواء الغليل 4/ 400. درجة الحديث: والراجح ضعفه. (¬3) الترمذي 4/ 99 من طريق محمَّد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن محمَّد ابن علي بن الحسين عن علي بن أبي طالب وقال حسن غريب، وإسناده ليس بمتصل، وأبو جعفر محمَّد بن علي بن الحسين لم يدرك علي بن أبي طالب. والحاكم 4/ 237 من نفس الطريق، ورواه مالك في الموطأ 2/ 501 مرسلاً، وكذلك أبو داود في المراسيل ص 41 كلاهما عن جعفر بن محمَّد عن أبيه، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 299 وقال في رواية أخرى: عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنه. السنن الكبرى 9/ 304، ومن طريق شريك عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل عن ابن الحسين عن أبي رافع، وقد قال الشيخ ناصر عن الرواية الأخيرة للبيهقي: قلت: وهذا إسناده حسن لولا أن شريكاً، وهو ابن عبد الله القاضي، سيء الحفظ لكنه لم ينفرد به فقد تابعه عبيد الله بن عمرو عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل به عند أحمد 6/ 392 وقال: قلت: وهذه متابعة قوية من عبيد الله هذا وهو الرقي، ثقة محتج به في الصحيحين فثبت الحديث. إرواء الغليل 4/ 403، ورواية الترمذي المتقدمة التي حسّنها وفيها محمَّد بن إسحاق عنعن فيها وهو مدلّس، كما أن فيها انقطاعاً لأن محمَّد بن علي بن الحسين لم يدرك علياً، كما قال الترمذي وابن حجر في ت ت 9/ 350، ولعل من حسنه بناء على كثرة طرقه وعندي أنه حسن لغيره. (¬4) أبو داود من طريق عَبْدِ الله بْنِ بُرَيدة قال: سَمِعْتُ أَبِي بريدة يَقُولُ: كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا وُلِدَ لأِحَدٍ غُلاَمٌ ذَبَحَ =

الأضحية في الصفة والجنس والسلامة، لكن قال مالك، رضي الله عنه: إنما يكون رأس واحد عن الذكر والأنثى لا يفضل في ذلك الذكر (¬1) وتسكر عظامها خلافاً لما كانت تقوله الجاهلية إنها لا يكسر لها عظم (¬2)، وتكلمنا يوماً بالمسجد الأقصى مع شيخنا أبي بكر الفهري (¬3) فقال: إذا ذبح الرجل أضحيته يوم الأضحى (¬4) فعقّ بها عن ولده لم تجزِه؛ لأن المقصود (¬5) في الأضحية إراقة الدم وقد وقع موقعه والمقصود من الوليمة إقامة السنَّةَ بالأكل وقد وجد ذلك الفعل. ¬

_ = شَاةً وَلَطَّخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاء اللهَ بِالْإسْلاَمِ كُنّا نَذْبَحُ شَاة وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطِّخُهُ بِزَعْفَرانٍ. أبو داود 3/ 264، ورواه النسائي بلفظ عق عن الحسن والحسين 7/ 164، وأحمد انظر الفتح الرباني 13/ 122، أقول: الحديث فيه علي بن الحسين بن واقد المروزي صدوق، يهم من العاشرة. مات سنة 221 بخ حق ع. ت 2/ 35. وقال في ت ت: قال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وقال النسائي: ليس به بأس ووثقه ابن حبان ت ت 7/ 308، كما أن فيه الحسين بن واقد المروزي، أبو عبد الله القاضي، ثقة له أوهام من السابعة. مات سنة 155 ويقال 157/ خت م ع. ت 1/ 180، وانظر ت ت 2/ 373. درجة الحديث: صححه الحافظ في التلخيص 4/ 162 ولعله نظر إلي طرقه المتعددة. (¬1) قاله ابن رشد: قال مالك: يعق عن الذكر والأنثى بشاة، وقال الشافعي وأبو ثور وداود وأحمد: يعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان. بداية المجتهد 1/ 371. (¬2) وقال ابن رشد: استحب كسر عظامها لما كانوا في الجاهلية يقطعونها من المفاصل، بداية المجتهد 1/ 372. (¬3) تقدم. (¬4) في (م) أيعق بها عن ولده. (¬5) في (ك) زيادة (مِنَ الْعَقِيقَةِ إرَاقَة الدَّمِ كَمَا هُوَ فِي الأَضْحِيَةِ فَأَمَّا لَوْ ذَبَحَ أَضْحِيَتَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وأَقَامَ بِهَا سُنَّةَ الْوَلِيمَةِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ أَجْزَأَ لأَنَّ الْمَقْصُودَ .......).

القول في الأشربة

القول في الأشربة اتفق العلماء على حِلِّ الأشربة بأجمعها إلا ما كان مسكراً أو كان في شربه ضرر. حرّم الله تعالى الخمر في محكم كتابه، وروى مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "سُئِلَ أَيُتَدَاوَى بِالْخَمْرِ قَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهَا دَاءٌ" (¬1)، واختلف في الخمر هل تطلق على كل شراب مسكر أو مختص بما يعصر من العنب (¬2) وحده؟؟ وإِني لأعجب ممن قال ذلك من الفقهاء (¬3)، ومن سلك من علماء من مضى مع أن الصحابة، رضي الله عنهم، لما حرِّمت عليهم الخمر أراقوها وكسروا دنانها .. وبادروا إلى امتثال الأمر فيها مع انهم لم يكن عندهم بالمدينة عصير عنب وإنما كان جميعه نبيذ تمر، وقد روى المصنفون عن النعمان بن بشير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ مِنَ الْعِنَبِ خَمْراً، وَإِنَّ مِنَ الزَّبِيبِ خَمْراً، وَإِنَّ مِنَ البُرِّ خَمْراً، وَإِنَّ مِنَ الشَّعِيرِ خَمْراً، وَإِنَّ مِنَ العَسَلِ خَمْراً، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ" (¬4). وفي ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب الأشربة باب تحريم التداوي بالخمر 3/ 1573 من حديث علقمة ابن وائل عن أبيه وائل الحضرمي أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، عن الخمر فنهاه. (¬2) في (ك) و (م) الزبيب. (¬3) هذا مذهب أهل العراق أبو حنيفة وغيره، قالوا: المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السُّكْر نفسه لا العين، بداية المجتهد 1/ 371، وانظر شرح فتح القدير لابن الهمام 10/ 88، وأحكام القرآن للجصاص 2/ 185 وقد بالغ في الانتصار لمذهبه جداً كما بالغ الشارح في الأحكام 3/ 1153 في الرد على الأحناف. (¬4) أبو داود 4/ 83، والترمذي 4/ 297 وقال: غريب، وابن ماجه 2/ 1121، وأحمد في المسند 4/ 267، وفي مسنده: إبراهيم بن المهاجر البجلي الكوفي صدوق لين الحديث من الخامسة/ م ع. ت 1/ 44، وقال في ت ت: قال أحمد: لا بأس به، وقال يحيى القطان: لم يكون بالقوي، وقال العجلي: جائز الحديث، وقال النسائي: ليس بالقوي في الحديث، وقال ابن عدي: حديثه يكتب، ووثقه ابن سعد، وقال الدارقطني: ضعفوه، وقال الساجي: صدوق. ت ت 1/ 167، الكامل 1/ 216، المجروحين 1/ 22. أقول: الحديث له شواهد يتقوى بها منها حديث ابن عمر عند الشيخين البخاري 7/ 137 ومسلم 4/ 2322، قال: نزل تحريم الخمر وهي من خمسة أشياء: العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل والخمر ما خامر العقل. درجة الحديث: حسن بشواهده.

الصحيح أن عمر، رضي الله عنه، قاله وكان يشيد به على المنبر (¬1)، والتنبيه به قد وقع في القرآن عليه بحيث لا يخفى على ذي لبّ حاضر، ولا قلب سليم، وذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} (¬2) الآية. وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في الخمر عشرة: الخمر وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وشاهدها (¬3). وفي الصحيح المشهور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (سُئِلَ عَنِ الْبَتْعِ وَهُوَ نِبِيذٌ يُصْنَعُ مِنْ عَسَلٍ فَقَالَ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ) (¬4). فأجاب - صلى الله عليه وسلم - على الجنس لا على القدر. سمعت عن بعض العلماء من أصحاب أبي حنيفة إنه قال: لو جعل السيف على رأسي أن أشرب النبيذ ما شربته، ولو جعل السيف على رأسي أن أحرمه ما حرمته لأن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد شربوه. وهذا القول لا يصحّ؛ ما شربه قط أحد منهم إنما الذي ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان ينبذ له فيشرب، فإذا تغير سقاه ¬

_ = أقول: علّق المنذري على هذا الحديث بقوله: حديث النعمان تصريح من النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بما قاله عمر، رضي الله عنه، وأخبر عنه من كون الخمر من هذه الأشياء، وليس معناه أن الخمر لا يكون إلا من هذه الخمسة بأعيانها، وإنما جرى ذكرها خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان؛ فكل ما كان في معناها من ذرة وسلت ولب وثمرة وعصارة شجرة فحكمه حكمها، مختصر المنذري، لسنن أبي داود 5/ 262. (¬1) البخاري في الأشربة باب الخمر من العنب 7/ 136. (¬2) سورة المائدة آية 91. (¬3) أبو داود 4/ 82، وابن ماجه 2/ 1121 - 1122 وزادوا: آكل ثمنها. والحديث فيه عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، أمير الأندلس، مقبول من الثالثة، استشهد سنة 115/ د ق. ت 1/ 448. وقال في ت ت 6/ 217: قال ابن معين: لا أعرفه، وقال ابن عدي: إذا لم يعرف ابن معين الرجل فهو مجهول ولا يعتمد على معرفة غيره، قال الحافظ: هذا الرجل قد عرفه ابن يونس وإليه المرجع في معرفة أهل مصر والمغرب، وذكره ابن خلقون في الثقات وانظر الكاشف 2/ 173، والكامل 4/ 1606 وفيه أيضاً أبو طُعْمة، بضم أوله وسكون المهملة، شامي سكن مصر وكان مولى عمر بن عبد العزيز، يقال اسمه هلال، مقبول من الرابعة ولم يثبت أن مكحولاً رماه بالكذب/ د س ق ت 2/ 440. وقال في ت ت: أبو علقمة مولى بني أمية عن ابن عمر في لعن الخمر وعنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز .. كذا في رواية اللؤلؤي، والصواب عن أبي طعمة ت ت 12/ 174. درجة الحديث: قال الحافظ: صححه ابن السكن، تلخيص الحبير 4/ 81، وعندي أنه ضعيف لما تقدم ولكن ضعفه ينجبر. (¬4) متفق عليه. البخاري في الأشربة باب الخمر من العسل وهو البتع 7/ 137، ومسلم في الأشربة باب بيان .. "إنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَإنَّ كُلَّ خَمْرٍ حَرَامٌ" 3/ 1585 و 1586، وأبو داود 4/ 88، والترمذي 4/ 291، والنسائي 8/ 298، وابن ماجه 2/ 1123، والموطأ 2/ 845. كلهم عن عائشة.

نكتة

الخدم (¬1)، يريد تغير طعمه، ولم يبلغ حد الإسكار. ويدخل في لعن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بايع الخمر من باع عنباً ممن (¬2) يعلم أنه يعصره خمراً ما لم يكن ذمِّيَّاً. فإن كان ذميّاً فإن العلماء اختلفوا فيه لاختلافهم في مخاطبتهم بتحريم الخمر وفي مسائل المساقاة من الكتاب (¬3)، ولا بأس بمساقاة الذمي في الكَرْم إذا أمنت أن يعصره خمراً ولو لم تكن عنده محرمة عليهم ما منعته من مساقاته .. نكتة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد نهى عن الانتباذ في بعض الظروف التي يسرع إليها الإسكار، ثم نسخ ذلك فأجاز الانتباذ في كل إناء ولا تشربوا مسكرا (¬4)، وهذا رد نص على (ح) وما تعلق به علماؤنا من الحديث بأن ما أسكر كثيره فقليله حرام (¬5) ليس بصحيح فليترك وليعول على ما سبق من الدلائل .. القول في الخليطين: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، النهي عنها مطلقاً ومقيَّداً كالبسر والرطب ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب الأشربة باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكراً 3/ 1589، وشرح السنة 11/ 364 كلاهما من حديث ابن عباس. (¬2) في (ك) و (م) زيادة: من مسلم. (¬3) المراد به المدونة. (¬4) ورد في صحيح مسلم في كتاب الأشربة باب النهي عن الانتباذ في المزفّت والدباء والحنتم والنقير وبيان أنه منسوخ 3/ 1585 من حديث بريدة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الأَشْرِبَةِ فِي ظُرُوفِ الأَدَمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ وَعَاءٍ غَيْرَ أَلاَّ تَشْرَبُوا مُسْكِراً .. قال الحافظ في فتح الباري 10/ 58: قال الحازمي: قوله ورد النهي عن الظروف كلها ثم نسخ ظروف الأدم والجرار غير المزفَّتة واستمر ما عداها على المنع، ثم تعقب ذلك بما ورد من التصريح في حديث بريدة "نَهَيْتُكُمْ عَنِ الأَشْرِبَةِ إلَّا فِي ظُرُوفِ الأَدَمِ فَاشْرَبُوا فِي كُلَّ وَعَاءٍ غَيْرَ أَنْ لَا تَشْرَبُوا مُسْكِراً". قال: وطريق الجمع أن يقال: لمَّا وقع النهي عاماً شكوا إليه الحاجة فرخص لهم في ظروف الأدم، ثم شكوا إليه أنَّ كلهم لا يجد ذلك، فرخص لهم في الظروف كلها. (¬5) أبو داود 4/ 87، والترمذي 4/ 292 وقال حسن غريب، وابن ماجه 2/ 1125 كلهم من حديث داود بن بكر عن محمَّد بن المنكدر عن جابر، وابن حبان من طريق موسى بن عقبة عن محمَّد بن المنكدر عن جابر، موارد الظمآن ص 336. أقول: الحديث فيه داود بن بكر بن أبي الفرات الأشجعي مولاهم المدني، صدوق من السابعة / د ت ق، ت 1/ 231، وقال في ت ت وثَّقه ابن معين، وقال أبو حاتم شيخ لا بأس به ليس بالمتين، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الدارقطني يعتبر به. ت ت 3/ 180. درجة الحديث: ضعَّفه الشارح هنا وفي العارضة 8/ 57، وحسَّنه الترمذي، وصححه ابن حبان، وعندي أنه حسن ..

فصل الحد فيها

جميعاً، والتمر والزبيب جميعاً (¬1)، وما أشبه ذلك، وهذه مسألة ما علمت لها وجهاً إلى الآن. فإنه إن كان المحرم الإسكار فدعه يخلط ما شاء ويشربه في الحال، فأما غير ذلك فليس فيه إلا الإنقاع حتى أني قد رويت في ذلك مسألتين غريبتين: الأولى: أن ابن القاسم (¬2) قال: لا يجوز أن ينبذ البسر (¬3) المذنب والرطب (¬4)، وهو الذي يُرى الإرطاب في ذنبه وصدق لأنه من باب الخليطين. الثانية: أن محمَّد بن عبد الحكم (¬5) أجرى النهي في الخليطين على عمومه حتى منع منها في شراب الطيب (¬6)، وهذا جمود عظيم على الألفاظ. فصل الحد فيها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - (يَجْلِدُ فِي الْخَمْرِ بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ (¬7) وَالثِّيَابِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا تَقْدِيرٍ)، إلا أن الصحابة، رضي الله عنهم، قدَّروها بالأربعين، واستمرت الحالة على ذلك خلافة أبي بكر، رضي الله عنه، فلما تتابع الناس في زمن عمر، رضي الله عنه، استشار في حد الخمر، فقال له علي، رضي الله عنه: (إِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا ¬

_ (¬1) الموطّأ 2/ 844 (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَّارٍ أَنَّ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، نَهَى أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ وَالرَّطْبُ جَمِيعاً وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعاً ..) قالَ ابن عبد البر: وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هُرَيْرَة. تنوير الحوالك 2/ 56، وانظر المصنف 9/ 216. ورواه الشيخان من طَرِيق ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ ابْنَ عَبْدِ اللهِ، رَضِيَ الله عَنْهُ، يَقُولُ: نَهَى النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّهْوِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ .. البخاري في الأشربة باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر إذا كانا مسكرين 7/ 140، ومسلم في الأشربة باب كراهية إنباذ التمر والزبيب مخلوطين 3/ 1574. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) البسر: التمر قبل إرطابه. ترتيب القاموس 1/ 270. (¬4) أرطب النخل: حان أوان رطبه. ترتيب القاموس 2/ 350. (¬5) تقدمت ترجمته. (¬6) نقله الحافظ في الفتح وعزاه لابن عبد الحكم ناقلاً عن الشارح. فتح الباري 10/ 69، وقال الأبي: وقد أبعد من أصحابنا من منع الخلط بينهما في التخليل، وهذا إنما يليق بمذهب من لا يعلل، ويلزمه أن يمنع خلط العسل باللبن وشراب الورد والبنفسج. شرح الأبي على مسلم 5/ 316. (¬7) متفق عليه. البخاري في الحدود باب ما جاء في ضرب شارب الخمر 8/ 132، ومسلم في الحدود باب حد الخمر 3/ 1331 كلاهما من حديث أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنَّعَالِ ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعينَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَدَنَا النَّاسُ إلى الرِّيفِ وَالْقُرَى قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ الْخَمْرِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ عَوْفٍ: أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا كَأَخَفِّ الْحُدُودِ، قَالَ: فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ. لفظ مسلم.

هَذَى افْتَرَى فَاَجْلِدْهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي) (¬1) .. فكان هذا اتفاقاً من الصحابة، رضي الله عنهم، على اتفاق الأحكام بالقياس، ثم جلد علي، رضي الله عنه، الوليد بن عقبة (¬2)، في زمن عثمان، أربعين (¬3)، ثم استقرت الحال عند استواء الأمر لمعاوية، رضي الله عنه، على ثمانين، قال بذلك (م) و (ح) (¬4)، وقال (ش) (¬5): الحكم في ذلك إلى الإِمام ما قدّر في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحكم به أبو بكر، وهو محجوج بإجماع الصحابة في زمن معاوية لا سيما بانهماك الناس اليوم فيها فلو أمكنت الزيادة على ثمانين لكانوا أهلها. ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 842 مَالِكٍ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدِ الدِّيلِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَشَارَ فِي الْخَمْرِ يَشْرَبُهَا الرَّجُلُ .. ومن طريق مالك رواه الشافعي في مسنده 2/ 90، قال الحافظ: وهو منقطع لأن ثوراً لم يلحق عمر بلا خلاف، لكن وصله النسائي في الكبرى, والحاكم 4/ 375 من وجه آخر عن أيوب عن عكرمة لم يذكر ابن عباس وفي صحته نظر لما ثبت في الصحيحين عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ اسْتَشَارَ النَّاسَ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بْنُ عَوْفٍ: أَخَفُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ، فَأَمَر بِهِ عُمَرُ. ولا يقال يحتمل أن يكون عبد الرحمن وعلي أشارا بذلك جميعاً لما ثبت في صحيح مسلم، وذكر الحديث وقال: فلو كان هو المشير بالثمانين ما أضافها إلى عمر ولم يعمل بها، لكن يمكن أن يقال إنه قال لعمر باجتهاد ثم تغير اجتهاده، تلخيص الحبير 4/ 75، ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة. المصنف 7/ 378، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 321 عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس، والدارقطني من طريق يحيى بن فليح حدثني ثور بن يزيد عن عكرمة عن ابن عباس 3/ 166، والحديث فيه يحيى بن فليح. نقل الحافظ عن ابن حزم إنه مجهول، نقل ذلك الشيخ ناصر في إرواء الغليل 8/ 47 ولم أطَّلع له على ترجمة. درجة الحديث: ضعيف. (¬2) الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أبان بن أبي عمرو، ذكوان بن أمية بن عبد شمس من مسلمة الفتح، وأمه أروى أم عثمان بن عفان. تجريد أسماء الصحابة 2/ 129 والإصابة 3/ 637. (¬3) روى مسلم في الحدود باب حد الخمر من طريق حضين بن المنذر، أبو ساسان، قال: شَهِدْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانٍ وَأُتِيَ بِالْوَلِيدِ قَدْ صَلَّى الصُّبْحِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: أُزِيدُكُمْ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا حُمرَانُ أَنَّهُ شَرِبَ الْخَمْر، وَشَهِدَ آخَرٌ أَنَّهُ رَآهُ يَتَقَيَّأُ فَقَالَ عُثْمَانُ: إنَّهُ لَمْ يَتَقَيَّأْ حَتَّي شَرِبَهَا، فَقَالَ: يَا عَلِيّ قُمْ فَاجْلِدْهُ ... مسلم 3/ 1331، وأبو داود 4/ 622، وابن ماجه 2/ 858، والبيهقي 8/ 318، وأحمد 1/ 144 - 145. (¬4) هكذا عزاه أيضاً لهما الباجي في المنتقى 3/ 144، وانظر شرح السنة 10/ 333. (¬5) انظر شرح النووي على مسلم 11/ 217، وشرح السنة 10/ 333.

توحيد

توحيد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الِدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حَرِمَهَا فِي الآخِرَةِ" (¬1)، قال علماؤنا، رحمة الله عليهم: قد ثبت بالدلائل القاطعة دخول العصاة الجنة بعد الاقتصاص منهم بالعذاب والمغفرة، ومن دخل الجنة لم يمتنع عليه منها نعيم؛ فيكون معنى قوله "حَرِمَهَا فِي الآخِرَةِ" في الوقت الذي يجد فيه الظمأ ويطلب الراحة عند العذاب، أو عند انتظار المغفرة، وذلك مبسوط في موضعه (¬2). ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 846 والبخاري في كتاب الأشربة باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 7/ 135، ومسلم في كتاب الأشربة باب عقوبة من شرب الخمر إذا لم يتب منها 3/ 1588، كلاهما من طريق مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمّرَ، رَضِيَ اللهِ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ، - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حَرِمَهَا فِي الآخِرَةِ). (¬2) نقل الحافظ عن الخطابي والبغوي قولهما: لا يدخل الجنة لأن الخمر شراب أهل الجنة، فإذا حرم شربها دلَّ على أنه لا يدخل الجنة، وقال: قال ابن عبد البر: هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة لأن الله تعالى أخبر أن في الجنة أنهار خمر لذة للشاربين وأنهم لا يصدعون عنها ولا ينزفون، فلو دخلها وقد علم أن فيها خمراً، أو أنه حرمها عقوبة له، لزم وقوع الهمّ والحزن في الجنة ولا هم فيها ولا حزن، وإن لم يعلم بوجودها في الجنة ولا أنه حرمها عقوبة له لم يكن عليه في فقدها ألم؛ فلهذا قال بعض من تقدم إنه لا يدخلها أصلاً، وهو مذهب غير مرضي، ويحمل الحديث عند أهل السنة على أنه لا يدخلها ولا يشرب الخمر فيها إلا إن عفا الله عنه، كما في بقية الكبائِر وفي المشيئة. فعلى هذا فمعنى الحديث جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنة إلا أن عفا الله عنه .. وجائز أن يدخل الجنة بالعفو ثم لا يشرب فيها خمراً ولا تشتهيها نفسه وإن علم بوجودها فيها .. فتح الباري 10/ 32.

كتاب الأيمان والنذور

كتاب الأيمان والنذور النذر هو التزام في الذمة (بالفول) (¬1) لما لا يلزم من القرب بإجماع من الأمة، ويلزم بالنية عند علمائنا خاصة (¬2) دون غيرهم من العلماء، والعمدة في ذلك أن الالتزام إنما يكون بالعقد في القلب والقول في النفس. فما يخص به المرء ولا يتعداه إلى غيره يلزمه ذلك فيه، وإنما يحتاج إلى القول أو الكتاب فيما يتعلق بسواه ويدور بينه وبين غيره، وهذا أصل لا تزعزعه الاعتراضات لأنه من أوضح الدلالات، وعليه عوَّل مالك، رضي الله عنه، حين قال فيمن التزم الطلاق بقلبه إنه يلزمه، قال كما يكون مؤمناً بقلبه (¬3) وكافراً بقلبه، ومن عداه من أصحابه لم يروِ عنه خلاف هذا؛ فإن ابن القاسم (¬4) قد قال من غير خلاف إذا قال الرجل لزوجته أسقني ماء ونوى الطلاق يلزمه، وليس هذا اللفظ بصريح ولا كناية ولا مجاز ولا حقيقة؛ فكأنه يلزمه ما عقد بقلبه ولا يبالي عن لفظه، وبهذا تنتظم الروايات والأصل فيه الكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما الكتاب فهو تنبيه جلي قال الله تعالى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (¬5). وأما السنة فذلك بنص عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ الله فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ" (¬6) أخرجه البخاري وغيره، وحديث أم سعد المتفق عليه: ¬

_ (¬1) في (م) زيادة ليست في بقية النسخ. (¬2) انظر بداية المجتهد 1/ 422. (¬3) انظر مقدمات ابن رشد 2/ 56، وقال ابن عبد البر: من اعتقد بقلبه الطلاق ولم ينطق به لسانه فليس بشيء، هذا هو الأشهر عند مالك، وقد روي عنه انه يلزمه الطلاق اذا نواه بقلبه كما يكفر بقلبه وإن لم ينطق به لسانه، والأول أصحّ في النظر وطريق الأثر لقول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "تَجَاوزَ الله لأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ بِهِ نُفُوسُهَا مَا لَمْ يَنْطُقْ بِهِ لِسَانٌ أَوْ تَعْمَلْهُ يَدٌ"، الكافي 2/ 577. (¬4) تقدم. (¬5) سورة الإنسان آية 7. (¬6) الموطأ 2/ 476 والبخاري في الأيمان والنذور باب النذر في الطاعة 8/ 119، وشرح السنة 10/ 21.

قَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا دَيْنُ نَذْرٍ وَلَمْ تَقْضِهِ، قَالَ: إِقْضِهِ عَنْهَا) (¬1)، فأمره بقضائه من جهة البر بها لا من جهة الوجوب عليه فيها. وحديث عمر بن الخطاب أيضاً المتفق عليه: قَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّي نَذَرْتُ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ لَهُ: أُوْفِ بِنَذْرِكَ) (¬2)، ونذر الكافر لا يلزم، ولكن رأى عمر، رضي الله عنه، أن يلتزم في الإِسلام مثل ما كان التزم في الجاهلية كفارةً له، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "أَوْفِ بِنَذْرِكَ" يعني الثاني ليس الأول. وحديث عمرو بن شعيب أيضاً بديع في الباب وهي طريقة في الحديث صحيحة لا ينبغي لأحد منكم أن يستحقرها مهما صح الطريق إليها، وقد صححها الدارقطني ويكفيك في صحتها تخريج مالك، رضي الله عنه، في الموطّأ لها، وهو ما روى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدَّهِ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَتْ: (إنَّي نَذَرْتُ أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِكِ بِالدَّفِّ فَقَالَ لَهَا: أَوْفِ بِنَذْرِكِ) (¬3). أوجب أمرها بذلك وأما اجتماع ¬

_ (¬1) البخاري في الأيمان والنذور باب من مات وعليه نذر 8/ 177، ومسلم في النذر باب الأمر بقضاء النذر 3/ 1260 - وأبو داود 3/ 603 - 604، وشرح السنة 10/ 38 كلهم من حديث ابْنِ عَبّاسٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الأَنْصَارِيَّ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ فَتُوُفَّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا فَكَانَتْ سُنَّةٍ بَعْدُ. (¬2) متفق عليه. البخاريَ في الاعتكاف باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم 3/ 45، ومسلم في الأيمان باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم 3/ 277، كلاهما من حديث ابن عمر. (¬3) أبو داود 3/ 606، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 77 كلاهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. أما ما ذكر الشارح من تخريج مالك له فلم أطَّلع عليه في الموطأ. ولم أطلع على تصحيح الدارقطني له في السنن. درجة الحديث: عندي أنه حسن وله شاهد من حديث بريدة قال: خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ جَاءَتْ جَارَيةٌ سَوْدَاءُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله إنّي كُنْتُ نَذَرْتُ إِنْ رَدَّكَ الله سَالِماً أَنْ أَضْرِبَ بين يِدَيكَ بِالدّفِّ وَأَتَغَنيَّ؛ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِنْ كُنْت نَذَرْتُ فاضْربِي وإِلَّا فَلَا، فَجَعَلتْ تَضْربُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وِهِيَ تَضُرُبُ ثُمَّ دَخَلَ عَلِيُّ وَهِيَ تَضْرُبُ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ وَهِيَ تَضْرُبُ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَأَلقَتِ الدّفّ تَحْتَ إِسْتِهَا ثُمَّ قَعَدَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَخَافُ مِنْكَ يَا عُمَرُ إنِّي كنْتُ جَالِساً وَهِيَ تَضْرُبُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَهِيَ تَضْرُبُ ثُمَّ دَخَلَ عَليٌّ وَهِيِ تَضْرُبُ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَان وَهِيَ تَضْرُبُ فَلَمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ يَا عُمَر أَلقَتِ الدَّفّ. سنن الترمذي 2/ 293 - 294 وقال حسن صحيح غريب، وابن حبان، انظر موارد الظمآن ص 289، 536، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 77، وأحمد في المسند 5/ 353 - =

الأمة فلا خلاف بينهم في وجوب الوفاء به، كما لا خلاف بينهم في كراهية التزامه، لما ثبت عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في الحديث الصحيح أنه قال: "إنَّ النَّذْرَ لَا يَرِدُّ مِنَ الْقَدَرِ شَيْئاً وَإنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ البَخِيلِ" (¬1). والنذر على ضربين: مطلق ومقيد، والمطلق على ضربين: مفسّر ومبهم. فالمفسر مثل أن يقول عليَّ صوم أو صلاة أو صدقة. وأما المبهم: فمثل أن تقول عليّ نذر، وهذا يجزئ فيه كفّارة يمين لما روي عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "كَفَّارَة النَّذْرِ كَفَّارَة اليَمِينِ" (¬2)، معناه في المبهم. وأما المُقيَّد ففيه ¬

_ = 356، والحديث وإن كان الشارح صحَّح رواية عمرو بن شعيب له فإن خاتمة الحفاظ الحافظ ابن حجر ذهب إلى غير ذلك؛ فقد قال: هو صدوق من الخامسة. مات سنة 118/ زع ت 2/ 72/ وقال في ت ت بعد أقوال النقاد فيه ضعفه ناس مطلقاً ووثقه الجمهور، وضعَّف بعضهم روايته عن أبيه عن جده حسب، ومن ضعفه فمحمول على روايته عن أبيه عن جده، فأما روايته عن أبيه فربما دلّس ما في الصحيفة بلفظ عن، فإذا قال حدثني أبي فلا ريب في صحتها كما يقتضيه كلام أبي زرعة .. وأما رواية أبيه من جده فإنما يعني بها الجد الأعلى دعوى بلا دليل، بل نصَّ الأئمة على أنه يحتمل الجد الأعلى والأوسط والأعلى ولا يصح حديثه إذا صرح بأنه عبد الله، وقد صرح شعيب بسماعه من عبد الله ت ت 8/ 51. درجة الحديث: حسّنه الشيخ ناصر في إرواء الغليل 8/ 214، وعبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول 11/ 550، وانظر الوضع في الحديث 2/ 88. (¬1) متفق عليه. البخاري في الأيمان والنذور باب الوفاء بالنذر 8/ 176، وفي القدر 8/ 155، ومسلم في كتاب النذر باب النهي عن النذر وأنه لا يرد شيئاً 3/ 1261، وأبو داود 3/ 591، والنسائي 7/ 15 - 16. (¬2) أبو داود 3/ 595 - 596، والترمذي 4/ 103 - 104، والنسائي 7/ 27 - وابن ماجه 1/ 686، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 69، وأحمد انظر الفتح الرباني 14/ 186 - 187، والطحاوي في معاني الآثار 3/ 130 كلهم من رواية سليمان ابن بلالِ عن موسى بن عقبة ومحمد بن أبي عتيق عن الزهري عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عائشة. أقول: الحديث فيه سليمان بن أرقم البصري، أبو معاذ، ضعيف من السابعة/ د ت س. ت 1/ 321، وقال في ت ت، قال أبو داود وأبو حاتم والترمذي وابن خراش وغير واحد: متروك الحديث، وكذا قال أبو أحمد والدارقطني، وقال مسلم في الكنى: منكر الحديث. ت ت 4/ 169، وقال النسائي في السنن 7/ 27: منكر الحديث، وقال الحافظ: لم يسمع الزهري هذا الحديث من أبي سلمة .. ونقل عن النووي في الروضة قوله: حديث ضعيف باتفاق المحدثين، وقال: قلت: قد صحَّحه الطحاوي وابن السكن فأين الاتفاق. تلخيص الحبير 4/ 194، وقال الشيخ ناصر: لم ينفرد سليمان بن أرقم بروايته عن يحيى عن أبي سلمة عن عائشة، فقد قال الطيالسي في مسنده: حدثنا حرب بن شداد عن يحيى ابن أبي كثير به، وقال: وهذا إسناد ظاهر الصحة. إرواء الغليل 8/ 216 - 217، وانظر مسند الطيالسي ص 208. درجة الحديث: صحّحه الشيخ ناصر في إرواء الغليل 8/ 214، بالإضافة إلى من ذكرهم الحافظ، ولعل ذلك بالنظر إلى الطرق المتعددة والله أعلم.

في المذاهب تفسير طويل أشده نذر اللجاج والغضب، وهو عند مالك، رضي الله عنه، لازم بما فسَّره على أي حالة كان (¬1)، والأصل في ذلك عنده عمومات النذر الواردة من غير تخصيص بحال ولا صفة وبه قال (ح) (¬2) وغيره. وقال (ش) في اختلاف كثير له: تجزئ فيه كفارة يمين (¬3) لأنه من باب الأيمان حين لم يقصد به القربة وإنما قصد الإِقدام والامتناع بالتزام ما علق به الوجهين، وهذا ضعيف، فإن قصد القرية فيه لا يخفى، وإن كان قصد، كما قال، تأكيد الإِقدام وتأكيد الامتناع فإنما قصده لمعظم شاق عليه خلافه، فإذا قال: بالله، وأكد باسمه الكريم فقد شرعت في ذلك الكفارة، وإذا عيَّن هو المخرج فقد لزمه الوفاء به، وكذلك قال علماؤنا: إذا التزم صدقة في نذر اللجاج أو ابتداء إلا أن يكون صدقة بجميع المال فلا يخلو أن يكون ماله معيناً في عرض أو عقار فيلزمه الصدقة بجميعه في المشهور (¬4)، وإن قال: مالي صدقة، قالوا: يلزمه الثلث (¬5)، وهل يؤمر أو يجبر فيها روايتان الصحيح (¬6) الأمر دون القضاء والجبر، والأصل في ذلك أن كعب بن مالك (¬7) وأبا لبابة (¬8) حين تابا عرضا على النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أن ينخلعا من مالهما صدقة لله تعالى كفارة لما ¬

_ (¬1) قال الباجي: يلزم النذر على وجه اللجاج والغضب، المنتقى 3/ 229. (¬2) قال ابن هبيرة: قال أبو حنيفة: يلزمه الوفاء بما قاله، ولا يجزيه الكفارة، والرواية الأخرى يجزيه في ذلك كله كفارة يمين .. الإفصاح 2/ 340. (¬3) وقال البغوي: وإليه ذهب الشافعي في أصح أقواله. شرح السنة 10/ 36. (¬4) انظر المنتقى 3/ 261. (¬5) انظر المنتقى 3/ 260، وفتح الباري 11/ 573. (¬6) قال ابن القاسم: يجبر على إخراجه ما لم يكن ذلك على وجه اليمين .. وقال أشهب: إنما يجبر إذا جعل ذلك لرجل معين. المنتقى 3/ 263. (¬7) وقد أخرج البخاري قصة كعب في كتاب الوصايا باب إذا تصدَّق أو وقف بعض ماله أو بعض رقيقه أو دابته فهو جائز 4/ 7، وفي الأيمان والنذور باب من أهدى ماله على وجه النذر والتوبة 8/ 119، ومسلم في التوبة باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه 4/ 2120، وأبو داود 3/ 614 كلهم من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب. (¬8) أما قصة أبي لبابة فقد أخرجها مالك في الموطأ 2/ 481 بلاغاً عن ابن شهاب أنه بلغه أن أبا لبابة .. ورواه أبو داود 3/ 613 - 614 من طريق الزهري قال أخبرني ابن كعب بن مالك قال كان أبو لبابة. فذكر معناه والقصة لأبي لبابة. وأحمد انظر الفتح الرباني 9/ 183، ورواية أحمد من طريق ابن جريج قال أخبرني ابن شهاب عن الحسين بن السائب بن أبي لبابة أخبر أن أبا لبابة .. قال .. وأخرجه أيضاً البغوي في شرح السنة 10/ 37، وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة 2/ 1025. =

نذر المشي

أتياه من مخافة الله عز وجل، فقال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ وَقَالَ يُجْزِيكَ الثُّلُثُ" وأخذ من عمر، رضي الله عنه، نصف ماله حين أتاه به، وأخذ من أبي بكر، رضي الله عنه، جميع ماله (¬1)، وذلك بحسب المراتب في اليقين وتعلّق البال بالمال، فجعل علماؤنا أقل المراتب أصلاً في الخلق ومصلحة لهم وهو الثلث (¬2)، كما جعلوا في النذر المطلق حسب ما سبق كفارة يمين (¬3)، وإن كان علماء الزهد يرون الخروج عن جميع المال في الوفاء (¬4) به، ولذلك نذرت عائشة رضي الله عنها، ألا تكلم ابن الزبير ثم شفع فيه (¬5) فكلمته فأعتقت بنذرها المطلق أربعين رقبة وكانت تبكي ما يخلصها من نذرها (¬6). نذر المشي: المشي عمل من الأعمال، وقد يكون طاعة، وقد يكون معصية، فإذا نذر مشي معصية فليستغفر الله تعالى وليتب إليه، وإذا نذر مشي طاعة فقد قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "لَا ¬

_ = درجة الحديث: صححه الشيخ ناصر في تعليقه على المشكاة وشعيب الأرناؤوطي في تعليقه على شرح السنة 10/ 27. (¬1) أبو داود 2/ 312 - 313، والترمذي 5/ 614 - 615 وقال: حسن صحيح، والدارمي 1/ 392 كلهم من حديث زَيْدِ بْنِ أَسْلَمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ ابْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيِ الله عَنْهُ، يَقُولُ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَوْماً أَنْ أَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ مَالاً عِنْدِي فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقتُهُ يَوْماً فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَا أبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟ قُلْتُ: مِثْلَهُ قَالَ: وَأتَى أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ الله عَنْهُ، بِكُلَّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ الله وَرَسُولَهُ، قُلْتُ، لاَ أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أبَداً. درجة الحديث: صحّحه الترمذي وأقرّه المنذري في مختصره 2/ 255. (¬2) انظر المنتقي 3/ 260. (¬3) تقدم. (¬4) هذا الوصف يطلقه الشارح على الصوفية دائماً. (¬5) في (ك) و (م) به. (¬6) البخاري في الأدب باب الهجرة، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ 8/ 18 من طريق عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الطُّفَيْلِ، وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، وَهوَ ابْنُ أخِي عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لأُمَّهَا، أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثت أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ: وَاللهِ لَتُنْهَيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا ...

تُشَدُّ الرّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاَثةِ مسَاجِدٍ: مَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسجِدِ الْحَرَامِ وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى" (¬1)، هذا بقوله، وكان يأتي (قُبَاءَ كُلَّ سَبْتٍ رَاكِباً وَمَاشِياً) (¬2) بفعله. فإذا نذر الإِنسان طاعة في المساجد الثلاثة لزمه إتيانها, ولا يلزم إتيان مسجد قباء لأن القول قد قضى على الفعل، وتبين أن ذلك الفعل كان مخصوصاً. قال علماؤنا: إنما كان ذلك تشديداً للعهدة وتأنيساً لأهله، ومن أغرب ما قال علماؤنا: إن من نذر المشي إلى الصفا والمروة وعرفة ومنى لا يلزمه (¬3)، وإن كانت مواضع قرب فرائض ونوافل، ولعلَّهم تعلَّقوا بذلك إلى قوله "ثَلاَثَةِ مَسَاجِدٍ" فعيَّن المسجدية. قال علماؤنا: فيأتي المسجد حاجاً أو معتمراً. ومعنى هذا إذا قلنا إن مكة لا تدخل إلا بالإحرام (¬4) على المشهور، وإن قلنا على الرواية الأخرى: إن مكة تدخل لغير إحرام فلا يخلو أن ينوي هو صلاةً أو حجاً أو عمرة؛ فإن نوى حجاً أو عمرة لزمه الإحرام ودخل هو حاجاً، وإن نوى الصلاة دخل مصلياً، وإن أطلق اللفظ ولم تكن له نية، فإن قلنا: إن اليمين محمولة على العرف، وهو المشهور، لزمه أن يدخلها حاجاً أو معتمراً لأن ذلك هو العرف وإن لم يلتفت إلى العرف في اليمين على الرواية الأخرى دخل إلى المسجد كيف شاء .. هذا الباب مذهبنا وقد خالَفنا جماعة من العلماء فقالوا: إن المشي لا يلزم لأن القربة إنما هي في قصده لا في صفة القصد، وقد قال الله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} (¬5)، وأمر النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بالصدقة ونهى عن المثالة وقال: "إنَّ المَثَالَةَ أَنْ يَنْذُرَ الرَّجُلُ أَنْ يَحِجَّ ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أبي سعيد .. وفيه: لاَ تُشَدّ الرَحَالُ إلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدٍ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى وَمَسْجِدِي هذَا. البخاري في الصوم باب الصوم يوم النحر 3/ 56، ومسلم في الحج باب سفر المرأة في حج وغيره 2/ 976، ورواه مسلم في الحج أيضاً باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد 2/ 1014 من حديث أبي هُرَيْرَة. (¬2) متفق عليه، البخاري في التطوع باب مسجد قباء، وفي باب من أتى قباء 2/ 4، ومسلم في كتاب الحج باب فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه وزيارته 2/ 1016، كلاهما عن ابن عمر. (¬3) هكذا قال ابن عبد البر وزاد: وقيل يلزمه الحج أو العمرة إلا أن يريد تلك المواضع بأعيانها. الكافي 1/ 458. (¬4) قال ابن عبد البر: لا يجوز لغير المكي أن يدخل مكة حلالاً، وأقل ما عليه في دخولها عمرة إلا أن يكون من أهل القرى المجاورة لها، المترددين بالحطب والفاكهة إليها، الكافي 1/ 381. قلت: المسألة خلافية بين العلماء, انظر تفصيل ذلك في المغني 3/ 353. (¬5) سورة الحج آية 27. =

مَاشِياً" (¬1) فمن نذر أن يحج ماشياً فليهدِ هدياً وليركب. ومخرج هذا الحديث عزيز الوجود ما رويناه إلا من طريق واحدة ولا يصح والله أعلم، وكيف يصح وقد قال الله عز وجل: {يَأْتُوكَ رِجَالًا} (¬2)، ولو كان مثلة ما ذكره في معرض العبادة. ولعل معناه إذا نذر وهو عاجز كما روى مسلم عن عقبة بن عامر وقال: (إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى بَيْتِ اللهِ حَافِيَةً فَقَالَ النَّبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -: لِتَمْشِ وَتَرْكَبْ) (¬3)، وفي الترمذي والنسائي وأبي داود: "تَخْتَمِرْ وَتَرْكَب وَتصمْ ثلَاثَةَ أَيَّامٍ" (¬4). انفرد أبو داود بقوله: تَرْكَبُ وَتَهْدِي بُدْنَةً (¬5)، وإذا كان عاجزاً فالنذر معصية وعليه بوّب (¬6) مالك، رضي الله عنه، وأدخل حديث أبي إسرائيل (¬7) نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ ¬

_ (¬1) أبو داود 3/ 120 ولفظه: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَينْهَانَا عَنِ الْمثلَة. والدارمي 1/ 390، وأحمد وزاد. وإن من المثلة أن ينذر الرجل أن يحج ماشيا فليهد هدياً وليركب 4/ 429، والحاكم وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وكذا قال الذهبي، المستدرك 4/ 305 كلهم من حديث عمران بن حصين، وفي رواية أبي داود هياج بن عمران بن فَصيل، بفتح الفاء وكسر المهملة، التميمي البصري مقبول من الثالة/ د، ت 2/ 325، وقال في ت ت: قال علي بن المديني: مجهول، وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث، وذكره ابن حبان في الثقات 11/ 89، وقد قال الذهبي: قال علي ابن المديني: مجهول وصدق. ميزان الاعتدال 4/ 318. أقول: الحديث وإن كان ضعيفاً عند أبي داود بسبب هياج فقد تابعه في عمران بن حصين، الحسن بن أبي الحسن ولعل الشارح نظر إلى رواية أبي داود. درجة الحديث: قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح، مجمع الزوائد 4/ 189، وصححه أيضاً السيوطي في الجامع الصغير مع فيض القدير 6/ 321، والحاكم والذهبي. (¬2) سورة الحج آية 27. (¬3) متفق عليه. البخاري في الحج باب من نذر المشي إلى الكعبة 3/ 18، ومسلم في كتاب النذر باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة 3/ 1264. (¬4) أبو داود 3/ 596 - 597، والترمذي 4/ 116، والنسائي 7/ 19. (¬5) الذي في سنن أبي داود 3/ 598 من حديث ابن عباس (وَلْتَهْدِ هَدْياً) قال الحافظ: ووهم من نسب إليه (أي أبي داود) أنه أخرج هذا الحديث بلفظ (وَلْتَهدِ بُدْنَةً) فتح الباري 11/ 589. (¬6) 2/ 475 فقال: ما لا يجوز من النذر في معصية الله. (¬7) أبو إسرائيل الأنصاري، أو الجشمي، المدني، روى عنه طاوس وله صحبة. تجريد أسماء الصحابة 2/ 158، والإصابة 7/ 12، الفتح 11/ 591.

وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَجْلِس وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ" (¬1) فأما القيام والضحى فلم يكن قط طاعة ولا شرعاً، وأما الصمت فقد كان شرعاً لمن كان قبلنا فنسخ في ملَّتنا. وأما الصيام فإنه بقي مشروعاً لازماً يلزمه الوفاء به، وقد قال مالك، رضي الله عنه، في الموطّأ (إذَا نَذرَ مَا لَا يَقْدَر عَلَيْهِ فَلَا يُجْزِيهِ مِنْ ذلِكَ الْوَفَاءُ بِمَا جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ فَلْيَعْمَلْ مَا قَدَرَ) (¬2)، المعنى: وما عجز عنه فالأمر فيه إلى الله تعالى وهذا صحيح كما لو قال: لله تعالى عليَّ أن أصوم الدهر، أو أصلي الزمان، فإنه لا يلزمه. والذي عندي في ذلك أن ما كان من هذه الأعمال التي التزمها، والنذور التي عينها, لا يقطع به في معاشه ولا في صحته فإنه يلزمه، وما قطع المعاش أو أثَّر في الصحة فإنه يسقط عنه لأنه معصية وليس يختلف في هذا أحد، والله أعلم ... حديث: روى مَالِك، رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَتْ لَهُ: (إنِّي نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي .. الحديث إلى آخره، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَفِّرِي عَنْ يَمِينِكِ) (¬3)، اختلف فيه فقيل هو مذهبه خاصة، وهذه معصية (¬4) لا كفارة فيها، وقيل يهدي هدياً (¬5) وعليه علماؤنا، وقيل يكفِّر كفارة اليمين (¬6) بالله تعالى. فلما اعترض السائل على ابن عباس بأنها معصية فكيف يلزمه فيه كفارة، قال له: كما إن الظهار معصية وتجب فيها الكفارة. وهذا مما يجب أن تفقهوه دستوراً؛ وذلك أن ابن عباس لم يرد أن يجعل ¬

_ (¬1) البخاري في الإيمان والنذور باب النذر فيما لا يملك وفي معصية 8/ 178، وأبو داود 3/ 600 كلاهما من حديث ابن عباس، ورواه مالك في الموطأ 2/ 475 مرسلاً. (¬2) الموطّأ 2/ 474. (¬3) الموطّأ 2/ 476 مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: أتَتِ امْرَأةً إِلَى عَبْدِ الله بْنِ عَبْاسٍ فَقَالَتْ لَهُ .... لم أطلع عليه في غير الموطأ وسنده صحيح. (¬4) قال الشافعي: هي معصية يستغفر الله منها. أحكام القرآن للشارح 4/ 1607، والقرطبي 15/ 111. (¬5) قال أبو حنيفة: هي كلمة يلزمه بها ذبح شاة. أحكام القرآن للشارح 4/ 1607, وأحكام القرآن للجصاص 3/ 1377. (¬6) وقال مالك: مثل قول أبي حنيفة. قال الشارح: دليلنا أن الله جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعاً فألزم الله إبراهيم ذبح الولد وأخرجه عنه بذبح الشاة، وكذلك إذا نذر العبد ذبح ولده يجب أن يلزمه ذبح شاة لأن الله تعالى قال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} والأيمان إلزام أصلي، والنذر إلزام فرعي فيجب أن يكون عليه محمولًا. أحكام القرآن للشارح 4/ 1607.

الظهار أصلاً للكفارة في كل معصية، وإنما أراد أن يمهِّد في نفس السائل الفتوى بما ورد من الأثر في ذبح الولد على ما ورد أيضاً في الظهار، والظهار رخصة في الشريعة، على ما يأتي في بابه (¬1)، إن شاء الله تعالى، والأصل عند علمائنا في نحر الولد ما ورد في قصة إبراهيم عليه السلام، وقد وهم فيه العلماء وهماً قبيحاً فظنُّوا أن هذه الآية فيها نسخ الأمر قبل الفعل (¬2)، كما جرى في فرض الصلاة، وليس كذلك وقد بيَّناه في أصول الفقه (¬3) ومسائل الخلاف، وحيث ورد من كلامنا بما لبابه أنّ إبراهيم، - صلى الله عليه وسلم -، رأى في المنام أنه يضجع ولده ويذبحه لا أنه قيل له اذبحْ ولدَك، ورؤيا الأنبياء وحي؛ فإنّ الرؤيا على ثلاثة أقسام: إما حديث نفس ولم يتحدث قط إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، وإما تحذير من الشيطان وليس له على الخليل سلطان فلم يبق إلا أنها من الله سبحانه على طريق البرهان فعرضها حينئذ على إسماعيل، عليه السلام، فقال له: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} (¬4) وجعل الصورة أمراً لأنها تستدعي الامتثال لتحقيق المنام، فيكون المجاز في قوله: {تُؤْمَرُ} خاصة، وعلى القول بالنسخ يكون دعوى، ويكون في قوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} مجاز كثير بعيد، فأضجعه ليتمثل ما رأى فيه فنودي {يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} ومعناه بتعاطيك الامتثال وتماديك إلى الظاهر والاسم، ولكن خذ التأويل والكنية وأعطِ الفدية وكمِّل التصديق والابتلاء وصارت إلى يوم القيامة سنة في الاقتداء، والرؤيا على قسمين؛ اسم وكنية. فالاسم أن تخرج بصورتها، والكنية أن تخرج بتأويلها، ولذلك قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لعائشة حين بني بها: "أُرِيتُكِ فِي سرَفَةٍ (¬5) مِنْ حَرِيرٍ فَقَالَ لِيَ الْمَلَكُ هَذِهِ زَوْجُكَ فَأَكْشِفُ عَنْك فَإذَا هِيَ أَنْت فَقُلْتُ إنْ يَكُنْ هذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ يُمْضِه" (¬6). ¬

_ (¬1) هذا القول للقاسم بن محمَّد. انظر تفسير القرطبي 15/ 111. (¬2) انظر كلام الشارح في الأحكام 4/ 1606 وذكر أنه لم يسبق إليه. (¬3) قال في المحصول: وقد دل علماؤنا عن بكرة أبيهم على وقوع هذه المسألة شرعاً بقصة الخليل، صلوات الله عليه وسلامه، فإنه أُمر بذبح ولده ثم نسخ ذلك قبل فعله وكان الفداء غير قادح في الاهتداء والاقتداء، والذي أراه أن هذه ليست من ذلك الباب وأنه أمر خفي على علمائنا. ل 64 ب. (¬4) سورة الصافات آية 102. (¬5) السرفة: واحدة السرف وهي الشقق البيض من الحرير خاصة. جامع الأصول 11/ 403. (¬6) متفق عليه. البخاري في فضائل أصحاب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، باب تزويج النبي, - صلى الله عليه وسلم -، عائشة وقدومها المدينة وبنائه بها: 5/ 71، وفي النكاح باب نكاح الأبكار 7/ 6، ومسلم في فضائل الصحابه باب فضل عائشة، رضي الله عنها، 4/ 1889، والترمذي 5/ 704 كلهم من حديث عائشة.

فتأمل ظاهر هذا وكيف يقول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: (فَقَالَ لِيَ الْمَلَكُ هَذِهِ زَوْجُكَ) ثم يقول رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -: (إنْ يَكُ مِنْ عِنْدِ اللهِ) والجاهل يظن أن هذا شكّ في تصديق الرؤيا، والمراد به إن يكُ هذا من عند الله بظاهره واسمه ينفذه ويقضيه، وإن يكن تأويلاً أو كنية بسميتها أو شبيهتها أو جارتها أو أختها أو قرينتها فسيظهر أيضاً؛ فهذا تحقيق الإشارة إلى هذه الأغراض والله الموفق للصواب لا ربَّ غيره ولا معبود سواه ..

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان اليمين خبر يقوم بالقلب عن معنى يلتزمه العبد مربوطاً بإقدام أو إحجام يقع عنه التعبير باللفظ فيخبر بلسانه عما ربط بقلبه (¬1)، والمعوّل على ما يستقر في النفس من ذلك لا ما يجري على اللسان. قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (¬2) فأنظمت هاتان الآيتان مسائل الأيمان بجملتها في اليمين على ما قلناه، واللغو ما عداه. واختلف العلماء فيه فقيل: اللغو قول المرء في ترديد كلامه لا والله وبلى (¬3) والله، ولم يرَ مالك، رضي الله عنه، هذا لغواً، والحكمة في ذلك، والله أعلم، أنه قد جعل هذا الذي أوردناه في اللغو تحت قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} (¬4) الآية .. وإنما اللغو ما قاله مالك، رضي الله عنه، أن يحلف على الشيء يظنّه على معنى فيخرج على خلافه (¬5)، قال لي بعض القرويين من شيوخنا: قال أبو حفص العطّار (¬6) يوماً ¬

_ (¬1) وقال الحافظ في تعريف اليمين: اليمين في اللغة اليد، وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كلٌّ بيمين صاحبه، وقيل لأن اليد اليمنى من شأنها حفظ الشيء فسمي الحلف بذلك وعرفت شرعاً بأنها توكيد الشيء بذكر اسم أو صفة لله .. فتح الباري 11/ 516. (¬2) سورة المائدة آية 89، وانظر كلام الشارح في الأحكام 1/ 640 عليها. (¬3) هذا من لغو اليمين عند الشافعي. انظر شرح المحلى على منهاج الطالبين 4/ 273، وانظر أحكام القرآن للرازي 3/ 225. (¬4) سورة البقرة آية 224. (¬5) أما لغو اليمين عند مالك وأبي حنيفة فهي اليمين على الشيء يظن الرجل أنه على يقين منه فيخرج الشيء على خلاف ما حلف عليه. بداية المجتهد 1/ 326، وانظر شرح فتح القدير لابن الهمام 5/ 63، والإجماع لابن هبيرة 2/ 320. (¬6) هو عمر بن محمَّد التميمي، شُهر بالعطّار، الفقيه الإِمام العالم الصالح، كان على سمت المجتهدين المبرزين. أخذ عن أبي بكر بن عبد الرحمن وغيره، وكان من أقران ابن محرز وأبي إسحاق التونسي ونظرائهم، وانتفع به خلائق، له تعليق على المدوَّنة قيل أملاه سنة 427 أو 428. مات قبل شيخه. المذكور بالقيروان وقيل بالمنيستير ودفن بها. شجرة النور الزكية 1/ 107.

لأصحابه: إذا حلف رجل بالطلاق على أمر يظنه لشيء فخرج بخلافه ما يلزمه، قالوا له: لا شيء عليه لأنه هذه لغو اليمين عند مالك، رضي الله عنه، قال: أخطأتم، إنما يكون لغو اليمين في اليمين بالله تعالى لا في اليمين بالطلاق. فأما اليمين الغموس فهي عند (ح) من جملة اللغو لأنها غير منعقدة (¬1)، فأما مالك، رضي الله عنه، فرأى سقوط الكفارة فيها من جهة عظم إثمها، وهو إن كان أشار إلى ذلك إلى آخر كلامه (¬2) فإنما أوَّله مبني على عقد اليمين واليمين عقد يفتقر إلى معقود به ومعقود في نفسه، فإذا كذب لم يكن هناك معقود فلا يكون هنالك عقد، فإن قيل فقد قصدها بقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} (¬3) الآية، وهذا قد كسبها. قلنا: كسب الكذب ولم يكسب بالعقد بالآية؛ إذ أخبر أنه فعل أمس ولم يفعل فهذا خبر لا مخبر له، فإذا حلف عليه فقد عقد ما لا ينعقد، فإن قيل عقد إظهار الصدق، قلنا قد بيَّنا أنه لا معوَّل على اللفظ وإنما المعوَّل على ما يرتبطه القلب، وقد استوفينا ذلك في مسائل الخلاف ولما علم الله تعالى أن اليمين يرتبط وأن الخلق يتهافتون إليها سراعاً جعل منها مخرجاً بالاستثناء وهو على وجهين: إما بحروفه وإما بقولك إن شاء الله. فإن كان بحروفه جرى على مقتضى اللغة، وإن كان جرى بمشيئة الله تعالى انحلت اليمين عند كافة الفقهاء كيفما ذكرها، وقال مالك، رضي الله عنه: إنها لا تنحل إلا إذا قصد بذلك الحل؛ لأن مشيئة الله تعالى متعلقة بكل موجود ذكرها الحالف أو تركها فلا بدّ من قصده إلى الاستثناء (¬4) بها، ومتى يقع الاستثناء قال سائر العلماء، عن بكرة أبيهم: يكون الاستثناء بعد اليمين نسقاً لا يكون بينهما من الفصل ما يقطع الاتصال، وذهب محمَّد بن المواز (¬5) إلى أن الاستثناء إنما يكون قبل أن يتم اليمين، فإن تمت ثم عقبها بالاستثناء لم تنحلّ، وهذا حرج عظيم، بل رخَّص الله تعالى في حلها بالاستثناء بعد ¬

_ (¬1) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 5/ 62. (¬2) الموطأ 2/ 478؛ فقد قال مالك: وأما التوكيد فهو حلف الإنسان في الشيء الواحد مراراً، يردد فيه الأيمان يميناً بعد يمين كقوله: والله لا أنقصه من كذا وكذا، يحلف بذلك مراراً ثلاثاً أو أكثر من ذلك، قال: فكفّارة ذلك كفّارة واحدة مثل كفارة اليمين ... ، قال الباجي: لغو اليمين لا كفارة فيها لأنها على مذهب مالك متعلقة بالماضي، وهو مثل أن يحلف في رجل مقبل أنه زيد وهو يعتقد ذلك فيه، لا شك عنده، فإذا قرب منه تبين له غير ذلك فهذا عنده لغو اليمين ولا كفارة فيه. المنتقى 3/ 244. (¬3) سورة المائدة آية 89. (¬4) انظر بداية المجتهد 1/ 329. (¬5) تقدمت ترجمته.

فضل الكفارة

عقدها بالقلب رفقاً منه بالخلق، ويعزى إلى ابن عباس أنه يجوِّز الاستثناء غير متصل (¬1)، وقد بيَّنا ذلك في أصول الفقه (¬2). قال أبو الفضل (¬3) المراغي في حكاية طويلة: عوَّلت على الخروج من بغداد، بعد أخذ جملة من العلم، فارتحلت ووقفت عند باب الحلبة عند فاميّ (¬4) أبتاع منه زادي، فجعل يقول لجليسه: أي فل (¬5)، أما سمعت العالم يقول عن ابن عباس أنه يجوز الاستثناء ولو بعد سنة، لقد فكرت في ذلك منذ سمعته إلى الآن وشغلت به بالي، ولو كان هذا صحيحاً ما قال الله تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} (¬6) كان يقول له: قل إن شاء الله وبررت في يمينك. فعجبت ثم قلت في نفسي: بلد هذه عامته لا ينبغي لأحد أن يخرج منه، فتركت الكراء من الجمال وأخذت رحلي وانصرفت. فضل الكفارة: شرَّع الله تعالى الكَّفارة لمن أغفل الاستثناء مخرجاً عن اليمين وحلاً لما عقد به اليمين من معقود معظَّم إما أن يكون تعظيم من جهة قدرة الكريم كالله وصفته العلية، وإما أن يكون معظَّماً من جهة مشقة الخلاف على الحالف مثل أن يقول: أنت ¬

_ (¬1) قال البغوي: قال ابن عباس: له الاستثناء بعد حين، وقال مجاهد: بعد سنين، وقال سعيد بن جبير: بعد أربعة أشهر. شرح السنة 10/ 20، وقال الرازي: بعد حكاية قول ابن عباس وأبي العالية والأصح أن قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} ابتداء كلام. أحكام القرآن للرازي 4/ 208 وقال الباجي: قال شيوخنا: لا يثبت عن ابن عباس فإن ابن عباس من أهل اللسان ولا يخفى عليه أنه ليس من لغة العرب أن يذكر الإنسان لفظاً ثم يظهر الاستثناء منه بعد عام. المنتقى 3/ 246، وقال ابن جرير: السنة له أن يقول ذلك آتياً بسنة الاستثناء حتى ولو كان بعد الحنث، لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة. وقال ابن كثير: هذا هو الصحيح وهو الأليق بكلام ابن عباس. مختصر ابن كثير 2/ 415، وقال الشارح: وأما من قال: واذكر ربك بالاستثناء في اليمين ليرتفع عنك الحرج دون الكفارة فهو تحكم بغير دليل. أحكام القرآن 3/ 1236. (¬2) انظر مبحث التخصيص من كتاب المحصول له ل 33 أ. (¬3) أبو الفضل المراغي، لم أطلع عليه. وقد ذكر الشارح الكلام في الأحكام ص 647. (¬4) الفامي، بفتح الفاء وفي آخرها الميم، هذه النسبة إلى الحرفة وهو لمن يبيع الأشياء من الفواكه اليابسة ويقال له البقال أيضاً. الإنساب 10/ 142، اللباب 2/ 410. (¬5) قال ابن مالك: وشاع في سب الذكور فعل ... ولا تقس وجر في الشعر فل. قال ابن عقيل: بعض الأسماء لا يستعمل إلا فى النداء نحوياً فل أي يا رجل. شرح ابن عقيل، 2/ 277. (¬6) سورة ص آية 44.

طالق إن دخلت الدار، والله، إن شاء الله، أو يسكت عن المشيئة، وقرَّرها تعالى ورتبها, ولم يبيِّن في القرآن ميقاتها. واختلف العلماء فيه فمنهم من قال: لا تجوز الكفارة إلا بعد الحنث (¬1)، ومنهم من قال: تجوز قبل الحنث، وإلى ذلك مال علماؤنا (¬2). والأصل في اختلافهم الحديث الصحيح "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا روي فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ" (¬3)، بِتَقْدِيمِ الْحَنَثِ عَلَى الْكَفَّارَةِ، وروي: فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينه وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، بِتَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحَنَثِ (¬4)، واضطرب الناس فمنهم من قال الواو لا تعطي رتبة (¬5) وإنها المعوَّل على المعنى، وذلك أن الكفَّارة متعلقة بسببين: اليمين والحنث، فلا يجوز تقديمها على أحدهما، كما لم يجز تقديم الزكاة على الملك والنصاب (¬6)، ومنهم من قال: إنما سبب الكفارة اليمين وحدها والكفارة بدل عن البر فيخرجها قبل الحنث (¬7)، وقد استوفينا الطريق في مسائل الخلاف وأما أنت الآن في هذا ¬

_ (¬1) هذا مذهب الأحناف. قال ابن الهمام: وإن قدَّم الكفَّارة على الحنث لم يجزه، شرح فتح القدير 4/ 20. (¬2) قال الباجي: استحب مالك أن تكون الكفارة بعد الحنث، فإن قدمها قبل الحنث فهل يجزيه أم لا؟ عنه في ذلك روايتان، المنتقى 3/ 249، وقال ابن عبد البر: إن كفَّر الحالف بالله قبل أن يحنث في يمينه أجزأ ذلك وقد قيل أيضاً لا يجزيه والأول تحصيل مذهب مالك، والكفّارة بعد الحنث أحب إلي في كل شيء، الكافي 1/ 454. (¬3) الموطأ 2/ 478، ومسلم في الأيمان والنذور باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه 3/ 1272، وشرح السنة 10/ 17، والترمذي 4/ 107، كلهم من حديث أبي هريرة. (¬4) مسلم في الباب السابق 3/ 1274 من حديث عبد الرحمن بن سمرة، وورد عند أبي داود: فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ ثُمَّ إئْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. أبو داود 3/ 585، وقال أبو داود: من حديث أبي موسى الأشعري وعدي بن حاتم وأبي هريرة، في هذا الحديث وروي عن كل واحد منهم في بعض الرواية الحنث قبل الكفارة، وفي بعض الرواية الكفارة قبل الحنث، ورواه النسائي 7/ 10. (¬5) قال الباجي الواو لا تقتضي رتبة، المنتقى 3/ 249، وقال الحافظ قال ابن التين وجماعة الروايتان دالتان على الجواز لأن الواو لا ترتب. فتح الباري 11/ 610. قال ابن مالك: فاعطف بواو سابقاً أو لاحقاً .. في الحكم أو مصاحباً موافقاً. (¬6) قال الباجي: إذا قلنا إنه تجوز الكفارة قبل الحنث فيصح عندي أن يكفّر بكل ما يكفِّر به من صوم أو غيره. المنتقى 3/ 249. (¬7) قال الحافظ ذكر أبو الحسن ابن القصار، وتبعه عياض وجماعة، أن عدة من قال بجواز تقديم الكفارة أربعة عشر صحابياً وتبعهم فقهاء الأمصار إلا أبا حنيفة. فتح الباري 11/ 609. وقال النووي: أجمعوا على أنه لا تجب عليه الكفَّارة قبل الحنث، وعلى أنه يجوز تأخيرها عن =

القبس فاستضء بقول النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أو قدِّم أو أخِّر فإن الذي قدَّم وأخَّر قد علم حالة الواو في الرتبة وغيرها وهو القدوة والأسوة .. ما تكون به اليمين: اليمين تنعقد بالله تعالى وصفاته العليا وأسمائه الحسنى كيفما ترددت العبارة عنها. قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِالله أوْ لِيَصْمُت" (¬1) تأديباً لعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين سمعه يحلف بأبيه وقد حلف النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بها فقال: "أفْلَحَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَأَبِيهِ إِنْ صَدَقَ" (¬2) وقد استوفينا القول فيه في الكتاب الكبير (¬3)، وقد قدمنا الإشارة إليه. فإن قال في يمينه هو يهودي، إِن فعل كذا وكذا فاختلف العلماء فيه، فقال (ح): هي يمين (¬4) تلزم فيها الكفارة، وهي مسألة عسرة جداً لأنهم عوَّلوا على أن قول الرجل: والله لا دخلت الدار، كأنه مخيَّر بامتناعه عن دخولها، ويؤكد خبره بتعظيم الله تعالى، فإذا خالف فكأنه ترك ذلك التعظيم: فإذا قال: تركت حرمة الله إن دخلت الدار كان مثل ذلك. قلنا: تحيَّلتم تحيّلاً فاسداً في وجه تعلق الكفارة في اليمين بالله .. وإنما هي شرع محض أو معنى غير ما ذكرتم تحقيقه في مسائل الخلاف. تتميم: لما كانت اليمين بالله تعالى مشروعة في كتابه مبيناً حكمها، جارياً على لسان رسوله، - صلى الله عليه وسلم - لفظها استقرت ديناً وثبت حكمها يقيناً فلم يتطرق إليها اختلاف لكن ارتبط بها متعلقان عظيمان: أحدهما: ما حققناه من معناها وهو عقد القلب على فعل أو ترك مؤكد بمعظّم ديناً أو بمعظم ¬

_ = الحنث، وعلى أنه لا يجوز تقديمها على اليمين. واختلفوا في جوازها بعد اليمين وقبل الحنث فجوَّزها مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأربعة عشر صحابياً وجماعات من التابعين، وهو قول جماهير العلماء، لكن قالوا: يستحب كونها بعد الحنث، واستثنى الشافعي التكفير بالصوم فقال: لا يجوز قبل الحنث لأنه عبادة بدنية .. وأما التكفير بالمال فيجوز كما يجوز تعجيل الزكاة، شرح النووي على مسلم 11/ 109. (¬1) متفق عليه. البخاري في كتاب الأيمان والنذور باب لا تحلفوا بآبائكم 8/ 164، ومسلم في كتاب الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى 3/ 1267، والموطأ 2/ 480 كلهم من حديث ابن عمر وأول الحديث: "أَلَا إنَّ الله، عَزَّ وَجَلَّ، يَنْهَاكُمُ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) لم أطلع على هذا الكتاب وقد ذكره في المسالك أيضاً. (¬4) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 4/ 15.

مشقة، ولا خلاف بين الأمة في أنَّ من من أكدَّها بمعظم المشقة أنها تلزمه مثل أن يقول: إن دخلت الدار أو إن مشيت إلى مكة، أو إن كلّمتُ فلاناً فامرأتي طالق. واستقر الدين على ذلك حتى قام رويبضة (¬1) فقال: إن هذه ليست بيمين ولا تلزم (¬2)، وقد استوفينا عليه الدليل في كتب مسائل الفقه، وبيَّنا أن الإِنسان على نفسه بصيرة، وقد التزم مؤجلاً ما له أن يعجِّله وقوله بذلك صالح وذمته صحيحة، ثم تركَّب على هذا الأصل أصلٌ آخر اختلف العلماء فيه وهي إذا قال لامرأته: إن تزوجتك فأنت طالق. واختلف العلماء في هذا؛ فمنهم من قال: إنه يلزمه لأنه ربط بنفسه إليه وعقده عليه وعلَّقه بالنكاح فلزم كما لو علَّق الطلاق بدخول الدار في الزوجة، قال به الكوفيون (¬3)، وهو معظم مذهب مالك، رضي الله (¬4) عنه. وقالت طائفة: هذا قول (¬5) باطل وإنما تعلق الطلاق في الزوجة بدخول الدار لأنه معجل في يده مجاز له أن يؤخِّره، أما إذا قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنتِ طالق، فهذا طلاق ليس في يده منه شيء في الحال، فكيف يؤخِّره أويعلِّقه فيكون متصرفاً فيما لا يملك، وقال به مالك في ثلاثة (¬6) مواطن مفتياً (¬7)، وهو مذهب سعيد بن المسيب (¬8) وكثير من أهل المدينة، وهو ¬

_ (¬1) الرويبضة تصغير الرابضة وهو الرجل التافه، أي الحقير، ينطق في أمر العامة .. ترتيب القاموس 2/ 288. (¬2) لعل الشارح يقصد بذلك داود أو غيره من أهل الظاهر، وهذه حدة منه، رحمه الله، لا تنبغي. قال ابن رشد: ذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه ليس يلزم في مثل هذه الأقاويل، أعني الخارجة مخرج الشرط، إلا ما ألزمه الإجماع من ذلك، وذلك أنها ليست بنذور فيلزم فيها النذر، ولا بأيمان فترفعها الكفَّارة، فلم يوجبوا على من قال إن فعلت كذا وكذا فعلي المشي إلى بيت الله مشياً ولا كفارة. بداية المجتهد 1/ 301. (¬3) هذا مذهب الأحناف، انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 4/ 25. (¬4) قال الباجي: يريدون .. إن تزوجتك فدخلت الدار فأنت طالق، فيضيف الطلاق إلى النكاح. المنتقى 4/ 115، وانظر قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي ص 256 - 257، والكافي 2/ 578، وبداية المجتهد 2/ 59. (¬5) لم أطَّلع على قائل هذا القول. (¬6) في (ك) و (م) تلاه مالك مفتياً. (¬7) قال الباجي: روى ابن وهب عن مالك أنه أفتى رجلاً حلف إن تزوج فلانة فهي طالق أنه لا شيء عليه إن تزوجها. قاله ابن وهب ونزلت بالمخزومي، فأفتاه مالك بذلك. قال الباجي: وليست هذه الرواية بالمشهورة، والمشهور رواية أي زيد عن ابن القاسم في العتبية إن وقع، والدليل على ما نقوله إنه أضاف الطلاق إلى النكاح فوجب أن يلزمه. المنتقى 4/ 115. (¬8) انظر فقه سعيد بن المسيب، رسالة دكتوراه لهاشم جميل عبد الله 3/ 344 - 345، والمدونة 6/ 28، والمحلّى 10/ 214، وشرح السنة 9/ 199.

"توصية"

اختيار (ش) (¬1) وقد مهَّدنا المسألة في مسائل الخلاف وبالجملة فإنها ضعيفة. فأما المتعلق الثاني فهو: مقاصد اليمين؛ فإنها عند جميع العلماء، أو معظمهم، متعلقة بالألفاظ؛ فما اقتضى اللفظ منها لغة قُضي به، وما خرج عن اللغة لم يلتفت إليه، واضطربت في ذلك رواية علمائنا؛ فمنهم من قال: إنها محمولة على المعنى، وهو المعظَّم، وروي عن مالك، رضي الله عنه، أيضاً في مسائل من الأيمان أنه أجراها على الألفاظ (¬2)، وتعلق الأيمان عند علمائنا بالمعاني هو الذي أوجب اضطراب أقوالهم (¬3) وقد كان الأشبه بالخلق والأرفق بالناس تعلّقها بالألفاظ إلا أن الأدلة تقوى في المعاني قوة كثيرة. كنت كثيراً في مجلس فخر الإِسلام الشاشي (¬4) فيأتي إليه الرجل فيقول: يا سيدنا (¬5) حلفت بالطلاق ألَّا ألبس هذا الثوب، وقد احتجت إلى لباسه، فيقول استل منه خيطاً فيسل منه خيطاً مقدار الشبر أو الأصبع ثم يقول له: ألبسْ لا شيء عليك. وسمعت شيخنا أبا بكر الفهري (¬6)، وأبا القاسم بن حبيب المهدوي (¬7)، وأبا علي حسن بن مناس الطرابلسي (¬8) دخل حديث بعضهم في بعض يقولون: إن المعول عليه في مذهب مالك، رضي الله عنه، في الأيمان على النيَّة، فإن لم يكن فالسبب، فإن لم يكن فالبساط، فإن لم يكن فالعرف، فإن لم يكن فاللغة، وهذه كلها معاني صحيحة قد بيَّناها في مسائل الفقه ونظَّمنا أدلتها في أصول الفقه (¬9) فعوّلوا عليها. "توصية": لكن إذا جاءكم السائل فسألكم عن يمين فإن رأيتم في كلامه أنه قد خلص من الحنث فحذارِ من تجاوز ذلك إلى السؤال عن شيء وقولوا له: انصرف لا شيء عليك، وإن رأيتم أنه قد خرج وأثم (¬10) فحينئذ اسألوه عن هذه المعاني لعلكم أن تجدوا، ¬

_ (¬1) انظر شرح السنة 9/ 199، وانظر تكملة المجموع 17/ 153. (¬2) في بقية النسخ زيادة قوله (كثرة الفروع في الأيمان عندنا وتعارض اللفظ في الدليل الذي أوجب) وفي (ك) زيادة: هو. (¬3) انظر الكافي لابن عبد البر 1/ 49، ومقدمات ابن رشد 1/ 310. (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) قلت: السيد هو الله تعالى. (¬6) تقدمت ترجمته. (¬7) أبو القاسم بن حبيب المهدوي لم أعثر له على ترجمة. (¬8) أبو علي حسن بن مناس الطرابلسي لم أعثر له على ترجمة. (¬9) هذه زيادة في الأصل ليست في بقية النسخ، وإنما فيها الإحالة على مسائل الخلاف. (¬10) في (ك) و (م) و (ص) حنث بدل اثم.

له مخلصاً، إلا أن يكون السؤال في حد، فينبغي أن يُسأل وأن يُطرق إليه بالتنبيه لعله أن يرجع اقتداء بالنبي، - صلى الله عليه وسلم -، حين قال للسائل وقد أقر بالزنا (لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ لَعَلَّكَ لَمَسْتَ، لَعَلَّكَ غَمَزْتَ" (¬1) وكما يروى أن أبا بكر، رضي الله عنه، قال للسارق الذي أقر عنده بالسرقة: (مَا أَخَالَكَ سَرَقْتَ) (¬2)، ومعنى قول مالك، رضي الله عنه، ليس العمل عليه أي ليس يلزم ذلك الإِمام؛ لأن مالكاً رأى أنه هو مستوفٍ للحد فكيف يسعى في إسقاطه، وإنما يستوفي ما وجب وإمام الأئمة، وهو النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قد طرق إلى الإسقاط، وقد كان علماؤنا يقولون: وإنما قال ذلك في السارق لأجل تعلق حق الآدمي، وهو المال، بالسرقة فخاف أن ينكر فيضيع المال بخلاف الزنا، وهذا الذي أشار إليه صحيح مليح لكن إذا حضر المال ينبغي له أن يسأله إن كان أخذه على غير وجه السرقة، فيجبر الله تعالى على ذي المال ماله ويحفظ على العبد عفوه ويسبل عليه ستره حتى ينفذ فيه أمره، ومن أغرب ما ترونه في تركيب الفروع على الأصول في باب الفتوى مسألتان: إحداهما: لابن القاسم (¬3)، قال في مجالسه: إذا حلف والله لا كلمت فلاناً ما دام بمصر قال: فسافر عنها ثم عاد إليها (¬4) فإنَّ له أن يكلمه، فقصر اليمين على الكون الأول بمصر ولم يسأل عن البساط والنية، ورأى أن مطلق اللفظ يقضي الكون الأول وهذا آخر. المسألة الثانية: قال أشهب (¬5): إذا حلف ألا يأكل خبزاً وزيتاً، جاز له أن يأكل كل واحد منهما على الانفراد ورأى أن اليمين وقعت على الجميع وقال عبد الحق (¬6)، من ¬

_ (¬1) البخاري في المحاربين باب هل يقول الإِمام للمقرّ: لعلك لمست أو غمزت 8/ 207، وشرح السنة 10/ 292، كلاهما من حديث ابن عباس. (¬2) روي عبد الرزاق عَنْ ابْنِ جُرَيْجِ قَالَ: سَمِعْتُ عَطاءَ يَقُولُ: كَانَ مَنْ مَضَى يُؤْتَى أَحَدُهُمْ بِالسَّارِقِ فَيَقُول: أَسَرَقْتَ قُلْ لَا، أسرقت؟ قل: لا عِلْمِي أَنَّهُ سَمَّى أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ. مصنف عبد الرزاق 10/ 244. وقال الحافظ: لم أره عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أبي بكر إلا أن في مصنف عبد الرزاق عن ابن جريج قال: سمعت عطاء .. وساق الحديث السابق تلخيص الحبير 4/ 67، والحديث فيه عطاء بن أبي مسلم، أبو عثمان الخراساني، واسم أبيه ميسرة، تقدم. درجة الحديث: ضعيف لأن عطاء لم يلقَ أبا بكر. (¬3) تقدمت ترجمته. (¬4) في (ك) و (م) جاز. (¬5) تقدمت ترجمته. (¬6) عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي الأشبيلي، أبو محمَّد، المعروف بابن الخراط، من علماء الأندلس. كان فقيهاً حافظاً عالماً بالحديث، وعلَّله ورجاله، مشاركاً في الأدب وقول الشعر، له المعتلّ =

أشياخنا القرويين: هذا إنما يجزىء في كل مؤتدم به؛ فإذا كان أحدهما لا يؤكل به الآخر فحنث إن أكل أحدهما على الانفراد، وتفريعات اليمين لا تنحصر فحذارِ أن تأخذ نفسك بأعيان المسائل فإنك لا تحصيها أبداً، ولكن عوّل على الأصول، التي مهَّدنا لك، واستعنْ ببعض النوازل التي أفتى فيها العلماء وخذ على آثار من مضى وافتِ والله يخلصك، فقد قال لي شيخ المصريين: روى أصحاب مالك، رضي الله عنهم، منهم مطرف (¬1) وغيره عنه أنه قال لا يكون الرجل عالماً مفتياً حتى يحكم الفرائض والنكاح والطلاق، إشارة إلى عظم منازل هذه الفصول في الدين وعموم وقعها في المسلمين والله يهب لنا ولكم الخلاص برحمته. ¬

_ = من الحديث والأحكام الشرعية ثلاثة كتب كبرى وصغرى ووسطى، ولد سنة 510 ومات سنة 581 هـ، الأعلام 3/ 281، فوات الوفيات 2/ 243، الأسماء واللغات 1/ 292، شذرات الذهب 4/ 271، عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء ببجاية ص 41. (¬1) مطرف بن عبد الرحيم بن إبراهيم بن محمَّد بن قيس، أبو سعيد، شاعر من أهل قرطبة، كان بصيراً بالنحو واللغة له رحلة سمع فيها من سحنون وجده من موالي عبد الرحمن الداخل. مات سنة 282، الأعلام 8/ 154 وانظر بغية الوعاة 2/ 288، وبغية الملتمس ص 378.

كتاب النكاح

كتاب النكاح ومعناه الجمع والضم، وذلك يكون بالفعل وهو الوطء، وبالقول وهو العقد، وقالت طائفة: إن الحقيقة هو الوطء والعقد مجاز، وليس كذلك بل كلاهما حقيقة؛ فإن القول يجمع حقيقة إلا أن جمع الأبدان محسوس وجمع الأقوال معقول وكلاهما في الشريعة معلوم واللفظ عليهما فيه محمول (¬1)، وفي الحديث الصحيح عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: (كَانَ النِّكَاحُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ، يَخْطُبُ الرَّجُلُ إِلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ أَوِ ابْنَتَهُ وُيصْدِقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا وَهذَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَالنِّكَاحُ الثَّانِي كَانَ الرَّجُلُ إذَا طَهُرَتْ أَهْلُهُ يَقُولُ لَهَا: اسْتَبْضعي مِنْ فُلَانٍ فَيُرْسِلُ إِلَى الرَّجُلِ فَيَطَأُهَا وَيعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا حَتَّى إِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا تَخَلَّى عَنْهَا وَأَصَابَهَا زَوْجُهَا إِنْ شَاءَ, وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ ذلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ .. وَالنَّكَاحُ الثَّالِثُ: كَانَ الرَّهْطُ مِنَ الْعَشرَةِ فَمَا دُونَهُمْ يَطَؤُونَ الْمَرأَةَ حَتَّى إِذَا حَملَتْ وَوَلَدَتْ وَمَرَّتَ عَلَيْهَا لَيَالِي أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهَا فَإِذَا اجْتَمَعُوا عِنْدَهَا ألْحَقَتْهُ بأَيِّهِمْ شَاءَتْ فَيَكُونُ وَلَدَهُ. النَّكَاحُ الرَّابعُ: نِكَاحُ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ فَيُعْلَمُ ذلِكَ مِنْهِنَّ فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَهُ حَتَّى إِذَا حَملَتْ وَوَلَدَتْ دُعِيَ لَهُ الْقَافَةُ فَمَنْ ألْحَقُوهُ بِهِ مِنْهُمْ كَانَ وَلَدَهُ ثُمَّ هَدَمَ الله تَعَالَى ذلِكَ كُلَّهُ إِلَا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ (¬2). رواه البخاري وغيره. قال أبو داود فيه (إلَّا نِكَاحُ الإْسْلَامِ) (¬3) وفيه فوائد وهي ابتغاء النسل وبقاء العمل ووجود العفة والعصمة، وفيه من الآفات العجز عن الحقوق المرتبطة به: طلب الحلال المحتاج إليه في إقامة القوت واختلف العلماء في حكمه، فمنهم من قال إنه مباح منهم ¬

_ (¬1) انظر كلام الحافظ في الفتح 9/ 103 على هذا الموضوع. (¬2) البخاري في النكاح باب من قال لا نكاح إلا بولي 7/ 19 - 20، وأبو داود 2/ 702 - 703. (¬3) أبو داود 2/ 703 وفيه: إلا نكاح أهل الإِسلام اليوم.

(ش) (¬1) لأنه نَيْل لذة وقضاء شهوة فصار كسائر اللذات المقتضاة جبلة، ومنهم من قال إنه قربة منهم (م) (¬2)، و (ح) (¬3)، وهذا هو الصحيح، والدليل عليه ما رواه البخاري وغيره أن ناساً اجتمعوا فقال بعضهم: كيف عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في السر فلما ذُكر لهم تقالوه (فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَتَزَوَّجُ، وَقَالَ آخَرٌ: أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ الآخَرُ: أَمَّا أَنَا فَلَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَبَلَغَ ذلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: أَمَّا أَنَا فَأتَزَوَّجُ وَأنَامُ عَلَى الْفِرَاشِ وَآكُلُ الْلَّحْمَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنَّي) (¬4) وفي الصحاح أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ عَلَيْكُمْ بِالْبَاءَةِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجاءٌ" (¬5)، فحملهم على النكاح وندبهم إليه، وقد كانت سُنَّة من مضى الإقبال على العبادة والانقطاع عن الأهل إلا أن محمداً - صلى الله عليه وسلم -، جاء بالحنيفية السمحة فأمر بالعبادة وأذن في قضاء الشهوة حضاً على التحصين ورغبة في العفة وقطعاً للعلائق وتعرضاً لبقاء العمل إلى يوم القيامة وتحقيقاً لموعد الشارع؛ ففي بعض الآثار "تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإِنَّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (¬6)، وهذا إن لم يكن صحيحاً ولكن معناه صحيح؛ فإن أمة محمَّد أعظم الأمم ¬

_ (¬1) قال النووي: قال أصحابنا فيه أربعة أقسام: قسم تتوق إليه نفسه ويجد المؤن فيستحب له النكاح، وقسم لا تتوق ولا يجد المؤن فيكره له، وقسم تتوق ولا يجد المؤن فكره له وهذا مأمور بالصوم لدفع التوقان، وقسم يجد المؤن ولا تتوق .. فمذهب الشافعي وجمهور أصحابنا أن ترك النكاح لهذا والتخلي للعبادة أفضل، ولا يقال النكاح مكروه بل تركه أفضل .. شرح النووي على مسلم 9/ 174، والروضة 7/ 18، ومغني المحتاج 2/ 125، وفتح الباري 9/ 104. (¬2) انظر الكافي 2/ 519، ومواهب الجليل 3/ 403 - 404. (¬3) انظر شرح فتح القدير 2/ 339 - 340. (¬4) متفق عليه. البخاري في النكاح باب الترغيب في النكاح 7/ 2، ومسلم في النكاح باب استحباب النكاح ... 2/ 1020 كلاهما من حديث أنس. (¬5) متفق عليه. البخاري في النكاح باب قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وفي باب مَنْ لَم يَسْتَطِعْ الْبَاءَةَ فَلْيَصُمْ 7/ 3 وفي الصوم باب من خاف على نفسه العزوبة 3/ 34، ومسلم في النكاح باب استحباب النكاح 2/ 1018 كلاهما عن عبد الله بن مسعود. (¬6) ورد عن سعيد بن أبي هلال مرسلاً عب كذا رمز له السيوطي، وهو إشارة لعبد الرزاق في الجامع، انظر الجامع الصغير مع شرحه فيض القدير 3/ 269، وسعيد بن أبي هلال الذي ورد عنه مرسلاً قال عنه الحافظ: سعيد ابن أبي هلال الليثى مولاهم، أبو العلاء المصري، قيل مدني الأصل، وقال ابن يونس: بل نشأ بها صدوق لم أر لابن حزم في تضعيفه سلفاً إلا أن الساجي حكى أنه اختلط من السادسة. مات بعد الثلاثين وقيل قبلها وقيل قبل 150/ ع. ت 1/ 307، وانظر ت ت 4/ 94 - 95. وروي مسنداً قال المناوي: أسنده ابن مردويه في تفسيره عن ابن عمر وقال: قال الحافظ العراقي وسنده ضعيف، ورواه البيهقي في المعرفة وزاد في آخره: عن الشافعي بلاغاً وسند المرسل والمسند مضعف =

عدداً وأرفعهم رتبة، ولذلك روى الأئمة في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (رَدَّ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا) (¬1)، ولكن الجواب يختلف في ذلك؛ فمن لم يكن له إلى النساء مَيْلٌ وعلم من نفسه التقصير في حقوق النكاح وتعذر عليه الحلال من الرزق، فالتبتل له أفضل. وأما من استغلم (¬2) واستولى عليه الشبق فينكح ويجتهد في المحاولة على الحقوق، وليتبع الحلال إن وجده، أو يأخذ من المشتبهة على قدر الحاجة، وتمام ذلك وتحقيقه في المسائل. ومن الناس من يرى أن مداراة نفسه عن الغلمة والشبق بملازمة العبادة والإكباب على طلب العلم أولى من التشبث في مراعاة الحقوق، وطلب الحلال والمسألة محتملة فإن لم يكن له بدّ من النكاح حسب ما يفضي إليه النظر، أو يسبق به القدر فلا يذهل عما روي في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "تُنْكَحُ الْمَرْأةُ لأِرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلحَسَبِهْا وَجَمَالِهَا وَلدِينِهَا فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدَّينِ تَرُبَتْ يَدَاكَ" (¬3) رواه البخاري وغيره، ويشهد لصحته قول الله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (¬4) الآية إلى {فَضْلِهِ}، ومن فضل الله تعالى أنه أحلَّ له النساء أجمع على أن عددهن لا يحصى، وحرم منهن أربعين: منهم أربع وعشرون تحريمهن مؤبد لازم، ومنهن ست عشرة تحريمهن لعارض، الأم، البنت، الأخت، العمة، الخالة، بنت الأخ، بنت الأخت فهؤلاء سبع ومن الرضاع مثلهن لقوله (يُحْرَمُ مِنَ الرِّضَاعِ مَا يُحْرَمُ مِنَ النَّسَبِ) (¬5) فهن أربع عشرة ومن الصهر أربع: أم الزوجة ¬

_ = فيض القدير 3/ 269، وانظر البلاغ المذكور عن الشافعي عن الأم 3/ 255, وذكر الحافظ أن الشافعي رواه بلاغاً عن ابن عمر. فتح الباري 9/ 111. درجة الحديث: ضعفه الشارح والسيوطي والمناوي والعراقي والشيخ ناصر في ضعيف الجامع الصغير 3/ 41. (¬1) متفق عليه. البخاري في النكاح باب ما يكره من التبتل والخصاء 7/ 5، ومسلم في النكاح باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه 2/ 1020 كلاهما عن سعد ابن أبي وقاص. (¬2) في (ك) و (م) استغنم، وما في الأصل أصحّ قال في القاموس: اغتلم غلب شهوة .. ترتيب القاموس 3/ 413. (¬3) متفق عليه. البخاري في النكاح باب الإكفاء في الدين 7/ 9، ومسلم في الرضاع باب استحباب نكاح ذات الدين 2/ 1086 كلاهما عن أبي هُرَيْرَة. (¬4) سورة النور آية 32 وتمام الآية {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. (¬5) متفق عليه. البخاري في النكاح باب {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} 7/ 11، وفي الشهادات باب الشهادة على الأنساب 3/ 222، وفي باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع 7/ 49، ومسلم في كتاب الرضاع باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة 2/ 1068 كلاهما من حديث عائشة وفي رواية لمسلم (يُحْرَمُ مِنَ الرّضَاعَةِ مَا يُحْرَمُ مِنَ النّسَبِ) 2/ 1070.

وبنتها وزوجة الابن وزوجة الأب، ومن الجمع ثلاث الأختان قرآنا (¬1) والمرأة وعمتها والمرأة وخالتها سنة (¬2)، والملاعنة سنة (¬3)، والمنكحة في العدة بإجماع من الصحابة (¬4) في قضاء عمر، رضي الله عنه، وزوجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سقط ذلك. وأما التحريم العارض: فالخامسة، والمزوجة، والمعتدَّة، والمستبرأة، والحامل، والمطلقة ثلاثاً، والمشتركة، والأَمة الكافرة، والأَمة المسلمة لواجد الطول، وأَمة الابن، والمحرمة، والمريضة، ومن كان ذا محرم من زوجه اللاتي لا يجوز الجمع بينهن وبينها، واليتيمة الصغيرة، والمنكوحة يوم الجمعة عند النداء، والمنكوحة عند الخطبة بعد التراكن. وهذا منتهى كلام علمائنا العراقيين بنصه ورأيت لسحنون قد زاد فيها: الثيِّب الصغيرة إذا رجعت إلى والدها قبل البلوغ، وفي ذلك كله تفصيل وتطويل بيَّناه في كتاب المسائل ومن جملة ذلك أن يقال في عقد واحد: والمنهي عن نكاحها لأمر يرجعِ إلى العقد، فيدخل فيه نكاح يوم الجمعة (¬5)، وعلى خطبة أخيه وأمثاله فيكون قسماً واحداً يتضمن أعياناً كثيرة من المسائل فليطلب بيان ذلك حيث أحلنا عليه. ولما كان النكاح في الإِسلام كما قالت عائشة، رضي الله عنها، يكون ابتداؤه بخِطبة، بكسر الخاء (¬6)، بدأ ذلك مالك، ¬

_ (¬1) قال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)} [سورة النساء آية: 23]. (¬2) متفق عليه. البخاري في النكاح باب لا تنكح المرأة على عمتها 7/ 15، ومسلم في النكاح باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح 2/ 1028، والموطأ 2/ 532 كلهم عن أبي هرَيْرَة. (¬3) أصح الأحاديث في ذلك حديث ابن عمر أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قال للمتلاعنين: "حِسَابُكُمَا عَلَى الله، أحَدُكمَا كَاذبٌ لاَ سَبِيلَ لَكَ علَيْهَا" .. متفق عليه. البخاري في الطلاق باب قول الإِمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب 7/ 71، ومسلم في اللعان 2/ 1132 كلاهما عن ابن عمر. (¬4) روى مَالِكٌ عَنِ ابنِ شِهاب عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيبِ وَعَنْ سليمَانَ بْنِ يَسَار أنَ طلَيْحَةَ الأسَدِيةِ كَانَتْ تَحْتَ رُشَيْدٍ الثقْفِي فَطَلقَّهَا فَنَكحَتْ في عِدَّتهَا فَضَرَبَهَا عُمَرُ بْن الْخَطابِ وَضَرَبَ زَوْجَهَا بِالْمِخْفَقَةِ ضَرَبَات وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُم قَالَ عمَر بْنُ الْخَطابِ: أيُّمَا أمْرأةٍ نَكَحَتْ في عِدَّتهَا فَإنْ كَانَ زَوْجُهَا الذِي تَزَوجَهَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثم اعْتَدتْ بَقِيةَ عِدتهَا ينْ زَوْجِهَا الأولِ ثُم كَانَ الآخَر خَاطِباً مِنَ الْخُطَّاب وَإنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُم أعْتَدتْ بَقِيةَ عِدَّتِهَا مِنَ الأولِ ثم اعْتَدتْ مِنَ الآخَرِ ثُمّ لاَ يَجْتَمَعَانِ أَبَداً .. الموطأ 2/ 536 والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 441. درجة الأثر: رجاله ثقات إلا أنه منقطع لأن سعيداً وسليمان لم يدركا عمر. (¬5) انظر متن الشيخ خليل ص 49 والخرشي عليه 2/ 90. (¬6) قال في النهاية: خطب يخطب خِطبة، بالكسر، فهو خاطب والاسم منه الخِطبة أيضاً وأما الخُطبة بالضم فهو من القول والكلام. النهاية 2/ 45.

رضي الله عنه، في موّطئه كما يجب فقال: باب ما جاء في الخطبة (¬1)، وأدخل الخديث عن ابن عمر وأبي هريرة "لاَ يَخْطُبُ أحَدُكُمْ عَلَى خِطبَةِ أخِيهِ" (¬2)، وفصل حديث ابن عمر من حديث أبي هريرة في السند والمتن لأنه كان لا يرى رأي شيخه ابن شهاب في جمع المفترق كما قال: دخل حديث بعضهم في بعض، كما كان البخاري لا يرى تفريق المجتمع، وهو أيضاً مذهب مالك، رضي الله عنه، كما أدخل مالك حديث فضل العتمة ثم عقبه بقوله: مَرَّ رَجلٌ في طَرِيقِهِ بِغُصْنِ شَوْكٍ (¬3)، فترى الجهال يتعبون في تأويله، وفائدة إدخاله له ها هنا؛ وإنما كان ذلك لأنه سمعه منه (¬4)، وكذلك يروي البخاري الحديث في مواضع ثم يعقبه فيقول: وبه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال كذا، والامتناع من جمع المفترق أو فرق المجتمع لفائدتين: أحدهما: التعرض لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين قال "نَضَرَ الله امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا" (¬5) الحديث. ¬

_ (¬1) الموطّأ 2/ 523. (¬2) الحديثان متفق عليهما أولاً: حديث ابن عمر أخرجه البخاري في النكاح باب لا يخطب على أخيه حتى ينكح أو يرد، وساق بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: نَهَى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنْ يَبِيعَ بَعْضكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْض وَلَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ حَتى يَتْركَ الْخَاطب قَبْلَهُ أوْ يَأذَنَ لَه الْخَاطِبُ، البخاري 7/ 24، والموطأ 2/ 523، والشافعي في الرسالة فقرة 848، ولفظ مالك هو الذي ساقه الشارح ورواه أبو داود 2/ 565، ومسلم في النكاح 2/ 1032، وحديث أبي هريرة مثله أخرجه البخاري في كتاب النكاح بابَ لا يخطب على خطبة أخيه 7/ 24، والموطأ 2/ 523، والرسالة للشافعي فقرة 847، ومسلم في النكاح باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح 2/ 1029، وزاد: وَلَا يَسُمْ عَلَى سَوْم أخِيهِ. (¬3) متفق عليه. من حَديث أبي هريرة، البخاري في كتاب الأذان باب فضل التهجير إلى الظهر 1/ 167، ومسلم في كتاب الصلاة باب تسوية الصفوت وإقامتها 1/ 325، وفي الأمارة باب بيان الشهداء 3/ 1521، والموطأ 1/ 131، ولفظه عند البخاري: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمشي في الطرِيقِ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطرِيقِ فَأخَذَهَ فَشَكرَ الله لَه فَغَفَرَ لَهُ ثمْ قال: الشهَدَاء خَمْسَةٌ .. والحديث عند الجميع من رواية أبي هُرَيْرَة. (¬4) قال الحافظ أثناء الكلام على هذا الحديث عند البخاري وكأنْ قتيبة حدث به عن مالك هكذا مجموعاً فلم يتصرف فيه المصنف (أي البخاري) كعادته في الاختصار، فتح الباري 2/ 279. (¬5) أبو داود 2/ 289، والترمذي 5/ 33 - 34، وابن ماجه 1/ 84، وأحمد 5/ 183، كلهم من حديث زيد ابن ثابت. درجة الحديث: صححه السيوطي وأقره المناوي، ونقل عن الترمذي أنه صححه، والذي في السنن أنه حسن فقط، كما نقل عن الحافظ ابن حجر قوله: حديث زيد بن ثابت صحيح .. ومرة قال: صحيح =

والثانية: أن فتح هذا الباب ربما تعرض له من لا يحسن الجمع والفرق فيفسد الأحاديث. وصفة الخِطبة، بكسر الخاء، أن يبدأ بالخُطبة، بضم الخاء، فيحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقول، كما رواه الترمذي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} (¬1)، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] (¬2)، {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (¬3) (¬4) الآية، وإن فلاناً رغب فيكم وِهوى إِليكم من الصداق لكم كيت وكيت فأنكحوه. هذه هي السنة إن جاء أحد بها فبها وَنعِمَتْ، وإن قصر عنها وأتى بالمقصود له منها أجزأت حتى قال مالك، رضي الله عنه: لو بادر رجلاً فقال له: هل تزوجني ابنتك بألف فقال له الآخر: نعم، لزمه (¬5). وقال (ش): لا يلزمه حتى يقول له الآخر بعد ذلك: قبلت (¬6). وكذلك الخلاف في البيع مثله، ولقب المسألة هل تنعقد العقود بالاستدعاء أم لا؟ والصحيح ما ذهب إليه مالك، رضي الله عنه؛ لأن الغرض من القبول معرفة الرضا، وقد حصلت معرفة الرضا بالاستدعاء، فإن قال: كنت هازلاً، فهزل النكاح جدٌّ، ومثل هذه الدعوى يتطرق إلى القبول ولا يسمح إجماعاً، وإن قال: قصدت الاستدعاء (¬7)؛فإن علمت بما عنده كنتَ بعد ذلك على الاختيار والارتياء فلا إخبار ولا ارتياء في النكاح إجماعاً بدليل أنه لو صرَّح ¬

_ = المتن وإن كان بعض أسانيده معلولاً. فيض القدير 6/ 285، وقال قبل هذا، قال ابن مندة .. رواه عن المصطفى، - صلى الله عليه وسلم - أربعة وعشرون صحابياً .. (¬1) سورة آل عمران آية 102. (¬2) سورة النساء آية 1. (¬3) سورة الأحزاب آية 70. (¬4) سنن الترمذي 3/ 413 - 414 وقال: حديث عبد الله حسن، وأبو داود 2/ 291 - 2920، والنسائي 6/ 89، وابن ماجه 1/ 601، وأحمد رقم 3720 - 3721، والحاكم 2/ 182، والبيهقي من طريق وأصل بن الأحدب عن شقيق عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، ومن حديث أبي عبيدة عن أبيه. درجة الحديث: صحَّحه الشارح في العارضة 5/ 20، وأحمد شاكر في تعليقه على المسند رقم 3720. (¬5) قاال القاضي عبد الوهاب: ينعقد بكل لفظ دالٍ على التمليك أبداً كالبيع. نقلاً عن تحفة الحكام 1/ 157. (¬6) انظر الروضة للنووي 7/ 36. (¬7) في (م) الاستسلام.

بشرطه لم يجز. والحديث مشهور في الصحيح ذكر منه مالك نصفه وتمامه (لَا يَخْطبُ أحَدُكُمْ عَلَى خطْبَةِ أخِيهِ وَلَا يَبع عَلَى بَيْعِ أخِيهِ) (¬1) ومعنى لا يبع لا يسم؛ لأن البيع إن وقع لم يتصور بعده بيع، وكذلك رواه مسلم (لاَ يَخُطُب أحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ وَلَا يَسُمْ عَلَى سَوْمِ أخِيهِ) (¬2) مفسراً متقناً، والحديث عام بإطلاقه في كل حالة من أحوال الخطبة، خصَّصه في عمومه وحمله على بعض محتملاته حسب ما فسَّره مالك، رضي الله عنه، إذا تراكنا واتفقا على الصداق وهما يحاولان العقد ويتناولانه (¬3) أمران بديعان: أما أحدهما: فحديث فاطمة بنت قيس قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إِذَا حَلَلْتِ فَلَا تُحْدِثي شَيْئاً حَتى تُؤَاذِنِيني، قَاك: فَلَمَّا حَلَلْتُ جئْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله صَلى الله عَلَيْكَ، خَطَبَني مُعَاوِيةُ ابنُ أبي سُفْيَان وَأبو جَهْمُ بْنُ أبِي حُذَيْفَةَ فَقَالَ: "أمَّا مُعَاوَيةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، وَأمَا أبُو جَهْم فَلَا يَضَعْ عَصاهُ عَنْ عَاتِقِهِ وَلَكِنِ انْكِحِي أُسَامَةَ بْن زَيدٍ فَنَكَحَتْهُ فَاغْتَبَطَتْ بِهِ" (¬4). وأما الثاني: فما أشار إليه مالك، رضي الله عنه، من قوله. (فَهذا بَابُ فَسَادٍ يدخلُ عَلَى النَّاسِ) (¬5)، إشارة إلى ما يقع بينهم من التقاطع والشحناء التي فيها فساد ذات البين، فخص مالك، رضي الله عنه، هذا العموم وحمله على بعض محتملاته بالمصلحة، وهو أصل ينفرد به عن سائر العلماء. فأصول الأحكام خمسة: منها أربعة متفق عليها من الأمة الكتاب والسنة والإجماع والنطر والاجتهاد فهذه الأربعة، والمصلحة وهو الأصل الخامس الذي انفرد به مالك، رضي الله عنه، دونهم ولقد وفق فيه من بينهم، وقد بيَّنا ذلك في أصول (¬6) الفقه، ثم اختلف المالكية إذا وقع هذا فقيل: يفسح لأنه فاسد فنهي ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب النكاح باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك، من حديث ابن عمر، مسلم 2/ 1032 وقدم تخريجه. (¬2) مسلم في الباب السابق 2/ 1033 من حديث أبي هُرَيْرَة. (¬3) الموطّأ 2/ 523. (¬4) مسلم في كتاب الطلاق باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها 2/ 1114، والموطأ 2/ 580 - 581، وأبو داود 2/ 712 - 713، والشافعي في الرسالة فقرة 856. (¬5) الموطأ 2/ 524. (¬6) قال القرافي: فغيرنا يصرح بإنكارها، ولكنهم عند التفريغ نجدهم يعلِّلون بمطلق المصلحة ولا يطلبون أنفسهم عند الفروق والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار، بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة .. شرح التنقيح ص 448.

نكتة

عنه، خارج عن قانون الشريعة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنَا فَهُوَ ردٌّ" (¬1)، ومنهم من قال: أركان العقد سليمة من الفساد والمتعاقدان والولي والصداق، وإنما المعنى الذي نُهي عنه من غير شرط العقد، قالوا: ومتى ما وقع النهي في العقود على هذا النحو منع منها فإن وقعت مضت إما بنفس العقد وإما بالقوة في الدخول على حسب حال النهي، والسبب الذي نُهي عنه لأجله حسب ما تتعارض فيه الأدلة ويتبين في أعيان المسائل، وقد ذكر مالك، رضي الله عنه، في معرض تخصيص النهي بالخطبة التعريض بخطبة المعتدة، وهو كل قول يفهم منه المقصود حالاً، ولا يفهم من التصريح في المقال، كقول ابن القاسم المروي في الموطأ وأشدّه قوله: (إنَّي فِيكِ لَرَاغِبٌ) (¬2)، ولكنه لمَّا لم يكن فيه للنكاح ذكرٌ جاز، وهذه رخصة لا يقاس عليها ولا تعلق للمخالفين في احتجاجهم على تعليق الحكم بالألفاظ دون المعاني رداً على مالك، رضي الله عنه, لأنه لا يقاس على مخصوص، ولا يقاس منصوص على منصوص؛ لأن في القياس على المخصوص إبطال الخصوص، وفي قياس المنصوص على المنصوص إبطال النصوص. نكتة: أما خلق الله الذكر والأنثى لبقاء النسل وركب الشهوة في الجبلَّة تيسيراً لذلك وتحريضاً عليه حجزه عن مطلق العمل بمقتضاها في الآدميين بالتكليف، وأرسله فيما عداهم لعدم التكليف .. والباري تعالى غني عن العالمين، فنظَّمه بروابط ورتَّبه على شرائط اختلف العلماء فيها اختلافاً كثيراً، أصولها عند علمائنا خمسة: المتعاقدان المتأهلان لذلك، والصداق الذي يصلح أن يكون صداقاً، والولي للزوجة الذي يتولى العقد والإعلان المفرق بينه وبين السفاح، فلم يجعل الله تعالى العقد إلى المرأة أولاً مخافة أن تغلب شهوتها عقلها فتضع نفسها في غير موضعها، كما لم يجعل الطلاق إليها آخراً لفضل القوامة في الرجل، ولأنه لا يؤمن أيضاً من تفاهتها أن تنبذ زوجها عند رؤيتها غيره كنبذها لنعلها قال الله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} (¬3)، فخاطب الأولياء بالأمر بالنكاح في موضعه، كما خاطبهم بالنهي عند تعدي الأمر، فقال تعالى {فَلاَ تَعْضُلُوهُن أنْ ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في البيوع باب النجش معلقاً 3/ 91، والصلح باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود 3/ 241، ومسلم في الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور 3/ 1343، وأبو داود 5/ 12، وابن ماجه 1/ 7 كلهم عن عائشة. (¬2) الموطأ 2/ 524. (¬3) سورة النور آية 32.

ينْكِحْنَ أزْوَاجَهُنَّ} (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في رواية أبي موس: (لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَليٍّ) (¬2)، رواه الترمذي وغيره، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال "أيُّمَا امْرأة نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَليِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنَكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُها بَاطِلٌ، فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا اْلمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فُرْجِهِا فَإِنْ اشتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وليُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ" (¬3). وكما قالت عائشة، رضي الله عنها، آنفاً، فَهَدَمَ (¬4) الله ذَلِكَ كُلَّهُ إلا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ وَإِلّا نِكَاحَ الْإسْلَامِ. ولما كان النساء على ضربين: منهن البرزة المختبرة للرجال العارفة بالمقاصد المنطلقة اللسان في استدعاء النكاح ورده، ومنهن المخدرة البلهاء الخفرة (¬5)، جعل الله تعالى للأولياء حالين: حالة يستبدون بها في ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 232. (¬2) الترمذي 3/ 407، وأبو داود 2/ 568، وابن ماجة 1/ 605، وأحمد في المسند 4/ 394 و 413 - 418، وابن حبان، انظر موارد الظمآن ص 304 - 305، والبيهقي 7/ 107، والحاكم في المستدرك 2/ 169، وشرح السنة 9/ 38 كلهم عن أبي موسى. وقال الشيخ ناصر: صححه جماعة منهم علي بن المديني ومحمد بن يحيى الذهلي، كما رواه الحاكم عنهما وصححه هو أيضاً، ووافقه الذهبي، ومنهم البخاري كما ذكر ابن الملقن في الخلاصة (ق 143/ 2)، فالحديث صحيح قطعاً بالشواهد، ولعل تصحيح من صحَّحه من أجل الشواهد. إرواء الغليل 6/ 238، وصححه أيضاً عبد القادر الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول 11/ 458. (¬3) أبو داود 2/ 566، والترمذي 3/ 407 وقال: حديث حسن، ابن ماجه 1/ 605، وابن حبان، انظر موارد الظمآن ص 305، والحاكم في المستدرك 2/ 168 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 105 - 107 مطولاً، وأحمد في المسند. انظر الفتح الرباني 16/ 154، وشرح السنة 9/ 39، وابن عدي في الكامل 3/ 1115 وقال: هذا حديث جليل في هذا الباب في باب لا نكاح إلا بولي، وعلى هذا الاعتماد في إبطال النكاح بغير ولي. ورواه العقيلي في الضعفاء 2/ 140، وقد تكلم عليه الحافظ في تلخيص الحبير 3/ 179 - 180، كلهم عن عائشة. والحديث فيه سليمان بن موسى الأموي مولاهم الدمشقي الأشدق، صدوق فقيه في حديثه بعض لين وخلط قبل موته بقليل من الخامسة/ م ع عنه 1/ 331. مات سنة 19 وانظر ت ت 4/ 226. درجة الحديث: نقل عبد القادر الأرناؤوطي عن أبي عوانة وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم أنهم صحَّحوه جامع الأصول 11/ 457، وقال شعيب الأرناؤوطي في تعليقه على شرح السنة 9/ 39 صحيح، وقال الشيخ ناصر إنه حسن. إرواء الغليل 6/ 246، وعندي أن تحسين الترمذي والبغوي والشيخ ناصر له أولى لأن فيه سليمان المتقدم ذكره. (¬4) في (م) فأبطل. (¬5) الخفر، محركة: شدة الحياء. ترتيب القاموس 2/ 82.

العقد وذلك على المخدرة (¬1) البلهاء الخفرة، وحالة يعقد الرجل فيها على النساء عند رضاهن بذلك وطلبهن له، وهن الثيبات البوالغ المجربات، وألحق مالك، رضي الله عنه، في بعض الروايات، المعنَّسات (¬2)، بالثيبات لأنهن قد علمن من ذلك بطول العمر وكثرة السماع ما يعلمه الأيامى، وخصص هذه العمومات بهذا القياس، وكذلك، رضي الله عنه، يري تخصيص العموم بالقياس والمصلحة، وقال في رواية أخرى: الْمُعَنَّسَةُ كَالْبِكْرِ (¬3) حَتى تُخْتَبَر، وهذه الرواية هي الصحيحة في النظر فليس الخبر كالمعاينة، وليس عند المعنسة من أمور النكاح بالسماع إلا ما عند العنّين، فعلى هذه الرواية فليعول ويعتضد بما أعضده به مالك، رضي الله عنه، من قضاء عمر، رضي الله عنه، حين قال: (لَا تُنْكَحُ الْمَرْأةُ إلَّا بِإذْنِ وَلِّيِها أَوْ ذي الرأَي مِنْ أَهْلِهَا أوِ السَّلْطَانِ) (¬4). فأراد بقوله (وَليِّهَا) الأدنى، وأراد بقوله (في الرَّأَي مِنْ أهْلِهَا) الأبعد، وأراد بقوله (السُّلْطَانِ) كل امرأة لا وليّ لها. واختلف قول علمائنا بالمراد بالأهلية على ثلاثة أقوال: فقيل ما وقع الاشتراك به في البطن كعبد الدار وهاشم، وقيل ما وقع به الاشتراك في العشيرة كقصي، وقيل ما وقع الاشتراك به في القبيلة ككنانة وقريش، وقيل ما كان من العصبة (¬5)، وبه أقول، وتحقيق ذلك في مسائل الخلاف. وأما كان النكاح بيد الولي في القسمين جميعاً، شرع الله تعالى الإذن في البكر مستحباً لذي الشفقة المتناهية، وهو الأب، وواجباً في حق الثيِّب لكل أحد، ولوروده على هذين الوجهين ما أبهم به مالك الباب فقال: باب استئذان الأيم والبكر في أنفسهما، ولم يقل باب وجوب الاستئذان، ولا باب استحبابه، ¬

_ (¬1) إلزام البنت الخدر كالإخدار والتخدير وهي مخدورة ومخدرة ومخدرة، والإقامة بالمكان كالإخدار. ترتيب. القاموس 2/ 21. (¬2) العانس من الرجال والنساء الذي يبقى زماناً، بعد أن يدرك، لا يتزوج، وأكثر ما يستعمل في النساء، يقال عنست المرأة فهي عانس وعنست فهي معنسة كبرت وعجَّزت في بيت أبويها النهاية 3/ 308. (¬3) ذكر الباجي عن مالك في رواية ابن وهّب عنه إنَّهَا إذا عَنَسَتْ لَمْ يُزَوَّجْها إلَّا بِرضَاهَا، وروى محمَّد عنه أن له أن يجبرها وان عنست وبلغت أكثر من أربعين سنة. المنتقى 3/ 272. (¬4) الموطأ 2/ 525، أنّة بَلَغَة عَنْ سَعِيدِ بن المُسيّب أنَّه قالَ: قَالَ عُمرُ بن الْخَطاب قَال: لا تُنْكَخ الْمَرْأة إلَّا بِإذْنِ وَليّهَا. درجة الأثر: منقطع لأن مالكاً لم يدرك سعيداً. (¬5) قال ابن عبد البر: اختلف أصحابنا في قول عمر هذا؛ فقال بعضهم: كل واحد من هؤلاء يجوز إنكاحه إذا أصاب وجه النكاح من الكفء والصلاح، وقال آخرون على الترتيب لا التخيير. شرح الزرقاني 3/ 127، وانظر المنتقى 3/ 267.

وأدخل حديث عَبْدِ الله بْنِ الْفَضْلِ (¬1) عَنْ نَافِعِ (¬2) بْنِ جُبَيْرِ (¬3) بْنِ مُطْعِم عَن ابنِ عَبَّاس أنَّ رَسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: "الأيَّمُ أحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَليّهَا، والْبِكْرُ تُسْتَأذنُ في نَفسِهَا وَإذْنُهَا صُمَاتُهَا" (¬4) والحديث صحيح مروي بألفاظ مختلفة من جملتها قوله: "وَالثّيِّبُ أحَق بنَفْسِهَا مِنْ وَليِّهَا" (¬5) وهو أخص من الأيِّم ومن جملتها ما رواه شعبة عن مالك، رضي الله عنه: "الأيِّم أحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَليِّها وَالْيتيمَةُ تُسْتَأذَنُ في نَفْسِهَا وإذْنُهَا صُمَاتُهَا" (¬6). والحديث صحيح خرَّجه مسلم ولم يخرجَّه البخاري، والعلة فيه ما بيَّناه في الكتاب الكبير اختصاره أن البخاري لا يروي عمن يقلّد فيه وإنما يروي عمن يعلمه بعينه عدلاً في صفته من زمانه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبهذا تكون الأمانة، فنظر في عبد الله بن الفضل هذا فلم يتبين له أهُوَ من أولاد ربيعة بن الحارث أو من بني عتبة بن أبي لهب، والرواية عن غير المتعين كالرواية عن المجهول، واتفقت الأمة على أن المجهول العدل تجوز الرواية عنه إذا قال أنا رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لوجوب العدالة (¬7) لهم، ولا يجوز ذلك في غيرهم لعدم العدالة فيهم، واختُلف في عدالة من عداهم مع عدم التعديل، فقال القائلون: كما لا يجوز ذلك في الشهادة لا يجوز في الرواية، ومنهم من قال: الرواية أوسع من الشهادة، وقد حققنا ذلك في أصول الفقه، وقد روي الحديث "الثيبُ أحقُّ بنفْسهَا منْ وَليِّهَا" (¬8) وهذا حديث مركب من جملتين. ¬

_ (¬1) عبد الله بن الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي المدني، ثقة من الرابعة/ غ. ت 1/ 440، وانظر ت ت 5/ 357. (¬2) نافع بن جبير بن مطعم النفلي أبو محمَّد، أو أبو عبد الله المدني، ثقة فاضل من الثالثة، مات سنة 99/ ع. ت 2/ 295، وانظر ت ت 10/ 404. (¬3) جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي النوفلي، أبو محمَّد، وقيل أبو عدي، أحد، أشراف قريش وحلمائها .. أسلم بعد الحديبية تجريد أسماء الصحابة 1/ 78 وت 1/ 126، ت ت 2/ 62. (¬4) الموطأ 2/ 524، ومسلم في كتاب النكاح باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت 2/ 1037، وأبو داود 2/ 577، وللترمذي 3/ 416، والنسائي 6/ 84، وابن ماجه 1/ 601، وأحمد انظر الفتح الرباني 16/ 156 - 157، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 118، والشافعي في مسنده 2/ 12. (¬5) مسلم في الباب السابق، وأبو داود 2/ 578، والنسائي 6/ 85. (¬6) النسائي 3/ 84. (¬7) قال النووي: الصحابة كلهم عدول. تقريب النووي مع شرح تدريب الراوي 2/ 214. (¬8) مسلم في كتاب النكاح باب استئذان ثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت 2/ 1037، من طريق عبد الله بن الفضل عن نافع بن جبير يخبر عن ابن عباس.

إحدى الجملتين خبر عن الثيب، والجملة الثانية خبر عن البكر، وقد استوفينا الغرض من ذلك في مسائل الخلاف. الإشارة إليه أن الجملتين نظَّمتا التغاير بين البكر والثيب فجعلت الثيبة مالكة أمرها، وجعلت البكر مملوكاً عليها أمرها، وذلك في حق الأب خاصة؛ لأنه ذكر الصفة في الحكم، وذكرها في الحكم تعديل فجعل الثيب أحق بنفسها لاختبارها الرجال ومعرفتها بالمقصود من النكاح، وردَّ الله تعالى أمر البكر إلى الولي لغرارتها, ولكن ولي تكمل شفقته ويعلم حسن نظره، وهو الأب في ابنته خاصة، فإن قيل: فما معنى الإذن ها هنا حين قال "تُسْتَأُذَنُ في نَفْسِهَا" ما فقيل في الحديث: إنها تستحي (¬1) فقال: (إِذْنُهَا صُمَاتُهَا). قلنا: هذا هو الذي أشكل على كثير من العلماء واختلف فيه قول مالك، رضي الله عنه، فتارة اعتقد في البكر أنها اليتيمة (¬2)، وكذلك يروي أنه فسرها شعبة في هذا الحديث فقال: (وَالْيَتيمَةُ تُسْتَاذَنُ في نَفْسِهَا) وتارة قال: إنها البكر (¬3) في حق الأب، وهو الصحيح الذي به ينتظم مساق الحديث ويكمل المعنى. وقال أهل العراق: إذا بلغت البكر لم يزوِّجها أحد إلا بإذنها، لا من أب ولا من سواه، وهذا فاسد (¬4)؛ فإن الحديث بنظمه وتعليمه يقتضي أن يملك الأب عليها النكاح؛ لأنه إنما جعل الثيب أحق لكونها ثيباً، ولما كانت فائدة الولي في النكاح حفظ المرأة من الوقوع في غير الكفؤ فتلوِّث نفسها، وتلحق العار بحسبها، رأى مالك، رضي الله عنه، أن الدنيئة المقطوعة لا يرتبط أمرها بالولي، في ¬

_ (¬1) متفق عليه. إلبخاري في النكاح باب لا يُنكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما 7/ 23، ومسلم في النكاح باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت 2/ 1037، والنسائي 6/ 85 - 86 كلهم عن عائشة. (¬2) قال في المدونة: الأمر عندنا في البكر اليتيمة. المدونة 2/ 142. (¬3) قال الباجي: قوله - صلى الله عليه وسلم - "الْبِكْر تُسْتَأذَنُ في نَفْسِهَا" قال ابن القاسم وابن وهب وعلي بن زياد عن مالك في المدونة: يريد البكر التي لا أب لها لأنها هي التي تُستأذن، وقد روى هذا الحديث زياد بن سعد فقال فيه: (والبكر يستأذنها أبوها). وصواب هذا الحديث ما رواه مالك، وقد تابعه عليه سفيان الثوري وكل واحد منهما إمام: إذا انفرد قوله غلب على قول زياد فكيف إذا اتفقا على خلافه، وقد رواه صالح بن كيسان عن عبد الله بن الفضل فقال فيه (واليتيمة تستأمر) وهو أثبت من زياد بن سعد وقوله أولى من جهة النظر، ولعل عبد الله ابن الفضل لعلمه بالمراد به كان مرة يقول (والبكر تستأذن) ويقول مرة (واليتيمة تستأمر) وقد روى هذا الحديث شعبة عن مالك فقال فيه (واليتيمة تستأمر). المنتقى 3/ 266، وانظر المدونة 2/ 142، وشرح الزرقاني 3/ 127. (¬4) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 2/ 395، ونصب الراية 3/ 190.

أحدى رواياته (¬1) , لأن الذي يخاف منها، والمعنى الذي اعْتُبر الولي لأجله معدوم فيها، وتارة ألحق الدنيئة بالشريفة أخذاً بعموم الحديث وهو الأسلم في النظر والاسلم في الحسب؛ فإن تمييز الدنيئة من الشريفة يعسر في المراتب فسدّ الباب أولى. وعلى الجملة فلم يختلف علماء المدينة ومكة في أن المرأة مسلوبة العبارة في النكاح كالصبي والمجنون، ولذلك كانت عائشة رضي الله عنها (تَخْطِبُ وَتُقَدِّرُ الْمَهْرَ ثُمَّ تَقُولُ أعْقِدُوا فَإِنَّ النِّسَاءَ لَا يَعْقِدْنَ) (¬2)، إلا أنه وقع لعلمائنا رواية أن المرأة إذا وليت من لا يصح منه إنكاح نفسه قدَّمت من يتولى عقد النكاح، وإذا وليت من يصح منه عقد النكاح يوماً ما جاز لها أن تعقد نكاحه، وهذه رواية ضعيفة جداً، وقد خطب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ميمونة فجعلت أمرها إلى أم الفضل، أختها، فجعلت أم الفضل أمرها إلى العباس فزوجها العباس من النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وما جرى قط في السلف ولا في الخلف أن امرأة باشرت نكاحها، ومن شرط الولي أن ¬

_ (¬1) المدونة 2/ 146. (¬2) الشافعي في مسنده قال: أخْبَرَنَا الثقَةُ عَنْ ابنِ خُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الرحْمنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أبِيهِ قَالَ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَطْلُبُ إلَيْهَا الْمَرْأةَ مِنْ أهْلِهَا فَتشْهَدُ فَإذَا بَقِيَتْ عقْدَةُ النكَاحِ قَالَتْ لِبَعْضِ أهْلِهَا: زَوِّجْ فَإِنْ الْمَرْأةَ لَا تَلِي عُقْدَةَ النِّكَاحِ، مسند الشافعي 2/ 13، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 122، وابن أبي شيبة في المصنف 4/ 135. والحديث فيه شيخ الشافعي إبراهيم بن محمَّد بن أبي يحيى الأسلمي، أبو إسحاق المدني، متروك من السابعة. مات سنة/ 184، أو قيل 191/ ق. ت 1/ 42، وقال في ت ت قال يحيى بن سعيد القطان: سألت مالكاً عنه أكان ثقة؟ قال: لا ولا ثقة في دينه، وقال أحمد: كان معتزلياً جهمياً كل بلاء فيه. ومرة قال أحمد: ترك الناس حديثه كان يروي أحاديث منكرة لا أصل لها، وكان يأخذ أحاديث الناس يضعها في كتبه. وقال بشر بن المفضل: سألت فقهاء المدينة عنه فكلهم يقولون كذاب. وقال البخاري: جهمي تركه ابن المبارك والناس، وكان يرى القدر. وقال ابن معين: ليس بثقة ت ت 1/ 158، وانظر الضعفاء للعقيلي 1/ 62، المجروحين 1/ 105، والحديث فيه ابن جريج عنعنه وهو مدلّس أيضاً. درجة الحديث: ضعيف. (¬3) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 4/ 287 من حديث ابن عباس وعزاه للطبراني في الكبير والأوسط، وقال فيه: يعقوب بن حميد بن كاسب وهو ثقة وفيه ضعف وبقيه رجاله ثقات. أقول: يعقوب هذا قال فيه الحافظ: يعقوب بن حميد بن كاسب المدني، نزيل مكة، وقد ينسب لجده، صدوق ربما وهم من العاشرة، مات سنة 240 أو 241/ عخ ق ت 2/ 375، وقال في ت ت: قال ابن معين ثقة، ومرة قال: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وقال البخاري: لم يزل خيراً، هو في الأصل صدوق، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الحاكم أبو عبد الله: لم يتكلم فيه أحد بحجة. ت ت 11/ 383، وانظر الكامل لابن عدي 7/ 2608، والضعفاء للعقيلي 4/ 446. درجة الحديث: عندي أنه حسن لغيره.

ما جاء في الصداق والحباء

يكون حراً بالغاً عاقلًا مسلماً، وليس من شرطه أن يكون عدلاً، خلافاً للشافعي (¬1)؛ لأن الولاية عمادها الشفقة والحمية على الحسب والأنفة، والفسق لا يؤثر في ذلك. ورأى الشافعي أن ولاية النكاح خطة ومنزلة كريمة، والمراتب لا ينزلها الفساق ولو كان من فسق الرجل ما عسى أن يكون؛ فإن نظره لوليته لا ينقطع عنه بكراً على حالة البكارة أو ثيباً على حالة الثيوبة، واختلف العلماء في ثيوبة الصغيرة فقالوا: إذا رجعت الصغيرة ثيباً إلى أبيها زوجها كما يزوج البكر قسراً. وقال أشهب (¬2)؛ ذلك ما لم تحض. قال سحنون (¬3): له جبرها وإن حاضت (¬4) حتى يستأنف زواجاً ثانياً بعد البلوغ لأنه رأى أن الثيوبة الأولى جرح لم يقع لها (¬5) به خبرة، ولا يحصل لها به مقصد النكاح، والأخذ بمطلق الحديث في الفرق بين الثيب والبكر وتقسيمه وتعليله أولى من هذا. واختلف الناس وعلماؤنا هل يكون الكافر ولياً في نكاح فيه مسلم، أو مسلم في نكاح فيه كافر على تفصيل بيانه في مسائل الفقه. والصحيح أنه لا يدخل المسلم في نكاح فيه كفر، ولا الكافر في نكاج فيه إسلام إلا نكاح السيد لعبده الكافر من طريق المملوكية (¬6) بخلاف طريق الولاية فإن الله تعالى أثبت الملك مع الكفر ولم يثبت الولاية معه بل نفاها بعدم الهجرة فقال {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (¬7). ما جاء في الصداق والحباء: الصداق عقد منفصل عن النكاح بائن عنه في ذاته وأحكامه، والدليل على صحة ذلك أن النكاح يجوز لونه لأن عقد النكاح إنما ركناه الزوج والزوجة، كل واحد منهما يحل لصاحبه ويستمتع به، وقد قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬8)، وقال: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬9) وقال تعالى: {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} (¬10) في أزواج ¬

_ (¬1) انظر الروضة للنووي 7/ 64. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) تقدمت ترجمته. (¬4) انظر بداية المجتهد 2/ 5. (¬5) ليست في (م) وهي في بقية النسخ. (¬6) انظر الكافي لابن عبد البر 2/ 527. (¬7) سورة الأنفال آية 72. (¬8) سورة النساء آية 4. (¬9) سورة النساء آية 25. (¬10) سورة الأحزاب آية 50.

النبي - صلى الله عليه وسلم -. فردد الله تعالى الصداق بين النحلة المبتدأة التي لا يقابلها عوض؛ وإنما وجبت على الزوج بفضلية القوامة وبمنزلة الذكورية وبين الأجرة والعوضية وفي هذا رد على من أنكر من الفقهاء تعارض الأدلة، وتردد الفرع بين الأصلين وحكمه إذا تردد بينهما أن يوفر على كل واحد شبهه ويركب عليه حكمه وهو أصعب مسائل النظر، ولذلك قال مالك، رحمه الله تعالى، تارة: النكاح أشبه شيء بالبيوع (¬1)، وتارة جرَّده عنها وخزل حكمه منها. وكذلك اختلف قوله في الصداق الفاسد على ثلالة أقوال: أحدها: إنه يمضي بنفس العقد. والثاني: إنه لا يفسخ قبل الدخول (¬2). والثالث: إنه يفسخ قبل وبعد (¬3). واختلف الناس في تأويلات هذه الأقوال؛ فمنهم من جعلها مطلقة، ومنهم من قال: إنها مبنية على قوة الفساد وضعفه، وتفصيل ذلك مستوفى في المسائل. واختلف العلماء، رحمة الله عليهم، بعد الاتفاق على وجوبه وفي تقديره؛ فمنهم من نفى التقدير وجوَّزه بكل قليل وكثير، وهو (ش) (¬4) وروى في ذلك أحاديث ليس لها أصل من جملتها (الصَّدَاقُ مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الأهْلُونَ) (¬5). ومنهم من قدَّره. واختلفوا في التقدير فقال أهل ¬

_ (¬1) المونة 2/ 200 ونقله الشارح في الأحكام 1/ 389. (¬2) قال ابن عبد البر: اختلف قول مالك بينهما فقال مرة: ينفسخ نكاحه ويكون للمرأة بمسيسها صداق مثلها، وقال مرة أخرى: يثبت نكاحه بصداق المثل وهو تحصيل المذهب. الكافي 2/ 553، وكذا قال ابن رشد في بداية المجتهد 2/ 27. (¬3) هذه الرواية نقلها الباجي في المنتقى 3/ 275. (¬4) انظر الروضة للنووي 7/ 249، وشرح الحسنة 9/ 119. (¬5) الدارقطني في سننه من طريقه محمد بْنِ عبدِ الرحْمنِ الْبيلَمَانِي عَنْ أبيهِ ابن عَبَّاس قَالَ: قَال: قال رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، أنكحُوا الأيَامَى ثَلَاثاً قِيل مَا الْعَلائقُ بينَهمْ يَا رسولَ الله؟ قَالَ: مَا تراضى عَليه الأهْلونَ وَلو قَضِيباً مِنْ أراكٍ، الدارقطني 3/ 244، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 239 من طريق عبد الرحمن البيلماني عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: هنا منقطع. ومن طريق أخرى عن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن عمر، وقال: محمَّد بن عبد الرحمن ابن البيلماني ضعيف، وعزاه الزيلعي لأبي داود في المراسيل عن عبد الرحمن ابن البيلماني عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - نحوه وقال: قل ابن القطان: ومع إرساله فيه عبد الرحمن أبو محمَّد لم تثبت عدلته وهو ظاهر الضعف .. فصب الراية 3/ 200. أقول: محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، بفتح الموحدة واللام بينهما تحتانية، ضعيف، وقد اتَّهمه ابن عدي وابن حبان من السابعه/ دق. ت 2/ 182، وقال في ت ت: قال البخاوي وأبو حاتم=

الكوفة: أقله عشرة دراهم (¬1) وهو أقل ما تقطع فيه يد السارق عندهم، ومنهم من قدَّره بربع دينار، وهم أهل المدينة, لأن القطع عندهم أيضاً مقدَّر بربع دينار، ومنهم من قدَّره بدرهم ونحوه كالسوط والنعل وهو ابن (¬2) وهب (¬3) والمتعلق في ذلك طلب النبي، - صلى الله عليه وسلم -، في حديث سهل في الصداق خاتماً من حديد (¬4) وسط قيمته درهم لأجل الصنعة التي فيه. والصحيح أنه مقدَّر بنصاب القطع، وأن القطع مقدَّر بربع دينار (¬5)، وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف وفي حديث سهل (¬6) بن سعد. هذا دليل على وجوب الصداق لأن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، طلبه من طرق؛ فهذا يدل على تعيّنه وإلزامه حتى طلب سوراً من القرآن يعلِّمها إياها، وقد اختلف العلماء في كون الإجارة صداقاً على ثلالة أقوال (¬7)، وقد روي في هذا الحديث " عَلَّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ" (¬8)، وفي سنن أبي داود: "قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيةً" (¬9)، ودخول الإجارة في ¬

_ = والنسائي: منكر الحديث. وقال ابن عدي: وكل ما يرويه ابن البيلماني فالبلاء فيه منه، وإذا روي عن محمَّد بن الحارث فهما ضعيفان ت ت 9/ 293، وقال ابن حبان: يروي عن أبيه بنسخة شبيهاً بمائتي حديث كأنها موضوعة لا يجوز الاحتجاج به، ولا ذكره في الكتب إلا على جهة التعجب. المجروحين 2/ 264، الكامل لابن عدي 6/ 2187، والضعفاء للعقيلي 4/ 101. درجة الحديث: ضعفه الشارح وابن القطان وابن حجر. انظر تلخيص الحبير 3/ 215. (¬1) أنظر شرح فتح القدير لأبن الهمام 2/ 435. (¬2) عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي، أبو محمَّد المصري، الفقيه، ثقة حافظ عابد من التاسعة، مات سنة 197 وله 72 سنة/ ع. ت 1/ 460، وأنظرت ت 6/ 71، شجرة النور الزكية 1/ 58. (¬3) قوله هذا نقله ابن عبد البر في الكافي 2/ 551. (¬4) متفق عليه. البخاري في النكاح باب السلطان ولي 7/ 22، ومسلم في النكاح باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد 2/ 1040، والموطأ 2/ 526. (¬5) نقل ابن عبد البر عن مالك وأصحابه أنهم يجيزون في أقلِّه ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم كيلاً من الورق أو عرضاً يساوي أحدهما .. الكافي 2/ 551. (¬6) في جميع النسخ سعد بن سهل والصواب سهل بن سعد. (¬7) قال ابن هبيرة: اختلفوا في تعلم القرآن هل يجور أن يكون مهراً؟ فقال أبو حنيفة وأحمد، في أظهر روايتيه: لا يكون ذلك مهراً، وقال مالك والشافعي: يجوز أن يكون ذلك مهراً، وعن أحمد مثله، الإفصاح 2/ 136، وقال القاضي عياض: جواز الاستيجار لتعليم القرآن عن العلماء كافة سوى أبي حنيفة. نقلاً عن شرح النووي على مسلم 9/ 214، وانظر المجموع 16/ 328. (¬8) ما مسلم في كتاب النكاح باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد 2/ 1041، من حديث سهل بن سعد. (¬9) أبو داود 2/ 588 من طريق عسل عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة، وعسل بكسر أوله وسكون المهملة وقيل بفتحتين، التميمي أبو قرة البصري، ضعيف من السادسة/ د ت، ت 2/ 20، وقال في ت ت قال =

مسألة

النكاح تحقيقه في المسائل، أما هذا الحديث فلا أدري كيف أغفل العلماء حقيقته فإنه ليس بجارٍ في شيء من ذلك المضمار لأنه إن كان الصداق تعليمها فلا بد من تقدير المدة في إقرائها، وإن كان على أن يستظهرها فهي جعالة مجهولة المدة فلا يصح أن يكون صداقاً، وإنما مخرج الحديث أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، لما عدم عنده الصداق تحقق له الفقر فطلب (منه) (¬1) فضيلة يزوجها بها وليس استظهار القرآن أو شيء منه، كما روي أن أبا طلحة تزوج أم سليم على الإِسلام (¬2)، وليس أن الإِسلام كان صداقاً ولكن لأنه فضيلة استحق بها ذلك وهي الصداق في حديث أم سليم وفي حديث الموهوبة في ذمته فيكون ذلك نكاح تفويض. مسألة: قال النبي، - صلى الله عليه وسلم -، "قَدْ أنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ" (¬3) وروي "قَدْ زَوَّجْتُكَهَا) (¬4)، وروي (قَدْ مَلَّكْتُكَهَا) (¬5). واختلف العلماء في النكاح بغير لفظ الإنكاح، ¬

_ = أحمد ليس هو عندي قوي الحديث، وقال ابن معين ضعيف، وقال البخاري عنده مناكير، وقال النسائي ليس بالقوي، وقال أبو حاتم منكر الحديث ت ت 7/ 194، وقال ابن عدي بعد أن ساق الحديث من روايته قال وهذا الحديث لا أعلم يرويه عن عطاء غير عسل بن سفيان عن عطاء عن أبي هريرة غير إبراهيم بن طهمان لم يوصله غيره .. إلى أن قال ولعسل غير ما ذكرت وهو قليل الحديث ومع ضعفه يكتب حديثه. الكامل 5/ 2012، ورواه البيهقي في السنن 7/ 242. درجة الحديث: ضعيف وقد جزم الشخ ناصر بأنها زيادة منكرة لمخالفتها للرواية الصحيحة (بما معك من القرآن) ولتفرد عسل. إرواء الغليل 6/ 346. (¬1) ليست في (م). (¬2) النسائي 6/ 114 من حديث أنَس قالَ تزوَّج أبو طَلحَةَ أمَّ سلَيمٍ فكَانَ صُدَاقَ مَا بينهمَا الْإسْلَامُ. درجة الحديث: صححه الشخ ناصر في تعليقه على المشكاة 2/ 958، وذكر الحافظ أن النسائي صححه ولعله في سننه الكبرى. فتح الباري 9/ 212. (¬3) البخاري في النكاح باب التزويج على القرآن وبغير صداق 7/ 26، والموطأ 2/ 526. (¬4) البخاري في النكاح باب السلطان وليّ 7/ 22. (¬5) البخاري في فضائل القرآن باب خيركم من تعلّم القرآن وعلمه 6/ 237، ومسلم في كتاب النكاح باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد 2/ 1041، ونقل عياض عن الدارقطني أن قوله: (مَلّكْتُكَهَا) وهم، قال: والصواب رواية من روى (زَوَّجْتُكَهَا)، قال: وهم أكثر وأحفظ. وقال النووي عقب ذلك: قلت: يحتمل صحة اللفظين ويكون جرى لفظ التزويج أولاً فملكها، ثم قال له: إذهب فقد ملكتكها بالتزويج السابق، والله أعلم. شرح النووي على مسلم 9/ 214. وقال الحافظ: رواية التزويج والإنكاح أرجح. فتح الباري 9/ 214.

فمنعه (ش) (¬1) وجوَّزه (ح) بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد (¬2)، وجوَّزه مالك بكل لفظ يتفاهم به المتناكحان مقصدهما (¬3)، وتعلَّق من جوَّز النكاح بغير لفظ الإنكاح بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (مَلَّكتُكهَا) رواه معمر (¬4)، ويعقوب (¬5) الإسكندراني، وعبد الواحد (¬6) ابن زياد، وخرَّجه البخاري، وقال الدارقطني (¬7): هذا وهم منهم خالفهم حماد بن (¬8) زيد، وأبو غسان (¬9)، وفضيل (¬10) بن سليمان، ووهب (¬11) والثوري (¬12) وابن عيينة (¬13) وهم أحفظ قالوا كلهم: (قَدْ زَوَّجْتُكَهَا) وخذوا: ¬

_ (¬1) انظر المجموع 16/ 209. (¬2) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 2/ 344. (¬3) انظر مواهب الجليل 3/ 419. (¬4) معمر بن راشد الأزدي مولاهم، أبو عروة البصري، نزيل اليمن، ثقة ثبت فاضل من كبار السابعة. مات سنة 154 وهو ابن 58 سنة، روى له ع. ت 2/ 266، ت ت 10/ 243. (¬5) يعقوب بن عبد الرحمن بن محمَّد بن عبد الله .. نزل الإسكندرية، حليف بني زهرة، ثقة من الثامنة، مات سنة 81/ ت، 2/ 376 ت ت 11/ 391. (¬6) عبد الواحد بن زياد العبدي، مولاهم البصري، ثقة في حديثه عن الأعمش وحده، مقال من الثامنة. مات سنة 176 وقيل بعدها/ع، ت 1/ 526 ت ت 6/ 434. (¬7) هو علي بن عمر بن أحمد بن مهدي، أبو الحسن الدارقطني، إمام عصره، ولد سنة 306 ومات سنة 385 هـ، وفيات الأعيان 1/ 331، اللباب 1/ 483، غاية النهاية 1/ 558، تاريخ بغداد 12/ 34. (¬8) حماد بن زيد بن درهم الأودي الجهضمي، أبو إسماعيل البصري، ثقة ثبت فقيه، قيل إنه كان ضريراً ولعله طرأ عليه لأنه صح أنه كان يكتب من كبار الثامنة، مات سنة 179 وله 81 سنة/ع .. ت 1/ 197، وأنظر ت ت 3/ 9. (¬9) هو محمَّد بن مطرف بن داود الليثي، أبو غسان المدني، نزيل عسقلان، ثقة من السابعة. مات بعد / 160 ع، ت 2/ 208 ت ت 9/ 461. (¬10) فضيل بن سليمان النميري، بالنون مصغراً، أبو سليمان البصري، صدوق له خطأ كثير من الثامنة. مات سنة 183 وقيل غير ذلك 2/ع، ت 2/ 112 ت ت 1/ 298. (¬11) وهب، في كل النسخ، ولعل الصواب وهيب بالتصغير، بن خالد بن عجلان الباهلي مولاهم، أبو بكر البصرى ثقة ثبت لكنه تغير قليلاً بآخره من السابعة. مات سنة 165 وقيل بعدها/ع، ت 2/ 339 ت ت 11/ 169. (¬12) سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة، من رؤوس الطبقة السابعة وكان ربما دلَّس. مات سنة 161 وله 64 سنة/ع، ت 1/ 311 ت ت 4/ 111. (¬13) هو سفيان أن عيينة، أبو عمران ميمون الهلالي، أبو محمَّد الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة إلا أنه تغير حفظه بآخرة، وكان ربما دلَّس لكن عن الثقات من رؤوس الطبقة الثامنة. مات سنة 198 وله 90 سنة/ع، ت 1/ 312 وأنظر ت ت 4/ 117.

نكتة أصولية

نكتة أصولية: إذا اختلف ألفاظ الحديث في الرواية فتأملوا الحديث؛ فإن كان مما يتكرَّر فكل لفظ أصل يمهَّد وتبنى عليه الأحكام، وإن كان مما لا يتكرَّر فيُعلم قطعاً أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، إنما قال أحدهما، وأن الراوي هو الذي عبَّر عن تلك الحالة الواحدة بألفاظ مترادفة أو متقاربة، فتعرض الألفاظ على الأصول والأدلة فما استمر منها عليها هو الذي يُبنى عليه الحكم. ومسائل الصداق تتفاوت في العدد وتلحقها أحكام من البيوع فلا يمكن التعرض لها في هذه العجالة، ذكر منها مالك، رضي الله عنه، في هذا الباب خمس مسائل منها: مسألة المفوضة وييانها في مسائل الخلاف ومنها، مسألة العفو عن الصداق وبيانها في كتاب الأحكام (¬1)، ومسالة تقدير الصداق وقد سبقت الإشارة إليها (¬2)، ومسألة إنكاح الرجل ابنه الصغير وبيانها في المسائل وأغرب ما فيه قول علمائنا: أن الوصي يزوِّج الصغير قبل البلوغ ولا يزوج الصغيرة حتى تبلغ، وكان ينبغي أن تكون المسألة بالعكس لأن زواج المرأة منحة وزج الصغير عزمة (¬3)، فلا أراه بحال حتى يبلغ ويعلم قدر ما يدخل فيه، ومنها مسألة عمر بن عبد العزيز؛ حيث كتب إلى بعض عماله ما كان من شرط يقع في النكاح فهو لابنته (¬4) الحديث إلى آخره. وتحقيق المسألة أن الولي إن شرط الحباء للزوجة فهو لها، وإن شرطه لنفسه فينبغي أن يسقط ولا يكون لأحد، إما إنه لا يكون للزوجة فإنه لم يسمَّ لها في المهر، وإما إنه لا يكون للولي فلأنه أكلُ مالٍ بالباطل لا مقابل له، وإنما كان شيئاً تفعله الأعراب في الجاهلية ثم هدم الله تعالى ذلك بالإِسلام. ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن للشارح 1/ 318. (¬2) تقدمت. (¬3) في (ك) و (م) عزم. (¬4) عن مالِكٍ أنة بَلّغهُ أن عمَر بْن عَبدِ العزِيرِ كتب في خلافته إلى بعضِ عُمالهِ أن كلَّ ما اشترط المنْكِحُ مَنْ كان أباً أو غيْرهُ مِنْ جبَاءٍ أوْ كرَامةٍ فهو للمرأة إنِ ابتغتهُ. الموطأ 2/ 527، ورواه عبد الرزاق عن مَعْمرٍ عنْ أيّوبٍ أو غَيْرِه أنَّ عُمر بْن عبْدِ العزيرِ قالَ: "أيما أمْرأةٍ نُكحتُ على صداقٍ أوْ جباءٍ أوْ عدَّةٍ إذَا كانَتْ عُقْدَة النكاح عَلَى ذلك فهوَ لَهَا ... " المصنف 6/ 259. درجة الأثر: صحيح. وقد روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"أيما امْرأةٍ نكحتْ على صُداقٍ أو حِبَاءٍ أوْ عدَّةٍ قبْلَ عصْمةِ النكاحِ فَهو لها، وَما كانَ بعد عصمةِ النكاح فهو لمَنْ أعطيه ...) أبو داود 2/ 597، والنسائي 6/ 120. درجة الحديث: حسن وهو يشهد الأثر السابق.

حديث: قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: (أيُّمَا رجلٍ تزَوَّجَ امْرَاةً وَبِهَا جُنونٌ أوْ جُذَامٌ أوْ بَرَصٌ فَمَسَّهَا فَلَهَا صُدَاقُها) (¬1)، قال مالك، رضي الله عنه: وكذَلِكَ لِزَوْجِهَا غُرْمٌ عَلَى وَليِّهَا (¬2). هذه المسألة من أكبر مسألة في الفقه، وقد اختلف العلماء فيها اختلافاً كثيراً لبابه أن أهل الكوفة قالوا: لا ترد المرأة إلا بعيب يمنع من تقدير الصداق (¬3). وقال (ش): يرد النكاح بأربعة عيوب (¬4): الجنون (¬5)، والجذام (¬6)، والبرص (¬7) وداءِ (¬8) الفرج. سمعت الفهري (¬9) يقول: سمعت أبا العباس (¬10)، مدرِّس البصرة، يقول: وقد قال له إمام الحنفية (¬11): لا ترد المرأة بالجنون لأنه يمكنه الوطء وهي مقيَّدة، فقال له القاضي أبو العباس: عقد النكاح اقتضى التمكين من الوطء وهذا بخلاف مقتضى العقد، والعقد إذا فات مقتضاه بطل. فأما علماؤنا، رحمة الله عليهم، فقالوا في ذلك كثيراً واختلفوا قديماً وحديثاً جمعت شتات آرائهم ونظمت منثور أقوالهم وأوضحتها في كتاب المسائل أحسن إيضاح، والإشارة الكافية إليه أن النكاح يردّ عندنا بأربعة وعشرين عيباً: الجنون، الجذام، البرص، الجب (¬12)، الخصاء (¬13)، قطع الحشفة (¬14)، العنة (¬15)،! ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 526، ورواه الدارقطني في سننه 3/ 266، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 214، وابن أبي شيبة 7/ 16 كلهم عن يحيى بن سعيد عن سعيد ابن المسيب أنه قال: قال عمر ... ورواه أيضاً سعيد بن منصور في سننه ص 203. درجة الأثر: صحيح، فقد قال الحافظ رجاله ثقات انظر بلوغ المرام ص 218. (¬2) الموطأ 2/ 526. (¬3) انظر بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاشاني 3/ 1526 وما بعدها. (¬4) انظر الروضة 7/ 176، الشام 5/ 84، المهذب 2/ 49. (¬5) الجنون استتار العقل. (¬6) يقال رجل أجذم ومجذوم إذا تهافتت أطرافه من الجذام، وهو الداء المعروف. النهاية 1/ 251. (¬7) البَرَصُ، محركة، بياض يظهر في ظاهر البدن لفساد مزاج. ترتيب القاموس 1/ 250. (¬8) داء الفرج هو الذي يمنع الوطء بداية المجتهد 2/ 51. (¬9) الفهري تقدمت ترجمته .. (¬10) أبو العباس لم أطَّلع على ترجمته. (¬11) إمام الحنفية يترجح لدي أنه الدامغاني وقد تقدم. (¬12) الجب: قطع الذكر. ترتيب القاموس 1/ 433. (¬13) الخصاء: سل الخصيتين. ترتيب القاموس 2/ 68. (¬14) الحَشَفَةُ، محركة، ما فوق الختان. ترتيب القاموس 1/ 648. (¬15) صغر الذكر جداً. الشرح الصغير 3/ 259.

إرخاء الستور يوجب الصداق

الاعتراض، الرتق (¬1)، القرن (¬2)، العفل (¬3)، الاستحاضة، الإفاضة، نتن الفرج، حرق النار، السواد (¬4)، القزع (¬5)، البشم (¬6)، البخر (¬7) العلماء، العرج، الزمانة، الذبول (¬8)، التيتاء .. وكذلك قيدته عن الترمذي بتائين وقيدته عن ثابت بن بندار (¬9) بتاء واحدة ونون الرق الكفر، وقد يقع في هذا التعديد تدَاخل بيانه في المسائل ومرجعه إلى أربعة وعشرين. فهذه العيوب كلها وأمثالها مما يرد النكاح بها عند المالكية، وإن كان بينهم في تبيين ذلك وتفصيله نزاع، ولكن المقصود من النكاح الألفة والاستمتاع وهذه العيوب كلها تنفي الألفة وتفوت الاستماع أو كماله وأي استمتاع مثلًا في المذبولة أو القرناء لاقرب إلى اللذة منها، وأي حظ للرجل في الزمنة ديناً أو دنيا ألفة أو استمتاعاً، وليس سكوت مالك، رضي الله عنه، عن مسألة بموجب أن تكون خلاف ما تكلم عليها بل يلحق النظير على النظير ويحمل المثل على المثل، وأيها أبعد عند النظر في الدليل والرد .. السوداء أم العمياء فهذه المعاني إنما تنبني على ملاحظة المقصود فما فوته حكماً كالذي يقوته حساً، والله تعالى أعلم. إرخاء الستور يوجب الصداق: حالة وهي ذكره وتسميته، وحالة استقرار وهي بالدخول، إلا أن الله تعالى لما علم أن الدخول سرٌّ لا يُطَّلع عليه نصب عليه علامته من الخلوة والتمكن من الاستيفاء فقام ذلك مقام ¬

_ (¬1) الرتق ضد الفتق ومحركة جمع رتقة وهي الرتبة، والرتق مصدر قولك امرأة رتقاء بيِّنة الرتق لا يستطاع جماعها أو لا خرق لها إلا المبال خاصة. ترتيب القاموس 2/ 300. (¬2) القَرْن بسكون الراء: شيء يكْون في فرج المرأة كالسن يمنع من الوطء ويقال له: العفلة. النهاية 4/ 54، الشرح الصغير 3/ 260. (¬3) لحم يبز في قبلها يشبه الأدرة ولا يخلو عن رشح وقيل: رغوة تحدث في الفرج عند الجماع. الشرح الصغير 3/ 260. (¬4) قال ابن عبد البر: ولا ترد المرأة بالعمى ولا بالسواد ولا بالعَوَر ولا بأنها غير عذراء. الكافي 2/ 566. (¬5) القزع حلق رأس الصبي ويترك منه مواضع متفرقة غير محلوقة. النهاية 4/ 59. (¬6) البشم، التخمة من الدسم. النهاية 1/ 131. (¬7) أي نتونة فرجها لأنه منفر جداً. الشرح الصغير 3/ 260. (¬8) ذبل الشيء يذبل ذبولاً: ضمر، وفرس ذابل ضامر. المشوف المعلم 1/ 296، وقال في ترتيب القاموس 2/ 250: الذبلاء اليابسة الشفة. (¬9) ثابت بن بندار، أبو المعالي، البقال الدينوري ثم البغدادي، شيخ صالح توفي سنة 490. معرفة القراء الكبار للذهبي 1/ 188، تذكرة الحفاظ له ص 1232 - 1233.

ما لا يجوز في الشروط في النكاح

العيان فيه، ولهذا المعنى وقعت الإشارة بأن عمر بن الخطاب قضى في المرأة إذا أرخيت الستور عليها فقد وجب الصداق (¬1). وشرط بعض العلماء أن يكون ذلك في بيت البناء؛ لأن الخلوة في غيره لم توضع لهذا فربما وقع وربما لم يقع، والأصل العدم، فلا يتحقق الوجود إلا بيقين أو بظاهر يدل عليه وهذا هو اختيار سعيد بن المسيب (¬2). وسوى سائر العلماء بين الأمرين لأنَّ الخلوة إذا وقعت ولا وازع من الطبع ولا من الشرع فالظاهر وقوع الوطء فقضى به، وهذا بناء على مسألة من أصول الفقه قد قدَّمناها وهي إذا تعارض أصل وظاهر بما يُقضى منهما، وأحكامه مختلفة وعلى الأدلة مبينة وقررنا المسألة في كتاب التلخيص على غيرها واستوفينا الأدلة عليها. ما لا يجوز في الشروط في النكاح: هذه معضلة اختلف الناس فيها كثيراً قديماً، وحديثاً تعارض فيها أصلان عظيمان أحدهما قريب المرام وهو ما روي عنه، - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "أحَقُّ الشُّرُوطِ أنْ تُوْفُوا بِهِ مَا استَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوج" (¬3). والأصل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ شَرطٍ لَيْس في كِتابِ الله" (¬4) أي في حكم الله، ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 528, مَالِك عَنْ يَحْيىَ بْنِ سعيد عَن سعِيد بن المسَيب أنْ عُمَرَ بنَ الْخَطاب (قَضى في الْمَرْأة إذا تَزَوجَهَا الرجل أنهُ إذا أرْخِيَتِ السُّتُور فقدْ وَجَب الصّداقُ)، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 255، والدرقطني في السنن 3/ 207. درجة الحديث: رجاله ثقات. ورواه الدرقطني من طريق تميم بن المنتصر نا عبد الله بن نمير عن عبيد لله ابن عمر عن عمر قال: إذا أُجِيفَتِ الْبَابُ وَأُرْخِيَتِ السُّتُورُ فَقَد وَجَبَ الْمَهْر: الدارقطنى 3/ 206 وكذلك البيهقي 7/ 255. درجة الأثر: صحيح. (¬2) مَالِك أنهُ بَلَغَهُ عَنْ سعيدِ بنِ المسيب كَانَ يَقول: (إذا دَخَلَ الرجلُ بِالمَرْأةِ في بيتهَا صُدّقَ الرجُل عَليهَا وإن دَخَلَتْ عَلَيْهِ في بَيْتهِ صدَّقَتْ عَلَيهِ) الموطأ 2/ 529. درجة الأثر: ضعيف لأن مالكاً لم يدرد سعيد بن المسيب. (¬3) متفق عليه. البخاري في الشرمروط باب الشروط في المهر عند عقد النكاح 3/ 249، وفي النكاح باب الشروط في النكاح 7/ 26، ومسلم في النكاح باب الشروط في النكاح 2/ 1036، وشرح السنة 9/ 53 كلهم عن عقبة بن عامر. (¬4) متفق عليه. البخاري في البيوع باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل 3/-95 - 96، وفي كتاب الشروط باب المكاتب وما لا يحل من الشروط التى تخالف كتاب الله 3/ 259، ومسلم في كتاب العتق باب إنما الولاء لمن أعتق 2/ 1142 - 1143، والموطأ 2/ 780 كلهم من حديث عائشة.

فأحال - صلى الله عليه وسلم -، المجتهد على ملاحظة الشرط وإن كان في حكم الله جائزاً بدليل يدل عليه مضى وإلا ارتد، فتباين العلماء، في ذلك، على وجهه بيَّناها في كتب الفقه والمسائل أشرنا إليها في شرح الصحيح (¬1) بما لبابه أن علماءنا قالوا: إن خالف الشرطّ مقتضى العقد فليس من كتاب الله تعالى، وإن وافقه أو لم يعترض عليه فقد أذن الله تعالى فيه؛ لأنه إذا خالف الشرط مقتضى العقد فقد تناقضا والتناقض ليس من الشريعة فركب على هذا مسألة سعيد الواقعة في الباب إذا شرطت المرأة ألا يخرج بها من بلدها (¬2)، فإنَّ هذا شرط يخالف القوامة التي فضل الله تعالى بها الرجال على النساء، وحطَّت الدرجة التي أنزلهم فيها وقدَّمهم عليهن بها فقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (¬3) الآية، فعلى هذا يكون الشرط ساقطاً. ونظر ابن شهاب (¬4) وغيره إلى أنه شرط استحل به الفرج فلزم (¬5) الوفاء به (¬6) للحديث المتقدم، واختار علماؤنا قول سعيد وحملوا الشروط الواقعة في إحلال الفرج ما تعلَّق بالنكاح من صداق ونِحلة وجهاز وشورة (¬7) مما تنمى معه الحالة وتتمكن به الألفة لا فيما يناقض موضوعه ويخالف مقتضاه، وتقصى مالك، رضي الله عنه، الشروط المقترنة بالعقود في فتاويه فرآها على ثلاثة أقسام: ¬

_ (¬1) هذا الشرح معدوم إلى الآن لم يظهر. (¬2) الموطأ 2/ 530 قال سعيد: يَخْرُج بِهَا إنْ شَاءَ. ورواه ابن أبي شيبة عن ابن المبارك عن الحارث بن عبد الرحمن عن ابن أبي ذباب عن مسلم عن يسار عن سعيد بن المسيب. المصنف 4/ 201 .. والأثر فيه الحارث بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد بن أبي ذباب، بضم المعجمة وبموحدتين، الدوُسي، بفتح الدال، المدني. صدوق يهم من الخامسة. مات سنة 146/ عخ مد س ق. ت 1/ 142، وقال في ت ت: روى عن أبيه وعمه، يقال: اسمه الحارث أيضًا، وسعيد بن المسيب ويزيد بن هرمز ومجاهد وبسر ابن سعيد والأعرج وجماعة. ت ت 2/ 148، كما أن فيه مسلم بن يسار مولى الأنصار روى عن سعيد بن المسيب، روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري والأفريقي، قال أحمد: لا أعرفه. الجرح والتعديل 8/ 198 - 199، وانظر التاريخ 7/ 277. درجة الأثر: حسن لغيره. (¬3) سورة النساء آية 34. (¬4) هو محمد بن مسلم وقد تقدمت ترجمته. (¬5) في (م) فلم ير إلا الوفاء بالحكم. (¬6) قال الباجي: روى ابن المواز عن ابن شهاب أنه كان يوجب عليه ما التزم من الشروط في النكاح وإن لم تكن معلقة بيمين. المنتقى 3/ 296. (¬7) الشوار: متاع البيت. صحاح الجوهري 2/ 704.

نكاح المحلل

منها شرط يبطل العقد رأساً (¬1). ومنها شرط يبطل في نفسه (¬2). ومنها شرط إن عزل عن العقد صح (¬3) وإن ربط به بطل. وقد استوفى ذلك أبو محمَّد عبد الحميد بن الصائغ (¬4) السوسي، وقد كنت كتبته بخطي وقرأته وهو كتاب عظيم، لكنه شذّ عني في معرض المقادير فإن أرخى في الطول فسأمليه من حفظي إن شاء الله تعالى. نكاح المحلل: اختلف الناس فيه فجوّزه أهل العراق ومنعه سائرهم وغلا فيه بعضهم حتى سمعت من علماء الحنفية من يقول إنه قربة لأن فيه سعة ضيق وإباحة تحريم (¬5) أذن الله تعالى فيها. ورأى أهل المدينة (¬6) إنها معصية موجبة للنار حتى قال بعضهم: لا يكون مسمار نار في كتاب الله تعالى. وقد كان من العلماء الماضين من يرى أن مجرد العقد كافٍ في التحليل (¬7) لقول الله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬8)، وقد بينت السنة ذلك المحتمل فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى تَذُوقي الْعَسِيلَةَ" (¬9)، فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - اشتراط الغاية في الغاية لأنه قال: {حَتَّى تَنْكِحَ} فهذه غاية وابتداء النكاح عقد وغايته ¬

_ (¬1) قال الباجي: الذي يؤثر في النكاح فهو ما أثر جهالة في المهر أو غير ما اقتضى العقد كالخيار ونحوه. المنتقى 3/ 297. (¬2) قال سحنون: قلت لابن القاسم أرأيت إن تزوج امرأة على أن لا يتزوج عليها ولا يتسرَّى أيفسخ هذا النكاح وفيه هذا الشرط إن أدرك قبل البناء في قول مالك قال: قال مالك النكاح جائز والشرط باطل. المدونة 2/ 160. (¬3) إن شرطت عليه أن لا يخرجها من بلدها وما أشبه ذلك فإنه مأمور به. المنتقى 3/ 296. (¬4) هو عبد الحميد بن محمَّد الهروي المعروف بابن الصائغ يكنى أبا محمَّد، قيرواني سكن سوسة، أدرك أبا بكر بن عبد الرحمن وأبا عمران الفاسي، له تعليق على المدونة. توفي سنة 476، الديباج 2/ 25، شجرة النور الزكية 1/ 117. (¬5) قال العيني: حكاه المرغيناني وغيره. البناية في شرح الهداية 4/ 625. (¬6) قال ابن عبد البر: نكاح المحلل فاسد مفسوخ .. ويفسخ قبل الدخول وبعده. الكافي 2/ 533. (¬7) هذا قول سعيد بن المسيب نقله عنه الباجي واعتذر عنه بقوله: لعله لم يبلغه الحديث. المنتقى 3/ 299. (¬8) سورة البقرة آية 230. (¬9) متفق عليه. البخاري في اللباس باب الإزار المهذب 7/ 123، ومسلم في النكاح باب لا تحل المطلقة ثلاثاً لمطلقها حتى تنكح زوجاً غيره 2/ 1055 - 1056، والموطأ 2/ 531، والشافعي في مسنده 2/ 376 كلهم عن عائشة.

(باب) ما لا يجوز من نكاح الرجل أم امرأته

وطء فهذه؛ غاية أخرى، ومن ها هنا أخذ علماؤنا أن البر والحل لا يكون إلا بأكمل الأشياء. قال علماؤنا: ويقتضيه المعنى لأنه إنما شرط الزوج في الطلاق الثلاث إرغاماً له حيث اقتحم بتات العصمة والإِرغام والمذلَّة إنما تكون بالوطء لا بالعقد حتى يكون ذلك واعظاً لغيره أن لا يقع فيها وزاجراً له حتى لا يعود إليها، وإذا انتظم المعنى والسنة لم يبقَ لأحد حجة اللهم إلا أنه يعترض ها هنا مسألة أبي حنيفة، رضي الله عنه، في نكاح المحلل فلو صح قولهم (لَعَنَ الله الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ) (¬1) لكان ذلك أصلًا في فساد النكاح، وإذا لم تثبت له قدم في الصحة لم يبقَ إلا حظ المعنى، وهو عظيم في الباب، وهو أن قاعدة النكاح تمهدت في الشريعة بركنين. أحدهما: القصد إلى التأبيد إلا أن يعرض عارض من خوف التعدي في حدود الله تعالى. والثاني: أن يكون ذلك معقوداً لنفسه قربة لربه وعفة في دينه. فإذا عقده على غير هذين الركنين فقد وضعه في غير موضعه فلم يكن نكاحاً شرعياً فوجب القضاء ببطلانه، وهذه قاعدة لا تزعزعها رياح الاعتراضات ولا يتوجه لأحد عليها سؤال ينفع، ولم يبق بعد هذا إلا تفصيل تركيب الفروع على هذه الأصول في صفة الوطء ووقوعه وخلوصه في الحل وتحريمه، وكمال الوطء أو نقصانه ووقوع الاتفاق عليه من الزوجين واختلافهما فيه وذلك مستوفى في مسائل الفروع إن شاء الله تعالى. (باب) (¬2) ما لا يجوز من نكاح الرجل أمِّ امرأته (¬3) (ذو) حالة (¬4) واحدة لا يجوز فيها، ليس له غيرها، فما وجه الثبوت في قوله: ما لا يجوز من نكاح الرجل أُمِّ امرأته. ¬

_ (¬1) الترمذي 3/ 428 وقال حسن صحيح، والنسائي 6/ 149، والدرامي 2/ 158، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 208، وأحمد في المسند 1/ 448، كلهم عن أبي الهذيلي عن عبد الله ابن مسعود. درجة الحديث: صححه الترمذي وابن القطان وابن دقيق العيد قال على شرط البخاري. تلخيص الحبير 3/ 194، وصححه الشيخ ناصر في إرواء الغليل 6/ 307، وشعيب الأرناؤوطي في تعليقه على شرح السنة 9/ 101. (¬2) باب هنا خطأ ليست في بقية النسخ ولا الموطأ 2/ 533. (¬3) في الأصل هنا تكرار وهو قوله نكاح الرجل أم أمرأته، وليس في بقية النسخ. (¬4) في (ك) و (م) وحاله واحده.

قلنا: اختلف الناس في ذلك، عصر الصحابة، وكذلك أيضاً اختلف أهل الإِعراب في الآية، ودار الأمر بين الفقهاء والنحويين، وقد بينَّا ذلك في كتاب الأحكام (¬1) وفي رسالة ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين. الإشارة فيه إلى أن نعت المعمولين المختلفي العامل كالعطف على معمول لعاملين. ومن الخفي (¬2) أن الصحابة، رضي الله عنهم، ما اختلفوا في أنَّ العقد على البنت يحرم الأمَّ أم لا إلا لاحتمال موقع العربية في ذلك واختلافه، فإن الصحابة، رضي الله عنهم، بلغاء لُسُن (¬3) فصحاء لُدّ،. فما كان ليخفى عليهم موقع الوضع العربي في النعت الذي يشترك فيه معمول عاملين (¬4)، فلما اختلفوا دل ذلك على أن الأمر واقع في العربية بالوجهين فأفتى علي بأن لا يحرم الأم دخول البنت (¬5)، كما لا يحرم البنت باتفاق إلا دخول الأم، وأفتى بذلك ابن مسعود ثم رحل إلى المدينة فتذاكر المسألة مع علمائها فقالوا له: إن العقد على البنت يحرم الأم خاصة، فرجع عن ذلك (¬6). ولم يرجع إليه لفصل من العربية استفاده ولا سبيل من اللغة كان جهلها ¬

_ (¬1) انظر الأحكام للشارح 1/ 376. (¬2) في (م) من الجلي، ولعلها هي الصواب. أما في (ك) فالعبارة غير واضحة. (¬3) أي فصحاء. انظر ترتيب القاموس 4/ 142. (¬4) قال في الأحكام: واختلف النحاة في الوصف في قوله تعالى {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}، فقيل يرجع إلى الربائب والأمهات، وهو اختيار أهل الكوفة، وقيل يرجع إلى الربائب خاصة، وهو اختيار أهل البصرة وجعلوا رجوع الوصف إلى الموصوفين المختلفي العامل ممنوعاً كالعطف على عاملين، وجوَّز ذلك أهل الكوفة ورأوا أن عامل الإضافة غير عامل الخفض بحرف الجر. الأحكام 1/ 376. (¬5) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 6/ 278 عن مَالِكِ بْنِ أوْس بْنِ الْحَدثَانِ النصْرِي قَالَ: (كانَتْ عِنْدِي امْرَأةَ فَتُوفّيَتْ وَقَدْ وَلَدت لي فَوَجَدْت عَلَيْهَا فلَقِينى عَليٌّ بْن أبِي طالبٍ فَقَالَ مَا لَكَ؟، فَقُلْتُ: توُفِّيَتِ الْمَرْأة فَقَالَ عَلىّ: لِهَا ابنَةٌ؟ قلْتُ: نَعَمُ وَهي بِالطائِفِ: قَالَ: كانتْ في حِجْرِكَ، قلْتُ: لاَ. قَالَ: فَأنكِحْهَا، قلْتُ: فَأينَ قَوْل الله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} قَالَ: إنهَا لَمْ تَكُنْ في حِجْرِكَ إنمَا تلِكَ إنْ كَانَتْ في حِجْرِكَ .. قال ابن كثير في تفسيره 2/ 238: هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طاب على شرط مسلم وهو قول غريب جداً، وإلى هذا ذهب داود الظاهري وأصحابه واختاره ابن حزم .. كما صححه السيوطي في الدر المنثور 2/ 136. درجة الأثر: صححه ابن كثير والسيوطي. (¬6) رواه عبدُ الرزَّاقِ عَنِ الثوري عن أبي فْروةَ عنْ عمرَ الشَّيبَاني عَنِ ابن مَسْعُودٍ أنّ رجلاً من بني فُزارَةَ تزوج امرأة ثم رأى أمها فأعجبته فأفتاه ابن مسعود يفارقها وَيتَزوَّج أمَّهَا إنْ كان لَم يمسها فَتَزَوَّجَهَا وَولَدتْ له أولاداً. ثم أتَى ابن مَسْعودٍ المدِينَةَ فَسَألَ فَأخْبِرَ أنهَا لَا تَحِلُّ فَلَمَّا رَجعَ إلَى الكوفَةِ قَال لِلرَّجلِ: إنَّهَا عَلَيْكَ حَرَامٌ =

فعرفها وإنما كان ذلك لنكتة بديعة وهي أن العربية، كما قلنا، محتملة للوجهين، فأخذ الصحابة بالأحوط في التحريم، وقد كانوا إذا تعارضت عندهم الأدلة فجاء دليل لتحريم ودليل لتحليل غلَّبوا التحريم احتياطاً، كما قالوا في الأختين بالملك باليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية (¬1) والتحريم أولى فصار لتحريم أم المرأة ثلاثة أحوال كلها لا تجوز عندنا .. أحدها: بالعقد على البنت. والثانية: بالدخول على البنت. والثالثة: بأن يعقد نكاح امرأة لها أم ثم يعقد نكاح الأم بعد ذلك فيصيبها فتحرمان عليه جميعاً لأن الأُصابة وقعت بشبهة النكاح. فعلى هذا التنويع كان التبويب فأما إذا كان الزنا بالمرأة وأمها فقد قال مالك، رضي الله عنه، في موطئه، الذي صنَّفه بيده وكتبه للناس بنفسه وقرأه عليهم طول عمره: إن الزنا لا يحرم (¬2)؛ فإن الحرام لا يحرم الحلال وإن كان قد أفتى لبعض أصحابه في المجالس بالتحريم، حسب ما قاله أهل العراق (¬3)، والمسألة مشهورة في الخلاف بين العلماء؛ ولكن الصحيح عند الله أن الزنا لا يوجب حرمة لأن الله تعالى جعل المصاهرة منَّةً عدَّدها على الخليقة فقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا ¬

_ = ففَارِقْها. قال عبد الرزاق: وأخبرني معمر عن يزيد بن أبي زياد أن عمر هو الذي رد ابن مسعود عن قوله. المصنف 6/ 273، والبيهقي 7/ 159، ورواه مالك في الموطأ 2/ 533 عن غير واحد أنَّ عبد الله بن مسعود استفتى وهو بالكوفة. درجة الحديث: صحيح. (¬1) قال البغوي سئل عثمان عن الأختين من ملك اليمن هل يجمع بينهما؟ قال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية؛ فأما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك، فقال رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو كان إلي من الأمر شيء ثم وجدت أحداً فعل ذلك جعلته نكالاً. قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب، قال الإِمام: قوله أحلتهما آية أراد قوله سبحانه وتعالى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} النساء آية 3، وقوله حرمتها آية قوله عز وجل {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} النساء آية 23، وعامة الفقهاء على التحريم لأن قول الله تعالى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} أخص في هذا الحكم من قوله جل ذكره {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}، شرح السنة 9/ 71، وانظر الأحكام 1/ 379، قلت: وسيأتي في تخريج هذا الأثر. (¬2) الموطّأ 2/ 533، قال مالك: فأما الزنا فإنه لا يحرم شيئاً من ذلك. (¬3) قال سحنون: قلت لابن القاسم أرأيت إنْ زنى بأم امرأته أو بنتها أتحرم عليه امرأته في قول مالك؟ قال: قال لنا مالك يفارقها ولا يقيم عليها، وهذا خلاف ما قال لنا مالك في موطئه، وأصحابه على ما في الموطأ ليس بينهم فيه اختلاف وهو الأمر عندهم. المدونة 2/ 202.

جامع ما لا يجوز من النكاح

وَصِهْراً} (¬1) في معرض الامتنان والكرامة والمنَّة لا تتعلق بالمعصية؛ ألا ترى أن النسب لم يتعلَّق به ولذلك قال مالك رضي الله عنه، في الموطأ: هذا الذي سمعت، وهذا الذي عليه أمر الناس عندنا (¬2). وقال: إنَّ الذي حرَّم الله ما أصيب بالحلال على وجه الشبهة في النكاح قال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (¬3) الآية (وهذه الآية من فضائل النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وخصائصه، وقد بيَّنا ذلك في معجزاته) (¬4). جامع ما لا يجوز من (¬5) النكاح: بوَّب مالك، رضي الله عنه، على ما لا يجوز من النكاح وهو (¬6) أمر لا ينحصر في البيان ولا يدخل تحت التعديد، إنما المنحصر النكاح الجائز وشروطه خمسة، متعاقد إن حصلت فيهما أهلية العقد وولي استقل بأهلية الولاية وصداق يقبل العوضية وإعلان يفارق به السفاح الذي حرم الله تعالى، فإذا اختلَّ شرط من هذه الشروط تطرَّق الفساد إلى النكاح، ومداخل الاختلال لا تحصى إلا أن مالكاً، رضي الله عنه، أراد بالتبويب أمَّهات الفساد ومشهوراته وذلك (منها) (¬7) ثلاث مسائل: المسألة الأولى: نكاح الشغار (¬8)، وقد اختلف الناس فيه جوازاً وفساداً، واختلف قول مالك فيه فسخاً وإمضاءً وله صور أشدّها أن يقول: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك (¬9)، وهذا هو (¬10) الذي فسَّر الراوي في الحديث وليس من كلام النبي، - صلى الله عليه وسلم - (¬11). وفي ¬

_ (¬1) سورة الفرقان آية 54. (¬2) الموطأ 2/ 534. (¬3) سورة النساء آية 22. (¬4) أقول: اضطربت النسخ ففي (ك) و (ص) نقص كماله من الأصل و (م) بعد هذا الباب نكاح الأمة الكتابية .. وفي الأصل و (م) جامع ما لا يجوز من النكاح وكذلك الموطّأ 2/ 535. (¬5) الموطأ 2/ 535. (¬6) في (م) وهذا. (¬7) ليس في بقية النسخ. (¬8) الشِغار، بالكسر، أن يزوج الرجل المرأة على أن يزوجه أخرى بغير مهر كل واحدة بضع الأخرى أو يخص بها القرائب. ترتيب القاموس 2/ 726، وانظر النهاية 2/ 482. (¬9) متفق عليه. البخاري في النكاح باب الشغار 7/ 15، ومسلم في النكاح باب تحريم الشغار وبطلانه 2/ 1034، وأبو داود 2/ 560، والترمذي 3/ 431، والنسائي 6/ 110، وابن ماجه 1/ 606، ومالك في الموطأ 2/ 535 كلهم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. أن رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، نَهى فَي الشِّغَارِ، وَالشِّغَارُ أنْ يُزَوِّجَ الرجُلُ ابنَتَهُ عَلى أنْ يزوَّجهُ الآخَر ابنَتَة لَيْسَ بَيْنَهمَا صَدَاقٌ. (¬10) ليست في بقية النسخ. (¬11) قال الحافظ: اختلف الرواة فيمن ينسب إليه تفسير الشغار فالأكثر لم ينسبوه لأحد، ولهذا قال الشافعي فيما =

اشتقاق الشغار اختلاف أصحَّه أنه النكاح الخالي عن الصداق من قولهم بلد شاغر إذا كان خالياً، وهذا العقد، على هذا الوجه، لم يفسد لأنه خلا عن الصداق وإنما فسد لأنه جعل فيه صداقاً ما ليس بصداق وقوبل البضع بالبضع. فأما نكاح يعقد لا للصداق فيه ذكر فهو جائز إجماعاً، وقد قال أبو المعالي الجويني (¬1): إنما فسد نكاح الشغار من جهة أنه علق على شرط والنكاح لا يقبل الإغرار والإِخطار بخلاف الطلاق؛ وفيه تفصيل بيانه في المسائل وأدلته استوفيناها في مسائل الخلاف (¬2). ولعلَّ الإِشارة إنَّما وقعت فيه إلى ما كانت الأعراب تفعله من المعاوضة بالبنات والأخوات، يعطي الرجل أخته، أو ابنته، على أن يعطيه الآخر أخته أو ابنته وقد هدم الله تعالى نكاح الجاهلية. المسألة الثانية: ذكر نكاح السر وله صور أشدها ما لم يكن فيه شاهد، وهو الذي يرجم فاعله إذا عثر عليه فادعاه ولم يثبته. فأما إذا وقعت الشهادة عليه وتواصوا بكتمانه فقد اختلف فيه علماؤنا، والصحيح جوازه لأن الله تعالى جعل الشهادة غاية الإعلام، وقد يكون التواصي بالكتمان لغرض لا يعود إلى النكاح فلا يقدح ذلك فيه، وأحاديث الإعلان بالنكاح والضرب عليه بالدفِّ لم يصح منها شيء (¬3) وقد بينَّا ذلك في شرح الصحيح. ¬

_ = حكاه البيهقي في المعرفة: لا أدري التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عن ابن عمر، أو عن نافع، أو عن مالك ونسبه محرز بن عون وغيره إلى مالك. قال الخطيب: تفسير الشغار ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو من كلام مالك وصل بالمتن المرفوع، قد بيَّن ذلك ابن مهدي والقعنبي ومحرز بن عون ثم ساقه كذلك عنهم، ورواية محرز بن عون عن الإسماعيلي والدارقطني في الموطَّآت، وأخرجه الدارقطني أيضًا من طريق خالد بن مخلد عن مالك قال: سمعت أن الشغار أن يزوج الرجل إلى آخره. وهذا دال على أن التفسير من قول مالك لا مقول له وقد وقع عند المصنف (يعني البخاري) في كتاب ترك الحيل: من طريق عبد الله عن نافع في هذا الحديث تفسير الشغار من قول نافع ولفظه: قالَ عُبَيْدُ الله بْن عُمَرَ: قلْت لِنَافِع مَا الشِّغَارُ؟ .. فذكره فلعلَّ مالكاً أيضًا نقله عن نافع، وقال أبو الوليد الباجي: الظاهر أنه من جملة الحديث وعليه يحمل حته يتبين أنه من قول الراوي وهو نافع، قال الحافظ: قلت قد تبيَّن ذلك ولكن لا يلزم من كونه لم يرفعه ألا يكون في نفس الأمر مرفوعاً. فتح الباري 9/ 162. (¬1) تقدم. (¬2) انظر بداية المجتهد 2/ 43، وفتح الباري 9/ 162 - 163، وشرح السنة 9/ 98. (¬3) ما قال رحمه الله حق، فقد روى الترمذي من طريق عِيسَى بْنِ مَيْمُونٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ محمد عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعْلِنُوا هَذَا النكاحِ وَاجْعَلُوة في الْمَسَاجِدِ وَاضربُوا عَلَيْهِ بَالدْفوفِ"، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب حسن وعيسى بن ميمون الأنصاري يضعف. الترمذي 3/ 399. أقول: الحديث فيه عيسى بن ميمون المدني، مولى القاسم بن محمَّد، يعرف بالواسطي ويقال له ابن =

نكاح الأمة على الحرة

تزويج الولي (اليتيمة) (¬1) بغير إذنها، وهو مردود إجماعاً، وعقب ذلك بالنكاح في العدة، وهو مفسوخ بإجماع من الأمة. وإنما اختلفوا إذا كان الوقاع في العدة هل يتأبد التحريم عليه فيها أم لا؟ فقال مالك، رضي الله عنه: يتأبد (¬2)، وقال جمهور العلماء: لا يتأبد (¬3)، ومالك، رضي الله عنه، أقوم قيلاً وأهدى سبيلاً لأنه تعلق في ذلك بقضاء عمر ابن الخطاب (¬4)، رضي الله عنه، وقضاء عمر، رضي الله عنه، معضود بالأدلة فإنه استعجل بالنكاح في العدة أمراً كانت له فيه أناة، ومن استعجل شيئاً قبل حله بالمعصية قُضِيَ عليه بحرمانه كالوارث إذا قتل (¬5) موروثه، وهذا بيِّن لا خفاء فيه. نكاح الأمة على الحرة (¬6): اختلف قول مالك (¬7)، رضي الله عنه، في ذلك على تفصيل بيناه في المسائل، وهي مسألة مشكلة لأنها تعارضت فيها آيتان قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} (¬8) الآية. ¬

_ = تَليدان، بفتح المثناة. ضعيف من السادسة/ ت ق. ت 2/ 102، وقال في ت ت 8/ 336: قال البخاري منكر الحديث. درجة الحديث: ضَعَّفه الحافظ في الفتح، كما نقل ذلك المبارك فوري في تحفة الأحوذي 4/ 210 وكذلك الشارح. (¬1) في (م) تزويج الولي الثيِّب بغير إذنها. (¬2) قال ابن رشد: قال مالك والأوزاعي والليث: يفرق بينهما ولا تحل له أبداً. بداية المجتهد 2/ 35. (¬3) وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري: يفرق بينهما وإن انقضت العدة يفرق بينهما فلا بأس بتزويجه إياها مرة ثانية. بداية المجتهد 2/ 35. (¬4) مَالِك عَنِ ابنِ شَهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيِّب وعَنْ سليمَانَ بْنِ يَسَارٍ ان طلَيْحَةَ الْأَسديةِ كانَتْ تَحَتَ رُشيْدٍ الثقفِيَ فَطَلَّقَهَا فَنَكَحَتْ في عِدَّتِهَا فَضَرَبَها عُمَر بْن الْخَطَّابِ وَضَرَبَ زَوْجَهَا بِالْمِخْفَقَةِ ضَرَبَاتٍ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثم اعْتَدَّتْ بَقِيَّة عِدَّتِها مِنْ زَوْجِهَا الأولِ ثم كَانَ الآخر خَاطِباً مِنَ الْخَطَّاب وإنْ كَانَ دَخَل بِها فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُم اعتدَّتْ بَقِيَّة عِدَّتِهَا مِنَ الأوَّلِ ثم اعتَدَّتْ مِنَ الآخَرِ ثم لا يجتمعان أبَداً .. الموطأ 2/ 536، والسنن الكبرى 7/ 441. درجة الأثر: صحيح. (¬5) في ذلك تفصيل انظره في بداية المجتهد 2/ 270. (¬6) الموطأ 2/ 536. (¬7) انظر أحكام القرآن للشارح 1/ 394، والمنتقى 3/ 319. (¬8) سورة النور آية 32.

الرجل يملك الأمة

فإذا عام مسترسل على الأحوال، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬1) الآية ثم قال في آخر الآية: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} (¬2)، وليس الإِشكال في أنَّ نكاح الأمة المطلَّقة في آية النور مقيَّد بالشرطين في آية النساء، بل ذلك إجماع من الأمة، وإنما وقع الاختلاف فيها في كيفية الشرط وهو تفسير الطول، فمن السلف من قال: إن الطول أن يكون تحته (¬3) حرة، ومنهم من قال: إن الطول أن يكون عنده من المال (¬4) قدرة في بذل الصداق لها والنفقة عليها، فكان المعنى على التأويل الأول من لم يكن تحته حرة وخاف الزنا فليتزوج أمة وهذا إذا كشفته هكذا فساد في الكلام وينتج بأن من لم يكن تحته حرة وخاف الزنا يتزوج حرة، فلا بد لنظام الكلام وتحقيق الشرط أن يفسر الطول بالقوة على المال في بذل الصداق والنفقة وهذا ما لا غبار عليه، أما إن (¬5) مالكاً، وغيره من العلماء، قال: إن الحرة لها حق في اجتماعها في النكاح مع الأمة (¬6)، وهذا معلوم من قوة الآية، فإن الله تعالى أطلق نكاح الحرائر وقيَّد نكاح الإماء فانتفت بذلك التسوية بينهما، فهذا معلم بظاهر النظر وبقي تفصيل الحال في اجتماع الحرة مع الأمة أو فرقتهما بذكر صفته وطريقته في المسائل. الرجل يملك الأمة (¬7): قد كانت تحته ففارقها لا يخلو أن يكون الفراق بواحدة أو بثلاث، فإن عادت إليه ¬

_ (¬1) سورة النساءآية 25. (¬2) سورة النساءآية 25. (¬3) هذا قول أبي حنيفة، انظر أحكام القرآن للجصاص 2/ 158. (¬4) هذا مذهب المالكية، انظر أحكام القرآن للشارح 1/ 393، والمنتقى 3/ 320. (¬5) في (م) زيادة كان. (¬6) قال ابن القاسم: كان مالك مرة يقول ليس له أن يتزوجها (أي الأمة على الحرة) إذا لم يخشَ العنت، وكان يقول: إن كانت تحته حرة فليس له أن يتزوج أمة فإن تزوجها على حرة فرّق بينه وبين الأمة، ثم رجع فقال: إن تزوجها خَيِّرت الحرة .. المدونة 2/ 164. وقال أبو الوليد: فعلى هذا في نكاح الأَمة على الحرة ثلاث روايات إحداها: لا يجوز وإن عدم الطول الذي هو المال وخاف العنت إذا كانت تحته حرة، والثانية: يجوز وإن لم يجد طولاً ولا خاف عنتاً. والثالثة: يجوز مع عدم الطول وخوف العنت، ولا يجوز مع وجود الطول وأمان العنت والطول في القولين الآخرين أظهر في المال، وإن كان يجوز أن يراد به الحرة. المنتقى 3/ 321 وقد ذهب سعيد بن المسيب إلى أنه لا تنكح الأَمة على الحرة إلا أن تشاء الحرة. شرح السنة 9/ 63. (¬7) الموطأ 2/ 537.

الأمة بملك اليمين، وقد كان فارقها بطلقة واحدة، فإنه يطأها إجماعاً, لأن المحل مباح للوطء إذا وجد سببه، فأما إن فارقها ثلاثاً ثم عادت إليه فاختلف الناس في ذلك والأقل جوز له الوطء بملك اليمين (¬1) والأكر منعه (¬2) لأنه محل حرّم عليه وطؤه إلا بشرط معين وهو نكاح غيره ولم يوجد ذلك الشرط فيبقى التحريم. فإن قيل: هذا الحل ليس حل النكاح وإنما هو حل ملك اليمين، وحل ملك اليمين لم يقف على شرط، فالجواب أنا نقول: هذه العين هي التي خوطب بالامتناع عنها؛ فقد جاء خطاب المنع ثم جاء خطاب (¬3) الحل، وهو قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬4) فرجَّح خطاب المنع حسب ما تقرر من عهد الصحابة كما جرى في إصابة الأختين بملك اليمين (¬5)، والمرأة وابنتها، وقد قال عثمان، رضي الله عنه، لقبيصة (¬6): حرمتهما آية وهي قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (¬7)، وأحلتهما آية وهي قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬8) والتحريم أولى فمضى ذلك من قول عثمان، رضي الله عنه (¬9)، وتابعه ¬

_ (¬1) نقل ذلك الباجي عن ابن عباس وطاوس وغيرهما أنه يحل له بملك اليمين وإن كان طلَّقها ثلاثاً ولم تتزوج غيره. المنتقى 3/ 324. (¬2) هو قول فقهاء الأمصار أن عقد النكاح في اباحة الوطء أقوى من عقد الشراء بدليل أنه مقصوده فإذا لم يستبح وطأها بعقد النكاح فبأن لا يبيح له وطأها بملك اليمين أولى وأحرى. المنتقى 3/ 324. وقال الزرقاني: على هذا الجمهور والأئمة الأربعة. شرح الزرقاني 3/ 147. (¬3) زيادة من (م). (¬4) سورة النساء آية 3. (¬5) قال الشارح: حرَّم الله تعالى الجمع بين الأختين كما حرَّم نكاح الأخت، والنهي يتناول الوطء فهو عام في عقد النكاح وملك اليمين، وقد كان توقف فيها من توقف في أول وقوعها ثم اطرد البيان عندهم واستقر التحريم وهو الحق. الأحكام 1/ 379. (¬6) قبيصة بن ذؤيب، بالمعجمة مصغّراً، ابن حَلْحَلة، بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة، الخزاعي، أبو سعيد، أو أبو إسحاق المدني، نزيل دمشق، من أولاد الصحابة وله رؤية. مات سنة بضع وثمانين/ ع. ت 2/ 122 ت ت 8/ 346، مشاهير علماء الأمصار ص 64. (¬7) سورة النساء آية 23. (¬8) سورة النساء آية 3. (¬9) هذا القول رواه مالك عنِ ابنِ شَهَابٍ عن قبيصَةَ بْنِ ذؤيب أن رَجُلاً سَألَ عُثْمَانَ بْنَ عَفان عنِ الأُخْتَيْنِ مِنْ مِلْكِ الْيَمينِ هَلْ يجْمَع بينَهُمَا؟ ققَالَ عُثْمَان: أحَلتهُمَا آيةٌ وَحَرَّمَتْهمَا آيةٌ فَأمَّا أنَا فلاَ أُحبُّ أنْ أصْنَعَ ذلِكَ. قَالَ: فَخَرَجَ مِنْ عِندِهِ فَلَقِيَ رجُلاً مِنْ أصحَاب رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَسَألَة عنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَوْ كَانَ لي مِنْ الْأمْرِ شيءٌ ثُم وَجَدْت أحَداً فَعَلَ فيكَ لَحَمَلْتَهُ نِكَالاً. قال ابن شهاب: أراه علي بن أبي طالب. الموطّأ =

نكاح الأمة الكتابية

على ذلك الناس فصار إجماعاً وكذلك قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}،يريد الأزواج، والنساء جمع امرأة على غير لفظه، كأنه قال وأم امرأتك، ولو قال هكذا لتناول الزوجة وما دخلت فيه الأمة لكن لحقت الأمة به لوجهين غريبين: أما أحدهما: فإن النساء لغة تطلق على كل مؤنث من الآدميين فاجتمعا في اللغة وعرف الشرع، وهي مسألة اختلف الناس فيها لكن يقضى ها هنا بمطلق اللغة تغليباً للتحريم فلا تحل له أم أمته كما لا تحل له أم امرأته. الثاني: أن تقدير الكلام (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمُ اللاَّتي حُلِّلْنَ لَكُمْ" فأشار إلى أن التحريم وقع في الأم بحل البنت خلت في ذلك الأمَة لوجود العلّة فيها وهو حل ابنتها، وكذلك قد امتنع أيضاً بمثل هذا بعينه إصابة الرجل أمة كانت لأبيه وتناولها على هذا التنزيل قوله تعالى {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النَسَاءِ إلًا مَا قَدْ سَلَفَ} (¬1)، ومن أبدع الإلحاق وأغربه أن القُبلة والملامسة والنظر بشهوة ينزل كل ذلك منزلة الوطء في إفادة التحريم في الفروع على الأصول فإذا نظر الرجل أو قبَّل بشهوة حُرِّمت على ابنه، والمعنى في ذلك أنه استمتع بها فحرِّمت على ابنة كما لو وطئها، وهذا أقوى من القياس، فإنَّ معنى قوله ولا تنكحوا ولا تستمتعوا؛ فإن النكاح استمتاع والأحكام تتعلق بمعاني الألفاظ دون قوالبها، ولو قال لا تستمتعوا لدخل في ذلك النظر والملامسة كذلك لو قال ولا تنكحوا. نكاح الأمة الكتابية: اختلف العلماء فيها فصار أهل الكوفة إلى أن نكاحها جائز منهم (¬2) (ح) وقال أهل الحجاز والمدينة: لا يجوز ذلك، منهم: (ش) (¬3) واتفقوا على أنه يجوز وطئها بملك ¬

_ = 2/ 538، والشافعي في مسنده 2/ 16، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 163، وابن أبي شيبة في مصنفه 4/ 147، ورواه محمَّد بن الحسن في موطئه ص 180 وقال: بهذا نأخذ، وعزاه السيوطي في الدر المنثور 2/ 476 إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وعبد الرزاق في مصنفه 7/ 189، وانظر شرح السنة 9/ 71، المحرر الوجيز 4/ 72، القرطبي 5/ 116. درجة الأثر: صحيح. (¬1) سورة النساء آية 22. (¬2) انظر أحكام القرآن للجصاص 2/ 162، وتحفة الفقهاء للسمرقندي 1/ 192. (¬3) هذا مذهب مالك والشافعي. انظر أحكام القرآن للكيا الهراسي 2/ 283، والروضة للنووي 7/ 129، والنكت والعيون للماوردي 1/ 379، وانظر كذلك مذهب مالك في المنتقى 3/ 328، 329، أحكام القرآن للشارح 1/ 391 وما بعده، وقد ردَّ فيه على الجصاص وناقشه كثيراً.

اليمين. قال المخالف: وكل محل حلّ وطؤه بملك اليمين حل وطؤه بالنكاح (¬1). وهذا لا غبار عليه، ءغير أن (م) و (ش) عوّلا على قوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬2)، وقال تعالى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} (¬3) الآية. فاحتج مالك، رضي الله عنه، بتخصيص الله تعالى في الإذن في النكاح الفتيات المؤمنات دون مطلق النساء وهذا نص منه على التعلُّق بالتخصيص والقول بدليل الخطاب (¬4)، ولم يختلف قط في ذلك قوله وإنما يترك دليل الخطاب إذا عارضه ما هو أقوى منه، وقد قال مالك، رضي الله عنه، إذا عارض العموم لدليل الخطاب قدِّم العموم عليه لأن العموم يتناول المسألة بلفظه ودليل الخطاب يتناولها بمعناه واللفظ يقدم على المعنى، وقد بيَّنا ذلك في أصول الفقه، وقال ابن عمر: لا يجوز نكاح الحرة الكتابية لأن الله تعالى قال {وَلَا تَنْكِحُوا اْلمُشْرِكَاتِ حَتى يُؤْمِن} (¬5)، وأي شرك أعظم من أن يقال أن عيسى ولد الله فرأى أنها داخلة في عموم الآية، والتخصيص أولى في قوله {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬6)، وأن الآيتين لو كانتا عامتين لكان لابن عمر (¬7) أن يرجع التحريم بتعارض العامين وتوازنهما (¬8)، فأما إذا اجتمع العام والخاص فإن الخاص يقدم ¬

_ (¬1) هذا القائل هو الجصاص الحنفي، فقد قال: وكل من جاز وطؤها بملك اليمين جاز وطؤها بملك النكاح. أحكام القرآن للجصاص 2/ 165. (¬2) سورة المائدة آية 5. (¬3) سورة النساء الآية 25. (¬4) قال مالك: إنما أحل الله فيما نرى نكاح الإماء المؤمنات ولم يحلل نكاح إماء أهل الكتاب اليهودية والنصرانية. الموطّأ 2/ 540. (¬5) سورة البقرة 221. (¬6) سورة المائدة 5. (¬7) هذا الأثر رواه البخاري في كتاب الطلاق باب قول الله تعالى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ}، وقال: حدَّثَنَا قَتيبَةُ حَدَّثنا لَيْث عَنْ نَافِعٍ أنْ ابنَ عُمَرَ كَان إذَا سُئلَ عَنْ نِكَاح النصْرَانِيةِ ؤالْيَهوديةِ قالَ: إن الله حَرَّمَ الْمشْرِكات علَى الْمؤْمِنين وَلَا أعْلَم مِنَ الإشْرَاكِ شيْئاً أكبر مِنْ أنْ تَقولَ المرْأةُ رَبَّهَا عيسَى وَهوَ عَبدُ بنْ عِبَاد الله. البخاري 7/ 62، وابن أبي شيبة في مصنفه 4/ 158. (¬8) قال الحافظ: هذا مصير منه (أي من ابن عمر) إلى استمرار حكم عموم آية البقرة، فكأنه يرى أن آية المائدة منسوخة وبه جزم إبراهيم الحربي، وردَّه النحاس فتحمله على التورع ... وذهب الجمهور إلى أن عموم آية البقرة خصّ بآية المائدة وهي قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} =

باب الإحصان

إجماعاً من الأمة، وههنا غريبة وهي أن علماءنا، رضي الله عنهم، كرهوا نكاح الحرائر الكتابيات، ونص عليه مالك، رضي الله عنه، في غير ما موضع من كتب أصحابه لأن ولده معرض لشرب الخمر وأكل الخنزير وعرقها من الأغذية المحرمة يتصل به (¬1) عند مضاجعتها وهذا يلزمه في اتخاذها أَمة فرط أذى لا يتأتي عنه انفصال، ولم تزل الصحابة والتابعون يتسرون (¬2) الكوافر وينكحون وقد أذن الله تعالى بالتحليل في كتابه (¬3) وخاطب بذلك جميع خلقه، لا سيما وفي استفراشها عزة للإسلام، وقد بيَّنا وجه قول مالك، رضي الله عنه، والمعنى الذي غاص عليه في كتب المسائل فلا معنى أن نطول به عليكم ها هنا. باب الإحصان قال سعيد بن المسيب (¬4) (المحصنات أولات الأزواج، ويرجع ذلك إلى أن الله تعالى حرَّم الزنا) (¬5). هذه الآية مشكلة (¬6) واختار فيها مالك، رضي الله عنه، تأويل سعيد ابن المسيب وللعلماء فيها ثلاث تأويلات. أحدها: قول سعيد هذا. والثانى: أنهن المسبيات ذوات الأزواج يهدم السبي نكاحهن فيحل الوطء لمالكهن ¬

_ = فبقي سائر المشركات على أصل التحريم. وعن الشافعي قول آخر: إن عموم آية البقرة أريد به خصوص آية المائدة. فتح الباري 9/ 417. وانظر أحكام القرآن للشارح 1/ 157، والمنتقى 3/ 328. (¬1) كذا في جميع النسخ وليس واضحاً لدي. (¬2) قال الباجي: تزوج جماعة من الصحابة أهل الكتاب، منهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله، رضي الله عنهما ولا نعلم أحداً منعه غير عبد الله بن عمر، رضي الله عنه، وتعلق بعموم الآية على ما تقدم ذكره. المنتقى 3/ 328. (¬3) قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} سورة المائدة الآية 5. (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) الموطأ 2/ 541 ورواه ابن جرير في تفسيره 5/ 3، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 167. درجة الأثر: صحيح، وقال في الأحكام: المحصنات ذوات الأزواج، قاله ابن عباس وابن مسعود وابن المسيب وغيرهم، وقاله مالك وإختاره. الأحكام 1/ 381، وانظر المحرر الوجيز 4/ 76، والنكت والعيون 1/ 377. (¬6) الآية التي أشار إليها هي قوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ...} النساء آية 24، وانظر الدر المنثور 2/ 138.

إذا استبرأهن، قال به عطاء وطاوس (¬1) الثالث. قال عبيدة السلماني، المراد بالأية ما زاد على الأربع (¬2)، ثم قال تعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬3)، ثم قال تعالى {إلاَّ مَا مَلَكَتْ أْيمَانُكُمْ} (¬4). فأباح وقد بيَّنا إشكال هذه المسألة في كتاب الأحكام على أحسن مساق (¬5)، والإشارة في الكلام فيها إلى أن أصل (ح ص ن) المنع حيث ما وردت معانيه، وقد يرد الإحصان بمعنى الإسلام، وقد يرد بمعنى الزواج (¬6)، وقد يرد بمعنى الحرية (¬7)، وكلها في القرآن إلا الإحصان بمعنى الإِسلام (¬8). وإذا ركَّبت معاني الإحصان على الآية لم تجد فيها أقوى من قول سعيد بن المسيب الذي اختار مالك، رضي الله عنه, لأنا إن قلنا إن المراد بذلك جميع النساء، كما قال طاوس وعطاء، ينتج معنى الآية لأن الله تعالى قد فصل المحرمات قبلها وأحكم بيانها وجعل المحصنات من جملتهن، فلو كنَّ جميِع النساء ما انتظم بذلك مساق الفصاحة ولا كان أيضاً لقول الله تعالى بعد ذلك {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} معنى، وعلى هذا تركب مسألة بيع الأَمة المتزوجة هل يكون طلاقأ أم لا؟ وعموم هذه الآية كان يقتضي ذلك إلا أن السنة خصصته بحديث بريرة حين اشترتها عائشة، رضي الله ¬

_ (¬1) قال في الأحكام: القول الرابع أنهن جميع النساء على الإطلاق، قاله طاوس وغيره .. وقال مرجحاً لهذا القول: أما من عموم فهو الصحيح ويقع الاستثناء بقوله {إلاَّ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكمْ} في الإماء أو في الزوجة والأمة. الأحكام 1/ 383، وقال ابن عطية: {إلاَّ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكمْ} قالوا: معناه بنكاح أو شراء، كل ذلك تحت ملك اليمين، قال بهذا القول: أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد ابن جبير وعطاء. المحرر الوجيز 4/ 77، والنكت والعيون 1/ 377، وانظر المنتقى 3/ 329. (¬2) رواه ابن جرير 8/ 171، وعزاه السيوطي إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم، الدر المنثور 2/ 139، وانظر تفسير القرطبي 5/ 123، والمنتقى 3/ 330، والأثر فيه شيخ ابن جرير سفيان بن وكيع بن الجراح، أبو محمَّد الرؤاسي، كان صدوقاً إلا أنه ابتلي بوراقة فأدخل عليه ما ليس من حديثه فنصح فلم يقبل فسقط حديثه من العاشرة. (توفي سنة 247) ت ق، ت 1/ 312 ت ت 4/ 123، الكامل 3/ 1235. درجة الأثر: حسن لغيره. (¬3) سورة النساء آية 24. (¬4) سورة النساء آية 24. (¬5) الأحكام 1/ 383. (¬6) قال تعالى {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} النساء آية 25. (¬7) قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} المائدة آية 5، وفي الآية الثانية المراد بهن الحرائر. (¬8) {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} سورة النور آية 23.

نكاح المتعة

عنها (¬1)، فلم يكن ذلك طلاقاً لها وبقي سائر العموم على مطلقه، ولا خلاف بين الأمة أن العبد والأمة ليسا بمحصنين إحصان الكمال الذي تتعلق به الحدود لقوله تعالى {فَإذا أُحْصِن فَإنْ أتَيْنَ بِفَاحِشَه فَعَلَيْهِن نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬2) يعني تزوجهن، وهو أحد موارد الإحصان ونقص العبيد إحصان الحرية. نكاح المتعة: من أغرب ما ورد في الشريعة، فإنه نُسِخَ مرتين. كان مباحاً في صدر الإِسلام ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -، عنه يوم خيبر (¬3)، ثم أباحه في غزوة حنين (¬4)، ثم حرَّمه بعد ذلك بين ذلك ¬

_ (¬1) متفق عليه، البخاري في كتاب الطلاق باب لا يكون بيع الأَمة طلاقاً 7/ 61، ومسلم في كتاب العتق باب إنما الولاء لمن أعتق 2/ 1141، والموطأ 2/ 562 كلهم عن عائشة ولفظ مسلم: عَنْ عُرْوَةَ أن عَائشةَ أخْبَرتْهُ أنَّ بَرِيرَةَ جَاءتْ عَائشةَ تَسْتَعِينُهَا في كِتَابَتِهَا وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شيْئاً فَقَالَتْ لَهَا عَائشةٌ: إرْجعِي إلَى أهْلِكِ فَإنْ أحَبُّوا أنْ أقْضِي عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُون وَلَاؤُكِ لِي فَعَلْت فَذَكَرَتْ ذلِكَ بَريرَةُ لأِهْلِهَا فَأبَوْا ... فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أعْتَقَ". (¬2) سورة النساء آية 25. (¬3) روى الشيخان من حديث علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نَهَى عَنْ مُتعَةِ النِّسَاءِ يَوْمَ خيْبَرٍ وَعَنْ أَكْلِ الْحُمُرِ الأنْسِيَّةِ)، البخاري في كتاب المغازي باب غزوة خيبر 4/ 173، ومسلم في النكاح باب نكاح المتعة 2/ 1027، والموطأ 2/ 542، وقال الزرقاني: اتفق مالك وسائر أصحاب الزهري على (قولهم) يوم خيبر. إلا ما رواه عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن القطان عن مالك في هذا الحديث فقال حنين .. أخرجه النسائي 6/ 126، والدارقطني وقال: إنه وَهْمٌ تفرد به ابن القطان، شرح الزرقاني 3/ 153، وانظر فتح الباري 9/ 168 فقد نقل ذلك منه. (¬4) اختلف في وقت التحريم؛ قال السهيلي: وقد اختُلف في وقت تحريم نكاح المتعة فأغرب ما روي في ذلك رواية من قال في غزوة تبوك ثم رواية الحسن أن ذلك كان في عمرة القضاء، والمشهور في تحريمها أن ذلك كان في غزوة الفتح، كأما أخرجه مسلم من حديث الربيع بن سبرة عن أبيه. وفي رواية عن الربيع، أخرجها أبو داود، أنه كان في حجة الوداع قال: ومن قال من الرواة كان في غزوة أوطاس فهو موافق لمن قال عام الفتح. قال الحافظ بعد نقله الكلام السابق: فتحصّل مما أشار إليه ستة مواطن خيبر ثم عمرة القضاء ثم الفتح ثم أوطاس ثم تبوك ثم حجة الوداع وبقي عليه حنين لأنها وقعت في رواية قد نبهت عليها. فيما أن يكون ذهل عنها أوتركها عمداً لخطا رواتها، أولكون غزوة أوطاس وحنين واحد .. وقد ناقش، رحمه الله، كل هذه الروايات وقال: لا يصح من الروايات شيء من غير علة إلا غزوة الفتح ... وقال أيضاً: وأما حجة الوداع فهو اختلاف على الربيع ابن سبرة والرواية عنه بأنها في الفتح أصحُّ وأشهر ... وقال: وقد اختلف عليه (أي على الربيع) في تعيينها، والحديث واحد في قصة واحدة فتعين الترجيح، والطريق التي أخرجها مسلم مصرحة بأنها في زمن الفتح أرجح فتعين المصيبر إليها. فتح الباري 9/ 169 - 171.

مسلم (¬1)، من طريق الربيع (¬2) بن سبرة الجهني، وليس لها أخت في الشريعة إلا مسألة القبلة فإن النسخ طرأ عليها مرتين ثم استقرت بعد ذلك، وقد كان ابن عباس يقولها ثم ثبت رجوعه (¬3) عنها فانعقد الإجماع على تحريمها (¬4)، فإذا فعلها أحد رُجم في مشهور المذهب (¬5) وفي رواية أخرى عن مالك لا يرجم (¬6)؛ لأن نكاح المتعة ليس بحرام، ولكن لأصل آخر لعلمائنا غريب انفردوا به من بين سائر العلماء وهو أن ما حُرِّم بالسنَّة هل هو مثل ما حُرِّم بالقرآن أم لا؟ فمن رواية بعض المدنيين عن مالك أنهما ليسا بسواء، وهذا ضعيف وقد بيَّناه في أصول الفقه، وحقَّقنا أنهما سواء في العمل وإن افترقا في العلم (¬7)، وأما نكاح ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب النكاح باب نكاح المتعة 2/ 1023 - 1024. (¬2) الربيع بن سبرة بن معبد الجهني المدني، ثقة من الثالثة/ م ع ت 1/ 245، ت ت 3/ 244، ترتيب ثقات العجلي ص 156. (¬3) روى الترمذي من طريق محمَّد بن كعب عن ابن عباس قال إنما كانت المتعة في أول الإِسلام كان الرجل يقدم البلدة لَيْس لَهُ بِهَا معْرِفَةٌ فَيتَزَوّج المرأة بِقَدْرِ مَا يَرَى أنهُ يقِيم فَتحْفَظُ لَه مَتَاعَهُ وَتصْلِحُ لَهُ شَيْئَهُ حَتى إذا نَزِلَت الايَةُ {إلاَّ عَلَى أزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكلَتْ ايمَانُهُمْ} قَالَ ابنَ عَباس: فَكلُّ فَرْجٍ سِوَى هذَيْنِ فَهوَ حَرَامٌ؛ سنن الترمذي 3/ 430، والبيهقي 7/ 205. أقول: الحديث فيه موسى بن عبيدة، بضم أوله، ابن نشيط، بفتح النون وكسر المعجمة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة، الرَبَذي، بفتح الراء والموحدة ثم معجمة، أبو عبد العزيز المدني، ضعيف، ولا سيما في عبد الله بن دينار، وكان عابداً من صغار السادسة. مات سنة 153/ ت ق، ت 286/ 2 ت ت 10/ 356، والكامل لابن عدي 6/ 2333، الضعفاء للعقيلي 4/ 160، معجم البلدان 3/ 24. درجة الحديث: قال الحافظ: إسناده ضعيف وهو شاذ. فتح الباري 9/ 172. وروى البخاري. من طريق أبي حَمْزَةَ قَالَ: سَمِعْت ابنَ عَباس يسْألُ عَنْ متُعْةِ النسَاءِ فَرَخَّصَ فَقَالَ مَوْلى لَهُ: إنَّمَا ذلِكَ في الْحَالِ الشديدِ وَفِي النسَاءِ قلة أوْ نَحْوَهُ فَقَالَ ابنُ عَباس: نَعَمٌ. البخاري في كتاب النكاح باب نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن نكاح المتعة أخيراً 7/ 16. (¬4) قال البغوي: اتفق العلماء على تحريم نكاح المتعة وهو كالإجماع بين المسلمين. وروي عن ابن عباس شيء من الرخصة للمضطر إليه بطول العزبة، ثم رجع عنه حيث بلغه النهي. شرح السنة 9/ 100، وقال ابن المنذر، بعد نقل الإجماع على تحريمها: ولا أعلم أحداً يجيز نكاح المتعة إلا بعض الرافضة، ولا معنى لقول يخالف القائل به الكتاب والسنة، الأشراف ص 75. وقال الخطابي: تحريم المتعة كالإجماع إلا بعض الشيعة ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته، فقد صح عن علي أنها نسخت. فتح الباري 9/ 173، وانظر التمهيد 10/ 121 فقد نقل الإجماع على تحريمها أيضاً. (¬5) روي ذلك عَنْ عَبْدِ الله بْنِ نَافع فَقَالَ: يرْجَمُ مَنْ فَعَلَ ذلِكَ الْيَومَ إنْ كان مُحْصناً وَيُجْلَدُ مَنْ لَمْ يُحْصنُ. المنتقى 3/ 335. (¬6) هذه رواية ابن القاسم قال فيها: لا يرجم فيه. المنتقى 3/ 335. (¬7) ما ذهب إليه الشارح هو الذي ذهب إليه أبو الوليد الباجي فقد قال: وعندي أنَّ ما حرَّمته السنة ووقع فيه =

نكاح العبيد

المتعة فهو أكثر من ذلك كله وأقوى منه وأن تحريمه ثبت بإجماع الأُمة والإجماع أكثر من الخبر. نكاح العبيد: فائدة تبويبه لهذا الباب أن العبيد داخلون في خطاب الأحرار يشملهم القول الوارد في جميع المسلمين بجميع أحكام الشريعة إلا ما قام الدليل على تخصيصه، هذا هو الشهور من قول العلماء والمتفق عليه من المالكية (¬1)، فعلى هذا ينكح العبد أربع نسوة لأنه داخل في قوله تعالى: {فَآنْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النسَاءِ} (¬2) الآية، بمطلق اللفظ العام، وقال (ح) (¬3) و (ش) (¬4): لا ينكح إلا اثنتين، وكذلك روى ابن وهب (¬5) عن مالك، رضي الله عنه (¬6)، وتعلَّقوا بأن العبد لو دخل في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النسَاءِ مَثْنَى وَثَلاث وَرُبَاعَ} (¬7) لدخل في قوله تعالى: {الطلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ} (¬8)، فلما خرج عن آية الطلاق بإجماع وألحق الطلاق بالحدود في التشطير، فلو كان النكاح واسعاً عليه لكان حكمه، وهو الطلاق، واسعاً عليه وضيق الحكم دليل على ضيق السبب، وهذا بيِّنٌ لا إشكال فيه وكافٍ في الغرض حتى تستوفوه من معرفة. نكاح المشرك إذا أسلمت زوجه قبله: هذه مسألة عظيمة فيها تفصيل طويل وتعليل كثير فقد يسلمان معاً وقد يسلم أحدهما قبل الآخر، وقد يرتدان معاً أو يرتد أحدهما قبل الآخر، وقد يكونان وثنيين وقد يكونان ¬

_ = الإجماع والإنكار على تحريمه يثبت فيه الحدَّ، كما يثبت فيما حرَّمه القرآن. المنتقى 3/ 336. (¬1) قال ابن عبد البر: هذا هو المشهور عن (مالك) وتحصل مذهبه، الكافي 2/ 544. (¬2) سورة النساء آية 3. (¬3) انظر أحكام القرآن للجصاص 2/ 55. (¬4) انظر أحكم القرآن للكياالهواسي 2/ 97، ونقل البغوي الإجماع على ذلك فقال: اتفقت الأُمة على أن العبد لا ينكح لأكثر من امرأتين، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: بنكح العبد أربع نسوة. قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت شرح السنة 9/ 61، وانظر الموطأ 2/ 543. (¬5) تقدمت ترجمته وهو صاحب ملك، المشهور. مات سنة 196 هـ كما في طبقات الفقهاء. (¬6) قال الباجي: وروى محمَّد عن ابن وهب عن مالك إنه قال: لا يتزوج العبد اثنتين. المنتقى 3/ 336. (¬7) سورة النساء آية 3. (¬8) سورة البقرة آية 229.

كتابيين، وقد يكون أحدهما وثنياً والآخر كتابياً، وقد يكون ذلك من إسلام أو رِدَّة بإجماع منهما فيهما، أو فرقة قبل الدخول أو بعده، وموضع هذا البسط إنما هي كتب المسائل. وعوَّل مالك، رضي الله عنه، في الموطأ على صورة واحدة من هذه الصور وهي إسلام الزوجة قبل الزوج، وساق في ذلك الأحاديث الواردة في شأن صفوان (¬1) وعكرمة (¬2)، وهي وإن كانت مراسيل عن ابن شهاب قد أُسندت عن غيره وقد اشتهرت شهرة تقوم مقام الإسناد، ومرسل الثقة الشهور كالمسند الصحيح، وإذا ثبت لك هذا بإسلام الزوجة قبل الزوج فركِّب عليه سائر الفروع في التفصيل بحسب ما يعطيك الدليل على ما ركَّب عليه مالك، رضي الله عنه، إسلام الزوج قبل زوجه فإنه يتوقف فإن أسلمت وإلا وقعت الفرقة بينهما لقوله تعالى: {وَلَاتُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (¬3)، فلو غفل عنه حتى أسلم وهي في العدة لكان أولى بها، وكذلك يُفعل بالمشرك إذا حضر الوليمة الحديث فيها مشهور (¬4) وهي سنَّة في النكاح قائمة وفائدتها الشهرة والإعلان والذكرى، وأقلها لذوي ¬

_ (¬1) مَالِك عَنِ ابنِ شَهَابٍ أنهُ بَلَغَهُ أن نساءَكُنَّ، في عَهْدِ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، يُسْلِمْنَ بِأرْضِهِن وَهُن غَيْر مُهَاجِرَات وأزْوَاجُهِن حِينَ أسْلَمْنَ كُفارٌ مِنْهِن بِنْتُ الْوَليدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَكَانَتْ تَحْتَ صَفْوَانِ بْنِ أُمَيةَ فَأسْلَمَتْ يَوْمَ الْفَتْح وَهَرَبَ زَوْجُهَا صَفْوَانُ بْنُ أمَيَّةَ مِنَ الْإسْلاَمِ فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -،ابنَ عَمِّهِ وَهْبَ بْنَ عُمَيْرٍ بِرِدَاءِ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - .. وَلَمْ يفَرِّقْ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرأتِهِ حَتى أسْلَمَ صَفْوَان وَاسْتَقَرَّتْ عِنْدَهُ امْرَاتهُ بِذَلِك النكَاحِ. الموطأ 2/ 543 - 544، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 186. (¬2) مَالِك عَنِ ابنِ شَهَاب أن أمَّ حَكِيم بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَام وَكَانَتْ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أبِي جَهْل فَأسْلَمَتْ يوم الْفَتْح وَهَرَبَ زَوْجُهَا عِكْرمَة بْن أبيِ جَهْل مِنَ الْإسْلاَمِ حَتى قدِمَ الْيَمَنَ فَارْتَحَلَت أُمُّ حَكِيم حَتى قَدِمَتْ عَلَيْهِ الْيَمَنَ فَدَعَتْهُ بلَى الْإسْلاَمِ فَأسْلَمَ وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، عَامَ الْفَتْحِ فَلَما رَآهُ رَسُول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وَثَبَ إلَيْهِ فَرِحاً وَمَا عَلَيْهِ رِداءٌ حَتى بَايَعَهُ فَثبتَا عَلَى نِكَاحِهِمَا فَلِكَ. الموطأ2/ 545، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 187، وكلا الحديثين إسنادهما واحد، والحديث منقطع فقد قال ابن عبد البر: لا أعلمه يتصل من وجه صحيح وهو حديث مشهور معلوم عند أهل السير، وابن شهاب إمام أهل السير، وشهرة هذا الحديث أقوى من إسناده بن شاء الله تعالى. تنوير الحوالك 2/ 75 قلت: لعله بذلك يغلب صحته كما ذهب باب ذلك الشارح. (¬3) سورة الممتحنة آية 10. (¬4) متفق عليه. البخاري في كتاب النكاح باب الصفرة للمتزوج 7/ 27، ومسلم في كتاب النكاح باب الصداق وكونه تعليم قرآن وخاتم حديد 2/ 1042، والموطأ 2/ 545 كلهم عن حديث أنسِ بْنِ مالك، رَضِيَ الله عَنْهُ، أن عَبْدَ الرحْمنِ بْنَ عَوْفٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، وِبهِ أثر ضُفْرَةٍ فَسَألَه رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأخْبَرَة أنهُ تَزَوَّجَ امْرأةً مِنَ الأنْصَارِ قَالَ: كَمْ سِقْتَ إلَيْهَا؟ قَالَ: وزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذهَبٍ، قَالَ رَسُول الله، - صلى الله عليه وسلم - أولمْ وَلَوْ بِشاةٍ .. لفظ البخاري.

القدرة شاة وبعد ذلك فكيف ما استطاع كل أحد. وفي الصحيح أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أوْلَمَ على بعض أزواجه (¬1) بصاعين (¬2) من شعير (¬3) وأوْلَمَ على زينب حضراً (¬4)، وعلى صفية (¬5) سفراً بما حضر، وقد روي عن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، أنه ¬

_ (¬1) قال الحافظ: لم أطلع على تعيين اسمها صريحاً، وأقرب ما يفسر به أم سلمة لما روى ابن سعد وأحمد بإسناد صحيح إلى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أن أم سلمة أخبرته، فذكر قصة خطبتها وتزويجها وقصة الشعير. فتح الباري 9/ 239. (¬2) لم أجده بهذا اللفظ وإنما ورد بمدين كما يأتي. (¬3) رواه البخاري في النكاح باب أولم بأقل من شاة 7/ 31 من طريق مَنْصُورِ بْنِ صَفيَّةَ عَنْ أُمه صَفيةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: أوْلَمَ النبِي، - صلى الله عليه وسلم -، عَلَى بَعْضِ نِسَائِهِ بِمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ .. ورواه أحمد عن منصور بن صفية عن أمه عن عائشة بلفظه. الفتح الرباني 16/ 206، والبيهقي من نفس الطريق. السنن الكبري 7/ 260. الحديث: فيه صفية بنت شيبة مختلف في صحبتها. قال الذهبي: صفية بنت عثمان العبدرية مختلف في صحبتها، وكأن أحاديثها مرسلة. تجريد أسماء الصحابة 2/ 283، وكذا قال الحافظ وزاد: وأبعد من قال لا رؤية لها فقد ثبت في صحيح البخاري تعليقاً قال: قَالَ أبَّانُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفيةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: سَمِعْت النبىَّ، - صلى الله عليه وسلم - وأخرج ابن مندة .. عَنْ صَفيَّةَ .. وَالله لَكأني أنْظُرُ إلَى رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، حِينَ دَخَلَ الْكَعْبَةِ. الحديث. وروت عن عائشة وأم حبيبة وأم سلمة .. وأسماء بنت أبي بكر وأم عثمان بنت سفيان. الإصابة 4/ 348، ونقل الحافظ عن البرقاني قوله: وروى هذا الحديث عبد الرحمن بن مهدي ووكيع والفريابي وروح بن عبادة عن سفيان الثوري فجعلوه من رواية صفية بنت شيبة، ورواه أحمد الزبيري ومؤمل بن إسماعيل ويحيى بن اليمان عن الثوري فقالوا فيه: عن صفية بنت شيبة عن عائشة، قال: والأول أصح، وصفية ليست بصحابية وحديثها مرسل، قال: وقد نصر النسائي قول من لم يقل عن عائشة وأورده عن بندار عن ابن مهدي وقال إنه مرسل .. وقال الحافظ: الذين لم يذكروا فيه عائشة أكثر عدداً وأحفظ وأعرف بحديث الثوري ممن زاد، فالذي يظهر على قواعد المحدثين إنه من المزيد في متصل الأسانيد. فتح الباري 9/ 238 - 239. درجة الحديث: صحيح فقد قال الشيخ البنا: صفية بنت شيبة أثبت المحققون صحبتها فالحديث صحيح. الفتح الرباني 16/ 206. (¬4) متفق عليه. البخاري في النكاح باب الوليمة ولو بشاة 7/ 31، وفي باب أوْلَمَ على بعض نسائه أكثر من بعض 7/ 31، ومسلم في النكاح باب تزويج زينب بنت جحش ونزول الحجاب وإثبات وليمة العرس 2/ 1050 كلاهما من حديث أنس، وفي رواية مسلم: وَكَانَ تَزَوَّجَهَا بِالْمَدِينَة فَدَعَا الناسَ لِلطَّعَامِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النهَارِ. ورواه أبو داود 4/ 126. (¬5) البخاري في النكاح باب اتخاذ السراري ومن أعتق جارية ثم تزوجها، ولفظه: عَنْ أنس قالَ: أقَامَ النبِي، - صلى الله عليه وسلم -، بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثاً يَبْنِي بِصَفِيَّةِ بِنْتِ حُيىّ فَدَعَوْتُ الْمسْلِمِينَ إلَى وَلمَتِهِ فَمَا كَانَ فِيهَا خُبْزٌ وَلَا لَحْمٌ .. 7/ 8، وفي البيوع باب هل يسافر بالجارية قبل أن يستبرئها 3/ 110، وفي خيبر 5/ 168.

قال: "إذا دُعِيَ أحَدُكُمْ إلَى طَعَام فَلَيَجِبْ فَإنْ كَانَ مُفْطِراً فَلْيَأُكُلْ وَإنْ كَانَ صَائِماً فَلْيُصَلِّ" (¬1)، وقال قال مالك: (لا ينبغي لأهل الفضل أن يسرعوا إلى الإجابة) (¬2) في مثل هذا، وإنما قال ذلك لفساد الناس وإلا فقد كان النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يجيب كل من دعاه حتى الخياط ففي الصحيح (أنَّ خَيَّاطاً دَعَاهُ إلَي طَعَامٍ فَمَشَى مَعَهُ في نَفَرٍ يَسيرٍ وَاتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ لَيْسَ مِنْهُمْ فَقَالَ لَهُ النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، إنَّ هذَا اتبَعَنَا فَأذنَ لَهُ) (¬3). قال لنا ثابت بن (¬4) بندار، قال لنا البرقاني (¬5)، قلت لأبي بكر الإسماعيلي (¬6) ¬

_ (¬1) مسلم في النكاح باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوته 2/ 1054، وأحمد انظر الفتح الرباني 16/ 207، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 263، وأبو داود 2/ 828، والتمهيد 1/ 275، مشكل الآثار 4/ 149 كلهم عن أبي هريرة. (¬2) قال الباجي: كان من مذهبه أنه يكره لذوي الفضل والهيئة الإجابة إلى طعام صُنع لغير سبب. المنتقى 3/ 350. (¬3) أقول: لعل الشارح هنا أدخل بعض الحديثين في بعض فلم يرد ذكر للخياط في حديث أبي مسعود، كما لم يرد ذكر للرجل الذي اتبعهم في حديث أنس، والحديثان متفق عليهما، الأول حديث أبي مسعود عند البخاري في كتاب الأطعمة باب الرجل يتكلف الطعام لأخوانه 7/ 101، ومسلم في الأشربة باب ما يفعل الضيف إذا اتبعه غير من دعاه صاحب الطعام ... 3/ 1608 من طريق أبي مسعود الأنصاري قال: كَانَ رَجُل مِنَ الأنْصارِ، قَال لَهُ أبو شعَيْب وَكَانَ لَه غلَام لَحَّام (أي بائع لحم) فَرَأى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فَعَرَفَ في وَجْهِهِ الْجوعَ فَقَالَ لغلامه: ويحَكَ إصْنَع لَنَا طَعَاماً لِخَمْسَةِ نَفَرٍ فَإني أرِيدُ أنْ أدْعو النَّبِيَّ، - صلى الله عليه وسلم -، خَامِس خمْسةٍ، قَالَ: فصَنَعَ ثم أتى النبى، - صلى الله عليه وسلم -، فَدْعَاهُ خَامِس خَمْسة بما وَاتبَعهمْ رجلٌ فَلَمَّا بلَغ الْبَاب قَالَ النبِي، - صلى الله عليه وسلم -: إن هذَا اتبَعنَا فَإنْ شِئْت أنْ تَأذنَ لَهُ وَإنْ شِئْتَ رَجع قالَ: لاَ بل آذنُ لَه يَا رسولَ الله. وفي حديث أنى عندهما قال: دَخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، عَلَى غلَامٍ لَه خَيّاط فَأتَاة بقِصْعَةٍ فِيهَا طَعَام وّعَلَيْهِ دباءٌ فَجَعَلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يَتَتبع الدِّبَاء قَال: فَلَمَّا رأيْت ذلكَ جَعَلْت أجْمَعهُ بَيْنَ يَدَيهِ .. البخاري في كتاب الأطعمة باب من أضاف رجلاً إلى طعام وأقبل هو على عمله، وفي باب المرق 7/ 101 وفي باب من ناول أو قدَّم إلى صاحبه على المائدة شيئاً 7/ 102، وفيكتاب البيوع باب ذكر الخياط 3/ 79، ومسلم في الأشربة باب جواز أكل المرق .. ، 3/ 1615. (¬4) ثابت بن بندار تقدم. (¬5) أحمد بن محمَّد بن أحمد بن غالب، أبو بكر، المعروف بالبرقاني، عالم بالحديث من أهل خوارزم، استوطن بغداد ومات فيها سنة 425. معجم الأدباء 5/ 34 ط دار المأمون، وأنباء الرواة 1/ 106، وبغية الوعاة 159، الأنساب 2/ 168. (¬6) أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل، أبو بكر الإسماعيلي، حافظ من أهل جرجان عوف بالمروءة والسخاء، قال أحد مترجميه: جمع بين الفقه والحديث ورياسة الدين والدنيا. الأعلام 1/ 83، المنتظم 7/ 172، =

جامع النكاح

الحافظ: لِمَ أستاذن النبيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، الخياطَ في الرجل الذي اتبعهم ولم يكن دعاه، ودعاه جابر يوم الأحزاب (¬1) فقال: يَا أهْلَ الْخَنْدَقِ إنَّ جَابِراً صَنَعَ لَكُمْ سُؤُراً فَجِيءَ هَلَا بِكُمْ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الّذِي اتَّبَعَهُ في طَعَامِ الْخَيَّاطِ أكَلَ مِنْ طَعَامِ الْخَيّاطِ فَافْتَقَرَ إلَى إذْنِهِ، وأهل الخندق أكلوا من طعام البركة وبقيت لجابر برمته (¬2) وعجينه كما كانت فلم يفتقر إلى إذنه في طعام ليس له (¬3). جامع النكاح: ذكر مالك حديث عمر (¬4) حين قال مالك، وللخبر (¬5)، فإن قيل: إذا علم الرجل من وليته عيباً هل يستره عن الخاطب أو ينشره؟ قلنا: أما عيب الأبدان فلا خلاف في وجوب ذكره فإن كتمه فهو غاش عليه الإثم إجماعاً وعليه الغرم للصداق، وإذا كان ذلك العيب مما يوجب رد النكاح لأنه غارّ. له بالقول، ولا خلاف بين المالكية أن الغرور ¬

_ = الرسالة المستطرفة ص 148، شذرات الذهب 4/ 103، تاريخ بغداد 4/ 19 وفيه ولد سنة 297 - 371 هـ. (¬1) قصة جابر هذه متفق عليها. البخاري في المغازي باب غزوة الخندق 5/ 138 - 139، ومسلم في الأشربة باب جواز استتباعه غيره إلى داره من يثق برضاه بذلك 3/ 1610 - 1611. (¬2) البرمة: القدر مطلقاً وجمعها برام، وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن. النهاية 1/ 121. (¬3) نقل الحافظ عن المازري عدة احتمالات فقال: يحتمل أن يكون علم برضا أبي طلحة فلم يستأذنه، ولم يعلم رضا أبي شعيب فاستأذنه ولأن الذي أكله القوم عند أبي طلحة كان مما خرق الله فيه العادة لنبيه، - صلى الله عليه وسلم -، فكان جلُّ ما أكلوه من البركة التي لا صنيع لأبي طلحة فيها، فلم يفتقر إلى استئذانه أو لأنه لم يكن بينه وبين القصاب من المودة ما بينه وبين أبي طلحة، أو لأن أبا طلحة صنع الطعام للنبي، - صلى الله عليه وسلم -، فتصرَّف فيه كيف أراد وأبو شعيب صنعه له ولنفسه، ولذلك حدَّد بعدد معين ليكون ما يفضل عنهم له ولعياله مثلًا واطلع النبي، - صلى الله عليه وسلم -، على ذلك فاستأذنه لذلك لأنه أخبر بما يصلح نفسه وعياله. فتح الباري 9/ 561. قلت: وعندي أن أولى الاحتمالات ما ذكره الشارح عن الإسماعيلي. (¬4) مَالِك عَنْ أبي الزُّبَيْر أن رَجُلاً خَطَبَ إلَى رَجُلٍ صحْتَة فذَكَر إنهَا كانَتْ أحْدَثَتْ فبَلَغَ ذلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخطَّابِ فَضَرَبَهُ أوْ كادَ يَضْرِبهُ. ثم قال مالك وللخبر. الموطأ 2/ 547، قال الزرقاني: أي غرض لك في إخبار المخاطب. شرح الزرقاني 3/ 164. أقول: الحديث فيه انقطاع لأن أبا الزبير لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه. درجة الحديث: ضعيف. (¬5) قال الزرقاني يعني: أي غرض لك في إخبار المخاطب بذلك فيجب على الولي ستره عليها لأن الفواحش يجب على الإنسان سترها على نفسه وعلى غيره، شرح الزرقاني 3/ 164.

بالقول يوجب الضمان على الغارّ خلافاً لأبي حنيفة (¬1) و (ش) (¬2). ووقعت مسائل ظنّ الغافلون من أصحابنا حين جاء فيها غرور من قول قائل فلم ير عليه مالك ضماناً إنه اختلاف قول وإنما ذلِك لأنهم لم يعلموا حد الغرور الموجب للضمان (¬3). وأما إن كان العيب من طريق الأديان فهو على قسمين: إن كان في الخلق كحدة تكون في المرأة أو لين زائِد فيستحب له ذكر ذلك، فإن سكت عنه فليس عليه فيه شيء، وأما إذا كان في الدين فحرام عليه ذكره لأنه إن كان الذي وقع منها عثرة فمقيل العثرات قد سترها والنكاح يعصم منها، وإن كانت منبهرة (¬4) فليس يلزم الولي ذكر ذلك لأنه لم ينفرد بعلمه والنكاح قيد وعصمة فإذا أدخلها إلى فيه زال الانبهار. مسألة: إذا طلَّق الرابعة من أزواجه فله أن يتزوج أختها أو سواها في عدتها إذا لم تكن الرجعة مستحقة في العدة، وقال (ح): لا يجوز ذلك لأن العدة أثر من آثار النكاح وعلقة من علائقه وهي هبوسة لحقه فكانت بمنزلة الرجعية (¬5). قلنا: الرجعية زوجة بدليل بقاء الميرات والنفقة والسكنى، فلذلك حرَّم الله عليه أختها وأربعاً سواها بخلاف مسألتنا، فإنه إذا كان الطلاق بائناً فهي أجنبية منه بدليل إنه لو وطئها لزمه الحدُّ فجاز له نكاح أختها وأربع سواها كما لو انقضت عدتها. مسألة: روي أن سودة بنت زمعة لما أسنَّت وكبرت وخشيت أن يطلِّقها النبيُّ, - صلى الله عليه وسلم -، آثرت بيومها عائشة، رضي الله عنها، فأقرها النبي، - صلى الله عليه وسلم -، على نكاحها (¬6)، وما كان يقسم ¬

_ (¬1) انظر المبسوط 5/ 95 - 98، وبدائع الصنائع 3/ 1537. (¬2) انظر تكملة المجموع 16/ 275؛ فقد قال في القديم: يرجع عليه وفي الجديد لا يرجع. (¬3) لعله يقصد بذلك بن القاسم. قال أبو الوليد: وأما البرص ففي العتبية من سماع ابن القاسم عن مالك أترد المرأة من قليل البرص؟ فقال: ما سمعت إلا ما في الحديث وما فرّق بين قليله ولا كثيره. قال ابن القاسم: ترد من قليله ولو أحيط علماً فيما خف منه إنه لا يزيد لم ترد منه ولكن لا يعلم ذلك فترد من قليله. المنتقى 3/ 278. (¬4) انبهر بفلانة، بالضم: شهر بها، ترتيب القاموس 1/ 332، النهاية 1/ 165. (¬5) قال محمَّد: لا يعجبنا أن يتزوج الخامسة وإن بقي طلاق إحداهن حتى تنقضي عدتها. لا يعجبنا أن يكون ماؤه في رحم خمس نسوة حرائر، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا. موطأ محمد ص 178، وانظر أوجز المسالك 9/ 453. (¬6) متفق عليه. البخاري في النكاح باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها 7/ 43، ومسلم في الرضاع باب جواز هبتها نوبتها لضرتها 2/ 1085 كلاهما عَنْ عائشة أنْ سوْدةَ بِنْتَ زَمْعَةٍ وَهَبَتْ يَومهَا لِعَائِشةَ وَكَانَ النبِيُّ، - صلى الله عليه وسلم -، يُقْسِمُ لِعَائشةَ يَوْمَهَا وَيوْمَ سَودةَ. لفظ البخاري.

لها. قال مالك، رضي الله عنه: وليس يلزمها البقاء على ذلك بل لها أن ترجع فيه (¬1). وقال (ح) (¬2) و (ش) (¬3): ليس لها أن ترجع فيه لأنه حق أسقطته فلا رجوع لها فيه كما لو أسقطت خيارها، والصحيح أن لها الرجوع لأن الهبة للقسم كان مع بقاء السبب الموجب. له وهو النكاح، فما دام سبب القسم باقياً فإعطاء الهبة باقية وهذا معنى دقيق تفطَّن له مالك، رضي الله عنه، وخفي على غيره .. ¬

_ (¬1) انظر الشرح الصغير 3/ 308. (¬2) قال في الهداية: ولها أن ترجع في ذلك لأنها أسقطت حقاً لم يجب بعد فلا يسقط .. انظر الهداية مع شرح فتح القدير 2/ 519، وانظر مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 1/ 347 - 375، والبناية 4/ 336. (¬3) قال النووي: وللواهبة الرجوع متى شاءت فترجع في المستقبل دون الماضي لأن الهبات يرجع فيما لم يقبض منها دون المقبوض. شرح النووي على مسلم 10/ 48.

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق (¬1) قد قدَّمنا أن النكاح يُعقد للأبد ولا يجوز فيه الأمد بقصد الألفة والنسل الذي تكثر به الأمة ويدوم به العمل الصالح، هذا هو المقصود منه إلا أنه قد تتعذر الألفة ويقع بين الزوجين النفرة، فلو بقى على حاله من اللزوم واستمر على صفته من التأبيد لكان في ذلك ضررٌ بالزوجين، فشرَّع الله عز وجل، كما قدمنا، النكاح للألفة، وشرَّع الطلاق مخلصاً عند وقوع النفرة، وهذا أمر لا ينبغي أن يكون إلا وقت الحاجة؛ فقد روى أبو داود (أبغَضُ مُبَاحٍ إِلَى الله الطَّلَاقُ) (¬2)، وروي أيضاً "إيمَا امْرَأةٌ سَألتْ زَوْجَهَا الطَّلاَقَ مِنْ غَيْرِ مَا بَأسٍ ¬

_ (¬1) هو في اللغة إزالة القيد والتخلية، وفي الشرع إزالة ملك النكاح. التعريفات للجرجاني ص141، وقال الحافظ: الطلاق في اللغة حلّ الوثاق مشتق من الإطلاق، وهو الإرسال والترك، وفي الشرع حل عقدة التزويج فقط. فتح الباري 9/ 346. (¬2) أبو داود 2/ 631، وابن ماجه 1/ 650، والحاكم 2/ 196، كلهم من طريق محارب بن ديثار عن ابن عمر، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي: على شرط مسلم، ورواه أبو داود 2/ 631 والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 322، وقال البيهقي: هذا حديث أبي داود وهو مرسل، وفي رواية ابن أبي شبية عن عبد الله بن عمر موصولاً ولا أراه حفظه. ورواه ابن أبي حاتم في العلل 2/ 431 وقال: قال أبي إنما هو محارب عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، مرسل. وقال المنذري: الشهور فيه المرسل، وقال الخطابي: المشهور في هذا عن محارب ابن ديثار مرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليس فيه ابن عمر. مختصر سنن أبي داود للمنذري ومعالم السنن للخطابي 3/ 92، وأورده ابن الجوزي في العلل المتناهية بإسناد ابن ماجه وفيه عبيد ابن بن الوليد الوصافى وقال: هذا حديث لا يصح. قال يحيى: الوصافي ليس بشيء، وقال الفلاس والنسائي: متروك الحديث، العلل المتناهية 2/ 149، ورواه أين حبان في ترجمة عبيد الله هذا، وقال: هو من أهل الكوفة من ولد الوصاف بن عامر العجلي، واسم الوصاف مالك روى عن أهلها منكر الحديث جداً. وقال ابن معين: ليسى بشيء، المجروجين 2/ 63 - 64. وأورده ابن عدي في الكامل وساق له عدة أحاديث منها هذا الحديث وقال: لا يتابع عليها. الكامل 4/ 1630 ت ت 7/ 55, وقال العقيلي: أحاديثه مناكير لا يتابع على كثير من حديثه، الضعفاء للعقيلي 3/ 128، وخلاصة القول في عبيد الله هو ما قال الحافظ في ت 1/ 540 إنه ضعيف. قلت: لكنه لم ينفرد بل تابعة معرف بن واصل السعدي الكوفي وهو ثقة، كما قال الحافظ في ت3/ 263 وقال في ت ت 10/ 229: روى عن أبي وائل وإبراهيم التيمي وإبراهيم النخعي والشعبى .. ومحارب بن ديثار إلا أن المنفرد عنه بوصله، كما قال الحافظ في التلخيص 3/ 232، هو محمَّد بن خالد الوهبي وهو صدوق كما قال الحافظ في ت =

لَمْ تُرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ) (¬1)، فينبغي للرجل أن يوقعه، كما قلنا، عند الحاجة إليه بشروطه التي بيَّنها الله فيه مفتيداً للمنفعة، مخلصاً عن المضرة. وهو على ضربين: كامل بالحرية وناقص بالرق، والعبودية، ومن وجه آخر، على قسمين: سنَّة وبدعة، وقد يعرى عنهما. وطلاق السنة هو أن يطلِّقها واحدة وهي طاهر لم يمسّها في ذلك الطهر، ولا يقدمه طلاق في حيض ولا يتبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض؛ فهذه ستة شروط مستقرأة من الحديث الصحيح عن ابن عمر قال: (طَلَّقْتُ امْرأتي وَهِيَ حَائِضٌ (¬2) فَذَكَرَ ذلِكَ عُمَرُ لِلنبى، - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُم لِيُمْسِكْهَا حَتى تَحِيضَ ثُمّ تَطْهُرَ ثُم تَحِيضَ ثُم تَطْهُرَ ثُم إنْ شَاءَ طَلَّقَ وإنْ شَاءَ أمْسَكَ، فَتِلْكَ الْعُدَّةُ التي أمَرَ الله أنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ) (¬3). فحكم النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بوقوع الطلاق في الحيض حين أمره بالرجعة منه، خلافاً لداود من المبتدعة (¬4)، حيث يقول إن الطلاق في الحيض لا يلزم (¬5)، وهذا في إثباته كافٍ، ¬

_ = 2/ 156، وفي ت ت روى عن ابن جريج ومعرف بن واصل. وأبو حنيفة .. وثقه الدارقطني وابن حبان ت ت 9/ 143. وقال الحافظ: رجح أبو حاتم والدارقطني في العلل والبيهقي المرسل تلخيص الحبير 3/ 232، ويقول الشيخ ناصر: وجملة القول إن الحديث رواه عن معرف بن واصل أربعة من الثقات وهم: محمَّد بن خالد الواهبي وأحمد ابن يونس ووكيع بن الجراح ويحيى بن بكير واختلفوا عليه؛ فالأول منهم رواه عن محارب بن ديثار عن ابن عمر مرفوعاً، وقال الآخرون عنه عن محارب مرسلاً ولا يشك .. إن رواية هؤلاء أرجع لأنهم أكثر عدداً واتقن حفظاً فإنهم جميعاً ممن أحتج به الشيخان، إرواء الغليل 7/ 108. درجة الحديث: المرسل منه صحيح والمرفوع ضعيف. (¬1) أبو داود 2/ 667، الترمذي 3/ 493 وقال: حديث حسن، وابن ماجه 1/ 662 وابن حبان، انظر موارد الظمآن ص 321 كلهم عن ثوبان رضي الله عنه. درجة الحديث: حسن كما قال الترمذي وغيره. (¬2) من هنا يوجد نقص كبير في (ك) كماله من بقية النسخ. (¬3) متفق عليه. البخاري في الطلاق باب قول الله تعالى، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} 7/ 52، ومسلم في الطلاق باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها ... 2/ 1093، وأبو داود 2/ 632 - 636، والترمذي 3/ 478، والنسائي 6/ 138 - 141، والموطأ 2/ 576. (¬4) داود بن عدي بن خلف الأصبهاني، أبو سليمان، الملقب بالظاهري، أحد الأئمة المجتهدين في الإِسلام تنسب إليه الطائفة الظاهرية .. ولد سنة 201 - 270، والأعلام 8/ 3، تهذيب ابن عساكر 5/ 203, ميزان الاعتدال 1/ 321. (¬5) قال الحافظ: وعن داود يجبر على الرجعة إذا طلقها حائضاً، ولا يجبر إذا طلقها نفساء وهو جمود. فتح =

ما جاء في البتة

وقد استوفيناه في مسائل الخلاف، وقد تفطَّن البخاري، بثاقب فهمه، لنكتة وهي أنَّ الطلاق مكروه، وقد كشف الزوج الزوجة وكشفته فمن المروءة ألا يكشفها لغيره إلا عند الحاجة، كما بيَّناه، ويستحي الرجل بعد ما كان بينه وبين زوجته من المخالطة أن يواجهها بالطلاق إلا أن تواجهه هي بمكروه، وأدخل حديث المستعيذة (بِأنَّ امْرأةً دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، لِلْبِنَاءِ بِهَا فَلَمَّا خَلَا بِهَا قَالَتْ: أعُوذُ بِالله مِنْكَ، قَالَ لَهَا: لَقَدْ اسْتَعَذْتِ بِعَظِيمٍ، إِلْحَقِي بِأهْلِكِ) (¬1). ما جاء في البتَّة: روى مسلم عن أبي الصهباء عن ابن عباس أنه قال: (كَانَ الطلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَاحِدَةً، وزَمَانَ أبِي بَكْرِ وَصَدْراً مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ فَلَمَّا تَتَابَعَ النَّاسُ في الطَلاَقِ قَالَ عُمَرُ: إنَّ النَاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا أَمْراً كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أنَاةٌ فَلَوْ أمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِم فَأمْضَاهُ عَلَيْهِمْ) (¬2)، وعقبه برواية أخرى من طريق ثان فقال: (كَانَتِ الْبَتَّةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، وَاحِدَةً) (¬3) الحديث إلى آخره، ولم يدخل البخاري في هذا الحديث ¬

_ = الباري 9/ 350. وقال الباجي، بعد نقل كلام الجمهور: إذا ثبت ذلك فيعتدّ عليه بالطلاق الذي يوقعه في الحيض رجعياً كان أو بائناً. قال القاضي أبو الحسن والقاضي أبو محمَّد خلافاً لمن لا يعتد بخلافهم وهم هشام بن عبد الحكم وابن علية وداود. المنتقى 4/ 98، وقال ابن عبد البر: جمهور العلماء على أن الطلاق في الحيض يقع وإن كرهه جميعهم ولا يخالف فيه إلا أهل البدع والجهل الذين يرون الطلاق لغير السنة لا يقع، وروي ذلك عن بعض التابعين وهو شذوذ لم يعرج عليه أحد من العلماء، شرح الزرقاني 3/ 202. وقال النووي: أجمعت الأُمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فلو طلقها أثم ووقع طلاقه ويؤمر بالرجعة لحديث ابن عمر المذكور في الباب، وشذ بعض أهل الظاهر فقال: لا يقع طلاقه لأنه غير مأذون له فيه فأشبه طلاق الأجنبية والصواب الأول وبه قال العلماء كافة. شرح النووي على مسلم 10/ 60، ونقل ابن قدامة عن ابن المنذر وابن عبد البر أنه قول عامة أهل العلم وأنه لم يخالف في ذلك إلا من ذكر قبل. المغني 7/ 366، وانظر مذهب الظاهرية في المحلى 11/ 449 - 460. (¬1) البخاري في الطلاق باب من طلّق وهل يواجه امرأته بطلاق 7/ 53، وابن ماجه 1/ 661 كلاهما عن الأوزاعي قال: سَألْتُ الزهْرِيَّ: أي أزْوَاج النبي - صلى الله عليه وسلم - اسْتَعَاذتْ مِنْهُ؟ قَالَ: أخْبَرَني عرْوَة عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ الله عَنْهَا، أن ابنَةَ الْجَوْنِ لَما دَخَلَتْ عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، وَدنَا مِنْهَا قَالَتْ أعَوذُ بِالله مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا: لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ إلْحَقِي بِأهْلِكِ. لفظ البخاري. (¬2) مسلم في الطلاق باب طلاق الثلاث 2/ 1099، وأبو داود 2/ 649 - 651، والنسائي 6/ 145، وأحمد انظر الفتح الرباني 17/ 9. (¬3) مسلم في الطلاق باب طلاق الثلاث 2/ 1099، والبيهقي 7/ 336 ولفظه أنَّ أبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَباسٍ:=

لأن أبا الصهباء انفرد به ولم يتابعه أحد عليه من أصحاب ابن عباس، وقد أدخل مالك في رده حديثين: أحدهما في هذا الباب: أن رجلاً قال: (طَلَّقْتُ امْرأتي مِائَةَ تَطْلِيقَةٍ فَمَاذَا تَرَى عَلَىَّ؟ قَالَ لَهُ: طَلَّقَتْ عَلَيْكَ بِثَلَاثٍ وَسَبْع وَتسْعونَ اتَّخَذْتَ بِهَا آيَاتِ الله هُزُواً وَلَعِباً) (¬1)، ثم أدخل في باب طلاق البكر حديث محمَّد بن إياس (¬2) ابن البكير (أنَّ رَجُلاً طَلقَ امْرأتَهْ ثَلاَثاً ثُم جَاءَ يَسْتَفْتي ابنَ عَبَّاس فَقَالَ لَهْ أبو هُرَيْرَة: لاَ نَرَى أنَّكَ تَنْكِحَهَا حَتَّى تنْكحَ زَوْجاً غَيْرَكَ، فَقَالَ لَهْمَا، إنمَا كانَ طَلَاقِي لَها وَاحِدةً وَكَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَباس: إنَّكَ أرْسَلْتَ مِنْ يَدِكَ مَا كَانَ لَكَ مِنْ فَضْلٍ) (¬3)، فهذا يدل من قول ابن عباس في الخبرين جميعاً أن الثلاث في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عهد أبي بكر كانت لازمة، وفي البخاري ومسلم من حديث - صلى الله عليه وسلم -، وَأقَرَّهُ وَصَارَتْ سُنَّة يُحْكَمُ بِهَا عَلَى مَنْ جَاءَ بَعْدَهْ (¬4). وإنما معنى الحديث، الذي رواه أبو الصهباء، أن الناس كانوا يطلقون على السنَّة واحدة بحلول عقد النكاح بها, ولا يخرجون عن السنة فيها، وتمادى الحال بها (حتى) (¬5) حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخلافة أبي ¬

_ = هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ ألَمْ يَكُنْ طَلاَق الثَّلَاث عَلَى عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأبِي بَكْرٍ وَاحَدَةً؟ فَقَالَ: قَدْ كَانَ ذلِكَ فلَمّا كَانَ في عَهْدِ عُمَرَ تَتَابَعَ الناس في الطلاَقِ فَأجَازَهُ عَلَيْهِمُ. (¬1) الموطأ 2/ 550، ولفظ: أنه بَلَغَهُ ابن رَجُلا قَالَ لِابْنِ عَباس .. والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 337 من طريق سَعِيدِ بْنِ جبَيْر أن رَجُلاً جَاءَ إلَى ابنِ عَباسٍ فَقَالَ: طَلقْت امْرَأتي ألفَاً فَقَالَ: تَأخُذْ ثَلاَثاً وَتَدع تُسعمائةٍ وسبع وتسْعِينَ. والدارقطني في السنن 4/ 12 وعبد الرزاق في المصنف 6/ 397. درجة الحديث: صححه الشيخ ناصر في إرواء الغليل 7/ 223. (¬2) محمَّد بن إياس بن البكير الليثي المدني ثقة من الثالثة، ووهم من ذكره في الصحابة/ خت د، ت 2/ 146، وانظر ت ت 9/ 68. (¬3) الموطّأ 2/ 570، وأبو داود 2/ 648، وشرح السنة 9/ 231. درجة الحديث: صحيح كما قال شعيب الأرناؤوطي. (¬4) البخاري في الطلاق باب من أجاز طلاق الثلاث، 7/ 54، ومسلم في اللعان 2/ 1129، والموطأ 2/ 566 كلهم عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِي أخْبَرَهُ أنْ عويمِرَ الْعجلانيَّ جَاءَ إلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِي الأنصَارِي فقَال لَهُ: يَا عَاصِمُ أرأيت لَو أنَّ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امرَأَتِهِ رَجُلاً أيَقتلْة فَتَقْتلوهُ أم، كَيفَ يَفْعَلُ، سَلْ يَا عَاصِم عن ذلِكَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - .. (¬5) زائدة في الأصل وليست في بقية النسخ.

بكر وصدراً من خلافة عمر فصار الناس يطلقون بدل الواحدة ثلاثاً فجمعوا اكان الله فرقه عليهم، واستعجلوِا ما كان الله أخَّره عنهم فألزموا ذلك. وقد روى النسائي عن محمود بن لبيد أن (رَجُلًا طَلَّقَ أمْرأتَهُ ثَلَاثاً في زَمَنِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَامَ رَسُولُ اللِه - صلى الله عليه وسلم، مُغْضَباً يَقُولُ: أيلْعَبُ بَكَتَابِ اللِه وَأَنَا حَيٌّ بَيْنَ أظْهُرِكُمْ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أُقْتُلْهُ) (¬1)، فهذا معنى الحديث، ليس معناه ما تتوهمه المبتدعة والجُهَّال من أن طلاق ¬

_ (¬1) سنن النسائي 6/ 142من حديث ابن وهب عن مخرمة عن أبيه عن محمود بن لبيد، والحديث فيه مخرمة ابن بكير بن عبد الله الأشج، أبو المسور، المدنى صدوق روايته عن أبيه وجادة من كتابه، قاله أحمد وابن معين وغيرهما. وقال ابن المديني: سمع من أبيه قليلاً من السابعة. مات سنة 159هـ/ بخ م د س، ت2/ 234،وقال في ت ت: قال ابن وهب: سمعت مالكاَ يقول: حدثني مخرمة بن بكير وكان رجلاً صالحاً، وقال الدوري عن ابن معين: ضعيف وحديثه عن أبيه كتاب ولم يسمعه منه، وقال أبو داود: لم يسمع من أبيه إلا حديثاً واحداً وهو حديث الوتر، وقال سعيد ابن أبي مريم عن خالد بن سلمة: أتيت مخرمة فقلت حدثك أبوك؟ فقال لم أدرك أبي هذه كتبه، وقال معن بن عيسى: سمع من أبيه وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار، وقال ابن أبي أويس: وجدت في ظهر كتاب مالك سألت مخرمة عما يحدّث به عن أبيه سمعها من أبيه فحلف لي ورب هذه البنية سمعت من أبي، وقال ابن عدي: وعند ابن وهب ومعن وغيرهما عن مخرمة أحاديث حسان مستقيمة وأرجو أنه لا بأس به. ت ت: 10/ 70 - 71، وانظر الكامل 6/ 2421، والميزان 4/ 80 - 81، وقد نقل الشوكاني عن ابن كثير قوله في هذا الحديث سنده جيد، نيل الأوطار 7/ 150، وقال الحافظ في بلوغ المرام رقم 1105 ص 224: رواته موثوقون، وقال في الفتح 9/ 362:رجاله ثقات لكن محمود بن لبيد ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت له منه سماع وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرواية، وقد ترجم له أحمد وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع، وقال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحداً رواه غير مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل إنه لم يسمع من أبيه. فمرسل ولا حجة في المرسل مخرمة لم يسمع من أبيه شيئاً، ويقول الشيخ أحمد شاكر راداً على ابن حزم وابن حجر: وأما الكلام في سماع مخرمة من أبيه فالحق أنه سماع منه كما ثبت ذلك عن معن وعن مالك، وقد سأله مالك فحلف له أنه سمع من أبيه ومخرمة ثقة ولو كان لم يسمع منه فلا يضعف ذلك روايته لأنه كان عنده كتاب أبيه وهذه وجاده هي عندنا تشبه السماع أو تكون أقوى منه، وقد أخرج مسلم بعض روايته عن أبيه وهذه أمارة صحتها. وأما محمود بن لبيد فإنه صحابي صغير، وغاية ما في الأمر أن يكون حديثه إذا كان لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - من مراسيل الصحابة ومراسيل الصحابة حجة. وأما قول ابن حجر أن أحاديثه في المسند ليس فيها شيء صرَّح فيه بالسماع فإنه ذهول عنه أو نسيان؛ ففي مسند أحمد 5/ 427 بإسناد صحيح عن محمود بن لبيد قال: (أتَانَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَصَلَّى بنَا المَغربَ في مَسْجِدِنا فَلَما سَلَّمَ مِنْهَا قَالَ: إركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم) للسبحة بعد المغرب، وهذا صريح في السماع، ومن العجب أن الحافظ ابن حجر نقل هذا الحديث نفسه محتجاً به على سماع محمود بن لبيد في ترجمته في الإصابة 6/ 67. نظام الطلاق في الإِسلام ص 37 - 38، وانظر المحلى 11/ 168. درجة الحديث: بناء على ما تقدم يكون صحيحاً، والله أعلم.

ما جاء في الخلية والبرية

الثلاث إذا قالها الرجل في كلمة لا يلزم، وقد ضربتُ شرق الأرض وغربها فما رأيتُ ولا سمعتُ أحداً يقول ذلك إلا أن الشيعة الخارجين عن الإِسلام (¬1) يقولون: في الظاهر لا يصح الطلاق على المرأة حتى يطلقها واحدة ويضع يده على رأسها ويقول للشهود: أُشهدكم أن هذه طالق، في حماقات تجانس عقائدهم الخبيثة. ما جاء في الخليَّة والبريَّة: سمَّى الله تعالى النكاح في القرآن باسمين نكاح (¬2) وزواج (¬3)، واختلف العلماء هل ¬

_ (¬1) أقول: أما لزوم طلاق الثلاث بلفظ واحد الخلاف فيه قديم، وقد ذهب الشارح فيه مذهب الجمهور. أما قوله إنه لم يقل به إلا الشيعة فهذا خلاف الواقع، فقد كان الخلاف فيه بين علماء السنة أنفسهم فقد قال به بعض أجلاء الصحابة كابن عباس وعلي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير، وحكاه ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس، كما قال به أئمة كبار كشيخ الإِسلام، ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ولا زال إلى اليوم من علماء السلف من يقول به. قال الشوكاني في شرح الدرر البهية 2/ 71 - : نقل عن أبي موسى وابن عباس وطاوس وعطاء وجابر بن زيد والهادي والقاسم والناصر والباقر وأحمد بن عيسى وعبد الله بن موسى، ورواية عن علي، ورواية عن زيد بن علي، وإليه ذهب ابن تيمية وابن القيم، وحكاه ابن مغيث في كتاب الوثائق عن علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير، وحكاه أيضاً عن جماعة من مشايخ قرطبة، ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس. ويقول الشيح أحمد شاكر: الخلاف في وقوع الطلاق البدعي والطلاق ثلاث مرات جميعاً ثابت من عهد الصحابة فمن بعدهم في كل عصر، وكان الأئمة من آل البيت، رضي الله عنهم، يفتون بعدم الوقوع، ولا يزال هذا مذهب الشيعة كلهم إلى الآن وهو مذهب الظاهرية، إلا أن ابن حزم خالفهم في جواز طلاق الثلاث بلفظ واحد وبألفاظ متعددة إن نوى بها الإنشاء، بل غلا بعض العلماء في القول فذهب إلى أن طلاق الثلاث بلفظ واحد (انت طالق ثلاثاً) طلاق بدعي إذ وصفه بوصف باطل فلا يقع به شيء لا واحدة ولا أكثر، وهو مذهب الحجاج بن أرطاة القاضي الفقيه .. ذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف أنه قال: كان الحجاج بن أرطاة خشناً وكان يقول طلاق الثلاث ليس بشيء (أنظر أحكام القرآن للجصاص 1/ 388) وكان العلماء المصلحون المجتهدون في كل عصر يفتون الناس بالقول الصحيح الراجح من بطلان الطلاق البدعي ومن وقوع الثلاث مجتمعة طلقة واحدة؛ فبعضهم يجاهر بفتياه ويصدع بالحق وبعضهم يفتي بحذر خشية العامة حتى قام الإِمام المجدِّد شح الإِسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، الشهير بابن تيمية، فنصر المذهب الحق وأبان للناس عنه ودعاهم إليه لا يخشي في ذلك إلا الله، وتلاه تلميذه النابغة الجريء الإِمام الكبير شمس الدين محمَّد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية، فسار على نهجه ونصره في قوله .. وتبعهما على ذلك كثير من العلماء والفقهاء من تلاميذهما وأنصارهما إلى العصر الذي نحن فيه. نظام الطلاق في الإِسلام ص 88 - 90. (¬2) {وأنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُم} سورة النور آية 32. (¬3) {وَمِنْ آيَاتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا ..} سورة الروم 21 {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً}. النحل آية 72.

له لفظ آخر سوى هذين أم لا، وقد بيَّنا ذلك في مواضعه، وأشرنا إليه ههنا في حديث الموهوبة (¬1). وسمّى الله أيضاً الطلاق في القرآن بثلاثة أسماء: الطلاق (¬2) والفراق (¬3) والسراح (¬4)، واختلف العلماء في ألفاظ الطلاق صريحاً وكناية، فقال الشافعي: الصريح ما ورد في القرآن، والكناية ما عداه (¬5). واختلف علماؤنا في ذلك فقال القاضي عبد الوهاب (¬6): الصريح لفظ الطلاق (¬7) وحده، وقال القاضي أبو الحسن (¬8): الصريح لفظ الطلاق والفراق والحرام والخليَّة والبريَّة، وتحقيق القول في ذلك يرجع إلى فصلين: أحدهما: يرجع إلى تحقيق لفظ الصريح هو الخالص في الدلالة على الشيء، الذي لا يحتمل سواه، مأخوذ من اللبن الصريح وهو الذي لم يشبه شيء، بناء على ما بيناه في أصول الفقه من أن المعقول من الألفاظ يتبع المحسوس. والثاني: إنه إنما يفتقر إلى الفرق بين الصريح والكناية بحرف واحد؛ وهو أن الصريح مالا ينوي فيه الحالف، والكناية ما ينوي فيه، وإذا ثبت هذا وتحققتموه فقول القاضي أي محمَّد هو صريح مذهب مالك؛ لأن مالكاً ينوي في الخليَّة والبريَّة وحبلك على غاربك، وهي من الصريح في عرف الطلاق فدل على أن الصريح عنده لفظ الطلاق خاصة الذي ليس فيه احتمال والذي وقع شرعاً وعرفاً عليه، ألا ترى إلى قول عمر (لِلرَّجُلِ الَّذِي قَالَ لإِمْرَأتِهِ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكَ مَا أَرَدْت فَقَالَ لَهُ: أَرَدْت الْفُرَاقَ فَنَوَاهُ فِيهَا) (¬9)، ¬

_ (¬1) {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الأحزاب آية 50. وقصة الواهبة نفسها وردت في البخاري 7/ 26 من حديث سهل بن سعد الساعدي. (¬2) {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} البقرة آية 229. (¬3) {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا}. النساء آية 130. (¬4) {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}. البقرة آية 231. (¬5) انظر شرح السنة 9/ 212، والروضة 8/ 23. (¬6) هو عبد الوهاب بن نصر، وقد تقدمت ترجمته. (¬7) انظر الأشراف 2/ 128. (¬8) هو علي بن أحمد البغدادي، المعروف بابن القصار الأبهري، قد تقدم. (¬9) الموطأ 2/ 551 مَالِك أَنهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ كُتِبَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنَ العِرَاقِ أَنْ رَجُلاً قَالَ لِامْرَأَتِهِ: حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ فَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى عَامِلِهِ أَنْ مُرْهُ يوَافِيني بِمَكَّةَ .. ، والبيهقي في السنن الكبرى من طريق مالك 7/ 343. درجة الأثر: ضعيف لأنه منقطع كما قال الشارح.

وقد قال مالك: لو علمت أن عمر قال ذلك لقلت (¬1) به، فإن قيل: فكيف قال ذلك مالك وهو يرويه (¬2)؟ قلنا: رواه مقطوعاً فأعجبه مقطعه ولم يروه مسنداً فلزمه حكمه، وهذا هو الصحيح. ومن علمائنا من قال: إنما توقَّف مالك فيه لأنه لم يعلم هل كان ذلك قبل الدخول أو بعده (¬3)؟ فلم ير مالك إجزاء التَّنوية في المدخول بها وجوَّزها في التي لم يدخل بها لأن الواحدة تبينها، وقد قال جماعة من العلماء: إنه ينوي في كل حال (¬4)، وهو الصحيحح, لأن حبلك على غاربك لا يكون أظهر من قوله طلقتك، فإن حلَّ العِقال في الذهاب كوضع الحبل على الغارب فيه وكالإبانة فيما يقطع، وكالتخلية فيما يترك، وكالتبرية فيما يسقط، وهي كلها ألفاظ إن لم تكن مثل الطلاق فلا تكون فوقه، ولو قال رجل لامرأته طلقتك لنوى كذلك إذا قال خلَّيتك، وكذلك البتة القطع، وقد اختلف الصحابة فيها، وغلَّب مالك قضاء علي بالكوفة بأنها ثلاث (¬5) على قضاء عمر بالمدينة بأنها واحدة. أما النسائي فقد روى حديثاً فيمن قال لأمرأته أمرك بيدك أنه ثلاث (¬6)، ولكنه حديث منكر، ¬________ (¬1) قال الباجي: رواه أشهب عن مالك في العتيبة. المنتقى 4/ 8. (¬2) هنا حصل تداخل في الأصل من الناسخ؛ أدخل في هذا قسماً من باب الإيلاء. (¬3) قال الباجي: قال بعض أصحابنا العراقيين يحتمل ما جاء عن عمر، رضي الله عنه، في التي لم يدخل بها، ولم يذكر في الحديث بني بها أو لم يبنِ، فهو محتمل وهذا يقتضي أنه حمل قول عمر، رضي الله عنه، في الفرقة على أنها واحدة، وهو قول مالك، المنتقى 4/ 8. (¬4) هذا قريب من كلام الباجي في المنتقى4/ 8. (¬5) مَالِك أَنَّه بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيُّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَقُولُ في الرَّجُلِ يَقُولُ لِامْرَأتِه أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إِنَّهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ قَالَ مَالِكَ: وَذلِكَ أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ في ذلِكَ. الموطأ 2/ 552. والبيهقي من طريق جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ: أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَامِر قَالَ: كانَ عَلِيٌّ، رَضِيَ الله عَنْهُ (يَجْعَلُ الْخَلِيَّةَ وَالْبَرِيَّةَ وَالْحَرَامَ ثَلَاثاً). السنن الكبرى 7/ 344، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهَب عَن أَنَس بْنِ عيَاضٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ بْنِ عَلَيٍّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلَيٍّ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ أنه كَانَ يَقُولُ: في الْحَرَامِ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ. المدونة 2/ 282. درجة الحديث: حسن في رواية البيهقي وكذلك رواية المدونة، ويؤيده ما رواه مالك بسند صحيح عن ابن عمر. الموطأ 2/ 552، قال الحافظ: ورد عن علي وزيد بن ثابت وابن عمر والحكم وابن أبي ليلى في الحرام ثلاث تطليقات، ولا يسأل عن نيته، وبه قال مالك ومسروق والشعبي وقال ربيعة لا شيء فيه، وبه قال أصبغ من المالكية، وفي المسألة اختلاف كثير عن السلف بلغها القرطبي المفسّر إلى ثمانية عشر قولًا وزاد عليها .. فتح الباري 9/ 372. (¬6) النسائي 6/ 147 من طريق حَمّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قُلْتُ لِأيُّوب: هَلْ عَلِمْتَ أَحَداً قَالَ في أَمْرِكَ بِيَدِكَ إنَّهَا ثَلاَثٌ غَيْرَ الْحَسَنِ؟ فَقَالَ: لاَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ غُفْراً، إلَّا مَا حَدَّثنَي قَتَادَةُ عَنْ كَثيِّرٍ مَوْلَى بْنِ سَمُرَةَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ =

عارضة

والصحيح أنها واحدة لأن الرجل يملك أمر المرأة على الإطلاق والمقصود منه استمرار قيد النكاح عليها أو إطلاقها، فإذا قال لها أمرك بيدك فقد جعل لها البقاء والزوال فلا تملك منه إلا الأقل وهو الواحدة، ويتنزَّل ذلك منزلة الوكيل، فإنه لا يملك بالوكالة إلا الأقل مما يستقل به، لكنه إذا نكرها يحلف للمرأة على (¬1) الاحتمال وله عليها الرجعة كما أن له الرجعة لو تولَّى هو الطلاق. عارضة: لا خلاف بين علمائنا أن الرجعة لا يملك الزوج إسقاطها لأنها حق أثبته الله شرعاً، وشرع إسقاطه بطريق العوض واستقر في نصابه الذي وضعه الشرع فيه، ولذلك قال علماؤنا عن بكرة أبيهم، إن من قال لزوجته أنتِ طالق ولا رجعة لي عليك إن الطلاق يلزم وما عداه فَلَغْوٌ، فتخيل بعض الغافلين من المتأخرين وكتب في براءة المطلقين (فارق فلان زوجه بطلقة واحدة ملكت بها أمر نفسها لتسقط الرجعة فتسقط النفقة عنه والكسوة)، وهذه جهالة عظيمة لأنه لو صرَّح وقال لها ملَّكتك أمر نفسك ما سقطت الرجعة فكيف تسقط ها هنا؟ حديث: روي في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (خَيرَ أزْوَاجَهُ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ¬

_ = عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: ثلَاثٌ، فَلَقِيت كثيراً فَسَألتُه فَلمْ يَعْرِفْهُ فَرَجِعْت إلَى قَتادةَ فَأخْبَرْته فَقَالَ: نَسِي. قَالَ أبو عَبْدِ الرحْمنِ: هذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ .. وأبو داود 2/ 654 - 655 - والترمذي 3/ 481 - 482، قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب عن حماد بن زيد، وسألت محمداً عن هذا الحديث فقال: حدثنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد بهذا، وإنما هو عن أبي هريرة موقوفاً، ولم يعرف حديث أبي هريرة مرفوعاً. أقول: الحديث فيه كثير بن أبي كثير البصري، مولى ابن سمرة، مقبول من الثالثة ووهم من عده صحابياً/ د ت س فق. ت 2/ 133 وقال في ت ت. روى عن مولاه وابن عباس وأبي هريرة وابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن. وأرسل عن ابن عمر وعنه ابن سيرين ومنصور بن المعتمر وأيوب السختياني وقتادة، قال العجلي: تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات، قال الحافظ: ذكره ابن الجوزي في الصحابة يزعم عبد الحق تبعاً لابن حزم أنه مجهول فتعقب ذلك عليه ابن القطان بتوثيق العجلي، وذكره العقيلي في الضعفاء وما قال فيه شيئاً. ت ت 8/ 427، وانظر ترتيب ثقات العجلي ص 396، الضعفاء للعقيلي 4/ 3، ويقول السيوطي في تعليقه على النسائي موجهاً قول النسائي، قلت: فكان قول المصنف هذا حديث منكر إشارة إلى أن رفعه منكر، والله أعلم. شرح السيوطي على النسائي 6/ 148. درجة الحديث ضعيف. (¬1) في (م) من

نكتة في الفرق بين التخيير والتمليك

قُلْ لأِزْوَاجِكَ} (¬1) إلى آخر قوله {عَظِيماً}، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَبَدَأ بِي وَقَالَ: إنِّي ذَاكرٌ لَكِ أمْراً وَلَا عَلَيْكِ ألَّا تَتَعَجَّلِي حَتَّى (تُشَاوِرِي) (¬2) أبَويك، وَقَرأ عَلَيْهَا الْآيَةَ فَقَالَتْ لَهُ: أوَفي هذَا أسْتَأمِر أبَوَيَّ بَلْ أُرِيدُ الله وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ الله لَا تُخْبِرْ أحَداً مِنْ أزْوَاجِكَ أنِّي اخْتَرْتُكَ، فَقَالَ: إنِّي لَمْ أبْعَثُ مُعْنِتاً (¬3)، قَالَتْ عَائِشَةُ: (فَأخْبَرَتْهُ أكَانَ طَلَاقاً) وبهذا يُستَغنى عن حديث قريبه وشبهه من قول سعيد (¬4) وغيره. نكتة في الفرق بين التخيير والتمليك: اختلف الناس فيهما فمنهم من جعلهما واحداً في الحكم (¬5)، ومنهم من فرَّق بينهما، وإليه صغى مالك، جعل التخيير ثلاثاً والتمليك واحدة (¬6) في تفصيل مذهبي بيانه في كتب المسائل، والحجة فيه أنَّ الطلاق بيد الرجل، فإذا صرفه إلى المرأة فلا يخلو من ثلاثة أحوال (¬7): إما أن يصرفه إليها استنابة وتوكيلاً مثل أن يقول لها: طلِّقي نفسك، فيكون ذلك بحسب ما يقتضيه (¬8) قوله. وإما أن يصرفه إليها ¬

_ (¬1) وتمام الآية {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} سورة الأحزاب آية 28 - 29. (¬2) من (ك) و (م). وفي رواية الشيخين: تستأمري. (¬3) متفق عليه، البخاري في تفسير سورة الأحزاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)}. وفي باب قوله {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}. البخاري 6/ 97، ومسلم في الطلاق باب بيان أن تخييره امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنيَّة 2/ 1103 - 1105 كلاهما عن عائشة، واللفظ لمسلم. وفي رواية مسروق: عَنْ عَائشة خَيَّرَنَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَاخْترْنَاة فَلَمْ يُعِدَّ ذلِكَ شَيْئاً. أبو داود 2/ 653 - 654، والترمذي 3/ 483 وقال: حسن صحيح، والنسائي 6/ 161، وابن ماجه 1/ 661. (¬4) مَالِك عَنْ يَحْيىَ بْنِ سعِيدٍ عَنْ سعِيدِ بْنِ الْمسَيبِ أنهُ قَالَ: إذا مَلَّكَ الرجُلُ امْرأتَة أمْرَهَا فَلمْ تُفارِقهُ وَقرَّت عِنْدَهُ فَليسَ ذلِكَ بِطَلاقٍ. الموطأ 2/ 555 - 556، وانظر موطأ محمَّد بن الحسن ص 192 وقال: وبهذا نأخذ. درجة الأثر: صحيح، ويقول الباجي، رحمه الله: كرر مالك، رحمه الله، في هذه المسألة القول وكثر من الآثار لمخالفة ربيعة في ذلك يذكر أن رد المملكة التمليك لا يقتضي طلاقاً، قال: ولا يُوجبه ولو أوجبه، لكان نفي التمليك يقتضيه. المنتقى 4/ 25. (¬5) هذا مذهب الشافعي، انظر تكملة المجموع 17/ 92، وشرح السنة 9/ 218. (¬6) وانظر مذهبه في بداية المجتهد 2/ 71. (¬7) في (ك) و (م) أوجه. (¬8) في (ك) و (م) يعطيه.

تمليكاً وذلك على معنى الهبة إذ التمليك إما أن يكون بعوض أو غير عوض، فإن كان من غير عوض فهو من قبيل الهبة فيحمل التبرع على الأقل وهو الواحدة. وإما أن يخيرها، ومطلق التخيير يقتضي التردد بين الزوجية والخروج عنها, ولا يكون الخروج عنها بالواحدة فإن الرجعية زوجة فلم يبقَ إلا الثلاث أو الخروج عنها بالواحدة البائنة على تفصيل في المذهب وتفريع في تصوير الاختيار ولفظه وبيان فائدته إذا وقع وحكمه وليس في آية التخيير حجة لأحد لأن الله قال {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} الآية إلى {وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} فخيرهن بين الدنيا والآخرة وقال لهن إن اخترتن الدنيا أطلقكن وأمتعكن فلم يجعل الطلاق بأيديهن وإنما أراد استعلام ما عندهن ثم ينفذ بعد ذلك حكمه فيهن (¬1). ¬

_ (¬1) نقل الحافظ عن الماوردي قوله: اختلف هل كان التخيير بين الدنيا والآخرة أو بين الطلاق والإقامة عنده على قولين للعلماء أشبههما بقول الشافعي الثاني، ثم قال إنه الصحيح، وكذا قال القرطبي: اختلف في التخيير هل كان في البقاء والطلاق، أو كان بين الدنيا والآخرة. ثم قال الحافظ: والذي يظهر الجمع بين القولين لأن أحد الأمرين ملزوم للآخر وكأنهن خُيَّرْن بين الدنيا فيطلقهن وبين الآخرة فيمسكهن هو مقتضي سياق الآية. فتح الباري 8/ 521.

باب الإيلاء

باب الإيلاء أدخل مالك حديث عليّ بن أبي طالب أنه كان يقول (إذَا آلَى الرَّجُلُ مِنِ امْرَأتِهِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا طَلَاقٌ وإِنْ مَضَتِ الْأرْبَعَةُ الْأشْهُرِ فَإما أنْ يُطَلِّقَ وَإمَّا أنْ يَفِيءَ) (¬1). وأدخل مثله عن عبد الله بن عمر (¬2) لتبيين أن فقهاء الكوفة والمدينة من الصحابة قد اتفقوا على أن الطلاق لا يقع على المولى بمضي مدة الإيلاء حتى يوقف خلافاً لأبي حنيفة، وأصحابه من الكوفيين، الذين يقولون إن الطلاق يقع بمضي المدة من غير توقيف (¬3)، فعجب مالك لهم من أين تلقفوها وعالمهم الأكبر ومفتيهم الأعظم، وهو عليّ، يخالفهم فيها وهي مسألة عسرة جداً اختلف فيها الصحابة والتابعون وفقهاء الأمصار، وسبيل الحجة فيها غير لائحة، والخلاف إنما ينشأ فيها من آية الإيلاء وهي قوله ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 556 عَنْ جَعْفَرِ بْنِ محمد عَنْ أبِيهِ عَنْ عَلي بنِ أبِي طَالِبٍ أنَّه كان يَقول: إذَا آلى الرجل مِن امْرَأَتِهِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الطلاَقُ .. وهذا منقطع لأن محمداً لم يدرك علياً، وقد تقدم الكلام عليه، ورواه ابن أبي شيبة 5/ 131 من طريق عَمْرو ابنِ سَلَمَةَ أنَّ عَلِيْاً كان يُوقِفهُ بَعْدَ الأرْبَعَةِ الأشْهُرِ حَتى تَبَينَ رَجْعَة أوْ طَلاَقاً. درجة الحديث: صحيح كما قال الزرقاني في شرحه 3/ 173، والحافظ في الفتح 9/ 438، وهو يعضد رواية الموطأ. (¬2) مَالك عَنْ نَافِع عَنْ عبْدِ الله بْنِ عُمَرَ أنّه كان يَقول: أيمَا رَجُل آلَى مِنْ امْرأتهِ فَإنهُ إذَا مَضَتِ الْأرْبَعَة الْأشْهُرِ وقفَ حَتى يُطَلقَ أوْ يَفِيءَ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطلَاق إذَا مَضَتِ الأرْبَعَة الْأشْهرِ حَتَّى يُوقف) الموطأ 2/ 556، وأخرجه البخاري في الطلاق باب قوله تعالى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} البقرة آية 226 - 227 البخاري 7/ 64، والشافعي في مسنده من طريق مالك 2/ 43 وزاده: فإما أن يطلق وإما أن يفيء. وقال الحافظ: أخرجه الاسماعيلي من طريق معن بن عيسى عن مالك بلفظ (أيُّمَا رَجُل آلَى مِنِ امْرَأتِهِ فَإذَا مَضَتْ أرْبَعَة أشْهرٍ يوقِف حَتى يطَلِّقَ أوْ يَفِيءَ ...) وقال: هذا تفسير للآية من ابن عمر، وتفسير الصحابة في مثل هذا له حكم الرفع عند الشيخين .. كما نقله الحاكم فيكون فيه ترجيح لمن قال يوقف. فتح الباري 9/ 428. درجة الحديث: صحيح. (¬3) انظر أحكام القرآن للجصاص الحنفي 1/ 360، وشرح فتح القدير لابن الهمام 3/ 184.

{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} إلي قوله {غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1) بين فيها سبحانه ثلاثة عشر حكماً مهمّاً، ومن أعظمها هذا الحكم، قال الله عز وجل: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهذا يدل على وجوب فيئة بعد مضي المدة. ثم قال: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} (¬2)؛ فهذا يدل على أن هنالك قولًا يسمع؛ فبهذا نزع علماؤنا وجه الاستدلال من الآية وقال المخالف (¬3): الفيء يكون في طول المدة إذ ضربها الله له أجلاً في اختيار الفيء ويترك ليتبين أنه عزم الطلاق في نفسه، والباري تعالى يسمع السر والنجوى كما يسمع الجهر وما هو من ذلك أعلى. ولأجل هذا التردد اختلف الصحابة والتابعون، وهم العرب الفصحاء اللسن الأعرف بالقرآن منا وأهدى إلى دلائله، ولكن يترجَّح جانبنا بنكتة واحدة وهي أن الإيلاء كان في الجاهلية طلاقاً يقيم عليه الرجل عامين وعاماً (¬4)، فشرع الله حكمه في ديننا بضرب المدة فسحة، ثم شرط الفيء حكمة وهما شيئان فلا يجعلان شيئاً واحداً إلا بدليل، وقد استوفينا ذلك في كتاب أحكام القرآن (¬5). وقد قال الشافعي: يلزم الكافر الإيلاء في زوجته ويدخل تحت عموم (¬6) قوله {لِلَّذِينَ ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية 226 {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. (¬2) سورة البقرة آية 227. (¬3) نص في الأحكام على أن المخالف هو أبو حنيفة وأصحابه، قالوا: إن عزيمة الطلاق تعلم منه بترك الفيئة مدى التربص وقال: وأجاب علماؤنا بان العزم على الماضي محال، وحكم الله تعالى الواقع بمضي المدة لا يصح أن يتعلَّق به عزيمة منا، ثم قال: وتحقيق الأمر أن تقدير الآية عندنا (أي المالكية) للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا بعد انقضائها فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم. وتقديرها عندهم (أي الأحناف) للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فيها فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق بترك الفيئة فيها فإن الله سميع عليم. وهذا احتمال متساوٍ، ولأجل تساويه توقف الصحابة فيه، فوجب والحالة هذه اعتبار المسألة من غيره وهو بحر متلاطم الأمواج ... فالذي انتهى إليه النظر بين الأئمة أن أصحاب أبي حنيفة قالوا: كان الإيلاء طلاقاً في الجاهلية فزاد فيه الشرع المده والمهلة فأقره بعد انقضائها: الأحكام 1/ 180 - 181، وانظر أحكام القرآن للجصاص 1/ 357. (¬4) ورد عن ابن عباس قوله: (كَانَ إيلَاءُ الجْاهِلِيةِ السّنةَ وَالسّنَتَينِ ثُمَّ وَقتَ الله الْإيلَاءَ، فَمَنْ كان إيلَاؤُة دُونَ أرْبَعَةِ أشْهر فَلَيْسَ بإيلَاء)، رواه الطبرني ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 5/ 10. درجة الحديث: صححه الهيثمي. (¬5) انظر أحكام القرآن له 1/ 180 - 181. (¬6) انظر أحكام القرآن للكيا الهراسي 1/ 218 فقد قال: ومن فوائد هذه الآية دلالة عمومها على صحة إيلاء الكافر والمسلم سواء كان الإيلاء بعتق أو طلاق أو صدقة أو حج أو يمين بالله وهو مذهب ابن حزم. انظر المحلى 11/ 251.

يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} ونحن وإن كنا نقول بدخول الكافر في جميع خطابات الشريعة فإنا لا نحكم بصحة إيلاء الكافر (¬1) لأن زوجته لا تخلو من أن تكون مسلمة، وذلك محال لا يتصور وجوداً، ولا تقع فيه فتوى، وإن كانت زوجه كافرة فما لنا ولهم، وإن حلف ألا يطأ أهله وأسلم فقد سقط عنه كل يمين وعقد، ومعنى سبق منه فالمسألة لا صورة لها بحال، وقد قال سعيد بن المسيب على جلالة قدره أن الإيلاء لا يلزم إلا مع الغضب (¬2)، وهذا بظاهره وهم وتخصيص للعموم بغير دليل، ولعله أراد مسألة ذكرها مالك؛ وهو أن الرجل إذا حلف ألَّا يطأ زوجته وامتنع من وطئها بغير يمين فإن كان ذلك لعذر أو مرض أو لغيلة (¬3) فلا ينعقد الإيلاء، وإن كان قصد المضارَّة فينعقد اليمين (¬4) عليه إذا حلف وتُضرب له المدة، وإذا لم يحلف ترافعه إلى الحاكم، وهذا هو الذي أراده سعيد، والله أعلم. وكذلك اتفق العلماء على أن العبيد يدخلون في هذا العموم (أولاً) (¬5) فينعقد عليهم الإيلاء، ثم اختلفوا في خروجهم عنه آخراً. فجمهور العلماء على أنَّ أجل العبد في الإيلاء شهران وهذا هو الصحيح لأنها مدة تؤول إلى فرقة فاختلفت في الرق، والحرية كالعدة (¬6). ¬

_ (¬1) وقال القاضي عبد الوهاب: لايصح إيلاء الكافر. دليلنا {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الإشراف على مسائل الخلاف 2/ 145. (¬2) هذا القول لم أطَّلع عليه لسعيد، وإنما اطلعت عليه عن ابن عباس والنخعي والحسن وققالة. يقول ابن المنذر: اختلفوا في الرجل يولي من زوجته في غير حال الغضب، فروينا عن علي بن أبي طالب إنه قال: ليس في الإصلاح إيلاء. وعن ابن عباس أنه قال: إنما الإيلاء في الغضب، وروي هذا القول عن النخعي والحسن وقتادة. الإشراف على مذاهب العلماء ص 227، وقال الحافظ: ومن طريق علي وابن عباس والحسن وطائفة: لا إيلاء مع غضب فتح الباري 9/ 426، ويقول الباجي: المشهور من مذهب علي، رضي الله عنه، أن الإيلاء إنما يكون في الغضب دون الرضا. المنتقى 4/ 26، ونقل ابن قدامة كلام ابن المنذر السابق ولم يزد عليه المغنى 7/ 550، وانظر المحرر الوجيز 2/ 190، وحكاه القرطبي عن ابن عباس وعلي وقال: هو الشهور عنه، وقاله الليث والشعبي والحسن وعطاء كلهم يقولون: الإيلاء لا يكون إلا على وجه مغاضبة. تفسير القرطبي 3/ 106، وانظر النكت الماوردي 1/ 240. (¬3) هي أن يطأ الرجل امرأته وهي ترضع. المنتقى 4/ 36. (¬4) قالَ قالِكٌ: مَنْ حَلَفَ لإمْرأتِهِ أنْ لا يَطَأهَا حَتى تَفْطِمَ وَلَدَهَا فَإِنَّ ذلِك لاَ يَكُونُ إيلاءً:. الموطأ 2/ 558. (¬5) كذا في جميع النسخ وفي رأيي أنه يستغنى عنه. (¬6) هذا الخلاف نقله قبله القاض عبد الوهاب ورجح ما رجحه الشارح فقال: أجل العبد في الايلاء شهران خلافاً لأبي حنيفة والشافعي لأنه معنى يتعلق به حكم البينونة فوجب نقصانه عن الحر فيه كالطلاق فإنها مدة مضرر به متعلقة بالنكاح تتعلق بها البينونة فوجب أن يؤثر الرقّ على نقصانها كالعدة. الإشراف 2/ 142 وانظر بداية المجتهد 2/ 77.

القول في الظهار

القول في الظهار: كان الظهار في الجاهلية طلاقاً حتى وقع بين خولة وزوجها فجادلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله سبحانه {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (¬1) الآية، وجعل الله منه مخرجاً بالكفارة فقال {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬2) الآية. في (¬3) هذه الآية ثماني عشرة مسألة من الأصول، فنظمناها في كتاب الأحكام وحقيقة المظاهرة التي أخبر الله عنها تشبيه ظهر بظهر على مقتضى مطلق اللفظ، لكن سبب نزول الآية كان تشبيه امرأة بظهر يرد اللفظ، فرد اللفظ العام إلى الخاص وعبَّر به عنهما، وهذا مما لا خلاف فيه لزوماً وحكماً، فإن شبَّه أهله بعضو من أعضاء أمه فجمهور العلماء أنه يلزمه (¬4) وقال أبو حنيفة (¬5): إن كان العضو المشبه به مما يحل النظر إليه لم يلزم فيه ظهار، وهذا ضعيف لأنه لا يحل النظر منها إلى عضو بشهوة، وهذا موقع الظهار، فإن شبَّه عضواً من امرأته بظهر أمه مثل أن يقول: يَدُكِ عَلَىَّ كَظَهْرِ أُمِّى قال الشافعي: لا يكون ظهاراً إلا أنه ليس بظهر حقيقة (¬6) ولا لفظاً، ولا يدخل الظهر تحت مطلق لفظه، وهذا ضعيف, لأنه قد وافقنا على أن الطلاق لو أضافه إلى يدها للزمه (¬7) فكذلك الظهار، ولا جواب لهم عن هذا، فإن قال: أنتِ عَلَىَّ كَأمِّي، قال علماؤنا: له ما نوى فإن لم ينو كان ظهاراً (¬8). وقال الشافعي (¬9) وأبو حنيفة (¬10): إذا لم ينوِ لم يكن شيئاً لأن الله قال {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} فلا بد من ذكر لفظ الظهر. قلنا لهم: سبحان الله، أظاهرية في موضع النحل وأنتم رؤساء القياس؟ ولو سلكنا معكم الظاهرية فهي لنا لأن الله تعالى إن قال في ظاهر الآية {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ} فقد قال تعالى بعد ذلك: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} فذكره بلفظ ¬

_ (¬1) سورة المجادلة آية 1. (¬2) سورة المجادلة آية 2. (¬3) في (ك) و (م) زيادة (و) وهو الأولى. (¬4) انظر الأحكام للشارح 4/ 1737، وتفسير القرطبي 17/ 274. (¬5) انظر أحكام القرآن للجصاص 3/ 423، وشرح فتح القدير لابن الهمام 3/ 228. (¬6) انظر الروضة للنووي 8/ 263، وتكملة المجموع 17/ 347، كفاية الأخيار 2/ 212، ومغني المحتاج 3/ 353. (¬7) قال النووي: إعلم أن الطلاق لا يتبعَّض بل ذكر بعضه كذكر كله لقوته سواء ... ورضة الطالبين 8/ 85. (¬8) انظر الكافي 2/ 603، ويداية المجتهد 2/ 105. (¬9) انظر تكملة المجموع 17/ 347. (¬10) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 3/ 230.

العام، وكيف ما دارت الحال فالمسألة لنا عليهم. فلو شبَّه امرأته بظهر أجنبية كان ظهاراً، فإن لم يذكر الظهر وشبّه بها قال علماؤنا: يكون ظهاراً، ومنهم من قال: يكون طلاقاً (¬1) , وقال الشافعي (¬2) وأبو حنيفة (¬3)، لا يكون شيئاً، وهذا ضعيف لأن الظهار إنما لزم لمعناه وهو تشبيه محلل بمحرم، وعجباً للشافعي حيث يقول: إذا قال لها أنت عليَّ كظهر أختي لا يكون ظهاراً (¬4)، وما هن أخواتهم كما قال ما هن أمهاتهم والمعنى واحد، فأين الاستنباط وأين حمل النظير على النظير؟؟ ثم قال تعالى: {مِنْكُمْ} فذهل الشافعي فقال: ظهار الذمي صحيح (¬5). وبالمعنى الذي تقدم من بطلان إيلائه آنفاً (¬6) يبطل ظهاره وزيادة عليه أن آية الإيلاء مطلقة وهذه مقيدة بقوله {مِنْكُمْ} ولم يرد بذلك الأحرار إجماعاً لصحة ظهار العبد ووجوب دخوله تحت هذا الخطاب فلم يبق إلا أنه أراد المسلمين وهذا ما لا جواب عنه، ثم قال تعالى {مِنْ نِسَائِهِمْ}، قال جمهور العلماء: هذا اللفظ مخصوص بالحرائر، ورأى علماؤنا، رحمة الله عليهم، أن الظهار في الأمة صحيح (¬7)، وفي دخولها طريقان: أحدهما: أن يجعلها من جملة النساء لغة كالذي تقدم قبل هذا في ذكر المحرمات. وإما أن يلحقها بالقياس فيقول فرج محلّل شبَّهه بظهر أمه المحرم فلزمه حكمه كالزوجة، وعلى كلا الوجهين فمالك في المسألة قوي. ومن مسائل الظهار المشكلة أن الشافعي يقول إذا ظاهر من أربع نسوة في كلمة أنه يلزمه في كل واحدة كفَّارة؛ لأنه يجعله مخلصاً من الطلاق، ولو طلقهن في كلمة واحدة ¬

_ (¬1) انظر الكافي 2/ 604 والمنتقى 4/ 40. (¬2) انظر تكملة المجموع 17/ 355، ومغني المحتاج 3/ 354 - 355. (¬3) انظر شرح فتح القدير 3/ 232. (¬4) فيه قولان: قال في القديم ليس بظهار، وقال في الجديد: هو ظهار وهو الصحيح، تكملة المجموع 17/ 343. (¬5) قال ابن هبيرة: اختلفوا في ظهار الذمي فقال أبو حنيفة ومالك: لا يصح، وقال الشافعي وأحمد: يصح. الإفصاح 3/ 163، وقال ابن كثير: استدل الإِمام مالك على أن الكافر لا يدخل في هذه الآية بقوله {مِنْكمُ} فالخطاب للمؤمنين، وأجاب الجمهور بأن هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له. تفسير ابن كثير 4/ 342. (¬6) انظر ص 735. (¬7) يحْيىَ عَنْ مالك أَنهُ سَألَ ابنَ شِهَابٍ عَنْ ظِهَارِ الْعَبْدِ فَقَال نَحْوَ ظِهَار الْحُرَّ، قَال مَالِكٌ: يرِيد أنه يَقَعُ عَلَيْهِ كَمَا يقَعُ عَلَى الحُرِّ. الموطأ 2/ 561، وانظر بداية المجتهد 2/ 108.

لأخذت كل واحدة طلاقها، كذلك تأخذ في الظهار خلاصها (¬1). ورأى مالك، رحمه الله، أن الظهار قد خرج عن حكم الطلاق في الجاهلية إلى حكم الأيمان في الكفارة، ولو حلف أن لا يطأ أربع نسوة لأجزأت فيهن كفارة وانحلت اليمين المنعقدة عليهن، كذلك ينحلُّ الظهار المنعقد فيهن بكفَّارة واحدة (¬2). ومن أغرب مسائله ما يروى عَنْ بَكِيرِ بْنِ عَبْدِ الله ابنِ الأشَجِّ (¬3) أنهُ كانَ يَقُولُ في قَوْلهِ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} هُوَ أنْ يَعُودَ إلَى قَوْلِ الظِّهَارِ (¬4)، وهذا باطل على بكير إنما اخترعه عنه المبتدعة الذين قالوه ليتخذوه لأنفسهم قدوة منه، وهذا القول أفسد من أن يدفع في وجهه، ولو لم يكن في الرد عليه إلا صورة النازلة فإن الرجل ظاهر من امرأته ثم أراد البقاء معها فشرع الله في إباحة مسيسها الكفارة. ¬

_ (¬1) قال في القديم: تجزيه كفارة واحدة، وقال في الجديد: يلزمه أربع كفارات لأنه وجد الظهار والعود في حق كل واحدة منهن، فلزمه أربعِ كفارات كما لو أفردهن بكلمات. المهذب 2/ 114. (¬2) عن مَالِكِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرَوَة عَنْ أبِيهِ أنه قَالَ في رَجلٍ تَظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسوة لَه بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَيْسَ عَليْهِ إلَّا كَفارَة وَاحِدَة. الموطّأ 2/ 559. درجة الأثر: صحيح وهو المذهب. انظر المنتقى 4/ 58، شرح الزرقاني 3/ 177، الإشراف للبغدادي 2/ 149. (¬3) بكير بن عبد الله الأشج، مولى بني مخزوم، أبو عبد الله، أو أبو يوسف المدني، نزيل مصر، ثقة من الخامسة. مات سنة 126 وقيل بعدها/ع ت 1/ 108ت ت 1/ 491، الكاشف 1/ 162. (¬4) هذا القول عزاه في الأحكام إلى داود فقد قال: أما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعاً لا يصح عن بكير وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود، وأشياعه. الأحكام 4/ 1741 قلت: هو مذهب ابن حزم. انظر المحلى 10/ 52، وقال ابن كثير: هذا قول باطل وهو اختيار ابن حزم، وقول داود حكاه أبو عمر بن عبد البر عن بكير بن الأشج والفراء وفرقة من أهل الكلام. تفسير ابن كثير 4/ 342، وعزاه في المنتقى 4/ 49 إلى داود، وقال القرطبي: يسند إلى بكير ابن الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة أيضًا، وهو قول الفراء، وقال أبو العالية: وظاهر الآية يشهد له لأنه قال: ثم يعودون لما قالوا. أي قول ما قالوا .. وساق كلام ابن العربي السابق ثم قال: قلت قوله يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه حمله منه عليه، وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم. تفسير القرطبي 17/ 281، وقال الحافظ: هو قول أهل الظاهر، وروي ذلك عن أبي العالية وبكير بن الأشج من التابعين، وبه قال الفراء النحوي .. وقد بالغ ابن العربي في انكاره، ونسب قائله إلى الجهل لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور فكيف يقال إذا أعاد القول المحرم المنكر يجب عليه أن يكفر ثم تحل له المرأة. وإلى هذا أشار البخاري بقوله (لأن الله لم يدل على المنكر والزور) فتح الباري 9/ 435.

فإن قيل فما العود؟ قلنا: اختلف العلماء في ذلك على خمسة (¬1) أقوال لأصحابنا منها ثلاثة أقواها التمسك بالزوجية (¬2). فإن قيل: وأين هذا حتى يعود إليه؟ قلنا: في قوله تعالى {مِنْ نِسَائِهِمْ}، فإنه قال: (زوجي علىّ كظهر أمي) (¬3) فذهبت عنه ثم أراد أن يعود إلى الزوجية التي تلفَّظ بها، أليس هذا أهدى سبيلاً وأقوم قيلاً ممن يزعم أنه العود إلى الزور الذي تلفَّظ به؟ وهل رأى أحد ديناً أو فعلًا في الشريعة تتعلق به الكفَّارة إذا تكرر، وهذه جهالة عظيمة وبدعة شنيعة. ¬

_ (¬1) قال في الأحكام: اختلف الناس فيه قديمًا وحديثاً .. ومحصول الأقوال سبعة: أحدها: إنه العزم على الوطء وهو مشهور قول العراقيين، الثاني: إنه العزم على الإمساك. الثالث: العزم عليهما، وهو قول مالك في موطئه. الرابع: إنه الوطء نفسه. الخاص: قال الشافعي: هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق. السادس: ألا يستبيح وطأها إلا بكفارة. السابع: تكرير الظهار بلفظه ويسند إلى بكير بن الأشج. الأحكام 4/ 1743. (¬2) انظر المنتقى 4/ 49. (¬3) أبو داود 2/ 660 - 662؛ والترمذي 3/ 502 وقال: حسن غريب وهو عنده مختصراً، وابن ماجه 1/ 665، وأحمد انظر، فتح الرباني 17/ 22، والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 390 كلهم من طريق محَمدِ أبنِ إسْحَاق عَنْ مُحَمدِ بْنِ عَمْرُو بنِ عَطَاء عنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يسَارٍ عنْ سلَمَة بنِ صَخْرِ الأنصَارِيّ, رَضِيَ الله عنْه، كنْتَ امْرءاً قَدْ أوتيت مِنْ جِماعِ النِّسَاءِ مَا لَم يؤت غَيْري قَلَما دَخَلَ رَمَضَانُ ظَاهَرْت مِنَ امْرَأتي مَخَافَة أصِيبُ مِنْهَا شَيئاً في بَعْضِ الْليْلِ فَأَتَتَابع مِنْ ذلِكَ وَلَا أسْتَطِيع أنْ أنْزَعَ حَتى يُدَركَني الصْبْح فَبَيْنَمَا هيَ ذَاتَ لَيْلَة تخْدُمُنى إذِ انْكَشَفَ لى مِنْهَا شيْء فَوَثَبْتُ عَلَيْهَا فَلَمَّا أصْبَحْت عَدَوْتُ إلَى قَوْمي فَأخْبَرْتُهم خَبَرِي فَقلْت: انطَلِقوا مَعِي إلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالُوا: لَا وَاللِه لاَ نَذْهَبُ مَعَكَ، نَخَافُ أنْ يُنْزَلَ فِينَا قرْآن وَيَقُول فِينَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، مَقَالَةً يَبْقى عَلَيْنَا عَارُهَا فَاذهَبْ أنتَ فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ. فَأتيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأخْبَرْتُة خَبَرِي .. إلى أن قال: أعتِقْ رَقبَة فَضرَبتُ صَفْحَةَ عُنْقِ رقْبَتِي بِيدِي فَقُلْتُ: وَالذي بَعَثَكَ بِالْحَق مَا أصْبَحْت أملِك غيْرَهَا. ورواه الحاكم من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أن سليمان بن صخر الأنصاري، رضي الله عنه، جعل امرأته كظهر أمه، ثم ذكر الحديث بنحو منه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وكذا قال الذهبي المستدرك 2/ 204، ومثله البيهقى من نفس الطريق 7/ 390. درجة الحديث: قال الحافظ أعلَّه عبد الحق بالانقطاع وأن سليمان لم يدرك سلمة، وقال: قلت حكى ذلك الترمذي عن البخاري تلخيص الحبير 3/ 249، وقال في الفتح: أسانيد هذه الأحاديث حِسان. فتح الباري 9/ 433، وقال الشيخ البنا، بعد أن ساق رواية الإِمام أحمد التي صرح فيها ابن إسحاق بالتحديث: وعلى هذا فالحديث صحيح. الفتح الربانى 17/ 22، ويقول الشيخ ناصر، وبالجملة فالحديث بطرقه وشواهده صحيح. إرواء الغليل 7/ 179. والراجح عندي أنه حسن كما قال الترمذي وابن حجر، والله أعلم.

ما جاء في الخيار

ما جاء في الخيار ذكر مالك حديث بريرة (فَإنَّهَا عُتِقَتْ وَخُيرَتْ في زَوْجِهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا) (¬1)، واختلف في زوجها هل كان حراً أو عبداً؟ وتعارضت في ذلك الآثار، واختَلف في ذلك علماء الأمصار؛ فكان أبو حنيفة وغيره يقول: إنها تختار تحت الحر كما تختار تحت العبد (¬2) وقد بيناه في مسائل الخلاف وحققنا إن الخيار إنما وجب لها بكمالها تحت ناقص، فإذا كانت تحت كامل فأي خيار لها، وذلك مستوفى في موضعه، فإذ اختارت نفسها كانت طلقة واحدة، ولم ينقل في حديث بريرة كيفية الطلاق إلَّا أنه رأى العلماء أنها طلقة واحدة لأنه هو الذي يخلصها من أسر الزوجية وليس يعترض هذا على تأصيل (¬3) التخيير الذي قد بيَّناه لأن هذا حكم أثبته الشرع ابتداءً لها، وإذا خيَّرها الزوج كان ذلك تخييراً بين شيئين، ومن حكم التخيير، وشروطه المعدَّدة، أن يتساوى الشيئان المخيَّر فيهما، وقد بيَّنَّا ذلك في أصول الفقه. وأما حديث زيد (¬4) الذي أدخله (¬5) مالك في هذا الباب عن عروة بن الزبير أنها قالت لزوجها حين عُتقت: هو الطلاق ثم الطلاق ثم الطلاق ففارقته (¬6) ثلاثاً فإنما أراد أن ذلك الفراق كان ثلاثاً من قولها لا إنه من حكم الله تعالى فيها. ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه مالك في الموطأ 2/ 562 من رواية القَاسِمِ بْنِ محمَدٍ عَن عَائشَةَ أمِّ المؤْمِنِينَ أنهَا قَالَتْ: كان في بَرِيرَةَ ثَلَاث سُنن؛ فَكانَتْ إحْدَى السْنَنِ الثلاَثِ إنهَا أُعْتقَت فَخيِّرَتْ في زَوْجِهَا وَقالَ. رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الوَلَاء لِمَنْ أعْتَقَ) وَدَخَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَالبُرْمَة تَفورُ بِاللحْمِ فَقرّبَ إلَيْهِ خُبْزٌ وَأدمْ مِنْ أدمِ البيت فَقَالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ألم أرَ البُرْمَةَ فِيهَا لَحم؟ فَقَالُوا: بَلَى يَا رَسولَ الله وَلَكنْ ذلِكَ لَحْم تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وأنتَ لاَ تَأكلُ الصدَقَةَ فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهوَ عَلَيْهَا صَدَقَة وَهُوَ لَنَا مَنْهَا هَدِيَّة. وأخرجه البخاري في كتاب الطلاق باب لا يكون بيع الأمة طلاقاً 7/ 61، ومسلم في كتاب العتق باب إنما الولاء لمن أعتق 2/ 1144. (¬2) انظر شرح فتح القدير 2/ 495، ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 1/ 367. (¬3) في (ك) و (م) أصل. (¬4) كذا في جميع النسخ حديث زيد، وليس لزيد ذكر في هذا الحديث لعلَّه تحريف من النساخ، والذي في الحديث مولاة لبني عدي يقال لها زبراء. الموطأ 2/ 563. (¬5) في (م) و (ك) أورده. (¬6) مَالك عَنِ ابنِ شِهاب عَنْ عُرْوَةَ بن الزَّبَيْر أَن مَوْلَاةٍ لِبَني عدىّ يقَالُ لها زَبرَاءُ أَخْبَرتهُ أنهَا كانَتْ تحْت عبدٍ وهىَ أمَةٌ يَؤمئذٍ فَعَتَقَتَ فَأرسَلَتْ إلي حَفْصَةُ، زَوج. النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: إني مُخْبِرُتِكِ خَبَراً وَلَا أحب أنْ تَصْنَعي =

ما جاء في الخلع

هذا هو الصحيح في الدليل من الرواية، وكل أَمة عتقت تحت عبد فلها الخيار إلا في مسألة واحدة فلا خيار لها وهي رجل كانت له مائة دينار وله أمة. قيمتها مائة دينار زوَّجها بمائة من عبد وقبضها فصارت بيده ثلائمائة دينارثم أعتقها في مرض موته قبل الدخول فلا سبيل لها إلى الخيار لأنها إن اختارت نفسها سقط نصف المهر فرق بعضها فسقط خيارها، فلما أدى إثبات الخيار إلى إسقاطه سقط في نفسه، وهذه من مسائل الدور ولها نظائر في الفقه وفي أصول الدين وهي من دلائل حدث العالم حسب ما بيناه في موضعه. ما جاء في الخلع مسائل الخلع كثيرة ونكتته إنه فراق بعوض كما كان النكاح تلاقياً بعوض، وحكم العوضين في الجواز والرد سواء، وهو مكروه كراهية الطلاق، وقد روى الترمذي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "الْمُخْلِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ" (¬1)، وذلك إن صح، والله أعلم، مع ¬

= شيْئاً إنْ أمْرَكَ بِيَدِكِ مَا لَمْ يَمْسَسْكِ زَوْجُكِ فَإنْ مسَّك فَلَيْسَ لَكِ مِنَ الْأمْرِ شَيْءْ، قَالَتْ: فَقُلْتُ هُوَ الطلاَقُ. الموطأ 2/ 563. درجة الحديث: صحيح. (¬1) الترمذي 3/ 492 من طريق مزَاحِم بْنِ ذواد بْنِ عُلْيَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ لَيْثٍ عَنْ أبِي الْخَطَّابِ عَنْ أبي زرْعَةَ عَنْ إدريس عَنْ ثَوْبَانٍ عَنِ النبِي، - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ ... وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي، ورواه الطبري من نفس الطريق. تفسير الطبري 4/ 568. رجال الإسناد: (*) مُزاحم بن ذوّاد، بمعجمة وتشديد الواو، الحارثي الكوفي، لا بأس به من العاشرة/ ت. ت 2/ 240، وقال في ت ت: قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال النسائي: لا بأس به ت ت 10/ 100، وانظر التاريخ الكبير 4/ 2/ 23. (*) ذوّاد بن عُلْبة بضم المهملة وسكون اللام بعدها موحدة، الحارثي، أبو المنذر الكوفي، ضعيف عابد من الثامنة/ ت ق، ت/238، وقال في ت ت: ضعفه ابن معين، وقال أبو حاتم: ليس بالمتين، وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن نمير: صالح صدوق. ميزان الاعتدال 2/ 32، وانظر ت ت 3/ 221، الضعفاء للعقيلي 2/ 48. (*) الليث بن أبي سليم بن زُنَيْم، بالزاي والنون مصغراً، واسم أبيه أيمن وقيل غير ذلك، صدوق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فتُرك من السادسة. مات سنة 148/ خت م ع ت 2/ 138، وانظر ت ت 8/ 465، الميزان 3/ 420، المجروحين 2/ 231، التاريخ لابن معين 2/ 501 - 502، الضعفاء للعقيلي 4/ 14. (*) أبو الخطاب شيخ الليث بن سليم مجهول من السادسة/ ت. ت 2/ 417 وكذا قال ابن أبي حاتم =

استمرار الأُلفة ودوام الادمة، فأما مع العجز عن إقامة حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به، ولا أبين من حديث قيس (¬1) ابن شماس وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لثابت بن قيس (خُذْ مِنْهَا الْحَدِيْقَةَ) فأخذها فطلَّقها تطليقة (¬2) وهذا يدل على أن الخُلع طلاق، وقال الشافعي: إنه فسخ (¬3)، وقد بيَّناه في مسائل الخلاف؛ وقد صرح في الحديث الصحيح ¬

_ = في الجرح والتعديل 4/ 2/ 365. (*) أبو زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي، قيل اسمه هرم، وقيل عمرو، وقيِل عبد الله، وقيل عبد الرحمن، وقيل جرير. ثقة من الثالثة/ع، ت/424، وقال في ت ت: أبو الخطاب عن أبي زرعة عن أبي إدريس عن ثوبان بحديث (المخلعات هن المنافقات) وعنه ليث بن أبي سليم، قال أبو زرعة لا أعرفه، وقال أبو حاتم: مجهول ذكر ابن مندة وابن عبد البر إنه يروي عن أبي زرعة بن عمرو ابن جرير. والأشبه إنه أبو زرعة يحيى بن أبي عمرو الشيباني، فإنه شامي وأبو إدريس شامي وأبو زرعة بن عمرو بن جرير فإنه عراقي، ولا يعرف له رواية عن الشاميين، وقال: قلت تبع ابن عبد البر ابن أبي حاتم، فإنه قال: أبو الخطاب روى عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير وعنه ليث بن أبي سليم، وهذا قال الحكم أبو أحمد، والظاهر ترجيح قولهم. ت ت 12/ 86 - 87، وانظر الجرح والتعديل 4/ 2/ 374. (*) عائذ الله، بتحتانية ومعجمة، بن عبد الله الخولاني، ولد في حياة النبي، - صلى الله عليه وسلم -، يوم حُنين وسمع من كبار الصحابة، ومات سنة 80 قال سعيد بن عبد العزيز: كان عالم الشام بعد أبي الدرداء/ع. ت 390، وانظر ت ت 5/ 85. درجة الحديث: ضعيف كما قال الشارح، وكما يتضح من خلال الإسناد. (¬1) في (ك) و (م) ثابت بن قيس بن شماس وهو الصواب وكما هو الحديث. (¬2) البخاري في الطلاق باب الخلع 7/ 41، والنسائي 6/ 169، وابن ماجه 1/ 163 كلهم عن ابن عَباس أن امْرأةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْس أتتِ النيِى، - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله ثابِت بْنُ قَيْس مَا أعْتَب عَلَيْهِ فَى خُلُقٍ ولاَ دين وَلكِني أكْرة الكُفْرَ في الإسْلَام، فَقَالَ رَسول الله، - صلى الله عليه وسلم -:"أترِدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قَالَت: نَعَمٌ". يقول الحافظ: يؤخذ من إخراج البخاري هذا الحديث في الصحيح فوائد: منها أن الأكثر إذا وصلوا وأرسل الأقل قدم الواصل، ولو كان الذي أرسل أحفظ ولا يلزم منه أنه تقدَّم رواية الواصل على المرسل دائماً. ومنها أن الراوي إذا لم يكن في الدرجة العليا من الضبط ووافقه من هو مثله اعتضد، وقاومت الروايتان رواية الضابط المتقين، ومنها أن أحاديث الصحيح متفاوتة المرتبة إلى صحيح وأصح في الحديث من الفوائد غير ما تقدم - أن الشقاق إذا حصل من قِبَل المرأة فقط جاز الخُلع والفدية ولا يتقيَّد ذلك بوجوده منهما جميعاً وإن ذلك يشرع إذا كرهت المرأة عِشرة الرجل، ولو لم يكرهها ولم يَر منها ما يقتضي فراقها. فتح الباري 9/ 401. (¬3) قال النووي فيه قولان: الجديد أنه طلاق، وفي القديم إنه فسخ. ثم قال: والجديد هو الأظهر عند جمهور الأصحاب. الروضة 7/ 375، وانظر تكملة المجموع 17/ 6، كفاية الأخيار 2/ 151، وفتح الباري 9/ 396.

مسائل من كتاب الطلاق

كما قدمناه إنه وقع الخُلع بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، طلاقاً، وقد حقَّقناه فيما تقدم إن الله جعل من النكاح مخلصاً بالطلاق فمتى ما خرج عنه الزوجان فخروجهما طلاق تلفَّظا به أو ذكرا معناه. مسائل من كتاب الطلاق جرى ذكرها فيما سبق فرأينا أن نعطف عليها عنان البيان. المسألة الأولى: إذا قال الرجل لامرأته: أنت علي حرام اختلف الناس فيها على نحو من أحد عشر قولًا (¬1)، فقال علي: إنها ثلاث (¬2)، وقد قال ابن عباس فيها كفَّارة يمين. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬3) يعني حين حرم مارية ثم كفَّر كفارة اليمين قالوا: وفي ذلك نزلت {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (¬4) الآية، وقد بسطناها في الإنصاف وغيره، وقد قال مالك، رحمة الله عليه: إن الرجعية محرمة الوطء (¬5)، فإذا قال: أنتِ عليَّ حرام، فإن ألزمناه فيها طلقة واحدة كنَّا قد وفينا اللفظ حقه، إلا أن مالكاً على أصله يرى أن يرتبط الحكم بجميع معاني الأسماء وخصوصاً في الحرمة التي تتعلق بالفروج لغلبة التحريم فيها للحل، ولذلك قال تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬6) فإذا قال لزوجته: أنتِ عليَّ حرام، حمل على صفته في القرآن (¬7). المسألة الثانية: الإكراه في اللغة والشريعة عبارة عن تصريف الرجل لفعله بغير اختياره، وقد نص الله ¬

_ (¬1) لقد ذكر في الأحكام إنها خمسة عشر وسردها مع من قال بها. الأحكام 4/ 1835. (¬2) الموطأ 2/ 552 بلاغاً وقد تقدم تخريجه. (¬3) متفق عليه. البخاري في الطلاق باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} 7/ 38، ومسلم في الطلاق باب وجوب الكفارة على من حرَّم امرأته ولم ينوِ الطلاق 2/ 1100 ولفظه: منْ طَريق يَحْيىَ بْنِ أبيِ كثِيرٍ عَنْ يَعْلَى بنِ حَكِيمٍ عَنْ سعيد بنِ جبيرِ أنه أخْبرَة أنهُ سَمِعَ ابنَ عَباس يقُول: إذا حَرَّم الرجُلُ امْرَأتهُ لَيْس بشيء وَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ} لفظ البخاري. (¬4) سورة التحريم آية 1. (¬5) قال ابن رشد: وعند مالك أنَّ وطء الرجعية حرام حتى يرتجعها، فلا بد عنده من النية. بداية المجتهد 2/ 64، وانظر الكافي 2/ 617. (¬6) سورة البقرة آية 230. (¬7) وهي التحريم {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}.

المسألة الثالثة

تعالي على أن الإكراه يلغي الفعل شرعاً ويجعل وجوده وعدمه سواء، قال الله تعالى: {إلَّا مَنْ اكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإيمَانِ} (¬1). واتفق الناس في الأيمان واختلفوا في الطلاق فقال أهل العراق: إن الإكراه على الطلاق لا يسقط حكمه (¬2)، وهي مسألة عسرة جداً وللخصم فيها قوة، فإن المُكْره على الطلاق قد قصد إلى إيقاع الطلاق لتخليص نفسه ولم يبقَ إلا أنه لم يكن ذلك القصد إلى رضاه وعدم الرضا لا يؤثر في إلغاء الطلاق، كما لو هو هزل فطلَّق فإنه يلزمه الطلاق بما قصد إليه وإن لم يكن راضياً به، وعدّتنا نحن قول النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "إنمَا الأعْمالُ بِالنَّيَّاتِ" (¬3)، والمكره لم ينوِ الطلاق فصار لفظاً دون نية، فكان بمنزلة ما لو أراد أن يقول لزوجته اسقني ماء، فقال لها: أنت طالق، فإنه لا يقع عليها الطلاق إجماعاً لأنه وجد لفظ من غير نية، فأما الهازل فإنه راض بالطلاق مصرف لقوله بالهزل باختياره فأخذ بذلك. المسألة الثالثة: لا فرق بين أن يقول الرجل لزوجته برئت منك، أو بريت مني، أو أنت طالق، أو أنا منك طالق، في أنه يقع الطلاق عليها في الوجهين، وبه قال الشافعي (¬4)، وقال أبو حنيفة: إذا قال لها: أنا منك طالق، لم يقع الطلاق لأن الزوج غير محبوس في النكاح وإنما المحبوس بالنكاح الزوجة، فإذا طلَّق نفسه فكأنه أطلق من لم يقيد (¬5) وهذا لا يصح من طرفين: أحدهما: أن الزوج محبوس أيضًا بالنكاح عن أخت الزوجة وعمتها وخالتها وعما زاد ¬

_ (¬1) سورة النحل آية 106. (¬2) اللباب في شرح الكتاب 3/ 45، وانظر الأشراف لابن المنذر ص 192. (¬3) متفق عليه. البخاري في بدء الوحي 1/ 2، وفي الأيمان باب ما جاء إن الأعمال بالنية 1/ 21، ومسلم في الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنمَا الأعْمَال بِالنيةِ .. "، 3/ 1515كلاهما من حديث عمر. (¬4) انظر تكملة المجموع 17/ 101. (¬5) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 3/ 71. وقال ابن قدامة: فإن قال أنا منك طالق، أو جعل أمر امرأته بيدها فقالت: أنت طالق، لم تطلق زوجته. نص عليه في رواية الأثرم، وهو قول ابن عباس والثوري وأبو عبيد وأصحاب الرأي وابن المنذر، وروي ذلك عن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وقال مالك والشافعي: تطلق إذا نوى به الطلاق، وروي نحو ذلك عن عمر وابن مسعود وعطاء والنخعي والقاسم وإسحاق لأن الطلاق إزالة النكاح وهو مشترك بينهما فإذا صح في أحدهما صح في الآخر. المغني7/ 133 - 134.

المسألة الرابعة

على الأربع فقد تحقق الحبس في حقه. هذه طريقة العراقيين. والثانية: طريقة خراسان قالوا: الزوج يقع كناية عن الزوجة لأنه قرينها ولزيمها، وكما يستعمل في الطلاق غير لفظه كناية عنه كذلك يستعمل في غير شخصه كناية عن شخصه وكما تُكني العرب بألفاظ عن الألفاظ، كذلك يكنى بالأشخاص عن الأشخاص، وذلك مشهور في لغتها معلوم في أساليب كلامها. المسألة الرابعة: مسألة الشك في الطلاق، واتفقت الأُمة على أنه مَنْ شكَّ هل طلق أم لا؟ إنه لا يلزمه طلاق، وليس أحد من العلماء يقضي بالشكّ في شيء؛ فإن الشريعة قد ألغته وما اعتبرته ثبت. في الحديث الصحيح عن النبي، - صلى الله عليه وسلم - (أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الرُّجُلِ يُخَيَّلُ إلَيْهِ في الصلاة أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ أوْ نَحْوُهُ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: (لَا يَنْصَرِفْ أحَدُكُمْ حَتى يَسْمَعَ صَوْتاً أوْ يَجِدْ ريحاً)، (¬1). فإن قيل: فلو شك هل طلَّق زوجته واحدة أو ثلاثاً؟ فقد قال علماؤنا: إنه تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا قضاء. بالشك في الثلاث التي شكَّ فيها أو تغلَّب الشك على اليقين (¬2). قلنا: ليس كما ظننتم، ما قضى مالك ها هنا بالثلاث المشكوك فيها وإنما قضى بالواحدة المتيقنة والمطلقة طلقة واحدة محرمة الوطء (¬3) عند علمائنا، وقد حرم عليه الوطء بالطلقة الواحدة يقيناً والرجعة مشكوك فيها لأن الطلاق وإن كان واحداً جاز له أن يرتجع، وإن كان ثلاثاً لم يجز له أن يرتجع فصار التحريم متيقناً والرجعة مشكوك فيها فثبت اليقين وسقط الشك. ما جاء في اللعان أحاديث اللعان كثيرة أمهاتها حديثان: ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في كتاب الوضوء باب لا يتوضأ من الثلث حتى يتيقن 1/ 33، ومسلم في الحيض باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلى بطهارته تلك 1/ 276 من طريق عبَّادِ بنِ تَمِيم عنْ عَمَّه شكِيَ إلَى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، الرجُل يَخيل اليَهِ أنَّه يجد الشيءَ في الصلاَة قالَ: "لَا يَنْصَرِفْ حَتى يَسمَعَ صَوتاً أو يَجِدَ رِيحاً"، قال أبو بكر وزهير بن حرب في روايتهما: هو عبد الله ابن زيد. (¬2) انظر الكافي 2/ 582. (¬3) تقدم العزو.

أحدهما: حديث سهل بن سعد في شأن عويمر حسب ما ورد في الموطأ (¬1). والثانى: حديث هلال بن أمية حين قذف زوجته بشريك بن السمحاء فقال النبي، - صلى الله عليه وسلم -: "الْبَيَّنَةُ وإلا حَدٌّ في ظَهْرِكَ (¬2) " فنزلت آية اللعان، كذلك روي في الحديثين، ويحتمل أن يكونا وقعا معاً فكانت الآية بياناً لهما، ويحتمل أن يكون أحدهما قبل صاحبه فنزلت الآية في الأول، وقيل في الثاني أيضاً نزلت آية اللعان، أي في مثله. والنزول والبيان في الشيء نزول وبيان في مثله (¬3)، والذي نزل هو قول الله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (¬4). وفي هذه الآية أمهات (¬5) المسائل عشر ثم نزل المخلص منها فقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} (¬6) ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 566. مالِك عَنْ ابن شهَاب أن سَهْلَ بنَ سعد السَّاعديِّ أخبره أن عويمِراً العَجلاَنيّ جَاءَ إلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيّ الأنْصَارِيّ فَقَالَ لَه: يَا عاصِم أرَأيْتَ رَجُلاً وجَد مَعِ امْرَأتهِ رَجُلاً أيَقْتُلة أمْ كَيْفَ يَفْعَل؟ سَلْ يَا عَاصِم عَنْ ذلِكَ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، فسألَ عَاصِمُ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، عَنْ ذلِكَ فَكرِهْ رَسُول الله، - صلى الله عليه وسلم - الْمَسَائِلَ وَعَابَها حَتى كَثُرَ علَى عَاصِمِ مَا سِمِعَ منْ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، فلَما رَجَعَ إلَى أهلِهِ جَاءَه عُويمِرٌ فَقَالَ: يَا عَاصِمُ مَاذَا قَالَ لكَ رَسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ عَاصِم لِعُويمِرِ: لَمْ تَأتنِي بِخيْر, قَدْ كَرِهَ رَسُول الله، - صلى الله عليه وسلم -، الْمَسْألَةَ التي سألتُه عَنْهَا .. وأخرجه البخاري في كتاب الطلاق باب من أجاز طلاق الثلاث 7/ 37، وفي تفسير سورة النور باب قوله عز وجل {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} 6/ 82 - 83، ومسلم في اللعان 2/ 1129، وشرح السنة 9/ 250 - 251، وأبو داود 2/ 679، والنسائي 6/ 170 - 171. (¬2) البخاري في تفسير سورة النور باب {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} 6/ 82 - 83. وفي الشهادات باب إذا ادّعى أو قذف فله أن يلتمس البيِّنة وينطلق لطلب البينة 3/ 155، وفي الطلاق باب بدء الرجل بالتلاعن 7/ 46، وأبو داود 2/ 686، والترمذي 5/ 331 وابن ماجه 1/ 688 والبيهقي 7/ 393 - 394. كلهم من طريق هشام بن حسان عن عكرمة عن ابن عباس. (¬3) اختلف الأئمة في هذا الموضع فمنهم من رجح أنها نزلت في شأن عويمر، ومنهم من رجع أنها نزلت في شأن هلال، ومنهم من جمع بينهما بأن أوّل من وقع له ذلك هلال وصادف مجيء عويمر أيضاً فنزلت في شأنهما معاً في وقت واحد، وقد جنح إلى هذا النووي وسبقه الخطيب فقال: لعلهما اتفق كونهما جاءا في وقت واحد. ثم قال: ولا مانع أن تتعدد القصص ويتحد النزول .. وقد جنح القرطبي إلى تجويز نزول الآية مرتين. فتح الباري 8/ 450. (¬4) سورة النور آية 4. (¬5) في (ك) و (م) زيادة من وهي لازمة. (¬6) سورة النور آية 6.

إلى آخر الآية؛ فشرَّع الله اللعان مخلصاً من المحنة بتلطيخ الفراش وشافياً من الغيظ في رؤية المكروه وقطعاً لعلائق النسب الباطل عن الأب. ومسائل اللعان مشكلة جداً حتى أن العلماء، سلفاً وخلقاً، لم يتفقوا منها إلا على أقلها يضبطها لكم ستة فصول. الأول: في حقيقته وبناء (فعال) (¬1) تركيب كل فعل يتعلق باثنين، كالقتال والخصام، سُمِّي بأشد ما فيه، وهي لعنة الله؛ فقيل لعان ولم يقل غضاب من الغضب تغليباً لجانب الرجل على المرأة لما كان هو المسبب له والمتكلم به، ولعنة الله هي إبعاده للعبد من جواره وطرده له عن قدسه، وغضب الله يحتمل أن يكون إرادته لعذابه، ويحتمل أن يكون نفس العذاب (¬2) بعينه (¬3) فيكون على التأويل الأول من صفات الذات كقولنا فيه سبحانه: عالم قادر، وعلى التأويل الثاني يكون من أوصاف الفعل. الثاني: القول في سبب اللعان، وذلك بأن يقصد نفي النسب الباطل عن نفسه، أو يقصد قلع الفراش الذي تلطَّخ بغيره من بيته، وكلاهما يصح اللعان فيه لأن الله قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} يعني يقذفونهن بالزنا، فبين حكمهم ثم قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} يعني بمثل ذلك، فبين حكمهم أيضاً، وقال في الحديث: (أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَع امْرَأَتِهِ رَجُلاً) ورجع إلى النبي، - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: قد ابتليت بذلك فليس في القرآن والحديث أكثر من هذا. وقال علماؤنا:- إنْ رماها بالزنا وصف الزنا كما يصفه الشاهد (¬4)، وإن رماها بنفي النسب فلا بد أن يقول: قد استبرأت ولم أطأ بعد الاستبراء. وهو الثالث في شروط اللعان. والذي عندي أنه إذا قال الرجل: إن زوجته قد زنت تخلَّص من هذا القول باللعان، كما إذا قال الرجل لأجنبي: إن زوجته قد زنت، من غير تفسير، يلزمه الحد. الرابع: إن فائدة اللغان قطع النكاح وسقوط الحد ونفي النسب وتأبيد التحريم ووجوب الصداق. أما قطع النكاح فلقوله في الحديث (فَكَانَتْ تِلْكَ سُنّة الْمُتَلَاعِنَيْنَ) ولحديث ابن عمر (أنّ رَجُلًا لاعَن زَوْجتهُ في زَمَنِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَانْتقىَ مِنْ ولَدهَا ففرَّقَ ¬

_ (¬1) انظر هذه المادة في لسان العرب 13/ 387. (¬2) في (م) العقاب. (¬3) قلت: هذه الصفة يجب بها الإيمان بها كغيرها من الصفات على مراد الله دون تأويل لشيء من ذلك، هذا هو مذهب السلف. انظر العقيدة الطحاوية ص 52. (¬4) انظر الكافي 2/ 610، المنتقي 4/ 75.

رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، بَيْنَهُما وَالحَقَ الْوَلَدَ بِأمَّهِ) (¬1) فقطع النسب. وأما سقوط الحد فمجمع عليه لقوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} (¬2). وأما تأبيد التحريم فقد اختلف العلماء فيه إذا كذب نفسه وألحق النسب هل تُرجع إليه أم لا؟ والصحيح أنها لا ترجع إليه (¬3)، لما روي في ذلك في الأثر (أنهمَا لَا يَتَناَكحَانِ أبَداً) (¬4)، والمعنىَ الظاهر في النظر وهو بأن ما جرى بينهما من الريبة يقطع الألفة، ولأنه قذفها برفق فيه درء العذاب عنه، وعوقب بأن لا ترجع إليه، وقد بيَّناها في مسائل الخلاف. وأما الصداق ففي الحديث الصحيح: أنَّ عُويمِراً قَالَ لِلنبِى - صلى الله عليه وسلم -: (يَا رَسُولَ الله مَالي مَالي، قَالَ لَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا لَئِنْ كنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فِرْجِهَا، وإنْ كنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَلِكَ أبعد لَكَ مِنْهَا) (¬5). الخامس: جاء في اللعان ذكر الشهادة واليمين، واختلف العلماء هل المغلب فيه جهة الأيمان أو المغلب فيه جهة الشهادة؟ فقال أهل العراق منهم (ح): المغلب فيه جهة الشهادة (¬6) لقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} (¬7)، ولأنه قول على الغير، وهذا هو حد الشهادة، فالإقرار ما أخبر به الرجل عن نفسه، والشهادة ما أخبر به الرجل عن غيره، وقال علماؤنا: المغلّب فيه جهة اليمين (¬8)، وقد بيَّنا ذلك في مسائل الخلاف، والدليل ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في الطلاق باب يلحق الولد بالملاعنة 7/ 72، ومسلم في اللعان 2/ 1132، والموطأ 2/ 567، وأبو داود 2/ 693، والنسائي 6/ 178. (¬2) سورة النور آية 8. (¬3) هذا مذهب الجمهور ومالك والشافعي والثوري وداود وأحمد وجمهور فقهاء الأمصار ضالوا: إنهما لا يجتمعان أبداً وإن أكذب نفسه، وقال أبو حنيفة: إذا أكذب نفسه جُلد الحد وكان خاطبا من الخطاب. بداية المجتهد 2/ 120، وانظر شرح فتح القدير 3/ 250 - 251، اللباب 3/ 75. (¬4) هذا الأثر رواه أبو داود 2/ 683 من قول (سَهْلِ بْنن سَعْد قَالَ: حَضَرْتُ هذَا عِنْدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَمَضَتِ السُّنةِ بعد في الْمتَلاَعِنيَن أنْ يفَرّقَ بَينَهمَا ثم لاَ يَجتَمِعَانِ أبَداً). درجة الأثر: صحيح من خلال الإسناد. (¬5) متفق عليه. البخاري في الطلاق باب قول الإمام للمتلاعنين إن أحدكما كاذب 7/ 71، ومسلم في اللعان 2/ 1130 - 1132، والشافعي في مسنده 2/ 49، كلهم من حديث ابن عمر. (¬6) انظر أحكام القرآن للجصاص 2/ 300، شرح فتح القدير لابن الهمام 3/ 248. (¬7) سورة النور آية 6. (¬8) انظر المنتقى 4/ 76، بداية المجتهد 2/ 118 - 119، أحكام القرآن للشارح 3/ 1347.

باب طلاق المريض

عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -:"لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" (¬1)، وقال الله تعالى في القرآن: {بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (¬2) , {بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}، (¬3)، ولأنه لا يدرأ بيمينه عن نفسه العقوية، ولو كانت شهادة لثبت بها الحق على غيره، وإذا أثبت أن المغلَّب فيه جهة اليمين فإنه يلاعن المسلم والكافر والعبد والحرّ والعدل والفاسق والأعمى والبصير. السادس: أن العلماء اختلفوا هل اللعان عقوبة أم لا؟ فقال أبو حنيفة وأهل العراق: إنه عقوبة (¬4)، وربما ظهر هذا ببادىء الرأي أما فيه من هول المطلع، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحَدُكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبُ"، والصحيح أنه ليس بعقوبة وإنما هو خلاص من الدناءة، كما بيَّناه. أما إنَّ الكاذب منهما عاصٍ بفجوره متعرض للعنة الله ولغضبه لكنه غير متعين عندنا، ولذلك قلنا: إنه يبقى بعدالته بعد اللعان وعلى مرتبته في الإسلام، وربك أعلم بباطن الحال وعاقبة الأمر. باب طلاق المريض هذه المسألة من المصالح التي انفرد بها مالك، دون سائر العلماء، فإنه رد طلاق المريض عليه تهمة له في أن يكون قصد الفرار من الميراث، وخالفه سائر الفقهاء والحق له؛ لأن المصلحة أصل وقطع الحقوق لا يمكن منها بالظنون، وقد طلَّق عبدا الرحمن بن عوف زوجته تماضر فاتفق عثمان وعلي على الميراث وقضى عثمان به (¬5)، وكان موت ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) سورة النور آية 6. (¬3) سورة النور آية 8. (¬4) انظر أحكام القرآن للجصاص 3/ 286. (¬5) الموطأ 2/ 571. مَالِك عَنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عوْفٍ قَالَ وَكَانَ أعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ وَعَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْرحْمنِ بْنِ عوْفٍ أن عَبْدَ الْرحْمنِ بْنَ عَوْفٍ طَلقَ امْرأتَة ألْبَتةَ وَهُوَ مَرِيض فَوَرثَهَا عُثْمَان مِنْه بَعْدَ انقِضَاءِ عِدَّتَهَا. ورواه عبد الرزاق عَنْ ابنِ جرَيْجٍ قَالَ: أخْبَرَنَا ابن أبِي ملَيْكَةَ أنهُ سَألَ ابنَ الزبَيْرِ عَنِ الرجلِ يُطَلِّق الْمَراةَ فَيبتُّها ثُمَّ يموت وَهِيَ في عِدَّتِهَا، فَقَالَ ابنُ الزبَيْر: طَلَّقَ عبد الرحْمنِ ابن عَوْفٍ ابنَةَ الأصْبغِ الْكَلْبِي فَبَتهَا ثم مَاتَ وَهيَ في عِدَّتِهَا فَوَرثَهَا عُثْمَانُ، قَالَ ابنُ الزبَيْرِ: وَأما أنَا فَلَا أرَى أنْ تَرِثَ الْمبْتوتَةُ، قَالَ ابنُ أبِي ملَيْكَةَ: وَهِيَ التِي تَزْعَمُ أنهُ طَلَّقَهَا مَرِيضاً. المصنف 7/ 62، ورواه الشافعي عن =

عبد الرحمن عن أربع زوجات فصولحت تماضر (¬1) عن ربع الثمن بثمانين ألف دينار (¬2). ورأى أبو حنيفة توريث المطلقة (¬3)، ولكن إن مات وهي في العدة وهي سخافة وقد بيّناها في مسائل الخلاف، وأوضحنا أن التهمة لا ترتفع بانقضاء العدة فأي فائدة من اشتراطها، وكذلك ورَّث عثمان نساء ابن مكمل (¬4)، ومن أصحاب أبي حنيفة من ينزع في نصرة مذهبه ¬

_ = مسلم بن خالد عن ابن جريج به. وسماها تماضر، ورواه من طريق أخرى عن مالك 2/ 60. ورواه البيهقي في الكبرى بالروايتين معاً، وحكي عن الشافعي إنه قال: حديث ابن الزبير متصل وهو يقول ورثها عثمان في العدة، وحديث ابن شهاب مقطوع السنن الكبرى 7/ 362، ورواه سعيد بن منصور من طريق عُمَرَ بْنِ أبي سَلَمَةَ عنْ أبِيهِ عنْ جَدِّهِ عَبْد الرحْمنِ بْنِ عَوْفٍ أنه قَالَ: لاَ تسْألني امْرَأةَ مِنْ نِسَائي الطلَاقَ، وَكَانَتْ تَمَاضر بِنْت الأصْبَغِ أمْ سَلَمَةَ في خلقها بعض ما فيه .. سنن سعيد ابن منصور، القسم الأول من المجلد الثالث 2/ 66. ويقول ابن التركماني عقب قول الشافعي وحديث ابن شهاب: مقطوع قال: قلت الظاهر أن حديث ابن شهاب متصل أيضًا ويدلّ عليه ما حكاه البيهقى. عن الشافعي أنه قال في الإملاء: ورثها عثمان بعد انقضاء العده، وهو فيما يخيل إليّ أثبت الحديثين، ثم قال البيهقي: والذي يؤكد رواية ابن شهاب عن طلحة وأبي سلمة ما أنا أبو الحسين فذكر بسنده عن يونس عن ابن شهاب قال: سمعت معاوية بن عبد الله بن جعفر يقول: هذا السائب بن يزيد يشهد على قضاء عثمان في تماضر ورثها من عبد الرحمن بعد ما حلت .. ثم قال الييهقى: هذا إسناد متصل وتابع ابن أخي ابن شهاب عمه، ونقل ابن التركماني عن ابن عبد البر قوله: اختلف عن عثمان هل ورَّث زوجة عبد الرحمن في العده أو بعدها؟ وأصح الروايات أنه ورثها بعد انقضاء العدة. السنن الكبرى 7/ 362 - 363، والحديث فيه أبو سلمة ابن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه شيئاً. المراسيل لابن أبي حاتم ص 255، وانظر ت ت 12/ 115، والحديث صحيح متصل في الطريق الثاني. (¬1) تماضر الكلبية زوجة عبد الرحمن بن عوف. تجريد أسماء الصحابة 2/ 253، الإصابة 4/ 255. (¬2) رواه سعيد بن منصور عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه: 2/ 66 - 67، وأورده ابن حزم في المحلى 10/ 223، وابن حجر في ت ت 6/ 246 قلت: ورواية أبي سلمة هذه قريبة من رواية ابن الزبير السابقة وهي متابعة قوية. درجة الحديث: صحيح. (¬3) انظر البناية شرح الهداية 4/ 569، وشرح فتح القدير 3/ 150. (¬4) مَالِك عَنْ عبْدِ الله بْنِ الْفَضْلِ عَن الأعْرَج أن عُثمَانَ ورثَ نِسَاءَ ابن مُكْمل منْهُ وَكانَ طلْقهن مَرِيضاً. الموطأ 2/ 572، وعبد الرزاق عَنِ ابنِ جرَيجٍ عَنْ عَمرو ابْن دينَارٍ أنْ عَبْدَ الرحْمنِ بْنَ هرْمَزَ أخبَرهُ أن عَبْدَ الرحْمن أن مكْمِل كَانَ عِنْدة ثَلَاث نِسوةٍ. المصنف لعبد الرزاق 7/ 63. أقول: ابن مكمل هذا اختلف في اسمه قال الحافظ: عبد الله بن مكمل بن عبد بن عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب، ذكره الطبري وقال: روى الزهري عن عبد الله بن عبد الله هذا، وكان عبد الله من أقران عبد الرحمن بن أزهر وابن عمه، وذكره عمر بن شبة في الصحابة وذكر أنه اتخذ داراً =

طلاق العبد

بحديث محمَّد بن يحيى بن (¬1) حبان في الموطأ قال (كَانَتْ عِنْدَ جَدِّي حَبَّانَ (¬2) امْرَأتَانِ هَاشِمِية وأنصَارِية فَطَلَّقَ الْأنْصَارِيَّة وَهِيَ تُرْضِعُ فَمَرَّت بِهَا سَنَة ثُمَّ هَلَكَ وَلَمْ تَحُضْ، فَقَالَتْ: أنَا أرِثُهُ وَلَمْ أحُضْ، قَقَضَى لِهَا عُثْمَانُ بِالْمِيرَاثِ) (¬3). ولم يقض لها عثمان بقولها (وَلَمْ أحُضْ) وإنما قالت: ما اعتقدت أنه نافع، وقضى عثمان لها بالميراث بما علم أنه واجب. طلاق العبد: الطلاق عندنا معتبر بالرجال (دون النساء) (¬4)، وبه قال الشافعي (¬5). وعند أبي حنيفة معتبر بالنساء والعدة بالرجال (¬6)، والمسألة عظيمة الموقع وقد بيناها في مسائل الخلاف. والمعتمد لنا في المسألة أن الطلاق ملك الرجل والملك إنما يعتبر فيه صفة ¬

_ = بالمدينة عند دار القضاء قال: وأراه الذي توفي في عهد عثمان بعد أن طلّق نساءه في مرضه فورَّثهن عثمان منه، استدركه ابن فتحون. وكثر ما يأتي في الرواية ابن مكمل غير مسمى وسماه بعضهم عبد الرحمن وهو وهم وإنما عبد الرحمن ابنه وهو شيخ الزهري. الإصابة 4/ 245. درجة الحديث: على فرض كون عبد الله بن المكمل صحابياً يكون الحديث صحيحاً والله أعلم. (¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) هو حَبَّان بن منقذ بن عمرو بن عطية الأنصاري الخزرجي المازني، شهد أُحداً وتزوج زينب بنت ربيعة بنت الحارث بن عبد المطلب فأولدها يحيى وواسعاً، وكان يخدع في البيوع لسلامة فيه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خُلَابَة". تجريد أسماء الصحابة 2/ 123 الإصابة 2/ 11 - 12. (¬3) الموطأ 2/ 572 عَنْ يحْيىَ بْنِ سعيدٍ عنْ محمد بْنِ يحيىَ بْن حَبانَ قَالَ: عِنْدَ جدي حبان امْرَأتان .. ورواه البيهقي بسنده إلى عَبْدِ الله بْنِ أبي بكْرٍ أن رَجلاً مِن الأنصارِ يقال لَه حَبان بْن مُنْقذٍ طَلقَ امْرَأتَة وهوَ صَحيحٌ .. انظر أوجز المسالك 10/ 150، ولم أطلع عليه في مظانة من السنن. والحديث فيه يحيى بن حبان المازني، سمع ابن عمر، روى عنه ابنه محمَّد المدني الأنصاري، قاله محمَّد بن إسحاق. التاريخ الكبير للبخاري 8/ 268، وكذا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 9/ 134 ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً. درجة الحديث: ضعيف, لأن يحيى لم أجد من وثقه. (¬4) زائدة في الأصل وليست في بقية النسخ. (¬5) المهذب 2/ 79، الوجيز 2/ 58، الروضة 8/ 71، المنهاج ص 107. (¬6) انظر البدائع 4/ 1785، الاختيار 2/ 184، رؤوس المسائل للزمخشري، رسالة ماجستير تحقيق عبد الله نذير. جامعة أم القرى بمكة.

نفقة المطلقة

المالك لا صفة المملوك (¬1) وهذا لا غبار عليه وقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2)، ولامتعلق لنا في عمومه ولا في تخصيصه ولا لهم، كما لا يتعلق في قوله {الطَّلَاقُ (¬3) مَرَّتَانِ} الآية، لا لنا ولا لهم، فإن كلا العمومين لا بد من تخصيصه؛ فتخصيص عموم الطلاق بمالك الطلاق وصاحبه، وتخصيص عموم العدة بالمعتدة وفائدتها أولى من تخصيص كل عموم منهما بما ليس منه والله أعلم. نفقة المطلقة: وهذه المسألة وأخواتها من ذكر العدة والاسترضاع أحكمها الله في سورة النساء الصغرى (¬4)، وقد أوضحناها في كتاب الأحكام (¬5) فلينظر هنالك؛ وذلك أن الله ذكر المطلقات فقال {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} (¬6) الآية، فلما ذكر الله تعالى السكنى أطلقه فيهن إطلاقاً، ولمّا ذكر النفقة خاصة خصصها بالحامل، وتقسيم الله لا يدخله خلل ولا يتطرق إليه (المداخلِ) (¬7) وقد قال الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬8). فصارت الإقامة بالبيت حقاً لله تعالى لا يجوز للزوج ولا للمرأة إسقاطه، خلافاً للضحاك (¬9). {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} وأصح ما قيل في الفاحشة أنها كل معصية وهو ¬

_ (¬1) قال الباجي: مذهب عبد الله بن عمر في أن الاعتبار في الطلاق بحال الزوج في الحرية والرق، وفي الاعتبار في العدة بحال الزوجة، وهو مذهب مالك. المنتقى 4/ 89. (¬2) سورة البقرة آية 228. (¬3) سورة البقرة آية 229. (¬4) وهي سورة الطلاق. (¬5) انظر الأحكام، للشارح 4/ 1827. (¬6) سورة الطلاق آية 6. وزاد في (ك) و (م) {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ}. (¬7) في (م) الزلل. (¬8) سورة الطلاق آية 1. (¬9) الضحاك بن مزاحم الهلالي، أبو القاسم، أو أبو محمَّد، الخراساني، صدوق كثير الإرسال من الخامسة مات بعد المائة/ ت 1/ 373 ت ت 4/ 453. وقوله: هذا رواه ابن جرير بسنده إلى الضحاك- قال: ليس لها أن تخرج إلا بإذنه وليس للزوج أن يخرجها ما كانت في العدة، فإن خرجت فلا سكنى لها ولا نفقة. تفسير ابن جرير 28/ 132. درجة الأثر: ضعيف لأن فيه جويبراً، تصغير جابر، اسمه جابر وجويبر لقب ابن سعيد الأزدي، أبو القاسم البلخي، نزيل الكوفة راوي التفسير ضعيف جداً من الخامسة. مات بعد 140 أو 150/ خد ق. ت 1/ 136 ت ت 2/ 123، كما أن شيخ ابن جرير لم أقف له على ترجمة وهو علي بن عبد الأعلى المحاربي.

باب في المفقود

الذي اختاره الطبري (¬1) ومن جملتها البذاء على الأهل (¬2). وبهذا المعنى خرجت فاطمة بنت قيس عن بيتها (¬3) والنفقة واجبة لها، كما قال مالك: إن كانت رجعية بكل حال (¬4)، وإن كان طلاقاً بائناً فليس على حر ولا على عبد طلَّق مملوكة نفقة، ولا على عبد طلَّق حرة طلاقاً بائناً. أما الحر في حق المملوكة فلأن الرجل لا يلزمه أن ينفق على عبد غيره، وأما المملوك فإنه لا نفقة عليه إلا أن يشترط ذلك على سيده. باب في المفقود مسألة (¬5) المفقود وقعت في زمن عمر فقضى فيها بالمصلحة، ورأى أن بقاءها تنتظره ضرر بها، وأن الاستعجال على الغائب قبل الاستيناء (¬6) به ضرر عليه، ولا يخلو أن يكون للمفقود مالٌ أو لا مال له. فإن لم يكن له مال طلّق عليه لعدم النفقة، وإن كان له مال فهو الذي يستأنى فيه قال (عمر: يُضْرَبُ لَهُ أجَلٌ أرْبَعَةَ أعْوَامٍ، فإِنْ لَمْ يَأتِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْفُرَاقِ وَاعْتَدَّتْ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَإذَا كَمُلَتْ عِدَّتهَا تَزَوَّجَتْ) (¬7). ¬

_ (¬1) انظر تفسير الطبري 28/ 134. (¬2) هذا قول ابن عباس كما رواه ابن جرير 28/ 133 - 134، وعزاه القرطبي أيضاً إلي الشافعي. لّفسير القرطبي 18/ 256، وانظر أحكام القرآن للشارح 4/ 1819، وعبد الرزاق 6/ 323، وإسناده ضعيف عندهما ومنقطع أيضًا. (¬3) روى مالك من طريق أبِي سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرحْمنِ بْنِ عَوْف عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْس أن أبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقهَا الْبَتةَ وَهوَ غَائِبٌ بِالشامِ فَأرْسَلَ إلَيْهَا وَكِيلُهُ بشعِيرٍ فَسَخَطَتْهُ فَقَالَ: والله مَالَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيء فَجَات إلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرَتْ ذلِكَ لَهُ فَقَالَ: لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نفَقَةٌ وَأمَرَهَا أنْ تَعْتَدَّ في بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ .. الموطأ 2/ 580 ومسلم في الطلاق باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها: 2/ 1114، والشافعي في الرسالة فقرة 856، وشرح السنة 9/ 297، وأبو داود: 2/ 712. (¬4) انظر المنتقى 4/ 106، بداية المجتهد 2/ 77. (¬5) في (م) مسائل. (¬6) في (م) استينائه. (¬7) مَالِك عَنْ يَحْيىَ بْنِ سَعِيد بنِ الْمسَيبِ أن عُمَرَ بْنَ الْخَطابِ قالَ: (إيمَا امُرأةٍ فَقَدَتْ زَوْجَهَا فلَمْ تَدْرِ أينَ هُوَ فَإنهَا تَنْتَظِر أرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعشْراً ثُمَّ تَحِلُّ. الموطأ 2/ 575، والبيهقي في السنن 7/ 445، وعبد الرزاق في مصنفه 7/ 88 بلفظ: قَضَى عمَر بْن الْخَطاب في الْمَرأةِ تَفْقُد زَوْجَهَا. درجة الحديث: صحيح.

واختلف العلماء إذا جاء زوجها الأول بعد نكاحها الثاني؟ فقال الشافعي (¬1) وأبو حنيفة (¬2): هي لزوجها الأول أبداً، وقال مالك: إن جاء الأول، والثاني لم يدخل بها، فهي له (¬3)، وإن جاء بعد الدخول فليست له؛ لأن الحكم بالفراق عليه قد نفذ فصاركما لو تزوجت بعد أن طلَّقها، وروي عنه مثل قول من تقدم من أنها له في كل حال (¬4)؛ ووجه ذلك أن الطلاق إذا أوقعه الزوج نفذ ظاهراً وباطناً، وإذا تولَّاه الحاكم عنه نفذ في الظاهر دون الباطن، فإذا جاء اليقين نقض ما في الظاهر ويدخل تحت قول عمر (وإذَا قَضَيْتَ بِقَضِيَّةٍ ثُمَّ تَبَينَ لَكَ الْحَقُّ في خِلَافِهَا فَارْجَعْ إلَيْهَا فَإِنَّ الرُّجُوعَ إلَى الْحَق خَيْرٌ مِنَ التَمَادي في الْبَاطِلَ) (¬5). ¬

_ (¬1) انظر المهذب 2/ 147. (¬2) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 4/ 443، والإفصاح لابن هبيرة 2/ 176. (¬3) الموطأ 2/ 576. (¬4) قال الباجي: اختلف قول مالك في زوجة المفقود تعتد ثم تتزوج فيقدم المفقود قبل أن يبني بها الثاني فقال في الموطأ: لا سبيل للأول إليها، واختارَّه المغيرة وروي عنه أنه قال: الأول أحق بها ما لم يدخل الثاني، رواه ابن القاسم عنه واختاره. وقال محمَّد: الأول أحق بها ما لم يخلُ الثاني خلوة توجب العدة فلا شيء للأوّل. المنتقى 4/ 93. (¬5) هذا جزء من كتاب عمر، رضي الله عنه، إلى أبي موسى الأشعري، أخرجه الدارقطني من طريق عُبَيْدِ الله ابْنِ أبِي حَمِيدٍ عَنْ أبيِ الْمُليَحِ الْهذْلِي قَالَ: كتَبَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ إلي أَبِى مُوسَى الأشْعَريِّ: أَمَّا بَعْدُ، فَإنَّ الْقَضَاءَ فَريضَةٌ مُحَكَّمَةٌ وَسُنْة مُتْبَعَةٌ فافْهَمْ إذَا أُدْلِي أْلَيْك بِحُجَّةٍ وَانفِذِ الْحَقِّ إذا وَضَحَ فَإنّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّم بَحَقّ لَا نَفَاذَ لَهُ .. سنن الدارقطني 4/ 206. وهذا الطريق فيه عبيد الله بن أبي حميد الهذلي، أبو الخطاب البصري، واسم أبي حميد غالب متروك الحديث/ ق. ت 1/ 532 وانظر ت ت 7/ 9، والضعفاء 3/ 118، الكامل لابن عدي 4/ 1633، وأخرجه الدارقطني أيضاً من طريق سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنةَ فَإدْريس الأَوْدِيِّ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ وَأَخْرَجَ الْكِتَابَ فَقَالَ: هَذَا كِتَابُ عُمَرَ ثُمِّ قُرِئ عَلَى سُفْيَانَ مِنْ ههُنَا إلى أَبِي مُوسَى الأشْعَريّ أَمَّا بَعْدُ .. سنن الدارقطني 4/ 207، ومن نفس الطريق أخرجه البيهقي في السنن 10/ 135. وذكر الحافظ أن ابن حزم ساقه من طريقين وأعلَّهما بالانقطاع، لكن اختلاف المخرج فيهما مما يقوي أصل الرسالة، لا سيما وفي بعض طرقه أن راويه أخرج الرسالة مكتوبة. تلخيص الحبير 4/ 196، وأورده ابن القيم في إعلام الموقعين بروايته الثانية وقال: هذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه إلى تأمله والتفقه فيه. إعلام الموقعين 1/ 86.

باب ما جاء في الأقراء

وقد تكلم العلماء على وجه الحكمة في ضرب عمر للأجل أربعة أعوام، فقال بعضهم: إنما ذلك لاختبار حاله في الجهات الأربع: في المشرق والمغرب والشمال والجنوب، فجعل لكل جهة عاماً، وهذا مما يمكن أن يكون قصده ولا يقطع عليه. وأما المسألة التي ذكر مالك من طلاق الزوج امرأته وهو غائب عنها فيبلغها الطلاق ثم يراجعها ولا تبلغها الرجعة فتتزوج (¬1) فلمالك فيها قولان كمسألة المفقود (¬2)، والعذر في هذا أقل لأنه لما بلغها الطلاق وتأخرت عنها الرجعة كان كالمفرط فيها بخلاف المفقود فإنه معذور ومغلوب عنها. باب ما جاء في الأقراء ذكر مالك عن عائشة أن (الْأَقْرَاء الْأطْهَار) (¬3). واختلف الناس فيها من الفقهاء وأهل اللغة (¬4) اختلافاً كثيراً، ولا شك في أن زمن الحيض يسمى قرءًا، كما يسمى به زمان ¬

_ = درجة الحديث: الطريق الأول ضعيف والثاني قال فيه الشيخ ناصر: إسناد رجاله ثقات، رجال الشيخين، لكنه مرسل لأن سعيد بن أبي بردة تابعي صغير روايته عن عبد الله بن عمر مرسلة فكيف بعمر لكن قوله (هذا كتاب عمر) وجادة صحيحة من أصح الوجادات وهي حجة. إرواء الغليل 8/ 240. (¬1) الموطأ 2/ 576. (¬2) قال الباجي: هذا مما اختُلف فيه أيضاً؛ فقد قال محمَّد بهذا القول (أي بقول مالك المتقدم) في المفقود والمطلق زوجته ولم تعلم برجعة حتى تزوجت إن عقد الثاني عليه يفيتها. قال ابن القاسم: ثم إن مالكاً وقف قبل موته بعام، أو نحوه، في امرأة المطلق فقال: زوجها الأول أحق بها ما لم يدخل بها الثاني. المنتقى 4/ 94. (¬3) مَالِك عَنْ ابنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزبَيْرِ عَنْ عائِشَةَ أَم الْمُؤْمِنِينَ أَنهَا ثَقلَتْ حَفْصَة بِنْتَ عَبْدِ الْرحْمنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِيقِ حِينَ دَخَلَتْ في الدَّمِ في الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَذكرَ ذَلِكَ لِعَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمنِ فَقَالَتْ: صَدَقَ عُرْوَة .. الموطأ 2/ 576 - 577. درجة الحديث: صحيح. (¬4) قال في الأحكام: هي كلمة محتملة للطهر والحيض احتمالًا واحداً، وبه تشاغل الناس قديماً وحديثاً من فقهاء ولغويين في تقديم أحدهما على الآخر، وأوصيكم ألا تشتغلوا الآن بذلك لوجوه، أقربها إن أهل اللغة قد اتفقوا على أن القرء الوقت يكفيك هذا فيصلاً بين المتشعبين وحسماً لداء المختلفين .. فإذا أرحت نفسك من هذا وقلت المعنى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} صارت الآية مفسرة في العدد محتملة في المعدود فوجب طلب بيان المعدود من غيرها واختلفنا فيها ولنا أدلة ولهم أدلة. الأحكام 1/ 184. وقال ابن عبد البر: لم يختلف العلماء ولا الفقهاء أن القرء لغة يقع على الطهر والحيضة، وإنما اختلفوا =

الطهر، لكن نوضح أن المراد به في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1) زمان الطهر لثلاثة أوجه: أحدها: أن حقيقة القرء الاجتماع، والدم إنما يجتمع في مدة الطهر والحيض إنما هو سيلان ما اجتمع. والثاني: أن الله يقول في كتابه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬2)، وبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن الطلاق في الطهر لا في الحيض (¬3). الثالث: أن الأحكام ترتبط بأسبابها وتتبعها، وسبب العدة الطلاق فيجب أن تكون مقترنة به وليس لأهل العراق، ولا لغيرهم من المخالفين، بعد هذا في الاعتراض عليه شيء يقنع (¬4)، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، عبد الله بن عمر حين طلق زوجته وهي حائض بالرجعة (¬5) لئلا تطول عليها العدة فإن زمن الحيض الذي وقع الطلاق فيه لا يحتسب لها فيه فيمضي عليه الطلاق الذي ألزمه نفسه، ويجبر على الرجعة لرفع الضرر عن المرأة فتجتمع الفائدتان والمعتدات على ثمانية أقسام: الأول: معتادة فهذه عدتها ثلاثة قروء كما قال الله (¬6)، أو وضع الحمل كما أخبر عنه (¬7). الثاني: من تأخَّر حيضها لمرض فتبقى تسعة أشهر. الثالث: من تأخر حيضها بالرضاع فأما من تأخر حيضها لمرض فتقيم تسعة أشهر ثم ¬

_ = في المراد بالآية. فقال جمهور أهل المدينة: الأطهار، وقال العراقيون: الحيض، وحديث ابن عمر يدل للأول لقوله: ثُمَّ تَحِيضُ ثُمَّ تَطْهُرُ ثُمَّ إنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمُسَ فَتِلْكَ الْعِدَّة الَّتي أَمَرَ الله. شرح الزرقاني 3/ 203. (¬1) سورة البقرة آية 228. (¬2) سورة الطلاق آية 1. (¬3) سيأتي ذلك من حديث ابن عمر. (¬4) ذهب الحنفية إلى أن الأقراء الحيض. قال الجصاص الحنفي: قال أصحابنا جميعاً: الأقراء الحيض، وهو قول الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح. أحكام القرآن للجصاص 1/ 364، وانظر شرح فتح القدير 3/ 270. (¬5) تقدم (¬6) قال تعالى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} البقرة آية 228. (¬7) قال تعالى {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} سورة الطلاق آية 4.

تأتي بثلاثة أشهر عند الكل من علمائنا، وقال أشهب (¬1)، إنما تعتد بعد السنة كما في قصة حبان (¬2) الذي روى مالك في الموطأ (¬3) والمريضة والمرضع (¬4) سواء، والصحيح هو الأول. الرابع: من تأخر حيضها لغير شيء فإنها تتربص سنة، ما لم تَرْتَبْ، فإذا ارتابت تقيم عامين في قول عائشة وأهل العراق (¬5) وأربع في قول، وفي قول علمائنا إلى خمس وسبع، فإن تمادت الريبة فلا تحل أبداً حتى ينقطع عند أشهب (¬6)، والشافعي (¬7)، وأبي حنيفة (¬8)، وقد وقعت رواية لمالك والصحيح أن الزيادة على مدة الحمل لا اعتبار بها إلا أن مدة الحمل لا تعلم بدليل من الشريعة وإنما تعلم بمستمر من العادة، وقد زعموا أنهم وجدوا الولادة بعد سبعة أعوام من الوطء وربك أعلم بما تَكنُّ البطون، وقد سمعت من يقول: إنَّ أقصى مدة الحمل تسعة أشهر، وهي نكتة فلسفية، وإعراض عن الديانة قضية وخلاف لإجماع الأمة فلا ينبغي أن يُلتفت إليها. الخامس: المستحاضة. قال ابن القاسم (¬9) وسعيد بن المسيب (¬10): تقيم سنة، وقال غيرهما: تقيم حتى تزول الريبة. ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) تقدمت ترجمته. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) قال ابن رشد: وأما التي ارتفعت حيضتها لسبب معلوم، مثل رضاع أو مرض، فإن المشهور عند مالك أنها تنتظر قصر الزمان أم طال، وقد قيل إن المريضة مثل التي ترتفع حيضتها لغير سبب. بداية المجتهد 2/ 92. (¬5) انظر البناية شرح الهداية 4/ 773، المغنى 7/ 461. (¬6) قال القرطبي: فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام أو خمسة أو سبعة على اختلاف الرواية عن علمائنا ومشهورها خمسة أعوام، فإذا تجاوزتها حلّت. وقال أشهب: لا تحل أبداً حتى تنقطع عنها الريبة، وقال: قال ابن العربي: وهو الصحيح لأنه إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة أو أكثر من ذلك وقد روي عن مالك مثله. تفسير القرطبي 18/ 164، وأحكام القرآن للشارح 4/ 1826. (¬7) انظر أحكام القرآن للكيا الهراسي 4/ 481، وتكملة المجموع 16/ 592. (¬8) انظر شرح فتح القدير 4/ 318 - 319. (¬9) انظر المنتقى 4/ 110. (¬10) الموطأ 2/ 583، وفقه سعيد بن المسيب 3/ 389، والمدونة 5/ 110. درجة الأثر: صحيح.

ما جاء في الحكمين

السادس: صغيرة عدتها ثلاثة أشهر سواء أكانت حرة أو أمة (¬1). وقال عبد الملك: في الأمة شهر ونصف (¬2)، وقال غيره: شهران (¬3)، وقد اتفقوا على أن عدتها من الوفاة شهران وخمس ليال (¬4). السابع: اليائسة، وهي مثلها، وقد نص الله عليها في محكم كتابه فقال {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ} (¬5) الآية. الثامن: المشكلة، وهي التي قاربت من الصغيرة سن الحيض وقاربت من الكبيرة سن انقطاع الدم فتبني على الأشهر باتفاق من علمائنا إلا إن ارتابت، فإن ارتابت فتحصل في القسم الرابع وهي المرتابة. ما جاء في الحكمين هذه مسألة نص الله عليها وحكم بها عند ظهور الشقاق بين الزوجين واختلاف ما بينهما، وهي مسألة عظيمة اجتمعت الأُمة على أصلها في البعث، وإن اختلفوا في تفاصيل ما يترتب عليه ومن جملة اختلافهم في قوله {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} (¬6) فهل المراد الزوجان أم الحكمان، فأدخل مالك قول علي في أن المراد به الحكمان (¬7)، وهو الصحيح؛ لأن ¬

_ (¬1) انظر الكافي 2/ 619 - 620، بداية المجتهد 2/ 93، مواهب الجليل 4/ 144. (¬2) ذكره ابن عبد البر في الكافي 2/ 620 بصيغة قيل. (¬3) قال الحطاب: مقابل المشهور قولان: أحدهما إن عدتها شهر ونصف والثاني شهران، حكاهما ابن بشير. مواهب الجليل 4/ 144. (¬4) انظر الكافي 2/ 621. (¬5) سورة الطلاق آية 4. (¬6) سورة النساء آية 35. (¬7) الموطأ 2/ 584 بلاغاً عَنْ علي. ورواه عبد الرزاق عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أيوب عَن ابْنِ سِيرينَ عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلِيمَاني قال: شَهِدْتُ عَلَيَّ بْنَ أَبي طَالِبٍ وَجَاءَتْةُ امْرَأَة وَزَوْجُهَا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فُؤَامٌ مِنَ النَّاسِ فأَخْرجَ هُوَ لِهَؤُلاَءِ حكماً مِنَ النَّاسِ وَهَؤُلاَءَ حكماً .. المصنف 6/ 512، وأخرجه الطبري من طريق ابن علية عن أيوب، ومن حديث هشام ابن حسان، وعبد الله بن عون عن ابن سيرين عن علي، ومن حديث منصور وهشام عن ابن سيرين عن عبيدة. تفسير الطبري 8/ 320 - 321، والشافعي في الأُم 5/ 177 من طريق الثقفي عن أيوب عن أبي تميمة عن ابن سيرين عن عبيدة، والبيهقي في السنن 7/ 305 - 306، من طريق الشافعي ورواه البغوي في شرح السنة 7/ 189، والدارقطني في السنن 3/ 295. درجة الحديث: صححه القرطبي 5/ 177 فقال: وهذا إسناد صحيح ثابت روي عن علي من وجوه =

جامع الطلاق

الكلام مرتبط بهما معطوف عليهما مجاور لهما فهو بهما أليق ورجوعه عليهما أحق، وقد بيَّنا ذلك في كتاب الأحكام وبسَّطناه كما يجب (¬1)، وعجباً لأهل بلادنا حيث غفلوا عن موجب الكتاب والسنة في ذلك وقالوا: يجعلان على يدي أَمين، وفي هذا من معاندة النص ما لا يخفى عليكم، فإذا وقع الشقاق بينهما لأجل المسيس فاتفقا على أنه لا يمسها، فإن العلماء اتفقوا على أنه يُضرب له أجل سنة من يوم ترافعه. قال علماؤنا: يُختبر بها حاله في الأَزمنة الأَربعة المتغايرة في السنة، هل يستطيع فيه مسيساً أم (¬2) لا؟ فإن تبين عجزهُ فيها حِيلَ بينه وبين الزوج، قطعاً للضرر عنها؛ لأن من مقاصد النكاح الوطء فما لم يوجد ذهب المقصود، فإن وجد ولو مرة فاتفق العلماء على أنه إذا اعترض عنها بعد ذلك أنه لا كلام لها ولا يفرق بينهما، وهذا ضرر عظيم ولا أعلم ما هو ولكني قابلته بالتسليم. جامع الطلاق: حديث غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -، "أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعاً وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ" (¬3)، وهذا من مرسلات ابن شهاب، وأسنده غيره وكذلك أسلم فيروز ¬

_ = ثابتة. ونقل شعيب الأرناؤوطي عن الشافعي قوله: وحديث علي ثابت عندنا، وصحح هو إسناده أيضاً، شرح السنة 9/ 190. (¬1) الأحكام 1/ 421. (¬2) في (م) أو لا. (¬3) مَالِك عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أنه قَالَ: بَلَغَنيِ أَنَّ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِرَجُلِ مِنْ ثَقِيفٍ أَسْلَمَ وَعنْدَهُ عَشْرُنِسْوَةٍ حِينَ أَسْلَمَ الثَّقَفِيُّ: (أَمْسِكْ مِنْهُنَّ أَرْبَعاً وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ)، الموطأ 2/ 586، ورواه الشافعي في مسنده 2/ 16 من طريق الزهري عن سالم عن أبيه، وأحمد رقم (4609) و (4631)، والترمذى 3/ 435 وابن ماجه 2/ 628، وابن حبان، انظر موارد الظمآن ص 310، والحاكم في المستدرك 2/ 192 ويقول ابن كثير في الإرشاد، فيما نقله عنه الصنعاني في سبل السلام 3/ 175 - 176 رواه الإمامان أبو عبد الله محمَّد بن إدريس وأحمد ابن حنبل والترمذى وابن ماجه وهذا إسناد رجاله على شرط الشيخين إلا أن الترمذي يقول: سمعت البخارى يقول هذا حديث غير محفوظ والصحيح ما رواه شعيب وغيره عن الزهرى قال: حدثت عن محمَّد بن شعيب الثقفي أن غيلان فذكره. قال البخاري: وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن رجلاً من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر لتراجعن نساءك الحديث قال ابن كثير: قلت جمع الإمام أحمد في روايته لهذا الحديث بين هذين الحديثين بهذا السند (يريد للحديث 4631) فليس ما ذكره البخاري قادحاً. كذا قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه. على الحديث رقم (4631) في المسند، ويقول الحافظ: فائدة، قال النسائي: أنا أبو يزيد عمرو بن يزيد الجرمي أنا سيف بن عبيد الله عن سرار بن مجشر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن غيلاَن الثقفي أسلم وعنده عشر نسوة. الحديث، وفيه وأمسكهن معه وفيه =

الديلمي (¬1) وتحته أختان فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -، (أَمْسِكْ إِحْدَاهُمَا وَفَارِقِ الأُخْرَى) (¬2) وهذا نص في المسألتين وبه قال الشافعي وخالفنا أبو حنيفة فقال في الزوجات: تُمسك الأوائل وتفارق الأواخر، وفي الأختين يفسخ نكاح المتأخرة فلو عقد نكاحهما معا فسخ نكاحهما (¬3)، والنبي - صلى الله عليه وسلم -، أطلق القول لغيلان وفيروز ولم يستفصل عن الأوائل ولا عن الأواخر ولا عن الجمع في عقد ولا تفريق، ولو كان الحكم يختلف في ذلك لاستفصل، ومن أملح عبارة في ذلك ما أصله أبو المعالي (¬4) في هذا الحديث وأمثاله فقال: (ترك الاستفصال في حكايات الأحوال مع الاحتمال ينزل منزله العموم في المقال كحديث غيلان) (¬5). وأدخل مالك في الباب حديث عمر بن الخطاب في أن الرجل إذا طلق زوجته ما دون الثلاث فنكحت زوجاً غيره ثم عادت إليه أنها تعود إليه بما بقي فيها من طلاقه، ولا يرفع الزوج الثاني الطلقة والطلقتين اللتين تقدمتا له (¬6)، وهذه المسألة تسمى مسألة الهدم. ¬

_ = فلما كان زمن عمر طلقهن فقال له عمر: راجعهن ورجال إسناده ثقات ومن هذا الوجه أخرجه الدارقطني. تلخيص الحبير 3/ 169، وانظر سنن الدارقطني 3/ 271. درجة الحديث: صححه ابن كثير وابن حجر والحاكم وابن حبان وأحمد شاكر في تعليقه على المسند 6/ 277. (¬1) فيروز الديلمي اليماني، صحابي له أحاديث، وهو الذي قتل الأسود الذي ادعى النبوة .. مات زمن عثمان. ت 2/ 114، الاستيعاب 3/ 1264. (¬2) أبو داود 2/ 678 من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه، والترمذي من طريق ابن لهيعة عن أبي وهب به ومن طريق أخرى مثل طريق أبي داود وقال حديث حسن 3/ 436، وابن ماجه من طريقين 1/ 627، وأحمد انظر الفتح الرباني 16/ 201. أقول: في الحديث ابن لهيعة عنعنه وهو مدلّس وقد تقدم، وفيه أيضاً أبو وهب الجيشاني، قيل اسمه ديلم بن هوشع، وقال ابن يونس: هو عبيد بن شرحبيل مقبول من الرابعة/ د ت ق. ت 2/ 487، وانظر ت ت 12/ 275. درجة الحديث: ضعيف. (¬3) انظر تحفة الأخوذي شرح الترمذي 4/ 280، مجمع الأنهار 1/ 373، واللباب في الجمع بين السنة والكتاب 2/ 684. (¬4) تقدمت ترجمته. (¬5) هذه العبارة وردت في كتب الأصول معزوَّة للشافعي انظر البرهان 1/ 529، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول ص 331، المختصر في الأصول ص 116 لابن اللحام. (¬6) الموطأ 2/ 586 عَنِ ابنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَحُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرحمنَ بْنِ عَوْف وَعُبَيْدَ الله بْنَ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبةَ بْنِ مَسْعُود وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ كُلُّهُمْ يَقُولُ: سَمِعْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقوُلُ: سَمعْتُ عُمَرَ بْنَ =

عدة المتوفى عنها زوجها

قال أبو حنيفة: الزوج الثاني كما يهدم الثلاث يهدم الواحدة والثنتين (¬1)، وقال علماؤنا: ليس الزوج الثاني بالهادم وإنما هو غاية مدّ إليها (¬2) التحريم (¬3). قال الله عَز وجل {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬4)، فإذا جاءت الغاية ثم أمد الحكم كما قال {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬5) لا يقال إن الليل رفع الصيام وأبطله، ولكنا نقول (يقال) (¬6) انتهى الصوم نهايته، وقد حققنا ذلك في مسائل الخلاف فليطلب فيها .. عدة المتوفى عنها زوجها: روي عن ابن عباس، رضوان الله عليه، أنه قال: إنها إن كانت حاملًا فإن عدتها آخر الأجلين (¬7)، وقال عامة الناس: إن وضع الحمل مبرىء لها والعمدة فيه حديث أم سلمة: (وَلَدَتْ سُبَيْعَةُ الْأسْلَمِيَّةُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بَلَيَالٍ، وَفي رِوَايَةٍ بِنِصْفِ شَهْرٍ فَخَطَبَهَا رَجُلَانِ أحَدُهُمَا شَابٌّ وَالْآخَرُ كَهْلٌ فَخُطِبَتْ إِلَى الشَّابِّ فَقَالَ الشَيْخُ: لَمْ تَحِل بَعْدُ: وَكَان أهْلُهَا غُيَّباً وَرَجَا إِذَا جَاءَ أهْلُهَا أنْ يُؤْثرُوهُ بِهَا، فَسَألَتْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -،فَقَالَ لَهَا: "قَدْ حَلَلْتِ فَانكِحِي مِنْ شِئْتِ" (¬8)، وهذا دليل لا غبارعليه ينبني عليه أصل من أصول الفقه، وهو ¬

_ = الْخَطَّابِ يَقُولُ: أيمَا امْرَاه طَلَّقهَا زَوْجُهَا .. والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 364 - 365. درجة الحديث: صحيح. (¬1) انظر البناية شرح الهداية 4/ 627. (¬2) في (ك) و (م) إليه. (¬3) انظر تفسير القرطبي 3/ 153، شرح السنة 9/ 134، الموطأ 2/ 586، شرح الزرقاني 4/ 138. (¬4) سورة البقرة آية 230. (¬5) سورة البقرة آية 187. (¬6) ليست في بقية النسخ. (¬7) الموطأ 2/ 589 عن عَبْدِ رَبهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرحْمنِ أنهُ قَالَ: سُئِلَ عبدُ الله بْن عَباس وَأبُو هُرَيْرَةَ عَنِ الْمَرَأةِ الْحَامِلِ يَتَوَفى عَنْهَا زَوْجهَا. والنسائي من نفس الطريق 6/ 191. وأخرجه الشيخان من طريق أخرى عن أبي سلمة كما سيأتي. درجة الحديث: صحيح. (¬8) متفق عليه. البخاري في الطلاق باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} في تفسير سورة الطلاق 7/ 73، ومسلم في الطلاق باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل 2/ 1122 - 1123.

ما جاء في العزل

تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد (¬1) ولعل ابن عباس لم يعلم ذلك أو رجع إليه حين علم (¬2) به، وله في ذلك كلام غامض متعلق بالسكنى للمعتدة، وذكره البخاري في كتاب التفسير (¬3) قد أوضحناه هنالك، فليطلب فيه، وبسَّطنا شيئاً منه في كتاب أحكام القرآن (¬4). ما جاء في العزل: لا خلاف بين الأمة في جوازه، وإن كرهه بعضهم، وخصوصاً في الأَمة. فأما الحرة فرأى مالك ألَّا يعزل عنها إلا بإذنها (¬5) لأنه يرى أن حقها في الوطء ثابت مدة النكاح. وقال سائر الفقهاء: إذا وطئ الزوج أهله وطية واحدة لم يكن لها أبداً حق في طلب الوطء (¬6)، وهذا ضعيف لأنه لو حلف ألا يطأها لضُرب له أجل أربعة أشهر إجماعاً بنص القرآن (¬7)، فإذا ترك الوطء مضاراً فقد وجد معنى الإيلاء والأحكام، كما قدَّمنا، إنما ثبت بمعانيها لا بالألفاظ فيها، فوجب أن يكون حقها في طلب الوطء باقياً مدى النكاح، فإذا أذنت في العزل جاز وإن كان فيه قطع بالتولّد والنشاة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيه:"مَا عَلَيْكُمْ ألَّا ¬

_ (¬1) قال ابن الحاجب: يجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد، وقال به الأئمة الأربعة وبالمتواتر اتفاقاً. مختصر المنتهى 2/ 149. (¬2) قال الحافظ: قال جمهور العلماء من السلف وأئمة الفتوى في الأمصار أن الحامل إذا مات زوجها تحل بوضع الحمل وتنقضي عدة الوفاة، وخالف في ذلك علي فقال: تعتد آخر الأجلين، أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد بسند صحيح، وبه قال ابن عباس، كما في هذه القصة، ويقال إنه رجع عنه ويقويه أن المنقول عن أتباعه وفاق الجماعة في ذلك. فتح الباري 9/ 474. وقال الباجي: روي عن ابن عباس أنه رجع إلى القول بحديث سبيعة. المنتقى 4/ 132. (¬3) البخاري في كتاب التفسير. تفسير سورة الطلاق باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، 6/ 129 من حديث أبي سلمة. (¬4) انظر الأحكام 1/ 208. (¬5) قال مالك: لا يعزل الرجل عن المرأة الحرة إلا بإذنها, ولا بأس أن يعزل عن أمته بغير إذنها. الموطأ 2/ 596. (¬6) قال الحافظ: عن الشافعية خلاف مشهور في جواز العزل عن الحرة بغير إذنها، قال الغزالي، وغيره: يجوز وهو المصحح عند المتأخرين .. ثم قال: اتفقت المذاهب الثلاثة على أن الحرة لا يعزل عنها إلا بإذنها، وأن الأمةُ يعزل عنها بغير إذنها. فتح الباري 9/ 308. (¬7) قال {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .. سورة البقرة آية 226 - 227.

تَفْعَلُوا" (¬1)، التقدير كأنكم تريدون التحرّز عن الولد ولستم تقدرون على ذلك (¬2) (مَا مِنْ نَسْمَةٍ كَائنَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ وإنَّ الله إذا أرَادَ أنْ يُخلِفَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ أحَد أنْ يَمْنَعَهُ) وللولد في ذلك ثلاثة أحوال. حال قبل الوجود ينقطع فيها بالعزل وهذا جائز. وحال بعد قبض الرحم على المني فلا يجوز حينئذ لأحد التعرض له بالقطع من التولد، كما يفعل سفلة التجار في سقي الخدم، عند إمساك الطمث (¬3)، الأدوية التي ترخيه فيسيل المني معه وتنقطع الولادة. والحالة الثالثة بعد انخلاقه قبل أن تنفخ فيه الروح وهو أشد من الأولين في المنع والتحريم لما روي فيه من الأثر (إنَّ السَّقْطَ يَظَلُّ مُخْتَبِطاً عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ يَقولُ لَا أدْخُلُ حَتى يَدْخلَ أبَواي) (¬4)، فأما إذا نفخ فية الروح فهو نفس بلا خلاف. ¬

_ (¬1) مَالَك عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرحْمنِ عَنْ محَمدِ بْنِ يَحْيىَ بْنِ حَبانِ عَنْ ابنِ محَيْرِيزٍ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَرَأَيْت أَبَا سعيد الْخُدْرِي فَجَلَسْت إلَيْهِ وَسأَلْتهُ عَنِ الْعَزْلِ .... الموطأ 2/ 594، والبخاري في النكاح باب العزل 7/ 29، وفي كتاب العتق باب من ملك من العرب رقيقاً 3/ 129، ومسلم في كتاب النكاح باب حكم العزل 2/ 1061. (¬2) قال النووي: معناه لا ضرر عليكم في ترك العزل لأن كل نفس قدر الله تعالى خلقها لا بد أن يخلقها سواء عزلتم أم لا، وما لم يقدرخلقها لا يقع سواء عزلتم أم لا، فلا فائدة في عزلكم فإن كان الله تعالى قدر خلقها فلا ينفع حرصكم في منع الخلق. شرح النووي على مسلم 10/ 10 - 11. (¬3) طمثها: افتضها، وطمثت: حاضت فهي طامث، والطمث الدنس والفساد. مختار القاموس ص 388. (¬4) رواه ابن ماجه 1/ 513 من طريق مَنْدَل بْنِ عَلِيّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحكَم النخْعِي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عَابِس بْنِ رَبِيعَةُ عَنْ عَلِي قالَ: قَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ السقْطَ لَيرَاغِم رَبّهُ إذَا أُدْخِلَ أَبَويهِ النارَ فَيقَالُ أَيهَا السقْطُ الْمرَاغِم رَبَّهُ أَدخِل أبَويكَ الْجَنةَ ..)، وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة 1/ 550، وقال الشيخ ناصر: ضعيف. ضعيف الجامع الصغير 2/ 50. والحديث فيه مندل بن علي العنزي، أبو عبد الله الكوفي، ضعيف من السابعة، ولد سنة 103 ومات سنة 167 أو 168 د ق. ت: 2/ 274، وانظر ت ت 10/ 298 - 299، الكامل 6/ 2447، الضعفاء للعقيلي 4/ 266، المجروحين 3/ 24، الميزان 4/ 18، تاريخ بغداد 13/ 247. درجة الحديث: ضعيف: ضعَّفه المناوي في فيض القدير 2/ 345، قال: قال في الزوائد: إسناده ضعيف لاتفاقهم على ضعف مندل بن علي. حاشية السندي على ابن ماجه 1/ 489، والشيخ ناصر في ضعيف الجامع الصغير 2/ 50.

القول في الإحداد

القول في الإحداد: أما القرآن فأفاد وجود التربص بقوله {يَتَرَبصْنَ}، وأفادت السنَّة الإِحداد وهي هيئة في التربص، وأذن لهن في غير الأزواج بثلاثة أيام (¬1) لما يغلب النسوان من الجزع ويستولي عليهن من الكرب وما وراء ذلك حرام في غير الزوج واجب في الزوج، وليس ذلك بزيادة على النص وإنما هو تفسير لكيفية التربص كما قدمنا، وقد كان هذا شرعاً لمن كان قبلنا وعادة في الجاهلية، وكانت المرأة تقيم في الجاهلية على هذه الحال من الإحداد سنة (¬2)، وقد كان الله تعالى أمر بمتاع التربص حولًا .. في الآية (¬3) الأخيرة ثم ثبت الحكم بنص الآية الأولى من الأربعة الأشهر والعشر، وهدم الله كما كان في الجاهلية ونسخ متاع الحول بهذه الآية التي قبلها (¬4)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) روي مالك من طريق زينَب بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ .. قَالَتْ زَينَبُ: دَخَلْتُ عَلَى أمِّ حَبِيبَةَ، زَوْجِ النبِيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، حِينَ تُوفيَ أَبوهَا، أبو سفيانَ بْن حَرْبٍ فَدَعتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيب فِيهِ صفْرَةٌ خَلوق أَوْ غَيْره فَذَهَبَتْ بِهِ جَارِيَة ثم مَسَحَتْ بِعَارِضَيْهَا ثم قَالَتْ: والله مَا ليَ بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَه غَيْرَ أَني سَمعْتُ رَسُولَ الله، - صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: "لاَ يَحِل لامْرَأَة تُؤْمِن بِالله وَالْيَوْمِ الآخر أَنْ تحِدَّ عَلَى مَيْت فَوْقَ ثَلَاثِ ليال إلَّا عَلَى زَوْج أَرْبَعَةَ أشهر وَعَشْراً" الموطأ 2/ 596 - 597، وأخرجه البخاري في الطلاق باب تحد المتوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً 7/ 76، ومسلم في الطلاق باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة 2/ 1123 - 1126 بعدة روايات. (¬2) ورد ذلك من حديث زينَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْت أُمَّ سَلَمَةَ، زَوْجَ النبِي، - صلى الله عليه وسلم -، تَقُولُ: جَاءَتْ امْرَأَة إلَى رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَتْ: يَا رَسولَ الله إن ابنتَى توُفي عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَها أَفَنَكْتَحِلُهَا، فَقَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: لَا. مَرتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً كل ذَلِكَ يَقُول: لَا، ثُمَّ قَالَ: إنمَا هِيَ أَرْبَعَة أَشْهر وَعَشْراً وَقدْ كَانَتْ إحْدَاكن تَرْمِي الْبَعْرَةَ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ ..) الموطأ 2/ 597، والبخاري في الباب السابق 7/ 77، وكذلك مسلم في الباب السابق 2/ 1124. (¬3) قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} سورة البقرة آية 240. (¬4) وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}، سورة البقرة آية 234، وانظر كلام الشارح على هؤلاء الآيات في الأحكام 7/ 201.

كتاب الرضاع

كتاب الرضاع الرضاع حرمة (ومذمة) (¬1) ألحقها الله بالنسب كما ألحق حرمة المصاهرة به. والرضاع أكد منها لأنه بعضية، كما أن حرمة النسب من البعضية، ولما كان ملحقًا بالنسب ذكره الله بعده إلا أنه قال: {حُرمَت عَلَيْكُم أُمَّهَاتُكُمْ} (¬2)، فاستوفى محرمات النسب، ثم ذكر محرمات الرضاع فقال {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}، ولم يزد، واقتصر على الأم من الأصول وعلى الأخت من الفروع. أما أنه ورد حديثان صحيحِان تمم بهما النبى - صلى الله عليه وسلم -، معنى البيان وجاء فيهما بموعود الوعد الصادق في قوله {لِتُبَينَ لِلنًاسِ مَا نُزَلَ إلَيْهِمْ} (¬3). روى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: يَا رَسُولَ الله أرَاكَ (مُتَزَوِّجٌ) (¬4) في قُرَيْشٍ وَتَدَعنَا؟ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: (وَعِنْدُكُمْ شْيٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: إنَّهَا بِنْتُ أَخِي مِنَ الرضَاعَةِ لاَ تَحِلُّ لِي) (¬5). وَرَوَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: قلت: يَا رَسُولَ الله هَلْ لَكَ في أَنْ تَنْكِحَ أُخْتِي بِنْتَ أَبى سُفُيَانَ؟ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: (أَوَتُحِبِّين ذَلِكَ؟ قُلْتُ: أَنىِّ لَسْتُ لَكَ بمُخْلِيَةٍ وَأُحِبُّ مَنْ يُشْرِكُنِي في خَيْرٍ أخْتِي، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّهَا لَا تَحِل لِي. قُلْتُ: فَقَدْ حُدِّثْنَا أَنَّكَ تُرِيدُ أنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَة، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: إنَهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبيبَتي في حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إنَّهَا بِنْتُ أخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ؟ أرْضَعَتْنِي وَأبَا سَلَمَة ثُوَيْبَةُ (¬6) فَلَا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلَا أخَوَاتِكُنَّ. وكَانَتْ ثُويبَةُ جَارِيَةً لِأبِي لَهَبٍ أرْضَعَتْ ¬

_ (¬1) مضروب عليها في (م) وهي في بقية النسخ. (¬2) سورة النساء آية 23. (¬3) سور النحل آية 44. (¬4) في بقية النسخ تنوق، وكذلك رواية مسلم وهو الصحيح. (¬5) البخاري في النكاح باب "وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} 7/ 12، مسلم في كتاب الرضاع باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة 2/ 1071 كلاهما من حديث ابن عباس. (¬6) ثويبة، مولاة أبي لهب، يقال أسلمت وقد أرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم -. تجريد أسماء الصحابة 2/ 253، الإصابة 4/ 257.

رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَحَمْزَةَ وَأبَا سَلَمَةَ) (¬1). وقد روى أهل التاريخ أن حمزة كان أكبر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بأربع سنين، وروي أنه كان أكبر منه بسنتين (¬2)، فيحتمل أن يكون رضاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع حمزة في مدة واحدة، ويحتمل أن يكون في مدتين. وحقيقة الرضاع التي يتعلق بها التحريم أن كل فمين تناولا ثديًا واحدًا في وقت واحد، أو في وقتين مختلفين، فإن المرضع أمٌ لهما، وهما أخوان من الرضاعة. والثالث: أن كل فحل درّ به لبن أرضعته فكل أخت له من النسب عمة لك من الرضاعة. والرابع: أن كل ثدي أرتضعته فإن كل أخت له من النسب؛ خالة لك من الرضاعة. والخامس: أن كل فَمَيْنِ جمعهما ثدى واحد في وقت واحد، أو وقتين كما تقدم، فإن كل بنت للمجتمع معك عليه من أنثى أو ذكر فإنه ابن أخ لك وابن أخت، فصار لبن الأم قرآنيًا وصار لبن الفحل بالسنة (قَالَتْ عَائِشَةُ: إنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، كَانَ عِنْدَهَا وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأذِنُ ..) الحديث إلى آخره، قال فيه (يُحْرَمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يُحْرَمُ مِنَ الْوِلَادَةِ) (¬3). وهذه الكلمة صحيحة قد ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، منفصلة عنه مروية من طرق ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في النكاح باب {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} 7/ 14 وفي باب {وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} 7/ 15، وفي باب عرض الإنسان ابنته وأخته على أهل الخير 7/ 18، وفي باب {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللِّائِي أرْضَعْنَكُمْ} 7/ 12, ومسلم في الرضاع باب الربيبة وأخت المرأة 2/ 1072، وأبو داود 2/ 547، والنسائي 6/ 96، وابن ماجه 1/ 624، والشافعي في مسنده 2/ 20. (¬2) قال ابن القيسراني: قال يحيى بن بكير: كان أكبر من رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، بثلاث سنين، وقال الوافدي: ولد قبل الفيل بثلاث سنين، وكان أسن من النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بثلاث سنين. توفي سنة 32 وهو ابن 88 سنة، الجمع بين رجال الصحيحين 1/ 360 - 361، وانظر الإصابة 2/ 271، تجريد أسماء الصحابة للذهبي 1/ 295، ت ت 5/ 122، صفحة الصفوة 1/ 506. قلت: لم يذكر أحد منهم أربع سنين. (¬3) الموطأ 2/ 601 من طريق عَمْرَةَ بِنتِ عَبْدِ الرَّحْمنِ عّنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرَتْهَا أَن رَسُولَ - صلى الله عليه وسلم -، كَانَ عِنْدَهَا وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ في بَيْتِ حَفْصَةَ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ هذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ في بَيِتكَ، فَقَالَ رَسُول اللهِ، - صلى الله عليه وسلم -: أَرَاهُ فُلَانًا لِعَمٍّ لِحَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ ... كما أخرجه البخاري في النكاح باب {وَأُمَّهَاتُكُمْ اللِّاتِي أرْضَعْنَكُمْ} 7/ 11، وفي الشهادات باب الشهادة على الأنساب =

أما أحدهما فتقدير الرضاع

سواه (¬1)، وهو عموم متفق عليه لم يدخله تخصيص بإجماع. هذا هو أصل الرضاع المتفق عليه وفيه اختلاف كثير بين العلماء وتفصيل الفروع وذكر منه مالك فصلين مهمين: أما أحدهما فتقدير الرضاع: قالت جماعة: إنه ليس له قدر إلا ما وصل منه إلى الجوف، منهم مالك (¬2) وأبو حنيفة (¬3)، وقالت طائفة: لا يحرم قليل اللبن وإنما يحرم كثيره، منهم الشافعي (¬4)، واختلفوا في تقديره باختلاف الأحاديث فيه، فثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ (¬5) وَلَا الْأُمْلَاجَةُ وَلَا الْأُمْلاَجَتَانِ" (¬6)، وثبت عن عائشة، رضي الله عنها (أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ مِمَّا أُّنْزِلَ مِنَ الْقُرآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ فَنُسِخْنَ بِخَمْسٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، والْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ) (¬7)، وهذان الحديثان لا يصح التعلُّق بهما لوجهين: ¬

_ = والرضاع .. 3/ 222، ومسلم في الرضاع باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة 2/ 1068. (¬1) وفي البخاري من حديث ابن عباس (يَحْرُمُ الرَّضَاعُ مَا يَحْرُم مِنَ النَّسَبِ) كتاب الشهادات 3/ 222، وكذلك مسلم في كتاب الرضاع باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل 2/ 1069 بلفظ: قَالَ عُرَوَةُ: فَبِذَلِكَ كَانَتْ تَقُولُ: (حَرِّمُوا مِنَ الرضَاعَةِ مَا تُحَرِّمُونَ مِنَ النَّسَبِ)، ونقل الحافظ عن القرطبي قوله: ووقع في رواية (مَا تحرم الولادة). وفي رواية (ما يحرم من النسب) وهو دال على جواز نقل الرواية بالمعنى، قال: ويحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قال اللفظين في وقتين. قال الحافظ: قلت الثاني هو المعتمد فإن الحديثين مختلفان في القصة والسبب والراوي إنما يتأتى ما قال إذا اتحد ذلك. فتح الباري 9/ 141. (¬2) انظر الكافي 2/ 539 - 540 بداية المجتهد 2/ 35. (¬3) انظر اللباب في شرح الكتاب 3/ 31، شرح فتح القدير 3/ 2. (¬4) انظر مغني المحتاج 3/ 416، شرح النووي على مسلم 10/ 29، وشرح السنة 9/ 82. وقد وافق أحمد الشافعي في أن المحرم خمس رضعات. انظر المغني 8/ 171. (¬5) مسلم في كتاب الرضاع باب في المصة والمصتان 2/ 1073 - 1074، والنسائي 6/ 101، وابن ماجه 1/ 624، وأبو داود 2/ 552، والبيهقي 7/ 455 كلهم من حديث عائشة وأم الفضل، ورواه الترمذي من حديث عبد الله بن الزبير، وقال: الصحيح عند أهل الحديث عن رواية ابن الزبير عن عائشة 3/ 455 - 456، وابن حبان من نفس الطريق. موارد الظمآن ص 306، والنسائي 6/ 101، والشافعي في مسنده 2/ 21. (¬6) مسلم في الباب السابق 2/ 1074، السنن الكبرى 7/ 455، وأحمد انظر الفتح الرباني 16/ 188 كلهم عن أم الفضل. (¬7) الموطأ 2/ 608، ومسلم في كتاب الرضاع باب التحريم بخمس رضعات 2/ 1075، والشافعي في مسنده =

وأما الفصل الثاني

أحدهما: أن عائشة أحالت في الحديث بالعشر والخمس على القرآن، وأخبرت أن هاتين الآيتين، بالعشر والخمس، كانتا منه ثم نسخت إحداهما وثبتت الأخرى، والقرآن لا يثبت بمثل هذا وإنما يثبت القرآن بنقل التواتر عن التواتر، فإذا سقط الأصل سقط فرعه، ولو أحالت بذلك حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لزم قبوله (¬1). الثاني: أن قوله: لا تحرم المصة الواحدة ولا الأُملاجة، جزء من هذا الحديث وبعض منه، بل قد روي أنه منتزع منه (¬2) على أنه يحتمل أن يريد لا تحرم المصة ولا المصتان إشارة إلى أن جذب الطفل للثدي لا (أصل) (¬3) له ما لم يكن معه استخراج لبن أو وصوله إلى الجوف، (وقد بينا في مسائل الخلاف كيفية وصول اللبن إلى الجوف) (¬4)، وطريق استمراره عليه عند المعاينة له وهو من خفيّ الفقه فلينظر هنالك. وأما الفصل الثاني: الذي ذكر مالك، وهو رضاعة الكبير، والأصل فيه حديث أبي حذيفة وما جرى فيه لسهلة حسب ما سرده مالك ولقد استوفاه (¬5) مالك رضي الله عنه، وتحفى به ¬

_ = 2/ 21، وأبو داود 2/ 551 - 552، والنسائي 6/ 100، وابن ماجه 1/ 625، والبيهقي في السنن 7/ 454، والترمذي 3/ 456، وشرح السنة 9/ 80 كلهم من طريق مالك، وقال الترمذي: وبهذا كانت عائشة تفتي وبعض أزواج النبي، - صلى الله عليه وسلم - وهو قول الشافعي وإسحاق ... وقال أحمد: إن ذهب ذاهب إلى قول عائشة في خمس رضعات فهو مذهب قوي. (¬1) ما ذهب إليه الشارح هو الذي رجحه الحافظ فقال قول عائشة .. وهن مما يقرأ لا ينهض للاحتجاج على الأصح في قولى الأصوليين لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر والراوى روى هذا على أنه قرآن لا خبر فلم يثبت كونه قرآنًا ولا ذكر الراوى أنه خبر ليقبل قوله فيه. فتح الباري 9/ 147، وانظر المنتقى 4/ 156، شرح النووي على مسلم 10/ 29. (¬2) قال الزيلعي: أخرجه ابن حبان في صحيحه حديثاً واحداً من رواية مُحَمَّدِ بْنِ دِينَارٍ ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ الزبَيْرِ عَنْ أبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ، - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ وَلَا الُأمْلَاجَةُ وَلَا الُّأمْلَاجَتَانِ" .. ثم قال: ولا ينكر سماع ابن الزبير لهذا من النبي، - صلى الله عليه وسلم -، وقد سمعه من أبيه وخالته. نصب الراية 3/ 217. (¬3) في (ك) و (م) لا أثر له. (¬4) زيادة من (ك) و (م). (¬5) مَالِك عَنِ ابْنِ شِهَاب أنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَضَاعَةِ الكَبِيرِ فَقَالَ: أَحْبَرَنِى عُروَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ أبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رّبِيعَةَ، =

تحفياً (¬1) اقتضى الجمع بين السؤال والانفصال، وبيَّن أن هذا الخبر لما وقع وعلمه الصحابة وتحصَّل لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقع الاختلاف فيه بينهم فرأت عائشة، رضوان الله عليها، أن تعديه إلى غير سهلة، ورأى صاحباتها أن يكون مقصوراً عليها (¬2)، وهو الصحيح، لأجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأذن فيه لغير سهلة ولا فعله أحد حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كلها وبعدها مع مسيس الحاجة من الناس كلهم إلى ذلك، ولو كان عامًا لبادر إليه الكل، فوجب التعويل على إطلاق القرآن قوله {وَأُمهَاتكُمُ اللَّّاتي أَرْضَعْنَكُمْ} (¬3) ثم قال {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (¬4) الآية، تبين زمانه في حال الطفل ومدته في حال الاستمرار، وركب العلماء عليه فروعاً كثيرة أمهاتها ثلاث (¬5): الفرع الأول: إذا استمر الطفل على الرضاع بعد الحولين ولم ينقطع ارتضاعه ثلاثة ¬

_ = وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله، - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَكَانَ تَبَنَّى سَالِماً، الذِي كَانَ يُقَالُ لَه سَالِم مَوْلَى أبي حُذَيْفَةَ ... فلَمَّا أنْزَلَ الله تَعَالَى في كِتَابِهِ في زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَا أنْزَلَ فَقَالَ: {أَدْعُوهُمْ لأِبَائِهِمْ} إلى آخر الآية، فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سَهَيْلٍ، وَهِيَ امْرأَةُ أبِي حُذَيْفَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله كُنا نَرَى سَالِمًا وَلَداً وَكَانَ يَدْخُل عَلىَّ وَأنَا فُضُل .. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -: أرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَيَحْرمُ بِلَبَنِهَا وَكَانَتْ تَرَاهُ ابْناً مِنَ الرضَاعَةِ .. الموطأ 2/ 605 - 606. قال ابن عبد البر: هذا حديث يدخل في المسند، أي الموصول، للقاء عروة عائشة وسائر أزواجه، - صلى الله عليه وسلم -، للقائه سهلة بنت سهيل. وقد وصله جماعة منهم معمر وعقيل ويونس وابن جرير عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة بمعناه، ورواه عثمان بن عمر وعبد الرزاق، كلاهما عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة. نقلاً عن شرح الزرقاني على الموطأ 3/ 243، ورواه مسلم في الرضاع باب رضاعة الكبير بعدة روايات 2/ 1076 - 1078، والنسائي 6/ 105 - 106، وابن ماجه 1/ 626، والبيهقي 7/ 459، وأحمد وانظر الفتح الرباني 16/ 184 كلهم من طريق ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أخْبَرَنِي أبو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ زَمْعَةَ أَنَّ أمَّهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أن أُمّهَا أُمَّ سَلَمَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ، - صلى الله عليه وسلم -، كَانَتْ تَقُولُ: فذكره. (¬1) في (ك) و (ص) وجعل فيه تحقيقًا. ولعله هو الصواب. (¬2) قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: أبَى سَائِرُ أزْوَاجِ النَّبِىِّ، - صلى الله عليه وسلم -, أنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ أَحَدٌ بِتِلْكَ الرضَاعَةِ وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا نَرَى ذَلِكَ إلَّا رِخْصَةً أرْخَصَهَا رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم -، لِسَالِم خَاصَّةً ... مسلم كتاب الرضاع باب رضاعة الكبير 2/ 1078. (¬3) سورة النساء آية 23. (¬4) سورة البقرة آية 233. (¬5) في (ك) و (م) (ص) ثلاثة.

أعوام وأربعة وخمسة هل يتعلق حكم التحريم به مدى الاستمرار أو ينقطع عند انقضاء المدة (¬1)؟ اختلف العلماء في ذلك اختلافاً كثيرًا. الثاني: إذا استغنى عن اللبن قبل تمام المدة ثم عاد إليه (¬2). الثالث: إذا استغنى بعد تمام المدة ثم عاد إليه في حرارة ذلك (¬3) في المدة اليسيرة، وهذه تفاصيل فروع لكل قول فيها متعلق ولكل قوم فيها شبهة من الحجة (غير) (¬4) أنا نعطيكم في ذلك أصلين إليهما يعود كل خلاف وإليهما ينتهي كل نظر معتمدهما قول الله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فقال يوم: لما ذكر الحولين لم يجز أن يقضي عليهما بزيادة لحظة فكيف بزيادة أيام يسيرة فكيف بزيادة شهر؟؟ ورام قوم أن ما كان من الزيادة اليسيرة فهي في حكم التبع للأصل الممهَّد. وقال المحققون: إذا حددت الشريعة عددًا أو مدة لم يجز لأحد أن يزيد فيها واحدًا ولا زمانًا. وقال بعضهم: لما قال: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} علم أن هذا التحديد ليس بمحتوم، ولأن كل ما يحكم به الشارع احتمالًا يتعلق بإرادة المكلف وعلى هذه النكتة عوَّل علماؤنا في الزيادة (¬5). وقال المحققون من أصحاب ¬

_ (¬1) قال زفر: ما دام يجتزي باللبن ولم يفطم فهو رضاع، وإن أتى عليه ثلاث سنين. أحكام القرآن للكياالهراسي 1/ 277، وللجصاص 1/ 411، وشرح السنة 9/ 85، وأحكام القرآن لابن العربي 1/ 203، فتح الباري 9/ 146. وقال أبو حنيفة، ما كان من رضاع في الحولين وبعدهما بستة أشهر وقد فطم أو لم يفطم فهو يحرم وبعد ذلك لا يحرم. أحكام القرآن للجصاص 1/ 411. فتح القدير 3/ 5. فتح الباري 9/ 146. وقال ابن قدامة: قول أبي حنيفة مخالف لظاهر الكتاب. المغني 8/ 178. (¬2) قال الأوزاعي: إذا فطم (الطفل) لسنة واستمر فطمه فليس بعده رضاع، الأحكام للكياالهراسي 1/ 277، وأحكام القرآن للجصاص 1/ 411، فتح الباري 9/ 146. (¬3) كذا في جميع النسخ ولم يتضح لي معنى العبارة. (¬4) ليست في (م) وهي في بقية النسخ. (¬5) هذا مذهب مالك: قال الباجي عن ابن الماجشون: الزيادة على الحولين بقدر الزيادة على الشهور ونقصانها ونحوه، وقال سحنون: وروي عن مالك الزيادة اليسيرة على الحولين في حكم الحولين. وجه القول الأول قول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فوجه الدليل منها أنه تعالى جعل الحولين تمام الرضاعة؛ فدل على أن ما زاد عليها ليس بمدة الرضاعة لأن الرضاعة تمت قبلها. ووجه الرواية الثانية أن ما زاد على الحولين في حكم الحولين. المنتقى 4/ 152 بداية المجتهد 2/ 37.

الشافعي: إنما وقع شرط الإرادة في الانتهاء إلى المدة والنقصان منها، فأما في الزيادة عليها فلا (¬1). والجواب: إنا نقول إن شرط الإرادة وقع مطلقًا فتخصيصه ببعض محتملاته يفتقر إلى بعض وإلى دليل، فأما إذا فطم قبل تمام الحولين فلا إشكال في أنه إذا استغنى وبعد لا يلحق الارتضاع الثاني بالأول في حكم التحريم وإن كانت المدة قائمة لفقه صحيح؛ وذلك أن المدة لم تضرب لعينها وإنما ضربت ليجري الرضاع فيها، وعلقت الإرادة كما اتفقنا عليه قبل الحولين، فإذا قطعت بالإرادة ووقع الاستغناء عنها لم يكن لصورة المدة اعتبار، وركب علماؤنا على هذا مسألتين: إحداهما: إذا حلب لبن ميتة، وهي مسألة معضلة، قال جماعة من العلماء: لا يحرم لبن الميتة لأن الإرضاع فرع الوطء ووطء الميتة لا يوجب حلًا ولا تحريمًا فالرضاع بذلك أولى (¬2). وعوَّل علماؤنا على أن اللبن في الميتة مختزن قد تولد في وقت كانت حرمة الأصل فيه باقية فلا فرق بين أن يكون في ثديها أو في كونه في كوز منفصل عنها (¬3)، وهي قد ماتت وليس بينهما فرق عند الإنصاف إلا أن الثدي وعاء نجس وليست نجاسته اللبن مما يرفع انتشار الحرمة به اتفاقًا وهذا منتهى الكلام. وأما مزج اللبن بمائع أوجامد حتى استهلك وهي ¬

_ (¬1) انظر الروضة للنووي 9/ 7، تكملة المجموع 18/ 212، أحكام القرآن للكيا الهراسي 1/ 277، والاشراف لابن المنذر ص 112 وهو أيضًا مذهب أحمد، انظر الإفصاح لابن هبيرة 2/ 178، المغني 8/ 178. (¬2) هذا مذهب الشافعي. انظر تكملة المجموع 16/ 221، والاشراف ص 116 - 117. ورجح خلاف مذهب الشافعي؛ فقد قال: واختلفوا إن حلب من ثديها بعد الموت فاسقيه صبيًا ففي قول أبي ثور وأصحاب الرأي: هو الرضاع يقع به التحريم، وذلك أن الشيء الذي يقع به التحريم اللبن، وبه قال الاوزاعى وابن القاسم، صاحب مالك. وقال الشافعي: لا يجعل لما حلب بعد الموت حكمًا، قال: لأنه لا يكون للميت فعل. قال أبو بكر: القول الأول أصح لأن المعنى الذي يقع به التحريم اللبن، واللبن قائم في حياتها وبعد وفاتها وليس الذي يقع به التحريم الميتة إنما هو اللبن وانظر فقه أبي ثور ص 495. (¬3) انظر المنتقى 4/ 150، مواهب الجليل 4/ 178.

المسألة الثانية

المسألة الثانية: فقد اختلف العلماء أيضاً في ذلك اختلافاً كثيرًا (¬1) واختلف علماؤنا كاختلافهم، والحق أحق أن يتبع، فلا شك في انتشار الحرمة به لأنه من جملة الغذاء الذي أنبت اللحم وأنشز العظم، والدليل على صحة ذلك أن التطبيب في جميع الأجزاء المهيئة للدواء يحصل من الواحد رطلًا ومن الآخر درهمًا يكون له (¬2) حظ في استجلاب الصحة حسًا، فكذلك ينشر اللبن المستهلك الحرمة حكمًا (¬3). حديث .. رَوَتْ جدامة بنت (¬4) وهب الأسدية حديث الغيلة. نقلت من خط أبي زكريا محمَّد بن العباس بن حيوية (¬5) اللغوي ببغداد، وقرأته بعد ذلك على أبي الحسن المبارك بن عبد الجبار (¬6). قلت: أخبرك أبو إسحاق إبراهيم (¬7) بن عمر الحنبلي الفقيه ¬

_ (¬1) قال ابن رشد: اختلفوا في ذلك فقال ابن القاسم: إذا استهلك اللبن في ماء أو غيره ثم سقيه الطفل لم تقع الحرمة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي وابن حبيب ومطرف وابن الماجشون، من أصحاب مالك: تقع به الحرمة بمنزلة ما لو انفرد اللبن أو كان مختلطًا لم تذهب عينه. بداية المجتهد 2/ 38. وانظر الأشراف ص 116، وتكملة المجموع 18/ 221، فقد قال: حُكِيَ عَنِ المزْنِيِّ أَنَّه قَالَ: إنْ كَانَ اللَّبَنُ غَالِبًا حَرُمَ وَإنْ كَانَ مَغْلُوبًا لَمْ يَحْرُمْ. وانظر فتح القدير لابن الهمام 3/ 12، الإفصاح 2/ 179 - 180. (¬2) في (ك) و (م) لكل. (¬3) ما رجحه الشارح هو مذهب مطرف وابن الماجشون .. كما نقل الباجي، فقد قال: روى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: يحرم إذا كان الطعام أو الشراب الغالب .. وروى القاضي أبو محمَّد هذه الرواية فقال: يحرم وإن كان اللبن مستهلكًا .. المنتقى 4/ 153. (¬4) جدامة بنت وهب الأسدية الخزيمية هبرت مع قومها .. روت عن عائشة ولها حديث صحيح في الموطأ، لقد هممت أن أنهي عن الغيلة. تجريد أسماء الصحابة 2/ 254، الإصابة 4/ 259. (¬5) هو محمَّد بن العباس بن زكريا، المعروف بابن حيوبة، سمع من أبي القاسم البغوي وأبي بكر بن أبي داود ويحيى بن محمَّد بن صاعد وغيرهم، قال الخطيب: حدثنا عنه أبو بكر اليرقاني ومحمد بن أبي الفوارس والحسن بن محمَّد الخلّال والأزهري .. ولد سنة 295 ومات سنة 382. تاريخ بغداد 3/ 121، والأنساب 4/ 335. (¬6) تقدم. (¬7) إبراهيم بن عمر بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل، أبو إسحاق، المعروف بالبرمكي، قال الخطيب: كتبنا عنه وكان صدوقًا دينًا فقيهًا على مذهب أحمد بن حنبل. ولد سنة 329 - 445. تاريخ بغداد 6/ 139، الإنساب للسمعاني 2/ 180 - 181، نفخ الطيب 2/ 561، طبقات الحنابلة 2/ 190.

الزاهد وعلي بن عمر الحربي (¬1)، قال أبو العباس أحمد (¬2) بن زكريا المذكور قال: سألت أبا عمر الزاهد (¬3) عن جدامة بنت وهب التي تروي حديث الغيلة فقال: هي جُدّامة، بضم الجيم وتشديد الدال المهملة. (¬4) وهي في اللغة اسم لطرف السعفة (¬5) التي في النخل، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:"لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ أنْهى عَنِ الْغِيلَةِ" (¬6). ذكر علماؤنا في ذلك أنه دليل على جواز حكم النبي، - صلى الله عليه وسلم -، بالاجتهاد (¬7) دلالة لأنه ¬

_ (¬1) علي بن عمر بن محمَّد بن الحسن، أبو الحسن الحربي، المعروف بابن القزويني. قال الخطيب: كتبنا عنه، وكان أحد الزهّاد المذكورين من عباد الله الصالحين، يقرأ القرآن ويروي الحديث ولا يخرج من بيته إلا للصلاة، وكان وافر العقل صحيح الرأي. ولد سنة 360 - 442 هـ، تاريخ بغداد 12/ 43، البداية والنهاية 12/ 67. (¬2) الذي يظهر لي أن قوله: أبو العباس أحمد بن زكريا غلط بدليل قوله المذكور والذي ذكر هو محمد بن العباس. (¬3) هو غلام ثعلب تقدم. (¬4) قال النووي: ذكر مسلم اختلاف الرواة فيها هل هي بالدال المهملة أم بالذال، المعجمة قال: والصحيح أنها بالدال، يعني المهملة، وهكذا قال جمهور العلماء: إن الصحيح أنها بالمهملة والجيم مضمومة بلا خلاف، وبعد ذكر الاختلاف في اسمها ونسبتها قال: والمختار أنها جدامة بنت وهب الأسدية، أخت عائشة بن محصن المشهور الأسدي وتكون أخته من أمه .. شرح النووي على مسلم 10/ 15 - 16، وقال الباجى: هكذا وقع عندي، في رواية يحيى بن يحيى، بالدال غير معجمة، وقال أبو ذر: حين سماعي منه موطأ أبي مصعب. هي بالذال المعجمة، ولكن روايتي جدامة بالدال غير معجمة. المنتقى 4/ 155. (¬5) انظر لسان العرب 12/ 86. (¬6) الموطأ 2/ 607 - 608، ومسلم في الرضاع باب جامع ما جاء في الرضاعة 2/ 1066، وأبو داود 4/ 211 - 212، والترمذي رقم 2077، والنسائي 6/ 106 - 107، وابن ماجه 1/ 648، وشرح السنة 5/ 108 كلهم عن عائشة عن جدامة بنت وهب الأسدية. (¬7) قال أبو الوليد قوله: "لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ أنهَى عَنِ الْغِيَلةِ" يدل على أنه كان يقضي ويأمر وينهى بما يؤدي إليه اجتهاده دون أن ينزل عليه شيء، ولذلك همَّ أن ينهى عن الغيلة لمّا خاف من فساد أجساد أمته وضعف قوتهم من أجلها، حتى ذكر أن فارس والروم تفعل ذلك فلا يضر أولادهم ذلك يحتمل أن يريد، - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يريد أن يضر ضراً عامًا وإنما يضر في النادر، فلذلك لم ينهَ عنه ولم يحرمه رفقًا بالناس لما في ذلك من المشقة على من له زوجة واحدة فيمتنع من وطئها مدة فتلحقه بذلك المشقة، وهذه مشقة عامة، فكانت مراعاتها أرفق بأمته من المشقة الخاصة التي لا تلحق إلا اليسير من الأطفال. المنتقى 4/ 156. وقال القرطبي فيه: أنه - صلى الله عليه وسلم - يحكم باجتهاده وفيه خلاف بين الأصوليين. ووجه اجتهاده فيه أنه لما علم برأي أو استفاضة أنه لا يضر فارس والروم قاس العرب عليهم للاشتراك في الحقيقة. شرح الأبي على مسلم 4/ 67 - 68.

لو كان وحيًا لم يرده عنه إلا ما يرد نسخًا، ولكن الحكمة في ذلك والنكتة فيه أمر يجب أن تحصلوه وهو أن النبي، - صلى الله عليه وسلم -، قد كان استقر عنده من الشريعة بالوحي المنزَّل أن الضرر والمضارة حرام، ورأى، لجري العادة، أن الماء ربما أغال اللبن فأضعف الطفل فأراد أن ينهى عنه بعموم تحريم الضرر، ثم ذكر أن الحال في ذلك منقسمة؛ فمنها ما يضرّ ومنها ما لا يضرّ فأمسك عن ذلك إبقاء لتحليل الوطء على أصله. أما إنه حق للزوج فإن شاء أن يستوفيه لم يسقط حقه الواجب بالشك في ضرر الولد، وإن أراد أن يسقط حقه فقد أخذ لولده بالأحوط لم يكن للمرأة كلام في ذلك لأن الزوج يفضلها بالقوامية التي جعلها الله عَزَّ وَجَلَّ عليه في قوله: {الرجَال قَوِّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (¬1). الآية. ¬

_ = وقال النووي: فيه الاجتهاد لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وبه قال جمهور أهل الأصول وقيل: لا يجوز لتمكلنه من الوحي والصواب الأول. شرح النووي على مسلم 10/ 16 - 17. (¬1) سورة النساء آية 34.

كتاب البيوع

كتاب البيوع قال القاضي الزنجاني (¬1) بيت المقدس: البيع والنكاح عقدان يتعلق بهما قوام عالم الإنس وذلك أن الله تعالى خلق الآدمي محتاجًا للغذاء (¬2) مشتهيًا للنساء وخلق له ما في الأرض جميعًا كما أخبر في صادق كتابه ولم يتركه سدىً يتصرف في اقتضاء شهواته ويستمتع بنفسه في اختياره كما فعل بالبهائم لأنه فضله عليها بالعقل الذي جعله لأجله خليفة في الأرض. ويتعارض الشهوات والعقل تعين أن يكون هنالك قانون يفصل به وجه المنازعة بين الأمرين فتسترسل الشهوة بحكم الجبلّة ويقيدها القانون بحكم الشريعة. وجعل لكل واحد من المكلفين اختصاصًا يقال له [الملك] (¬3) بما يتهيأ به النفع وجعل له شيئين أحدهما يثبته ابتداءً وهو الاصطياد والاحتشاش والاحتطاب والاقتطاع على اختلافٍ وتفصيلٍ. والثاني نقله من يدٍ إلى يد وهو على وجهين: أحدهما: بغير عوضٍ وهو الهبة. والثاني: بعوض وهو البيع وما في معناه، وهذا بابه وله شروط كثيرة ومفسداته كثر لما قضى الله من أن يكون الفساد أكثر من الصلاح، فالشر أضعاف الخير ولذلك تمتلىء النار بأهلها وتبقى الجنة خالية حتى ينشىء الله لها خلقًا آخر (¬4) وتحصره (¬5) شروط ثلاثة: أحدها: أهلية المتعاقدين وهو أن ¬

_ (¬1) ذكر في العواصم من القواصم 2/ 35 أنه لقيه بالمسجد الأقصى كما ذكره في المسالك ل 22 وذكره أيضًا ابن فرحون في الديباج 2/ 253 والقاضي عياض في الغنية ص 67 والضبي في بغية الملتمس ص 93 وابن النديم في الفهرس ص 258 - 259. (¬2) في ك وم إلى. (¬3) ليست في ك. (¬4) ورد ذلك من حديث أنس المتفق عليه قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوى في بعضها إلى بعض وتقول قط قط بعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فَضْل حتى ينشيء الله لها خلقاً فيسكنهم فَضْلَ الجنِة) لفظ مسلم انظر صحيح مسلم 4/ 2118 البخاري 8/ 168 شرح السنة 15/ 255 - 256. (¬5) في ك وم تحصر بدون هاء.

يكون كل واحدٍ منهما عاقلاً بالغًا على اختلافٍ وتفصيل لم يتقدم عليه حجر باتفاق ولا أدركه سفه في ماله باختلاف. ثانيها: أهلية المعقود عليه لمورد العقد وذلك بأن يكون متمولًا متملكًا عريًا عن حق الله فيه بأمر أو نهي وعن حق لآدمي غير الذي يباشر العقد. ثالثها: انتظام العقد بائتلاف الإيجاب والقبول فيه مطردين. فأما شرط (¬1) العقل فلأن المجنون ليس له قول حسًا ولا شرعًا باتفاقٍ من العلماء، وأما شرط (¬2) البلوغ فلأن الصبي لا يصح له التصرف بنفسه لنقصان عقله وقلة بصيرته حتى يبلغ حد المعرفة ويتوجه عليه خطاب التكليف. أما إن العلماء اختلفوا في صحة عقده إذا أذن له وليه فقال مالك (¬3) وأبو حنيفة (¬4): يجوز ذلك ويترتب على عقده بعد الإذن أحكام العقد الصحيح. وقال الشافعي: قوله لغو حتى يبلغ (¬5). والصحيح ما ذهبنا إليه بدليل قوله تعالى: {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن أنستم منهم رشدًا} (¬6) الآية فأذن في ابتلائهم قبل البلوغ ولا يختبرون إلَّا بالاذن لهم في التصرف وهذا ظاهر بيّن. وأما نفي الحجر عنه فلأنه إذأكان محجورًا عن ماله لعلة صغره أو قلة نظره حتى (¬7). كان قوله معدومًا في حق نفسه. فأما لو لم يكن حجرًا لكان شأنه السفه والتبذير فاختلف فيه العلماء على قولين: منهم من رد فعله ومنهم من جوزه وهو المشهور من مذهبنا والصحيح في الدين لوجهين: أحدهما: أنه محمول على أصل تصرفه في الإمضاء حتى يرد دليل الرد. والثاني: أنّا لو رددنا أفعاله لكان في ذلك ضرر على من عامله فلحوق المضرة به في تلف ماله أولى من إتلاف مال غيره في صيانة ماله (¬8). وأما أهلية المعقود عليه فلا بد أن يكون ما لا تميل إليه الطباع وتتعلق به الأطماع ولا بد أن يكون طيبًا وهو كل ما أذن الشرع في اكتسابه، قال الله تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطييات} (¬9) وذلك معناه في أحد الأقوال ومن حقه أن يكون خاليًا عن حق يتعلق بغير ¬

_ (¬1) في ك اشتراط. (¬2) في م اشتراطنا. (¬3) انظر مواهب الجليل على مختصر خليل 5/ 59 تبيين المسالك 3/ 273 والجامع لأحكام القرآن 5/ 34. (¬4) اللباب في شرح الكتاب 2/ 66. (¬5) انظر المجموع للنووى 9/ 158. (¬6) سورة النساء آية (6). (¬7) ليست في ك ولا م. (¬8) انظر أحكام القرآن للشارح 2/ 322 تفسير القرطبي 5/ 36. (¬9) سورة المؤمنون آية (51).

العاقد فيه لما في ذلك من التناقض فإنا لو جوزنا البيع لوجب أن يحكم للمشتري في القبض والسلطة على التصرف وفي ذلك إبطال للحق الثابت في العين المبيعة قبل البيع. وأما انتظام العقد واطراده باتصال الإيجاب والقبول فهو أصل العقد ومعناه لكن اختلف (¬1) العلماء إذا لم يتصل القبول بالإيجاب وتأخر عنه فمنهم من قال يبطل لأن اتصالهما عبادة وهو الشافعي (¬2) ومنهم من قال لا يبطل بالتير اليسير واختلفوا في التأخير الكثير وحدّ الكثرة فيه والذي يقتضيه الدليل جواز تأخير الإيجاب عن القبول - ما تأخرعنه لا يقطعه طول المدة عن أن يكون قبولًا له كما لا يمتنع أن يكون جواب الكلام بعد المدة الطويلة جوابًا له - لكنه يعترض ههنا أمران: أحدهما في النكاح والثاني في البيع. فأما الذي يعترض بالنكاح بتأخير القبول عن الإيجاب فهو إيقاف الفرج على الحل والحرمة والفروج لا تحمل ذلك ولذلك لم يدخله شرط الخيار فلا ينبغي أن يتأخر القبول عن الإيجاب فيه لحظة والعجب من علمائنا أن قالوا يجوز أن يتأخر القبول عن الإيجاب ثلاثة أيام وهو ما بين مصر والقلزم ولا يجوز فيه اشتراط الخيار ساعةً من نهارٍ. وأما البيع فلا نبالي فيه عن طول المدى إلَّا ما يتطرق في أثناء ذلك إلى السلعة من فسادٍ يلحق عينها أوحط يدرك ثمنها وللناس غرض في قدر أموالهم كما لهم غرض في أعيانها (¬3). تأصيل: اختلفت آراء (¬4) الناس في أصول البيوع وأدارها المتكلمون على أربعة أحاديث وأدارها الفقهاء على أربعة وزاد مالك فيها أصلين وقد أفضنا ذلك حيث جمعنا مسائل الفروع وحيث نظرنا في شرح الحديث ونحن الآن نبني الكلام في هذا القبس على معنًى يوافق غرض مالك في الموطأ خاصة ونفرع على قالب (¬5) قوله فيه فنقول: الأصول ستة: أربعةٌ من الحديث واثنان من المعنى. الأول: حديث الربا قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلَّا سواء بسواء عينًا بعين يدًا بيد) (¬6) وهذا ¬

_ (¬1) في م زيادة ذلك. (¬2) انظر المجموع 9/ 163، والروضة 3/ 336 المغني 3/ 481. (¬3) انظر المذهب في التفريع لابن الجلاب 2/ 171 - 172. (¬4) آراء ليست في بقية النسخ. (¬5) يقال البليغ من الرجال قد رد قالب الكلام وقد طبق المفصل ووضع الهناء مواضع النقب. لسان العرب 1/ 689. (¬6) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا 3/ 1210 وأبو داود 3/ 643 - 644 =

لفظ الحديث في الدرس وقد شرحناه باختلاف ألفاظه في شرح الحديث. الثاني: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أسلف فليسلف في كيلٍ معلومٍ ووزن معلوم إلى أجلٍ معلوم) (¬1). الثالث: نهى ابن عمر وزيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيع الثمار. أما ابن عمر فقال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها (¬2) فذكره في الدرجة الثانية، ورواه زيد بن ثابت في درجته الأولى فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبايعوا الثمار حتى يبدو صلاحها) وزاد عنه - صلى الله عليه وسلم - فبين علة المنع فقال: (أرأيت إن منع الله الثمار فبم يأخذ أحدكم مال أخيه) لكنه عقب علينا بما غير الدليل واتعب في التأويل فقال كالمشورة (¬3) لهم فجعل ذلك زيد في ظاهر الحديث رأيًا عرضه لا نهيًا حرَّمه (¬4) وسيأتي تحقيق ذلك في موضعه إن شاء الله. الرابع: حديث ابن عمر (¬5) وابن عباس: من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه. زاد ابن عباس: وأحسب كل شيء (¬6) مثله. وكان بعض الأصوليين قد عَدَّ في جملة الأحاديث ¬

_ = والترمذي في البيوع رقم 1240 والنسائي في البيوع 7/ 274 - 275 وابن ماجه رقم 2254 في التجارات والبغوي في شرح السنة 8/ 56 من حديث عبادة بن الصامت. (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب السلم باب السلم في وزن معلم 3/ 111 ومسلم في المساقاة باب السلم (1604) والبغوي في شرح السنة 8/ 173 من حديث ابن عباس. (¬2) متفق عليه البخاري في البيوع باب بيع الثمار قيل أن يبدر صلاحها 3/ 100 و 101 ومسلم في البيوع باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها (1534) والموطأ 2/ 618 وشرح السنة 8/ 93 من حديث ابن عمر. (¬3) بضم الشين وسكون الواو وبسكون الشين وفتح الواو لغتان فعلى الأول هى فعولة وعلى الثاني مفعلة قال الحافظ وزعم الحريري أن الإسكان من لحن العامة وليس كذلك فقد أثبتها الجامع والصحاح والمحكم وغيرهم. فتح الباري 4/ 395. (¬4) هذا الحديث أخرجه البخاري تعليقًا في باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. قال وقال عن أبي الزناد كان عروة بن الزبير يحدث عن ابن أبي حثمة الأنصارى من بني حارثة أنه حدثه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال كان الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبايعون الثمار خير الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع إنه أصاب الثمر الدُمان أصبه مرض ... فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كثرت عنده الخصومة في ذلك (فإما لا فلا تتبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر كالمشورة) يشعر بها لكثرة خصومتهم - البخاري 3/ 100 ورواه أبو داود في سننه 3/ 668 ومالك في الموطأ 2/ 619. (¬5) حديث ابن عمر متفق عليه أخرجه البخاري فى البيوع باب الكيل على البائع والمعطي 3/ 88 ومسلم فى البيوع باب بطلان بيع المبيع قبل القبض (1526) ومالك فى الموطأ 2/ 640 والبغوي فى شرح السنة 8/ 106. (¬6) متفق عليه أخرجه البخاري في البيوع باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك 3/ 89 - 90 ومسلم في =

الأربعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[نهى عن بيع (¬1) الغرر] ومعنى هذا الحديث صحيح ولفظه ليس في الصحيح لكن ورد في الصحيح طرف من معناه وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن اللماس (¬2) والنباذ) وأما المعنى فإن مالكًا زاد في الأصول مراعاة الشبهة وهي التي يسميها أصحابنا الذرائع (¬3) وهو الأصل الخامس. والثاني وهو السادس: المصلحة (¬4) وهو في كل معنى قام به قانون الشريعة وحصلت به المنفعة العامة في الخليقة ولم يساعده على هذين الأصلين أحد من العلماء وهو في القول بهما أقوم قيلًا وأهدى سبيلًا وقد بينا وجوب القول بهما والعمل بمقتضاهما في أصول الفقه ومسائل الخلاف. فأما حديث الربا فهو أصل متفق عليه بين الأمة وقد اتفقوا فيه على أربعة أقوال: فقال ابن الماجشون (¬5): يجري الربا في كل (¬6) مال. وقال الشافعي: يجري الربا في كل مطعوم (¬7). وقال أبو حنيفة: يجري الربا في كل مكيل وموزون (¬8). وقال مالك: ¬

_ = البيوع باب بطلان بيع المبيع قبل القبض (1525) وشرح السنة 8/ 107 وفيه قال ابن عباس وأحسب كل شيء مثله. (¬1) لعل الشيخ يشعر إلى ما روى أبو داود في سننه قال حدثنا محمَّد بن عيسي حدثنا هشيم أخبرنا صالح بن عامر قال أبو داود كذا قال محمَّد حدثنا شيخ من بني تميم قال خطبنا علي بن أبي طالب أو قال قال علي قال ابن عيسى هكذا حدثنا هشيم قال سيأتي على الناس زمان معضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يومر بذلك قال تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} .. ونهى عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تدرك. أبو داود 3/ 676 - 677 وأحمد في مسنده رقم 937 والبغوي في شرح السنة 8/ 132. والحديث ضعيف كما قال الشارح لأن فيه مجهولًا وقد ضعفه البغوي في شرح السنة 8/ 132. (¬2) متفق عليه البخاري في كتاب اللباس باب اشتمال الصماء 7/ 190 - 191 ومسلم 1512 في البيوع باب إبطال بيع الملامسة والمنابذة والبغوي في شرح السنة 8/ 134 من حديث أبي سعيد الخدري قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبستين وعن بيعتين نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع ... قلت ولم أجد الحديث باللفظ الذي ساقه به الشارح. (¬3) انظر شرح التنقيح للقرافي ص 448 - 449. (¬4) انظر شرح التنقيح للقرافي ص 446. (¬5) هو عبد الملك بن الماجشون أبو مروان المدني الفقيه مفتي أهل المدينة صدوق له أغلاط في الحديث من التاسعة وكان رفيق الشافعي مات سنة ثلاث عشرة ومائتين. التقريب 1/ 364 الديباج لابن فرحون 2/ 6 المدارك 2/ 360 - 365 وفيات الأعيان 2/ 340 - 341. (¬6) انظر الهداية في تخريج أحاديث البداية 7/ 184. (¬7) قال النووى في الجديد العلة فيها أنها مطعومة. المجموع 9/ 395. (¬8) اللباب في شرح الكتاب 2/ 37 الهداية في تخريج أحاديث البداية 7/ 183.

يجري الربا في كل مقتات (¬1) على تفصيل بيّناه في المسائل ولم يقل أحد من الأمة أن الربا يقتصر على هذه الأعيان الستة لا من الصحابة فمن دونهم بل كانوا يتخوفون من الربا ويتأسفون على أن البيان فيه لم يقع فيه بالجلاءِ وقد كان عمر بن الخطاب يقول على منبره: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي ولم يبين لنا أبوابًا من الربا فذروا الربا والريبة (¬2) ". وهذه هي الشبهة التي أثبتها مالك وتفطن لها دون سائر الفقهاء وسئل سعد بن أبي وقاص عن البيضا (¬3) بالسُلتِ (¬4) في تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأعيان الستة ما ضلت فيه المبتدعة (¬5) وخفي على ¬

_ (¬1) انظر الهداية في تخريج أحاديث البداية 7/ 183 - 184 تبيين المسالك 3/ 322. (¬2) رواه ابن ماجه من حديث ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عمر. ابن ماجه 2/ 764 والحديث قال فيه البوصيري إسناده صحيح ورجاله ثقات مصباح الزجاجة 3/ 35 وانظر صحيح ابن ماجه 2/ 28 للشيخ ناصر وكذا حاشية السندي 2/ 39. (¬3) في ك وم وخ. "فقال لا تجوز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الرطب بالتمر وكانت الحكمة". (¬4) هذا الحديث رواه مالك في الموطأ 2/ 624 وأبو داود رقم 3359 والترمذي 1225 وقال حسن صحيح والنسائي 7/ 268 - 269 وابن ماجه 2264 والبغوي في شرح السنة 8/ 78 والشافعي في الأم 3/ 15 والحاكم في المستدرك 2/ 38 - 39 وقال هذا حديث صحيح لإجماع أئمة النقل على إمامة مالك بن أنس وأنه محكم في كل ما يرويه من الحديث إذ لم يوجد في رواياته إلا الصحيح خصوصًا في حديث أهل المدينة ثم لمتابعة هؤلاء الأئمة إياه في روايته عن عبد الله بن يزيد والشيخان لم يخرجاه لما يخشياه من جهالة زيد أبي عياش ووافقه الذهبي وزيد أبو عياش نقل عن مالك أنه مولى سعد بن أبي وقاص وقيل أنه مولى بني مخزوم وسماه بعضهم أبا عياش وقال ابن حجر في التهذيب 3/ 423 قال الطحاوي قيل فيه أبو عياش الزرقي وهو محال لأن أبا عياش الزرقي من جلة الصحابة لم يدركه ابن يزيد وقد فرق أبو أحمد الحاكم بين زيد أبي عياش الزرقي الصحابي وبين زيد أبي عياش الزرقي التابعي. وأما البخاري فلم يذكر التابعي جملة بل قال زيد أبو عياش وهو زيد بن الصامت من صغار الصحابة وقال أبو حنيفة إنه مجهول وتعقبه الخطابي وكذا قال ابن حزم ونقل المبارك فوري في تحفة الأحوذي عن المنذري قال كيف يكون مجهولاً وقد روى عنه ثقتان عبد الله بن يزيد وعمران بن أبي أنيس وهما ممن احتج بهما مسلم في صحيحه وقد عرفه أئمة هذا الشأن وأخرج حديثه مالك مع شدة تحريه في الرجال ونقل عن البناية للعيني عند قول صاحب الهداية زيد بن عياش ضعيف عند النقلة هذا حديث ليس بصحيح بل هو ثقة عند النقلة 4/ 417 ونقل الحافظ في التهذيب 3/ 423 أن الحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان أيضًا وأن زيدًا ذكره ابن حبان في الثقات ووثقه الدارقطني وقال الخطابي في معالم السنن 3/ 78 قد تكلم بعض الناس في إسناده حديث سعد بن أبي وقاص وقال: زيد أبو عياش راويه ضعيف ومثل هذا الحديث أصل للشافعي لا يجوز أن يحتج به قال الشيخ يعني الخطابي ليس الأمر على ما توهمه، وأبو عياش هذا مولى لبني زهرة معروف وقد ذكره مالك في الموطأ وهو لا يروى عن رجل متروك الحديث بوجه وهذا من شأن مالك وعادته معلوم قلت ومن خلال ما تقدم يظهر لي صحة الحديث. (¬5) الشيخ يقصد بالمبتدعة هنا الظاهرية على عادته في إطلاق هذا الوصف عليهم وهذا تجاوز منه رحمه الله =

بعض العلماء وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أراد إجراء الربا في كل مال لذكر مالًا واحداً منها فيدل به على غيره أو ذكر من كل نوع مالًا بأن يذكر من المقتات شيئًا ومن المدخر شيئًا ومن الملبوس شيئًا فأما أن يقصد كل مالٍ ولا يذكر منه إلّا أنواع المقتاتِ فهذا ناءٍ عن الفصاحة قصىٌّ عن الحكمةِ ولكنه ذكر الذهب والفضة لأنهما أثمان الأموال وقيم المتلفات جعلهما الله تعالى في الأرض معيارًا لمقادير الأموال المنتفع بأعيانهما وهما لا ينتفع بذايتهما. وذكر البر تنبيهاً علي ما يقتات به في حال الاختيار والسعة، وذكر الشعير تنبيهًا على ما يقتات في حال الضيق والضرورة، وذكر التمر تنبيهًا على ما يقتات تحليًا وتفكهًا، وذكر الملح تنبيهًا على ما يقتات مصلحًا للقوتِ كالافادة (¬1) والأبازير. وجعل هذا الحكم وهو تحريم الربا مقرونًا بالجنس الذي تعظم عنده الحاجة ويقوى معها الطمع كما جعل الجنس علةً في تحريم النساء في الأموال كلها أو بعضها على اختلافٍ يأتي بيانه إن شاء الله. وأما حديث ابن عباس في السلم (¬2) فإن البيع شرعه الله تعالى معين في الحال ومضمون في الذمة لما حكم بإنزال الرزق بقدرٍ معلم ووضع أيدي الخلق عليه على مقدارٍ متفاوتٍ ولم يجعل عند كل أحد كل ما يحتاج إليه، فقسم الحاجات على المحاويج وأحوج بعضهم إلى الأخذ من البعض ليبلوهم أيهم أعمل بالقانون وأهدى إلى الطريق. وقد يحتاج أحد المتعاملين إلى ما عند الآخر ولا يحضره الثمن وقد يحتاج الآخر الثمن ولا يحضره العين المنتفع بها فأذن في التأخير فيهما ولكن بشرط العلم وتقييد الغائب بالصفات التي تحضره حتى يكون كأنه حاضر وذلك وارد في الثمار خبرًا كما رويناه آنفاً عامٌ في جميع الأموال باتفاقٍ من العلماء ما عدا الحيوان فإنهم اختلفوا فيه فقال أبو حنيفة: لا يعقد على الحيوان بصفةٍ لتفاوت أحواله في صفاته (¬3) وخصوصًا الآدمي الذي فيه من التفاوتِ ما لا يحويه حصر ولذلك قال شاعرهم: ¬

_ = فالظاهرية تقصر الربا على هذا الأشياء المنصوصة في الحديث يقول النووي رحمه الله أجمع المسلمون على تحريم الربا في هذه الأعيان الستة المنصوص عليها واختلفوا فيما سواها فقال داود الظاهري وسائر أهل الظاهر والشيعة .. لا تحريم في الربا في غيرها وحكاه صاحب الحاوي عن طاوس ومسروق والشعبى وقتادة وعثمان البتى وقال سائر العلماء لا يتوقف تحريم الربا عليها بل يتعدى إلى ما في معناها وهو ما وجدت فيه العلة التي هي سبب تحريم الربا في الستة. المجموع 9/ 392 - 393. (¬1) في ل وم الافاويد. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في أول كتاب السلم 3/ 111 ومسلم 1604 في المساقاة وشرح السنة 8/ 173 من حديث ابن عباس قال قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: (من أسلف في تمر فليسلف في قيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلم). لفظ مسلم. (¬3) انظر اللباب في شرح الكتاب 2/ 42 وشرح السنة 8/ 175.

ولم أر أمثال الرجال تفاوتوا ... إلى الفضل حتى عد ألف بواحد (¬1) وكذلك سائر الحيوان في شراسة الخلق (¬2) وقلة التأني وكثرة التأنى أو بعكسهما وهذا كله ضعيف. والدليل على حصر الوصف للعين في ضبطها القرآن والسنة والمعاينة. أما القرآن فحديث بقرة بني إسرائيل. قال ابن عباس: لو أنهم إذ سمعوا الأمر بادروا إلى أي بقرة كانت لأجزاهم ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم ولم يزالوا يسألون وتوصف حتى تعينت لهم (¬3). وأما السنة فقد روي في الآثار وهو حديث لا بأس به أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (لعن الله المرأة تصف المرأة لزوجها حتى كانه ينظر إليها) (¬4). وأما المعاينة فقد أجمع العلماء على إدراك المعينات بالصفات وقد سمعت شيخ النخاسين (¬5) ببغداد يقول الذي يحصر الصفات معرفة الحدود والقدود والنهود (¬6) والشعور والثغور (¬7) والنحور والأطراف والاكتاف والأرداف (¬8) وما ذكره أصحاب أبي حنيفة وهمٌ عظيم منهم لأنهم استدلوا على نفي معرفة الخلقةِ باستحالة معرفة الخلق والخلق هي التي تتفاوت الناس فيها ولا يقدر أحد على تحصيلها. فأما الخلق فما أقربها إن عاينتها أدركتها وإن وصفتها عينتها تقول بيضاء سوداء الشعر معتدلة القد (¬9) ضربة اللحم دقيقة الأطراف دقيقة الخصر (¬10) عظيمة العجز (¬11) أسيلة ¬

_ (¬1) هذا البيت لم أطلع عليه. (¬2) الشرس محركة سوء الخلق وشده الخلاف. ترتيب القاموس 2/ 695. (¬3) نقله ابن كثير عن ابن جرير بإسناده قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا هشام بن علي عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ولكنهم شدووا فَشَدَّد الله عليهم إسناده صحيح وقد رواه غير واحد عن ابن عباس تفسير ابن كثير 1/ 111 وانظر تفسير القرطبي 1/ 448 زاد السير 1/ 98 المحرر الوجيز 1/ 256. (¬4) لم أجده بهذا اللفظ والذي في صحيح البخارى من حديث ابن مسعود قال - صلى الله عليه وسلم - (لا تباشر المرأةُ المرأةَ فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها)، البخاري 9/ 49 في النكاح باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها ونقل الحافظ في الفتح 9/ 338 من القابسي أن هذا الحديث أصل المالك في سد الذرائع. (¬5) لم اطلع له على ترجمة. (¬6) النهود: يقال نهد الثدى نهودًا كعب ونهدت المرأة كعب ثديها فهي ناهد وناهدة. مختصر القاموس ص 621. (¬7) الثغر الفم أو مقدم الأسنان متخصر القاموس ص 84. (¬8) الردف الكفل والعجز وخص بعضهم به عجيزة المرأة والجمع من كل ذلك أرداف والأعجاز - اللسان 9/ 114. (¬9) تقول جارية حسنة القد وهو القوام - أساس البلاغة ص 357. (¬10) الخصر وسط الانسان ترتيب القاموس 2/ 63. (¬11) العَجْزُ مثلثة مؤخر الشيء ويؤنث جمعه أعجاز ترتيب القاموس 3/ 160.

الوجه أو مدورته قنوأ (¬1) أو خَنَسَاءُ أو بينهما. فلجاء (¬2) أو قرناء (¬3) أو كحلاء (¬4) أو شهلاء (¬5). فماذا بقي بعد هذه الصفات من تحصيل العلم أو كيف ينظر أحد إلى هذه الصفات مكتوبة مع النظر إلى العين المحال عليها بها. ملحوظة: ولا يجمع بينهما بيع الثمار. وأما حديث بيع الثمار فإن الحديث المذكور أصل في الدين وتنبيه على كثير من الوجوه التي يتطرق بها الفساد إلى بياعات المسلمين وذلك أكل المال بالباطل وقد بينا حقيقة الباطل في غير ما موضع وبينا أن من معناه ما هو المراد به ههنا وهو الذي لا يفيد مقصوده وذلك أن العقد إما أن يدخل فيه (عقد) (¬6) المتعاقدين على أن يكون المال من جهة أحدهما والثمن من جهة الآخر فذلك جائز على ما يأتي في موضعه وأما أن يكون على نقل الملك والتبادل بينهما من عين إلى عين فلا يجوز على قصد أن يكون أحدهما مستفيدًا مقصوده بعقده والآخر فائت المقصود كله. أما إن الشرع قد رخص في أن يستفضل أحدهما من مال الآخر ما قدر عليه من غير غش إلَّا بقدر الحاجة من أحدهما والاستغناء من الآخر فإذا دخل بين المتعاقدين قصد فاسد فلا بد أن يقترن به من الشريعة نهى جازم فيكون ذلك فسادًا فيه علي الاختلاف في وجه الفساد وحاله ومآله ويأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. فإذا ابتاع مثلًا الثمرة قبل بدو صلاحها فهى معرضة للآفات ويجرى ذلك عليها كثيرًا في الاعتياد، حصل صاحب الثمرة على الثمن وخسر الآخر ماله وهذا إن تراضى عليه المتعاقدان فإن الله لايرضاه وهو معنى قوله {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (¬7) وهو ¬

_ (¬1) قنا الأنف ارتفاع أعلاه ترتيب القاموس 3/ 706. (¬2) يقال رجل مفلج الثنايا منفرجها ترتيب القاموس 3/ 516. (¬3) القرن الروق من الحيوان وموضعه من رأسنا أو الجانب الأعلى من الرأس جمعه قرون ترتيب القاموس 3/ 606. (¬4) الكحلاء الشديده سواد العين أو التى كأنها مكحولة وإن لم تكتحل ترتيب القاموس 4/ 21. (¬5) الشهل محركة والشهلة بالضم أقل من الزرق وأحسن الحدقة وأحسن منه أو أن تشرب بالحدقة وليست خطوطًا كالشكلة ولكنها قلة سواد الحدقة حتى كأنه يضرب إلى الحمرة شهل كفرح وأشهل إشهلالًا والنعت وشهلاء ترتيب القاموس 2/ 770. (¬6) كلمة عقد ليست في ك وجـ وم. (¬7) سورة البقرة 188.

معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه) (¬1) فإن قيل فقد قال كالمشورة لهم فلم يجعله نهيًا جزمًا. قلنا: قد قام الدليل من القرآن والخبر المذكور على أن النهي فيه جازم والمعنى فيه مفهوم وقول زيد بن ثابت كالمشورة لهم ظنٌ منه وتأويل وإذا استقام في الرواية الدليل لم يقدح فيه ما يظنه الراوي من التأويل. جواب آخر: وذلك أن قوله كالمشورة لهم يعني به كالمشورة الموبخة لا كالمشورة المخيرة (¬2) وقد مهدنا ذلك في شرح الحديث. وأما من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه فليس فيه تعليل وإنما هو شرع مخض وتعبد صرف واختلف العلماء فيه على أربعة أقوال: فمنهم من قال إنه جارٍ في كل شيء وهو الشافعي وتعلق في ذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه (نهى عن بيع ما لم يقبضوا وعن ربح ما لم يضمنوا) (¬3) وروى أنه لما ولى عتّاب بن أسيد على مكة قال: (إنههم عن بيع ما لم يقبضوا وعن ربح ما لم يضمنوا) وهذان الحديثان خرجهما الدارقطني وغيره وليسا بصحيحين (¬4) ومنهم من قال يحمل كل ¬

_ (¬1) تقدم ذلك من حديث زيد بن ثابت. (¬2) قال الداودي قول زيد بن ثابت كالمشورة يشير بها عليهم تأويل من بعض نقلة الحديث وعلى تقدير أن يكون من قول زيد بن ثابت فلعل ذلك كان في أول الأمر ثم ورد الجزم بالنهى كما بينه حديث ابن عمر (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمبتاع) قال الحافظ عقب كلام الداودي قلت وكأن البخاري استشعر ذلك فرتب أحاديث الباب بحسب ذلك فأفاد حديث زيد بن ثابت سبب النهي وحديث ابن عمر التصريح بالنهي وحديث أنس بيان الغاية التي ينتهي إليها النهي. فتح الباري 4/ 397. (¬3) أخرجه أبو داود في البيوع رقم 3504 والترمذي في البيوع 1234 وقال حسن صحيح والنسائي في البيوع 7/ 288 وابن ماجه في التجارات باب النهي عن بيع ما ليس عندك صحيح سنن ابن ماجه للألباني 2/ 13 وأحمد في المسند 6628 و 6671 والبغوي في مصابيح السنة 2/ 332 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان ولا بيع ولا ربح ما لم تضمن ولا بيع ما ليس عندك) ورواه الحاكم وصححه هو والذهبى المستدرك 2/ 17. وأيضًا صححه الترمذي ومن المتأخرين الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند والشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح ابن ماجه ولكن عاد فحكم عليه بالحسن في إرواء الغليل 5/ 146 والذي يظهر أن الحديث صحيح وقد تقدم في مواضع كثيرة من هذا الكتاب تصحيح ابن العربى لرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وصححه البغوي في مصابيح السنة 2/ 332 وصححه أيضًا أحمد بن صديق الغماري انظر الهداية في تخريج أحاديث البداية 7/ 232. (¬4) لم أجد العزو الذي عزاه الشارح في سنن الدارقطني ولعله في كتابه العلل أما الحديث الأول فقد تقدم تخريجه وأما الحديث الثانى فقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه للطبراني في الأوسط وقال فيه يحيى بن صالحٍ الأيلي قال الذهبى روى عنه يحيى بن بكير مناكير ثم بعد كلام الذهبي قال قلت ولم أجد لغير الذهبي فيه كلامًا وبقية رجاله رجال الصحيح مجمع الزوائد 4/ 85 ورواه ابن عدي في الكامل 7/ 2700 في ترجمة يحيى =

شيء على الطعام الذي ورد فيه الحديث بقياس أنه مبيع لم يقبض فلم يجز بيعه كالطعام وهذا معنى قول ابن عباس وأحسب كل شيء مثله، وهذا فاسد لأنا قد بينّا أنه شرع محض وتعبد صرف لا يفهم المعنى منه ولا تعقل علته وإنما يكون الالحاق عند فهم العلة وعقل المعنى فيركب عليه مثله (¬1). الثاني: قال أبو حنيفة هذا عام في كل شيء إلّا في العقار (¬2) لأن العقار ليس فيه قبض إذ لا ينقل ولا يحول ولذلك أحال أيضًا غصبه فقال إن العقار لا يضمن بالغصب لأنه لا ينقل ولا يحول. وقد بينا في مسائل الخلاف أن هذا تخيل فاسد فإنه لولا تصور القبض في الغصب ما صح أن يكون لأحد به اختصاص ولا له عليه يد فالمنقول قبضه إتيانه إليك والعقار قبضه مشيك إليه لكن القبض في كل شيء على قدر سعته. الثالث: قال ابن الماجشون وجماعة معه: يحمل على الطعام كل مكيل لأنه في معناه ولفظه ويحمل عليه الموزون لأنه في معناه الخاص به، وليس هذا من باب القياس وإنما هو من باب كون الشيء في معنى الشيء الذي يعرف قبل التفطن لوجه النظر، وقيل في الحجة له إنه لما كان الطعام منه ما يكال ومنه ما يوزن وانقسمت الحال فيه حمل عليه ما كان مثله، وقد بينا أن ذلك شرعٌ غير معلل فلا يصح الإلحاق بما يغني عن الإعادة (¬3). الرابع: قول مالك إنه مخصوص بما ورد في الحديث دون إلحاق ولا تعليل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)، فلذلك جوز بيعه في الهبة قبل قبضه. وأما الشبهة فهي في ألسنة الفقهاء عبارة عن كل فعلٍ أشبه الحرام فلم يكن منه ولا بَعُد عنه ويسميها علماؤنا الذرائع (¬4). ¬

_ = الايلي وقال وقد روى يحيى بن بكير عن يحيى بن صالح الايلي غير ما ذكرت وكلها غير محفوظة. وقال العقيلي روى عنه يحيى بن بكير مناكير - الضعفاء 4/ 409 وانظر الميزان 4/ 386 والحديث ضعيف كما قال الشارح. (¬1) هذا مذهب ابن عباس والشافعي ومحمد بن الحسن. شرح السنة 7/ 108 المجموع 9/ 270. (¬2) هذا المذهب حكاه البغوي وقال به أيضًا أبو يوسف شرح السنة 8/ 107 - 108. (¬3) في ك وم إعادته. (¬4) الذريعة الوسيلة إلى الشيء ومعنى ذلك حسم مادة الفساد دفعًا له فمتى كان الفعل السالم من المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل وهو مذهب مالك شرح التنقيح للقرافي ص 448.

ومعناه كل فعل يمكن أن يتذرع به أي يتوصل به إلى ما لا يجوز، وهي مسألة انفرد بها مالك دون سائر العلماء وقد مهدنا القول عليها في مسائل الخلاف قرآنًا وسنةً وإجماعًا من الأمة وعبرة. ولو لم يكن في ذلك إلَّا الاتعاظ ببني إسرائيل فإنه حرم عليهم الصيد في يوم السبت فكان الحوت يجري في النهر أكثر من الماء، وأبيح في سائر الأيام فكانوا لا يجدون فيه (¬1) حوتاً فتذرعوا إلى صيد الحوت في الأيام المباحة بأن سدوا منافس الحوت ومنافذه عند رجوعه فلما أراد أن يرجع ضربت في وجهه الأسداد فأصبح الماء كله حوتًا وأصبحوا هم قردةً وخنازير. وأجمعت الأمة على أنه لا تجوز شهادة الأب لابنه وإن كان عدلًا (¬2). وأما المقاصد والمصالح فهي أيضًا مما انفرد بها مالك دون سائر العلماء ولا بد منها لما يعود من الضرر في مخالفتها ويدخل من الجهالةِ في العدول (¬3) عنها وقد مهدنا ذلك في أصول الفقه وقد رأيتم من ذلك نظائر وسترون باقيها في أثناء الإملاء إن شاء الله. وإذا انتهينا إلى هذا المقام فلا بد من تأسيس قواعد عشر نبني عليها معنى الكتاب ويرجع الناظر إليها في أثناء الأبواب: القاعدة الأولى: تحقيق الربا: سمعت القاضي الزنجاني (¬4) ببيت المقدس والأئمة حسين الصاغاني (¬5) وإبراهيم الدهستاني (¬6) والبستي (¬7) والقاضي أباليمن (¬8)، وكلهم حنفيون ومعظمه لحسين وإبراهيم. قال الله تعالى: {وأحلَّ الله البيع وحرّم الربا} (¬9) وهذه الآية منتظمة لكل بيع ¬

_ (¬1) يقول تعالى: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم فى السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين} البقرة آية 65. وفي صفة اعتداءهم في السبت قولان أحدهما أنهم أخذوا الحيتان يوم السبت قاله الحسن ومقاتل والثاني أنهم حبسوها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد. زاد المسير 1/ 94 وقال القرطبي دلت الآية على القول بسد الذرائع تفسير القرطبي 7/ 307. (¬2) انظر الكافي لابن عبد البر 2/ 893. (¬3) انظر تفاصيل المسألة في شرح التنقيح للقرافي ص 446. (¬4) لم أطلع له على ترجمة. (¬5) لم أطلع له على ترجمة. (¬6) تقدمت ترجمته. (¬7) لم أطلع له على ترجمة. (¬8) لم أطلع له على ترجمة. (¬9) سورة البقرة 275.

صحيح وبيع فاسد. أما البيع الصحيح فقد أشرنا إليه ولكن حده عندهم كل بيع سلم من الربا والجهالة. فإن البيع إنما هو مقابلة المال بالمال فلا بد أن يكون المالان من الجهتين مقدرين: والتقدير على قسمين: تقدير تولاه الشرع وهو في الأموال الربوية. وتقدير يتولاه المتعاقدان باختيارهما وذلك في سائر الأموال. القاعدة الثانية: الفساد يرجع إلى البيع من ثلاثة أشياء: إما من الربا. وإما من الغرر والجهالة. وإما من أكل المال بالباطل. وحدُّه أن يدخلا في العقد على العوضية فيكون فيه ما لا يقابله عوض. القاعدة الثالثة: قال لنا فخر الإسلام أبو بكر محمَّد بن أحمد بن الحسين الشاشي بمدينة السلام (¬1) في الدرس: الصفقة إذا جمعت مالي ربًا من الجهتين ومعهما أو مع أحدهما ما يخالفه في القيمة سواء كان من جنسه أو من غير جنسه فإن ذلك لا يجوز. مثاله: أن يبيع رجل مدًا من قمحٍ ودرهمًا من آخر بمدٍ من قمح (¬2) ودرهم. القاعدة الرابعة: قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الفضة بالفضة ولا البر بالبر ولا الشعير بالشعير) الحديث إلى قوله فيه: (سواء بسواء عينًا بعين يدًا بيد) فقال العلماء: الجهل بالتماثل في فساد البيع كالعلم بالتفاضل, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط السواءَ في الكيل والمثل في القدر. واتفق عليه جميعهم إلَّا أن مالكًا قال: إن العلم بالتماثل يجوز أن يدرك بالتحري في الأموال الربوية ونص على ذلك في البيض بالبيض (¬3) والخبز بالخبز واللحم باللحم والحالوم ¬

_ (¬1) مدينة السلام هي بغداد حاليًا وقد تقدم التعريف بها. (¬2) انظر روضة الطالبين للنووي 3/ 384 - 385. (¬3) قال الباجى اختلف قول مالك في إجازة التحري فيما يحرم فأجازه في البيض والخبز بالخبز واللحم باللحم وفي الحالوم الرطب باليابس وفي الزيتون الغض بالمالح في كتاب محمد. وأجازه مع القول بإباحته في القديد باللحم الطريء مرة ومنعه أخرى. المنتقى 4/ 244.

اليابس (¬1) بالرطب والزيتون الغض بالمالحٍ والقديد باللحم. واختلف علماؤنا في نقل ذلك عنه، فتارةً جعلوه عامًا وتارًة جعلوه خاصًا فيما ذكرنا، والصحيح عمومه (¬2) لأن مالكًا جعل الحزر والتخمين طريقًا من المعرفة بالظاهر من التماثل إذ الكيل لا يوصل به إلى حقيقة التماثل إذ يجوز أن يتفاضل الكيلان واليدان في وضع القمح فيهما. فالذي أُخذ على المكلف القصد إلى التماثل فعلًا والقصد إلى اجتناب التفاضل بمعيار شرعي والحزر والتخمين في الشرع كما أن الكيل معيار في الشرع أيضاً، ويحتمل أن يكون مالك أجرى ذلك في اليسير وحيث لا يحصر الكيل والله أعلم. القاعدة الخامسة: القول بالعرف: قال لنا أبو القاسم (¬3) بن حبيب قال لنا الفقيه عبد الخالق (¬4) قلت للفقيه أبي بكر بن عبد الرحمن: إن الله قال: {خذ العفو وأمر بالعُرف} (¬5) فهذه حجة في القضاء بالعرف. وقال: ليس المراد هنا بالعرف العادة، وإنَّما المراد به المعروف الذي هو ضد المنكر. قلت له: فقد قال الله تعالى في قصة يوسف: {إن كان قميصه قُدَّ من قبل فصدقت .. * وإن كان قميصه قُدَّ من دُبُرٍ فكذبت} (¬6) قال: ذلك شرع لمن قبلنا وليس شرعاً لنا فسكت وهذا مما لم يقع فيه الأنصاف لأنه ليس في مذهب مالك خلاف في أن شرع من قبلنا شرع لنا وأول من تفطن لهذا من فقهاء الأمصار مالك وعليه عول في كل مسألةٍ. وقد اتفق العلماء على حكمٍ وهو إذا باع الرجل سلعته بدينارٍ فإنه يقضى له بغالب نقد البلد ولا ينظر إلى سائر النقود المختلفة فيحكم بفساد البيع حتى يعين منها واحدًا. ومن أعظم مسائل العرف والعادة مسألة العهدة وقد انفرد بها مالك دون سائر الفقهاء وقد روى في ¬

_ (¬1) الحالوم ضرب من الأقط أو لبن يغلظ فيصير شبيهًا بالجبن الطري ترتيب القاموس 1/ 699. (¬2) قال الباجي واختلف أصحابنا في تأويل ذلك فمنهم من قال إن ذلك على روايتين فإنه جوزه على إحدى الروايتين على الإطلاق ومنهم من قال إن ذلك لاختلاف حالين فيجوز مع تعذر الموازين ويمنع مع وجودها المنتقى 4/ 244. (¬3) لم أطلع على ترجمته. (¬4) عبد الخالق بن عبد الوارث أبو القاسم السيوري خاتمة علماء أفريقية وآخر شيوخ القيروان مات سنة 462 هـ بالقيروان الديباج 2/ 22 شجرة النور الزكية 1/ 116. (¬5) سورة الأعراف آية 199. (¬6) سورة يوسف 26، 27.

ذلك ابن وهب حديثًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في العهدة بثلاثة أيام أو أربعة (¬1) وهي: أن تكون السلعة بعد قبض المشتري في ضمان البائع حتى تمضي ثلاثة أيام من وقت البيع في كل آفةٍ تطرأ على المبيع ما عدا الجنون والجذام والبرص فإنه يقضى فيها بعهدة السنة (¬2). وعول علماؤنا رحمة الله عليهم على أن هاتين العهدتين إنما يقضى بهما لمن شرطهما أو حيث تكون العادة جارية بهما وقد قال قوم إنما كانت في المدينة لكثرة حُمَّاها والحمى لا تنكشف إلَّا في الرابع وهذا غلط بيّن. فإن الباري تعالى قد نقل الحمى عن المدينة ببركة الصادق - صلى الله عليه وسلم - إلى الجحفة حتى لم يبق لها أثر إلى يومنا هذا مع أنها تحل بين حرتين وهي إحدى معجزاته - صلى الله عليه وسلم - (¬3). القاعدة السادسة: الغش وهو كتم حال المبيع عن المبتاع نعم وعن البائع إذا جهله وقد علمه المبتاع وذلك ممنوع عادًة ممنوع شرعًا فإن جبلة الجنسية تقتضي حكم الاعتياد ألا يرضى أحد لجنسه إلّا بما يرضى به لنفسه، والشريعة قد منعت منه تحقيقًا لهذا الغرض. مرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على رجل يبيع طعامًا مصبرًا فأدخل يده في الصبرة فرأى فيها بللَّا قد أصابته السماء فأخرجه إلى ظاهر الصبرة وقال: (من غشنا فليس منا) (¬4) ويدخل فيه بيع ¬

_ (¬1) لم أجد الحديث من رواية ابن وهب وورد في مسند أحمد 4/ 150 و152 من حديث قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (عهدة الرقيق أربع ليال قال قتادة وأهل المدينة يقولون ثلاث ليال) والرواية الثانية عند أحمد ليس فيها قول قتادة. ورواه ابن ماجه عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب فقال فيها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (عهدة الرقيق ثلاثة أيام). والحديث ضعيف لأن الحسن بن أبي الحسن لم يسمع من سمرة بن جندب كما قال ابن أبى حاتم ولا من عقبة بن عامر قال ابن أبي حاتم لم يصح للحسن سماع سمرة بن جندب ونقل عن علي بن المديني أنه لم يسمع من عقبة بن عامر انظر المراسيل لابن أبي حاتم ص 42 - 43 ت ت 2/ 265 و268. وقال أحمد لم يسمع الحسن من عقبة ولا يثبت في العهدة حديث شرح السنة 8/ 149 وضعفه الشيخ ناصر في ضعيف الجامع الصغير 4/ 60. وذكر الباجي في المنتقى 4/ 173 أن كون العهدة ثلاثة أيام مذهب أهل المدينة والفقهاء السبعة وغيرهم. وقال استدل أصحابنا لما روى قتاده عن الحسن عن عقبة ابن عامر وذكر الحديث. (¬2) قال الباجي هذا مذهب مالك وجماعة أهل المدينة المنتقى 4/ 175. (¬3) ورد ذلك من حديث عائشة المتفق عليه وفيه اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد اللهم صححها وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل حماها فاجعلها بالجحفة. البخاري في فضائل المدينة باب الترغيب في سكنى المدينة مختصر المنذري ص 204 ومسلم "1376". (¬4) رواه مسلم في كتاب الإيمان باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من غشنا فليس منا) (2101) من حديث أبي هريرة.

الصبرة بعلم البائع بكيلها ولا يعلمه المشتري فلا يجوز حتى يعلماها جميعًا أو يجهلاها جميعًا، وهي مسألة يحاجى بها على الطلبة فيقال لهم هل يجوز بيع المجازفة فيقولون لا وذلك جائز فإنهما إذا جهلاها جميعًا أو علماها جميعًا جاز كما قدمنا، وإنما يمتنع ذلك من الجهة الواحدة. ومن ذلك أن يدخل الرجل السوق بفص يظنه زجاجًا فإذا رآه المشتري تحقق أنه فص ياقوت فهذا غش إن انعقد البيع عليه لم يجز وكان البائع بالخيار، ونظائره كثيرة. القاعدة السابعة: اعتبار الحاجة في تجويز الممنوع كاعتبار الضرصرة في تحليل المحرم، ومن ذلك استثناء القرض من تحريم بيع الذهب بالذهب إلى أجلٍ وهو شيء انفرد به مالك لم يجوزه أحد من العلماء سواه، لكن الناس كلهم اتفقوا على جواز التأخير فيه من غير شرط بأجل، وإذا جاز التفرق قبل التقابض بإجماعٍ فضرب الأجل أتم للمعروف وأبقى للمودة. وعول في ذلك علماؤنا على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن رجلًا كان فيمن كان قبلكم استسلف من رجل ألف دينار إلى أجل فلما حل الأجل طلب مركبًا يخرج فيه إليه فلم يجده فأخذ قرطاسًا وكتب فيه إليه ونقر خشبًة فجعل فيها القرطاس والألف دينار ورما بها في البحر وقال اللهم إنه قد قال لي حين دفعها إلى أشهد لي قلت كفى بالله شهيدًا أو قال أيتني بكفيل قلت كفى بالله كفيلًا اللهم أنت الكفيل بإبلاغها. فخرج صاحب الألف إلى ساحل البحر يحتطب فدفع البحر له العود فأخذه فلما فلقه وجد المال والقرطاس ثم إن ذلك الرجل وجد مركبًا فأخذ المال وركب فيه وحمل إليه المال فلما عرضه عليه قال له قد أدى الله أمانتك) (¬1). فإن قيل هذا شرع (¬2) من قبلنا. قلنا: كلما ذكر النبي لنا مما كان عملًا لمن قبلنا في معرض المدح فإنه شرع لنا (¬3) وقد مهدنا ذلك في كتب الأصول ومن ذلك حديث العرايا وبيع التمر فيها على رؤوس النخيل بالتمر الموضوع على الأرض (¬4) وفيه من الربا ¬

_ (¬1) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب ما يستخرج من البحر 2/ 159 وأحمد في المسند 2/ 348 من حديث أبي هريرة وقد ذكره البخاري هنا معلقًا ووصله في باب التجارة في البحر من صحيحه انظر الفتح 4/ 299 حيث قال حدثني عبد الله بن صالح حدثني الليث به. (¬2) فى م من كان. (¬3) قال الحافظ اقتصر على هذا الحديث وهو على قاعدته (أي البخاري) في الاحتجاج بشرع من قبلنا إذا وردت حكايته فى شرعنا ولم ينكر ولا سيما إذا سيق مساق المدح لفاعله فتح الباري 11/ 48. (¬4) حديث العرايا متفق عليه أخرجه البخاري في البيوع باب بيع التمر على رؤوس النخل بالذهب أو الفضة 3/ 99 =

ثلاثة أوجه: بيع الرطب باليابس. والعمل بالحزر والتخمين في تقدير المالين الربويين. وتأخير التقابض. إن قلنا إنه يعطيها له إذا حضر جذاذ التمر، ومن ذلك استثناء نخلةٍ من النخلات أو أصع من جملة تمرٍ وذلك جائز في القليل دون الكثير وبناه علماؤنا وكثيرًا من مسائل البيوع على أن المستثنى هل هو بيع مردود بالاستثناء أو مبقىً على أصل الملك وهذه جهالة عظيمة وخلط النسخ بالاستثناء فإنه لا خلاف بين العقلاء ولا بين العلماء في أن النسخ رفع بالخطاب الثاني لما تضمنه الخطاب الأول، وأن الاستثناء بيان بالخطاب الثانى لما احتمله الخطاب الأول من عموم أو خصوص. ولو أن أحدًا من العلماء يقول إذا قال الرجل لزوجته أنت طالق ثلاثًا إلّا واحدةً إنه يلزمه الثلاث لأنها قد دخلت في الثلاث ويريد أن يخرجها بعد إدخالها لكان خارقًا لإجماع الأمة. وكذلك لو قال رجل لزوجته أنت طالق إلَّا أن يشاء فلان، فإنه لم يقل أحد من الأمة أن الطلاق قد وقع والاستثناء بعد ذلك رفع له وإنما هو شرط موقوف عليه، فلا تعولوا في هذه المسألة في شيء من الفروع فإنه أصل باطل. القاعدة الثامنة: الجهالة، وقد اتفقت الأمة على أنه لا يحوز إلّا بيع معلوم من معلوم بمعلوم بأي طريق من طرق العلم وقع. وإنما اختلف العلماء في تفاصيل طرق العلم، ففيها ما قال مالك وأبو حنيفة أن البيع على الصفة (¬1) لا يجوز وخصصه مالك في بيع ¬

_ = ومسلم في البيوع باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلّا في العرايا 269 وشرح السنة للبغوى 8/ 86 من حديث سهل بن أبى في حثمة قال "نهى رسول الله عن بيع التمر بالتمر إلّا أنه رخص في العرية أن تباع بخرصها تمرًا يأكلها أهلها رطباً". (¬1) كذا في جميع النسخ توجد "لا" ولعلها خطأ من النساخ لأن ذلك خلاف مذهب مالك كما يأتي قال ابن رشد بيع السلعة الغائبة على الصفة خارج مما نهي عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيع الغرر في مذهب مالك وجميع أصحابه خلافًا للشافعي في قوله إن الغائب لا يجوز بيعه على الصفة لأنه لا عين مرئية ولا صفة مضمونة ثابتة في الذمة وخلافًا لأبى حنيفة في قوله إن شراء الغائب علي الصفة وعلى غير الصفة جائز وللمبتاع خيار الرؤية إذا نظر إليها. وقد روى عن الشافعي مثل هذا القول والصحيح ما ذهب إليه مالك. المقدمات مع المدونة 3/ 212.

البرنامج (¬1) وقال الشافعي لا يجوز في ذلك البيع على الصفة ليس لأن الصفة ليست طريقًا إلى العلم ولكن لأن الصفة بدل عن المعاينة والأخذ بالبدل لا يجوز إلَّا مع القدرة على المبدل وههنا تمكن الرؤية لما في البرنامج (¬2) بحله. قلنا: وفي حله مشقة فليعول على خبر الواحد ويجوز العمل على خبره إجماعًا في سلامة السلعة وعينها وفي طيب النقد وزيفه. وكذلك يجوز العمل في صفة المبيع وحليته. والصفة طريق إلى العلم بلا خلاف فوجب أن يصار إليه عند الحاجة. وكذلك يجرر المصير إلى البدل عند الحاجة في العبادات فكيف في المعاملات. القاعدة التاسعة: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المبيعات أنه نهى عن سبع وثلاثين منها الغرر، الملامسة، المنابذة، حبل الحبلة، الملاقيح، المضامين، بيع الحصى، بيع الثنياء، بيع العربان، شرطان في بيع، بيع ما ليس عندك، بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، المزابنة، المحاقلة، المخابرة، المعاومة، الرطب بالتمر، الكرم بالزبيب، بيع الطعام قبل أن يسوفى، بيع وسلف، لا تصروا الإبل والغنم. نهى عن ثمن الكلب، نهى عن ثمن السنور نهى عن حلوان الكاهن، حاضر لبادٍ، النجش، بيع الرجل على بيع أخيه، ربح ما لم يضمن، التفرقة بين الأم وولدها، كراء الأرض، عسيب الفحل، بيع نقع الماء، بيع الخمر والميتة والدم والأصنام. ونهى الله تعالى عن البيع يوم الجمعة. فهذه سبعة وثلاثون مبيعًا ورد النهي عنها قبضتها يد الإسلام البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي ما طلبوه فيها. فأما الغرر فهو كل أمر خفيت علانيته وانطوى أمره (¬3). ¬

_ (¬1) الأصل في جواز بيع البرنامج عمل أهل المدينة ففي الموطأ "قال مالك في الرجل يُقْدّمُ له أصناف من البز ويحضره السُّوامُ ويقرأ عليهم برنامجه ويقول في كل عِدْلِ كذا وكذا رَيْطة سابرية ذرعها كذا وكذا ويسمى لهم أصنافًا من البر بأجناسه ويقول اشتروا مني على هذه الصفة فيشترون الأعدال على ما وصف لهم ثم يفتحونها فيستغلُونَها ويندمون قال مالك ذلك لازم لهم إذا كان موافقًا للبرنامج الذى باعهم عليه قال مالك وهذا الأمر الذى لم يزل عليه الناس عندنا يجيزونه بينهم إذا كان المتاع موافقًا للبرنامج ولم يكن مخالفًا له. الموطأ 2/ 670. (¬2) انظر مذهب الشافعي في المجموع 9/ 288 الروضة 3/ 368. (¬3) وقد عرفه ابن الأثير بقوله هو ما كان له ظاهر يغر المشترى وباطن مجهول ونقل عن الأزهرى قوله بيع الغرر ما كان على غير عهدة ولا ثقة وتدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان من كل مجهول. النهاية 3/ 355.

وقف رؤبة (¬1) على رجل فساومه ثوبًا فقلبه فلم يعجبه فقال له أعده على عزةٍ (¬2). ذكره مسلم من طريق أبي هريرة (¬3) ولم يذكره البخاري لأن راويًا واحدًا مزجه مع الملامسة والمنابذة وسائر رواة الحديث لم يدخلوه فتوقع البخاري أن يكون تفسيراً للمنابذة والملامسة إذ هو في الدرجة الثانية من الحديث فقد زهق عن الأولى. فلو قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبايعوا غررًا لكان في الدرجة الأولى). ولو قال لا تبايعوا هكذا وأشار إلى قصةٍ فيها غرر لعللنا وعديناها إلى نظائرها. وأما الملامسة والمنابذة فهو بيع كان أهل الجاهلية يتبايعونه في تفسيرها خلاف كله يرجع إلى المخاطرة والجهالة منه أن يقول إذا لمست الثوب فقد وجب البيع وإذا نبذت هذه الحصاة التي في يدي فهو بيع الحصاة أيضًا أو إذا جعلت الحصاة على هذا الثوب (¬4). وأما حبل الحبلة (¬5) فقيل هو بيع النتاج الثانى وبيع الموجود المجهول لا يجوز فكيف المعدوم. وقيل كانوا يجعلونه أجلًا فلا يجوز إن كان مجهولًا وإن كان ميقاتًا معلومًا كما قال مالك في الجذاذ والعطاء فذلك جائز (¬6) وأما الملاقيح فهي ما في ظهور الفحول والمضامين ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ وليس في رواة هذا الحديث من اسمه رؤية ولعله خطأ من النساخ. (¬2) في ك على غيره. (¬3) الحديث متفق عليه بلفظ (نهى عن الملامسة والمنابذة) أخرجه البخاري في البيوع باب بيع المنابذة البخاري مع الفتح 4/ 359 ومسلم في كتاب البيوع باب إبطال بيع الملامسة والمنابذة 3/ 1151 ومالك في الموطأ 2/ 666 وشرح السنة 8/ 129 ولمسلم عن عطاء بن ميناء عن أبي هريرة قال (نُهي عن بيعتين الملامسة والمنابذة أما الملاسمة فإن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه بغير تأمل والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر ولم ينظر واحد مفهما إلى ثوب صاحبه) مسلم (1511). (¬4) قال النووي ولأصحابنا ثلاثة أوجه في تأويل الملامسة أحدها تأمل الشافعي وهو أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة فيلمسه المستام فيقول صاحبه بعتكه هو بكذا بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك ولا خيار لك إذا رأيته والثاني أن يجعلا نفس اللمس بيعًا فيقول إذا لمسته فهو بيع لك والثالث أن يبيعه شيئًا على أنه متى يمسه انقطع خيار المجلس وغيره. وفي المنابذة ثلاثة أوجه أيضًا. أحدها أن يجعلا نفس النبذ بيعًا وهو تأويل الشافعي والثاني أن يقول بعتك فإذا نبذته إليك انقطع الخيار ولزم البيع. والثالث المراد نبذ الحصاة. وهذا البيع باطل للغرر. شرح النووي على مسلم 10/ 154. (¬5) متفق عليه أخرجه البخاري في البيوع باب بيع الغرر وحبل الحبلة 3/ 91 ومسلم في البيوع باب تحريم بيع حبل الحبلة 3/ 1153 والموطأ 2/ 653 والبغوي في شرح السنة 8/ 136 من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع حبل الحبلة وكان بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها). (¬6) قال ابن عبد البر هذا التفسير من قول ابن عمر كما في مسلم (3/ 1154) من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن =

ما في بطون الإناث وذلك مجهول معدوم (¬1). وقد قال جميع (¬2) أهل اللغة إن الملاقيح ما في بطون الإناث وأطالوا في ذلك الكلام واستشهدوا في ذلك بالأشعار، ونحن لا نحتاج إلى ذلك لأنه لا يجوزكيف ما كان التفسير. ولم أجد النهي عن الملاقيح والمضامين مسندًا إلّا أنه ورد في الموطأ من قول سعيد بن المسيب أنه نهى عن المضاه والملاقيح (¬3) وفسرها كما قلنا. أما إنه ورد مسندًا عن عبد الله ابن دينار عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع "المجر" (¬4) (¬5) (¬6) قال أبو عبيد: قال أبو زيد المجر أن يباع البعير أو غيره بما في بطن الناقة (¬7) "فقال أمجر إذا فعل ذلك". وقال أبو عمر هو أن يباع البعير أو غيره بما يضرب هذا الفحل في عامهِ. وأما الثنيا فهي في اللغة عبارة عن الرجوع إلى ما مضى أو عن ما مضى ويتصرف في ¬

_ = عمر قال كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة. وحبل الحبلة أن تنتج الناقة ثم تحمل التي نتجت فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. وبه فسره مالك والشافعي وغيرهما وقيل هو بيع ولد ولد الناقة في الحال بأن يقول إذا نتجت هذه الناقة ثم نتجت التي في بطنها فقد بعتك ولدها فنهى عنه لأنه بيع ما ليس بمملوك ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه فهو غرر وبه فسره أحمد وإسحاق وجماعة من اللغويين وهو أقرب إلى اللفظ. لكن الأول أقوى لأنه تفسير ابن عمر وليس مخالفًا للظاهر فإن ذلك هو الذي كان في الجاهلية والنهي وارد عليه. شرح الزرقاني على الموطأ 3/ 302. (¬1) قال أبو عبيد المحمولات في البطن وهي الأجنة والواحده منها ملقوحة والمضامين ما في أصلاب الفحول. شرح السنة 8/ 137 وقال ابن الأثير في النهية 2/ 103 الممضامين ما في أصلاب الفحول وهي جمع مضمون يقال ضمن الشيء بمعنى تضمنه ومنه قولهم مضمون الكتاب كذا وكذا والملاقيح جمع ملقوح وهو ما في بطن الناقة وفسره مالك في الموطأ بالعكس وحكاه الأزهري عن ملك عن ابن شهاب عن ابن المسيب وحكاه ثعلب عن ابن الأعرابي قال إذا كان في بطن الناقة حمل فهو ضامن ومضمان وهن ضوامن ومضامين والذي في بطنها ملقوح وملقوحة. (¬2) في جـ بعض وفي بقية النسخ جميع. (¬3) الموطأ 2/ 654 عن ابن شهاب عن ابن المسيب وسنده صحيح. (¬4) في ك وم البحر. (¬5) ليست في بقية النسخ. (¬6) رواه البيهقي في السنن 5/ 341 والبغوي في شرح السنة 8/ 137 وإسناده ضعيف لضعف موسى بن عبيدة الربذي وقد تفرد به فيما قال البيهقي والبزار وموسى بن عبيدة ضعيف لا سيما في عبد الله بن دينار وكان عابدًا من صغار السادسة مات 153هـ. ت ت 10/ 356. (¬7) نقل قوله البغوي 8/ 138 وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: المشهور في اللغة أنه اشتراء ما فى البطن الناقة خاصة نقلها الحافظ في التلخيص 3/ 16.

البيع على وجوهٍ كثيرةٍ منها إن جئتني بالثمن إلى وقت كذا رددت عليك وإن لم تأتني إلى وقت كذا فلا بيع بيني وبينك. وفي ذلك تفصيل بين علمائنا منه جائز ومنه ممنوع (¬1) يأتي إن شاء الله. وأما بيع العربان فقد فسره مالك وتفسيره يرجع إلى قاعدة أكل المال بالباطل لأنه قال "إن تم البيع فالعربان من الثمن وإن لم يتم البيع فالعربان لك وإذا كان لم يتم ففي مقابلة من يكون (¬2) " رواه مالك عن صحيفة عمرو بن شعيب وهي صحيفة صححها البخاري في حديث الرباعيات وصححها الدارقطنى فإذا وجدتم الطريق إليها صحيحًا فخذوا بها وإنما تركها أكثرهم لعدم الثقة في طريقها لا لعدمٍ في ذاتها. وقد اعترض علماؤنا عليها بعضهم بأن قال إنما ردها لاحتمالها لأنه عمرو بن شعيب بن محمَّد بن عبد الله بن عمرو فإذا قال عن جدهة احتمل أن يكون "الأقرب فيكون ¬

_ (¬1) الثنيا هي أن يستثنى في عقد البيع شيء مجهول فيفسد وقيل هو أن يباع شيء جزافًا فلا يجوز أن يستثنى منه شيء قل أو كثر وتكون الثنيا في المزارعة أن يستثنى بعد النصف أو الثلث كيل معلوم. النهاية 1/ 224 غريب الحديث لابن الجوزي 1/ 130. وقد ورد النهي عن الثنيا فى حديث جابر الوارد في صحيح مسلم في البيوع 3/ 1175 قال النووي المراد الاستثناء في البيع وفي رواية الترمذي وغيره بإسناد صحيح نهى عن الثنيا إلّا أن يعلم والثنيا المبطلة للبيع قوله بعتك هذه الصبرة إلا بعضها وهذه الأشجار لو الأغنام ونحوها إلّا بعضها فلا يصح البيع لأن المستثنى مجهول فلو قال بعتك هذه الأشجار إلّا شجرة أو هذه الشجرة إلّا ربعها أو الصبرة إلّا ثلثها أو بعتك بألف إلّا درهمًا وما أشبه ذلك من الثنيا المعلومة صح البيع باتفاق العلماء. شرح النووي على مسلم 10/ 195 وانظر حديث الترمذي الذي أشار إليه النوري في 3/ 585 من سننه. (¬2) الموطأ 2/ 609 عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع العربان ورواه أبو داود (3502) في الاجارات باب في العربان وأخرجه ابن ماجه رقم (2192) في التجارات قال الحافظ في التلخيص 3/ 17 وفيه راو لم يسم وسمي في رواية لابن ماجه ضعيفة (2193) عبد الله بن عامر الأسلمي وقيل هو ابن لهيعة وهما ضعيفان وعلى كل فالحديث ضعيف. قال ابن الأثير يقال عربان وعُربون وعَرَبون وهو أن يشتري شيئًا فيدفع إلى البائع مبلغًا على أنه إن تم البيع احتسب من الثمن وإن لم يتم كان للبائع ولم يجمع منه يقال أعرب عن كذا وعرّب وعربته كأنه سمي بذلك لأن فيه إعرابًا لعقد البيع أي أصلاحاً وإزالة فساد. جامع الأصول 1/ 508. وقد اختلف الناس في جواز هذا البيع فأبطله مالك والشافعي للخبر (السابق) ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر ويدخل ذلك في أكل المال بالباطل وأبطله أصحاب الرأي وقد روي عن ابن عمر أنه أجاز هذا البيع ويروى ذلك أيضًا عن عمر. ومال أحمد بن حنبل إلى القول بإجازته وقال أي شيء أقدر أن أقول وهذا عمر رضي الله عنه - يعني أنه أجازه - وضعف الحديث فيه لأنه منقطع وكأن رواية مالك فيه بلاغًا. مختصر السنن مع تهذيبها لابن القيم 5/ 143.

مرسلًا واحتمل أن يكون" (¬1) جده الأعلى فسقط الاحتمال وليس هذا بلازم فإن عبد الله بن عمرو كتبها (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصارت متوارثةً في أولاده متداولةً في عقبه فإن أراد جده الأقرب وهو محمَّد فمحمد إنما أخذ الصحيفة عن عبد الله بن عمرو. فلو أن مالكًا يقف عليها مثلًا لجاز له أن يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهكذا نحن إلى اليوم (¬3). وقد كان عند أولاد تميم الداري في حبرون (¬4) قرية إبراهيم كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قطعةٍ من أديمٍ. بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما اقطع محمَّد رسول الله تميمًا الداري قطعة قريتي حبرون وعينون (¬5) قريتي إبراهيم الخليل ليسير فيهما بسيرته وكتب علي بن أبى طالب شهد فلان وفلان (¬6) وفلان. فبقيتا في يده يسير فيهما بسيرته ويشاهد الناس كتابه إلى أن دخلت الروم سنة اثنين ¬

_ (¬1) زيادة من ك وم. (¬2) أي الصحيفة. (¬3) عمرو بن شعيب بن محمَّد بن عبد الله بن العاص صدوق من الخامسة مات سنة (118) هـ ت ص 423 ونقل الذهبي عن القطان قوله إذا روى عنه ثقة فهو حجة وقال أحمد ربما احتججنا به وقال البخاري رأيت أحمد وعليًا وإسحاق وأبا عبيد وعامة أصحابنا يحتجون به وقال أبو داود ليس بحجة - الكاشف 2/ 332. وقال الحافظ أما روايته عن أبيه فربما دلس ما في الصحيفة بلفظ عن فإذا قال حدثني أبي فلا ريب في صحتها كما يقتضيه كلام أبي زرعة وأما رواية أبيه عن جده فإنما يعني بها الجد الأعلى عبد الله بن عمرو لا محمَّد بن عبد الله وقد صرح شعيب بسماعه من عبد الله في أماكن وصح سماعه منه لكن هل سمع منه جميع ما روي عنه أم سمع بعضها الظاهر أنه سمع البعض ت ت 8/ 54. (¬4) حبرون بالفتح ثم السكون وضم الراء وسكون الواو ونون اسم القرية التي فيها قبر إبراهيم الخليل عليه السلام ببيت المقدس وقد غلب على اسمها الخليل ويقال لها أيضًا حبرى - معجم البلدان 2/ 212. (¬5) عينون من قرى بيت المقدس - معجم البلدان 4/ 180. (¬6) رواه أبو عبيد في كتاب الأموال قال حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: قال عكرمة لما أسلم تميم الداري قال يا رسول الله إن الله مظهرك على الأرض كلها فهب لي قريتي من بيت لحم قال هي لك وكتب له بها فلما استخلف عمر وظهر على الشام جاء تميم الداري بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر أنا شاهد ذلك فأعطاه إياه - ورواه بإسناد آخر عن سعيد بن عفير عن ضمرة بن ربيعة عن سماعة أن تميماً الداري سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقطعه قريات بالشام عينون وفلانة ... ورواه بإسناد آخر عن عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد أن عمر أمضى ذلك لتميم وقال ليس لك أن تبيع قال فهي في أيدي أهل بيته إلى اليوم. الأموال ص 349 - 350 وذكره الذهبى في ترجمته من سير النبلاء 2/ 443 قلت الأثر الأول منقطع لأن عكرمة لم يلق تميمًا فقد مات سنة 40 هـ زمن عمر وكذلك الأثر الثانى منقطع أيضًا لأن ضمرة لم يلق تميمًا ولم يبين الواسطة بينه ولين تميم الداري وكذلك الإسناد الثالث منقطع لأن الليث يلق عمر بن الخطاب.

وتسعين (¬1) ولقد اعترضه فيها بعض الولاةِ ليأخذها من يده إبان كوني بالشام فحضر مجلسه القاضي حامد الهروي وكان حنفيًا في الظاهر ومعتزليًا وفي الباطن ملحدًا شيعيًا (¬2). وكان الوالي يكمان بن أرتيدنك (¬3). فاستظهر أولاد تميم بكتاب النبى - صلى الله عليه وسلم -. فقال القاضي حامد: هذا الكتاب لا يلزم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع ما لا يملك. فاستفتي الفقهاء. فقال الطوسي: وكان بها حينئذٍ هذا كافر والنبى - صلى الله عليه وسلم - كان يقطع الجنة ويقول قصر عمر قصر فلان فكيف لا يقطع الدنيا (¬4) وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (زويت لي الأرض) (¬5) الحديث فوعده صدق وكتابه حق، فخزي القاضي والوالي وبقي أولاد تميم بكتابهم في قريتهم. وأما شرطان في بيع فيأتي إن شاء الله تعالى. وأما بيع ما ليس عندك فهو شيء اتفقت عليه الأمة وهو من باب الغرر إليه يعود (¬6). إلَّا أني رأيت لمالك جوازه في العتبية، وقد تكلمنا على ذلك في كتب المسائل وبينا كيفية خروج مسألة مالك على الأصل الجائز. وقلنا في بعض تأويلاتها إنما جعله رسولًا وواسطةً ولم يجعله بائعًا ولا مبتاعًا. وأما بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فيأتي إن شاء الله. وكذلك المزابنة والمحاقلة والمخابرة والمعاومة والرطب بالتمر والكرم (¬7) بالزبيب وبيع ¬

_ (¬1) كان القاضي بتلك البلاد سنة (492) هـ. (¬2) لم أطلع على ترجمته. (¬3) لم أطلع له على ترجمة. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -7/ 40 البخاري مع الفتح ومسلم رقم (2394) وأحمد في المسند 3/ 372 و 386 والبغوي في شرح السنة 4/ 86 من حديث جابر بن عبد الله. (¬5) رواه مسلم في كتاب الفتن باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض رقم (2889) والترمذي 4/ 472 وأحمد في المسند 5/ 278 من حديث ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتى سيبلغ ملكها ما زويَ لي) .. (¬6) أخرجه أبو داود في سننه انظر تهذيب السنن 5/ 143 والترمذي 3/ 534 وحسنه والنسائي 7/ 289. والبغوي في شرح السنة 8/ 140 من حديث حكيم بن حزام. (¬7) ورد النهي عن هذه الأمور في عدة أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منها حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن المزابنة والمزابنة بيع التمر بالتمر كيلًا وبيع الكرم بالزبيب كيلًا) الموطأ 2/ 624 والبخاري في البيوع باب بيع =

الطعام قبل أن يستوفى (¬1). وأما بيع وسلف فإنما نهى عنه لتضاد الهدفين (¬2) فإن البيع مبني على المشاحة والمغابنة والسلف مبني على المعروف والمكارمة. وكل عقدين يتضادان وصفًا لا يجوز أن يجتمعه شرعًا، فاتخذوا هذا أصلًا. وأما التصرية (¬3) فاختلف العلماء فيها فمنهم من جعلها عيبا فيكون من أكل المال بالباطل ومنهم من جعلها غشًا (¬4) وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف. وأما ثمن الكلب (¬5) فلا يخلو أن يكون مأذونًا في اتخاذه أو غير مأذون والحديث ¬

_ = المزابنة 4/ 98 ومسلم في البيوع رقم (1542) وورد عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة قال أحدهما وقال الآخر وبيع السنين هي المعاومة وعن الثنيا ورخص في العرايا). أخرجه مسلم رقم (1536) والبغوي في شرح السنة 8/ 84. (¬1) ورد ذلك من حديث ابن عباس قال أما الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو الطعام أن يباع حتى يستوفى قال ابن عباس برأيه ولا أحسب كل شيء إلَّا مثله متفق عليه البخاري في البيوع باب ما ذكر في بيع الطعام 3/ 89 ومسلم رقم (1525). (¬2) ورد النهي عنه في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في صفقة واحدة وعن سلف ما لم يضمن وعن بيع وسلف). الترمذي 3/ 535 وقال حسن صحيح والنسائي 7/ 288 وابن ماجه 2/ 737 قال الإمام البغوي أما نهيه عن بيع وسلف هو أن يقول أبيعك هذا الثوب بعشرة دراهم على أن تقرضني عشرة دراهم والمراد بالسلف القرض فهذا فاسد لأنه جعل العشرة ورفق القرض ثمنًا للثوب فإذا بطل الشرط سقط الثمن فيكون ما بقي من البيع بمقابلة الباقي مجهولًا. شرح السنة 8/ 145. (¬3) قال ابن الأثير من عادة العرب أن تضُرَ ضروع الحلوبات إذا أرسلوها إلى المرعى سارحة ويسمون ذلك الرباط صرارًا فإذا راحت عشيًا حلت تلك الأصرة وحلبت فهي صرصرة ومصررة - النهاية 3/ 22 وقد ورد النهي عن التصرية في حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (لا تلقوا الركبان للبيع ولا بيع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد ولا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها إن سخطها ردها وصاعًا من تمر) متفق عليه البخاري في البيوع باب النهي للبائع ألا يحفل الإبل والبقر والغنم .. 3/ 92 ومسلم في البيوع رقم (1515) 11 والموطأ 2/ 683 وشرح السنة 8/ 115. (¬4) قال ابن هبيرة اختلفوا فيما إذا فعل ذلك أحد ثم باع المصراة فهل يثبت الفسخ للمشتري بذلك فقال مالك والشافعي وأحمد يثبت له الفسخ ويجب عليه رد صاع من تمر عوضًا عما احتلبه من لبنها وقال أبو حنيفة لا يثبت له الفسخ. الإفصاح 2/ 345. (¬5) ورد النهي عن ثمن الكلب من حديث أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن) متفق عليه البخاري في البيوع باب ثمن البيوع 3/ 110 ومسلم رقم (1567) والموطأ 2/ 656 والبغوي في شرح السنة 8/ 22.

محمول على ما حَرُمَ اتخاذه. فأما ما يجوز اتخاذه فبيعه جائز وقد اختلف في ذلك علماؤنا: ومن قال منهم لا يجوز بيعه قال تلزم القيمة لمن أتلفه فبعيد عن الصواب والصحيح جواز البيع فيه من غير كلامٍ وقد قررنا ذلك في مسائل الخلاف في فصل الانصاف (¬1). وأما السنور فانفرد مسلم برواية النهي عن بيعه (¬2) فإن سلم عن العلة التي ذكرناها في شرح الصحيح فإن ذلك محمول على المصلحة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن تكون السنانير مسترسلة على المنازل تحميها عن الفأر من غير اختصاصٍ. وأما حلوان الكاهن فمن أكل المال بالباطل لأنه شر الكذب والضلال فيكون كشراء المحرم من الميتة والأصنام وما أشبهها. وأما ربح ما لم يضمن فإنما لم يجز لأن بيعه لا يجوز لأن ما لم يضمن إما أنه لا يملك فيكون من بيع ما ليس عندك وإما لأنه غير مقدورٍ على تسليمه فيكون من باب الغرر والمخاطرة. وأما حاضرٌ لبادٍ والنجش وبيع الرجل على بيع أخيه فيأتي إن شاء الله. ¬

_ (¬1) قال الباجي نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب يحتمل أن يريد به ثمن الكلب المنهي عن اتخاذه فيتناول نهيه البائع عن أخذ ثمنه والانتفاع به وهذا يمنع نفعه وأما الكلب المباح اتخاذه وهو كلب الماشية والحرث والصيد فاختلف فيه قول مالك فتأول بعض أصحابه أنه يجوز بيعه. وقال سحنون يجوز أن يحج بثمنه وقاله ابن كنانة وبه قال أبو حنيفة وروي عنه (أي عن مالك) أنه كره بيعه وهي رواية الموطأ المنتقى 5/ 28 وقال النووي مذهنا أنه يجوز بيع الكلب سواء كان معلمًا أو غيره وسواء كان جروًا أو كبيرًا ولا قيمة على من أتلفه وبهذا قال جماهير العلماء .. وقال وقال أبو حنيفة يجوز بيع جميع الكلاب التي فيها نفع وتجب القيمة على متلفه .. المجموع 9/ 228 وانظر المغني لابن قدامة 4/ 189. (¬2) رواه مسلم من طريق معقل عن أبى الزبير قال سألت جابرًا عن ثمن الكلب والسنور قال زجر النبى - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك - كتاب المساقاة رقم (1569) ورواه الترمذي من طريق أبي سفيان عن جابر وقال هذا حديث في إسناده اضطراب ولا يصح في ثمن السنور وقد رُوي هذا الحديث عن الأعمش عن بعض أصحابه عن جابر واضطربوا على الأعمش في رواية هذا الحديث وقد كره قوم من أهل العلم ثمن الهر ورخص فيه بعضهم وهو قول أحمد لإسحاق سنن الترمذي 3/ 577 ونقل النووي عن الخطابي وابن عبد البر أنهما ضعفاه ورد عليهما قوله وأما ما ذكره الخطابى وأبو عمر بن عبد البر من أن الحديث في النهي عنه ضعيف فليس كما قالا بل الحديث صحيح رواه مسلم وغيره وقول ابن عبد البر إنه لم يروه عن أبي الزبير غير حماد بن سلمة غلط منه أيضًا لأن مسلمًا رواه في صحيحه كما ترى من رواية معقل بن عبيد الله عن أبي الزبير فهذان ثقتان روياه عن أبي الزبير وهو ثقة أيضًا شرح النووي على مسلم 10/ 234 وانظر المجموع 9/ 229 - 230.

وأما التفرقة بين الأم وولدها (¬1) فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: فمنهم من قال إن ذلك لحق الأم في التوليه وقد روي في الحديث (لا توله والدةً على ولدها) (¬2). وقيل لحق الطفل وقيل لحق الله فالبيع فاسد في ذلك إلَّا على القول بأنه حق للأم فيقف على إجازتها. وأما كراء الأرض فسيأتي إن شاء الله. وأما عسب الفحل (¬3) فجمهور علماء الأمصار على أنه لا يجوز وحمله مالك على أن يكون يقصد به الإلقاح. فأما لو كانت نزوات معلومة جاز وهو الصحيح لأنه أمر مأذونٌ فيه شرعاً محتاجٌ إليه عادة معلوم بالتعديد فلا وجه لرده إلّا من طريق الجهالة التي أشرنا إليها في اشتراط الإلقاح أو في المضي على العادة فيه. وأما بيع نقع الماء فروي في الأثر نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع نقع الماء (¬4) وروي نفق البير (¬5) بالقاف والفاءِ. ¬

_ (¬1) روى الدارقطني من طريق عبد الله بن عمرو بن حسان قال نا سعيد بن عبد العزيز قال سمعت مكحولًا يقول نا نافع بن محمود بن الربيع عن أبيه أنه سمع عبادة بن الصامت يقول (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفرق بين الأم وولدها فقيل يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلي متى قال حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية) عبد الله هذا هو الواقعي وهو ضعيف الحديث رماه علي بن المديني بالكذب ولم يروه عن سعيد غيره. سنن الدارقطني 3/ 68 ورواها الحاكم في المستدرك 2/ 55 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتعقبه الذهبى بقوله بل موضوع ابن حسان كذاب. وقال العقيلي عبد الله بن عمرو الواقعي بصري كان يضع الحديث الضعفاء 2/ 284 وقال أبو حاتم يفتعل الحديث وقال في أبيه عمرو قال الرافعي هكذا وقع في كتاب ابن أبي حاتم عن أبيه وقال مرة أخرى ضعيف المغني في الضعفاء 1/ 349 وقال ابن عدي ولعبد الله بن عمرو أحاديث وكلها مقلوبات وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق. الكامل 4/ 1569 وانظر الميزان 2/ 468 درجة الحديث ضعيف. (¬2) رواه بهذا اللفظ البيهقي من حديث أبي بكر بسند ضعيف السنن الكبرى 8/ 5 ورواه أبو عبيد في غريب الحديث 3/ 65. وهذ الحديث ضعفه الحافظ في التلخيص 3/ 15 والنووي في المجموع 9/ 362 والشيخ ناصر في ضعيف. الجامع الصغير 6/ 78. (¬3) ورد النهي عنه في حديث ابن عمر قال (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ضراب الفحل) البخاري في الإجارة باب عسب الفحل 3/ 123 ومسلم في المساقاة من حديث جابر بلفظ (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ضراب الجمل) رقم 1565 والبغوي في شرح السنة 8/ 138. (¬4) روى مسلم من حديث جابر قال (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء) مسلم رقم (1565). (¬5) هذه الرواية لم أطلع عليها.

وروي لاتمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ (¬1). واختلف علماؤنا في الأرض يملكها الإنسان (¬2) فتنبت نباتًا سماويًا هل يختص المالك بالنبات كاختصاصه بالأرض أم هو لجميع الناس يحتشونه ويحتطبونه (¬3) وكذلك أيضًا اختلف العلماء إذا حفر بئرًا ففاضت على حاجته هل يختص بالفضل دون سائر الخلق أم ليس له إلّا قدر ما يحتاج إليه والباقي مشاع بين الناس. والصحيح أن ذلك مشاع إذا لم يحتج إليه، ولكن الحاجة عندي على قسمين: إما أن يحتاج الماء إلى سقي زرعه وثمرته أو يحتاج النبات لسرحه أو يحتاج الحطب لإصطلائه وبنائه فإذا كان كذلك فلا خلاف أنه أحق به من غيره. وإن كان يحتاجه لقوته وكسوته فمثله. وما فضل عن هاتين الحاجتين فهو الذي تناول الحديث النهي عنه. وأما النهي عن البيع وقت النداء يوم الجمعة (¬4) فذلك لحق الله تعالى وأغرب ما فيه ما تفطن له بعض أصحابنا فإنهم اتفقوا على نقضه وإن فات قالوا كلهم يضمن بالقيمة، إلَّا هذا الغَّواص فإنه قال يضمن بالثمن لنكتةٍ بديعةٍ وهي أن القيمة لا سبيل إلى معرفتها أبدًا لأن ذلك ليس بوقت بيع لأحدٍ فرجعنا إلى الثمن ضرورة الذي قدره على نفسه ورضي ذلك الآخر به (¬5). القاعدة العاشرة: هي في بسط المقاصد والمصالح التي أشرنا إليها قبل هذا وقد ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل الكلأ). البخاري مع الفتح في الحرث والمزارعة 5/ 31 ومسلم في المساقاة رقم (1566) والموطأ 2/ 744. (¬2) في ج الرجل. (¬3) انظر تفاصيل المسألة في المنتقى للباجي 6/ 38. (¬4) بقول تعالى: {يا أيها الذين أمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} سورة الجمعة آية (9). قال ابن العربي قوله "وذروا البيع" وهذا مجمع عليه ولا خلاف في تحريم البيع واختلف العلماء إذا وقع ففي المدونة أنه يفسخ وقال المغيرة يفسخ ما لم يفت وقاله ابن القاسم في الواضحة وأشهب وقال في المجموعة البيع ماض وقال ابن الماجشون يفسخ بيع من جرت عادته به .. وقد حققنا أن الصحيح فسخه بكل حال لقوله عليه السلام في الصحيح (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) مسلم رقم (1344) الأحكام ص 1805 وانظر تفسير القرطبي 18/ 107. (¬5) قال الباجي فإذا قلنا يفسخ ففات بزيادة أو نقصان أو حوالة سوق فقد قال المغيرة وسحنون يمضي بالثمن ولا يرد وقد قال ابن القاسم وأشهب يرد إلى القيمة المنتقى 1/ 195.

اتفقت الأمة على اعتبارها في الجملة ولأجلها وضع الله الحدود والزواجر في الأرض استصلاحًا للخلق حتى تعدى ذلك إلى البهائم فتضرب البهيمة استصلاحًا وإن لم تكلف سببًا إلى تحصيل قصد المكلف وأقرب من ذلك من غرضنا أن الطفل يضرب على التمرن على العبادات لا ضرب تكليفٍ ولكن ضرب تأنيس وتدريب حتى يأتيه التكليف على عادة فتخف عليه المشقة في العبادة (¬1). ولقد انتهت الحالة بالشيخ المعظم أبي بكر الشاشي القفال إلى أن يطرد ذلك حتى في العبادات وصنف في ذلك كتابًا كبيرًا أسماه محاسن الشريعة. والدليل على صحة ما صار إليه مالك من انفراده في تعويله عليها واختصاصه بها دون سائر العلماء اتفاق أرباب الحل والعقد علي أن الجماعة يقتلون بالواحد قصاصًا استبقاء للباقين واستصلاحًا لحالهم وقد قل عمر نفرًا بواحد قتلوه غيلةً ولم يلتفت عمر إلى الغيلة وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم (¬2) فإن القلة يقتلون باغتيال حمارٍ فكيف باغتيال إنسانٍ فدل على أن المعتبر إنما كان بالتمالؤ الذى متشوق الاعداءِ ومظنة الحساد. وكذلك اتفقوا على أن حرمان القاتل الميراث رعيًا للمصلحة وسدًا للذريعة (¬3) وكذلك ¬

_ (¬1) روى أبو داود في سننه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين وأضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع). مختصر المنذري مع تهذيب السنن 1/ 170 ورواه الحاكم في مستدركه 1/ 197 وأخرجه أحمد في المسند 2/ 180 والحديث صحيح وقد مر معنا كثيرًا تصحيح الشارح لرواية عمرو بن شعيب ونقله أن البخاري وغيرها صحح هذه الرواية (¬2) هذا الأثر رواه مالك في الموطأ 2/ 871 عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل نفرًا خمسة أوسبعة برجل واحد قتلوه قتل غيلة وقال عمر "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعًا". ورواه البخاري في الديات باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب، من حديث يحيى القطان عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن غلامًا قتل غيلة فقال عمر "لو اشترك فيها أهل صنعاء لقتلتهم .. " البخاري 9/ 10 والبغوي في شرح السنة 10/ 182 قال الحافظ هذا الأثر موصول إلى عمر بأصح إسناد فتح الباري 12/ 227. (¬3) روى مالك في الموطأ 2/ 867 عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب في قصة طويلة وفيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (ليس لقاتل شيء) ورواه الشافعي في الرسالة فقرة (476) وهذه الرواية منقطعة لأن عمرو لم يدرك عمر ورواه أحمد في المسند رقم (347) قطعة من حديث هشيم ويزيد عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب قال عمر "لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ليس لقاتل شىء) لورثتك قال ودعا خال المقتول فأعطاه الإبل" وهذه الرواية منقطعة أيضًا ورواه ابن ماجه 2/ 884 وصحح رواية ابن ماجه الشيخ ناصر في صحيح ابن ماجه 2/ 98.

باب ما جاء في بيع العربان

قال عمر إذا نكح في العدة لا يتناكحان أبدًا (¬1). وكذلك وقع تابيد تحريم اللعان (¬2). وكذلك راعى مالك رضوان الله عليه المقاصد في تحقيق الجنسية في الأموال الربوية (¬3). وقال سائر الفقهاء إنما يعتبر الجنس في الصور والهيئات. وما قاله مالك أولى لأن المطعومات والحيوانات لم تكن أجناسًا بصورها وإنما كانت أجناسًا بمنافعها المقصودة منها وصفاتها التي تتفاوت بها حتى جعل مالك الشعير والقمح جنسًا واحدًا وهي أعسر مسألةٍ علينا في الأجناس ولكن مالكًا رضوان الله عليه قرب ما بينهما إذ لباب الشعير يوازي دقيق الحشكار (¬4) فيلتقيان على الطرفين. وكما نراعي حرمة الربا في التعدية باعتبار الثمنية وفي الأعيان الأربعة باعتبار القوت أو الطعم، كذلك نراعى في الجنس إذ يقول في علة الربا مقتات جنس ولا يجوز التفاضل مع الأجل في الجنس الواحد كانا مقتاتين أوغير مقتاتين وكذلك اعتبر قصد المعروف في العرايا واستثنيت من قاعدة الربا بخروجها عن مقصود البيع في المكايسة وانحطاطها في شعب الرفق والمكارمة وعليها بنى مالك مسائل الإيمان كلها. إذا تمهدت هذه القواعد عدنا إلى أبواب الكتاب وأريناكم انبئاءها عليها ورجوعها إليها حتى تعلموا شفوف مالك في الإدراك على سائر العلماء وتكونوا متبعين له في الحقيقة سالكين معه على الطريق فقال: باب ما جاء في بيع العربان وأكثر ما عول فيه وفيما بعده على ذكر المفسدات للبيوع لما بيناه من أن البيع الصحيح ¬

_ (¬1) رواه مالك في موطأ محمد بن الحسن ص 182 عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أنهما حدثا أن ابنة طلحة بن عبيد الله كانت تحت رشيد الثقفى فطلقها فنكحت في عدتها أبا سعيد بن منبه أو أبا الجلُاس بن منبه ضربها عمر وضرب زوجها .. وفرق بينهما. ورواه عبد الرزاق 6/ 210 والبغوي في شرح السنة 9/ 315 ورجاله ثقات. (¬2) قال مالك السنة عندنا أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدًا وإن أكذب نفسه جلد الحد وألحق به الولد ولم ترجع إليه أبدًا وعلى هذا السنة عندنا. الموطأ 2/ 568. (¬3) انظر الكافى 2/ 646. (¬4) شكير الزرع هو ما نبت منه صغارًا في أصول الكبار. لسان العرب 4/ 426.

محصور والفاسدِ يبعد حصره فأشار رضي الله عنه إلى جمل المفسدات في الأبواب. فمسألة العربان ترجع إلى قاعدة أكل المال بالباطل ومسألة بيع العبد التاجر الفصيح بالأعبد من الحبشة تبنى على اعتبار الجنس بالمقاصد واستثناء الجنسين من البطن ينبني على قاعدة الغرر والجهالة وعلى أكل المال بالباطل (¬1): "لأنه لا يضع من ثمنها في غير مقابلة شيء" (¬2). ومسألة الجارية التى سأل في إقالتها ويزيده عشرة دنانير نقدًا إلى أجل أبعد من الأجل الذي كان قد ابتاع إليه تبنى على القاعدة الثالثة في الصفقة إذا جمعت مالي رباً إلى آخرها (¬3). ومسألة بيع الرجل الجارية بمائة دينار إلى أجل ثم يشتريها بأكثر من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الأجل تبنى على القاعدة التاسعة وهي قاعدة الشبهة (¬4). ¬

_ (¬1) قال مالك والأمر المجمع عليه عندنا أنه لا بأس بأن يبتاع العبد التاجر الفصيح بالأعبد من الحبشة أو من جنس من الأجناس ليسوا مثله في الفصاحة ولا في التجارة والنفاذ والمعرفة لا بأس بهذا أن تشتري منه العبد بالعبدين أو بالأعبد إلى أجل معلوم إذا اختلف فبان اختلافه فإن أشبه بعض ذلك بعضًا حتى يتقارب فلا يأخذ منه اثنين بواحد إلى أجل وإن اختلفت أجناسهم الموطأ 2/ 610. (¬2) زيادة من ج وك. (¬3) قال مالك في الرجل يبتاع العبد أو الوليدة بمائة دينار إلى أجل ثم يندم البائع فيسأله المبتاع أن يقيله بعشرة دنانير يدفعها إليه نقدًا أو إلى أجل ويمحو عنه المائة دينار التي له قال مالك لا بأس بذلك وإن ندم المبتاع فسأل البائع أن يقيله في الجارية أو العبد ويزيده عشرة دنانير نقدًا أو إلى الأجل الذي اشترى إليه العبد أو الوليدة فإن ذلك لا ينبغي وإنما كره ذلك لأن البائع كأنه باع منه مائة دينار له إلى سنة قبل أن تحل بجارية وعشرة دنانير نقدًا أو إلى أجل أبعد من السنة فيدخل ذلك في بيع الذهب بالذهب إلى أجل. الموطأ 2/ 610 قلت وسيأتي مثال لذلك. (¬4) قال مالك في الرجل يبيع من الرجل الجارية بمائة دينار إلى أجل ثم يشتريها بأكثر من ذلك الثمن الذي باعها به إلى أبعد من ذلك الأجل الذي باعها إليه إن ذلك لا يصلح وتفسير ما كُره من ذلك أن بيع الرجل الجارية إلى أجل ثم يبتاعها إلى أجل أبعد منه يبيعها بثلاثين دينارًا إلي شهر ثم يبتاعها بستين دينارًا إلى سنة أو إلى نصف سنة فصار إن رجعت إليه سلعته بعينها وأعطاه صاحبه ثلاثين دينارًا إلى شهر بستين دينارًا إلي سنة أو إلى نصف سنة فهذا لا ينبغي/ الموطأ 2/ 611 قال الزرقاني أي يحرم لأنه حيلة إلى الربا وهذا قول جمهور أهل المدينة وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم بناء على قطع الذرائع بما يغلب على الظن أن المتبايعين قصدا إليه وأبى ذلك الأكثر والشافعي حيث لا قصد لأن تهمة المسلم بما لا يحل حرام فلا يفسخ ما ظاهره حلال بالظن. شرح الزرقاني للموطأ 3/ 252.

باب ما جاء في مال المملوك

باب ما جاء في مال المملوك (¬1) ينبني على القاعدة العاشرة وهي المقاصد والمصالح لأن الرجل إذا اشترى عبدًا له ذهب بذهب فالقاعدة الثالثة تمنع منه من جهة الربا، والقاعدة العاشرة في المصالح والمقاصد تقتضي جوازه لأنه إنما المقصود منه ذاته لا ماله والمال وقع تبعًا. وأما باب العهدة فمبني على القاعدة الخامسة، وهي الرجوع إلى العرف الذي تنبني عليه أكثر مسائل الشرع حسب ما مهدناه. وأما باب العيب في الرقيق فينبني على القاعدة الثانية وهي أكل المال بالباطل لأنه اشترى منه عبدًا بعشرة، فكل جزء في العشرة قابل كل جزء من العبد ووازى كل صفةٍ من صفاته المقصودة للمبتاع جلبًا وتحصيلًا، وللبائع تبادلًا وتمويلًا. فإذا عدم جزء من أجزاء العبد أو اختلست صفةٌ من صفاته فقد خرج جزء من الثمن عن ملكه وهو الذي قابل الفائت منها. فإن أمسكه عنه كان أكل المال بالباطل. هذا هو الأصل الذي تنبني عليه مسائل العيوب ثم يدخلها بعد ذلك في التراد وكيفية ما عسى أن يعرض من المفسدات فيعرض ¬

_ (¬1) ورد في الموطأ 2/ 611 عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع إلّا أن يشترطه المبتاع" وهذا موقوف وأخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن الليث عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. البخاري مع الفتح 5/ 49 ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح قالا أخبرنا الليث وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول .. مسلم في كتاب البيوع رقم (80).

وأما باب ما يفعل بالوليدة إذا بيعت

على القواعد العشر، وليس لذلك آخر فيحصر, لأنه قد يؤول التراد إلى ربًا فيدخل في القاعدة الأولى. وقد يؤول إلى جهالةٍ وما أشبه ذلك فاحصروا القواعد عند الفتوى وعبروا الفعل بها واحملوا جواب مالك عليها. وأما مسألة الاختلال للعبد المبيع إنها تكون للمبتاع ويرد العبد بالعيب ولا سبيل له إليه لأنه لو أخذه البائع لكان أكل المال بالباطل لأن البائع لم يكن في تلك الحال مالكًا ولا ضامنًا فيدخل. هذا أيضًا في قاعدة الأحاديث وهو إنه نهي عن ربح ما لم يضمن ويعضده حديث عائشة المشهور في المسألة بعينها وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (قضى بأن الخراج مع الضمان) (¬1) فيدخل في قاعدة أكل المال بالباطل. وأما باب ما يفعل بالوليدة إذا بيعت (¬2) والشرط فيها فإنه ينبنى على أكثر القواعد السابقة ولكن مسائل الشرط معضلة قديمًا وحديثًا. أخبرنا إسماعيل بن الفضل (¬3) ........................................ ¬

_ (¬1) هذا حديث رواه أبو داود عن مخلد بن خفاف عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الخراج بالضمان) انظر تهذيب السنن 5/ 158 ورواه الترمذي 3/ 582 من نفس الطريق بلفظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قضى أن الخراج بالضمان) وقال هذا حديث حسن صحيح وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه والعمل على هذا عند أهل العلم. وساق له طريقًا آخر عن عمر بن علي المقدمي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة .. وقال هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث هشام بن عروة ورواه النسائي 7/ 254 وابن ماجه 2/ 753 وأحمد في المسند 6/ 49 و 80، 116 أو 161، 208 و237 والبغوي في شرح السنة 8/ 163 وحسنه وصححه ابن حبان (1125) و (1126) والحاكم في المستدرك 2/ 15 ووافقه الذهبي ونقل ابن حجر في التلخيص 3/ 22 تصحيحه عن ابن القطان وقال ابن حزم لا يصح. (¬2) الموطأ 2/ 616. (¬3) إسماعيل بن الفضل أبو القاسم التميمي الحافظ الكبير شيخ الإسلام إسماعيل بن الفضل بن علي القرشي الطلحي الملقب بقوام السنة صاحب الترغيب والترهيب ولد سنة 457 هـ ومات سنة 535 هـ قال أبو سعد السمعني هو أستاذي في الحديث وعنه أخذت هذا الفن وهو إمام كبير في الحديث واللغة والأدب وقال الدقاق كان عديم النطير لا مثل له في وقته وهو ممن يضرب به المثل في الصلاح وقال العبدري ما رأيت أحدًا قط مثله ذاكرته فوجدته حافظًا للحديث عارفًا بكل علم متقنًا. طبقات الحفاظ للسيوطي ص 463 البداية والنهاية =

.................. الأصبهاني ببغداد (¬1) عن ابن خلف (¬2) عن محمد بن عبد الله (¬3) عن أبى بكر بن إسحاق (¬4) عن عبد الله بن أيوب (¬5) عن محمَّد بن سليمان الذهلي (¬6) عن عبد الوارث بن سعيد (¬7) قال دخلت مكة فلقيت فيها أبا حنيفة (¬8) فسألته عن ¬

_ = 12/ 217 بغية الوعاة 1/ 455 تذكرة الحفاظ للذهبي 4/ 1277 شذرات الذهب 4/ 105 طبقات المفسرين للداودي 1/ 112 العبر 4/ 94 سير أعلام النبلاء 20/ 80 النجوم الزاهرة 5/ 267 المنتظم 10/ 90. (¬1) بغداد تقدم التعريف بها. (¬2) ابن خلف الشيخ العلامة النحوي أبو بكر أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن خلف الشيرازي ثم النيسابوري الأديب مسند وقته ولد في سنة ثمان وتسعين وثلاث مدّة وسمع في سنة أربع وأربعماثة ثم بعدها من أبي عبد الله الحاكم وحمزة المهلبي وعبد الله بن يوسف الأصبهاني وأبى بكر بن فورك وطبقتهم فأكثر قال عبد الغافر أما شيخنا ابن خلف فهو الأديب المحدث المتقن الصحيح السماع أبو بكر ما رأينا شيخًا أروع منه ولا أشد إتقانًا حصل على حظ وافر من العربية وكان لا يسامح في فوات لفظة مما يقرأ عليه ويراجع في المشكلات ويبالغ. رحل إليه العلماء سمعه أبوه الكثير وأملى على الصحة وسمعنا منه الكثير. قال إسماعيل بن محمد الحافظ كان حسن السيرة. من أهل الفضل والعلم محتاطًا في الأخذ ثقة وقال السمعاني كان فاضلًا عارفًا باللغة والأدب ومعاني الحديث في كمال العفة والورع مات سنة 487 هـ سير أعلام النبلاء 18/ 478 العبر 3/ 315. (¬3) محمد بن عبد الله هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري المعروف بالحاكم صاحب المستدرك كان فقيهًا حافظًا ثقة عاليًا لكنه يفضل علي بن أبي طالب على عثمان رضي الله عنهما. انتهت إليه رئاسة أهل الحديث مات سنة 405 هـ طبقات الشافعية لابن هداية الله ص 123 وقال فيه الذهبي في الميزان 3/ 608 إمام صدوق لكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة ويكثر من ذلك فما أدرى هل خفيت عليه فما هو ممن يجهل ذلك وإن علم فهذه خيانة عظيمة ثم هو شيعي مشهور بذلك من غير تعرض للشيخين ثم قال أما صدقه في نفسه ومعرفته بهذا الشأن فأمر مجمع عليه مات سنة (405 هـ) وانظر سير أعلام النبلاء 17/ 162 تاريخ بغداد 5/ 473 تذكرة الحفاظ 3/ 1039. (¬4) أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب النيسابوري المعروف بالصبغي كان واسع العلم إمامًا في الفقه والحديث والأصول ذا تصانيف ... ولد سنة 258 ومات منة 342 هـ طبقات الشافعية لابن هداية الله ص 69 وانظر الأنساب 8/ 33 - 24, العبر 2/ 258 طبقات الشافعية 3/ 9 - 12 سير أعلام النبلاء 5/ 483 تهذيب الأسماء واللغات 2/ 361. (¬5) عبد الله بن أيوب بن زاذان القربي الضرير عن أبي الوليد الطيالسي قال الدارقطني متروك وقال ابن قانع مات سنة (292 هـ) الميزان 2/ 394 المغني في الضعفاء 1/ 332. (¬6) محمد بن سليمان الذهلي لم أطلع على ترجمته. (¬7) عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم أبو عبيدة التنوري بفتح المثناة وتشديد النون البصري ثقة ثبت رمي بالقدر ولم يثبت عنه من الثامنة مات سنة (180 هـ) روى له الجماعة ت ص 267 ت ت 6/ 441 الكاشف 2/ 219 التاريخ الكبير 6/ 118 المعرفة والتاريخ 1/ 171 مشاهير علماء الامصار 160 تهذيب الكمال ل 435 ميزان الاعتدال 2/ 677 العبر 1/ 176 سير أعلام النبلاء 8/ 300. (¬8) أبو حنيفة هو النعمان بن ثابت بن نوطي أبو حنيفة الكوفي إمام أهل الرأي ضعفه النسائي من جهة حفظه وابن

بيعٍ وشرطٍ فقال البيع باطل والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلى (¬1) فسألته فقال البيع جائز والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي شبرمة (¬2) فسألته فقال البيع جائز والشرط جائز. فقلت ثلاثة اختلفوا في هذه المسألة ولم يتفقوا فيها على جواب. فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال لا أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط (¬3) ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته فقال لا أدري ما قالا حدثني هشام بن عروة (¬4) عن أبيه (¬5) عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها في بريرة اشتريها وأعتقيها (¬6) يعني الحديث ثم أتيت ابن أبي شبرمة فأخبرته فقال لا أدري ما قالا حدثني مسعر بن كدام (¬7) عن محارب بن ديثار (¬8) عن جابر بن عبد الله قال اشترى النبي - صلى الله عليه وسلم - منى ناقةً وشرط لي حملانها إلى المدينة (¬9). ¬

_ = عدي وآخرون. ميزان الاعتدال 4/ 265 تاريخ بغداد 13/ 323 ت ص 563 ت ت 10/ 449 الكامل لابن عدي 7/ 2472. (¬1) محمَّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ جدًا من السابعة مات سنة (148 هـ) روى له الأربعة ت ص 493 ت ت 9/ 301 وانظر الميزان 3/ 613 الكاشف 3/ 69. (¬2) هو عبد الله بن شبرمة بضم المعجمة وسكون الموحدة وضم الراء ابن الطفيل بن حسان الضبي أبو شبرمة الكوفى القاضي ثقة فقيه من الخامسة مات سنة (144 هـ) خت م د س ق/ ت ص 307 وانظر ت ت 5/ 250. (¬3) هذا الحديث رواه الطبراني في الأوسط كما في نصب الراية 4/ 17 والحاكم في معرفة علوم الحديث ص 128 والخطابي في معالم السنن 5/ 154 والبغوي في شرح السنة 8/ 147 والحديث ضعيف قال بن القطان علته ضعف أبي حنيفة في الحديث. نصب الراية 4/ 18. (¬4) هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي ثقة فقيه ربما دلس من الخامسة مات سنة خمس أو ست وأربعين ومائة وله 87 سنة ع/ ت ص 573 ت ت 11/ 48. (¬5) عروة هو ابن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي أبو عبد الله المدني ثقة فقيه مشهور من الثالثة مات سنة أربع وتسعين على الصحيح ومولده في أوائل خلافة عثمان ع/ ت ص 389 وانظر ت ت 7/ 180. (¬6) متفق عليه أخرجه البخاري في البيوع باب إذا اشترط شروطاً في البيع لا تحل 3/ 95 ومسلم في كتاب العتق باب إنما الولاء لمن أعتق رقم (1504) والموطأ 2/ 780. (¬7) مسعر بن كدام بكسر أوله وتخفيف ثانيه ابن ظهير الهلالي أبو سلمة الكوفي ثقة ثبت فاضل من السابعة مات سنة ثلاث أو خمس وخمسين ومائة. روى له الجماعة/ ت ص 528 ت ت 10/ 112 الكاشف 3/ 137. (¬8) محارب بضم أوله وكسر الراء بن دثار بكسر المهملة وتخفيف المثلثة السدوسي الكوفي القاضي ثقة بإمام زاهد من الرابعة مات سنة ست عشرة ومات ع/ ت ص 521 ت ت 10/ 49. (¬9) هذا الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في عدة مواضع من صحيحه منها في البيوع باب شراء الدواب والحمير =

فهذه أغراض متفاوتة في فهم مواقع ذكر الشروط في الحديث. وقد رأيت لعبد الحميد الصايغ جزء في تحصيل الشروط لكن على المذهب المالكي قد أتقن فيه ترتيب المذهب كنت كتبته بخطي وقرأته لكن شذ في سبيل القدر والذي يحصر الشروط في الأغلب ردها إلى القواعد التي مهدناها وعرضها عليها ولا يخلو وقع الشرط في العقد من أن يكون ملائمًا لمقصود العقد ومقصود العاقد غير مطرق إلى العقد عددًا ولا موقع للمال خسارةً فلا وجه لرده. هذا إذا كان مقصود العقد غير معارضٍ لطريقٍ من طرق الشريعة ومسائل هذا لا تحصر لكن يربط معظمها هذا الأصل الذي أشرنا إليه لعرضها على القواعد التي مهدنا (¬1) وخذوا من هذا القبس أمثلةً تكشف لكم كيفية عرض الوارد من نظائرها عليها: المثال الأول: إذا اشترى عبدًا أو جاريةً بشرط العتق قال أبو حنيفة: لا تجوز لأنه شرط شرطًا يناقض مقتضى (¬2) العقد لأن العقد يقتضي عقد الملك الدائم والتصرف اللازم على الإطلاق وهذا الشرط يصدمه فيفسده. وتعلق علماؤنا بحديث بريرة وحديث بريرة صحيح معضل في التأويل ولا عليكم بأس في تأخيره إلى مسائل الخلاف وهناك ينكشف معناه وعولوا على قاعدة المصالح والمفاسد التى مهدناها فلا يخفى على من نظر فيها أن المقاصد في هذا العقد سليمة عن المقاصد خالصةً لله, لأن المشتري يقول إنما أنا أبذل مالي في تحصيل العتق للعبيد لا في تحصيل الملك لي. والبائع يقول إن أزددت في ثمن العبد من مال المشتري فقد أعطاه هو لله وإن حططته فقد تركته لله فغاية المسألة أن هذا عتق اشتري بمالٍ ولا خلاف أن لو قال رجل لآخر أعتق عبدك عني على ألف فقال مالك العبد هو حر نفذ العتق ووجب المال إجماعًا وكذلك الصدقة. المثال الثانى: إذا اشترى عبدًا من رجل بشرط الهبة له أو لغيره انفرد بها مالك فقال هذا جائز. وقال الشافعي لا يجوز لأنه إنما يحتمل في البيع لحرمة العتق (¬3) وما فيه من التقرب إلى الله. قلنا له: وكذلك يحتمل الهبة لما فيها من المعروف والمواصلة وإسداء ¬

_ = انظر الفتح 4/ 320 وفي الشروط باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز/ الفتح 5/ 314 ومسلم في المساقاة رقم (715). (¬1) في م مهدناها. (¬2) انظر اللباب في شرح الكتاب 2/ 26 - 27 شرح السنة 18/ 153. (¬3) انظر مذهب الشافعى في شرح السنة 8/ 148.

أما باب النهى عن أن يطأ الرجل وليدة لها زوج

المعروف وتأكيد المواصلة قربة فهذا الذي لحظه مالك فيها. المثال الثالث: إذا باعه منه على ألا يبيعه المشتري ولا يفوته لم يجز لأنها مجانبة مناقضةٌ للعقد ومعارضة قال علماؤنا إلَّا أن يخرج إلى وجه معروفٍ مثل أن يكون لم ينقده الثمن فيقول له ذلك حتى ينقده الثمن وكذلك في المدة اليسيرة لا في الكثيرة. المثال الرابع: إذا باع منه عبدًا على أنه إن أبق كان من ضمانه أو مريضًا على أنه إن مات كان من ضمانه لم يجز لأن ذلك مناقض لمقصود العقد ومقتضاه إذ العقد يقتضي خروج المبيع عن ملك البائع وضمانه وهذا يضاده. المثال الخامس: إذا شرط عليه إن لم يأته بالثمن إلى أجل كذا وإلّا فلا بيع بينهما. قال علماؤنا لم يجز لأنه زاده في الثمن لموضع الشرط وهذا من أكل المال بالباطل وعرضه محمد بن المواز (¬1) على أصل آخر فقال إن كان في العقار والدور الشهر ونحوه جاز وفى العروض لا يجوز نظرًا إلى أن العروض تحول مع الساعات والأزمنة والدور لا تحول فينتفي فيه الغرر وإلى أن المدة اليسيرة داخلة في حد القلة فلا تعتبر كما لا تعتبر في الاستثناء وما شابهه من القاعدة السابعة. أما باب النهى عن أن يطأ الرجل وليدة لها زوج فذكر مالك فيها مسألة شراء الطلاق من الزوج حين أرضى ابن عامر زوج مملوكته (¬2) حتى طلقها والطلاق إنما يجوز شراؤه بين الزوج وزوجته، وفي حق غيرهما ليس مما يقابله مال بيد أن شراء الأمة ذات الزوج لما اختلف العلماء في بيعها هل يكون طلاقاً أم لا فإن كان طلاقًا بطل حق الزوج وإن كان باقيًا نزل السيد منزلة أمته في شراء الطلاق لوجهين: أحدهما أن السيد مالكها. ¬

_ (¬1) هو محمد بن إبراهيم بن زياد الاسكندري المعروف بابن المواز تفقه بابن الماجشون وابن عبد الحكم واعتمد على أصبغ ... كان راسخًا في الفقه والفتيا عالماً في ذلك مات سنة 269 هـ الديباج لابن فرحون 2/ 166 شجرة النور الزكية 1/ 68 المدارك 3/ 72 - 73 حسن المحاضرة 1/ 31. (¬2) مالك عن ابن شهاب أن عبد الله بن عامر أهدى لعثمان بن عفان جارية ولها زوج ابتاعها بالبصرة فقال عثمان لا أقربها حتى يفارقها زوجها فأرضى ابن عامر زوجها ففارقها. الموطأ 2/ 617.

وأما باب ثمر المال يباع أصله

والثاني إنه شريك للزوج فيها، الحل للزوج والبضع للسيد، وكذلك لو وطئها السيد لم يحد فكان شراؤه منه من باب المعروف. وأما باب ثمر المال يباع أصله (¬1) فينبني على القاعدة العاشرة وهي قاعدة المقاصد لأن الثمرة ما دامت كامنةً في الشجرة لم يتعلق بها قصد ولا أمكن لأحدٍ فيها تناول فإذا برزت تعلقت بها المقاصد وانفردت عن الشجرةِ صورةً وصفةً واسمًا فلذلك لم يتبعها، خلافًا لأبي حنيفة (¬2)، وقد مهدناه في مسائل الخلاف. فأما بيعها قبل بدو صلاحها فلا يخلو أن يكون بشرط القطع فذلك جائز إجماعًا لعدم المفسد، وإما أن يكون بشرط التبقية فهو باطل إجماعًا مبنيًا على قاعدة الغرر والجهالة، وأما إن باعها مطلقًا فقال الشافعي: لا يجوز لأن الإطلاق يقتضي التبقية إذ المقصود من الثمرة زهوها واجتناؤها طيبة (¬3). وقال أبو حنيفة ذلك جائز لأن مطلق العقد يحمل على الجائز شرعًا فيجوز ويكلف أن يجذ (¬4) واختلف جواب علمائنا (¬5) فورد بالوجهين والمسألة محتملة وقد مهدناها في مسائل الخلاف. والانصاف فيها أن العقد باطل لأن المقصود من الثمرة اجتناؤها طيبة فتحمل على المقاصد ويفسخ العقد حتى يصرح بما نوى. ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 617 مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (من باع نخلًا قد أبرت فثمرتها للبائع إلّا أن يشترط المبتاع) وأخرجه البخاري في البيوع باب من باع نخلًا قد أبرت 3/ 102 ومسلم في البيوع باب من باع نخلًا عليه ثمر رقم (1543). (¬2) قال الحافظ وقد استدل بمنطوقه (أي الحديث) على أن من باع نخلًا وعليها ثمرة مؤبرة لم تدخل الثمرة في البيع بل تستمر على ملك البائع وبمفهومه على أنها إذا كانت غير مؤبرة أنها لا تدخل في البيع وتكون للمشتري وبذلك قال جمهور العلماء وخالفهم الأوزاعي وأبو حنيفة فقالا تكون للبائع قبل التأبير وبعده. فتح الباري 4/ 402. (¬3) انظر شرح النووي على مسلم 10/ 191. (¬4) وانظر تفصيل مذهبه في أوجز المسالك 11/ 94 وشرح النووي على مسلم 10/ 191. (¬5) زيادة من ج.

وأما باب بيع العرايا

وأما باب بيع العرايا فيخرج على القاعدة الخامسة في استثناء المعروف من المغابنة والمكارمة من الربا. وقد روي عن مالك أن بيع العرية لا يجوز إلَّا بالدنانير والدراهم (¬1) وهذا ينبني على مسألةٍ من أصول الفقه اختلف فيها قوله، وهو أنه إذا جاء خبر الواحد معارضًا لقاعدة من قواعد الشرع هل يجوز العمل به أم لا؟ فقال أبو حنيفة لا يجوز العمل به وقال الشافعي يجوز العمل به وتردد مالك في المسألة ومشهور قوله والذي عليه المعول أن الحديث إذا عضدته قاعدة أخرى قال به وإن كان وحده تركه. ولهذا قال في مسألة غسل الإناء من ولوغ الكلب (¬2) قد جاء هذا الحديث ولا أدري ما حقيقته (¬3) لأن هذا الحديث عارض أصلين عظيمين أحدهما قول الله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} (¬4) قال مالك يؤكل صيده فكيف يكره لعابه (¬5). والثاني: أن علة الطهارة هي الحياة وهي قائمة في الكلب (¬6). ¬

_ (¬1) قال أبو عمرو لا يجوز بيع العرية حتى يبدو صلاحها فإذا بدا صلاحها جاز بيعها بالدنانير والدراهم والعروض كلها من كل أحد. الكافي 2/ 654 وكذا قال ابن الجلاب في التفريع 2/ 150. (¬2) متفق عليه من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات) البخاري في الوضح باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا 1/ 54 ومسلم رقم (279) في الطهارة باب حكم ولوغ الكلب والموطأ 1/ 34. وفي رواية لمسلم أولاهن بالتراب. (¬3) المدونة 1/ 5. (¬4) سورة المائدة آية (4). (¬5) المدونة 1/ 6. (¬6) قال الباجي اختلف قول مالك رحمه الله في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسل الإناء من ولوغ الكلب فمرة حمله على الوجوب ومرة حمله على الندب فوجه الوجوب أمره - صلى الله عليه وسلم - بغسله والأمر يقتضي الوجوب ووجه الندب أنه حيوان فلم يجب غسل الإناء من ولوغه أصل ذلك الحيوان - المنتقى 1/ 73 قلت يقصد بذلك الباجي أن مشهور مذهب مالك هو طهارة الحيوانات كلها ومنها الكلب بناء على أن الأصل في الأشياء الطهارة مع أن الله تعالى قال في كتابه العزيز: {فكلوا مما أمسكن عليكم} قال ابن رشد (يريد أنه لو كان نجس العين لتنجَّس الصيد بمماسته وأيد هذا التأويل بما جاء في غسله من العدد والنجاسات ليس بشرط في أصلها العدد فقال يعني مالكًا إن هذا الأصل إنما هو عبادة. ثم قال وقد ذهب جدي رحمه الله في كتاب المقدمات إلى أن هذا الحديث معلل معقول المعنى ليس من سبب النجاسة بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كَلِبًا فيخاف من ذلك السم قال ولذلك جاء هذا العدد الذي هو السبع في غسله فإن هذا العدد قد استعمل في الشرع في مواضع كثيرة في العلاج والمداواة من الأمراض وهذا الذي قاله رحمه الله وجه حسن على طريقة المالكية. =

وأما باب الجائحة في الثمار

وأما حديث العرايا: فإن صدمته قاعدة الربا عضدته قاعدة المعروف. وأما باب الجائحة في الثمار (¬1) فهي مسألة انفرد بها مالك دون سائر فقهاء الأمصار وهي مسألة تنبني عليها القاعدة الخامسة في العرف وعلى القاعدة العاشرة في المقاصد والمصالح ونحن ننبهكم عليها بعد أن نذكر حكم (¬2) الثانى المعظم فيها. روى مسلم في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بوضع الجوائح (¬3) فإذا ثبت هذا الأصل فالذي ينفي عنه اعتراضات المخالفين وتأويلاتهم مرده إلى قاعدة المقاصد والمصالح والعرف الجارية عليه الأحكام الشرعية فنقول من حكم عقد البيع أن يتنزل المشترى منزلة البائع في المبيع ملكًا بملك وحالًا بحال ومنفعةً بمنفعةٍ. وإذا اشترى الثمرة بعد بدو صلاحها من صاحبها فذلك محمول على حال البائع فيها وعلى عرف الناس في العمل بها وهو أن يقبضها ملكًا بملك وحالًا بحال ولا يجوز أن يقال إن عليه أن يجدها جملة لأن البائع لها لما لم يكن حاله كذلك فيها ولأن المقصود والمعتاد والمصلحة لا تقتضي ذلك فيها فإذا نزلت الجائحة عليها من غير تفريط من المشتري في اقتضائها مصيبة نزلت قبل القبض فلا كلام لأحدٍ من المخالفين عليها بيد أن المتقدمين من علمائنا اختلفوا في نكتة وهي أن الجائحة المكتسبة هل تساوي الجائحة الواقعة بالقدرة الإلهية أم لا، وصورتها أن نزول الجيش على البلد وإفساده للثمار هل يساوي هبوب الضرر ووقوع البرد أم لا وهي مسألة نظرية وقد حققناها في مسائل الفروع (¬4). ¬

_ = بداية المجتهد 1/ 31 وانظر الاستذكار لابن عبد البر 1/ 258 تفسير القرطبي 6/ 69 مقدمات ابن رشد الجد 1/ 91. (¬1) الموطأ 2/ 621 (¬2) زيادة من ج وك. (¬3) مسلم في المساقاة (1554) باب وضع الجوائح من حديث جابر بن عبد الله أن النبى - صلى الله عليه وسلم - (أمر بوضع الجوائح). (¬4) هذا الخلاف الذي أشار إليه الشارح فصله الباجي فقال اختلف أصحابنا في معى ما يوضع من الجوائح فعند ابن القاسم أن ما لا يستطاع دفعه وإن علم به فإنه يكون جائحة ولا يستطاع دفعه إن علم به فلا يكون جائحة كالسارق قاله في كتاب ابن المواز وهو مذهب ابن نافع في المدونة وروى ابن القاسم في المدونة أن كل ما أصاب الثمرة بأي وجه كان فهو جائحة سارقًا كان أو غيره، وقال مطرف وابن الماجشون لا يكون جائحة إلّا ما أصاب الثمرة من السماء من عفن أو برد أو فساد بحر أو برد أو بكسر الشجر وأما ما كان من صنع آدمي فيبس =

وأما باب ما يجوز من استثناء الثمر

وأما باب ما يجوز من استثناء الثمر (¬1) فقد تقدم في القاعدة الخامسة الإشارة إليه وذلك يجوز من ثلاثة أوجهٍ: بذهب من ذهب أو بكيل من جزافٍ أو بكيل من كيل مثل أن يقول: ثلث أو ربع. وانفرد مالك بمسألةٍ دون سائر العلماء وهي بأن يختار نخلات من الجملة (¬2) ووافقه بعضهم فيها على تفصيلٍ وهي وإن كانت غررًا لأن هذا الذي يختار لعله يجعل يده في الأطيب، ولكن هذا الغرر يسير ولا خلاف بين العلماء في أن يسير الغرر لغو معفو عنه وهذا يستمد من بحر المقاصد كما تقدم بيانه في القواعد. واتفق فقهاء الأمصار على أن ذلك لا يجوز وكان ابن عمر (¬3) وابن المسيب يريان (¬4) الاستثناء على الاشاعة وغيرهم. وكان ابن سيرين يجوّز أن يستثنى كيل أو كوزن (كذا) (¬5) (¬6) وعلى كل حال فإن المسألة ترجع إلى أن المستثنى هل هو داخل في المبيع، ولا خلاف بين العلماء والعرب (¬7) أن المستثنى لا يدخل في المستثنى منه مرادًا وإن دخل فيه لفظًا لأنه لو كان كذلك لكان الاستثناء نسخًا وذلك محال وخلط للحقائق فثبت أنه تخصيص للعموم وبيان للمراد. ولكن الفقهاء اختلفوا هل يدخل في المبيع أم لا لاحتمال أن يكون البائع قد قصد إلى خاله في المبيع ثم ندم فأخرجه، ولذلك قال بعض علمائنا: إن الاستثناء في اليمين لا ¬

_ = بجائحته فوجه المنتقى 4/ 232 - 233 الكافي 2/ 687. (¬1) الموطأ 2/ 622. (¬2) قال مالك أما الرجل يبيع ثمر حائطه ويستثني من ثمر حائطه نخلة أو نخلات يختارها ويسمى عددها فلا أرى بذلك بأسًا. الموطأ 2/ 622. (¬3) روى عبد الرزاق في المصنف 8/ 261 قال أخبرنا معمر قال سمعت شيخًا يقال له الزبير أبو سلمة قال سمعت ابن عمر وهو يبيع ثمرة له فيقول أبيعكموها بأربعة آلاف وطعام الفتيان الذين يعملونها. ورواه ابن أبى شيبة قال حدثنا ابن أبى زائدة عن بشير عن أبى حازم قال اشترينا من ابن عمر ثنيًا واستثنى بعضه. المصنّف 6/ 330. أقول رواية عبد الرزاق فيها الزبير أبو سلمة البصري يشير به بأس من الرابعة خـ ت س/ ت ص 214 وانظر ت ت 3/ 318 وقد تابعه أبو حازم عند ابن أبى شيبة فيكون الأثر صحيحًا إلى ابن عمر. (¬4) لم أطلع عليه. (¬5) زدناها لتوضيح العبارة. (¬6) رواه ابن أبي شيبة فى المصنف 6/ 331 قال حدثنا ابن أبى زائدة عن يزيد عن ابن سيرين أنه كان لا يرى بأسًا أن يبيع الرجل ثمرته ويستثنى نصفها ثلثها ربعها. وهذ الأثر صحيح إلى ابن سيرين. (¬7) في ج العرب والعلماء.

باب ما يكره من بيع الثمار

يكون إلّا بأن ينوى الحالف حالة اليمن أو قبل آخر حرف من حروفها فإن نوى الاستثناء بعد تمام اليمين لم ينفعه وكان ندمًا وهذا في اليمين ضعيف لأن الله تعالى جعل الاستثناء رخصةً تجيء بعد اليمين فجعلها كما جعل الكفارة أيضًا رخصةً تحل اليمين إلَّا أن الكفارة منفصلة والاستثناء متصل حتى يتم للعبد الدرك في الوجهين جميعًا. فأما المبيع فقال من أباه ورآه داخلًا في المبيع فيه غرر وهذا إنما يكون لو علم المبتاع ما في نفس البائع فأما إذا لم يعلم ما في نفسه وانعقد البيع بعد التصريح بالاستثناء فليس للغرر فيه مدخل والقول فيها ممتد الاطناب واستيفاؤه في كتب المسائل. باب ما يكره من بيع الثمار (¬1) أطلق مالك رحمه الله لفظ المكروه على الحرام لأنه يتناوله تناوله للفعل الذي في تركه ثواب وليس في فعله عقاب كما يتناول المأمور للفعل الذي يلام تاركه (ويحمد فاعله ويتناول أيضًا لفعل يحمد فاعله ولا يلام تاركه) (¬2) ويسمى في عرف المتأخرين المندوب والمكروه عندهم هو الذي ليس في فعله عقاب وفي تركه ثواب خلاف المحظور واللغة ما أشار إليه مالك رحمه الله. والاصطلاح حسن للتمييز بين المشتركات قصد البيان والتفصيل من المختلفات. فأما حديث عامل خيبر في التمر (¬3)) فإن مسلمًا روى فيه (وكذلك الميزان) (¬4) فسوى بين الوزن والكيل وصار أصلًا في معرفة التساوي لأن الله شرطه وهو معنى خفي ثم جعل السبيل إليه الكيل والوزن وهي غاية القدرة في معرفة التساوي وقد سمعت فخر الإسلام أبا بكر محمَّد بن أحمد الشاشي ببغداد في الدرس يقول قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للعامل: (بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) وكذلك الميزان ولم يفرق بين أن ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 623. (¬2) زيادة من خ وك وم. (¬3) روى أبو سعيد الخدري وأبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلًا على خيبر فجاءه تمر جنيب فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل تمر خيبر هكذا فقال لا والله يا رسول الله إنا نأخذ الصاع من هذا بالصاعون والصاعين بالثلاثة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا تفعل بيع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) لفظ الموطأ 3/ 633 ورواه البخاري في البيوع باب إذا أراد بيع تمر بتر خير منه 3/ 102 ومسلم في كتاب المساقاة باب بيع الطعام مثلًا بمثل (95). (¬4) مسلم في كتاب المساقاة (94).

يبتاع الجنيب من مشتري الجميع أو من غيره وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأكثر فقهاء الأمصار وقال مالك لا يفعل ذلك بحضرة العقد الأول مخافة أن يكونا متواطئين عليه فيرجعان بعملهما إلى ما نُهى عنه وهذا ينبني على قاعدة الذرائع (¬1) وقد مهدناها في موضعها. وأما حديث البيضاء بالسلت (¬2) فإن كثيرًا من العلماء اجتنبه لأن زيدًا أبا عياشٍ عندهم مجهول (¬3) ومن يروي عنه مالك ابن أنسٍ ليس بمجهولٍ فإن روايته تعديل لما ثبت من عظيم تحريهِ وقد قال جماعة من العلماء إن المزكى في الشهادة يجوز أن يكون واحدًا فكيف في الخبر الذي هو أسرع في الإثبات والمسألة متقنة في أصول الفقه فلينظر هنالك. وأما بيع الرطب باليابس كالرطب بالتمر والبيضاء بالسلت فإن جماعةً من فقهاء الأمصار أبته منهم الشافعي ومالك، وجوزه أبو حنيفة وهي أول مسألة سئل عنها ببغداد قال لنا فخر الإِسلام: دخل أبو حنيفة بغداد فسئل عن هل يجوز بيع الرطب بالتمر فقال: ذلك جائز فقيل له ما الدليل فقال: لا يخلو أن يكون الرطب بالتمر جنسًا واحدًا أو جنسين فإن كان جنسًا واحدًا كان (¬4) متماثلًا. وإن كان جنسين كان (¬5) متفاضلًا ومتماثلًا. قيل له إن زيدًا أبا عياشٍ سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت الحديث إلى آخره فقال: زيد ¬

_ (¬1) انظر شرح الزرقاني 3/ 267 والمنتقى 4/ 239. (¬2) مالك عن عبد الله بن يزيد أن زيدًا أبا عياش أخبره أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن البيضاء بالسلت فقال له سعد أيتهما أفضل قال البيضاء فنهاه عن ذلك وقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن اشتراء التمر بالرطب فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أينقص الرطب إذا يبس)؟ فقالوا نعم فنهى عن ذلك الموطأ 2/ 624 والشافعي في الرسالة فقرة (907) وأبو داود (3359) والترمذي (1225) والنسائي 7/ 268 - 269 وابن ماجه (2264) وشرح السنة 8/ 78 ورواه الحاكم في المستدرك 2/ 38 - 39 عن الأصم عن الربيع بإسناده ثم رواه بأسانيد أخر ثم قال هذا حديث صحيح لاجماع أئمة النقل على إمامة مالك بن أنس وأنه محكم في كل ما يرويه من الحديث إذ لم يوجد في روايته إلّا الصحيح خصوصًا في حديث أهل المدينة ثم لمتابعة هؤلاء الأئمة إياه في روايته عن عبد الله بن يزيد والشيخان لم يخرجاه لما يخشياه من جهالة زيد أبي عياش ووافقه الذهبي. وقال الخطابي وقد تكلم بعض الناس في إسناد سعد بن أبي وقاص وقال زيد أبي عياش راوية ضعيف ومثل هذا الحديث على أصل الشافعي لا يجوز أن يحتج به وليس الأمر على ما توهمه وأبو عياش هذا مولى لبني زهرة وقد ذكره مالك في الموطأ وهو لا يروي عن رجل متروك الحديث بوجه وهذا من شأن مالك وعادته معلم. مختصر السنن ومعالم السنن 5/ 33 قلت صحح الترمذي وابن خزيمة وابن حبان هذا الحديث. (¬3) زيد بن عياش أبو عياش بتحتانية ومعجمة أبو عياش المدنى صدوق من الثالثة روى له الأربعة /ت ص 224. (¬4) في ك وم جاز. (¬5) في ك وم جاز.

باب المزابنة

أبو عباشٍ لا أعرفه (¬1). وهذا الدليل الذي ذكره أبو حنيفة هو محض القياس ولُباب النظر لولا الحديث المذكور. إلّا أن عنده أن خبر الواحد إذا خالف الأصول سقط في نفسه وقد مهدنا ذلك في أصول الفقه. وطعنه في زيد أبي عياش بجهالته به لا يوثر منه فيه فإن كان موقوفًا على رواية المجهول والضعيف فصار هذا الحديث قاعدةً في قواعد الربا اتفق عليه في الجملة العلماء حتى أن أبا حنيفة ناقض أصله فقال لا يجوز بيع الحنطة المبلولة باليابسة بحالٍ (¬2) وهو هو الرطب بالتمر بعينه وليس لأصحابه في هذا جواب (¬3) ينفع وهذا هو بيع الرطب باليابس وأصل فيه. وأما بيع الرطب بالرطب كالرطب بالرطب فاختلف عبد الملك والأصحاب (¬4) فيه وكذلك العجين بالعجين. ذكر ابن القاسم جوازه في كتاب محمَّد ولم يجوز في العتبية الدقيق بالعجين بحالٍ. (وقال) (¬5) وإذا منع الرطب باليابس لأن التماثل (¬6) مجهول بينهما حالة الادخار وكذلك يلزم في الرطب بالرطب لأن تساويهما حالة الادخار مجهول أيضًا إلّا أن علماءنا سامحوا في العجين بالعجين ليسارته وخفة أمره وأنه مستثنى من القاعدة للحاجة إليه وبقي التحريم في الكثير الذي يقصد منه المغابنة والمكايسة على أصل القاعدة. باب المزابنة (¬7) ذكر حديث ابن عمر قال: والمزابنة بيع التمر بالتمر كيلًا وبيع الكرم بالزبيب كيلًا (¬8) ¬

_ (¬1) هذا الكلام نقله صاحب فتح القدير فانظره فيه 5/ 292 - 293 واللباب في شرح الكتاب 2/ 40. (¬2) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 5/ 289. (¬3) في ج فيها. (¬4) انظر المنتقى 4/ 243 الهداية 7/ 230. (¬5) ليست في بقية النسخ. (¬6) انظر الهداية 7/ 242. (¬7) الموطأ 2/ 624. (¬8) مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن المزابنة والمزابنة بيع التمر كيلًا وبيع الكرم بالزبيب كيلًا) الموطأ 2/ 624 وأخرجه البخاري في كتاب البيوع باب بيع المزابنة 3/ 98 ومسلم في البيوع رقم (1542) والشافعي في الرسالة (906).

وذكر حديث أبي سعيد في المزابنة والمحاقلة (¬1) وفسر المحاقلة بكراء الأرض بالحنطة. وفسرها سعيد بن المسيب باشتراء الزرع بالحنطة واستكراء الأرض بالحنطة (¬2). وقال مالك: المزابنة كل شيء من الجزاف الذي لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده ابتيع بشيء مسمى من الكيل والوزن والعدد (¬3) واختصاره اشتراء المجهول بالمعلوم، وقيل المحاقلة في المخابرة بعينها، وهي أكتراء الأرض بالحنطة مأخوذ من الحقل وهي القراح من الأرض. وفي الحديث أيضًا (النهي عن بيع المخاضرة) (¬4) ولعله اشتراء الرطب باليابس من أموال الربا واشتراء الرطب بالرطب منها واشتراء الثمر قبل أن يبدو صلاحه ونحوه على التبعية، أو لعله اشتراؤه قبل وجوده وهي المعاومة المنهي عنها في الحديث وهي اشتراء تمر أعوامًا، ويحتمل أن يكون المراد به الجميع من باب حمل اللفظ الواحد على المختلفات المتعددة وقد بيناه في أصول الفقه ومسائل الخلاف. وقيل المخابرة مأخوذ من الخبير (¬5) وهو ¬

_ (¬1) ولفظه (نهى عن المزابنة والمحاقلة والمزابنة اشتراء التمر بالتمر في رؤوس النخل والمحاقلة كراء الأرض بالحنطة). الموطأ 2/ 625 والبخاري في البيوع باب بيع المزابنة 3/ 99 ومسلم في البيوع باب كراء الأرض رقم (1546). (¬2) الموطأ 2/ 625 مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله (نهى عن - صلى الله عليه وسلم - المزابنة والمحاقلة والمزابنة اشتراء التمر بالتمر والمحاقلة اشتراء الزرع بالحنطة واستكراء الأرض بالحنطة) قال ابن عبد البر هذا الحديث مرسل في الموطأ عند جميع الرواة وكذا رواه اصحاب ابن شهاب عنه. وقد روى النهي عنهما جماعة منهم جابر وابن عمر وأبو هريرة ورافع بن خديج وكلهم سمع منه ابن المسيب ورواه ابن أبي شيبة. عن أبي الأحوص عن طارق بن سعيد عن رافع بن خديج قال (نهى - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة) وقال إنما يزرع ثلاثة رجل له أرض فهو يزرعها ورجل منح أرضًا فهو يزرعها ما منح رجل استكرى أرضًا بذهب أو فضة. شرح الزرقاني على الموطأ 3/ 269. (¬3) الموطأ 2/ 625. (¬4) البخاري في البيوع باب بيع المخاضرة 3/ 102 من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال (نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمخاضرة والملامسة والمزابنة). والحاكم في المستدرك 2/ 57 والدارقطنى في السنن 3/ 76 قال الدارقطنى قال عمر فسر أبى المخاضرة قال لا يشترى شيئاً من الحرث والنخل حتى يونع يحمر أو يصفر وأما المنابذة فيرمى بالثوب ويرمى إليكم مثله فيقول هذا لك بهذا والملامسة يشترى المبيع فيلمسه لا ينظر إليه المحالقة كراء الأرض, والمخاضرة بيع الثمار قبل أن تطعم وبيع الزرع قبل أن يشتد ويفرك منه. فتح البارى 4/ 404. (¬5) الخبير النبات والعشب شبه بخبير الابل وهو وبرها واستخلابه احتشاشه بالمخلب وهو المنجل والخبير يقع على الوبر والزرع والاكار. النهاية 2/ 7.

باب جامع بيع الثمار

الحراث. ويعود الحديث إلى النهي عن كل ما لا يجوز فيه من ابتياع ربًا أو مجهولٍ ويحتمل أن يكون مأخوذًا من خيبر وذلك ما كان يصنع فيها أهلها قبل الإِسلام فلما افتتحها الله لرسوله مهد الشريعة ويين الأحكام فعاملهم وساقاهم حسب ما ورد في الحديث (¬1) وتحقيق اللفظ في اللغة المدافعة لأن الزبن هو الدفع (¬2) لكن ابن عمر وأبا سعيد وابن المسيب فسروه ببعض المجهول والغرر الذي فيه التدافع إما لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك من لفظه وذكر وجوه الزبن ليدل على الباقي أو يكون الراوي هو الذي ذكره كذلك أو يكون الراوي أيضًا إنما انتحى ما ذكّر (¬3) بالتفسير دون غيره من محتملاته لأنه فهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصده أو إنه كان أكثر النوازل عندهم في الباب. ولكن إذا فهمت القاعدة والمعنى ورأيت الاختلاف بين الرواة والعلماء فركب عليه كل ما في معناه فقد مهد لك مالك رضي الله عنه التركيب في هذا الباب حين قال ومن ذلك إلى آخره (¬4). باب جامع بيع الثمار (¬5) هذا الباب مسائله تدور بين أربع قواعد: قاعدتان في المنع والفساد وهي الربا والجهالة. وقاعدتان في الجواز وهي المصالح والعادة. فإن العادة إذا جرت أكسبت علمًا ورفعت جهلًا وهونت صعبًا وهي أصل من أصول مالك وأباها سائر العلماء لفظًا ويرجعون إليها على القياس معنى. لقد قلت يومًا لشيخنا فخر الإِسلام وقد جرت مسألة إذا باعه بمائة دينار وخمسين هل تحمل الخمسون على الدنانير أم لا؟ فذكر الخلاف ورجح الحمل عليها فقلت له وهذه المائة الدنانير أمرابطية تكون هي أم أميرية؟ فقال أميرية فقلت له قضاء العادة لأنه لا يجري في مدينة السلام غيرها. وقد قال أبو القاسم بن حبيب القروي (¬6) قال لنا الشيخ أبو القاسم (¬7) عبد الخالق ¬

_ (¬1) عن عبد الله بن عمر قال "أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر ليهود أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها" متفق عليه البخاري في الاجارة باب إذا استأجر أرضًا فمات أحدهما. البخاري 3/ 123 وفي المزارعة باب المزارعة بالشطر ونحوه انظر الفتح 5/ 10 ومسلم في المساقاة (1551). (¬2) قال في القاموس الزبن كالضرب الدفع وبيع كل تمر على شجره بتمر كيلًا ترتيب القاموس 2/ 433. (¬3) في م ذكرنا. (¬4) الموطأ 2/ 625. (¬5) الموطأ 2/ 627. (¬6) لم أطلع على ترجمته. (¬7) عبد الخالق أبو القاسم السيوري من أهل أفريقيا هو أبو القاسم بن عبد الوارث خاتمة علماء أفريقية وآخر شيوخ القيروان ذو البيان البديع في الحفظ والقيام على المذهب والمعرفة بخلاف العلماء كانت وفاته (460 هـ) بالقيروان الديباج 2/ 22 شجرة النور الزكية ص 116 الفكر السامي 2/ 212.

وأما باب بيع الذهب بالورق عينا وتبرا

السيوري قلنا لأبي بكر بن عبد الرحمن وذكر قصة القضاء بالعرف والعادة وقد تقدم. ويتعلق من فروع هذا الباب بذرائع الربا والجهالة مسائل بيناها فيها وأما بيع الفاكهة (¬1) فيستمد من حديث النهي عن ربح ما لم يضمن ويستند إلى قاعدة أكل المال بالباطل. وأما باب بيع الذهب بالورق عينًا وتبرًا (¬2): فإن حكم الربا يتعلق بعين الذهب والفضة ولا خلاف فيه. فإن كان حليًا فقد اختلف علماؤنا فيه هل تجري فيه أحكام الربا كلها كما تجري في الذهب والفضة أم لا؟ وهذا يستمد من بحر المقاصد فإنه كان عيناً في أصله فأخرجه القصد والصياغة إلى باب (العروض) (¬3) وعضد الشرع هذا الأصل عندنا وعند (الشافعي) بتعين حكم الشرع إيجاب الزكاة فيه فأسقطها في الحلي حين تغيرت هيئته وخرج عن الذهب والفضة في هيئتهما والمقصود بهما وهذا الدليل لا غبار عليه فمهد المسألة في كتاب الزكاة وبين الحكم عليها هنا وقال جماعة من العلماء: الربا منصوص عليه متوعد فيه والمقاصد والمصالح مستنبطةٌ فقد تعارضت قاعدتان: إحداهما قاعدة الربا وهي منصوص عليها متفق فيها. والثانية قاعدة المصالح والمقاصد وهي مستنبطة مختلف فيها فكيف يتساويان فضلًا عن أن ترجح قاعدة المصالح والمقاصد. واستهول هذا القول جماعة. والجواب فيه سمح فإن الربا وإن كان منصوصًا عليه في ذاته وهي الزيادة فإنه عام في الأحوال والمحال والعموم يتخصص بالقياس فكيف بالقواعد المؤسسة العامة. وأما حديث السعدين (¬4) ففيه غائلة وهي أن الأواني هل يجوز اتخاذها أم لا؟ فإن ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 231. (¬2) الموطأ 2/ 632. (¬3) ليست في ج. (¬4) الموطأ 2/ 632 مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعدين (سعد بن أبي وقاص وسعد بن عبادة) أن يبيعا آنية من المغانم من ذهب أو فضة فباعا كل ثلاثة بأربعة عينًا أو كل أربعة بثلاثة عينًا فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أربيتما). قال ابن عبد البر هذا مرسل ورواه ابن وهب عن الليث بن سعد وعمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد أنه

العلماء اتفقوا على منع استعمالها لنهي النبى - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح عن الأكل والشرب فيها وقال: (هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة) (¬1). فاقتضى قوله هذا تحريم الاستعمال في كل وجهٍ فأي فائدة في اتخاذها. وقد جاءت مسائل علمائنا في مراعاة قيمة العمل فيها في مسائل من الزكاة وغيرها تأسيس منها. أما تغيير الذهب والفضة بالهيئة والقصد فلا يغير حكمه الثابت شرعًا لتغيير هيئته لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - حرم ذلك بجملته كما قدمناه، إلّا أنه - صلى الله عليه وسلم - كانت قبيعة سيفه فضة (¬2) فخرج هذا من تحريم عموم الاستعمال عليه بفعله وعلينا في الاقتداء به مبينًا ذلك أيضًا على قاعدة تعارض القول والفعل حسب ما بيناه في أصول الفقه (¬3). وقاس عليه الصحابة رضوان الله عليهم حلية المصحفه لأنها طاعة والرمح لأنه مثله وحمل عليه بعضهم آلة الحرب كلها لأن فيها إرهابًا وقياسًا على الحرير. واستثنى منها العلماء اليسير كطوق في (قعب شعبا (¬4) له من صدع نزل به) أوحفظًا له من صدع يتوقع عليه لأن حفظ الصحيح عن الكسر يجبر عن الكسر لأن (¬5) الاحتراز من الموهوم جائز في الجملة على تفصيل طويلٍ ربما جاء شيء منه في كتاب الجامع إن شاء الله فتبقى الآنية على أصل التحريم لأنها صورة لا منفعة فيها شرعًا ولا قيمة لها في الحكم فإن كانت في زكاةٍ على يدي المدبر لم تعتبر في القيمة وكانت لغوًا وإن أتلفها رجل لم يلزمه ضمان ¬

_ = حدثهما أن عبد الله بن أبي سلمة حدثه أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره قيل إن شيخه عبد الله هو الهذلى يروي عن ابن عمرو وغيره وزعم البخاري أنه والد عبد العزيز بن أبي سلمة. شرح الزرقاني 3/ 276. (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في الأطعمة باب الأكل في إناء مفضفض 7/ 99 ومسلم في اللباس والزينة (2067) وشرح السنة 10/ 369 من حديث حذيفة بن اليمان. (¬2) رواه أبو داود وانظر تهذيب السنن 3/ 403 والترمذي 4/ 202 ولفظه عن قتادة عن أنس قال "كانت قبيعة سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فضة" قال أبو عيسى حديث حسن غريب وهكذا روى همام عن قتادة عن أنس وقد روى بعضهم عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن قال كانت قبيعة سيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فضة. ورواه النسائي 8/ 219 وقال المبارك فوري هذا الحديث مرسل لأن سعيد بن أبي الحسن تابعي. (قال الحافظ في التقريب ص 234 سعيد بن أبي الحسن البصري أخو الحسن ثقة من الثالثة). ثم قال قد صرح أبو داود والنسائي وغيرهما بأن حديث هشام عن قتادة عن سعيد بن أبي الحسن هو المحفوظ. تحفة الأحوذى 3/ 339 - 340. (¬3) أنظر كتاب المحصول للشارح ك 65 ل. (¬4) السبب الصدع في الشئ وإصلاحه أيضًا الشعب ومصلحة الشعاب والآلة مشعب والشعبة أيضًا الرؤية وهي قطعة يشعب بها الإناء يقال قصعة مشعبة أي شعبت في مواضع منها شدد للكثرة. صحاح الجوهري 1/ 156. (¬5) في ك وم إذ الاحتراز.

باب الصرف

كالصليب من الذهب والفضة والطنبور (¬1) إذ لم يكن فيهما منفعًة شرعًا سقط ضمانهما حكمًا فأما إذا اتخذه حليًا فباعه بذهب يزيد على وزنه يكون في مقابلة الصياغة فإن ذلك حرامٌ بإجماع من الأمة مبني على القاعدة التي مهدناها من أن الصفقة إذا ضمت مالي ربًا ومعهما أومع أحدهما ما يخالف في القيمة سواء كان من جنسه أو من غير جنسه فإن ذلك لا يجوز. أمّا إن مالكًا خفف أن يأتي الرجل بالنقرة زنتها مائة درهم إلى دار السكة فيعطيها ومعها خمسة دراهمَ قيمة ضربها ويأخذ في الحال مائةً (¬2) مضروبة فيكون في الصورة قد باع مائة وخمسة بمائةٍ وهذا محض الربا والذي أوجب جواز ذلك أنه لو قال له أضرب لي هذه وقاطعه على ذلك باجرةٍ فلما ضربها قبضها منه وأعطاه أجرته فالذي جعل مالك أولًا هو الذي يكون آخرًا ومالك إنما نظر إلى المال فركب عليه حكم الحال وأباه سائر الفقهاء والحجة فيه لمالكٍ بينهٌ كما قدمنا. وفي هذه الأبواب بيع المكيل والموزون والمعدود جزافًا فأما المكيل والموزون من الطعام فلا خلاف بين العلماءِ في جوازه جزافًا لأن الحزر فيه طريق إلى العلم به في الغالب والغرر فيه قليل ولا يقابله من الجهة الأخرى مال ربًا فجازوا الأصل في ذلك جواز بيع الثمار على رؤوس الأشجار. فأما الذهب والفضة فالأشهر فيه عند العلماء جوازه إلاَّ أن يجري عدداً فإن مالكًا كره بيع المعدود جزافًا وينبني على قاعدة الغرر وينبني الغرر ههنا على المقاصد وذلك بأن المقصود رد الدراهم من الموزون إلى المعدود وجاز ذلك شرعًا فلما صار معدودًا شرعًا وعادةً كان غررًا بيعه جزافًا إذ لا يتحصل ذلك والله أعلم. باب الصرف (¬3) هذه كلمة لم تأت بهذا إلينا في كتاب الله ولا جاءت على لسان رسوله أما أنها عربية فصيحة جاء لفظ الفعل منها في حديث طلبة قال فيه "فتراوضنا حتى اصطرف (¬4) مني (¬5) ". والصرف في لسان العرب بيع النقدين بعضهما ببعض. قال علماؤنا وقد غلط أبو ¬

_ (¬1) آلة للطرب مختار القاموس ص 390 وانظر ترتيب القاموس 3/ 101. (¬2) في م زيادة مائة درهم. (¬3) الموطأ 2/ 636. (¬4) تراوضنا أي تجارينا حديث البيع والشراء وهو ما بين المتبايعين من الزيادة والنقصان كأن كل واحد منهما يروض صاحبه. شرح الزرقاني 3/ 282. (¬5) الموطأ 2/ 636 مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان النصري إنه التمس صرفًا بمائة دينار قال =

حنيفة في هذه المسألة فقال إن التفرق قبل التقابض يجوز في بيع كل مالٍ ربوي ما عدا النقدين فإن التقابض قبل التفرق واجب فيهما سواء بيع الجنس بالجنس أو بغيره منهما قال لأن اسم المبايعة فيهما صرف (¬1) وذلك عبارة عن صرف أحدهما في الآخر فإذا لم يوجد التقابض لم يوجد معنى الاسم وهذا وهم من ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن اللفظة كما قلنا لم ترد في كلام الشارع فينبني عليها حكم. الثانى: أن الصرف في اللغة كما قالوا مأخوذ من صرف أحد العوضين في الآخر وقد يكون ذلك بالقول وقد يكون بالفعل وهو عام في كل معاوضةٍ وإنما خص في اللغة بيع النقدين لذلك تعريفًا. الثالث: حديث عمر قال: قال رسول الله (الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء) (¬2) الحديث وفي الصحيح (فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد) (¬3) وهذا نص. وقد اختلف العلماء في علة الربا في هذه الأعيان الربوية فأما النقدان فقال أبو حنيفة وغيره إن العلة فيهما الوزن (¬4) وحرم الربا في كل موزونٍ على اختلاف أنواعه. وقال الشافعي ومالك العلة فيهما كونهما أثمان الأشياء (¬5) وتلك علة واقعة تختص بهما إلَّا أن مالكًا قال زائدًا على الشافعي إذا أجرى الناس الفلوس من النحاس والرصاص بينهم أثمانًا بدلًا من النقدين جرى الربا في ذلك عنده على أحد القولين وهذا ينبني على قاعدة المقاصد فإن الناس لما اتخذوها أثمانًا بدلًا من النقدين لزمهم حكم ما التزموا و (الحكم) (¬6) معروف انفرد به مالك وقد حققناه في أصول الفقه. ¬

_ = فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني. وأخرجه البخاري في البيوع باب بيع الشعير بالشعير 3/ 96 - 97 ومسلم في المساقاة (1586). (¬1) انظر شرح فتح القدير لابن الهمام 5/ 269 وشرح السنة 8/ 60. (¬2) المعنى خذ وهات وحكي هناك بزيادة كاف مكسورة .. قال ابن الأثير هاء وهاء وهو أن يقول كل واحد من البيعين هاء فيعطيه ما في يده كالحديث الآخر إلَّا يدًا بيد معنى مقابضة في المجلس وقيل معناه خذ واعط. فتح الباري 4/ 378. (¬3) مسلم في كتاب المساقاة رقم (1587) (81). (¬4) انظر اللباب في شرح الكتاب 2/ 37 وشرح السنة 8/ 57. (¬5) انظر شرح السنة 8/ 58. (¬6) في ج والأصل.

تفسير

تفسير: إذا ثبت وجوب التقابض قبل التفرق في الأموال الربوية شرعًا فدخله خلل يأخذ ثلاثة أشياء: إما بغلبة على المتعاقدين كنفرة السوق ونحوه وإما بغلبةٍ منهما أو من أحدهما وذلك على قسمين: أحدهما: أن يتعمد ذلك. والثاني: أن يجلب أحدهما إلى حقٍ أو يؤخذ بباطل فيغلب على توفية ما عليه للآخر. واما أن يختل التقابض باستحقاق يطرأ على أحد العوضين أو بزيفٍ يوجد في أحدهما وفي كل فرعٍ من هذه العمر قولان لعلمائنا في تفصيل طويل استيفاؤه في كتب الفروع. نكتًة: في هذا المختصر أن (¬1) الصحيح جواز البيع في ذلك كله ما عدا الفرار منهما فإن ذلك يفسخه بخلاف أن يكون من أحدهما فإنه يجبر على القبض, وذلك لأصلٍ حسنٍ وهو أن وجوب التفرق قبل التقابض في الأموال الربوية تعبدًا لزمه المكلفون فإذا اختلَّ شرط منه أمكن القول بفساده وإذا لم يكن منهم فلا يخفى عليكم أن شرط العبادات إذا وقعت الغلبة عليها (¬2) لا يختل عند أكثر العلماء وفي أكثر الأحوال فكيف بشروط المعاملات. تتميم: ومن بيع النقدين المراطلة وهو أصل بيعهما لأن الميزان هو عيار التساوي في الموزون كما أن المكيال هو عيار التساوي في المكيل كما أن العدد هو عيار المعرفة بالمعدود وقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما روى النسائي وغيره (الميزان ميزان أهل مكة والمكيال مكيال أهل المدينة) (¬3) وللأقطار والأمصار عرف في المكيلات والموزونات والمعدودات تختلف باختلاف العادات. واختلف العلماء هل تعتبر العادة فيما خالف الحديث في ظاهره أم يجري الأمر ¬

_ (¬1) ليست في ج. (¬2) في ج وهذا. (¬3) رواه أبو داود رقم (3340) في البيوع والنسائي في الزكاة باب كم الصاع 5/ 54 وفي البيوع 7/ 284 وشرح السنة 8/ 69 وهذا الحديث صحح إسناده عبد القادر أرناؤوط في تعليقه على شرح السنة 8/ 69 ونقل عن ابن حبان والدارقطني والنووي وابن دقيق العيد تصحيحه انظر تعليق عبد القادر أرناؤوط على جامع الأصول 1/ 441.

ما جاء في بيع العينة

على ظاهر الحديث. وكذلك اختلف علماؤنا كاختلاف العلماء في العلة. فأما الأموال الربوية خصوصًا فلا أرى أن يعدل فيها عن ظاهر الحديث ويضرب لذلك مثالًا لدقيق والبر فإن حاضرة الإسلام منذ بعث فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زماننا هذا ما جرى قط فيها بيع (الدقيق) (¬1) والبر إلَّا كيلًا فمن أراد بيعه وزنًا لم تمنعه ما لم يقابله جنسه لأن ابتياعه جزافًا جائز فأما إذا قابله جنسه وكانت أموالًا ربوية فلا يجوز بيع بعضها ببعض إلّا بمعيار الشرع النبوي فيها (والعرف الجاري) (¬2) فيها إلى اليوم لأن صاحب الشريعة حين جوز البيع وحرم الربا وبيّن المكيل والموزون إنما عاد ذلك كله إلى حاله وصفته في زمانه فمن بدله فإنما يبدله على نفسه ولا يمنع في الشرع أن يغير الخلق مصالحهم ما لم يعترض ذلك التغيير على ركن من أركان الدين فإن اعترض العرف عليه سقط في نفسه واعتبر حكم الشرع وهذا أصل بديع لم ينتبه له أحد فشدوا عليه يد البخل فإذا أثبت هذا فبعت الدنانير مراطلة اعتبر الوزن ولم يعتبر العدد وإن بيعت معادة اعتبر العدد والوزن معًا ولم يجز في ذلك تفاضل إلّا أن مالكًا جوزه في اليسير كثلاثة دنانير أو أربعة دنانير يبادل الرجل فيها صاحبه كاملًا بناقص فإن مالكًا سامح فيها بخلاف سائر الفقهاء مستمدًا من قاعدة المعروف وأما إذا راطل جيدًا برديء فلا خلاف فيه لأنه لا يمكن الاحتراز منه وتدعو الحاجة إليه، وأما إذا راطل سليمًا بمغشوش فلا يجوز بحال وأصل الباب أن المراطلة إنما هي في صنفين كل صنف في جهته فإن كان صنفان من جهة واحدة وقابلها من الجهة الأخرى صنف واحد أو صنفان فذلك (¬3) لا يجوز. مثاله راطله دنانير عينًا وتبرًا غير جيد وجعل في مقابلته كوفية فإن ذلك لا يجوز لأنهما قد خرجا من باب المبادلة الأصلية إلى باب المغابنة والمكايسة واعتبار الأرباح والربا في النقدين ومثاله في المكيل لو باعه صاعين من عجوة بصاع ونصف من كيس وصاع من حشف فإنه لا يجوز أيضًا للعلة المتقدمة وعلى هذا الأصل رتب مالك بقية الباب فافهموه (منه وابنوه عليها (¬4)). ما جاء في بيع العينة (¬5) هذه كلمة ترجم بها مالك وردت في الحديث: روى أبو داود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنه ¬

_ (¬1) ليست في ك. (¬2) ليست في ك. (¬3) في ج فإن. (¬4) زيادة من ج. (¬5) الموطأ 2/ 640.

قال: إذا تداينتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر) (¬1) الحديث وجرت (¬2) في ألفاظ الصحابة. ذكرها علماؤنا عن ابن عمر وابن عباس إلَّا أن ابن عباس فسرها بأن يبيع الرجل من الرجل سلعة بدين إلى أجل ثم يشتريها بأقل مما باعها نقداً وهي مسألة الذرائع وفسرها غيره بأنها من بيع ما ليس عندك وأصلها فعلة من العون وقد كانت جارية عندهم فيما يجوز وفيما لا يجوز فوقع النهي منها على ما لا يجوز وجعل مالك منها بيع الطعام قبل قبضه ليبين (¬3) أنها عبارة عن كل عقد لا يجوز وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قال: (من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه) وقال ابن عمر: "كنا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبتاع الطعام فيبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه". هكذا رواه مالك وجماعة زاد في الصحيح "كنا نبتاع الطعام جزافًا" (¬4). وزاد عن ابن عباس "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه" قال ابن عباس وأحسب كل شيء مثله (¬5). وروى الدارقطني وغيره "نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما لم يقبض ربح ما لم يضمن" وزاد عن عتاب بن أسيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال له حين ولاه مكة: (إنههم عن بيع ما لم يقبضوا وربح ما لم يضمنوا). واختلف العلماء في ذلك على ستة أقوال: الأول: كل مبيع كيف ما تصرف حاله من أي مال كان فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه ¬

_ (¬1) رواه أحمد في المسند من طريق الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (إذا ضمن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم) الفتح الرباني 14/ 25 ورواه أبو داود رقم (3462) باب النهي عن العينة. والحديث صححه ابن القطان قال الحافظ وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا لأن الأعمش مدلس ولم يذكر سماعه من عطاء وعطاء يحتمل أن يكون عطاء الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية بلسقاط نافع بين عطاء وابن عمر التلخيص الحبير 3/ 19. (¬2) في ك وجدت. (¬3) في ك إنها عند. (¬4) ولفظ مسلم (وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا (1527). (¬5) متفق عليه البخاري في البيوع باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك 3/ 89 ومسلم في البيوع رقم (1525) وقد تقدم تخريجه.

قاله الشافعي وأحمد في إحدى روايتيه. الثانى: قال أبو حنيفة مثله إلاَّ في العقار فإنه يجؤز بيعه قبل قبضه. الثالث: أن هذا في الأموال الربوية خاصة قاله مالك في المشهور. الرابع: أن ذلك (¬1) في المطعومات من جملة الأموال قاله ابن وهب عنه. الخامس: أن ذلك في الأموال الربوية وفي المطعومات نعم وفي المعدودات قاله جماعة منهم عبد العزيز بن أبي سلمة وابن حبيب. السادس: أن ذلك يجري في الجزاف ولا يجوز بيعه حتى يقبض كما جرى فيما فيه حق توفية. فأما القول الأول فمتعلقه حديث الدارقطني حسب ما تقدم. وأما الثانى فمتعلقه وجهان. أما أحدهما: فإن عرف لفظ الطعام إنما يجري في المقتات فأما سائر الطعام سواه فله اسم خاص به كالفاكهة وغيرها ولأجل هذا بوّب مالك باب الطعام وقال أيضًا باب الفاكهة فغاير بينهما وجهل ها هنا بعض أشياخنا فقال هذا يجري على حمل اللفظ على العرف. وليس كما زعم لأن هذا عرف شرعي وتلك المسألة إنما هي في العرف المطلق التي ليس لها في الشرع مدخل. وأما الوجه الثانى فإن هذا حكم ورد في الأموال الربوية فاختص بها كربا الفضل. وأما من أجراه في المطعومات فإنه حمل اللفظ على أصل الإطلاق فإن كل ما يؤكل ويشرب طعام. وأمّا من قال إنه يجري في المعدودات فإنه تفطن لنكتة خفية وهي أن النّبىّ - صلى الله عليه وسلم - لما قال في الحديث (حتى تستوفيه) علّق الحكم على الاستيفاء وهو جواز البيع والمعدود فيه جواز البيع حق التوفية فدخل في عموم قوله حتى يستوفيه. وأما من قال إن ذلك في الجزاف أيضًا وهي رواية الوقار عن مالك فإنه تعلق بالحديث الصحيح. (من ابتاع طعامًا جزافًا) رواه ابن عمر وروي عن غيره. وأما ابن عباس فحين قال: وأحسب كل شيء مثله حمل كل مبيع فيه حق توفية على ذلك إشارة إلى قول ابن ¬

_ (¬1) في ك أن هذا.

مسألة

حبيب وإلى قول يحيى الوقار. ويلزم لزومًا لا محيص عنه من قال إن الجزاف لا يجوز بيعه حتى ينقل، ألا يجوز بيع مبيع حتى ينقل والحكمة في ذلك (¬1) لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام (لا تبع لا ليس عندك) يحتمل أن يريد به لا تبع ما ليس في ملكك ويحتمل أن يريد لا تبع ما ليس في يدك. فمن قال لا يحمل اللفظ على معنيين مختلفين من العلماء توقف ها هنا احتياطًا لئلا يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدهما فيقع المكلف في المحظور. وأما نحن فالذي نرى أن اللفظ يحمل على المعاني المختلفة بإطلاقه فإن ذلك يلزمنا أن نمنع من يبيع كل شيء قبل قبضه وهو الأقوى في النظر والله أعلم. مسألة: صكوك (¬2) الجار نازلة بديعة أطال العلماء فيها النفس وما حلوا عقدة حبس، والنكتة فيها أن الذي فسخ الصحابة والعلماء هو البيع الثانى ليس الأول. وقد كلمني في ذلك بعض المنتحلين إلى العلم فقلت إن البيع الثانى انعقد على معاوضة من الجهتين والبيع الأول شرع محض ليس في مقابلة عوض فقال لي بل البيع الأول عوض لأن الديوان أخذه كفأ عن خدمته ورأيته لا يفقه فتركته وليس كما زعم لأن الإمام إذا أخرج صكوك أهل الديوان إنما يخرجها عطاء محضًا يوفيهم بها حقوقهم في بيت المال وعليهم أن يقوموا بفرض الجهاد ولا يجوز أن يكون أحدهما عوضاً عن الآخر لأن الصك معلوم والعوض مجهول ولا يتعين من جهة صاحب الديوان عوض (¬3). والحاسم لداء الجهالة اتفاق الأمة من لدن زمن الصحابة إلى زماننا هذا على تسميتهم ما يأخذ الأجناد عطاء ثم عقب مالك على هذا الباب ¬

_ (¬1) في ج والله أعلم لأنه من باب بيع ما ليس عندك. (¬2) الصك ويجمع على صكوك قال النووي الصك هو الورقة المكتوبة بدين ويجمع أيضًا على صكوك والمراد هنا الورقة التي تخرج من ولي الأمر بالرزق لمستحقه بأن يكتب فيها للإنسان كذا وكذا من طعام أو غيره فيبيع صاحبها ذلك لإنسان قبل أن يقبضه. شرح النووي على مسلم 10/ 171. (¬3) قال النووي رحمه الله اختلف العلماء في ذلك والأصح عند أصحابنا وغيرهم جواز بيعها والثاني منعها فمن منعها أخذ بظاهر قول أبي هريرة وبحجته. قال أبو هريرة لمروان أحللت بيع الصكاك وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى يستوفى. مسلم في كتاب البيوع (40). ومن أجازها تأول قضية أبي هريرة على أن المشتري ممن خرج له الصك باعه لثالث قبل أن يقبضه المشتري فكاد النهي عن البيع الثانى لا عن الأول لأن الدي خرجت له مالك لذلك ملكًا مستقرًا وليس هو مشتر فلا يمتنع بيعه قبل القبض كما لا يمتنع بيعه ما ورثه قبل قبضه. شرح النووي على مسلم 10/ 171.

تكملة

بقوله باب بيع ما يكره من بيع الطعام إلى أجل (¬1). وأدخل مسألة سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار (¬2) وذلك بناء على البيعتين اللتين تبين الأخيرة منهما إلى بفسخان جميعًا. وقد اختلف في ذلك علماؤنا وهو الصحيح لأنا إنما نفسخ الثانية باتفاق لخوفنا أن يكونا يقصدان الفساد فإذا جرى قصد الفساد على البيعتين جميعًا من الأولى وجب أن يفسخا. تكملة: قال مالك: من بين مشيخة الأمصار وعلمائها ما كان من شرك أو إقالة أو تولية فإنه مستثنى من بيع الطعام قبل قبضه وإن كان ذلك بيعًا حقيقة ولكنه أسعد من سائر العلماء في تجويزه ذلك لطريقين. أحدهما: أن هذا من باب المعروف والمشاركة فلا يدخل تحت لفظ البيع المبني على المغابنة والمكايسة وهي قاعدة ينفرد بها كما قدمناه. الثانية: وهي أقوى على الخصم ما روى سعيد بن المسيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في هذا الحديث يعينه (إلّا ما كان من شرك أو إقالة أو تأولية (¬3)). ومهما اختلفت الأمة في المراسيل فقد اتفقت على القول بمراسيل سعيد بن المسيب فهذا ما لا جواب لهم عنه. مسألة أصولية: قال مالك: ما يكره من بيع الطعام إلى أجل (¬4) وذكر مسألة الذريعة وهي حرام عنده وقيل ذلك ما يكره من بيع الثمار وذكر ما هو أشد منه وهو الربا في الثمرة وهو حرام أيضًا باتفاق فأطلق المكروه عدى الحرام وهوعنده ينقسم إلى ما يحرم فعده وإلى ما تركه أولى من فعله وهو المكروه في إطلاق الأصوليين إلا أنهم ما عرفوه ولا شرحوه في كتبهم ولا ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 643. (¬2) مالك عن أبي الزناد أنه سمع سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار ينهيان أن يبيع الرجل الحنطة بذهب إلى أجل ثم يشتري بالذهب تمرًا قبل أن يقبض الذهب. الموطأ 2/ 643. (¬3) روى عبد الرزاق في المصنف 8/ 49 قال أخبرنا معمر عن ربيعة عن ابن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: التولية والإقالة والشركة سواء لا بأس به. (¬4) الموطأ 2/ 643.

مرجع

ضربوا له مثالًا وإنما يذكرون حده ويتجاوزونه دون بيان له وهو من المعضلات في الأصول وقد بيناه في المحصول (¬1) وذكرنا حده وأمثلته التي أغفلها العلماء قديمًا ومنها فعل ما لا ينبغي وكثرة الضحك وأصله في اللغة ما يريد المرء تركه وكراهية الله تعالى (للشيء) (¬2) في إرادته ألا يكون. قال تعالى: {ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم} (¬3) وليس يمتنع إطلاقه على الحرام وعلى ما تركه أولى من فعله كما ليس يمتنع تخصيصه في الاصطلاح بما تركه أولى من فعله ولكن الأدلة تعين كل واحد من الحالتين وتبين المخصوص في النازلة من الحكمين. مرجع: وأما الأعيان الأربعة الواردة في حديث عبادة وغيره قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تبيعوا البر بالبر ولا الشعير بالشعير ولا التمر بالتمر ولا الملح بالملح إلّا سواء بسواء عينًا بعين يدًا بيد) فنص على هذه الأربعة من المطعومات دون غيرها. واختلف العلماء في ذلك على أربعة أقوال: فروي عن ابن الماجشون أنه قال: العلة في هذه الأعيان الأربعة المالية وأجرى الربا في كل مال (¬4). وقال أبو حنيفة: العلة فيها الكيل وأجرى الربا في كل مكيل (¬5). وقال الشافعي: العلة فيها الطعم (¬6). واضطرب الأصحاب في فهم غرض مالك فيها والذي استقر عليه الاستقراء منها أن العلة القوت (¬7) لأن الله تعالى لو أراد المالية لما ذكر منها إلّا واحدًا وكذلك المكيل لو أراده لاكتفى منها بواحد لأن جهة الكيل واحدة فيها وإنما بقي الإشكال بين الطعم والقوت لأنه هو ¬

_ (¬1) قال في المحصول ك 26 ل والصحيح أنه غير مأمور به لأنه ليس بمطلوب طلبًا جازمًا حسب ما هي حقيقة الأمر وإنما حقيقته التحريض والتحضيض. (¬2) ما بين القوسين ليس في ج. (¬3) سورة التوبة آية (46). (¬4) انظر بداية المجتهد 2/ 131. (¬5) انظر اللباب في شرح الكتاب 2/ 37 شرح فتح القدير 5/ 274. (¬6) انظر المجموع 9/ 401. (¬7) قال خليل في مختصره ص 174 علة طعام الربا الاقتيات والادخار وانظر بداية المجهد 2/ 130.

باب السلفة في الطعام

المقصود منها وهي أصول الأقوات فذكر الله البر تنبيها على ما يقتات في حال الرفاهية والاختيار، وذكر الشعير تنبيهًا على ما يقتات في حال التفسير والمخمصة، وذكر التمر تنبيهًا على ما يقتات في حال الضرورة تحليًا وتفكهًا، كالعسل والزبيب ونحوه، وذكر الملح تنبيهًا على ما يقتات لإصلاح الأطعمة إما لحفظ بقائها وإما لتطييبها وإما لكف الأذى الحاصل بقدرة الله تعالى وفعله عنها. قال أبو المعالي الجويني: وقد كنا نميل إلى مذهب مالك بالتعليل بالقوت لقوته وظهوره بيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الملح وليس من الأقوات انخرم التعليل. قال القاضي أبو بكر: وعذيري منه يخرم القاعدة بزعمه بما يعضدها بزعمه وقد أشرنا إلى العلة في ذلك والحكمة وبينا وجه ذكر الملح وأوضحنا فائدته وليس وراء ذلك البيان مرمى إلّا التعسف في الرد وإيثار زعنفة ليس لهم رأس في الفتوى إلَّا أن الربا مقصورعلى هذه الأعيان الأربعة وهذا خرق للإجماع فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعظمون أمر الربا ويتوقونه وذلك بين في الأحاديث والأقضية إذا استقرئت كما في حديث معمر (¬1) وسعد بن أبي (¬2) وقاص وعبد الله بن عباس وابن عمر وخاصة عمر بن الخطاب فإنه كان يأسف أن مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين أبوابٍ الربا. باب السلفة في الطعام (¬3) السلف في لسان (¬4) العرب اسم يطلق على القرض وعلى السلم (¬5). قال ابن عباس في الصحيح (قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث ¬

_ (¬1) أما حديث معمر بن عبد الله فقد أخرجه مسلم من طريق أبي النضر أن بسر بن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع من قمح فقال بعه ثم اشتر به شعيرًا فذهب الغلام فأخذ صاعًا وزيادة بعض صاع فلما جاء معمرًا أخبره بذلك فقال له معمر لم فعلت ذلك انطلق فرده ولا تأخذ إلّا مثلًا بمثل فإني كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (الطعام مثلًا بمثل) مسلم كتاب المساقاة رقم (1592) وأحمد في المسند 6/ 400. (¬2) وأما حديث سعد فقد تقدم تخريجه. (¬3) الموطأ 2/ 644. (¬4) في ك كلام. (¬5) قال ابن الأثير يقال سلفت وأسلفت تسليفًا وإسلافًا والاسم السلف وهو في المعاملات على وجهين أحدهما القرض الذي لا منفعة فيه للمقترض غير الأجر والشكر وعلى المقترض رده كما أخذه والعرب تسمي القرض =

فقال من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (¬1). واتفقت الأمة على جوازهما فأما سلف القرض فمعروف ومكارمة وله أبوابه وأما سلف السلم فمرابحة ومكايسة وشروطه عدا شروط البيع تسعة ستة في المسلم فيه وثلاثة في رأس مال السلم. أما الستة التي في المسلم فيه فأن يكون في الذمة وأن يكون موصوفًا وأن يكون مقدرًا وأن يكون مؤجلًا وأن يكون الأجل معلومًا وأن يكون موجودًا عند محل الأجل. وأما الثلاثة التي في رأس (¬2) مال السلم فأن يكون معلوم الجنس مقدرًا نقدًا. أما الشرط الأول: وهو أن يكون في الذمة فلا إشكال في أن المقصود منه كونه في الذمة لأنه مداينة ولولا ذلك لم يشرع دينًا ولا قصد الناس إليه ربحًا ورفقًا وعلى ذلك اتفق الناس بيد أن مالكًا قال يجوز السلم في المعين بشرطين. أحدهما: أن تكون قربة مأمونة. والثاني: أن يشرع في أخذه كاللبن من الشاة والرطب من النخل ولم يقل ذلك أحد سواه. وهاتان المسألتان صحيحتان في الدليل لأن التعيين إنما امتنع في السلم مخافة المزابنة والغرر لئلا يتعذر عند المحل وإذا كان الموضع مأمونًا لا يتعذر وجود ما فيه في الغالب جاز ذلك لأنه (¬3) لا يتفق ضمان العواقب على القطع في مسائل الفقه ولا بد من احتمال الغرر اليسير وذلك كثير في مسائل الفروع تعديدها في كتب المسائل. وأما السلم في اللبن والرطب والشروع في أخذه فهي مسألة مدنية اجتمع عليها أهل المدينة وهي مبنية على قاعدة المصلحة لأن المرء يحتاج إلى أخذ اللبن والرطب مياومة (¬4) ويشق أن يأخذ كل يوم ابتداء لأن النقد قد لا يحضره وأن السعر قد يختلف عليه وصاحب النخل واللبن يحتاج إلى النقد لأن الذي عنده عروض لا يتصرف له فلما اشتركا في الحاجة رخص لهما في هذه المعاملة قياسًا على العرايا وغيرها من أصول الجاجات والمصالح. ¬

_ = سلفًا والثاني هو أن يعطي مالًا في سلعة إلى أجل معلم بزيادة في السعر الموجود عند السلف وذلك منفعة للمسلف ويقال له سلم دون الأول. النهاية 2/ 390 وانظر شرح السنة 8/ 173. (¬1) متفق عليه البخاري في كتاب السلم 3/ 111 ومسلم في المساقاة (1604). (¬2) في ك في رأس المال. (¬3) في خ وك إذ. (¬4) ياومه مياومة ويوامًا عامله بالأيام ترتيب القاموس 4/ 685.

وأما الشرط الثانى: وهو أن يكون موصوفًا فلأن طريق العلم سببان أحدهما النظر وذلك لا يمكن فيما فى الذمة ويزيله الخبر وذلك يكون بالصفات فصفة الغائب تحصره علمًا وترفع الاشتراك حكمًا ولا بد من ذكر الصفات الأصلية الحاضرة كالسمراء من المحمولة في نوع البر والجيد من الرديء في غرض الانتفاع وفيه تفصيل طويل بيانه في مسائل الفروع وأغرب ما فيه ما قاله أصحابنا من أن حال البلد وما يجري فيه يكفي في ذكر النوع المسلم فيه فلا يحتاج إلى أن يذكر الجودة خاصة وما يتعلق بها وهي مسألة ضعيفة ولو جاز الاتكال على حال البلد في النوع لجاز في الجنس ولتعدى ذلك إلى رأس مال السلم في النقد وكان العقد ينعقد على المجهول ويؤول إلى المزابنة في آخر الحال وذلك ما لا يجوز. وأما الشرط الثالث: وهو كونه مقدرًا فلا خلاف فيه بين الأمة وطريق العلم بالتقدير من ثلاثة أوجه الكيل والوزن والعدد وذلك ينبني على العرف في ذلك إما عرف الشرع وإما عرف الناس كما بيناه من أمس فاحفظوا ما سبق وقرر (¬1) فقد اضطرب علماؤنا فيه اضطرابًا ومثال اضطرابهم في السفرجل والرمان والجوز هل يسلم فيها كيلًا أو عددًا حتى انتهى الحال بابن القاسم أن يخالف فيها مالكًا وأبين ما في ذلك الجوز ولم يختلفوا في اللوز والصنوبر أنه مكيل وذلك عندي كله يرجع إلى عرف البلد في كل وقت فما انضبطت به الحال عند الناس فذلك الذي يعول عليه. وزاد مالك مسأل غريبة خالف فيها جميع الفقهاء وبناها على قاعدتين: إحداها العرف والأخرى المصلحة وهو جواز التجزيء في اللحم وجعل التجزيء فيه والحزر أحد طرق العلم الموصلة إليه ولعمري إن الحزر لطريق إلى العلم لكن فيما يختص به المرء دون ما يشاركه فيه غيره لجواز اختلافهما في الخمن (¬2) المحزور فيؤدي إلى التزابن ولذلك لم يجز في كل شيء عنده وإنما جوزه ها هنا تخفيفًا للحال ومصلحة للناس وما كنت لأفعله. وأما الشرط الرابع: وهو أن يكون مؤجلًا فيا لها مسألة ويا طال ما اضطرب الخلق فيها ولكن ترجع إلى أصلين. أحدهما أن السلم الحال هل يجوز أم لا؟ فقال الشافعي هو جائز (¬3). ¬

_ (¬1) في ج قرروه. (¬2) خمن الشيء وخمنه قال في بالحدس. ترتيب القاموس 2/ 112. (¬3) انظر شرح السنة 8/ 176 الروضة 4/ 7.

واضطربت المالكية في تحديد الأجل حتى ردوه إلى يومه، حتى قال بعض علمائنا السلم الحال جائز والصحيح أنه لا بد من الأجل فيه لأن البيع على ضربين معجل وهو المعين ومؤجل فإن كان حالاً ولم يكن عند المسلم إليه فهو بيع ما ليس عندك فلا بد من الأجل حتى يخلص كل عقد بصفته وعلى شروطه وتنزل الأحكام الشرعية منازلها وتحريره عند علمائنا مدة تختلف الأسواق في مثلها. وانفرد مالك عن جميع العلماء بمسالة في الأجل فقال يجوز أن يسلم إليه في بلد في طعام في بلد آخر (¬1) يسميه ولا يذكر الأجل وتكون مسافة ما بين البلدين أجلًا وهي مسألة ضعيفة لأنه أجل مجهول إذ يقول أخرج معي فاقبض فيقول نعم أو لا أو سأخرج غدًا فيرفعه إلى الحاكم كما قال علماؤنا فيخرج أو يتعذر فإذا اعتذر أمر بالتوكيل فيجد من يوكل أو لا يوكل وفي هذا من التغرير ما لا يخفى على أحد مما يعود بجهالة الأجل وقد اتفقت الأمة على أنه لو قال أسلمت إليك إلى شهر ونحوه لم يجز ومسألة مسافة البلد هي تلك بعينها. وأما الشرط الخامس: وهو أن يكون الأجل معلومًا فلا خلاف فيه بين الأمة وإنما اختلفوا في تفاصيل العلم به فانفرد مالك دون فقهاء الأمصار بجواز البيع إلى الجذاذ والحصاد لأنه رآه معلومًا ورآه سائر الفقهاء مجهولًا إذ تختلف طرقه ويطول مداه وتطرأ الأعذار عليه ورأى مالك جوازه وقال إنه يقضي بمعظمه وكذلك رأى الأجل إلى العطاء [جائزاً وقال ح وش: لا يجوز إلى العطاء] (¬2) والخلاف لا شك في العطاء والله أعلم، يؤول بينهم إلى عبارة وهي أن العطاء إن كان معلومًا فالتأجيل به جائز وإن اختل باختلاف الولاة فذلك لا يجوز. وأما الشرط السادس: وهو أن يكون موجودًا عند المحل فلا خلاف فيه بين الأمة. فإن انقطع المبيع عند محل الأجل بأمر من الله تعالى انفسخ العقد عند كافة العلماء ولأصحابنا فيه اضطراب بيانه في كتب المسائل. وزاد أبو حنيفة على سائر الفقهاء بأن قال إن من شرط السلم أن يكون المسلم فيه موجودًا من حين العقد (¬3) إلى حين الأجل قال والعلة في ذلك أن من الجائز أن يموت المسلم إليه قبل حلول الأجل فإذا مات حل الأجل فيطلب المسلمُ فيه فلا يوجد فيكون ذلك ¬

_ (¬1) يعطيه إياه كذا في ك وم. (¬2) زيادة من ج وم. (¬3) انظر اللباب في شرح الكتاب 2/ 42 وشرح فتح القدير 5/ 331.

الفرع الأول

غررًا ويعود على التركة والعاقد ضررًا هي مسألة من مسائل الخلاف كبيرة وقد بيناها فى تخليص التلخيص وغيره بما لبابه أن أبا حنيفة جعل الموهوم في عقد السلم بمنزلة المحقق فهذا لا يطرد شرعًا في مسائل الدين ولا يلزم في عقود المسلمين وخصوصًا في الموت الذي لا يمكن الاحتراز منه فالتعلق به يضعف من هذا الوجه لا سيما وله مناقضات بيانها هنالك تكفينا مؤونته إذا ثبت هذا فللمسلم فيه فروع كثيرة بيانها في كتب المسائل أمهاتها ثلاثة فروع: الفرع الأول: قال أبو حنيفة: لا يجوز السلم في الحيوان لأن الحيوان لا يضبط في الصفة (¬1). وقال سائر العلماء: كل شئ تأتى عليه الصفة. والذي أشار إليه أبو حنيفة هي الخلق فيها يكون التفاوت الذي لا يحصى وتلك لا تباع ولا يقابلها مال وإنما ينعقد البيع وتقابل الأموال بالخلق الظاهرة وقد بينا لكم فيما تقدم أنها تنحصر في الحيوان وغيره. الفرع الثانى: قال الشافعي: لا يجوز السلم في الدر والياقوت لأنها لا تنضبط إن حصرتها قدرًا لم تحصرها وصفًا وبأقل شئ تتفاوت القيمة (¬2) فيها أضعافًا مضاعفة (¬3). قال علماؤنا: ما من شيء إلّا والوصف يأتى عليه لأنك إذا قلت درة زنتها قيراط بيضاء مرجرجة سليمة عن الغش علم كل واحد قيمتها. الفرع الثالث: يجوز السلم في الدنانير والدراهم وقال أبو حنيفة (¬4) لا يجوز، وقد بيناها في مسائل الخلاف لباب القول فيها أن أبا حنيفة قال إذا جوزنا السلم فيها أدى إلى قلب الحال بأن يعود الثمن مثمونًا وإن انقلبت الحال فيه لم تنقلب في الشريعة. وهذه المسألة تتعلق بمسالة أخرى من مسائل الخلاف كبيرة وهي أن الدنانير والدراهم هل تتعين بالتعيين أم لا فلينظر هنالك. وأما شروط رأس المال فأن يكون معلوم الجنس فلا اختلاف فيه لأن الجنس هو الضابط فإن لم يكف الجنس في التعريف به فلا بد من نوع يعرفه ينضاف إليه حتى يتحصل معلومًا. ¬

_ (¬1) انظر اللباب في شرح الكتاب 2/ 42. (¬2) في ج قيمتها. (¬3) انظر الروضة 4/ 28. (¬4) اللباب 2/ 44 مجمع الأنهر 2/ 101.

القول في الحكرة والتربص

وأما تقديره فلا خلاف فيه إلّا أن الشافعي قال يجوز أن يكون رأس المال جزافًا واختلف علماؤنا فيه لاختلافهم في أصل جزاف الدنانير والدراهم فلتأخذ المسألة من هناك وليس بعد هذا طريق إلى العلم إلّا الوزن إن كان موزونًا أو العدد إن كان معدودًا. وأما النقدية فيه فلم أعلم بين العلماء في وجوبها خلافًا ولعلمائنا فيها اختلاف طويل آل بهم إلى أن يقولوا إن تأخيره بشرط اليوم واليومين جائز وآلت الحال بهم أيضًا إلى أن يقولوا إنه لو تأخر بغير شرط إلى حلول أجل السلم أيضًا لجاز وأين هذا من نهي النبى - صلى الله عليه وسلم - عن الكالئ بالكالئ (¬1) والصحيح أنه لا يجوز تأخيره لحظة لأنه لا تدعو إلى ذلك حاجة ولا فيه مصلحة وهو داخل في الكالئ بالكالئ (¬2) المنهي عنه إجماعًا وكفى أن يكون المسلم فيه مستثنى من بيع ما ليس عندك رخصة للحاجة الداعية إليه فكيف أن يكون رأس المال يتأخر بشرط فيدخل في الكالئ بالكالئ من غير حاجة. القول في الحكرة والتربص (¬3) ذكر مالك رضوان الله عليه اللفظين جميعًا لأن حكمهما يختلف. ¬

_ (¬1) قال أبو عبيد: الكالئ بالكالئ هو النسيئة بالنسيئة بأن يسلم مائة درهم إلى سنة في كر طعام فإذا انقضت السنة قال الذي عليه الطعام للدافع ليس عندي طعام ولكن بعني هذا الكر بمائتى درهم إلى شهر فهذا وكل ما أشبه هذا نسيئة انتقل إلى نسيئة. شرح السنة 8/ 114. (¬2) هذا الحديث رواه الدارقطنى من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر. سنن الدارقطنى 2/ 71 ورواه الحاكم في المستدرك 2/ 57 من نفس الطريق وقال على شرط مسلم ومن طريق أخرى من طريق ذؤيب بن عمامة ثنا حمزة بن عبد الواحد عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر ورواه ابن عدى في ترجمة موسى بن عبيدة 6/ 2333 وذكر له عدة أحاديث تفرد بها ثم قال وهذه الأحاديث التي ذكرتها لموسى بن عبيدة بأسانيدها مختلفة عامتها مما ينفرد بها من يرويها عنه عامة متونها غير محفوظة وله غير ما ذكرت من الحديث والضعف على رواياته بيّن. وعزاه الزيلعي في نصب الراية 4/ 40 إلى ابن أبى شيبة وإسحاق بن راهويه والبزار في مسانيدهم من حديث موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر وقال الحافظ صححه الحاكم على شرط مسلم فوهم فإن راويه موسى بن عبيدة الربذى لا موسى بن عقبة ثم نقل عن الدارقطني في العلل بأن موسى بن عبيدة تفرد به وقال فهذا يدل على أن الوهم في قوله (أي الدارقطني) موسى بن عقبة من غيره .. وقال: قال أحمد لا تحل عندي الرواية عنه (أي عن موسى بن عبيدة) ولا أعرف هذا الحديث عن غيره وقال أيضًا ليس في هذا حديث يصح ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين وقال الشافعي أهل الحديث يوهنون هذا الحديث. التلخيص الحبير 3/ 26. قلت وموسى هذا تقدمت ترجمته والحديث يدور عليه، وعليه يكون ضعيفًا. (¬3) الموطأ 2/ 651.

تبيين

أما الاحتكار فهو ضم الطعام وجمعه. وأما التربص فهو انتظار الغلاء به. والأموال على قسمين مطعوم وغير مطعوم والمطعوم على قسمين قوت وغير قوت والقوت على قسمين بر وشعير وما عداهما. فأما الاحتكار والتربص في الأموال غير المطعومات فلا خلاف فيه أما في المطعومات فهو الذي يكره جمعه في حال دون حال ويحرم التربص لانتظار الغلاء به إذا لم يكن رفع السوق وخفضه الذي جرت العادة به والمعول في ذلك على النية فمهما تعلقت النية بضرر أحد حرم ذلك القصد ولا يخلو أن يكون المحتكر للطعام من مال نفسه أو من كسب يده أو مما اشتراه من السوق فإن كان من مال نفسه وكسب يده فالحكرة جائزة بلا خلاف وإن انتظر به رفع السوق وخفضها فتربص لأجل ذلك فهو جائز أيضًا بلا خلاف وإن انتظر به غلاء متفاوتًا لنازلة تحدث من قحط أو عدو ونحوه فالحكرة جائزة والتربص حرام فلما تغايرت الحكرة والتربص لفظًا ومعنى وحكمًا جعلهما مالك لفظين. وأما إن كان يحتكر بشراء من السوق فذلك جائز أيضًا بثلاثة شروط: الأول: سلامة النية كما تقدم. الثانى: ألا يضر الناس بالشراء فيرتفع السعر لكثرة الطالب. الثالث: ألا يكون من أصول المعاش والحياة كالدهن والخل ونحوه. أما إنه تكون الحكرة مستحبة وذلك بأن يكثر الوارد على الموضع بالأقوات وعند بعض الناس نقود فإن لم يشتروا من الجالب رد ما جلب فالشراء حينئذ جائز والحكرة حسنة. تبيين: فإذا احتكر ونزلت بالناس فاقة فاحتبس عن البيع إلّا بما يريد فهي مسألة التسعير وبيانها أنه صح عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أن نفرًا من أصحابه سألوه التسعير في السوق (فقال إن الله هو المسعر القابض الباسط وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد منكم بمظلمة عنده (¬1)). ومحمل الحديث على وجهين: ¬

_ (¬1) رواه الترمذي في سننه 3/ 605 من حديث أنس وقال حسن صحيح ورواه أبو داود في سننه انظر تهذيب السنن 5/ 92 وابن ماجه 2/ 742.

باب ما يجوز من بيع الحيوان بعضه ببعض والسلف فيه

أحدهما: إذا لم يكن الزائد متفاوتًا. والثاني: إذا لم يكن في ذلك ضرر بأن يترقى منه إلى غيره فإن خرج عن هذين الوجهين لم يجز التسعير أيضًا ولكن يقال للذي تولى الزيادة أخرج عن سوقنا كما فعل عمر بن الخطاب بحاطب بن أبي بلتعة (¬1) هذا إذا كان من أهل السوق. وأما إن كان الجالب للبيع من غير أهل البلد فذلك الذي يبيع كيف شاء لا يمنع منه ولا يحجر عليه كما قال عمر ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده الحديث (¬2). وهذا مبنى على قاعدة المصلحة فإن الجالب لو قيل له كما يقال للرجل من أهل السوق: إما أن تبيع بسعرنا وإما أن تقوم عن سوقنا لانقطع الجلب واستضر الناس وعلى هذا انبنت مسألة التسعير في أن كل من جلب من المعاهدين إلى بلاد الإسلام أخذ منه العشر إلّا أن يجلب إلى مكة فإنه يؤخذ منه نصف العشر مصلحة سببها التحريض والتحضيض على جلب الأقوات إليها وفائدته كثرته فيها ولما لحظ ابن حبيب من أصحابنا هذه المصلحة وفهم المقصود قال إن الجالب للطعام لا يمكن أن يبيع إلا بسعر الناس ما خلا القمح والشعير فإنه يكون فيه بحكم نفسه للحاجة ولتمام المصلحة (¬3) بهما. باب ما يجوز من بيع الحيوان بعضه ببعض والسلف فيه (¬4) أما بيع الحيوان بعضه ببعض نقدًا فلا كلام فيه ولا تقريح عليه وأما بيعه نسيئة فإنه جائز عندنا وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وجماعة الكوفيين إن الحيوان لا يثبت في الذمة لأن الصفة لا تحصره وقد تقدمت المسألة (¬5) وبنى مالك أصله في الرد عليهم بقول علي إمامهم ¬

_ (¬1) مالك عن يونس بن يوسف عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحاطب ابن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبًا له بالسوق فقال له عمر بن الخطاب "إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا".الموطأ 2/ 651 وأورد ابن الأثير في جامع الأصول 1/ 594 وسنده صحيح. (¬2) مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال "لا حكرة في سوقنا لا يعمد رجال بأيديهم فضول إلى رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا ولكن أيما جالب جلب على عمد كبده في الشتاء والصيف فذلك ضيف عمر فليبع كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله". الموطأ 1/ 652 وشرح السنّة 8/ 178. (¬3) انظر المنتقى للباجي 5/ 18. (¬4) الموطأ 2/ 652. (¬5) انظر اللباب في شرح الكتاب 2/ 42 شرح فتح القدير 5/ 328.

باب بيع الحيوان باللحم

والخليفة فيهم وفعله إذ باع جملًا نقدًا بعشرين بعيرًا إلى أجل (¬1). وفي الحديث الصحيح عن مسلم وغيره عن أبي رافع (استلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بكرًا فقضى رباعيًا خيارًا) (¬2) وغلط بعض المتأخرين من علمائنا فظن أن هذا الحديث في السلف من باب المعروف فلا يحتج به في السلم الذي هو من باب المغابنة والمسألة واحد من والسلف بيننا وبين أهل الكوفة في ذلك واحد (¬3) ثم ركب مالك رحمه الله على هذا الباب دخول أموال الربا على الحيوان كبيع الجمل بالجمل وزيادة بالدراهم نقدًا أو نسيئة وذلك إنما هو من قاعدة الذرائع باب بيع الحيوان باللحم (¬4) قال مالك والشافعي لا يجوز بيع الحيوان باللحم (¬5) وقال أبو حنيفة (¬6) يجوز والمسألة ¬

_ (¬1) مالك عن صالح بن كيسان عن حسن بن محمد بن علي بن أبى طالب أن علي بن أبي طالب باع جملًا له يدعى عُصَيفْيرًا بعشرين بعيرًا إلى أجل. الموطأ 2/ 652. ورواه عبد الرزاق في مصنفه 8/ 22 وهذا الأثر منقطع لأن الحسن بن محمَّد بن علي لم يسمع من جده أمير المؤمنين علي بن أبى طالب وقد روي عنه ما يعارض هذا فقد روى عبد الرزاق (14143) من طريق سعيد بن المسيب عن علي أنه كره بعيرًا ببعيرين نسيئة. (¬2) الموطأ 2/ 680 وأخرجه مسلم في المساقاة (1600) والشافعي في الرسالة رقم (1606) من رواية أبى رافع. وأخرجه البخاري في الوكالة باب وكالة الشاهد والغائب جائزة 3/ 130 ومسلم في المسافاة رقم (1601) من حديث أبي هريرة. (¬3) انظر تفصيل مذهب الأحناف فى شرح فتح القدير 5/ 330، ومذهب الحنفية أنه لا يجوز السلم فى الحيوان لأنه غير مضبوط بالوصف. (¬4) الموطأ 2/ 655. (¬5) قال الباجي نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحيوان باللحم يقتضي تحريمه وإبطال ما وقع منه وبه قال مالك والشافعى وجمهور الفقهاء وقد قال أبو الزناد إن كل من أدركت كان ينهى عن ذلك وأجاز أبو حنيفة بيع الحيوان باللحم والدليل على صحة ما نقوله حديث ابن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع الحيوان باللحم) وهذا الحديث وإن كان مرسلًا فقد وافقنا أبو حنيفة على القول بالمرسل ودليلنا من جهة القياس أن هذا جنس يجرى فيه الربا والربا بيع الشئ بأصله الذى فيه منه فلم يجز ذلك كالزيت بالزيتون والشيرج بالسمسم. المنتقى 5/ 25. (¬6) انظر شرح فتح القدير 5/ 333.

مسألة أصولية

لنا لا كلام لأحد فيها لأن سعيد بن المسيب روى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع الحيوان باللحم) (¬1). وقد اتفقت الأمة على قبول مرسل سعيد ولا كلام لهم عليه فالمسألة غير معللة فإن تعليلها فيه تعارض (¬2) وتناقض كثير. وعول علماؤنا فيه على طريق البيع على أن الشيرج (¬3) بالسمسم (¬4) لا يجوز لأنه يخرج منه فكذلك اللحم بالحيوان وتحرير ذلك وتفصيله في مسائل الخلاف. فأما بيع اللحم باللحم فإنهما مالًا ربويًا وأموال الربا من شروطها اعتبار الجنس من ربا التفاضل والنسأ واعتبار القوت في ربا النسأ خاصة مذكور في كتب المسائل. مسألة أصولية: قال بعض علمائنا حين تعلق بحديث نهي النبى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع اللحم بالحيوان أن هذا حديث تلقته الأمة بالقبول فوجب القضاء به وهذا جهل منه بطريق الحديث فليست شهرة الحديث موجبة لصحته إجماعًا وهذا الحديث ما تلقته الأمة بالقبول فإن أهل الكوفة ردوه وقد عد العلماء الأحاديث المشهورة المتداولة على الألسنة وليست بصحيحة وذكروا منها نبذًا كحديث (الخراج بالضمان) وحديث (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان]) (¬5) ودونهما ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 655 قال ابن عبد البر لا أعلمه يصح عن مالك. التمهيد 4/ 323. (¬2) في ك زيادة "ظاهر". (¬3) دهن السمسم. (¬4) السمسم بالكسر حب الحل لزج مفسد للمعدة والفم ويصلحه العسل ترتيب القاموس 2/ 619. (¬5) نقل الحافظ عن الرافعي قوله تكرر في كتب الفقهاء والأصوليين بلفظ (رفع عن أمتي) ولم نره بها عند جميع من أخرجه. نعم رواه ابن عدي في الكامل من طريق جعفر بن جسر بن فرقد عن أبيه عن الحسن عن أبي بكرة رفعه رفع الله عن هذه الأمة ثلالًا الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه وجعفر وأبوه ضعيفان كذا قال المصنف قال الحافظ وقد رواه محمَّد بن نصر في كتاب الاختلاف في باب طلاق المكره يروي عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (رفع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه) إلّا أنه ليس له إسناد يحتج بمثله التلخيص الحبير 2/ 281 - 283 وانظر الكامل 2/ 573 ورواه ابن ماجه 1/ 659 من طريق الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). قال البوصيري في الزوائد إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع والظاهر أنه منقطع بدليل زيادة عبيد بن نمير في الطريق الثانى وليس ببعيد أن يكون السقط من جهة الوليد بن مسلم فإنه كان يدلس ورواه الحاكم في

باب ما جاء في ثمن الكلب

حديث (لا يأوي الضالة إلَّا الضال) (¬1) وذلك مذكور في كتب الحديث. باب ما جاء في ثمن الكلب (¬2) ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن ثمن الكلب (¬3) واختلفت الرواية عن مالك وعلمائنا بعده على قولين وذلك في كلب يجوز الانتفاع به فأما كلب لا ينتفع به فلا خلاف أنه لا يجوز بيعه ولا تلزم قيمته لمتلفه (¬4) وقال الشافعي ثمنه حرام (¬5) وقال أبو حنيفة ثمنه جائز (¬6) ولم يزل مالك عمره كله يقول أكرهه وحمل بعض أصحابنا لفظه على التحريم وحمله آخرون ¬

_ = المستدرك 2/ 198 من طريق بشر بن بكر وأيوب بن سويد قالا ثنا الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن ابن عباس به وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وكذا صححه ابن حبان في صحيحه (1498) من هذا الطريق وقال النووي في الأربعين وفي الروضة إنه حديث حسن وأقره الحافظ في التلخيص 1/ 281 وكذلك صححه الشيخ ناصر في إرواء الغليل 1/ 124. وقد أعله أبو حاتم في العلل 1/ 431 وقال: قال أبي لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث من عطاء إنما سمعه من رجل لم يسمه أتوهم أنه عبد الله بن عامر أو إسماعيل بن مسلم ولا يصح هذا الحديث ولا يثبت إسناده. ونقل الحافظ في التلخيص 1/ 282 عن عبد الله بن أحمد قال سألت أبى عنه فأنكره جدًا وقال ليس يروى هذا إلا عن الحسن عن النبى - صلى الله عليه وسلم - .. وأصل الباب حديث أبي هريرة في الصحيح من طريق زرارة بن أبي أوفى عنه بلفظ (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم به). رواه البخاري في الأيمان والنذور باب إذا حنث ناسيًا. البخاري مع الفتح 11/ 548 ومسلم في الإيمان باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب بناء لم تستقر رقم 127 من حديث أبي هريرة ولعل من صحح الحديث بناء على هذه الرواية الأخيرة. (¬1) رواه أحمد في المسند 4/ 360 وأبو داود (1720) وابن ماجه (2503) من حديث جرير قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (لا يأوي الضالة إلّا ضال) والحديث في سنده عند أحمد وابن ماجه الضحاك بن المنذر بن جرير بن عبد الله البجلي مقبول من الرابعة س ق/ ت 280 وعليه فهو ضعيف. (¬2) الموطأ 2/ 656. (¬3) مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن) الموطأ 2/ 656 وأخرجه البخاري في البيوع باب ما جاء في ثمن الكلب 3/ 110 ومسلم في المساقاة (1567). (¬4) قال الباجي نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب يحتمل أن يريد به ثمن الكلب المنهي عن اتخاذه فيتأول نهيه البائع عن أخذ ثمنه والانتفاع به وهذا يمنع نفعه، وأما الكلب المباح اتخاذه وهو كلب الماشية والحرث والصيد فاختلف فيه قول مالك فيتأول بعض أصحابه أنه يجوز بيعه وقال سحنون يجوز أن يحج بثمنه وقاله ابن كنانة وبه قال أبو حنيفة وروى عنه ابن القاسم أنه كره بيعه. المنتقى 5/ 28 وانظر فتح الباري 4/ 427 وشرح السنة 8/ 24. (¬5) انظر فتح الباري 4/ 426 فقد قال الحافظ إن العلة في تحريم بيعه عند الشافعي نجاسته مطلقاً. (¬6) انظر اللباب 2/ 46 وشرح فتح القدير 5/ 358 فتح الباري 4/ 426.

باب النهي عن بيعتين في بيعة

على أن تركه خير من أخذه على أصل المكروه والصحيح عندي جواز بيعه وحل ثمنه لأنها عين يجوز اتخاذها والانتفاع بها ويصح تملكها بدليل وجوب القيمة على متلفيها فجاز بيعها لأن هذه الأوصاف هي أركان صحة البيع ولولا جواز بيعه من أين كان يوصل إليه كما لا يوصل إلى سائر الأموال إلّا بالبيع والهبة وقد مهدنا ذلك في مسائل الأحكام. باب النهي عن بيعتين في بيعة (¬1) أدخل مالك بلاغًا وهو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحيح رواه الشعبي والسلمي وقال أبو عيسى منهم هذا حديث صحيح واختلف العلماء في تفسيرها أما المالكية فقالوا هو أن يبيع الرجل من الرجل سلعتين بثمنين مختلفين على أنه قد لزمته إحدى الصفقتين فلينظر أيهما يلتزم (¬2). وقال الشافعي تفسيرها أن يقول أبيعك داري على أن تبيعني غلامك (¬3) وكلا التفسيرين صحيح والمسألتان جميعًا لا تجوز وإن اختلف التعليل وهي تستمد تارة من قاعدة الربا وتارة من قاعدة الغرر ومن قاعدة الربا وربما اجتمعا في بعض المسائل فابنوا مسائلها على هذين الأصلين. باب بيع وسلف (¬4) أدخل مالك بلاغًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع وسلف) (¬5) رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح فإن قيل وكيف يصح وهو من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قلنا قد تقدم الكلام في صحيفة عمرو ابن شعيب وهي صحيفة لا مرد لها وقد فسرها مالك ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 663 مالك أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيعتين في بيعة) وقد وصله الترمذي من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة، سنن الترمذي 3/ 533 وقال فيه حسن صحيح صرواة النسائي 7/ 295 - 296 وأبو داود (3461) بلفظ (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) وإسناده حسن. (¬2) انظر تفصيل المذهب في المنتقى 5/ 36. (¬3) ذكره الترمذي في سننه 3/ 533. (¬4) الموطأ 2/ 657. (¬5) عن مالك أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن بيع وسلف) الموطأ 2/ 657 والحديث وصله أبو داود والترمذي والنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقد تقدم تخريجه.

باب بيع الغرر

يتركب عليها أصل بديع من أصول المالكية وهو أن كل عقدين يتضادان وضعًا ويتناقضان حكمًا فإنه لا يجوز اجتماعهما أصله البيع والسلف فركبه عليه في جميع مسائل الفقه ومنه البيع والنكاح وذلك أن البيع مبني على المغابنة والمكايسة خارج عن باب العرف والعبادات والسلف مكارمة وقربة ومن هذا الباب الجمع بين العقد الواجب والجائز ومثله بيع وجعالة ويزيده علي ذلك أن أحد العوضين الجعالة مجهول ولا يجوز أن يكون معلومًا فإنه إن كان معلومًا خرج عن باب الجعل والتحق بباب الإجارة وأمثال ذلك لا تحصى وهذه نبذة كافية. باب بيع الغرر (¬1) رواه مالك مرسلًا (¬2) وهو مسند اجتمعت عليه الأمة وهو أحد أركان البيوع وقواعده كما بيناه. ومن الغرر بيع المعدوم فإنه أشد من الموجود المجهول. وقد بوب عليه مالك ما لا يجوز من بيع الحيوان (¬3) وهي المضامين والملاقيح وحبل الحبلة فإنه غرر في المعدوم ومنه ما ذكر مالك من بيع الدابة الضالة والعبد الآبق لأنه لا يعلم هل هو على حاله أم تغير ومنه (¬4) الحمل وجعل مالك منه استثناء الحمل من الجارية المبيعة (¬5) وذلك صحيح لوجهين أحدهما: أنه لا يدري السلامة عند الوضع وذلك يختص بالآدميين والثانية الجهالة بالثمن دون خوف الهلاك وذلك في سائر الحيوانات ولهذه الدقيقة تفطن مالك فقال في هذا الباب "وذلك بأن يقول الرجل للرجل ثمن شاتي بثلاثة دنانير فهي لك بدينارين ولي ما في بطنها (¬6) " فهذا غرر ومخاطرة ومنه بيع الملامسة والمنابذة وقد بوب ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 664. (¬2) مالك عن أبي حازم بن دينار عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع الغرر" ورواه مسلم موصولًا من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر" مسلم في البيوع (1513) وشرح السنة 8/ 131. (¬3) الموطأ 2/ 653. (¬4) الموطأ 2/ 665. (¬5) الموطأ 2/ 665. (¬6) الموطأ 2/ 665.

باب بيع الخيار

عليه، قال مالك (¬1) ومنه التاج المدرج في جرابه إذا لم يصفه وبه قال الشافعي (¬2) وقال أبو حنيفة ذلك جائز وله الخيار إذا رآه (¬3) وقد مهدناه في مسائل الخلاف. وأما بيع البرنامج فانفرد به مالك فقال يجوز علي الصفة، يدفع إليه برنامجه ويقول له هذا تفسيرها في برنامجي (¬4) قال الشافعي لا يجوز (¬5) لوجهين أحدهما أن بيع الصفة إنما يكون فيما في الذمة لا في العين. قال علماؤنا رحمة الله عليهم الصفة طريق إلى العلم كما تقدم ولولا أن الصفة تعين الغائب ما جازت في السلم ألا ترى أنه إذا أحضر الموصوف فيه لزم قبوله. والثاني قال الصفة بدل عن الرؤية فإنما يكون البدل مع تعذر المبدل فأما المبدل ههنا وهي الرؤية متعذرة لأن في حل الشدائد في المواسم مشقة عظيمة على الناس فنزل البدل وهي الصفة مقام المبدل وهي الرؤية لأجل المشقة بناء على قاعدة المصلحة، حتى قال علماؤنا لو باعه ثوبًا في كمه على الصفة لم يجز وقد احتج مالك على ذلك بأنه أمر معمول به عندهم معلوم من معاملاتهم (¬6) لا من طريق التعلق بأهل المدينة ولكن من جهة أن ذلك طريق إلى العلم في العادة فإن وجدوه على الصفة لزمهم وإن كان على خلافها فلهم رد البيع. باب بيع الخيار (¬7) ذكر مالك رحمه الله حديث ابن عمر أن النبّى - صلى الله عليه وسلم - قال: (البيعان بالخيار كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار) (¬8) قال الشافعي خيار المجلس ثابت ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 666. (¬2) انظر مذهبه في المجموع 9/ 288 الروضة 3/ 268. (¬3) انظر اللباب 2/ 15. (¬4) انظر الموطأ 2/ 670. (¬5) انظر المجموع 9/ 301. (¬6) في ج في معاملاتهم. (¬7) الموطأ 2/ 671. (¬8) الموطأ 2/ 671 وأخرجه البخاري في البيوع باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا 3/ 48 ومسلم في البيوع باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين (1531).

في البيع لكل واحد من المتبايعين حتى يقوما عن مجلسهما (¬1) وروي ذلك الدارقطني تفسيرًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا عن مكانهما الذي كانا يتبايعان فيه) (¬2). وكان ابن عمر إذا بايع أحدًا قام ومشى خُطىً حتى يلزم البيع (¬3). وقد مهدنا في مسائِل الخلاف تأويلات هذا الحديث وحققناها من ثمانية أوجه منها قول مالك فيه وليس عندنا في هذا الحديث حد معروف ولا أمر معمول به إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة ولو شرط الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعًا فكيف يثبت حكم بالشرع بما لا يجوز شرطًا في الشرع وهذا شيء لا يتفطن إليه إلا مثل مالك فظن الجهال المتوسمون بالعلم من أصحابنا أن مالكًا إنما تعلق فيه بعمل أهل المدينة وهذه غباوة (¬4). وإنما غاص على ما قلناه. فإن قيل قد أثبت مالك خيار المجلس في التمليك قلنا الطلاق يعلق على الغرر والخطر وثبت في المجهول ومع المجهول والبيع بخلافه ولو لم يكن في هذا القبس إلا هذه المشكاة لكفاه. ¬

_ (¬1) نقل النووي أنه قول جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم شرح النووي على مسلم 10/ 173 وانظر شرح السنة 8/ 39. (¬2) سنن الدارقطني 3/ 5 من طريق الليث أن نافعًا حدثه عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعًا أو خير أحدهما الآخر فيتبايعان على ذلك فقد وجب البيع). قال الحافظ وقد أقدم الداودي على رد هذا الحديث المتفق على صحته بما لا يقبل منه فقال قول الليث في هذا الحديث وكانا جميعًا ليس بمحفوظ لأن مقام الليث في نافع ليس كمقام مالك ونظرائه. وهو رد لما اتفق الأئمة على ثبوته بغير مستند ثم قال وأي لوم على من روى الحديث مفسرًا لأحد محتملاته حافظًا من ذلك ما لم يحفظه غيره مع وقوع تعدد المجلس فهو محمول على أن شيخهم حدثهم به تارة مفسرًا وتارة مختصرًا. فتح الباري 4/ 333. (¬3) أخرجه أبو داود في سننه (3457) وابن ماجه (2182) وشرح السنة 8/ 40 والحديث صححه الشيخ ناصر، انظر صحيح ابن ماجه 2/ 12 وكذلك الشيخ شعيب الأرناؤوطي في تعليقه على شرح السنة. (¬4) قال الحافظ أسند إنكار ابن عبد البر وابن العربي على من زعم من المالكية أن مالكًا ترك العمل به لكون أهل المدينة على خلافه قال ابن العربي إنما لم يأخذ به مالك لأن وقت التفرق غير معلم فأشبه بيوع الغرر كالملامسة وتعقب بأنه يقول بخيار الشرط ولا يحده بوقت وما ادعاه من الغرر موجود فيه وبأن الغرر في خيار المجلس معدوم لأن كلاً منهما متمكن من إمضاء البيع أو فسخه بالقول أو بالفعل فلا غرر. فتح الباري 4/ 330.

القول في المرابحة

القول في المرابحة (¬1) هذا باب عويص ليس له في القرآن ولا في السنة ترجمة اللهم إلا أن الله قال: {وأحل الله البيع وحرم الربا} (¬2) فاقتضى هذا الإطلاق كما قدمنا جواز كل بيع إلا ما قام الدليل على رده حسب ما تقدم في القواعد وقد طالعت في جميع كتب العلماء المعول عليهم في المذاهب فما رأيت أحدًا منهم فهمه كما ينبغي ولا قرره كما يجب واستوفى معاقده على الكمال إلا محمَّد بن عبدوس (¬3) بناه على ستة معاقد وقعت منثورة في كلام مالك فجمعها وفرع عليها. الأول ما يحسب في الثمن والربح. والثاني ما يحسب في الثمن ولا يحسب في الربح. الثالث ما يحسب بالشرط ولا يحسب بالإطلاق. والرابع أن ينعقد المبيع على الكذب. الخامس أن ينعقد البيع على غش. السادس أن ينعقد البيع على عيب. ولكل واحد حكم ليس للآخر وقد يجتمع الكذب والغش والعيب في عقد وقد يجتمع اثنان منهما في عقد فتتعارض الأحكام ولولا أن هذا الكتاب للأصول لا للفروع لمهدناها لكم ولكن هذا تنبيه وتمامه في كتب المسائل. القول في الحوالة (¬4) قال النبّىّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (مطل الغني ظلم وإذا اتبع أحدكم على غني (¬5) فليتبع (¬6)). ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 668. (¬2) سورة البقرة آية 275. (¬3) محمَّد بن عبدوس وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبدوس الإمام المبرز العابد الفقيه الزاهد المجاب الدعوة صلى الصبح بوضوء العشاء ثلاثين سنة لم يكن في عصره أفقه منه أخذ عن جماعة منهم سحنون وبه تفقه ولد على رأس المائتين وتوفي بعد ابن سحنون بخمس سنين شجرة النورالزكية 1/ 70. (¬4) الموطأ 2/ 674. (¬5) في ج ملىء. (¬6) متفق عليه البخاري في كتاب الحوالات باب الحوالة 3/ 123 ومسلم في المساقاة باب تحريم مطل الغني (1564) والموطأ 2/ 674 من حديث أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (مطل الغني ظلم وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع).

أما قوله (مطل الغني ظلم) فإنه متفق عليه لأنه لا عذر في التأخير لمن كان قادرًا على الأداء ومهما اختلف العلماء في الأمر بحقوق الله تعالى هل هو على الفور أم مسترسل على الأزمان فإنهم قد اتفقوا على أن الأمر بحق الآدمي على الفور وذلك لفقر الآدمي وحاجته وأن الله هو الغني له ما في السموات وما في الأرض فإذا ثبت هذا واشتغل الغني عن أداء الحق فإن كل فعل يفعله معصية وينشأ من هذا ما إذا اشتغل بالصلاة عن أداء الدين فاختلف العلماء في ذلك فقال أحمد بن حنبل الصلاة باطلة (¬1) وقال جمهور العلماء الصلاة صحيحة منهم مالك بن أنس وحكى الجويني عنه أن الصلاة باطلة ولم أرها في كتبه ولا تجري على أصوله وهو حكم أصولي ليس من الفروع وقد بيناها في مسائل الأصول في الكلام على الصلاة في الدار المغضوبة وحققنا تعارض الأمر والنهي وبينا اتصالهما وانفصالهما فلينظر هنالك ففيه شفاء الغليل إن شاء الله. وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) دليل على أن الحوالة [من القضاء (¬2)] فإن شاء الرجل أن يقضي الدين الذي عليه من ماله قضى وإن شاء أن يحيل على غيره به إذا كان مليًا جاز ولا تكون محاولة الحوالة من المطل هذا إذا كان له على المحال عليه دين ولا يعتبر رضي من عليه الدين وقال أبو حنيفة يعتبر (¬3) لأنها عنده مبايعة وعندنا أنها نقل حق من ذمة إلى ذمة وهي مشكلة قد بيناها في مسائل الخلاف ومطلق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) يقتضي ألا يعتبر رضي من عليه الدين لأنه لو وكل رجل بقبضه له لجاز فالحوالة وكالة فأما رضي من له الدين فإنه يعتبر عند كافة العلماء وتعلق بعض التابعين بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع) ولم يشترط رضاه بل أمره بالإتباع. قلنا هذا محمول على الندب بدليل قول النّبىّ - صلى الله عليه وسلم -: (المسلمون عند شروطهم) (¬4)، ...................... ¬

_ (¬1) انظر مذهب أحمد في الإفصاح لابن هبيرة 1/ 117. (¬2) زيادة من ج وك. (¬3) انظر مذهبه في اللباب 2/ 160 مجمع الأنهر 2/ 146. (¬4) أخرجه الترمذي من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا). الترمذي 3/ 635 وقال حسن صحيح ورواه ابن ماجه في سننه (2353) والدارقطني 2/ 27 وصححه الشيخ ناصر.

مسألة

وعموم قوله: {أوفوا بالعقود} (¬1) وهذا إنما عامته للمحيل وعليه شرط الثمن وفي ذمته أوجب المال فلا ينتقل عنه إلى غيره فيسقط شرطه ويتبدل عقده إلا برضاه وهذا ما لا جواب لهم عنه. مسألة: فإن رضي المحال بالمحال عليه فخرج عديمًا فقال الشافعي إنه يخسر (¬2) وقال أبو حنيفة إنه يرجع (¬3) وقال مالك إن غره منه رجع عليه وإلا فلا رجوع عليه وقد قيدناها (¬4) في مسائل الخلاف وبينا أن الحوالة نقل ذمة إلى ذمة وليست بمبايعة وأما إذا غره فلا إشكال في رجوعه عليه لأن أصل الحوالة أنبنى على باطلٍ من الغش والمخادعة وقد أمر النّبىّ - صلى الله عليه وسلم - باجتنابها ونهى عن فعلها وقال: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) (¬5) فوجب الحكم برده. باب إفلاس الغريم (¬6) روى مالك في الموطأ عن النّبىّ - صلى الله عليه وسلم -: (أن صاحب المتاع يكون أحق به فى الفلس فإن مات فهو أسوة الغرماء) (¬7). ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (1). (¬2) قال النووي مذهب أصحابنا والجمهور أنه إذا أحيل على مليء استحب له قبول الحوالة وقال بعض العلماء القبول مباح لا مندوب وقال بعضهم واجب لظاهر الأمر وهو مذهب داود وغيره. شرح النووي على مسلم 10/ 228. (¬3) انظر مجمع الأنهر 2/ 147. (¬4) في ك وج قررناها. (¬5) مسلم في كتاب الأقضية باب الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718) 18 من حديث عائشة. (¬6) الموطأ 2/ 678. (¬7) رواه مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه منه ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا ...) قال ابن عبد البر هكذا في جميع الموطآت عن مالك مرسلًا إلا عبد الرزاق فوصله. الموطأ 2/ 678. ورواه موصولًا إسماعيل بن عياش عن الزبيدي وهو شامي عن الزهري أخرجه أبو داود (3522) وصححه ابن خزيمة وابن التركماني في الجوهر النقي 6/ 47 ونقل ابن التركماني عن ابن عبد البر في التمهيد أنه رواه عبد الله بن بركة ومحمد بن علي لإسحاق بن إبراهيم الصنعانيون عن عبد الرزاق عن مالك عن ابن شهاب عن

وروى أبو داود عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أيما رجل مات أو أفلس فوجد صاحب المتاع متاعه بعينه فهو أحق به). وفي الصحيح: (أيما رجل أفلس فوجد صاحب المتاع متاعه فهو أحق به) (¬1) ولم يجر في الصحيح بحكم الموت ذكر قال مالك بحديثه الذي رواه، وقال الشافعي (¬2) بحديث أبى داود رواه الدارقطني (¬3) وصححه وترك أبو حنيفة الكل قال إنه إذا أفلس أو مات فهو أسوة الغرماء لا يرجع في عين ماله أبدًا واحتج بأنه قد رضي عن نقل حقه من العين إلى الذمة فلا يرجع إليها (¬4) قلنا له إنما رضي بنقلها عن المعاوضة فإذا لم يحصل له العوض فلم يحصل على المقصود فوجب أن يرجع في عين ماله فالقياس معنا لا معه وحديث النبّىّ - صلى الله عليه وسلم - دونه فليس له في المسألة حظ وبقي الخلاف بيننا وبين الشافعي في الموت. فأما حديث أبى داود الذي تناول الدارقطني تصحيحه فلا يصح بحال وقد بينا ذلك في شرح الحديث وتكلمنا على رواته بما فيهم. وأما حديث الصحيحين (¬5) في الفلس فليس بحجة وأصل. وأما حديث مالك فمبني على صحة القول بصحة المرسل من الأسانيد وبينا في أصول الفقه أنه حجة من كل مرسل له يعلم من حاله أنه لا يرسل إلا عن ثقة بخلاف من يرسل عن كل أحد لأنه يكون المرسل حينئذ بمنزلة البلاغ لا حجة فيه باتفاق والقياس بعض مذهبه في ذلك فإن الفلس يخرب الذمة كما يخربها الموت. قال أصحاب الشافعي في الفلس رجاء أن يطرأ على المفلس مال فإن رزقه لم ينقطع وأما في الموت فقد انقطع منه الرجاء وحازت أحكامه في الدار الآخرة قال علماؤنا رحمة الله عليهم كذلك ينقطع الرجاء في الموت أن ¬

_ = أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النّبىّ - صلى الله عليه وسلم - مسندًا وكذا رواه عراك بن مالك عن أبي هريرة ذكره ابن حزم التلخيص 3/ 39 وروي عبد الرزاق في مصنفه (15158) عن مالك المرسل المتقدم ثم قال (15159) أنا سفيان عن هشام صاحب الدستوائي حدثني قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبى - صلى الله عليه وسلم - مثل حديث الزهري. (¬1) الموطأ 2/ 678 وهو متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الاستقراض وأداء الديون باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض 3/ 155 - 156 ومسلم في كتاب المساقاة (1559) من حديث أبي هريرة. (¬2) انظر المجموع 10/ 197 وتهذيب السنن 5/ 175. (¬3) انظر سنن الدارقطني 3/ 30 ولم يذكر فيه تصحيحًا ولعله ذكره في غير السنن والحديث راويه إسماعيل بن عياش وهو ثقة في الشاميين قال أحمد ويحيى بن معين وغيرهما حديث إسماعيل بن عياش عن الشاميين صحيح تهذيب السنن 5/ 176. (¬4) انظر اللباب 2/ 161 مجمع الأنهر 2/ 148. (¬5) في جـ الصحيح.

باب ما يجوز من السلف

يطرأ له مال وكم رأينا من ذلك بميراث يطرأ أو فائدة تظهر وأما قولهم إن رزق الحي لم ينقطع فصحيح ولكن في القوت لا في الثروة والغناء. باب ما يجوز من السلف (¬1) قد بينا حل البيع وتحريم الربا وقررنا في قاعدة المعروف أنه يجوز فيها المسامحة في الزيادة في المقدار والصفة ما لا يجوز في البيع لكونها خارجة عن المكايسة داخلة في باب المعروف وقد فصلت الشريعة بين الغرضين وجعلتهما قاعدتين وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرض سناً أفضل من السن وقال: (خياركم أحسنكم قضاء) (¬2) وهذا كما قال مالك إذا لم يكن في ذلك شرط ولا وأي (¬3) ولا عادة (¬4) فإنه حينئذ يخرج من باب المعروف إلى باب المعاوضة الذي يعتبر فيها الربا ويجوز في المقدار إذا كان يسيراً فإن كان كثيراً لم يجز وعليه يخرج قول عمر بن الخطاب فأين الحمال (¬5). فصل في الضرر قد ثبت تحريمه شرعاً فحيث ما وقع امتنع وقد خص النبي - صلى الله عليه وسلم - منها نوازل واقعة كقوله: (لايبع بعضكم على بيع بعض). فإن البيع إذا كان جائزا على الإطلاق والمزايدة مباحة بالإجماع فإن ذلك عند ركون المتبايعين واتفاقهما على تقدير العقد قبل أن ينفذاه وهي ثلاثة أحوال: الأولى: بيع المزايدة ومنه مشي السمسار بالسلعة. الثانية: الزيادة بعد تمام البيع وذلك لا ينفع المشتري الثاني ولا يضر الأول لأن بيعه قد انعقد أما إن فيه إدخال هم على البائع فيمتنع من هذا الوجه. ¬

_ (¬1) الموطا 2/ 680. (¬2) الموطأ 2/ 680 ومسلم في كتاب المساقاة (1600) من حديث أبي رافع وهو متفق عليه من رواية أبي هريرة. (¬3) الوأي: المواعدة. شرح الزرقاني 3/ 335. (¬4) الموطا 2/ 681. (¬5) مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال في رجل استلف رجلاً طعاماً على أن يعطيه إياه في بلد آخر فكره ذلك عمر بن الخطاب وقال: أين الحمل؟ (يعني حملانه) الموطأ 2/ 681.

والحالة الثالثة هي حالة الركون فلا يحل للبائع بعد الركون إلى المشتري أن يرجع عنه إلى غيره لزيادة يزيدها أحد له وإن فعل لم يلزم وفسخ ذلك في الصحيح من المذهب لأنه فعل صادف نصاً منقولًا وعموماً معقولاً تعاضد فيه الشرع والعقل فوجب أن يقضى بفسخه، وكقوله (¬1) (لا تلقوا الركبان) (¬2) وقد اختلف في ذلك هل هو لحق الراكب أو لحق المركوب إليه بالسلعة والصحيح عندي أنه لحق المركوب إليه وعليه يدل قوة قوله (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) (¬3) وهو أيضاً مثل الأول في الخلاف وعندي مثله في الفسخ ومنها النجش وهو أن يزيد في السلعة لمنفعة البائع لا لعقد الشراء وهو تغرير بالمشتري وله الخيار إذا علم والزيادة حرام على البائع وكذلك الغش حرام باتفاق وإذا وقع واطلع عليه المشتري فإنه بالخيار بين أن يتحمله أو يرد البيع والضابط لذلك أنه متى كان المنع لحق الله تعبداً فسخ البيع إجماعاً ومتى ما كان لحق الآدمي كالعيب والغش فله الخيار ومتى ما كان لحق الله ولحق الآدمي فعند كافة العلماء أنه يفسخ. واختلف علماؤنا فيه على تفصيل طويل يرد في المسائل عمدته على الإطلاق أنه إن قوي حق الآدمي بأن يكون في نهي الشرع عنه رائحة المصلحة ففيه الخيار وإن قوي فيه حكم التعبد وجب الفسخ وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تصر الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها) (¬4) في الصحيح (ثلاثاً إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) (¬5). وفي الصحيح أيضاً: (من سمراء) (¬6) وهذا حديث عظيم بيانه في موضعين مسائل الخلاف وشرح الصحيح ومن فصوله القوية أن التصرية عندنا عيب وبه قال الشافعي (¬7) وقال أبو حنيفة ليست بعيب (¬8) ¬

_ (¬1) في جـ كقوله ليس فيها واو. (¬2) الموطأ 2/ 683 وهو متفق عليه أخرجه البخاري في البيوع باب النهي للبائع أن لا يحفل الإبل 3/ 92 ومسلم في البيوع باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه (1515) من حديث أبي هريرة. (¬3) مسلم في البيوع باب تحريم بيع الحاضر للبادي (1522) وأبو داود تهذيب السنن 5/ 84 والترمذي 3/ 526 والنسائي 7/ 256 وابن ماجه 2/ 734 من حديث جابر بن عبد الله. (¬4) الموطأ 2/ 683 ومتفق عليه أخرجه البخاري في البيوع باب النهي للبائع ألا يحفل الإبل 3/ 92 ومسلم في البيوع باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه (11) من حديث أبي هريرة. (¬5) مسلم في البيوع باب حكلم بيع المصراة (1524). (¬6) مسلم في البيوع (1524) (24). (¬7) انظر شرح النووي على مسلم 10/ 162 وشرح السنة 8/ 125 فتح الباري 4/ 361. (¬8) انظر مذهب الإمام أبي حنيفة في عمدة القاري شرح صحيح البخاري 11/ 270 فقد ذكر أغلب الاعتراضات على الحنفية ورد عليها.

والدليل على أنه عيب زيادة الثمن بالتصرية ونقصانه بعدمها ولا جواب عن هذا. ورد أبو حنيفة هذا الحديث لوجهين: أحدهما أن راويه أبو هريرة ولم يكن فقيها وإنما كان رجلاً صالحا وإنما تقبل روايته في المواعظ لا في الأحكام (¬1) وأسندوا ذلك إلى الشعبي (¬2) ونعوذ بالله من مسألة لا تثبت لصاحبها إلا بالطعن علي الصحابة وأبو هريرة زاهد حافظ نالته بركة الثوب المجموع له فلو لم يكن فقيهاً لنفعته بركة الحفظ في كل ما يقول (¬3) ولقد كنت بجامع المنصور في حلقة قاضي القضاة الدامغاني (¬4) وجرت هذه المسألة في ذكر أبي هريرة فقال لي بعض علمائنا طعن بعضهم في أبي هريرة في هذا المجلس فوقعت حية من السقف في أثناء المجلس عظيمة المنظر وقصدت إلى المتكلم في أبي هريرة ونفر المجلس وتفرق الخلق ثم أخذت تحت بعض السواري حجراً فدخلت فيه. الثاني وقد قال أبو حنيفة إن هذا الحديث يخالف أصول الشريعة من ثمانية أوجه فأوردها وجاوبنا عليها كما في مسائل الخلاف (¬5) ومن غرائب مذهبنا أن أشهب ذكر عنه في ¬

_ (¬1) قال الحافظ اعتذر الحنفية عن الأخذ بحديث المصراة بأعذار شتى فمنهم من طعن في الحديث لكونه من رواية أبي هريرة ولم يكن كابن مسعود وغيره من فقهاء الصحابة فلا يؤخذ بما رواه مخالفاً للقياس الجلي وهو كلام آذى قائله نفسه وفي حكايته غنى عن تكلف الرد عليه وقد ترك أبو حنيفة القياس الجلي لرواية أبي هريرة وأمثاله كما في الوضوء بنبيذ التمر ومن القهقهة في الصلاة وغير ذلك وقال وأظن أن لهذه النكتة أورد البخاري حديث ابن مسعود عقب حديث أبي هريرة إشارة منه إلى أن ابن مسعود قد أفتى بوقف حديث أبي هريرة فلولا أن خبر أبي هريرة في ذلك ثابت لما خالف ابن مسعود القياس الجلي في ذلك وقال ابن السمعاني في الاصطلاح التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله بل هو بدعة وضلالة. فتح الباري 4/ 364 - 365. وانظر الاعتراضات على الحنفية والإجابة عنها في عمدة القاري 11/ 270. (¬2) وهو عامر بن شراحيل الشعبي. (¬3) مسلم في كتاب الفضائل باب من فضائل أبي هريرة من حديث الزهري عن الأعرج قال سمعت أبا هريرة يقول: (إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله الموعد كنت رجلاً مسكينا أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق) ... مسلم (2492). (¬4) لعله عبيد الله بن محمد بن طلحة بن الحسن أبو محمد الدامغاني ابن أخت قاضي القضاة أبي عبد الله محمد بن علي الدامغاني شهد عند خاله في يوم الثلاثاء 26 من ربيع الآخر سنة 452 فقبل شهادته ثم ولاه القضاء بربع الكرخ يوم الثلاثاء 19 رجب سنة 470 هـ وقد مات رحمه الله سنة 502 هـ ودفن عند قبر أبي حنيفة. ذيل تاريخ بغداد لابن النجار 2/ 124. (¬5) هذه المسائل ذكرها العيني في عمدة القاري 11/ 270 وصاحب اعلاء السنن 13/ 60 وأجابا عن تلك المسائل وكذلك ذكرها الحافظ في الفتح 4/ 364.

العتبية أنه قال إن ردها لم يرد معها شيئاً (¬1) لأن الخراج بالضمان وهذا قول باطل من وجهين: أحدهما أن الخراج بالضمان حديث لم يصح مداره على عائشة لكن المعنى مجمع عليه ولو صح الطريق إلى عائشة وهو الجواب الثاني لما كان فيه حجة لأنه عموم وهذا نص والنص لا يرد بالعموم بالاتفاق من الأمة وأشهب أجل قدراً من هذا فهماً وديناً، وإنما هي من مسائل العتبية التي لم تثبت فيها رواية وإنما هي منقولة من صحف ملفقة من البيوت وفي مثلها قال مالك لا يجوز بيع كتب الفقه يعني القراطيس والأوراق التي كانت تكتب عنه فأما كتاب محصل مروي مضبوط بالفصول والأصول فإنه يجوز بيعه إجماعاً. ¬

_ (¬1) نقل هذه الرواية العيني في عمدة القاري 11/ 270.

كتاب الشفعة

كتاب الشفعة اختلف العلماء رضي الله عنهم في علة الشفعة بعد اتفاقهم على أن أصلها موضوع لدفع الضرر فمنهم من قال إن العلة ضرر الخلطة وعداها إلى الجار وهو أبو حنيفة وأهل العراق ومنهم من قال إنها لضرر الشركة وذلك فيما يلزم من مؤونة القسمة. قال أبو المعالي الجويني (¬1) قولًا لم يسبق إليه روى عنه إسماعيل الطوسي (¬2) وغيره وذكره لنا عنه محمد بن طاهر الزنجاني الشهيد (¬3) في كتاب العمد وأشار إليه في الأساليب (¬4) قال إن الأخذ بالشفعة غير معلل لأنه فسخ قهري يترتب على عقد اختياري أذن الشرع فيه وهذا ما لا نظير له في الشريعة وإنما شرعه الله تعالى بما علم من الحكمة لا لعلة نصبها علماً وهذا الذي أشار إليه لا يصح عند كافة العلماء لأن الحكم إذا ورد في الشريعة وظهر تعليله وعلمت فائدته وجب البناء عليها وتعين العمل بها وقد ظهرت علة الضرر في الشفعة ظهوراً جليا ووافقنا على التفريع عليها ولو كان الأخذ بالشفعة تعبداً ما فرع ولا ركب عليه. وتعليق الشفعة في كتب الشافعية أعظم مما في كتبنا وقد كانت الأموال الربوية على مذهب أبي المعالي في التوقف عن تعليلها والاقتصار على الأعيان الأربعة الوارد ذلك فيها أولى (¬5) ثم اقتحمنا فيها التعليل مع أن تعليل الشفعة أظهر (¬6) فتعليل الشفعة أولى. فأما التعليل بضرر الخلطة فباطل لأن ذلك يفصله صاحب الشرطة ويرفعه القاضي والإمام ويكفه المسلمون بعضهم عن بعض وقد ذكر مالك في الموطأ مرسلاً عن سعيد بن المسيب وورد في الصحيح مسنداً أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) إسماعيل الطوسي لم يتضح لي من هو. (¬3) لعله محمد بن طاهر المقدسي الحافظ أبو الفضل ذو الرحلة الواسعة والتصانيف والتعاليق عاش ستين سنة توفي ببغداد سنة (507 هـ) العبر 2/ 390، تذكرة الحفاظ (1242) طبقات الحفاظ للسيوطي (452)، سير أعلام النبلاء 19/ 361. (¬4) في ج الأسلوب. (¬5) في ت وج وك أولاً. (¬6) في ج وم أولى.

المسألة الأولى

(قضى بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وحرفت الطرق فلا شفعة (¬1))، فإنما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الشفعة في مال مشترك مآله القسمة وليس بين المتجاورين شركة ولا بين المتجاورين خلطة فأي وجه للقضاء بينهم بالشفعة والخلطة التي بينهم إنما هي خلطة صحبة وكم من جارين لا يلتقيان لكل واحد منهما خليل ومخالط هما عنهما متباينان فإن قيل فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الجار أحق بصقبه) (¬2)، قلنا: قد تكلمنا على هذه الأحاديث والتعليل في مسائل الخلاف بكلام طويل منتخب يغنيكم عنه الآن أن الصقب هو القرب (¬3) والقرب المراعى إنما هو قرب الشركة بدليل قوله: (الشفعة فيما لم يقسم) فأما لفظ الجار فإن الشريك أخص الجارين والعرب تسمي الشريكين جارين كما تسمي بذلك متقاربي المنزلين قال الشاعر: أجارتنا بيني فإنك طالقه (¬4) فإذا تمهد هذا فإن مسائل الشفعة كثيرة وتفريعاتها متشعبة أمهات مسائلها ثمانية مسائل: المسألة الأولى: اتفق علماء الأمصار على أن الشفعة إنما تكون في العقار دون المنقول لما قدمناه من ¬

_ (¬1) مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قضى بالشفعة فيما لم يقسم ... " الموطأ 2/ 713، قال ابن عبد البر مرسل عن مالك لأكثر رواة الموطأ وغيرهم. قال الحافظ اختلف على الزهري في هذا الإسناد فقال مالك عن أبي سلمة وابن المسيب مرسلاً كذا رواه الشافعي وغيره ورواه أبو عاصم والماجشون عنه فوصله بذكر أبي هريرة أخرجه البيهقي ورواه ابن جريج عن الزهري كذلك لكن قال عنهما أو عن أحدهما أخرجه أبو داود والمحفوظ روايته عن أبي سلمة عن جابر موصولاً وعن ابن المسيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً وما سوى ذلك شذوذ ممن رواه. فتح الباري 4/ 436. قلت الرواية الموصولة عند البخاري من حديث أبي سلمة عن جابر 3/ 114 وانظر التلخيص 3/ 55. (¬2) أخرجه البخاري في الشفعة 3/ 114 من حديث أبي رافع. (¬3) قال البغوي السقب القرب بالسين والصاد يريد بما يليه ولما يقرب منه وليس في هذا الحديث ذكر الشفعة فيحتمل أن يكون المراد منه الشفعة ويحتمل أنه أحق بالبر والمعونة، شرح السنة 8/ 242. وقال ابن الأثير السقب بالسين والصاد في الأصل القرب يقال سقبت الدار وأسقب أي قربت ويحتج بهذا الحديث من أوجب الشفعة للجار وإن لم يكن مقاسماً. النهاية 2/ 377. (¬4) البيت عزاه ابن منظور في لسان العرب 10/ 225 للأعشى. وتمام البيت: أجارتنا بيني فإنك طالقه ... كذاك أمور الناس غاد وطالقه

أن الشفعة إنما ثبتت لضرر مؤونة القسمة وذلك يختص بالعقار دون المنقول إذ من المنقول ما لا ينقسم بحال وما ينقسم منه فلا مؤونة فيه وانفرد مالك عن جمهورالعلماء بفرعين: أحدهما أنه قال الشفعة في الثمار وهي من المنقولات. وقال سائر العلماء كل منقول لا شفعة فيه كالعروض وهذا قياس جلي وعول مالك على ركنين: أحدهما أن الثمرة وإن كانت مقطوعة منقولة فإنها بأصلها من العقار نابعة عنها نشأت وفيها بقيت فما دامت متصلة بها فحكمها حكمها أولا ترى إلى الأغصان والأوراق فيها الشفعة متابعة للأصول وهي تنفصل عنها وتنقطع منها. الركن الثاني وهو أن النّبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص في بيع العرايا واستثناها من الربا لضرر المداخلة وكذلك ضرر المداخلة في الثمرة مثله عند القضاء بالشفعة. الفرع الثاني قال مالك (¬1) لا ينقسم من العقار إلا بفساد هيئته وتغير صفته (¬2) كالحمام والبئر وذلك لفقه بديع لم يتفطن له سواه وذلك أن الشفعة وضعت كما قلناه دفعاً لضرر مؤونة القسمة والخسارة في تغيير هيئة الحمام والبئر أكثر منها في مؤونة القسمة فكيف يدفع ضرر بأعظم منه وإنما يرفع أعظم الضررين بأهون منه وهذا بين لمن تأمله ولهذا قلنا إن رواية المصريين أقوى ولم يكن في قول الله: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} (¬3) متعلق لأنه عموم تخصه قاعدة الضرر والفساد المتفق عليها (¬4). ¬

_ (¬1) في ت ل وك مالا ينقسم. (¬2) في ك وتغير صفه لاشفعة. (¬3) سورة النساء آية (7). (¬4) قال القرطبي استدل علماؤنا بهذه الآية في قسمة المتروك على الفرائض إذا كان فيه تغيير على حالة كالحمام والبيت وبيدر الزيتون والدار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها فقال مالك يقسم ذلك وإن لم يكن نصيب أحدهم ما ينتفع به لقوله تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} وهو قول ابن كنانة وبه قال الشافعي ونحو قول أبي حنيفة قال أبو حنيفة في الدار الصغيرة بين اثنين فطلب أحدهما القسمة وأبى صاحبه قسمت له وقال ابن أبي ليلى إن كان فيهم من لا ينتفع بما يقسم فلا يقسم وكل قسم يدخل فيه الضرر على أحدهما دون الآخر فإنه لا يقسم وهو قول أبي ثور قال ابن المنذر وهو أصح القولين ورواه ابن القاسم عن مالك فيما ذكر ابن العربي قال ابن القاسم وأنا أرى أن كل ما لا يقسم من الدور والمنازل والحمامات وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم أن يباع ولا شفعة فيه لقوله عليه السلام في كل ما لا يقسم ... تفسير القرطبي 5/ 47 وانظر الكافي 2/ 852 بداية المجتهد 2/ 257.

المسألة الثانية

المسألة الثانية: اتفق العلماء رحمة الله عليهم على أن الشفعة إنما يترتب حكمها في عقد معاوضة فإن وقع الملك في الخط المشاع بغير عوض كالهبة المحِضة فروي عن مالك فيه الشفعة واتفقت الأمة على أنه لا شفعة في الخط المشاع الموروث وهذه الرواية عن مالك في الهيئة وإن كانت قليلة في النقل فإنها قوية في الدليل فإن الشفعة إنما ثبتت لضرر الشركة وذلك في الموهوب كما هو في المبيع فإن قيل الموهوب ملك بغير عوض فلم يكن فيه الشفعة كما لو ورث جزءاً مشاعاً وهو قول كافة العلماء، قلنا: ليس من التحقيق قياس الهبة على الميراث لأن ملك الموروث دخل قسراً من الله تعالى لا دفع له لجبلة بخلاف الهبة فإنه ملك دخل على الشريك باختيار المتعاقدين فوجبت فيه الشفعة كالمتبايعين وقد كان يمكنه ألا يفعل فلما فعل التحق الاختيار بالاختيار وفارق القهر والإضرار فإن قيل يبطل من وجه آخر وذلك أن الشفعة إنما هي أخذ بعوض ولا عوض في الهبة، قلنا الجواب من وجهين: أحدهما أن هذا يبطل بما إذا جحد المشتري العوض أو نسيه أو مات ولم يعرف. الجواب الثاني وهو تمام الأول أن في مسألتنا وهي الهبة عوض عظيم وهي قيمة الشقص وهي التي يرجع إليها في المسائل المتقدمة أو بعضها فركبوه عليه والله أعلم. المسألة الثالثة: كما ثبتت الشفعة عند علمائنا في المبيع كذلك تثبت في الممهورة والمخالعة وبه قال الشافعي (¬1) وقال أبو حنيفة هي مختصة بالمبيع (¬2) والمسألة غريبة المأخذ لأنا نقول مع الشافعي إنه شقص ملك عن معاوضة فوجبت فيه الشفعة كالمبيع ولا إشكال في أن النكاح والخلع معاوضة لأن الله تعالى يقول: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} (¬3) وقد بينا ذلك في التلخيص إلا أن الشافعي قال يأخذ الشقص بمهر المثل وقال مالك يأخذه بقيمته وما قاله الشافعي وهو بادي الرأي لأن المنفعة إنما تكون بالثمن فإن تعذر فيؤخذ قيمته كما لو اشترى شقصاً بعبد أو ثوب والبضع عندنا وعند الشافعي متقوم يضمن بالمسمى في الصحيح وبالمثل في الفاسد إلا أن مالكاً تفطن لدقيقة وهو أن النكاح مبني على المكارمة فقيد ذلك بالمهر وقد ينقص فلم يكن فيه أعدل من أن يأخذ قيمة ¬

_ (¬1) انظر مذهب الشافعي في الروضة 5/ 76 - 77. (¬2) انظر اللباب 2/ 106 مجمع الأنهر 2/ 471. (¬3) سورة النساء آية (25).

المسألة الرابعة

الشقص وقد اتفقنا على أنه يرجع إلى قيمة الشقص عند تعذر حال الثمن وهذه حالة تعذر وحجة أبي حنيفة والجواب عنها في مسائل الخلاف. المسألة الرابعة: قال علماؤنا الشفعة على مقدار الأنصباء لأنها فائدة من فوائد الملك فقدرت بقدر الملك كالغلة وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إنها على قدر الرؤوس لأنها لدفع الضرر بدليل حالة الانفراد والمسألة عويصة المأخذ جداً لا تحتملها هذه العجالة فانظروها في موضعها من مسائل الخلاف. المسألة الخامسة: خيار الشفعة موروث عندنا وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يورث قال الإمام أبو على الصاغاني (¬1) الحنفي الخيار غير متروك وإنما يورث بقول الله {ما ترك} وكيف يصح أن يكون متروكاً بعد الموت وهو صفة من صفاته وصفاته تبطل بموته من حياة وعلم وصفات وقدرة وغير ذلك قال لنا فخر الإسلام الشاشي هذا مزج الشرعيات بالعقليات والشرعية لم تبن علي هذا فإن الأحكام كلها إنما هي راجعة إلى قول الله والحقوق التي أثبتها إنما هي ثابتة بإثباته لا بقول أحد من البشر ولا بفعله ولا بصفته فهي تنتقل بنقل الله لها من شخص إلى شخص ولو باع رجل فداناً فقيل له ما بعت من الأرض فهي لله لا يقدر على نقلها ولا على تصريفها أو الملك بما هو فلا يفسره إلا بما يرجع إلى الفعل والفعل عوض لا يبقى فكيف يتصور أن يباع أو ينقل فتتبع مثل هذا إفساد للأحكام ولكن الباري تعالى جعل الحي خليفة الميت فما كان للميت فهو له. المسألة السادسة: قال مالك دون سائر العلماء (¬2) الشفعة إنما تكون بين أهل السهام من الورثة دون غيرهم من المشركين وقال غيره بأجمعهم إنما تكون لكل شريك قرب أو بعد لأنها لدفع الضرركما قدمناه وذلك يستوي فيه القريب والبعيد من الشركاء مثال ذلك ميت ترك جدتين وأخوين لأم وأخوة لأب فباعت إحدى الجدتين لم تشفع في حظها إلا الأخرى. وكذلك لو باع الأخ للأم لم يشفع عليه إلا أخوه ولو باع أحد الأخوة للأب منع عليه جميع الورثة والدقيقة التي تفطن لها مالك في هذا الباب وفاتت الشافعي فإن أبا حنيفة بني عليها واطرد ¬

_ (¬1) في ج الصاكاني. وهو خطأ. (¬2) في م الفقهاء.

المسألة السابعة

أصله فيها وتلك الدقيقة المالكية هي أن الشفعة إنما ثبتت لضرر الشركة كما قلنا مع الشافعي ودليلنا عليه فيما تقدم خلافاً لأبي حنيفة في قوله إنها تثبت بالضرر المطلق وإذا ثبتت لضرر القسمة كما دللنا عليه فهذه الدار التي تركها الميت إنما تقسم أسداساً فللجدتين سدسها وللأخوة للأم ثلثها والثلاثة الأسداس للأخوة للأب فينفرد كل جزء بنصيبه ثم يقسم الأخوان للأم حظهما بينهما وكذلك الجدتان فكما يجتمع السهم في القسمة كذلك تجب فيه الشفعة ومن يفارقه في القسم لا شفعة له كما لا يجتمع معه في القسمة لكن يبقى على هذا إشكال واحد وهو أن أهل السهام يشفعون على العصبة عندنا ولا يشفع العصبة على أهل السهام وذلك لقوة السهم فيدخل الأقوى على الأضعف ولا يزاحم الأضعف الأقوى هذا لباب الدليل وهو مستوفى في مسائل الخلاف. المسألة السابعة: قال الشافعي وأبو حنيفة الشفعة على الفور (¬1) لما روي في الحديث عن النبى - صلى الله عليه وسلم -: (أن الشفعة كنشطة عقال إن أخذتها أمسكتها وإن تركتها ذهبت) (¬2)، وقاسوه على الرد بالعيب فإنه على الفور باتفاق من الكل وعن مالك روايتان: إحداهما أنها غير محددة بمدة وإنما هي على حال الثمن والمثمون والمشتري والشفيع. الثانية: أنها مقدرة بعام ونحوه ودليلنا أنه حق ثبت لدفع الضرر فلم يكن على الفور أصله القصاص فإن قالوا تغلب فنقول لم يتقدر بسنة أصله القصاص، قلنا هذا القلب لا يلزمنا نحن ويلزمكم أنتم لأن القصاص بين أن الحقوق كلها ليست على الفور وكذلك ¬

_ (¬1) نقل ابن هبيرة عن الشافعي في القديم أنها على التراخي وفي الجديد أنها على الفور الإفصاح لابن هبيرة 2/ 35 وقال إن لأبي حنيفة في المسألة روايتين أيضاً. (¬2) رواه ابن ماجه قال حدثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن الحارث عن محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الشفعة كحل العقال) ابن ماجه 2/ 835 ورواه ابن عدي فى الكامل 6/ 2185 في ترجمة محمد بن الحارث ثم قال ولمحمد بن الحارث غير ما ذكرت بهذا الإسناد عن ابن البيلماني وقد رواه عن محمد بن الحارث جماعة معروفون وعامة ما يرويه غير محفوظ ورواه البيهقي 6/ 108 وقال محمد بن الحارث متروك محمد بن عبد الرحمن البيلماني ضعيف ضعفهما يحيى بن معين وغيره وقال ابن أبي حاتم في العلل 1/ 479 عن أبي زرعة هذا حديث منكر لا أعلم أحداً قال بهذا الغائب له شفعته والصبى حتى يكبر. وقال الحافظ في التلخيص 3/ 56 بعد أن عزاه لابن ماجه والبزار إسناده ضعيف جداً وقال ابن حبان لا أصل له وقال البيهقي ليس بثابت.

المسألة الثامنة

الديون واقتضاؤها وقياسكم على الرد بالعيب ساقط لأن الرد بالعيب مخصوص عن الأصول بعيد عن الشفعة ألا ترى (¬1) أنه لوغير في الرد بالعيب ببناء وغرس لكان فوتا ولو فعل ذلك بالشفعة لم يكون فوتا. المسألة الثامنة: إذا باع شقصاً بثمن إلى أجل فقال الشافعي وأبو حنيفة (¬2) الشفيع بالخيار إن شاء أن يأخذ بالثمن حالاً أو ينتظر الأجل وهذا تحكم وتغيير للشفعة فإن حكم الشفعة أن ينزل الشفيع منزلة المشتري فقلب هذا لا يجوز ونحن أسعد بالمسألة من القوم. ¬

_ (¬1) في م ألا تراه. (¬2) قال ابن هبيرة قال أبو حنيفة والشافعي في قولة الجديد يأخذه بثمن حال أو يصبر حتى ينقضي الأجل وقال الشافعي في القديم من أقواله يأخذ بثمن مؤجل في الحال وإلا يترك وعن الشافعي قول ثالث أنه يأخذه بسلعة تساوي الثمن إلى ذلك الأجل وقال مالك وأحمد إذا كان ملياً ثقة أخذه بالثمن المؤجل وإن لم يكن ملياً ثقة أتى بكفيل على ثقة فيكفله ثم يأخد بالثمن المؤجل. الإفصاح 2/ 38.

كتاب المساقاة

كتاب المساقاة (¬1) إعلموا وفقكم الله أن عقد المساقاة في الشريعة رخصة من الله مستثناة من الإجارة المجهولة العمل (¬2) للحاجة كما أن الجعل مستثنى من الإجارة المجهولة العمل للحاجة ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه: (قالت الأنصار له يا رسول الله اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين النخيل قال: لا، قالوا: فيكفون المؤونة ونشركهم في الثمرة قالوا: سمعنا وأطعنا (¬3)). وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه ساقى أهل خيبر بشرط ما يخرج منها من نخل وزرع (¬4) وكان بين النخل بياض فكان لغواً. وقال أبو حنيفة المساقاة باطلة وعذراً له فإنه كان ضعيفاً في الحديث ذكرت له قصة خيبر فقال إن اليهود كانوا رقيقاً للنبىّ - صلى الله عليه وسلم - فجعل رقيقه في ماله عملة فيه وجعل لهم نصف الثمر أرزاقاً لهم. قلنا لو عرف الحديث لما قال (¬5) هذا وقد كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بيّن أن بقاءهم في الأرض إنما هو للمسلمين إن شاؤوا أن يبقوهم وإن شاؤوا أن يخرجوهم أخرجوهم ولو كانوا ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 703. (¬2) في جـ الأجرة. (¬3) روى البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنصار أن يُقطِع من البحرين فقالت الأنصار: (حتى يُقْطعَ لأخواننا من المهاجرين مثل الذي يُقْطع لنا ...) البخاري في باب القطائع 3/ 150. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في الحرث والمزارعة باب المزارعة بالشطر ونحوه 3/ 137، ومسلم في كتاب المساقاة رقم (1551) وأبو داود انظر مختصر المنذري مع تهذيب السنن 5/ 67، والترمذي 3/ 667، والنسائي 7/ 53 من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عامل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع .... (¬5) قال العيني وأجاب أبو حنيفة عن حديث الباب بأن معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر لم يكن بطريق المزارعة والمساقاة بل كان بطريق الخراج على وجه المن عليهم والصلح لأنه - صلى الله عليه وسلم - ملكها غنيمة فلو كان أخذ كلها جاز وتركها في أيديهم بشطر ما يخرج منها فضلاً وكان ذلك خراج مقاسمة وهو جائز كالتوظيف ولا نزاع فيه. عمدة القاري 12/ 168.

رقيقاً ما صلح ذلك وكلامهم أقل من أن يتكلم عليه (¬1). ومسائل المساقاة عويصة لأنها رخصة مخصوصة وإذا ثبت الأصل قياساً معللاً أمكن تعليله واضطردت فروعه وإذا ثبتت رخصة عسر الضبط واضطربت آراء المجتهدين عليه ولذلك أطنب مالك في المساقاة وذكر منها مسائل وفروعاً اتبع فيها كلها الأثر وما وجد من العمل ومن أمهات مسائلها أن المساقاة تجوز في كل شجرة، وقال الشافعي لا تجوز إلا في النخل والكرم لأنها رخصة فاقتصر بها على مورد النص (¬2) قلنا مهلاً عليك إنما وردت في النخل فلم عديتها إلى الكرم والأصل في كل رخصة في الشريعة أن يكون ما في معناها لاحقا بها مما يتفطن له قبل النظر في العلة وقد بينا ذلك في أصول الفقه وخصوصاً عندنا وعند الشافعي ولهذا قلنا إنه تجوز المساقاة في الثمرة بعد ظهورها وقال الشافعي لا تجوز ودليلنا أن ما بعد الظهور في معنى ما قبل الظهور لأن المقصود كفاية العامل لرب العمل وشركته في الثمرة وهذا يستوي فيه ما قبل الظهور وما بعده ولذلك قال ابن القاسم وغيره خلافاً لسحنون إن المساقاة تجوز في الثمرة بعد طيبها لأن الحاجة في المساقاة بعد الطيب كالحاجة في المساقاة قبل الطيب إذ الشجرة مفتقرة إلى العمل من أول ما تغرس إلى أول ما تجذ ثمرتها أو من أول ما تحاول خدمتها إلى أن تستحصد ثمرتها ولذلك اتبع مالك الأثر حين قال تجوز المساقاة في خمسة أوسق من تمر بين العامل صاحب النخل وإن كان نصيب كل واحد منهما يقتصر (¬3) عن النصاب بخلاف سائر الأموال الزكاتية لأن عبد الله بن رواحة كان يخرص ويأخذ الزكاة مما يجب ولا يسأل عن الشركاء وقد بني علماؤنا هذه المسألة على أن العامل في المساقاة متى يملك (¬4) حصته فقيل لا يملكها حتى يقبضها فتبنى المسألة على هذا والأول أقوى في الدليل وقد خرج ابن القاسم عن هذا الأصل فقال لا تجوز مساقاة ¬

_ (¬1) روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر أن عمر بن الخطاب أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها وكانت الأرض حين ظهُر عليها لله ولرسوله وللمسلمين فأراد إخراج اليهود منها فسألت اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم بها على أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نقركم بها على ذلك ما شئنا) فقروا بها حتى أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحا. مسلم في كتاب المساقاة (1551) (6). (¬2) قال الحافظ وخصه الشافعي في الجديد بالنخل والكرم. فتح الباري 5/ 13. (¬3) في جـ انقص. (¬4) في ت تملك.

باب كراء الأرض

النصراني في كرمك إلا إذا أمنت أن يعصره خمراً (¬1) والنبى - صلى الله عليه وسلم - قد ساقى أهل خيبر كلهم وهم كفار بأجمعهم وفيهم من لا يؤمن أن يتخذ من ثمره خمراً بل جميعهم لا يؤمن عليه ذلك فصح أن هذه الرواية في نهاية الضعف. باب كراء الأرض مسألة كراء الأرض مسألة عويصة لها صور وغوائل اختلف العلماء فيها من لدن الصحابة إلى زماننا هذا واضطربت فيها الأحاديث اضطراباً كثيراً وباحثت عليها (¬2) قديماً أثراً ونظراً فما وجدت من أتقنها إلا أبا عبد الرحمن النسائي (¬3) فإنه جمع أحاديثها باختلافها وطرقها في جزء كبير وجملة الأمر أن علماءنا قالوا لا يجوز كراء الأرض بطعام وإن كان مما لا تنبته الأرض وقال الشافعي يجوز بحفظه في الذمة (¬4) وقال أبو حنيفة يجوز بكل ما كان ثمناً في المبيع وقال الليث يجوز بجزء معلوم مما يخرج منها وقال غيره يجوز بجزء مجهول مثل أن يقول ولي ما تنبته هذه البقعة منها ويعينها وقيل لا يجوز كراؤها بحال (¬5) وفي كل ذلك حديث وأثر فأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه) (¬6) وهو صحيح ويعارضه (¬7) مثله في الصحة وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرافع: (ما تصنعون بأرضكم قال نكريها بالربع وبالأوسق من التمر قال: لا تفعلوا أزرعوها أو ازرعوها) (¬8). وأما قول ¬

_ (¬1) المدونة 4/ 11. (¬2) في م وعنها. (¬3) هو أحمد بن شعيب بن علي بن سنان النسائي أبو عبد الرحمن محدث حافظ ولد بنسا 215 ومات بمكة سنة 303. له ترجمة في سير أعلام النبلاء 14/ 125، تهذيب الكمال 1/ 23، المنتظم 6/ 131، الكامل في التاريخ 8/ 96، وفَيات الأعيان 1/ 77 - 78، تهذيب التهذيب 1/ 36. (¬4) قال ابن المنذر أجمع عوام أهل العلم على أن اكتراء الأرض وقتاً معلوماً جائز بالذهب والفضة روينا هذا القول عن سعد بن أبي وقاص ورافع بن خديج وابن عمر وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وعبد الله بن الحارث وأبو جعفر ومالك والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وقال أحمد قل ما اختلفوا في الذهب والورق. الأشراف ص 158 وانظر المعنى 5/ 318. (¬5) حكى ابن قدامة في المغنى الأقوال في المسألة ونسبها إلى أصحابها فانظره -5/ 319. (¬6) متفق عليه البخاري في المزارعة باب ما كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضا بعضاً في الثمرة 3/ 141، ومسلم في البيوع باب كراء الأرض (87 - 88) من حديث جابر. (¬7) في م وج فيعارضه. (¬8) متفق عليه البخاري في الحرث والمزارعة باب ما كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يواسي بعضهم بعضاً فى الزراعة =

علمائنا إنها لا تجوز بشيء من الطعام فهو ذريعة وأنها لا تجوز بشيء مما يخرج منها وإن كان بما لاتنبت لوجهين: أحدهما أنها ذريعة الذريعة وشبهة الشبه مسألة مختلف فيها وقد بيناها. والثاني وهو الأقوى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لرافع لا تفعلوا وقد قال له نكريها بالأوسق من التمر والنهي يقتضي التحريم. وأما الكراء بجزء منها وإن كان مما لا تنبت فلوجهين أحدهما (¬1) وهو مذهب فيه أحاديث كثيرة والمعنى فيه قوي وذلك أنا رأينا الله تعالى قد أذن لمن كان عنده نقد أن يتصرف فيه طلباً للربح أو يعطيه لغيره يتصرف فيه بجزء معلوم فالأرض مثله وإلا فأي فرق بينهما وهذا أقوى في الباب ونحن نفعله والله الموفق. ¬

_ = والثمرة 3/ 141 , ومسلم في البيوع باب كراء الأرض رقم (1548) وأبو داود (3394) والنسائي 7/ 44 - 49. (¬1) زيادة من ج وم.

كتاب القراض

كتاب القراض (¬1) القراض عقد كان في الجاهلية وأقره الإسلام وفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل المبعث. قارضته خديجة فقبل قراضها وخرج به إلى الشام وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينكره من شريعة الإسلام (¬2) حتى استأثر الله به إليه وأهل الحجاز يسمونه قراضاً وأهل العراق يسمونه مضاربة (¬3) وقيل في الأول إنه مأخوذ من القرض وهو القطع كأنه قطع للعامل جزء من ماله أو قطعه كله للعامل عن نفسه وقيل هو مأخوذ من المساواة يقال قارض فلاناً إذا ساواه وفي حديث أبي الدرداء "قارض الناس ما قارضوك فإنك إن تركتهم لم يتركوك" (¬4). وقيل في المضاربة إنها مأخوذه من الضرب في الأرض وقيل إنها مأخوذه من ضرب معه في سهمه أي في الربح وأدخل مالك فيه أصلاً قضاء عمر على أبي موسى وعلى ولديه (¬5) حسبما نصه في هذا الكتاب فإن قيل كيف جاز لعمر أن ينقض قضاء أبي موسى وهو أمير من الأمراء قلنا: إذا كان الإمام أعدل من الأمير تعين عليه أن ينظر في أقضية ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 687. (¬2) هذه القصة ساقها ابن إسحاق في سيرته 1/ 187 - 188 وابن كثير في سيرته 1/ 162 وابن حبان ص 60. (¬3) قال اين الأثير القراض المضاربة في لغة أهل الحجاز قال قارضه يقارضه قراضاً ومقارضة ... والمضاربة من الضرب في الأرض. النهاية 4/ 41. وقال في القاموس القراض والمقارضة المضاربة كأنه عقد على الضرب في الأرض والسعي فيها وقطعها بالسير وصورته أن يدفع إليه مالاً ليتجر فيه والربح بينهما على ما يشترطاه. ترتيب القاموس 3/ 593. (¬4) رواه أبو نعيم في الحلية 1/ 268، والخطابى في غريب الحديث له 2/ 347، وأبو عبيد في الغريب 4/ 149، وابن الأثير في النهاية 4/ 41. (¬5) مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال خرج عبد الله ابنا عمر بن الخطاب في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على أبي موسي الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل ثم قال: لو أقدر لكما على أمر لنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى ههنا مال من مال الله أريد أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق ثم تبيعانه بالمدينة فتؤديه رأس المال إلي أمير المؤمنين ويكون الربح لكما فقالا وددنا ذلك وكتب إلي عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال ... الموطأ 2/ 687، وإسناده صحيح.

تبيين

عماله. جواب ثاني: لم يتعرض قط عمر ولا غيره قضاء أمير لفضلهم وعدالتهم ولكن لما كانت هذه النازلة في ولدي عمر خشي ما خشي وقال ما قال فزال عن الريبة بعظيم ورعه وبرأ نفسه وابنيه وأميره عن التهمة إذا ثبت هذا فإنه يجوز القراض بالذهب والفضة إذا كانا مسكوكين بلا خلاف فإن كانا تبراً أو نقاراً ففي ذلك اختلاف كثير بين العلماء في المذهب وههنا غريبة وهي أن قراض الناس في الجاهلية وصدر الإسلام لم يكن مسكوكاً وإنما كان تبراً (¬1) ونقاراً (¬2) فعجبت للشافعي ولعلمائنا كيف منعوا ذلك وجوازه في الشرع إنما انعقد بغير مسكوك. قالت الشافعية ومن ساعدهم من علمائنا إنما امتنع القراض بغير المسكوك لأن العامل يحتاج إلى عمل في بيع النقرة حتى تعود سكة فيصير كالمعاوضة بعرض. قلنا ليس هذا كالقرض على ما يأتي بيانه إن شاء الله (¬3) وذلك لأن العلماء اتفقوا على أنه لا يجوز القراض بالعروض إلا الأوزاعي وابن أبي ليلى واحتجا بأن ما كان في البيع جاز القراض به كالنقدين (¬4) وعول سائر العلماء على مسألة أصولية اختلف الناس بزعمهم فيها وهي متفق بين العلماء عليها فافهموها وادخروها وهي النظر في المال. قالوا إن قارضه بعرض فباعه العامل بمائة ثم اتجر حتى صار المال مائة وخمسين ثم دعاه إلى المقاسمة وقال له خلص رأس المال كما يلزم ونقسم ربح المال فجاء ليشتري ذلك العرض فوجده بمائة وخمسين فإنه يشتريه فيذهب ربحه ويمضي عمله باطلاً وهذا ما لا جواب لهم عنه. تبيين: أكثر مالك في القراض وقسم أبوابه على خمسة عشر باباً وأكثر في التفريع وكان له به اهتمام لأنها كانت نازلتهم ومن أصوله المسألة التي قررناها في أن القراض لا يجوز بالعرض وقال أبو حنيفة يجوز القراض بالعرض بأن يقول بع هذا فإذا بعته فأنت فيه مقارض (¬5). قلنا هذا لا يجهز لأنه إن باع بأجرة فهو قراض وإجارة والقراض لا ينضاف إليه عقد ¬

_ (¬1) ليست في ج. (¬2) النقرة القطعة المذابة من الذهب والفضة. ترتيب القاموس 4/ 424. (¬3) قال ابن المنذر فمما اختلفوا فيه دفع التبر من الذهب والفضة قراضاً فأجاز ذلك أبو ثور وقال مالك والليث بن سعد وأصحاب الرأي لا يجوز. بقول مالك من معه نقول. الأشراف ص 97. (¬4) ذكر ابن المنذر أنه مذهب حماد بن أبي سليمان والأوزاعي وابن أبي ليلى. الأشراف ص 99. (¬5) قال ابن المنذر إذا دفع الرجل إلى الرجل متاعاً ليبيعه ثم يعمل بثمنه مضاربة فذلك جائز فى قول أحمد وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرأي. الأشراف ص 104.

آخر إجماعاً وإن باع بغير أجرة كان قد شرط عليه زيادة العمل ولا يجوز بإجماع أن يشترط رب المال زيادة على العامل في القراض وبالجملة فإن مبنى القراض على العرف (¬1) وأن لا تغير له هيئة على ما وضع في الأصل له ولا يكون له زيادة ومن ذلك أكل العامل منه بالمعروف وذلك على الاعتبار في السفر والحضر وهذه عادة رجع العلماء فيها على زعمهم إلى مذهب مالك في اعتبار العادة ويجوز له أن يشترط على العامل ما يعود بالمنفعة له في الربح وإنما (¬2) يرجو صيانة المال أو نماه كأن يقول له لا تشتر إلا سلعة كذا فإن قال له على أن لا تشتري إلا من فلان فإن كان فلان متسع المال عظيم التجارة كأبي سعيد الحداد وأبي ملك الفقيه فإنه يجوز عند علمائنا ويكون بمنزلة أن يعين له سلعة كثيرة الوجود نافعة في البيع والانتفاع وكذلك قال علماؤنا متى كان في المال خسارة ولو ذهب جميعه لم يكن على العامل شيء فإن كانت الخسارة بزيادة على رأس المال لزم العامل ولم يتعلق بربِ المال منها شيء. وأما التعدي في القراض فهو من مسائل الغصب وغير ذلك من مسائله كثيرة ومفسداته طويلة وهي مذكورة في كتب المسائل فلينظر هنالك فإن فسد القراض فاختلف العلماء فيه على خمسة أقوال: الأول أن فيه قراض المثل. الثاني إجرة المثل وبه قال عامة الققهاء. الثالث روي عن ابن القاسم أنه قال إن كان الفساد في العقد رد لقراض مثله وإن كان لزيادة رد إلى الأجرة وقال محمد بن المواز مسألة رد فيها إلى الأقل من قراض المثل أو مما سمي من الربح فإذا اضطردت صارت قولًا رابعاً. القول الخامس أن قراض المثل (أو أجرة المثل) (¬3) إنما هي باختلاف الحال حسب ما أشار إليه ابن القاسم في بعض المصنفات وقد حصرت المسائل التي فيها قراض المثل على رواية ابن القاسم فوجدتها تسع مسائل: الأولى القراض بالضمان، الثانية إلى أجل، الثالثة عروض، الرابعة دنانير ليصرفها، الخامسة دين يقبضه، السادسة مبهم، السابعة إن اختلفا بعد العمل فالقول قول العامل إذا أتى بما يشبه وإلا ردّ إلى قراض مثله وكذلك المساقاة وقال أشهب إن جاء بما يشبه ¬

_ (¬1) في ج الربح وفي م وبالجملة فإن مبنى القراض على الرفق ولا نغير له هيئة. (¬2) في ج وربما. (¬3) زيادة من م.

وإلا صدّق رب المال فيما يشبه فإن لم يأت به حمل على قراض مثله وعندي أنه قول واحد، والثامنة والتاسعة قال أصبغ إن قارض ألا يشتري إلا سلعة كذا غير موجودة فاشترى غيرها فقد تعدى فإن ربح فإن له ما ربح قراض مثله وهنالك عاشرة وهي إذا قارضه على أن يشتري عبر فلان ثم يشتري بعده ثانياً فهذا يدخل في قسم القراض بالمثل والصحيح خروجه عنه. والقراض على ثلاثة أقسام في هذا المعنى غير جائز ماض كالقراض بالنقار غير جائز بالمثل كما تقدم غير جائز بالإجارة وهو الأكثر وقد استوفينا ذلك محرراً في كتب المسائل وجه من قال إنه يرد إلى قراض مثله وإليه يميل الشافعي في قول أن كل عقد فاسد فإنه يرد إلى عوض مثله هذا هو الصحيح إلا أن يكون مع عقد القراض زياده تخرجه عن بابه إلى الإجارة فيكون له إجرة المثل وهو وجه القول الثاني وهذا يدلك على صحة القول الثالث في تفصيل ابن القاسم أن الفساد إذا كان من غير زيادة خرج عن بابه إلى الإجارة وبقي قراضاً لأن فاسده لا يخرج عن عوض صحيحه وبهذا يستدل على صحة القول الخامس أن ماكان من الزيادة لا يخرجه إلى عمل يقابله عوض أو من فساد يرجع إلى رب المال لا يتعلق بالعقد لا يدخل به في الأجرة إنه يكون فيه قراض مثله ووجه قول ابن المواز أن له الأقل لأنه إن كان قراض المثل أقل فهو الذي وجب له في الحكم والتسمية قد أسقطها الشرع وإن كان المسمى أقل فقد رضي به ولا يزاد عليه وهذا كثير في مسائل البيوع الفاسدة فاطلبوه (¬1) تجدوه فيها إن شاء الله. ¬

_ (¬1) زيادة من ج.

كتاب الأقضية

كتاب الأقضية حديث أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار) (¬1). مقدمة: القضاء بين الناس أصل الشريعة ومدار الأحكام وخلافة الله في الخلق، قال الله سبحانه: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (¬2) وقال سبحانه لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (¬3) وقال: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬4) وروى النسائي (¬5) وأبو داود والترمذي في حديث اتفقوا على معناه وإن اختلفوا في لفظه المعنى: (القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل عرف الحق قضى بغيره ورجل لا يدري بما يحكم فهذان في النار ورجل عرف الحق فقضي به فذلك في الجنة) (¬6). ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 719 والبخاري فى الشهادات باب من أقام البينة بعد اليمين 3/ 235 ومسلم (1713) في الأقضية باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة وأبو داود (3583) والترمذي 1339، والنسائي 8/ 233، وأحمد 6/ 290 و 307 و 308 و320، والبغوي في شرح السنة 10/ 110. (¬2) سورة ص الآية (26). (¬3) سورة المائده الأية (49). (¬4) سورة النساء الآية (105). (¬5) لم أجد هذا الحديث في سنن النسائي الصغرى ولعله في الكبرى ولم يعز له المنذرى في مختصر السنن 5/ 205، ولا النابلسي في ذخائر المواريث 1/ 113. (¬6) أما رواية أبي داود بلفظ (القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان فى النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار) مختصر السنن 5/ 205، جامع الأصول 10/ 166، ورواه الترمذي 3/ 613 وابن ماجه 2/ 776. والحاكم في مستدركه 4/ 90 وقال هذا حديث صحيح الأسناد ولم يخرجاه وله شاهد بإسناد صحيح على شرط =

وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: (بم تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلوا، قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسوله لما يرضي رسول الله) (¬1). وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا موسي ومعاذاً إلى اليمن فقال لهما في الصحيح: (يسرا ولا ¬

_ = مسلم وعقب عليه الذهبي بقوله: قلت: ابن بكير الغنوي منكر الحديث قال وله شاهد صحيح قلت طريق الحاكم فيه عبد الله بن بكير الغنوي الكوفي عن محمد بن سوقة كان من عتق الشيعة وقال الساجي من أهل الصدق وليس بقوي وذكر له ابن عدي مناكير. ميزان الاعتدال 2/ 399 وانظر الكامل 4/ 1563 قلت وشيخ عبد الله بن بكير هنا هو حكيم بن جبير الأسدي وقيل مولى ثقيف الكوفي ضعيف رمي بالتشبع من الخامسة. ت ص 176 ت ت 2/ 445، الكاشف 1/ 148 درجة الحديث صححه الحكم والشيخ ناصر فى إرواء الغليل 8/ 235، وفي المشكل 2/ 1103، وفي صحيح ابن ماجه 2/ 34 ولعل ذلك بالنظر إلى تعدد الطرق. (¬1) رواه أحمد في المسند 5/ 236 و242 وأبو داود في سننه انظر مختصر المنذري 5/ 212 والترمذي في سننه 3/ 616 وقال هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس اسناده عندي بمتصل وأبو عون الثقفي اسمه محمد بن عبيد الله ورواه البغوي في شرح السنة 10/ 116 من حديث الحارث بن عمرو عن ناس من أصحاب معاذ عن معاذ. والحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي وقال ابن عون مجهول من السادسة مات بعد المائة د ت التقريب ص 147. وقال الحافظ في ت ت الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة الثقفي روى عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ عن معاذ في الاجتهاد وعنه أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفى ولا يعرف إلا بهذا قال البخاري لا يصح ولا يعرف وقال الترمذى لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل ... وذكر العقيلي وابن الجارود وأبو العرب في الضعفاء وقال ابن عدي هو معروف بهذا الحديث وذكر ابن حبان في الثقات وذكر إمام الحرمين أن هذا الحديث مخرج في الصحيح ووهم في ذلك كما قال الحافظ في ت ت 2/ 151 وقال الذهبي تفرد به أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي عن الحارث بن عمرو الثقفي ابن أخي المغيره وما روى عن الحارث غير أبي عون فهو مجهول. الميزان 1/ 439، أما قوله عن ناس من أهل حمص فهم لا يعرفون. أقول هذا الحديث اختلفت فيه أنظار العلماء فمنهم من صححه بل ذهب إلى أكثر من ذلك فادعى أنه متفق عليه كإمام الحرمين وقد رد قوله الحافظ في التلخص 4/ 183 وكذلك في ت ت كما تقدم ومال الشيخ ابن العربي إلي ذلك هنا حث قال ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال في العارضة 6/ 72 اختلف الناس في هذا الحديث فمنهم من قال إنه لا يصح ومنهم من قال هو صحيح والدين القول بصحته فإنه حديث مشهور. وضعفه جماعة فقد قال ابن الجوزي رحمه الله لا يصح وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم ويعتمدرن عليه ولعمري إن كان معناه صحيحاً إنما ثبوته لا يعرف. العلل المتناهية 2/ 273 وقال ابن حزم لا يصح وكذا قال عبد الحق وابن طاهر. انظر التلخيص 4/ 183 والذي يترجح لي أنه حدث ضعيف لأن في سند مجهولاً وكون نقلته عن معاذ مجهولين أيضاً.

مرجع

تعسرا وبشرا ولاتنفرا وتطاوعا ولا تختلفا) (¬1). وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث العسيف: (واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها). وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد) (¬2). وفي رواية: (فإن أصاب فله عشرة أجور) (¬3) رويناه من طرق كثيرة والأول أكثر. مرجع: فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما أنا بشر) إعلموا نور الله أفئدتكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بشر مثلكم كما بلغ عن ¬

_ (¬1) متفق عليه. البخاري في المغازي باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع. البخاري مع الفتح 8/ 60 ومسلم في الجهاد والسير باب الأمر بالتيسير وترك التنفير (1733). (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في الاعتصام باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ 9/ 132 ومسلم في الأقضية باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (1719) من حديث أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر). (¬3) رواه الدارقطني من طريق فرج بن فضالة عن محمد بن عبد الأعلى بن عدي عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن العاص: (أقض بينهما، قال وأنت ههنا يا رسول الله، قال: نعم، قال: على ما أقضي، قال: إن اجتهدت فأصبت فلك عشرة أجور وإن اجتهدت فأخطأت فلك أجر واحد) سنن الدارقطني 4/ 203. وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 88 من نفس الطريق وقال صحيح الإسناد وعقب عليه الذهبي بقوله قلت فرج ضعفوه قلت قال فيه الحافظ فرج بن فضالة بن النعمان التنوخي الشامي ضعيف من الثامنة مات سنة سبع وسبعن ومائة. د ت ق/ ت ص 444 وانظر ت ت 8/ 260. ورواه الدارقطي في سننه 4/ 203 من رواية عقبة بن عامر ولكن فيها فرج بن فضالة أيضاً وأخرجه الدارقطني عن أبي هريرة من طريق أبي مطيع معاوية بن يحيى عن ابن لهيعة عن أبي المصعب المعافري عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وابن لهيعة وإن كان تابع فرج إلا أنه ضعيف هو الآخر ومن طريق أخرى لعمرو بن العاص أخرجه أحمد فى المسند 2/ 187 من طريق ابن لهيعة، ثنا الحارث بن يزيد عن سلمة بن أكسوم قال سمعت ابن حجيرة يسأل القاسم بن البرجي كيف سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يخبر قال سمعته يقول .... قلت وهذا أيضاً إسناد ضعيف لأن سلمة بن أكسوم نقل الحافظ عن الحسينى إنه مجهول تعجيل المنفعة ص 159 وابن لهيعة ضعيف فعليه تكون كل الطرق السابقة ضعيفة.

ربه بنفسه فقال: {إنما أنا بشر (¬1) مثلكم "يوحى إليّ"} (¬2) فأخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - على حكم البشرية التي جبل عليها فإن الله شرف بالوحي الذي جعله فيه واسطة بينه ويين خلقه وللبشر صفات منها كمال ومنها دناءات فأما صفات الكمال فهي له ولأصحابه الكرام على التمام والكمال وأما الدناءات فهم مبرؤون عن التلبس بها وقد اختلف الناس في عصمة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وييناه في كتب الأصول والذي عندي أنهم بعد النبوة معصومون لا يواقع أحد منهم خطيئة ولا يأتي دناءة لا صغيرة ولا كبيرة وقد دللنا عليه وبيّناه وانفصلنا عن الظواهر التي يتشبث بها الجاهلون وخذوا في ذلك أنموذجاً لا يقولن أحدكم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن سائر الرسل إلا ما قال الله لا يزيد من عنده ولا يفسر بما لا يحتمله اللفظ من آدم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وإذا قال عن أحد منهم شيئاً من ذلك فلا يقولها إلا قارئاً بالقرآن أو منبهاً لمن أشكل عليه حال من الأحوال فإما أن يضرب بذلك مثلاً أو يجعله لمن عصى عذراً فهو كفر يستتاب قائله فآدم إنما اجتهد في التأويل فلم يصب وجه الدليل وذلك جائز على الأنبياء في كل حال "من الأحوال (¬3) " (¬4) ونوح غضب على قومه فدعا عليهم (¬5) بالهلكة حين يئس منهم وما أحقهم بتلك الدعوة ولكن الذي يقتضيه منصب النبوة احتمال الأذى والصبر على الخلق ولم يكن ذلك إلا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - حين كسرت رباعيته وشج في وجهه فاحتمل ذلك وصبر عليه (¬6) اقتداء ¬

_ (¬1) سورة الكهف آية 110. (¬2) زيادة من ج. (¬3) زيادة من ج. (¬4) قال الإمام فخر الدين الرازي في قوله تعالى: {فنسي ولم نجد له عزماً} قال أما قوله (فنسي) ففيه إثبات أنه نسي وليس فيه أنه ما نسي سلمنا أنه لم يكن ناسياً ولكنه أخطأ في الاجتهاد وذلك لأن كلمة (هذه) في قوله {ولا تقربا هذه الشجرة} قد يراد بها الإشارة إلى النوع كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به) فآدم عليه السلام اشتبه الأمر عليه فظن أن المراد هو الشخص فعدل عنه إلى شخص آخر إلا أن المجتهد إذا أخطأ في الفروع لم يكن صاحب كبيرة. عصمة الأنبياء للرازي ص27 وانظر تفسير القرطبي 11/ 251. (¬5) وذلك في قوله تعالى: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} سورة نوح آية 26. (¬6) هذا حديث متفق عليه من حديث سهل بن سعد فقد أخرجه البخاري فى المغازي باب ما أصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجراح يوم أحد 5/ 130 فقد ذكر أبو حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن كان يسكب الماء وبما دُووي قال كانت فاطمة عليها السلام بنت رسول - صلى الله عليه وسلم - تغسله وعلي يسكب الماء بالمجن فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم وكسرت رباعيته يومئذ وجرح وجهه وكسرت البيضة على رأسه. البخارى 5/ 130، ومسلم في الجهاد والسير باب غزوة أحد (1790) 101.

بالنبي الذي أخبر عنه حين قال: (كأني به وقد ضرب فسال دمه فجعل يمسحه وقال اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) (¬1) فبهذا المقدار رأى نوح أنه قد قصر فيه بعدما سبق منه فهو يعده على نفسه لا نحن وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - قال: (إني كذبت ثلاث كذبات وكل كذبة منها تصلح أن تكون درجاً إلى الجنة). قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه ما حل (¬2) بها عن دين الله وهذا يدلك على جهالة المفسرين الذين قالوا في قوله {هذا ربي} (¬3) إنه غلط في الكوكب في قوله {هذا ربي} وظنه الله (¬4) وكذلك موسى قتل بالغضب في الله نفساً لم يؤمر بقتلها (¬5) فإنما كان الوهم في عدم انتظار الأمر خاصة وقتله بالنظر وأما يوسف - صلى الله عليه وسلم - فهمّ (¬6) بها فكان فعل قلب لا فعل جارحة فالباري يخبر أن يوسف فعل بقلبه والناس كلهم يقولون فعل بجوارحه والهم غير مؤاخذ به (¬7) وأما داود - صلى الله عليه وسلم - فقد داد (¬8) فيه دين الخلق وانبثت أقوالهم حتى ملأت الخلق (¬9) دفراً والله إنما أخبر عنه بكلمة واحدة وهي قوله {اكفلنيها} (¬10) فقال {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلي نعاجة} (¬11)، ¬

_ (¬1) رواه مسلم من طريق الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكى نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون مسلم (1792). (¬2) كذا في جميع النسخ حل. (¬3) سورة الأنعام آية 76. (¬4) ذكر الرازي عده أقوال وأجاب عنها ثم قال والأصح من هذه الأقوال أن ذلك على وجه الاعتبار والاستدلال لا على وجه الأخبار ولذلك فإن الله تعالى لم يذم إبراهيم عليه السلام على ذلك بل ذكره بالمدح والتعظيم وأنه أراه ذلك كي يكون من الموقنين، هذا هو البحث الشهور في الآية. عصمة الأنبياء ص 35، وانظر مختصر ابن كثير 1/ 592. (¬5) يقول تعالى: {قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون} القصص آية 33. (¬6) يقول تعالى: {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأي برهان ربه كذالك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} سورة يوسف آية 24. (¬7) قال ابن كثير اختلفت أقوال الناس وعباراتهم في هذا المقام فقيل المراد بهمه بها خطرات حديث النفس حكاه البغوي عن بعض أهل التحقيق ... وقيل هم بضربها وقيل تمناها زوجة وقيل هم بها لولا أن رأى برهان ربه فلم يهم بها. مختصر تفسير ابن كثير 2/ 246، وانظر عصمة الأنبياء للرازي ص 53. (¬8) كذا في جميع النسخ داد. (¬9) الدفر بالتحريك التتن- ترتيب القاموس 15/ 192. والمراد أن دنهم دخله الدود أي الخلل يقال داد الطعام أي صار فيه الدود كما في القاموس. (¬10) قال: {أكفلنيها وعزني في الخطاب} سورة ص آية 23. (¬11) سورة ص آية 24.

وليس في قول الرجل طلق أهلك لي معصية فإنه يعد من المروءة والصلة أن يقول الرجل لصاحبه هذه زوجتي أطلقها لك فخذها وتزوجها. وقد فعل ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعضهم لبعض (¬1). وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فتلك حضرة مكرمة ورفع المكروهات مطهر وشخص رضي عنه في كل حال وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في الأول والمآل وإذا أردتم الاشفاء على الإستيفاء فعليكم بكتاب المشكلين إذا ثبت هذا فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما أنا بشر) إشارة في هذا الموضع إلى أنه لا يعلم الغيب وهي مسألة أصولية فإن المشاهدة أبرزها الله إلى الخلق وجعلها مدركة لهم بالطرق التي شرع لهم إليها وأمسك الغيب لنفسه فهو عالم الغيب والشهادة وأخبر أنه لا يدريه إلا هو وقطع أطماع الخلق عنه فقال: {وما كان الله ليطلعكم علي الغيب} (¬2)، وألقى إلينا ما شاء منه للحكمة التي علم ومن فضله المتقدم فقال: {ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء} (¬3) معناه فيطلعهم على الغيب فيعلمونكم به وفي هذا إشارة إلى أنه لا يعلم شيء من علم الغيب إلا من قبل الرسل فلا يلحقهم في ذلك ريب ولا تغتروا بمنجم أو عراف ولا تستدلوا بأمارة في السماء من كوكب أو في الأرض من مذهب على ما يكون غداً بحال فإنه تيه في الضلال قد تبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - منه ولو جاز لأحد أن يدركه لكان أولانا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله: (إنما أنا بشر) يعني به بشر حاكم بينكم وإنكم تختصمون إليّ وفي هذا إشارة إلى الدليل على أن الخصام لا يكون إلا عند الحاكم فهو الذي يقضي وينفذ قضاؤه وإن حكَم رجلان رجلاً بينهما فإنه على اختلاف كثير بين العلماء جملته أنه يجوز عندنا وينفذ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة لا ينفد إلا إن وافق مذهب (¬4) قاضي البلد وهذا باطل (¬5) لأن علماءنا إنما قالوا إنه ينفذ لأن القاضي وكيل للخلق هم أقاموه للفصل بينهم وللقيام بمنافعهم فإن خففوا عنه من ثقلهم جاز ذلك لهم ولا يجوز صرف الكل عنه أو الأكثر لأن ذلك يكون عزلاً. وقد اتفقنا علي أن القاضي لو قدم قاضياً فحكم الثاني بغير مدهب الأول أنه نافذ فكذلك هذا وقوله (ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض) إشارة إلى أن أحد ¬

_ (¬1) ورد في صحيح البخاري من طريق حميد الطويل قال سمعت أنس بن مالك قال قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري وعند الأنصاري امرأتان فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك دلني على السوق ... البخاي في النكاح باب قول الرجل لأخيه انظر أي زوجتي شئت حتى أنزل لك عنها 7/ 4. (¬2) سورة آل عمران آية 179. (¬3) سورة آل عمران آية 179. (¬4) زيادة من م وج. (¬5) انطر اللباب في شرح الكتاب 4/ 89.

الخصمين وإن كان أفهم من الآخر فإنه ليس ينبغي للحكم أن يعضده بحجته ولا أن ينبهه، على منفعة وقد قال بعض علمائنا لا بأس للقاضي أن ينبه المغفل من الخصوم على حجته ولست أراه لما بيناه وقوله (فأقضي له على نحو ما أسمع) إشارة إلى الدليل على أن القاضي لا يكون إلا عالماً خلافاً لأبي حنيفة حيث قال يجوز أن يكون جاهلاً عاقلًا فيقلد غيره ويحكم بما يقول له (¬1) وهذا باطل فإن الذي يفتي هو الذي يقضي وهذه الواسطة الجاهلة عناء في القضاء وقد تعلقوا في ذلك بأن عبد الرحمن بن عوف دعا عثمان بن عفان إلى البيعة على تقليد أبي بكر وعمر (¬2) وعجباً لعلمائهم أن يتعلقوا بهذا المعنى الذي ليس في مسألتنا بورد ولا في صدر وأولى ما فيه الكذب فإن عبد الرحمن إنما بايع عثمان ليسير بسيرة الشيخين في اعتماد العدل والاحتياط على الخلق وإحكام الضبط لما انتشر من أمر الناس وكذلك فعل ما خالف ولا نقض كما بيناه في كتاب المشكلين. أما إنه ربما توهم متوهم أن في قول عبد الرحمن لعثمان أبايعك على سيرة الشيخين حملاً له على تقليدهما فيما سبق من أحكامهما بناء على تقليد العالم للعالم وقد بينا أن ذلك جائز في مسائل الأصول عند الحاجة إلى ذلك وضيق الوقت. فأما مع الإطلاق والاسترسال وفي كل نازلة تقع فإنه ممنوع إجماعاً. وقوله (فأقضي له على نحو ما أسمع) مما تعلق به أصحاب أبي حنيفة في الامتناع من القضاء على الغائب لأنه إذا لم يسمع كلامه لمن يقضي أو بم يقضي (¬3) وقد روى أبو داود وغيره عن علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي حين أرسله إلى اليمن: (لا تقضِ على أحد الخصمين حتى تسمع من الآخر فإنك يعني إن فعلت لا تدري بم ........................ ¬

_ (¬1) وذلك فيما إذا لم يوجد المجتهد أما إن وجد فهو الأولى وتجويزهم كون القاضي مقلد التعذر وجود المجتهد في كل زمن وفي كل بلد، انظر الهداية 3/ 74، ورد المحتار 4/ 318، وشرح السنة 10/ 122. (¬2) قصة استخلاف عثمان واردة في الصحيح فقد روى البخاري بسنده إلى المسور بن مخرمة أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا فقال لهم عبد الرحمن لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحد من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان .... البخاري في كتاب الأحكام باب كيف يبايع الإمام الناس. البخاري مع الفتح 13/ 193. (¬3) قال في الكتاب ولا يقضي القاضي على غائب إلا أن يحضر من يقوم مقامه. انظر اللباب في شرح الكتاب 4/ 88 وقال الحافظ قال ابن أبي ليلى وأبو حنيفة لا يقضي على غائب مطلقاً. فتح الباري 13/ 171.

نكتة

.............................. قضيت) (¬1) وساعده على ذلك عبد الملك بن الماجشون من أصحابنا والشافعي والمسألة عظيمة الموقع كثيرة الاختلاف في المذهب وعند العلماء في تفصيل ما بين المجلس وغيره وقيل القضاء بعد القضاء وفي حقوق الناس وفي حقوق الله وفي الدماء (¬2) وفي الأموال أحول كثيرة وذلك مستوفى في المسائل. نكتة: إن القاضي لا يقضي بعلمه بحال ولو جاز ذلك لأحد لكان أولي الناس به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قد ترك ذلك وتورع عنه فروي أنه قال حين أشير إليه بقتل من استوجب القتل ممن ظهر نفاقه وتبين شقاؤه: (أخاف أن يتحدث الناس أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - يقتل أصحابه) فعلل بالتهمة التي تعم جميع ما قدمنا من التفصيل وروى أبو داود النبي - صلى الله عليه وسلم - (أرسل أبا جهم مصدقاً فلوحج (¬3) في الصدقة بشجة فارتفعوا إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وقالوا القود يا رسول الله فقال أو تأخذوا كذا فأبوا ثم قال أوكذا فأبوا ثم قال أوكذا فرفضوا قال فأخطب الناس وأعلمهم برضاكم قالوا نعم فخطب وأعلم فقالوا ما رضينا فأرادهم المهاجرون والأنصار فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ونزل فجلسوا إليه (¬4) فأرضاهم فقال أخطب فأعلم قالوا نعم فخطب فأعلم فقالوا: رضينا). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود انظر مختصر السنن 5/ 208 , والترمذي (1331) وقال: هذا حديث حسن وأحمد في المسند (690) و (882). والحديث صححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند مع أن في سنده حنش بن المعتمر صدوق له أوهام ويرسل من الثالثة ت ص 183 وحسنه الحافظ في الفتح 13/ 171. قال. البغوي ويحتج بهذا من لا يرى القضاء على الغائب وهو قول شريح وعمر بن عبد العزيز وإليه ذهب أصحاب الرأي. شرح السنة 10/ 96. (¬2) انظر الأقوال الواردة فى المسألة في فتح الباري 13/ 161. (¬3) كذا في جميع النسخ لوحج وفي نص الحديث فلاحه رجل (¬4) هذا الحديث من رواية الزهري عن عروة عن عائشة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقاً فلاحه رجل في صدقته فضربه أبو جهم فشجه فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا القود يا رسول الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لكم كذا وكذا فلم يرضوا، قال: فلكم كذا وكذا فلم يرضوا، فقال: فلكم كذا وكذا فرضوا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم، قالوا: نعم، فخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود فعرضت عيهم كذا وكذا فرضوا أرضيتم قالوا: لا، فهم المهاجرون بهم فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكفوا فكفوا ... " لفظ أحمد في المسند 6/ 232، وأبو داود (4534)، والنسائي 2/ 245 وصحح إسناده الشيخ ناصر في إرواء الغليل 3/ 366.

وهذا نص. وثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قصة هلال وشريك (إن جاءت به كذا فهو لهلال يعني الزوج وإن جاءت به كذا فهو لشريك بن السمحاء "يعني المقذوف" (¬1) فجاءت به على النعت المكروه فقال لو كنت راجماً أحداً بغير بينة لرجمتها) (¬2). وقد وهم بعض الناس في إحدى هاتين المسألتين وهي مسألة القضاء على الغائب منهم البخاري (¬3) فقالوا الدليل على الغائب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى لهند على أبي سفيان فقال: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) (¬4)، وقد بينا في مسائل الخلاف أن هذا وهم عظيم وأنه لا متعلق لهم في هذا الحديث وحققنا أنها كانت فتوى وأن أبا سفيان كان حاضراً ولا خلاف بين الأمة أنه لا يقضى على غائب في البلد معلوم الموضع وقوله (فلا يأخذه) إشارة إلى الدليل على أن حكم الحاكم لا يحلل محرماً ولا يحرم محللًا ولا يغير شيئاً من طريق الشرع بما يظهر من حجة أحد الخصمين على الآخر فمن هذا حذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا أنبهكم وقد اتفق الناس على ذلك إلا أبا حنيفة فإنه سقط على أم رأسه فقال إن الرجل إذا جاء إلى الحاكم بشاهدي زور في الباطن فشهدوا أن فلانة زوج فلان وليست منه فقبل شهادتهما وحكم له بزوجيتها أنه يحل له ذلك ظاهراً وباطناً (¬5) ويطأها بكتاب الله ومعاذ الله أن يكون باطل فينزه الأموال عن أن ينفذ فيها وينفذ في الفروج التي هي أعظم حرمة وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف وأقوى متعلق لهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح المرأة في اللعان للزوج الثاني ¬

_ (¬1) زيادة من ج. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في الطلاق باب من أجاز طلاق الثلاث 7/ 54 ومسلم في أول اللعان (1492) والموطأ 2/ 566، وشرح السنة 9/ 250 من حديث سهل بن سعد الساعدي. (¬3) ترجم البخاري على ذلك في كتاب الأحكام فقال باب القضاء على الغائب 9/ 89، قال الحافظ والذي يظهر لي أن البخاري لم يرد أن قصة هند كانت قضاء على أبي سفيان وهو غائب بل استدل بها على صحة القضاء على الغائب ولو لم يكن ذلك قضاء على غائب بشرطه بل لما كان أبو سفيان غير حاضر معها في المجلس وأذن لها أن تأخذ من ماله بغير إذنه قدركفايتهاكان في ذلك نوع قضاء على الغائب فيحتاج من منعه أن يجيب عن هذا. فتح الباري في 9/ 511. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في المظالم باب قصاص المظلوم 3/ 172 ومسلم في كتاب الأقضية (1714) والبغوي في شرح السنة 8/ 204 من حديث عائشة. (¬5) قال أبو حنيفة يقتصر الحاكم على ظاهر عدالة المسلم إلا في الحدود والقصاص فإنه يسأل عن الشهود وإن طعن الخصم فيهم. اللباب في شرح الكتاب 4/ 57 وانظر مجمع الأنهر 2/ 189 شرح فتح القدير لابن الهمام 6/ 12 - 63.

لاحقة

مع أن اللعان زور وكذب واللعان أصل مستوفى وحجة ضرورة كما بينا وقد أجبنا عن هذا الحديث في التلخيص وغيره وأقوى ما فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب) فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قضاءه انبنى على كذب أحدهما للضرورة وقد اتفقنا على أن القاضي لو علم الكذب في هذه المسألة لما جاز له أن يقضي فإن أخطأ القاضي وهي مسألة عظيمة فإن ذلك لا يلزمه ضماناً ولا يوجب عليه ملاماً والأصل في ذلك أن خالد بن الوليد لما أخطأ في بني جذيمة (¬1) لم يعلق به النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً اللهم إلا أنه قال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) (¬2) ووداهم وأموالهم والمعنى يعضده فإن القاضي لو نظر بشرط سلامة العاقبة وهو ألا يعول على النص إنما بني حكمه على الاجتهاد لكان ذلك باطلاً من وجهين أحدهما إنه كان يكون تكليف ما لا يطلق الثاني إنه كان يكون تنفيراً للخلق عن الولاة فتتعطل الأحكام. لاحقة قد اندرج في أثناء الكلام أن العامي لا يكون حاكماً ومن شرطه كما قال عمر بن عبد العزيز وغيره أن يكون ذكراً مسلماً عالماً ذا مروءةٍ (¬3) عاقلاً وقد قال أبو حنيفة إن المرأة تقضي فيما تشهد فيه لأنه من جاز أن يكون شاهداً في شيء جاز أن يكون قاضياً فيه (¬4) ¬

_ (¬1) بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بفتح الجيم وكسر المعجمة ثم تحتانية ساكنة أي ابن عامر بن عبد مناة بن كنانة. فتح الباري 8/ 57. (¬2) روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "بعث خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره فأمر كل رجل منا أن يقتل أسيره فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابى أسيره فذكرنا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (اللهم اني أبرأ إليك مما فعل خالد مرتين) ". البخاري فى كتاب الأحكام باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد 9/ 91 وأخرجه النسائي في سننه 8/ 236. (¬3) قال عبد الرزاق أخبرنا ابن عيينه عن عمرو بن عامر قال: قال عمر بن عبد العزيز: لا ينبغي أن يكون قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال إن أخطأته خصلة كانت فيه وصمة حتى يكون عالماً بما كان قبله مستشيراً لذوي الرأي ذا نهية (أي عقل) عن الطمع حليماً عن الخصم محتملاً للأئمة. المصنف 8/ 298 والاثر في عمرو بن عامر البجلي الكوفى مقيول من السادسة ت ص 423 وانظر ت ت 8/ 60 وعليه يكون ضعيفاً. (¬4) قال في اللباب ويجوز قضاء المرأة فى كل شيء إلا في الحدود والقصاص اعتباراً بشهادتها. اللباب في شرح الكتاب 4/ 84 وانظر مجمع الأنهر 2/ 168، والإفصاح لابن هبيرة 2/ 346.

كالذكر وهذا ينتقض عليه بالكافر فإنه يجوز أن يكون عنده شاهداً ولا يجوز أن يكون قاضياً وقد توهم بعض الناس أن المرأة تكون قاضية ونسبوا ذلك إلى الطبري وقد ذكر ذلك القاضي عبد الوهاب في كتاب المعونة (¬1) وسرد المناظرة التي جرت فيها في مجلس البويهي بين فقيه الشافعية أبي الفرج بن طرازاً (¬2) وبين القاضي أبي بكر ابن الطيب (¬3) وذكر احتجاج ابن الطرازا عليه بإجماع الأمة أنها لا تكون خليفة فكذلك القضاء وإنما أشار الطبري إلى مذهب أبي حنيفة ومذهب أبي حنيفة إنما هو إذا حكمت فأما أن يقدمها الإمام لتكون منصوبة للناس فما كان ذلك قط مذهباً لأحد وقد اتفقت الأمة على أنها لا تؤذن لأن صوتها عورة فإن لم بجز سماع صوتها وهي في المأذنة لا ترى فأولي وأحرى ألا تجوز مجالستها ومحادثتها ابتداء من قبل نفسها فكيف أن يلجئها الإمام لذلك ولو تفطن لهذا عصبة الجاهلين لما كانوا عن الحق ناكبين وقوله: (فأقضي له على نحو ما أسمع) دليل على أن التفاهم قد حصل بين الحاكم والخصمين فإن تعذر ذلك من القاضي بصمم أو من الخصم ببكم أو بلغة لا يفقهها القاضي فالذي سمعته أن الرجل إذا كان أصم أو أعمى أن الناس اختلفوا في توليته للقضاء والذي عندي أن أحداً منهم لا يجوز أن يكون قاضياً وأقول إن ذلك إجماع وذلك على الإطلاق إلا في الأوقات اليسيرة والقصص المخصوصة فإن القضاء مبني على الفصل فكل ما أمكن من تحصيل الفصل والاختصار لا يلتفت معه إلى التطويل ولهذا قال العلماء بأجمعهم إنه لا يجوز قبول شهادة الفرع مع القدرة على شهود الأصل لما في ذلك من زيادة النظر على القاضي في العدالة ولما في ذلك من زيادة الأعذار على المطلوب فإذا روعي هذا القدر في رسم القضاء فالذي يفوت بالصمم والعمى أعظم من ذلك وقد درج الإِسلام على أنه ما وليهم من القضاة أعمى ولا أصم أما إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف على المدينة ابن أم مكتوم في غزوات فقال علماؤنا إنما ذلك لأنه لم يكن في ذلك الزمان خصومات وإنما يقع في النادر أمر ¬

_ (¬1) في ج المعرفة. (¬2) المعافى بن زكريا بن يحيى أبو الفرج النهروانى القاضي المعروف بابن طرازا كان يذهب إلي مذهب ابن جرير الطبري وكان من أعلم الناس في وقته بالفقه وأصناف الأدب مات سنة تسعين وثلاثمائة. تاريخ بغداد 13/ 230, طبقات الفقهاء للشيرازي ص 93، وفيات الأعيان 4/ 191. (¬3) هو القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري كان إماماً ورعاً حسن الخلق توفي رحمه الله سنة خمسين وأربعمائه ببغداد. طبقات الشافعية لابن هداية الله ص 150، طبقات الشافعية الكبرى 5/ 12، تاريخ بغداد 9/ 358، تهذيب الأسماء واللغات 2/ 247، طبقات الفقهاء ص 106، شذرات الذهب 3/ 284، العبر 3/ 222، النجم الزاهرة 5/ 63.

يحتاج إلى التسيير وكان ابن أم مكتوم به مستقلاً أولا تري أنه ربما كان يخاف على المدينة عورة ولم يكن ابن أم مكتوم مستقلاً بحماية الحوزة وخليفة الإمام لا بد أن يكون فيه من الاستقلال بحماية الحوزة ولم الشعث عند الاختلاف العام وقد كان ذلك متعذراً في ابن أم مكتوم فدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يثق من ربه بعصمة المدينة على أن يخالف إليها بعده من يريدها بسوء وكان يعلم من أهلها قلة الاختلاف فلأجل ذلك كان استخلافه له وأما إن كان التعذر في السماع من بكم فلم يفهم الحاكم إشارته أو كان من لغة لم يعرف المتكلم بها ولم يكن بد من معبر له فاختلف علماؤنا فمنهم من قال يجزي معبر واحد وبه قال أبو حنيفة ومنهم من قال لا يجزي أقل من اثنين وبه قال الشافعي فإن جعلنا التعبير خبرا فواحد يكفي فيه وإن جعلناه شهادة لم يكلن بد من اثنين والصحيح أنه خبر يجزى فيه واحد إلا أن يشك الحاكم فيزيد حتى يحصل له اليقين (¬1). قوله (فأقضي له على نحو ما أسمع) دليل على أن الخصوم هم الذين يأتون إليه ولا يمشي القاضي إليهم بإجماع إلا أن تكون نازلة عامة على نفر يخاف منها الاستشراء فيمشي إليهم ويفصل أمرهم كما مشى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم ولم يرسل إليهم ليكون ذلك عنده وهو حديث صحيح لا ¬

_ (¬1) هذه المسألة ذكر فيها البخاري قصة زيد بن ثابت معلقة في كتاب الأحكام 9/ 94 وعقد لها ترجمة هي باب ترجمة الحكام وهل يجوز ترجمان واحد وقال خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن "يتعلم كتاب اليهود حتى كتبت للنبى - صلى الله عليه وسلم - كتبه وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه". قال الحافظ وهذا التعليق من الأحاديث التي لم يخرجها البخاري إلا معلقة وقد وصله مطولاً في كتاب التاريخ عن إسماعيل بن أبى أويس حدثنى عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن زيد أتى بي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدمه من المدينة وأعجب بي فقيل هذا غلام من بني النجار قد قرأ فيما أنزل الله عليك بضع عشر سورة فاستقرأنى فقرأت {ق} فقال "تعلم كتاب يهود فإني ما آمن يهود على كتابى فتعلمته في نصف شهر حتى كتبت له إلى يهود وأقرأ له إذا كتبوا إليه" وأخرجه أبو داود (3645) والترمذي (2716) وقال حسن صحيح. قال الحافظ: يشير (أي البخاري) إلى الاختلاف في ذلك فالاكتفاء بالواحد قول الحنفية ورواية عن أحمد واختارها البخاري وابن المنذر وطائفة وقال الشافعي وهي الرواية الراجحة عند الحنابلة إذا لم يعرف الحاكم لسان الخصم لم يقبل فيه إلا عدلين لأنه نقل ما خفي على الحاكم إليه فيما يتعلق بالحكومة فيشترط فيه العدل كالشهادة ولأنه أخبر الحاكم بما لم يفهمه فكان كنقل الإقرار إليه في غير مجلسه ... ثم نقل عن ابن بطال قوله أجاز الأكثر ترجمة واحد وقال محمد بن الحسن لا بد من رجلين أو رجل وامرأتين وقال الشافعي هو كالبينة وعن مالك روايتان. فتح الباري 13/ 187 - 188.

تفسير

غبار عليه (¬1) فصار هذا أصلاً في الباب، فإذا كمل قضاء القاضي فليكتب بذلك كتاباً إن احتاج إليه لحق الله أو إن سأله ذلك الخصم والأصل في ذلك حبيث حويصة ومحيّصة المشهور (¬2) إلى آخرة قال الراوي فكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك إلى خيبر فصار ذلك أصلاً في الباب ولأن الضرورة تدعو إليه كما دعت الحاجة إليه في الشريعة مما فيه منفعة ولم يعارضه محظور فإن صح فإنه جائز أو واجب بحسب حاله وهذا أصل بديع فعوه وركبوا عليه قال علماؤنا وأكثر ما يكتب القاضي في قضائه الذي ينفذه ويبني العمل إليه أربع نسخ وذلك في مسألة واحدة وهي مشهورة عند العلماء فلينظر هنالك ولينقل. تفسير قال مالك: الترغيب في القضاء بالحق (¬3) ثم أدخل حديث أم سلمة المتقدم وكل ترجمة فهي مبتدأة وخبرها فيما يأتي بعدها وقول مالك هنالك الترغيب هو مصدر لا بد له من فاعل ومفعول لكونه من الأفعال المتعدية والفاعل والمفعول ههنا مضمران فيكون تقديره الترغيب للقضاة والمفعول كذلك أيضاً تقديره للناس فإن كان للقضاء ما جاء بعد ذلك من التعبير مظروف فهو متعلق بقوله (فاقضي له على نحو ما أسمع) وإن كان للناس فهو متعلق بقوله (فمن قضيت له بشيء من حق أخيه) إلى آخره ويحتاج إلى أن يعود إليهما معاً لأنه لا ¬

_ (¬1) روى مالك في الموطأ من حديث سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم وحانت الصلا فجاء المؤذن إلى أبي بكر الصديق فقال أتصلي للناس فأقيم قال: نعم، فصلى أبو بكر فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس في الصلاة فتخلص حتي وقف في الصف فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت في صلاته فلما أكثر الناس من التصفيق التفت أبو بكر فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشار إليه ان امكث مكانك فرفع أبو بكر يديه فحمد الله علي ما أمره به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ... " الموطأ 1/ 163, والبخاري في كتاب الأذان باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول 1/ 174, ومسلم في كتاب الصلاة باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام 1/ 316. (¬2) رواه مالك عن ابن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره رجال من كبراء قومه "أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأتي محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح فى فقير بئر أو عين فأتي يهود فقال: أنتم والله قتلتموه فقالوا والله ما قتلناه ... فكتب إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكتبوا إنا والله ما قتلناه" لفظ الموطأ 2/ 877، وأخرجه البخاري في الأحكام باب كتاب الحاكم إلى عماله 9/ 93، ومسلم في كتاب القسامة باب القسامة حديث (6). (¬3) الموطأ 2/ 719.

باب الشهادات

تناقض في اجتماعهما والأظهر أنه يعود إلى القضاة بدليل ما أدخل بعده من حديث عمر في اقتران الملكين بالقاضي (¬1) وتسديده يفسر بذلك إجراء ما احتمله اللفظ أولاً (¬2). باب الشهادات اعلموا وفقكم الله أن الشهادة ولاية من ولايات الدين فإنه تنفيذ قول الغير والأصل أن لا ينفذ قول أحد على أحد ولكن الله لما خلق الخلق للخلطة والمعاش والمعاملة وكتب عليهم ما علمته الملائكة فيهم من الفساد وسفك الدماء وجحد الحقوق والتوائها لذلك شرع الشهادة ونفذ بها قول الغير على وجه المصلحة للحاجة الداعية إلى ذلك إحياء للحقوق الدارسة وقد روى جماعة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لما خلق الله آدم ومسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فعرضهم عليه فرأى منهم رجلاً حسن الوجه قصير العمر قال: من هذا يا رب قال ابنك داود عليه السلام (¬3) قال له: يا رب ما أحسن وجهه وأكثر عبادته لولا قصر عمره ستين عاماً، قال له: زده أنت من عمرك فقال له آدم: يا رب عمري ألف أعط له منها أربعين تكمل له بها مائة قال. له: قد فعلت فلما كملت مدة آدم وجاء ملك الموت ليقبض روحه قال له قد بقيت لي أربعون عاماً قال له ألم تهبها لداود قال لا قال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته) (¬4)، وروي أنه قال ومن ذلك اليوم أمر بالكتاب والشهود (¬5) ............... ¬

_ (¬1) مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب اختصم إليه مسلم ويهودي فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له فقال اليهودي: "والله لقد قضيت بالحق فضربه عمر بن الخطاب بالدرة ثم قال: وما يدريك، فقال له اليهودي: إنا نجد أنه ليس قاض يقضي بالحق إلا كان عن يمينه ملك وعن شماله ملك يسددانه ويوفقانه للحق ما دام مع الحق فإذا ترك عَرَجا وتركاه"، الموطأ 2/ 719، ولم أجد من أخرجه غير مالك وسماع سعيد بن المسيب من عمر بن الخطاب فيه خلاف والأكثر أنه لم يسمع منه قال الحافظ في ت ت 4/ 87 وقد وقع لي حديث صحيح لا مطعن فيه تصريح لسماعه من عمر. (¬2) في ت بعد هذا والله الموفق للصواب وعليه التوكل. (¬3) في ت فقال. (¬4) رواه الترمذي (3076) وقال حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه الحاكم في المستدرك 2/ 325 وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (¬5) رواه الترمذي من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة وفيه أن آدم قال: "أي رب فأني قد جعلت له من عمري ستين سنة قال أنت وذاك قال ثم أسكن الجنة ما شاء ثم أهبط منها فكان آدم يعد لنفسه فأتاه ملك الموت فقال له آدم: قد عجلت قد كتب لي ألف سنة قال: بلى ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة فجحد =

.... وروت جماعة في الحديث فكمل الله لآدم الألف ولداود الأربعين (¬1) ولكونها ولاية من الولايات وكثرة فساد الناس فيها وتتابعهم بالمسامحة بالزور في أدائها ما صارت في بغداد والشام ولاية من قبل الإمام والقاضي وصارت الفتوى مرسلة فلا يشهد ببغداد والشام إلا من ولاه القاضي ويفتي كل من علم من غير إذن فهذه من المصلحة لأن المفتي إن زاغ فضحه العلم والشاهد لا يعلم زيفه إلا الله وقلب أهل بلادنا في ذلك القوس (¬2) ركوة وسيرة بغداد أصلح وأحسن ولأجل ذلك كان الشاهد من جمع خصالاً خمسة: البلوغ، الذكورية، الإِسلام، العدالة، المروءة، واختلف في السادس وهو الحرية فأما البلوغ فأجمعت الأمة عليه لأن الصغير قليل الضبط ناقص العقل يقبل الخديعة فلذلك لم تجز شهادته ولم يقل بجواز شهادته أحد فيما علمته إلا عبد الله بن الزبير فإنه جوز شهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح (¬3) وتابعه علماؤنا واختلف قول مالك في القتل وذكر في الموطأ من شروط قبول شهادتهم واحداً وهو الا يخببوا بعد تفرقتهم أو يُعلموا (¬4) وذكر المحررون من علمائنا أن شروط قبول شهادة، الصبيان تسعة العقل، الإِسلام، الذكورية، الحرية بينهم في الجراح واختلف قوله في العقل قبل التفرق (¬5) اثنان فصاعداً. فأما اشتراط العقل فلأنه أصل التحصيل وأما اشتراط الإِسلام فلأن الكافر لا شهادة له لأن الله تعالى وصفه بالكذب ولأنها ولاية شرطها الكرامة والكافر حقه الإهانة وقال أبو حنيفة ¬

_ = فجحدت ذريته ونسي فنسيت ذريته قال: فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود" قال الترمذي هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، سنن الترمذي 5/ 453. والحديث فيه سعيد بن أبي سعيد المقبري أبو سعد المدني ثقة من الثالثة تغير قبل موته بأربع سنين ع ت ص 236 ولعل وجود سعيد في هذه الرواية هو الذي حمل الترمذي على أن يقول حسن غريب وقد صحح الرواية السابقة عن أبي هروة والتي ليس فيها سعيد. (¬1) أما قوله فكمل الله لآدم الألف ولداود الأربعين فقد ذكره الشيخ هنا وفي العارضة 11/ 199، ولم أجده عند غيره. (¬2) هدا مثل يضرب في الأدبار وانقلاب الأمور. ترتيب القاموس 2/ 385. (¬3) قال مالك عن هشام بن عروه أن عبد الله بن الزبير كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح. الموطأ 2/ 726. قال أبو عمر اختلف عن ابن الزبير في ذلك والأصح أنه كان يجيزها إذا جيء بهم حالة نزول النازلة وروى مثله عن علي من طرق ضعيفة. شرح الزرقاني 3/ 396. (¬4) قال مالك وإنما تجوز شهادتهم إذا كان ذلك قبل أن يتفرقوا أو يخببوا أو يعلموا. الموطأ 2/ 726. (¬5) قال الباجي اختلف قول أصحابنا في جوازها في القتل فروى ابن القاسم عن مالك في كتاب سحنون أنها تجوز بينهم في القتل ومنع من ذلك أشهب. المتنقي 5/ 229.

تجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض (¬1) إذا كانوا عدولاً في دينهم وقد بينا فساده فيما تقدم وفي مسائل الخلاف. وقال أحمد تجوز شهادة الكفار على المسلمين في الوصية في السفر لقوله تعالى {أو آخران من غيركم} (¬2) يريد من غير أهل ملتكم قلنا إنما أراد من غير قبيلتكم (¬3). فإن قيل هذا لا يصح فإن الآية إنما نزلت في شأن تميم الداري وعدي بن بداء حين أخذوا (¬4) آجام (¬5) فضة. روى الترمذي وغيره عن تميم الداري في تفسير قوله {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} قال بريء من هذه الآية كل الناس غيري وغير عدي بن بداء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فقدما الشام بتجارتهما وقدم عليهما مولي لبنى هاشم يقال له بديل بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك وهو عظيم تجارته فمرض وأوصى إليهما أن يبلغا ما ترك أهله قال تميم فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم فاقتسمتها أنا وعدي بن بداء فلما قدمنا أهله أو على أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا فقلنا ما ترك غير هذا وما دفع إلينا شيئاً قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله وأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألهم البينة فلم يجدوها فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به أهل دينه فحلف فأنزل الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم} الآية. قلنا هذا حديث ضعيف فلا يلتفت إليه وقد أوعزنا اليكم أمراً أن أضر شيء بالمتعلم والعالم الاشتغال بالحديث الضعيف وهذا حديث ليس له أصل في الصحة (¬6) فلا يجوز أن يضاف ¬

_ (¬1) انظر اللباب في شرح الكتاب 4/ 63، مجمع الأنهر 2/ 201. (¬2) سورة المائدة آيه (106). (¬3) قال ابن قدامة اختلفوا في تأويل الآية فمنهم من حملها على التحمل دون الأداء ومنهم من قال المراد بقوله من غيركم أي من غير عشيرتكم ومنهم من قال الشهادة في الآية اليمين. المغني 9/ 182. (¬4) كذا في جميع انسخ ولعله أخذا. (¬5) الجام إناء من فضة. مختصر القاموس ص 122. (¬6) هذا حدث ضعيف فقد رواه الترمذي من طريق محمد بن إسحاق عن أبي النضر عن باذان مولى أم هانىء عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} وقال هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح وأبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث هو عندي محمد بن السائب الكلبي يكنى أبا النضر وقد تركه أهل الحديث وهو صاحب التفسير سمعت محمد بن إسماعيل يقول محمد بن السائب الكلبي يكنى أبا النضر ولا نعرف لسالم أبي النضر المدني رواية عن أبي صالح مولي أم هانىء. سنن الترمذي 5/ 259.

إلى القرآن الذي هو صحيح ما ليس بصحيح وإنما يبين القرآن ويضاف إليه الحديث الصحيح فيه وقع الوعد الكريم في قوله {لتبين للناس مانزل إليهم} (¬1) وأما الذكورية فلأن شهادة الأنثى ليست بأصل في الشهادة وإنما هي بدل أوكما قال أهل خراسان شهادة ضرورة ولذلك جاءت في القرآن بصفة الضرورة وعلى نعت البدلية قال الله: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} (¬2) كما قال تعالى؛ {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} (¬3) وقال: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} (¬4) وإنما جازت في الأموال رفقاً من الله تعالى لكثرة الترداد فيها فقد يحضرها الرجال وقد يغيبون عنها فلو وقف ربط الشهادة على الذكور مع ذلك لضاعت الحقوق فرخص في شهادة النساء وبقيت على أصل الرد في غيرها من الحقوق وقد حصل الإجماع على أنها لا تجوز في الدماء وأما الحرية فإنها شرط عند عامة العلماء وقال أحمد بن حنبل تجوز شهادة العبد لأنه عدل والدليل على ثبوت عدالته قبول روايته وعسر الإنفصال على سائر العلماء عن دليل أحمد هذا وسلكوا فيه طرقاً بيناها في مسائل الخلاف يغنيكم الآن عنها إنفصالان: الأول: أن العبد مستغرق الأوقات في حق السيد فلا يجد سبيلاً إلى الشهادة. والثاني: أن اعتبار الشهادة بالخبر فاسد وضعها في الشريعة مختلف ألا ترى أن شهادة المرأة لا تجوز في القصاص ويجوز قبول روايتها ويجوز قبول رواية الفرع مع وجود الأصل ولا يجوز قبول شهادة الفرع مع وجود الأصل وهذا أبين عند التأمل وفيه إنصاف بيننا ويينه وأما قبولها في الجراح خاصة فلأنه الذي يقع بينهم في الغالب ولا يحضره غيرهم فدارت الحال بين إحدى أمرين اما أن يضيع هذا الحق وذلك لا يجوز أو تقبل فيه شهادة الصبيان وذلك أحسن ولقوله مع صغره مدخل عظيم في التحليل والتحريم وهو إباحة الدخول إلى المنزل وهتك الستر الذي كان محترماً قبل قوله ولكنه جاز ذلك للحاجة إليه ولأنه لا غناء عنه وكذلك في مسألتنا وركب عليه علماؤنا شهادة النساء في المواضع التي لا يكون فيها غيرهن كالأعراس والمآتم والحمامات وأما قولنا بينهم فلأنها شهادة ضرورة فتقدر بقدر الضرورة وأما شرط الأثنينية فلأنها أصل للشهادة حيث وضعت ولا يجوز شهادة واحد عند ¬

_ (¬1) سورة النحل آية (44). (¬2) سورة البقرة آية (282). (¬3) سورة النساء آية (43) وسورة المائدة آية (6). (¬4) سورة البقرة آية (196).

أحد من العلماء ولا يثبت بها حق من الحقوق إجماعاً إلا في مسألة واحدة اختلف فيها علماء الإِسلام وهي شهادة القابلة وحدها على الولادة ومن روايات مالك إنها تجوز والأصل في ذلك الضرورة الداعية إلى ذلك لأنه لا يحضر المرأة غيرها فلو لم تقبل شهادتها لضاعت الولادة وبطل ما يتركب عليها من النسب والحرمة والميراث وسائر الحقوق (¬1) وأما قبل التفرق فلعله أشار إليها مالك في الموطأ وهي التخبيب (¬2) والتقويل (¬3) فإن حال الصبوة عرضة للخدعة فإنما يؤخذون بحالهم عند الاجتماع والأمر في طراية قبل أن يُصور له صورة أو تتطرق إليه خدعة وذلك كله ما اتفقوا ولم يختلفوا وهو الشرط التاسع فإذا اختلفوا سقطت شهادتهم. وأما شرط العدالة في التقسيم الأصلي فإن علماءنا مدوا أطناب القول فيها فكثروا بالقول وشعبوا الأحوال والضابط لها نكتة يسعد من يعيها وذلك أن الله نور العبد بالعقل وهو نور الطاعة وأظلمه بالشهوة وهي خبالة المعصية فصار العبد مترددا بينهما والملك يعضد جانب العقل والشيطان يغوي في جانب الشهوة والتوفيق والخذلان على قمة الرأس محلقان، والقضاء والقدر فوق ذلك كله فإن سبق القضاء بالتوفيق انتصر حزب الله، وإن سبق القضاء بالخذلان فقد حكم الله ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة) (¬4) الحديث إلى آخره فلم تكن العصمة إلا للأنبياء خاصة كما سبق وسائر الخلق إن آمنوا وطهر الله قلوبهم بالتوحيد عن وضر (¬5) الشرك فلا بد أن يدنس أبدانهم بأرحاض المعاصي فلو لم يقبل إلا مطيع ما وجد أحد يسلم عليه ولكن بنت الشريعة الأمر على الممكن في الوجود الغالب في الأحوال وهو التنزه عن الكبائر فإذا وصان العبد نفسه بفضل الله عن الكبائر قال بعضهم وأكثر الصغائر كان عدلاً. ¬

_ (¬1) قال ابن هبيرة اتفقوا على أنه تقبل شهادتهن فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والرضاع والبكارة وعيوب النساء وما يخفى على الرجال غالباً ... الإفصاح 2/ 356. (¬2) قال مالك الأمر المجمع عليه عندنا أن شهادة الصبيان تجوز فيما بينهم في الجراح ولا تجوز على غيرهم وإنما تجوز شهادتهم فيما بينهم من الجراح وحدها لا تجوز في غير ذلك إذا كان ذلك قبل أن يتفرقوا أو يخببوا أو يُعلموا فإن تفرقوا فلا شهادة لهم إلا أن يكونوا أشهدوا العدول على شهادتهم قبل أن يتفرقوا. الموطأ 2/ 726. (¬3) كذا في جميع النسخ التقويل ولعل المراد أن يقال لهم والذي في الموطأ يعلمو. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في الاستئذان باب زنا الجوارح دون الفرج 8/ 67، ومسلم في القدر باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره (2657)، وأحمد في المسند 1/ 125، 126، وشرح السنة 1/ 137 من حديث أبي هريرة. (¬5) الوضر محركة وسخ الدسم واللبن. ترتيب القاموس 4/ 623.

نكتة بديعة

نكتة بديعة وهو أن هذا العيان في الدنيا يخرج الخالص في الآخرة وهو اعتدال الميزان في ألا تكون الكفة كبيرة فإن كفة السيئات إن تفرغت عن الكبائر علم قطعاً أن الميزان لا يميل إليها فإما أن يعتدل داما أن يخف بها ويكون الرجحان للكفة الأخرى وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله {وكذالك جعلناكم أمه وسطاً} (¬1) الآية معناه {ويكون الرسول عليكم شهيداً} معناه أيضاً دنيا وآخرة. ولذلك شرط العلماء اجتناب الدناءات بحفظ المروءة وهو الشرط الخامس لأن المروءة ستر الدين والحجاب بينه وبين المعاصي كالثوب ستر يكن البدن عن الحر والزمهرير وضبط المروءة مما عسر على العلماء ولم ينطق فيه فقهاؤنا بكلمة وقد بيناه في المسائل على الإيضاح والضابط لكم الآن فيه ألا يأتي أحد منكم ما يعتذر منه مما يبخسه عن مرتبته عند أهل الفضل. تكملة: فإذا تحصل ضبط الشهادة فلها حالان: الحالة الأولى التحمل والثانية حالة آداء واختلف العلماء في التحمل هل هو فرض أو ندب مبنياً على قول الله تعالى: {ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} (¬2) وقد بينا في كتاب الأحكام إنها فرض على الكفاية (¬3) ولذلك يجب على الإِمام أن ينصب لها عدولاً يرزقهم من بيت المال ويتفرغون لإحياء حقوق الناس ويتوجه إليهم الخطاب حينئذ بالفرضية بإجماع. الحالة الثانية حالة الآداء وهي فرض إجماعاً إذا وقعت على عدلين فإن زادوا التحقت بفروض الكفاية هذا إذا علم بها صاحبها فإن لم يعلم وعلم الشاهد إنه يحتاج المتحاكم إلى أدائها فإنها فرض عليه أن يعلمه بها وههنا ورد حديث زيد بن خالد الذي رواه مالك (خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها) (¬4) كأن الحق لله تعين على الشاهد فرضاً أن يقوم ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (143). (¬2) سورة البقرة آية (282). (¬3) انظر الأحكام 1/ 248. (¬4) الموطأ 2/ 720 ومسلم (1719) في الأقضية باب خير الشهود، وأبو داود رقم (3596) في الأقضية باب الشهادات والترمذي (2296).

تعديل

بها عند الحاكم إلا أن يكون من الحدود فإن الأفضل له أن يستر على المتهتك قال علماؤنا إلا أن يستشر في الناس فحينئذ يكون الأفضل رفع الأمر إلى الحاكم حاشا الزنا فإنه يلزم رفعه بصفته لأن الشاهد يعرض نفسه لجرحته أما إنه يشهد بأنه في الجملة مؤذ للناس متشبث بالمعاصي متعرض للحرم ألفاظاً توجب كفة وتقتضي أدبه. وإن كان الحق لآدمي فإن علم به الآدمي فلا يلزم الشاهد أنه يقوم بها عند الحاكم أما إنه يلزمه أن يعرف به صاحبه فإن سكت فاختلف علماؤنا فمنهم من قال إنها جرحة فيه ومنهم من قال وهم الأكثر ليست بجرحة والصحيح إنها جرحة لأن كتمان الشهاده في الإثم بمنزلة الكذب فيها في العلانية ولا فرق بين شهالة الزور وكتمان شهادة الحق وقد عظم الله عز وجل كتمها ووصف أنها من معاصي القلوب ومآثمها وإثم القلب أعظم من إثم الجوارح لأن كبر المعصية على قدر فاعلها ومحلها. وقد عظم النبي - صلى الله عليه وسلم - شهادة الزور ونزلها في المنزلة الثالثة من الكبائر وكررها تعظيماً لعقوبتها وتحذيراً عن الوقوع فيها فقال: (الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور ألا قول الزور. فما زال يكررها حتي قلنا ليته سكت) (¬1) وقد ربط الله عز وجل الشهادة بوصفين فقال: {إلا من شهد بالحق} (¬2) , وقال عزّ من قائل: {وما شهدنا إلا يما علمنا وما كنا للغيب حافظين} (¬3) ولذلك قال علماؤنا إن شاهد الزور يؤدب الأدب الوجيع ويشهر حتى يكون ذلك ردعاً لغيره ولا تحلق له لحية فإن الله لم يشرع في الحدود تغيير الهيئة والخلقة وقال أبو حنيفة لا أدب عليه وإنما عقوبته رد شهادته لأنه قائل كذب وزور فلم يجب عليه أدب ولا تعزيز أصله المظاهر وعلى هذه النكتة عول علماؤنا من أهل العراق وخراسان وبيانها في مسائل الخلاف وقلنا إن الله عز وجل جعل جزاء الظهار الكفارة لأنه لم يضر بذلك إلا نفسه وهو ذنب لا يتعدى إلى غيره دنيا وآخرة وكان في الأصل طلاقاً فأرخص الله فيه فصار ظهاراً فافترقا. تعديل إذا ثبت أن الشهادة تقف على العلم فإن الله تعالى جعل الحواس أبين طريق إليه فأما ¬

_ (¬1) رواه البخاري في الشهادات باب ما قيل في شهادة الزور 3/ 225, ومسلم في الإيمان باب بيان الكبائر وأكبرها (87) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) سورة الزخرف آية (86). (¬3) سورة يوسف آية (81).

البصر فهو أخو البصيرة يكشف جملاً من المشاهدات ويلقي إلى القلب فنوناً من المعلومات بواسطة الألوان ويعضد السمع كما يعضده ويسترفد كل واحد منهما أخاه فيرفده فإن عدم أحدهما فإن كان المعدوم هو السمع فلا خلاف في جواز الشهادة بما يلقية البصر. وإن عدم البصر فاختلف الناس في شهادة ما يلقيه السمع فجمهور العلماء على أن شهادة الأعمى جائزة وقال أبو حنيفه لا تجوز شهادة الأعمى لاشتباه الأصوات ووجود المحاكاة التي يعسر الفصل فيها إلا على من عاين المحاكي (¬1) وهي مسألة عسرة جداً تهاون العلماء بها وهي معضلة وقد بيناها في مسائل الخلاف واعتض العلماء من الفقهاء والمحدثين بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم) (¬2) فربط النبي - صلى الله عليه وسلم - الحل والحرمة بسماع الصوت المعهود وفرق علماء الحنفية بينهما بفرق عظيم وهو أن الأذان ليس بموضع للتلبس والحيلة والشهادة معدن ذلك وقال علماؤنا إن المحاكاة التي يعسر الفرق فيها إنما تكون في الكلمة أو الكلمتين فأما سرد القول فلا يكاد يخفي الفرق بين التحكية والحقيقة ولذلك يقال للأعمى لاتقنع في تحمل الشهادة بقول نعم حتى يصف المسألة بأن يقول بايعت ونكحت وليرددها فحينئذ يرتفع اللبس ويظهر الفرق. وأما شهالة السماع فإنها معلومة وهي على ضربين خاصة فيما تسمعه وتشاهده وعامة فيما تسمعه ولا تشاهده وقد اختلف العلماء في هذا القسم من شهادة السماع اختلافاً كثيراً بيناه في مسائل الخلاف كما اختلفوا في الأحكام التي ثبتت بشهادة السماع وما توسع فيها أحد توسع المالكية وقد جمعناها على رأيهم فألفيناها كثيرة الحاضر الآن منها في الخاطر خمسة وعشرون حكماً: الأحباس، الملك المتقادم، الولاء، النسب، الموت، الولاية، العزلة، العدالة، الجرحة وقال سحنون فيها لا تجوز قال علماؤنا وذلك إذا لم يدرك زمان المجرح والمعدل فإن أدرك زمانه لم يقع ذلك إلا على العلم، الإسلام، أو ¬

_ (¬1) قال في اللباب ولا تقبل شهادة الأعمى لأن الأداء يفتقر إلى التمييز بالإشارة بين المشهود له والمشهود عليه ولا يميز الأعمي إلا بالنغمة والنغمة تشبه النغمة ولو عمي بعد الأداء يمتنع القضاء عند أبي حنيفة ومحمد لأن قيام الأهلية شرط وقت القضاء لصيرورتها ججة وصار كما إذا خرس أو جن أو فسق بخلاف ما إذا مات أو غاب لأن الأهلية بالموت انتهت وبالغيبة ما بطلت. اللباب 2/ 60 وانظر مجمع الأنهر 2/ 195. (¬2) رواه مالك في الموطأ 1/ 74 والبخاري في الصوم باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال) 3/ 37 ومسلم في كتاب الصوم باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر حديث (36، 37، 38).

ترجمة

الكفر، الحمل، الولادة، الترشيد، التسفيه، الصدقة، الهبة، البيع في حالة الرضاع، النكاح، الطلاق، الضرر، الوصايا، إباق العبد الحرابة [زاد بعضهم البنوة والأخوة وذلك يدخل في النسبة] (¬1) وقد مهدنا ذلك تأصيلاً وتفصيلاً وتفريعاً ودليلاً في كتب المسائل. ترجمة قال مالك القضاء في شهادة المحدود (¬2) وإنما خص هذه الترجمة والتي بعدها وهي القضاء باليمين مع الشاهد (¬3) دون سائر مسائل الشهادة لمكابرة أهل العراق فيهما القرآن والسنة وتعلق أهل العراق في ذلك بقوله عزّ وجلّ {ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} (¬4) واعتمد مالك رحمه الله في الموطأ وغيره على قول الله عَزَّ وَجَلَّ {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} (¬5). قال أبو حنيفة إنما تفيد التوبة والمغفرة والرحمة التي وعد الله عَزَّ وَجَلَّ بها فأما رد الشهادة فلا يسقط التوبة كما لم يسقط الجلد ولو رجع قوله تعالى {إلا الذين تابوا} إلى ما تقدم لأسقطت التوبة الحد والرد معاً، والباري تعالى قد جعل الرد مؤبداً. قلنا يا أبا حنيفة أنت أول من نقض هذا فلا يمكنك أن تقول به قال النّبى - صلى الله عليه وسلم -: (المتلاعنان لا يجتمعان أبداً) (¬6) وقلت أنت إذا أكذب نفسه ردها (¬7) فكيف راعيت الأبدية في القذف ورددتها في اللعان واللفظ واحد وهذا ما لا جواب عنه وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف. وأما القضاء باليمين مع الشاهد فعول فيها مالك على حديث أبي جعفر محمد بن علي المرسل (¬8) ...................................................... ¬

_ (¬1) ليس في م ولا ك. (¬2) الموطأ 2/ 721. (¬3) الموطأ 2/ 721. (¬4) سورة النور آية (4). (¬5) سورة النور آية (5). (¬6) ورد ذلك من حديث سهل بن سعد الساعدي وقد تقدم تخريجه في كتاب اللعان. (¬7) انظر اللباب في شرح الكتاب 3/ 78 مجمع الأنهر 1/ 459. (¬8) قال مالك عن جعفر عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد. الموطأ 2/ 721، قال ابن عبد البر =

..... وخصه لاتفاق أبي حنيفة معنا على قبول المرسل (¬1) وعلى قضاء عمر بن عبد العزيز (¬2) الذي عهد به وخصوصاً إلى الكوفة التي كانت موضع (¬3) فقيه وما أطنب مالك في مسألة إطنابه في هذه فلقد سلك فيها طريق الجدال وأكثر من الأسئلة والأجوية وأفاض في ضرب الأمثال والتفريق بين مثال ومثال وتحقيق الفرق بين الأصول والتوابع وأظهر له في ذلك علم عظيم من الأصول والأحكام به تفقهت جميع الطوائف. فأما متعلق الخصم في أسقاط الشاهد واليمين فظاهر البداية قال الله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (¬4) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (شاهداك أو يمينه) (¬5) وهذا مما لا غبار عليه قرآناً وخبراً ونحن لا ننكر هذا ولكنا ندعي زيادة فعلينا الدليل وقبل أن نخوض فيه نجادل أبا حنيفة مجادلة حاقة (¬6) فنقول إنك ذكرت وأصحابك إن الله ورسوله ذكرا الشاهد ولم يذكرا الشاهد واليمين فمثبتها مدع وزائد على الله ورسوله ما لم يقولا. قلنا له خفض عليك أبا حنيفة فقد جئت بأعظم من هذا فقلت إنه إذا ادعى زيد على عمرو حقاً فأنكره عمرو ولم تكن لزيد بينة فإن اليمين تجب على عمرو وتبقى الدعوى فإن حلف برأ وإن نكل قلت أنت يغرم المدعي بنكوله فجعلت النكول حجة فوجب القضاء على الشاهدين اللذين ¬

_ = مرسل في الموطأ ووصله عن مالك جماعة فقالوا عن جابر منهم عثمان بن خالد العثماني وإسماعيل بن موسى الكوفي وأسنده عن جعفر عن أبيه عن جابر جماعة حفاظ، شرح الزرقاني 3/ 389، وأخرجه مسلم (1712) في الأقضية باب القضاء باليمين والشاهد وانظر نصب الراية 4/ 97. (¬1) قال ابن الصلاح والاحتجاج بالمرسل مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما مقدمة ابن الصلاح ص 49، وانظر تدريب الراوي 1/ 198. (¬2) مالك عن حميد بن عبد الرحمن المؤذن أنه كان يحضر عمر بن عبد العزيز وهو يقضي بين الناس ... الموطأ 2/ 725. (¬3) كذا في جمع النسخ ولعلها موضع فقيههم. (¬4) سورة الطلاق آية (2). (¬5) رواه مسلم في كتاب الأيمان باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار 1/ 123، وأبو داود في الأقضية باب يحلف الرجل على علمه فيما غاب عنه انظر تهذيب السنن 5/ 235، والترمذي في الأحكام باب ما جاء أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه 3/ 625، "عن علقمة بن وائل عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه قال: يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي ما حلف عليه وليس يتورع من شيء فقال ليس لك منه إلا ذلك ... " لفظ مسلم. (¬6) في خ جاحد.

أمر الله بهما ورسوله هذا وعندك أن الزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن لا يجوز إلا بقرآن مثله (¬1) أو بخبر متواتر فأما نسخه بالقياس فلا يجوز إجماعاً ولا يمكنه بعد هذه المجادلة ممانعة وأما نحن قلنا في ذلك ثلاثة طرائق: الطريقة الأولى وهي أقواها إجماع أهل المدينة على نقل ذلك سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الخلفاء بعده وهذا لا غبار عليه ومهما اختلف الناس في طريق أهل المدينة من طريق النظر فليس يقدر أحد على اعتراض ما يجمعون على نقله من طريق الأثر. الطريقة الثانية: سرد الأحاديث الواردة في ذلك وقد رويت في ذلك أحاديث كثيرة في المصنفات وفي المسندات وجمع في ذلك الدارقطني وأبو بكر البغدادي جزئين عظيمين خرجا فيهما هذا الحديث عن بضعة عشر من الصحابة بأسانيد كثيرة وروى مسلم والأئمة أن النبى - صلى الله عليه وسلم - (قضى باليمين مع الشاهد الواحد) (¬2) قال الترمذي يمين وشاهد (¬3) خرج الدارقطني عن علي وغيره بالشاهد مع يمين الطالب (¬4) وروي بالشاهد مع يمين صاحب ¬

_ (¬1) قال ابن قدامة قولهم إن الزيادة في النص نسخ غير صحيح لأن النسخ الرفع والإزالة والزيادة في الشيء تقرير له لا رفع والحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه ولأن الزيادة لو كانت متصلة بالمزيد عليه لم ترفعه ولم تكن نسخاً وكذلك إذا انفصلت عنه. المغني لابن قدامة 9/ 152. وقال الحافظ وأجاب بعض الحنفية بأن الزيادة على القرآن نسخ وأخبار الآحاد لا تنسخ المتواتر ولا تقبل الزيادة من الأحاديث إلا إذا كان الخبر بها مشهوراً وأجيب بأن النسخ رفع الحكم ولا رفع هنا وأيضاً فالناسخ والمنسوخ لا بد أن يتواردا على محل واحد وهذا غير متحقق في الزيادة على النص وغاية ما فيه أن تسمية الزيادة كالتخصيص نسخاً اصطلاح فلا يلزم منه نسخ الكتاب بالسنة لكن تخصيص الكتاب بالسنة جائز وكذلك الزيادة عليه كما في قوله تعالى {وأحل لكم ما وراء ذلكم} وأجمعوا على تحريم نكاح العمة مع بنت أخيها وسند الإجماع في ذلك السنة الثابتة وكذلك قطع رجل السارق في المرة الثانية وأمثلة ذلك كثيرة وقد أخذ من رد الحكم بالشاهد واليمين لكونه زيادة على القرآن بأحاديث كثير كلها زائدة على ما في القرآن كالوضوء بالنبيذ والوضوء من القهقهة ومن القىء والمضمضة والاستنشاق في الغسل دون الوضوء ... فتح الباري 5/ 281، وانظر شرح النووي على مسلم 12/ 4، وشرح السنة 10/ 104. (¬2) انظر التخريج السابق. (¬3) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال هذا حديث حسن سنن الترمذي (1343) وقال الحافظ في الفتح 5/ 282 رجاله مدنيون ثقات ولا يضره أن سهيل بن أبي صالح نسيه بعد أن حدث به ربيعة لأنه كان بعد ذلك يرويه عن ربيعة عن نفسه عن أبيه .. وفي الباب عن نحو عشرين من الصحابة فيها الحسان والضعاف وبدون ذلك تثبت الشهرة ودعوى نسخه مردودة لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال. (¬4) رواه ابن ماجه من طريق عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن رجل من أهل مصر عن سرق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أجاز شهادة الرجل ويمين الطالب) ابن ماجه 2/ 793 قال البوصيري في الزوائد التابعي مجهول ولم يخرج لسُرق غير هذا الحديث الذي أخرجه المصنف ورواه البيهقي من نفس الطريق في السنن 10/ 172 - 173 قلت =

الحق (¬1) ورووا أن الزبير (¬2) خاصم رجلاً عند النبى - صلى الله عليه وسلم - في حق فأنكر الزبير فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - الزبير البينة على ما ادعاه فقال عندي سمرة بن جندب (¬3) ورجل آخر فأما سمرة فلم يشهد وأما ذلك الرجل الآخر فشهد فحلّف النبي - صلى الله عليه وسلم - الزبير وأثبت حقه (¬4). الطريقة الثالثة: وهي معنوية قال علماؤنا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم لكن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر) (¬5) والحكمة في ذلك بينة فإن قول (¬6) المتداعيين قد تعارضا وتساويا وليس قبول أحدهما أولى من ¬

_ = سُرق هذا قال فيه الحافظ سُرق بالضم وتشديد الراء ابن اسد الجهني وقيل غير ذلك في نسبه صحابي سكن مصر ثم الإسكندرية ت ص 229 ولم أجد الحديث في سنن الدارقطني ولعله في العلل. (¬1) أخرجه الترمذي (1344) وابن ماجه (2369) والبيهقي 10/ 170 وأحمد انظر الفتح الرباني 15/ 216 والدارقطني في السنن 2/ 212 من طريق عبد الوهاب الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عنه وقال عبد الله بن أحمد قال أبي وقضى به علي بالعراق وقال كان أبي قد ضرب على هذا الحديث قال ولم يوافق أحد الثقفي عن جابر فلم أزل به حتى قرأه علي وكتب عليه هو صح. وقال الترمذي روى سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً (قلت هي الرواية السابقة عن مالك) ثم قال الترمذي وروى عبد العزيز بن أبي سلمة ويحيى بن سليم هذا الحديث عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. سنن الترمذي 3/ 628 والرواية التي أشار إليها الترمذي عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عند الدارقطني 2/ 212 ونقل الزيلعي عن الدارقطني قوله وكان جعفر بن محمد أرسل الحديث وربما وصله عن جابر لأن جماعة من الثقات حفظوه عن أبيه عن جابر والقول قولهم لأنهم زادوا وهم ثقات وزيادة الثقة مقبولة. نصب الراية 4/ 100. درجة الحديث: نقل الشيخ البنا تصحيح هذا الطريق عن أبي عوانة وابن خزيمة. وقال قال الشافعي والبيهقي عبد الوهاب وصله وهو ثقة. الفتح الرباني 15/ 217. (¬2) كذا في جميع النسخ الزبير والذي في التجريد 1/ 188 زبيب بن ثعلبة بن عمرو التميمي العنبري له وفادة وجاء أن عائشة أعتقته روى عنه بنوه عبيد الله ودجين وولداهما شعيث بن عبيد الله والعدوي بن دجين كان ينزل بطريق مكة. وقال الحافظ بعد سياقه لترجمته له حديث أخرجه أبو داود. الإصابة 3/ 4 و 8/ 236 قلت الحديث هو الذي أشار إليه الشارح وانظر جامع الأصول 10/ 185 ومختصر المنذري 5/ 227 فكلاهما سماه بما سماه به الذهبي وابن حجر. (¬3) جندب ليست في نص الحديث وهي في كافة النسخ. (¬4) رواه أبو داود انظر مختصر السنن للمنذري 5/ 227 ونقل عن أبي عمر بن عبد البر تحسينه وكذا الأرناؤوطي في تعليقه على جامع الأصول 10/ 186. (¬5) رواه مسلم في الأقضية (1711) من حديث ابن عباس. (¬6) كذا في النسخ ولعلها فولى.

تنزيل

قبول الآخر فشرع الله الترجيح وبدأ فيه بجهة المدعي لأن الأصل براءة الذمة وفراغ الساحة فهي الحكم على الأصل وقيل لمدعي الشغل بيّن ما تقول فإن الإصابة قد رجحت جانب (¬1) المنكر عليك وإنما شرعت اليمين لنفي التجويز فإن جاء المدعي بالبينة فقد ترجحت جهته فثبت حقه فإن جاء بشاهد واحد وهو مجز الخلاف قيل للمنكر إن اليمين إنما أعطيتها لترجيح جنبتك والشاهد العدل قد رجح جنبة المدعي فينقل اليمين إليه ولهذا نقلناها إليه بالنكول لما ترجحت جهته على الناكل (¬2) والشفاء في هذه المسألة مذكور في التلخيص فلينظر هنالك. تنزيل قال علماؤنا لا يكون الشاهد واليمين إلا في الأموال وما جرى مجراها (¬3) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قضى به فيها ولم يفد القوة التي تراق بها الدماء وتقام بها الحدود فإن هذه معاني تسقط بالشبهة والشبهة بالشاهد واليمين قائمة فاقتصر بها على موردها وهي الأموال وقد رام أصخاب أبي حنيفة أن يتناولوا أحاديثنا فقالوا إن قوله قضى باليمين مع الشاهد معناه قضى بيمين المنكر (¬4) مع وجود شاهد المدعي ولم يلتفت إليه (¬5) قلنا هذا فاسد من ثلاثة أوجه: أحدها أنه جهل بلغة العرب فإن المعية تقتضي الاشتراك والتسوية. الثاني أن هذا زيادة محذوف يدعوف يزيد على نص الحديث وليس من الفصاحة أن يزيد المحذوف على المنطوق. الثالث أن سائر الأحاديث التي رويت فسرت تنزيل الشهادة واليمين حسب ما قدمناه. استدراك قال مالك رضي الله عنه في هذا الباب: ومن الناس من يقول لا يكون اليمين مع ¬

_ (¬1) في ج جهة المنكر عليك. (¬2) قال مالك مضت السنة في القضاء باليمين مع الشاهد الواحد يحلف صاحب الحق مع شاهده ويستحق حقه فإن نكل وأبي أن يحلف أحلِف المطلوب فإن حلف سقط عنه ذلك الحق وإن أبي أن يحلف ثبت عليه الحق لصاحبه. الموطأ 2/ 722. (¬3) قال مالك وإنما يكون ذلك في الأموال خاصة ولا يقع ذلك في شيء من الحدود ولا في نكاح ولا في طلاق ولا في عتاقة ولا في سرقة ولا في فرية. .. الموطأ 2/ 722. (¬4) في خ ووجود. (¬5) في م إليها.

مسألة أصولية

الشاهد الواحد (¬1) إلى قوله ففي هذا بيان إن شاء الله وذلك من احتجاجه غير صحيح وهو أيضاً صحيح. فأما عدم صحته ففي قوله إن نكل عن اليمين حلف صاحب الحق قال وهذا مما لا خلاف فيه عند أحد من الناس ولا في بلد من البلدان فهذه مسألة لم يختلف الناس في شيء أكثر من اختلافهم فيها فإن أبا حنيفة وأهل الكوفة الذين ير. عليهم بما ذكر من الحجاج وبالغ في الرد وأتقن بالتأصيل والتفصيل، يقولون لا يرد اليمين بحال على صاحب الحق ولكنه يقضي بالنكول (¬2) وقد تقدم "بيانه" (¬3) وأما صحته ففي إنكاره عليه أن هذا الذي قال ليس في كتاب الله عز وجل فإذا أثبته وليس في كتاب الله عز وجل بالنظر فليقر باليمين مع الشاهد فإنه مثله حسب ما قررناه في الطريقة المعنوية. مسألة أصولية قال مالك: وإنه ليكفي من ذلك ما مضى من السنة (¬4) ولكن المرء قد يحب أن يعرف وجه الصواب وموقع الحجة إشارة إلى مسألة أصوليه بديعة وهي أن القول من الله ورسوله إذا وعاه المكلف تعين عليه الإقرار به واعتقاده على صفته من أي قسم من أقسام التكليف كان ويتميز بعد ذلك المجتهد عن كل مكلف سواه بأن يلحظ معناه من كل وجه يراه فإن فهم معناه عداه وإلا استقر الحكم في محله خاصة ولم يلحق به سواه ولا يقف دون النظر بأول وهلة حتى يعجز بعد البحث والاجتهاد والله أعلم. القضاء في الدعوى قد تقدم من قولنا التصدير بالأحاديث الواردة فيها كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (البينة على ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 724 القائل ذلك هم الشعبى والنخعي وابن شبرمة وابن أبي ليلى وأصحاب الرأي. شرح السنة 10/ 104 شرح الزرقاني 3/ 393. (¬2) قال ابن عبد البر مذهب الكوفيين أن المدعى عليه إذا نكل عن اليمين حكم عليه بالحق دون رد اليمين على المدعي ولا يظن بمالك مع علمه باختلاف من مضى أنه جهل هذا وإنما أتى بما لا يختلف فيه كأنه قال ومن يحكم بالنكول خاصة أحرى أن يحل بالنكول ويمين الطالب ومالك كالحجازيين وطائفة من العراقيين لا يقضي بالنكول حى ترد اليمين ويحلف الطالب وإن لم يدع المطلوب إلى يمينه لحديث القسامة أنه - صلى الله عليه وسلم - رد فيها اليمين على اليهود إذ أبى الأنصار منها. شرح الزرقاني 3/ 394. (¬3) زيادة من ج. (¬4) الموطأ 2/ 725.

المدعي واليمين على من أنكر) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (شاهداك أو يمينه)، وروى مسلم في صحيحه (اليمين على نية المستحلف) (¬1) وفي لفظ آخر: (على ما يصدقك فيه صاحبك) (¬2). فأما البينة فهي لإثبات الحق وأما اليمين فهي لرفع التهمة ورفع النزاع بين المتخاصمين فاستمدت من أصلين المصلحة والتهمة حسب ما بيناه في البيوع ووفى هذه القاعدة مالك رحمة الله عليه وحده حقها دون سائر العلماء فقال: إن اليمين لا توجه لمجرد الدعوى حتى تقترن بها شبهة وذلك مستمد من قاعدة صيانة الأعراض لأن الرجل يدعي على الرجل ليونة باليمين وصيانة العرض على الحقيقة والتهمة واجبة كما هي في الدم والمال ولهذا تفطن عمر بن عبد العزيز وخص بذلك زمانه (¬3) لأنه كان ابتداء الفساد بذهاب المروءات وكثرة الحرص والجشع فإذا وجدت الخلطة قويت التهمة (¬4) ومن تعرض للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن وقد قال علماؤنا إن التهمة لم يعرف لها انفصال ذكره ابن حبيب وهذا تقصير بما أحله مالك في الموطأ فإنه قال: "إن كانت بينهما مخالطة أو ملابسة" (¬5) فالمخالطة هي الاجتماع والتآلف والملابسة هي الالتزام والتشبث ولذلك قال علماؤنا إن أهل السوق لا يراعى فيهم ذلك لأن الخلطة بينهم موجودة والملابسة فيهم مظنونة ظناً غالباً. وقال بعض علمائنا الاجتماع في المسجد خلطة وأنكره بعضهم لأن ذلك إنما هو موطن دين والأول أقوى وقد بينا ذلك في كتاب المسائل. ما جاء في الحنث علي منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬6): قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح الخبر من (الكبائر الإشراك بالله واليمين الغموس) (¬7) ....................................... ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب الأيمان باب يمين الحالف على نيه للمستحلف (1653)، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اليمين على نية المستحلف) وابن ماجه (2120). (¬2) مسلم في نفس الباب السابق (1653) وأحمد في المسند 2/ 228 و331 والترمذي في الأحكام (1354)، وأبو داود (3255)، وابن ماجه (2121). (¬3) مالك عن أبي الزناد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ... أن اقض باليمين مع الشاهد. الموطأ 2/ 722. (¬4) في ت التهم. (¬5) الموطأ 2/ 726. (¬6) الموطأ 2/ 727. (¬7) اليمين الغموس هي الكاذبة يقطع الرجل بها مال غيره، شرح السنة 1/ 85. والحديث أخرجه البخاري في =

................... وقال: (من حلف على منبري" (¬1) الحديث وقال: (من اقتطع حق امرىء مسلم حرم الله عليه الجنة) (¬2) الحديث. اعلموا علمكم الله أن الآثام في الآخرة تتضاعف بتضاعف الحرمات في الدنيا وتتعدد بتعددها بخلاف أحكام الدنيا فإن الحرمات لا تتضاعف بتضاعف الأسباب ولا تتعدد بتعددها كالحائض المحرمة الصائمة فالكذب حرام كبيرة (¬3) فإن اتصلت بقطع حق امرىء مسلم تضاعفت فإن كانت بعد العصر زادت فإن كان على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو روضة من رياض الجنة (¬4) لم يأمن أن يكون ذلك قطعاً لخطه منها ويقال له إنك لا تدخل موضعاً عصيت فيه وآيات الوعيد وأخباره كثيرة وهي بإجماع من الأمة من المتشابه الذي نبأنا الله عنه في قوله {وأخر مشابهات} (¬5) الذي لا يتبعه إلا زائغ القلب وفيها ثلاثة مذاهب طائفة حققتها أولاهم الخوارج (¬6) ونسجت على منوالها القدرية (¬7) وطائفة (أسقطتها وهم المرجئة (¬8) وقالت كما لا ينفع مع الشرك عمل لا يضر مع الإسلام (¬9) ذنب) وطائفة توقفت وقالت أمر ذلك إلى الله تعالى إن شاء عفا وإن شاء ¬

_ = الأيمان والنذور باب اليمين الغموس 8/ 171 من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الكبائر الاشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس)، ورواه الترمذي (3021)، والنسائى 7/ 89، وأحمد في المسند رقم (6884)، وشرح السنة 1/ 85. (¬1) رواه مالك في الموطأ 2/ 727، وأبو داود (3246)، وابن ماجة (2325)، وأحمد 3/ 344 والحكم 4/ 296 - 297 من حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف على منبري آثماً تبوأ مقعده من النار) لفظ الموطأ وقد صححه الشيخ ناصر في تعليقه على ابن ماجه. (¬2) رواه مسلم (137) في الأيمان باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار والموطأ 2/ 727، والنسائي 8/ 246 من حديث أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من اقتطع حق امرىء مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار قالوا وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك). (¬3) في ث وج وك وم زيادة فإن اتصلت بذكر الله عظمت. (¬4) ورد ذلك من حديث عبد الله بن زيد المازنى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)، الموطأ 1/ 197 والبخاري في التطوع باب فضل ما ين القبر والمنبر 2/ 77 ومسلم في الحج (1390). (¬5) سورة آل عران آية (7). (¬6) الخوارج من أهل الأهواء لهم مقالة على حدة سموا به لخروجهم على الناس، ترتيب القاموس 2/ 33. (¬7) القدرية جاحدو القدر. ترتيب القاموس 3/ 570. (¬8) سموا مرجئة لأنهم أخروا العمل عن الإيمان والإرجاء بمعنى التأخير الفرق بين الفرق للبغدادي ص 202 وقد قسم أبو الحسن الأشعري المرجثه إلى اثني عشرة فرقة معظمهم يقولون الإيمان هو المعرفة بالله ومنهم من يضيف إلى المعرفة بالله الإقرار. مقالات الإسلاميين 1/ 204، الإيمان لابن منده 1/ 338. (¬9) هذا قولى المرجئة انظر الإيمان لابن منده تحقيق الدكتور علي ناصر 1/ 338.

أخذ فأما الطائفة الأولى الوعيدية فقد تعلقت بظواهر الآيات والآثار وهذا هو الذي دعا سالفة علمائنا المتكلمين رحمة الله عليهم إلى انكار العموم وقد بينا القول بصحته وأنه لا يحتاج إلى ذلك معهم فإن الحق ظاهر والأدلة بيّنه وحمل التقصير كثيراً من علمائنا على أن يقولوا أن الله تعالى لا ينفذ وعيده فإن ترك إنفاذ الوعيد من مكارم الأخلاق. قال الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إبعادي ومنجز موعدي (¬1) وقد بيّنا أن ذلك إنما يتصور في المخلوق الذي يجوز له الكذب بعذر ويتصور منه على الإطلاق فأما الصادق الواجب الصدق فلا يجوز أن يقع مخبره بخلاف خبره ويتعالى الباري عزّ وجلّ عن الأخلاق الذميمة وإنما له الصفات العلية ومنها الصدق في الكلام لكن الآيات والأخبار وإن جاءت بإطلاق القول في الوعيد فقد جاءت أخر بإطلاق القول في الوعد كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله حرمه الله على النار) (¬2) وبهذا تعلقت المرجئة. وكقوله (إن بغياً من بني إسرائيل مرت بكلب يأكل الثرى من العطش فنزعت موقها وسقته من ركية (¬3) فغفر الله لها) (¬4). وههنا نكت كثيرة بيانها في موضعها لا يخفى عليكم الآن منها نكتة بديعة وهي أن الباري تعالى رحيم شديد العقاب فلا بد أن يأخذ كل حكم من أحكام الصفتين جزءاً من الخلق تتحقق فيه الصفة وكذلك هو غفور منتقم فلا بد أن يكون للمغفرة جزء معلوم من الخلق وللإنتقام جزء معلوم وتحقيق ذلك الشفاعة فمن نظر إلى صفة من صفات الباري جل وعز وآمن بها وترك البواقي لا يكون مؤمناً بالله وكذلك من نظر إلى أخبار الوعد دون أخبار ¬

_ (¬1) البيت لعامر بن الطفيل كما في لسان العرب 3/ 464. (¬2) رواه أبو داود في سننه (3116) والحكم في المستدرك 1/ 351 وقال صحيح الإسناد ورافقه الذهبي ورواه أحمد في المسند 5/ 233 من طريق صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل مرفوعاً به وصالح هذا مقبول كما قال الحافظ في ت ص 273 وقال في ت ت 4/ 398 روى عنه الليث وحيوة بن شريح وابن لهيعة وعبد الحميد بن جعفر الأنصاري وغيرهم والحديث صححه الحكم وأقره الذهبي وكذلك الشيخ ناصر في المشكاة 1/ 509 ولكنه في إرواء الغليل 3/ 149 حسنه ولعله الأقرب من أجل صالح بن عريب. (¬3) الركية بفح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتانية البئر مطوية أو غير مطوية وغير المطوية يقال لها جب وقليب ولا يقال لها بئر حتى تطوى وقيل الركي البئر قبل أن تطوى فإذا طويت فهي الطوى. فتح الباري 6/ 516. (¬4) البخاري في كتاب الأنبياء البخاري مع الفتح 6/ 511، وأحمد في المسند 2/ 507 من حديث أبي هريرة.

فقه

الوعيد لا يكون عارفا بحكم الله وإنما ينبغي لك أن تعرض بعضها على بعض وترد البنت منها إلى الأم (¬1) وبالجملة فآخر الحال أن إثبات الشفاعة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيها تحقيق الوعد والوعيد وإن المرجئة لا ترى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - شفاعة لأن لا إله إلّا الله تغني عنها والخواج والقدرية لا تراها أيضاً لأن الخلود عندهما يمنع منها فالحمد لله الذي وفق عصابة الحق للإقرار بحق الله والعلم بصفات الله والاعتراف بمنزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إذا ثبت هذا فقوله (فليتبوأ مقعده من النار) مطلق مقيد بالمغفرة وقوله في الحديث الثاني (حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار) عموم عارضه (من كان آخر كلامه لا إله إلّا الله حرم الله عليه النار) فتقابل الخبران يوجب الرجوع إلى الآية المحكمة {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (¬2) الآية فهي أم الوعد والوعيد ووجب النظر إلى الشفاعة وإلى هذا المعنى أشار بعض الناس في قوله في هذا الحديث ونظائره معناه حرم الله عليه النار في وقت دون وقت وفرّ بعض علمائنا إلى أن قال إن معنى ذلك إذا كان مستحلاً فرده إلى الكفر وهذا رجوع منهم إلى قول المبتدعة من حيث لا يشعروا على ما بيناه في موضعه وإسقاط لأحكام المذنبين وإخراج لهم عن القرآن والسنة وذلك باطل قطعاً. فقه اختلف العلماء في كيفية اليمين وفي موضعها فقال الشافعي تغلظ اليمين بالألفاظ العشرة (¬3) وقال بعض أصحابنا تغلظ اليمين بالله الذي لا إله إلّا هو (¬4) فأما قول أصحاب الشافعي في الألفاظ العشرة فدعوى عريضة لأن منها ما ليس من أسمائه الحسنى وهو قوله الطالب ونحوه وإن كان التحليف بأسمائه الحسنى فما معنى عشرة دون تسعة وتسعين هذا تحكم وأما من زاد من أصحابنا الذي لا إله إلا هو فله وجه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (يا معشر اليهود والذي لا إله إلّا هو لتعلمون أني رسول الله) (¬5). ¬

_ (¬1) الشيخ دائما يستعمل هذا التعبير وقصده منه رد الفروع إلى الأصول. (¬2) سورة النساء آية (48). (¬3) قال النووي للتغليظ مدخل في الأيمان المشروعة في الدعاوى مبالغة في الزجر وفيه مسائل الأولى التغليظ اللفظي وهو ضربان أحدهما التعديد وهو مخصوص باللعان والقسامة وواجب فيهما. الثاني زيادة الأسماء والصفات بأن يقول والله الذي لا اله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية أو الله الطالب الغالب المدرك المهلك الذي يعلم السر وما أخفى وهذا الضرب مستحب فلو اقتصر على الله كفى. روضة الطالبين 12/ 31. (¬4) هذا مذهب مطرف وابن الماجشون. المنتقى 5/ 233. (¬5) البخاري في صحيحه باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة 5/ 79 من حديث أنس.

وأما الصحيح من المذهب فقوله بالله خاصة لقوله تعالى: {فيقسمان بالله} (¬1) وقوله {بالله إنه لمن الصادقين} (¬2) ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) (¬3) ولقوله (والله إن شاء الله) (¬4) وأما تأكيده - صلى الله عليه وسلم - بيمينه في موضع وقوله في آخر (والذي نفسي بيده) (¬5) ونحو ذلك فإنما هو لتعليم الخلق التصرف في ذكر الله سبحانه بجميع صفاته العلى وأسمائه الحسنى. وأما موضعها فقال الشافعي حيث تجب وقال علماؤنا موضعها في اليسير حيث وجبت وموضعها في الكثير موضع التعظيم وهو المسجد قالوا وهذا منتزع من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (من حلف على منبري) فمعناه في الحقوق التي يلجأ إليها إذ ليس موضع حلف الناس ابتداء على الإطلاق فمن ههنا أخذت المسألة وبوب مالك بعد هذا عليها (¬6) وأدخل حديث قضاء مروان على زيد واستسلام زيد لذلك لكونه أمراً مشهوراً عندهم ولو كان الحكم كما قال الشافعي من اقتضاء اليمين حيث وجبَت لما استسلم إلى ذلك زيد ولأنكر عليه ابتداء مروان له وقد قال علماؤنا تغلظ بالزمان في غليظ الأحكام كاللعان فيقصد به بعد الصلاة وأشهرها العصر (¬7) وقد اختلف في صحيح الحديث في الصلاة التي قضى ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (107). (¬2) سورة النور آية (6). (¬3) متفق عليه البخاري في الشهادات باب كيف يستحلف 3/ 235 والموطأ 2/ 480 ومسلم في كتاب الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى (1646) 3 من حديث ابن عمر. (¬4) قلت لعل الشيخ يشير إلى حديث أبي موسى الأشعري وفيه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رهط من الأشعريين استحمله فقال: والله لا أحملكم ما عندي ما أحملكم عليه ثم لبثنا ما شاء الله فأتي بإبل فأمر لنا بثلاثة ذود ... وفي آخره والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير. البخاري في الأيمان والنذور 8/ 182 ومسلم (1649). (¬5) ورد في صحيح مسلم (240) في كتاب الأيمان من حديث أبي هريرة قوله: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) لفظ مسلم ورواه أحمد، انظر الفتح الرباني 1/ 101. (¬6) الموطأ 2/ 728 باب جامع ما جاء في اليمين علي المنبر ولفظه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع أبا غطفان بن طريف المزني يقول: "اختصم زيد بن ثابت الأنصاري وابن مطيع في دار كانت بينهما إلى مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة فقضى مروان على زيد باليمين على المنبر فقال زيد بن ثابت احلف له مكانى فقال مروان: لا والله إلا عند مقاطع الحقوق، قال: فجعل زيد بن ثابت يحلف أن حقه لحق ويأبى أن يحلف على المنبر قال فجعل مروان بن الحكم يعجب من ذلك". قلت: والأثر صحيح من خلال إسناده. (¬7) قال الباجي وهل نغلظ بالزمان أم لا؟ روى ابن كنانة عن مالك في كتاب ابن سحنون يتحرى بأيمانهم في المال =

النبي - صلى الله عليه وسلم - على المتلاعنين باليمين بعدها هل هي الظهر أو العصر وأصح الروايتين سنداً أنها العصر (¬1) وهي أقواها نظراً لأن الوقت بعد العصر أعظم من الوقت بعد الظهر لأنه وقت تجتمع فيه الملائكة المتعاقبة بالليل والنهار الذين يكتبون أعمال العباد فإن كتبها أهل النهار كانت خاتمة صحيفة كبيرة وإن كتبها ملائكة الليل كان افتتاح صحيفة كبيرة وإن كتباها معاً كان اختتام الأولى وافتتاح الثانية شيئاً عظيماً وما بعده أعظم منه إلا إن عفا الله عنه. ¬

_ = العظيم وفي الدماء واللعان الساعات التي يحضر الناس فيها المساجد ويجتمعون للصلاة وما سوى ذلك من مال وحق في كل حين. المنتقى 5/ 233. (¬1) روى البيهقي بإسناد فيه الواقدي محمد بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لاعن بين العجلانى وامرأته على المنبر) السنن الكبرى 7/ 298 وعزاه الحافظ في التلخيص 3/ 230 إلى ابن وهب في موطئه عن يونس عن ابن شهاب أو غيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أمر الزوج والمرأة فحلفا بعد العصر على المنبر).

كتاب الرهون

كتاب الرهون ما لا يجوز من غلق الرهن: الرهن مصلحة من مصالح الخلق شرعها الله تعالى لمن لم يرض بذمة صاحبه الذي عامله وفائدته التوثق للخلق مخافة ما يطرأ عليهم من التعذر قال الله تعالى: {وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة} (¬1) فظن قوم أن ذلك مخصوص بالسفر وإنما خرج الكلام في ذكر السفر مخرج سبب الحاجة وموضعها لا أنه شرط فيها والدليل على صحة ذلك ما روى الأئمة في الصحيح وغيره من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ابتاع بالمدينة من يهودي شعيراً إلى أجل ورهنه درعه) (¬2) واختلف الناس في قول الله تعالى {فرهان مقبوضة} فجعل القبض شرطاً في الرهن في موضعين. أحدهما: أنه لا يكون رهناً حتى يقبض وحينئذٍ يكون له حكم الرهن. الثاني: إنه إذا قبض هل يلزم ذلك دائماً فيه فإن خرج عنه بطل أم يكفي له قبض أول العقد وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف وقلنا إن الصحيح دوام القبض واستمراره وهو الذي اختاره علماؤنا لأن الله جعله رهناً بصفة فإن اختلفت تلك الصفة خرج عما حكم الله به. حديث: أرسل مالك عن سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يغلق الرهن) (¬3) وليس في الرهن حديث صحيح إلا رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند اليهوي وما رواه ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (283). (¬2) رواه البخاري في الجهاد باب ما قيل في درع النبي - صلى الله عليه وسلم - والقميص في الحرب من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير" البخاري 4/ 49 والنسائي 7/ 288 وابن ماجه (2436). (¬3) الموطأ 2/ 728 قال أبو عمر بن عبد البر أرسله وراة الموطأ إلا معن بن عيسى فوصله عن أبي هريرة. وقد وراه الشافعي 2/ 189 وعبد الرزاق (15034) مرسلاً أيضاً وأخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 51 والدارقطني في سننه 3/ 32 من حديث سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب =

البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الرهن مركوب ومحلوب يركب بنفقته ويحلب بنفقته) (¬1) وهذا الحديث الذي أرسله مالك عن سعيد بن المسيب لاتفاق الفقهاء على القول به وإن اختلف في ذلك علماء الحديث وقد زاد الدارقطني في حديث سعيد وأسنده فقال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يغلق الرهن من راهنه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه) (¬2) وهذا يعارضه حديث البخاري بقوله: (الرهن محلوب ومركوب بنفقته) وقد اتفقت العلماء على أن منافع المرهون للراهن ليس للمرتهن فيها حق وإنما له حق الحبس والتوثق فأما منافعه فقال أبو حنيفة قولًا غريباً لا يشبه فطنته تبقى منافع الرهن عطلًا لا سبيل للمرتهن إليها لأنها ليست له ولا سبيل للراهن إليها لأن الرهن قد خزل عن يده وقال الشافعي يستوفي الراهن عند نفسه منافع الرهن لأن الرهن قد صح ولزم بالفبض الأول فلا يحتاج إلى الاستدامة فأما قول أبي حنيفة فخالف الحديث والأصول والنظر أما الحديث فمن ثلاثة أوحه: أحدها: وهي القاعدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إضاعة المال. وأما الثاني: فما روى البخاري من أن الرهن محلوب ومركوب وهذا يناقض قوله إن الرهن عطل. وأما الحديث الثالث: فهو قوله (له غنمه وعليه غرمه) وأما الأصول فكل مالك أحق بملكه وكل ذي حق لا يحال بينه وبين حقه في مسائل الشريعة كلها وأما النظر فليس من المصلحة للخلق ولا من شكر نعم الخالق أن تترك النعم سدى حتى تقوى (¬3) وأما قول الشافعي إن الرهن يرجع إلى صاحبه ففي ذلك إبطال لحق المرتهن أو تغرير به أو تعريضه للآفات وذلك لا يجوز والصحيح ما قاله مالك من أن المنافع تبقى في يد المرتهن مع الأصل ¬

_ = عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يغلق الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه) وصححه ابن حبان (1123) والحاكم وابن عبد البر وعبد الحق وحسنه الدارقطني وقوله: (له غنمه وعليه غرمه) قال أبو داود في المراسيل هو من كلام سعيد نقله عنه الزهري وقال وهذا هو الصحيح، وقال الزيلعي في نصب الراية 4/ 320 ويؤيده ما رواه عبد الرزاق في مصنفه (15033) أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يغلق الرهن ممن رهنه) قلت للزهري أرأيت قول الرجل لا يغلق الرهن أهو الرجل يقول إن لم آتك بمالك فالرهن لك قال: نعم، قال معمر ثم بلغني عنه أنه قال إن هلك لم يذهب حق هذا إنما هلك من رب الرهن له غنمه وعليه غرمه. (¬1) البخاري في الرهن باب الرهن مركوب ومحلوب 3/ 187 من حديث أبي هريرة. (¬2) تقدم تخريجه وتحسين الدارقطني له. (¬3) كذا في جميع النسخ تقوى وليست العبارة واضحة لي.

فإن شاء الراهن أن يستوفيها تحت يد المرتهن استوفاها وإن شاء أن ينيب من يستوفيها له فعلى هذا يصل كل ذي مالك إلى ملكه ويبقى كل حق محفوظ على صاحبه. وأما قوله (الرهن محلوب ومركوب) فهو إشارة إلى ما قلنا من أن المنافع لا تبقى معطلة. وأما قوله (يركب بنفقته ويحلب بنفقته) فإن ذلك محمول على عادة كانت عندهم أو على تراضٍ بذلك من المتراهنين فإما أن يأخذ ذلك المرتهن بشرع فلا يصح فإنه كان يكون زيادة في حقه وأخذ مال الراهن بغير رضاه وأما قوله (لا يغلق الرهن) فإن معناه لا يذهب هدراً قال العربي: وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الراهن قد غلقا (¬1) ففسر الغلق وهو ذهابه بغير شيء وفواته من غير جبر وفي ذلك أحوال: الحالة الأولى: ما فسره مالك. الحالة الثانية: أن يموت الرهن عند المرتهن أو يتلف بوجه من وجوه التلف فقال الشافعي يذهب هدراً ويأخذ صاحب الحق حقه وقال أبو حنيفة يقاصه بقيمته من الدين ولمالك قولان: أحدهما: الفرق بين أن يكون مما يغاب عليه أو ما لا يغاب عليه فإن كان مما يغاب عليه كان كما قال أبو حنيفة وإن كان مما لا يغاب عليه كان كما قال الشافعي. القول الثاني: أن الحكم فيه كما قال أبو حنيفة في كل حال، زاد مالك إلا أن تقوم بينة على تلفه من غير جهة المرتهن فإنه يكون من الراهن وفي مسألة عظيمة أخذت شبهاً من الأمانات لأنه قبضه بإذن صاحبه وأشبهت المستام من جهة أنه قبضه على جهة المعاوضة ومن حكم الفرع إذا تجاذبه أصلان أن يوفر عليه من حكم كل واحد منهما ولأجله قال مالك مرة إنه أمانة وقال أخرى إنه مضمون وقال الحال فيه أنه أمانة عنده لأنه لم يقبضه على العوضية وإنما قبضه على التوثق من الأمانات والدين مسفر في الذمة بخلاف المستام فإنه قبضه على معنى الاعتياض فحقق ذلك فيه ومن غلق الرهن مسألة إعتاق الراهن فإن علماء الإِسلام اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه مردود قاله الشافعي. الثاني: أنه نافذ قاله أبو حنيفة. الثالث: أنه ينفذ إن كان موسراً ويرد إن كان معسراً قاله مالك والمسألة مشكلة إلا أن كلام مالك يظهر فيها مع الاعتبار جداً لأنه من غلق الرهن والصحيح في اشتقاقه أن يذهب ¬

_ (¬1) البيت عزاه ابن منظور في لسان العرب 10/ 292 لزهير.

القول في كراء الدابة والتعدي فيها

باطلا لقول الشاعر: وفارقتك برهن لا فكاك له. فهو الذي قد قال فيه قد غلق ويكون حينئذ الهلاك من جهة الراهن وكما لا يغلق الرهن على الراهن فأولى وأحرى ألا يغلق الرهن على المرتهن وأما الشافعي فقال إن الرهن حق يتعلق باليد والعتق حق يتعلق بالملك فمحل العتق غير محل الرهن قلنا له ولكنه يبطله وكل ما أدى إلى بطلانه فإنه يبطل في نفسه وهذا فصل عسر لا يستقيم على أصولنا لأن مالكاً قد قال في عدة مسائل إنه ينفذ العتق من الموسر ومن المعسر وإن أدي إلى إبطال حق الغير فإذا طولب بالفرق لم يقدر عليه ويؤول الكلام إلى تشعيب في الفروع وتشعيب في الأصول أو لعله إلى أن يحكم على الراهن بأداء المال يذهب ماله وليس العتق بضربة لازب (¬1) حتى يستحيل رده شرعاً فكم من عتق نقض وكم من أم ولد ردت في المبيع والصحيح عندي أن عتق الراهن لا ينفذ إلا أن يؤدي المال وإذا حصل في يد المرتهن حينئذ يحكم عليه بنفوذ العتق ويكون في أثناء ذلك موقوفاً والعجب من علمائنا الذين يريدون أن يضعفوا الرهن ويبطلوه بالعتق وهو عندنا حق ثابت يسري إلى الولد كما يسري العتق والشافعي يقول لا يسري إلى الولد ولذلك رده والدليل على صحة سرايته إنه حق ثبت في رقبة الأم فيسري إلى الولد كالاستيلاد ومسائل الرهن في التفريع كثيرة وموضعها قد بينت فيه. القول في كراء الدابة والتعدي فيها (¬2): بوب على كراء الدواب والرواحل ولم يرد لها في الحديث أصل سوى أني وجدت إشارتين إحداهما أقوى من الأخرى. أما الأولى فهي الحديث الصحيح عن عائشة "واستأجرا رجلاً من بني الديل يقال له ابن الأريقط ودفعا إليه راحلتهما وراعداه في غار ثور صبح ثلاث" (¬3) فقد أخذت الدابة ههنا حظاً من الكراء. وأما الثاني وهو أقوى فحديث جابر "باع النبي - صلى الله عليه وسلم - جملاً واشترط ظهره إلى المدينة" (¬4) وهذا ظاهر في أن الاستثناء قد وقع له جزء من الثمن فأما قوله التعدي فيها فإن ¬

_ (¬1) اللزوب اللصوق والثبوت والقحط وصار ضربة لازب أي لازماً ثابتاً واللزب بالكسر الطريق الضيق. ترتيب القاموس 4/ 138. (¬2) الموطأ 2/ 733. (¬3) رواه البخاري في الصحيح في فضائل أصحاب النبي باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة 5/ 73، شرح السنة 13/ 354. (¬4) حديث جابر متفق عليه أخرجه البخاري في البيوع باب شراء الدواب والحمير 3/ 81 ومسلم 3/ 1221 (715) =

العدوان باب عظيم تصرفت فيه الشريعة بالبيان وتعلقت به من الأفعال أحكام قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) (¬1) الحديث وإذا وقع التعدي فيها فللشرع على المتعدي حكمان: أحدهما حكم زجر كالضرب والقتل. الثاني: حكم جبر كالقيمة والدية وفي الجبر زجر لأنه ينقض بملك المتعدي وليس في الزجر جبر ولكن فيه حفظ واستيفاء عنه وقع البيان بقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} (¬2) ولأجل ذلك شرف الله هذه الأمة على سائر الأمم فإن القصاص زاجر في كل أمة وخصت هذه الأمة بالدية جبراً وجعل الله الولي بالخيار من أن يقبل الدية أو يقتل وهذا هو الصحيح. ومن النكت الغريبة في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر فيه الفروج ولكنها دخلت في الأعراض فاستوعب هذا الحديث محارم الشريعة فأما الرجم فيكون بما تقدم من القتل والضرب وأما الجبر فيكون بالمثل وهو على قسمين مثل في الصورة ومثل في المالية فأما المثل من جهة المالية فقد عينها الله في القيمة من النقدين أو ما جرى مجراهما بالعرف وأما المثل من طريق الصورة فما يشاهد وذلك في المكيل والموزون أما إنه قد يشذ من ذلك شيء في التفريع كمسألة الغزل فإن العلماء اختلفوا فيها هل هي من ذوات الأمثال أو من ذوات القيم والصحيح أنها من ذوات القيم فإن ضبط القاعدة أوكد من النظر في الفروع أو من مراعاة الرجال فإن قيل فكيف تصنعون بما في الحديث الصحيح من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في بيت بعض نسائه فأهدت إليه إحدى أمهات المؤمنين قصعة فيها طعام فضربت التي هو في بيتها يد الخادم فوقعت القصعة فانكسرت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (غارت أمكم وجعل يجمع الطعام ويقول: كلوا فأكلوا وأخذ قصعة التي هو في بيتها وأرسلها إلى التي كسرت قصعتها) (¬3) قلنا هذا الأمر جرى للنبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين إحداهما: كانت أم سلمة أهدت إلى ¬

_ = في المساقاة باب بيع البعير واستثناء ركوبه قال جابر كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة: (فأبطأ بي جملي وأعيا فتخلفت فنزل يمجنه بمجنه ثم قال: اركب فركبت فلقد رأيته أكفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تزوجت، قلت: نعم، قال: بكراً أم ثيباً؟ قلت: بل ثيباً, قال: أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك ...) لفظ البخاري. (¬1) هذا جز من حديث جابر الطويل في صفة حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرجه مسلم في الحج باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1218) وأبو داود 1905 و 1907 و 1908 و 1909 والنسائي 5/ 143 و 144. (¬2) سورة البقرة آية (179). (¬3) رواه البخاري عن ابن علية عن حميد عن أنس قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عند بعض نسائه فأرسلت إحدى إمهات =

مرجع

النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت عائشة خرجه النسائي (¬1). الثانية: أن التي أهدت كانت زينب فقالت عائشة (¬2) للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما كفارة ما صنعت قال: (إناء بإناء وطعام بطعام) (¬3). خرجه مسلم واختلاف المهدي دليل على إنها كانت حالتين وكانت دار النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوانيه والكل له وإنما الكلام في المشاحة بين المتنازعين وطلب المثل على التحقيق عند الاختلاف وذلك لا يكون إلا بالمعيار الشرعي وقيل وإنما كان ذلك في القصعة لحقارتها وأن القيمة في ذلك لا تكاد تختلف بخلاف الأثواب، والدواب فإنها لا تكاد تتفق وتكثر قيمتها أما انه قد روى عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في كلب الزرع فرق من طعام وفي كلب الغنم شاة وفي كلب الصيد كذا درهماً وفي كلب الدار فرق من تراب عليك أن تحمله وعليه أن يأخذه وهذا الحديث ضعيف في السند (¬4) فلا يلتفت إليه (¬5). مرجع: فإذا أكرى (¬6) دابة فتعدى فالفروع كثيرة كما قدمناه ولكن جملة الحال ترجع إلى أصل ¬

_ = المؤمنين بصحفة فيها طعام فضربت التي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتها يد الخادم فسقطت الصحفة فانفلقت فجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلق الصحفة ثم جعل يجمع فيها الطعام ... ". البخاري في كتاب النكاح باب الغيرة 7/ 46 وفي المظالم باب إذا كسر قصعة أو شيئاً لغيره 3/ 179، وأبو داود (3567)، والترمذي (1359)، والنسائي 7/ 70، وابن ماجه 2/ 782. (¬1) رواه النسائي من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي المتوكل عن أم سلمة أنها أتت بطعام في صحفة لها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فجات عائشة متزرة بكساء ومعها فهر ففلقت به الصحفة ... النسائي 7/ 70 ورواية النسائي هذه صححها الشيخ ناصر في ارواء الغليل 5/ 360. (¬2) قال الحافظ في الكلام على حديث أنس قوله "فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم" لم أقف على اسم الخادم وأما المرسلة فهي زينب بنت جحش ذكره ابن حزم في المحلى من طريق الليث بن سعد عن جرير بن حازم عن حميد عن أنس بن مالك أن زينب أهدت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت عائشة وفي يومها جفنة من حيس الحديث. فتح الباري 5/ 125. (¬3) لم أطلع على الحديث في مسلم وهو في البخاري كما تقدم ولم يعزه المنذري في مختصره 5/ 200 إلا للبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وكذلك الخطيب التبريزي في المشكاة لم يعزه إلا للبخاري فقط دون مسلم انظر المشكاة 2/ 887. وقوله (إناء بإناء وطعام بطعام) رواية الترمذي (1359) وقال حسن صحيح. (¬4) في ج المتن. (¬5) هذه الرواية لم أطلع عليها. (¬6) في ت أكراك.

تتميم

وهو أن الشافعي يقول على المتعدي قيمة ما أفسد بالغاً ما بلغ قليلاً كان أوكثيراً ولا يسقط حق المالك عن العين المملوكة بالتعدي ولو بقي منها قيمة حبة بل يحكم بردها إلى مالكها بجميع قيمتها غير تلك الحبة، وقال مالك وأبو حنيفة إذا ذهب المعظم من المنفعة فعلى المتعدي جميع القيمة ويكون لرب الدابة أو السلعة أو العبد ويكون ذلك كله للمتعدي وكأنها معاوضة قهرية وينشأ هنالك فروع تتعارض فيها الأدلة فحكم مالك فيها للمالك بالتخيير وقد بينا في مسائل الخلاف هذه المآخذ والأقوى عندي فيها مذهب الشافعي. تتميم: قال علماؤنا رحمة الله عليهم إذا غصب الفرج وجبت عليه قيمته لأن ما ضمن بالثمن في الصحيح من العقود وبالمثل في الفاسد ضمن في الإتلاف أصله الأعيان ولا تستمر لنا هذه المسألة مع أبي حنيفة وأهل الكوفة إلا بعد القول بأن منافع الرقاب مضمونة بالإتلاف وفيها خمسة أقوال والصحيح منها أن المنافع مال وأنها مضمونة سواء تلفت تحت اليد العادية أو أتلفها المتعدي قال أبو حنيفة منافع البضع لا تتقوم وليس المهر في النكاح بمثل لها قلنا لو كان هذا صحيحاً لما ضمنت بالمثل في الفاسد فإن قيل ذلك لشبهة العقد قلنا إذا ضمنت بالاستيفاء بالشبهة فأولى وأحرى أن تضمن بالإتلاف في التعيين وقد بيناها في مسائل الخلاف فإنها من المطولات وهذه المسألة لا تتصور إلا بأحد ثلاثة أوجه: الوجه الأول: إن ثبت الزنا غصباً فيرجم ويغرم أو يجلد ويغرم. الوجه الثانى: إن ثبت ذلك بالإقرار وهذان متفق عليهما بين العلماء. الوجه الثالث: انفرد به مالك وهو أن يشهد به شاهدان أنه احتملها قسراً حتى أدخلها داره ثم خرجت فقالت وطئني قال العلماء تؤدب أدباً عظيماً وتحد هي حد القذف وتحد في تفسها حد الزنا كيف ما كانت صفتها وقال مالك تصدق مع يمينها ويغرم المهر وهذا ينبني على قاعدة المصلحة فإنه لا يصح إن يدخل الدار قسراً ثم يظهر بها حمل فترجم أبداً ولا بد أن تقول إنه من فلان وقد ظهر في الحال ما شهد لها وقد أوجب ذلك على نفسه تصديقها فيما يكون من حقوقها ومن حقوقها المهر وليس يكون المدعي بأضعف من احتمال المرأة قسراً إلى الدار فإن لم تقم على ذلك بيِّنة فقد زاد مالك وأصحابه إذا جاءت به متعلقة وهو رجل صالح وهي لا تدمى عليها الحد فإن كانت تدمى وهو رجل صالح "لا حد عليها في الصحيح عندي وإن كان متهماً وهي تدمى أو لا تدمى ففي ذلك تفصيل كثير أصحه أنها إن

القضاء فيمن ارتد عن الإسلام

كانت تدمى فعليه الصداق والعقوبة" (¬1) وإن كانت لا تدمى فليس ينبغي أن يكون عليه الصداق والعقوية إلا على الحالة الأولى القضاء فيمن ارتد عن الإسلام ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من بدل دينه فاقتلوه) (¬2) من كل طريق وهذا عام في كل مبدل لقوله من وهي من ألفاظ العموم وقد شهدت القاعدة له بالاستمرار على الشمول فلذلك قلنا إن المرأة إذا ارتدت تقتل وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تقتل لأن عاصمها معها وهو الأنوثة ألا ترى أنها لم تكن تقتل في الكفر الأصلي فكذلك في الطارىء قلنا قد حققنا هذه المسألة في التلخيص وغيره وبيّنا أن عاصمها ليس الأنوثة وإنما عاصمها في الأصل أنها مال يسترق وقد بطل ذلك بالردة (¬3) فإن قيل هذا الحديث لا حجة فيه لأنه راويه ابن عباس وكان يفتي بأن المرأة لا تقتل (¬4) والراوي إذا أفتى بخلاف ما روى سقطت روايته (¬5) قلنا هذا سؤال فاسد لأنهم بنوه على مذهبهم وعندنا أن الراوي في مخالفته روايته كسائر الناس وهي مسألة أصولية بيانها في موضعها وقد أوضحناها في كتب الخلاف وبيّنا أنهم قد نقضوا هذا الأصل وأخذوا بمسائل افتى فيها الراوي بخلاف ما روى فلتطلب هنالك وتعلق الشافعي بعموم هذا الحديث فيمن خرج عن دين اليهودية إلى دين النصرانية فقال إنه يقتل أخذاً بعموم ¬

_ (¬1) سقط هذا النص من ت وج. (¬2) وراة البخاري في الصحيح في كتاب استتابة المرتد من باب حكم المرتد 9/ 19 من طريق عكرمة قال: أتي على رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال: "لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بدل دينه فاقتلوه". ومن طريق البخاري رواه البغوي في شرح السنة 10/ 238، وأبو داود (4351)، والترمذي (1458) وقال: صحيح حسن وابن ماجه (2535). (¬3) قال الحافظ استدل به على قتل المرتدة كالمرتد وخصه الحنفية بالذكر وتمسكوا بحديث النهى عن قتل النساء وحمل الجمهور النهى على الكافرة الأصلية إذا لم تباشر القتال ولا القتل لقوله في بعض طرق حديث النهي عن قتل النساء لما رأى المرأة مقتولة ما كانت هذه لتقاتل ثم نهي عن قتل النساء واحتجوا أيضاً بأن الشرطية لا تعم المؤنث وتعقب بأن ابن عباس راوي الخبر قال تقتل المرتدة. فتح الباري 12/ 272 وانظر المغني 9/ 3، وشرح السنة 10/ 239. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ووكيع عن أبي حنيفة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس. قال: "لا يقتلن النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام ولكن يحبسن ويدعين إلى الإِسلام فيجبرن عليه" المصنف 10/ 139 - 140، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف من طريق الثوري عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس به المصنف 10/ 177. (¬5) انظر تفاصيل المذهب الحنفي في ميزان الأصول في نتائج العقرل ص 444.

القضاء

الحديث (¬1) قلنا إنما معنى الحديث من بدل دينه الحق لم يرد سواه والدليل عليه أنه لو رجع الإنسان من النصرانية إلى الإِسلام لم يقتل وإن كان بدل دينه لأنه بدل دينه الباطل ونحن لم نعاهدهم على صحة دينهم إنما عاهدناهم ألا نعرض لهم ألا ترى أنه لو عاد اليهودي نصطورياً (¬2) لم يعرض له وقد زل بعض علمائنا فيها فوافق الشافعي فيها وليس بشيء فلا يلتفت إليه وهل تجب الاستتابة أم لا؟ اختلف العلماء فيها اختلافاً كثيراً فمنهم من تعلق بمطلق الحديث ومنهم من تعلق بقول عمر (¬3) وإنه ليظهر فيها الاستحباب فأما الإيجاب فيعجز دليله لأن معاذاً وأبا موسى خالفا عمر وسائر الصحابة فمنهم من سكت ومنهم خالف فتنقطع الحجة ولا يبقى إلا ما يظهر من المعنى وهو أنه يستتاب لعله قد ارتد بشبهة فيبين فإن عاد وإلا قتل وهذا الاحتمال إنما يسقط بالاستحباب وليس بقوي (¬4). القضاء فيمن وجد مع امرأته رجلاً هي نازلة عظيمة سأل عنها سعد بن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجابه الجواب المعروف (¬5) قال علماؤنا إذا نازعه في الخروج عن داره فقطع ¬

_ (¬1) انظر مذهبه في فتح الباري 12/ 272 عمدة القاري 14/ 264. (¬2) ناصرة بطبرية ونصرانة بالشام ويقال لها ناصرة وناصورية أيضا ينسب إليها النصارى. ترتيب القاموس 4/ 381. (¬3) مالك عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه أنه قال قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن الناس فأخبره ثم قال عمر: "هل فيكم من مغربة خبر، فقال: نعم رجل كفر بعد إسلامه، قال: فما فعلتم به، قال: قريناه فضربنا عنقه، فقال عمر: أفلا حبستموه ثلاثاً وأطعمتموه كل يوم رغيفاً واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله ثم قال عمر: اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني" الموطأ 2/ 737. والحديث في سنده محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد بغير إضافة القاري بغير همز المدني مقبول من السادسة بخ ت ص 488 ت ت 9/ 263. (¬4) أما مذهب العلماء في الاستتابة فقد قال ابن قدامة لا يقتل حتى يستتاب ثلاثاً هذا قول أكثر أهل العلم منهم عمر وعلي وعطاء والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي ورواية عن أحمد ورواية أخرى أنه لا تجب استتابته لكن تستحب وهذا القول الثاني للشافعي وهو قول عبيد بن عمير وطاوس وروي ذلك عن الحسن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من بدل دينة فاقتلوه) ولم يذكر استتابة. ثم قال إذا ثبت وجوب الاستتابة فمدتها ثلاثة أيام روي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال مالك وإسحاق وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر إن تاب في الحال وإلا قتل مكانه وهو أصح قوليه وهو قول ابن المنذر ... وقال الزهري يدعي ثلاث مرات فإن أبى ضربت عنقه وهذا يشبه قول الشافعي وقال النخعي يستتاب أبداً وهذا يفضي إلى ألا يقتل أبداً وهو قول مخالف للسنة والإجماع وعن علي أنه استتاب رجلاً شهراً. المغني 9/ 5، شرح السنة 10/ 239، فتح الباري 12/ 272. شرح الزرقاني 4/ 16. (¬5) رواه مالك عن سهيل بن أبي صالح السمان عن أبيه عن أبي هريرة أن سعد بن عبادة قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: =

نكتة أصولية

يده كانت هدراً ونص عليه ابن الماجشون فإن نازعه فقتله قال ابن الماجشون يقتل إن كان بكراً وإن كان ثيباً لم يقتل واختلفوا في الدية فقال ابن عبد الحكم لا شيء عليه وقال سائر أصحابنا فيه الدية واختلفوا فقال أصبغ خاصة هي في ماله والصحيح عندي أنه إذا لم يقتل فلا دية له فإنه قتل عمد وليس بقتل خطأ وإنما تكون الدية بقتل الخطأ أما إن مالكاً انفرد بشبهة العمد فتكون هذه المسألة محمولة عليه لأنه قصد الدفع ولم يقصد القتل ولست أرى شبهة العمد وسنبينه في موضعه إن شاء الله. نكتة أصولية قول سعد بن عبادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - أأمهله، قال: نعم، مشكل معضل لأنه يوهم بظاهره ترك الزاني مع الزنا وتمكينه منه وذلك لا يليق بذوي المروءات ولا يجوز على الأنبياء التقرير على المعاصي وهو حديث انفرد به سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة وهي ترجمة لم يدخل البخاري منها شيئاً مع إدخال مالك لها أما إن البخاري ذكر منها في الاستشهاد أحاديث يذكر الحديث من أصله ثم يقول ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فيورده متابعة لا أصلاً وأدخله مسلم أيضاً أصلاً فذكر حديث مالك بلفظه ثم أدخله من طريق عبد العزيز محمد الدراوردي عن سهيل قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله؟ قال سعد: بلى والذي أكرمك بالحق قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (انظروا إلى ما يقول سيدكم) وأدخله أيضاً من طريق سليمان بن بلال عن سهيل به قال فيه لو وجدت مع امرأتي رجلاً لم أمسه حتى آتي بأربعة شهود، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعم، قال: كلا، والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف. قال البرقاني (¬1) لمعالجة بالسيف وقال ¬

_ = (أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم). الموطأ 2/ 737، ورواه مسلم عن زهير بن حرب عن إسحاق بن عيسى عن مالك ورواه سليمان بن بلال عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة وزاد قال كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير مني) مسلم في كتاب اللعان (1498) 14/ 15/ 16. (¬1) البرقاني هو أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي المعروف بالبرقاني أبو بكر عالم بالقرآن والحديث والفقه والنحو ولد سنة 336 وورد بغداد وخرج إلى جرجان وكتب بنيسابور وبهراة ومرو، توفي في أول رجب سنة 325هـ صنف التصانيف وخرج على الصحيحين وصنف مسنداً ضمنه ما اشتمل عليه صحيح =

الجوزقاني (¬1): لأعالجه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (انظروا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير منا) وهذه المراجعة من سعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن على معنى الرد وإنما رجا بها التثبت في المراجعة وطلب المخرج لعل الله أن يفتح فيه فكان سؤالًا مكرراً لا رداً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بآياته كما روي عن هلال بن أمية في حديثه الذي منه أنه قال لرسول الله الرجل يجد مع امرأته رجلاً إن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفرج والفتح فهذا وجه كلام سعد فأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - نعم وهو أشكل وأعظم فإنه بيان لشرع وإيضاح لحكم وذلك أن لكلام سعد الذي أجاب عنه بنعم جواب محذوف تقديره أأمهله حتى آتي بأربعة شهود أم أقتله فأقتل فكانت نازلة تقابل فيها حكمان أحدهما أن يمهل الرجل من ضره في أهله أو يدفع الضرر بتلف نفسه بأحد وجهين إما أن يقتله المضار وإما أن يقتل هو المضار فيقتل به فعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الترجيح وقال له إن الأرفق بكم والأولى أن يحتمل في الأهل الأذى ولا يؤثر الفرج على النفس فإنها فوقه فاختار سعد تقديم الفرج على النفس فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - متعجباً: (انظروا إلى ما يقول سيدكم) معناه أنه لعظيم الغيرة اختار احتمال الأشد من الضررين وليس ذلك بممتنع إذا كثرت الغيرة وغيرة الله كفه (¬2) الخلق بقدرته لمن عصم عن الفواحش خصوصاً وبأمره ونهيه لكافة الخلق عموماً فعبّر عن الشيء بمقدمته ووصف بذلك نفسه تشريفاً للصفة وتعظيماً للحال وبعد أن انتهى القول إلى هذا المقام فلفظاعة النازلة ما اختلف الصحابة فيها فقال عمر دمه هدر (¬3) لأنها حالة لا صبر فيها وقال علي عليه السلام عليه القود وقال محمد بن عبد الحكم ان كان معروفاً ¬

_ = البخاري ومسلم. معجم المؤلفين 2/ 74، سير أعلام النبلاء 11/ 102، الوافي بالوفيات 6/ 129، طبقات الشافعية للأسنوي 2/ 41، اللباب 1/ 140. (¬1) الحسين بن إبراهيم بن الحسين بن جعفر الهمذاني الجوزقاني أبو عبد الله محدث حافظ توفي في 16 رجب سنة (543 هـ) من آثاره كتاب الأباطيل، معجم المؤلفين 3/ 306. (¬2) هذه الصفة ثبتت لله تعالى فيجب الإيمان بها على مراده سبحانه وتعالى دون تأويل. (¬3) روى عبد الرزاق عن الثوري عن مغيرة بن النعمان عن هانىء بن حزام "أن رجلا وجد مع امرأته رجلاً فقتلهما فكتب عمر بكتاب في العلانية أن أقيدوه وكتاباً في السر أن أعطوه الدية"، المصنف 9/ 435. قال الحافظ إسناده صحيح ونقل عن ابن المنذر قوله جاءت الأخبار عن عمر في ذلك مختلفة وعامة أسانيدها منقطعة وقد ثبت عن علي أنه سئل عن رجل قتل رجلاً وجده مع امرأته فقال: إن لم يأت بأربعة شهداء وإلا فليعط برمته قال الشافعي وبهذا نأخذ ولا نعلم لعلي مخالفاً في ذلك. فتح الباري 12/ 174.

القضاء في المنبوذ

بالتشكي منه فدمه هدر وقال كما قدمنا عن علمائنا بأن عليه الدية في البكر الذي لا يستوجب القتل وهذا القتل ليس مقصوداً وإنما هو مدافعة أو اقتصاص وكأنه يشبها الغيلة فإن الرجل إذا أخذ نفس الرجل غيلة أو ماله استوجب القتل وكذلك إذا أخذ أهله غيلة كان أولى وأحرى أن يستوجب القتل ولا تراعى الثيوبة ولا البكارة ولهذا قال ابن القاسم إن دمه هدر وذلك والله أعلم من اختلاف العلماء قديماً وحديثاً إنما هو إذا قامت بينة على دخوله إلى داره وقتله فيها وأنا على شك من اشتراط القتل فيها فأدخل مالك حديث علي وهو الأصل والأشد فإذا ارتفعت البينة فقول مالك والله أعلم ما رواه عنه أصحابه (¬1). القضاء في المنبوذ (¬2) أدخل مالك حديث سُنين (¬3) ثم عقبه بأن قال الأمر عندنا أنه حر وإن ولاءه للمسلمين وقد روي عن مالك في ذلك روايتان: إحداهما قال أشهب إنما اتهمه عمر لأنه خشي أنه ولده جاء به ليفرض له من بيت المال وهذا الكلام عندي قاصر جداً لأن عمر كان في أصح قوليه وآخرها إذا ولد للرجل مولود فرض له من تلك الليلة فالرواية خطأ لا شك فيها وصوابه أن يقال اتهمه أن يكون جاء ¬

_ (¬1) مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن رجلاً من أهل الشام يقال له ابن خيبري وجد مع امرأته رجلاً فقتله أو قتلهما معاً فأشكل على معاوية بن أبي سفيان القضاء فيه فكتب إلى أبي موسي يسأل له علي بن أبي طالب عن ذلك فسأل أبو موسي عن ذلك علي بن أبي طالب فقال له علي: إن هذا الشيء ما هو بأرضى عزمت عليك لتخبرنى، فقال له أبو موسى: كتب إلي معاوية بن أبي سفيان أن أسألك عن ذلك فقال على: أنا أبو حسن إن لم يأت بأربعة فليعط برمته. الموطأ 2/ 737 ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج والثوري قالا أخبرنا يحيى بن سعيد قال سمعت سعيد بن المسيب يقول ... المصنف 9/ 433، ورواه البيهقي في السنن الكبرى 8/ 337. (¬2) الموطأ 2/ 738. (¬3) سنين أبو جميلة بفتح الجيم السلمي يقال اسم أبيه فرقد صحابي صغير له في البخاري حديث واحد. ت ص 257ت ت 4/ 245. ولفظ حديثه مالك عن ابن شهاب أن سُنين أبي جميلة رجل من بني سليم أنه وجد منبوذاً في زمان عمر بن الخطاب قال فجئت به إلى عمر بن الخطاب فقال: "ما حملك على أخذ هذه النسمة فقال وجدتها ضائعة فأخذتها فقال له عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح فقال له عمر: أكذلك؟ قال: نعم، فقال عمر بن الخطاب: إذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته". قال يحيى سمعت مالكا يقول: الأمر عندنا في المنبوذ أنه حر وأن ولاءه للمسلمين هم يرثونه ويعقلون عنه الموطأ 2/ 738 والأثر صحيح فقد صححه الباجي في المنتقي 6/ 5.

به وليس بولده ليفرض له من بيت المال فيتولى هو الإنفاق عليه فيرتفق بذلك وفي مثل هذا نزلت {وأن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح} (¬1). والرواية الثانية قال مالك لو علمت أن عمر قاله لقلت إن ولاءه له. قال بعض الناس كيف وجه هذا الكلام من مالك يرويه ثم يشك فيه؟ قلنا قد قدمنا في كتاب النكاح الجواب على نحو هذا في قوله (حبلك على غاربك) والذي يخص هذا الموضع أن قوله ولك ولاؤه يحتمل (¬2) أنه يريد به ولاية النسب التي العتق لحمة منها وكان الحلف في صدر الإِسلام سبباً من أسبابها (¬3) ويحتمل أنه يريد به ولاية الكفاله فلما احتمل اللفظ المعنيين وقيل لمالك أيرثه قال لا قيل له فقد قال عمر ولك ولاؤه فقال لو علمت أنه قاله لقلت به (¬4) يعني بقوله فإنه أراد المعنى الذي أردتم وهذا بين نفيس وأن القول هو المعنى القائم بالنفس على وفق العلم ومقتضى الإرادة وأما قول عمر هو حر (¬5) فلا خلاف عليه لأن الأصل في الخلق الحرية حتى يثبت الرق والفقر حتى يثبت الغنى ولثبوته طرق منها بلوغ السعي والجهل حتى يقع العلم وهذا مشاهد والإِسلام بعد عموم الدعوة حتى يثبت الكفر وقد بينا هذه القواعد في كتب المسائل وبنينا عليها فروعها ولهذا قال أشهب إذا التقطه مسلم كان مسلماً على أي حال وقع الالتقاط وقال غيره المعول على الدار وإن كانت دار كفر فهو كافر وإن كانت دار اسلام فهو مسلم وهذا لأنه عارض الأصل ظاهر فرجح أشهب الأصل ورجح أصحابنا الظاهر لكن لابن القاسم لا أشهب وغلبه على نفسه بأن قال لو كان في القرية مسلمان أو ثلاثة كان الولد مسلماً فغلب الإسلام (¬6). ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (220). (¬2) في ج محتمل. (¬3) ورد في صحيح البخاري من حديث جبير بن مطعم عن ابن عباس {ولكل جعلنا موالي ... والذين عقدت أيمانكم} قال كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخي النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم فلما نزلت {ولكل جعلنا موالي} قال نسختها {والذين عقدت أيمانكم} البخاري في كتاب الفرائض باب ذوي الأرحام 8/ 190 - 191. (¬4) نقله الباجي فقال: قال ابن المواز قال مالك: ولو أعلم أن عمر قال في المنبوذ ما ذكر ما خولف قال الباجي يريد والله أعلم أن يجعل الولاء لملتقطه، المنتقى 6/ 3. (¬5) قال الباجي قوله هو حر على وجه الإخبار له بحكمه وأن اللقيط حر وفي كتاب ابن المواز إن اللقيط حر وإن التقطه عبد أو نصرانى ووجه ذلك أنه لا يتيقن في سبب من أسباب الاسترقاق، المنتقى 6/ 3. (¬6) انظر تفاصيل هذه الأقوال في المنتقى 6/ 3.

القضاء في إلحاق الولد بأبيه

القضاء في إلحاق الولد بأبيه ذكر مالك حديث عائشة في شأن عتبة وزمعة إلى قوله حتى لقي الله (¬1) وهو حديث عظيم وأصل في الشريعة قوي فائدته بياني النسب الذي جعله الله حكمة للخلق للتعارف ثم للتعاضد وأصله البعضية ولكنها لما كانت خفية نصب الله عليها للخلق علماً ظاهراً وهو الفراش على سنته في حكمته ولطفه بخليقته في وضع الأشياء الظاهرة علماً على المعاني الخفية التي تفرد بالإطلاع عليها دوننا وقد قدمنا لكم منها نظائركالحيض في براءة الرحم وصورة السفر في تحقيق المشقة التي رتب الله عليها الرخصة في القصر والفطر وخذوا مقدمة في صفة القضاء وصورة تناول القاضي للأحكام إذا حضر رجل عند القاضي وقال أنا وصي فلان وله حق عند هذا الإنسان أمر بإخراجه حتى يثبت العهد ولا يكلمه عن ميت حتى يثبت عهده عنده ولا عن حاضر حتى يثبت وكالة له ويثبت الوصي أو من طلب عن ميت موته وعدة ورثته فإن أثبت الموت دون الوراثة أو الوراثة دون الموت أمر القاضي بإخراجه حتى يثبت طريقه التي (¬2) يسلك عليها إلى طلب حقه عنده عليها قال سعد "هذا ابن أخي عهد إلى فيه وقال الآخر هذا أخي وابن وليدة أبي" فيبدو للناقلين بظاهر هذا الكلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلتفت إلى هذه الأصول وهي غفلة عظيمة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما سكت عنها لأحد وجهين: إما لأنه كان علمها وقضى بعلمه فيها على قول كثير من العلماء في قضاء القاضي بعلمه وإما أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت ذلك عنده ولم تذكر عائشة من الحديث إلا فصوصه التي يحتاج إليها من صفة الدعوى وصورة القضاء دون شروطه التي لا يتم إلا بها وليست الأحكام مأخوذة من حديث واحد ولا الشروط ثابتة من طريق واحد بل بلفظ من الأدلة حتى تجمع للمجتهدين فتوضحها للطالبين (¬3) إذا ثبت هذا فإن سعداً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له إن ابن وليدة زمعة ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 739 عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك قالت فلما كان عام الفتح أخذه سعد وقال ابن أخي قد كان عهد إلي فيه فقام عبد بن زمعة فقال أخى وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال سعد: يا رسول الله ابن أخى قد كان عهد إلي فيه وقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبى ولد على فراشه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هو لك يا عبد بن زمعة) ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش وللعاهر الحجر ...) ورواه البخاري في كتاب البيوع باب تفسير المشبهات 3/ 70، ومسلم في كتاب الرضاع باب الولد للفراش (1457). (¬2) في ج الذي. (¬3) في ت وج وك الضالين.

عارضة

ابن أخي عتبة عهد إلي فيه فادعاه سعد عن أخيه لنسب في الجاهلية فأثبته النبي - صلى الله عليه وسلم - بنسب في الإسلام وهو الفراش والسبب الذي ادعاه به عتبة في الجاهلية كان زنا وكانت الجأهلية تثبت أنسابها بالزنا كما تثبتها بالنكاح على ما مهدناه في حديث عائشة في صفة نكاح الجاهلية الأربع التي تقدم ذكر الحديث عنها بما في كتاب النكاح ولذلك كان عمر بن الخطاب يليط أولاد الجاهدية بالدعوى في الإِسلام هذا إذا لم يكن معارض (¬1) فإن كان معارض فذلك مذكور في المسائل وقد قال بذلك علماؤنا ونصوا على أنفسهم وعن مالك أن من التاط في الإِسلام ولد من زنا في الجاهلية لاذ به وثبت نسبه معه رواه ابن القاسم وابن كنانة وغيرهما. عارضة: ألحق معاوية زياداً (¬2) وأخذ الناس عليه في ذلك وأي أخذ عليه فيه إن كان سمع ذلك من أبيه وأي عار على أبي سفيان في أن يليط (¬3) بنفسه ولد زنا كان في الجاهلية فمعلوم أن سمية لم تكن لأبي سفيان كما لم تكن وليدة زمعة لعتبة لكن كان لعتبة منازع تعين القضاء له ولم يكن لمعاوية منازع في زياد اللهم إلا أن ههنا نكتة اختلف العلماء فيها وهي أن الأخ إذا استلحق أخاً يقول هو ابن أبي ولم يكن له منازع فإن كان وحده فقال مالك يرث ولا يثبت النسب في جماعة وقال الشافعي في آخرين يثبت النسب (ويأخذ المال إذا كان المقر به غير معروف النسب) (¬4) واحتج الشافعي بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش فقضى بكونه للفراش وإثبات نسبه قلنا هذا جهل عظيم وذلك أن قوله إن ¬

_ (¬1) ورد ذلك في الموطأ 2/ 740 عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام .. وهذا الأثر منقطع لأن سليمان بن يسار لم يدرك عمر بن الخطاب فقد مات عمر رضي الله عنه سنة (23) كما قال الحافظ في ت ت 7/ 441 وحكي عن ابن حبان أن سليمان بن يسار ولد سنة (24) ت ت 4/ 229 وقد نقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة قوله سليمان بن يسار عن عمر مرسل. المراسيل لابن أبي حاتم ص 82. (¬2) هو زياد بن أبيه الأمير لا تعرف له صحبة مع أنه ولد عام الهجر قال ابن حبان في الضعفاء ظاهر أحواله المعصية وقد أجمع أهل العلم على ترك الاحتجاج بمن كان كذلك قال ابن عسكر لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأسلم في عهد أبي بكر وولي العراق لمعاوية روى عنه ابن سيرين وعبد الملك بن عمير وجماعة ... هو زياد بن سمية ويقال له زياد بن عبيد فلما استلحقه معاوية وزعم أنه أخوه قيل زياد بن أبي سفيان. ميزان الاعتدال 2/ 86، لسان الميزان 2/ 493، الطبري 6/ 162، تهذيب ابن عساكر 4/ 406، ابن الأثير 3/ 165. (¬3) أي يلحق قال الباجى كان يلحقهم بهم وينسبهم اليهم وإن كانوا لزنية المنتقى 5/ 11. (¬4) زيادة من ك وم.

النبي - صلى الله عليه وسلم - قضي بكونه للفراش صحيح وأما قوله بثبوت النسب فباطل لأن عبدا ادعى شيئين أحدهما الأخوة والثاني في ولادة الفراش فلو قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أخوك الولد للفراش لكان إثباتاً للحكم ونفياً للعلة بيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدل عن الأخوة ولم يتعرض لها وأعرض عن النسب ولم يصرح به وإنما قال هو لك معناه فأنت أعلم به وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف والحارث بن كلدة (¬1) لم يدع زياداً ولا كان إليه منسوباً وإنما كان ابن أمته ولد على فراشه أي في داره وكل من ادعاه فهو له إلا أن يعارضه من هو أولى به منه فلم يكن على معاوية في ذلك مغمز بل فعل فيه الحق على مذهب مالك فإن قيل فلم أنكر عليه الصحابة قلنا لأنها مسألة اجتهاد فمن رأى أن النسب لا يلحق بالوارث الواحد أنكر ذلك وعظمه فإن قيل ولم لعنوه وكانوا يحتجون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ملعون من انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه) (¬2) قلنا إنما لعنه من لعنه لوجهين أحدهما أنه أثبت نسبه من هذا الطريق ومن لم ير لعنه لهذا لعنه لغيره وكان زياد أهلًا أن يلعن عندهم لما أحدث بعد استلحاق معاوية فإن قيل قد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للزنا حرمة ورتب عليه حكماً حين قال: (واحتجبي منه يا سودة) وهذا يدل على أن الزنا يتعلق به من حرمة الوطء ما يتعلق بالنكاح الصحيح هكذا قال الكوفيون ومالك في رواية ابن القاسم يساعدهم على المسألة ولا يساعدهم على دليلها من هذا الوجه وقد بيناها في كتاب النكاح وقال الشافعي العذر في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لسودة بالاحتجاب مع ثبوت نسبه من زمعة وصحة أخوته له بدعوى (¬3) أن ذلك تعظيم لحرمة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهن لم يكنّ كأحد من النساء في شرفهن وفضلهن قلنا لوكان أخاها بنسب ثابت صحيح كما قلتم ويكون قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الولد للفراش تحقيقاً للنسب لما منع - صلى الله عليه وسلم - سودة منه ¬

_ (¬1) الحارث بن كلدة الثقفى طبيب العرب في عصره وأحد الحكماء المشهورين من أهل الطائف رحل إلى بلاد فارس رحلتين فأخذ الطب عن أهلها. مولده قبل الإِسلام ولقي أيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأيام أبي بكر وعمر وعثمان وعلى ومعاوية واختلفوا في إسلامه وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر من به علة أن يأتيه فيتطب عنده. الأعلام 2/ 159. (¬2) رواه أبو داود (3565) والترمذي في الوصايا (2120) وقال حسن صحيح وابن ماجه (2713) والبيهقي 6/ 264، والطيالسي (1127)، وأحمد في السند 5/ 267 من طريق إسماعيل بن عياش ثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني عن أبي أمامة. وحسنه الحافظ في التلخيص 3/ 92 ونقل المبارك فورى عنه قوله في الفتح في إسناده إسماعيل بن عياش وقد قوي حديثه إذ روى عن الشاميين جماعة من الأئمة منهم أحمد والبخارى وهذا من وراته عن الشاميين لأنه رواه عن شرحبيل بن مسلم وهو شامي ثقة وصرح في روايته بالتحديث تحفة الأحوذي 6/ 312، وصححه الشيخ ناصر في الإرواء 6/ 87، وفي صحيح ابن ماجه (2193). (¬3) في ت وك بعد هذا عبارة ليست واضحة وفي ج غير أن ذلك.

كما لم يمنع عائشة من الرجل الذي قالت هو أخي من الرضاع وإنما قال انظرن من إخوانكن فإن قيل فقد قالت عائشة رضوان الله عليها وقال لسودة احتجبي لما رأى من شبهه بعتبة فعللت بشبهه لعتبة الذي يوجب أنه أجنبي من زمعة. الجواب هذا قول من عائشة وإخبار عن ظنها لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك روي في الحديث أن عبد بن زمعة قال هو أخي وقال سعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو ابن أخي عتبة انظر إلى شبهه به فلم يلتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك من قول سعد ألا ترى إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة هلال بن أمية حين قال انظروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الإليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن السمحاء فجاءت به على النعت المكروه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن وفي رواية لرجمتها فاعتبر الشبه في بيان تصديق الدعوى ولم يعتبره في إنفاذ الحكم وفائدة الترجمة التي بوب عليها مالك في قوله "إلحاق الولد بأبيه" (¬1) أنه بين إلحاقه به بالفراش في حديث زمعة وإلحاقه به في الدعوى في الإِسلام لأولاد الجاهلية في حديث عمر لكن صفة الفراش الذي قضى فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالولد مأخوذة من أدلة سواه والمرأة تصير بعقد النكاح فراشاً (والأمة تصير بالولادة فراشاً) (¬2) لا خلاف فيه واختلف هل تكون بالوطء فراشاً أم لا وقد مهدنا ذلك في مسائل الخلاف ومن أسباب إلحاق الولد القول بالقافة والأصل في ذلك حديث مجزز (¬3) المدلجي رواه الأئمة ولم يدخله (مالك. دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري أن مجززاً المدلجي نظر الآن إلى أسامة وزيد وهما في قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض) (¬4) وجه الدليل في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سرّ بقول القائف في إثبات نسب أسامة وزيد بشبه الإقدام في التقدير والهيئة وإن اختلفا في اللون فإن زيداً كان أبيض وأسامة أسود (¬5) والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يسر بالباطل على ما قررناه في أصول الفقه لكن قال علماؤنا إنما يكون الحكم بالقافة في الإماء واختلف قول مالك في ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 739. (¬2) زيادة من ت وج وك وم. (¬3) مجزز بن الأعور بن جعدة الكناني المدلجي القائف روى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله في هذه الأقدام بعضها من بعض، تجريد أسماء الصحابة للذهبي 2/ 52. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في الفرائض باب القائف 8/ 195، ومسلم في الرضاع باب العمل بإلحاق القائف الولد (1459). (¬5) قال أبو داود وسمعت أحمد بن صالح يقول كان أسامة أسود شديد السواد مثل القار وكان زيد أبيض مثل القطن. سنن أبي داود 2/ 700.

تابعة

الحرائر ومشهور قوله إنه لا يحكم بالقافة فيها وحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان في الحرائر ولم يكن في الإماء فلا وجه لغير هذا واختلف العلماء في ثبوت النسب بالقافة هل يكون لواحد أو لاثنين فمذهب مالك أنه يكون للرجل أبوان قال أبو يوسف نعم وأمان (¬1) فأما قول أبي يوسف هذا فما رأيت له في أثناء الطلب دليلاً أحكيه لأن المشاهدة تبطله وتنفيه وأما الأبوان فلا إشكال في أنه ممكن وقد تبين في حديث عمر وجه امتزاج المائين وإذا اضطررنا إلى القافة وتعارض الشبه وألحقناه بهما فمن علمائنا من قال يقال لهما انظرا إلى أغلب الشبه يقال له فإن استويا فماذا يكون الحكم وقد قال ابن القاسم وغيره من العلماء إذا ألحق القافة الولد بهما كان ابناً لهما قال بعضهم يوالي من شاء قال ابن القاسم وغيره يكون ابناً لهما ولا يكون له الاختيار وقد روي عن مالك أنه قال إن القافة لا تكون في بغايا الجاهلية وإنما تكون في أولاد الرشدة وهذا خلاف حديث عمر الذي أدخل والصحيح أنها تجري فيهم لأنه إذا جاز استلحاقهم بالدعوى فكل نسب يلحق الدعوى والفراش تدخله القافة. تابعة: ختم مالك الباب بحديث عمر وعثمان في الغارة من نفسها بالحرية (¬2) وهي أمة حتى ولد منها إن الولد يلحق أباه في الحرية كما لحقه في النسب ولا يكون رقيقاً كما قال بعضهم فإن الولد انعقد في بطن الزوجة منسوباً إلى الزوج بحق مثبتاً في بطن المرأة على باطل فلم ينعقد بصفتها في الأمومة وإنما انعقد بصفة الوالد في الحرية لأن الأحكام لا تبنى على الباطل وإنما تبنى على الأسباب الخفية فلقد سقط فيها أبو ثور حين قال إنهم يكونون عبيداً لسيد الأمة ولا قيمة فيهم (¬3) واختلف علماؤنا متى يغرم الأب القيمة فالأكثر أنه ¬

_ (¬1) قال الخطابي وممن أثبت الحكم بالقافة عمر بن الخطاب وابن عباس وعطاء ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وعامة أهل الحديث وقال أهل الرأي في الولد المشكل يدعيه اثنان يقضى به لهما وأبطلوا الحكم بالقافة واختلفت أقاويلهم في ذلك فقال أبو حنيفة يلحق الولد برجلين وكذلك بامرأتين وقال أبو يوسف يلحق برجلين ولا يلحق بامرأتين وقال محمد يلحق بالآباء وإن كثروا ولا يلحق إلا بأم واحدة. تهذيب السنن 3/ 175. (¬2) مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب أو عثمان بن عفان قضي أحدهما في امرأة غرت رجلاً بنفسها وذكرت أنها حرة فتزوجها فولدت له أولاداً فقضى أن يفدى ولده بمثلهم. الموطأ 2/ 741 قلت: وهذا إسناد منقطع قال الزرقاني قال أبو عمر قد روي ذلك عن عمر وعثمان جميعاً وولد المغرور حر عند الجمهور وقال أبو ثور وداود رقيق ولا قيمة فيهم على أحد قال الطحاوي وهو القياس لكنهم تركوه لاتفاق الصحابة على أنهم أحرار وعلى الأب قيمتهم. أبو عمر لا دخل للقياس فيما خالف السلف فاتباعهم خير من الابتداع. شرح الزرقانى 4/ 26. (¬3) تقدم نقل الزرقاني لذلك ونقله الباجى 6/ 15.

القضاء في أمهات الأولاد

يغرمها يوم الحكم وقيل يوم الولادة وقال ابن المواز لو كان يوم الولادة لأن حينئذٍ وقع الفوت ووجب عليه البذل لكان عليه البذل وإن ماتوا قبل الحكم فلما كان موتهم لا يوجب فيهم شيئاً دل على أن البذل إنما يعتبر يوم الحكم وحينئذ يجب (¬1). القضاء في أمهات الأولاد (¬2) هذه كلمة مخصوصة بالأماء إذا ولدن يقال زوجة أم ولد وأمة فتكون الأمة أمة حتى تلد فإذا ولدت صارت أم ولد (¬3) بل تكون أم ولد بالحمل إجماعاً واختلفوا في الحمل الذي تكون به أم ولد فقال مالك تكون أم ولد بالعلقة فما فوقها (¬4) وقال الأوزاعي (¬5) تكون أم ولد بالمضغة وقال الشافعي تكون أم ولد بالعين والظفر وقال قوم إنما (¬6) تكون أم ولد بخلقة الآدمي قال مالك في أثناء كلامه وعند سرد قوله وما يرى النساء إنه ولد (¬7) والأصل في ذلك قوله تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث} إلى قوله {ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة} (¬8) فلم يجعل لها خلقاً إلا بعد المضغة وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قال: (يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوماً نطفة وأربعين علقة وأربعين مضغة فإذا أراد الله خلقها كان) (¬9) وذكر الحديث فلم يجعل للخلق رتبة إلا بعد كونه مضغة ولا يكون ولداً إلا بعد كونه خلقاً ولا تكون هي أم ولد حتى يكون الولد فهذا هو الأسلوب ¬

_ (¬1) قال ابن المواز قد أخطأ من قال القيمة يوم الولادة ولو كان ذلك لكان عليه ذلك وإن مات الولد، المنتقى 6/ 16. (¬2) الموطأ 2/ 742. (¬3) في ت وك فإذا ولدت صارت أم ولد بالحمل إجماعاً. (¬4) انظر المنتقى 6/ 21. (¬5) حكى ابن المنذر أنه أيضاً مذهب حماد بن سليمان بالإضافة إلى الأوزاعي الإشراف ص 378. (¬6) وقال الشافعي إذا كان السقط قد بان له شيء من خلق بني آدم عين أو ظفر أو إصبع أو غير ذلك وبه قال أحمد وأصحاب الرأي. الإشراف ص377. (¬7) هذه رواية ابن القاسم انظر المنتقى 6/ 21، الكافي 2/ 978. (¬8) سورة الحج آية (5). (¬9) متفق عليه أخرجه البخاري في القدر 8/ 152، ومسلم في أول القدر (2643) من حديث عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقة وأجله وعمله وشقي أو سعيد ...).

المهيع (¬1) وإذا أسقطت المرأة دماً مجتمعاً منعقداً متماسكاً أو متناثراً فإنه يحتمل أن يكون تركيب خلقة ويحتمل أن يكون عقدة تجمعت من خلط ولا يقضي أحد على يقين ثابت بمشكوك فيه في إبطال حق ولا إثباته فإذا ثبت أنها تكون أم ولد فأجمعت الأمة على أن بيعها لا يجوز من لدن علي بن أبي طالب إلى زمان داود الأصبهاني (¬2) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه على المنبر فيما يروون عنه: كنت أرى رأي أبي بكر وعمر في أن أم الولد لا تباع ثم ظهر لي أن بيعها جائز فقال لي عبيدة السلماني رأيك والله يا أمير المؤمنين مع أبي بكر وعمر أحب إلينا من رأيك وحدك (¬3) ثم ثبت أن علياً رضي الله عنه رجع عن ذلك (¬4) واستقر الأمر بين المسلمين عليه إلى الوقت الذي ذكرنا وتعلقوا في ذلك بحديث جابر رواه أبو داود وغيره قال جابر: كنا نبيع سرارينا وأمهات أولادنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ثم نهانا عمر. وهذا حديث ضعيف لا يلتفت إليه (¬5) واجتمع أبو العباس بن سريج (¬6) مع ¬

_ (¬1) يقال طريق مهيع أي ممهد. ترتيب القاموس 4/ 554. (¬2) نقله ابن رشد في البداية 2/ 393، وابن قدامة في المغني 9/ 531. (¬3) أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني قال سمعت علياً يقول: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن. قال ثم رأيت بعد أن يبعن. قال عبيدة فقلت له فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة أو قال في الفتنة قال فضحك علي. المصنف 7/ 291. ورواه البيهقي من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين به. السنن الكبرى 10/ 348 قال الحافظ في التلخيص 4/ 219، وهذا إسناده معدود في أصح الأسانيد يقصد إسناد عبد الرزاق السابق. (¬4) قال الحافظ أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح التلخيص 4/ 219. وقال البغودي وروي عن محمد بن سيرين قال: قال لي عبيدة بعث إلي علي وإلى شريح يقول إني أبغض الاختلاف فاقضوا كما كنتم تقضون يعني في أم الولد حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات صاحباي فهذا يدل على أنه وافق الجماعة على أنها لا تباع واختلاف الصحابة إذا ختم بالاتفاق وانقرض العصر عليه كان إجماعاً. شرح السنة 9/ 270، ورواه وكيع في أخبار القضاة 2/ 399. (¬5) رواه أبو داود (3954) وابن حبان (1216) والحاكم في المستدرك 2/ 18 - 19 والبيهقي 10/ 347 من طريق حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عنه وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وكذا صححه ابن حبان ونقل الحافظ عن البيهقي قوله ليس في شيء من الطرق أنه (أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) اطلع على ذلك وأقرهم عليه - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: قلت: نعم، قد روى ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق أبي سلمة عن جابر ما يدل على ذلك قال الخطابي يحتمل أن يكون بيع الأمهات كان مباحاً ثم نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته ولم يشتهر ذلك النهي فلما بلغ عمر نهاهم. التلخيص 4/ 218. (¬6) ابن سريج هو القاضي أبو العباس أحمد بن سريج بالسين المهملة والجيم مصغراً البغدادي شيخ الشافعية في عصره وعنه انتشر فقه الشافعي في الآفاق قال الشيخ أبو إسحاق كان يفضل على جميع أصحاب الشافعي حتى =

أبي بكر بن أبي داود فاحتج أبو بكر بن أبي داود (¬1) على أن أم الولد لا تباع قال اجتمعنا على أنها إذا كانت أمة تباع فمن ادعى أن هذا الحكم يزول بولادتها فعليه الدليل قال أبو العباس بن سريج له اجتمعنا على أنها إذا كانت حاملاً لا تباع فمن ادعى أنها تباع إذا انفصل الحمل فعليه الدليل فبهت أبو بكر (¬2) بيد أن علماءنا أشاروا في إثبات هذا الحكم بمنازع من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها صحيحة منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ذكر أشراط الساعة فقال: (وأن تلد الأمة رتبتها) (¬3) وفي رواية بعلها (¬4) والبعل هو السيد في لغة العرب ومعنى كونه سيداً لها أنها استفادت الحرية بسببه لا يصح أن يكون له معنى سواه. الثاني حديث أبي سعيد الخدري: أصبنا سبايا واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل فأردنا أن نعزل فقلنا كيف نعزل والقرآن ينزل فسألنا عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5) وذكر الحديث فإن قيل إنما معنى قوله وأحببنا الفداء لأنها ما دامت حاملًا لا تباع ولا يفادى بها حتى ينفصل الولد فخشي أبو سعيد وأصحابه أن يقعوا في هذه الحالة قلنا قد تقدم الجواب فإنه إذا تقرر المنع في حالة فما الدليل الذي يدفعه قال علماؤنا وقد استأثر الله بنبيه وطلب بعض ورثته ميراثه وقال أصحابه وخلفاؤه إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يترك إلا بغلته وسلاحه وأرض كذا (¬6) ولم يذكروا مارية ولا ¬

_ = على المزني تولى قضاء شيراز ومات ببغداد سنة (336هـ) وعمره خمسون سنة وأشهر. طبقات الشافعية للحسيني ص 41، طبقات الفقهاء للشيرازي ص 108، طبقات الشافعية للسبكي 3/ 21، البداية والنهاية 11/ 129، تاريخ بغداد 4/ 287. (¬1) هو أبو بكر محمد بن داود كان فقيهاً أديباً شاعراً طريفاً كان يناظر أبا العباس بين سريج مات سنة سبع وتسعين ومائتين وله اثنان وأربعون سنة. طبقات الفقهاء ص 175 تاريخ بغداد 5/ 256 - 263 سير النبلاء 13/ 109. (¬2) هذه الحكاية ذكرها السبكي في الطبقات 3/ 25. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب سؤال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإِسلام والإحسان 1/ 19 ومسلم في كتاب الإيمان حديث رقم (5) من حديث أبي هريرة قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً بارزاً للناس فأتاه رجل فقال: يا رسول الله ما الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر ...) لفظ مسلم وأخرجه مسلم دون البخاري من رواية عمر بن الخطاب حديث رقم (1). (¬4) هذه رواية مسلم. (¬5) متفق عليه أخرجه البخاري في النكاح باب العزل 7/ 42، ومسلم في النكاح باب حكم العزل (1438) والموطأ 2/ 594، وأبو داود (2172) في النكاح والترمذي (1138) في النكاح. (¬6) روى البخاري من حديث عمرو بن الحارث قال: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته درهماً ولا ديناراً ولا عبداً ولا =

القضاء في عمارة الموات

اعترضها أحد من الطالبين فلولا كونها أم ولد لطلبتها فاطمة أو العباس للاستخدام أو البيع وقد تعلق بعض علمائنا بأن الأثر قد ورد وأجمعت عليه الأمة في المنع من التفريق بين الأم وولدها (¬1) وذلك يمنع من بيع أم الولد وهو حكم لا إشكال فيه لولا الخذلان في إنكار أصول الشريعة وذكر مالك في هذا الباب حديث عمر في إلحاق الأولاد بالسادة الذين يقرون بالوطء ليؤكد بذلك من قضاء الخلفاء (¬2) وترك اعتراض البقية من الصحابة عليهم في أن الوطء سبب في إلحاق الولد لقول عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبى ولد على فراشه ولم يكن زمعة اعترف بغير المولود وهذا ما سكت السيد عنه أومات فأما لو نفاه لجاز باتفاق من العلماء على شروط بيانها في كتب المسائل. القضاء في عمارة الموات: أدخل مالك في الباب مرسل عروة وقضاء عمر من أحيا أرضاً ميتة فهي له (¬3) وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو بها أحق) (¬4) أخرجه البخاري وأما قوله ليس لعرق ظالم حق فهو حديث ¬

_ = أمة ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة. البخاري في الوصايا باب الوصايا 4/ 2، وأخرجه النسائي 6/ 229 وأحمد في المسند 279. (¬1) رور الترمذي من حديث أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) سنن الترمذي 3/ 580، وقال حسن غريب ورواه في كتاب السير 4/ 134، ورواه الحكم بلفظه وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي 2/ 55، وتعقبه الزيلعي بأن ما قاله فيه نظر لأن حيي بن عبد الله لم يخرج له في الصحيح شيء بل تكلم فيه بعضهم وقال قال ابن القطان فيه نظر ولأجل الاختلاف فيه لم يصححه الترمذي. نصب الراية 4/ 23 وقال الحافظ ابن حجر ما قاله الحكم فيه نظر لأن حيي بن عبد الله لم يخرج له مسلم اتحاف المهرة 3/ 53، ورواه أحمد في المسند 5/ 413، والطبراني في المعجم الكبير 1/ 205، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 126، درجة الحديث صححه ابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحكم والطبراني وابن القطان. نيل الأوطار 5/ 22 وصححه الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه للمسند 2/ 234 والشيخ ناصر في صحيح الجامع الصغير 5/ 326 وعندي أن تحسين الترمذي أولي بالقبول وقد تبعه على التحسين المناوي في فيض القدير 6/ 187 أي أن المناوي تبع الترمذي في تحسينه. (¬2) قال عمر ما بال رجال يطؤون ولائدهم ثم يعزلوهن. لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أن قد ألم بها إلا ألحقت به ولدها فاعزلوا بعد أو اتركوا. الموطأ 2/ 742. (¬3) مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق) الموطأ 2/ 743. (¬4) رواه البخاري في المزارعة باب من أحيا أرضاً مواتا 3/ 140.

وهم

صحيه. (¬1) وروى أبو داود نازلة تعضده أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أحدهما إن أرضي غرس فيها هذا نخلاً فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها قال: فلقد رأيتها وإن أصولها لتضرب بالفؤوس حتى أخرجت عنها (¬2) وهي نخل طوال واختلف الناس في هذا الحديث هل هو تعبدي أو معلل والذين قالوا إنه معلل اختلفوا في تعليله فمنهم من قال العلة فيه الاشتراك بين الخلق كالماء والحطب والحشيش فتخلص بالإحياء للمحيي كما تخلص بالاحتطاب والاحتشاش والاصطياد والاستقاء كل ذلك لفاعله وقيل في تعليله إنما ذلك إلى الإمام يخلصها لمن شاء وليست كالماء والحشيش والحطب والصيد لأن ذلك ليس بثابت ولا محتمل وقد روى الدارقطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (موتان الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني (¬3) أيها المسلمون) (¬4) وهذا يرفع التعليل الأخير ويرفع التعبد ويوجب الاشتراك ويقضي للمحيي بالاختصاص كما يقضي للمحتطب والمحتش. وهم: قال علماؤنا من المالكية والشافعية لا يجوز للذمي إحياء الموات وقال أبو حنيفة يجوز وقالت الحنفية في كتبها يجوز للذمي إحياء الموات وقال الشافعي ومالك لا يجوز ونص كلا الطائفتين ما ادعاه وأبطل ما عداه والمسألة غير مقصورة على ¬

_ (¬1) روى البخاري في صحيحه معلقاً قوله ويروى عن عمرو بن عوف وقال في غير حق مسلم وليس لعرق ظالم فيه حق. البخاري في كتاب الحرث والمزارعة 3/ 140 قال الحافظ وصله إسحاق بن راهوله قال: أخبرنا أبو عامر العقدي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف حدثني أبى أن أباه حدثه أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من احيا أرضاً مواتاً من غير أن يكون فيها حق مسلم فهي له وليس لعرق ظالم حق) فتح الباري 5/ 19، وقال الحافظ كثير ضعيف وقال عنه في التقريب كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ضعيف أفرط من نسبه إلى الكذب من السابعة ت ص 460 وانظر ت ت 8/ 421. تنبيه العرق الظالم هو أن يغرس الرجل في أرض غيره فيستحقها بذلك وقال مالك والعرق الظالم كل ما أخذ واحتفر وغرس بغير حق. تهذيب السنن 4/ 266. (¬2) أبو داود من طريق ابن إسحاق عن يحيى بن عروة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أحيا أرضاً ميتة ...) رقم 3074. والحديث من رواية ابن إسحاق وهو مدلس وقد عنعنه وقد تقدم الكلام عليه. (¬3) روى الشافعي في مسنده 2/ 133 قال أخبرنا سفيان عن طاوس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أحيا مواتاً من الأرض فهو له وعادى الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني) ورواه الييهقى من هذا الطريق 6/ 143 ثم أخرجه مع طريق ليث عن طاوس مرفوعاً به ومن طريق طاوس عن ابن عباس قال فذكر موقوفاً عليه وليث هو ابن أبي سليم ضعيف ومن طريق معاوية ثنا سفيان عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر وقال تفرد به معاوية بن هشام مرفوعاً موصولاً. قال الحافظ في التلخيص 3/ 62 وهو مما أنكر عليه وبالحديث لم أطلع عليه عند الدارقطني في السنن. (¬4) أما زيادة أيها المسلمون فقد قال الحافظ إنها مدرجة وليست في شيء من طرق الحديث. التلخيص 3/ 12.

القضاء فى المياه

مذهب أبي حنيفة لأن أبا حنيفة يقول إن إحياء الأرض كيف ما كانت وأين ما كانت لا يجوز إلا بإذن الإمام وإذا أذن الإمام للذمي في إحياء الموات نفذ لأنه حكم مختلف فيه فلم يبق للمسألة صورة على أن بعض علمائنا قد قال يجوز إحياء الموات للذمي إلا في جزيرة العرب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) وهذا عام وقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) (¬1) وهذا خاص فقضى الخاص على العام باتفاق من الأمة نص عليه ابن القاسم وغيره ولا يصح أن يكون للذمي في إحياء الموات حق لثلاثة أوجه: أحدها أن أبا حنيفة يقول إن الكفار لا يخاطبون بفروع الشريعة فليس لهم دخول في الأمر والنهي من باب نفي التكليف بالاحكام وهذا ما لا جواب لهم عنه. الثاني في قول النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو بها أحق) وهذه الأرض للمسلمين لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: (موتان الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم مني أيها المسلمون). الثالث أن الذمي ليس من أهل الأرض إنما هو فيها مكتري بأجرة معلومة فأي حق له في الإشاعة حتى يعينه بالاحياء وفي مسائل الإحياء تفريع فابنوه على هذه الأصول. القضاء فى المياه (¬2): الأصل في المياه وأحكامها حديث الزبير وهو متفق عليه من الأئمة والأمة روي أنه خاصمه رجل من الأنصار في شراج الحرة وترافعا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أسق يا زبير وارسل إلى جارك الأنصاري) فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال للزبير: (أمسك الماء حتى يبلغ الجدر ثم أرسله) وفي ذلك نزلت {فلا وربك لا يؤمنون حتي يحكموك فيما شجر بينهم} (¬3) الآية وقد فات الإيمان ¬

_ (¬1) رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً) مسلم في الجهاد باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب (1767). (¬2) الموطأ 2/ 744. (¬3) متفق عليه من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير أنه حدثه أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير في شراج من الحرة يسقى بها النخل فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اسق يازبير) فأمره بالمعروف (ثم أرسل إلي جارك) فقال الأنصارى أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: (اسق ثم احبس الماء إلى الجدر) واستوفى

في الأنصاري لهذه الكلمة ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت عنه لأنها كانت فلتة ائتلافاً وقد كان يسكت عن المنافقين الذين كانوا يصرحون بالكفر فإقالة العثرة أقل من ذلك وأولى ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنها صفية بنت حيي وإني خشيت أن يقذف الشيطان في قلوبكما شيئاً فتهلكا (¬1)) فكل من اتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بباطل فهو كافر والحكمة ما ذكرناه وهذا رجل خاصم الزبير في الماء والماء على قسمين مملوك ومباح فأما المملوك فلا كلام لأحد فيه إلا لصاحبه ومن أسباب ملك الماء ملك محله كمن احتفر بئراً أو أنبط (¬2) عيناً فإن ذلك سبب يقضي له بالاختصاص به دون غيره على تفصيل معلوم في كتب المسائل يأتي الآن منه شيء إن شاء الله. ولم يكن الماء الذي اختصم فيه الزبير والأنصاري مملوك الأصل وإنما كان ماء سماء يجري في المسيل يجتذب كل جار يمر عليه من أحد جانبي المسيل ما يحتاج إليه وكان الأنصاري تحت الزبير في جانبه أو من الجانب الآخر ولو كان فوقه لكان أحق به إلا بملك ثابت باتفاق أو باختيار قديم باختلاف فإن ساواه في الجانب الثاني فالحكم لمن سبق وإن اختلفا قبل الاختصاص فإما أن يقتسما وإما أن يستهما فلما سبق الزبير كان له أن يأخذ حاجته حتى إذا استغنى أرسل الفاضلة فأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يأخذ وأن يترك من حقه فلما تعدى الأنصاري في القول استرعى النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير حقه وقال له: (أمسك ماءك حتى تبلغ الجدر) يعني حتى يستوي مع حائط الحوض واختلف علماؤنا لمن يكون ذلك فقيل (ذلك) (¬3) لصاحب الشجر باتفاق لأنها تحتاج إلى ري كثير فإن كان زرعاً أمسك حتى يستر الأرض لأن الزرع إنما يحتاج إلى قليل (¬4) وقضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق. ¬

_ له حقه فقال الزبير والله إن هذه أنزلت في ذلك ... البخاري في كتاب الشرب باب شرب الأعلى إلى الكعبين 3/ 146، ومسلم في الفضائل باب وجوب اتباعه - صلى الله عليه وسلم - (2357) والترمذي في الأحكام (1363) وقال حسن صحيح. (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في الاعتكاف باب هل يخرج المعتكف لحاجته إلى باب المسجد 3/ 63 ومسلم في كتاب السلام (2175) وأبو داود في الصوم (2470 - 2471) وابن ماجه في الصيام (65) من حديث علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معتكفا أتيته أزوره ليلاً ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبنى (أي ليردني إلى منزلي) وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرعا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (على رسلكما إنها صفية بنت حيي) لفظ مسلم. (¬2) فط الماء ينبط نبطاً ونبوطاً نبع والبئر استخرج ماؤها. مختصر القاموس ص 590. (¬3) زيادة من م. (¬4) سل الحافظ عن ابن كنانة أنه خصه بالنخل والشجر قال وأما الزرع فإلى الشراك. فتح الباري 5/ 40.

مرجع

مرجع والدليل على ملك الماء أحاديث كثيرة وأصول متعددة ومن الأحاديث ملك هاجر لمائها ومنعه من جرهم وسامحتهم بإباحة الشرب على أن لا يكون لهم فيه حق فجاورتها على ذلك الشرط (¬1) والحديث الصحيح قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه فيها كدلاء المسلمين فله الجنة) (¬2) إلا أن مالكاً رأى الحديث الذي أدخل في الموطأ لا يمنع نقع بئر وهو مرسل من طريق عمرة ولا يسند من طريق صحيحة وأدخل حديث أبي هريرة ¬

_ (¬1) ورد ذلك فى حديث ابن عباس الطويل وفيه أن جرهم قالوا لأم إسماعيل: (أتأذنين لنا أن ننزل عندك فقالت: نعم ولكن لا حق لكم في الماء قالوا: نعم ...). البخاري في كتب الأنبياء باب يزفون النسلان في المشي، البخاري مع الفتح 6/ 395. (¬2) رواه الترمذي من طريق زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن السلمي قال لما حصر عثمان أشرف عليهم من فوق داره ثم قال: أذكركم الله هل تعلمون أن حراء حين انتفض قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اثبت حراء فليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهد قالوا: نعم .. ثم قال. أذكركم بالله هل تعلمون أن رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن فابتعتها فجعلتها للغني والفقير وابن السبيل قالوا: اللهم نعم وأشياء عدها". قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان. سنن الترمذي 5/ 625 ورواه النسائي من طريق زيد ومن طريق يونس قال: حدثني أبي عن أبي إسحاق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عثمان أشرف عليهم حين حصروه فقال أنشد بالله رجلاً سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم الجبل حين اهتز فركله برجله وقال: (اسكن فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيدان ...) سنن النسائي 6/ 236 وقد علقه البخاري بصيغة الجزم فقال وقال عبدان أخبرني أبي عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن أن عثمان رضي الله عنه حين حوصر أشرف عليهم وقال أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حفر رومة فله الجنة) فحفرتها ألستم تعلمون أنه قال: (من جهز جيش العسرة فله الجنة) فجهزته قال: فصدقوه بما قال ... البخاري مع الفتح 5/ 406. قال الحافظ اختلف فيه على أبي إسحاق فرواه زيد بن أبي أنيسة أخرجه الترمذي والنسائي ورواه عيسى بن يونس عن أبيه عن أبي إسحاق عن أبي سلمة عن عثمان أخرجه النسائي أيضاً وتابعه أبو قطن عن يونس أخرجه أحمد. فتح الباري 5/ 407 وأما مرسل مالك فهو عن أبى الرجال محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يمنع نقع البئر) الموطأ 2/ 745 وهذا مرسل ورواه عبد الرزاق فى مصنفه من نفس الطريق 8/ 105 وكذلك البيهقي 6/ 152 ورواه ابن ماجه موصولاً من طريق عبده بن سليمان عن حارثة عن عمرة عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره 2/ 828، والبيهقي 6/ 152 وهذه الرواية الموصولة ضعفها البوصيري بحارثة بن أبي الرجال فقد ضعفه أحمد وابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة والبخاري والنسائي مصباح الزجاجة 3/ 82، ورواه ابن حبان من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الرحمن عن أمه عن عائشة قالت: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمنع نقع البئر ... صحيح ابن حبان 7/ 221 ولكنه له شاهد من حديث أبي هريرة الآتي.

القضاء في المرفق

لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ (¬1) وتردد قوله في بيع البئر فتارة منعه وقال لا يجوز وهو في المجموعة وبه قال أبو حنيفة وتارة كرهه وبه قال الشافعي واختار الكراهية ابن القاسم وهذا إنما يكون في بئر لا تحفر في ملك ومن كره بيعها حمله على أنه من المروءات والآداب والصحيح عندي من هذا الاختلاف كله أنه يجبُ عليه اعطاء الفضل وإذا ثبت هذا فلا يجوز حينئذٍ البيع لأن المبيع يكون حينئذ مجهولاً فإن قيل فلم منعت هاجر قلنا لأن الله ملكها الماء والموضع واختطه لها جبريل وجعلها أرضاً متملكة موروثة مقدمة لخير البرية ومنشئاً له. القضاء في المرفق (¬2): قال النبى - صلى الله عليه وسلم -: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (¬3) وهذا ليس من شروط الإيمان الأصلية وإنما هو من الكمال والتمام ومن الأفعال التي شرعت لتقوية العقيدة فإذا عرض أمر فيه مرفق لجارك ومنفعة أو لرفيقك في السفر أو لمسلم يرد عليك ويعير (¬4) وليس عليك من ذلك ضرر فاختلف قول مالك هل يلزمه أن يفعل معه ذلك أم لا واختلف العلماء كاختلافه والذي أراه وجوب ذلك لأن منعه إياه مما ينتفع به اضرار به والنبى - صلى الله عليه وسلم - قد قال: (لا ضرر ولا ضرار) (¬5) وأجمعت الأمة على معنى الحديث وإن كانوا قد اختلفوا في تأويله فمنهم من قال إنهما بمعنى واحد وفاعل قد يكون بمعنى فعل ومنهم من غاير بينهما وصور المغايرة صوراً ما لها أن تضر صاحبك بما ينفعك أو لا تمنعه ما لا يضرك وينفعه فإن قيل فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 744 وهو متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الشرب باب من قال إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروى 3/ 144 ومسلم فى المساقاة (1566). (¬2) المرفق بفتع الميم وكسر الفاء وفتحها وكسر الميم ما ارتفق به الزرقاني 4/ 31. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه 1/ 10 ومسلم في كتاب الإيمان باب وجوب محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث قتادة عن أنس حديث (44). (¬4) في م وجـ بغير وفي ك وت ويقنن، ولعل الصواب ويعبر. (¬5) الموطأ 2/ 745 مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ضرر ولا ضرار) وهذا مرسل وقد وصله ابن ماجه من طريق فضيل بن سلمان ثنا موسى بن عقبة ثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى أن (لا ضرر ولا ضرار) ابن ماجه 2/ 784 وقال البوصوي هذا إسناد رجاله ثقيت إلا أنه منقطع لأن إسحاق بن الوليد قال فيه الترمذي وابن عدي لم يدرك عبادة بن الصامت وقال البخارى لم يلق عبادة. وأخرجه أحمد في المسند 5/ 327 والدارقطني في سننه 4/ 228 والحديث ضعيف.

خشبه) وروي خشبة على الإفراد في جداره (¬1) قلنا اختلف فيه قول مالك والعلماء والمشهور عندنا وعندهم أن ذلك على الاستحباب لأن الأمة أجمعت على أن من اختص بحق لا يلزمه أن يعطيه لغيره وإن لم يضر به فكيف ووضع الخشبة على الجدار مضر بصاحب الجدار إما عاجلاً بأن يثقل الحائط فيقصر عمره أو بأن يعيبه أو بأن لا يكون من هذين شيء فيوجب وضع الخشبة لصاحبها اشتراكاً في الجدار (¬2) مع صاحبه وحيازة له تثبت له بطول الزمان وإذا (¬3) أراد صاحب الجدار أن يحض على ذلك بالإشهاد في كل وقت والافتقاد في كل حين شغل نفسه عن غير ذلك من أغراضه وفي ذلك إضرار به وأما حديث محمد بن سلمة (¬4) فاختلف فيه مالك والعلماء وكذلك حديث عبد الرحمن بن عوف (¬5) فتارة قالوا بقضاء عمر فيه واستمروا عليه وتارة قالوا إن ذلك من عمر في زمان كان ناسه أهل تقاء وقد حدث ما حدث من الفجور وهذا ضعيف أهل التقاء والفجهر في ذلك سواء ولا فرق في مرور الماء على أرض رجل بين أن يكون تقياً أو يخاف منه لأن الذي يخاف منه ليس أكثر من مرور (¬6) الماء ومرور الماء لا يضر كما قال عمر وتبديل الطريق لا يضر فإنما قضاء عمر بذلك على هذا الوجه فإن اتفق أن تقع نازلة باختلاف الأزمان والأحوال من أمثال هذه يكون الحكم فيها ضرر ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 745 وهو متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب المظالم باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره 3/ 173 ومسلم في كتاب المساقاة باب غرز الخشب في جدار الجار (1609) من حديث أبي هريرة. (¬2) في م الجدر. (¬3) في م فإن. (¬4) مالك عن عمرو بن يحيى المازنى عن أبيه أن الضحاك بن خليفة ساق خليجاً له بالعريض فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة فأبى محمد فقال له الضحاك لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولاً وآخراً ولا يضرك فأبى محمد فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب فدعا عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة فأمر أن يخلي سبيله فقال محمد: لا، فقال عمر:. لم تمنع أخاك ما ينفعه وهو لك نافع تسقي به أولاً وآخراً وهو لا يضرك، فقال محمد: لا والله فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك فأمر به عمر أن يمر به ففعل الضحاك. الموطأ 2/ 746 ورواه البيهقى في سننه 6/ 157 وقال هذا مرسل وقد روي في معناه حديث مرفوع وقد صححه الحافظ في الفتح 5/ 111. (¬5) مالك عن عمرو بن يحيى المازنى عن أبية أنه قال: كان في حائط جده ربيع (أي جدول وهو النهر الصغير) لعبد الرحمن بن عوف فأراد عبد الرحمن بن عوف أن يحوله إلى ناحية من الحائط هي أقرب إلى أرضه فمنعه صاحب الحائط فكلم عبد الرحمن بن عوف عمر بن الخطاب في ذلك فقضى لعبد الرحمن بن عوف بتحويله. الموطأ 2/ 746. (¬6) فى م لأن الذي يخاف أكثر من مرور الماء.

القضاء في قسم الأموال

منع من ذلك ولأجل هذا اختلف العلماء وشاهدت ذلك مراراً وله صور كثيرة منها أن يريد الرجل تبديل الطريق في موضع يحتاج هذا فيه إلى البنيان أو يكون له بإزائه ملك يضر به الماء وركب هذا وصوِّره وافت به. القضاء في قسم الأموال: إن الله سبحانه وله الحمد (¬1) لما خلق لنا ما في الأرض جميعاً وأنشأنا بصفة التشاحي وطلب الاستيثار شرع اختصاص الملاك بالأملاك وقد يقع بهذا الاختصاص الاشتراك فإن كانت الموافقة المندوب إليها شرعاً فبها ونعمت وإن تعذرت الموافقة وتوقع التشاح أو وقع فإن الله شرع القسمة لتمييز الحقوق المشتركة حتى يعود إلى الاختصاص المذكور وقد قال الله تعالى في القسمة في عارض الاشتراك {وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} (¬2) الآية وأما أحاديثهما فهي قليلة الصحيح منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الشفعة فيما لم يقسم) (¬3) وحديث عقبة بن عامر حيث أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم غنائم بين أصحابه (¬4) فبقي منها عتود فقال: (ضح بها أنت) ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مثل القائم في حدود الله والمدهن (¬5) فيها كمثل قوم كانوا في سفينا فاستهموا على أعلاها وأسفلها) (¬6) الحديث ومن المشهور فيها حديث عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة أعبدٍ في مرضه لا مال له ¬

_ (¬1) في م الحكم. (¬2) سورة النساء آية (8). (¬3) متفق عليه البخاري في أول كتاب الشفعة 3/ 114 ومسلم في المساقاة باب الشفعة (1608) (134) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" لفظ البخاري. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في الشرعة باب قسمة الغنم والعدل فيها 3/ 184 ومسلم في الأضاحي باب سن الأضحية (1965) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنماً يقسمها على صحابته ضحايا فبقى عتود (وهو ما بلغ سنة من أولاد المعز) فذكره لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ضح به أنت). (¬5) المداهن والمداهنة والادهان المقاربة في الكلام والتلبين. شرح السنة 14/ 243. (¬6) أخرجه البخاري في الشهادات باب القرعة في المشكلات 3/ 237 والترمذي في الفتن باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (2173) وأحمد في المسند 4/ 268 و270 من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها فكان الذين في أسفلها يمرون بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به فأخذ فأساً فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا ما لك قال: تأذيتم بي ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنجوه ونجوا أنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا انفسهم) لفظ البخاري.

غيرهم فأقرع النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم (¬1) الحديث فأما كيفيتها فليس فيها أثر وإنما سبيلها النظر وكلت إليه وعصبت به لأن المطلوب فيها تمييز الحق والمخوف فيها ثلاثة أشياء الغرر والربا وأكل المال بالباطل فميز الحقوق ان أردت القسمة وخلصها عن هذه العوارض الثلاثة إن أردت أن تكون واقعة على وفق الشرع وعلى هذه الأصول تبنى مسائل القسمة كلها وهي ثلاثة أنواع قسم مهيأة (¬2) وهي في المنفعة دون الأعيان وقسمة أعيان وهي على وجهين: أحدهما: أن تكون بالتراضي بأن يقول أحدهما للآخر خذ أنت هذه العين وآخذ أنا (الأخرى) (¬3). الثاني: وهو الثالث من الأصل أن يقوم المشترك قيمة تحرير وتعديل ثم "يقرر" (¬4) على الأجزاء ويعدد على الأقل من السهام ثم يقترع عليها على صفة تؤمن فيها الحيلة والانخداع بأن يكتب اسم المشتركين في الرقاع ثم تطلى بطين أو قار أو شمع ثم يجعلها من لا يدريها على الأعيان فمن وقع على شيء منها اسمه فهو سهمه. وعرضت ههنا مسألة بديعة وهي أن علماءنا قالوا إذا وقع في قسمة التراضي غبن لم يكن فيها رجوع ولو وقع الغبن في قسمة التقويم والإقراع لوجب الارتجاج بناء على أن القسمة هل هي تمييز حق أو عقد بيع وإذا قلنا إنها بيع فالغبن في البيع لا يوجب الرجوع فكيف وجب في القسمة (فتبين أنها لا تكون بيعاً بحال لأن المغبون في القسمة) (¬5) يقول للآخر أكلت مالي بغير عوض فلي رده وفي البيع لا مقال له لأنه مبني على المغابنة والمكايسة فكيف تكون بيعاً وهي أقوى من البيع ولكن الرد فيها إنما يكون من أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة ولذلك قال علماؤنا في صفة القسمة إن الأصناف المختلفة لا يجوز جمعها في قسمة الإقراع ولا للنوع الواحد إذا كانت أنواعه مختلفة القسمة كالدور الظاهرة والخفية والثياب الرفيعة والدنيئة وهذا فيه نظر عظيم لأن نص الحديث يرده وهو قوله لأصحاب السفينة فاستهموا على أعلاها وأسفلها وبين ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الإيمان باب من أعتق شركاً له في عبد (1668) وأبو داود (3958) والترمذي في الأحكام (1364) والنسائي في الجنائز (1960) باب الصلاة على من يحيف في وصيته، وابن ماجة في الأحكام (2345) باب القضاء بالقرعة وأحمد في المسند 4/ 426 و 431 وشرح السنة 9/ 359. (¬2) قال في القاموس المهيأة الأمر المتهيأ عليه. ترتيب القاموس 4/ 549. (¬3) زيادة الأخرى من ك. (¬4) يقرر الأخرى زيادة من ج. (¬5) زيادة من ك وم.

الأعلى والأسفل غبن عظيم وقد بينا ذلك في كتب المسائل وشرح الحديث فلا نطول به ههنا وليطلب هنالك. ومن فروع القسمة المحتمل فيها ترك المرافق من الأبنية والطرق وقد بوب على هذا مالك في الباب المتقدم قبل هذا (¬1) ولكنه ذكر بعض المرافق العامة وأغفل المرافق الخاصة كالجلوس في الصعدات وصب الأقذار في الطرقات فأما الجلوس (على الصعدات) (¬2) فجائز بأداء حقها من غض البصر وإرشاد الضال ونصر المظلوم وما يعرض لمن تعرض ذلك (¬3) من الحقوق وأما صب الأقذار في الطرقات فلا يجوز على الإطلاق لأن في ذلك إيذاء للمسلمين وإماطة الأذى عن الطريق صدقة وقد بينا ذلك في موضعه من المسائل إلا إذا كانت ضرورة عامة كخمر يتعين كسرها حتى تجري في السهل كما ورد (¬4) في الحديث ومن القول في المرافق مسألة السفينة إذا غلب الهول عليها فاحتاجوا إلى التخفيف منها فاتفقت الأمة على وجوب التخفيف والارتفاق بما يطرح فيما يبقى واختلفوا بعد ذلك في تفاصيل منها دخول السفينة وآلاتها في الحصاص (¬5) ورجالات المراكب والعبيد الراكبين عليها وانتهى النظر إلى نازلة عظيمة وهي إذا علم الأحرار من أهل السفينة أن بقاء جميعهم مهلك وأن خلوص بعضهم متيقن فنسب الخراسانيون الحنفيون والشافعيون إلى مالك أن هلاك بعض الأمة في الاستصلاح واجب وهو بريء من ذلك وإنما سمعوا من قوله اعتبار المصلحة فاعتبروها بزعمهم حتى بلغوا بها إلى هذا الحد وكان من حقهم لجلالة أقدارهم في العلم من سعة حفظهم ودقة فهمهم أن يتفطنوا لمقصده بالمصلحة وأن يجروها مجراها ويقفوا بها حيث انتهت وليس بين الأمة خلاف في هذه المسألة أنهم يصبرون لقضاء الله حتى ينفذ فيهم حكمه ويترتب على هذا مسائل مشكلة بيانها في أصول الفقه. ¬

_ (¬1) قال مالك باب القضاء في المرفق 2/ 745. (¬2) زيادة من ك وم. (¬3) في ت وج لذلك. (¬4) ورد في مسند أحمد من طريق ابن لهيعة عن جعفر بن ربيعة عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: "لما كان يوم فتح مكة أهرق رسرل الله - صلى الله عليه وسلم - الخمر وكسر جراره ونهى عن بيعه وبيع الأصنام". المسند 3/ 340 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 5/ 54 وعزاه لأحمد والطبراني في الأوسط وقال وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وبقية رجال أحمد ثقات. (¬5) تحاصوا وحاصوا اقتسموا حصصاً- ترتيب القاموس 1/ 655.

القضاء في الضواري والحريسة

القضاء في الضواري والحريسة أما قوله الضواري فيريد المعتادة للإذاية وأما قوله الحريسة فيحتمل التي تحرس ويكون معها حافظها ويحتمل أن يكون حريسة أي يحترس منها فأما الضواري وهي التي اعتادت الفساد فاختلفت الرواية فيها عن علمائنا ما بين تغريب وييع وهذا الاختلاف إنما هو اختلاف حال "إن أمكن تغريبها فبها ونعمت وإلا قُضي على صاحبها ببيعها" (¬1) وجعل علماؤنا من الضواري نحل الجناح وحمام الأبراج إذا آذت ما عدا أصبغ وربما عضد قول أصبغ الحديث الصحيح (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً إلى أن قال فيه فيأكل منه طائر أو بهيمة) (¬2) الحديث. ولأنه حيوان لم يكن عليه يد وكان مسترسلًا مع نفسه فلا بد له من رزقه لكن تبقى ها هنا نكتة هي فائدة الحالة وهي أنها إذا كانت مسترسلة احترس صاحب الزرع منها أو صادها أو عقرها وفي المملوكة لا يتأتى ذلك فلا بد أن يقال له قصها واشبعها أو ذكها (¬3) وكلها. وأما الحريسة فإن كان منها ضارياً (¬4) وتقدم فيها إلى أهلها فتركوها باقية وأرسلوها فاشية فقد قال مالك وكثير من العلماء يضمن أربابها ما أفسدت ودليله ظاهر ومنها الفحل الصائل فإنه إذا صال على أحد ودفعه عن نفسه فقتله كان هدراً عندنا وبه قال الشافعي ولم يختلف فيه أحد من علمائنا وقال أبو حنيفة إذا دفعه عن نفسه فقتله ضمن قيمته لمالكه لأن العجماء لا يعتبر فعلها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (جرح العجماء (¬5) جبار) ولم تحترم البهيمة بحرمة نفسها حتى يقال إنها إذا صالت سقطت حرمتها وإنما احترمت بحرمة المالك فوجب أن يغرم قيمتها له لأنه لم يكن من جهته جناية. قلنا قد مهدنا هذه المسألة في كتاب التلخيص وبينا مقاطع القول فيها ومن عمدها أن المالك وإن لم تكن من قبله جناية فإنه لو كان حاضراً لوجب عليه قتل فحله لأن دفع الفحل فرض كفاية على جميع المسلمين من ¬

_ (¬1) سقط من الأصل وهو في بقية النسخ. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في الحرث والمزارعة باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، 3/ 135، ومسلم (1553) في المساقاة باب فضل الغرس والزرع من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول ال - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له به صدقة). (¬3) في ج أذبحها. (¬4) في م فإن ما كان منها ضارياً وتقدم فيها إلى أربابها. (¬5) متفق عليه البخاري في الزكاة باب في الركاز الخمس 2/ 160 ومسلم في الحدود باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار (1710) والموطأ 2/ 868. وشرح السنة 6/ 57 من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (جرح العجماء جبار والبئر جبار والمعدن جبار وفي الركاز الخمس).

تمام

حضره وقام به منهم أسقطه عن الباقين فهذا الدي حضره وقبله قد أسقط فرضاً عن المالك الغائب وكيف يسقط عنه فرضاً ويتكلف له ضماناً فهذا لا يمكن عقلاً ولا يسوغ شرعاً ومن فروع هذا الباب ما جعله مالك فاتحة له وهو حديث البراء بن عازب أرسله مالك عن حرام بن محيصة والحديث مسنداً عن حرام بن محيصة عن أبيه محيصة أن ناقة للبراء بن عازب وذكر الحديث إلى آخره (¬1) واختلف العلماء فيه فقال أبو حنيفة لا ضمان على أرباب الماشية فيما نفشت فيه ليلاً أو نهاراً لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: (العجماء جبار) وما قلناه أصح لحديث البراء وهو خاص يقضي على ذلك العام كما قضى على خصوصية القود والسوق والركوب واختلف علماؤنا في فرع مركب على هذه المسألة وهو إذا نفشت في زرع محظر أو مطلق فمنهم من قال إنما يكون الضمان إذا كان الزرع محظراً ونزع في ذلك بنكتة بديعة وهو قوله حائطاً للبراء والحائط إنما يكون محظراً (¬2) ولعمري إنه لمتعلق إلا أنه فاته أن يمشي إلى آخر الحديث فيظهر له البحث وهو قوله فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أرباب المواشي إلى آخره. تمام وقد قال علماؤنا رحمة الله عليهم إن قول الله تعالى: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث} (¬3) الآية قالوا إن قضاء سليمان الذي كان فيه التفهيم ووقع له التصويب كان على مثل قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث البراء أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأنما أفسدت المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها (¬4) فأما قصة سليمان على الجملة ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 747 ورواه أبو داود من طريق حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته (فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل) أبو داود (3569) وابن ماجه في الأحكام (2332) وصححه الشيخ ناصر في صحيح سنن ابن ماجه وصححه قبله القاضي ابن العربى في الأحكام (1267). (¬2) الحظيرة جرين التمر والمحيط بالشىء خشباً وقصباً والحظار ككتاب الحائط ويفتح وما يعمل للأبل من شجر ليقيها البرد وككتب الشجر المحتظر به والشوك الرطب. ترتيب القاموس 1/ 667. (¬3) سورة الأنبياء آية (78). (¬4) قال القرطبي والأصل في هذه المسألة في شرعنا ما حكم به محمد نينا - صلى الله عليه وسلم - في ناقة البراء بن عازب رواه مالك عن ابن شهاب عن حرام بن سعد بن محيصة ... ثم نقل عن أبي عمر قوله وهذا الحديث وإن كان مرسلاً فهو حديث مشهور أرسله الأئمه وحدث به الثقات واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول وجرى في المدينة العمل به وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث وقال ذهب مالك وجمهور الأئمة إلى القول بحديث البراء وذهب أبو حنيفة وأصحابه وجماعة الكوفيين إلى أن هذا الحكم منسوخ وأن البهائم إذا =

تبيين

فإن ما ذكر الله منها مقطوع به وكيفية قضاء سليمان لا تعلم أبداً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغنا عنه فيه شيء وطريق كعب ومحمد بن كعب ووهب بن منبه بهما لا علم فيها ولا اهتداء وعليهم عوّل المفسرون فسودوا القراطيس بما لا تقوم به حجة ويكفينا قول النبي صلى الله عليه وسلم للسلوك محجة. تبيين: وقد اختلف علماؤنا هل هذا الذي قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث البراء حكم مبتدأ في الشرع أو هو مبني على عادة الناس فإن كان حكماً مبتدأ في الشرع فبها ونعمت إنه لأصل وإن كان هو مبني على العادة فإن أرباب المواشي بالنهار معها فهم يتولون حفظها فعلى هذا إن وجد خلاف العادة بأن يهملوها أو يكونوا معها ويغفلوا عنها فإن الضمان واجب عليهم لأن محل الحكم قد عدم حسب ما رتبه عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وانعدم الحكم. القضاء فيما يعطى العمال (¬1) هذه المسألة اختلف فيها العلماء فقال أبو حنيفة ومالك يضمنون إذا كانوا مشتركين وقال (ش) مثله لا ضمان عليهم لأصله الذي مهده بزعمه وهو أن ما قبض بإذن المالك لا ضمان فيه على تفصيل قررناه في مسائل الخلاف ومعول أبي حنيفة على معان لا تقوم على ساق وعمدتها على المصلحة التي مهدناها فإن العمال لو علموا أن الضمان ساقط عنهم لادعوا التلف وتلفت أموال الناس فقويت التهمة وتعينت المصلحة فوجب الضمان وتركب على هذا عند علمائنا درج الصائغ وغاشية الحائط وهو مثل أصله ومن فرق فقد نقض الأصل. ¬

_ =أفسدت زرعاً في ليل أو نهار لا يلزم صاحبها شيء وأدخل فسادها في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (جرح العجماء جبار) فقاس جميع أعمالها على جرحها ويقال إنه ما تقديم أبا حنيفة أحد بهذا القول ولا حجة له ولا لمن اتبعه في حديث العجماء وكونه ناسخًا لحديث البراء ومعارضًا له فإن النسخ شروطه معروفة والتعارض إنما يصح إذا لم يكن استعمال أحدهما إلا بنفي الآخر وحديث العجماء جرحها جبار عموم متفق عليه ثم خص منه الزرع والحوائط بحديث البراء لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو جاء عنه في حديث واحد العجماء جرحها جبار نهاراً لا ليلًا وفي الزرع والحوائط والحرث لم يكن هذا مستحيلًا من القول فكيف يجوز أن يقال في هذا متعارض وإنما هذا من باب العموم والخصوص على ما هو مذكور في الأصول. الجامع لأحكام القرآن للقرطي 11/ 314. (¬1) في ت وج للعمال.

القضاء في العيوب

القضاء في العيوب هذا باب ليس فيه حديث صحيح على التخصيص أما إن في تحريم الغش أحاديث عمروى الدارقطني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمة في الباب قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل لمسلم يبيع بيعاً يعلم به عيباً إلا بيَّنه) (¬1) أما أن الباب يبنى على إحدى القواعد المتقدمة وهي تحريم أكل المال بالباطل وذلك بيّن في الباب فإن قيل فلم لا يحكم بفسخ العقد وقد انعقد على حرام وانبنى على باطل قلنا لأنه عارضته قاعدة أخرى تقدمت الإشارة إليها ومهدناها في كتب الأصول وهي أن النهي إذا كان في حق الله تعالى فسخ ما انبنى عليه وإذا كان في حق الآدمي فالله قد جعل للآدمي الخيار رفقًا به فإنه يحتمل أن يشتريه بعشرة دنانير بعيب لا يعلمه فإذا اطلع عليه وجد المعيب يساوي أحد عشر ديناراً فيرى الحظ لنفسه فرد الله الأمر إليه وذلك إجماع أما إنه قد يدخل على مسائل العيب وجوه من المنهيات من الغرر والربويات فتتعدد لذلك أحكامها وتختلف مآخذها وتكثر فروعها ولا تحتملها هذه العجالة وقد مهدناها في مسائل الخلاف. ¬

_ (¬1) لم أجده في البيوع من سنن الدارقطني وقد رواه ابن ماجه (2246) والحاكم في المستدرك 2/ 8 وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وأقر ذلك المنذري في الترغيب 3/ 24 ورواه البيهقي في السنن 5/ 320 من طريق وهب بن جرير ثنا أبي سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة عن عقبة بن عامر مرفوعًا: (المسلم أخو المسلم ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بيَّنه له)، قال الحافظ في التلخيص 3/ 22 ومداره على يحيى بن أيوب وتابعه ابن لهيعة قلت ومتابعه ابن لهيعة هذه رواها أحمد في المسند 4/ 158 وقد عنعنها وهو مدلس والرواية الأولى فيها يحيى بن أيوب الغافقي أبو العباس المصري صدوق ربما أخطأ من السابعة روى له ع ت ص 588 ت ت 11/ 186 ومع هذا صححه الشيخ ناصر في الإرواء 5/ 165 وفي صحيح ابن ماجه 2/ 22.

كتاب الهبة

كتاب الهبة أصل الهبة على الحقيقة لله وحده لأن حقيقة الهبة هو العطاء بغير عوض مما لا يجب والذي يعطى على الحقيقة بغير عوض ولا يجب عليه هو الله تعالى ولا يتصور ذلك في الآدمي لأنه محمول على التلفت إلى الأغراض إما في جلب منفعة وإما في دفع مضرة فلذلك كانت هيئة محمولةُ على القصد إلى البدلية فيها، وقد تكون على توقع البدل من الآدمي فبقي عليها اسمها العام على عادةِ العرب في إطلاقاتها في مثله. قال تعالى: {وما آتيتم من ربا ليربُو في أَموال النَّاس فلا يربُو عند الله وما آتيتم من زكاةٍ تُريدون وَجه الله فأولئك هُمُ المُضْعِفُونَ} (¬1) وقد يعطى الرجل على المروءة وذلك من الشريعة وجرى مجرى الصدقة. روى مسلم في صحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (كلُّ معروفٍ صدقة (¬2))، وضرب له النبي - صلى الله عليه وسلم - أمثلةً متعددةً من الواجب والمندوب بيانها في موضعها، وقد تكونُ الهبةُ لصلةِ الرحم وهي من المعروف المؤجل العوض، وقد تكون طلباً لمحض العوض من الواهب في مال الموهوب فأما مالك فقضى به، وأما جمهور العلماء منهم الحنفية والشافعية فحرموه لأنها مبايعة بثمنٍ مجهولٍ. قالوا: ويجب أن تخلص العقود بألفاظها لأحكامها، فإن غيرت الألفاظ لم يجز إسقاط الشروط. وهبة الثواب مجهولة العوض وذلك حرام، مجهولة الأمر، وكذلك لا يجوز معقبة بالمنازعة، وتلك مزابنة نهى عنها بالإجماع محظورة بالإتفاق، وقال علماؤنا هذا كله صحيح إلا أن كل عقدٍ قد أنزله الشرع منزلته وعيّنه بشُروطهِ فالبيع وأحكامه على مساقها ¬

_ (¬1) سورة الروم آية (39). (¬2) مسلم (1005)، في الزكاة باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف من حديث حذيفة ورواه البخاري في كتاب الأدب باب كل معروف صدقة 8/ 13 من حديث جابر.

والهبة على موضوعها، وإذا وهب فصدر الهبة، وفاتحها مخلص من جميع ما ذكرتم، ولعله لا يطلب العوض أبداً وربما كره المعطي المِنَّة فبادر بها من قبل أن يسأله فإن سأل المعطي مكافأة فيه فالغالب من الخلق المبادرة للمطلوب والمسامحة فيه وإن وقع التنازع وذلك قليل وجب عليه إعطاء القيمة في المشهور، وقيل هو على هبته حتى يرضى منها وهو الصحيح لأن الظاهر أنه لو أراد القيمة لعرضها للسوق، وإنما أراد أكثر منها. (حديث) وقد تكون الهبة للقريب كما قال النعمان بن بشير إن أباه بشيراً أتى به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نحلتُ ابني هذا غلاماً. فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: (أكُلّ ولدك نحلته هذا؟) قال: لا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فارتجعه) (¬1). وروي (فاردده) (¬2)، وروي (أشهد على هذا غيري) (¬3). وروي (إنِّي لا أشهد على جورٍ) (¬4). وروي أنه قال: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟) قال: نعم. قال: (فسوِّ بينهم في العطية) (¬5) هذا كله في الصحيح. زاد أبو داود (إن عليهم من الحق أن يبروك، وعليك أن تعدل بينهم) (¬6) واختلف في جواز ذلك. قول مالك. والصحيح جوازه عنده وبه قال أبو حنيفة والشافعي (¬7) وقال أحمد بن حنبل ذلك باطل يجب فسخه لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر برده وقال في الصحيح: (لا أشهد على جورٍ)، وقال: (أتحب أن يكونوا لك في البر سَواء) (¬8). فعلَّل بالعقوق إلى ما يدخل بينهم من الشحناء، وذلك يقتضي التحريم ورده هو الصحيح في الحكم. ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في الهبة باب الهبة للولد 3/ 206 ومسلم في الهبات (1623) باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة، والموطأ 2/ 751. (¬2) البخاري في الهبة باب الإشهاد في الهبة 3/ 206، ومسلم (1623) 13. (¬3) مسلم (1623) (13). (¬4) مسلم (1623) (14). (¬5) والذي في صحيح مسلم (1623) (17) (أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا إذًا). (¬6) أبو داود (3542). (¬7) شرح السنة 8/ 297، فتح الباري 5/ 214، التمهيد 7/ 223. (¬8) شرح السنة 8/ 297، فتح الباري 5/ 214.

مفاقهة

فإن قيل فقد قال (أشهد على هذا غيري)، قلنا هذا هو تأكيد التحريم لأن أمراً لا يرضاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يشهد به من ذا الذي يرضَاهُ أو يشهد به، وسائر ألفاظ الحديث نص صَريح فلا يرد بهذا المحتمل. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية، ويثيب عليها (¬1). وروى البخاري أنه كان لا يرد طيباً لمحبته فيه (¬2)، وجاء حديث وقد هوازن وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين في خُطْبتِهِ: (إن إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين) إلى قوله (فمن أحب منكم أن يطيب بذلك نفساً فليفعل، ومن أحب أن يبقَى على حظه حتى نُعطيه إياهُ من أولِ ما يفيء الله علينا فليفعل) (¬3). مفاقهة: لما رأى الناس أن عقدَ الهبَة شرع محض، قالوا: إنه لضعفه لا يلزم إلا بالقبض وإليه صغى كثير من الفقهاء منهم (ش) و (ح) وعجباً لهم من أي أصلٍ نزعوا إلى هذا الفصل والهبة عقد من العقود ومبنى العقود على اللزوم ومحلها القول منه يكون وبه يلزم وما الإنسان لولا اللسان، وقد بين الله ذلك بقوله: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وما بقي بعد قول هذا وهبت وقول الآخر قبلت. والكفالة عقد باتفاق ويلزم بالقول بإجماع من الأمة فكيف غفلوا عن هذا فإن قيل كذلك كنا نقول كما ذكرتم لولا قول أبي بكر الصديق لعائشة: "لو كنت حزتيه لكان لك وإنما هو اليوم مال الوارث" (¬4) فبين أن الهبة إنما تكون هبَّة بالقبض وأن انفرادها عنه مبطل لها قلنا كيف تعلقتم بهذا في مثل هذا الأصلِ العظيم وهو قول الواحد من الصحابة، وقد ¬

_ (¬1) رواه البخاري في الهبة باب المكافأة بالهبة 3/ 206 من حديث عائشة. (¬2) البخاري في الهبة باب ما لا يرد من الهبة 3/ 205 من حديث عزرة بن ثابت قال: دخلت على ثمامة فناولني طيباً قال كان أنس رضي الله عنه لا يرد الطيب قال وزعم أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرد الطيب 3/ 205. (¬3) أخرجه البخاري في المغازي باب قول الله تعالى (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً) 5/ 195 وأبو داود (2693). من حديث عروة بن الزبير أن مروان والمسور بن مخرمة أخبراه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (معي من ترون وأحب الحديث إلى أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال ...). (¬4) الموطّأ 2/ 752 من حديث عروة عن عائشة.

قال أبو بكر رضي الله عنه: "إنَّ الجدَّ أب" (¬1)، ولم يقل بذلك الشافعي، فقد وجب والحالة هذه أن تقول متى ما كان الواهبَ صحيحاً ماله له لم يتعلق به حقٌّ لغيره، وجبَ عليه أن يفي بعقده ويسلم ما وهب لصَاحبه، فإذا مَرضَ تعلقَ به حق الغيرِ فلو كان عن معاوضةٍ محضةٍ لوجب التسليم "فيه" (¬2)، وإذا كانَ عن تبرع، فحق الغير إذا تعلقَ بالمالِ منع من التبرع أصله إذا تعلقَ بالمال حقوق الغرماءِ، وعلى هذه النكتة نبّه الصّديق حين قال: وإنما هو اليوم مال الوارث، فوجدنا لرد الهبة في المرض أصلاً فحملناه عليه وبقيت الهبة في الصحةِ على أصل العقودِ وعمومِ الكتاب أولاً ترى مسألة أن الزوجة لما تعلق بمالها حق الزوج لم يجز لها عطية إلا بإذن زوجها على ما بيناه في مسائل الخلاف وقد روى أبو داود (¬3) والنسائي (¬4): (لا يجوز للمرأة عطية إلا بإذن زوجها، إلا أن يكون عتقًا)، فقد روى البخاري أن ميمونة كانت لها جارية فأعقتها، فلما جاء النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إليها قالت: يا رسُولَ الله أشعرتَ إنِّي قد أعتقتُ جاريتي، قال: (أما إنك لو أعطيتها لأخوالك لكان أعظم لأجرك) (¬5) فبينَ أن الصدقة أفضل من العتقِ ولكن مع الحاجة، فأما مع عدم الحاجةِ فالعتق أفضل، وقد بيناه في شرحِ الحديث مستثنى من الأصل. ولما كانت الهبة عقداً لازماً بالقولِ عندنا وبالقبض إجماعًا ووقعَ التمليك فيها وكان كل ذي ملكٍ أولى بملكه، وكان كل ذي حقٍّ أخصَّ بحقهِ استثنت الشريعَة من ذلك ما رأت أن فيه مصلحة للطائفتين من الواهبِ والموهُوبَ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جَده (¬6) وما روَاه ابن عباس ¬

_ (¬1) رواه البخاري معلقاً قال: وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير الجد أب 7/ 288 قال الحافظ وصله الدارمي بسند على شرط مسلم عن أبي سعيد الخدري أن أبا بكر الصديق جعل الجد أبًا وبسند صحيح إلى أبي موسى أن أبا بكر مثله وبسند صحيح أيضًا إلى عثمان بن عفان أن أبا بكر كان يجعل الجد أبًا وفي لفظ له أنه جعل الجد أبًا إذا لم يكن دونه أب وبسند صحيح عن ابن عباس أن أبا بكر كان يجعل الجد أبًا، فتح الباري 12/ 19. (¬2) في ج زيادة فيه. (¬3) أبو داود (3547) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (¬4) سنن النسائي 6/ 278 وابن ماجه (2388) وأحمد في المسند 2/ 179 و184 و207 والبغوي في شرح السنة 4/ 317 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يجوز لأمرأة عطية إلا بإذن زوجها) والحديث صححه الشيخ ناصر في صحيح ابن ماجه. (¬5) البخاري في الهبة باب هبة المرأة لغير زوجها وعتقها 3/ 208 وأحمد في المسند 6/ 332. (¬6) رواه أبو داود بلفظ: (مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب يقيء فيأكل قيئه) (3540) والنسائي 6/ 264=

وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحلُّ لأحدٍ يُعطي عطيةً فيرجعُ فيها إلاَّ الواهب فيما يعطي لولدهِ والعائِدُ في هبته كالكلب يعود في قيئه) (¬1)، فبين المستثنى وأبقى سائر الهباتِ على أصلِ التحريم، وكانت الحكمة في جعل ذلك بين الوالدِ والولدِ ما له عليه من سَلطنَةِ الإيجاد وحق الكفالة والتربية، وذمامِ الذبّ عنه والنصرة وسيلة رجُوع ماله إليه كله آخر الأمرِ وإلى هذا وقعت الإشارة بقول النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ من أفضل ما أكل أحدكم من كسبهِ وإنّ ولدَ الرجل من كسبه (¬2))، وقَلَبَ أبو حنيفة القوس ركوة (¬3) فقال: لا يحل للأب أن يرجعَ فيما وهبَ لولده لما في ذلك من تغيير القلب وتوقع العقوقُ (¬4) وفي الأجنبي لا يبالي به إنما مقصده ماله وكسبه فإن وصَله وصَله وإن قطعَهُ قطعهُ، قلنا لا رأي لمغلوبٍ، أنت تقول هذا والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد بينَ حكمه وأوجبَ الرجوع له، فإن قالوا هذا الحديث ليس بصحيح، قلنَا أنتم تقولونَ هذا وليس لكم حديث مثله وصحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده هي نضاركم (¬5) وحرمالكم والمعنى عليكم زائد إلى هذا فإن كل ولد يطلب والده ماله الذي لم يستفدة من جهته فيقف دونه لا يعد من البررة فما ظنك بما كان أصله من عنده فإن قيل فالحديث الصحيح يعارضه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العائد في صدقته كالكلب في قيئه) قلنا: قد أشبعنا القول في هذا الحديث في مسائل الخلاف وشرح الآثار والمعتمد الآن لكم أنه عام مطلق وحديثنا خاص مقيد والخاص يقضي على العام باتفاق. ¬

_ = وابن ماجه (2378) من طريق عامر الأحول عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده والحديث صححه الشيخ ناصر في صحيح ابن ماجه. (¬1) رواه أبو داود من حديث حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن طاووس عن ابن عمر وابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي لولده ...) أبو داود (3539) والترمذي (2132) وقال حسن صحيح، والنسائي 6/ 265، وابن ماجه (2377). (¬2) أبو داود (3528 و 3529) من حديث عمارة بن عمير عن عمته أنها سألت عائشة رضي الله عنها فقالت في حجري يتيم أفأكل من ماله فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أطيب ما أكل الرجل من كسبه وولده من كسبه) ورواه الترمذي في الأحكام (1358) وقال حسن صحيح ورواه النسائي 7/ 241 وابن ماجه (2137). (¬3) صارت القوس ركوة يضرب في الأدبار والأقلاب في الأمور. ترتيب القاموس 2/ 385. (¬4) قال ابن هبيرة هل للأب الرجوع فيما وهب لولده فقال أبو حنيفة ليس له ذلك وقال الشافعي له الرجوع لكل حال وقال مالك للأب الرجوع فيما وهب لابنه على جهة الصلة لا على جهة الصدقة. الإفصاح 2/ 58، شرح السنة 8/ 299. (¬5) النضار بالضم الجوهر الخالص من التبر. ترتيب القاموس 4/ 387.

تتميم

تتميم وقد نبه مالك على تكملة في هذا الحديث وتوفية للنظر فقال إن عطية الوالد لولده محتملة فما (¬1) كان لله ويدل عليه لفظ الصدقة فلا رجوع فيه لأن المعاملة مع الله لا يتطرق إليها فسخ من جهة الآدمي فإن تزوج الولد أو ادّان فحق الزّوجة والمديان أقوى من حقِ الوالد. فخرجت المسألة الأولى عن أن تكونَ مرادة بالحديث، وخص الحديث في المسألة الثانية بما هو أقوى من عمومهِ حسبما بيناهُ في أصولِ الفقه. القضاء في العُمرَى روَى مالك وغيرهُ من الأئمة باتفاقِ عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أعمر عُمرى له ولعقبهِ فإنها للذي يُعطاها لا ترجعُ إلى الذي أعطاها) (¬2). زاد مالك أبداً (¬3) , لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث. قال الشافعي وأبو حنيفة وكثير من العلماءِ: من أعمر عمرى رجلاً كان ذلك له حَياتُه فإذا ماتَ رَجعت إلى الذي أعطاها أو إلى أحق الناس بميراثه يوم مات وتركب عليه التوريث، فإن أعمره وعقبه فإنها ملك محض لا ترجع إلى الذي أعطاها أبداً كما لو وهبَ أو باعَ، وهو ظاهرُ قول مالكٍ في الموطّأ. والقول الثاني: وهو المشهور اليوم عند الناس، أنه إذا انقطعَ العقب رجعت إلى أقرب الناس بالمعمرِ، وقال سائرِ الفقهاء ترجع إلى بيت المال كسائر المواريث، وتعلقوا بظاهرِ الحديث وهو قوله (لا ترجع إلى الذي أعطاها) ولا سيما بزيادة مالك في قوله أبداً وهذا قطعٌ محض، وقد تكلم العلماء على ذلك دليلًا وسؤالًا وجواباً، وها نحنُ نبرز لكم نكتةً مجهولةً مجلوةً في منصة البيانِ فنقول: العُمرى فُعلى من العمر، إما عمر المعطي وإما عمر المعطى فَقَد تقول أعطيتك مدى عمرك أو عمري وعمر عقبى أو تقول أعطيتك ¬

_ (¬1) لم أجده في موطّأ يحيى بن يحيى والصواب فيما. (¬2) الموطّأ 2/ 756 ولفظه عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطى أبدًا لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) ورواه مسلم (1625) في الهبات باب العمرى دون قوله أبدًا. واتفقا على إخراجه من حديث أبي سلمة عن جابر رضي الله عنه قال: (قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعمرى أنها لمن وهبت له) لفظ البخاري في الهبة باب ما قيل في العمرى 3/ 216، ومسلم (1625). (¬3) الموطأ 2/ 756.

القضاء في اللقطة

عمرك أو عمر عقبك، وقد اتفقنا على أنه لو كان الحكم معلقاً بعُمر المعطي لما كان تمليكاً محضاً فكذلك في عمر المعطى وتَحويره على صيغ القياس حكم معلق بأحدِ العمرين فلم يكن على التأييد أصله الثاني، وهذا الفقه صحيح يكشفُ حقيقة الحديث ويبين لكم مقصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيان الحكم وذلك العمرى نصف هبةٍ، إذ الهبةُ يكون لها محلان ملك الرقبةِ وملك المنافِع وقد يجتمعان للشخص الواحِد بأن تطلق الهبة إطلاقًا وقد ينفردان فيعطيه المنفعة دون الرقبةِ وهي العُمرى، فإنه لو قال أسكنتك هذه الدار وعقبك لكان تصريحاً بهبة المنافع، وكذلك عُمرتك، وقد تجعل الرقبة لشخصٍ والمنفعَة لآخر، فيقول أعمرتك وعقبك هذه الدار وجعلت رقبتها لفلان وعقبه فإذا كانت تنفصل في أنواعها اسماً وحقيقةً وحُكماً فكيف تجعل بابًا واحدًا وقد تبين بذلك أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أراد من وَهبَ منافع دارٍ مثلاً لرجلٍ ولعقبهِ فإنه لا يرجعُ إليهِ إذا مات ذلك الرجل المعمر, لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه المواريث، يريدُ أنَّ المنافعَ قد استحقها العقب من بعد موروثهم. فكيف ترجعُ إلى الذي أعطاها حتى ينقرضَ جميعهم. وأما مسألة الرقبة فهي مسألة مخاطرة داخلة في الغررِ خارجة عن المعروف وبيانها في موضعها. القضاء في اللقطةِ: هذه لفظة اختلفَ أهل اللغةِ فيها فمنهم من رواهَا مفتوحة القاف ومنهم من روَاها ساكنة وقد بيناها في موضعها والأولى عندي أن تكون بالسكون, لأنه في الغالب بناء المفعول في باب فعلة وفَعَلة (¬1) والأصل في ذلك الحديث الصحيح المتفق على روايته. ¬

_ (¬1) قال الحافظ واللقطة الشيء الذي يلتقط وهو بضم اللام وفتح القاف على المشهور عند أهل اللغة والمحدثين وقال عياض لا يجوز غيره وقال الزمخشري في الفائق اللقطة، بفتح القاف والعامة تسكنها كذا قال وقد جزم الخليل بأنها بالسكون قال وأما بالفتح فهو اللاقط وقال الأزهري هذا الذي قاله هو القياس ولكن الذي سمع من العرب وأجمع عليه أهل اللغة والحديث الفتح وقال ابن بري التحريك للمفعول نادر فاقتضى أن الذي قاله الخليل هو القياس وفيها لغتان أيضاً لقاطة بضم اللام ولقطة بفتحها، فتح الباري 5/ 78. وقال البغوي حكي عن الخليل أنه قال اللقطة بتحريك القاف الذي يلتقط الشيء واللقطة بسكون القاف ما يلتقط قال الأزهري هذا الذي قاله قياس لأن فُعْلَة في أكثر كلامهم جاء فاعلًا وفُعْلَة جاء مفعولًا غير أن كلام العرب جاء في اللقطة على غير قياس وأجمع أهل اللغة ورواة الأخبار على أن اللقطة هي الشيء الملتقط وكذا قال الفراء وابن الأعرابي والأصمعي والالتقاط وجود الشيء على غير طلب. شرح السنة 8/ 309.

جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال: (اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرِّفها سنةً، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) قال مالك: ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها (¬1). زاد البخاري ومسلم: فإن جاءَ صاحبُها وإلا فاستنفقها (¬2). زاد الجميع فإن جاء صعبها وإلا فشأنك بها. واتفقوا على اللقط الواحد في الغنم والإبل، وروي في الصحيح عن أبي بن كعب: التقطت صرة فيها مائة دينار فجئت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (عرفها حولًا) ثم جئته فقال: (عرفها حولًا آخر)؛ وذكر ثلاثة أحوال. خرجه البخاري وغيره (¬3). فبين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أصولَ أحكام اللقطة. زاد البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لقطة الحاج (¬4). اتفق الأئمة كلهم على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته حين عظَّمَ حرمة مكة. قال: (ولا تحل لقطتها إلا لمنشدِ) (¬5)، فأما سؤال السائل عن اللقطة فإنما كان عما يفعلُ بها وعنه إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه لا عمّا قال بعض علمائنا، من أنه يحتمل أن يكونَ سؤاله أيأخذها أم لا، فإنه لم يجد لذلك جواباً في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه معلوم من غيره من الأدلة مفهوم من قوة الحديث لأنه لما قال في ضالة الإبل: مالك ولها. وقال في ضالة الغنم: (هي لك أو لأخيك أو للذئب)، تبين أنه نهى عن أخذ الإبل وأباح أخذ الغنم ويرجع ذلك إلى نية الآخذ، فإن أراد بأخذها حفظها على صاحبها فيا ما أحسن ذلك، لا سيما في هذا الزمانِ الذي يخاف عليها أن تقع في يد من يتخذها مالاً من ماله، وأما إن قصد أن يأخذها لنفسه فذلك حرام، إلا أن تكون اللقطة من الطعام الذي لا يبقى فليأخذها وليأكلها في الحال، فإن أكلها أولى من فسادها وأما إن كان يسيراً مما لا يبقى فرخص مالك في كتاب محمَّد في الدريهمات اليسيرةِ أن يأخذها ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب اللقطة باب إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لمن وجدها 3/ 163، ومسلم في اللقطة (1722)، والموطأ 2/ 757 من حديث زيد بن خالد الجهني أنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن اللقطة فقال: (اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة ...). (¬2) البخاري في اللقطة، باب ضالة الإبل 3/ 163، ومسلم في اللقطة (1722) حديث (2). (¬3) البخاري في اللقطة باب هل يأخذ اللقطة ولا يدعها تضيع حتى يأخذها من لا يستحق 3/ 165، ومسلم في اللقطة (1723). (¬4) أخرجه مسلم في اللقطة باب لقطة الحاج (1724) وأحمد في المسند 3/ 499 وأبو داود (1719) ولم أجده في البخاري حسب عزو الشارح. (¬5) متفق عليه البخاري في كتاب العلم 1/ 38 باب كتابة العلم 1/ 38 - 39، ومسلم في الحج (1355) من حديث أبي هريرة.

ويستنفقَها ولا يرفعها والذي روى أبو داود عن جابرٍ أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - رخص لهم في السَوطِ والعصا والحبل أن ينتفعُوا به (¬1)، إذ قيمة ذلك يسيرة، كما أنه لا خلاف بينهم أن ما لفظه البحر من قصعةٍ وحوت فإنه يأخذه لنفسه، فإن كانَ متاعاً لمسلمٍ صَار لقطة وإن كان لكافر دفعه إلى الإِمام. قال المتأخرون: إن كان عدلًا وإلَّا أخذه وواسى منه وإن شك هل هو لمسلمٍ أو لكافرٍ تورع عنه. وقد قال مالك إن لقطة مكة كسائر اللقط، وتكلم في ذلك العلماء من أصحابنا في الاحتجاج لمالك والانفصال عن الحديث، ولست أرى مخالفة الحديث في هذه المسألة ولا حاجة بنا إلى أن نتكلف تأويل ما لا يقبلُ التأويل ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أعرف عفاصها ووكاءها) دل على أن الذي يجزي صاحبها في اعترافها هذا القدر من الدليل وقيل إنما ذكر ذلك على معنى التنبيه، إذ لا بد له أن يذكر الإمارات من العفاص والوكاء باتفاقٍ، زاد ابن القاسم وأشهب. والعدد زاد ابن شعبان والسكة ولكلِ واحدٍ منهم حجة. أما من تعلق بالعفاص والوكاءِ فقال: لأنه المذكور في الحديث، وأما من شرط العدد فقال لأنه الغاية في البيان وأما من شرط السكة فإنما نظر إلى اختلاف السكك في زمانه، فلو ذكرَ واحدًا وهو العفاص أو الوكاء، فاختلف الناس فيه، ومن علمائنا من قالَ: يجزيه ذكر كل واحد منهما ويحلف في تفصيل بيانه في المسائل ومنهم من قال لا أقل مما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من قال كيف يكون مع أحدٍ شيء لا يعرف سكته ولا عدده والصحيح عندي أنه يعطى بواحدٍ بغير يمين، والدليل عليه حديث أبي داود أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجدَ ديناراً (¬2). الحديث. روَاه أبو داود إلى أن قال فيه: فبينما هم يأكلون ¬

_ (¬1) أبو داود (1717) وفي سنده المغيرة بن زياد قال في التقريب صدوق له أوهام ت ص 543 وقال أبو داود عقب إخراجه رواه النعمان بن عبد السلام عن المغيرة أبي سلمة بإسناده ورواه شبابة عن المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال كأنه لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) أبو داود (1715) من طريق بلال بن يحيى العبسي عن علي أنه التقط ديناراً فاشترى به دقيقاً فعرفه صاحب الدقيق فرد عليه الدينار فأخذه علي وقطع منه قيراطين فاشترى به لحمًا. وإسناده حسن كما قال الحافظ في التلخيص 3/ 75 وساق أبو داود رواية أخرى قبل هذه وفيها رجل مجهول من حديث بكير بن الأشج عن عبد الله بن مقسم حدثه عن رجل عن أبي سعيد الخدري أن علي بن أبي طالب وجد ديناراً فأتى به فاطمة ... (1714). وقد أعل البيهقي روايات هذا الحديث لاضطرابها ولمعارضتها لأحاديث اشتراط السنة في التعريف لأنها أصح قال ويحتمل أن يكون إنما أباح له الأكل قبل التعريف للاضطرار. السنن الكبرى 6/ 194.

إذا رجلٌ يقول أنشد الله والإِسلام الدينار، فأعطاهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلامةٍ واحدة, لأنَّ للرجل أن يقول أخذته ليلاً فربطته في الوكاءِ لا أعرفِ إلا عددَه ويحتمل أن يقُولَ خرقته وخَيطه كذا وكذا وأما العدد فقد أنفقتُ منه وأما سكته فكانت عندي سكك لا أدري أي هذا منها وأما الوكاء فيقول كنتُ أحل وأشد ولم يكن لذاك وكاء واحد. فالدليل الواحد يكفيه لا سيما وليس لأحدٍ عليه يدٌ تدعيه ولو رأيته في الطريق يأخذها لما كان لك أن تعترضه، وإن كانت في تلك الحال وديعة لجميع المسلمين وهي الآن إنما هي وديعة عندك فسلمها إلى من جاء ولو بدليلٍ واحدٍ فيها. وأما اليمين فلا أراها, لأن موضعَ اليمين أن يكون في مقابلة دعوى، فإن احتج محتج بيمين الاستبراء فقد تقدمتها الدعوى، فأما قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فاستبق بها هي قوله فشأنك بها بل هو أكثر وأعم وقد روى النسائي أبين من هذا في الغرض. فقال: (ذلك مال الله يؤتيه من يشاء) (¬1) وهذا عام في الفقير والغني وقد اختلفَ في ذلك علماؤنا على قولين: أحدهما: يأكله الغني وبه قال الشافعي. والثاني: ألاَ يأكلها إلا إذا كان فقيرًا وبه قال أبو حنيفة. واحتج الشافعي بحديث أبي بن كعب حين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (استبقها). وكان أبي بن كعب حينئذ (¬2) من المياسير وقال أصحاب أبي حنيفة كيف يصح هذا للشافعي، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة في بيرحاء تصدَّق بها فوضعها أبو طلحة في أقاربه وفي بني عمه ومنهم أبي بن كعب (¬3). وقال علماؤنا المحررونَ هذه المسألة تنبني على أن اللقطة هل ¬

_ (¬1) لعله في الكبرى ورواه أبو داود (1709) وابن ماجه 2/ 837 من حديث عياض بن جمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وجد لقطة فليشهد ذا عدل ثم لا يغيره ولا يتكلم فإن جاء ربها فهو أحق بها وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء) والحديث صححه الشيخ ناصر في صحيح ابن ماجه (2032) ورواه ابن حبان (1169) وأحمد في المسند 4/ 162. (¬2) زيادة من ج. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في الزكاة باب الزكاة على الأقارب 2/ 148 ومسلم (998)، والموطأ 2/ 995 - 996، وشرح السنة 6/ 189 من حديث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس فلما أُنزلت هذه الآية {لن تنالوا البر حتى تتفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وإن أحب أموالي إلى بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند=

تؤخذ احتساباً لله أم اكتساباً. فقالوا عند أبي حنيفة أنها احتساب، وعندنا أنها اكتساب. قلت (¬1): معاذ الله من (¬2) هذا الذي قال علماؤنا إنما هي في أول الحال احتساب لله، فأبو حنيفة يقول يبقى هذا الحكم من الاحتساب ونحنُ نقول يزول بقولِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (فشأنك بها)، ولم يفصل بين فقيرٍ وغني، ولو كان الحكم يختلف لفصَّل، ولأنها لو كانت وديعة لما جاز أكلها للفقير كالوديعةِ المطلقة، وأما فصل الحولِ ومَا وردَ فيهِ في حديث أبي بن كعب من ذكر الثلاثة الأحوال فقَد أراح منه شعبة وذكره البخاري وغيره. قال شعبةُ عن سلمة يعني ابن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب قال: أصبتُ صرةً أو التقطتُ صرةً. فذكر الحديث إلى الثلاثة الأحوال قال شعبة: ثم لقيتُه بعد ذلك بمكة يعني سلمة قال: لا أدرى قال: حولًا واحداً أو حولين أو ثلاثة أحوالٍ، فشك سلمة فيما أخبره به سويد بن غفلة (¬3)، وإذا شك الراوي فيما روى سقطت روايته وقد مهدنا ذلك في شرح الحديث. وأما ضالة الغنم فقال الشافعي: هي لقطة تعرف، وفرق علماؤنا بين أن تكون في أرض مضبعة أو في محل رجاءٍ ومنفعَةٍ، قالوا فإن كانت في محل رجاءٍ ومنفعةٍ، فهي لقطة وإن كانت في أرض مضبعةٍ فهي لواجدَها حلال مطلق لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (هي لك أو لمثلك ممن يعبرها عبراً أو يقطعها سيراً أو للذئب). فبين أنها لله لا يد لأحدٍ عليها، وأن واجدَها ¬

_ = الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. وفي البخاري في الوصايا وقال ثابت عن أنس قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة: (اجعلها لفقراء أقاربك) فجعلها لحسان وأبي بن كعب. البخاري في الوصايا باب إذا وقف أو أوصى لأقابه 4/ 6 - 7. (¬1) في ج وم قال القاضي ابن العربي. (¬2) كذا في جميع النسخ من ولعلها ما. (¬3) قال الحافظ قوله (فلقيته بمكة) القائل شعبة والذي قال لا أدري هو شيخه سلمة بن كهيل وقد بينه مسلم في روايته بهز بن أسد عن شعبة أخبرني سلمة بن كهيل واختصر الحديث فقال في آخر الحديث قال شعبة فلقيت سلمة بعد ذلك فقال لا أدري ثلاثة أحوال أو حولًا واحدًا وأغرب ابن بطال فقال الذي شك فيه هو أبي بن كعب والقائل هو سويد بن غفلة. ولم يصب في ذلك وإن تبعه جماعة منهم المنذري بل الشك فيه من أحد رواته وهو سلمة لما استثبته فيه شعبة وقد رواه غير شعبة عن سلمة بن كهيل بغير شك جماعة وفيه هذه الزيادة وأخرجها مسلم من طريق الأعمش والثوري وزيد بن أنيسة وحماد بن سلمة كلهم عن سلمة وقال: قالوا في حديثهم جميعاً ثلاثة أحوال إلا حماد بن سلمة فإن في حديثه عامين أو ثلاثة ... ثم قال الحافظ والذي يظهر أن سلمة أخطأ فيها ثم ثبت واستذكر واستمر على عام واحد ولا يؤخذ إلا ما لم يشك فيه راويه. فتح الباري 5/ 79 - 80.

أخو الذئب في باب الحل وارتفاع التكليف عنه في الامتناع منها، الذي كان قبل هذا عليه، وقد استوفيتها في مسائل الخلافِ. وأما ضالة الإبل فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - على السائل حين ذكرها لما فهم منه من استشراف الطمع وتعلق البال بمالِ الغير وكان السؤال عن منفوق المال وعن النساء سؤالًا محتملاً، لقصدِ الحفظِ على الغير ولقصدِ انتفاع الطالب فأما ضالة الإبل، فقد خلصت للطمعِ لأنه لو تركها لما خاف عليها، والأخذ إنما هو لأجَل الخوف ورضي الله عن هذا السائل، فلقد أفاد مسائل استوفيناها في شرح الحديث وكتب المسائل نذكر الآن لكم منها ثلاثاً. الأولى: أنه لا بأس بالغضبِ على السائلِ إذا عدل عن جهة السؤال. الثانية: أنه استوفى لنا بيان اللقطة كلها ولولاه لاختلفنا في الإبل كما اختلفنا في البقر مع وجود النص في الإبل والصحيح في البقر أنها ليست كالإبل وإنما هي كالغنم يعلم ذلك مشاهدة. الثالثة: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم (معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر). الحديث بيان لحال الموضع الذي توجد فيه فإن كان يمكنها فيه الورود لأنها أودية وحياض وبرك فالأمر كذلك وإن كانت في موضع فيه آبار لا تتمكن من الورود فهي بمنزلة الشاءِ وعلى هذا حمل علماؤنا من ترك دابته بأرضٍ مضبعةٍ وقد يئس منها فقام عليها رجل حتى قامت، والصحيح أنها لمن قام عليها، وإن كان غير مشهور المذهب وقد روي في ذلك حديث ليس بصحيح، ولكن فقه هذا الحديث يشهد بصحة ما قلناه، ومن فوائد هذا الخبر ما قال علماؤنا أن ما ورد فيه حديث الزبير قبله من فتوى النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه في حالِ الغضب أن ذلك مخصوص فيه من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقضي القاضي وهو غضبان) (¬1) لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينطق بالوحي، ويؤيد بالعصمة، فلا يخاف عليه من الغضب آفة، فأما نحن فإنما نحكم بالاجتهاد، وبذل الوسع في النظرِ والغضب يشوش الخاطر ويشغل القلب عن النظر أو استيفائه، وذلك مظنة غلظٍ في الغالب، وعليها ورد النهي، فوجبَ أن يقف دونه. ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في الأحكام باب هل يقضي القاضي أو يفتي وهم غضبان 9/ 81، ومسلم في الأقضية باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان (1717) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة قال كتب أبو بكرة إلى ابنه وكان بسجستان بأن لا تقضِ بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان) لفظ البخاري.

القضاء في الوصايا

القضاء في الوصايا (¬1) الوصية في اللغة عبارة عن كلِ قولٍ يلقيه أحدهما إلى الآخر ليعمل به وهو مخصوص في الغائب والميت من جملة ما يلقي من القول وصفه الله للحاجة إذ لا يتفق للموكل كل ما يريده أو يحتاجه حاضرًا ولا بد من التعاون بين حالتي الغيبةِ والحضور فيما يختص بالموصي أو فيما يختص بالموصَى إليه أو به أو فيه أو ما يتعلق بالكلِّ أو ما يخص ثنتين منهما على التفصيل والتقسيم وقد ذكرهما الله في مواضعَ في كتابه من أهمها قوله: (كتب عليكم إذا حضرَ أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين) الآية. إلى قوله: (سميع عليم) (¬2) وأما أحاديثها فكثيرة أصولها أربعة. الأول: حديث عبد الله بن أبي أوفى قيل له: (هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا. قلتُ: فكيف كتب الوصية أو أمروا بالوصية؟ قال: أوصى بكتابِ الله) (¬3). الثاني: حديث عبد الله بن عمر أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَا من حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا وصيته عنده مكتوبة) خرجه الأئمة بأجمعهم (¬4). زاد مسلم أو ثلاث ليال (¬5). الثالث: حديث سعد بن أبي وقاص: الثُّلثُ والثلث كثير. اسردوه وهو صحيح متفق عليه (¬6). الرابع: حديث أبي أمامة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ¬

_ (¬1) في ج كتاب الوصايا. (¬2) البقرة آية 180 و 181. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في الوصايا 4/ 3، ومسلم (1634) في الوصية باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه، والترمذي (2120)، والنسائي 6/ 240. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في الوصايا 4/ 2، ومسلم في كتاب الوصية (1627)، والموطأ 2/ 761. (¬5) مسلم (1627) حديث 4. (¬6) متفق عليه أخرجه البخاري في الجنائز باب رثاء النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن خولة 2/ 103، ومسلم في الوصية (1628)، والموطأ 2/ 763 من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع فقد اشتد بي فقلت: إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثى مالي قال: لا، فقلت: بالشطر، قال: لا، ثم قال: (الثلث والثلث كبير أو كثير إنك إن نذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ..) لفظ البخاري.

لا وصية لوارث) (¬1). خرجه أبو داود والترمذي، وقد خرج البخاري حديثًا بما ذكرناه عن ابن عباس قال: لو غض الناس من الثلث إلى الربع لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: (الثلث والثلث كثير) (¬2) وللوصية أحكام كثيرة بيانها في كتب المسائل أمهاتها خمسة. الحكم الأول: في وجوبها: اختلف الناس في ذلك، فذهب ذاهبون إلى أنها واجبة وجوب الأعيان، ويتعين على كل أحد أن يوصي عند موته أهله وإخوانه ومن حضره، وكذلك فعلت الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وكذلك فعل خاتمهم الأعلي وقد ذكر الله ذلك في كتابه عن بعضهم، وقد قال: (كتب عليكم إذا حضَرَ أحدكم الموت) (¬3)، الآية وقال آخرون تجبُ الوصية إذا خاف الموصي الفوت لدينٍ يقضيه من حق الله تعالى أو من حقوق العباد، وهو مذهب الفقهاء وهو الصحيح، وهو المراد بحديث ابن عمر ما حق امرئ مسلم فإنه إن لم يكن عليه حق لم تكن الوصية عليه بحقٍ فأما الآية فقد ثبت عن ابن عباس أنه قال: كان الميراث للولد والوصية للوالدِ فنسخ الله ذلك بآية المواريث وأعطى كل ذي حق حقه (¬4)، قال سعيد بن المسيب من التابعين وابن راهويه من الفقهاء: نسخ الله ذلك في الوالدين وبقي الوجوب في الأقربين، حتى قال الحسن وطاووس: إنه لو أوصي بثلثه لأجنبي حول ثلثه لقرابته (¬5)، وهذا تحكم منهما ليس عليه دليل يغني ذكره عن الدليل ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2870) ما جاء في الوصية للوارث وابن ماجه (2713) والترمذي (2120) باب ما جاء لا وصية لوارث وزاد فيه الولد للفراش وللعاهر الحجر وحسابهم على الله والحديث صححه الشيخ ناصر في صحيح ابن ماجه 2/ 112 وفي تعليقه على المشكاة 2/ 925 وكذلك صححه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول 11/ 633. (¬2) البخاري في الوصايا باب الوصية بالثلث 4/ 3. (¬3) سورة البقرة آية (180). (¬4) رواه البخاري في الوصايا باب لا وصية لوارث 4/ 4 - 5. (¬5) نقله ابن عطية في المحرر الوجيز 2/ 69 والقرطبي في تفسيره 2/ 264 النكت للماوردي 1/ 193، فتح القدير 1/ 178، ابن كثير 1/ 157. قال الماوردي اختلف أهل العلم في ثبوت حكم هذه الآية فذهب الجمهور من التابعين والفقهاء إلى أن العمل بها كان واجبًا قبل فرض الموارث لئلا يضع الرجل ماله في البعداء طلباً للسمعة والرياء فلما نزلت آية الموارث في تعيين المستحقين وتقدير ما يستحقون نسخ بها وجوب الوصية ومنعت السنة من جوازها للورثة وقال آخرون كان حكمها ثابتاً في الوصية للوالدين والأقربين حق واجب فلما نزلت آي المواريث وفرض ميراث الأبوين نسخ بها الوصية للوالدين وكل وارث وبقي فرض الوصية للأقربين الذين لا يرثون على حاله وهذا قول الحسن وقتالة وطاوس وجابر بن زيد.

لضعفه، وأما قول سعيد بن المسيب إنها باقية في الأقربين (¬1)، فيرده أن الصحابة من الخلفاء إلى أعيان الفقهاء قبل أن يتعد الحال إليه، لم يوصِ أحد منهم، وقد قال علماؤنا قوله تعالى: (كتب عليكم .. إن ترك خيراً) الآية محمول على الاستحباب (¬2) , لأنه علق بمجهولٍ، وهذا مقدار الخير، والواجب لا يتعلق بمجهول لأنه من شرطِ الوجوب إمكان الفعل، ولا إمكان مع الجهالة في الحكم. الحكم الثاني: لما أوجب الله الوصية أو ندب إليها أسقطَ لزومها وأجاز في كل وقتٍ تغييرَها، فلو كانت لا تغير لما كانت لأحدٍ قدرة على أن يبادر إليها مخافة أن يبقى حياً، ويلزمه عقدها حتى إنه جوَّز فيها تبديل ما لا يبدل وهو العتق وكل شيء يفعل للمرء بعد موته فإنه يجوز له أن يرجع فيه، وكل شيء يفقدهُ في صحته يلزمة، وكل ما يفعله في مرضه له تغييره كما قلناه إلا العتق المبتل (¬3) والمدبر، وسيأتي بيان ذلك في كتاب العتق إن شاء الله. الحكم الثالث: إن الله سبحانه وتعالى لمّا ملّك الأموال للخلقِ وعلِمَ أنهم على قسمين، منهم من يحفظ المال ومنهم من يهمله، شرع الحجر على من أهمله من صغيرٍ أو مصابٍ، أو ضعيفٍ أو سفيهٍ، فقبضَ أيديهم عن الأموالِ وألغى ما يصدُر عنهم فيها من الأقوال إبقاءً عليهم ورحمةً لهم إلا أن يوصُوا فمن أوصَى منهم نفذت وصيته, لأنها ظاهرة في وقتٍ لا يتوقع عليه فساد في مالِه ولها حاجة في حالهِ، وهذا إذا كانَ مميزاً يعقل ما يوصي ويتكلم به عن فهمٍ من غير أن يقوله، وعلى هذا جاء قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الغسّاني (¬4) وعليه يحمل المجنون حال الإفاقة. الحكم الرابع: محل الوصيةِ الثلث للصحيح والمريض لحديث سعد بن أبي وقاص الثلث والثلث كثير، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فيه: (إنَّ الله أعطاكم ثلْثَ أموالكم ¬

_ (¬1) هذا القول لسعيد لم أطلع عليه. (¬2) قال القرطبي وقال ابن عمر وابن عباس وابن زيد الآية منسوخة وبقيت الوصية ندبًا ونحو هذا قول مالك رحمه الله وذكره النحاس عن الشعبي والنخعي. القرطبي 2/ 263. (¬3) أي المنقطع يقال بتله يبتله قطعه. ترتيب القاموس 1/ 213. (¬4) مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن أبيه أن عمرو بن سليم الزرقي أخبره أنه قيل لعمر بن الخطاب إن ها هنا غلاماً يفاعاً لم يحتلم من غساق وارثه بالشام وهو ذو مال وليس له ها هنا إلا ابنة عم له قال عمر بن الخطاب: فليوص لها قال فأوصى لها بمال يقال له بئر جشم قال عمر بن سليم فبيع ذلك المال بثلاثين ألف درهم وابنة عمه التي أوصى لها هي أم عمرو بن سليم الرقي. الموطّأ 2/ 762 وإسناده صحيح.

في آخرِ أعماركم زيادةً في أعمالكم) (¬1) وهذا الحديث وان لم يكن صحيحاً فإن معناه صحيح يصدقه حديث سعد الذي اقتضى بظاهره تعليق حق الورثة بمال المريض وخلص له الثك لحاجاته واستدراكاته، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الصدقة أفضل؟ قال: (إن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم وقلتَ لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان) (¬2)، ومن فاته الاستدراك في محل الاستدراك وهو الثلث فاختلف العلماء هل يلزم الوارث أن يعطَى عنه ما فرطَ فيه أم لا؟ فقال الشافعي كل ما فرط فيهِ من حق مالي، فإنهُ يخرج من رأس المالِ، وهو قولٌ ضعيف, لأنه قد صار بالمرضِ إلى حالةٍ لو أراد أن يعطي فيها جميع ماله لم يجز له إجماعاً فتركه كإخراج ما وجَبَ عليهِ من ذلك تعويل على أن يتمتع به في الدنيا ويفوته ورثته في الأخرى وهذا مقصد لا يجوزه له مسلم يفهم حقيقة الشرع ويتفطن لوجوه المصالح والتكليف، أما إنه يستحب للوارث أن يعطيَ عن موروثه كما فعل سعد عن أمه (¬3) وكما فعل ابن التي افلتت نفسها بعد موتها (¬4). الحكم الخامس: إذا ثبت أن المرض يعلق حق الورثةِ بالمالِ ويقبض يد المريض عن التصرفِ فيه، وتحققنا أنَّ حكمة ذلك وعلته الخوف على المريض من المنية في الغالب فإنه قد تنزل بالأصحاء أحوال تتحقق فيهم هذه العلة، فوجب أن يكونَ حكمهم بحكم المريض في حكم قصر تصرفهم على الثلث كالحامل في أخريات أمرها والملجج في البحر ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (2709) والبيهقي في سننه 6/ 269 وهذا البزار في مسنده كما ذكر الزيلعي في نصب الراية 4/ 400 وقال البزار لا نعلم رواه عن عطاء إلا طلحة بن عمرو وهو وإن روى عن جماعة فليس بالقوي والحديث حسنه الشيخ ناصر في صحيح ابن ماجه 2/ 111 وهو من رواية أبي هريرة. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في الوصايا باب الصدقة عند الموت 4/ 5، ومسلم 1032 في الزكاة باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الصحيح وأبو داود (2865) والنسائي 6/ 237. (¬3) هذا حديث أخرجه البخاري في الوصايا باب إذا قال أرضي أو بستاني صدقة عن أمي فهو جائز 4/ 8 - 9 وأخرجه أبو داود (2882) في الوصايا والترمذي 669 في الزكاة والنسائي 6/ 252، 253 وصايا كلهم من حديث ابن عباس أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها فقال: (يا رسول الله إن أمي نوفيت وأنا غائب عنها أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراق صدقة عنها). (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في الجنائز باب موت الفجأة 2/ 127، ومسلم في الزكاة باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه (1004) والموطأ 2/ 760 من حديث عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي أفلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها قال: نعم).

ما جاء في المؤنث من الرجال

لم يتساحل به وحائض الزحف في ملتحم القتال والتعرض للحتف، وهي مسألة من مسائل الخلاف وقد بيناها هنالك، وهي أظهر من أن يدل عليها. فهذه أصول أحكام الوصايا يربط ما وراءها بها وقد ذكرتُ فروعها في كتب علمائنا بما يدخل عليها من قواعد الولايةِ والجهالةِ والقسمة والترجيح لشخصٍ على شخصٍ إلى غير ذلك من عَوارضها فليرد كل فرع إلى أصله وليغلب الأقوى من الأصول عند التعارض حسب ما بيناه في كتاب الترجيح. ما جاء في المؤنث من الرجال (¬1) ذكر مالك حديث المخنث الداخل على أم سلمة (¬2) إلى آخر قولهِ. وهذا المخنث اسمه هيت (¬3) وهو مولى عبد الله بن أبي أمية: دخل على أم سلمة وعبد الله عندها فقال له وهم محاصرو الطائف: إنْ فتحَ الله عليكم الطائف غداً فإني أدلك على باذنة (¬4) (بالنون) بنت غيلان فإنها تقبلُ بأربع وتدبر بثمانٍ، إن جلست تثنت وإن قامت تثنت وإن تكلمت تغنّت، بين شكول النساء خِلقتُها، لا قصرٌ شأنها ولا قصفُ، تغترق الطرفَ وهي لاهية، كأنما شف وجهها نزفٌ. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد غلّظتَ النظر يا عدوّ الله)، ثم قال لنسائه: (لا يدخلنَ هذا عليكم) (¬5). قال علماؤنا رحمة الله عليهم: كان دخوله في غزوة ¬

_ (¬1) الموطّأ 2/ 767. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في المغازي باب غزوة الطائف 5/ 198 وفي النكاح باب ما ينهى من دخول المتشبهين بالنساء على المرأة 7/ 48، ومسلم في كتاب السلام باب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب (2180)، والموطأ مرسلًا 2/ 767 من حديث أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عندها وفي البيت مخنّث فقال المخنث لأخي أم سلمة عبد الله بن أبي أمية إن فتح الله لكم الطائف غداً أدلك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخلن هذا عليكن) لفظ البخاري وأخرجه أيضًا أبو داود (4929)، وابن ماجه (1902)، وأحمد في المسند 6/ 152. (¬3) قال الحفاظ هيت اسمه وهو بكر الهاء وبسكون التحتانية بعدها مثناة وقد ضبطه بعضهم بفتح أوله. فتح الباري 8/ 44 وانظر الإصابة 6/ 296 فيها ترجمة وافية له. (¬4) قال الحافظ اختلف في ضبط بادية الأكثر بموحدة ثم تحتانية وقيل بنون بدل التحتانية حكاه أبو نعيم. وقد ذكر ابن إسحاق أن خولة بنت حكيم قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن فتح الله عليك الطائف أعطني حلى بادية بنت غيلان وكانت من أحلى نساء ثقيف. فتح الباري 9/ 335. (¬5) أما الحديث الصحيح فهو إلى قوله وتدبر بثمان وأما غير ذلك فهو من زيادات محمد بن عمرو الواقدي كما سيأتي

القضاء في الحضانة

الطائف بعد نزولِ الحجاب بسنتين، وإنما كان مأذوناً له في ذلك لكونه من غير أولي الإربة وللحجبَة أحكام بيانها في مسائل الأحكام ولم يفرد لها علماؤنا كتابًا ولا بابًا وقد بالغنا فيها في كتاب أحكام القرآن فلينظر هناك في سورة النور (¬1). القضاءُ في الحضانةِ روى أبو داود وغيرهُ أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت. يا رسول الله، إن ابني هذا، كانَ بطني له وعاءً، وثديي له سقاءً، وحجري له حواءً وإنَّ أباه طلقني ويريدُ أن يأخذه مني فقال لها النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: (أنتِ أحق به ما لم تُنكحي) (¬2)، واتفق العلماء على ذلك لأن الآدمي محتاج في صغره إلى الكفالة، محتاج في كبره إلى النصرة والولاية، والأم على الكفالة أقدر وبها أبصر فإنها التي تكفل الابن في معاشه وبينها وبين الولد علاقة في هذه الحالة ليست للوالد وهو إذا كبرَ واستقل بنفسه محتاج إلى النصرة فهو سيأوي إليها إذا وجدها ولذلك مهما عكفت الأم على الولد كانت به أحق فإذا دخل بها زوجها الثاني سقط حقها بالنص وبالمعنى وهو أن الضرر يلحق الولد باشتغالها بزوجها في حالة الكفالة وانتهائها به في ¬

_ وذكر القرطبي بعد هذا 12/ 235 الأبيات الآتية وكذلك نقل محمَّد بن حامد الفقي عن المنذري قوله وفي رواية لعبد الله بن أمية أنه قال له هيت إن فتحتم الطائف فعليك ببادية بنت غيلان الثقفي فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان مع ثغر كالأقحوان إن جلست تثنت وإن تكلمت تغنت بين رجليها كالإناء المكفوء وهي كما قال قيس بن الحطيم: تغترق الطرف وهي لاهية ... كأنما شُف وجهها نُزف (*) بين شُكُول النساء خلقتها ... قصداً فلا جَبْلة ولا قضف (**) تنام من كثر شأنها فإذا ... قامت رويدًا تكاد تنقصف فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد غلغلت النظر إليها يا عدو الله). تهذيب السنن 7/ 240. والكلام المتقدم نقله الحافظ في الفتح 9/ 335 وعزاه للكلي. (*) يقول من نظر إليها استغرقت طرفه وشغلته عن النظر إلى غيرها وهي لاهية غير محتفلة. (**) القضف النحافة. (¬1) انظر الأحكام (1374). (¬2) رواه أبو داود (2276) والحاكم في مستدركه 22/ 207 وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وأحمد في المسند 2/ 182، والبيهقي في السنن 8/ 4 - 5 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت: "يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء ... " وهذه السلسلة صححها ابن العربي في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.

القضاء في البيع الفاسد

حالة المباضعة وتعريض ولد الغير منه إلى الذلة فخزل عنها وإلى من يخزل. فاعلموا أنَّ الموجود ها هنا عمودان أحدهما عمود الأم، وقد قضى النّبى - صلى الله عليه وسلم - بالولد للخالة حسب ما تقدم، فإن لم يكن عمود الأم فالأب وأهله، واختلفوا: هل يقدم الأب على أهلهِ لأنهم يستحقون بسببه أو يقدم الأهل عليه لأنهم أرفق به؟؟ والصحيح أن الأب يقدم لأنه أنظر له يرى حاله معه، فإن استقل بالكفاية وإلَّا نقله إلى من يرى من أبدَاله أو غيرهم، وكذلك اختلف العلماء هل الحضانة حق لله أم للحاضنة أم للوالد، والأشبه أنه حق للحاضنةِ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنتِ أحق به ما لم تُنكحي). ولقوله: (لا توله والدة على ولدها) (¬1). وهو حديث مشهور ولا يشك أن للولد حقاً في ذلك لأن النظرَ له ولا إشكال في أن للبارئ في ذلك حقاً, لأنه سبحانه وتعالى وليُّ كل صغير كان له ولي أو لم يكن له بأن يختار له ويبين حاله، فما حكمَ به لزم وهو ولي الكفار يرزقهم ويرفعهم، وقد اختلفَ علماؤنا في هذه الأقوال الثلاثة كاختلافِ من تقدم من العلماء فعليها، فركبوا فروع الحضانة. القضاء في البيع الفاسد وهي مسألة عظيمة انفرد بها الشافعي دون مالك وأبي حنيفة وقوى عليهم فيها. قال: إذا باع الرجلُ بيعاً فاسدًا واتصل به القبض فإنه يرد في كلِّ وقتٍ وعلى كل حالةٍ لا يؤثر فيه عيب ولا تمنع منه حوالة السوق ولا يتوقف فيه بنماء سلعةٍ، وإن ترتب عليه عتق أو بيع صحيح، نقض ذلك كله ورجع كلما دفع البائع والمبتاع إلى صاحبه لأن كل ما انبنى على غيرِ قاعدة فهو واهٍ، وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (من عمل عملًا ليس له عليه أمرنا فهو رد) (¬2) وهذا كلام لا غبارَ عليه ولا معارض له. قال علماؤنا رحمة الله عليهم: يبين (¬3) البيع الفاسد حوالة الأسواق إلا أن يكون من ذوات الأمثال وإن كان عتقاً من ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في سننه 8/ 5 من حديث أبي بكر الصديق وسنده ضعيف كما قال الحافظ في التلخيص 3/ 5 وضعفه الشيخ ناصر في ضعيف الجامع الصغير 6/ 78. (¬2) رواه مسلم بهذا اللفظ من حديث عائشة (1718) واتفقا عليه بلفظ: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) البخاري مع الفتح في الصلح باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود 5/ 301، ومسلم في الأقضية باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (1718) من حديث عائشة. (¬3) في ج وك وم بقيت.

كراهية القضاء

المشتري مضى وترددوا فيما إذا باع أو وهبَ. وتعرض العلماء من أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة للدليل عليه وفاوضت فيه العلماء مما وراء جيحون (¬1) إلى مصر فما وجدتُ عند أحد منهم نكتة يعول عليها وتعاطيت النظر ورددته فظهر لي أن مالكاً إنما غاص في ذلك على نكتة وهي: أن البيعَ الفاسد إذا عقده المتعاقدان لا يخلو أن يكونَ حراماً محضاً، لا خلاف فيه فلا ينفذ منه شيء ولا ينبني عليه أمر وإن كانَ مختلفاً فيه، فإن عثر عليه وهو بحَاله فُسِخَ، وإن طرأت عليه علة وأقلها حوالة الأسواق. قال مالك: لا أفسخهُ لأن الدليل مثلاً قد قام عندي على أن هذا عقد لا يجوز، فإذا فسخته ورددت السلعة إلى صاحبها وهي تساوي خمسة بعد أن كان دفعها وقيمتها عشرة فقد أوقعنا به الضرر قطعاً فضرره متيقن حسا وقطع الضرر متيقن شرعاً، فكيف يقوم عليه دليل ظني في الفسخ وقد مهدنا القول عليه في مسائل الخلاف، والله يعلم أن المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى أن هذا البيع المنعقد فاسد فتعين عليه أن يفسخ جميع ما ترتب عليه ويبني قطعي على ظني وذلك مما لا يحصى كثرةً في مسائل الفقهِ كما يبنى علم ضروري على نظري وقد مهدنا ذلك في موضعِه فلينظر فيه. كراهية القضاء ولاية القضاء خلافة الله في أرضه ونيابة عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في شرعه ومنزلته، ذات خطرٍ مع ما فيها من الخطرِ، ولذلك خوَّف النبيّ - صلى الله عليه وسلم - منها كثيراً، فقال: (منْ جُعل بينَ الناسِ قاضياً فكأنما ذبح بغير سكين) (¬2)، وقال: (من كان قاضياً فقضى بالعدل فبالحري أن يفلتَ منه كفافاً (¬3) رواه ابن عمر. خرَّج الترمذي هذه الأحاديث الثلاثة والناس. قال ¬

_ (¬1) اسم جيحون بالفارسية هارون وهو اسم وادي خراسان على وسط مدينة يقال لها جيهان فنسبه الناس إليها وقالوا جيحون على عادتهم في قلب الألفاظ. معجم البلدان 2/ 196. (¬2) رواه أبو داود (3571) والترمذي (1325) وقال حسن غريب من هذا الوجه وابن ماجه (2308) وأحمد في للمسند (7145) وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند ورواه الحاكم في المستدرك 4/ 91 وصححه ووافقه الذهبي وأخرجه البغوي في شرح السنة 10/ 92 وحسنه وصححه الشيخ ناصر في صحيح ابن ماجه والحديث عند الجميع من رواية أبي هريرة. (¬3) رواه الترمذي من حديث عبد الملك بن أبي جميلة عن عبد الله بن موهب أن عثمان قال لابن عمر إذهب فاقض بين الناس قال: أوتعافني يا أمير المؤمنين؟ قال: فما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضي؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان قاضياً فقضى بالعدل فبالحري أن ينقلب منه كفافًا فما أرجو بعد ذلك). ثم قال الترمذي حديث ابن عمر غريب وليس إسناده عندي بمتصل. الترمذي (1322) قلت=

في حديث ابن عمر وفي الحديث قصَّة (¬1) ووقعَ في بعض النسخ لأبي عيسى ذكر القصة وهي أن عثمان بن عفان قال لابن عمر: إذهب فاقض بينَ الناسِ. قال له ابن عمر: لَا أقضي بينَ رجلينِ، قال له: إن أباك كان يقضي. قال: أبي كان إذا أشكل عليه شيء سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا أشكل على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل حبريل عليه السلام، وأنا لا أجد من أسأله، وقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ....) وذكرَ الحديث. من عاذ بالله فقد عاذ وإني أعوذ بالله منك أن تجعلني قاضياً. فأعفاه وقال له لا تخبر بهذا أحداً (¬2)، وروى الدارقطني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يؤتى بالقاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدةِ الحساب ما يتمنى أنه لم يقض فيه بين اثنين) (¬3). قيل فكيف وردت هذه الأحاديث المزهدة في الولاية وهي لا بد منها، وكيفَ يزهد فيما لا بد منه. قلنا: شرفُها معلوم قطعاً، ومن شرفِها وكثرة متعلقاتها عظم الخطرِ فيها، وهذا ليس بتزهيدٍ وإنما هو تحذير وتنبيه على الاحتراس من غوائلِ الطريق وأما حديث سلمان وأبي الدرداء فقوله إن الأرض لا ¬

_ = وعبد الملك بن أبي جميلة قال الحافظ في التقريب ص (362) إنه مجهول وقال في التهذيب 6/ 388 قال أبو حاتم مجهول وذكره ابن حبان في الثقات روى له الترمذي حديثًا واحداً في القضاء ثم قال الحافظ قلت وله في صحيح ابن حبان آخر. وقال المنذري في الترغيب والترهيب 3/ 132 بعد نقل كلام الترمذي المتقدم وهو كما قال فإن عبد الله بن موهب لم يسمع من عثمان رضي الله عنه. (¬1) سنن الترمذي 3/ 612. (¬2) رواه ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الملك بن أبي جميلة عن عبد الله بن وهب أن عثمان بن عفان قال لابن عمر اذهب فكن قاضياً ... ابن حبان 7/ 257 وقد علق الحافظ على رواية ابن حبان هذه فقال: وقع في وراية ابن حبان عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود القرشي ووهم في ذلك وإنما هو عبد الله بن موهب وقد شهد الترمذي وأبو حاتم في العلل تبعاً للبخارى أنه غير متصل. التلخيص 4/ 185 قلت تقدم لنا في التعليق السابق كلام الترمذي وأما قول ابن أبي حاتم فقد قال: قال أبي عبد الملك بن أبي جميلة مجهول وعبد الله هو ابن موهب الرملي، على ما أرى وهو عن عثمان مرسل. العلل 1/ 468 وعزاه الهيثمي في المجمع 4/ 193 للطبراني في الكبير والأوسط والبزار وأحمد كلاهما باختصار ورجاله ثقات وزاد أحمد فأعفاه وقال: (لا تخبرن أحداً). وانظر المسند 1/ 66 والحديث صححه الشيخ ناصر في صحيح الجامع الصغير 5/ 322 ولعله اعتمد على غير طريق عبد الملك بن أبي جميلة. (¬3) لم أجده في مظانه من سنن الدارقطني ولعله في العلل وقد رواه ابن حبان في صحيحه 7/ 257 والعقيلي في ترجمة عمران بن حطان عن عائشة وقال ولا يتابع على حديثه وكان يرى رأي الخوارج ولا يتبين سماعه من عائشة. الضعفاء 3/ 297 ورواه البيهقي في سننه 10/ 96 وعزاه الحافظ في التلخيص 4/ 184 لأحمد وأورده الديلمي في مسند الفردوس 5/ 459.

تقدس أحداً (¬1) يعني أن الذنوب إنما تكفرها التوبة والأعمال ليست بالبقع، أما أنه قد يتعلق بالبقعة تقديس مَا وهو إذا عمل العبدُ فيها عملاً ضُوعف له بشرفِ البقعة مضاعفة، تكفر سيئاته وترجح ميزانه وتدخله الجنة وتقديسه على معنى التبع لصلاح الأعمال وإن كانت لا توجب التقديس ابتداءً. فافهم هذه النكتة. حديث الأسيفع (¬2) أصل في تفليس الغريم وجمع ماله عند زيادة الذنوب عليه ودفعُ يده عنه، وعليه يبنى كتاب التفليس لكلِ عالمٍ ليس لهم كتاب غيره، أما أنه قد روي في ذلك عن معاذٍ (وسوق) (¬3) أحاديث لم تصح (¬4)، وقد مهدناها في مسائل الخلاف، وركبنا عليها مسائل الفروع في كتب المسائل. ¬

_ (¬1) مالك عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي أن هلم إلى الأرض المقدسة فكتب إليه سلمان إن الأرض لا تقدس أحدًا وإنما يقدس الإنسان عمله ... الموطّأ 2/ 769 وهو منقطع لأن يحيى لم يدرك أبا الدرداء قال الزرقاني في شرح الموطّأ 4/ 74 لكن أخرجه الدينوري في المجالسة من وجه آخر عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن هبيرة قال كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي أن هلم إلى الأرض المقدسة ... الحديث. (¬2) مالك عن عمر بن عبد الرحمن بن دلاف المزني عن أبيه أن رجلاً من جهينة كان يسبق الحاج فيشتري الرواحل فيُغْلي بها ثم يسرع السير فيسبق الحاج فأفلس فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب فقال: أما بعد أيها الناس فإن الأسيفع أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج ألا وإنه قد دان معرضاً فأصبح قدْ رين به فمن كان له عليه دين فليأتنا بالغداة نقسم ماله بينهم وإياكم والدين فإن أوله هم وآخره حرب. الموطّأ 2/ 770 وهو منقطع وذكر الحافظ أنه وصله الدارقطني في العلل من طريق زهير بن معاوية عن عبيد الله بن عمر عن عمر بن عبد الرحمن بن عطية بن دلاف عن أبيه عن بلال بن الحارث عن عمر وهو عند مالك عن ابن دلاف عن أبيه أن رجلًا ولم يذكر بلالاً قال الدارقطني والقول قول زهير ومن تابعه. التلخيص الحبير 3/ 40 ورواه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 49 من طريق مالك وقال رواه ابن علية عن أيوب قال: نبئت عن عمر فذكر نحو حديث مالك وقال فيه فقسم ماله بينهم بالحصص. (¬3) كذا في الأصل ولعلها زائدة. (¬4) رواه الحاكم في المستدرك 2/ 58 وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وكذلك أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 48 والعقيلي في الضعفاء 1/ 68 في ترجمة إبراهيم بن معاوية الزيادي وقال فيه بصري لا يتبع على حديثه. وعزاه الحافظ في التلخيص 3/ 37 للدارقطني وذكر أن الجميع رووه من طريق هشام بن يوسف عن معمر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه بلفظ حجر عن معاذ ماله وباعه في دين كان عليه. وخالفه عبد الرزاق وعبد الله بن المبارك عن معمر فأرسلاه ورواه أبو داود في المراسيل من حديث عبد الرزاق مرسلاً مطولاً وسمى ابن كعب عبد الرحمن قال عبد الحق المرسل أصح من المتصل وقال ابن الطلاع في الأحكام هو حديث ثابت وكان ذلك في سنة تسع. التلخيص 3/ 37 والحديث ضعيف كما قال الشارح.

القضاء في حال العبيد

القضاء في حال العبيد اعلموا وفقكم الله إن العبدَ له شرف الآدمية، خلقه الله داركاً، عاقلًا مميزاً، فإذا أَمِنَ كملت درجته (بل) (¬1) في الحديث إنها زادت على درجة الحر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرَّتين). فذكره. وقال: (عبد أدّى حق الله وحق مواليه) (¬2) وهو أخ لمولاه دينًا وإن كان عبده نسباً لقول النّبي - صلى الله عليه وسلم -: (إخوانكم خولكم. ملككم الله رِقابِهم فأطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون) (¬3) الحديث. فأخبر النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الأخوة والمثلية ثابتة بين العبد وسيده، إلا أن درجته نقصت بملك الرقبة، وحقيقة ذلك ومعناه أن للعبد ذمة، وذمته لا سلطان للسيد عليها، والذم معلوم والذمة مجهولة عند الناسِ وقد بينا في مسائل الخلاف، إنها عبارة عن كونِ العبد أهلًا للإيجاب والاستحباب، وفي العبد التصرف والانتفاع وهو حق السيد ثبت له ثبوتاً رسخ له في الرقبة وتميز به عن عقد الإجارة الثابت في المنفعة، فإذا فهم هذا فكل ما كان من الحقوق يتعلق بالمالية والمنفعة فهو للسيد وكل ما كان من الحقوق يتعلق بالدم والذمة فهو للعبد إلا أنه ممنوع شرعاً عن أن يلقي في دمه أو ذمته معنى يضرُّ بالسيد في ماليته، فإن فعل فما كانَ من القولِ الذي يمكن رده بطل ومَا كان من الفعل الذي لا يمكن رده نفذ واستوفَى حكمه، وإن تعدَّى إلى حق السيد لكون الآدميَّة والدموية والذمية أصول، والرق فرع فظهرت الأصول إذا تعاضَدت أحكامها بالفعل على حق السيد وعلى هذا تتركب مسائل العبيد فاعلينَ باختيارهم أو فاعلين قسراً أو ¬

_ (¬1) ليست في بقية النسخ. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب العلم باب تعليم الرجل أمته وأهله 1/ 35 وفي العتق باب فضل من أدب جاريته وعلمها وباب العبد إذا أحسن عبادة ربه ونصح لسيده وباب كراهية التطاول على الرقيق وغير ذلك من الأبواب ومسلم في الإيمان باب وجوب الإيمان برسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم - (154) وأحمد في المسند 4/ 395 و 414 وشرح السنة 1/ 54 من حديث أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران). (¬3) متفق عليه البخاري في الإيمان باب المعاصي من أمر الجاهلية 1/ 14 ومسلم في الإيمان باب إطعام المملوك مما يأكل (1661) من حديث واصل الأحدب عن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك فقال إني سببت رجلاً فعيرته بأمه فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا ذر أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم ...).

فاعلين خدعة أو فاعلين خطأً ونضربُ لذلك مثالين تكشف لكم قناع المسألة فنقول: إذا قتلَ العبد قتل وبطل حق السيد، فإن أقر بالقتل قتل أيضًا، فإنه لا يتهم أحد في هذه الحال، وإن أقر بالقتل خطأ، لم يقتل لاقتران التهمةِ بالإقرار. المثال الثاني: إن التقطَ العبدُ لقطة فعرَّفها سنةً ثم أكلها، فإن جاء صاحبُها فهي في ذمة العبد حتى يعتق وإن أكلها قبلَ الحولِ فهي في رقبته, لأنه تعدى بفعلٍ، وحُكْمُه أن يؤاخذ به، وإن تعدى إلى حق السيد، وفي ذلك تفريع طويل واختلاف بين العلماء كثير ولا سيما إذا ترتب على العتق كتابة أو تدبير وقد شفينا من ذلك في مسائل الفروع والخلاف "فليطلب فيه والله أعلم" (¬1). ¬

_ (¬1) هذه زيادة من بقية النسخ.

كتاب العتق

كتاب العتق اعلموا وفقكم الله أن العتقَ من أفضلِ الأعمال وأعظم القربات ثواباً جعله الله مخلصاً للأرقاء الذين ابتلاهم به عقوبة فمنَّ عليهم بالعتق بعد ذلك نعمة خلَّصهم بها وآجر المتولينَ له عليها ولله تعالى عتقاء فأقرب العبيد إليهِ من أعتق عبداً بين يديه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئٍ مسلم يعتقُ عبداً مسلماً إلا أعتق الله بكل عضوٍ منه عضوًا من النار حتى الفرجَ بالفرجِ) (¬1) والآثار في تفضيله كثيرة وله اسمان أحدهما العتق والثاني التحرير ولا خلافَ فيهما لكونهما صريحين غالبين في هذا الباب وضعًا وعرفاً، ويلتحقُ بهما قول الرجل في عبده هو لله والأصل في ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في العتق الحديث المتقدم وغيره والأصل في الحرية معان منها حديث أبي هريرة في الصحيح، حين هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عبده بلغ إليه دونه وقال أبق مني فبينَما هو مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع عليهم العبد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا هريرة، ها هو) فقال أبو هريرة: هو حر (¬2) وفي رواية هو لله (¬3)، والصحيح أن قول القائل هو لله ليس بصريح لأنه يحتمل وجوهًا سوى العتق إلا أن يكون في سياقِ كلامٍ يدل عليه، ألا ترى أنه لو قال الرجلُ في عبده هو حر وأشار به إلى حُسن خلقه لقُبل منه حيث يدل البساط عليه، وفي العتق كنايات كما فيه صرائح، وأشبه شيء به في ذلك الطلاق، ومن كناياته قول القائل لعبده هذا ابني واختلف العلماء فيها، فقال الشافعي: لا يكون حرًّا وإن نوى العتق لأنه نية بغير لفظٍ. وقال أبو حنيفة يكون عتقًا وإن كان العبدُ أكبر سناً (¬4) منه وقد بينا في مسائل الخلافِ تحقيق القول في المسألة، وعمدتُها أن الأعمال ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في الكفارات باب قول الله تعالى {أو تحرير رقبة} وأي الرقاب أزكى 8/ 181 ومسلم في العتق باب فضل العتق (1509) (21 - 22 - 23 - 24) من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه البخاري في كتاب العتق باب إذا قال رجل لعبده هو لله ونوى العتق والإشهاد في العتق 3/ 191. (¬3) البخاري في الباب السابق. (¬4) قال ابن هيبرة اختلفوا فيما إذا قال لعبده وهو أكبر منه سنًا هذا ابني فقال أبو حنيفة يعتق ولا يثبت نسبه وقال مالك والشافعي وأحمد لا يعتق بذلك. الإفصاح 2/ 372.

بالنيات، وإنما يكفي من القول أدنى ما يقع به الفهم ولذلك قامت الإشارة مقام العبارة والكناية من القولِ مضافاً إلى النية في الدلالة على المراد أبلغ من الإشارة. حديث: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أعتق شقصاً له في عبدٍ وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوّم عليه قيمة العبد فأعطى شركاءه حصصهم وعتق العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق) (¬1). قال علماؤنا قوله في العبد دليل على أن الأمة في معناه في الحكم المبين فيه قبل النظر إلى علة الحكم واعتبار النظير بالنظير وظنت طائفة من الجهلةِ أنَّ الأمة إنما تبين فيها هذا الحكم من قوله عبد والعبد لفظ يطلق على الذكر والأنثى وهذا وإن كان يعطيه الاشتقاق، فلا نسلم أنه يقتضيه الإطلاق (¬2)، وقد اتفقت الأمة على أنه لو قال عَبيدي أحرار لما دخلَ فيه الجواري، وأما قوله وكان له مال بيان لأن المعتقين على ضربين، موسر ومعسر، فأما الموسر فقد بين حكمه وأما المعسر فقد اختلف فيه العلماء (¬3)، فمنهم من قال يبقى نصيبُ شريكه رقيقًا وهم الأكثر ومنهم من قال يستسعَى العبد في قيمة سهم سيده المتمسك بالرق. قاله أبو حنيفة وغيره (¬4)، وتعلقوا بالأثر والنظر أما النظر فهو الاعتبار بالكتابة، وهو مقطع ضعيف لأن الكتابة مخصوصة بحكمها، خارجة عن قواعد الشريعة بنفسها وقد بينا أنه لا يقاس على مخصوص ولا يقاس منصوص على منصوص حسب ما تقدم، وأما الأثر فروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الحديث بعينه إلى قوله: (عتق العبد) زاد بعده (وإن لم يكن له ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في الشركة باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل 3/ 182 ومسلم في الإيمان باب من أعتق شركاً له في عبد رقم (1502 و 1503) والموطأ 2/ 772، وأبو داود (3940 و 3941 و3942 و 3943 و 3944 و 3945 و 3946 و 3947)، والترمذي 1346 و 1347 في الأحكام والنسائي 7/ 319 من حديث ابن عمر. (¬2) لعل الشيخ يقصد بذلك ابن حزم قال الحافظ في الفتح 5/ 151 قال إسحاق بن راهويه إن الحكم مختص بالذكور وهو خطأ وادعى ابن حزم أن لفظ العبد في اللغة يتناول الأمة وفيه نظر ولعله أراد المملوك وقال القرطبي العبد اسم للمملوك الذكر بأصل وضعه والأمة اسم لمؤنثه إما لأن لفظ العبد يراد به الجنس كقوله تعالى: (إلا آتي الرحمن عبداً) فإنه يتناول الذكر والأنثى قطعًا وإما على طريق الإلحاق لعدم الفارق. (¬3) في ج علماؤنا ولعلها العلماء. (¬4) قال الحافظ وهذا الحديث حجة على أبي حنيفة حيث قال بتخيير الشريك بين أن يقوم نصيبه على العتق أو يعتق نصيبه أو يستسعى العبد في نصيب الشريك ويقال إنه لم يسبق إلى ذلك ولم يتابعه عليه أحد حتى ولا صاحباه واضطرد قوله في ذلك فيما لو أعتق بعض عبده فالجمهور قالوا يعتق كله وقال هو يستسعى العبد في قيمة نفسه لمولاه واستثنى الحنفية ما إذا أذن الشريك فقال لشريكه أعتق نصيبك قالوا لا ضمان فيه. فتح الباري 5/ 155.

مال استسعى العبد غير مشقوقٍ عليه) (¬1) رواه البخاري وغيرهُ وهذا الحديث لا حجة فيه، وقد مهدنا الجواب في مسائل الخلاف وشرح الحديث فننبئكم الآن منه الذي يريكم وجه الحق فيه. إن قوله من أعتق شركاً له في عبدٍ، فكان له مال يبلغ ثمن العبد قَوَّمَ عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم وعتقَ العبد. وانتهى كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الحد وقوله: وإلَّا فقد عتقَ منه ما عتقَ في حديثِ ابن عمر، وقوله في حديث أبي هريرة وإلا استسعى العبد ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من قول الراوي والأول يعزى إلى نافع (¬2) والثاني إلى بشير بن نهيك (¬3) وقتادة (¬4) فقد بين ذلك علماء الحديث (¬5) ولا بد للمتفقِّه من معرفة كلام ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة عدل 3/ 182 ومسلم في كتاب العتق (1503). (¬2) نافع أبو عبد الله المدني مولى ابن عمر ثقة ثبت فقيه مشهور من الثالثة مات سنة سبع عشرة ومائة أو بعد ذلك ع. ت ص 559. (¬3) بشير بن نهيك بفتح النون وكسر الهاء وآخره كاف السدوسي ويقال السلولي أبو الشعثاء البصري ثقة من الثالثة ع. ت ص 125. (¬4) قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب البصري ثقة ثبت يقال ولد أكمه وهو رأس الطبقة الرابعة مات سنة بضع عشرة ع. ت ص 453. (¬5) تكلم الحافظ على الزيادة في الحديثين فقال عن الزيادة في حديث ابن عمر وقد جزم مسلم بأن أيوب ويحيى قالا لا ندري أهو في الحديث أو شيء قاله نافع من قبله ولم يختلف عن مالك في وصلها ولا عن عبيد الله بن عمر لكن اختلف عليه في إثباتها وحذفها والذين أثبتوها حفاظ فإثباتها عن عبيد الله بن عمر وجرير بن حازم وإسماعيل بن أمية عند الدارقطني وقد رجح الأئمة رواية من أثبت هذه الزيادة مرفوعة قال الشافعي لا أحسب عالماً بالحديث يشك في أن مالكاً أحفظ لحديث نافع من أيوب لأنه كان ألزم له منه حتى لو استويا فشك أحدهما في شيء لم يشك فيه صاحبه كانت الحجة مع من لم يشك. فتح الباري 5/ 154. أما حديث أبي هريرة فقد نقل عن جماعة أن الاستسعاء مدرج ثم قال وأبى ذلك آخرون منهم صاحبا الصحيح فصححا كون الجميع مرفوعًا وهو الذي رجحه ابن دقيق العيد وجماعة لأن سعيد بن أبي عروبة أعرف بحديث قتادة لكثرة ملازمته له وكثرة أخذه عنه من همام وغيره وهشام وشعبة وإن كانا أحفظ من سعيد لكنهما لم ينافيا ما رواه وإنما اقتصرا من الحديث على بعضه وليس المجلس متحداً حتى يتوفق في زيادة سعيد فإن ملازمة سعيد لقتادة كانت أكثر منهما فسمع منه ما لم يسمعه غيره. وهذا كله لو انفرد وسعيد لم ينفرد ... ثم قال والذي يظهر أن الحديثين صحيحان مرفوعان وفاقاً لعمل صاحبي الصحيح وقال: قال ابن المواق والإنصاف ألا نوهم الجماعة بقول واحد مع احتمال أن يكون سمع قتادة يفتي به، فليس بين تحديثه مرة وفتياه به أخرى منافاة ويؤيد ذلك أن البيهقي أخرج من طريق الأوزاعي عن قتادة إنه أفتى بذلك والجمع بين حديث ابن عمر وأبي هريرة ممكن بخلاف ما جزم به الإسماعيلي. قال ابن دقيق العيد حسبك بما اتفق عليه الشيخان فإنه أعلى درجات الصحيح والذين لم يقولوا بالاستسعاء تعللوا في تضعيفه بتعليلات لا يمكنهم الوفاء بمثلها في المواضع التي=

الراوي الموصول بكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمييزه منه لئلا يحكم بما لا يلزم الحكم به فابحثوا عنه، وأما قوله قوم عليه فهو بيان لحكم الشرع على الإطلاق يتولاه نائب الشرع وخليفته إن اختلفوا، وأما قوله: (قيمة عدلٍ) فقد قدمنا العدل ومعناه. وخذوا فيه نكتةً وذلك أنه إذا قومها المتلف ففي تقويمه تحرير فات علماءنا بيانه، وهو أنا نقول للمقوم قومه مشترى غير مبيع ليقع الجبر لمن أتلف عليه على الكمال، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة بقوله قيمة عدلٍ، وأما قوله وعتق العبد فاختلف العلماء، هل يعتق بنفس الشراية أو بعد التقويم، وجزم (¬1) الشافعي (¬2) قوله (¬3) على أنه يعتق بنفس الشراية وهذا ضعيف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما تقدم فشرط في نفوذ العتق اليسر والتقويم لا سيما وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال وأعطى شركاءه حصصهم ثم عتق عليه العبد، فإن قيل أنتم لا تقولون بهذا الحديث، فإنه لو قوم عليه الحاكم نفذ العتق وإن لم يقبض الشركاء شيئاً فقد تركتم ظاهر هذا الحديث. قلنا: المراد بالتقويم والإعطاء نفس التحصيل بتقدير الوجوب لئلا يفوت الرق على سيد العبد ولا يأخذ له عوضًا فإذا وقع الحكم بالقيمة استقرت العوضية وتحقق الجبر وصارت صورة القبض حينئذٍ لا معنى لها، والأحكام إنما تثبت بمعانيها لا بصورها، ولهذا قال علماؤنا إنه يقم العبد (على أنه) (¬4) كامل الرق لا مبعّضاً، ولهذا قالوا إن التقويم حق للعبد، فإذا اختار السيد العتقَ كان له، أما إنه قد اختلف علماؤنا فيما إذا رضي الشريك بالتقويم حالة العسر. فقال محمَّد ذلك له، وفي الكتاب (¬5) ليس له وهو الأقوى من ظاهر ¬

_ = يحتاجون إلى الاستدلال فيها بأحاديث يرد عليها مثل تلك التعليلات وكأن البخاري خشي من الطعن في رواية سعيد بن أبي عروبة فأشار إلى ثبوتها بإشارات خفية كعادته فإنه أخرجه من رواية يزيد بن زريع عنه وهو من أثبت الناس فيه وسمع منه قبل الاختلاط ثم استظهر برواية جرير بن حازم بمتابعته لينفي عنه التفرد ثم أشار إلى أن غيرهما تابعهما ثم قال اختصره شعبة وكأنه جواب عن سؤال مقدر وهو أن شعبة أحفظ الناس لحديث قتادة فكيف لم يذكر الاستسعاء فأجاب بأن هذا لا يؤثر فيه ضعفاً لأنه أورده مختصرًا وغيره ساقه بتمامه والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد والله أعلم. فتح الباري 5/ 158. (¬1) في ت وك وإن الشافعي قواه على أنه يعتق بنفس الشراية. (¬2) قال الحافظ قال الجمهور والشافعي في الأصح وبعض المالكية إنه يعتق في الحال وقال بعض الشافعية لو أعتق الشريك نصيبه بالتقويم كان لغوًا ويغرم المعتق حصة نصيبه بالتقويم وحجتهم رواية أيوب من أعتق نصيبًا وكان له من المال ما ببلغ قيمته فهو عتيق. فتح الباري 5/ 155. (¬3) كذا في جميع النسخ ولعلها وقواه. (¬4) زيادة من ج. (¬5) المراد به المدونة.

ما يجوز من الرقاب الواجبة

الحديث وكذلك أيضًا اختلفوا فقالوا إذا اختار الشريك العتقَ لم يكن له رجوع إلى التقويم، وإن اختار التقويم لم يكن له رجوع إلى العتق لأجلِ حقِّ الأول في الولاء، وقال الأكثر من علمائنا له الرجوع لأنه تصرف قبل الحكم، وكذلك اختلفوا فيما إذا كان العبد مسلماً والسادة كفارًا، هل يقضى بالتقويم أو لا والصحيح أنه يقضى به لأنه حكم بين كافر ومسلم، والحديث فيمن أعتق رقيقاً لا يملك مالاً غيرهم قد تقدم. ما يجوز من الرقاب الواجبة أما العتق المبتدأ فلا خلاف في أنه يجوز فيه عتق الكافر والمسلم حتى قال مالك إنَّ عتقَ الكافر ابتداءً أفضل من عتق المسلم إذا كان أكثر ثمناً، للحديث الصحيح أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أي الرقاب أفضل؟ قال: (أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلِها) (¬1) وخالفه أصبغ (¬2) وأصاب فليس النظر إلى تنقيص الملك على المعتق وإنما النظرُ إلى تخليص المملوك من الرق وتفريغه لعبادةِ الله تعالى وثواب المعتق بتخليص كل عضوٍ منه عضوًا من النَّار والكافر ليس أهلاً (¬3) للتخليص لأنه من أهل النار، وأما الواجب فالجمهور على أنَّ الكافرَ لا يُجزى فيهِ وقال أبو حنيفة يجزئ الكافر عن فرض العتق كما يجزئ المؤمن لانطلاق اسم الرقبة عليه إلا في القتل لأن الله تعالى نص على الإيمان فيه وهذا لا يصح لأن الكافر ليس بمحلٍ للقُرب الفرضية وكذلك لا يجوز أن يعطى من الزكاة الفرضية، وقد احتج مالك رضي الله عنه بحديث الجارية حين قال الأنصاري على عتق رقبةٍ، أفأعتق هذه الجارية فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها) (¬4). فلم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بعتقها حتى اعتبر حالها بالإيمان، ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه قريباً من حديث عائشة. (¬2) قال الحافظ قال مالك إن عتق الرقبة الكافرة إن كانت أغلى ثمنًا من المسلمة كانت أفضل وخالفه أصبغ وغيره وقالوا المراد بقوله أغلى ثمنًا من المسلمين. فتح الباري 5/ 149. (¬3) في ج محلاً. (¬4) رواه مالك عن هلال بن أسامة عن عطاء بن يسار في عمر بن الحكم أنه قال: "أثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله إن جارية لي كانت ترعى غنمًا لي فجئتها وقد فقدت شاة من الغنم فسألتها عنها فقالت: أكلها الذئب فأسفت عليها وكنت من بني آدم فلطمت وجهها وعلي رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أين الله فقالت: في السماء فقال: من أنا؟ فقالت: أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعتقها) ".الموطأ 2/ 777.

ولو أُجزأ الكافر لأمره بعتقها، وكذلك قال في حديث السوداء: (أتشهدين أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله وتوقنين بالبعث؟ قالت: نعم ذلك كله) (¬1)، ليبين عليه السلام شرط الإيمان وحقيقة الإيمان. فإن قيل فهل يثبت الإيمان عندكم بهذه الصفات التي اعتبرَها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أم بغيرها؟ قلنا: يثبت الإيمان بما أثبته النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي شهادة الحق لا إله إلاَّ الله محمَّد رسول الله فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما اختبر حال هؤلاء القوم المسؤولين في الإيمان بما علم من حال زمانهم وأغراضهم، كما قال لوفد عبد القيس: (وأنهاكم عن الرباء) (¬2)، ولم يذكر سائِر المنهيات لعلمه بأن هذا مقصودهم الأكبر، وكذلك قال له رجل آخر: أوصني، فقال له: (لا تغضب) (¬3)، فخصه من المنهيات بما علم من حَاله الغالبة عليه، وأما هذه ¬

_ = قال ابن عبد البر كذا قال مالك وهو وهم عند جميع علماء الحديث وليس في الصحابة عمر بن الحكم وإنما هو معاوية بن الحكم كما قال كل من روى هذا الحديث عن هلال أو غيره ومعاوية بن الحكم معروف في الصحابة وحديثه معروف. وأما عمر بن الحكم فتابعي أنصاري مدني معروف يعني فلا يصح أنه قال أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله إن لي جارية. شرح الزرقاني 4/ 84، ورواه الشافعي من طريق مالك في الرسالة 242 ورواه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة مطولًا باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته (537)، والنسائي 3/ 14، وأحمد في المسند 5/ 447 و448. (¬1) مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة بن مسعود أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجارية له سوداء فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة فإن كنت تراها مؤمنة أعتقها، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم، قال: أتشهدين أن محمداً رسول الله؟ قالت: نعم، قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتقها). الموطّأ 2/ 777. قال ابن عبد البر ظاهره الإرسال لكنه محمول على الاتصال للقاء عبيد الله جماعة من الصحابة قاله ابن عبد البر قال الزرقاني وفيه نظر إذ لو كان كذلك ما وجد مرسل قط إذ المرسل ما رفعه التابعي وهو من لقي الصحابي ولعله أراد للقاء عبيد الله جماعة من الصحابة الذين رووا هذا الحديث. شرح الزرقاني 4/ 85. (¬2) كذا في جميع النسخ الرباء وهي خطأ ولعلها الدباء ففي حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس أنهم سألوه عن الأشربة فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع أمرهم بالإيمان بالله وحده قال: (أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا: الله ورسوله أعلم قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس) ونهاهم عن أربع عن الحنتم والدباء والنقير والمزفت وربما قال المقير وقال (أحفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم). لفظ البخاري في كتاب الإيمان باب أداء الخمس من الإيمان 1/ 20 وأخرجه مسلم رقم (17) في الإيمان باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه وأبو داود (3692) والنسائي 8/ 120. (¬3) رواه البخاري في كتاب الأدب باب الحذر من الغضب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أوصني قال: لا تغضب فردد مراراً قال: لا تغضب) 8/ 35 وشرح السنة 13/ 159.

مسألة

الجارية فعلم من حالها أنها كانت متعلقة بمعبودٍ في الأرض فأراد أن يقطع علاقة قلبها بكل إلهٍ في الأرض (¬1) فإن قيل: فقد قال لها أينَ الله؟ وأنتم لا تقولون بالأيْنَيَة والمكان. قلنا: أما المكان فلا نقول به وأما السؤال عن الله بأينَ فنقول بها (¬2). لأنها سؤال عن المكان وعن المكانة والنبي - صلى الله عليه وسلم - (قد) (¬3) أطلقَ اللفظ وقصد به الواجب لله وهو شرف المكانة الذي يسأل عنها بأين ولم يجز أن يريد المكان لأنه محال عليه، وأما قوله للجارية الثانية أتوقنين بالبعث بعدَ الموت؟ فعلِمَ أيضاً من حالِها ما دعاهُ إلى أن يسألها هل تعتقد الدار الآخرة وتوقن أنها المقصودة، وأن هذه الدار الدنيا قنطرة إليها، فإن من علمَ ذلك وبنى عليه صح اعتقاده وسلَمَ عمله. مسألة: أدخلَ مالك رضي الله عنه عتق الزانية وابن الزاني (¬4)، وأدخل عليه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - في جواب السائل عن الرقاب أغلاها ثمناً (¬5)، ووجه النظر في ذلك أن الكافرَ لا يجزئ بحالٍ والمطيع أفضل من العاصي ولا سيما الزانية والزناة متوعدون بالنارِ، فكان عتق ¬

_ (¬1) هذا الحديث من أحاديث الصفات وللعلماء فيها مذهبان مذهب الخلف وهو التأويل ومذهب السلف وهو الأكمل والأسلم وهو الإيمان بها على مراد الله قال أبو عمر بن عبد البر أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقرّ بها مشبه وهم عند من أثبتها نافون للمعبود والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله وهم أئمة الجماعة. ثم نقل عن الأوزاعي وسفيان الثوري ومالك بن أنس والليث بن سعد قولهم لما سئلوا عن هذه الأحاديث التي جاءت في الصفات فقالوا أمروها كما جاءت بلا كيف. التمهيد 7/ 145 و149. (¬2) قال الذهبي في هذا الخبر مسألتان إحداهما شرعية قول المسلم أين الله وثانيهما قول المسؤول في السماء فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما ينكر على المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. العلو للعلي الغفار ص 26. (¬3) زيادة من ج. (¬4) مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه أعتق ولد زنا وأمه. الموطّأ 2/ 780 وسنده صحيح. (¬5) مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرقاب أيها أفضل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها) الموطّأ 2/ 779. قال الزرقاني كذا ليحيى وأبي مصعب ومطرف وابن أبي أويس وروح ابن عبادة وأرسله الأكثر وكذا حدث به إسماعيل بن إسحاق وأبو مصعب مرسلاً وهو عندنا في موطّأ أبي مصعب عن عائشة ورواه أصحاب هشام عن أبيه عن أبي مراوح عن أبي ذر قال ابن الجارود لا أعلم أحداً قال عن عائشة غير مالك وزعم قوم أنه أرسله لما بلغه أن غيره من أصحاب هشام يخالفونه في إسناده قاله ابن عبد البر، شرح الزرقاني 4/ 89 وذكر الحافظ أن =

باب ما لا يجوز من العتق في الرقاب الواجبة

المطيع أفضلَ، ولكن أصل الإيمان يجزى لأن المعاصي عندنا لا تسلب الإيمان، وأما ما ذكره لولد الزنا، فإنما قصد به أن يتبين أن العيب إذا لم يكن في البدن، لا يؤثر في العتق، وإن نقصَ من القيمة. باب ما لا يجوز من العتق في الرقابِ الواجبةِ معول هذا الباب على أصلين. أحدهما: كمال الرقِّ في العبد. والثاني: سلامته من العيب. وبهذا قال الجمهور إلا أبا حنيفة، فإنه قال: يجوز المعيبُ في الكفارة ويجري فيها مجرى المكاتب والمدبر لأن الله قال: (فتحرير رقبة) وكل من هؤلاء رقبة .. قلنا أما المكاتب والمدبر فليسا برقبة ولا يصح أن يتناولهما اللفظ, لأنهما لا يقدر على بيعهما فقد تزعزع ملكه وتخلخلت ماليته. فنقول رقبة ناقصة لا يجوز بيعها فلا يجوز له (¬1) عتقها كأم الولدِ، وقد مهدناه في مسائل الخلافِ وأما المعيبُ فكيف يصح لأبي حنيفة أن بجعلَ الأعمى رقبة وهو يوجبُ جميعَ القيمةِ على من أخرجَ عينه. فكيف بجعل الرقبة ذاهبة في حقِّ الإتلاف موجهه في حقِّ العتقِ هذا بعيد جداً بل لو قاله بالعكس كان أولى. بابُ الولاء الولاء كما جاء في الحديث لُحْمَةً كلُحْمة النسب (¬2) لأنه أخرجه بالحرية إلى الوجود ¬

_ = الإسماعيلي ذكر نحو عشرين نفسًا رووه عن هشام عن أبيه عن أبي مراوح عن أبي ذر وخالفهم مالك فأرسله في المشهور عنه عن هشام عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه يحيى بن يحيى الليثي وطائفة عنه عن هشام عن أبيه عن عائشة ورواه سعيد بن داود عنه عن هشام كرواية الجماعة قال الدارقطني الرواية المرسلة عن مالك أصح والمحفوظ عن هشام كما قال الجماعة، فتح الباري 5/ 149 قلت والحديث متفق عليه من وراية هشام عن أبيه عن أبي المراوح عن أبي ذر أخرجه البخاري في كتاب العتق باب أي الرقاب أفضل 3/ 188، ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، حديث (136). (¬1) في ت فلا يصح لأبي حنيفة عتقها. (¬2) ابن حبان من طريق يعقوب بن إبراهيم عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله ابن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الولاء لحمة كلحمة النسب إلا يباع ولا يوهب) 7/ 220 ورواه الحاكم في المستدرك 1/ 344 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورده الذهبي ورواه البيهقي في السنن الكبرى 10/ 292. وعلّة هذه الرواية محمَّد بن الحسن الشيباني ويعقوب بن إبراهيم هو أبو يوسف أما الأول وهو محمَّد بن الحسن فقد قال فيه الذهبي محمَّد بن الحسن الشيباني عن مالك وغيره ضعفه النسائي من قبل حفظه. المغني 2/ 567.=

حكماً، كما أخرجه الأب النطفة إلى الوجود حسًّا، فإنَّ العبدَ كان معدوماً في حق الأحكام شرعاً، لا يشهد، ولا يقضي، ولا يؤم، ولا يلي، ولا يحج، ولا يعطى، عبدًا مملوكاً لا يقدرُ على شيء، فأخرجه الله تعالى بالحرية على يدي سيده عن عدم هذه الأحكام إلى وجودها كما أخرجه على يدي أبيها بالنطفة إلى الوجود الحسي والكل لله خلقاً وحُكمًا وله الحكمة في هذا النسب والإضافات ولما أثبته لحمة كلحمة النسب وأجراه مجرى البعضية ناطه بالعتقِ خاصة فقال إنما الولاء لمن أعتقَ في حديث بريرة الصحيَح (¬1) ومكنه في مرتبة النسب، فنهى عن بيع الولاء وعن هبته في حديث ابن عمر، وزعم أبو حنيفة أن الولاء يكون بالموالاة، وأن رجلين لو تعاقدا على أن يتواليا حتى يكونا أخوين في الميراث والعقل لجاز ذلك لهما ويجري حكمها عليهما لقولِ الله تعالى: (ولكلٍ جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون) (¬2) إلى قوله تعالى: (فأتوهم نصيبهم) وقد تكلمنا على هذه الآية في كتاب الأحكام وبيَّنا أنها منسوخة (¬3) وقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم الولاء بالعتق بكلمة إنما نفياً وإثباتاً، وكلمة إنما موضوعة لتحقيق المتصلِ وتمحيق المنفصل وقد بيَّنا اقتضاءها للحصر في مسائلِ الخلافِ وتقدم القول في المنبوذ وأن وليه المسلمون وأما جرّ الولاء فأجمعت عليه الصحابة رضوانِ الله عليهم عن بكرة أبيهم وما يحكى عن خلاف رافع بن خديج فيه ¬

_ = وقال عنه في الميزان 3/ 513 كان من بحور العلم والفقه قويًا في مالك. ويقول عن يعقوب بن إبراهيم القاضي قال الفلاس صدوق كثير الغلط وقال البخاري تركوه وقال المزني أبو يوسف أتبع القوم للحديث وقال عمرو الناقد كان صاحب سنة وقال أبو حاتم يكتب حديثه. المغني 2/ 757. وقال ابن عدي ليس في أصحاب الرأي أكثر حديثًا منه إلا أنه يروي عن الضعفاء الكثير مثل الحسن بن عمارة وغيره وهو كثيرًا ما يخالف أصحابه ويتبع أهل الأثر إذا وجد فيه خبرًا مسنداً وإذا روي عنه ثقة ويروي هو عن ثقة فلا بأس به وبروايته الكامل رقم (2602) وانظر الميزان 4/ 447 وعزاه الحافظ إلى الطبري في تهذيبه وأبي نعيم في معرفة الصحابة والطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن أبي أوفى وقال وظاهر إسناده الصحة ويعكر على البيهقي حيث قال عقب حديث أبي يوسف يروي بأسانيد كلها ضعيفة .. التلخيص 4/ 214 وصححه الشيخ ناصر في صحيح الجامع الصغير 6/ 117 وفي إرواء الغليل 6/ 109. (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في البيوع باب إذا اشترط شرطًا في البيع لا يحل 3/ 95 ومسلم في كتاب العتق باب إنما الولاء لمن أعتق رقم (1504) حديث (6) والموطأ 2/ 780 من حديث عائشة. (¬2) سورة النساء آية 33. (¬3) انظر أحكام القرآن له ص 413 وانظر أحكام القرآن للجصاص الحنفي 2/ 186 فقد نقل مذاهب العلماء في المسألة وعقب على ذلك بترجيح مذهبه.

ميراث السائبة

ليس بصحيح (¬1)، إنما كان رافع بن خديج المخاصم فيه إلى عثمان فقضَى عليه وليس نزاع المنازع في مجلس القضاء بقولٍ معدود في الخلافِ، وإنما يكون خلافاً لو تكلم فيه بعد ذلك وفي جر الولاء فروع دقيقة، ومسائل حسنة، اختلفَ فيها العلماء، قد بسطنا القَولَ فيها في كتب المسائل، لكن لما لم تكن من الأصول، لم تلقِ بهذا الموضع الذي نحن فيهِ، فأحلنا على مكانِها والله أعلم. ميراثُ السائبة: قال الله تعالى: (ما جعل الله من بحيرةٍ ولا سائبةٍ ولا وصيلة ولا حام) (¬2) ومن قولِ متقدمي العلماءِ لا سائبة في الإِسلام وألفاظ العتق معلومة، وقد مهدناها، وليست السائبة منها، لكن إذا قال الرجلُ عندي سائبة، فلا يخلو من ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن يريدَ ليسَ لي فيه ملك ولا منتفع فهذه هي الحرية، ولكن جاء بلفظٍ ليس من ألفاظها وإن أراد بقوله هو سائبة أنه عتيق عن المسلمين لا أجعل ذلك على أحدٍ مخصوصاً، فإنه أيضاً يكون عتيقًا ويكون ولاؤه لجميع المسلمين، ولذلك كره مالك هذا اللفظ ونهى عنه (¬3) لأنه تكلم بقولٍ، فدعَى به الله على قوم وقال سحنون وأصبغ لا يعجبنا كراهية مالك لذلك وحوصلته أوسعَ منهم (¬4)، فإذا قال هو سائبة، كان ولاؤه لجميع المسلمين، قاله عُمر وابن عمر وابن عباسٍ ورواه مطرف عن مالك وقيل إن ولاءه لمعتقه. روي عن عمر بن عبد العزيز وذهبَ إليه ابن نافع وابن الماجشون (¬5) وقد قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في السنن الكبرى من حديث هشام ابن عروة عن أبيه أن الزبير ورافع ابن خديج اختصما إلى عثمان رضي الله عنهم في مولاة لرافع بن خديج كانت تحت عبد فولدت منه أولادًا، فاشترى الزبير العبد فأعتقه فقضى عثمان رضي الله عنه بالولاء للزبير وقال وكذا رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومحمد ابن إبراهيم التيمي عن عثمان والزبير رضي الله عنهما مرسلاً. السنن الكبرى 10/ 306، 307 قلت هذا الحديث لم أجده معزوًا لغير السنن. (¬2) سورة المائة آية (103). (¬3) قال الزرقاني وإنما كره مالك العتق بلفظ سائبة لاستعمال الجاهلية لها وفي الأنعام ولقوله إنه أمر تركه الناس وتركوا العمل به. شرح الزرقاني 4/ 100. (¬4) قال الباجي وروي في العتبية أصبغ عن ابن القاسم أكره عتق السائبة لأنه كهبة الولاء قال عيسى عنه أكرهه وأنهي عنه قال أصبغ وسحنون لا تعجبنا كراهته لذلك وهو جائز كما يعتق عن غيره. المنتقى 6/ 286. (¬5) قال الباجي ومن أعتق عبده سائبة يريد العتق عن جماعة المسلمين فثبت ولاؤه لهم وبه قال عمر وابن عمر وابن عباس وبه قال ابن القاسم ومطرف قال ابن حبيب عن ابن نافع وابن الماجشون ولاؤه لمعتقه وبه قال عمر بن=

(الولاء لمن أعتقَ)، فإن قال السيد هو سائبة، وقصد به إبطال الملك فهوَ حر وولاؤه له وإن قال هو سائبة وقصد به نبذه للناس أجمعين فهوَ حر وولاؤه لجميع المسلمين، فعلى هذا تحمل الروايات من اختلاف الحالات وليس باختلافِ قولٍ في حالةٍ واحدة. ¬

_ =عبد العزيز وروى في العتبية يحيى بن يحيى عن ابن نافع أنه قال لا سائبة عندنا اليوم في الإِسلام ومن أعتق سائبة فولاؤه له. قال الباجي وجه القول الأول أن الولاء لمن أعتق عنه كما لو أعتقه رجل معين ووجه قول ابن نافع ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (وإنما الولاء لمن أعتق) وهذا معتق ولأنه لم يعتق عن معين فكان الولاء له كما لو أطلق العتق. المنتقى 6/ 286.

كتاب المكاتبة

كتاب المكاتبة أذنَ الله سبحانه وتعالى في الكتابة رحمة للخلقِ وحالة متوسطة بين السادةِ والعبيدِ، لأنَّ السيدَ ربما شق عليه أن يخرج قيمة العبد عن ملكه، أو ربما لم يثق بالعبد في أداء خراجه فيريدُ أن يجتهدَ العبدُ في أداءِ المال لقصدِ الحرية فيحصل لكلِ واحدٍ منهما مقصوده، وربما كره بقاءه في ملكه، وإن كانَ مجتهداً في أداء كسبه فيخرجه عن يده، وينتفع بالقيمة، وقد يكون راغباً في عبده ولكن يرى فيه من الأمر ما يحمله على عتقهِ، فإن سمحت نفسه بذلك أنفذ له الحرية وإن شح على مالهِ باعه من نفسهِ، وهي الكتابة قال الله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} (¬1) الآية. قال بعض المتقدمين: الكتابةَ واجبة (¬2) لأن الله تعالى أمر أمراً مطلقاً، والأمر المطلق محمول ¬

_ (¬1) سورة النور آية 33. (¬2) قال في الأحكام ذكر الله طلب العبد للمكاتبة وأمر السيد بها حنيئذ وهي حالتان الأولى أن يطلبها العبد ويجيبه السيد فهذا مطلق الآية وظاهرها. الثانية أن يطلبها العبد ويأباها السيد وفيه قولان الأول لعكرمة وعطاء أن ذلك واجب على السيد وقال سائر علماء الأمصار لا يجب ذلك عليه وتعلق من أوجبها بمطلق قوله تعالى (فكاتبوهم) الأحكام ص (1382). وزاد القرطبي على الذي ذكر ابن العربي مسروق وعمرو بن دينار والضحاك بن مزاحم وجماعة أهل الظاهر فكلهم قالوا إن ذلك واجب على السيد. وقال علماء الأمصار لا يجب ذلك وتعلق من أوجبها بمطلق الأمر وافعل بمطلقه على الوجوب حتى يأتي الدليل بغيره وروي ذلك عن عمر وابن عباس واختاره الطبري واحتج داود أيضًا بأن سيرين أبا محمَّد بن سيرين سأل أنس بن مالك الكتابة وهو مولاه فأبى أنس فرفع عمر عليه الدرة وتلا (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) فكاتبه أنس قال داود وما كان عمر ليرفع الدرة على أنس فيما له مباح ألا يفعله. وتمسك الجمهور بأن الإجماع منعقد على أنه لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك ولم يجبر عليه وإن ضوعف له في الثمن وكذلك لو قال له أعتقني أو دبرني أو زوجني لم يلزمه ذلك بإجماع فكذلك الكاتبة لأنها معاوضة فلا تصح إلا عن تراض وقولهم مطلق الأمر يقتضي الوجوب صحيح لكن إذا عري عن قرينة تقتضي صرفه عن الوجوب وتعليقه هنا بشرط علم الخير فيه فعلق الوجوب على أمر باطن وهو علم السيد بالجزية.=

على الوجوب قال علماؤنا، كذلك نقُول إن لم تقم قرينة تصرفه عن الوجوب أو يدل على سقوط الوجوب دليل وهاهنا قرينة وهيَ قوله تعالى: (إن علمتم فيهم خيرًا)، فصرفَ الأمر إلى علم المأمور والتكاليف الجازمة، والأوامر الواجبة لا تقف على خيرية المكلف وعلمه. وأما الدليل الذي دل على سقوط الوجوب فيها، فهو أنَّ العتقَ وهو الأصل لا يجب فضلاً عن الفرع وهي الكتابة ولذلك قال علماؤنا إنها رخصة مستثناة من جميع المعاملات، لأن السيدَ يبيع فيها ماله بمالِه، ولا يصح أن يجبرَ العبدُ عليها وإنما تكون برضاه، فإذا عقدها مع سيدهِ لزمته عند جمهور العلماء، وقال الشافعيُّ يجوز له أن يتركها متى شاء وقال معه جماعة من المتقدمين، واحتجوا على ذلك بما روي أن بريرة جاءت عائشة تقول لها: إنّي أريد أن تشتريني وتعتقيني. فقالت لها إن أراد أهلك ذلك. فجاءت أهلها فباعوها. خرجه البخاري (¬1). قلنا لم يبع أهل بريرة رقبة بريرة وإنما باعوا كتاباتها، ولأجل ذلك قالت عائشة في الحديث إن أحبَ أهلكِ أن أعدها لهم عدةً واحدةً فعلت (¬2) فهذا الذي يقتضيه حديث بريرة وإن كان العلماء قد اختلفوا في جوازِ بيع الكتابةِ. وكرهه الشافعي وابن الماجشون وربيعة (¬3) وحديث عائشة نص في جوازه. فإن قيلَ بريرة كانت قد عجزتْ، وإذا ¬

_ = وإذا قال العبد كاتبني وقال السيد لم أعلم فيك خيرًا وهو أمر باطن فيرجع فيه إليه ويعول عليه وهذا قوي فهي بابه القرطبي 12/ 245. (¬1) أخرجه البخاري في كتاب العتق باب إذا قال المكاتب اشترني واعتقني 3/ 200 من حديث عبد الواحد بن أيمن قال دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت كنت لعتبة ابن أبي لهب ومات وورثني بنوه وإنهم باعوني من ابن أبي عمرو فأعتقني ابن أبي عمرو واشترط بنو عتبة الولاء فقالت دخلت بربرة وهي مكاتبة فقالت اشتريني واعتقيني قالت نعم قالت لا يبيعوني حتى يشترطوا ولائي فقالت لا حاجة لي بذلك فسمع ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بلغه فذكر لعائشة فذكرت عائشة ما قالت لها فقال اشتريها واعتقيها ودعيهم يشترطون ما شاؤوا فاشترتها عائشة فأعتقتها واشترط أهلها الولاء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الولاء لمن أعتق وإن شرطوا مائة شرط. (¬2) البخاري في كتاب العتق باب استعانة المكاتب وسؤاله الناس من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة 3/ 199. (¬3) قال النووي حديث (إنما الولاء لمن أعتق) حديث عظيم كثير الأحكام والقواعد وفيه مواضع تشعبت فيها المذاهب أحدها أنها كانت مكاتبة وباعها الموالي واشترتها عائشة وأقر النبي صلى الله عليه وسلم بيعها فاحتج به طائفة من العلماء في أنه يجوز بيع المكاتب وممن جوزه عطاء والنخعي وأحمد ومالك في رواية عنه. وقال ابن مسعود وربيعة وأبو حنيفة والشافعي وبعض المالكية ومالك في رواية عنه لا يجوز بيعه وقال بعض العلماء يجوز بيعه للعتق لا للاستخدام وأجاب من أبطل بيعه عن حديث بريرة بأنها عجزت نفسها وفسخوا الكتابة والله أعلم. شرح النووي على مسلم 10/ 139.

تفصيل

عجزَ المكاتب رق. قلنا هذه دعوى زيادة في الحديث (¬1) وأيضاً فإن عجزها لا يكون إلا عندَ الحاكم، وأما بقوله فلا يسمع لأنه ليس له أن يرق نفسه إذ قد ثبت له حق الحرية وأما إيتاء المال فقال الشافعي وغيره إنه واجب ويحط له من آخر نجومه نجمًا أو جزءاً من أجزاء الكتابة وحمل قول الله تعالى (وآتوهم من مالِ الله) على الوجوب وقال علماؤنا ليس الإيتاء واجباً واحتجوا على ذلك بالأدلة المعروفة وليس الأمر كذلك، بل إيتاء الحق إلى المكاتب واجبٌ بإجماعٍ من الأمةِ إلا أن ربَّنا تعالى قال: {من مال الله} فيحتمل أن يريد به الذي بيد السيد، ويحتمل أن يريدَ به من مالِ الله الذي هو الزكاة، ويحتمل أن يريدَ به من مالِ الله الذي لجماعة المسلمين في بيتهم ويحتمل أن يريد به {من مالِ الله} الذي لجماعة المسلمين في أيديهم فإن عون المكاتب فرض على الكفاية، ومع هذه الاحتمالات لا يصح للشافعي وغيره أن يقول إن الإيتاء واجب من المكاتبة دون سائر المحتَملات (¬2) وقد بَسطَنا ذلك في مسائِل الخلاف. تفصيل: لما ثبت أن عقدَ الكتابة لازم من الطرفين موجب للمكاتب عقد الحرية، في رقبته وجوباً يسري إلى الأولاد لم يجز وطء المكاتبة وقال الشافعي يجوز لأنه عتق إلى أجلٍ، فلم يمنع من الوطء كالعتق المؤجل. قلنا: لو كانَ كالعتق المؤجل لسرى إلي الأولاد، فعدم سريانه إلى الولد يدل على أنه ليس بمتمكنٍ في الرقبة، وسريَان الكتابة إلى أولاد المكاتبة دليل على أن عقد الحرية متمكن في رقبتها، فلا يجوز له وطئِها كأم الولد، فإن عقد الحريةِ لما ثبتَ في رقبتها جعلها من سيدها كالأجنبية، إلاَّ في حقِ الوطء الذي كان سبب الحرية، إذ لو حرم لكان من باب إسقاط الشيء لنفسه الذي يثبت به كمسائل الدور كلها، فوجبَ أن ¬

_ (¬1) قال ابن عبد البر ليس في شيء من طرق حديث بريرة أنها عجزت عن أداء النجم ولا أخبرت بأنه قد حل عليها شيء ولم يرد في شيء من طرقه استفصال النبي - صلى الله عليه وسلم - لها عن شيء من ذلك نقلاً عن فتح الباري 5/ 195. (¬2) نقل الكيا الهراسي عن الشافعي قوله في تفسير قوله تعالى (وآتوهم من مال الله الذي أتاكم) قال الشافعي ثم أمر من يكاتب بالإيتاء ولا بتصور هذا الإيتاء إلا من جهة حط شيء ولا يمكن حمله على الزكاة فإن السيد لا يجب عليه أن يفرق الزكاة على على عبيده إجماعًا. ولا شك أن ظاهر اللفظ لا يقتضي الحط لأنه ليس بإيتاء للمال وإنما يدل عليه من حيث المعنى لأن قوله {من مال الله الذي أتاكم} لا بد أن يحمل على ملك متجدد بعد الكتابة وصار مالاً مستحقاً للسيد فمن هذا الوجه حسن إطلاق هذا اللفظ عليه. الأحكام للكيا الهراسي 4/ 293.

تفريع

وتكونَ المكاتبة كالأجنبية في حقِّ السَّيد، وأول ما يفوته منها الوطء الذي هو مفتقر إلى خلوص الملك، بدليل أنه لا يجوز وطء الجارية المشتركة. تفريع: إذا عقد الكتابة لجماعة من عبيده في عقدٍ واحدٍ، فإن بعضهم حملا عن بعضٍ وقال الشافعي: لا يحمل أحدٌ عن أحدٍ منهم لصاحبهِ شيئاً لأنه ضمان كتابته، فلا يجوز كضمان الأجنبي، فنظر الشافعي إلى الأجنبي، ونظر علماؤنا إلى عقد الكتابة بين القرابة وخصوصاً الأبناء، يحملُ بعضهم عن بعضٍ ولم يكن ضمان بعضهم عن بعض في الكتابة لأجل القرابة فإنه لا تزر وازرةً وزرَ أخرى، ولا يلزم قريباً عن قريبه مال بغير رضاه في شيء من أحكام الشرع ما خلا العاقلة المستثناة بإجماعٍ فدل على أن ذلك إنما كانَ بعقدِ الكتابةِ وذلك يستوي فيه القريب والبعيد، وفروع هذا الباب كثيرة وهي مركبة عليهِ من غيره لما يدخلُ عليها من شَرطٍ أو ولاءٍ أو حمالةٍ أو وصيةٍ أو صفةٍ لمقاطعةٍ أو جراح تطرأ فيه منه أو عليه أو بيع في كتابة فما يجوز أو لا يجوز واختلاف السيدين بعد عقد الكتابةِ أو اتفاقهما، وهذا كله معلوم في أبوابهِ مضبوط بأصولهِ وهي من فن التركيب والتعليل الذي لم يتعرض له ها هنا، أما أنه عرضت في الكتابة مسألة معضلة وهي الكتابة الحالة وقد اختلفَ فيها العلماء (¬1) قديمًا وحديثًا وبيَانها في مسائل الخلاف على الاستيفاء ومن غريب اضطراب العلماء فيها أنَّ الشافعيَّ يقول إن السلم الحال جائِز والكتابَة الحالة لا تجوز واختلفَ فيها جواب علماء المالكية والذي عندي أن تصويرها يكشف حقيقتها. ولها ثلاث صور: الصُورة الأولى: أن يقول لعبده: كاتبتك على تسعِ أواق في تسعة أعوام فهذا بيّن إن التزمه العبد. الصورة الثانية: أن تقول له إن أعطيتني كذا ديناراً فأنتَ حر، والمال حاضر فيقتطعه السيد من يده، ويقضَى له بحريته لأن له انتزاع ماله وإبقاءه في الرق، فكيف غير ذلك من مما له فيه حظ. الصورة الثالثة: أن يقول له ألزمتك مائة دينار تعطينيها وأنت حر، والعبد ليس عنده شيء. فقال الشافعي هذا الكلام لغو، وقال علماؤنا يرتفعان إلى الحاكم ينظر في ذلك فإن أراد العبد الالتزام ألزمه الحاكم ونجمَ المال عليه على قدر حال العبد وحال المال، ونظرنا ¬

_ (¬1) في ت وج وك الفقهاء.

المدبر

أقوى من نظر الشافعي لأن السيد لما تكلم به أوجبَ للعبدِ حقاً في الالتزام وسعياً في الحرية، فلم يجز له الرجوع فيه لأن هذا الحق لا يقبلُ الرجوع ولا الإسقاط كسائر الحقوق المتعلقة بالعتق، ومن مسائله العظيمة التي اختلف فيها الفقهاء والصحابة إذا مات المكاتب وترك وفاءً بالكتابة وترك ورثة، فقيل: تبطل الكتابة وبه قال الشافعي وقال قوم تبقى الكتابة وبه قال مالك وأبو حنيفة في تفصيل طويل بين الطوائف وأرباب المذاهب، ولا تستقل به إلَّا كتب المسائِل، وقد استوفينا ذلك كله في موضعه والحمد لله. ونظرَ الشافعي إلى أن المعقود عليه وهو المكاتب قد هلك والأصل عنده أن المعقود عليه إذا هلك بطل العقد كسائر عقود الشريعة كلها، وهذا لعمْرُ الله هو الأصل بيد أن هذا الحق قد يتعدى من المعقود عليه إلى غيره وهم الأولاد وثبت فيهم ثبوته في الأصلِ، فمن نظر من الصحابة إلى هذا المعنى أبقى الكتابة وحكم بأداء النُجوم وأوجبَ الحرية والميراث للأولاد وبه أقول. المدبر: ومن متعلقات عقود الحرية وفروعها وهو أصلٌ في نفسه أيضًا وله فروع أقل من الأول التدبير: وهو عقد متفق عليه بين الأمة كان في الجاهلية وأقره الإسلام وفي الصحيح عن جابرٍ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: باع مدبرًا (¬1) وأصله أن يقول أنت مدبر وأنت حرٌّ عن دبرٍ منيّ أو أنت حر بعد موتي لا على معنى الوصية، فقال الشافعي: هذا عتق إلى أجل، ومن أصله، أن كل عتق إلى أجلٍ قطع بإتيانه أو لم يقطع لا يقضي بلزوم العتق على السيد، والمسألة معلومة في مسائل الخلاف، فهذه المسألة من جملة تلك الصور ويخصها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - باع المدبر، ولو كان حراماً كما قال مالك وأبو حنيفة ما باعها (¬2) ونظر علماؤنا إلى أنه عقد ألزمه ¬

_ (¬1) متفق عليه البخاري في البيوع باب بيع المزايد 3/ 91 ومسلم في الإيمان باب جواز بيع المدبر 997 من حديث جاير بن عبد الله رضي الله عنهما أن رجلًا أعتق غلامًا له عن دبر فاحتاج فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال من يشتريه مني فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا فدفعه إليه لفظ البخاري. وأخرجه أيضًا أبو داود (3955 و3956 و3957) في العتق والترمذي (1219) في البيوع باب ما جاء في بيع المدبر والنسائي 7/ 304 في البيوع باب بيع المدبر. (¬2) قال النووي رحمه الله في هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي ومن وافقه أنه يجوز بيع المدبر قبل موت سيده لهذا الحديث قياسًا على الموصي بعتقه فإنه يجوز بيعه بالإجماع وممن جوزه عائشة وطاوس والحسن ومجاهد وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود رضي الله عنهم وقال أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهما وجمهور العلماء والسلف من الحجازيين والشاميين والكوفيين رحمهم الله تعالى لا يجوز بيع المدبر قالوا إنما باعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في دين كان على سيده .. =

القول في الدماء والحدود

نفسه في رقبة العبد يتعلق بالحرية، يظهر عند أجل آتٍ لا محالة فلزم كأمِ الولدِ، وأما حديث جابر فلَا حجة فيهِ لأنها حكايته حالٍ وقضية عين، وقضايا الأعيان وحكَايات الأحوال لا يستدل بها على العموم, لأنها لا تقتضي ذلك لفظًا ولا معنىً، وقد بيناه في مسائل الأصول، فيحتمل أن يكون باعه عليه السلام في دينٍ سبق التدبير، وكذلك نقول. ويحتمل أن يكون باعه إذ كانت أم الولد تباع على ما روى جابر ثم نسخ (¬1) ذلك وبالجملة، فلا يحتج بمحتملٍ، وقد استوفيناها في مسائل الخلاف فلتنظر هنالك. ويبقى من فروع التدبير ما بقي من فروعِ الكتابة فيركب عليه كما يركب عليه فليطلب هنالك. القول في الدماء والحدود: الدماء خطيرة القدر في الدين، عظيمة المرتبة عندَ الله تعالى وإن كانت محترمة ¬

_ = وتأوله بعض المالكية على أنه لم يكن له مال غيره فرد تصرفه قال هذا القائل وكذلك يرد تصرف من تصرف بكل ماله وهذا ضعيف بل باطل والصواب نفاذ تصرف من تصدق بكل ماله. شرح النووي على مسلم 11/ 141 وانظر فتح الباري 4/ 422. (¬1) رواه أبو داود (3954) وابن حبان 6/ 265 والحاكم في المستدرك 2/ 18 - 19 والبيهقي 10/ 347 من طريق حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عنه وقال الحكم صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ولفظ الحديث "بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي يكر فلما كان زمن عمر نهانا فانتهينا". وله طريق أخرى يرويها ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع جاير بن عبد الله يقول "كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي فينا لا نرى بذلك بأسًا" أخرجه أحمد في المسند 3/ 321 والبيهقي في السنن 10/ 348. وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري عن أحمد في المسند 3/ 22 والحاكم في المستدرك 2/ 19 من طريق زيد بن الحواري أبو الحواري العمي البصري قاضي هراة يقال اسم أبيه مرة ضعيف من الخامسة. التقريب ص 223 وهذه الرواية الأخيرة ضعفها الحافظ في التلخيص 4/ 218. ويقول الخطابي قال بعض أهل العلم يحتمل أن يكون هذا الفعل منهم في زمان رسول الله وهو لا يشعر بذلك لأنه أمر يقع نادرًا وليست أمهات الأولاد كسائر الرقيق التي تتداولها الأملاك فيكثر بيعهن فلا يخفى الأمر على الخاصة والعامة. ويحتمل أن يكون مباحًا في العصر الأول ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ولم يعلم به أبو بكر لأن تلك لم يحدث في أيامه لقصر مدتها ولاشتغاله بأمور الدين ومحاربة أهل الردة ثم نهى عنه عمر حين بلغه ذلك عن رسول الله فانتهوا عنه. مختصر السنن ومعالم السنن 5/ 413 - 414.

بالحكم والأمر، فإنها مراقة بالقضاء والحكمة. قالت الملائكة لربنا تعالى: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} (¬1) الآية. ثم علمنا ربنا معنى ذلك وحكمته، وهي ما بيّناهُ في كتاب الأمد من أنَّ الله سبحانه له الصفات العلى والأسماء الحسنى وكل اسم من أسمائه، وصفة من صفاته لها متعلق لا بدَ أن يكونَ ثابتًا على حكمِ المتعلقِ منها عامة التعلق، ومنها خاصة فيه فلما كان من صفاتِه الرحمة أخذت جزءاً من الخلق، فكان لهم العفو والعافية في الدنيا والآخرة ولما كان من صفاته السخط، أخذت هذه الصفة جزءاً من الخلقِ فوجبَ لهم العذاب، واستحقت عليهم النقمة إلى آخر تحقيق هذا الفصلِ في الكتاب المذكور (¬2)، فلما خلقَ الملائكة يفعلون ما يؤمرون ويسبحون بالليلِ والنَّهارِ لا يفترون، لم يكن بد لما تقدم بيانه له من أن يخلق من تجري عليه هذه الأحكام من خير وشر، وتنفذ فيه هذه المقادير من نفعٍ وضرٍ. فالحمدُ لله الذي بصرنا حكمته وأحكامه وإياه نسألُ نوراً يتيسر به العمل ولعظيم حرمة الدماء: حديث (¬3): قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال الرجلُ في فسحةٍ من دينه (¬4)، وروي من ذَنبه (¬5)، ما لم يصبُ دماً حراماً). فالفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة، حتى إذا جاء القتل ضاقت, لأنها لا تفي به والفسحة في الذنب قبوله للمغفرة (¬6)، وإن قتل البهائم بغير حتي لموجب ذنباً عظيماً، فكيف قتل الآدمي الذي لو وزن بالدنيا بأسرها لرجحها. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول ما يقضى فيهِ يوم القيامة الدماء) (¬7) , لأنَّ المهم هو المقدم. ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (30). (¬2) هذا الكتاب هو كتاب الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى وهو لا زال مخطوطاً. (¬3) في ج حديث ولعظيم حرمة الدماء. (¬4) رواه البخاري في أول كتاب الديات 3/ 9 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) ورواه البغوي في شرح السنة 10/ 149 والديلمي في مسند الفردرس 5/ 96 والبيهقي 8/ 21. (¬5) قال الحافظ وفي رواية الكشمهينى من ذنبه فتح الباري 12/ 188. (¬6) نقل الحافظ كلام ابن العربي السابق وعقب عليه بقوله وحاصله أنه فسره على رأي ابن عمر في عدم قبول توبة القاتل .. ثم قال وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال لمن قتل عامدًا بغير حق "تزود من الماء البارد فإنك لا تدخل الجنة". فتح الباري 12/ 188. (¬7) متفق عليه البخاري في أوائل الديات 9/ 3 ومسلم (1678) في القسامة باب المجازاة في الدماء من حديث=

ترجمة

ترجمة: بدأ مالك رضيَّ الله عنه القول في الدماء بيان القسامة والقتل يثبت بثلاثة أشياء عنده. أحدها: البينة العادلة. والثاني: الإقرار لقوله تعالى: (بل الإنسان على نفسه بصيرة) (¬1). والثالث (¬2): القسامة. فعنده أنه يشاط بها الدم، وقال جمهور العلماء إنما تستحق بها الدية، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (تحلفون على رجل منهم يدفع إليكم برُمتهِ) (¬3). ويليه قوله: (فتحلفون وتستحقون دم صاحبكم (¬4). فصل القسامة متفق عليها في الجاهلية والإِسلام. روى مسلم قال: كانت القسامة في الجاهلية (¬5) فأقرها الإِسلام، وهي مخصوصة من قواعد الدين في أنها تثبت باللوث كما تثبت بالبينةِ، واختلف في اللوث اختلافاً كثيراً، مشهور المذهب أنه الشاهد العدل، وقال الشافعيُّ وأبو حنيفة هو قتيل المحلة وفيه وردت النازلة، زاد مالك وقول المقتول دمي عند فلان وزاد لها مالك محلاً آخر فقال إن المجروح إذا عاش بعد الجرح وأكلَ وشربَ ثم طري عليه الموت لم يجب القود لأوليائه حتى يقسموا لقد مات من ذلك الجرح، فأما قتيل المحلة فليس بشبهةٍ لأن العدوَ قد يلقي القتيل على غيرهِ وذلك معلوم حقيقة، موجود عادةً، وأما قول المقتول دمي عند فلان فإن مالكاً بنفسهِ إنما تعلق فيهِ لما روى عنه كثيراً (¬6) ¬

_ = عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء). (¬1) سورة القيامة آية 14. (¬2) في ك وم بدون واو. (¬3) هذه رواية مسلم في القسامة باب القسامة (1669) حديث (2). (¬4) هذه رواية مالك عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبر هو ورجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم .. البخاري في كتاب الأحكام باب كتاب الحاكم إلى عماله والقاضي إلى أمنائه 9/ 93 ومسلم في القسامة (1669) حديث (6) والموطأ 2/ 877. (¬5) روى مسلم من حديث سليمان بن يسار عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية. مسلم (1670). (¬6) في ك أصحابه فقط.

أصحابه لحديث: بقرة بني إسرائيل، حين قام المقتول فقال: فلان قتلني (¬1) فإن قيل هذه الآية لا حجة فيها من وجهين أحدهما: أنه شرع من قبلنا والثاني: أنها آية، والأحكام إنما تبنى على الدلالات لا على الآيات والمعجزات قلنا أما شرع من قبلنا، فإنه شرع لنا بلا (¬2) خلاف في المسائل المالكية، وقد دللنا عليه في أصول الفقه (¬3)، وأما كون هذا الدليل آية، فالآية إنما هي في الإحياء لا في الدعوى، ولو قال نبيُ: معجزتي أن يحيى الله هذا الميت، فقام الميتُ ينفض أصدريه وقال كذبتُ بك لم يقدح ذلك في معجزته، لأن الآية إنما هي الإحياء، ويكون هذا أحد المبعوث إليهم فيفعل كفعلهم. ومن خصائص القسامة البداية فيها بأيمان المدعي. قال به جمهور العلماء وخالفهم أبو حنيفة قال إن البداية بأيمان المنكرين وتعلق في ذلك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر (¬4)) وهو الأصل، ومتعلق العلماء رحمة الله عليهم بحديث القسامة المشهور، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالمدعي فقال له: أتحلف فكذلك فليفعل كل حاكم. فإن ¬

_ (¬1) قال الشارح في الأحكام 1/ 24 استدل مالك في وراية ابن القاسم وابن وهب عنه على صحة القول بالقسمة يقول المقتول دمي عند فلان قال مالك هذا مما يبين أن قول الميت دمي عند فلان مقبول ويقسم عليه قال ابن العربي قد قيل كان هذا آية ومعجزة على يدي موسى - صلى الله عليه وسلم - لبني إسرائيل قلنا الآية والمعجزة إنما كانت في إحياء الميت فلما صار حيًّا كان كلامه كسائر كلام الآدميين كلهم في القبول والرد وهذا فن دقيق من العلم لا يتفطن له إلا مالك. وانظر تفسير القرطبي 1/ 457. (¬2) في ك وم من غير خلاف. (¬3) قال في المحصول تكليف الكفار بفروع الشريعة اختلف فيه علماؤنا وغيرهم على قولين فمنهم من قال لا تصح مخاطبتهم بأمر لاستحالة وقوع الفعل منهم حال كفرهم ومنهم من قال هم مخاطبون بذلك وتلوا في ذلك قرآنًا وسطروا فيه آيات منها ما يتطرق إليه الاحتمال القوي والضعيف .. المخصوص 188 رسالة ماجستير تحقيق الشيخ عبد اللطيف أحمد الحمد. (¬4) رواه مسلم من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعي عليه) مسلم في كتاب الأقضية باب اليمين على المدعى عليه (1711) ورواه البخاري في الرهن باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه من حديث نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة قال كتبت إلى ابن عباس فكتب إلي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن اليمين على المدعى عليه البخاري 3/ 187. ورواه البيهقي في السنن 10/ 252 وزاد فيه واليمين على من أنكر قال الحافظ هذه الزيادة ليست في الصحيحين وإسنادها حسن. فتح الباري 5/ 283 وكذا قال النووي في شرحه على مسلم 10/ 3 وتكلم رحمه الله على حديث الشاهد. واليمين فقال القضاء بالشاهد واليمين جاء من طرق كثيرة مشهورة قمتها ما أخرجه مسلم من=

قيل إنما قال ذلك عرضًا لا حِكمًا. قلنا حاشَ لله أن يعرضَ قلبَ الشريعة أو يفعل ما لا يفعل في الدنيا فضلاً عن الدين، فكيف في الدماء، فإن قيل: فقد روي في هذا الحديث أنه بدأ باليهود فقال: أتحلفون؟ فلما أبَوْا، رجَع إلى المدعي فقال أتحلف؟. خرجه أبو داود وغيرها (¬1). قلنا: روى الحديث الجماعة الأثبات الثقات أميرهم مالك ومن تبعه وانتقاه الصحيحان (¬2). فلا يترك هذا كله لرواية شذت، فإن قيل: إن شذت في الرواية فقد استقرت في القاعدة، قلنا: إنما يؤسس القواعد قول صاحب الشريعةِ وليس يلزم أن ترد على الاختيار ولا يتحتم فيها على الاضطراد بل ترد بحكم الله تعالى متسقة ومتفرقة وأنت يا أبا حنيفة تنقض القواعد بالاستحسان في معظم مسائِل الشريعة فكيف تنكر أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤسس في نازلةِ واحدة قاعدتين تجري الدعوى فيها، والإنكار على الحكمين، وقد بين مالك رضي الله عنه هذه المسألة في الموطّأ وأتقنها، فذكر الحديث أولاً في البداية بأيمان المدعي وهو العمدة في الحكم ثم عقبَ ذلك ببيان الحكمةِ والمعنى فقال: وإنما فرقٌ بينَ القسامة والدم، وسائر الأيمان في الحقرقِ إلى قوله يقول المقتول (¬3). على أنه قد ثبت من طريق الدارقطني وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة على المُدعي واليمين على من ¬

_ = حديث ابن عباس أن رسول الله قضى بيمين وشاهد (مسلم 1712) وقال في اليمين إنه حديث صحيح لا يرتاب في صحته وقال ابن عبد البر لا مطعن لأحد في صحته ولا في إسناده. فتح الباري 5/ 282. (¬1) رواه أبو داود من طريق الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لليهود وبدأ بهم (يحلف منكم خمسون رجلاً فأبوا فقال للأنصار استحلفوا قالوا نحلف على الغيب يا رسول الله) فجعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية على يهود لأنه وجد بين أظهرهم. أبو داود في كتاب الديات حديث (4526). قال المنذري قال بعضهم وهذا ضعيف لا يلتفت إليه وقد قيل للإمام الشافعي رحمه الله فما منعك أن تأخذ بحديث ابن شهاب قلت مرسل والقتيل أنصاري والأنصاريون أولى بالعلم به من غيرهم إذ كان كل ثقة وكل عندنا بنعمة الله ثقة. وقال ابن القيم الحديث غير مجزوم باتصاله لاحتمال كون الأنصارين من التابعين. تهذيب السنن 6/ 322 - 324. (¬2) يقصد الشارح الحديث الوارد في القسامة فهو متفق عليه وقد أخرجه أيضًا مالك وقد تقدم تخرجه. (¬3) قال يحيى قال مالك وإنما فرق بين القسامة في الدم والأيمان في الحقوق أن الرجل إذا داين الرجل استثبت عليه في حقه وأن الرجل إذا أراد قتل الرجل لم يقتله في جماعة الناس وإنما يتلمس الخلوة قال فلو لم تكن القسامة إلا فيما تثبت فيه البينة ولو عمل فيها كما يعمل في الحقوق هلكت الدماء واجترأ الناس عليها إذا عرفوا القضاء فيها ولكن إنما جعلت القسمة إلى ولاة المقتول يبدأون بها فيها ليكف الناس عن الدم وليحذز القاتل أن يوخذ في مثل ذلك يقول المقتول. الموطأ 2/ 880.

أنكر إلا في القسامة) (¬1) ولها فروع كثيرة بيانها في كتب الخلاف، وأما دخول القسامة عند مالك في الموت، المتراخي عن الجرح فإنما كانَ ذلَك لاحتمال أن يكونَ الموت منسوباً إليه أو إلى مرضٍ من الأمراض طرأ عليه فاستظهر لهذا الاحتمال بالقَسامة. فإن قيل: هو سؤال عظيم يعم هذه المسائل كلها كيف يحلف الولاة على أمر يُعلم أنهم لا يعلمونه فيبني القاضي في حكمه على أمرٍ يتحقق أنه كذب ومن أينَ يعلم الغائِب بقتل الحاضرِ ولذلك قال المدعون للدم في القسامة: كيف نحلف ولم نحضر ولم نشهد (¬2). فاختلف جواب الناس في ذلك فمنهم من قال يقال لهم إحلفوا فإذا حلفوا على ما علموا، كان الحكم مطرداً على الأصل وليس هذا بجواب صحيح لأن عند علمائِنا يحلفونَ وإن لم يعلموا، وهذه المسألة من مفرداتنا. قال المحققون من علمائنا لا تقف اليمين على علمٍ قطعيٍ، إنما تقف على الإمارة بخلافِ أصلِ الشهادةِ فإنها موقوفة على العلمِ ويكفي في اليمين الأمارة للظن ولشاهدِ الحالِ أولا ترى أن النبيَ صلى الله عليه وسلم قال في نازلة خيبر، وقد علم مغيبهم عنها وعدم علمهم بها (أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟) فإن قيل: إنما قال ذلك عرضاً لا حُكماً، قلنا: قد سبق الجواب عن هذا السؤال الفاسد، وأما القتل بالبينةِ فلا خلاف فيهِ ¬

_ (¬1) رواه من طريق مسلم بن خالد عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة سنن الدارقظي 3/ 110 ورواه من طريق أخرى عن مسلم ابن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - قال .. والطريق الأخيرة رواها الييهقي في السنن 8/ 123 وذكر الحافظ أن ابن عبد البر رواه من طريق عمرو بن شعيب السابقة وقال إسناده لين وقد رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو مرسلاً وعبد الرزاق أحفظ من مسلم بن خالد وأوثق التلخيص 4/ 39. ورواه ابن عدى في الكامل في ترجمة مسلم بن خالد من طريق أبي هريرة وعمرو بن شعيب وقال هذان إسنادان يعرفان بمسلم عن ابن جريج الكامل (2312) قلت كلا الطريقين السابقتين تدوران على مسلم بن خالد المخزومي مولاهم المكي المعروف بالزنجي فقيه صدوق كثير الأوهام من الثامنة مات سنة تسع وسبعين ومائة أو بعدها. دق. التقريب ص 529 ونقل الحافظ عن ابن المديني أنه ليس شيء وقال قال البخاري منكر الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به يعرف وينكر وقال الساجي صدوق كان كثير الغلط وكان يرى القدر وقال ابن معين ثقة صالح الحديث فمما أنكر عليه حديثه عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة وقال مرة عن ابن جريج عن عمرو بن شعب عن أبيه عن جده مرفوعاً البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة ت ت 10/ 129 ونقل الحافظ بعد تضعيفه الحديث عن البخاري قوله إن ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب وقال فهذه علة أخرى. التلخيص 4/ 39. (¬2) هذه الفقرة جزء من حديث القسامة المتفق عليه السالف الذكر.

وكذلك القتل في إقرار القاتل قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} (¬1). الآية. وقال: (ولكم في القصاص حياة) (¬2) ومالك رضي الله عنه أطنب في الموطّأ في القسامة والدية واختصر القول في القصاص لأنه اعتمد بيان الأشكل، ووكل الأوضح إلى معرفة الناس، وقد قال تعالى: (ولكم في القصاص حياة) وكانت العرب تقول القتل أبقى للقتل (¬3) , لأنها لم تكن تأخذ حقها بعدلٍ وإنما كانت تستوجبه برجاء وأعظم ما يكون الرجاء في الدماء، فشرعَ الله تعالى استيفاء الحق في القتل بالمساواة فقال {كتبَ عليكم القصاص} يعني المساواة في القتلى، قال علماؤنا وأراد به المساواة في الفعلِ والمحلِ إلا أنه اعتمد في القرآن بيان المحل فقال (الحرُّ بالحر والعبدُ بالعبدِ) (¬4) إلى آخر الآية لأنه كان محل اعتداء القَوم، ثم بينَ النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك المساواة في الفعلِ، فثبت أنه أتى إليه بيهودي رضَّ رأس جاربةٍ على أوضاحِ (¬5) لها، فاعترفَ، فأمر به فرضَّ رأسه بين حَجَرين (¬6). وقال أبو حينفة: لا قود إلا بالسيف لا ثأرٍ يرويها في ذلك، لا تساوي (¬7) سماعها ولا تعرض على هذا القبس، وقد بيناها في موضعها، وزعم أصحابه أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة 178. (¬2) سورة البقرة (179). (¬3) .. قال القرطبي قال الشعبي وقتادة وغيرهما إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان فكان الحي إذا كان فيه عزّ ومنعة فقتل لهم عبد قتله عبد قوم آخرين قالوا لا نقتل به إلا حرًّا وإذا قتلت منهم امرأة قالوا لا نقتل بها إلا رجلاً وإذا قتل لهم وضيع قالوا لا نقتل به إلا شريفًا ويقولون القتل أوقى للقتل بالواو والقاف ويروي أبقي بالباء والقاف ويروي أنفى بالنون والفاء فنهاهم الله عن البغي فقال {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد} الآية وقال {ولكم في القصاص حياة} تفسير القرطبي 2/ 245 والأثران عن الشعبي وقتادة أخرجهما الطبري في تفسيره 3/ 259 قال الرماني في رسالة الإعجاز ص 77 وهذا الضرب من الإيجاز كثير وقد استحسن الناس من هذا الإيجاز قولهم القتل أنفى للقتل وبينه وبين لفظ القرآن تفاوت في البلاغة والإيجاز وذلك يظهر من أربعة أوجه أنه أكثر في الفائدة وأوجز في العبارة وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة وأحسن تأليفًا بالحروف المتلائمة. (¬4) سورة البقرة آية (178). (¬5) هو نوع من الحلي يعمل من الفضة سميت بها لبياضها النهاية 5/ 196. (¬6) متفق عليه البخاري في الديات باب سؤال القاتل حتى يقر والإقرار في الحدود 9/ 5 ومسلم في القسامة باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره (1672) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن يهوديًا رض رأس جارية بين حجرين فقيل لها من فعل بك هذا أفلان أو فلان حتى سمي اليهودي فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل به حتى أقربه فرض رأسه بالحجارة لفظ البخاري. (¬7) منها حديث (لا قود إلا بالسيف) رواه ابن ماجه من حديث جابر الجعفي عن أبي عازب عن النعمان بن بشير=

النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنما قتلَ هذا اليهودي على الحرابة، إذ كان قتلهُ للجاريةِ على مالها وتلك حقيقة الحرابة. قلنا: ما قتله إلا قصاصاً لأنَ الأمة قد أجمعت على أنه لا يقتل في الحرابة بالحجارة، فكيف جاز لكم معشر الحنفية أن تتركوا إجماع الأمة، وتطلبوا أثراً بعد عين، وهذا نص الحديثِ أنه رضَّ رأس جاريةٍ، فرضَّ رأسه بين حجرين، فذكر الحكم، والعلة، وليس بعد هذا مطلب ولما ثبت باتفاق اعتبار المساواة في المحلِ امتنَع قتل المسلم بالكافرِ لأنهما لا يتساويان في الحرمةِ وبذلك قال جمهور الفقهاء وخالفهم أبو حنيفة فقال يقتل المسلمُ بالذمي الكافر من أهلِ دار الإِسلام لأنه محترم الدم على التأبيد (¬1) قلنا: وكانت الحرمة مؤبدة ولكن الشبهةَ في المحل قائِمة وهي الكفر المبيح لدمه، فكيف يتساوى من فيه ما يبيح دمه مع من فيه ما يوجب له العصمة في الدنيا والآخرة "ويقتضي له الحرمة في الدين والدنيا" (¬2)، وقد حرر في ذلك بعض علمائنا نكتة: فقال قيام المبيح في المحل يوجب مع التحريم شبهة في إسقاط العقوبة كوطء السيد للجارية المزوجة حتى إن الأوزاعي ¬

_ = (2667) ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 105 والدارقطني في سننه 3/ 107 والبيهقي في السنن 8/ 42. ورواه ابن ماجه من طريق الحر بن مالك العنبري ثنا مبارك بن فضالة عن الحسن عن أبي بكرة (2668) وكذلك البيهقي في السنن 8/ 63 والدارقطني في السنن 3/ 106 وابن عدي في الكامل (2543) وذكر للوليد حديثًا آخر غير حديثنا هذا وقال وكل هذه الأحاديث غير محفوظة والحديث ضعفه الحافظ في التلخيص 4/ 19 ونقل عن البيهقي قوله إسناده ضعيف جدًا وقال عبد الحق طرقه كلها ضعيفة وكذا قال ابن الجوزى وقال البيهقي لم يثبت له إسناد. الفتح 12/ 200. (¬1) قال الحافظ قال الكوفيون يقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر الذمي وتمسكوا بقوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} قال إسماعيل القاضي في أحكام القرآن الجمع بين الآيتين أولى فتحمل النفس على المكافأة ويؤيده اتفاقهم على أن الحر لو قذف عبداً لم يجب عليه حد القذف قال ويؤخذ الحكم من الآية نفسها فإن في آخرها {فمن تصدق به فهو كفارة له} والكافر لا يمسى متصدقًا ولا مكفراً عنه وكذلك العبد لا يتصدق بجرحه لأن الحق لسيده وقال أبو ثور لما اتفقوا على أن لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس كانت النفس أولى بذلك. قال ابن عبد البر اجمعوا على أن العبد يقتل بالحر وأن الأنثى تقتل بالذكر ويقتل بها إلا أنه ورد عن بعض الصحابة كعلي والتابعين كالحسن البصري أن الذكر إذا قتل الأنثى فشاء أولياؤها قتله وجب عليهم نصف الدية وإلا فلهم الدية كاملة قال ولا يثبت عن على لكم هو قول عثمان البتي أحد فقهاء البصرة ويدل على التكافؤ بين الذكر والأنثى أنهم اتفقوا على أن مقطوع اليد والأعور لو قتله الصحيح عمداً لوجب عليه القصاص ولم يجب له بسب عينه أو يده دية فتح الباري 12/ 198 وانظر شرح السنة 10/ 165 والقرطبي 2/ 246. (¬2) زيادة من بقية النسخ.

قد بالغ في هذه المسألة فقال: إذا قتل كافر كافراً ثم أسلم القاتل سقط عنه القود وهي أحد قولي الشافعي وقال علماؤنا لا يسقط عنه القود لأن المراعى إنما هي حالة الوجوب وقد استحقَّ دَمه فيما طرأ بعد ذلك لا يسقط ما تقرر وجوبه، وشبهة الأوزاعي أن الإِسلام صفة وفضيلة طرأت على المحلِ وإنما وجبَ له قتل نفسِ كافرة فكيف يأخذها مسلمة، ألا ترى أن القصاصَ إذا وجبَ على المرأة ثم طرأ عليها الحمل فإنه لا يستوفى منها. قلنا: الحامل معها عين أخرى لم تستحق عقوبة، فلا تحمل عليها هذه المسألة، والمعنى دقيق فَلْيُطلَبْ في مسائل الخلاف وقد اختلف قول مالك في جريان القصاص بين المسلمينَ وأهل الذمة في الأطراف وهي عضلة من العضَل لأن علماءنا الربانيين وهموا فيها، فظنوا أن مالكًا لحظه (¬1) على هذه الرواية أن الأطراف جارية مجرى الأموال كما يقضى فيها باليمين مع الشاهد ولو كان ناظراً إلى هذا الملمح لانهدم عليه قطع الأيدي بيدٍ واحدة وإنما نظرَ والله أعلم إلى أن يد المسلم تؤخذ بالجناية على مال الكافر وذلك أنه "يقطع" (¬2) إذا سرقه فكيف لا يؤخذ بالجناية على يده إذا قطعها، بخلاف النفس فإنها أعظم حرمة، ونظر على الرواية الأخرى وهي الصحيحة في امتناع القودِ بينهما في الأطراف إلى أنَ يدَ المسلم إنما قطعناها بسرقة مالِ الكافر لأنها جناية على جميع المسلمين، ولذلك وجب قطع السرقة لله بخلاف القصاصِ، فإنه حقه خالصاً فاعتبر فيه مساواته (¬3) وصار دوران (¬4) قطع السرقةِ من مسألتين أن يقتل المسلم الكافر غيلة، فإنه يقتل به عندنا لأن الجناية هنالك على جميع المسلمين فلذلك يتخلص الوجوب لله فيه ولا يقف على خيرة المجني عليه ويتفرع على هذه المسألة أن الحرّ لا يقتلُ بالعبد سواء كان له أو لغيره وإن كان قد روى الترمذي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من قتل عبده قتلناه) (¬5) ولكن هذا لم يصح سندًا ولا قال به أحد ممن ¬

_ (¬1) في ك وم لحظ. (¬2) زيادة من ك وم. (¬3) في ج فاعتبر بمساواته. (¬4) في بعض النسخ وزان ولا معنى لها عندي. (¬5) رواه أبو داود من حديث قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه) أبو داود (4515). والترمذي في الديات ما جاء أن الرجل يقتل عبده (1414) وقال حسن غريب والنسائي 8/ 20 و 21 وابن ماجه في الديات (2663) والبغوي في شرح السنة 10/ 177 وقال حسن غريب كقول الترمذي وضعفه الشيخ ناصر في ضعيف الجامع الصغير 5/ 231.

تفصيل

يلتفت إليه والرق أثر من أثار الكفر فيعمل على الأصل في التحريم كالعدة فإنها لما كانت من أثرِ النكاح عملت عمل أصلها في تحريم نكاح أختها وأربع سواها، والذي يدل على افتراقِ حرمة الحر من حرمة العبد في الغرض الزاجر وهو القتل تفاوتهما في البدل الجابر وهي الدية، فإذا قتل عبداً لزم ذمته عشرة دنانير وإذا قتل حراً لزمَ ذمته ألف دينار مقدرة شرعاً لاحترامها واحترام محلها عن مذلة التسويق ومهانةِ التقويم فإن قيل: فلم تراعوا المساواة حين قتلتم الجماعة بالواحد وهلًا طردتم أصلكم كما فعل أحمد بن حنبل حين مَنعَ من ذلك (¬1). قلنا: إذا اعترض اللفظ على القاعدة وخالف معنىً من آخر الكلام أوله سقط فكيف إذا خالفه كله. وبيانه أن الله تعالى قال: {ولكم في القصاص حياةٌ يا أولى الألباب} المعنى أن القاتل إذا علم أنه يقتل كفَّ لصينت الأنفس في محالها وحقنت الدماء في أهلها فلو لم تقتل الجماعة بالواحد لاستعان الأعداء على العدو فقتلوه حتى يبلغوا أملهم فيه ويسقط القود عنهم بالاشتراك في قتله وقد وفّي مالك هذا النظر وأعطاه قسطه من الكمال فقال إنه يقتل الممسك على القاتل مع (¬2) القاتل وقال أبو حنيفة والشافعي لا قود على الممسك لقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: (اقتلوا القاتل واصبروا الصابر) (¬3) ولأنه لم يقتل فكيف يُقتل. قلنا: أما الحديث فلا يساوي سماعه، وأما المعنى فهو بضد ما قالوا، الممسك هو القاتل حقيقةً أو كلاهما قاتل، والدليل عليه إجماعنا على أنه لو أمسكه على سبعٍ فأكله لزمه القود فإن قيل: لأن فعل السبع جبار قلنا وفعله هو معتبر ألا ترى أنهما يشتركان في الدية وهو البدل الجابر، كذلك يجب أن يشتركا في القصاص وهو العوض الزاجر. تفصيل قوله تعالى: {الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى} لم يمتنع من قتل الذكر ¬

_ (¬1) قال الإِمام أحمد لا تقتل الجماعة بالواحد قال لأن الله سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة والواحد وقد قال تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين}. تفسير القرطبي 2/ 251. (¬2) الموطأ 2/ 873. (¬3) رواه الدارقطني في السنن 3/ 140 من طريق سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه البيهقي من نفس الطريق 8/ 51 وقال إنه موصول غير محفوظ وقال الحافظ ورواه معمر وغيره عن إسماعيل مرسلاً قال الدارقطني والإرسال فيه أكثر وقال وصححه ابن القطان التلخيص 4/ 15 ونقل الشيخ عبد الله يماني في تعليقه على سنن الدارقطني 3/ 140 عن الحافظ قوله في بلوغ المرام رجاله ثقات.

بالأنثى لأنه إنما جاءَ على بيان العدل بفساد ما كانت تفعله العرب من "الجور" (¬1)، فأما تفصيل أعيان المقتص منهم فإنما تؤخذ من دليلٍ آخر، ولما اجتمعت الأمة على قتل الذكر بالأنثى اختلفوا في نكتةٍ وهي أنَ الولي إذا قتل ذكراً بأنثى هل يحاصص في رد باقي الدية أم لا؟، وعلماء الأمصار على أن الذكرَ بالأنثى رأساً برأسٍ وهو الصحيح, لأنه لا يجوز أن يجتمع المبدل وبعض البدل إذ ليس لذلك أصل في الشريعة ولا نظير ولقد بالغَ مالك في تأسيس هذه القاعدة حتى قال يقتل الوالد بالولدِ (¬2)، وإن كان قد روى الترمذي وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لا يقادُ والدٌ بولده) ولا يخص هذا العموم في هذه القاعدة لهذا الحديث الذي لم يصح، أما إن مالكاً انفرد بمسألةٍ أخرى متفرعة على هذه وهو إذا حَذفه بالسيف فأصابه فمات فجعله عمد خطأ وغلظ فيه الدية شبهاً لوجهين أما أحدهما فلوجود ¬

_ (¬1) زيادة من ك وم. (¬2) رواه الترمذي من طريق إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل الوالد بالولد) وقال أبو عيسى هذا حديث لا نعرفه بهذا الإسناد مرفوعاً إلا من حديث إسماعيل بن مسلم وإسماعيل بن مسلم المكي قد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. سنن الترمذي 4/ 19 ومن نفس الطريق رواه ابن ماجه (2661) والدارقطني في سننه 3/ 141 والبيهقي في السنن 8/ 39. قال الزيلعي وأعله ابن القطان بإسماعيل بن مسلم وقال إنه ضعيف وعقب على ذلك بقوله قلت تابعه قتادة وسعيد بن بشير وعبيد الله بن الحسن العنبري وذكر أن حديث قتادة أخرجه البزار في مسنده عن عمرو بن دينار به. نصب الراية 4/ 340 وأما حديث سعيد بن بشير فقد أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 369 عن عمرو بن دينار به وسكت عنه وكذلك فعل الذهبي وسعيد بن بشير الأزدي مولاهم ضعيف من الثامنة التقريب ص 234. أما حديث عبيد الله بن الحسن العنبري فقد أخرجه الدارقطني في سننه 3/ 142 وكذلك البيهقي في سننه 8/ 39. وقد ورد هذا الحديث من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب سنن الترمذي (1400) ومن نفس الطريق رواه ابن ماجه (2662) والدارقطني في سننه 3/ 141 وأحمد في المسند 1/ 49 وكل طرقه فيها الحجاج بن أرطاة وهو كثير الخطأ والتدليس التقريب ص 152. ورواه الدارقطني من طريق محمَّد بن مسلم بسنده إلى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو عن عمر بن الخطاب سنن الدارقطني 3/ 140 - 141 والبيهقي 8/ 38 من نفس الطريق قال الحافظ صحح البيهقي سنده لأن رواته ثقات .. وقال قال عبد الحق هذه الأحاديث كلها معلولة لا يصح منها شيء وقال الشافعي حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم ألا يقتل الوالد بالولد وبذلك أقول قال البيهقي طرق هذا الحديث منقطعة. التلخيص 4/ 17 والحديث صححه الشيخ ناصر في الإرواء 7/ 269 وفي صحيح ابن ماجه 2/ 261.

وصف الخطأ في هذا الفعلِ لأنه لو أراد قتله لأضجعهُ وذبحهُ أو حاول ذلك على صفةٍ تنتفي معها الشبهة فأما رمي السلاح عليه في أثناء منازعتهِ له، فإن شبهة الأبوة وشبهة الشفقةِ مع جوازِ الأدب يوجبان شبهة في الفعلِ تسلبه وصف العمدية المحضة حتى يجعله منزلة بين المنزلتين، وقد اختلف قوله رحمه الله في شبهة العمدِ، والمشهور عنه إثباته ويتعضد ذلك بحديث عبد الله بن عمرو خرَّجهُ أبو داود والترمذي وغيرهما في خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال: (ألا إن في (¬1) قتل العمد الخطأ قتل السوط والعصا مائة من الإبل بينها أربعون خلفة في بطونها أولادها (¬2)) وهذا الحديث وإن لم يكن على الدرجة القصوى في الصحةِ فإنه صحيح المعنى لأنا وجدنا محض العمد وجَدنا محض الخطأ ووجدنا منزلة بين هاتين المنزلتين، فلم يمكن أن يلغى معنى وجدناه حقيقةً ووجدنا له أثرًا قوياً في الشريعة وقد تكلمنا على هذا الحديث في مسائل الخلاف وغيرها بما يجلو حقيقته فليطلب هنالك، وقد تعلق مالك في تحقيق المراد من هذه الآية بقوله تعالى: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين}. فأفادتنا مسألتين أصوليتين: أما أحدهما: فإن شرع من قبلنا شرعٌ لنا (¬3). وأما الثانية فإن العمومين إذا تعارضا وأمكن الجمع بينهما ولو في وجه فإنه لا يجوز أن يسقطا جميعًا ووجه ذلك ها هنا أن الله تعالى لما قال: {كتب عليكم القصاص في القتلى} ثم ذكر التفصيل المعلوم بعده أوهم ذلك أنه أعلم بما فصَّل حدَّه حتى بيَّينَ بقوله {وكتبنا ¬

_ (¬1) زيادة من ك وم. (¬2) رواه أبو داود (4547) والنسائي 8/ 41 وابن ماجه (2627) والبيهقي 8/ 68 من طريق حماد بن زيد عن خالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب يوم الفتح بمكة فكبر ثلاثًا ثم قال - صلى الله عليه وسلم - (لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدمي إلا ما كان من سقاية الحاج وسدانة البيت) ثم قال (إلا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل ..) لفظ أبي داود. والحديث قال فيه الحافظ صححه ابن حبان وقال ابن القطبان هو صحيح ولا يضره الاختلاف. التلخيص 4/ 15 وصححه الشيخ ناصر في صحيح ابن ماجه 2/ 94 وفي الإرواء 7/ 256. (¬3) هذه المسألة بحثها الشارح في كتابه المحصول في علم الأصول وقد تقدم النقل عنه وانظر مرة أخرى المحصول للمؤلف ص 188 رسالة ماجستير بالجامعة الإِسلامية بالمدينة المنورة وانظر المعتمد 1/ 273 أحكام الفصول 224 أصول السرخسي 2/ 338 الوصول إلى الأصول 1/ 91 روضة الناظر مع نزهة الخاطر 1/ 145 شرح التنقيح ص 162 المسودة 41 الابتهاج 1/ 177 شرح المحلى 1/ 275 يسير التحرير 2/ 148 شرح الكوكب المنير 1/ 50 إرشاد الفحول ص (10).

خصيصة

عليهم فيها أن النفس بالنفس} أن المقصود بذلك التفصيل الرد على العرب المعتدية، وأن اعتبار القصاصِ بعد ذلك يكون بأدلته التي منها ما أشار إليه من الإجماع على وجوب القصاص بين الذكر والأنثى وهو من جملة التفصيل. خصيصة: شرعَ الله القصَاصَ في كل ملةِ للفائِدة التي نبه عليها وأفضنا الآن في بيانها ثم خبأ تعالى في مسطوره لهذه الأمةِ رفقًا بها في حرمةِ نبيها - صلى الله عليه وسلم - الدية وقد اختلف العلماء في كيفية وجوبها وفي تقديرها وفي تفاصيلها وأطنب مالك فيها في الموطأ أصلًا وفرعًا وقد مهدناها في كتب الخلاف والمسائِل نورد الآن من أمهاتها ما يفتح غلقَ باقيها ونشير بالبيان إلى جملتها وجماع ذلك ثماني عشرة مسألة: المسألة الأولى: في موجب القتل العمد: قالت طائفة موجبه القود خاصة ورواه ابن القاسم عن مالك (¬1)، وقالت طائفة أخرى موجبه أحد الأمرين إما القود وإما الدية (¬2) والخيرة في ذلك لولي المقتول والمسألة طويلة، وقد بيناها بحجاجها في مواضعها والحق أحق أن يتبع والذي نراه أن ولي المقتول مخير إن شاء أخذ الدية، كان شاء قتلَ. والأصل في ذلك الحديث الصحيح المتفق عليه من جميع الأئمة الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته (من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا فادوا (¬3)) وفيه ست روايات قد تكلمنا على كل لفظة منها ومهدناها في شرح الصحيح ومن جملتها إن أحبوا فادرا (¬4) وفي رواية ¬

_ (¬1) انظر بداية المجتهد 2/ 401 وقد عزاها أيضًا لأبي حنيفة والثوري والأوزاعي. (¬2) وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وأكثر فقهاء المدينة من أصحاب مالك وغيره ولي الدم بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية رضي القاتل أو لم يرض وروى ذلك أشهب عن مالك قال ابن رشد إلا أن المشهور عنه هي الرواية الأولى. بداية المجهد 2/ 401 - 402 وانظر شرح السنة 7/ 303. (¬3) متفق عليه من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري في كتاب العلم باب كتابة العلم 1/ 38 وفي اللقطة باب كيف تعرف لقطة أهل مكة وفي الديات باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ومسلم في كتاب الحج، باب تحريم مكة (1355). ولفظه: لما فتح الله عَزَّ وَجَلَّ على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنها لا تحل لأحد كان قبلى وإنها أحلت لي ساعة من نهار وإنها لا تحل لأحد بعد فلا ينفر صيدها ولا يختلى شوكها ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ومن قتل له قتيل فهو يخير النظرين إما أن يفدى وإما أن يقتل .. لفظ مسلم وأبو داود في سننه (4505) والترمذي (1405). والنسائي 8/ 38. (¬4) هذه رواية البخاري في كتاب العلم إما أن يعقل وإما أن يقاد أهل القتيل 1/ 38 وفي كتاب اللقطة 3/ 164 إما أن=

"أخرى" (¬1) أخذوا الدية وليس لأحد مع هذا الحديث نظر لأن المعنى يعضده مع صحته وهو (أنه) (¬2) إذا قال له أعطني ديتك وأستحييك فقد عرض عليه بقاء نفسه بثمن قتلهِ فلزمه قبوله أصله إذا عرض عليه الطعام في المخمصة بقيمته وليس على هذا المتعلق كلام ينفع. المسألة الثانية: موجب قتل الخطأ الدية خاصة هذا إذا ثبت بالبينة، فإن كان بالإقرار ففيه ثلاث روايات، أصحها عندي الآن وجوبها في مالهِ لئلا تؤخذ العواقل بالدعوى وليس في أصول الشريعة ذمة لزيد معمورة لقول عمرو. فإن قيل لا يتهم في هذا الإقرار لأنه لا يظن به أنه يؤدي غيره بما لا يجرُ نفعاً إلى نفسهِ. قلنا: هذا الكلام مما يجب أن يلحظ بعَين التحقيق ويتحفظ من أمثالهِ، فإن هذا الكلام الذي تشبث به هذا القائل إنما يكون متعلقاً إذا ثبت في الشريعة أصله ووجبَ العملُ به فحينئذٍ يعرض على الشبه والتهم هل يتطرق إليه أم يتخلص عَنها فأما معنى لم يستقر في الشريعة ولا تأصلَ موجباً فيها يختبر حاله في تطرق التهمة إليه أو سلامته عنها هذا ما لا يجوز. المسألة الثالثة في مقدار الدية: أما مقدار الدية فهي مائة من الإبل استقرت على ذلك في الجاهلية وأقرها الإِسلام على هذه السنة ويقال إن أول ما تقررت كذلك في عمود النبي - صلى الله عليه وسلم - حين نذر عبد المطلب أنه يذبح عبد الله، الحديث (¬3) إلى آخره ثم تتامت كذلك ومضت عليه حتى جاء الإِسلام فبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأضاف إليها أبدال ما دون النفس في الجراح، والأحاديث الصحاح في ذلك كثيرة الوجود ولكن لم تخل كتب الأئمة عن ذكرها، ¬

_ يفدى وإما أن يقيد وفي الديات 9/ 6 إما أن يؤدي وإما أن يقاد. أما مسلم ففي بعض ألفاظه إما أن يفدى وإما أن يقتل وفي رواية أخرى إما أن يعطي يعني الدية وإما أن يقاد أهل القتيل. وفي رواية الترمذي 4/ 22 من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية قال الحافظ وإما أن يقاد هو بالقاف أي يقتص ووقع في رواية مسلم إما أن يفادي بالفاء وزيادة ياء بعد الدال والصواب أن الرواية على الوجهين من قالها بالقاف قال فيما قبلها إما أن يعقل من العقل وهو الدية ومن قالها بالفاء قال فيما قبلها إما أن يقتل بالقاف والمثناة والحاصل تفسير النظرين بالقصاص أو الدية. فتح الباري 1/ 206. ويقول الحافظ في موضع آخر من فتح الباري وفي نسخة وإما أن يعطى أي الدية ونقل ابن التين عن الداودي أن في رواية أخرى إما أن يؤدي أو يفادي وتعقبه بأنه غير صحيح لأنه لو كان بالفاء لم يكن له فائدة لتقدم ذكر الدية ولو كان بالقاف واحتمل أن يكون للمقتول ولبيان لذكرا بالتثنية أي يفادا بقتليهما والأصل عدم التعدد قال وصحيح الرواي إما أن يؤدى أو يقاد إنما يصح يفادي إن تقدمه أن يقتص. فتح الباري 12/ 208. (¬1) زيادة من م. (¬2) زيادة من ك وم. (¬3) ذكر هذه القصة ابن هشام في سيرته 1/ 151 وانظر الروض الأنف 2/ 131 والسيرة لابن كثير 1/ 174.

فروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) بني الدية على أهل الإبل مائة وعلى أهل البقر مائتين وعلى أهل الغنم ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلةٍ، وعلى أهل القمح ما لم يحفظه الراوي (¬2). وروى الترمذي وغيرهُ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ودى العامريين بدية المسلم (¬3) وروى أن في المواضع خمس خمس (¬4)، (وروى دية الأصابع عشر عشر في كل أصبع (¬5) وفي الأسنان خمس خمس والأصابع والأسنان سواء (¬6)). وروى أبو داود في الأنفِ الدية وفي اليد ¬

_ (¬1) في ت زيادة فروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها الحديث المتقدم ألا أن في قتيل عمد الخطأ إلى آخره وذكر أبو داود وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) أبو داود في سننه (4543) من طريق محمَّد بن إسحاق عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قضى بالدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاة ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة وعلى أهل القمح شيئًا لم يحفظه محمَّد) ورواه البيهقي 8/ 78 قال المنذري هذا مرسل وفيه محمَّد بن إسحاق. مختصر سنن أبي داود 6/ 348. قلت الحديث ضعيف لأنه مرسل فعطاء لم يدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم والراوي عنه محمَّد بن إسحاق عنعنه وهو مدلس. وأسنده أبو داود (4544) من طريق أخرى عن ابن إسحاق عن عطاء عن جابر مرفوعًا وكذلك البيهقي في السنن 8/ 78 وهي طريق ضعيفة أيضًا. (¬3) رواه الترمذي من طريق أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ودى العامريين بدية المسلمين وكان لهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه سنن الترمذي (1404) ورواه ابن عدي في ترجمة سعيد بن المرزبان أبو سعد البقال رقم 1219 وقال فيه هو من جملة ضعفاء الكوفة الذين يجمع حديثهم ولا يترك وسعيد هذا قال فيه الحافظ سعيد المرزبان العبسي مولاهم أبو سعد البقال الكوفي الأعور ضعيف مدلس مات بعد الأربعين ومائة. من الخامسة التقريب ص 241 ونقل في التهذيب 4/ 79 عن البخاري قوله فيه منكر الحديث وكذا قال الدارقطني والفلاس وقال أبو زرعة لين الحديث مدلس قيل له هو صدوق قال نعم كان لا يكذب. (¬4) رواه الترمذي من طريق حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (في المواضح خمس خمس) الترمذي (1390) وقال هذا حديث حسن ورواه أبو داود (4566) والنسائي 8/ 57 ورواه ابن ماجه (2655) والبيهقي في السنن 8/ 81 والحديث صححه الشيخ ناصر في إرواء الغليل 7/ 326. (¬5) رواه الترمذي من طريق يزيد بن عمرو النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (دية أصابع اليدين والرجلين سواء عشر من الإبل لكل إصبع) وقال حديث ابن عباس حسن صحيح غريب من هذا الوجه. سنن الترمذي (1391). ورواه ابن حبان في صحيحه 7/ 602 قال ابن القطان إسناده كلهم ثقات وما قيل في عكرمة لا يلتفت إليه ولا يعرج أهل العلم عليه فالحديث صحيح نصب الراية 4/ 372. ورواه البغوي في شرح السنة 10/ 194 وصححه. (¬6) أبو داود من طريق عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس

نصف الدية وفي المأمومة ثلث العقلِ ثلاثة وثلاثون بعيرا وثلث (¬1)، وفي العين القائمة الشادة لمكانها ثلث الدية (¬2) وروى أبو داود والترمذي وغيرهما أن ديةَ الخطأ أخماس عشرون بنت مخاضٍ وعشرون بنو مخاض وعشرون بنو لبونٍ وعشرون حقة وعشرون جذعة (¬3) ¬

_ = سواء هذه وهذه) أبو داود (4559) ورواه ابن ماجة مختصرًا (2652) وكذلك ابن حبان 7/ 602 ورواه البخاري مختصرًا بلفظ (هذه وهذه سواء يعني الخنصر والإبهام) كتاب الديات في باب دية الأصابع 9/ 10. (¬1) راوه أبو داود من طريق محمَّد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق ويقومها على أثمان الإبل فإذا غلت رفع قيمتها وإذا هاجت رخصاً نقص من قيمتها .. أبو داود رقم (4564) والنسائي 8/ 42 وأخرجه أحمد في المسند 2/ 217 من طريق محمَّد بن إسحاق وذكر عمرو ابن شعيب بن محمَّد بن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث وابن إسحاق عنعنه وهو مدلس. كما أن محمَّد بن راشد المكحولي الوارد في رواية أبي داود والنسائي صدوق يهم ورمي بالقدر من السابعة مات بعد الستين ومائة التقريب ص 478 ونقل الحافظ توثيقه عن ابن معين ويعقوب بن شيبة والنسائي ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة وابن المدني وضعفه ابن حبان وابن خراش ت ت 9/ 159 درجة الحديث حسن. (¬2) رواه أبو داود (4567) من طريق العلاء بن الحارث حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال (قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية) ورواه النسائي 8/ 55 من نفس الطريق وقال (قضى في العين العوراء السادة لمكانها بثلث ديتها وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها وفي السنن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها) درجة الحديث حسن. (¬3) رواه أبو داود (4545) من طريق الحجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك الطائفي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه الترمذي في الديات (1386) وقال لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه وقد روى عن عبد الله موقوفًا والنسائي 8/ 43 و 44 وابن ماجه (2631) والبيهقي في السنن 8/ 75 والدارقطني 3/ 173 ورواه من طريق أبي عبيدة عن أبيه موقوفًا وقال هذا إسناد حسن وضعف الأول من وجوه عديدة وقوى رواية أبي عبيدة بما رواه عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود على وقفه وتعقبه البيهقي بأن الدارقطني وهم فيه والجواد قد يعثر قال وقد رأيته في جامع سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن عبد الله وعن أبي إسحاق عن علقمة عن عبد الله وعند الجميع بني مخاض قال الحافظ قلت وقد رد على نفسه بنفسه فقال وقد رأيته في كتاب ابن خزيمة وهو إمام من رواته وكيع عن سفيان فقال بني لبون كما قال الدارقطني. التلخيص 4/ 23 وانظر السنن الكبرى 8/ 75. قلت الحديث ضعفه البيهقي بعدة أمور منها أن الحجاج بن أرطاة غير محتج به وقد قدمنا الكلام عليه ومنها أن خشف بن مالك مجهول وقال إن أسانيده كلها منقطعة فأبو إسحاق لم يسمع من علقمة شيئًا وكذلك أبو عبيدة لم يسمع من أبيه وإبراهيم عن عبد الله منقطع بلا شك. السنن الكبرى 8/ 76 وخشف قال البغوي في شرح السنة 10/ 188 إنه مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث وكذا قال الدارقطني في السنن 3/ 174 إنه مجهول وكذلك البغوي في المصابيح 2/ 518 لكن نقل الحافظ عن النسائي وابن حبان توثيقه فقد قال قال النسائي ثقة وذكر ابن حبان في الثقات وقال الأزدي ليس بذاك ت ت 3/ 142 وانظر الكاشف 1/ 279. درجة الحديث المرفوع ضعفه الدارقطني في السنن 3/ 173 وكذلك البيهقي حسب ما تقدم.

وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب أنها أثلاث (¬1)، وروى عن عمر في ذلك قضاءً وعن غيره يأتي بعدُ إن شاء الله. المسألة الرابعة: أما دخول الإبل في الدية فلا خلاف فيه فإن عدمت أو لم تكن العاقلة من أهلها، فقال الشافعي تقوَّمُ الإبل بالغة ما بلغت وتلزم القيمة العاقلة (¬2)، وقال أبو حنيفة: تكون على العاقلةِ عشرة آلاف درهم (¬3)، وقال أبو يوسف ومحمد: يجب البقر والشياه في الدية على الوجهِ المروي (¬4). وقال مالك القضاء كما قضى عمر على أهل الإبل مائة وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورِق اثنا عشر ألف درهم (¬5)، والكلام ها هنا على ثلاثة فصولٍ هي مطلع النظرِ ومحدّ الخلاف: الأول: تقويم الإبل عند عدمها. نظره الشافعيُ وأغفل أن عمر رضي الله عنه قد فرغ من هذا النظر بحضرة الصحابة رضوان الله عليهم ولم يخالفه أحد منهم، ورأى أنَّ ذلك عدل في التقويم ولم يكله إلى اجتهاد المجتهدين باختلاف الأحوال وتعاقب الأزمان، وأما الثاني وهو أصعب من الأول على مالك فإنه امتثل قضاء عمر في تقدير الديّة بالفضة والنصاب في السرقة وتركه في الزكاة وامتثله أبو حنيفة في الدية والزكاة وأما امتثال أبي حنيفة له في الدية فمصادمة محضة لقضاء ¬

_ (¬1) رواه أبو داود رقم (4541) من طريق محمَّد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشر بني لبون ذكر ورواه الترمذي رقم (1387) في الديات وقال حديث حسن غريب والنسائي 8/ 43 قلت وفيه محمَّد بن راشد تقدم قريباً. وسليمان بن موسى هو الأشدق الدمشقي الأموي صدوق فقيه في حديثه بعض لين وخولط قبل موته بقليل من الخامسة م 4 التقريب ص 255 وقال الحافظ في التهذيب قال البخاري عنده مناكير وقال النسائي أحد الفقهاء وليس بالقوي في الحديث التهذيب 4/ 227. درجة الحديث حسنة الترمذي. (¬2) انظر الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة 2/ 201 والمغني لابن قدامة 8/ 367. (¬3) انظر اللباب في شرح الكتاب 3/ 153 مجمع الأنهر 2/ 638. (¬4) انظر اللباب في شرح الكتاب 3/ 153 مجمع الأنهر 2/ 639. (¬5) رواه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن عثمان عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به رقم (4542). والحديث فيه عبد الرحمن بن عثمان بن أمية بن عبد الرحمن بن أبي بكرة الثقفي أبو بحر البكراوي ضعيف من التاسعة مات سنة خمسة وتسعين ومائة. التقريب ص 346 ت ت 6/ 226 الضعفاء للعقيلى 2/ 335 الكامل لابن عدي 1605 الميزان 2/ 578 درجة الحديث ضعيف.

عمر وكما صدمه الشافعي في الفضة كان ينبغي له أن يصدمه في الذهب كما فعل أبو حنيفة فيكون أقل خطأً، وهذا لا وجه له، وأما مالك فامتثل قضاء عمر في الدية والآثار الواردة في القطع في السرقةِ أن القطعَ في ربعِ دينارٍ فصاعداً (¬1) أو في ثلاثة دراهم (¬2)، ولم نجد في الزكاة أثراً في التقدير لا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائِه ولا ائتلافاً من الصحابة عليه، ورأى الناسَ يبيعون الدينار بعشرة دراهم، فيكون الرجل غنياً بمائتي درهم، كما يكون غنياً بعشرين ديناراً، ورأى العلماء قد بنوا نصاب الذهب في الزكاة على نصابِ الفضةِ، فقرر كل شيء على مرتبته وأبرزه في نصابهِ حتى انتهت الحال به إلى أن يقول: إنْ تغير الصرفُ في الزكاة فإنه ينبني على العشرة دراهم نظراً إلى الاتباع وَوُقوفاً عند مورد السمع، ورأى في رواية أخرى أن ذلك جرى ووقعَ فيهِ غبن على المساكين فأخذَ بالصرف الموجودِ، والرواية الأولى أصح لأنه يلزمنا على هذه الرواية أن نفعلَ في النصاب مثلها، ولو فعلناهُ لهدمنا ركناً في الشرع يجب الوقوف عنده (¬3) والقضاء بالتفريع عليه، وأما البقر والغنم وسائر الحديث فضعيف لا يعوّل عليه، ولا يبنى أصل به لا سيما وقد روى أبو داود والترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنه جعل الدية اثني عشر ألفاً) (¬4)، وأما تقدير المواضع وما يرتبط بها من الشجاج وهي: المسألة الخامسة: فنقول إن أسماء الشجاج ثلاث عشرة اسماً: الدامية، الدامغة، ¬

_ (¬1) ورد ذلك من حديث عائشة المتفق عليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (القطع في ربع دينار فصاعدًا) البخاري في كتاب المحاربين باب قول الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} البخاري 8/ 199 ومسلم في كتاب الحدود باب حد السرقة (1684). (¬2) أما القطع في ثلاثة دراهم فقد ورد من حديث ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قطع في مجن ثمنه ثلاثة دارهم) الموطّأ 2/ 831 والبخاري في الحدود باب قول الله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيدهما} 8/ 199 ومسلم في الحدود باب حد السرقة (1686) وشرح السنة 10/ 313. قال البغوي اختلف أهل العلم فيما تقطع فيه يد السارق فذهب أكثرهم إلى حديث عائشة أن نصاب السرقة ربع دينار وإذا سرق دراهم أو متاعًا يقوم بالدنانير فإن بلغت قيمتها ربع دينار قطعت يده وإن لم تبلغ فلا قطع عليه وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وعائشة وهو قول عمر بن عبد العزيز وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي. وقال مالك نصاب السرقة ثلاثة دراهم فإن سرق ذهباً ومتاعًا يقوم بالدراهم فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطعت يده وإن لم تبلغ فلا قطع عليه. شرح السنة 10/ 313. (¬3) في ك وم عليه. (¬4) رواه أبو داود (4546) من طريق محمَّد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً من بني=

الخارصة، الباضعة، المتلاحمة، السمحاق، الملطاء. وقيل الملطا مقصورة، وقيل الملطات بالتاءِ، الموضحة، الهاشمة، المنقلة، الآمة، المأمومة، الدامغة وقد قال قوم إن السمحاقَ في الباضعة، فإن تعدت هذه الجراح إلى فتح باب الروح فهيَ الجائِفة، ولا تختص بعضوٍ بخلاف غيرها من الشجاج فإنها تختص في أحكامها ببعض الأعضاء دونَ بعض ومن هذه الجملة ما فيه حديث قد ذكرناه ومنها ما فيهِ حَديث لم نذكره لضعفِه، فلم يتفق ذكره في عجالة هذا الطارق حتى يقعَ الاستيطان. المسألة السادسة: هذه الديات ما ذكرناه منها وما لم نذكره لا زيادة فيها ولا تغيير لها عندَ الجمهور، وقالَ الشافعيُّ يزاد فيها بالبلدِ الحرام تعلقاً بما روي أن عمرَ وعثمانَ قضيا بالزيادةِ في الدية لمن قتل في البلد الحرام (¬1)، وليس له معول سوى ذلك وهو متعلق ضعيف, لأن الصحابة اختلفوا فيهِ وقد اتفقَنا على أن الصحابة إذا اختلفوا لم يقع ترجيح بقضاء الخلفاء، فكيف بقضاء بعضهم؟ والمسألة مذكورة في أصولِ الفقهِ بيِّنة في الدليل ولو غلظت الدية بالبلد الحرام لغلظت بالشهرِ الحرام أو بحال الإحرام لا سيما وقد استوى حال الإحرام وحال البلد الحرام في تحريم دماء الحَيوانات، وهذا ظاهر عند التأملِ وقد استوفيناهُ في مسائِل الخلاف. ¬

_ = عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفاً قال أبو داود رواه ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر ابن عباس ورواه الترمذي مرفوعاً (1388) موصولًا وفي رواية أخرى له عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أبو عيسى لا نعلم أحداً يذكر في هذا الحديث عن ابن عباس غير محمَّد بن مسلم والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم وهو قول أحمد وإسحاق ورأى بعض أهل العلم الدية عشرة آلاف وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة وقال الشافعي لا أعرف الدية إلا من الإبل أو قيمتها. ورواه النسائي 8/ 44 وابن ماجه (2629) ورواه الدارقطني في سننه 3/ 130 من طريق محمَّد بن ميمون الخياط المكي نا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم (قضى باثني عشر ألفاً في الدية) وقال قال محمَّد بن ميمون وإنما قال لنا فيه عن ابن عباس مرة واحده وأكثر من ذلك كان يقول عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه البيهقي 8/ 78 وقال ابن أبي حاتم في العلل 1/ 463 المرسل أصح وذكر الحافظ أن عبد الحق تبع ابن أبي حاتم على قوله وقال رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة مرسلًا قال ابن حزم وهكذا رواه مشاهير أصحاب ابن عيينة التلخيص 4/ 22. والحديث ضعيف. (¬1) قال البغوي ودية الخطأ تغلظ في ثلاث مواضع عند الشافعي إذا قتل في البلد الحرام أو في الشهر الحرام أو قتل ذا رحم محرم فيجب فيه ما يجب في قتل شبه العمد، شرح السنة 10/ 192 وانظر الروضة للنووي 9/ 256 المغني 8/ 380.

المسألة السابعة: قال مالك: لا يغسل الجرح حتى يبرأ المجروح ويصح فيدرى ما آل إليه أمره فيقضى بحسبه وكذلك يجب ألا يقتص من جرح حتى يعلم ما يؤول إليه حاله وقد اختلف العلماء في ذلك وقد بيناه في مسائِل الخلاف والعمد بالانتظار أحق من الخطأ. المسألة الثامنة: عقل المرأة كعقل الرجل هذه من حساب ديتها كالرجل من حساب ديته فإذا جئنا إلى المنقلة أو إلى الموضحة مثلًا وقد تكررت أوجبنا إلى الأصابع والمسألة فيها نزلت فيجب لها في أصبع عشر وفي إصبعين عشرون وفي ثلاثة أصابع ثلاثون وهذا باتفاق فإذا قطع لها أربع أصابع وجبت لها عشرون في قول مالك وخالفه سائِر فقهاء الأمصار وهذه مسألة سعيد بن المسيب وربيعة حين قال له أكل ما عظمت مصيبتها قلت فائِدتها إلى قوله هي السنة (¬1) فأما متعلق المخالف فظاهر وأما متعلق مالك فمن طرق أحدها عمل أهل المدينة وذلك يرجع إلى النقل لا إلى العمل لقول سعيد (هي السنة) ولا فرق بين أن يقول سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يقول أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق من الأمة في أن ذلك إسناد يجب العمل به وإذا قال الصحابي السنة (¬2) كذا فكذلك قول سعيد بن المسيب السنة (¬3) وقد بينا في أصولِ الفقه، أنه لا يحال بالسنةِ إلا على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله وعمله أو ما أقرّ عليه من عمل غيره فليطلب هناك وفي ذلك (كله) (¬4) كلام استوفيناه في مسائل الخلاف. ¬

_ (¬1) مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال سألت سعيد بن المسيب كم في إصبع المرأة فقال عشر من الإبل فقلت كم في إصبعين قال عشرون من الإبل فقلت كم في ثلاث فقال ثلاثون من الإبل فقلت كم في أربع قال عشرون من الإبل فقلت حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها فقال سعيد أعراقي أنت (تأخذ بالقياس) فقلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم قال سعيد هي السنة يا ابن أخي الموطّأ 2/ 860 والبيهقي 8/ 96 قال ابن عبد البر أرسله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل وذكر بعضهم أنها تتبعت كلها فوجدت مسندة. شرح الزرقاني 4/ 188 درجة الأثر صحيح. (¬2) قال ابن الصلاح قول الصحابي من السنة كذا فالأصح أنه مرفوع قال الحافظ قال أبو الطيب هو ظاهر مذهب الشافعي وكذا جزم ابن السمعاني بأنه مذهب الشافعي وقال ابن عبد البر إذا أطلق الصحابي رضي الله عنه السنة فالمراد بها سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يضفها إلى صاحبها كسنة العمرين. النكت لابن حجر على ابن الصلاح 2/ 523 وانظر التدريب 1/ 188. (¬3) روى الإِمام الشافعي في الأم 5/ 107 أخبرنا سفيان عن أبي الزناد قال سألت سعيد ابن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال يفرق بينهما قال أبو الزناد قلت سنة قال سعيد سنة قال الشافعي والذي يشبه قول سعيد سنة أن يكون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. (¬4) زيادة من م.

مسألة التاسعة: قال مالك: ليس في المأمومة ولا الجائفةِ قود (¬1) ولا تكون المأمومة إلا في الرأسِ وقد انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه لعمرو بن حزمٍ إلى الموضحةِ وجعل فيها خمساً من الإبل (¬2) واختلف قوله في المنقلةِ هل فيها قود أم لا؟ على روايتين والأصل في ذلك، أن كل جرحٍ لا يخاف منهُ (¬3) التلف ففيه القصاص وكل ما يخشى فيه التلف فالقصاص فيه ساقط بإجماع، وكل ما يشكل الحال فيه فيقعُ الفتوى بحسب ما يغلب الظن عليه في حال الفتوى. المسألة العاشرة: في محل الديَّة وهو متعدد الحاضر منه الآن سبعة عشر محلاً: النفس، العينان، اللسان، الشفتان، اليدان، الرجلان - وذلك كله مذكور في حديث عمرو بن حزم - عين الأعور، ثدي المرأة، إليتاها، أطراف الأذنين - باختلاف السمع - الأنف، والصلب، الذكر، الأنثيان، الافضاء، الكلام. وفي كل واحدة من الأنثيين الدية في إحدى الروايتين، فأما النفس والعينان، واليدان، والرجلان، واللسان، والأنف، والسمع، والعقل والذكر فلا خلاف فيه، وأما عين الأعور فنظر مالك إلى أن الجاني قد أتلفَ بصرًا كاملًا (¬4)، ونظر المخالف إلى أنه قد أتلف عضوًا واحداً. ورأى مالك أنَّ نقصان المحل إنما يرجع إلى نقصان قدر البصر، ورأى أن قدر البصر لا يراعى إجماعاً فإن دية حاد البصر كدية الناقص عنه سواء، والمسألة خفية النظر فلتطلب في مسائل ¬

_ (¬1) الموطّأ 2/ 858. (¬2) مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزم عن أبيه أن الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم في العقول أن في النفس مائة من الإبل وفي الأنف إذا أوعى جدعاً مائة من الإبل وفي المأمومة ثلث الدية وفي الجائفة مثلها وفي العين خمسون وفي اليد خمسون وفي الرجل خمسون وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل وفي السن خمس وفي الموضحة خمس. الموطأ 2/ 849 ورواه النسائي 8/ 57 و58 و59 و60 والبيهقي 8/ 85 وقال وقد رويناه من أوجه أخر مرسلاً وموصولًا وقد تقدم الكلام عليه في الزكاة. (¬3) أي تلف الجاني إذا مكن القاضي المجني عليه من جرحه جرحًا مماثلًا فإذا كان الجاني مصابًا بمرض يؤدي إلى استمرار نزف دمه كالمصاب بمرض السكر ونحوه فيهلك فيسقط القصاص ويرجع إلى الدية. (¬4) قال مالك في عين الأعور الصحيحة إذا فقئت خطأ إن فيها الدية كاملة. الموطأ 2/ 857 قال البغوي وهو قول الزهري ويروى ذلك عن عمر وسليمان بن يسار. شرح السنة 10/ 198. قال الباجي وهذا على ما قال إن في عين الأعور الدية كاملة قال ابن سحنون وابن المواز أجمع أصحابنا على ذلك وقاله أشهب في المجموعة والموازية وقال العراقيون فيها نصف الدية كإحدى اليدين وهذا غير مشبه لليدين لأنه يبصر بالعين الواحدة ما يبصر بالعينين ولا يعمل بيد واحدة ما يعمل بيدين ولا يسعى برجل واحدة سعيه برجلين. المنتقى 7/ 85 وانظر الكافي 2/ 1112.

الخلاف، فإن هذا القدر هو مطلع الفريقين. وأما ثدي المرأة، فإن القول فيها لم أقوى من القولِ في إليتها (¬1) لأن في الثديين إبطال ثلاثة أشياء خلقةً وجمالًا ومنفعة كالأنف، والإليتان دون ذلك، وأما إشراف الأذنين فإن كان فيها أثرٌ للسَمعِ التحقت بالمارن، وإن لم يكن فيها أثرٌ كانت جمالًا محضًا ولا يقابل الجمال بالدية وأما الصلبُ فثبت فيه الدية من طريق الأولى وأما الأنثيان فهي بمعنى الذكر وهي وإن عزبت عن الشهوة ففيها أصلُ الخلقةِ، وأما الإفضاء (¬2) فهو نظير قطع الذكر بل أعظمُ. المسألة الحادية عشر: ما كانَ فيها من الجنايات إذهاب جمالٍ لم يستقل بدية، إذ ليسَ له في الشريعة نظير. ورام أبو حنيفة أن يجعل جلده اللحيةِ وجلدة الحاجبين كالمارن في إيجاب الدية (¬3) ولم يصح ذلك لأن المارن لم يراع فيه إذهاب الجمال على الكمال كما زعم إنما راعينَا فيه الجمال والمنفعة. المسألة الثانية عشر: رَامَ بعضهم أن يفاضلَ بين أحاد كل اثنين من الجسد أو بجمع في باب الدية، كابن المسيب في الأسنان (¬4)، وفي الشفةِ السفلى (¬5) وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) الإليتان وهما ما أشرف على الظهر من المأكمتين إلى استواء الفخذين فإذا قطع ما أشرف منها يجب فيها كمال الدية وإن لم يصل إلى العظم وفي إحداهما نصفها شرح السنة 10/ 197. (¬2) يقال أفضى المرأة جعل مسلكيها واحدًا فهي مفضاة. ترتيب القاموس 3/ 502 وقال النووي إفضاء المرأة وفيه كمال الدية وهو رفع الحاجز بين مسلك الجماع والدبر على الأصح وقيل رفع الحاجز بين مسلك الجماع ومخرج البول قال المتولي الصحيح أن كل واحد منهما إفضاء موجب للدية لأن الاستمتاع يختل بكل واحد منهما. الروضة للنووي 9/ 303 وانظر اللسان 15/ 157 المغني لابن قدامة 8/ 476 - 477. (¬3) انظر اللباب في شرح الكتاب 3/ 155 ومجمع الأنهر 2/ 641 والمغني 8/ 443. (¬4) مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب قول قضى عمر بن الخطاب في الأضراس ببعير بعير وقضى معاوية بن أبي سفيان في الأضراس بخمسة أبعرة خمسة أبعرة قال سعيد بن المسيب فالدية تنقص في قضاء عمر بن الخطاب وتزيد في قضاء معاوية فلو كنت أنا لجعلت في الأضراس بعيرين بعيرين فتلك الدية سواء وكل مجتهد مأجور. الموطأ 2/ 861. قال الباجي استحسن عمر بن عبد العزيز قول ابن المسيب لما فيه من موافقة عقل جميعها الدية الكاملة لأنها تزيد على قضاء معاوية وتنقص في قضاء عمر .. ثم قال والذي قاله معاوية هو المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله مالك وأبي حنيفة والشافعي. المنتقى 7/ 93. وقال أبو عمر بن عبد البر واختلاف العلماء من الصحابة والتابعين ديات الأسنان وتفضيل بعضها على بعض كثير جدًا والحجة قائمة لما ذهب إليه الفقهاء مالك وأبو حنيفة والثوري بظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (وفي السن خمس من الإبل) والضرس سن من الأسنان. نقلاً عن تفسير القرطبي 6/ 197 وانظر المغني 8/ 452. (¬5) قال سعد في الشفة السفلى ثلثا الدية. شرح السنة 10/ 196.

(في كلِ أصبُع عشر من الإبل) ولم يفصّل وخرج البخاري عن ابن عباسِ هذه وهذه سواء يعني الخنصر والإبهام إشارةً إلي أن منافعها وإن اختلفت فإنما يراعى صورها كما رَامَ أبو حنيفة أن ينقض الحكم، وينفضه فقال: من قطعَ لسان ضفير لا دية عليهِ إنما في ذلك حكومة لأنه لسان بلا منفعةٍ (¬1). قلنا لا يشبه هذا تدقيقك فإنه يلزمك أن تقول إذا قتلَ نفساً صغيرةً لا دية فيها لأنها نفسٌ بلا منفعةٍ كما فعل مالك في الاحتياط بالعكسِ من أبي حنيفة في الاسترسالِ فقال مالك في السن المسودةِ الدية (¬2)، وعجباً لأبي حنيفة ساعده علي ذلك، وقال الشافعيُ فيها حكومة لأنها تغيير هيئةٍ كما لو اصفرت (¬3) وهذا ضعيفٌ، فإنَّ الصُفْرة صفة في ظاهرها والإسوداد متداخل فيها مفسد لها فافترقا. المسألة الثالثة عشر: قال أبو حنيفة: دية الذمي كدية المسلم لحديث العامريين المتقدم، وقال مالك ديته على النصفِ من دية المسلم ودية المجوسي ثماني مائة درهم لأن ذلك قضاء عمر وفيهِ أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تقدم. وقال الشافعيُ: دية الذمي ثلث دية المسلم (¬4) فمطلع النظرِ الأول نفى المساواة بين الكافرِ والمسلم في الدية كما نفينَا بينهما المساواة في القصاص حسب ما تقدم فليركب عليه، وأما متعلق الشافعي في تقدير الثُّلثِ فضعيف لأنه ليس فيهِ أثر والنظر قد ذكرناهُ في مسائلِ الخلافِ واطرحناه ها هنا لقلَّته والإشارة إليهِ أنه قال: قدرناه بالثلثِ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الثلث كثير) (¬5). قلنا لو حططت الثلث من الدية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه كثير لكان أولى بك وضعيفُ الأثر أولى من ضعيفِ النظرِ فكيف وقد اعتضد بقضاءِ عمر رضي الله عنه وأما حديث العامريين فقال علماؤنا لم ¬

_ (¬1) انظر اللباب 2/ 159. (¬2) مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول إذا أصيبت السن فاسودت ففيها عقلها تاماً فإن طرحت بعد أن تسود ففيها عقلها أيضًا تامًا الموطأ 2/ 761. قال الباجي قال القاضي أبو محمد خلافاً للشافعي حيث قال فيها حكومة والدليل على ما نقوله أنه إذا اسودت فقد ذهبت منفعتها فوجب بذلك الدية قال ثم إذا طرحت بعد ذلك وجبت دية أخرى لذهاب الجمال بها كالأنف يضرب فيذهب الشم ففيه الدية ثم إذا قطع بعد ذلك ففيه دية أخرى وفي الموازية عند أشهب عن عمر وعلى وابن المسيب وعدد من التابعين أنها إذا اسودت وجب عقلها ولم يبلغني عن أحد من العلماء خلافه وأما إذا طرحت بعد اسودادها ففيها بعض الخلاف المنتقى 7/ 93. (¬3) انظر الروضة 9/ 281. (¬4) قال البغوي روي ذلك عن عمر وعثمان وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وعكرمة وإليه ذهب الشافعي وإسحاق. شرح السنة 10/ 204 - 205 وانظر الروضة 9/ 258. (¬5) قد تقدم أول الكتاب من حديث سعد بن أبي وقاص المتفق عليه.

يصح وعندي أنه صحيح ولكن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إنما فعلَ ذلك بهم في صدرِ الإِسلام تأليفاً لهم إذ لم تكن تلزمه في أصل المسألة دية فإذا سقط الأصل وهو الوجوب، فأولى وأحرى أن يسقط الوصف وهو التقدير. المسألة الرابعة عشر: عقل الجنين: ثبتَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنهُ قضى فيه بغرة عبدٍ أو وليدةٍ فقال الذي قضى عليه: كيف أُغرم من لا أكل ولا شربَ ولا نطقَ ولا استهل صرخاً ومثل ذلك بطل (¬1) أو يطل فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (إن هذا من إخوان الكهان) (¬2) وليس هذا بإنكار لصورة السجع فإنه جائز وإنما بيّنَ به النبي صلى الله عليه وسلم إبطال كل سجعٍ ينظم في معارضةٍ حق كما أنه يكره أن يتكلفَ ابتداءً في طريق الحق إلَّا أن يرد في مطرد القولِ (¬3) وَكما قدروا الدية في الإبل كذلك قدروا الغرة في الجنين وذلك خمسون ديناراً أو هو عُشر دية أمه (¬4) وخالفَ أبو حنيفة في مسألتين: إحداهما: أنه غاير في الغرة بين الذكرِ والأنثى وذلك ما لم يعلم وجهه أبداً، وقد بينا سرها في مسائلِ الخلافِ وهو غريب فلينظر فيه ولينقل من التلخيص. والثانية: إذا قتلَ امرأةً وفي بطنها جنين هل يدخلُ الغرة في الدية أم لا؟ وقد بيناها في مسائل الخلاف. ¬

_ (¬1) هذه رواية مالك في الموطأ 2/ 885 قال الحافظ بطل بفتح الموحدة والتخفيف من البطلان كذا رأيته في نسخة معتمدة من رواية أبي ذر وزعم عياض أنه وقع هنا للجميع بالموحدة قال وبالوجهين في الموطّأ وقد رجح الخطابي أنه من البطلان وأنكره ابن بطال فقال كذا يقوله أهل الحديث وإنما هو طل الدم إذا هدر قال الحافظ قلت وليس لإنكاره معنى بعد ثبوت الرواية وهو وجه راجح في معنى الرواية الأخرى. فتح الباري 10/ 218. (¬2) هذا الحديث رواه مالك في الموطأ 2/ 885 عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في جنين قتل في بطنِ أمه بغرة عبد أو وليدة فقال الذي قضي عليه كيف أغرم ما لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك يطل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما هذا من إخوان الكهان) وهذا مرسل. ورواه البخاري موصولًا من طريق ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل .. البخاري في كتاب الطب باب الكهانة 8/ 175 وقد رواه في الديات من طريق الليث عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به مختصرًا. البخاري في الديات باب جنين المرأة 9/ 14 ورواه مسلم في القسامة باب دية الجنين رقم (1681) (36). (¬3) قال الحافظ استدل به على ذم السجع في الكلام ومحل الكراهة إذا كان ظاهر التكلف وكذا لو كان منسجمًا لكنه في إبطال حق أو تحقيق باطل فأما لو كان منسجمًا وهو في حق أو مباح فلا كراهة بل ربما كان في بعضه ما يستحب. فتح الباري 12/ 252. (¬4) هذا القول عزاه البغوي لربيعة فإنه قال الغرة خمسون ديناراً أو ستمائة درهم عشرية دية الأم. شرح السنة 10/ 208 وانظر البداية 2/ 414 والمغني 8/ 404 وانظر نصب الراية 4/ 382 والروضة 9/ 377.

المسألة الخامسة عشر: قال علماؤنا روى أبو داود والنسائي: ان عقل الجنين خمسمائِة شاةٍ (¬1) والحديث لم يصح وإنما الصحيح حديثِ الغرة والتقدير فعل الصحابة وقال ربيعة عقلُ الجنين للأم (¬2) وقال ابن هُرمز للأبوين (¬3)، وتعلقَ ربيعة بإنه كعضوِ من أعضائها، فوجبَ أن يكون عقله لها، ولو كانَ يجري مجرى عضوٍ من أعضائها لاعتبر من قيمة ديتها كسائرِ الأعضاء. المسألة السادسة عشر: ذكرَ مالك في مسائلِ القودِ أنَّ الرجلَ إذا ضرب رجلاً بعصا أو بحجر عمداً فماتَ أن فيهِ القصاص (¬4)، ولقب هذه المسألة القتل بالمثقل وهي مسألة ركيكة لأبي حنيفة (¬5) تعلقَ فيها علماء العراقِ بالحديث المشهور، إلاَّ إن في قتلِ السوطِ والعصا مائة من الإبل، الحديث المذكور، فإذا رماه بخشبةٍ فإنها جملة مجموعة من أجزاء لو انفرد كل جزء منها لم يجب فيه قصاص، فإذا اجتمعت كانَ حالها في الانفراد شبهة عندَ اجتماعها في إسقاط ما يسقط بالشبهات. قلنا: الجوابُ عن هذا أبينُ من إِطنابٍ فيهِ. أترجو أن تلفقَ لهذا الباطل دليلًا؟ ما محاولة هذا إلاَّ كما قال الشاعر: تَدسُّ إلى العطارِ سلعةَ بيتها ... وهل يصلح العطار ما أفسدَ الدهر (¬6)؟. وإذا أخذَ الرجل حجراً من أرباع وصبَّه على رأسِ رجل إن كانَ بهذا عمد خطأ، فالضرب بالسيف خطأ محض، ولهذا قال علماؤنا إن هذا المذهب هدم لقاعدة القصَاصِ ويمكن الأعداء من الأعداء. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4578) من طريق عبد الله بن بريدة عن أبيه أن امرأة خذفت امرأة فأسقطت فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل في ولدها خمسمائة شاة ونهى يومئذ عن الخذف قال أبو داود كذا الحديث خمسمائة شاة والصواب مائة شاة ورواه النسائي 8/ 47 مرسلاً وموصولًا. (¬2) قال ابن رشد وقال ربيعة والليث هي للأم خاصة وذلك أنهم شبهوا جنينها بعضو من أعضائها. بداية المجتهد 2/ 416 وانظر المغني 8/ 408. (¬3) لم أطلع على هذا القول. (¬4) الموطّأ 2/ 872 قال مالك "والأمر المجمع عليه النبي لا اختلاف فيه عندنا أن الرجل إذا ضرب الرجل بعصا أو رماه بحجر أو ضربه عمداً فمات من ذلك فإن ذلك هو العمد وفيه القصاص". قال الباجي مذهب مالك رحمه الله أن من قتل حرًّا بآلة يقتل بمثلها أو قصد القتل وجب عليه القود سواء شدخه بحجر أو عصا أو أغرقه في الماء أحرقه بالنار أو خنقه أو دفعه أو طين عليه بناء وبه قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن المنتقى 7/ 118. (¬5) انظر اللباب 3/ 142 مجمع الأنهر 2/ 615 شرح السنة 10/ 164 المنتقى 7/ 18. (¬6) البيت لم أطلع عليه.

مسائل الرجم

المسألة السابعة عشر: أدخل مالك في الباب قتل الغيلة (¬1) وهي من الحرابةِ. والحرابة عندنا تكون في الحضر كما تكون في القفارِ، وتكون بالسيف، وتكون بالعصا، وإذا كانت بالعصا لا يؤخذ فيها بأيسر ذلك, لأن المقصود في السلب والقتلِ واحد والعصَا كالسيف عندَ مالكِ في العمدِ وَوجوبُ القصاصِ وزادت العصا بأنها أعظم في الخديعةِ, لأنه إذا مشى بالسيف استنكر وتشوفت النفوس إلى التحفظ منه وكان أمرُ العصا في الخديعةِ أبْلَغ، وفي الغيلة أدْخَل، فينبغي أن تكون في العقوبة أعظم. ألَا ترى أنه يؤخذ فيه مائة بواحدٍ بلا خلافٍ؟ كذلك يؤخذ فيه بالعصَا والسيف بالقتلِ بلا خلافٍ؟ ولما لم يتعرض للحرابة لم يتعرض لهما. المسألة الثامنة عشر: السحر: قال مالك يقتل الساحر كفرًا (¬2)، وقال الشافعي عقوبته على مقدار تأثيره من قتلٍ يقتل أو أذى به يضرب (¬3). وتعلق مالك بظاهر القرآن (¬4) وإنما جعله مالك في باب الغيلة لأن المسحور لا يعلم بعملِ الساحر حتى يقع فيه، وقد قال مالك إن من الغيلة سقي السم بالمرقدِ لأخذِ أموال الناس وهو ظاهر وقد مهدنا المسألة في كُتب الخلافِ وغيرها. مسائل الرَّجم: الرجم سنَّة ماضية، وأصل في الشريعة تقدمَ في الملل قبلها وقرره الإِسلام بعدها، وكان من حجج النبيُّ صلى الله عليه وسلم على اليهود في إنكارهم في نبوته - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهت الحال إلى أن تكون البهائم تفعله. كما ورد في البخاري عن عمرو بن ميمون أنه شاهد في الجاهلية رجم القردةِ على الزنى مختصراً (¬5) وصورته أنه قال رأيتُ قردة تضاجع ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 871. (¬2) الموطأ 2/ 871. (¬3) قال ابن عبد البر يقتل الساحر عند مالك إذا باشر السحر وهو الذي قال فيه تعالى فيه (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) سورة البقرة آية (102) إن علم إنه سحره ذلك يقتل. وروى ابن وهب في موطئه عن مالك قال الساحر كالزنديق النبي يظهر الإِسلام ويسر الكفر كيف يستتاب. الكافي (1091) وانظر المنتقى 7/ 117. (¬4) قال الحافظ قال الشافعي لا يقتل إلا إذا اعترف أنه قتل بسحره فيقتل به فإن اعترف أن سحره قد يقتل وقد لا يقتل وأنه سحره وأنه مات لم يجب عليه القصاص ووجبت الدية في ماله على عاقلته ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة فتح الباري 10/ 236 وانظر شرح النووي على مسلم 14/ 176. (¬5) البخاري في فضائل الأنصار باب القسامة في الجاهلية 5/ 56.

صاحبها حتى جاء قرد مختبئًا، فلما أحست به سلت ذراعها من تحتِ رأسِ صاحبها، ثم مشت إليه فواقعها وأنا أنظر إليها ثم عادت إلى مضجعها فلما استيقظ استنكرها وصَاحَ فاجتمعت القرد فشمُّوها، ثم رجموها وأنا أنظرُ إليهم (¬1)، فأما أن يكونَ هذا من أفعالِ من كان شخصاً ثم صارَ مسخاً، وإما أن يكون هذا أمراً أوقعه الله في نفوس البهائم إلهاماً ومقدمةَ للنذارة لمن يحيي هذه المسألة التي أماتتها اليهود. وأحاديث الرجم متعددة أصولها عشرة: الأول: ما رواه الأئمة بأجمعهم عن أبي هريرة وغيره دخلَ حديث بعضهم في بعض وجمعناه، قالوا جاء ماعز بن مالك الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ظلمتُ نفسي وتبتُ طهّرني. فقال: (ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه)، فرجعَ غير بعيدٍ ثم جاء فقال يا رسولَ الله طهّرني. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مم أطهّرك)؟ قال من الزنى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعلك قبّلت أو غمزت أو نظرت)؟ قال: لا يا رسولَ الله. فقال رسول الله: (أنكْتَها)، لا يُكنِّي؟ قال: نعم. فَسَألَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم (أبِهِ جُنون)؟ قالوا لا. قال: (أفيشرب خمراً)؟ قالوا: لا، فقام رجلٌ فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمرٍ فأمرَ بهِ فرُجِمَ فلما وجَدَ مس الحجارة فرّ يشتد حتى مرَّ برجل معه لحى جملٍ فضربه وضرب الناس فلما وجدَ مسَّ الموتِ صَرَخَ. يا قوم ردوني إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه غير قاتلي. فلم ننزع عنهُ حتى قتلناه، فلما رجعوا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ذكروا ذلك له. فقال: فهلَّا تركتموه وجئتموني به (¬2). زاد أبو داود والنسائي ليستثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، فأما ليرد حداً .......... ¬

_ (¬1) قال الحافظ وقد ساق الإسماعيلى هذه القصة من وجه آخر مطولة من طريق عيسى بن حطان عن عمرو بن ميمون قال كنت باليمن في غنم لأهلي وأنا على شرف فجاء قرد مع قردة فتوسد يدها فجاء قرد أصغر منه فغمزها فسلت يدها من تحت رأس القرد الأول سلًّا رقيقًا وتبعته فوقع عليها وأنا أنظر ثم رجعت فجعلت تدخل يدها تحت خد الأول برفق فاستيقظ فزعًا فشمها فصاح فاجتمعت القرود فجعل يصيح ويومي إليها بيده فذهب القرود يمنة ويسرة فجمعوا بذلك القرد أعرفه فحفروا لهما حفرة فرجمهما فلقد رأيت الرجم في غير بني آدم الفتح 7/ 160. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب المحاربين باب لا يرجم المجنون من رواية سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال (أتى رجل رسول الله وهو بالمسجد فناداه فقال يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه حتى ردد عليه أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أبك جنون قال لا قال فهل أحصنت قال نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم اذهبوا به فارجموه ...) البخاري 8/ 204 و 205 ومسلم في الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنى رقم (1691) 16 من نفس الطريق وأبو داود من طريق عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة أنه سمع أبا هريرة يقول جاء الأسلمي نبي الله فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراماً أربع مرات=

......................... فلا (¬1). قاله أبو هريرة (¬2). زاد أبو داود ألَّا تركتموه حتى أنظرَ في شأنه، هلا تركتموهُ فيتوب، فيتوب الله عليه (¬3). زاد مسلم والنسائي قال: فردّوه، فلما كان من الغد أتاه، فأرسل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى قومهِ أتعرفونه؟ قالوا ما به من بأس، فأتاه الثالثة فأرسلَ إليهم أيضًا فأخبروه أنه لا بأس به، فلما كانَ في الرابعة حفروا له حفرة (¬4). زاد في الموطّأ: إنه جاء إلى أبي بكر الصديق فقال له تب إلى الله واستترْ، وأتى عمر فقال له مثل ما قال لأبي بكرِ، وقال له عمر مثل ما قال أبو بكرٍ. فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعرضَ عنه ثلاث مراتٍ، كل ذلك يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا أكثرَ بعثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهلهِ يشتكي أبه جنِّة؟ قالوا: والله يا رسولَ الله إنه لصحيح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبكر أم ثيب). قال: بل ثيب يا رسول الله فأمرَ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجم (¬5). زاد من رواية سعيد بن المسيب أنه قال لهزالٍ لو سترته بردائِك لكانَ خيراً ¬

_ =كل ذلك يعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقبل في الخامسة فقال أنكتها قال نعم قال حتى غاب ذلك منك في ذلك منها قال نعم قال كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر قال نعم قال فهل تدري ما الزنا قال نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً قال فما تريد بهذا القول قال أريد أن تطهرني فأمر به فرجم .. أبو داود (4428) والترمذي من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة رقم (1428). (¬1) رواه أبو داود من طريق محمَّد بن إسحاق قال ذكرت لعاصم بن عمر بن قتادة قصة ماعز بن مالك فقال لي حدثني حسن بن محمَّد بن علي بن أبي طالب حدثني ذلك من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهلا تركتموه من شئتم .. سنن أبي داود رقم (4420). درجة هذا الطريق فيها محمَّد بن إسحاق وقد تقدم الكلام عليه وقد جود الشيخ ناصر سند الحديث. الإرواء 7/ 354. (¬2) لم أطلع على نسبة هذا القول لأبي هريرة. (¬3) ورد ذلك من طريق هشام بن سعد قال حدثني نعيم بن هزال عن أبيه فذكره أبو داود (4419) وأحمد في المسند 5/ 216 - 217. وهذه الرواية فيها هشام بن سعد وقد تقدم الكلام عليه وفيه أيضاً يزيد بن نعيم بن هزال الأسلمي مقبول من الثالثة وروايته عن جده مرسلة التقريب ص 605 وانظر ت ت 11/ 365. وأبوه نعيم بن هزال بتشديد الزاي الأسلمي صحابي نزل المدينة ما له راوٍ إلا ابنه يزيد. التقريب ص 565 وقال في التهذيب 10/ 467 مختلف في صحبته. درجة الحديث حسنه الحافظ في التلخيص 4/ 58 وقال الزيلعي قال في التنقيح إسناده صالح. نصب الراية 3/ 313. (¬4) مسلم في كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا (1695) 23 من حديث بريدة أما رواية النسائي فلم أطلع عليها ورواه أبو داود مختصراً رقم (4433) و (4434). (¬5) الموطّأ 2/ 820 وهو من رواية سعيد بن المسيب مرسل وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة وقد=

لك (¬1). زاد البخاري ومسلم: قال جابر فرجمناهُ بالمصلى فلما أذلقته الحجارة فرَّ فأدركناه بالحرّة فرجمناهُ (¬2). الحديث الثاني: روى الأئمة ما عدا البخاري عن عبادة بن الصامت أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: خذواْ عنِّي قد جعلَ الله لهنَّ سبيلا. البكرُ بالبكرِ جلد مائة ونفي سنةٍ, والثيبُ بالثيب جلدُ مائةٍ ورجم بالحجارة (¬3). الحديث الثالث: حديث العسيف: قال أبو هريرة وزيد بن خالد إن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يا رسول الله أقضِ بيننا بكتاب الله. وقال الآخر وهو أفقههما أجل يا رسول الله. فاقضِ بيننا بكتاب الله وأذن لي في أن أتكلم قال: تكلم. قال كان ابني عسيفاً على هذا فزنى بإمرأتِه، فأخبروني أنَّ على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاةٍ وبجاريةٍ "لي" (¬4) ثم إنِّي سألت أهلَ العلم فأخبروني أنَّ على ابن جلد مائة وتغريبُ عامٍ، وأخبروني أنَّ الرجم على امرأته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لأقضين فيكما بكتاب الله أما غنمُك وجاريتك فرد عليك)، وجلد ابنه مائة وغربه عامًا، وأمر أنيسًا أن يأتيَ امرأة الآخر. فإن اعترفتْ رجمها، فاعترفت فرجمها (¬5). الحديث الرابع: حديث عمران بن حصين: جاعتْ امرأةٌ من جهينة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي حُبلى من الزنى. فقالتْ: يا رسول الله أصبتْ حدًّا فأقمه عليّ. فدعى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وليها، فقال: أحسن إليها، فإذا وضعت فأت بها، ففعل. فأمر فشكلت عليها ثيابها، ثم رجمت، ثم صلى عليها، فقال له عمر: أتصلي عليها وقد زنت. فقال: (لقد تابت توبةً لو قسمتْ بينَ سبعين من أهلِ المدينة لوسعتهم). خرّجه مسلم (¬6) ¬

_ = تقدم قريباً. (¬1) الموطّأ 2/ 821 مرسلاً وقد وصله أبو داود حديث (4377). (¬2) البخاري في كتاب المحاربين باب الرجم في المصلى 8/ 206 ومسلم في الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا حديث (1691) 16. (¬3) مسلم في الحدود باب حد الزنى حديث (1690) وأبو داود (4415 و 4416) والترمذي (1434) وابن ماجة (2550). (¬4) زيادة من ج. (¬5) متفق عليه البخاري في كتاب المحاربين باب الاعتراف بالزنا 8/ 207 - 208 ومسلم في كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا حديث (1697/ 1698) والموطأ 2/ 822 وأبو داود (4445) في الحدود والترمذي (1433) والنسائي 8/ 240 وابن ماجه (2549). (¬6) مسلم في الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا حديث رقم (1696) وأبو داود رقم (4440) والترمذي (1435) والنسائي 4/ 63 في الجنائز.

والترمذي وأبو داود. الحديث الخامس: حديث عمر: لما صَدر من مني أنَاخَ بالابطح ثم كومَ كومة بطحاء ثم طرحَ عليها رداءه واستلقَى ثم مد يديه إلى السماء، وقال: اللهم كبرت سنين وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط، ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال: أيها الناس قد بينت لكم السنن وَفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحةِ ألَّا أن تضلوا بالناس يمينًا وشمالاً، وضربَ بإحدى يديه على الأخرى ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أن يقول قائل لا نجدُ حدين في كتاب الله فقد رجم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتُها "الشيخ والشيخة فارجموهما البتة". فإنا قد قرأناها فما انسلخ ذو الحجة حتى قُتِلَ عمر رَحِمَهُ الله. (¬1) وقال في حديث ابن عباس الطويل بين يدي موته: الرجم في كتاب الله حقٌّ على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن إذا قامت البينةُ، أو كان الحبلُ أو الاعتراف (¬2). الحديث السادس: خرجه مسلم (¬3) وغيره. أنَّ علي بن أبي طالبٍ جلد شُراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعةِ، وقال جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنةِ رسُولَ الله (¬4). الحديثُ السابع: خرجه مسلم والنسائي وأبو داود قالوا إن امرأةَ من غامد من الأزد. قالت يا رسولَ الله طهّرني. قال: (ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه). قالت له ¬

_ (¬1) الموطّأ 2/ 824 من حديث يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول لما صدر عمر بن الخطاب من منى أناخ بالأبطح ثم كوم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى ثم مد يديه إلى السماء فقال اللهم كبرت سني وضعفت قوتي وانتشرت رعيتي فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط .. قال الزرقاني ورواية سعيد عن عمر تجري مجرى المتصل لأنه رآه وقد صحح بعض العلماء سماعه منه قاله أبو عمر. شرح الزرقاني 4/ 144. (¬2) متفق عليه البخاري في كتاب المحاربين باب رجم الحبلى 8/ 208 ومسلم في الحدود باب رجم الثيب في الزنى حديث (1691) وأبو داود (4418) والترمذي (1431) والموطأ 2/ 823. (¬3) كذا في جميع النسخ مسلم وفي ك زيادة النسائي وأبي داود والحديث في البخاري فقط وليس في مسلم ولم يعزه ابن الأثير لمسلم. (¬4) الحديث أخرجه البخاري في كتاب المحاربين باب رجم المحصن 8/ 204 من رواية عامر الشعبي عن علي وقد تكلم في سماع عامر من علي فقال بعضهم لم يسمع من علي وجزم الدارقطني بأنه سمع هذا الحديث من على قال ولم يسمع منه غيره. فتح الباري 12/ 119 وانظر نصب الراية 3/ 319.

وتريدُ أن تردني كما رددتَ ماعزاً؟ قال لها: وما ذاك؟ قالت إنِّي حبلى منَ الزنى. قال: (أنت)؟ قالتْ: نعم. قال: (اذهبي حتى تضعي)، فكفلها رجلٍ من الأنصار حتى وضعتْ. فأتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم فأخبره. قال: إذاً لا رجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يرضعَه) قال رجل من الأنصار إليَّ رضاعه فرَجمها (¬1). الحديث الثامن: روى النسائي وأبو داود: قال اللجلاج إنه كان يعملُ بالسوقِ، فمرت به امرأة تحملُ صبياً لها فثار الناس، فكنت ممن ثارَ، وانتهيتُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: (من أبو هذا معك)؟ فقال شاب حذاها: أنا يا رسولَ الله فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أبو هذا معك)؟ فسكتت فقال له الفتى: إنها حديثة السنن، حديثة العهد بحزنٍ وليست بمكلمتك. أنا أبوه فنظر إلى بعضِ أصحابه كأنه يسألهم عنه، فقالوا ما علمنا إلَّا خيراً. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أأحصنت؟ قال: نَعم. قال فأمر به فرجم فحفرنا له حفيرةً حتى أمكناه ثم رمَيناهُ بالحجارة (¬2). الحديث التاسع: روى أبو بكرة شهدتْ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف على بغلتهِ، فذكر أن امرأةٌ حبلى جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالتْ: بَغيتُ. فقال لها: (استتري بستر الله) (¬3)، فذهبت ثم رجعتْ. فقال لها اذهبي حتى تلدي ثم قال: (انطلقي حتى تطهري من الدم)، ثم جاءت: فبعثَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى نسوةٍ فأمرهنَّ أن ينظرن إليها أطهرت أم لا فحين شهدت عند رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بحفرةٍ، إلى ثندوتها، ثم أخَذَ حصاةً كأنها الحمّص فرماهَا ¬

_ (¬1) رواه مسلم في الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا حديث (1695) 23 وأبو داود (4442) كلاهما من طريق بشير بن المهاجر حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه .. وعزاه المنذري للنسائي كما فعل الشارح وقال المنذري في إسناده الغنوي الكوفي وليس له في صحيح مسلم سوى هذا الحديث وقد وثقه يحيى بن معين وقال الإِمام أحمد منكر الحديث يجيىء بالعجائب مرجئ متهم وقال في أحاديث ماعز كلها إن ترديده إنما كان في مجلس واحد إلا ذاك الشيخ بشير بن المهاجر وقال أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ولا يحتج به وغمزه غيرهما ولا عيب على مسلم في إخراج هذا الحديث فإنه أتى به في الطبقة الثانية بعد ما ساق طرق حديث ماعز وأتى به آخرًا ليبين اطلاعه على طرق الحديث. تهذيب السنن 6/ 256. (¬2) سنن أبي داود (4435 و4436) وعزاه المنذري للنسائي كما فعل الشارح قال المنذري وخالد بن اللجلاج هذا له صحبة أسلم وهو ابن خمسين سنة وهو بفتح اللام وسكون الجيم أيضًا وهو عامري كنيته أبو العلاء عاش مائة وعشرين سنة. تهذيب السنن 6/ 253 ويظهر لي أن الحديث حسن. (¬3) في ت ريادة عليك.

ثم قال للمسلمين إرموهَا. فرموهَا حتى طفت ثم أمرَ بإخراجها وصَلى عليها وقال: (لو قسم أجرُها بين أهلِ الحجاز لوسعتهم) (¬1). وفي الموطّأ أنه قال: (اذهبي حتى تستودعيه)، فاستودعته ثم جاءت فأمر بها فرجمت (¬2). الحديث العاشر: روي في الموطّأ والأئمة عن عبد الله بن عمر قال: جاءت اليهود إلى رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا أن رجلاً منهم وامرأةً زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تجدون في التوراة في شأنِ الرَّجم)؟ فقالوا نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها آية للرجم فأتوا بالتوراة فنشروها، ووضع أحدهم يده على آية الرجم ثم قرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم تلوح فقالوا صدقتَ (¬3) يا محمدُ، إن فيها آية الرجم. فأمر بهما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فرجما. قال عبد الله بن عمر: فرأيتُ الرجلَ يحنى على المرأة يقيها الحجارة (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في سننه فقال حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا وكيع ابن الجراح عن زكريا ابن عمران قال سمعت شيخاً يحدث عن ابن أبي بكرة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة قال أبو داود فافهمني رجل عن عثمان. وقال وحُدثت عن عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثنا زكريا بن سليم بإسناده نحوه وزاد ثم رماها بحصاة مثل الحمصة ثم قال ارموا واتقوا الوجه فلما طفئت أخرجها فصلى عليها. أبو داود (4443 و 4444) ورواه أحمد في المسند 5/ 42 و43 وعزاه الزيلعي في نصب الراية 3/ 320 للنسائي والطبراني والبزار ونقل عن البزار قوله لا نعلم أحدًا سمّى هذا الشيخ وقال وذكره عبد الحق في أحكامه من جهة النسائي ولم يعله بغير الانقطاع وقال المنذري أخرجه النسائي وسمى في حديثه ابن أبي بكرة عبد الرحمن بن أبي بكرة والراوي عن أبي بكرة في روايتهما مجهول وقول أبي داود أيضًا حُدثت عن عبد الصمد رواية عن مجهول. تهذيب السنن 6/ 257. درجة الحديث ضعيف. (¬2) الموطّأ 2/ 821 عن يعقوب بن زيد بن طلحة عن أبيه زيد بن طلحة عن عبد الله ابن أبي مليكة أنه أخبره أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته .. قال الزرقاني في شرحه على الموطّأ 4/ 140 قال ابن عبد البر هكذا قال يحيى (هو الليثى) فجعل الحديث لعبد الله بن أبي مليكة مرسلاً عنه وقال القعنبي وابن القاسم وابن بكير مالك عن يعقوب بن زيد عن أبيه زيد بن طلحة بن عبد الله بن أبي مليكة فجعلوا الحديث لزيد بن طلحة مرسلاً وهو الصواب والحديث مرسل ولكن يشهد له حديث عمران بن حصين عند مسلم (1696). (¬3) في ج صدق. (¬4) البخاري في المحاربين باب أحكام أهل الذمة 8/ 213 و 214 ومسلم في الحدود رقم (1699) باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى والموطأ 2/ 819 وأبو داود (4446 و 4449) في الحدود والترمذي 1436. نقل الحافظ عن ابن بطال قوله أجمع الصحابة وأئمة الأمصار على أن المحصن إذا زنى عامدًا عالماً مختاراً فعليه الرجم ودفع ذلك الخوارج وبعض المعتزلة واعتلوا بأن الرجم لم يذكر في القرآن وحكاه ابن العربي عن=

وهم وتنبيه

فهذه أصول أحاديث الرجم بجملتها ولا خلافَ فيه بين الأئمة إلَّا أنَّ طائفة، من البربر نزلت على جبلِ طرابلس ليسَ لهم إلَّا مطلع ضيق كفروا بالله ورسوله، وتستروا بكلمة الإِسلام والتعصب لعثمانٍ، ويرون أن الوضوء بدعة وأن التيمم هو الأصل والزاهدُ منهم هو الذي ماتَ ولم يمسّ عمره ماءً وَيرونَ سقوط الرجمِ ويضربون الزاني بالسياط حتى يموت، في محالاتٍ لا نهاية لها، وكانوا يخالطوننا ويجالسوننا، فقلتُ لعلمائِنا أيحل لكم أن تتركوا هؤلاء بين أظهُرِكُمْ على هذه الحالة من الكفرِ فقالوا: إن القومَ في عَددٍ عظيم وفي منعةٍ من المكان لا ترقى إليهم الأوهام، ولو اعترضنا أحداً ممن ينزل منهم لقتلوا بالواحد منهم مائة منَّا، فعلمتُ عذرهم. وهمٌ وتنبيه: ظنَّ بعضُ الناس أن الرجمَ الوارد في الشريعة ناسخ للحبس إلى الموت الذي كان مشروعاً قبله وقد بيَّنا فساد ذلك في كتب الأصول من وجوه أقربها الآن إليكم أن الحبسَ في البيوتِ كانَ حكماً ممدداً إلى غايةٍ، وكل حكمٍ مد إلى غايةٍ فانتهى إليها لا يكون انتهاؤه نسخًا وهو أحد شروط النسخ الأربعة التي يدور عليها، لا سيما وحكم الغاية أن يكونَ ما بَعدها مخالفاً لما قبلها، وإلَّا فما كانت تكون غاية (¬1)، واعلموا وفقكم الله أن في هذه الأحاديث أحكامًا وفوائد عظيمة وقد استوفيناها في شرح الحديث الحاضر الآن مما يتعلق بها خمسة عشر حكماً: ¬

_ =طائفة من أهل المغرب لقيهم وهم من بقايا الخوارج واحتج الجمهور بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم وكذلك الأئمة بعده. فتح الباري 12/ 118. (¬1) قال ابن الجوزي قوله تعالى (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم) وقوله (واللذان يأتيانها منكم فآذوهما) الآيتان أما الآية الأولى فإنها دلت على أن حد الزانية كان أول الإِسلام الحبس إلى أن تموت أو يجعل الله لها سبيلًا وهو عام في البكر والثيب والآية الثانية اقتضت أن حد الزانيين الأذى فظهر من الآيتين أن حد المرأة كان الحبس والأذى جميعًا وحد الرجل كان الأذى فقط لأن الحبس ورد خاصاً في النساء والأذى ورد عاماً في الرجل والمرأة وإنما خص النساء في الآية الأولى بالذكر لأنهن يتفردن بالحبس دون الرجال وجمع بينهما في الآية الثانية لأنهما يشتركان في الأذى ولا يختلف العلماء في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين أعني الحبس والأذى وإنما اختلفوا بماذا نسخا فقال قوم نسخا بقوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} نواسخ القرآن لابن الجوزي ص 262 - 263 وانظر أحكام القرآن لابن العربي ص 357 تفسير القرطبي 5/ 84 وأحكام القرآن للكيالهراسي 2/ 191 شرح النووي على مسلم 11/ 189.

الحكم الأول: قوله صلى الله عليه وسلم (خذوا عنَي) تأكيدًا وتنبيهاً، فإنه ما بعث إلَّا ليؤخذ عنهُ وقد كان سبق الأخذ عنه، فتأكد بهذا القول، ونبَهَ على قدر الحكم. الحكم الثاني: قوله: (جلد مائة). يحتمل أن يكونَ قاله ثم نزلت الآية بَعده في الجلدِ، ويحتمل أن يكون قاله بعد نزولِ الآية تأكيدًا وبياناً للحكمِ. الحكم الثالث: وهو التغريب وقد اختلفَ العلماء فيه فأسقطه أبو حنيفة لأنه زيادة على القرآن بخبرِ الواحد، والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن لا يجوز إلَّا بقرآنٍ مثله أو بخبرٍ متواتر وقد مهدنا في الأصول بطلان ذلك كله (¬1) وأشرنا إليه فيما سبق من هذا الإملاء وقال الشافعي يغرب كل زانٍ بكرًا عملاً بعموم هذا الحديث (¬2)، وخصَّصه مالك في المرأةِ والعبد. أما المرأة فإن تغريبها معرض لها للوقوع في مثل ما جلدت عليه، وإنما تحفظ المرأة بالحجاب، حيث تغرب. وخذوا نكتةً بديعةً في أُصولِ الفقهِ لم تذكر فيها، نبه عليها إمام الحرمين في كتاب العموم فقال إن العموم إذا ورد وقلنا باستعمالِه أو قام دليل على وجوب القولِ به، فإنما يتناول الغالب دون الشاد النادر الذي لا يخطر ببال القائل، وصدق فإن العموم إنما يكون عمومًا بالقصد المقارن للقول فما قطع على أنَّ القائل لم يقصده لا يتناوله القول وعلى هذا لا يتناول الحكم في العموم ما يعترض عليه بالإبطال ولو أدخلنا المرأة في التغريب لاعترض بالإبطال على التخصيص الذي لأجله شرع الجلد وكذلك العبد لم ير مالك تغريبه لأجلِ أنه لم يدخل تحت العموم كما قلنا في المرأة، ولكن عارضه حق السيد فقدم على حقِّ الله لفقر السيد والله هو الغنيُّ الحميدُ فإن قيل: فلِم لم يسقط الحد مراعاة لحق السيد. قلنا: الحد هو الأصل والتغريب تبع فلأجل ذلك أقمنا الأصل الذي لا يقطع بالسيد في حقهِ وتركنا التبع الذي يعترض عليه بالإبطال. الحكم الرابع: قال أحمد بن حنبل (¬3) يجلد الثيبُ ثم يرجم لحديث عبادة وحديث شراحة المتقدمين. قلنا: هذا الحديث الوارد عن عبادة منسوخ قطعاً بمثلهِ في الوُرود بحديث ماعز والغامدية والعسيف فإن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض للجلد في واحدٍ منهما وقد كانَ ¬

_ (¬1) انظر المحصول للشارح ص 394 رسالة ماجستير بالجامعة الإِسلامية. (¬2) قال النووي فيه حجة للشافعي والجماهير أنه يجب نفيه سنة رجلاً كان أو امرأة. وحجة الشافعي قوله - صلى الله عليه وسلم - (البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة) شرح النووي على مسلم 11/ 189. (¬3) قال ابن هبيرة وعن أحمد روايتان إحداهما يجمع بينهما وهي أظهر روايتيه اختارها الخرقي والأخرى لا يجمع بينهما كمذهب الجماعة واختاره ابن حامد الإفصاح 2/ 234.

ذلك بعده فتم النسخ بشرطهِ. الحكم الخامس: الزنى يثبت بثلاثة أشياء. إعتراف، وشهادة، وحبل ظاهر لم يسبقه نكاح ولا سيادة، فأما الشهادة فقد استقرت (¬1) في كتاب الله وفي سُنّة رسوله، وأما الإقرار وهو الأصل في إثبات الحقوق، فإن العلماء اختلفوا هل للمقر بالزنا أن يرجعَ عن إقراره أم لا؟ فمنهم من قال إنه يرجعُ قال به الجمهور وهو إحدى الروايتين عن مالكٍ ومنهم من قال له أن يرجع إن ذكر وجهاً، وهي الرواية الثانية عنه ومنهم من قال لا يرجع. فأما من قال لا يقبل الرجوع فلأن الإنسان على نفسه بصيرة وهو أعلم، وأما من قال إنه يرجع إن ذكر وجهاً فلأن الحدَّ مما يسقط بالشبهة مع أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نبه عليها ماعزاً فقال: لعلك نظرتَ، لعلك قبَّلتَ، وأما قول من قال له أن يرجعَ مطلقاً فهو الحق وعليه تدل الأحاديث المذكورة آنفاً في ترديدِ النبي - صلى الله عليه وسلم - كل من أقرَّ بالزنا وتنبيهه له على الرجوع، وكذلك ينبغي أن يفعلَ كل حاكم، فلا قدوة أعظم من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ولا أسوة فوقه، وقال أبو حنيفة: لا يثبت الزنى بالإقرار حتى يكونَ أربع مراتٍ في أربع مجالس (¬2)، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم ردَّ ماعزاً أربع مرات، قلنا: لم يرده ليثبت بالإقرار إنما ردَّهُ رجاء الرجوع. ألَا ترى إنه لم يردد الغامدية ولا سواها ولا يجوز أن يحمل على الشهادة, لأن الشهادة فرع والإقرار أصل، ولا يجوز أن يحمل الأصل على الفرع، وأما الحمل إذا ظهر ولم يسبقه سبب جائز، فإنه يعلمُ قطعاً أنهُ من حرامٍ فتثبت المقدمة بالنتيجة وهو استدلال معلوم من طريق العادة يسمى قياس الدلالةِ، كدلالة الدخان على النار إلَّا أن تدعي أنها استكرهت، وتأتي على ذلك ببينةٍ أو بأمارة مثل أن تأتي دامية وهي بكر أو استغاثت أو أغيثت على تلك الحال، فإن لم تأت بشيء من ذلك ثبت الحد إن لم يكن يعارضه ما يسقطه. وقال الشافعي لا يقبلُ ذلك منها وهو قول باطل, لأنه لا يمكن إن غلبت أن تفعل أكثر مما فعلت ولا يكلف الله نفساً إلَّا وسعها. الحكم السادس: إذا سمع الإقرار فلا بد بعده من الاختبار كما فعلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: أبِهِ جنة؟ فقالوا: لا. وبهذا يتبين أنَّ قول المجنون هدر، ويعضد هذا بصحته حديث علي الضعيف: رُفعَ القلم عن ثلاث. فذكر المجنون (¬3)، وكذلك أيضاً الذي ¬

_ (¬1) في ك وم وج استقر أمرها. (¬2) انظر اللباب في شرح الكتاب 3/ 182. (¬3) علقه البخاري في الطلاق باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون 7/ 59 قال: وقال علي ألم تعلم=

يغلب عليهِ الألم فيفوته تحصيل القولِ، فإنه لا يؤخذ به في حكم مِن الأحكامِ لقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: أتشتكي؟ فبيَّن أن الشكوى تبطل الإقرار، وهو الحكم السابع. وكذلك نقول إن المريض إذا طلق في حرج المرض لا ينفذ طلاقه إذا نيح (¬1) من المرض قوله وكذلك أيضًا وهوَ الحكم الثامن: قال في هذا الحديث أشربَ خمرًا، فكان ذلك دليلاً على أن السكران لا يجوز إقراره وقد اختلقه العلماء في ذلك على أقوالٍ عديدةٍ جملةً وتفصيلاً، واختلف أربابُ مذهبنا كاختلافهم، والذين اعتبروا قول السكران قالوا إن عقله زال بمعصيةٍ فجعل كالموجي حكمًا والمعصية قد أخذت حقها في الإثم وفي الحد وجعل المعدوم موجوداً حكماً يفتقر إلى الدليل، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أشربَ خمرًا) دليل إلغاء القول. قال لي بعض علمائِنا: يحتمل قوله أشرب خمراً أن يكون إذ كانت الخمر محللة. قال وهذه حكايته حال وقضية عين يتطرق إليها الاحتمال فسقط بها الاستدلال، لكن يبقى أصل الدليل من أن العقلَ ذاهبٌ. قال لي بعض أشياخي (¬2): لم يختلف قول مالك أنه إن قتل وهو سكران أنه يقتل، وهذا عندي لعظيم حرمةِ القتلِ، فأما سائر الأحكام فيهونُ أمرها. الحكم التاسع قوله: أنكتها؟ لا يكني، وافتقر النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ذلك البيان بسبب ¬

_ =أن القلم رفع عن ثلاثة (عن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يدرك وعن النائم حتى يستيقظ). ورواه أبو داود من طريق جرير عن الأعمش عن أبي طبيان عن ابن عباس قال أتي عمر بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناسًا فأمر بها عمر أن ترجم فمر بها على علي بن أبي طالب فقال ما شأن وهذه قالوا مجنونة بني فلان زنت فأمر بها عمر أن ترجم قال فقال ارجعوا بها ثم أتاه فقال يا أمير المؤمنين كما علمت أن القلم رفع عن ثلاثة .. أبو داود في الحدود (4399) والترمذي في الحدود (1423) عن قتادة عن الحسن البصرى عن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال رفع القلم .. وقال حسن غريب من هذا الوجه وابن حبان في صحيحه 1/ 178 والحاكم في المستدرك 1/ 258 وابن ماجه (2042) عن علي وصححه الشيخ ناصر وأخرجه أحمد في مسنده 6/ 100 والنسائي 6/ 156 وأبو داود (4398) وابن ماجه (2041) عن عائشة. قال الحافظ رواه جرير بن حازم عن الأعمش فصرح فيه بالرفع أخرجه أبو داود وابن حبان من طريقه وأخرجه النسائي من وجهين آخرين عن أبي طبيان مرفوعًا وموقوفًا لكن يذكر فيهما ابن عباس جعله عن أبي طبيان عن علي ورجح الموقوف على المرفوع. فتح الباري 9/ 393. (¬1) لعله يقصد تعافي من المرض قال في القاموس النَّيح اشتداد العظم بعد رطوبته من الكبير والصغير وتمايل الغصن كالنيحان وعظم نيح ككيس شديد. ترتيب القاموس 2/ 467. (¬2) في ج وك وم أشياخنا.

الحدِ بعد أن كرر الرد، والحد لا يكون إلَّا بعشرة أوصاف: وطء محرم محض، من حُرٍّ بالغٍ عاقلٍ، في فرجٍ مشتهى طيعاً، وقع من مسلم محضٍ. فبهذه الشروط يجبُ الرجم وبها يجب الحد الذي هو الجلد ما عدا الإحصان، فأما قولنا وطء، فلسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمة عليه. وأما قولنا محرم فليقع معصية تليق بهذه العقوبة، وأما قولنا محض فلتنتفي الشُّبهَة التي تسقط الحد، وأما قولنا من حرٍ فلأن الإحصانَ معدوم معه قرآنًا منصوص عليه فيه وأما قولنا بالغ فلأن الصبي ساقط الاعتبار إجماعاً. قال علماؤنا لأن إيلاجه صورة وطء لا معنى لها وأما العقل فقد تقدم الكلام فيهِ وأما قولنا في الفرج فلاتفاق الأمة عليه، ولأنه قد ذكر في الحديث: أغابَ ذلك منك في ذلك منها كما يغيبُ المرود في المكحلةِ. وفي حديث اليهود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: (إأتوني بأعلم من فيكم)، فجاؤوه بابن صوريا فناشدهم هل الرجمُ في التوراة فقالوا نعم إذا شهدَ أربعة أنَّ ذلكَ منه قد غاب في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالشهود فجاءوا فشهدوا بذلك، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهما فرجما. وأما قوله مشتهى طبعاً فبَيان لسقوط الحد عن وطء البهيمةِ إذ روى النسائي وأبو داود وغيرهما أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال من وجدتموه قد وقعَ على بهيمة فاقتلوهُ واقتلوا البهيمة (¬1)، وتعلق به أحمد بن حنبل وهو حديث ضعيف لم يصح، وقد بيناه في ¬

_ (¬1) أبو داود (4464) والترمذي (1455) وأحمد في المسند (2420) والحاكم 4/ 355 - 356 والبيهقي 8/ 233 - 234 من طريق عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة). زاد أبو داود والترمذي فقيل لابن عباس ما شأن البهيمة فقال ما سمعت من رسول الله في ذلك شيئًا ولكن أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كره أن يوكل لحمها أو ينتفع بها وقد عمل بها ذلك. قال الترمذي هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى سفيان الثوري عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس أنه قال من أتى بهيمة فلا حد عليه حدثنا بذلك محمَّد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان الثوري وهذا أصح من الحديث الأول وكذا صنع أبو داود وروى أثر ابن عباس الموقوف هذا من طريق شريك وأبي الأحوص وأبي بكر بن عياض عن عاصم ثم قال حديث عاصم يضعف حديث عمرو بن أبي عمرو. وأراد الترمذي وأبو داود تعليل رواية عمرو بن أبي عمرو برواية عاصم الموقوفة. ورد البيهقي عليهما في سننه 8/ 234 فقال وقد رويناه من أوجه عن عكرمة ولا أرى عمرو بن أبي عمرو يقصر عن عاصم بن بهدلة في الحفظ كيف وقد تابعه على روايته جماعة وعكرمة عند أكثر الأئمة من الثقات الأثبات. اهـ من تعليق أحمد شاكر على المسند 4/ 137. درجة الحديث صححه الشيخ أحمد شاكر والشيخ ناصر في الإرواه 8/ 13.

مسائل الخلاف ولننبّه بذلك أيضاً على الحكم العاشر: وهو اللواط. قال الشافعي هو زنى يفترق فيه البكرُ والثيب، وقال أبو حنيفة هو موضع أدب يجتهد فيه الإِمام فيضربه بالسوط قدر ما يراه رادعًا ولا يرى أبو حنيفة ولا الشافعي أن يجاوز الأدب أكثر الحد ورأى مالك أنه يرجم بكراً كان أو ثيبًا وهو أسعدُ قولاً, لأن الله أخبرنا عن قومٍ فعلوه وعن عقوبته فيهم بالرمي بالحجارةِ فوجب أن يتعظ بقولهِ، وأن يمتثل ما سبق من فعلهِ، وهذا يدلك على أن مالكاً رأى أن شرعَ من قبلنا شرع لنا بلا خلاف. ألاَ تراه لم يختلف قوله من أن البكر يرجم كما رجمَ الله بكرهم وثيبهم فإن قيل فقد رجم صغيرهم وكبيرهم فارجموا إذًا الصغير. قلنا ارتفع ذلك بالنص وبقيَ الباقي على ظاهر الحكم والحكمة في رجم الصغير منهم أمران: أحدهما أنه لما علمَ منهم أنهم كآبائهم فأجرى عليهم عقوبتهم، وأما أخذ الكل بعذاب الدنيا ثم يحشر كلٌّ على نيته (¬1) على ما ورد في حديث الجيش الذي يخسف به ¬

_ (¬1) قال الشارح في الأحكام (786) أثناء الكلام على قوله تعالى (ولوطًا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين). أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لما ارتكبوا هذه الفاحشة أرسل عليهم حجارة من سجيل جزاء على فعلهم واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال. الأول أنه يعزر قاله أبو حنيفة الثاني قال الشافعي وجماعة يحد حد الزنى محصنًا بجزائه وبكرًا بجزائه الثالث قال مالك يرجم أحصن أم لم يحصن وقاله ابن المسيب والنخعي وعطاء وجماعة. أما من قال إنه يعزر فتعلق بأن هذا لم يزن وعقوية الزاني معلومة فلما كانت هذه المعصية غيرها وجب ألا يشاركها في حدها. وأما من قال إنه زنا فنحن الآن نثبته مع الشافعي رداً على أبي حنيفة الذي يجعله بمنزلة الوطء بين الفخذين فنقول قد بينا مساواته للزنا في الاسم وهي الفاحشة وهي مشاركة له في المعنى لأنه معنى محرم شرعاً مشتهى طبعاً فجاز أن يتعلق به الحد إذا كان معه إيلاج وهذا الفقه صحيح وذلك لأن الحد للزجز عن الموضع المشتهى وقد وجد ذلك المعنى كاملاً بل هذا أحرم وأفحش فكان بالعقولة أولى وأحرى فإن قيل هذا وطء في فرج لا يتعلق به إحلال ولا إحصان ولا يوجب مهرا ولا ثبوت نسب فلم يتعلق به حد قلنا هذا بيان لمذهب مالك في أن بقاء هذه المعاني فيه لا يلحقه بوطء البهيمة إنما يعظم أمره على الوطء في القبل تعظيماً يوجب عليه العقوبة فيه أحصن أو لم يحصن ألا ترى إلى عقوبة الله عليه ما أعظمها. فإن قيل عقوبة الله لا حجة فيها لوجهين: الأول: أن قوم لوط إنما عوقبوا على الكفر الثاني إن صغيرهم وكبيرهم دخل فيها فدل على خروجها عن باب الحدود فالجواب أنا نقول أما قولهم إن الله عاقبهم على الكفر فهذا غلط فإن الله أخبر أنهم كانوا على معاص فأخذهم منها بهذه ألا تسمعه يقول (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) قالوا له: لئن لم تنته لنفعلن بك يا لوط ففعل الله بهم قبل ذلك.=

البيدَاء (¬1). الحكم الحادي عشر: اختلف العلماء في صلاة الإِمام علي المحدود فقال الشافعي يصلي عليه الإِمام والناس وقال سائر العلماء من فقهاء الأمصار لا يصلي عليهِ الإِمام وقد اختلفت الروايات في الأحاديث المتقدمة وفي بعضها ثم صلى عليها ولم يثبت ذلك، وإنما الثابت ترك الصلاة وفي ذلك حكمة بديعة وهي أن الإِمام إذا ترك الصلاة عليهِ كان ذلك ردعاً لغيره، ومن الناسِ من قال إن الحكمة فيهِ أنه قتله غضباً لله فكيف يصلي عليهِ رحمة، والرحمة تناقض الغضب، وهذا فاسد لأن محلَ الغضب قد انقضى، وموضع الرحمةِ قد تعينَ، وكان بعضُ الصوفية وهي فائِدة من الذكرِ قد صلى العشاءِ الآخرة خلف رجلٍ من الأئمةِ، فسمع الإِمام يقرأ (يوم يقوم الناس لرب العالمين) (¬2) فصعق، فلما فرغوا من الصلاةِ وجدوه ميتاً، فجهزوه يوماً آخر واحتملوه إلى القبرِ ثم قالوا من يصلي عليهِ فقال بعض الصوفية يصلي عليه الذي قتله، فاستحسَن الناس هذه الإشارة. الحكم الثاني عشر: قوله وكفلها رجل من الأنصار (¬3). قال أبو حنيفة الكفالة في الحدود مشروعة، لأجل (¬4) ذلك، وقد اعتضد ذلك بعمل الخليفة عمر حين قال في الحديث المعروف وكفلهم عشائرهم (¬5). وقال سائرِ العلماء لا كفالة في الحدود، وليس ¬

_ =الثاني: أنه إنما أخذ الصغير والكبير لسكوت الجملة عليه والجماهير فكان منهم فاعل وكان منهم راض فعوقب الجميع وبقى الأمر في العقوبة على الفاعلين مستمراً. وانظر القرطبي 7/ 243. (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في البيوع باب ذكر الأسواق 3/ 86 ومسلم في الفتن (2883 و 2884). (¬2) سورة المطففين آية (6). (¬3) جزء من حديث بريدة السابق. (¬4) انظر مجمع الأنهر 2/ 124. (¬5) قال البخاري وقال أبو الزناد عن محمَّد بن حمزة بن عمرو الأسلمي عن أبيه أن عمر رضِي الله عنه بعثه مصدقاً فوقع رجل على جارية امرأته فأخذ حمزة من الرجل كفيلاً حتى قدم على عمر وكان عمر قد جلده مائة جلدة فصدقهم وعذره بالجهالة. وقال جرير والأشعث لعبد الله بن مسعود في المرتدين استتبهم وكفلهم فتابوا وكفلهم عشائرهم البخاري في أول كتاب الكفالة 3/ 124. قال الحافظ قوله وقال أبو الزناد الخ هو مختصر من قصة أخرجها الطحاوي من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد حدثني أبي حدثني محمَّد بن حمزة بن عمرو الأسلمي عن أبيه أن عمر بن الخطاب بعثه للصدقة فإذا رجل يقول لامرأة صدقي مال مولاك وإذا المرأة تقول بل أنت صدق مال ابنك فسأل حمزة عن أمرهما فأخبر أن ذلك الرجل تزوج المرأة وأنه وقع على جارية لها فولدت ولدًا فأعتقته امرأته ثم ورث من أمه مالاً فقال حمزة للرجل=

تتميم

لهم في ذلك حجة لأنهم يزعمون أن الكفالة في البدن ليس لها تعلق بالمالِ ويقول مالك إنَّ لها تعلقاً بالمال بدلاً عن البدن إذا أطلق ويقول وليست من المالِ في شيء وقال لم يكن أيضاً في ذلك حجة, لأن المال لو كان لازماً في كفالة البدن لما جازَ استثناؤه منهُ، وفائدةِ الكفالة أمران إما إحضار المطالب ليتكلم عن نفسهِ، أو يؤدي ما عليه، وإما قضاء ما عليه من المالِ، فيتصور في الحدود المعنيين فصارَ المذهب العراقي أقوى. الحكم الثالث عشر: لم يسجن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزاني حتى أقام الحد عليه، واختلف العلماء في تأويل ذلك على قولين. أحدهما: أنه يجوز له الرجوع فلأي فائدة يسجن هو إن تمادى على إقراره سيرجع، وإن نزع فلا يتبع وقيل إنما لم يسجن لأن المدينة كلها كانت سجناً لأنه لم يكن للإسلام مستقر سواها يخاف أن يختلط المسجون بغيره وبالتأويل الأول أقول الحكم الرابع عشر: قال الشافعي وغيره إنَّ التوبةَ تسقط الحد لقولِ الله (إلَّا الذين تابوا من قبلِ أن تقدروا عليهم) (¬1) لأن الأمة "قد" (¬2) أجمعت على أنَّ التائب من الذنب كمن لا ذنبَ (¬3) له وقال سائِرُ العلماء لا تسقط التوبة الحد, لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حد من تحققنا توبته بخبره - صلى الله عليه وسلم - عنهَا وهذا نص، وقوله (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) نص في تلك النازلة مخصوص بها للمصلحة، فإن المرتفعَ في الجبلِ لو علمَ أن توبته لا تقبل لعمه في طغيانه، فشرعت التوبةُ استنزالًا له عن حاله ورجاء في إقلاعهِ عما هو فيه وزواله. تتميم: قد بينا شروط الرجم وذكرنا أن الإحصان من أول شروطهِ وأولاها، وذكرنا ¬

_ = لأرجمنك فقال له أهل الماء إن أمره رفع إلى عمر فجلده مائة ولم ير عليه رجماً قال فأخذ حمزة بالرجل كفيلاً حتى قدم على عمر فسأله فصدقهم عمر بذلك مع قولهم وإنما درأ عمر عنه الرجم لأنه عذره بالجهالة. فتح الباري 4/ 470 ثم قال عن الأثر الثاني وهذا أيضًا مختصر من قصة أخرجها البيهقي بطولها من طريق أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب قال صليت الغداة مع عبد الله بن مسعود فلما سلم قام رجل فأخبره أنه انتهى إلى مسجد بني حنيفة فسمع مؤذن عبد الله بن النواحة يشهد أن مسيلمة رسول الله فقال عبد الله علي بابن النواحة وأصحابه فجيء بهم فأمر قرظة بن كعب فضرب عنق ابن النواحة ثم استشار الناس في أولئك النفر فأشار عليه عدي بن حاتم بقتلهم فقام جرير والأشعث فقالا بل استتبهم وكفلهم عشائرهم فتابوا وكفلهم عشائرهم. فتح الباري 4/ 470 وانظر السنن 6/ 77. (¬1) سورة المائدة آية 34. (¬2) ليست في بقية النسخ. (¬3) انظر أحكام القرآن للكليا الهراسي 3/ 136 وأحكام القرآن للشارح 603.

الإِسلام وهو شَرط في صحةِ الإحصان، فإنه لا إحصَان لمن لا إسلام له إذ الإحصَان كمال وفضيلة ولا فضيلة مع الكفر. فإن قيل: فقد رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهوديين. قلنا إنما فعل ذلك إقامة للحجة عليهم من كتمان ذكره في التوراةِ. فإن قيل: فكيف يقيم الحجة عليهم بما لا يراهُ حقًا وقد قيل له (فاحكم بينهم أو أعرض عنهم .. وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) (¬1)، وليس من القسط أن يرجم الكافر، وعلى هذا عوَّل الأئمةِ من أصحاب الشافعي في أن الإِسلام لا يشترط في الإحصَان. قلنا من فهم مساق المسألة على وجه الحجةِ وصورتها أن اليهوديين زنيا، فلو شاءت اليهود لما جاءت إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -, لأنه لم يكن له حكم عليهم بالشرطِ الذي شرط لهم ولكنهم قالوا: نمشي إليهِ حتى نعلمَ حاله في الرجمِ، فإن حكم به فهو نبي، وإن مرَّض فيه فهو محتال، فلما مثلوا بين يديهِ وسردُوا عليه القصة، فهمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الغرض، فرمى عليه فقال إيتوني بأعلم من فيكم، فأتوا (¬2) بابن صوريا فقال لهما أنشدكما الله هل تجدون الرجم في التوراة؟ فقالوا لا؟ قال: فأتوا بالتوراة فاتلوها فجاؤا بها فوضِع أحدهم يده على آيةِ الرجمِ، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال عبد الله بن سلَّام، يرفع يده فإن آية الرجم (¬3) تحتها فرفع يده، فإذا آية الرجم تلوح فقال: ما حملكم على ترك الرجم فقالوا (¬4) الحديث إلى آخرهِ، فإن قيل: فلم استدعى شهود اليهود قيل حتى تقوم الحجة عليهم من قبلِ أنفسهم، فلا يقولون عجل علينا محمَّد. فتبين عند عامة اليهود بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن علمائهم في صفةِ من يكتم الحق في كتاب الله حتى يكذبوهم في قولهم ليس ذكر محمَّد في التوراة، وقبل "وبعد" (¬5) فإذا لاحت الحقائق، فليقل المتعصب بعدها ما شاء. لو جاءوني لحكمتُ بالرجم ولم أعتبر الإِسلام في الإحصَان. الحكم الخامس عشر: الجلد في الزنا، إنما هو من الله تعالى بإجماع يستوفيه نائبه فيه وفي أمثاله ويقوم به خليفته عليه وعلى غيره وهو الإمام أو من يقوم بذلك، وهذا مما لا خلاف فيه، فمن العلماء من أجراه على عمومه ومنهم من خصَّصه، فأخرجَ حدودَ العبيد عن حكم الإِمام وجعلها بأيدي السادة، وهو مالك والشافعي، وتعلقوا في ذلك بأدلة استوفيناها في مسائلِ الخلافِ والحاضر الآن منها والأقوى فيها أن الكل كانَ بيد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (42). (¬2) في ج فأتوه. (¬3) في ج تحته. (¬4) في م وج فذكروا الحديث. (¬5) زيادة من ك م وج.

مسائل القذف

فاستناب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السادة عليه. فقال: (أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم، من أحصن منهم ومن لم يحصن) (¬1) خرّجه مسلم والنسائي وأبو داود وقال - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح والمتفق عليه، إذا زنَت أمة أحدكم فليحلدها الحد ولا يثرب (¬2) (¬3) وهذا نص، وليس للقوم عليه كلام ينفع فلا نطول بذكره في هذه العجالةِ وفي الأحاديث كلام ولبقايا هذا الباب أحكام. مسائل القذف: لا خلاف أن الله سبحانه جعل الأعراض ثلث الدين في أبواب المنهيات، وصانها بالتغليظ فيها رجماً في الفرج فإنه من العَرضِ وحداً في النسب لأنه سبب من أسباب الأحكام فقال تعالى: (والذين يرمون المحصنات) (¬4) الآية. فصَانَه بالحدِّ وقصَّر به عَن الزنا ليبين تفاوت المراتب في المعاصي والفحشاء والرمي الذي يوجب الحد كلما عاد إلى الفَرج وغير ذلك فيه الأدب من السب والإذاية إلا أن الشريعة ألحقت حكم الولاء بحكم الفرج في أن جعلتها قطعةً منه لقولهِ - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (الولاء لحمة كلحمةِ النسب) فإذا وقع النفي فيه جرى الحدَّ عليهِ إنزالًا له في تلك المنزلة وزاد مالك على الفقهاء التعريض، فجعل له حكم التصريح فقال لأنه قول يفهم منه القذف فوجبَ فيه الحد لأن أصله التصريح، لا سيما والكناية عند العرب أبلغ في التخاطب من التصريح وخالف في ذلك الشافعي وأبو حنيفة وفي ذلك منهما عجبان عظيمان، أما أحدهما فلا عذر للشافعي في إسقاط الحد في التعريض لأنه عربي فصيح لم يخف عليه ما في ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في الحدود باب تأخير الحد عن النفساء (1705) من طريق أبي عبد الرحمن السلمي قال خطب علي فقال يا أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديث عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أحسنت. ورواه أبو داود في الحدود (4473) والترمذي (1441) وقال حسن صحيح وعزاه المنذري للنسائي كعزو الشارح. (¬2) لا يثرب يعني لا يعير والتثريب التعيير. شرح السنة 10/ 298. (¬3) متفق عليه البخاري في البيوع باب بيع المدبر 3/ 109 وفي باب بيع العبد الزاني 3/ 93 ومسلم في الحدود باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا حديث (1703 و 1704) والموطأ 2/ 826 وأبو داود (4469 و4470 و 4471) والترمذي (1440). (¬4) سورة النور آية (4)

تتميم

الكناية من الإفهام فإنها أبلغ من صَريح الكلام، وأما أبو حنيفة فهو أعجمي فلا يستنكر عليهِ الجهل بهذه المسألةِ فأراد أن يتفصَّح ويتفقَّهَ ليثبت دعواه في العربية فقال: لو قالَ رجل لإمرأتِهِ زنأت (¬1) في الجَبَل وجبَ عليه الحد، والزنو هو الارتقاء فيه فخافَ أبو حنيفة أن يريدَ زنيت فيأتي بالمعنى ليخفي السبَّ، وهذا رجوع إلى مذهب مالك في وجوب الحد بالتعريض (¬2)، وفروع القذف كثيرة أمهاتها مسألتان: الأولى: اختلف العلماء في حد القذفِ، فمنهم من قال هو حقٌّ لله تعالى قال به أبو حنيفة (¬3)، وقالت طائفة: هو حقٌّ للآدمي، قال به الشافعيُّ وعن مالك الروايتان (¬4). المشهور أنه حقٌّ للآدمي، وقد بينا في صريح الخلافِ وتخليصه أن فيه شائبة حق لله، وشائبة حق للآدمي، إلَّا أن المغلب شائبة حق الآدمي، والمعوَّل لمن قال إنه حق الآدمي وقوف استيفائه على مطالبة الآدمي، وليسَ للقوم متعلق به احتقالٌ، إلَّا أنهم قالوا لو كان حقاً للآدمي لما شرط بالرق والحريةِ. قلنا قد شطر حق الآدمي بالرقِ، والحرية كالنكاحِ والطلاق فإن قيل لو كان للآدمي لجاز إسقاطه بالعفوِ كالقصاص. قلنا كذلك نقول في إحدى الروايتين يجوز العفو عنه (¬5) مطلقًا والقول بالعفو إذا أراد ستراً ضَعيفٌ، وقد بينا ذلك في كتب المسائلِ. الثانية: اتفق علماء الأمصارِ على أن القاذفَ إذا تابَ قبلت شهادته وخالفهم أبو حنيفة أخذاً بظاهر قولِ الله تعالى: (ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً) (¬6) وعجباً له. متى تفرست (¬7). تتميم: لم يبق في الدين ظاهراً إلا تركه، فلم يبقَ عليهِ إلَّا مراعاة هذا ولو راعاه كما ¬

_ (¬1) قال ابن الأثير يقال زنا في الجبل يزنأ إذا صعد. النهاية 2/ 315 وانظر لسان العرب 14/ 360. (¬2) قال ابن هبيرة اختلفوا في التعريض هل يوجب الحد فقال أبو حنيفة لا يوجب الحد سواء نوى به القذف أو لم ينوه وقال مالك يوجب الحد على الإطلاق وقال الشافعي لا يوجب الحد إلا أن ينوي به القذف ويفسره به وعن أحمد روايتان أظهرهما وجوب الحد فيه على الإطلاق والأخرى كمذهب الشافعي الإفصاح 2/ 170. (¬3) قال أبو حنيفة هو حق لله عَزَّ وَجَلَّ فلا يصح للمقذوف أن يسقطه ويبرأ منه الإفصاح 2/ 171. (¬4) قال مالك والشافعي هو حق للعبد يصح له أن يسقطه ويبرأ منه إلا أن مالكًا قال متى رفع إلى السلطان لم يملك المقذوف الإسقاط. الإفصاح 2/ 171. (¬5) في ج فيه. (¬6) سورة النور آية (4). (¬7) في ج وك وم فرشت ولعلها فرست قال في القاموس تفرس تثبت ونظر وأرى الناس أنه فارس. ترتيب القاموس 3/ 469.

يجب لقال إن التوبة تعمل فيه لقَولهِ بعد ذلك {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} وهذا الاستثناء يرجعُ إلى جميع ما تقدم قبله وقال أبو حنيفة: يرجعُ إلى أقرب مذكورٍ (¬1) كالضمائر وقد بينا ذلك في مسائلِ الخلافِ، والذي أوجبَ عليه هذا جهله باللغةِ فليس بممتنع في الاستثناءِ المتعقب للجمل أن يَرجِعَ إلى جميعها، فإن قيل: لو رجع إلى الجميع لسقط الجلد بالتوبة، قلنا، إنما تؤثرُ التوبة في إسقاط حقوق الله إجماعاً، وقد لا تؤثر فيها كما تقدم وقد استوفينا ذلك في مسائلِ الخلاف. ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن للجصاص الحنفي 3/ 271 ولابن العربى 2/ 1332.

كتاب السرقة

كتاب السرقة قال الله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} (¬1) فهذه الآية عامة في كلِ سرقةِ كيف ما وجدت، وعلى أي حال (¬2) جرت إلَّا أن الشريعة خصصتها بخصائص، وعقدتها بمعَاقدَ. المعقد الأول: قالت طائفة يتعلق القطع في السَرقةِ بقليل المال وكثيره لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لعن الله السارق، يسرق البيضَة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) (¬3) وهذا حديث صحيح: قال ابن قتيبة: المراد بالبيضة بيضة الحديد، والمراد بالحبل، حبل السفينة (¬4). وابن قتيبة هجوم ولاج على ما لا يحسنُ، وليته يخطئ في البيضِ والحبال ولا يخطئ في صفاتِ ذي الإكرامُ والجلالِ. وعضدَ ذلك بعضهم بحديثٍ يروى عن ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (38). (¬2) في ج وك حالة. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في الحدود باب لعن السارق إذا لم يُسَم 8/ 198 ومسلم في الحدود باب حد السرقة ونصابها (1687). (¬4) قال ابن قتيبة ومن الفقهاء من يذهب إلى أن البيضة في هذا الحديث بيضة الحديد التي تغفر الرأس من الحرب وأن الحبل من حبال السفن قال وكل واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة وهذا التأويل لا يجوز عند من يعرف اللغة ومخارج كلام العرب لأن هذا ليس موضع تكثير لما يسرق السارق فيصرف إلى بيضة تساوي دنانير وحبل عظيم لا يقدر على حمله السارق. ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا قبح الله فلاناً فإنه عرض نفسه للضرب في عقد جوهر وتعرض لعقوبة الغلول في جراب مسك وإنما العادة في مثل هذا أن يقال لعنه الله تعرض لقطع اليد في حبل رث أو كبة شعر أو إداوة خلق وكلما كان من هذا أحقر كان أبلغ. تأويل مختلف الحديث ص 166. ونقل الحافظ عن ابن الأنباري قوله ليس الذي طعن به ابن قتيبة على تأويل الخبر بشيء لأن البيضة من السلاح ليست علماً في كثرة الثمن ونهاية في غلو القيمة فتجري مجرى العقد من الجوهر والجراب من المسك اللذين ربما يساويان الألوف من الدنانير بل البيضة من الحديد ربما اشتريت بأقل مما يجب فيه القطع وإنما مراد الحديث أن السارق يعرض قطع يده بما لا غنى له به لأن البيضة من السلاح لا يستغني بها أحد قال الحافظ =

المعقد الثاني

النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قطعَ في بيضة قيمتَها ثلاثون درهماً (¬1)، وهذا الحديث لا يساوي سماعه، وإنما معنى الحديث تحقير العبد المتعرض للسرقةِ المتلبس بدناءاتها المتوصل من قليلها إلى كثيرها، فإن الخيرَ عادة، والشر لجاجة (¬2)، ويعود ذلك إلى ضرب المثل وذلك كثير في الشريعة في تحقير المحمَر وتعظيم المعظم كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من بني لله مسجداً ولو مثل مفحص قطاةٍ بني الله له بيتاً في الجنة) (¬3) والمراد بذلك المبالغة في تعظيم ثوابِ المساجدِ مع صغر بنائِها. ووجه المثل أن من بني لله مسجداً لا يُصَلي فيه إلا واحد كأفحوص القطاةِ التي لا يسع سواها. المعقد الثاني: قالت طائِفة لا يؤبه لها أن القطعَ لا يقف على أخذِ المالِ من الحرز لعموم هذه الآية (¬4)، وهذا مصَادمة للإجماع السابق من الأمة قبلهم، مع أنه يرده أمران ظاهران. أما الأول: فإن السرقة تقتضي حفظاً يخالفُ بالأخذِ فإذا لم يكن هنالك حافظ لم يكن هنالك سارق، ولأجل هذا لم يعد آخذ المالِ الملقى على الطريق والمطروح في المفازة سارقاً لأنه لم يكن له حافظ. والثائي: قول النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: لا قطع في ثمرٍ ولا كثر إلَّا ما أواه الجرين (¬5)، فشرط في وجوب القطع وضع المالِ في موضع الحفظ. المعقد الثالث: القول في النصاب. لما ثبت الفرق بينَ قليل المال وكثيره في وجوب ¬

_ = وحاصله أن المراد بالخبر أن السارق يسرق الجليل فتقطع يده ويسرق الحقير فتقطع يده فكأنه تعجيز له وتضعيف لاختياره لكونه باع يده بقليل الثمن وكثيره. فتح الباري 12/ 83. (¬1) لم أجد الحديث بهذا اللفظ وقد أخرج البزار ما يقاربه من طريق المختار بن نافع عن أبي حبان التميمي عن أبيه عن علي أن النبى - صلى الله عليه وسلم - (قطع في بيضة من حديد قيمتها أحد وعشرون درهماً) قال البزار هكذا حدثناه محمَّد بن مرزوق ورواه غيره عن المختار عن أبي مطر عن علي بن أبي طالب. كشف الأستار 2/ 220 ولم يعزه الهيثمي في المجمع لغير البزار وقال فيه المختار بن نافع وهو ضعيف مجمع الزوائد 6/ 174. (¬2) أي دربة وهو أن يعوده نفسه حتى يصير سجية له وأما الشر فالنفس تلح في ارتكابه لا تكاد تخليه. أساس البلاغة ص 316. (¬3) رواه أحمد من طريق جابر الجعفى عن عمار الدهني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المسند 1/ 241 والبزار انظر كشف الأستار 1/ 204 وابن عدي في الكامل 2/ 542 في ترجمة جابر الجعفي وأورده الهيثمي في المجمع 2/ 7 وأعله بجابر الجعفي وذكره الشيخ ناصر في صحيح الجامع الصغير 5/ 265 وصححه ولا أدري كيف صححه وفيه جابر الجعفي وقد قدمنا الكلام عليه ورواه ابن أبي شيبة 1/ 310. (¬4) قال القرطبي وحكي عن الحسن وأهل الظاهر أنهم لم يشترطوا الحرز القرطبي 6/ 162. (¬5) رواه مالك في الموطأ 2/ 839 وأحمد في المسند 3/ 463 و 464 و 4/ 140 و 143 وأبو داود (4388) والنسائي 8/ 87 والبيهقي 8/ 262 و263 من حديث يحيى بن سعيد عن محمَّد بن يحيى بن حبان عن رافع بن خديج =

القطع، تعينَ الوقوف على مقدار يتعلق به الحكم، ويرتبط به التكليف، فلو وكلته الشريعةُ إلى الاجتهاد لجاز، ولكن البارىء تعالى تولى بيان حكمه على لسانِ رسولهِ فقدره بربع دينارٍ من نصاب الذهب (¬1)، وبثلاثة دراهم في نصاب الفضة (¬2) كذلك ادعته المالكية وقالت الشافعية لا نصاب للفضة في السرقةِ وادعت أن النصابَ مقصورٌ على الذهب، وادعت الحنفية أن نصابَ السرقة عشرة دراهم، وتعلقت في ذلك بآثارٍ مروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قطع في مجنٍ قيمته دينارٍ. رواه أبو داود (¬3) وروى النسائي عشرة دراهم (¬4)، وكذلك روى عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده بلفظه (¬5)، وقد تعلق الشافعي بما روى الجميع أن النبى - صلى الله عليه وسلم ¬

_ = وأخرجه الترمذي (1449) عن الليث بن سعد عن يحى بن سعيد به وابن ماجه (2593) وابن حبان (1505) والنسائي 8/ 88 والبيهقي 8/ 263 عن سفيان بن عيينة كلاهما عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن رافع بن خديج قال أبو عمر هذا منقطع لأن محمداً لم يسمعه من رافع وتابع مالكاً عليه سفيان الثوري والحمادان وأبو عوانة ويزيد بن هارون وغيرهم. ورواه ابن عيينة عن يحيى عن محمد عن عمه واسع عن رافع وكذا رواه حماد ابن دليل المدائني عن شعبة عن يحيى بن سعيد به فإن صح هذا فهو متصل مسند صحيح لكن قد خولف ابن عيينة في ذلك ولم يتابع عليه إلا ما وراه حماد بن دليل فقيل عن محمد عن رجل من قومه وقيل عنه عن عمة له وقيل عنه عن أبي ميمونة عن رافع كما رواه مالك .. ثم قال الزرقاني والظاهر أن هذا الاختلاف غير قادح كما يشير إليه قول ابن العربي فإن كان فيه كلام لا يلتفت إليه وأما المتن فصحيح كما أشار إليه الطحاوى وأبو عمر في آخر كلامه وله شاهد من حديث أبي هريرة عند ابن ماجه (2594). شرح الزرقاني 4/ 164 قلت حديث ابن ماجه ضعيف ولكن هناك شاهد آخر عند أبي داود (4390) من حديث عبد الله بن عمرو وهو حسن. (¬1) متفق عليه من حديث عائشة أن رسول الله قال (القطع في ربع دينار فصاعداً) البخاري في المحاربين باب قول الله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 8/ 199 ومسلم في الحدود باب حد السرقة ونصابها (1684) والموطا 2/ 832 وأبو داود (4383) و 4484 في الحدود والترمذي (1445) والنسائي 8/ 77 و 78 و 79. (¬2) متفق عليه من حديث ابن عمر أخرجه البخاري في الحدود باب قول الله تعالي {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 8/ 200 ومسلم في الحدود باب حد السرقة ونصابها (1686) حديث (6) والموطا 2/ 831 وأبو داود (4385) والترمذي (1446) والنسائي 8/ 76. (¬3) أبو داود (4387) من طريق ابن اسحاق عن أيوب بن موسي عن عطاء عن ابن عباس وابن إسحاق عنعنه وهو مدلس. (¬4) النسائي 8/ 83 من طريق يحيى بن موسي البلخي عن ابن نمير باسناده ورواه عن محمد بن وهب عن محمد بن مسلمة عن ابن إسحاق مرسلاً ليس فيه ابن عباس ورواه الحاكم في المستدرك 4/ 378 عن ابن اسحاق به بلفظ النسائي وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (¬5) رواه النسائي 8/ 84 من طريق ابن اسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال "كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم". ورواه الدارقطني فى سننه 3/ 190 من نفس الطريق ومن طريق الوليد بن

المعقد الرابع

قال تقطع اليد في ربع دينارٍ فصاعداً (¬1)، واحتجت المالكية بما احتجت به الشافعية أيضاً، وبحديث عبد الله بن عمر الذي اتفق عليه الكل أيضاً أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجنٍ قيمته ثلاثة دراهم وهذا نصَ في النَصابين من الذهب والفضةِ في الصحيح، فيبطل بذلَك مذهب الشافعيةِ (¬2) وأما حديث الحنفية فضعيف، والدليل على ضعفه ترك الخلفاء العملَ به، فقد قطع عثمان في ثلاثةِ دراهم (¬3)، والتقدير عند أبي حنيفة لا يثبت بقياسِ، وعند الجميع لا يثبت إلا بنصِ القرآن أو بخبرٍ صحيح. المعقد الرابع: إذا ثبت اعتبار القيمة في النصابِ فإنما يُعتبرَ يومٍ الجناية وذلك حينَ سرق. وقال أبو حنيفه: تعتبر القيمة يوم القطع ومذهب مالك يتردد كثيرًا في مسائل الضمان بين اعتبار القيمة يوم الجناية أو يوم القضاء لأدلة تتعارض هنالك، ومهما وقع الاختلاف هنالك في حالة الاعتبار فلا ينبغي أن يكون هنا اختلاف في أن الاعتبار يوم الجنايةِ، فإن في ذلك اليوم تعلق الضمان بذمة السارق ولم يطرأ ما يعارضه فإن قيل: قد طرأ وهو تنقيص القيمةِ يوم الحكم فكيف يقطع الحاكم في درهمين، والقطع مما يسقط بالشبهةِ. قلنا: ليست هذه الشبهة مما يسقط بها القطع، فإن الضمانَ قد يتعلق بذمةِ السارق، وقد اتفقنا على أنه يغرم ثلاثة دراهم، وكيف نأخذ من يده ثلاثة دراهم ونسقط القطع. المعقد الخامس: إذا طرأ ملك السارق على السرقةِ لم يسقط القطع، لأنه ملك طرأ بعد وجوب الحد فلا يسقطه أصله إذا اشترى الجارية بعد الزنى بها ويعضده وهو نص فيه حديث صفوان بن أمية حين سرقَ سارق ردآءه وقد توسده ونام في المسجد. فقال صفوان ¬

= كثير عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده والحديث ضعفه الشارح وذلك لأنه يدور على ابن إسحاق وقد عنعه وهو مدلس. (¬1) يعني بذلك منطوقَ حديث عائشة السابق الذي استدل به الشافعية. (¬2) قال ابن دقيق العيد اعتماد الشافعي على حديث عائشة وهو قول أقوى في الاستدلال من الفعل المجرد وهو قوي في الدلالة على الحنفية لأنه صريح في القطع في دون القدر الذي يقولون بجواز القطع فيه ويدل على القطع فيما يقولون به بطريق الفحوى. وأما دلالته على عدم القطع في دون ربع دينار فليس هو من حيث منطوقه بل من حيث مفهومه فلا يكون حجة على من لا يقول بالمفهوم. فتح الباري 12/ 105. (¬3) الموطأ 2/ 832 من حديث عمرة بنت عبد الرحمن أن سارقاً سرق في زمان عثمان أترجة فأمر بها عثمان بن عفان أن تقوم فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهماً بدينار فقطع عثمان يده، وسنده صحيح إلى عمرة بنت عبد الرحمن.

المعقد السادس

"هو عليهِ صَدقة فقال رسول الله: (فهلا قبل أن تأتيني به) " (¬1). فإن قيلَ: هذا الحديث لا حجة فيه، فإنه مضطرب لأنه روي أنه نام في المسجد فتوسد رداءه، وروى أبو داود والنسائي أنه توسدَ خميصة قيمتُها ثلاثون درهماً، فجاء رجل فاختلسها، فأخذ الرجل فأتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر به ليقطع، قال صفوان: فقلت: أتقطعه من أجلِ الثلاثين درهماً، أنا أبيعه وانسئه بثمنها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهلا قبل أن تأتيني (¬2) به وروى النسائي أن ذلك كانَ بمكة. فقال إنه طاف بالبيت ثم أخذ رداءه فتوسد ونام (¬3). الحديث. قلنا: الحديث صحيح (¬4) وهذا الاضطراب الذي فيه لا يسقط الحجة منه لأنه لم يرد الاضطراب في موضح الدليل وهو أن الملك لا يسقط الحجة منه. المعقد السادس: كل مالٍ يباع ويبتاع وتمتد إليه الأطماع تتعلقُ به السرقة. وأسقط أبوحنيفة السرقة في مسألتين من ذلك: إحداهما: قال: لا قطع فيما كان أصله على الإباحة لشبهة الشركة المتقدمة فيه وهذا ضعيف، فإن ما تقدم من الشركة لا ينتصب شبهة في حدِ السرقة، أصله خلُوص الملك في الجارية المشتركة لأحد الشركاء لا يسقط باتفاقٍ حد الزنا عمن وطئها ممن خرجَ عن حصته فيها. الثانية: قال أبو حنيفة: ما يسارعُ إليهِ ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطأ 2/ 834 عن ابن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان أن صفوان بن أمية قيل له إنه من لم يهاجر هلك فقدم صفوان بن أمية المدينة فنام في المسجد وتوسد رداءه فجاء سارق فاخذ رداءه فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرقت رداء هذا قال نعم فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تقطع يده فقال له صفوان إني لم أرد هذا يا رسول الله هو عليه صدقة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهلا قبل أن تأتيني به قال ابن عبد البر هكذا رواه جمهور أصحاب مالك مرسلاً شرح الزرقاني 4/ 158 وهذا المرسل رجاله ثقات وقد وصله النسائي 8/ 68 و 69 وابن ماجه (2595). (¬2) أبو داود (4394) والنسائي 8/ 69 كلاهما من طريق سماك بن حرب عن حميد ابن أخت صفوان عن صفوان ابن أمية ورواه الحاكم في المستدرك 4/ 380 بسند أبي داود ولفظه. (¬3) النسائي من طريق عبد الملك بن أبي بشير قال حدثني عكرمة عن صفوان ابن أمية أنه طاف بالبيت وصلى ثم لف رداء له من برد فوضعه تحت رأسه فنام فأتاه لص فاستله من تحت رأسه فأخذه فأتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إن هذا سرق ردائي .. النسائي 8/ 69. قال الزيلعي وأما طريق عبد الملك بن أبي بشير فالظاهر أنها منقطعة فإنها من رواية عبد الملك عن عكرمة عن صفوان بن أمية وعكرمة لا أعرف أنه سمع من صفوان وإنما يرويه عن ابن عباس ومن دون عبد الملك إلى النسائي ثقات وعبد الملك وثقه أحمد بن حنبل وابن معين وأبو زرعة ويحيى القطان وقال سفيان كان شيخًا صدوقاً نصب الراية 4/ 369. (¬4) نقل الزيلعي تصحيحه عن صاحب التنقح فقد قال حديث صفوان حديث صحيح.

المعقد السابع

الفساد من المأكولات ولم يصلح للادخار لا قطع في سرقته، لأنه معرض للتلفِ لا قطع على من سرقه، كالملقى بمضيعة (¬1). قلنا: لا يشبه هذا فهم أبي حنيفة، فإن المال الملقى بمضيعة لا يتعلق به طمع ولا يجوز فيه بيع فصار في حيز المعدوم والمال الملقى بمضيعة قصد به التعريض للتلفِ، والمال الذي يصلح للبقاء والادخار، إذا حوولت فيه صنعة يسرع معه الفسَاد إليها، فلم يقصد فيه الفسَاد والتعرض للتلفِ، وإنما قصد فيه الاستصلاح للذة والبقاء، ومن ضرورة جبلة ذلك حسب ما أجرى الله العادة فيه أن يفسد، فذلك فساد ضرورة لا فساد قصد، فلم يصح أن يعتبر بشيء من ذلك. المعقد السابع: يقطع النباش عندنا، وبه قال الشافعي والجمهور، وقال أبو حنيفة لا يقطع لوجهين: أحدهما: عدم السرقة. الثاني: عدم الحرز. قال: وعلي تأصيل زائد إلى ذلك أنه قصد به الفساد والتعريض للتلف، فصار كالملقى بالمضيعة، ولذلك قال الصديق الحي أحوج للجديد من الميت، إنما ذلك للمهلة (¬2) والصديد (¬3)، قال: أما عدم السرقة، فإنما تكون السرقة عند تحديق أعين النظار الحفاظ وتصويبها نحو المحفوظِ، والكفن لا عين فيه تحفظه ولا تلحظه، وأما عدم الحرز فظاهر لأنه لم تجعل التراب عليه ليرجع إليه، قلنا: أما تحقيق السرقة فهي فيه لا شك موجودة، هو من جملةِ السرقةِ، ولكنه يختص باسم النباش اشتق له هذا الاسم من فعلهِ، وأما قولهم إنه ليس هنالك عين تحفظه وتلحظه، فليس ذلك من شروطِ السرقةِ، بدليل أنَ البلدَ إذا شغر (¬4) أهله في يوم ¬

_ (¬1) قال الوزير ابن هبيرة اختلفوا في القطع بسرقة ما يسرع إليه الفساد فقال مالك والشافعي وأحمد يجب القطع فيه إذا بلغ الحد الذي يقطع في مثله بالقيمة وقال أبو حنيفة لا يجب القطع فيه وإن بلغت قيمة ما يسرق نصاباً. الإفصاح 2/ 251. (¬2) قال أبو عبيد المهل الصديد والقيح. شرح السنة 5/ 316. (¬3) رواه مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال بلغني أن أبا بكر الصديق قال لعائشة وهو مريض في كم كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت في ثلاثة أثواب سحولية فقال أبو بكر خذوا هذا الثوب (لثوب عليه قد أصابه مشق (*) أو زعفران) فاغسلوه ثم كفنوني فيه ثم ثوبين آخرين فقالت عائشة وما هذا فقال أبو بكر الحي أحوج إلى الجديد من الميت وإنما هو للمهلة الموطأ 1/ 224 ورواه البخاري في الجنائز من طريق هشام ابن عروة عن أبيه عن عاثشة رضي الله عنها قالت دخل علي أبو بكر رضي الله عنه فقال في كم كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة .. البخاري 2/ 127. (*) مشق أي صباغ يقال ثوب ممشق مصبوغ به. النهاية 4/ 234 غريب الحديث لابن الجوزي 2/ 360. (¬4) شغرت الأرض لم يبق بها أحد يحميها ويضبطها فهي شاغرة. ترتيب القاموس 2/ 725.

المعقد الثامن

عيدٍ أو لحادث يحتاجونَ إلى التبرز له فسرقَ سَارق من المنزل حينئذٍ وجب عليه القطع إجماعاً، وليس هناك حافظ ولا بصر لاحظ، وأما القبرُ فإنه حرز، قرآناً وسنةً وعادةً، أما القرآن، فقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً (¬1) وَأَمْوَاتًا} فامتنَّ علينا سبحانه بأن جعل الأرض كفاتاً لنا في حالةِ الحياة والموتِ، وسوى بين الموضعين، ووجدت المنفعة بذلك في الوجهين من الاكتناز والاستتارِ حالة المحيا والممات، وأما السُنة ففي الحديث: لعنَ الله المختفي والمختفية (¬2)، وأما العادة فلأن الحرز في الأشياء باتفاقٍ ليس باباً واحداً وإنما هو في كل شيء يقدره على حاله المختلفة فيه كالجرين للتمر (¬3) والتكوير للعمامةِ والتلفيح للرداءِ والخميصة والدرج والكيس للمال العين، والقبر للكفن، وأما قوله إنه بناه على أصلهِ في كل مالٍ عرض للتلف، فقد حرَّرنا ذلك الأصل فيما تقدم، أما ما وراء النهر من أصحابه اعتمدوا على أن الكفن مال لا مالك له، قالوا وإذا لم يتعين المالك الواحد من جملة الملاك للمال لم يجب على من سرق منه قطع كمال بيت المال، فكيفَ إذا لم يكن له مالك، والموت يبطل الملك، وتبقى الصلاحية له، وهذا من أغمض كلامهم. قلنا: الموت يبطل الملك كله إلّا الكفن كما أن التفليسَ يرفع يد المالك عن كلِ مالٍ له إلّا ثوبه الذي يستتر بهِ، والحكمة في ذلك لأن الله تعالى جعَل الملك في الدنيا على وجهين: ملك ضرورةٍ وحاجةٍ كالكسرة الواحدة والثوب الواحد، وملك متاعٍ ولذةٍ كالتبقي من الدنيا والتكثير منها فما استمر الأصل به ولم تقع المضايقة ملك بالوجهين، وإذا وقعت المضايقة كتزاحمِ الغرماء معه على حقوقهم ارتفعت اللذة وبقيَ ملك الحاجة، وكذلك إذا انقطع الأمل عن الدنيا بقي ملك الحاجةِ وحده وهو الكفن (¬4). المعقد الثامن: قال الشافعي: ليس إيجاب القطع بمسقطٍ للغُرم لأنهما حقانِ لمستحقين بسببين مختلفين في محلين متغايرين، فجاز أن يجتمعا أصله الدية والكفارة. وقال أبو حنيفة لا يجتمعُ الغرم والقطع وتعلقَ العراقيون من أصحابه بقولهِ تعالى: {فاقطعوا ¬

_ (¬1) سورة المرسلات آية (25 - 26). (¬2) رواه البيهقي في سننه 8/ 70 من حديث عائشة وقال ابن التركماني الصحيح فيه أنه موصول وذكره الشيخ ناصر في صحيح الجامع الصغير 5/ 21 وذكر أن البيهقي رواه من حديث عائشة وقد حكم عليه الشيخ ناصر بالصحة. (¬3) جرن الحب طحنه والجرن بالضم والجرين والمجْرَن البيدر وأجرن التمر جمعه فيه مختصر القاموس ص 102 ترتيب القاموس 1/ 482. (¬4) انظر تفاصيل مذهب الحنفية في النباش في اللباب في شرح الكتاب 3/ 205 وشرح السنة 10/ 323 الإفصاح 2/ 254 القرطبى 6/ 164 وأحكام القرآن للجصاص الحنفي 2/ 419.

المعقد التاسع

أيديهما} (¬1) ولم يذكر غرماً، والغرم زيادة على النص، والزيادة على النص نسخ (¬2)، ونسخ القرآنِ لا يجوز إلا بقرآن مثله أو بخبرٍ متواترٍ، وتعلق الخراسانيونَ منِ أصحابه بأن قطع السرقة واجب حقاً لله وما كان ذلك حتى كان المحل المجنى عليه محترماً لحق الله عز وجل فإنه لو كان محترماً لحق العبدِ لكان الخيار في استيفاء العقوبة للعبدِ كالقصاصِ وقال مالك: يجب القطع والغرمِ على الموسرِ، فإن كان معسراً أسقطه الضمان، ووجبَ القطع، فأما مذهب الشافعي فهو ظاهر النظر في أول درجاتهِ لكنَّا سنبين قصوره إن شاء الله، وأما مذهب أبي حنيفة ففاسد لأن دليل وجوب الضمان على كلِ متلفٍ أظهر تبياناً وأكثر أدلة من وجوب القطع في السرقة، وليس لقائل أن يقول إيجاب القطع في السرقةِ مع الضمان زيادة على النص فإن قيل هذا لا يقوله أحد. قلنا: وما ذكرت إذا أدّى إلى هذا لا يستدل به أحد وأما قولك إن الحرمة قد خلصت لله، فلو كانَ هذا صحيحاً وزَال حق الآدمي من العَين ما عاد إليهِ أبداً، وأما مالك فله في هذه المسألة مقاصة عظيمة وذلك أن السارق إذا كانَ موسراً أوجب القطع في يديه عقوبة ووجبَ الغرم في مالهِ عقوبة أخرى، وإذا كان معسراً وجَب القطع في بدنه عقوبة فلو أوجبنا الغرم في ذمتهِ لكُنّا قد جمعنا بين عقوبتين في محلٍ واحدٍ وذلك لا يجوز. المعقد التاسع: روي أن بعضهم قال: تقطع الأصابع خاصة دون الكف (¬3)، وهذا فاسد جداً لأن اليدَ اسم لهذه الجارحةِ المعلومة من الظفر إلى المنكب وَهيَ في العرفِ منطلقة على ما حَازه الكوع إلى الظفرِ، وهي أقل ما تنطلق عليهِ، فلا يتناول اللفظ بعض محتملهِ باتفاقٍ. المعقد العاشر: قال عطاء: لا تقطع للسارق إلا يد واحدة لأن الله تعالىِ قال {أيديهما}، فقطع من كلِ واحد يد (¬4)، قلنا: لم يعط عطاء فهم هذه المسالة لغةً، مع ¬

_ (¬1) سورة المائدة آية (38). (¬2) تقدم الكلام على هذه المسألة ونقلنا رأي الأحناف فيها. (¬3) وقال ابن رشد في البداية 2/ 452 وقال قوم تقطع الأصابع فقط وأما قطع أصابع الرجل فقد نسب إلى علي ولم يثبت عنه قال الجصاص الحنفي وأما القطع من أصول أصابع الرجل فإنه لم يثبت عن علي من جهة صحيحة وهو قول شاذ خارج عن الاتفاق والنظر جميعاً - أحكام القرآن للجصاص 2/ 422 وكذا نسبه القرطبي إلى علي القرطبي 6/ 171. (¬4) ذكره في الأحكام وعزاه لعطاء وقال ليس على عطاء غطاء فإن الصحابة قبله قالوا خلافه. الأحكام ص 616 وذكره القرطبي وعزاه لابن العربي تفسير القرطبي 6/ 172.

المعقد الحادي عشر

أنه كان في طبقة (¬1) العلياء من الفَصاحةِ وفي زمرة التابعين، ألم تر أنَ ضميرَ المقطوع المطلق جمعٌ وأن التثنيةَ إنما كان في ضمير المقطوع منه، ألم تر إلى الأمة بعده قد أجمعت على التثنيةِ في القطعِ. ألم يكرر أبو بكرِ الصديق القطع على السارق المقطوع اليمين فلم ينكر ذلك عليه أحد (¬2). المعقد الحادي عشر: قال أبو حنيفة: لا تقطع للسارق رِجْلٌ، لأن الله تعالى قال: {فاقطعوا أيديهما} ولم يجر للرجلِ ذكر. عن ذلك جوابان ظاهران أما أحدهما: فإن الله وإن كان لم يذكر قطع الرِجْل في السارقِ، فإنه قد ذكرِه في المحارب فنحمله عليه بأنه أخَذَ المال بالسعي عليه فقطع كما لو أخذه بالسعي محارباً. فإن قيل: لا يجوز اعتبار مسألتنا بالمحاربة، فإن القتل في الحرابةِ وليس في مسألتنا قتل قلنا: وهو المعقد الثاني عشر: قال مالك يقتل إذا سرق الخامسة في رواية المدنيين وفي ذلك حديث ضعيف (¬3) لا تناط بمثلهِ إباحة المحظورات، وإنما عوّل مالك في هذه الروايةِ على ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ ولعلها الطبقة العليا. (¬2) رواه مالك في الموطأ 2/ 835 عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن رجلاً من أهل اليمن أقطع اليد والرجل قدم فنزل على أبي بكر الصديق فشكا إليه أن عامل اليمن ظلمه فكان يصلي من الليل فيقول أبو بكر وأبيك ما ليلك بليل سارق ثم إنهم افتقدوا حلياً لأسماء بنت عميس امرأة أبي بكر فجعل يطوف معهم ويقول اللهم عليك بمن بيَّت أهل هذا البيت الصالح فوجدوا الحلى عند صائغ زعم أن الأقطع جاء به فاعترف الأقطع أو شهد عليه فأمر به أبو بكر فقطعت يده اليسرى .. ورواه البيهقي 8/ 273. قال الحافظ في التلخيص 4/ 70 في سنده انقطاع ورواه الدارقطني في سننه 3/ 183 ورواه عبد الرزاق (18771) عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر وعن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة (18774) قال ابن عبد البر في الاستذكار فيما نقله ابن التركماني في الجوهر النقي 8/ 273 و 274 اختلف في هذا الحديث فروي إنما قطع رجله وكان مقطوع اليد اليمنى فقط ذكره عبد الرزاق (18770) عن معمر عن الزهري عن سالم وغيره إنما قطع رجله وكان مقطوع اليد اليمنى فقط وقال الزهري لم يبلغنا في السنة في القطع إلا اليد والرجل لا يزاد على ذلك. (¬3) رواه أبو داود (4410) من طريق مصعب بن ثابت عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال جيىء بسارق إلى النبي فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق فقال اقطعوه قال فقطع ثم جيئ به في الثانية فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه .. قال فجيىء به الخامسة فقال اقتلوه. ورواه الدارقطني من طريق محمد بن يزيد بن سنان نا أبي عن هشام ابن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر به. سنن الدارقطني 3/ 181 ونقل الحافظ عن النسائي قوله مصعب بن ثابت ليس بالقوي وهذا الحديث منكر ولا أعلم فيه حديثاً صحيحاً .. وقال ابن عبد البر حديث القتل منكر لا أصل له التلخيص 4/ 69 وعزاه المنذري للنسائي ونقل عنه ما نقل الحافظ تهذيب السنن 6/ 238.

المعقد الثالث عشر

المصلحة وهي أحد أركان أصول الفقهِ على ما بيناه (¬1)، وذلك أنّا نقول وهو يجمع المسألتين في دليلٍ واحدٍ أن المصلحة تقتضي إذا سرق أن تقطع يمينه التي بها تناول ما لا يحل له تنقيصاً لبطشه، الذي جعله الله له قوةً، على الطاعة، فصرفه في المعصية، فإذا عاد إلى السرقةِ ثانيةً، اقتضت المصلحة أن ينقّص سعيه الذي به توصل إلى البطش ليستوفي منه حق العقوبة، ويبقى له في البطش جارحة فإذا عاد الثالثة إلى السرقة تبينا أن بطشه فسد بتعديه، فإذا سرق الرابعة تبينا أن سعيه فسدَ بتعديه، فإذا سرَقَ الخامسة تبينا أنها نفسٌ خبيثة لا تتعظ بنفسها ولا ترتدع بآفات جوارحها فلم يبق إلَّا إتلافها. المعقد الثالث عشر: لم يخف على ذي لبٍ أن الله إنما وضع هذه العقوبات في الأبدان روادع وزواجرَ، فهِمَ ذلك الخلق من تنبيه الله لهم عليهِ، وتعريفهم به ولذلك قلنا إن الجماعة إذا قتلوا الواحد قتلوا به حفظاً لقاعدة الدماء لئلا يستعين الأعداء بالجماعة على الأعداء، فيبلغوا فيهم (¬2) غرضهم في التشفي وتسقط عنهم عقوبة القصاص وهذا المعنى يقتضي أن الجماعة إذا سرقوا حرزًا يقطعوا جميعهم حفظاً لقاعدة الأموال لئلا يستعين الفسقةُ على أخذ الأموال بالاشتراك رجاء سقوط القطع. ¬

_ (¬1) قدم الكلام على المصلحة المرسلة. (¬2) زيادة من ج.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض اعلموا وفقكم الله أن الفرائض، أصل من أصولِ الدين ومن أهم علومهِ حضَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عليها فقال: (تعلموا القرآن والفرائضَ وعلموها، الناس، فإني مقبوض) (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (العلم ثلاث: آية محكمة، وسنة قائمة، وفريضة عادلة) (¬2). تولى الله تعالى تقديرها، وبين أحكامها. والأصل فيها آية المواريث. قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬3) إلى آخر الآيات والأصل فيها من السُنة حديث ابن عباس قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ألحقوا الفرائض بأهلِها فما أبقت الفرائض فلأوليِ رجُلٍ ذكرٍ (¬4) ... كمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالحديث الصحيح حين قال لا نورث ما تركنا صدقةً (¬5)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: لا ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في المستدرك 4/ 333 من طريق النضر بن شميل عن عوف ابن أبي جميلة عن سليمان بن جابر عن عبد الله بن مسعود وقال صحيح الإسناد ولا له علة ورواه الدراقطني في سننه 4/ 81 من طريق عمرو بن حمران عن عوف وساق له الحاكم طريقاً أخرى عن هوذة بن خليفة عن رجل عن سليمان بن جابر به ثم قال وإن اختلف النضر بن شميل وهوذة فالحكم للنضر. قلت لكن هوذة تابعه أبو أسامة عن رجل به أخرجه الترمذي في سننه 4/ 414 وكذلك البيهقي في سننه 6/ 208 قال الترمذي هذا حديث فيه اضطراب. ورواه الترمذي في سننه 4/ 414 من طريق عوف عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة به قال الحافظ وهما مما يعلل به طريق ابن مسعود يعني بعوف وشهر. التلخيص 4/ 79. (¬2) رواه أبو داود (2885) من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي عن عبد الرحمن ابن رافع التنوخي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (العلم ثلاثة) ورواه ابن ماجه رقم (54) عن جعفر بن عون عن ابن أنعم عن عبد الرحمن به قلت عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي قاضيها ضعيف كما قال الحافظ في التقريب ص 340 وكذلك عبد الرحمن بن رافع التنوخي المصري قاضي أفريقية قال عنه أيضاً في التقريب ص 340 إنه ضعيف وعليه فالحديث ضعيف. (¬3) سورة النساء آية (11). (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في الفرائض باب ميراث الولد من أمه وأبيه 8/ 187 ومسلم (1615) في الفرائض كلاهما من حديث ابن عباس. (¬5) متفق عليه أخرجه البخاري في الفرائض باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا نورث ما تركنا صدقة) 8/ 185 ومسلم =

المسألة الأولى

يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر (¬1)، وقد قرأناها على ستةِ أنواعٍ: قرأناها على القرآنِ، وعلى السنةِ، وعلى الاختلافِ وعلىِ الاتفاقِ، وعلى القربى (¬2)، وعلى الإلغاء وبهذه (¬3) الأصول الستةِ تنضبط، وبقلبها ظهراً لبطن (¬4) يتحصَّل، ولكنَّ مالكاً في الموطأ تولى تبيانها على القربى، فنحن على منوالهِ ننسج، وفي سبيله نستنهج، قال: ميراث الصلب (¬5). وهي كلمة بديعة هو أول من تلقَّفها من القرآن في قوله {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (¬6) فذكرَ قرابة الأب التي هي الأصل، وبدأ بها لأنها هي أصل الولادةِ فيها تجمعُ وعنها تتفرع، فإذا خَرجت عنها وانفصلت منها تنزلتَ في منازلِ التطوير، وتغيرت بأحكام التقدير، وتفصلت بأحكام التدبير، حتى تعودَ خلقاً سوياً من السلالةِ إلى استواءِ الخلقة، فهاتان الحالتان هما أخصِ الأحوالِ بالإنسانِ فوجب أن تقع البداية بهما ولذلك لم يؤثر الله تعالى شيئاً عليهما، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الآية. اتفقت الأمة على أنها عامة جَارية على شمولها منتظمة على جملتها وتفصيلها إلَّا في ثلاثِ مسائل. المسألة الأولى: تخصيصها بجانب النبي - صلى الله عليه وسلم - لقولهِ لا نورث ما تركنا صدقة. قالت فاطمة لأبي بكرِ أرأيتَ لو متَ (أنتَ) (¬7) لكانت ترثك ابنتك؟ قال لها نعم. قالتْ فاعطني سَهمي. قال: (سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا نورث ما تركنا (¬8) صدقة) فكانت إحدى خصَاله الكريمة يذكرها من سمعَها وأصغى إليها من غابَ عنها وإئتلفت الخليقةُ عليهِ. المسألة الثانية: هي مخصوصة في الكافرِ بحديثِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - الصحيح (لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم) وقيل له - صلى الله عليه وسلم -. أين تنزل؟! حين جاء مكة. فقال: ¬

_ = (1759) كلاهما عن عائشة أن فاطمة والعباس عليهما السلام أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهما أبو بكر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (لا نورث ما تركنا صدقة). (¬1) متفق عليه البخاري في الفرائض باب لا يرث المسلم الكافر 8/ 194 ومسلم في الفرائض (1614) والموطأ 2/ 519 وأبو داود (2909) من حديث أسامة بن زيد. (¬2) في ج بعد القربى وعلى الأحياء. (¬3) في ك وعلى هذه. (¬4) يقال قلب الأمر ظهراً لبطن يضرب في الأمر بحسن التدبير المستقصى في الأمثال للزمخشري 2/ 199. (¬5) الموطأ 2/ 503. (¬6) سورة الطارق آية (7). (¬7) ليست في بقية النسخ. (¬8) رواه الترمذي من طريق محمَّد بن عمرو عن أبي هريرة وقال وفي الباب عن عمر وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وعائشة وحديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه الترمذي رقم (1608).

المسألة الثالثة

وهل ترك لنا عقيل من منزلٍ (¬1) وذلك إجماع أيضاً. المسألة الثالثة: اتفق العلماء من الصحابَةِ والتابعين رضي الله عنهم على أن من لا يرث لأجل الكفر لا يحجب، إلَّا عبد الله بن مسعودٍ، فإنه حجبَ بالابن الكافر من يحجب بالابن المسلم (¬2)، وهذا ضعيف, لأن الله تعالى أنزله في الميراثِ معدوماً، فكذلك في الحجب وتحريره أحد فائدتي (¬3) القرابة في الميراث، فأسقط حكمها الكفر أصله السهم، يزيده ايضاحاً أن المذكور في قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} سهمًا والمذكور في قوله: {إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} حجباً. مسألة أصولية: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} اتفق المفسرون على أن هذه الآية نسخت آية الوصية للأقربين (¬4) وهذا لا يصح، لأن من شروط النسخِ الأربعة وهو أصلها المعارضة حتى يمكن الجمع. والجمع بين الآيتين ممكن فاستحالَ أن يقال إن إحداهما نسخت الأخرى. وقالت طائفة نسخها قول النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله أعطى كل ذي حقٍ حقه، فلا وصية لوارث) (¬5) وهذا الحديث اتفقت عليه الأمة. قلنا: هذا باطل. لأن الأمة لم تتفق على نقلهِ لفظاً، والحديث ضعيف، ولو ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في الحج باب توريث دور أهل مكة 2/ 181 ومسلم في الحج (1351) وأبو داود (2910) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال يا رسول الله أين تنزل في دارك بمكة فقال وهل ترك عقيل من رباع أو دور وكان عقيل قد ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرثه جعفر ولا علي رضي الله عنهما شيئاً لأنهما كانا مسلمين وكانا عقيل وطالب كافرين .. (¬2) قال البغوي تفرد ابن مسعود بخمس مسائل في الفرائض فذكر أربعة وقال والخامسة من لا يرث كالابن الكافر والرقيق والقاتل يحجب أصحاب الفرائض حجب النقصان فيرد الزوج إلى الربع والزوجة إلى الثمن والأم إلى السدس وعامة الصحابة على أنه لا يحجب كما لا يحجب حجب الحرمان شرح السنة 8/ 335 وانظر المسائل الخمس في المغني 6/ 226 - 242. (¬3) في ج وك: أخذ ما يؤتى القرابة في الميراث والعبارة غير واضحة. (¬4) روى البخاري بسنده إلى ابن عباس قال كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع. البخاري في كتاب الفرائض باب ميراث الزوج 8/ 189. ونقل الحافظ عن السهيلى قوله إن الآية التي نسختها هي {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى استمرارها فلذلك عبر بالفعل الدال على الدوام بخلاف غيرها من الآيات حيث قال في الآية المنسوخة الحكم {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} فتح الباري 12/ 23 وانظر القرطبي 5/ 49. (¬5) وراه أبو داود في سننه (2870) والترمذي (2121) وقال حسن صحيح وابن ماجه (2713) النسائي (3673) وقال فيه الحافظ حسن الإسناد. التلخيص 3/ 92.

كانَ قويًا وارداً عن العدل بالعدلِ ما جازَ نسخ القرآن به لأنه خبر واحدٍ ونسخ القرآن لا يجوز بخبر الواحد بإجماع من الأمة وأما إن كانت الأمة أجمعت على معناه فالنسخ بالإجماع محال, لأنه لا يصح تصوره إلا بعد عدم الشريعةِ الواردةِ ببيَان الأحكام على التنصيص في المقالِ خاصة. فإن قيل إجماع الأمة لا يكون إلَّا عن حَديثٍ يسمعونَه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أجمعوا علمنا ضرورةَ وجُودِ الأثر. قلنا: هذا مذهب محمَّد ابن جرير الطبري وهو ساقط قطعاً (¬1) فإن الأمة قد تجتمع على النظرِ كما تجتمع على الأثر، وقد بينا ذلك في أصول الفقهِ، ومنهم من قال إنما سقطت الوصية للوالدين والأقربين لقولهِ في الحديث الصحيح (ألحقوا الفرائض بأهلِها، فما أبقت الفرائِض فهو لأولي عصبةٍ ذكرٍ) (¬2) قلنا كما لم يسقط هذا الحديث أصل الوصية في آية المواريث، لا يسقط وصف الوصية للأقربين وإنما معنى هذا الحديث الخصوص، فما بقي بعد الوصية والدين كيفما تصرفت وجوه الوصيةِ، وكيفما تصرفت وجوه الدين، وقد روى جابر بن عبد الله أنه قال جاءني رسِولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني، فقلت: يا رسول الله كيف أصنعُ في مالي؟ فأنزل الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ}. رواه البخاري (¬3)، وثبت في الصحيح أيضاً من طريقٍ أخرى وأنها نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} (¬4)، وروى المصنفون والمسندون عن جابرٍ بن عبد الله أنه خرجَ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الأسواق (¬5) وذكرَ حديثاً طويلًا منه أن امرأة سعد بن الربيع جاءته بابنتين لها فقالت: يا رسول الله، إن سعداً هلك وتركَ هاتين وان عمهُما ¬

_ (¬1) ذكر الشوكاني خلاف محمَّد بن جرير في المسألة في إرشاد الفحول ص 79 ط مصطفى البابي الحلبي وانظر الأحكام في أصول الأحكام للآمدي 1/ 239. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في الفرائض باب ميراث الولد من أبيه وأمه 8/ 187 ومسلم في كتاب الفرائض باب ألحقوا الفرائض بأهلها من حديث ابن عباس. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب التفسير في سورة النساء باب {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} 6/ 54 ومسلم في الفرائض باب ميراث الكلالة (1616/ 6) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال عادني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أعقل فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش علي فأفقت فقلت ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} لفظ البخاري. (¬4) مسلم في كتاب الفرائض باب ميراث الكلالة (1616/ 6) من حديث جابر بن عبد الله وفيه فقلت يا رسول الله كيف أقضي في مالي فلم يرد علي شيئًا حتى نزلت آية الميراث {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} النساء آية (176). (¬5) الأسواق موضع بالمدينة كان يومئذ معروفاً. جامع الأصول 9/ 84.

تنبيه على وهم

استفاء (¬1) ميراثهما، ومالهما، وأنهما لا ينكحان إلا على مالٍ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يقضي الله في ذلك) ثم نزلت {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلَادِكُمْ} فدعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمهما وقال له (ادفع الثُمنَ للمرأةِ والثلثين للبنتينِ، وخذ ما بقي) (¬2). تنبيه على وهم: قال بعض علمائنا هذه الآية نزلت في شأن سعدٍ نسخت ما كان في الجاهلية، وهذا باطل فإن الجاهلية ليس لها حكم يثبت حتى يتطرق إليه رفع، ولا يثبت له قدم في الإِسلامَ ببيانٍ ولا تقرير، فإنه لو كان مسكوتاً عنه، لكان شرعاً، ولو كان شرعاً لما انتزع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: من أخي سعد بن الربيع ما كان أخذه، فإن الناسخ إنما يثبت ساعةِ نزولهِ ولا يعترض على ما سبقه فلما أمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أخا سعد بأن يردّ ما أخذَ تبينَ أنها كانت ظلامة. تفسير: قوله تعالى: {في أولادكم}. ولد الرجل: كل موجود كان من صلبه دنا أو بعد. قال الله تعالى: {يا بني آدم} (¬3) وقال {ملة أبيكمِ إبراهيم} (¬4). فمن علمائنا من قال إنه حقيقة في الأدنين مجاز في الأبعدين ومنهم من قال إنه حقيقة في الكلِ لأجلِ عموم الاشتقاق الذي هو التولد فيه، والصحيح عندي أنه مجاز لأنه يجوز نفيه عنه والحقاَئِق لا يجوز نفيها عن مسمياتها وعلى كل حالٍ فإن الأمة أجمعت على العموم في قولهِ {في أولادكم}، وإن سفلوا كما دخل في قوله ولأبويه آباء الآباء وإن علوا فإذا ثبتَ أنه على العموم في الأولاد فليس يقتضي ذلك اشتراك الأدنى والأبعد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (فما أبقت الفرائِض فلأولي رجُلٍ ذكرٍ) فلأجل ذلك يقدّم الابن علي أبيه ولولا ذلك لاشترك الأب وابنه في الميراث لحكم الاشتراك في العموم وعلى هذا ينبني اختلاف العلماء في قولهِ (هذا حبس على وَلدي) هل تلحقُ الدرجة السفلى بالعليا عَلى ثلائةِ أقوالٍ فقالت طائِفة لا تلحق وهذا ضعيف، وقالت طائِفة تلحق بهم وهو الصحيح، وقالت طائِفة يشتركون فيه، ويؤثر الأعلى وهذا إنما هو استحسان لا يعضده الدليل المستمر في أصلٍ المسألة، وكذلك يكون ¬

_ (¬1) استفاء مالهما معناه استرد واسترجع حقهما من الميراث كذا قال الخطابي. (¬2) رواه أبو داود في سننه (2891) والترمذي (2092) وقال حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن محمَّد بن عقيل وقد رواه شريك أيضاً عن عبد الله بن محمَّد بن عقيل وابن ماجه (2720) والحكم في المستدرك 4/ 333 - 334 والبيهقي في السنن 6/ 229 وخالف بشر بن المفضل عبد الله بن محمَّد بن عقيل فقال هاتان بنتا ثابت بن قيس قال أبو داود والبيهقي هذا خطأ إنما هو سعد بن الربيع. والحديث حسن لأن عبد الله بن محمَّد بن عقيل تقدمت ترجمته وقدمنا أنه حسن الحديث. (¬3) سورة الأعراف آية (31). (¬4) سورة الحج آية (78).

الحكم في البناتِ وبناتِ الابن لولا حديث ابن مسعودٍ أفتى أبو موسى الأشعري وسلمان في بنتٍ وأختٍ وبنت ابن بأن تأخذ البنت النصف والأخت النصف. قالا للسائل اذهب إلى ابن مسعودٍ فإنه سيتابعنا، فجاءه فأخبره فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين. للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي للأخت (¬1)، هذا قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك قوله ولأبويه لكلِ واحدٍ منهما السدس فأنزل أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه وابن عباسٍ الأب (¬2) جداً (¬3) وجعلا له مرتبته سهماً وحجباً وهىِ مسألة عظيمة من مسائلِ الخلافِ قد قررناها في موضعها قال علماؤنا: قوله {يا بني آدم}، وقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}، لم يرد ¬

_ (¬1) رواه البخاري في الفرائض باب ميراث ابنة ابن مع ابنة من طريق هزيل بن شرحبيل قال سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال للأبنة النصف وللأخت النصف وأتِ ابن مسعود فسيتابعنى. 8/ 188 وأبو داود (2890) والترمذي (3094) وابن ماجه (2721) وشرح السنة 8/ 333. (¬2) في ج وك وم الجد أباً وهي رواية البخاري 8/ 188. (¬3) رواه البخاري في كتاب الفرائض باب ميراث الجد مع الأب والأخوة معلقاً 8/ 188 قال وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير الجد أب وقرأ ابن عباس {يا بني آدم} {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ولم يذكر أن أحداً خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - متوافرون وقال ابن عباس يرثنى ابن ابني دون أخوتي ولا أرث أنا ابن ابني ويذكر عن عمر وعلى وابن مسعود وزيد أقاويل مختلفة. أما قول أبي بكر الصديق فقد ذكر الحافظ أنه وصله الدارمي بسند على شرط مسلم عن أبي سعيد الخدري أن أبا بكر كان يجعل الجد أباً ثم قال ويسند صحيح إلى أبي موسى مثله وبسند صحيح أيضًا إلى عثمان بن عفان .. وبسند صحيح إلى ابن عباس أن أبا بكر كان يجعل الجد أبًا أخرجه محمَّد بن نصر في كتاب الفرائض وأخرجه الدارمي بسند صحيح عن طاوس عنه فتح الباري 12/ 19. وأما قول ابن الزبير فقد ساقه البخاري موصولاً من طريق ابن أبي مليكة قال كتب أهل الكوفة إلى ابن الزبير في الجد فقال إن أبا بكر أنزله أبا البخاري في الفضائل باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كنت متخذاً خليلاً 5/ 5. كما ساق البخاري بسنده المتصل إلى ابن عباس قوله أما الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لوكنت متخذاً من هذه الأمة خليلاً لاتخذته ولكن خلة الإِسلام لفضل أو قال خيرة فإنه أنزله أباً" البخاري في الفرائض باب ميراث الجد مع الأب 8/ 189. ونقل الحافظ عن السهلي قوله لم ير زيد بن ثابت لاحتجاج ابن عباس بقوله تعالى: {يا بني آدم} ونحوها مما ذكر عنه حجة لأن ذلك ذكر في مقام النسبة والتعريف فعبر بالبنوة ولو عبر بالولادة لكان فيه متعلق ولكل بين التعبير بالولد والابن فرق ولذلك قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} ولم يقل في أبنائكم ولفظ الولد يقع على الذكر والأنثى والواحد والجمع بخلاف الابن وأيضاً فلفظ الولد يليق بالميراث بخلاف الابن تقول ابن فلان من الرضاعة ولا تقول ولده وكذا كان من يتبنّى ولد غيره قال ابني وتبناه ولا يقول ولدي ولا ولده ومن ثم قال في آية التحريم {وحلائل أبنائكم} إذ لو قال وحلائل أولادكم لم يحتج إلى أن يقول من أصلابكم لأن الولد لا يكون إلّا من صلب أو بطن. فتح الباري 12/ 20.

مورد بيان الأحكام، وإنما ورد في مَعرض الامتنانِ تارة وفي مَوضع الأخبار عن أصِلِ الخلقة أخرى. فأما دخوله في العموم من قوله ولأبويه، كدخولِ الولد وإن سفل في قوله أولادكم فليست المنزلة واحدة لاختلاف الأسباب واختلاف الخلق، وتفاضل الحنان وقد قالوا إن الحكمة في ذلك أن الجد في حَيز كان وَأن الابن وإن سفل في استقبال الزمان فالنفوس إليه أقرب والمصلحة به أقعد وعلي المقاصد انبنت أحكام الشريعة وبالمصالح ارتبطت، وقد تعلق فيها العلماء بنكتةٍ وذلك أنهم قالوا إن الفرائِضَ انبنت على تقديم من كان سببه أقوى وعلى ذلك نبه - صلى الله عليه وسلم - بقَوله: (فما أبقت الفرائِض فهو لأولي رجلٍ ذكرٍ) فقوله أولي يدل على مراعاة الأقوى، فإذا اجتمع جَدّ وأخ فالأخ أقوى من الجَدّ في الادلاء، لأن الأخ يقول أنا ابن أبي الميت فيدلي بالبنوة، والجَد يقول أنا أبو ابني الميت فيدلي بالأبوة والبنوة أقوى من الأبوة. فإن قيل: فينبغي أن يسقط الأخ الجد. قلنا: كذلك كنا نقول لولا أن الأخَ إن قوي عليهِ بالأدلاءِ قوي عليهِ الجَد بالسهمية، فوجَبَ الاشتراك وهذا لحظه الصحابة فقالت به ثم وقعَ بعد ذلك تفصيل في عوارضِ من المسائل اقتضاها تعارص الأدلة فوجَبَ الترِجيح؛ منها ما روى عمران بن حصين قال جاء رجل إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له إن ابني مات فما لي من ميرَاثِه؟ قال لك السدس. فلما ولى دعاه فقال لك سدس آخر فلما ولّى دعاه وقال له السدس الآخر طعمة. صححه الترمذي (¬1) وقد بينا ذلك على تفصيلٍ في شرحِ الحديثِ. فأقل فريضةٍ الجد السدس كالأب وأعلى درجاته التعصيب كالأب وأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - له الثلث لا يجوز أن يكون برأس (¬2) التعصيب، ولا يجوز أن يكونَ مع الولدِ فلم يبق إلَّا أن يكونَ مع الاشتراك الذي قضَى به زَيد عند الاجتماع مَع الأخوة ثم لما ثبتَ الاشتراك بني ترجيح على ترجيحٍ وهو إعطاء الأحظ للجد، لأنه يقول أنا وإن كنت شريكاً بينهم على حالةٍ لا ينقضي أحد من السدسِ فيها شيئاً، والترجيح في الترجيح من معضلاتِ الأُصولِ، ووردَت على هذا المقام عارضة، وهي أن امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأختها لأمها وأبيها وجَدها. فللزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس وللأخت للأبِ والأم النصف ثم يجمعُ سدس الجد ونصف الأخت فيقسم للذكر مثل حظ الأنثين (¬3)، لأن ¬

_ (¬1) سنن الترمذي (2099) وقال حسن صحيح وأبو داود (2896) والحديث ضعيف لأنه من رواية الحسن بن أبي الحسن عن عمران بن حصين ولم يسمع منه كما قال ابن معين وقد عنعنه وهو مدلس انظر تهذيب السنن 2/ 268. (¬2) في جـ برسم التعصيب. (¬3) هكذا ذكر مالك هذه المسألة في الموطأ 2/ 511 فقال والجد والأخوة للأب والأم إذا شركهم أحد في فريضة

الجدَ يقول أنا أشارك أخاك وأفضله فكيف تفضلني وهو أفضل منك وهو ترجيح في ترجيحِ في ترجيحٍ ولا جواب عنه، وقد بيّنا ذلك كله في مسائل الخلاف، وكذلك نشأت عارضة أخرى وهي مسألة المُعادة (¬1) قال بها مالك في الميراث والوصية، وأنكرها الشافعي وكثيرٌ من الفقهاء، فقال مالك إنّ الورثةِ يعادون أهل الوصَايا بوصية الوارث ثم يردونها ميراثًا وكذلك يعادون الأخوة للأب والأم الجد بالأخوة للأب، فإذا أخذوا نصيبهم معهم أخذوه من أيديهم. فإن قيل وكيف يحجب الجَد من لا يرثَ؟ أوكيف يحطه من لا يقسم له؟ قلنا: ليس ذلك بنكير في الفرائِض، فإن الأخوة للأم يحجُبون الأم عن فرضِها أو يحطونها عن سهمها وهم محجُوبون عن سهمهم، وقد روي في زوجٍ وأمٍ وأختٍ لأبٍ وأمٍ لأبٍ وجَدٍ أنها كدرت على زيد ابن ثابتٍ مذهبه ويقال أنه أفتى فيها رجل يقال له أكدر فسميت الأكدرية (¬2)، وسميت أيضاً الغراء (¬3) وهي إحدى الغَراوات فإنه يفرضُ فيها للجَدِ السدس ¬

_ مسماة يُبدأ بمن شركهم من أهل الفرائض فيعطون فرائضهم فما بقي بعد ذلك للجد والأخوة من شيء فإنه ينظر أي ذلك أفضل لحظ الجد أعطيه الثلث مما بقي له وللأخوة أو يكون بمنزلة رجل من الأخوة فيما يحصل له ولهم يقاسمهم بمثل حصة أحدهم أو السدس من رأس المال كله أي ذلك كان أفضل لحظ الجد أعطيه الجد وكان ما بقي بعد ذلك للأخوة للأب والأم للذكر مثل حظ الأنثيين إلَّا في فريضة واحدة تكون قسمتهم فيها على غير ذلك وتلك الفريضة امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأختها لأمها وأبيها وجدها فللزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس وللأخت للأم والأب النصف ثم يجمع سدس الجد ونصف الأخت فيقسم اثلاثاً للذكر مثل حظ الانثيين فيكون للجد ثلثاه وللأخت ثلثه. (¬1) "المعادة هي أن ولد الأبوين يعادون الجد بولد الأب ويحتسبون بهم عليه ثم ما حصل لهم أخذه منهم ولد الأبوين إلَّا أن يكون ولد الأبوين أختًا واحدة فتأخذ منهم تمام نصف المال ثم ما فضل فهو لهم ولا يمكن أن يفضل عنهم أكثر من السدس لأن أدنى ما للجد الثلث وللأخت النصف والباقي بعدهما هو السدس المغني 6/ 309. (¬2) لقبت هذه المسألة بالأكدرية لأوجه كثيرة منها تكديرها لأصول مذهب زيد رضي الله عنه في الجد لأنه لا يفرض للأخت معه ابتداء في غيرها ولا يعيل بل تسقط الأخوة معه إذا لم يبق شيء ثم جمع الفرضين فقسمها على جهة التعصيب فخالفت هذه القواعد فهذا معنى تكديرها لأصول مذهب زيد أو لأنه رضي الله عنه كدر على الأخت بإعطائها النصف ثم استرجاع بعضه منها وقيل لأن عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلاً اسمه أكدر فأفتى فيها على مذهب زيد وأخطأ فنسبت إليه وقيل إن الحجاج ألقاها على ذلك الرجل وقيل لأن امرأة من أكدر ماتت وخلفتهم وقيل إن الزوج كان اسمه أكدر وقيل بل كان السائل. العذب الفائض 1/ 120 وانظر المغني 6/ 313. (¬3) سميت بالغراء لأنه ليس في مسائل الجد مع الأخوة مسألة يعال فيها للأخت مع الجد سواها فسميت بذلك لظهورها. العذب الفائض 1/ 120.

ميراث الجدة

وللأختِ النصف وتعال المسألة إلى تسعةٍ وقال عليّ (¬1) وابن مسعودٍ (¬2) يعطى للأمِ ثلث ما يبقى بعد فرضِ الزوج كما جاء في زوجٍ وأبوين، أو زوجةٍ وأبوين وهي التي تسمّى الغراوين، وهذا الذي قاله زَيد أجري على الأصل لأن عوَل الفريضة يحط الكل وهو أولى من حَطِ الأم، لأن الأم لا يحطها إلَّا الأب وليس الجَد في منزلته، أولا ترى أن الأخ يسقط مع الجد في مسألةٍ واحدةٍ وهي زوج وأم وجدة، وكذلك الجَد لا ينقص عن السدس بحالٍ والأخت لا تسقط بحالٍ فوجبَ الانتهاء إلى هذا المقام. ميراث الجَدة: إعلموا وفقكم الله أنَّ الجَدة دخلت في قولهِ ولأبويه، كما دخل الجَد باقتضاء التثنية والتشريك، وإن خالفَ اللفظ، كما دخلتْ الأم وإن اختلف اللفظ إلَّا أن مالكًا وغيره روى عن قبيصة بن أبي ذؤيب أنه قال جاءت الجَدة إلى أبي بكرٍ الصديق إلى قوله فهو بها. فقول أبي بكرٍ ما لكِ في كتاب اللهِ شي (¬3) غريب في الفقهِ لأنه جعل الجد أبا ولم يجعل الجَدة أما، والمعنَى في ذلكَ نقصان درجَات النساء لأنه لا ينكر في الأولاد فلم ينكر في الآباء فبنت البنتِ ليس لها شيء، فكذلك أم الأم. ثم جاءت الأخرى إلى عمر وقيل إلى أبي بكرِ وقد ذكر الروايتين مالك وقال علماؤنا: إن التي جات أولاً إلى أبي بكرٍ كانت أم الأم وروى ¬

_ (¬1) الذي نقل صاحب العذب الفائض عن علي - رضي الله عنه - أنه قال للأم الثلث وللأخت النصف والباقي للجد فجعل رضي الله عنه للأخت مع الجد فرضًا والباقي له العذب الفائض 1/ 118. (¬2) رواه الدارمي بسند صحيح إلى ابن مسعود كما قال الحافظ في الفتح 12/ 21 وانظر العذب الفائض 1/ 118. (¬3) مالك عن ابن شهاب عن عثمان ابن إسحاق بن خرشة عن قبيصة بن أبي ذؤيب أنه قال جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله عن ميراثها فقال لها أبو بكر مالك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فارجعي حتى اسأل الناس فسأل الناس فقال المغيرة ابن شعبة حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس فقال أبو بكر هل معك غيرك فقام محمَّد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة فأنفذه أبو بكر الصديق ثم جاءت الجدة الأخرى إلي عمر بن الخطاب تسأله ميراثها فقال لها مالك في كتاب الله شيء وما كان القضاء الذي قضى به المغيرة إلَّا لغيرك وما أنا بزائد في الفرائض شيئًا ولكن ذلك السدس فإن اجتمعتما فهو بينكما وأيتكما خلت به فهو لها الموطأ 2/ 513 وأبو داود (2894) والترمذي (2102) وقال حسن صحيح وابن حبان (1224) وشرح السنة 8/ 346. وقال الحافظ في التلخيص 3/ 82 إسناده صحيح لثقة رجاله إلّا أن صورته مرسل فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق ولا يمكن شهوده للقصة قاله ابن عبد البر .. وقد أعله عبد الحق تبعاً لابن حزم بالانقطاع.

ميراث الأب والأم من ولدهما

ذلك ابن وهبٍ وغيره مفسراً (¬1) وعليه يدل تعليل الأنصاري إِذ قال لأبي بكرٍ أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها يرث فجعل أبو بكرٍ السدس بينهما (¬2). وقيل عُمر. والمعنى في ذلك أن الشهادة وقعت مطلقة بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسدس للجدة ولم يعلم أي جدة هي، فقضى فيه بالاشتراك عند التنازع. فإن قيل فلم لم ترجع إحدى الجهتين بالمعنَى؟ قيل عدم ذلك الصحابة فكيف نطلبه نحن وفي ذلك كلام كثير هذا أشبهُه في هذا المقام، ولذلك قال علماء المدينةِ إِنه لم (¬3) يفرض إلَّا لجدتَين (¬4)، وقال الشافعي وأبو حنيفة وكثير من الصحابة يفرض لأكثر من الجدتين (¬5) في تفصيلٍ طويل تبيانه في الفرائض والعمدة في ذلك لنا أنَ كل ما عدا الجدتين لا يلحق بهما لأنه ليس في معناهما وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف. ميراث الأب والأم من وَلدهما: ذكر مالك رضي الله عنه فريضة القرآن لهما وهوَ السدسِ مع الولدِ، وذكرَ فريضة القرآن للأم وهي الثلث مع عدم الولد والأخوة إِلا في فريضتين، زوج وأبَوانِ وامرأة وأبوانِ، فإنه تأخذ الأم فيهما الثلثَ مما بقي بعد فرض الزوج والزوجة وذلك أقل من الثلث المسمى في الكتاب، خصَّت فيها الصَحابة عمومَ القرآن بالقياس وهو أن الأم لو أخذت الثلث في المسألتين جميعاً لكان في ذلك تقديمها على الأبِ وذلك لا يجوز لوجهين أحدهما أن فيه تقديم الأنثى على الذكر وذلك مناقضة لأصول الفرائض التي رتبَ الله سبحانه والثاني أنه يكون ذو الفرض أقوى من ذي الفرضِ والتعصيب معًا وذلك مناقض لأصولِ الفرائِض أيضاً. ¬

_ (¬1) انظر شرح الزرقاني 3/ 111. (¬2) مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمَّد "أنه أتت الجدتان إلى أبي بكر الصديق فأراد أن يجعل السدس للتي من قبل الأم فقال رجل من الأنصار إنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها. يرث فجعل أبو بكر السدس بينهما" الموطأ 2/ 513 ورواه البيهقي في السنن 6/ 235 وقال وقد روي هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إسناد مرسل ورواية الموطأ منقطعة كما قال الحافظ في التلخيص 3/ 85 قلت ووجه الانقطاع أن القاسم بن محمَّد لم يسمع من أبي بكر. (¬3) في بقية النسخ لا يدل. (¬4) انظر المنتقى 6/ 238 شرح الزرقاني 3/ 112 المغني 6/ 300. (¬5) انظر المغني 6/ 301 المنتقي 6/ 238.

توفية

توفية: حجبَ الله تعالى الأم من الثلث إلى السدس بالولد الواحد وبالأخوة الجميع واختلف الصَحابة في تقديرهم فصَارت جملتهِم إلى أنه يحجبها الإثنان فصاعدًا وأبى ذلك ابن عباسٍ ووقعت بينَه وبين عثمان مفاوضة، فقال له في ذلك عثمان: إن قومك حجبوها. وقد بيّناها في كتاب الأحكام (¬1) ومسائل الخلافِ، ويكفي الآن في هذه العجالة ما راجع به عثمان لابن عباس من فهمِ قريش الذي نزلَ القرآن (¬2) بلغتهم أما إن في ذلك مسألة بديعة من أصول الفقه، وهي تخصيص العموم بالعمومِ، فإن قوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} يقتضي بإطلاقه ثلاثاً إذ هو اليقين في الجمع وكون ضم الواحد إلى الآخر جمع بعمومه أيضاً معَارض له فتركوا أحد الجمعين بالآخرِ وقطعوا حظ الأم من تكملة فرضها لأنه ينقطع بالواحد في طريقِ البنوة فكيف لا ينقطع بالاثنين في طريقِ الأخوة إذ كان الواحد في البنوة يقيناً، وكان (¬3) الثلاثة في الأخوةِ يقينًا آخر، وكان الاثنان في موضع الاحتمالِ، فرجح اعتبارهما بالنظرِ الذي سبَقَ. تتميم: قال الله تعالى في ذكرِ البنات، {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} فذهب ابن عباسٍ إلى مخالفة الناس، فقال إن البنتين يأخذان النصف بينهما فرضاً لأن الله تعالى جعلَ الثلثين لما (¬4) كان فوقَ اثنتين جرياً على طريقهِ في الأخوةِ للأم في إلحاق الاثنين بالواحد، لأن الأصل عدم الزيادة على النصف فيجري على الأصل حتى تثبت (زيادة) (¬5) ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن (341). (¬2) رواه الحاكم في طريق شعبة مولى ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال إن الأخوين لا يردان الأم عن الثلث قال الله عز وجل: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} فالأخوان بلسان قومك ليسا بإخوة فقال عثمان بن عفان لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس المستدرك 4/ 335 وصححه وكذلك الذهبي. وشعبة هذا هو ابن دينار الهاشمي مولي ابن عباس المدني صدوق سيء الحفظ من الرابعة مات في وسط خلافة هشام بن عبد الملك. التقريب ص 266 ت ت 4/ 346 درجة الأثر ضعيف. (¬3) في ج كانت. (¬4) في م لمن وهي الأولى. (¬5) الزيادة من ج.

تكملة

وقد رجحنا في مسائل الخلاف وكتاب الأحكام (¬1) مذهبنا على مذهب ابن عباس من خمسةِ أوجهٍ عمدتها أن الله تعالى لما ذكرَ الواحدة من البناتِ والواحدة من الأخوات أعطى لكل واحدة منهما النصفَ ولما ذكر البنات الجماعة أعطاهنَّ الثلثين ولم يذكر البنتين، ولما ذكر الأخوات بين حكم الثلثين في الاثنتين منهما فما زاد فوجبَ أن يكونَ ذلك تنبيهاً على أن البنات بهذه المرتبة أولى لأنهن عصبة معهن، وزاد الله حكمة أخرى وهي أن تلحق البنتان بالأختين في الثلثين، وأن الأخوات تُلحقُ بالبناتِ في الثلثين حتى يكون من الفرائِض ما يقعُ التعبُد فيه بالخبر وما يقع التعبُد فيهِ بالقياس. تكملة: اقتضى قوله تعالى {فِي أَوْلَادِكُمْ} العموم بالطبقاتِ منهم كما قدمنا واتفقت الأمة على أنه لا يلحقُ ولد الولد بالولد لتقدم السبب الأول وعدم المحل الذي يثبت فيهِ الحكم باستيفاء الأول للمالِ كله بسبَبِه الذي أدلى به، فأما الإناث منهم فإن الله تعالى فرضَ على لسانِ نبيهِ للدرجَة الثانية مع الدرجة الأولى السدس تكملة الثلثين وكان الجميع بنات صلبٍ تفاضلوا بقوة الأسباب في السهامِ، فإذا استوفى الأول الثلثين سقط أهل الدرجة الثانية مع وجودِ السبَب لعدم المحل وهو التسهم ويبقى لهن حق التعصيب إن كان معهن من يرد عليهن وذلك إجماع من الأمة فلا معنى لتَعليله. ميراث الإخوة للأم (¬2): عقدَ مالك هذه الترجمة ثم عقد ترجمة الكلالة، والترجمتان مرتبطتان، ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن (519). وقال القرطبي جمهور العلماء من الصحابة والتابعين يجعلون الأخوات عصبة البنات وإن لم يكن معهن أخ غير ابن عباس فإنه كان لا يجعل الأخوات عصبة البنات وإليه ذهب داود وطائفة وحجتهم ظاهر قول الله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} ولم يورث الأخت إلّا إذا لم يكن للميت ولد قالوا ومعلوم أن الابنة من الولد فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها وكان ابن الزبير يقول بقَوْل ابن عباس في المسألة حتى أخبره الأسود بن يزيد أن معاذًا قضى في بنت وأخت فجعل المال بينهما نصفين. تفسير القرطبي 6/ 29 وانظر شرح السنة 8/ 335 وفتح الباري 12/ 15. (¬2) الموطأ 2/ 508.

وهذه الأولى فرع على تلك الثانيةِ، فإنا إذا فَهمنا معنَى الكلالةِ أثبتناها لأهلها وركبنا عليها حكمها وقد كلّتْ خواطر الخلقِ فيهَا وتباينوا عزين (¬1) في معناها وقد بيناها في كتابَ الأحكام (¬2) وغيره بما نكتته إنها ترجع في الأشتقاقِ إلى معنيين أحدهما أن تكونَ من كل إذا أعيا فتكوَن عبارة عن النسب البعيد أو تكون من الإكليل وهو التاج المحيط بالرأسِ (¬3) عبر بها عن فريضةٍ عدم فيها من يحيط بالميراثِ على معنى تسمية الأرض المخوفة مفازة، وهذا أولى بالاعتقاد وأقرب إلى معنى الكلالة للصواب وعليه يدل قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} (¬4) فذكر عدم رأس المحيطين في تحقيق اسم الكلالةِ وكذلك قال في آية النساء {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} (¬5). قال علماؤنا فكأنه قال ليس له أب فلذلك دخل الجد في عَدم الكلالةِ وكان قوله لكلِ واحدٍ منهما السدس بياناً أنهم إخوة لأم لأنه قد قال في الأخوة المطلقة في الآية التي في آخر السورة {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فلم يكن بد بعد هذا من مقامين، إما أنْ يقال إن الآيتين متعارضتان ولم يقلِ بذلك أحد ولا تلقتها الصحابة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا بعده على شيء من ذلك فوجَبَ أن يكون في مقامينِ، وأعطيت الطائفة التي كانت أقل في الإدلاء وأضعف في سبب الأمومةِ السدس، وأعطيت الطائِفة التي كملَ سببها من الجهتينِ جميعاً درجة التعصيب والإحاطة ثم يلحق الأخوة للأب بالأخوة من الأب والأم ببيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لاستيلاء هذا العموم عليهم بقولهِ في حديثِ ابن عباس الصحيح المتقدم إلحقوا الفرائض بأهلِها فما بقي فهو لأولي، عصبةٍ ذكرٍ فدخلت معه أخته، لأنه إنما أخذَ ¬

_ (¬1) المراد بها فرقاً شتى جمع عزة وأصلها عزوة كأن كل فرقة تعزى إلى غير من تعزي إليه الأخرى فهم متفرقون. تفسير الكشاف 4/ 160. (¬2) انظر الأحكام (345). (¬3) قال ابن الأثير تكرر في الحديث ذكر الكلالة وهو أن يموت الرجل ولا يدع والدًا ولا ولدًا يرثانه وأصله من تكلله النسب إذا أحاط به. وقيل الكلالة الوارثون الذين ليس فيهم ولد ولا والد فهو واقع على الميت وعلى الوارث بهذا الشرط وقيل الأب والابن طرفان للرجل فإذا مات ولم يخلفهما فقد مات عن ذهاب طرفيه فسمي ذهاب الطرفين كلالة وقيل كل ما احتف بالشيء من جوانبه فهو إكليل وبه سميت لأن الوراث يحيطون به من جوانبه. النهاية 4/ 197 وانظر ترتيب القاموس 4/ 76 ولسان العرب 11/ 592 وانظر أحكام القرآن فقد أشبع الموضوع بحثاً الأحكام (345). (¬4) سورة النساء آية (176). (¬5) سورة النساء آية (12).

ميراث العمة

ولها إن كانت أو له وحده لأجل الإشتراك المصرَّح به في الآية (¬1) التي في آخِر السورة فهذا ضبط هذا الباب، فركّبوا عليه ما يلحق به وَلذلك أصول وأعيان مسائل منها تركيب أخوان لأم أحدهما ابن عمٍ يأخذ سهمه مع أخيهِ بالأمومةِ، ويأخذ باقي المالِ بالسبب الآخر وهو التعصيب يتركب على هذا إذا اجتمعت في الشخص الواحد قرابتان وذلك يكوَن في نكاحِ المجوس إذا أسلموا قال أبو حنيفة يرث بأقوى القرابتين، فصدمه علماؤنا بأخوين لأم أحدهما ابن عمٍ فرام الفرق بينهما، فلم يستطع وذلك مستوفى في مسائل الخلاف. ميراث العَمة (¬2): هذه المسألة ترجمتها في مسائل الخلافِ وأولي الأرحام، وقد اختلفت الصحابة فيهم من الخلفاء فمن دونهم (¬3) إلى التابعين، إلى الفقهاء فأكثر على سقوطِهم، فإنَّ التوريث إنما يقع لمن سمى الله تعالى في كتابه، والباقي للعصبةِ لقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - (ألحقوا الفرائِضَ بأهلها) الحديث المتقدم، واختار أبو حنيفة توريث ذوي الأرحام، وتعلقَ بالقرآن والسنةِ، والمعنَى. أما القرآن فقوله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} (¬4)، وقد تكلم ¬

_ (¬1) في ج القرآن. (¬2) الموطأ 2/ 516. (¬3) في م فمن بعدهم. (¬4) قال الباجي المعروف من مذهب عمر منع العمة من الميراث وبه قال زيد بن ثابت وإليه ذهب مالك والشافعي وروي عن ابن مسعود توريثهم وبه قال أبو حنيفة المنتقى 6/ 243. وقال الشارح في أحكام القرآن (889) عند قوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}: قال ابن عباس هذه الآية نسخ لما تقدم من الموالاة بالهجرة دون القرابة التي ليس معها هجرة والذي عندي أنه عموم من كل قريب بينته السنة بقوله: (الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولي رجل ذكر) حسبما ثبت في كتاب الله. وتعرض القرطبي لهذه المسألة بأوسع مما تقدم فقال اختلف السلف ومن بعدهم في توريث ذوي الأرحام وهم من لا سهم لهم في الكتاب من قرابة الميت وليس بعصبة كأولاد البنات وأولاد الأخوات وبنات الأخ والعمة والخالة والعم أخ الأب للأم والجد أبي الأم والجدة أم أب الأم ومن أدلى بهم فقال قوم لا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر ورواية عن علي وهو قول أهل المدينة ورُوي عن مكحول والأوزاعي وبه قال الشافعي رضي الله عنه وقال بتوريثهم عمر بن الخطاب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء وعائشة وعلى في رواية عنه وهو قول الكوفيين وأحمد وإسحاق واحتجوا بالآية وقالوا وقد اجتمع في ذوي الأرحام سببان القرابة والاسلام فهم أولى ممن له سبب واحد وهو الإِسلام أجاب الأولون فقالوا هذه آية مجملة جامعة والظاهر بكل رحم قرب أو بعد وآية المواريث مفسرة والمفسر قاض على المجمل ومبين قالوا وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الولاء سببًا ثابتًا أقام المولى فيه مقام العصبة فقال الولاء لمن اعتق ونهى عن بيع الولاء وعن هبته واحتج الآخرون بما روى أبو داود والدارقطني عن المقدام قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من ترك كلا فإلي =

علماؤنا عَلَيها بوجوهٍ أقواها أنه عموم إن لم يكن مجملاً، فإذا كانَ عاماً خصَّصَه المفسرون للقرآن والسنة، وأما متعلقه من السنةِ فضعيف ليس له في ذلك أثر صحيح وأما متعلقه من المعنى فقوي. قال ساوى المسلمين في الإِسلام وفضلهم بالقرابة، فوجبَ ترجيحه عليهم، وقد استوفينا الكلام عليها في مسائل الخلاف بما لبابه مع ما يرتبط به من حَصرٍ (وسبر) (¬1) وتقسيم وذلك أن الأسباب التي توجب الميراث عندنا أربعة: نكاحٌ، ونسب، وولاء، وإسلام. وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة هي خمسة: نكاح، ونسب، وولاء، وحلفٌ واتحاد في الديوان، ومعنى قولنا ان الإِسلام سببٌ، أن علماءَنا اتفقوا على أنَّ الرجلَ إذا لم يكن له وارث لا يجُوزُ له أن يوصي بجميع ماله لأن بيت المال وارث وقال أبو حنيفة يوصي بجميع ماله والمسألة طويلة وقد بيناها في موضِعَها وتعلقَ فيمَا انفردَ بهِ عنا بقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}. الآية. فأوجبَ تعالى الميراث بالمعاقدة قولاً، ¬

_ = وربما قال فإلى الله ورسوله ومن ترك مالاً فلورثته فأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه). ثم ساق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ميراث العمة والخالة فقال لا أدري حتى يأتيني جبريل ثم قال أين السائل عن ميراث العمة والخالة قال فأتى الرجل فقال سارني جبريل أنه لا شيء لهما قال الدارقطني لم يسنده غير مسعده عن محمَّد بن عمرو وهو ضعيف والصواب مرسل. القرطبي 8/ 59. قلت حديث المقدام السابق أخرجه أبو داود (2889 و 2900) وابن ماجه (2738) وعزاه المنذري للنسائي انظر تهذيب السنن 6/ 170 أما ابن الأثير فلم يعزه لغير أبي داود من أصحاب الكتب الستة انظر جامع الأصول 9/ 632 ورواه ابن حبان (1225) والحاكم 4/ 344 والبيهقي في السنن 4/ 216 وأحمد في المسند 4/ 131 - 133 والدارقطي 4/ 85 وقال الحافظ حكى ابن أبي حاتم عن أبي زرعة إنه حديث حسن وأعله البيهقي بالاضطراب ونقل عن يحيى بن معين إنه كان يقول ليس فيه حديث قوي. التلخيص 3/ 80 وانظر فتح الباري12/ 30. أما حديث أبي هريرة فقد رواه الدارقطني في سننه 4/ 99 والحاكم في المستدرك 4/ 343 ورواه من طريق أخرى من حديث عبد الله بن جعفر المديني قال ثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر وقال صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي بأن عبد الله هذا لم يحتج به أحد. قلت عبد الله بن جعفر بن نجيح السعدي مولاهم أبو جعفر المديني والد علي بصري أصله من المدينة ضعيف من الثامنة يقال تغير حفظه مات سنة ثمان وسبعين ومائة التقريب (298) وانظر الكاشف 2/ 77 ت ت 5/ 174. ومن خلال ما تقدم يتضح صواب رأي الشارح من أنه ليس في المسألة أثر صحيح وانظر المسألة في فتح الباري 12/ 30 عمدة القاري 12/ 118 الافصاح 2/ 89 - 90. (¬1) زيادة من ج.

فائدة

والاتحاد في الديوان معاقدةً فعلاً. ألم تر إلى اعتبارنا المعاقلة فيها ولأن معنَى القرابة من النصرة موجود في الاتحاد في الديوان لأن مغزاهم واحد ونفيرهم واحد وكَرهُم وفَرَّهم واحد، فذلك الوط من القرابة وهذا ضعيف. أما قولِ الله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ}. الآية. فقد تكلمنا عليها في الأحكام (¬1) وفي مسائلِ الخلاف بما الأشبه منهُ بما نحن فيه أن ابن عباسٍ قال في الحديث الصحيح. إن المراد بقوله (فآتوهم نصيبهم من النصيحةِ والرفَادةِ) (¬2) وعند أبي حنيفة أن الراوي إذا أفتى بخلافِ ما رَوى سقطت روايته وهذا ابن عباسٍ ها هنا قد فسرَ بخلافِ العمومِ وهو ترجمان القرآن والمدعو له بفهم التأويل (¬3) فيلزمه أن يرجعَ إليه، وأما ترجيحهم لذي الرحم على سائرِ المسلمين، برحمه، فقد أسقط ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (ألحَقوا الفرائضَ بأهلها). الحديث. فائدة: إنما أدخلَ مالك حديث عمرٍ في هذه الترجمة من الطريقين جميعاً ليبين من ذلك أن الصحيحَ من قولِ عمرٍ أو الذي ثبت عليهِ عدم توريث ذوي الأرحام (¬4) والله أعلم (¬5). ¬

_ (¬1) انظر أحكام القرآن للشارح (413). (¬2) البخاري في كتاب التفسير باب {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}. ثم ساق بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما "قال" {ولكل جعلنا موالي} قال ورثة {والذين عاقدت أيمانكم} قال كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمة للأخوة التي آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم فلما نزلت {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} نسخت ثم قال {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} بالنصرة والرفادة والنصيحة وقد ذهب الميراث ويوصى له. البخاري 6/ 55. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في الفضائل باب ذكر ابن عباس رضي الله عنهما 5/ 34 ومسلم في الفضائل باب فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (2477). من حديث ابن عباس قال (ضمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره وقال اللهم علمه الحكمة) لفظ البخاري. (¬4) الموطأ 2/ 516 و 517 باب ما جاء في العمة. (¬5) بعد هذا يبدأ كتاب الجامع في الأصل وسقط منه كتاب التفسير وهو في بقية النسخ.

كتاب التفسير

كتاب التفسير بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب التفسير أرسل مالك رضي الله عنه كلامه فيه إرسالاً (¬1) فلقطه أصحابه عنه ونقلوه كما سمعوه منه ما خلا المخزومي (¬2)، فإنه جمع له فيه أوراقاً فألفيناها في دمشق في الرحلة الثانية فكتبناها عن شيخنا أبي عبد الله المصيصي (¬3) الأجل الأمين المعدل وكان كلامه رحمه الله في التفسير على جملة علوم القرآن فنظمنا كل علم في سلكه ونظمناه في نظيره فما كان من قبيل التوحيد ذكرناه في المشكلين وما كان من قبيل أحكام أفعال المكلفين ذكرناه في أحكام القرآن وما كان من الشذور المنثورة والفوائِد المتفرقة رأينا أن نورد منه ها هنا نبذاً اقتداءً به رضي الله عنه في الجامع حيث ألف أبوابه أنواعاً متفرقة وحتى يكمل التصنيف بجميع معانيه إذ كتاب التفسير من جملة أبواب التصنيف بل جله وإن كان تفسير القرآن أمراً لا يطاق وما تعرض له أحد فاستقل به خلا محمَّد بن جرير (¬4) فإنه قرأه وأتمه ومن جاء بعد ذلك فهو عيال عليه فيه ومتمم (¬5) حيال وقد كنا أملينا فيه في كتاب أنوار الفجر في عشرين ¬

_ (¬1) في ن وك فلفظه. (¬2) هو عبد الله بن نافع مولى بني مخزوم المعروف بالصائغ كنيته أبو محمَّد روى عن مالك وتفقه بمالك ونظرائه كان صاحب رأي مالك ومفتي المدينة بعده ولم يكن صاحب حديث وكان ضعيفًا وكان أصم أميًا لا يكتب وقال صحبت مالكاً أربعين سنة ما كتبت منه شيئًا وإنما كان حفظاً أتحفظه وله تفسير في الموطأ رواه عنه يحيى بن يحيى توفي بالمدينة سنة (186) هـ الديباج 1/ 409 ترتيب المدارك 3/ 128 شجرة النور الزكية 1/ 55. (¬3) المصيصي هذه النسبة إلى المصيصة مدينة على ساحل البحر ينسب إليها كثير من العلماء منهم أبو الفتح نصر الله بن محمَّد بن عبد القوي المصيصي ولد باللاذقية ونشأ بالمصيصة ثم انتقل إلى صور ولد سنة خمسين وأربعمائة وتوفي في حدود سنة أربعين وخمسمائة بدمشق اللباب 3/ 221 الانساب 12/ 299 سير النبلاء 20/ 118 طبقات الشافعية 7/ 320 ولم أجد من ينسب إلي هذه المدينة ممن يمكن أن يأخذ عنه ابن العربي غير نصر الله. (¬4) محمد بن جرير الطبري أبو جعفر مفسر مقرىء محدث ولد بآمال طبرستان 224 هـ استوطن بغداد واختار لنفسه مذهبًا في الفقه توفي سنة 310 هـ من تصانيفه جامع البيان في تأويل القرآن تاريخ الأمم والملوك تهذيب الآثار اختلاف الفقهاء. سير النبلاء 9/ 206 معجم المولفين 9/ 147. (¬5) كذا في جميع النسخ متمم حيال والعبارة غير واضحة وفي لسان العرب الحيلة وعلة تخر من رأس الجبل قال

سورة البقرة

عاماً ثمانين ألف ورقة وتفرقت بين أيد الناس وحصل عند كل طائفة منها فن وقد ندبتهم إلى أن يجمعوا منها ولو عشرين ألفًا وهي أصولها التي يبنى عليها سواها وينظمها على علوم القرآن الثلاثة التوحيد الأحكام التذكير إذ لا تخلو آية منه بل حرف عن هذه الأقسام الثلاثة إلَّا أن فساد الزمان بمواصلة الأخوان ومصاولة الأقران وضرورة المعاش والرياش (¬1) الملازمة للإنسان قواطع تقي المتاع وتقطع أسباب الامتاع وقد كنا عوتبنا في إعراضنا عن مجموع في تفسير القرآن يثلج حرارة الصدور ويفرج عن حزازات المصدور فاعتذرت فما قبل عذري وقيل لي قد شاهدناك تملي فيه في نيف على عشرين عاماً ما لَوْ سطر لملأ النشر وعجز عن تحصيله البشر فقلت كان ذلك والشباب بنضارته والعمر في عنفوانه. فأما الآن فقد وليا فقد وليت معهما وهذا أوان تفريض فكيف أحاول أن أجمع تحقيقي فألح ولج (¬2) والمثل السائِر من لج حج (¬3) فحررت مائة ورقة قانوناً في التأويل لعلوم التنزيل تأخذ بصبغ الشادي (¬4) وتثير الهمم للبادي فمن وجده فليأخذ به فإنه لباب الألباب وشارع عظيم إلى كل باب فأما الآن فنستبيح بنكت في هذا الإملاء يناسبه في العجالة وأرجو ألا يكون ضغثاً على أبالة (¬5) ولي فيها مقاصد الله عليم بها معظمها التنبيه على مقدار مالك في العلوم وسعة باعه فيها في الفهم والتفهيم. سورة البقرة: قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول أول معصية عصي الله بها الحسد والكبر والشح حسد إبليس آدم وتكبر عليه وشح آدم فقيل له كل من جميع شجر الجنة إلَّا هذه الشجرة ¬

_ ابن الأعرابي أراه بضم الحاء إلى أسفله ثم تخر أخرى ثم أخرى فإذا اجتمعت الوعلات فهي الحيلة والوعلات صخرات تنحدرن من رأس الجبل إلى أسفله. لسان العرب 11/ 196. (¬1) الراش: الضعيف يقال جمل راش الظهر ضعيف وناقة رائشة ضعيفة ورجل راش ضعيف. لسان العرب 6/ 310. (¬2) اللجاجة التمادي في الطلب. (¬3) لم أطلع على هذا المثل. (¬4) الشادي: المغني والشادي الذي تعلم شيئاً من العلم والأدب والغناء أي أخذ طرفاً منه لسان العرب 14/ 425 ترتيب القاموس 2/ 687. (¬5) الابالة بالكسر الحزمة من الحطب وفي المثل ضغت على إبالة أي بلية على أخرى كانت قبلها. لسان العرب 11/ 6 صحاح الجوهري 1619.

فشح بأكلها (¬1). قال القاضي (¬2) رضي الله عنه أما الحسد فكبيرة من أعمال القلوب متفق على تحريمها في الملك من لدن شريعة آدم إلى محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وحقيقته تمني عين المعجب ما عند الغير وإرادة انتقاله منه إليه (¬3) فإن أردت وجود مثله عندك كان عند علمائنا غبطة وحقيقة ذلك أن الحسد يطلق على الوجهين والغبطة مخصوص بالثاني، وعلى هذا يخرج قوله - صلى الله عليه وسلم - (لا حسد إلَّا في اثنتين (¬4)) الحديث وقد أحكمنا القول عليه في صريح الصحيح وأما الكبر فهو رؤية الفضل للنفس على الغير وتختلف درجاته ما بين طاعة وكفر ومعصية وعلى هذا يخرج قوله (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبَّة من كبر (¬5)) فعبر عن أحد أقسامه الثلاثة وهو الكبر وبه كان إبليس كافراً لأنه حمله حسده لآدم على أن يعترض على أمر الباري سبحانه ويسفهه فكان كافراً بذلك وأما الشح فاتفق علماؤنا على أن البخل منع الواجب وعلى أن الشح منع المستحب (¬6) واستدلوا على ذلك بقوله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (¬7)} الآية. ورأيت بعض العلماء بأنه يجعله من الألفاظ المشتركة. وقد بيّنا ذلك في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم - (مثل البخيل والمتصدق) (¬8) فليطلب هنالك والذي ¬

_ (¬1) ذكره القرطبي فقال روى ابن القاسم عن مالك أنه قال بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر حسد إبليس آدم وشح آدم في أكله من الشجرة. تفسير القرطبي 1/ 296. (¬2) في ك زيادة قال أبو بكر. (¬3) الحسد تمنى زوال نعمة المحسود إلى الحاسد. التعريفات للجرجاني 87. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب اغتباط صاحب القرآن 6/ 236 ومسلم في صلاة المسافرين باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه 1/ 558 من حديث سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار). (¬5) مسلم في كتاب الايمان باب تحريم الكبر وبيانه 1/ 93 من حديث عبدالله بن مسعود. (¬6) قال القرطبي الشح والبخل سواء يقال شحيح بين الشح والشح والشحاحة .. وجعل بعض أهل اللغة الشيخ أشد من البخل وفي الصحاح الشح مع حرص .. والمراد بالآية "أي الآتية" الشح بالزكاة وما ليس بفرض من صلة ذوي الارحام الضيافة وما شاكل ذلك فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق من ذلك وإن أمسك عن نفسه ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرناه من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه. تفسير القرطبي 18/ 29 وانظر أحكام القرآن للشارح 1777. (¬7) سورة الحشر آية "9". (¬8) متفق عليه أخرجه البخاري في الزكاة باب مثل المتصدق والبخيل 2/ 142 - 143 ومسلم في الزكاة باب مثل المنفق والبخيل (1021) والنسائي 5/ 70 - 71 وشرح السنة 6/ 158 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

يفتقر الآن إليه ها هنا وجه تسمية مالك (¬1) رحمه الله فعل آدم شحًا والذي نعتقد أن الشح منع المستحب ووجه تعلق قول مالك بهذا التفسير أن الايثار هو خلعك عما بيدك للغير والشح ضده فهو إذا خلع ما بيد الغير لك فلما خلع آدم الشجرة من قسم المتروك إلى قسم المفعول كان شحاً. قوله عَزَّ وَجَلَّ {وَنُقَدِّسُ لَكَ} قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول التقديس الصلاة قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه تحقيقه أن التقديس هو التطهير والتنزيه حسب ما بيناه في اسم القدوس وهو من صفات النفي في حق الباري سبحانه والاثبات في حقنا له والتقديس يكون بالقول ويكون بالفعل والفعل أشرف من القول أو مثله أو مقوله وأشرف الأفعال الدينية الصلاة وهي قد جمعت أنواع التقديس من قول وفعل (¬2) بانتصاب وانحناء وسقوط إلى الأرض ببدنه فهي غاية قدرة الأدمي فلأجل ذلك انتهى مالك في التفسير إليها. قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} (¬3) قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول ضربوه بالفخذ وقيل بالذنب (¬4) قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه وخذوا أخذ الله بكم ذات اليمين قولاً بديعًا وذلك أن مالكاً كثيراً ما يسترسل في الإسرائيليات وقد نقلنا عنه في ذلك أقوالاً متعددة في مسائل مختلفة في أصول الفقه وجه ذلك ولبابه أن كل قول يرد من قبلهم على ألسنة من أسلم من علمائهم يجوز أن يوثر عنهم ما لم يعترض على ما (¬5) في الشرع وهو المراد بقوله (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) (¬6) وقد بيناه في شرح الحديث على ¬

_ قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جُنتان من حديد من ثدييهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق إلَّا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه وتعفو أثره وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلّا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها ولا تتسع) لفظ البخاري. (¬1) في ص وك زيادة إمامنا. (¬2) قال القرطبي قوله تعالى: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} أي نعظمك ونمجدك ونطهر ذكرك عما لا يليق بك مما نسبك إليه الملحدون قاله مجاهد وأبو صالح وغيرهما وقال الضحاك وغيره المعنى نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك وقال قوم منهم قتادة "نقدس لك" معناه نصلي والتقديس الصلاة. القرطبي 1/ 277. (¬3) سورة البقرة آية (73). (¬4) قال القرطبي قيل باللسان لأنه آلة الكلام وقيل بعجب الذنب إذ فيه يركب خلق الإنسان وقيل بالفخذ وقيل بعظم من عظامها والمقطوع به عضو من أعضائها فأما ضرب به حيي وأخبر بقاتله ثم عاد ميتاً كما كان. القرطبي 1/ 457. (¬5) في ك وج أصل الشرع. (¬6) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل 4/ 207 والترمذي 5/ 40 وشرح السنة 1/ 243 من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار).

الاستيفاء والذي يغلب على ظني أن مالكاً إنما ذكر ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر نظيره في شرعنا قال: (لا تقوم الساعة حتى يخبر الرجل فخذه بما يصنع أهله من بعده) (¬1) فرأى مالك رضوان الله عليه أن نطق الفخذ منتظم في الشرائع. قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬2) قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول لما وقف إبراهيم عليه السلام على المقام أوحى الله سبحانه إلى الجبال أن تأخري عنه فتأخرت حتى رأى (¬3) موضع المناسك كلها فذلك قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا} (¬4). قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه هذا شيء مروى عن (¬5) النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن لم يصح لنا سنده أما إن مالكاً نقله لثلانة أوجه أحدها أنه مناسب نظم القرآن والثاني أنه يسير من قدرة الجليل في كرامة الخليل الثالث أنه جائز في المعقول يخرج على الأصل المتقدم وقد قيدت في متعلقات التذكير عن أشياخنا العراقيين أن الأوزاعي وصى يوماً رجلاً بالتقوى وملازمة العمل الصالح وقال له من درج كلامه: إذا اتقيت الله وقلت لذلك الجبل أدن يدنو إليك فتزحزح الجبل إليهم فقال الأوزاعي إليك عني إنما ضربته مثالاً لهذا. وهذه رواية تستمد من بحر الكرامات وصدرنا فيها رحب وموردنا فيها عذب فعليكم بالمتوسط والمشكلين فيهما ينجلي عنكم خفي الجهل وينهتك ستر المين وكذلك أسمع الله عز وجل كلام إبراهيم حين أذن بالحج لجميع الخلق من جماد وحى حين أذن على المقام بالحج فأسمع الله عَزَّ وَجَلَّ تأذينه كل مخلوق من الأحياء والجمادات فمن أعرض عنه لم يحج ومن أجابه مرة حج مرة ومن أجابه سبعين مرة حج سبعين حجة وهي إحدى الأقسام التي وقع فيها الأحياء من الله عَزَّ وَجَلَّ للخلق من لدن آدم إلى يوم القيامة وكل ذلك جائز في قدرة الله عَزَّ وَجَلَّ حسب ما بيناه في المشكلين وغيره (¬6) على وجه ذلك من صحيح وسقيم وقوي وضعيف وغير ذلك. قوله عَزَّ وَجَلَّ {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} (¬7) قال أبو ¬

_ (¬1) رواه أحمد في المسند 3/ 84 والترمذي في سننه 4/ 476 وقال حسن غريب والحاكم في المستدرك 4/ 467 وقال صحيح على شرط مسلم واقره الذهبي والحديث من رواية أبي سعيد الخدري. (¬2) سورة البقرة (125). (¬3) في ج وك مواضع. (¬4) سورة البقرة (128). (¬5) في ج وك إلى. (¬6) في ج وغيرهما وفي ك وغيره. (¬7) سورة البقرة (264).

بكر بن أبي أويس سمعت مالكاً يقول إذا منَّ قطع الأجر قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه هذه الآية من شبه الاحباطية والقول بالإحباط محبط حسب ما بيناه في كتب الأصول وبيناه في المشكلين لأنه لم تبق آية ولا حديث يتعلق به إلَّا جمع هنالك فيضرب بعضها ببعض حتى يتعين الحق فمعنى قوله عَزَّ وَجَلَّ {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} يعني عند الموازنة في رأي المحققين من علمائنا لأن الصدقة حسنة والمن والأذى سيئة فربما ثقل ميزان السيئة بتكريرها أو بما شاء الله من شأنها فيبطل معنى الصدقة في ذلك الحال والابطال على وجهين عام وخاص حسب ما بيناه هنالك وهذا (¬1) الذي أشار إليه مالك وجه مليح وذلك أن ثواب الصدقة يجري للمتصدق دائماً فإذا منَّ انقطع الأجر من ذلك اليوم وهو يرجع إلى الأول مع المخالفين ولكنها مقدمة شريفة (¬2) فليرجع إليها. قوله عز وجل: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} (¬3) قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} يعني التفكر في أمر الله عَزَّ وَجَلَّ والاتباع له وقال ابن وهب سمعته يقول هو الفقه في دين الله تعالى والعمل به قال مالك ومما يبين لك ذلك أن الرجل قد يكون بصيراً بدنياه وآخر لا بصر له بدنياه وهو عارف بأمر الله تعالى وقد قال الله عَزَّ وَجَلَّ في يحيى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} (¬4) يعني العلم والعمل قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه اختلف قول مالك لأصحابه لفظًا واتفق معنى على طريق العلماء في ضبط المعاني وإهمال الألفاظ فرد على السائلين (¬5) في الأجوبة بحسب الحاضر في الخاطر من تلك المعاني المنفردة أو بحسب السائل إن كان يحتمل جميعها أو بعضها وبناء ح ك م في اللغة العربية كيفما تصرف يرجع إلى الضبط والمنع وقد قررنا في ذلك بدائع في اسم (¬6) الحكيم فليطلب هنالك وأول الحكمة العلم وأول العلم معرفة الانسان بنفسه فمن عرف نفسه عرف ربه وآخر الحكمة العمل فإذا اجتمعا كان صاحبهما حكيماً وإن افترقا كان ذلك الاسم ثابتًا له من وجه ¬

_ (¬1) في ك وهو (¬2) في ج شرحت. (¬3) سورة البقرة آية (269). (¬4) سورة مريم آية (12) (¬5) في ج السائل. (¬6) في ج اسمه.

منفياً عنه من آخر والكلام في إطلاقه عليه أو سلبه عنه مسألة فقهية بيانها في شرح الحديث. قوله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} (¬1) قال جويرية (¬2) بن أسماء سمعت مالكاً يقول وأسنده: (يرحم الله إبراهيم نحن أحق بالشك منه حين قال {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}) قال (ويرحم الله لوطأ كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي (¬3)) قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه هذا حديث صحيح خرجه الأئمة من كل صنف واجتنب بعضهم لفظة الشك فقالوا نحن أحق بإبراهيم استعظاماً لذكرها (¬4) وهي عبادة لا يستعظم ما يذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه إلَّا أن يكون لم يصح عنده فله في ذلك أبلغ العذر وقد أتقنا القول على هذا الحديث في المشكلين وغيره بما لبابه أن الشك هو تجويز أمرين في القلب لا مزية لأحدهما على الآخر فإن كان فيما يتعلق بالله مما يجب له أو يستحيل فذلك كفر لا يليق بالأنبياء صلوات الله عليهم وإن كان هذا التردد فيما يجوز من فعله ويتصرف على العباد من حكمه فمنه ما أعلم الأنبياء به ومنه ماحبسه عنهم. فأما جواز إحياء الموتى فهو معنى معقول جائز لم يحبس الله علمه عن الأنبياء ولا شك فيه أحد منهم في حال من الأحوال لأن الله عَزَّ وَجَلَّ صرح به لهم وكرره عليهم وجعله أصلاً في معرفتهم به وأصلاً لجميع أفعاله ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (¬5) يعني بالحشر للثواب والعقاب وهو معنى قوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (¬6) فأما كيفية إحياء الخلق بجمع أجزائهم ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (260). (¬2) جويرية تصغير جارية ابن أسماء بن عبد الضبعي بضم المعجمة وفتح الموحدة البصري صدوق من السابعة مات سنة ثلاث وسبعين (ومائة) خ م دس دق التقريب ص 143 وانظرت ت 2/ 124. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء باب قول الله عز وجل: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} 4/ 179 ومسلم في كتاب الإيمان باب طمأنينة القلب بظاهر الأدله 1/ 133 من رواية أبي هريرة. (¬4) قال القاضي عياض لم يشك إبراهيم بأن الله يحيي الموتى ولكن أراد طمأنينة القلب وترك المنازعة لمشاهدة الإحياء فتحصل له العلم الأول بوقوعه. وأراد الثاني بكيفيته ومشاهدته ويحتمل أنه سأل زيادة اليقين وإن لم يكن في الأول شك لأن العلوم قد تتفاوت في قوتها فأراد الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين. فتح الباري 6/ 413. (¬5) سورة الحجر آية (85). (¬6) سورة المؤمنون آية (115).

المتفرقة وإعادة أوصافهم المعروفة وتأليف الأرواح مع الأجساد كما كانت قبل الميعاد فما أطلع الله عليها أحدًا ولا يلزم أن يكون معتقداً بل قال بعض المحررين إن الأصلح في الحكمة أن يخفى عن الخليقة. أما إن الخليل لما رفعت درجته وقربت منزلته واطلع على ملكوت السموات والأرض قال بحكم الإذلال {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} فوفى الله منزلته حقها وعاد عليه بفضل الإجابة فأراه من كيفية جمع الأجزاء المتفرقة عياناً ما كان شك فيه قبل ذلك زماناً وكل أحد إلى يوم القيامة من المؤمنين الموقنين عالم بالاعادة شاك في الكيفية وأما قوله (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد) (¬1) فإن لوطاً سأل الله تعالى على ما علم من عادته وسننه في ربط الأسباب بالمسببات وهو مقام توحيد عظيم فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - من لوط أن يقوم في مقام أشرف منه وهو التعلق بالقدرة إذا رأى الغلبة كما فعل - صلى الله عليه وسلم - يوم الطائف حين ضاقت عليه الأرض بما رحبت فقال (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي- الحديث إلى قوله- ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي. العظيم) (¬2). وقال في يوسف متعجباً من صبره على بلاءً السجن واستدامته لذلك البلاء بعد أن أمر بالخروج فرأى له في ذلك منزلة لم يرها لنفسه - صلى الله عليه وسلم - فلم يسلم للوط - صلى الله عليه وسلم - حاله وأقر على نفسه الكريمة بشغوف (¬3) يوسف في بقائه في السجن بعد الدعاء إلي الخروج (¬4) منه وقد أتقنا بيان ¬

_ (¬1) أي إلى الله تعالى يشير - صلى الله عليه وسلم - إلى قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} ويقال إن قوم لوط لم يكن فيهم أحد يجتمع معه في نسبه لأنهم من سدوم بالشام وكان أصل إبراهيم ولوط من العراق فلما هاجر إبراهيم إلى الشام هاجر معه لوط فبعث الله لوطاً إلى أهل سدوم فقال لو أن لي منعة وأقارب وعشيرة لكنت استنصرت بهم عليكم ليدفعوا عن ضيفاني. فتح الباري 6/ 415. (¬2) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 6/ 35 وعزاه للطبراني وقال وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة وبقية رجاله ثقات وأورده الشيخ ناصر في ضعيف الجامع الصغير 1/ 358 وضعفه والحديث من رواية عبد الله بن جعفر قال لما توفي أبو طالب خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف ماشياً على قدميه يدعوهم إلى الإِسلام فلم يجيبوه فانصرف فأتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتى وهواني على الناس ...) والحديث ضعيف. (¬3) قال ابن منظور شغفه الحب يشغفه شَغْفًا وشَغَفًا وصل إلى شغاف قلبه وقرأ ابن عباس {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} قال دخل حبه تحت الشغاف وقيل غشي الحب قلبها وقيل أصاب شغافها قال أبو بكر شغاف القلب وشغفه غلافه. لسان العرب 9/ 179. (¬4) قال الحافظ قوله (ولو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي) أي لأسرعت الإجابة إلى الخروج من السجن ولما قدمت طلب البراءة فوصفه بشدة الصبر حيث لم يبادر بالخروج وإنما قاله - صلى الله عليه وسلم - تواضعًا

ذلك في كتاب الأنبياء وفي كتاب المشكلين. قوله {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} الآية. قال سوادة بن عبد الله الأنصاري (¬1) سمعت مالكاً يقول قال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - (يا محمَّد إن الله تعالى تجاوز عن أمتك الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، (¬2) وذكر كلاماً قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (¬3) وهذان الحديثان لم يثبت لهما قدم في الصحة ¬

_ = والتواضع لا يحط مرتبة الكبير بل يزيده رفعة وإجلالاً وقيل هو من جنس قوله لا تفضلوني على يونس وقيل إنه قاله قبل أن يعلم أنه أفضل من الجميع. فتح الباري 6/ 413. (¬1) سوادة بن ابراهيم الأنصاري عن مالك قال الدارقطني ضعيف قال الذهبى قلت أتي عن مالك بخبر منكر لم يصح. ميزان الاعتدال 2/ 245 ونقل الحافظ عن الخطيب قوله في ترجمة سوادة ابن إبراهيم في كتاب الرواة عن مالك سوادة مجهول التلخيص 1/ 282 وكذا نقل ذلك السخاوي في المقاصد الحسنة ص 230 قلت لم أجد هذا الراوي إلّا باسم سوادة بن إبراهيم فلعل قوله بن عبد الله خطأ من النساخ والله أعلم. (¬2) هذا لفظ الحاكم في المستدرك 2/ 198 وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه والبيهقي في سننه 7/ 356 و 10/ 61 من طريق بشر بن بكر نا الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) قال البيهقي جود اسناده بشر بن بكر وهو من الثقات ورواه الوليد بن مسلم فلم يذكر في إسناده عبيد بن عمير وذكر له إسنادًا آخر عن محمد بن المصفي نا الوليد بن مسلم فذكره وقال عن عطاء عن ابن عباس السنن الكبرى 7/ 356 - 357 وذكر الحافظ أن محمَّد بن المصفي رواه عن الوليد عن مالك عن نافع عن ابن عمر التلخيص 1/ 282 قلت ولعلها رواية الطبراني في الأوسط التي أشار إليها في المجمع 6/ 250. (¬3) قال السخاوي (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وقع بهذا اللفظ في كتب كثير من الفقهاء والأصوليين حتى إنه وقع كذلك في ثلاثة أماكن من الشرح الكبير وقال غير واحد من مخرجيه وغيرهم إنه لم يظفر به ولكن قال محمَّد بن نصر المروزي في باب طلاق المكره من كتاب الاختلاف يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (رفع الله عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما اكرهوا عليه) غير أنه لم يسق له إسنادًا ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان وابن عدي في الكامل (2/ 573) من حديث جعفر ابن جسر بن فرقد عن أبيه عن الحسن عن أبي بكرة مرفوعاً بلفظ (رفع الله عن هذه الأمة ثلاثاً الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه) وجعفر وأبوه ضعيفان لكن له شاهد جيد أخرجه أبو القاسم الفضل بن جعفر التميمي المعروف بأخي عاصم في فوائده عن الحسن بن أحمد أو الحسين بن محمَّد علي ما يحرر وكلاهما ثقة عن محمَّد بن المصفي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي عن عطاه بن أبي رباح عن ابن عباس بلفظ رفع الله والباقي كلفظ الترجمة ورواه ابن ماجه وابن أبي عاصم ومن طريقه الضياء في المختارة كلاهما عن محمد بن المصفي به لكن بلفظ وضع بدل رفع ورجاله ثقات ولذا صححه ابن حبان .. ثم ذكر رواية تجاوز ومن خرجها وقال وله طرق عن ابن عباس بل للوليد فيه إسنادان آخران رواه محمَّد بن المصفي عنه عن مالك عن نافع عن ابن عمر وعن ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن عقبة بن عامر وقد قال ابن أبي حاتم في العلل سألت أبي عنها فقال هذه أحاديث منكرة كأنها =

لكن مغناهما صحيح قطعاً في الخطأ والنسيان والإكراه محمول عليه في العموم مخصوص في الكفر في سووة النحل (¬1) واختلف علماء المسلمِين في هذه المسألة على قولين فمنهم من قال إن المراد بالرفع ها هنا رفع الاثم في الآخرة والحكم دنيا ومنهم من قال إن المراد بذلك رفع الإثم في الآخرة دون الحكم في الدنيا في تفصيل طويل بيانه في كتاب الأحكام (¬2) والمسائل والأدلة في ذلك متعارضة وقد تكلمنا عليها في مسائل الخلاف بما فيه كفاية والذي يتحصل الآن من القول في ذلك أن الصحيح فيه رفع الاثم آخرة والحكم دنيا معاً فكل من فعل فعلاً ناسياً أو مخطأ أو مكرهاً فإن شيئًا من ذلك لا يتعلق به حكم إذا كان ذلك الحكم مما يثبت فيه تحقيق هذه الصفات الثلاث فإن قيل فقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (¬3) فاعتبر الضمان فيه وهذا نقض ما ذكرتموه قلنا لا يعترض بهذا على ما أصلنا فإنه تعالى كما أوجب الضمان في قتل الخطأ أوجب الضمان بالكفارة وقد أجمعت الأمة على أنه لا إثم فيه فدل ذلك على أن الحكم مخصوص والمخصوص لا يقاس عليه ولا يعترض به فإن قيل فلو أتلف مالاً لرجل وهو لم يقصد قلنا يلزمه الضمان لأن دعوى عدم القصد لم تثبت ونفس الإهلاك قد تحقق فلا يسقط المتحقق بالمتوهم. ¬

_ = موضوعة وقال في موضع آخر لم يسمعه الأوزاعي من عطاء إنما سمعه من رجل لم يسمه أتوهم أنه عبد الله بن عامر الأسلمي أو اسماعيل بن مسلم قال ولا يصح هذا الحديث ولا يثبت إسناده وقال عبد الله بن أحمد في العلل سألت أبي عنه فأنكره جدًا وقال ليس يروي هذا إلا عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .. وقال محمَّد بن نصر عقب إيراده له كما تقدم: إلَّا أنه ليس له اسناد محتج بمثله ورواه العقيلي فى الضعفاء من حديث الوليد عن مالك به ورواه البيهقي وقال الحاكم هو صحيح غريب تفرد به الوليد مالك وقال البيهقي في موضع أخر إنه ليس بمحفوظ عن مالك ورواه الخطيب في ترجمة سوادة بن إبراهيم من كتاب الرواة عن مالك وقال بعد سياقه من جهة سوادة عنه سوادة مجهول والخبر منكر عن مالك .. وقال ومجموع هذه الطرق يظهر أن للحديث أصلاً .. ونقل عن النووي تحسينه. المقاصد الحسنة ص 229 ونقل الحافظ تحسين النووي له في الروضه والاربعين ولم يعلق عليه. التلخيص 1/ 281 وعندي أن ما ذهب إليه الشارح من تضعيفه هو الأولى. (¬1) يشير إلى قوله تعالى في سورة النحل آية (106) {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ...}. (¬2) الأحكام (1177). (¬3) سورة النساء آية (93).

سورة آل عمران

سورة آل عمران: قوله عز وجل: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (¬1) قال ابن وهب قال مالك الراسخ العالم العامل فإذا لم يعمل بعلمه فهو الذي يقال فيه [نعوذ بالله من علم لا ينفع] وقال أشهب سمعت مالكاً يقول الراسخون منه العلم لا يعلمونه والآية التي بعدها أشد منها وهي قوله: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} قال القاضي ابن العريي وضي الله عنه قد بينا هذه الآية على وجهها (¬2) في كتاب المشكلين وبينا اختلاف العلماء قديمًا وحديثاً في المراد منها وذكرنا أن مالكاً قال في جماعة لا يعلمها إلّا الله (¬3) وقال آخرون إن الراسخين في العلم يعلمونه (¬4) وهو الذي نختاره وأن قوله {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} جملة في موضع الحال أو دال على الحال كقول الشاعر: الريح تبكي شجوه ... والبرق يلمع في غمامه (¬5). وهنا اختيار محمَّد بن إسحاق (¬6) وما رأيت من وقف على الآية وفهم معناها قبله غيره ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (7). (¬2) في ج أوجهها. (¬3) قال ابن جرير حدثنا يونس قال أخبرنا أشهب عن مالك في قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} قال ثم ابتدأ فقال {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} وليس يعلمون تأويله الطبري 6/ 203 ومختصر ابن كثير 1/ 265 والقرطبي 4/ 16 وساق ابن جرير قبل هذا الأثر عن ابن وهب قوله سمعت عمر بن عبد العزبز يقول {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} انتهي علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا آمنا به كل من عند ربنا ورجح ابن جرير هذا المذهب. (¬4) هذا مذهب ابن عباس ومجاهد قال ابن كثير وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله وقال مجاهد والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به وكذا قال الربيع بن أنس وقال محمد بن جعفر ابن الزبير وما يعلم تأويله الذين أراد ما أراد إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ثم ردوا تأويل المتشابهات علي ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد فاتِسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضاً فنفذت الحجة وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به الكفر. مختصر ابن كثير 1/ 265 وانظر ابن جرير 6/ 203 والقرطبي 4/ 18 أضواء البيان 1/ 331 زاد المسير 1/ 354. (¬5) البيت ساقه القرطبي في تفسيره 4/ 17 ولم يعزه وقال فيه هذا البيت يحتمل المعنيين فيجوز أن يكون (البرق) مبتدأ والخبر يلمع على التأويل الأول فيكون مقطوعاً مما قبله ويجوز أن يكون معطوفاً على الريح ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعًا واحتج قائلو هذه المقالة أيضاً بأن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ فكيف يمدحهم وهم جهال وقد قال ابن عباس أنا ممن يعلم تأويله وقرأ مجاهد هذه الآية وقال أنا ممن يعلم تأويله. (¬6) محمَّد بن إسحاق يظهر لي إنه صاحب السيرة وقد تقدمت ترجمته وهذا الكلام في السيرة لابن هشام 1/ 576 - 527 والروض الانف 5/ 12.

قال إن قول الله عَزَّ وَجَلَّ لا يختلف لأن قوله واحد من رب واحد والعلماء الراسخون في العلم ردوا تأويل المتشابه إلى ما علموا من المحكم الذي ليس له إلَّا تأويل واحد فاتسق بقولهم الكتاب وقامت به الحجة وظهر العذر وزاغ الباطل (¬1) (¬2) وهو كلام صحيح قد جرى في أسلوب التحقيق وبلغ الغاية من التدقيق بسطه وإيضاحه أن الله تعالى قال {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فقسم الآيات على قسمين أماً وبنتاً وإنما قلنا وبنتاً لأن الأم من الأسماء الاضافية للضرورة فمن أراد أن يعرف نسب البنت ردها إلى الأم والقرآن كله محكم وكله متشابه ومنه آيات محكمات وآيات متشابهات وذلك كله بمعان مختلفات. أما كونه كله محكماً فبحسن الرصف وبديع الوصف وغاية الجزالة ونهاية البلاغة وقلة الحروف وكثرة المعاني وعنه وقع البيان بقوله عَزَّ وَجَلَّ {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (¬3) وأما كونه متشابهاً كله فباستوائه في هذه المعاني التي فصلنا لا تقصير ولا فضول ولا حشو ولا تعارض ولا تناقض كما قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (¬4) وعنه أخبر عَزَّ وَجَلَّ بقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (¬5) وأما كونه على قسمين منه محكم ومنه متشابه فالمراد منه جلي في البيان ومنه خفي ولو شاء ربنا سبحانه لجعله على مرتبة واحدة في الجلاء والبيان ولكنه قسم الحال فيه لما سبق من علمه في تقسيمه الخلق إلى عالم وجاهل ومستوفي وناقص وتفضيلهم في درك المعارف كما قال عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (¬6) فأخبر عز وجل أنه يرفع بالإيمان درجة ويرفع بالعلم معه أخرى والذي لا يعلم تأويله يقتصر على الإيمان به والتصديق له والتسليم به في علم الله سبحانه. والراسخ في العلم ينظر فيه ويقرن المتشابه بالمحكم فما وافق المحكم من احتمال المتشابه قال (¬7) به وما خالفه أسقطه وإن احتمل الأمر عنده بعد ذلك عضده بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهى كلام ابن اسحاق انظر الإحالة السابقة. (¬2) في ج زيادة وهذا لفظه. (¬3) سورة هود آية (1). (¬4) سورة النساء آية (82). (¬5) سورة الزمر آية (23). (¬6) سورة المجادلة آية (11). (¬7) في ج تأوله.

واستدركه في أدلة المعقول فإذا اتضحت السبيل وابتهج له الدليل قال به واعتمد عليه وإن توقفت الحال بعد هذا الاعتماد (¬1) كله سلم لعلم الله أخيراً كما سلم المؤمن أولاً فالراسخ في العلم عند علمائنا هو الذي ينتهي إلى ما علم، ويقف حيث ما بلغ به النظر وقد استوفينا بيان (¬2) ذلك في كتاب المشكلين. قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} (¬3) قال أبو بكر بن أويس (¬4): سمعت مالكاً يقول معناه إن كنتم تحبون طاعة (¬5) الله قال القاضي أبو بكر بن العربي رضي الله عنه وقد اختلف العلماء رحمة الله عليهم في تعلق المحبة بذات الله عَزَّ وَجَلَّ لأجل أنها قسم من أقسام الإرادة والإرادة إنما تتعلق بالمحدث فرأى مالك أن يخلص هذا الإشكال ويعلق المحبة بالطاعة وهو الإِسلام وقد بينا ذلك في كتاب الأمر. قوله تعالى: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬6) قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول: "كل مولود يطعن الشيطان في خاصرته إلَّا ابن مريم فإنه طعنه من وراء حجاب" (¬7) قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مولود يولد إلَّا يطعن الشيطان في خاصرته فيستهل صارخاً إلّا مريم وابنها) (¬8) وذلك لقول الله عز وجل: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} زاد بعضهم عن أبي هريرة "فتلك الصرخة التي يصرخها الطفل منها" (¬9). ¬

_ (¬1) في ج الاحتمال. (¬2) في م زيادة. (¬3) سورة آل عمران آية (31). (¬4) أبو بكر بن أويس هو عبد الحميد بن عبد الله بن أويس الاصبحي أبو بكر ابن أبي أويس مشهور بكنيته ثقة من التاسعة مات سنة اثنين ومائتين روى له البخاري ومسلم ت ص 323 ت ت 6/ 119 شجرة النور الزكية 1/ 56. (¬5) لم أطلع على هذا الأثر. (¬6) سورة آل عمران (36). (¬7) في ك الحجاب. (¬8) متفق عليه البخاري مع الفتح 8/ 212 في التفسير باب {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} وفي كتاب الأنبياء. الفتح 6/ 469 ومسلم في الفضائل باب فضائل عيسى عليه السلام حديث (2366). (¬9) رواه ابن جرير من طريق جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز إنه قال قال أبو هريرة (أرأيت الصرخة التي يصرخها الصبي حين تلده أمه فإنها منها) الطبري 6/ 343 وظاهره إنه موقوف من كلام أبي هريرة وقد ورد في مسلم من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة حديث (2367).

وهذا أمر لا يعلم إلَّا بالخبر وخفي ذلك على الملحدة والغافلين من الخليقة فأما الملحدة فقالوا إنما يصرخ لاختلاف الهواء عليه كما يبكي من انتقل من حال إلى حال ويتألم من الكبار وتعاطى في ذلك بعض الشعراء من المتأخرين وهو لا يعلم فقال: لما توذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد (¬1) وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (لو أن أحدكم إذا أتي أهله قال اللهم (¬2) جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا وقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا) قال علماؤنا معناه لم يضره بالطعنة خاصة وإلا فضرر الشيطان بالذنوب لا يعصم منها عاصم. قوله: {يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} (¬3) قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول "ما من أحد يلقى الله إلَا بذنب ما عدا يحيى بن زكريا" (¬4)، قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه هذا الذي قاله مالك ورد في الأثر ولم يصح سنده عندنا ولا شك إلَّا أنه قد صح عند مالك ولأجل صحته نطق به والأنبياء صلوات الله عليهم عندي معصومون من الذنوب بعد النبوة حسب ما بينته في كتب الأصول (¬5) وممن يلقى الله بغير ذنب عيسى ابن مريم فقد روي في حديث الشفاعة (إن كل نبي يطلب منه الناس الشفاعة يذكر لنفسه خطيئة ما عدا عيسى بن مريم ¬

_ (¬1) لم أطلع على قائل البيتين. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في الدعوات باب ما يقول إذا أتي أهله 8/ 102 ومسلم في النكاح باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع (1434) وأحمد رقم (1867) وأبو داود (2161) والترمذي (1092) وابن ماجه (1919) من حديث ابن عباس. (¬3) سورة آل عمران آية (39). (¬4) روى ابن جرير من طريق سعيد بن المسب قال: قال ابن العاص إما عبد الله وإما أبوه: "ما أحد يلقى الله إلَّا وهو ذو ذنب إلا يحيى بن زكريا" قال وقال سعيد بن المسيب "وسيدًا وحصورًا الذي لا يغشى النساء ولم يكن معه إلا مثل هدبة الثوب" ابن جرير 6/ 378 وذكر الطبري قبل هذا عن سعيد بن المسب قال حدثني إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلَّا ما كان من يحيى بن زكريا ..) فذكره مطولاً مرفوعاً ثم رواه هنا عن ابن المسيب عن ابن العاص مع الشك في أنه عبد الله بن عمرو أو أبوه موقوفًا وقد ذكره ابن كثير 2/ 135 من رواية ابن أبي حاتم بهذا الشك ولكنه مرفوع ثم ذكره ص 135 - 136 من رواية ابن أبي حاتم أيضًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفًا ووصف المرفوع بأنه غريب جدًا ثم قال بعد الموقوف فهذا أصح اسنادًا من المرفوع وكذا ذكر السيوطي في الدر 2/ 22 المرفوع والموقوف وقال وهو أقوى إسنادًا من المرفوع. (¬5) انظر كتاب المحصول في علم الأصول تحقيق عبد اللطف أحمد الحمد ص 460.

سورة النساء

فإنهم يقولون له يا عيسى أنت روح الله وكلمته إشفع لنا إلى ربك فيقول إني عبدت من دون الله) (¬1) وكذلك محمَّد - صلى الله عليه وسلم - يلقى الله دون ذنب مفعول وهو مع ذلك متوب عليه مغفور له وقال مالك رضي الله عنه "قتل يحيى بن زكريا في شأن امرأة" رواه ابن نافع وابن وهب في جماعة كثيرة عنه. قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه تمام القصة أن المرأة دعته إلى نفسها فلما أبى قالت لصاحبها هذا يطالبني في نفسي فاقتله فقتله فبقي دمه يغلى في الأرض حتى جاء بختنصر فوجده يغلي فقال هذا دم مظلوم فقتل عليه قدر سبعين ألفاً وحينئذ سكن غليانه (¬2) وكان هذا بختنصر ملكاً مسلطاً على بني إسرائيل قتل خيارهم كما قتل شرارهم أخذ من أحبارهم ورهبانهم المتعبدين في المسجد الأقصى منهم وأخرجهم إلى ما بين باب الأسباط ومحراب زكريا جوف المسجد الأقصى فذبحهم هنالك ذبحاً في حفرة كانت بها شاهدت الحفرة إذا دفع الماء فيها احمر فإذا خرج عنها عاد إلى لونه وكانت تغلي بالماء في أيام الشتاء فيقف الناس عليها للعجب. سورة النساء: قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (¬3) قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول جاء ¬

_ (¬1) هذه رواية الترمذي في كتاب التفسير (3148) من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد وقال الترمذي حسن صحيح. (¬2) رواه الحاكم في المستدرك 2/ 290 من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} بعث عيسى ابن مريم في اثني عشر رجلاً من الحواريين يعلمون الناس فكان ينهاهم عن نكاح ابنة الأخ وكان ملك له ابنة أخ تعجبه فأرادها وجعل يقضي لها كل يوم حاجة فقالت لها أمها إذا سألك عن حاجتك فقولي له أن تقتل يحيى ابن زكريا فقال لها الملك حاجتك فقالت أن تقتل يحيى بن زكريا فقال سلي غير هذا فقالت لا أسأل غير هذا فلما أتى أمر به فذبح في طست فبدرت قطرة من دمه فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر فدلت عجوزعليه فألقى في نفسه أن لا يزال القتل حتى يسكن هذا الدم فقتل في يوم واحد من ضرب واحد وبيت واحد سبعين ألفًا وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن أبي شيبه في مصنفه 11/ 561 من حديث هشام ابن عروة عن أبيه قال ما قتل يحيى بن زكريا إلا في امرأة بغي قالت لصاحبها لا أرضى عنك حتى تأتيني برأسه قال فذبحه فأتاها برأسه في طست. (¬3) سورة النساء آية (93).

رجل إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال له إني قتلت فقال له عبد الله بن عمر "أكثر من شرب الماء البارد" قال مالك يريد أنه من أهل النار. قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه وهذه مسألة من كبار المسائل اختلف الناس فيها قديمًا وحديثًا وتعلق أهل الاحباط بها لا سيما باضطراب آراء الصحابة فيها فكان ابن عباس يقول تارة إن القاتل لا توبة له ويقول أخرى له توبة ويقول ثالثة إن كان لم يقتل ليس لك توبة وإن كان قتل يقول لك توبة، وقد بينا في كتاب المشكلين أن توبته مقبولة وأن ذنبه داخل تحت المغفرة ومعصيته أهك للكفارة وأعظم آية فيه قوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} وهذه الآية ليست من المتشابه بل هي من المحكم كما بيناه في موضعه لبابه أنه قال {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} وبقي استيفاء الجزاء ليس له في الآية ذكر وجهل بعض الناس فقال معناه إن جازيناه (¬1) وليس يفتقر هذا الكلام إلى هذا الاضمار فلا معنى لذكره وسائر آيات القرآن على عمومها كآية الزمر (¬2) وخصوصها كآية الفرقان (¬3) تقتضي كلها قبول التوبة وجواز المغفرة للقاتل وخصوصاً الحديث الصحيح (إن رجلاً كان فيمن كان قبلكم قتل تسعة وتسعين نفساً فجاء إلى بعضهم فسأله هل لي من توبة فقال لا توبة لك فقتله ثم جاء آخر فسأله هل لي من توبة قال لا توبة لك فقتله ثم جاء آخر فسأله فقال ومن يسد عنك باب التوبة ولكن إيتِ الأرض المقدسة فمشى إليها فأدركه الموت في الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فمع اختلافهم أمرهم الله سبحانه أن يقيسوا ما بين الأرض التي خرج منها والتي يقصد فإلى أيها كان أقرب قبض روحه عليه فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض المقدسة بشبر) (¬4). وفي رواية (فوجدوه لما أدركه الموت قد نأى بصدره (¬5) فقبضته ملائكة الرحمة) فإن قيل فما وجه اختلاف ابن عباس فيمن قتل أو لم يقتل وهل كان يقول لمن لم يقتل لا توبة لك تخويفاً بما لا يعتَقده حقًا وذلك لا يجوز أم كان يعتقده وذلك لا معنى له. قلنا لم يكن ¬

_ (¬1) هذا القول عزاه ابن كثير إلى أبي هريرة وجماعة من السلف قالوا هذا جزاؤه إن جازاه وكذا كل وعيد على ذنب ثم قال لكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قول أهل الموازنة والاحباط وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد والله أعلم. مختصر ابن كثير 1/ 423. (¬2) {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} آية (53). (¬3) سورة الفرقان آية (70) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا}. (¬4) البخاري مع الفتح 6/ 512 ومسلم في كتاب التوبة باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله حديث (46 و47) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬5) رواية مسلم قال قتادة فقال الحسن ذكر لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصره.

سورة الأعراف

ابن عباس يعتقده وإنما كان يقوله تخويفًا ووجه ذلك أن المسألة اجتهادية فابن عباس وإن كان يرى أن له توبة لا يقطع بخطأ القول الثاني فكان يخبره عنه تحذيراً لاحتماله (¬1). والذي كان يفتي به مالك في هذه المسألة أن يعتق رقبة ويصوم شهرين متتابعين ويتصدق ويفعل ما استطاع من الخير وروي عنه أنه لا كفارة فيه لأنه أعظم من أن يكفَّر وقد بينا في مسائل الخلاف هذه المسألة وحققنا المقصود منها والله أعلم. سورة الأعراف: قوله عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} (¬2) قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول تأويله ثوابه (¬3) قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه فيه أقوال كثيرة حقيقتها ترجع إلى المآل وحقيقته كلها وفائدته الثواب والعقاب فذكر مالك الثواب من جملتها لأنه أعلى وأولى أو ذكر أحدهما وهو أفضلهما (¬4) ليدل على الثاني كما قال الشاعر: وما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني (¬5) سورة براءة: قوله: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} (¬6) قال ابن القاسم وأشهب سمعنا مالكاً يقول ¬

_ (¬1) قال الحافظ وحاصل الروايات أن ابن عباس كان تارة يحمل الآيتين في محل واحد فلذلك يجزم بنسخ احداهما وتارة يجعل محلهما مختلفًا ويمكن الجمع بين كلامه بأن عموم التي في الفرقان خص منها مباشرة المؤمن بالقتل متعمدًا وكثير من السلف يطلقون النسخ على التخصيص وهذا أولي من حمل كلامه على التناقض وأولى من دعوى إنه قال بالنسخ ثم رجع عنه .. إلى أن قال وقد حمل جمهور السلف وجميع أهل السنة ما ورد من ذلك على التغليظ وصححوا توبة القاتل كغيره. فتح الباقي 8/ 496 وانظر القرطبي 5/ 335. (¬2) سورة الأعراف آية (53). (¬3) ذكره أيضًا ابن كثير دون سند وعزاه لمالك تفسير ابن كثير 2/ 221. (¬4) قال ابن كثير تأويلهِ ما وعدوا به من العذاب والنكال والجنة والنار قاله مجاهد وغيره وأحمد وقال مالك ثوابه وانظر القرطبي 7/ 217. (¬5) البيت في خزانة الأدب 4/ 429 للبغدادي معاني القرآن للفراء 1/ 231 والبيت للمعتب العبدي. (¬6) سورة التوبة آية (37).

كان أهل الجاهلية يحلون (¬1) صفرين قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه هذا منه إِشارة إلى أن النسيء الذي أحدثه في الجاهلية حذيفة بن عبيد الكناني المقلب بالقلمس (¬2) كانوا إذا عرض لهم قتال وفجأهم العدو في الشهر الحرام اسِتحلوه وعوضوا منه شهرًا حلالاً فاستحرموه وسموه النسيء مأخوذ من النسأ وهو التأخير ولم يزالوا يفعلون ذلك حتى قلبوا الشهور واختلطت الأعوام ولم يزل الأمر كذلك مرتبكًا والحج مفسوداً حتى اختار الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - سنة عشر والحساب قد إطرد في نظامه والحق قد عاد في نصابه فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - حاجاً فلما قضى نفثه ووفى نذره قال معلماً للخلق: (إن الزمان قد استداركهيئته يوم خلق السموات والأرض) (¬3) الحديث. قوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} (¬4) قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول في قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} هو أبو بكر وكان يرفع من أبى بكر بذلك (¬5) جداً. قال القاضي رضي الله عنه إِنما كان مالك رضي الله عنه يجد في ترفيع أبي بكر بهذه الآية أما فيها من الإشارة بذكره والتنويه بقدره من وجوه كثيرة أمهاتها ستة: الأول: أنّ الله تعالى نزل فيه أبا بكر منزلة جميع المؤمنين بل الخلق أجمعين فقال عز وجل: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} على وجه كذا معناه بصاحبه. الثاني قوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ ... إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} فقدم أبا بكر وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثانيه. الثالث قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} فخططه بهذه الخطة التي هي أشرف الخطط ¬

_ (¬1) في ج صفرا. (¬2) سمي القلمس لجوده إذ القلمس من أسماء البحر قال ابن اسحاق كان أول من نسأ الشهورعلى العرب فأحلت منها ما أحل وحرمت منها ما حرم القلمس وهو حذيقة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة ثم قام بعده على ذلك ابنه. سيرة ابن هشام 1/ 44. تفسير ابن كثير 3/ 358. (¬3) متفق عليه البخاري في التفسير باب قول الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} 6/ 83 ومسلم في القسامة رقم (1679) من حديث أبي بكرة. (¬4) سورة التوبة آية (40). (¬5) قال الشارح في الأحكام (950) روى أصبغ وأبو زيد عن مالك {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} هو أبو بكر الصديق قال فرأيت مالكاً يرفع بأبي بكر جداً لهذه الآية .. ثم عقب فقال فحق أن يرفع مالك أبا بكر بهذه الآية.

وأفضل الأسماء. الرابع قوله {لَا تَحْزَنْ} فثبته بتثبيته وسلاه بتسليته. الخامس قوله {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فهذه مرتبة لم تكن قط لأحد من الخلق بعد الأنبياء قال موسى {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (¬1) وقال محمَّد لأبي بكر {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} قال لنا الشيخ الأجل المعدل أبو الفضائل ابن طوق قال لنا الأستاذ جمال الإِسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن (¬2) القشيري قال موسى حين بغته أمر فرعون {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} فخص نفسه بالمعية التي من مَعظم فوائدها الهداية دون أصحابه لما علم الله عز وجل من تبديلهم وتحريفهم وعبادتهم العجل وقال محمَّد في نفسه وصاحبه {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} لما علم الله عَزَّ وَجَلَّ من تثبيت أبي بكر وهدايته وفضله وجلالته وأعظم من ذلك وأمثله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وقد فاجأهما المشركون فقال أبو بكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - "لوأن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا" فقال له - صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا بكر وما ظنك باثنين الله ثالثهما) (¬3). السادس قوله: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ} (¬4) وكل من تنزل عليه السكينه غشيته الرحمة وثبتت له العصمة. قوله: {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (¬5) قال ابن القاسم وسمعت مالكاً يقول "ابن آدم إعمل وأغلق عليك سبعين باباً يخرج الله عملك إِلى الناس" (¬6). قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه هذا مذكور في الحديث في قوله: (من أسر هريرة ألبسه الله رداءها إن خيراً فخير) الحديث. وهذا أمر شائع في الشرائع مشهور في الملل حتى قال حكيم الجاهلية: ¬

_ (¬1) سورة الشعراء آية (62). (¬2) هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمَّد النيسابوري القشيري الشافعي أبو القاسم زين الإِسلام صوفي مفسر فقيه أصولي محدث متكلم واعظ أديب ولد سنة (376) ومات سنة (465 هـ) سير النبلاء 11/ 198 - 200 معجم المؤلفين 6/ 6. (¬3) رواه الترمذي 5/ 278 من حديث أنس وقال حسن صحيح غريب أنما يعرف من حديث همام تفرد به ورواه ابن جرير في تفسيره 14/ 259 وأحمد في المسند 1/ 13 وابن سعد 3/ 1/ 123والحديث صحح إسناده الشيخ أحمد شاكر. (¬4) سورة التوبة آية (40). (¬5) سورة التوبة آية (94). (¬6) لم أطلع عليه.

سورة يونس

ومهما تكن عند امرىء من خليقة ... ولو خالها تخفى على الناس تعلم (¬1) وينتهي الحال في ذلك إلى أن يشهد بذلك جميع الخلق فيقضي الله عَزَّ وَجَلَّ في ذلك بالحق ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أنه مر عليه بجنازة فأثنوا عليها شراً فقال وجبت ومر عليه بأخرى فأثنوا عليها خيراً فقال وجبت فقالوا لم يا رسول الله ما وجبت قال أثنيتم على الأولى شراً فوجبت له النار وأثنيتم على الأخرى خيراً فوجبت الجنة) (¬2). سورة يونس: قوله: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} (¬3) قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول هو هذا السلام الذي يتقابلون به. قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه في هذه الآية قولان أحدهما أن المراد به الزيارة يزور الخلق ربهم في حديث طويل. والقول الثاني أن المراد به القول سلام ثم يعود إلى قوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} وقوله: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (¬4) (¬5) أو سلام الجبار على أهل الجنة كما ورد في الآثار فرجح مالك رحمه الله أن المراد به قول السلام لوجهين: أحدهما إنه ظاهر الكلام ولا يعدل عن الظاهر إلَّا لضرورة. والثاني أن له نظيراً في القرآن على ما استشهدنا به وأما من الزيارة فضعيف من وجهين: أحدهما أنه مجاز ولا يعول عليه إلَّا بدليل. ¬

_ (¬1) البيت للشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى من معلقته المشهورة انظر جمهرة أشعار العرب ص 110 والشاعر له ترجمة في الأعلام 3/ 87 معجم المؤلفين 4/ 186 الشعر والشعراء ص 23 مناهل التنصيص 1/ 327. (¬2) متفق عليه البخاري في الشهادات باب التعديل كم يجوز 3/ 221 ومسلم في الجنائز (949) عن أنس. (¬3) سورة يونس آية (10). (¬4) سورة الرعد آية (24). (¬5) قال القرطبي تحيتهم أي تحية بعضهم لبعض سلام أي سلامة لنا ولكم من عذاب الله وقيل هذه التحية من الله تعالى المعنى فيسلمهم من الآفات أو يبشرهم بالأمن من المخلوقات (يوم يلقونه) أي يوم القيامة بعد دخول الجنة قال معناه الزجاج واستشهد بقوله جل وعز {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} وقيل يوم يلقونه أي يلقون ملك الموت وقد ورد إنه لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه وروي عن البراء بن عازب قال {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} فيسلم ملك الموت على المؤمن عند قبض روحه لا يقبض روحه حتى يسلم عليه. القرطبي 14/ 199.

سورة هود

والثاني أن سلام الجبار لم يصح سندًا وإن كان صحيحاً معتقداً. قوله عز وجل: {لَهُمُ الْبُشْرَى} (¬1) قال ابن القاسم وجويرية سمعنا مالكاً يقول هي الرؤيا الصالحة وقال عنه المخزومي هي البشارة عند الموت وكلا القولين صحيح لأن أحدهما مذكور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرؤيا الصالحة (¬2). وأما الثاني فإن نفساً أن تموت حتى تبشر بالجنة نسأل إليه الجنة وما قرب إليها من قول وعمل أو بالنار وإذا احتمل القول هذا كله صح حمله عليه. سورة هود: قوله: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} (¬3) قال ابن وهب سمعت مالكاً يقول كانوا يكسرون الدنانير والدراهم فيعاقب من كسر الدنانير والدراهم (¬4) قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه الإذاية على قسمين خاصة وهي أخفها وإذاية عامة وهي أغلظها وأعظم الإذاية ما يعم الناس ولذلك كان سعيد بن المسيب يقول قطع الدنانير" والدراهم من الفساد في الأزض (¬5) فإن فيها إذاية للناس في أموالهم وسرقة لها من جميعهم فإن قيل فإذا قرضها الإنسان لنفسه هل يأثم أم لا قلنا إن قرضها ليصرفها إلى منفعة أخرى جاز وإن قرضها ليروجها على الخلق هلك. وروى عنه (¬6) أصبغ إنه من فعل هذا لا تقبل شهادته (¬7). ¬

_ (¬1) سورة يونس آية (64). (¬2) البخاري في التعبير باب المبشرات 9/ 40 من حديث أبي هريرة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات قال الرؤيا الصالحة). (¬3) سورة هو (87). (¬4) عزاه له في الأحكام أيضًا ض 1063 وكذلك القرطبي في تفسيره 9/ 88 وقال وكذلك قال جماعة من المفسرين المتقدمين كسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وغيرهما. (¬5) عزاه السيوطي لعبد الرزاق وابن سعد وابن المنذر وأبي الشيخ وعبد بن حميد عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال (قطع الدراهم والدنانير المثاقيل التي قد راجت بين الناس وعرفوها من الفساد في الأرض) الدر المنثور 4/ 467. (¬6) كذا في جميع النسخ عنه ولعلها روى عن أصبغ لما يأتي. (¬7) قال الشارح في الأحكام (1064) قال أصبغ قال عبد الرحمن بن القاسم بن خالد ابن جنادة مولى زيد بن الحارث (من كسرها لم تقبل شهادته وإن اعتذر بالجهالة لم يعذر وليس هذا بموضع عذر). قال ابن العربي أما قوله لم تقبل شهادته فلأنه أتى بكبيرة والكبائر تسقط العدالة دون الصغائر.

سورة يوسف

قوله عز وجل: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (¬1) قال المخزومي سمعت مالكاً يقول في قوله {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} قال الرحمة وقال قوم الاختلاف (¬2) قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه هذه الآية من المشكلات وقد بالغنا القول فيها بحمد الله في كتاب المشكلين على أوفى قضية في البيان على وجه يعم جميع الطوائف مهمتكم في هذا الاستعجال منه أن قول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} دليل قاطع على أن المشيئة تتعلق بكل موجود ومحدث وأيضاً فإن قوله {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} دليل على أنه القسم الثاني الذي عينته المشيئة فكلاهما جائز عينت القدرة والمشيئة أحدهما إذ تعلقا به ثم أخبر تعالى أن هنالك (¬3) موجوداً لا يتطرق إليه اختلاف ولا ينزل بساحته مكروه فثبت هذا كله قطعاً ثم قال بعد ذلك كله {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} فقال قوم أراد الاختلاف وقال آخرون أراد للرحمة وقال قوم أراد لهما. ومن عين الرحمة من أحدهما كان أسعد ممن عين الاختلاف لأجل أن الرحمة أشرف وهي الفائدة التي تمدح الله بها وإن عدلت على الإطلاق قلت قضي عليهم بالاختلاف ويسر لهم الرحمة فجرى كل حكم على فريقه ويطرد التوحيد في تحقيقه (¬4). سورة يوسف: قوله {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} (¬5) قال المخزومي سمعت مالكاً يقول كان يعظم بعضهم بعضاً بالسجود (¬6). قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه أراد مالك ما قاله جميع العلماء من أن هذا كان سلام من تقدم ثم نسخ الله ذلك بالإِسلام فجعل السلام قولاً لا فعلاً وعين له ما عين على ما شاء في كتب الفقه. ¬

_ = وأما قوله لا يقبل عذره بالجهالة في هذا فلأنه أمر بيِّن لا يخفى على أحد وإنما يقبل العذر إذا. ظهر الصدق فيه أو خفي وجه الصدق فيه. الاحكام (1064). (¬1) سورة هود آية (119). (¬2) ذكر هذا العزو في الأحكام (1072) وكذا ذكره القرطبى 9/ 115. (¬3) في ك وم مرحوم. (¬4) انظر تفاصيل نسبه الأقوال إلى أصحابها في الأحكام (1070) وفي القرطبي 9/ 115. (¬5) سورة يوسف آية (100). (¬6) قال القرطبي اجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان فإنما كان تحية لا عبادة قال قتادة هذه كانت تحية الملوك عندهم وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة تفسير القرطبي 9/ 265.

سورة الرعد

سورة الرعد: قوله: {إنّما أنت منذر} (¬1) قال المخزومي سمعت مالكاً يقول {ولكل قوم هاد} يعني داعياً يدعوهم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ (¬2) قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه قال قوم لكل قوم داع من الأنبياء يدعوهم وقال آخرون لكل قوم داع من العلماء يدعوهم وأقول أنا لكل قوم داع من المؤمنين يدعوهم وهذا إشارة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا عام في جميع المؤمنين على ما بيناه في موضعه وأشرف الدعاة والهداة الأنبياء وتترتب بعدهم المنازل. قوله عز وجل: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (¬3) قال ابن وهب سمعت مالكاً يقول هو عبد الله بن سلام قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه: المراد به عبد الله بن سلام وغيره ممن بشر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنذر به وأقر في التوراة بصفته. سورة إبراهيم: قوله عز وجل: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} (¬4) قال ابن وهب سمعت مالكاً يقول يريد بلاءه الحسن (¬5) وأياديه عندهم قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه هذا التفسير يستمد من بحر النعم وقد اختلف الناس في عموم نعم الله تعالى على الخلق وخصوصها لبعضهم وهي مسألة مشكلة قد بيناها في كتب الأصول فأما عموم التسمية في كل ما أتى الله الخلق وأنه ينطلق عليه نعمة فلا إشكال فيه لأن الله عَزَّ وَجَلَّ قال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} (¬6) الآية إلى قوله {محظوراً} فأخبر عَزَّ وَجَلَّ أن كلًا أمره الله تعالى وأتاه من نعمه على اختلاف حاله من كفر أو إيمان وأما كون معنى النعمة فيما أطلق عليه اسم النعمة فيفتقر إلى تدقيق لا يمكن ذكره بالاختصار فليطلب في كتب الأصول وأقله المتوسط. ¬

_ (¬1) سورة الرعد آية (7). (¬2) ذكره ابن كثير في تفسيره انظر مختصر ابن كثير 2/ 271. (¬3) سورة الرعد آية (43). (¬4) سورة إبراهيم آية (5). (¬5) ذكره أيضًا القرطبي في تفسيره 9/ 342. (¬6) سورة الاسراء آية (18).

سورة الحجر

سورة الحجر: قوله عز وجل: {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} (¬1) قال المخزومي سمعت مالكاً يقول في تفسيره معلوم قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه معنى تفسير مالك الموزون بالمعلوم أن الله تعالى جعل الوزن طريقاً إلى معرفة الخلق لجميع الأشياء ومنه حبشي وهو الشاهق (¬2) والقبان (¬3) والقاسطون (¬4) ومنه معنوي وهو تركيب المجهول من المعقولات على المعلوم إما بكفة العلة والحقيقة والشرط والدليل وأما بالسبر والتقسيم وهو على قسمين إما أن يدور بين النفي والاثبات فلا خلاف فيه وإما في الوجود والتعيين (¬5) فاختلف فيه. فمذهب الشيخ أبي الحسن والقاضي وسائر شيوخنا (¬6) المشهورين أنه دليل قطعي وأشار الجويني ومن داناه من المتأخرين إلى أنه ليس بدليل في المعلومات وإنما يكون حجة في المظنونات وهي الفقهيات والصحيح عندي ما اختاره الشيخ أبو الحسن والقاضي والدليل على صحة ذلك ما نطق به القرآن ضمنًا وتصريحاً في مواضع كثيرة فمن الضمن قوله عز وجل: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} (¬7) إلى قوله {حَكِيمٌ عَلِيمٌ} ومن التصريح قوله عز وجل: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} (¬8) إلى قوله {الظالمين}. قوله عز وجل: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (¬9) قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول وقاله أيضاً أشهب عنه سمعنا مالكاً يقول لقاح القمح عندي أن يسنبل ولقاح الشجر أن يثمر ويسقط ما يسقط ويثبت منه ما يثبت وليس ذلك بأن تورد الشجر وذكر عبد الله بن عبد الحكم عنه مثله (¬10). ¬

_ (¬1) سورة الحجر آية (19). (¬2) وفي ج الشاهق وفي بقية النسخ (الشاهين) وهي الأصح. (¬3) القبان آلة يوزن بها كانت تستعمل في رحبات الزرع والقطاني. معلمة الفقه المالكي ص 285. (¬4) كذا في جميع النسخ القاسطون ولعله القسط وهو إناء قال ابن الأثير القسط نصف الصاع وأصله من القِسْط النصيب والمراد به ها هنا الإناء الذي توضئ فيه المرأة زوجها. النهاية 4/ 60. (¬5) في ج المعين. (¬6) في ج وم أصحابنا. (¬7) سورة الأنعام آية (139). (¬8) سورة الأنعام آية (143). (¬9) سورة الحجر آية (22). (¬10) قال في الأحكام (1126) روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم عن مالك واللفظ لأشهب قال

سورة النحل

قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه هذه الإشإرات كلها إنما هي مغلقة من اختلاف العلماء وخصوصاً أهل العراق في وقت بيع الثمرة في الشجر وفي وقت بيع الحب في سنبله وليس في الآية متعلق لشيء منه وإنما هي والله أعلم مسوقة لبيان السبب الذي يخلق الله عَزَّ وَجَلَّ عنده الثمار والحبوب وهو الريح إذا اتصل بالخامة أو الشجرة كما يخلق الحرق عند اتصال النار بالجسم والشبع والري عند اتصال الخبز والماء بالمعدة وقد روينا عن ابن عباس أنه قال الرياح أربعة منشأة وهي التي يخلق الله عندها الماء في السحاب وريح فامة وهي التي تمسح وجه الأرض فتفت فتاً وريح ملقحة وهي التي يخلق الله عندها الماء من السحاب فإن لم يكن عندها ذلك فهي العقيم وريح فاتقة وهي التي يرسلها الله فتفتق السحاب وتعصر منها الماء فقوله عز وجل: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} إخبار عن بعض وجوهها وفي القرآن يقيتها (¬1). سورة النحل: قوله: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (¬2): قال المخزومي سمعت مالكاً يقول في قوله: {وَعَلَامَاتٍ} قال يقولون بالنجوم وهي الجبال قال القاضي أبو بكر بن العربي اختلف الناس في قوله تعالى {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} فقيل أراد بقوله {وَعَلَامَاتٍ} الجبال منهم ابن عباس (¬3) وقال آخرون أراد بذلك النجوم الثمانية (¬4) وهي الجدي والفرقدان يهتدى بها في الفيافي التي لا أعلام فيها وفي البحار عند دخول الليل ¬

_ مالك قال الله تعالى {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ولا أدرى ما ييبس من أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس حينئذ لم يكن فسادا لا خير فيه ولقاح الشجر كلها أن يثمر الشجر ويسقط منه ما يسقط ويثبت ما يثبت وليس ذلك بأن تورد الشجر. وذكر القرطبي قول مالك السابق وتفسير ابن العربي له تفسير القرطبي 10/ 16. (¬1) هذا الأثر عزاه ابن كثير لعبيد بن عمير الليثي قال يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قمًا ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر ثم تلا {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} مختصر ابن كثير 2/ 310 الدر المنثور 5/ 73 القرطبى 10/ 16 فتح القدير 3/ 128. (¬2) سورة النحل آية (16). (¬3) رواه ابن جرير 14/ 63 ط دار المعرفة والسيوطي في الدر المنثور 5/ 118 والقرطبي 10/ 91 وابن كثير انظر مختصر الصابوني 2/ 326 وفتح القدير 3/ 155. (¬4) في ج وك الثابتة.

على (¬1) راكبها وقال آخرون في قوله المراد بالنجم الثريا (¬2) وقد كان اطلع مالك على ذلك كله ولكنه اختار قول ابن عباس في أن معناه الجبال لأنه مساق الآية. قال جل ذكره: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} (¬3) وعلامات فعطفها على الفجاج ثم استأنف (¬4) فقال {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} المعنى حيث يفتقر إلى ذلك فيها. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: "خلق الله تعالى النجوم لثلاث للزينة والرجم (¬5) وللاهتداء من يزعم أن فيها معنى سواها فقد أعظم الفرية على الله" (¬6). قوله: {بنين وحفدة} (¬7) قال ابن وهب سمعت مالكاً يقول في قوله: {بنين وحفدة} يعني الأعوان والخدم (¬8) ....................................... ¬

_ (¬1) هذا قول قتادة فقد قال إنما خلق الله هذه النجوم لثلاث خصلات جعلها زينة للسماء وجعلها يهتدى بها وجعلها رجومًا للشياطين فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد رأيه وأخطأ حظه وأضاع نصيبه وتكلف مالا علم له به ابن جرير 14/ 63. (¬2) هذا قول مجاهد. قال منها ما يكون علامة ومنها ما يهتدى به. ابن جرير 14/ 63 وانظر الاحكام للشارح (1148) قال الشارح في الاحكام قوله وبالنجم فيه ثلاثة أقول: الأول أن الألف واللام للجنس والمراد به جمع النجوم ولا يهتدي بها إلّا العارف الثاني أن المراد به الثريا الثالث أن المرد به الجدي والفرقدان أما جميع النجم فلا يهتدي بها إلّا العارف بمطالعها ومغاربها والمفرق بين الجنوبي والشمالي منها وذلك قيل فهي الآخرين. وأما الثريا فلا يهتدي بها إلَّا من يهتدي بجميع النجوم وإنما الهدي لكل أحد بالجدي والفرقدين لأنهما من النجوم المنحصرة المطلع الظامرة السمت الثابتة في المكان فإنها تدور على القطب الثابت دورانًا محصلا فهي أبداً هدي الخلق في البر إذا عميت الطرق وفي البحر عند مجرى السفن وعلى القبلة إذا جهل السمت وذلك على الجملة بأن تجعل القطب على ظهر منكبك الأيسر فما استقبلت فهو سمت الجهة وتحديدها في الابصار أنك إذا نظرت الشمس في اليوم الرابع والعشرين من كانون الأول طالعة فاجعل بين وجهك وبينها في التقدير ذراعًا وتكون مستقبلاً للكعبة على التقريب سالكاً إلى التحقيق. (¬3) سورة الأنبياء الآية (31). (¬4) في ج استأنف الكلام. (¬5) في ت وج وك الرجوم. (¬6) لم أطلع عليه إلَّا من قول قتادة. (¬7) سورة النحل آية (72). (¬8) هنا ذكر القول عن ابن وهب إنه سمع مالكاً يقول .. وفي الأحكام (1162) قال وقد روى ابن القاسم عن مالك قال سألته عن قول الله {بنين وحفدة} ما الحفدة قال الخدم والأعوان في رأي وكذا نقل القرطبي 10/ 143 عن ابن القاسم فلا أدري في النقلين أولى بالصواب.

سورة سبحان

.. قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه وقال آخرون هم بنو البنين (¬1) وقالت طائفةً أخرى هم البنات (¬2) والذي قاله مالك أصح لأن ح ف د (¬3) في لغة العرب موضوعة للخدمة والتحفي بالأمور (¬4). وفي الحديث في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه محفود محسود (¬5). سورة سبحان: قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (¬6) قال أشهب سمعت مالكاً يقول لا تقل لهما أف وإن أخذا ماله وأعنتاه (¬7) وسمعته مرة أخرى يقول لا تشدد النظر إليهما قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه هذه الآية أصل في بر الوالدين وقرن الله عَزَّ وَجَلَّ حقهما بحقه فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} (¬8) وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الكبائر فقال: (الاشراك بالله وعقوق ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس الدر 5/ 148 مختصر ابن كثير 2/ 339. (¬2) ذكره الشوكاني في فتح القدير 3/ 178 بلفظ قيل البنات الخادمات لأبيهن. (¬3) حفد يحفد حفدًا وحفدانًا خف في العمل وأسرع كاحتفد وخدم والحفد محركة الخدم والأعوان جمع حافد ومشى دون الخبب كالحفدان والأحفاد وحفدة الرجل بناته أو أولاد أولاده كالحفيد أو الأصهار. ترتيب القاموس 1/ 669. (¬4) في ج في الأمور. (¬5) رواه الحاكم في المستدرك 3/ 9، 10 من طريق هشام بن حبش صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتيل البطحاء يوم الفتح عن أبيه عن جده حبيش بن خالد وهو أخو عاتكة بنت خويلد وكنيتها أم معبد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج من مكة خرج مهاجرًا إلى المدينة هو وأبو بكر ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله ابن الاويقط الليثي مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية ... ولما قدم زوجها أبو معبد وصفته له فقالت رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة أبلج الوجه لم تعبه نحلة ولم تُزر به صُقلة وسيم قسيم في عينيه دَعج وفي أشفاره وطف وفي صوته صهل وفي عنقه وفي لحيته كثاثة .. محقود محشود لا عابس ولا مفند. ورواه البغوي في شرح السنة 13/ 261 والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي مع أن فيه هشام بن حبيش لم يذكر بجرح ولا تعديل وذكره الهيثمي في المجمع 6/ 55 - 58 وقال روده الطبراني وفي إسناده جماعة لم أعرفهم وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى 1/ 467 وذكر له ابن كثير طريقين آخرين في البداية والنهاية 3/ 192 - 194 وقال قصة أم معبد مشهورة مروية. من طرق يشد بعضها بعضاً. (¬6) سورة الاسراء آية (23). (¬7) عنته تعنيتًا شدد عليه وألزمه ما يصعب عليه أداؤه. ترتيب القاموس 3/ 320. (¬8) سورة لقمان آية (14).

الوالدين) (¬1) فبين الله عَزَّ وَجَلَّ في هذه الآية كيفية البر بتحديد الأقل من المعصية فيهما وهو التأفف كراهية لهما أو لما يصدر عنهما من قول أو فعل ونزل مالك بفضل علمه الفعل منزلة القول فقال لا تشدد النظر إليهما لأن تشديد النظر تأفيف أو أكثر منه وهذه الآية من أصول القرآن في علم الأصول والأحكام وقد ذكرنا كلاً في موضعه. قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} (¬2) قال ابن وهب سمعت مالكاً يقول هي الحجر والعصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطور (¬3) وقال ابن القاسم سمعت مالكاً فذكر نحوه وأسقط الطوفان والطور وذكر البحر والجبل (¬4). قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه روى صفوان بن عسال المرادي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه إذهب بنا إلى هذا النبي نسأله قال لا تقل نبي فإنه إن سمعك تقول له نبي كانت له أربعة أعين فأتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عن قول الله تعالى {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات} فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تشركوا بالله شيئًا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلَّا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان فيقتله ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف وعليكم أيها اليهود خاصة ألا تعدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد أنك نبي قال فما يمنعكما أن تسلما قالا إن نبي الله داود دعا ألا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف أن تقتلنا اليهود) قال أبو عيسى الترمذي هذا حديث حسن (¬5) (¬6) وفيه تفسير الآيات بهذه التكليفات والمنهيات وفسرها مالك رحمه الله بما تقدم من المعجزات وكلاهما آية للنبي - صلى الله عليه وسلم - (¬7) إلَّا أن أحدهما علم بالقرآن في ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب عقوق الوالدين من الكبائر 8/ 4 ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان الكبائر وأكبرها 1/ 91 من حديث أبي بكرة عن أبيه. (¬2) سورة الإسراء آية (101). (¬3) قال في العارضة 11/ 301 روى ابن وهب عن مالك قال التسع الآيات التي أوتي موسى فذكرها كما ذكرها هنا وكذا ذكر في الأحكام (1225) وكذلك القرطبي 10/ 336. (¬4) انظر العارضة 11/ 301. (¬5) وراه الترمذي 5/ 306 وقال حسن صحيح. (¬6) في ج وك صحيح. (¬7) ذكر الشارح في الأحكام خمسة أقوال. الأحكام (1225) وقال في العارضة لو بلغ مالكاً هذا الحديث (أي الحديث السابق) لما فسره ولكن تفسيره صحيح على وجهه جائز في تأويل القرآن على صحته قد اجتمع من الروايتين إحدى عشرة آية ولم يذكر فيها إلا ما جاء في القرآن. العارضة 11/ 302.

سورة الكهف

قوله: {آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ} (¬1) والآخر علم بالسنة من حديث صفوان بن عسال وغيره فلعل مالكاً لم يبلغه حديث صفوان أو لعله بلغه وأخذ بظاهر القرآن. قوله عز وجل: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} (¬2) قال أشهب سمعت مالكاً يقول على تفهم (¬3) قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه قال جماعة معنى قوله {على مكث} لا يأتيهم في دفعة واحدة ولكن يأتي شيئاً بعد شيء في زمان طويل ليكون ذلك أنس لهم وأثبت في قلوبهم وليس يأبى مالك هذا فإن الاشتقاق يعطيه والحال يشهد له وإنما أراد مالك أن يبين المكث الأولى والمقصود الأعلى وهو الفهم والعلم به الذي أخذ على الخلق ذلك (¬4) منه فيه ولهذا مكث ابن عمر في سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها (¬5) ولذلك كانت القراءة المرتلة أفضل من القراءة المحررة (¬6). سورة الكهف: قوله عز وجل: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} (¬7) الآية قال أشهب (¬8) سمعت مالكاً يقول جنة الرجل منزله قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه لم يخف على مالك رحمه الله أن المراد بقوله تعالى: "إن" (¬9) الجنة الحديقة حسب ما هو نص القرآن وإنما أراد مالك أن من لم تكن معه حديقة فداره جنة يدل على ذلك اللفظ والمعنى. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف آية (133). (¬2) سورة الإسراء (106). (¬3) قال القرطبي قال مالك على مكث على تثبيت ومُرسل. القرطبي 10/ 340. (¬4) في ج في ذلك بينة. (¬5) الموطأ 1/ 205 بلاغًا وهذا البلاغ ذكر الزرقاني إنه أخرجه ابن سعد في الطبقات عن عبد الله بن جعفر عن أبي المليح عن ميمون أن ابن عمر تعلم البقرة في ثمان سنين وأخرجه الخطيب في رواة مالك عن ابن عمر قال تعلم ابن عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزوراً. شرح الزرقاني 2/ 19وزاد السيوطي نسبته إلى البيهقي في الشعب الدر المنثور 1/ 54. (¬6) في ك المجزأة. (¬7) سورة الكهف آية (39). (¬8) ذكره في الأحكام فقال جنتك أي منزلك .. ثم قال قال أشهب قال مالك ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا وقال ابن وهب قال حفص بن ميسرة رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبًا (ما شاء الله لا قوة إلا بالله) الأحكام (1239) وانظر القرطبي 10/ 106. (¬9) ليست في بقية النسخ.

سورة قد أفلح

أما اللفظ فإن الدار جنة فإنها تجني كما تجني الحديقة وأما المعنى فلأن المرء تقر بها عينه وتسكن إليها نفسه كما تسكن بالجنة فبين مالك على أن داخل الدار ينبغي (¬1) له أن يقول في داره ما شاء الله لا قوة إلَّا بالله كما يقولها ذو الجنة في جنته. سورة قد أفلح: قوله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} (¬2). قال أشهب عن مالك قلت له يا أبا عبد الله أهو ماء الخريف قال بل هو في الخريف والشتاء وكل شيء وهو على إذهابه قادر (¬3) قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه اختلف الناس في تأويل هذه الآية على أربعة أقوال: أحدها أن المراد به ماء العيون والآبار. الثاني أن المراد به الماء الذي في أثناء الأرض وجوفها حيث حفرتها أخرجته منها. الثالث أنه مياه الأنهار الخمسة سيحون نهر الهند وجيحون نهر بلخ والفرات ودجلة نهران بالعراق والنيل نهر مصر (¬4). الرابع قيل إن مياه الأرض كلها تخرج من تحت صخرة بيت المقدس وهي من عجائب الله في أرضه فإنها صخرة تسعى في وسط المسجد الأقصى مثل الضرب قد انقطعت عن كل جهة لا يمسكها إلَّا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلَّا بإذنه في أعلاها من بهة الجوف قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ركب البراق وقد مالت من تلك الجهة لهيبته ومن الجهة الأخرى أثر أصابع الملائكة التي أمسكتها إذ مالت به ومن تحتها الغار الذي انفصلت منه من كل جهة وعليه باب يفتح للناس للصلاة والاعتكاف والدعاء تهيبتها مرة أن أدخل ¬

_ (¬1) في ك يتعين. (¬2) سورة المؤمنون آية (18). (¬3) ذكر هذا الكلام في الأحكام ص 1312. (¬4) قال السيوطي أخرج ابن مردويه والخطيب بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على نجاحي جبريل فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعلها منافع للناس في أصناف معاشهم فذلك قوله {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا}).

تحتها لأني كنت أقول أخاف أن تسقط علي بالذنوب ثم رأيت الظلمة والمتجاهرين بالمعاصي يدخلونها ثم يخرجون عنها سالمين فهممت بدخولها ثم قلت ولعلهم أمهلوا وأعاجل فتوقفت مرة ثم عزم علي فدخلت فرأيت العجب العجاب نمشي في حواشيها من كل جهة فنراها منفصلة عن الأرض لا يتصل بها من الأرض شيء وبعض الجهات أبعد انفصالًا من بعض. وقول مالك رضي الله عنه في هذه الآية بديع لأنه جمع فيه بين الحقيقة والمجاز قال مالك "كل ما هو منزل من السماء بقوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} ثم قال وكل شيء بقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} ". قوله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} (¬1) قال أشهب سمعت مالكاً يقول هي دمشق (¬2) قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه اختلف الناقلون لكلام أهل الكتاب في شأن مريم وقد اتفقوا على أنها وضعت عيسى ببيت المقدس وقالوا إنها خرجت إلى العريش مغربة إلى جهة مصر وقالت طائفة إنها خرجت مشرقة إلى دمشق وهو الصحيح الذي نقل بالتواتر فأما وضعه فكان ببيت المقدس قطعاً منقولاً بالتواتر وحين وضعته وجعلته في مهده وهو فراشه الذي أنامته عليه ساخ الحجر بجلالة قدره فتراه متشكلاً وموضعه الركن الشرقي القبلي من المسجد الأقصى فلما خرجت به تقية على نفسها أو استحياء من حالها كان من أمرها ما قص الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه قال: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} فآوت إلى هذه الربوة وهي في سفح الغراب جبل دمشق الآخذ من أطراف الشام سائراً كذلك إلى بلاد الروم إلى خراسان وهو وأحد جبال الأرض في أعلاه رابطة على دم ولد آدم وقد تشكل في الحجر كأنه قد ذبح هنالك كبش فجرى فيه فما أثرت فيه الليالي والأيام وقد بُني في المأوى بأعلى الربوة مسجد فيه يتعبد الخلق دخلنا فيه مرارًا ودعونا الله فيها سرًا وجهارًا وإنما قال مالك لأشهب إنها دمشق رداً على من يقول إن مريم خرجت مغربة إلى العريش وليس في العريش ربوة ولا مأوى ولا معين (¬3). ¬

_ (¬1) سورة المؤمنون آية (50). (¬2) ذكر في الاحكام إنه قول ابن المسيب ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك ص 1314وعزاه السيوطي لعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني، الدر المنثهور 6/ 101. (¬3) هذا القول عزاه في الأحكام لشريد بن أسلم الأحكام (1315) وقال السيوطي أخرج ابن عساكر عن زيد بن أسلم قال {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} هي الاسكندرية الدر المنثور 6/ 100 وانظر تفسير الثوري ص (216) والطبري 18/ 18 وعبد الرزاق في التفسير (62 ب).

سورة النور

سورة النور: قوله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} (¬1) قال المصريون سمعنا مالكاً يقول هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر (¬2) وهي نص في خلافة الخلفاء الأربعة وقد مهدناها في كتب الأصول. سورة الظلة: قوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (¬3). قال أشهب سألنا مالكاً عن قوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} قال لا بأس أن يحب الرجل الثناء الحسن إذا خلصت فيه النية (¬4). قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه صدق مالك مدار كل نية وعمل على الإخلاص وقد ورد في الحديث (أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله إني أتصدق في السر فإذا ظهر وتحدث به الناس أعجبني فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لك أجران أجر السر وأجر العلانية) والباب ظاهر فيه واسع في فروعه. سورة النمل: قوله عز وجل: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} (¬5) قال ابن وهب سمعت مالكاً يقول خرج سليمان إلى اصطخر فمر على قصر أراه بناحية العراق فإذا على القصر مكتوب: خرجنا من قرى اصطخر (¬6) إلى القصر فقلناه ... فمن سأل عن القصر فمبنيًا وجدناه فإذا على القصر نسر فدعاه سليمان فقال له كم لك بهذا القصر فقال تسعمائة عام وهكذا وجدته قال مالك فذلك قوله عز وجل: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} (¬7) قال القاضي ابن ¬

_ (¬1) سورة النور آية (55). (¬2) ذكر ذلك أيضًا في الأحكام (1392) وكذلك القرطبي في تفسيره 2/ 297. (¬3) سورة الشعراء آية (84). (¬4) ذكر ذلك الشارح في الأحكام (1436) والقرطبي في تفسيره 13/ 113. (¬5) سورة النمل آية (16). (¬6) اصطخر مدينة من أقدم مدن فارس وبها كان يسكن ملك فارس .. وفي بعض الأخبار أن سليمان ابن داود عليه السلام كان يسير إليها من غدوة إلى عشية. معجم البلدان 1/ 211. (¬7) ذكر هذا الكلام في الأحكام ص (1449).

العربي رضي الله عنه إن الله عَزَّ وَجَلَّ أخبر أن للطير منطقًا ونحوًا من الكلام تتفاهم به لعلمها بهجائه وتأليفه وفي ذلك كانت المعجزة لسليمان وظن بعض الجهلة أن الله عَزَّ وَجَلَّ خلق للطير منطقاً لسليمان والقدرة الإلهية صالحة للوجهين وظاهر القرآن يعضد الأول من القولين وإذ قد نهج لنا مالك في الذكر لسليمان وأحاديثه مع الطير فقد أخبرنا بقوله ببغداد القاضي الأجل أبو المطهر سعد بن الله الأبهري (¬1) بنادرة قال لنا الشيخ الحافظ أبو نعيم (¬2) الأصبهاني قال لنا جعفر بن الخلدي (¬3) البصري حدثنا أحمد بن مسروق (¬4) حدثنا إسحاق بن إسرائيل (¬5) نا سليم بن (¬6) أخضر عن ابن عون (¬7) قال بينما سليمان بن داود قاعداً في مجلسه إذ نظر إلى بلبل يراود بلبلة عن نفسها فامتنعت عليه فقال لها تمنعي نفسك وأنت لو كلفتني أن أحمل سرير سليمان على فرد جناحي لفعلت فاستضحك سليمان فدعا به فقال له قد سمعت ما قلت فهل تطيق ذلك؟ قال: يا نبي الله أن المحب إذا أحب حبيبه فامتنع عليه بذل له من نفسه فوق طاقته. وهذا شيء ربما كان في شريعتنا إشارة منه بأن يعد الرجل زوجته بما لا يفعل أو يخبرها بما لم يكن استجلاباً لمودتها لا على وجه صريح الكذب ولكن بالمعارِيض حسب ما بيناه في شرح الحديث. ¬

_ (¬1) لم يتضح لي من هو. (¬2) أحمد بن عبد الله الاصفهاني ولد سنة (336 هـ) ومات سنة (430 هـ) طبقات الشافعية لابن هداية الله ص 141 الطبقات الشافعية الكبرى 4/ 18 شذرات الذهب 3/ 245. (¬3) الخلدي هو جعفر بن محمَّد بن نصير البغدادي أبو محمَّد شيخ الصوفية ومحدثهم سمع الحارث ابن أبي أسامة وعلي بن عبد العزيز البغوي صحب الجنيد وأبا الحسين النوري وأبا العباس ابن مسروق مات سنة ثمان وأربعين وثلاثمئة. العبر 2/ 79 تاريخ بغداد 7/ 226. (¬4) أحمد بن محمَّد بن مسروق البغدادي شيخ الصوفية روى عن علي بن الجعد وأحمد بن حنبل مات سنة ثمان وتسعين ومائتين عاش أربعًا وثمانين سنة. سير النبلاء 13/ 494 حلية الأولياء 10/ 213 - 216 تاريخ بغداد 5/ 100 ميزان الاعتدال 1/ 150. (¬5) إسحاق بن أبي اسرائيل واسمه ابراهيم بن كامنجرا بفتح الميم وسكون الجيم أبو يعقوب المروزي نزيل بغداد صدوق تكلم فيه لوقفه في القرآن مات سنه خمس وأربعين ومائتين وقيل ست وله خمس وتسعون سنة ت ص 100 ت ت 1/ 223 طبقات الحفاظ ص 209 تذكرة الحفاظ 2/ 484 تاريخ بغداد 6/ 356. تهذيب الكمال ل 41 ب. (¬6) سليم بالتصغير بن أخضر البصري ثقة ضابط مات سنة ثمانين ومائة عنه ص 246 ت ت 4/ 164. (¬7) عبد الله بن عون بن أرطبان أبو عون البصري ثقة ثبت فاضل من أقران أيوب في العلم والعمل والسن من السادسة مات سنة خمسين ومائة على الصحيح ت ص 317 ت ت 5/ 346 تهذيب الكمال 5/ 360 ل ب.

سورة القصص

سورة القصص: قوله عز وجل: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} (¬1) قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول فارغاً عن العقال (¬2) قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه يعني بعدم الصبر وغلبة الوله وقد بينا ذلك في كتب الأصول في باب شرح محل الفعل فانظره. سورة سبأ: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} (¬3) قال ابن القاسم سمعت مالكاً يقول هي الجوبة من الأرض (¬4) قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه يريد الخرق فيها على هيئة القصعة وهذا تقسير باللغة وهو أحد الوجوه التي بيناها في تفسير القرآن. سورة يس: قوله عَزَّ وَجَلَّ {يس} قال ابن القاسم وابن أشرس سمعنا مالكاً يقول قوله {يس} يقول الله اسمي يس (¬5) قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه فواتح السور اختلف الناس فيها اختلافاً كثيراً قيدنا فيها عشرين قولاً لا سبيل إلى تعيين واحد منها بدليل لأنه معدوم ولا بأثر لأنه غير منقول وليست من المتشابه الذي لا يعلمه إلَّا الله فإن محمدًا لو خاطب الكفار منها بما لا يفهم لكان ذلك أقوى أسبابها في الطعن عليه فكانوا يقولون هذا يتكلم بما لا ¬

_ (¬1) سورة القصص آية (10). (¬2) ذكره أيضاً الشارح في أحكام القرآن ص (1464) والقرطبي في تفسيره 13/ 255 وقال قال ابن القاسم عن مالك هو ذهاب العقل والمعني أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش ونحوه. (¬3) سورة سبأ آية (13). (¬4) قال في الأحكام قال ابن القاسم عن مالك كالجوبة من الأرض وقدور راسيات يعني لا تحمل ولا تحرك لعظمها. الأحكام ص 1602. وقال القرطبي قال ابن عرفة الجوابي جمع الجابية وهي حُفيرة كالحوض وقال كحياض الإبل وقال ابن القاسم عن مالك كالجوبة من الأرض والمعنى متقارب. تفسير القرطبي 14/ 275. (¬5) ذكره أيضًا في الأحكام (1607) وكذلك القرطبي 15/ 4 فقال قيل إنه من أسماء الله قاله مالك وروى عنه أشهب قال سألته هل ينبغي أن يتسمى بياسين قال ما أراه ينبغي لقول الله: {يس*والقرآن الحكيم} يقول هذا اسمي يس.

سورة الجاثية

يفهم وهو يدعي أنه بلسان عربي مبين وأما {حَم، عسق} في اللسان وما {كهيعص} في الكلام فدل على أنهم علموا الغرض وفهموا المقصود وهذا الذي قاله مالك لابن القاسم قد رواه المخزومي عن زيد بن أسلم وهو أحد محتملات يس فربك أعلم بالمعنى منها (¬1). سورة الجاثية: قوله عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (¬2) قال المخزومي سمعت مالكاً يقول لا يرى شيئاً إلا عبده قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه يريد لا يرى شيئاً إلَّا شغله عن الله عَزَّ وَجَلَّ ومنه الحديث (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش) (¬3). سورة الفتح: قوله عز وجل: {وتعزروه وتوقروه} (¬4) قال المخزومي سمعت مالكاً يقول تعزروه تنصروه قال القاضي ابن العربي رضي الله عنه قال أبو إسحاق الزجاج وغيره من أهل اللغة أصل التعزير (¬5) الردع حيث ما وقع ومنه تعزير الأدب لأنه ردع له ورد عن أن يعود لمثل ذلك الفعل فمعنى تعزروه في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تردون عنه كل أذى وهذا هو معنى تنصروه والله أعلم. ¬

_ (¬1) في ك المعين وفي ج المِعين منها. (¬2) سورة الجاثية آية (23). (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد باب الحراسة في الغزو في سبيل الله 4/ 41 وابن ماجه انظر صحيح ابن ماجه 2/ 398 من حديث أبي هريرة. (¬4) سورة الفتح آية (9). (¬5) العزر اللوم. عزره يعزره وعزره والتعزير ضرب دون الحد أو هو أشد الضرب والتفخيم والتعظيم ضد والإعانة كالعزر والتقوية والنصر والعزر كالضرب المنع والنكاح والاجبار على الأمر والتوقيف على باب الدين والفرائض والأحكام. ترتيب القاموس 3/ 214 وقال ابن منظور التعزير في كلام العرب التوقير والتعزير النصر باللسان والسيف لسان العرب 4/ 562. وقال القرطبي "تعزروه" أي تعظموه وتفخموه قاله الحسن والكلبي والتعزير التعظيم والتوقير وقال قتادة تنصروه وتمنعوا منه ومنه التعزير في الحد لأنه مانع وقال ابن عباس وعكرمة تقاتلون معه بالسيف وقال بعض أهل اللغة تطيعوه. تفسير القرطبي 16/ 266.

كتاب الجامع

كتاب الجامع هذا كتاب اخترعه مالك رحمه الله في التصنيف. لفائدتين: أحدهما أنه خارج عن رسم التكليف المتعلق بالأحكام التي صنفها أبوابًا ورتبها أنواعاً. والثاني أنه لما لحظ الشريعة وأنواعها ورآها منقسمة إلى أمو ونهي وإلى عبادة ومعاملة وإلى جنايات وعبادات نظمها أسلاكاً وربط كل نوع بجنسه وشذت عنه من الشريعة معان مفردة لم يتفق نظمها في سلك واحد لأنها متغايرة المعاني، ولا أمكن أن يجعل لكلٍ منها باباً لصغرها ولا أراد هو أن يطيل القول فيما يمكن إطالة القول فيها فجمعها أشتاتًا وسمّى نظامها كتاب الجامع فطرق للمؤلفين ما لم يكونوا قبل ذلك به عالمين في هذه الأبواب كلها ثم بدأ في هذا الكتاب بالقول في المدينة، وإنما كان ذلك لأنها أصل الإيمان، ومعدن الدين، ومستقر النبوة والكلام فيها في أربعة فصولٍ: الفصل الأول في حرمها والثاني في بركتها والثالث في إعمال المطي إليها والرابع في فضلها. أما الفصل الأول: في حرمها: فإن الله تعالى خلق الأرض بابًا واحداً من قطعةٍ من زبرجدٍ ثم مدها حتى صارت مسحة ثم شرف بعضها على بعض بما أوجب له من حرمة وركب فيها من فائده إما في منفعةٍ بدنية وإما في طاعةٍ دينيةٍ. فروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب في الحديث الصحيح فقال: (إن مكة حرمها الله تعالى يوم خلقَ السموات والأرض فهي حرام بحرمة الله) (¬1) وتعلُق التحريم بها يكون من وجوهٍ منها تعلق علمه بحرمتها، ومنها تعلق كلامه بها، ومنها تعلق كتابه بحرمتها في اللوحِ المحفوظ إذ خلق القلم ومنها حرمتها بفعلهِ وعصمته إياها عن الجبابرة ومنها ما أوقع في قلوبِ الخلقِ من التعظيم لها في قوله: {أوَلَمْ ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري باب لا يعض شجر الحرم 3/ 17 ومسلم في الحج باب تحريم مكة وصيدها وخلاها رقم (1354) والبغوي في شرح السنة 7/ 300 من حديث شريح الكعبي.

يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} (¬1) الآية. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إنما أحلت لي ساعة من نهارٍ ثم عادت حرمتها اليوم كما كانت حرمتها بالأمس)، ومنها تحريمها ببركة إبراهيم ودعوته حين قال {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} (¬2). وكذلك حرّمَ الله المدينة على لسان رسولهِ - صلى الله عليه وسلم -. قال عليهِ السلاَم: (اللهم إنَّ إبراهيمَ عبدك وخليلك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثلِ ما دعاك به إبراهيم لمكة) ومثله معه (¬3)، (اللهم إن ابراهيمَ حرَّم مكة وإني أحرّم ما بين لآبتيها) (¬4). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما عندنا إلَّا كتاب ربنا وكذا فذكر صحيفةً منوطةً بقرابِ سيفه وفيها المدينة حَرامٌ ما بين عَير إلى كذا (¬5). فإن قيل: فإذا كانت حراماً كحرمة مكة فهَل فيها جزاء كجزاء مكة. فلنا عن ذلك جوابان. أحدهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد دعا لها كما دعى إبراهيم وقد أجيبت دعوته قطعًا وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أنها حرامٌ وخبره صادقٌ. والجواب الثاني وذلك إنه قد يكون الذنب والحرمة أعظم من أن يكونَ فيه كفارة، وأن تكون العقوبة مؤخرة عنه إلى الآخرة، أما إنه قد روي في الحديث الصحيح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إنه جعل جزاء من انتهك حرمة المدينة سلب ثيابه (¬6) من طريق سعد بن أبي وقاص وبوجوب الجزاء في حرم المدينة، قال ابن أبي ذئب (¬7) وإحدى الروايتين عن مالك من طريق ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت آية (67). (¬2) سورة البقرة آية (126). (¬3) رواه مالك في الموطأ 2/ 885 ومسلم في الحج باب فضل المدينة رقم (1373) من حديث أبي هريرة. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب المغازي باب أحد جبل يحبنا ونحبه 5/ 132 ومسلم في الحج باب فضل المدينة رقم (1365) والموطأ 2/ 889 وشرح السنة 7/ 315 من حديث أنس. (¬5) متفق عليه أخرجه البخاري في الجهاد باب إثم من عاهد ثم غدر 4/ 124 من حديث إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي - رضي الله عنه - قال ما كتبنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا القرآن وما في هذه الصحيفة قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (المدينة حرام ما بين عبر إلى كذا فمن أحدث حدثاً أو أوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ...) ورواه مسلم في الحج باب فضل المدينة رقم (1370) وشرح السنة 7/ 307. (¬6) روى مسلم في صحيحه في باب فضل المدينة من حديث عامر بن سعد أن سعداً ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرًا ويخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم فقال معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبى أن يرده عليهم. مسلم (1364) ورواه أحمد في المسند 1/ 168 والبغوي في شرح السنة 7/ 310. (¬7) قال البغوي كان ابن أبي ذئب يرى الجزاء على من قتل شيئًا من صيد المدينة أو قطع شيئاً من شجرها، مستدلاً بالحديث السابق شرح السنة 7/ 309 وقال النووي في هذا الحديث دلالة لقول الشافعي القديم أن من صاد في حرم المدينة أو قطع من شجرها أخذ سلبه وبهذا قال سعد بن أبي وقاص وجماعة من الصحابة قال القاضي عياض ولم يقل به أحد بعد الصحابة إلَّا الشافعي في قوله القديم وخالفه أئمة الأمصار قلت ولا تضر مخالفتهم =

المدنيين. فإن قيل أي حرمة لمكة وقد فعل الحجاج بها ما فعل وأي حرمةٍ للمدينة وقد كان فيها يوم الحرة ودين الإِسلام قائم والمسلمون متوافرون. قلنا: كانت العصمة قبل الإِسلام مقدمة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الإنذار به والاشادة بذكره وشرف آبائه وكانت الهتكة في الإِسلام إبتلاء من الله سبحانه وتعالى للخلق ليعلم (¬1) صَبرهم فيما ابتلاهم وعملهم فيما كلفهم وأعطاهم كما قال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (¬2). فإن قيل فقوله فعادت حرمتها اليوم كما كانت أمس خبرٌ لم يوجد مخبره بما وقع من انتهاك الحرمة أيام الحجاج والقرامطة وقد قتل الحجاج فيها وسلبَ الناس فيها وخلعَ الحجر الأسود فحمل منها وهذا سؤال توجهه الملحدة تشويشاً منها لقلوب العامةِ. قلنا هذا سؤال فاسد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرَ عن حرمتها شرعاً لا جرم هذه الحرمة اَلشرعية لا تنخرم شرعاً أبدًا وإلى هذا المعنَى أشار بقوله إنها حرام يعني ديناً لم تحلل قط ولا تحلل لا جرم هذا الخبر لا يوجد بخلاف مخبره فإن قيل فقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بيد صبي نغيراً فقال له يا أبا عمير (¬3) ما فعل النغير (¬4) ولو كان صيدها حراماً ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - في يد صبي يلعب به قلنا عنه جوابان: أحدهما: (¬5) يحتمل أن يكون ذلك قبلَ التصريح بالتحريم. الثاني: وهو التحقيق أن ذكره - صلى الله عليه وسلم - للتحريم تأسيسا بقولٍ صريحٍ مطلقٍ بين به حكم الشرع لا يعترض عليه قضايا الأعيان، ولا تؤثر فيه حكايات الأحوال وهًذا أصلٌ عظيم من أصول الفقه قد بيناه في موضعِه. الفصل الثاني: في بركتها: فإنه أمرٌ مدعوُّ به في الحَرمين منَ النبَّيينِ الكريمين. فإن قيل: وأي بركةٍ فيهَا وهي بلاد الجوع لا زرعَ بها ولا ضَرع وهذا السؤال توجهه الملاحدة المشككة. ¬

_ = إن كانت السنة معه وهذا هو المختار لثبوت الحديث فيه وعمل الصحابة على وفقه ولم يثبت له دافع. شرح النووي على مسلم 9/ 139. (¬1) في ج زيادة مشاهدة صبرهم. (¬2) سورة الملك آية (2). (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب الانبساط إلى الناس 8/ 37 من حديث أبي النياح قال سمعت أنس مالك رضي الله عنه يقول: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخالطنا حتى يقول لأخ إلى صغير (يا أبا عمير ما فعل النغير) ومسلم في كتاب الأدب (2150) وأبو داود (4969) والترمذي (333) وابن ماجه في الأدب (3720). (¬4) النغير تصغير النغر وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار ويجمع على نغران النهاية 5/ 86. (¬5) في ك إنه يحتمل.

والجواب. أنا نقول إن البركة في اللغة هي الزيادة والنماء فإذا وردت في الشريعة، فإنما المراد بها (¬1) سلامة الدين وقلة الحساب وكثرة النماء في الآخر وهذا كقوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (¬2) وأنت تراه يتكاثر ويربي الصدقات، وأنت تراه ينقص المال ويفنيه ولكن المعنى عائد إلى ما بيناه. وأما الفصل الثالث: في أعمال المطي إليها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تشد الرحال إلَّا إلى ثلاثة مسَاجد: مسجدي هذا فبدأ به، والمسجد الحرام، ومسجد إيلياء) (¬3) ولم يرد - صلى الله عليه وسلم - قطع النيات عن سائر المساجد في القربات والأغراض الشرعيات، فإنه قد كان يأتي مسجد قباء كل سبتٍ (¬4) وإنما أراد الوجوب عند النذر والإلزام عند التصريح بالالتزامِ وقد بيّنا ذلك في مسائِل الخلاف. وأما الفصل الرابع: في فضلها فإنه فصل بديع تكلم فيه العلماء قديمًا وحديثاً واعترضوه فما أصابوه، قالوا في كتبهم على اختلاف فرقِهم (¬5): هل المدينة أفضل أم مكة؟ فقال قائل: مكة وقال قائِل: المدينة وهذا الكلام كله خطأٌ لم يحصّلوه إذ قالوه وذلك أنا بيناهَا في مسائلِ الخلافِ بيانًا شافياً لِبَابُه (¬6) أن السؤال فاسد والجواب غير محصلٍ وذلك أنا قد بينا في كتاب تفصيل التفضيلِ بين التحميدِ والتهليل أن "ف ض ل" حيث ما وقع وكيف ما تَصرف إنما هو عبارة عن الزيادة، فإذا قال السائل أيما أفضل كذا أو كذا لم يستحق جواباً لأنه يقال له تريد بقولك أفضل في أي شيء في منعة أو في طاعة والطاعات كثيرة، فإلي أيها تنحّي (¬7) بالزيادةِ، وإذا قلت المدينة أفضل أو مكة تزيدُ في الصلاةِ أو في السكنى أو في الحج أو في البركة أو في أي متعلقٍ من متعلقات الزيادةِ الشرعي (¬8) والتفضيل الحكمي وما يتطرق إليه هذا الاحتمال ويكون في هذا الحد من الاهمال كيف يصبح أن يجاوب عنه بمعين من معيناتِ متعلقاتِه قبل أن يعلم قصد السائل من جملتها ولو تخيل متخيل أن يقال في الجوابِ إن المدينة أفضل ويعني في كل شيء من ذلك أو مكة أفضل ¬

_ (¬1) في ك ربه. (¬2) سورة البقرة آية (276). (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الصلاة باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة 2/ 76 ومسلم في الحج باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (1394) من حديث أبي هريرة. (¬4) تقدم تخريجه وهو حديث متفق عليه أخرجه البخاري 2/ 76 ومسلم (1193). (¬5) في ك وم مذاهبهم. (¬6) في م لبه. (¬7) في ج ينتهي. (¬8) كذا في جميع النسخ ولعلها الشرعية.

بمثلهِ لقطعنا بخطئه لأنها تتفاوت البقعتَانِ في ذلك تفاوتًا كثيراً، ولكنا نفصلُ القول قصداً للتعيين فنقول إن سأل سائل فقال في أي بقعةٍ هي الصلاة أفضل في مسجد مكة أو في مسجد المدينةِ استحق الجواب لأجل التعيين. فنقول نحن: الصلاة في مسجد المدينة أفضل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاةٍ فيما سواه إلَّا المسجد الحرام)، فنص على أن التقدير للتفضيلِ بين مسجده وبين سائر المساجد وأبقى المسجد الحرام تحت الاستثناء، فيحتمل أن يكون خرج بزيادة عليه أو بحطٍ منه. فإن قيل: فقَد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلَّا المسجد الحرام، فإن صلاة فيه خير من مائة صلاةٍ في مسجدي هذا) (¬1). رواه البغوي وغيره. قلنا: لا ننفي نحن مثل هذا الحديث ولا نقبله لعدم صحتِه وقد بينا ذلك في شرح الصحيح وأما لو قال أيما أفضل السكنى بالمدينة أو السكنى بمكة، لكان جوابنا له أن نقولَ هذا أمرٌ كنظرائه مدركه الخبر. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلَّا كُنتَ له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة) (¬2) ولم يرد في مكة شيء من ذلك فإن أدرك فضل في سكناها بالاعتبار فما كان بصريح الآثارِ منه أولى على أن كثيراً من العلماء قد كرهوا سكنى مكة، واختلف الناس في تعليلِ ذلك فمنهم من قال كره ذلك لئلا تهون على ساكنها، وهذا نظر إلى الظواهر مع ضعف اليقين، فأما اليقين الصادق السالك على الاهتداء المرتبط بالاقتداءِ فإنه يزيده السكنَى بصيرةً، وتقوى فيه العلانيةُ بالسريرَةِ كما قال الخليفة الصالِحُ: "والله إني لأعلم أنك حجرٌ لا تضر ولا تنفعُ، ولولا أني رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -قبَّلك ما قبّلتك" (¬3) وقال قوم في تعليل ذلك إنما هو لأجل خوف الذنوبِ فيها، فإنّ المعصية فيها وفي المدينة أعظم ¬

_ (¬1) أخرجه الإِمام أحمد في المسند 4/ 5 وابن حبان في صحيحه 3/ 72 والطيالسي في مسنده (1367) من حديث عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن الزبير قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلَّا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا). والحديث صححه ابن حبان ونقل الحافظ عن ابن عند البر قوله اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه ومن رفعه أحفظ وأثبت ومثله لا يقال بالرأي. فتح الباري 3/ 67 ويقول الشيخ ناصر إن إسناد أحمد وابن حبان صحيح إرواء الِغليل 4/ 146 لكن النووي اقتصر على تحسينه شرح النووي على مسلم 9/ 164. (¬2) رواه مسلم في الحج باب الترغيب في سكنى المدينة (1378) وأحمد (7852) والترمذي (3920) من حديث أبي هريرة. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الحج باب ما ذكر عن الحجر الأسود 2/ 183 ومسلم في الحج باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف (1270) وشرح السنة 7/ 113.

من المعصيةِ في غيرها وكما تضاعف الحسنات في البقاع الشريفة والأزمنة الشريفة كذلك تضاعفت السيئات، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ ...} (¬1) الآية. وقال تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (¬2) وإن أراد السائِل أي الأعمال فيهما أفضل ثواباً؟ قلنا له: ما لم يعين للعمل بُقعة من مكة أو المدينة، فالفضل في ذلك سواء، إلَّا للسكنى كما بيناه، فالسكنى في المدينة أفضل، وان أراد بقوله أيهما أفضلِ في المحبةِ؟ فالمدينة أحبَّ إلينا من مكة إقتداءَ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حين قالت له عائشة. إني دخلتُ على عامرٍ ابن فهيرة، فوجدته قد وعك وهو يقول: قد رأيتُ الموتَ قبلَ ذوقه، إنَّ الجبانَ حتفه من فوقه. ودخلتُ على أبي بكر وقد وعَك وهو يقول: كلُ امرءٍ مصبَّحٌ في أهلِه، والموتُ أدنى من شراكِ نعله. ودخلتُ على بلالٍ وقد وعَك وهو يقول: ألا ليت شِعْرِي. هل أبيتنَّ ليلةً إلى آخر البيتين. فأخبرتُ بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد وانقل حماها واجعلها بالجحفة) (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -، وقد طلع على أُحُد فقال (هذا جبلٌ يحبُنا ونحبُه) (¬4)، فأما محبته - صلى الله عليه وسلم - للجبل فمعقولة، وأما محبة الجبل له فخفية. قال العلماء: معناه ويحبنا أهله على حذف المضافِ وإقامة المضاف إليه مقامه، وقيل تكلمَ على عادة العربِ في الإخبارِ عن العزيز بخبر العزيز (¬5) كما قال الشاعر: وأجهشت للتباد حين رأيتُه ... وكبر للرحمن حينَ رآني فقلتُ له أينَ الذينَ عهدتهم ... حواليك في أمنٍ وخفضِ زَمانِ ¬

_ (¬1) سورة الحج آية (25). (¬2) سورة التوبة آية (36). (¬3) الموطأ 2/ 890 والبخاري في مناقب الأنصار باب مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه المدينة 5/ 83 ومسلم في الحج باب الترغيب في سكنى المدينة (1376) من حديث عائشة وفيه قال بلال: ألا ليث شعري هل أبيتن ليلة ... بواد وحولي أذخر وجليل وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل تبدون لي شامة وطفيل (¬4) هو بهذا اللفظ رواه مالك في الموطأ 2/ 893 من حديث هشام بن عروة عن أبيه وهو مرسل ولكنه ورد موصولاً عند غيره من حديث أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلع له أحد فقال (هذا جبل يحبنا ونحبه ..) الموطأ 2/ 889 والبخاري في الجهاد باب الخدمة في الغزو 4/ 42 ومسلم في الحج (1393) والترمذي في المناقب (3922). (¬5) قال النووي قيل معناه يحبنا أهله وهم أهل المدينة ونحبهم والصحيح أنه على ظاهره وأن معناه يحبنا هو نفسه وقد جعل الله فيه تمييزاً. شرح النووي على مسلم 9/ 163.

فقال مَضوا واستودعوني بلادهم ... ومن ذا الذي يبقى على الحدثانِ (¬1) فأخبرَ عن جبله بمثل ما أخبر عن نفسه أما قرنه بها وقيلَ عبَّر بلسانِ الحال عن لسانِ المقالِ، كما تقدم في كتاب الصلاة، ومن فضل المدينة تطهيرُها عن الوباءِ ونقله إلى الحجفة، إما لأنها كانت منزلاً لليهودِ أو للمشركين حتى إنه ليقال إنّ ماءها الذي يسمى خمَّ وبى من شربَ منه حُمّ (¬2)، ومن فضلها عصمتها عن الوباء وعصمتها من الدجال (¬3)، ومن فضلها خروج من لا خير فيهِ منها، ومن فضلها أن ظالماً لا يدخلها، ويدخُل مكة وينقضها (¬4) ومن فضلها أنها اشتملت على خيرِ خلق الله، ومن فضلها أن فيها روضةً من رياضِ (¬5) الجنة. فإن قيل فقد روى عبد الله ابن عدي بن الخيار، أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقفَ على الحزورة (¬6) وقال (والله إنك لخيرِ بلاد الله وأحب بلاد الله إلى الله) (¬7) وهو حديث صحيح. قلنا قد قدمنا من الأدلةِ ما هو أقوى من هذا في تفضيل المدينة على مكة، فأما هذا الحديث فمعناه إنك لخيرِ بلاد الله بعدَ المدينةِ (¬8). كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قيل له يا خير ¬

_ (¬1) الأبيات لمجنون ليلى انظر الأمالي 1/ 207 و208 ط دار الكتاب العربي. (¬2) قال ابن الأثير أحمت الأرض أي صارت ذات حمى. النهاية 1/ 446. (¬3) متفق عليه البخاري في فضائل المدينة باب لا يدخل الدجال المدينة 4/ 82 ومسلم رقم (1379 و1380) في الحج والموطأ 2/ 892 والترمذي رقم (2244) من حديث أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (على أعتاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال) لفظ الموطأ. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في الحج باب قول الله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} 2/ 182 ومسلم في الفتن باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء رقم (2909) والنسائي 5/ 216 من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يخرب الكعبة ذو السويقين من الحبشة) لفظ البخاري. (¬5) يشير رحمه الله إلى ما رواه أبو هريرة أو أبو سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضى) الموطأ 1/ 197 والبخاري في التطوع باب فضل ما بين القبر والمنبر 2/ 77 ومسلم في الحج (1391). (¬6) هو موضع عند باب الحناطين وهو بوزن قَوْرَة قال الشافعي الناس يشددون الحزورة والحديبة وهما مخفقتان. النهاية 1/ 380. (¬7) رواه الترمذي (3925) وقال حسن غريب صحيح وابن ماجه رقم (3108). (¬8) لقد حاول القاضي رحمه الله أن يرجح مذهب مالك في هذه المسألة والمسألة خلافية بين العلماء وقال النووي أثناء الكلام على حديث (صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام) اختلف العلماء في المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيهما أفضل ومذهب الشافعي وجماهير العلماء أن مكة أفضل من المدينة وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة وعكسه مالك وطائفة فعند الشافعي والجمهور معناه إلّا المسجد الحرام فإن الصلاة أفضل فيه من الصلاة في مسجدي وعن مالك وموافقيه إلّا =

ما جاء في الطاعون

البرية. فقال: ذلك إبراهيم (¬1). يعني بعده على أحَدِ التأويلين. وقيلَ إنك لخير بلاد الله في اعتقادي ولي بحكم النشأة ولأجل الوطنِ ولكنه خالف هَواه اتباعاً لأمر ربه، واختياراً لما اختار الله له. ما جاء في الطاعون ذكر مالك حديث عمر في خروجه إلى الشام (¬2)، واستوفى مساقه بخلاف غيره، وإنما فعل ذلك لكثرة فوائِده، وقد تكلمنا عليه في شرح الحديث، وعدّدناها هنالك أمهاتها ست وعشرون: الأولى: خروج الإِمام على الجيوش بنفسه دون أن يستخلف عليها أحداً من أصحابه للفوائد الخمس المعروفة في ذلك الكتاب. الثانية: قصده إلى الثغر لتفقد أموره والإرهاب على عدوه. الثالثة: ترك الإِمام دوحة الملك ومقر الخلافةِ خالية منه. الرابعة: تلقي الولاة والناس له شوقًا وتعظيماً، وقد كان يفعل ذلك بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم -. الخامسة: توقُعه للخبر المخوفِ. ¬

_ المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجدي تفضله بدون الألف .. إلى أن قال فقال عمر وبعض الصحابة ومالك وأكثر أهل المدينة المدينة أفضل وقال أهل مكة والكوفة والشافعي وابن وهب وابن حبيب المالكيان مكة أفضل شرح النووي على مسلم 9/ 164. (¬1) رواه مسلم في كتاب الفضائل باب فضائل إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - (2369) وأبو داود (4672) والترمذي رقم (3349) في التفسير من حديث أنس باب مالك قال جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا خير البرية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ذاك إبراهيم الخليل). (¬2) مالك عن ابن شهاب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث ابن نوفل عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فاخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام قال ابن عباس فقال عمر بن الخطاب أدع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا فقال بعضهم قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه ... الموطأ 2/ 894 والبخاري في كتاب الطب باب ما يذكر في الطاعون 7/ 168 ومسلم في كتاب السلام باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها (2219).

السادسة: استشارتُه للناسِ وهي سُنة في الجاهليةِ والملةِ لأن الاستشارة مخاضة العقلُ ومحصنته. السابعة: الكلام بالآراء دون ذكر لقول الله أو لقول رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. الثامنة: ترتيب الناس على منازلهم كما روي في الحديث: أُمِرْنا أن ننزل الناس على منازلهم (¬1). التاسعة: البداية بالهجرة وهي المنزلة الثالثة في الدين، والرابعة هي النُصرة. العاشرةُ: تقديمها على النصرة، وقد بينا في شرح الحديث الجمع بين ذلك، وبين قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه (لولا الهجرة لكنتُ امرءاً من الأنصار) (¬2). الحادية عشر: تعديد هجرة الفتح في جملة المناقب، وإن كانت غير معدودةٍ في أحكام الهجرة. الثانية عشر: تقديم مشيخة قريش على من سواهم من الناس لفضل البيتية، ولحرمة القرابة، وبعد ذلك فلا فضيلة، بل الناس سواسيةً كأسنان المشط إلَّا من قدمه العلم والعملُ. الثالثة عشر: إمضاء العزائم. وقد نظر بعضهم إليه. الرابعة عشر: ترقب العواقب واعتبار المال، وقد نظرَ بعضهم إليه. الخامسة عشر: أخذ الإِمام في الفتوى بما يرى. ¬

_ (¬1) رواه مسلم في مقدمة صحيحه قال ويذكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنزل الناس منازلهم" مسلم 1/ 6 ورواه أبو داود في سننه (4842) - من طريق حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن عائشة وقال أبو داود ميمون لم يدرك عائشة. قال النووي في شرحه لمسلم 1/ 19 هذا بالنظر إلى أن لفظه ليس جازماً لا يقتضي حكمه لصحته وبالنظر إلى أنه احتج به وأورده إيراد الأصول لا إيراد الشواهد يقتضي حكمه لصحته ومع ذلك قد حكم الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتاب معرفة علوم الحديث بصحته وأخرجه أبو داود في سننه بإسناه منفردًا به وذكر أن الراوي له عن عائشة ميمون بن أبي شبيب ولم يدركها قال الشيخ وفيما قاله أبو داود نظر فإنه كوفي متقدم قد أدرك المغيرة بن شعبة ومات المغيرة قبل عائشة وعند مسلم التعاصر مع إمكان التلاقي كاف في ثبوت الإدراك فلو ورد عن ميمون إنه قال لم ألق عائشة استقام لأبي داود الجزم بعدم إدراكه وهيهات ذلك .. ثم قال قلت وحديث عائشة قد رواه البزار في مسنده وقال هذا الحديث لا يعلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا الوجه وقد روي عن عائشة من غير هذا الوجه موقوفاً. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في فضائل الصحابة باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لولا الهجرة لكنت أمرأً من الإنصار) 5/ 38 ومسلم في الزكاة باب إعطاء المؤلفة قلوبهم (1061) من حديث عبد الله بن زيد وأما رواية البخاري فمن طريق أبي هريرة.

النهي عن القول بالقدر

للسادسة عشر: إمضاؤه للحكم لقوله إني مصبحٌ على ظهرٍ. السابعة عشر: مراجعة الفتوى بعد القضاء ولكن ممّنْ ولمن. الثامنة عشر: الإقرار بالقضاءِ والقدر ويأتي إن شاء الله تعالى. التاسعة عشر: إثبات التصرف به وفيه وإليه في طرفي النقيض الموفية. العشرون: التمثيل والتنظير في مسائل الدين والحكم بها على أفعال المسلمين. الحادية والعشرون: دخول القياس في أصول الدين وبالقياس عرف الله ولولاه ما كان إلى العلم به سبيل لأحد من الخلق. الثانية والعشرون: اجتزاء الحاكم بمن حضر عمن غاب. الثالثة والعشرون: العمل بخبر الواحد في الأمورِ العظام، فكيف في الأمور الصغار. الرابعة والعشرون: تسمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطاعون رجزاً أرسل على من كان قبلنا، وقد سماه شهادةً عندنا فقال: (والمطعون شهيد)، وقد بينا ذلك في شرح الصحيح بيانًا شافياً لبابه أن الله جعله عذاباً لمن كان قبلنا بحكمتِه وجعله شهادةً لنا برحمته. الخامسة والعشرون: قوله (لا تقدموا عليه)، لأمورٍ منها أن لا يتعرض للحتوفِ، وإن كان لا نجاة من قدر الله ولكن من حسن قدره أن يسَّر لك الحذر ومنها أن لا تشرك به، فتقول لو لم أدخل ما مرضتُ. السادسة والعشرون: قوله (لا تخرجوا فراراً منه) وقد بيناها فيما تقدم. النهي عن القول بالقدر (¬1) هذا بابٌ قد بيناه في كتب الأصول على قدرٍ (¬2) وأشرفنا فيه الخلق على مراتب النظر، ولكن لأجل اهتبال مالك رضي الله عنه وحقّ له إلى ذلك نشير نحن إلى شيء منه، فنقول: أما ترجمته بالنهي عن القول بالقدر فغريبة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديثِ الصحيح: (وأن تؤمن بالقدرِ خيره وشرّه، حُلوه ومُرّه) (¬3)، فكيف يصحّ أن ينهيَ عن قوله ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 898. (¬2) في ج وك على ما قدر. (¬3) هذا جزء من حديث عمر الطويل وقد رواه مسلم في كتاب الإيمان باب وصف جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان رقم (8) والترمذي رقم (2610) وأبو داود في السنة باب في القدر رقم (4691) والنسائي 8/ 97.

هو محض الإيمان، ولكنه إنما بوَّب بالنهي لأن الصحابة كانت تعافه لما تقدم من النهي إليهم فيه والله أعلم: "ففي صحيح مسلم: جاء مشركو قريش مخاصمون إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - في القَدرِ (¬1) فنزلت {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ} (¬2) الآية" (¬3). ولما روي أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خرج يوماً على أصحابِه وهم يتكلمون في القَدرِ، فاحمرّ وجهُه وقال: (إنما هلك من كان قبلكم (¬4) بهذا) وذكر باقي الحديث وَوَجهُ كراهيَّة الكلام في القَدرِ، أن الخوضَ لا يؤول فيه إلى بيان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تعرض لبيانِه فسد وخرجَ عن حَدّه، إذ المفعول لا يفعَل والموجود لا يوجد، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن لأصحابِه حين سألوه أول دفعةٍ عنه فقالوا له هذا الذي نحنُ فيه، أمرٌ مستأنف أم أمر مفروغ منه فقالَ (اعملوا فكلٌ ميسّر لما خُلِقَ له) (¬5). الحديث. فبعد أن استقرَّ القول فيه والبيان لا يبقى إلا اعتراض المشكك وقد قال الله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (¬6). حديث: قال أبو هريرة رضي الله عنه: "تحاجّ آدم وموسى" (¬7). الخبر إلى آخره وقد تكلمنا في الصحيح عليه وفي المشكلين بما ينبغي له ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب القدر باب كل شيء بقدر الله حديث (2656) من حديث أبي هريرة وأخرجه البغوي في شرح السنة 1/ 149. (¬2) سورة القمر آية (48). (¬3) ما بين القوسين ليس في بقية النسخ وسقط من الأصل قوله وقد ورد في الأثر إذا ذكر القدر فامسكوا وهو في بقية النسخ. (¬4) رواه الترمذي من طريق صالح المري عن هشام بن حسان عن محمَّد بن سرين عن أبي هريرة الترمذي 4/ 443 وقال الترمذي بعد روايته لهذا الحديث هذا حديث غريب لا نعرفه الاّ من هذا الوجه من حديث صالح المري وصالح المري له غرائب ينفرد بها لا يتابع عليها. أقول صالح المري هو ابن بشير بن وادع المري بضم الميم وتشديد الراء أبو بشر البصري القاص الزاهد ضعيف من السابعة مات سنة اثنتين وسبعين (ومائة) التقريب ص 271 وصالح هذا لم يوثقه أحد ووصفه البخاري بأنه منكر الحديث ت ت 4/ 382 وعلى هذا فالحديث ضعيف. (¬5) روى الترمذي من طريق سالم بن عبد الله يحدث عن أبيه قال: قال عمر يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو مبتدأ أو فيما فرغ منه فقال (فيما قد فرغ منه يا ابن الخطاب وكل ميسر أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة وأما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء). وقال الترمذي حسن صحيح 4/ 445. (¬6) سورة الأنبياء آية (23). (¬7) مالك في الموطأ 2/ 898 عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (تحاج آدم وموسى قال له موسى أنت آدم الذي أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة فقال له آدم أنت موسى الذي أعطاه الله علم كل شيء واصطفاه على الناس برسالته قال نعم قال أفتلومني على أمر قد قدر علي قبل أن أخلق) لفظ الموطأ وأخرجه البخاري في كتاب القدر باب تحاج آدم وموسى عند الله 7/ 157 ومسلم في القدر باب تحاج آدم وموسى عليهما السلام (2652) وأبو داود رقم (4701) والترمذي (2134).

وفي قول آدم أتلومني على أمرٍ قد قدّر عليّ ليس ما سبقَ من القضاءِ والقدر يرفع الملامة عن البشر، لكن معنى قوله ذلك: أتلومني على أمرٍ قدّر عليّ وتبتُ منه والعاصي التائب لا يلام. حديث: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله خلق آدم فمسح ظهره بيمينهِ) (¬1). حديث عظيم في القضاء والقدرِ يشهد له القرآن، وكأنه تفسير للآية المذكورة، فيهِ عبَّر بالمسح عن تعلق القدرة بظهر (¬2) آدم وكل معنى يتعلق به قدرة الخالق يعبر عنها بفعل المخلوقِ ما لم تكن دناءةً، وقد أخبرَ الله تعالى في هذا الحديث على لسان رسوله بقوله عن حكمه وحكمتِه في تفريق الخلق فريقين ويسَّر الله ذلك الرجل المعترض للنبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله ففيم العمل؟ ليبين - صلى الله عليه وسلم - تمام المسألة، ويبرز وجه الحكمة بأن تيسير البارىء تعالى للرجل عمل أهل الجنة دليل على أنه من أهلها الذين خلقهم لها، وتيسير الرجل لعملِ أهل النار دليل على أنه خلقه لها، والإشارة بهذا التيسير المقتضى لما بيناه من الدليل إلى العمل الذي يكون عند الخاتمة لا إلى العمل المسترسل على الأزمنةِ وقد بيَّن ذلك - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (إن الرجلَ ليعملَ بعملِ أهل الجنةِ) (¬3). الحديث إلى آخره. حديث: (لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح، فإنما لها ما قدر لها) (¬4) هذا الذي نبّه عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث أبينَ ¬

_ (¬1) مالك عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه أخبره عن مسلم ابن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، قال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عنها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ..) الموطأ 2/ 899 وأبو داود (4703) والترمذي رقم (3075) وقال حديث حسن. ونقل القرطبي عن ابن عبد البر أن هذا الحديث منقطع الإسناد لأن مسلم بن يسار لم يلق عمر وقال يحيى بن معين مسلم بن يسار لا يعرف بينه وبين عمر نعيم بن ربيعة ذكره النسائي ونعيم غير معروف بحمل العلم لكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم. القرطبي 7/ 315 وكذا قال البغوي في شرح السنة 1/ 139. (¬2) قلت لا نذهب إلى ما ذهب إليه الشارح في هذه الصفة من التأويل بل هي صفة نؤمن بها على مراد الله تعالى فلا تؤل أي صفة من صفاته تعالى كما ورد عن السلف. (¬3) لعله يشير إلى الحديث الذي أخرجه مسلم في كتاب القدر حديث (2651) من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له عمله بعمل أهل النار وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة). (¬4) الموطأ 2/ 900 والبخاري في كتاب القدر باب وكان أمر الله قدراً مقدورًا 8/ 153 ومسلم في النكاح (1408) =

من فلق الصُبح، فإن كلَ أحدٍ قد كتب له رزقه حتى من مشيه ومن كلامِه ومن وطئهِ ومن أكلهِ فليس للمرأةِ من زوجها كانت لها ضرّة، أو لم تكن إلَّا ذلك المكتوب لها لا يزيدها الانفراد ولا يضرها الاشتراك. حديث: قوله: (الحمد لله الذي خلق كل شيء كما ينبغي الذي لا يعجل شيئاً أناه وقدره) (¬1) وأما قوله: كما ينبغي فمعناه كما يُراد، فإن رجع ذلك إلى إرادة الخالق، فكذلك كان، وإن رجع ذلك إلى إرادة المخلوق ففيه ما لا يريده المخلوق، وإن أراد غير ذلك من المعنى فالكلمة قلقة وما أظنها نبويَّة، وأما قوله الذي لا يعجل شيئاً فقد ضبط على عشرِ صفاتٍ أضبطه لكم بالعجم لا بحروف المعجم لئلا يطول فاضبطوه لئلا يدرس بمضي الزمان الذي لا يعجّل شيئاً أناة وقدّره وتركّب بعضها على بعض وتفسير أناة بالاسم والفعل وتركبوه فعلًا على تعجّل أو يبقى طرفاً للشيء على ما هو عليه، فإن قرأت يعجل بناء ما لم يُسم فاعِلهُ والجيم مفتوحة كان سلباً للخلق عن التصرف بغير حكم الخالق، وإن قرأته بضم الياء وخفض الجيم مشددة كان إخباراً على أن الباري تعالى، إنما تخلق أفعاله على مقدار علمه وقضائه، وإن فتحت الياء من يعجل ورفعت شيئاً كان نسبة للعجلة إلى ذلك الشيء ويكون المعنى أن شيئاً لا يقدرعلى أن يتعجل بنفسه على شيء يخرج به عن قضاء ربه وذلك كله رد على القدرية الذين يقولون إن الخلق بعصيانهم يعجلون الأشياء قبل وقتها كالآجال ويخالفون مقدارها كالطاعاتِ وبعض هذه الروايات أقوى من بعض في الدلالات، وقد استوفينا بيانها في المشكلين بما لبابه إنك إذا قلت يُعجل بضم الياء وإسكان العين وكسرت الجيم ونصبت شيئاً على المفعول وقرأت إناة بكسر الهمزة أو بفتحها وأسكنت الدال من قولك قدرة ونصبت الراء أو نصبت العين من يعجّل وشدّدت الجيم وباقيه كذلك أو قرأته بهذين اللفظين، وشدّدت الدال من قدَّرَه وفتحت الراء ونصبت الهمزة من أناة على أنهما فعلان لا اسمان، كان معناه على هذه الألفاظ أن الله تعالى لا يقدم شيئاً قبل وقته، ولا يعجل شيئاً قدّره وأخّره من خير. وإن ضممت الياء من يعجل وفتحت العين وشددت الجيم وفتحتها أو خففتها وأسكنت العين على بناء ما لم يسم فاعله ورفعت شيئًا وقرأت باقيه على الوجهين المتقدمين كان معناه على ما بيناه ورددنا به على ¬

_ = (38) و 39 باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها في النكاح والبغوي في شرح السنة 9/ 55. (¬1) الموطأ 2/ 901 يحيى عن مالك أنه بلغه أنه كان يقال الحمد لله الذي خلق كل شيء كما ينبغي الذي لا يعجل شيء أناه وقدره حسبي الله وكفى سمع الله لمن دعا ليس وراء الله مرمى. قال الباجي يقتضي أنه من قول أئمة الشرع لأن مالكاً أدخله في كتابه المعتقد صححه المنتقى 7/ 208.

ما جاء في حسن الخلق

القدرية وليس في هذا كله تعلق بالباب الذي أراده مالك رضي الله عنه إلَّا على وجهٍ بعيدٍ ما عدا ما شرحناه فيه، وإن رويته بفتح الياء وإسكان العين وفتح الجيم وهو يرجعُ إلى معنى يعجل بإظهار الفاعل فإنه عام ويرجع إلى نسبة العجلة إلى الشيء الكائن على المجاز ويكون معناه الحمد لله الذي لا يكون شيء قبل وقته الذي علمه فيه وأخّره إليه لا يتعجله هو ولا بتعجيل شيء سواه ويكون في هذا رد على القدرية، لكن لا على طريق التصريح بل على طريق الاحتمال أو العموم على أحد المذهبين. ما جاء في حُسن الخلق الخَلق والخُلق عبارتان عن جملة الإنسان، أما الخَلق فعبارة عن صفته الظاهرة، وأما الخُلق فعبارة عن صفتِه الباطنة وقد يعبر عن الباطن بلفظ الظاهر، ولا يعبّر بلفظ الباطن عن الظاهر وفي ذلك كلام بديع قد بيناه في المشكلين والإشارة بالخُلق إلى الإيمان، والكفر، والعلم، والجهل، واللين، والشدة والمسامحة، والاستقصاء والبخل والسخاء وما أشبه ذلك من الصفات والأسماء وأسبابها في المحمود والمذموم يدور على عشرين خصلةً، وقد أتقن مالك رضي الله عنه هذا الباب فإنه أشار فيه إلى نبذٍ في كلا طرفي النقيض بعد أن ذكر الجملة أولاً فقال (حسِّن خلقك للناس) (¬1) وذكر عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما خُير قط في أمرين إلَّا اختار (¬2) أيسرهما" إشارة إلى خلق الرفق ثم قالت "وما انتقم لنفسه" إشارة إلى خلق المسامحة والعفو، ثم أدخل حديث علي رضي الله عنه "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (¬3) إشارة إلى ترك الفضول لأن المرء ¬

_ (¬1) هذا آخر البلاغات الأربع التي قال فيها ابن عبد البر إنها لا توجد مسندة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولفظه عن مالك أن معاذ بن جبل قال: آخر ما أوصاني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وضعت رجلي في الغرز أن قال (حسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل) الموطأ 2/ 902. قال ابن عبد البر هكذا روى يحيى هذا الحديث وتابعه ابن القاسم والقعنبي ورواه ابن بكير عن مالك عن يحيى بن سعيد عن معاذ بن جبل وهو مع هذا منقطع جدًا ولا يوجد مسنداً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث معاذ ولا غيره بهذا اللفظ والله أعلم ولكن معناه صحيح. التقصي ص (249). (¬2) الموطأ 2/ 903 والبخاري في كتاب المناقب باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -4/ 230 ومسلم في كتاب الفضائل باب مباعدته - صلى الله عليه وسلم - للآثام (2327) من حديث عائشة. (¬3) الموطأ 2/ 903 مالك عن ابن شهاب عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه). =

لا يقدرُ أن يستقل باللازم فكيف أن يتعداه إلى الفاضل ثم أدخل حديث عيينة (¬1) في المداراة وهي معاملة الخلق في الصبر والمسامحة والبذل والإعطاء والتصرف والتوقف بما لا يقدح في الدين، فإن أتي شيئاً من ذلك بما لا يجوز كان مداهنةً وهي حرام وبالجملة فقد قالت عائشة رضي الله عنها: كان خُلقُ رسَولِ الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن (¬2)، وإذا التزم المرء ما في كتاب الله تعالى من وظائف التكليف، أدرك درجة الصائم القائم. ¬

_ = قال السيوطي نقلاً عن ابن عبد البر وصله الدارقطني من طريق خالد بن عبد الرحمن الخراساني عن مالك عن الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه ومن طريق موسى بن داود الضبي عن مالك وخالد وموسى لا بأس بهما. تنوير الحوالك 3/ 96. وأخرجه الترمذي من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن طريق مالك عن علي بن الحسين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره ثم قال وروى غير واحد من أصحاب الزهري عن الزهري عن علي بن الحسين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث مالك مرسلاً وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة وعلي بن الحسين لم يدرك علي بن أبي طالب. الترمذي رقم (2317 و 2318) وروى ابن ماجه حديث أبي هريرة وصححه الشيخ ناصر. صحيح ابن ماجه 2/ 358 وكذلك أخرجه البغوي في شرح السنة 4/ 320 وصححه محققه. (¬1) مالك أنه بلغه عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: استأذن رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت عائشة وأنا معه في البيت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بئس ابن العشيرة ثم أذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت عائشة فلم أنشب أن سمعت ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه فلما خرج الرجل قلت يا رسول الله قلت فيه ما قلت ثم لم تنشب أن ضحكت معه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن شر الناس من اتقاه الناس لشره) الموطأ 2/ 903 وقد وصله البخاري في كتاب الأدب باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب 8/ 20 من طريق سفيان بن عيينة عن محمَّد بن المنكدر عن عروة عن عائشة وأخرجه من نفس الطريق مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب مداراة من يتقى فحشه حديث رقم (2591) والبغوي في شرح السنة 13/ 141. قلت ذكر الشارح هنا عيينة وهو بن حصن الفزاري وكان يقال له الأحمق المطاع قال الباجي قال ابن حبيب إن هذا الرجل هو عيينة بن حصن الفزاري المنتقى 7/ 212 ونقل الحافظ عن ابن بطال إن هذا الرجل هو عيينة بن حصن بن بدر الفزاري وكان يقال له الأحمق المطاع ورجا النبي - صلى الله عليه وسلم - بإقباله عليه تأليفه ليسلم قومه لأنه كان رئيسهم وكذا فسره به عياض ثم القرطبي والنووي جازمين بذلك ونقله ابن التين عن الداودي لكن احتمالاً لا جزمًا وقد أخرجه عبد الغني بن سعيد في المبهمات من طريق عبد الله بن عبد الحكم عن مالك أنه بلغه عن عائشة "استأذن عيينة بن حصن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بئس ابن العشيرة" الحديث وأخرجه ابن بشكوال في المبهمات من طريق الأوزاعي عن يحيى ابن أبي كثير أن عيينة استأذن فذكره مرسلا. فتح الباري 10/ 453 - 454. (¬2) أخرجه مسلم في الصلاة جامع صلاة الليل حديث (746) وأبو داود حديث (1342).

ما جاء في الحياء

ما جاء في الحياء: أدخلَ مالك رضي الله عنه قوله (الحياء من الإيمان) (¬1). قال علماؤنا، إنما صَار من الإيمان المكتسب وهو جبلّة لما يفيد من الكف عما لا يحسن، فعبّر عنه بفائدته على أحد قسمي المجاز. ما جاء في الغضب: أدخل مالك رضي الله عنه حديث حارثة بن قدامة المرسل عن حميد بن عبد الرحمن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (لا تغضَب) (¬2)، قال علماؤنا: إنما نهاه عما علم أنه هواهُ، كما قال لوفد عبد القيس: (لا تشربوا مسكراً) (¬3) وترك بيان سائر المعاصي، وإنما كان ذلك لأن المرء إذا ترك ما يشتهي كان أجدر أن يترك ما لا يشتهي وخصوصاً الغضب فإن من ملك نفسه عنده كان شديدًا سديدًا وإذا ملكها عند الغضب كان أحرى أن يملكها عند الكبر والحسد وأخواتهما. بابُ المهاجَرةِ إن الله تعالى خلق الخلق أشتاتاً في الأهواء لأنه خلقهم من أشتاتٍ في الابتداء ثم دعاهم إلى التآلف وذلك ضد ما جبلهم عليه لأنه تعالى هو الداعي وهو الميسر وهو الخالق لكل شيء المقدر له، فإذا يسَّرك لما أمرك فقد أدركته، وإذا حال بينك وبينه فقد فات وكل ¬

_ (¬1) مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على رجل وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دعه فإن الحياء من الإيمان) الموطأ 2/ 905 والبخاري في كتاب الإيمان باب الحياء من الإيمان 1/ 12 ومسلم في كتاب الإيمان باب شعب الإيمان حديث (59). (¬2) مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن رجلاً أتى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله علمني كلمات أعيش بهن ولا تكثر علي فأنسى فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا تغضب) الموطأ 2/ 905 وأخرجه البخاري عن أبي صالح عن أبي هريرة في كتاب الأدب باب الحذر من الغضب 8/ 35. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب أداء الخمس من الإيمان 1/ 21 ومسلم في كتاب الإيمان باب الأمر بالإيمان بالله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وشرائع الدين والدعاء إليه حديث رقم (17) وفي آخر الحديث ونهاهم عن أربع عن الحنتم والدباء والنقير والمزفت وربما قال المقير وقال احفظوهن واخبروا بهن من وراءكم. لفظ البخاري.

تبيين

ذلك علامة على الهلكة أوالنجاة ولأجل هذا ما جعل تعالى في الهجرة ثلاثاً لأن المرء في ابتداء الغضب مغلوب فرخص له في التمادي على حاله حتى يسكن غضبه بالاغتسال كما جاء في الحديث (¬1) أو بالفتور مع التمادي كما جرى في العادة. حديث: قوله: (لا تحاسدوا) (¬2) إلى آخره أما قوله (لا تباغضوا)، فالبغض هو كراهة المرء أو صفاته وأما الحسد فهو تمني نقل النعمة من غيرك إليك، وأما التدابر فهو اختلاف الأهواء والمقاصد وهي الحالقة، فإن صلاح ذات البين بها تقوم شعائر الإِسلام من الصلاة والحج وبها تحمى البيضة بالاجتهاد والنصرة وبها تجمع حقوق الفقراء من أيدي الأغنياء. تبيين: قال مالك رضي الله عنه: لا أحسب التدابر إلَّا الإعراض (¬3) "قال القاضي: ما كان أغوصه على المقاصد وما كان أعرفه بالمصالح" (¬4)، أصل الفساد البغض، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه وينشأ عن البغض: الإعراض: وهو أول درجات التدابر ويترتب على الإعراض اختلاف الأهواء ومروج الأمورِ، ففسّره مالك رضي الله عنه بالإعراض وهو الأولى حتى إذا اجتنب وكان الإقبال ترتب عليه اتفاق الأهواء، وأما الظن فهو حديث النفس عما يتوهمه المرء، فإن كان عن دليل فالعمل ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في سننه (4784) من حديث، عروة بن محمَّد بن عطية بن عروة السعدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ). ورواه أحمد في المسند 4/ 226 والبغوي في شرح السنة 13/ 161 وهو حديث ضعيف لأن فيه عروة بن محمَّد لم يوثقه غير ابن حبان قال الحافظ عروة بن محمَّد بن عطية السعدي عامل عمر بن عبد العزيز على اليمن مقبول من السادسة مات بعد العشرين ومائة التقريب ص 389 وانظر ت ت 7/ 187. ووقع في ضعيف الجامع الصغير وزياداته تحقيق الشيخ ناصر عطية العوفي بدل عطية السعدي وهو تحريف. (¬2) مالك عن ابن شهاب عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) الموطأ 2/ 907 وأخرجه البخاري في كتاب الأدب باب الهجرة وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحل للرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث، 8/ 25 ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب النهي عن التحاسد حديث (2559). (¬3) قال مالك لا أحسب التدابر إلَّا الإعراض عن أخيك المسلم فتدير عنه بوجهك. الموطأ 2/ 907. (¬4) ما بين القوسين ساقط من الأصل وهو في بقية النسخ.

عليه واجبٌ، وإن كان مسترسلاً، أو عن شهوةٍ فهو أكذب الحديث (¬1). وأما التحسُّس فهو تطلب الاخبار على الناسِ في الجملة، وذلك لا يجوز إلَّا للإمام الذي رتب لمصالحهم وألقي إليه زمام حفظهم فأما عرض الناس قفلا يجوز ذلك لهم إلا لغرضٍ من مصَاهرةٍ أو جوارٍ أو رفاقةٍ في السفر أو معاملةٍ أو ما أشبه ذلك من أسباب الامتزاج، وأما التجسس فهو طلب الخبر الغائب للشخص، وذلك لا يجوز لا للإمام ولا لِسواه، وأما التنافس فهو التحاسد في الجملةِ إلَّا أنه يتميز عنه بأنه سببه وكأنه قيل له لاَ ترى نفسك خيرًا من أحدٍ حتى يحملك ذلك على الحسَدِ والحقدِ وأما المصافحة فلم يرَها مالك في السلام (¬2)، لأنه لم يسمع حديثها وقد اجتمع مع سفيان فصافحه سفيان وقال له كذلك صافحَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لجعفرٍ حين قدم من أرضِ الحبشةِ (¬3)، وقال البراء: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما من مسلمين يلتقيانِ فيتصافحان إلَّا غفر لهما قبل أن يتفرقا) (¬4). وأما المحبة فقد بيّناها في كتب الأصولِ. وقد قال جماعة (من العلماء) (¬5): إن المحبة هي الإيثار، ألا ترى إلى امرأة العزيز لما تناهَت قالت (أنا راودته عن نفسه) (¬6) ففدته بنفسها، ولما دخل الصدّيق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار أرادت الحية أن تخرج من الجحر فسده ¬

_ (¬1) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ..) الموطأ 2/ 907 والبخاري في كتاب الأدب باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} 8/ 23 ومسلم في كتاب البر والصلة والأداب باب تحريم الظن والتجسس والتنافس رقم (2563). (¬2) قال أبو عمر روى ابن وهب وغيره عن مالك كراهة المصافحة والمعانقة وبه قال سحنون وغيره وروي عن مالك خلافه وهو الذي يدل عليه معنى ما في الموطأ وعلى جوازه جماعة العلماء سلفًا وخلفًا وفيه آثارحسان شرح الزرقاني 4/ 265. (¬3) لم أجده بهذا اللفظ وإنما الذي وجدته ما ساقه البيهقي بسنده إلى أجلح بن عبد الله عن الشعبي عن جابر قال لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خيبر قدم جعفر من الحبشة تلقاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقبل جبهته ثم قال والله ما أدري بأيهما أفرح بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ثم قال ورواه الثوري عن أجلح مرسلاً دون ذكر جابر فيه. دلائل النبوة للبيهقي 4/ 246 وذكر الحافظ ابن كثير الطريقين المرسلة والمسندة في سيرته 3/ 390 - 391 ورواه أبو داود من طريق أجلح عن الشعبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقى جعفر بن أبي طالب فالتزمه وقبل بين عينيه سنن أبي داود رقم (5220) وهذا مرسل أيضًا. (¬4) رواه أبو داود في سننه حديث رقم (5212) والترمذي رقم (2727) وقال حديث حسن غريب من حديث أبي إسحاق وابن ماجه حديث رقم (3703) والبغوي في شرح السنة 12/ 189 والحديث صححه الشيخ ناصر في صحيح ابن ماجه 2/ 302. (¬5) ما بين القوسين زيادة من ك. (¬6) سورة يوسف آية (51).

باب اللباس

برجله ففداه بنفسه (¬1)، وكما ترّس عنهُ طلحة ببدنه (¬2) وكما نام علي ابن أبي طالب رضي الله عنه على الفراش في البُردِ الحضرمي بدلاً (¬3) منه وأما الهدية فإنها من أسباب التوادَ لعلاقة الأمال بالمالِ فترى النفس أن كل من أعانها على مصالحها يحبها فتجازيه بالمحبّة أيضاً. حديث: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (تعرض الأعمال (¬4) ...) إلى آخره. أفاد في هذا الحديث فائدة عظيمة، وهي أن المعاصي توقف المغفرة، لا تبطلها وأفاد أيضًا عظم المجاهرة في المعاصي حتى لا تنفع الأعمال الصالحة معها في الحالِ حتى تقع المقابلة في المآل. باب اللباس إنّ الله تعالى خلق العبد لا يعلم شيئًا ولا يملك شيئًا وإلى هذه الحالة يرده كما قال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} (¬5) ثم كلفه ستر العورةِ، ومكَّنه مما كلفه فقال: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} (¬6) الآية. وأذن في التجمل باللباس لما علم من تعلق الأنفس بذلك، ولم يجعله - صلى الله عليه وسلم - من الكبر والظهور المنهي عنه في حديث ثابت بن قيس وقال - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) قال نافع بلغني أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفاً أن يخرج منه دابة أو شيء يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن كثير وهذا مرسل وقد ذكرنا له شواهد أُخر في سيرة الصديق. السيرة لابن كثير 2/ 237 وذكره ابن هشام في سيرته 2/ 486. (¬2) روى البزار بسنده إلى عائشة قالت حدثني أبي قال لما انصرف الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كنت أول من فاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعلت أنظر إلى رجل يقاتل بين يديه فقلت كن طلحة فلما نظرت فإذا أنا بإنسان خلفي كأنه طائر فلم أشعر أن أدركني فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح وإذا طلحة بين يديه صريعاً قال دونكم أخوكم فقد أوجب فتركناه وأقبلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. مجمع الزوائد 6/ 112 وقال بعد سياقه فيه إسحاق بن يحيى ابن طلحة وهو متروك. ورواه الحاكم في المستدرك 3/ 26 - 27 وفيه وإذا بطلحة ست وستون جراحة وقد قطعت إحداهن أكحله وقال هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه لكن الذهبي عقب علية بقوله قلت إسحاق متروك وعزاه ابن القيم في زاد المعاد 3/ 204 لابن حبان وفيه فأقبلنا على طلحة نعالجه وقد أصابته بضعة عشر ضربة. (¬3) انظر شرة ابن هشام 1/ 482 وشرة ابن كثير 2/ 229. (¬4) مالك عن مسلم بن أبي مريم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أنه قال (تعرض أعمال الناس كل جمعة مرتين يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد مؤمن إلّا عبداً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال اتركوا هذين حتى يفيئا) الموطأ 2/ 909 ومسلم في كتاب البر والصلة والأداب باب النهي عن الشحناء والتهاجر (2565). (¬5) سورة الأنبياء آية (104). (¬6) سورة الأعراف آية (26).

(خير ثيابكم البياض) (¬1) وكره لباس الْخَلِقِ دائماً، وقد خرج وعليه أسمال مليتين في حديث قَيْلة (¬2) وقد أنكر على الراعي لباس البردين الخلقين حتى لبس ثوبيه الجديدين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أليس هذا خير لك) (¬3) قال علماء الباطن (¬4): إنما كان الراعي قد تعلق أمله بالبقاء فحبس الثوبين على طول الأجل، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقطع هذا الأمل الذي ربما أفسد عليه العمل، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا أنعم الله على العبد أحبّ أن يرى أثر نعمته عليه) (¬5)، فإن كان يُرى بضم الياء فيعود ذلك إلى رؤية الناس وذلك من باب إظهار العبد ¬

_ (¬1) لم أجد هذا الحديث من رواية ثابت بن قيس وإنما وجدته من رواية ابن عباس وسمرة بن جندب. أما حديث ابن عباس فرواه أبو داود رقم (3878) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم ..) ورواه الترمذي في سننه رقم (994) وقال حسن صحيح وابن ماجه (3566) والحاكم في المستدرك 4/ 185. وأما حديث سمرة بن جندب فقد رواه الترمذي في كتاب الأدب حديث (2810) وقال حسن صحيح ولفظه (البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم). ورواه النسائي في سننه 8/ 205 بلفظ (البسوا من ثيابكم البياض فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم) والحاكم في المستدرك 4/ 185 قال الحافظ عن حديث سمرة اختلف في وصله وإرساله. التلخيص 2/ 69. (¬2) روى الترمذي من طريق عبد الله بن حسان أن جدتاه صفية بنت عُلَيْبَة ودُحَيْنة بنت عُلَيْبة حدثتاه عن قَيْلة بنت مخرمة وكانتا ربيبتهما وقيلة جدة أبيها أم أمه أنها قالت قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت الحديث بطوله حتى جاء رجل وقد ارتفعت الشمس فقال السلام عليك يارسول الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليك السلام ورحمة الله وعليه تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - اسمال مليتين كانتا من زعفران وقد نقضتا ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - عسيب نخلة قال أبو عيسى حديث قيلة لا نعرفه إلّا من حديث عبد الله بن حسان. الترمذي رقم (2814) قال ابن الأثير قوله وعليه أسمال مليتين هي تصغير ملاءة مثناة مخفقة الهمز النهاية 4/ 352 وقال في جامع الأصول 10/ 672 الملاءة بالمد والضم الريطة والجمع الملاء والريطة القطعة الواحدة من الثياب إذا لم تكن لفتين. (¬3) مالك في الموطأ 2/ 910 عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري ورواه البزار بسنده إلى جابر بن عبد الله قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة فبينا أنا نازل تحت الشجرة إذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله هلم إلى الظل فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدت في السفرة جرو قثّاء فقال من أين لكم هذا فذكركلمة ثم أدبر رجل وعليه ثوبان قد خلقا فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أما له ثوبان غير هذين فقلت يا رسول الله له ثوبان في العيبة كسوته إياهما قال فادعه فمره فليلبسهما فدعوته فلبسهما ثم ولى يذهب فقال ما له ضرب الله عنقه أليس هذا خير فسمعه الرجل فرجع فقال يا رسول الله في سبيل الله فقال في سبيل الله فقتل الرجل في سبيل الله. كشف الأستار 3/ 368 قال الهيثمي رواه البزار بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح مجمع الزوائد 5/ 134. (¬4) هذا التعبير دائماً يعبر به عن الصوفية. (¬5) روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عنْ أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده) الترمذي حديث (2819) وقال حديث حسن وأحمد 2/ 182 والحاكم في المستدرك 4/ 135.

نعمة المولى وهو من باب الشكر، وإن كان يرى بفتح الياء، عاد ذلك إلى الله سبحانه فإن لم يلبسها، لم يره الله لابساً، فإن لبسها رآه إذ هو تعالى يعلم المعدوم والموجود ولا يرى إلا الموجود. الأحْمر قد تقدم القول في الأبيض وقد استوفينا الكلام في الأحمر والأصفر في شرح الصحيح على وجه يشفي الصدور، جملته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأحمر ولبْسِه. روى مجاهد عن ابن عمر (¬1) "أن رجلاً مرَّ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوبان أحمران فسلم فلم يردّ النبي عليه السلام" (¬2). وقال جابر (¬3) بن عبد الله رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلةٍ قمراء أضحيان (¬4) وعليه حلةٌ حمراء (¬5). وقال البراء: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه حلة حمراء (¬6) وكلاهما صحيحان قال العلماء إنما لم يسلم على ذلك الرجل لأنه رآه مزهوا بلبسه أو لأن الثوبين كانا أحمرين بالعصفر أو بالزعفران، فكرهه لأنه مخصوص بالنساء بخلاف الصبغ الأصلي فإنه مأذون فيه ولأجل هذا الحديث الوارد من طريق مجاهد المعترض في سنده، أدخل مالك رضي الله عنه عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يلبس الثوب المصبوغ بالمشق والزعفران (¬7). فنافع أثبت من مجاهد، لو استوى السند إليهما. فكيف ولم يستو لأن سنَد نافعٍ أثبت وما كان عبد الله بن عمر ليكره النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا ويستعمله. الأصفر لم يرد فيه حديث لكنّه ورد ممدَّحاً في القرآنِ. قال الله تعالى في صفة بقرة بني إسرائيل {بقرةٌ ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ ولعل الصواب عمرو كما في رواية الترمذي (2807) والعارضة 10/ 251 وأبو داود (4069) في كتاب اللباس ومصابيح السنة 3/ 200 والحاكم في المستدرك 4/ 190. (¬2) أبو داود في كتاب اللباس باب في الحمرة (4069) والترمذي (2807) وقال حسن غريب من هذا الوجه والبغوي في مصابيح السنة 3/ 200 والحكم في المستدرك 4/ 190 وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال المنذري في إسناده أبو يحيى القتات وقد اختلف في اسمه فقيل عبد الرحمن بن دينار ويقال زاذان ويقال عمران ويقال مسلم ويقال زياد ويقال يزيد ويقال دينار وهو كوفي لا يحتج بحديثه وقال أبو بكر البزار وهذا الحديث لا نعلمه يروى بهذا اللفظ إلّا عن عبد الله بن عمرو ولا نعلم له طريقاً إلا هذا الطريق ولا نعلم رواه عن إسرائيل إلّا إسحاق بن منصور. تهذيب السنن 6/ 41 ونقل الشيخ محمَّد حامد الفقي عن الحافظ في الفتح قوله وهو حديث ضعيف الإسناد وإن وقع في نسخ الترمذي إنه حسن. (¬3) كذا في جميع النسخ جابر بن عبد الله والصواب جابر بن سمرة. (¬4) ليلة إضحيان أي مضيئة مقمرة- النهاية 3/ 78. (¬5) رواه الترمذي حديث (2811) وقال حسن غريب لا نعرفه إلّا من حديث الأشعث وهو ابن سوار ورواه الحاكم في المستدرك 1/ 187 وصححه ووافقه الذهبي. (¬6) متفق عليه أخرجه البخاري في اللباس باب الثوب الأحمر 7/ 197 ومسلم في الفضائل باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث (2337) وأبو داود رقم 4072 والترمذي رقم (1724) والنسائي 8/ 203. (¬7) الموطأ 2/ 911 وسنده صحيح ورواه عبد الرزاق في المصنف (19968).

الرقيق من الثياب

صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} ويقرأ يسر الناظرين (¬1). وأسند إلى ابن عباسٍ أنه من طلب حاجةً على نعلٍ أصفر قضيت (¬2) , لأن حاجة بني إسرائيل قضيت بجلدٍ أصفر يحذى من مثله النعال وهذا في عظيم غوصِه. الأسود: في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب أسود (¬3) وقد كانت رايته سوداء (¬4) (¬5). والخزّ: هو عند المتقدمين ثوبٌ سداه من حرير وأُلحم (¬6) من غيره من صوفٍ أوكتانٍ أو قطنٍ واختلف فيه الصحابة رضي الله عنهم اختلافاً متبايناً والصحيح جوازه لأن من حرَّمه لم يفد شيئاً لأنه تعلق بالأصل في تحريم الحرير، فأما الذي جوَّزه ونقلَ جوازه فقد أفاد علماً (¬7). الرقيق من الثياب: يجوز لبسه للرجالِ بلا خلافٍ، ويكره للنساء إلَّا مع الزوج، وإلى هذا المعنى أشار ¬

_ (¬1) سورة البقرة آية (69). (¬2) أخرج ابن أبي حاتم والطبراني والخطيب والديلمي عن ابن عباس قال "من لبس نعلاً صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها وذلك قوله {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}، الدر المنثور 1/ 191. وقال القرطبي في تفسيره 1/ 451 قال ابن عباس الصفرة تسر النفس وحض على لباس النعال الصفر حكاه عنه النقاش. (¬3) مسلم في اللباس باب التواضع في اللباس (2081) وأبو داود رقم (4032) في اللباس والترمذي (2814) ولفظ مسلم عن عائشة قالت "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود". (¬4) إلى هنا انتهت نسخه ك. (¬5) روى أبو داود من طريق أبي يعقوب الثقفي حدثني يونس بن عبيد مولى محمد بن القاسم قال بعثنى محمَّد بن القاسم إلى البراء بن عازب يسأله عن راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماكانت فقال كانت سوداء مربعة من نمرة أبو داود رقم (2591) والترمذي حديث (1680) وقال حسن غريب لا نعرفه إلّا من حديث ابن أبي زائدة وأبو يعقوب الثقفي اسمه اسحاق بن إبراهيم وروي عنه أيضًا عبيد الله ابن موسى قال ابن عدي روى عن الثقات ما لا يتابع عليه وأحاديثه غير محفوظة وقال العقيلي في حديثه نظر ويونس بن عبيد مولى محمَّد ابن القاسم لم يوثقه غير ابن حبان ومعِ ذلك فقد حسنه الترمذي انظر ت ت 1/ 222. وروى الترمذي عن ابن عباس قال كانت راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوداء ولواؤه أبيض وقال حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن عباس ورواه أيضاً ابن ماجه (2818) وصححه الشيخ ناصر في صحيح ابن ماجه2/ 133. (¬6) في ج أو يلحم من غيره. (¬7) قال الحافظ ثبت لبس الخز عن جماعة من الصحابة وغيرهم قال أبو داود لبسه عشرون نفساً من الصحابة وأكثر =

الإسبال

النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (نساء كاسيات عاريات) (¬1) يعني أنهن يلبسنَ الرقيقَ الذي يصفهنَّ. الإسبال: هو حرامٌ في الأصل وعلى كل أحدٍ ما يجر إلى الخيلاء إلَّا أنه أذن للمرأة في إسبال (¬2) ذراعٍ وأذن للرجال في الاسبال إلى الكعبين. قال - صلى الله عليه وسلم -: (إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ما كان أسفلَ من ذلك فهو في النَّار) (¬3). الانتعال: قد عقدنا فيه جزءاً نحوًا من عشرين ورقة عقدنا فيه نحوًا من أربعين مسألة ونحوًا من خمسين حديثاً فليُطلْب هنالك. الذهب: مسائله كثيرة قد ذكرناها في شرح الحديث ذكر مالك رضي الله عنه في الجامع منها مسألتين. إحداهما لباس الصبيان له، فكرهه ولم يره (¬4) حراماً أما نفي التحريم عنهم فلرفع التكليف وأما كراهيته فلئلا يعتادوه فيعسُر فطامُهم عنه. وأما المسألة الثانية فهي استعمال أوانيها. وقد ثبتَ عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة (¬5)، وأجمعت الأمة على أن استعمالها في غير الأكل ¬

_ = وأورده ابن أبي شيبة عن جمع منهم وعن طائفة من التابعين بأسانيد جياد .. والأصح في تفسير الخز إنه ثياب سداها من حرير ولحمتها من غيره وقيل تنسج مخلوطة من حرير وصوف أو نحوه وقيل أصله اسم دابة يقال لها الخز سمي الثوب المتخذ من وبره خزًا لنعومته ثم أطلق على ما يخلط بالحرير لنعومة الحرير. فتح الباري 10/ 295. (¬1) الموطأ 2/ 913 عن أبي هريرة إنه قال نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وريحها يوجد من مسيرة خمسمائة سنة وقد رواه مسلم موصولاً عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رقم (2128). (¬2) الموطأ 2/ 915 من حديث أم سلمة زوج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت حين ذكر الإزار: فالمرأة يا رسول الله قال (ترخيه شبرًا) قالت أم سلمة إذًا ينكشف عنها قال (ذراعًا لا تزيد عليه) وأخرجه أبو داود (4117) والنسائي 8/ 209 وعبد الرزاق في المصنف (19984). (¬3) روى مالك في الموطأ 2/ 914 من حديث أبي سعيد الخدري سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ما أسفل من ذلك ففي النار ما أسفل من ذلك ففي النار .. ورواه أبو داود (4093) وابن ماجه (3573) وهو حديث صحيح. (¬4) قال يحيى وسمعت مالكاً يقول وأنا أكره أن يلبس الغلمان شيئًا من الذهب لأنه "بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تختم الذهب" الموطأ 2/ 912 وقد أخرجه البخاري في اللباس باب خواتم الذهب 7/ 200 ومسلم (2089) في اللباس والزينة ولفظه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - "إنه نهى عن خاتم الذهب". (¬5) روى البخاري من حديث حذيفة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا =

صفة عيسى ابن مريم عليه السلام

والشرب حرام لأنَ النهي عن الأكلِ والشرب لم يكن لذاتيهما، وإنما كانَ لينبه بذلك على تحريم استعمالهما في كل شيء وخص الأكل والشربَ لأنه الغالب، وإذا ثبت أن استعمالهما حرام لم يجز اتخاذهما لأن اتخاذهما لا منفعة فيه إلا للمعصية كالطنبور (¬1) والصليب ويتركب على هذا أن من أتلفهما لا يضمن قيمة الصورة المنهي عنها عند مالك والشافعي رضي الله عنهما. وقال بعضُ أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة يضمن القيمة وهو قول لا معنى له لأنه لا دليلَ في الشرع عليه، أما إنه قد ذكرنا في شرح الحديث وكتب المسائلِ مسألة واحدة تدلُّ على جواز اتخاذهما وعلى ضمان قيمة الصورة فيهما وهو أنَّ في التداوي بما يصنع فيها منفعة عند الأطباء. فإن قلنا بجواز التطبب بها جاز اتخاذها ووجَب ضمان قيمتَها. صفة عيسى ابن مريم عليه السلام ذكرَ حديث نافع عن ابن عمر أراني الليلةَ عند الكعبة إلى آخره (¬2). قوله فيه عليه لمّة قد رجّلها فهي تقطرُ ماءً إشارةً إلى أن ما كان فيه من البؤس وشظفِ العيش، وشعث الرأس، ودنس الثياب عاد نضرةً ونعمة كأنما خرج من ديماس وهو الحمام يتكئ على عواتق رجلينِ من الرفاهية والدلالِ. وقوله: يطوف بالكعبة إشارة إلى أن لذته في العبادة بقيت إلى الآخرة، فلم يرَ لنفسه لذة سواها. فقلتُ: من هذا؟ فقيل: هو المسيحُ بن مَريم بفتح الميم وكسر السين ولهُ تسعة معاني: الأول أنه مسيح الهدى اسم علمٍ كزيدٍ علم لا من الزيادة. والثاني إنه مسيح فعِيل من مسح الأرض ومثله في الاشتقاق والاسم الدجّال إلا أنهُ يفرق بينهما الهدى والضلالة والصالح والكاذب والدجّال والنبيُّ والأعور والسليم. ¬

_ = في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا وهي لكم في الآخرة) البخاري في الأطعمة باب الأكل في إناء مفضض 7/ 99، ومسلم (2067) في كتاب اللباس والزينة، والبغوي في شرح السنة 11/ 369. (¬1) الطنبور الذي يُلْعَبُ به. لسان العرب 4/ 504. (¬2) ولفظه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلاً آدم كأحسن ما أنت راءٍ من أدم الرجال له لمة كأحسن ما أنت راء من اللمم قد رجلها فهي تقطر ماء متكئاً على رجلين أو على عواتق رجلين يطوف بالكعبة فسألت من هذا قيل: المسيح ابن مريم ثم إذا أنا برجل جعد قطط أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية فسألت من هذا فقيل لي: هذا المسيح الدجال) الموطأ 2/ 920. ورواه البخاري في كتاب اللباس باب الجعد 7/ 207، ومسلم في كتاب الإيمان باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال حديث (273).

تنبيه على وهم وتعليم على جهل

الثالث مسيح فعيل بمعنى مفعول كأنه مسح بالبركةِ. والرابع مسيح لحسن وجهه. تقول العرب عليه مسحة جمالٍ. الخامس مسيح فعيل بمعنى مفعول مسحه يحيى ابن زكرياء حينَ ولدَ. السادس كأنَ فَعيل بمعنى فاعل كان لا يمسح ذا عاهيةٍ إلَّا برىء. السابع كان لا يمسح طائراً يخلقه أو ميتاً إلاحيَّي الثامن: مسيح صديق. التاسعُ مسيح معرَّبٌ من مشيح كما عرب موسى من موشَى وفي هذه الأسماء تداخل وبعضها يعضدها الشرع وبعضها تعضدها اللغة، وقد فسرناه في شرحِ الصحيح وأمَّا الدجَّال، فقد تقدم وفيه وجهان. الثالث أنه ممسوح العين في رواية حذيفة الشمال (¬1). خرّجه مسلم وفي حديث الكل اليَمين (¬2)، وكلاهما صحيح. كأن الله يغير هيئته في عينيه, لأن التغيرَ علامة الحدوث، والثبوت علامة القِدَم، فيأتي عوره وتغيره دليلاً على دليل ونقصاناً على نقصانٍ، وأما الدجّال فعيلٌ لأنه يموّه على الناسِ ومنه بعير مدجل إذا طُلي بالقطران، وقيل لعظم أمره وتفاقم خطبهِ ومنه رفقةً دجالةً، إذا كانت كبيرة ومنه دجلة من كبرها في الأنهار (2). تنبيه على وهم وتعليم على جهل رواه بعضهم المسيخُ بخاءٍ معجمةٍ على معنَى فعيل بمعنى مفعول من المسخ وهو، تغير الخلقةِ المعتادة، وكأنه بجهله. كره أن يشترك مع عيسَى ابن مريم في الاسم والصفةِ، فأراد تغييره وليس يلزم من الاشتراك (¬3) في الحالات الاشتراك في الدرجات، وقد بينا ذلك في شرحِ الحديث، بل أغربَ من ذلك أنه لا يضر الاشتراك في المحاسِن والهيئات وقد جاء آخر بجهالةٍ أعظم من الأولِ فقال أنه مسّيخ بتشديد السين والخاء المعجمة (¬4)، فجاء لا فقه ولا لغة كما قيلَ في الأمثالِ "لا عقل ولا قرآن" لأن فَعيل من ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة حديث (2934 و 2935). (¬2) دجلة هي نهر بغداد لا تدخله الألف واللام .. ولها اسمان آخران معجم البلدان 2/ 440. (¬3) في ج (وليس يلزم من الاشتراك في التسميات الاشتراك في الجلالة والدرجات). (¬4) نقل الحافظ عن الجوهري قوله من قاله بالتخفيف فلمسحه الأرض ومن قاله بالتشديد فلكونه ممسوح العين وحكى بعضهم إنه بالخاء المعجمة في الدجال ونسب قائله إلى التصحيف واختلف في تلقيب الدجال بذلك فقيل لأنه ممسوح العين وقيل لأن أحد شقي وجهه خلق ممسوحاً لا عين فيه ولا حاجب وقيل لأنه يمسح الأرض إذا خرج وأما عيسى فقيل سمي بذلك لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن وقيل لأن زكريا مسحه وقيل لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برىء وقيل لأنه كان يمسح الأرض بسياحته وقيل لأن رجله كانت لا أخمص =

باب الفطرة

أبنية أسماء الفاعلين ومسيح من معاني المفعولين، وهما ضدان والله أعلم. فأما صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرجأناها لعظمها، وتركناها لمن يطلبها في شرحِ الحديث، فإنها موعبة فيه ولم يستوعبها أحد كاستيعاب هند بن (¬1) أبي هالة، وهو جزء مجموع (¬2)، فلينظر هنالك أيضاً. بابُ الفطرة الفطرة هي أصل الخلقةِ، وابتداء النشأة، لكن يعبر بها عن الدينِ ولها أسماء قد تقدَّمت، والمراد بها ها هنا الخصَال التي يكمل بها المرء حتى يكون على أفضلِ الصفات، فذكرها مالك رضي الله عنه خمساً (¬3) وذكرها مسلم عشراً (¬4)، ومن جملتها "المضمضة، والاستنشاق، والاستنجاء، والختان"، وكل واحد منهما متأكد في الندب واختلف الناس في المضمَضة والاستنشاق، هل هما واجبَان أم لا. فمن قال: إنهما واجبانِ بناهما على أن الفم والأنفَ في حكم الظَّاهرِ بدليل وجوب غسلهما من النجاسة كظاهر البدن، وبنى علماؤنا على قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - للإعرابي (توضأ كما أمرَك الله) (¬5) وعلى أنهما باطنان من ¬

_ = لها وقيل للبسه المسوح وقيل هو بالعبرانية ما شيخا فعرب المسيح وقيل المسيح الصديق. فتح الباري 2/ 318. (¬1) هند بن أبي هالة واسمه النباش بنون ثم موحدة ثم معجمة التميمي ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أمه خديجة بنت خويلد قيل استشهد يوم الجمل مع علي وقيل عاش بعد ذلك. التقريب ص 574. وقال في ت ت هند بن أبي هالة واسم أبي هالة النباش بن زرارة بن النباش التميمي ويقال مالك بن نباش بن زرارة قاله الزبير ورده ابن عبد البر ونسبه ابن زرارة بن وقدان بن حبيب بن سلامة بن عدي بن جروة بن أسيد بن عمرو بن تميم الأسدي ربيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أمه خديجة بنت خويلد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صفته وحليته وعنه الحسن والحسين وابن عباس وابنه هند بن هند وفي حديثه من لا يعرف قال الآجري عن أبي داود: أخشي أن يكون موضوعًا وقال ابن عبد البركان هند فصيحًا بليغًا وصف حلية النبي - صلى الله عليه وسلم - فأحسن وأمعن. ت ت 11/ 72، الإصابة 6/ 294، الكنى للدولابي 2/ 93. (¬2) ذكره ابن سعد في الطبقات 1/ 422. (¬3) الموطأ 2/ 921 من حديث أبي هريرة قال: (خمس من الفطرة تقليم الأظفار وقص الشارب رنتف الإبط وحلق العانة والإختتان) ورواه البخاري في كتاب اللباس باب قص الشارب عن أبي هريرة عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - 7/ 206, ومسلم في الطهارة حديث (257). (¬4) مسلم في الطهارة من حديث عائشة رقم (261). (¬5) أخرجه الترمذي وحسنه الحاكم في المستدرك وصححه نفل ذلك الحافظ في الفتح 1/ 262.

أصلِ الخلقةِ وعلى أن الجرحَ النافذ إِليهِ جائفة، فتعارضت الأحكام وكان مع نفي وجوبهمِا ظاهر القرآن، وكذلك اختلفوا في الختان فأوجبه كثير من العلماء لأنه شعار الدين، وصفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والإنجيل، ولأنه تكشف له العورة، وسترها فرض، ولو كان مندوباً ما أسقطَ فرضًا، وقد روى مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (وقَّت في الحلقِ أربعين يوماً) (¬1) والأربعون عَدَد تعلقت به أحكامٌ في السنةِ والقرآنِ، وقد قيل إِن النبي - صلى الله عليه وسلم -، إِنما اعتبرَها لأنها مدة إقامة موسَى - صلى الله عليه وسلم - عندَ ربه (¬2) والذي عندي إِن جَميعها واجبٌ وأن الرجل لو تركها لم يكن من جملة الآدميين، فكيفَ من جملةِ المسلمين. حديث: أول مَن ضيّف الضيف إِبراهيم عليه السلام (¬3) وهي سُنة كريمة وخصلة شريفة، كان إبراهيم عليه السلام، لايأكل وَحدَهُ وصارت تلك سُنة بعده، وقد ذكر المفسرون، أن إبراهيم عليه السلام دعَى من يأكل طعامه، فلما تقدم إليه قال له سمِّ الله. قال: لا أدري ما الله. قال له: فاخرج عن طعامي فنزل إليهِ جبريل عليه السلام فقال له: إن الله يطعمه منذ خلقه وهو كافرٌ به وبخلتَ أنتَ عليه بلقمةٍ، فخرج يَعدو حتى أدركه فقال له: إرجع. فسأله فأخبره، فآمن وسمَّى الله معهُ وأكلَ (¬4)، وقد اختلف الناس في الضيافةِ، فرآها الليث بن سعد واجبةً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كانَ يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفَه، جائزته يوم وليلة وما زاد على ذلك فهو صَدقة) (¬5)، وروي أنهم قالَوا: يا رسولَ الله نمرُّ بهم ولا يقرونَا (¬6). فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: .......................... ¬

_ (¬1) مسلم في كتاب الطهارة باب خصال الفطرة من حديث أنس قال: وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة. حديث (258). (¬2) وذلك في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} الأعراف آية (142). (¬3) مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال: (كان إبراهيم أول الناس ضيّف الضيف وأول الناس اختتن وأول الناس قص الشارب ...) الموطأ 2/ 922 والحديث وصله ابن عدي في الكامل 1/ 223 عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال أول من اختتن إبراهيم عليه السلام وذكر السيوطي أنه وصله أيضًا البيهقي في شعب الإيمان .. تنوير الحوالك 3/ 108. (¬4) هذه القصة ذكر القرطبي أنها جاءت في الاسرائيليات. القرطبي 9/ 68. (¬5) أخرجه مالك في الموطأ 2/ 929 والبخاري في كتاب الأدب باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره 8/ 13 ومسلم في كتاب الإيمان باب الحث على أكرام الجار حديث (48) من حديث أبي شريح الخزاعي. (¬6) رواية البخاري ومسلم يقروننا والرواية التي ساق بها الشارح ذكر الحافظ أنها رواية الأصلي وكريمة لا يقرونا بنون =

.............................. (خدْوا الذي لكم) (¬1). فمن الناس من قال إنه منسوخ بأخبارٍ من جملتها لا يحل مالَ امرىءٍ مسلمٍ إلا عن طيب نفسٍ (¬2) منه. ومن الناس من قال إنها واجبة في القرى، حيث لا طعام ولا ماء بخلاف الحواضر، فإن كل من دخلها يجد فيها أينَ يأوي وما يشتري، والحديث الأول لا حجة فيه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فليكرم ضيفه)، والكرامة ليست بواجبةٍ والذي يتنخل عند التحقيق حسب ما بيناه في شرحِ الحديث أنها فرض على الكفاية كسائرِ فروض الكفايات (¬3) وإبراهيم عليه السلام أول من رأى الشيب فقال: ما هذا يا رب فقال وقار فقيل الخبر (¬4) هو الكلام كله، فإن من كان قبل إبراهيم عليه السلام يراه ولا يسأل عنه فلما غم على إبراهيم عليه السلام وأنكره سأل ربه عنه فأعلمه بصفته الحسنَى وسكت له عن عيبه وإنما جعله وقاراً لأنه ينبىء عن ضعف القوى ويذهب بشرةَ الفتوة والصبى، فتسكن الحركات لضعف الشهوات، وقد قال كبار الصحابة رضي الله عنهم: إن الله سبحانه ما شان نبيَّه بالشيب، ولو كان محموداً ما خضّب، فإنه لا يستر إلا ما يكره، وقد يحتمل أن يكون الشعْرُ، كان لا يتغير لمن سبقَ حتى وجدَه إبراهيم عليه السلام والأول أقلُ عناء، وإذا قلنا إن الشيب يغير بالخضاب، فلا تبالي على أي لونٍ كان التغييرُ: بخطرٍ أو بفاغيةَ أسود أو أحمر، وإنما غيَّره أصحاب النّبىّ - صلى الله عليه وسلم - بالحمرة, لأنه هو الذي عَرفوه، وأمكنهم في مواضعهم وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ = واحدة ومنهم من شددها وللترمذي فلا هم يضيفوننا ولا يؤدون ما لنا عليهم من الحق. فتح الباري 5/ 108. (¬1) الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب إكرام الضيف 8/ 39، ومسلم في كتاب اللقطة باب الضيافة ونحوها حديث (1727) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: قلنا: يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم) لفظ البخاري. (¬2) رواه الدارقطني 3/ 26 من حديث أنس ورواه الديلمي في مسند الفردوس (7635) قال الحافظ عن رواية الدارقطني فيها الحارث بن محمَّد الفهري راويه عن يحيى بن سعيد الأنصاري مجهول وله طريق أخرى عنده عن حميد عن أنس والراوي عنه داود بن الزبرقان متروك الحديث. تلخيص الحبير 3/ 46. (¬3) قال الحافظ ظاهر الحديث أن قري الضيف واجب وأن المنزول عليه لو امتنع من الضيافة أخذت منه قهرًا وقال به الليث مطلقًا وخصه أحمد بأهل البوادي دون القرى وقال الجمهور الضيافة سنة مؤكدة وأجابوا عن حديث الباب. بأجولة أحدها: حمله على المضطرين ثانيها أن ذلك كان في أول الإِسلام وكانت المواساة واجبة فلما فتحت الفتوح نسخ ذلك. ثالثها أنه مخصوص بالعمال المبعوثين لقبض الصدقات عنه من جهة الإمام. رابعها أنه خاص بأهل الذمة وأقوى الأجولة الأول. فتح الباري 5/ 108، وانظر تفسير القرطبي 9/ 64. (¬4) في ج وم الخير.

النهي عن الأكل بالشمال

خضَّب بالحناء (¬1)، ولم يصحَّ وهو مستثنى من الزُّوركتوصيلِ الشعرِ ملحق في التحسين باكتساب الكحل، وقد استوفينا الفَرقَ بينَ التحسينِ المأذون فيهِ وبين الزُّور في شرحِ الحديث استيفاءً شافيًا. النهي عن الأكل بالشمالِ ذكرحديث جابر نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأكل الرجل بشماله أو يمشي في نعل واحدةٍ أو يشتمل الصماء أو يحتبي في ثوبٍ واحدٍ كاشفًا عن فرجه (¬2)، فأما الثلاث فإنها مكروهة وأما الرابع فإنه حرام لوجوب ستر العورة والنكتة التي تعتمدونها في الفَرق بين المكروه والحَرام، أنه إذا جاء النهي مقرونًا بالوعيدِ دلَّ على تَحريمه، وإذا جاء مطلقًا كانَ أدبًا، إلَا أن تقترن به قرينةٌ تدل على أنه مصلحة في البدن أو في المال على الاختصَاص بالمرء فإنه يكون مكروهًا على حاله ولا يرتقي إلى التحريم، فإن كان لمصلحةٍ تعم الناس صَار حراماً والدليل على ذلك أن للمرء أن يتحمل الضرَر في نفسه، إن كان ذلك يسيرًا، وليس له أن يلحقه بغيره يسيرًا كان أو كثيرًا. ما جاء في المساكين (¬3) إنما بَّوب عليه مالك رضي الله عنه لأنه اسمٌ شرعي ممدّح في الدين. وفي الحديث: (اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين) (¬4). وفيه ¬

_ (¬1) روى أبو داود من حديث إياد بن لقيط عن أبي رثمة قال أتيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنا وأبي فقال لرجل أو لأبيه من هذا قال ابني قال: (لا تجني عليه) وكان قد لطخ لحيته بالحناء، أبو داود (4208، و 4495) وأحمد في المسند 4/ 163، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 27 و 345، والبغوي في شرح السنة 13/ 230، والحديث صححه الشيخ ناصر في إرواء الغليل 7/ 333. ونقل المنذري عن أبي موسى الأصبهاني قوله حديث أبي رثمة حديث ثابت رواه الثوري وغير واحد عن إياد. تهذيب السنن 6/ 105. (¬2) الموطأ 2/ 925 ومسلم في كتاب اللباس باب اشتمال الصماء والاحتباء في ثوب واحد حديث (2099). (¬3) الموطأ 2/ 923. (¬4) هذا الحديث أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 262 من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم أحيني مسكيناً وتوفني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين) رواه الطبراني وفيه =

نكتة بديعة وهو أنه محمود في الجملة، كالصّمت محمود في الجملة لكثرة آفات الحركة وكثرة آفات الكلام، وقد يكون الشيء ممدّحًا بذاتِه وصفاتِه وقد يكون ممدحًا بقلة آفاته وترك الشرّ للناس صَدقة لا سيما وقد قال علماؤنا رحمة اللهِ عليهم: إن أوَّل ما خلقَ الله تعالى السكون والحركة بعده ثانيًا، ويستحيل عقلًا أن تسبقه الحركة، فصار السكون ممدَّحًا بأصل الخلقة وبيَّن أيضًا ندبَ الصَّدقة إليه والتحضيض في الخلق عليه فقال: (ردُّوا السائل ولو بظلفٍ محرق) (¬1) وليس بمثل وإنما هو حقيقة فإنما خاطبَ به قومًا كانوا يأكلون الجلودَ والعدس ويمصُّون النَّوى، فإذا وجدوا ظلفًا محرقًا كانت غايةً لهم في اللذة، وأيضًا فإنه بّين فيه حال المسكين وهو الذي لا شيء له لاختلاف الناس فيه، والفقير والمسكين اسمان مشتركان في وجه (واحد) (¬2) مفترقان في آخر، فقد يكون الفقير مسكينًا وقد يكون المسكين فقيرًا، وقد يخرج عنه لأشكالهما اشتقاقًا ولارتباطهما معنى ولفظًا جمع الله بينهما في الصدقة واشتغل الناس لقلة تحقيقهم بأن يطلبوا الفرق بين المسكين والفقير وليس المقصود هذا حتى تفنى فيه الأعمار وتسود به الأوراق وإنما المقصود أن الناس المحتاجين قسمان، قسم لا شيء له، وقسم آخر له شئ يسير فأعطيهما جميعًا من الصدقة وسمّهما كيف شئت فإنما يعرفان بحالهما لا بأسمائهما، فافهم هذا, ولا تضيع زمانك فيه. ¬

_ = بقية بن الوليد رقد وثق على ضعفه وشيخ الطبراني وعبيد الله بن زياد الأوزاعي لم أعرفهما وبقية رجاله ثقات. (¬1) الموطأ 2/ 923 مالك عن زيد بن أسلم عن ابن بجيد الأنصاري ثم الحارثي عن جدته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ردوا المسكين ولو بظلف محرق) ورواه النسائي من نفس الطريق في سننه (2565)، وأحمد في المسند 4/ 70، ولم يسمّ ابن بجيد ولا جدته ورواه البغوي في شرح السنة 6/ 175. قال الحافظ في تعجيل المنفعة في ص 360: اتفق رواة الموطأ على إبهامه إلا يحيى بن بكير فقال عن محمَّد بن بجيد وبه جزم ابن البرقي فيما حكاه أبو القاسم الجوهري في مسند الموطأ ووقع في أطراف المزي أن النسائي أخرجه من وجهين عن مالك عن زيد عن عبد الرحمن بن بجيد ولم بترجم في التهذيب لمحمد بل جزم في مبهماته بأن اسمه عبد الرحمن وليس ذلك بجيد لأن النسائي انما رواه غير مسمى كأكثر رواة الموطأ ومستند من سماه عبد الرحمن ما في السنن الثلاث من طريق الليث بن سعد عن سعيد المقبري عن عبد الرحمن بن بجيد عن جدته فذكره ولا يلزم من كون شيخ سعيد المقبري عبد الرحمن أن لا يكون شيخ زيد بن أسلم فيه آخر يسمي محمدًا. (¬2) ما بين القوسين ليس في ج وك.

معى الكافر

معى الكافر ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (المؤمن يأكل في معاء واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) (¬1) اختلف الناس في تأويلهما على ثلاثةِ أقوالٍ أحدها: أنه حكايه حالٍ وقضية عينٍ اختصت بكافرٍ واحدٍ أو بكفارٍ ثلاثة. أحدهم: الجهجان (¬2)، والثاني نضلة بن عمرو (¬3)، والثالث: جميل بن بصرة (¬4) وقيل إن ذلك عبارة عن رغبة الكافر وحرصه على الأكل والجمع, لأنه لا يعلم المقصود من الدنيا ولا المطلوب من الغذاء، فإذا آمن أمن وعلم قدر ما خلق له قصَّر شهوته، وحذف مساحةً كثيرة من بطنه. الثالث: قالت الصوفية: المؤمن يأكل في معاء وهو التقوى على عبادةِ الله والأخذ بمقدار الحاجة لما يديم حال البدن على الاستواء والصحة والكافر يأكل بسبعةِ وجوهٍ، ضرب لكل وجه مثلًا بالمعاء حتي صارت سبعةَ أمعاء الأول أنه يأكل عائشة. الثاني أنه يزيد رغبةً فإنه يرى أن اللقمة في بطنه خيرٌ من عشرةٍ في جليسه، ثم يسمع وصفَ الطعام بأُذنه فتجدَّدُ له شهوةً، ثم يراه فتجدَّد له أخرى أو يشم قتَّارة (¬5)، فإن ذاقه زاد التجدد، وقد يتجدد له شهوةً باللمس إذا وجده لينًا، وهكذا حواسُه الخمس التي خلقها الله تعالى له للعبرة ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 924 والبخاري في الأطعمة باب المؤمن يأكل في معى واحد 7/ 93 ومسلم في كتاب الأشربة باب المؤمن يأكل في معى واحد، حديث (2062). (¬2) هو جهجان بن سعيد بن قيس وقيل ابن مسعود الغفاري شهد بيعة الرضوان ومات بعد عثمان بأقل من سنة. وروى ابن أبى شيبة من طريق عبيد الأغر عن عطاء بن يسار عن جهجان الغفاري أنه قدم في نفر من قومه يريدون الإِسلام فحضروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب فلما أن سلم قال ليأخذ كل رجل بيد جليسه فذكر الحديث في شربه قبل أن يسلم حلاب سبع شياه فلما أسلم لم يستتم حلب شاة، الحديث غريب تفرد به موسى بن عبيده عن عبيد وأشار إليه الترمذي في الترجمة، الإصابة 1/ 265 وأورده الحافظ في الفتح 9/ 558. (¬3) نضلة بن عمرو بن أهبان بن جلان بن عفاف بن حبيب بن غفار الغفاري قال ابن السكن له صحبة وأخرج أحمد والبغوي وثابت في الدلائل وابن قانع من طريق أبي يونس محمَّد بن معن بن نضلة بن عمرو أخبرني جدي عن أبيه نضر بن نضلة أن نضلة لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمرس فهجم عليه شوائل فحلب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إناء فشرب وشرب فضلة إناءه فقال يا رسول الله إني كنت أشرب السبعة فلا أمتلىء فقال: (إن المؤمن يشرب في معى واحد) الحديث. الاصابة 6/ 238. (¬4) جميل بن بصرة والأشهر جميل أبو نصرة الغفاري نزل مصر وقال ابن الهاد بصرة بن أبي بصرة روى عنه أبو هريرة وأبوتميم الحبشاني ومرثد اليزني. تجريد أسماء الصحابة للذهبي 1/ 88. (¬5) القتر ريح البخور والقدر والشواء والعظم المحرق. ترتيب القاموس 3/ 558.

النهي عن الشرب في آنية الفضة

يجعلها هوعلاقة للشهوة فتصير له سبعة طرقٍ يأكل بها، ويجمع بسببها. النهي عن الشرب في آنية الفضة ذكرَ حديث أم سلمة، والحديث صحيح من طريق حذيفة وغيره: (الذي يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) (¬1) وفي الصحيح نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب في آنية الذهب والفضةِ والأكل فيهما (¬2)، وذلك للسرفِ والتشبه بالأعاجم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة) (¬3). وهذا نهي محرَّم باتفاق لأنه اقترن به وعيدٌ، وأما نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النفخ في الشراب (¬4)، فإن كان الرجل يشربُ وحده فهو مكروه لئلا يعتادهُ وأما إن كان مع غيره فهو حرام أما فيه من تقذّر الغير وهو أحد الوجهين في الشرب من في السقاء (¬5)، وأما شرب ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 924 ولفظه عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وأخرجه البخاري في كتاب الأشربة باب آنية الفضة 7/ 146 ومسلم في كتاب اللباس والزينة باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة حديث (2065). (¬2) روى البخاري بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كنا عند حذيفة بالمدائن فاستسقى فأتاه دهقان بقدح فضة فرماه به فقال: إني لم أرمه به إلا أني نهيته فلم ينته وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: (هن لهم في الدنيا وهي لكم في الآخرة) البخاري في كتاب الأشربة باب الشرب. في آنية الذهب 7/ 146، ومسلم في اللباس والزينة حديث (2067)، والبغوي في شرح السنة 11/ 369. (¬3) هذا الحديث متفق عليه أخرجه البخاري في أماكن عده من صحيحه منها في تفسير سورة التحريم 6/ 195 من طريق عبيد بن حنين إنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يحدث إنه قال: مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأل هيبة له حتى خرج حاجًا فخرجت معه فلما رجعت وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له قال فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت: يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النّبيّ من أزواجه فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت: والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك، قال: فلا تفعل ما ظننت أن عندي من علم فاسألني فإن كان لي علم أخبرتك به ... قال عمر: فقلت: يا رسول الله إن كسري وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله؟ فقال: (أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة) وأخرجه مسلم في الطلاق حديث (1479)، والترمذي (3318)، والنسائي 4/ 137 و 138. (¬4) الموطأ 2/ 925 من حديث أبي سعيد قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النفخ في الشراب ورواه الترمذي (1887) وقال حسن صحيح. (¬5) ورد النهي من الشارع عن الشرب من فيّ السقاء. عند البخاري في كتاب الأشربة باب الشرب من فم السقاء =

ما جاء في الطعام والشراب

الرجل وهو قائم (¬1) فهي مسألة عُني بها المبتدعة من نفاةِ القياسِ, لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها وأمر في الصحيح أن يستقى من شربها (¬2) وقد شرب النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهو قائمُ على بعيره بعرفة (¬3) وأدخلَ مالك رضي الله عنه فعْل الخلفاء عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم (¬4)، وأدخل فعل عائشة (¬5) رضي الله عنها، فلا أهله - صلى الله عليه وسلم - عرفت ذلك من فعلِه ولا خلفاؤه، فكيف يلتفت إليه، فأما إنه لم يصحَّ، وإمَّا إنه كان منسوخًا، وإما كان أدبًا لمصلحة البدن فإنه إذا شربَ قائمًا مستعجلًا أضرَّ ذلك به في مجرى العادة فكان النهي لأجلهِ. ما جاء في الطعام والشراب الطعام والشراب خلقة للآدمي وعادة. فأدخل مالك رضي الله عنه ما تعلق به في الحديث من ذكرٍ في أي نوع كان على معنى الجمع لأنه في كتاب الجامع، ثم بدأ بحديث البركة والمعجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن أم سليم حين جعلَ الله تعالى له قليل الطعام كثيرًا (¬6) ¬

_ = 7/ 145، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب من فيِّ السقاء). وهذه المسألة خلافية بن العلماء فقد نقل الحافظ عن النووي نقله الإجماع على أن النهي هنا للتنزيه لا للتحريم ثم عقب عليه بقوله وفي نقل الاتفاق نظر لما سأذكره فقد نقل ابن التين وغيره عن مالك إنه أجاز الشرب من أفواه القرب وقال لم يبلغني فيه نهي وبالغ ابن بطال في رد هذا القول واعتذر عنه ابن المنير باحتمال أنه كان لا يحمل النهي فيه على التحريم كذا قال مع النقل عن مالك إنه لم يبلغه فيه نهي فالاعتذار عنه بهذا القول أولى والحجة قائمة على من بلغه النهي. فتح الباري 10/ 91. (¬1) قال الحافظ جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي وحمل أحاديث الرخصة على أصل الإباحة، فتح الباري 10/ 91 - 92. (¬2) مسلم في كتاب الأشربة حديث 2026 من رواية أبي هريرة. (¬3) البخاري في الأشربة باب من شرب وهو واقف على بعيره 7/ 143، من حديث عمير مولى ابن عباس عن أم الفضل بنت الحارث أنها أرسلت إلي النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح لبن وهو واقف عشية عرفة فأخذ بيده فشربه. (¬4) الموطأ 2/ 925 مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان كانوا يشربون قيامًا، قال الزرقاني وبلاغه صحيح كما قال ابن عيينة. الزرقاني 4/ 294. (¬5) مالك عن ابن شهاب أن عائشة أم المؤمنين وسعد بن أبي وقاص كانا لا يريان بشرب الإنسان وهو قائم بأسًا. الموطأ 2/ 926. (¬6) مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة إنه سمع أنس بن مالك قال أبو طلحة لأم سليم لقد سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفًا أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء فقالت: نعم فأخرجت أقراصًا من شعير ثم أخذت =

وهي معجزة من ألف معجزةٍ، قيدناها له، ومعجزاته أنواع منها تكثير القليل، وتقليل الكثير والارتفاع في الهوى من الثقيل وإنطاق العجماء، وتغير العالم العلوي بانشقاق القمرِ، وإنشاء السحاب وإرسال المطر واضطراب الشجر، وذلة العزيز، وعزة الذليل، وقبض الأيدي عن الحركات، والألسن عن النطق إلى أن ينتهي في عددها إلى ألفٍ فلتُنظر في مسطورها في كتاب أنوارِ الفجر. حديث: طعام الاثنين (¬1)، زاد فيه مسلم وطعام الأربعة كافي الثمانية (¬2)، واختلف العلماء في تأويله، فمنهم من قال: إن معنَاه أن الرجل لا يجوع على نصف عادته فتحصل له فضيلة المشاركة، ولا يحس بنقص العادة. وقيل إن معناه أن الله تعالى يضعُ من بركته فيه التي لنبيه فيزيدهم حتى تكفيهم وهذا إذا صحت نيتهم فيه وانطلقت ألسنتهم به، فإن قالوا لا يكفينا. قيل لهم النبلاء موكل بالمنطق. حديث: قال جابر بن عبد الله قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أغلقوا البابَ ...) (¬3) إلى آخره أما قوله: (فإن الشيطان لا يفتح غلقًا). فإن الله تعالى خلق الشياطين يتصرفون في الهيئات تصرفنا في الحركات، فكما يكونُ الإنسان قائماً وقاعدًا أو ماشياً وجالسًا، ويمنةً ويسرةً، وخلف وقدام، فإن الشيطانَ تارة يكون إنسانًا وتارة يكون ثعبانًا، وتارةً يملأ الأفق وتارةً يكونُ بعوضة، ويلطف حتى لا يحس المرء بمحاربةٍ فيه، لكن هذا التصرف كله إنما هو خلق الله تعالى فيه، فإنه تعالى خالقُ كل شيء هو تعالى يقبضه ويبسطه، فإذا أغلقت البابَ لم ¬

_ = خمارًا لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي وردتني ببعضه ثم أرسلتنى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فذهبت به فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ارسلك أبو طلحة) قال: فقلت: نعم، قال: (للطعام)؟ فقلت: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن معه: (قوموا) قال: فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرنه فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس وليس عندنا من الطعام ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم .. وفي أخر الحديث أكل القوم وشبعوا والقوم سبعون رجلًا أو ثمانون. الموطأ 2/ 927، والبخاري في الأطعمة باب من أكل حتى شبع 7/ 89، ومسلم في كتاب الأشربة حديث (2040). (¬1) الموطأ 2/ 928 من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة) ورواه البخاري في الأطعمة باب طعام الواحد يكفي الاثنين 7/ 92، ومسلم في الأشربة باب فضيلة المساواة في الطعام القليل. حديث (2058). (¬2) مسلم في الباب السابق حديث (2059) من رواية جابر. (¬3) اغلقوا الباب وأوكوا السقاء وأكفؤوا الإناء واخمروا الإناء وأطفئوا المصباح فإن الشيطان لا يفتح غلقًا ولا يحل وكاء ولا كشف إناء وإن الفويسقة تضرم على الناس بيتهم. الموطأ 2/ 929، ورواه. مسلم في كتاب الأشربة باب الأمر بتغطية الإناء حديث (2012).

يجد الشيطان منفذًا ولو كانت الفرجة التي تحته ذراعًا في عشرةٍ وكذلك إذا أوكأت السقاء، ولو أن تعرضَ عليه عودًا، فإنه يكون ذلك العود في حقه كالقفل العظيم، وأما إطفاء النار فإنها عدو لنا حالَ الله بيننا وبينها، وإنما أعطينا منها في الدنيا بمقدار الحاجة برسم التذكرة، كما قال تعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} (¬1) كأنه قال تعالى لنا هذا عدوّك فسخّره واحترز منه ومن أعوانِ هذا العدوّ الفسَّاق، كالفأر وغيره، فإذا أطفأت المصباح لم يجد الفاسق سببًا. حديث أبي هريرة في سقي الكلب العاطش (¬2) ومثله في الصحيح: أن بغيًا من بغايا بني إسرائيل رأت كلبًا يأكل الثرى من العطش فنَزَعَتْ موقها فسقته، فغفر الله لها (¬3) اختلف الناس في تأويله فمنهم من قال إنما كان الغفران لهذا المذنب بأن وفقه الله تعالى بعد ذلك للتوبة، فكان هذا الفعل سببًا لأن رزق التوبة، والتوبةُ سببًا للمغفرة، ومنهم من قال إن هذا الفعل بنفسه كفَّر (¬4) الزنى بعظمه لأن الله تعالى إذا كانت له في العبد إرادة سبقت له عنده عناية ضاعف له الحسنات، حتى تغلب السيئات حتى تكون كالجبل العظيم كما في الحديث الصحيح، وليس يمتنع أن ضوعف لهذا الأجر حتى وازي الزنا، فضلًا من الله تعالى. وقيل بل وازاه بنفسه لأن فيه إحياء نفس. حديث أبى عُبيدة في الحوتِ (¬5)، زاد فيه مسلم فائدة هي في معناه (¬6)، وقد قدمناها، ¬

_ (¬1) سورة الواقعة آية (73). (¬2) (بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب وخرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له) الموطأ 2/ 929، ورواه البخاري في كتاب الشرب باب فضل سقي الماء 3/ 146، ومسلم في كتاب السلام باب فضل ساقي البهائم حديث (2244). (¬3) مسلم في الباب السابق حديث (2245). (¬4) في ك لغي الزنا. (¬5) الموطأ 2/ 930 مالك عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله إنه قال بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثًا قبل الساحل فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاثمائة قال وأنا فيهم، قال: خرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله فكان من ودي تمر قال: فكان يقوتناه كل يوم قليلًا قليلًا حتي فني ولم تصبنا إلا تمرة تمرة فقلت: وما تغني تمرة فقال: لقد وجدنا فقدها حتى فنيت، قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظرب فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة ثم أمر أبو عبيد بضلعين من اضلاعه فنصبا ثم أمر براحلة فرحلت ثم مرت من تحتهما لم تصبهما، وأخرجه البخاري في كتاب الشركة باب الشركة في الطعام والنهد، 3/ 179، ومسلم في كتاب الصيد والذبائح باب إباحة ميتة البحر حديث (1935). (¬6) زاد مسلم (قال أبو عبيدة ميتة ثم قال لا بل نحن رسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي سبيل الله وقد اضطررتم فكلوا, =

وهذا يدل على حله. حديث: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قاتل الله اليهود (¬1) نهوا عن أكل الشحوم). الحديث ليس في الأمم طائفة أعظم تعلقًا بالظاهر من اليهود ومنه هلكوا، فإنهم رأوا في التوراة: جاء الله ونزل الله. فأخذوا بظاهر هذه الألفاظِ، فاعتقدوه جسمًا، ونهُوا عن الصيد للحوت، فكان يأتيهم يوم سبتهم ويوم لا يسبتون لا يأتيهم (¬2). فسكّروا الجداول يوم السبت، فلما أراد الحوت الخروج فلم يجد منفذًا فجروه في يومِ الأحد فأخذوه فمُسخوا قردةً وخنازير (¬3)، ونهوا عن أكلِ الشحوم، فقالوا نبيعها ونأكل ثمنها لأن أكلَ الثمن ليس بأكل المثمن، وهذه الطريقة أراد أن يسللها داود (¬4) في الدين فقال ما قال الله تعالى لا يزاد عليه فهمَّ بالبنيان وهدم الكل ولأجل هذا كان مذهب مالك رضي الله عنه أشرف المذاهب، لتتبعه المعاني وإعراضه عن الظاهر، إذا وجدها. ألا ترى إلى قوله فيمن حلَف ألا يأكل الطعام وألا يلبس هذا الثوب أنه لا ينتفع بهما في حالٍ (¬5) إذا كان ¬

_ = قال: فأقمنا شهراً ونحن ثلاثمائة حتى سمنا قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن ونقطع منه الغدر كالثور أو كغدر الثور ... وتزودنا من لحمه وشائق فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك له فقال: هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا قال: فأرسلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فأكله). (¬1) الموطأ 2/ 931 مالك عن عبد الله بن أبي بكر إنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قاتل الله اليهود نهوا عن أكل الشحم فباعوه فأكلوا ثمنه) وهذا مرسل وهو موصول في الصحيحين عن أبي هريرة أخرجه البخاري في البيوع باب لا يذاب شحم الميتة 3/ 107، ومسلم في المساقاة باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام حديث. (1583). (¬2) بقول الله تعالى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163]. (¬3) قال الحافظ ابن كثير خالف اليهود عهد الله وميثاقه فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره إذ كان ذلك مشووعًا لهم فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الحبائل والبرك قبل يوم السبت فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل فلم تخلص منها يومها ذلك فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة. مختصرتفسير ابن كثير 1/ 73. وقال في موضع آخر هؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام. مختصر ابن كثير 2/ 58. (¬4) رحمه الله فهذا تحامل منه على داود بن علي وداود لم يصفه أحد بالمبتدع وقد تعرضنا لذلك فيما سبق. (¬5) قال الباجي إذا قال الله لالبست هذا الثوب ولا أكلت هذا الخبز فهذا إن أطلق الفعل ولم يعلق بوقت ولا مكان ولا صفة منعت اليمين ذلك الفعل على التأييد فمتى فعله حنث ولزمته الكفارة وإن قيد الفعل بوقت مثل قوله:=

المقصود معنى المنّ (¬1) أو ما يعُمّ وقال أبو حنيفة والشافعي يبيعه ويأكل ثمنه وهذه فتوى يهوديّة (¬2). حديث: قال عيسى ابن مريم: (يا بني إسرائيل عليكم بالماءِ القراح) (¬3) إلى آخره. خلق الله تعالى لابن آدم حاجةً إلى الطعام والشراب وركَّب له الشهوة أكثر من الحاجة وندبه إلى ترك الشهوات والاقتصار على المقدار المحتاج إليه مقدارًا وصفةً، لباسًا ومطعمًا فلا يأكلن كثيرًا ولا يلبسنَّ رقيقًا، ولذلك قال في الحديث (حسب ابن آدم لقيماتٍ يقمَن صلبه) (¬4) وندبَ إلى الاقتصار على جلف (¬5) الخبز والماء ولو أن الخلق بأجمعهم ينتدبون إلى ما ندبوا إليه من ذلك لهلكوا لأنها كانت تذهب القوة التي تكونُ بها عمارة الدنيا، وإقامة معاش الخلق فيها وإشباعهم فلم يكن بدّ من الزيادة في الأكل وجودًا لإقامة الدنيا وتهيئة أسبابها ولم يكن بدّ من الاقتصار على القليل لإقامة السنة ولتضعيف الشهوة حتى تستتر المعصية، وتظهر الطاعة ولما انتهى العلم والحكمة إلى هذا القدر قسم الله تعالى الخلق قسمين، قسمًا يسَّر لهم التقليل والطاعة، وقسمًا سخَّره للكثرة وقدَّر عليه المعصية وأمرَ الأنبياء عيسى ومحمداً وسواهما أن يندبوا الخلقَ في الجملة ثم يظهر بالتيسير من أرادَ الله بهِ العصمة ويظهر بالتسخير من قدَّر الله تعالى أن يقَع في الورطة وقول عيسى عليه السلام فإنكم لن تقوموا بشكره كلام صحيح، فإن شدة الجوع وستر العورة على الإطلاق والجملة بأول درجات الحاجة نعمة عظيمة، إذا أراد المرء أن يعلم مقدارها فلينظرها في سواه، وليقدرها في نفسِه، فكيف أن يضم إلى ذلك الإسراف حتى تنكسر الشهوة في لذة الطعام، وفي زينة اللباس وإذا استرسل على ذلك هَلك ولم يتأت له أملٌ، فإنه أمد لا غاية له ولهذا ¬

_ = والله لا لبست هذا الثوب غدًا أو لا لبسته يوم الجمعة أو لا لبسته بمكة أو لا لبسته راكبًا تعلق المنع بذلك الوقت أو بذلك المكان أو بتلك الصفة فإن فعله على شيء من ذلك حنث وإن فعله في غير ذلك الوقت أو في غير ذلك المكان أو على غير تلك الصفة لم يحنث لأن يمينه لم يتناول ذلك ولا صفته. المنتقى 3/ 243. (¬1) في ج المميز. (¬2) هذا تحامل شديد منه رحمه الله على هؤلاء الأئمة الأجلاء وما كان ينبغي له ذلك. (¬3) مالك إنه بلغه أن عيسى ابن مريم كان يقول: (يا بني إسرائيل عليكم بالماء القراح والبقل البري وخبز الشعير وإياكم وخبز البر فإنكم لن تقوموا بشكره)، الموطأ 2/ 932. (¬4) رواه الترمذي (2380) من حديث المقدام بن معدي يكرب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ما ملأ آدمي وعاء شرًا من بطن بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان ولا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)، قال الترمذي حسن صحيح ورواه ابن ماجه انظر صحيح ابن ماجه 2/ 237، وأحمد في المسند 4/ 132، والحاكم في المستدرك 4/ 121. (¬5) وهي الكسرة من الخبز اليابس القفار. مختصر القاموس ص 110 ترتيب القاموس 1/ 517.

المعنى قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {ولَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ - إلى قوله - خَيْرٌ وَأَبْقَى} (¬1) حديث أبي الهيثم بن التيهان أدخله مالك رضي الله عنه بلاغًا (¬2) وهو صحيح مسند، وكان مقصده فيه أن يبين معيشة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فإنهم كانوا إذا وجدوا تمتعوا, وإذا فقدوا صبروا، وإذا رأوا ذا الحاجة عادوا عليه بما في أيديهم حتى يعودا مثلهم، وهذا أمرٌ لا طاقة لأحدٍ به وأنتَ ترى المحتاجينَ إلى الغذاء العراة من اللباس، وبأيدي الخلق من الأموال ما لو أخرَجوا منها مالا يعاش به ستروهم وأشبعوهم ولكن الله تعالى قبضَ أيديهم حتى يحكم فيهم ليهلك من هلك عن بينةٍ ويحيي من حيّى عن بينةٍ، وفيهِ من السَّنةِ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لما غلبته الحاجة خرج ليستطعم كما فعلَ أخوه موسى عليه السلام مع الخضر حين أتيا أهل قِرية استطعما أهلها (¬3). ورأى الصوفية الصبر على القضاء حتِى يأتي الرزق قسرًا، وقد جرَّبوا ذلك فوجدوه وجاءهم كما أرادوه. وقيل لبعضهم وقد حض على التفويض والتوكل، ونهى أن يتعرض أحدٌ للطلب أو يعلم بشرًا بالحاجةِ، قال له بعضهم فادخلَ في بيتٍ واطمس عليك الباب وافتح في أَعلاه كوةً حتى ترى إن نزل عليك منها رزق. قال: والله فعلتُ ذلك تسعة أشهر، والتجربة تقع في ثلاثةِ أيام وهذا الذي قالوه حق في دينِ الله تعالى وفي سيرته وحكمه ولكنها منزلةٌ رفيعة لا تتأتى لكل أحدٍ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق الخلق بها وأقدرهم عليها وأولاهم لرفيع مرتبته بها وكذلك موسى عليه السلام، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يعزّي الخلق بهم أن يسنَّ السنَّة بهم لما علم من ضعفِ توكلهم، وقلة صبرهم والخروج عندَ الحاجة يكون على وجهين، إما بالتعرض من غير سؤال كما فعلَ أبو هريرة رضي الله عنه حين خرج يستقرئ القرآن لعله يفهم في صوته الجوع صيانةً لماءِ الوجه مع التوسل بالأعمال بالحاجة فلم يفهم أحدٌ ذلك منه ممن تعرَّض له إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإما أن يخرج إلى شخصٍ معينٍ يغلبُ على ظنه أنه يرفع حاجته، وإما أن يعرضَ نفسَه على كل أحدٍ وهي ¬

_ (¬1) سورة طه آية (131). (¬2) مالك إنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد فوجد فيه أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب فسألهما فقالا: أخرجنا الجوع فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وأنا أخرجني الجوع) فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري فأمر لهم بشعير عنده يعمل وقام وذبح لهم شاة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكب عن ذات الدر فذبح لهم شاة واستعذب لهم ماء فعلق في نخلة ثم أتوا بذلك الطعام فأكلوا منه وشربوا من ذلك الماء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لتسألنّ عن نعيم هذا اليوم) الموطأ 2/ 932، ورواه مسلم في كتاب الأشربة باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه، حديث (2038) من رواية أبي هريرة. (¬3) قال تعالى: {فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها} الكهف آية (77).

الغايةُ من الكشفة ولكنه ينبغي أن يتنزَّل المرء في هذه المنازل ويأخذها أولًا فأولًا على هذا الترتيب حتى يحكم الله تعالى بإيقافه حيث شاء منها وأما خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه إلى أبي الهيثم وخبزَ لهم وذَبح واستَعذب فبلغوا ما أرادوا من ذلك، قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (لتسئلن عن نعيم هذا اليوم) إشارةً إلى أنهم لو وجدوا كسرةً تقيم الصلب، وتحفظ القوة لكان في ذلك كفايةً ونعمةً، وكيف وقد وجدوا الأثافىّ الثلاثة التي يقوم بها قدر اللذة وهي الخبز واللحم والماء البارد، وقد اختلفوا في ضبطِ قوله لتُسئلنَّ هل هو بالتاءِ على معنى خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للقومِ أو بالنون على معنى الإخبار عنه وعنهم والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا شك مسؤول ولكن مضمون عنه صحة ما يقول وسائر الخلق يتفاوتون في المرتبة فأقواهم حجة أعظمهم سلامة وخصوصًا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما, ولأجل هذا طرح لعمر ضاع من تمر فأكله لحاجته إليه ولو فَقده لصبر عنه (¬1)، فقد صبر ما لم يقدر أحد عليه وذلك أنه لم يأتدم طول ما أجدب الناس حتى أخصبوا (¬2). حديث أبي هريرة، رضي الله عنه في الأضياف والغنم لما نزل الأضياف بأبي هريرة رضي الله عنه أرسل إلى أمه في أن ترسل إليه (¬3) شيئاً وهكذا سُنّة الضيف المقدّم إليه نزل يتشاغل به حتى ينظر فيما يُصلح له وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نزل أهل الجنَّة الذي يقدم إليهم أول دخولهم حتى يستوفوا سائر نعيمهم (ثورٌ وحشي وحوت مشوي يأكل من زيادة كبدها سبعون ألفًا) (¬4) وليس ذلك عن حاجةٍ وإنما هو مثال تجري عليه ¬

_ (¬1) مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك إنه قال: رأيت عمر بن الخطاب وهو يومئذ أمير المؤمنين يطرح له صاع من تمر فيأكله حتى يأكل حشفها، الموطأ 2/ 933 وهذا الأثر صحيح إلى عمر. (¬2) قال الحافظ بن حجر في الإصابة 4/ 279 في ترجمة عمر روى يعقوب بن سفيان في تاريخه بسند جيد إلي زر بن حبيش قال رأيت عمر أعسر أصلع آدم قد فرع الناس كأنه على دابة قال فذكرت هذه القصة لولد عمر فقال: سمعنا أشياخنا يذكرون أن عمركان أبيض فلما كان عام الرمادة وهي سنة المجاعة ترك أكل اللحم والسمن وأدمن أكل الزيت حتى تغير لونه وكان قد احمر فشحب لونه. (¬3) مالك عن محمَّد بن عمرو بن حلحلة عن حميد بن مالك بن خثيم أنه قال كنت جالسًا مع أبي هريرة بأرضه بالعقيق فأتاه قوم من أهل المدينة على دواب فنزلوا عنده قال حميد فقال أبو هريرة إذهب إلى أمي فقل إن ابنك يقرئك السلام ويقول: أطعمينا شيئاً قال: فوضعت ثلاثة أقراص في صحفة وشيئًا من زيت وملح ثم وضعتها على رأسي وحملتها إليهم فلما وضعتها بين أيديهم كبر أبو هريرة وقال: الحمد الله الذي أشبعنا من الخبز بعد أن لم يكن طعامنا إلا الأسودين الماء والتمر فلم يصب القوم من الطعام شيئًا ... الموطأ 2/ 933. (¬4) روى مسلم من حديث وثوبان قال: كنت قائمًا عند رسول الله فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عيك يا محمَّد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الدي سماه به أهله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن اسمي محمَّد الذي سماني به أهلي، فقال =

الألسنة، ولن تجد لسنة الله تبديلًا وأما قوله إنها وضعت زيتًا وملحًا وأقراصًا، فإنما وضعت الملح لأن أهل تلك البلد لا يجعلون في خبزهم ملحًا لأنَّ إدخال الملح فيه يفسد هيئته وينقص لذته وإنما يأكلونه بالملح أو يكثرون الملح في الإدام فلما رآه أبو هريرة كبَّر وحمد الله تعالى على أن أشبعه من خبز قد كان قبل ذلك لا يقدر عليه تذكرًا على حق النعمة لما سبق من فقدها وتنبيهًا للأضياف على القدر الذي حضر منها وقوله أحسن إلى غنمك الإحسان إلى البهائم أصلٌ في هذا الدين حتى في ذبحها قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قتلتم فاحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) (¬1) ثم قال (وامسح الرغام عنها)، يروى بالعين والغَين وهما سواء وهو ما يسيل من الأنف ويسمى من ابن آدم الذنين، وذلك يكون بقدر منازل الحيوان في الانتفاع فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يمسحُ بردائه عن فرسه وذلك لعظيم منزلته وفضل الانتفاع به) (¬2) وقوله إنها من دواب الجنّة فأضافها إلى الجنة تكرمة كنَّى به عن ضعف منهُ صاحبها حتى تقف به على شغله، وتحبسه عن عبادته، وتضعف همته عن المصاولة والمناضلة بخلاف الإبل، فإن همة صاحبها تتطاول إلى المقارعة وشدّ الرحال عليها إلى ما شاء الله تعالى من المطالب والأغراض في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الإبِل عز لأهلها والغنم بركة والخيلُ معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) (¬3)، حديث. كان عمر رضي الله عنه ينهى عن اللحم (¬4)، إذا كان ضراوة للمرءِ حتى أنه رأى ¬

_ = اليهودي: جئت أسألك، فقال: سل ... قال: من أول الناس بجازة؟ قال: فقراء المهاجرين، قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة، قال: زيادة كبد النون قال: فما غذاؤهم على أثرها؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها ... مسلم كتاب الحيض (315). (¬1) رواه مسلم من حديث شداد بن أوس قال: ثنتان حفظتهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحدّ أحدكم شفرته فليرح ذبيحته) مسلم في كتاب الصيد والذبائح باب الأمر بإحسان الذبح والقتل حديث (1955)، ورواه البغوي في شرح السنة 11/ 219. (¬2) قال ابن سعد أخبرنا حُجين بن الليث بن سعد أخبرنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أبي عبد الله واقد إنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قام إلى فرس له فمسح وجهه بكم قميصه، فقالوا: يا رسول الله أبقميصك؟ قال: إن جبريل عاتبني في الخيل)، طبقات ابن سعد 1/ 490. (¬3) رواه ابن ماجه (2305) من حديث عروة البارقي يرفعه قال: (الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة) قال في الزوائد إسناده صحيح على شرط الشيخين بل بعضه في الصحيحين بهذا الوجه وإنما انفرد ابن ماجه يذكر الإبل والغنم فلذلك ذكرته، سنن ابن ماجه 2/ 773، وذكره الشيخ ناصر في السلسلة الصحيحة (1763) وفي صحيح ابن ماجه 2/ 32. (¬4) مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب أدرك جابر بن عبد الله ومعه حمال لحم فقال: ما هذا؟ فقال: =

ما جاء في لبس الخاتم

جابر بن عبد الله ومعه حمَّال منه فعاتبه وقال: إني (¬1) أخشى أن تكون ممن قال الله تعالى فيه {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} وهذا الذي ندب إليه عمر رضي الله عنه من أداب الشريعة، فإن من حسن معاش المرء إلَّا يسترسل على الشهوة دائمًا، فإنه إذا اعتادها ففقدها لم يستطع الصَّبر عنها فأما أن يتكلف ما لا يجوز، وإما أن يقيم معذب النفسِ، هذا إذا قام بحقها، وأما إن قصَّر فيه مثل أن يشبع، فلا يطيع أو يبيت شبعانًا أو جاره طيّانًا، فقد صار ذلك في حد المعصيةِ وخرج عن باب المباحِ وفي مثله يقال {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا, واستمتعتم بها}. يريد فلم تطيعوا ولم تواسوا. ما جاء في لبس الخاتم ذكر حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان يلبسُ خاتمًا من ذهب ثم نبذه) (¬2) والأصل في الخاتم وسبب كسبه أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أرادَ أن يكتب إلى الأعاجم فقيلَ له إنهم لا يقرأون كتابًا إلا مختومًا، فاتخذ خاتمًا كله من فضةٍ (¬3) فصّه منه (¬4) وقد نبذَ خاتمًا كان في يده من فضةٍ (¬5) والذي استقرَ عليهِ الحال أنه اتخذ خاتمًا فضهُ من فضة وزن درهيمن وقد جاءَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل وعليهِ خاتم من شبهِ يعني الصفر فقال له: (إني لأجدُ منك ريح الأصنام)، وجاء إليه ¬

_ يا أمير المؤمنين قَرِمْنا إلى اللحم فاشريت بدرهم لحمًا، فقال عمر: أما يريد أحدكم أن يطوي بطنه عن جاره أو ابن عمه أين تذهب عنكم هذه الأية {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} الأحقاف الآية (20) الموطأ 2/ 936. (¬1) في ج إني لأخشى. (¬2) مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس خاتمًا من ذهب ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنبذه وقال: (لا ألبسه أبدًا) قال: فنبذ الناس خواتمهم، الموطأ 2/ 936، ورواه البخاري في كتاب اللباس باب حدثنا عبد الله بن مسلمة 7/ 201. (¬3) متفق عليه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب باب الروم قيل له: إنهم لن يقرؤوا كتابك إذا لم يكن مختومًا فاتخذ خاتمًا من فضة ونقشه محمد رسول الله ... البخاري في اللباس باب اتخاذ الخاتم 7/ 203، ومسلم في اللباس والزينة باب اتخاذ النبيّ خاتمًا لما أراد أن يكتب باب العجم حديث (2092)، والبغوي في شرح السنة 12/ 60، وأبو داود (4214)، والترمذي (2719)، والنسائي (5199)، وابن ماجه (3641). (¬4) وفي رواية حميد عن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان خاتمه من فضّة وكان فصه منه. البخاري في كتاب اللباس باب فص الخاتم 7/ 201، وأبو داود (4217). (¬5) متفق عليه من حديث أنس البخاري في اللباس 7/ 201، ومسلم في اللباس (2093).

آخر وعليهِ خاتم من حديدٍ فقال له: (إني أرى عليه حلية أهل النَّارُ)، وجاءه آخر وعليه خاتم من ذهب، فقال: (اطرح عنك حلية أهل الجنّة) (¬1)، وقد روي أنه كان للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - خاتمًا من حديد وقد لوِّي عليه بفضةٍ (¬2)،وروى ابن مسعودٍ قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره عشر خلالٍ من البدعة، كما كان يحب عشر خلالٍ من الفطرة. قال ابن مسعودٍ: الصفرة يعني الخُلوق، وتغيير الشيب وجرّ الإزار والتختم بالذهب والتبرج بالزينة لغير محلها، والضرب بالكعاب، والرقى إلا بالمعوذات، وعقد التمائم، وعزلِ الماء، وفساد الصبيّ يعني الغيلة (¬3). وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتختم في هذه وهذه يعني الوسطى والسبَّابة (¬4) فتأوله الترمذي على أنه يكره التختم في الإصبعينِ، وليس كذلك وإنما المعنى فيه والله أعلم ألا يتشبَّه الرجال بالنساء بالتختم في الأصابع كلها، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تختم في يمينه (¬5) وفي يساره (¬6)، واستقر الأكثر على أن يتختم في اليسار (¬7) وهي زينة مرخص فيها أصله الحاجة كما قدمنا ولكن رخّص فيها لجميع الأمة ¬

_ (¬1) رواه أبو داود من طريق عبد الله بن مسلم السلمي المروزي أبي طيبة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رجلًا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه خاتم شبه فقال له: (ما لي أجد منك ريح الأصنام)؟ فطرحه ثم جاء وعليه خاتم من حديد ... أبو داود (4223)، والترمذي (1786) وقال حديث غريب، والنسائي (5195) وفيه عبد الله بن مسلم السلمي أبو طيبة المروزي قاضيها صدوق يهم ... التقريب ص (323). (¬2) رواه أبو داود من طريق إياس بن الحارث بن المعيقيب وجده من قبل أمه أبو ذباب عن جده قال: كان خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديد ملوى عليه فضة قال: فربما كان في يدي قال: وكان المعيقيب على خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم -. أبو داود (4224)، والنسائي في الزينة حديث (5208). (¬3) رواه أحمد في المسند 1/ 380 وأبو داود من طريق حرملة أن ابن مسعود كان يقول كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره عشر خلال ... حديث (4222)، والنسائي (5091). (¬4) مسلم في كتاب اللباس باب النهي عن التختم في الوسطى والتي تليها حديث (2078)، والبغوي في مصابيح السنة 3/ 206. (¬5) روى مسلم بسنده إلى أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبس خاتم فضة في يمينه فيه فص حبشي كان يجعل فصه مما يلي كفه، كتاب اللباس، باب خاتم الورق (2094). (¬6) مسلم في كتاب اللباس باب لبس الخاتم في الخنصر من اليد (2095) من حديث أنس قال: كان خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه وأشار إلى الخنصر من يده اليسرى. (¬7) هذا الاستحباب مذهب مالك قال النووي اجمعوا على جواز التختم في اليمين وعلى جوازه في اليسار ولا كراهة في واحله منهما واختلفوا أيتهما أفضل فتختم كثيرون من السلف في اليمين وكثيرون في اليسار واستحب مالك اليسار وكره اليمين وفي مذهبنا وجهان لأصحابنا الصحيح أن اليمين أفضل لأنه زينة واليمين أشرف وأحق بالزينة والإكرام. شرح النووي على ملم 14/ 72.

باب العين

وليس لها عندي معنى بل هي ثقل لليدِ وشغل للبال. بابُ العين قد بينا في كل موضعٍ بتأييدِ الله تعالى وتوفيقه، أن البارئ تعالى هو الخالقُ وحده فليسَ في السمواتِ والأرض حركة ولا سكنة ولا كلمة ولا لفظة إلا والبارىء تعالى هو خالِقها في العبد ومصرفها فيه ومقدرها له وهو تعالى يرتب أفعالهُ وينظم أسبابها ويرتب الفوائد على الأسباب ولو شاء لقطعَ الروابط وخلق الكلِ ابتداءً، وكذلك يفعلُ في بعضِ الأشياء والمحال لينبه الغافلين على ذلك من سيرته فالناس بغفلتهم يتعلقون بالأسباب وينسون المسبب، وإنما ينبغي أن ينزل كل شيء على مرتبته. فيقال إن الله تعالى فاعل لكل شيء وأجرى العادة بكذا، وقد يفهم الخلق حكمة الله تعالى في الأسباب والمسببات وتلك نعمة منه تنشرح بها الصدور، وقد تقصر معرفتهم عنها فيجب التسليم لها، فليس يلزم السيد أن يطلعَ العبد على شيء من أسراره، فكيف على جميعها، فما عرَّفه به منها فليحمده عليه فهوَ البرّ الرحيم. فمن الأسباب والمسببات المنتظمة في العالم أن الله تعالى خلقَ النفسَ على صفاتٍ يطول تعدادُها بمعرفتها تعرف ربها، فإن من عرفَ نفسه عرفَ ربه وقال تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (¬1) وليس ذلك كما قال بعضُ العلماء أن يكونَ الشراب والطعام يدخل من منفذ واحد ويخرج من منفذين، ولا أن الخبر يقعُ من عضوٍ واحد وهو اللسان في عضوين وهما الأذنان بل هذا القدر جزء من مائة ألف أو أكثر من ذلك مما لا يحصى من حكم النفس وقد أوردنا منها في أنوار الفجر، في مجالس الذكر ألف حكمةٍ وكان ذلك يسيرًا جدًا بالإضافة إلى من (يعلمه) (¬2) هو أعلم منَّا أضعافًا مضاعفةً فمن أثارِ النفس ما يظهر على الجسم في حالات مختلفةٍ فأضعفها ما يتعلق بها من التوهم حتى يظهرَ في أثره في البَدن معجلاً ويحدث الله تعالى فيه فعلًا غريبًا يكون سببه والمقدمة إليه التوهم الذي علقته النفس مثاله أن العبد يمشي في الأرض على مقدار من المساحة سعته ذراع ولو مشى على مثله في ¬

_ (¬1) سورة الذاريات آية (21). (¬2) ما بين القوسين ليس في ج وم.

جدار عال أو على هدف كثير الانخفاض لسقط في الحال لما تحدثه به نفسه من السقوط فلا يزال ذلك الحديث في نفسه يتصل حتى يظهر الله تعالى أثره في البدن بالسقوط وقد يظهر من النفس أثر ثان في غيرها وفي محل آخر (¬1) سواها إنما يكون من اعتقادها وقبولها مثاله العين، فإن النفس إذا رأت صورة تستحسنها فغلب ذلك عليها واستولى على القلب فيها فإن لم ينطق بحرف لم يخلق الله تعالى شيئًا وإن نطق بالاستحسان والتعجب من الحال فقد أجرى الله العادة بأنه لم خلق النطق بالاستحسان والتعجب من العائن خلق الله تعالى في بدن المعين المرض والهلكة على قدر ما قدر الله تعالى من ترتيب الأمرين وما سبق في علمه تعالى من تأثير الوجهين فلذلك نهى العائن عن القول والباري تعالى وإن كان سبق من حكمه بالوجود بذلك فقد سبق من حكمته أن العاثن إذا برك سقط حكم فعله ولم يظهر له أثر والباري تعالى يرد قضاءه بقضائه والأمر كله لله ومن حكمته تعالى أن جعل غسل المعين بوضوء العائن مسقطًا لأثر عينه ومن غريب حكمة الله تعالى الذي لا تهتدي إليه العقول ولا يتأدى وجه حكمته إلى المعقول أن يغسل من العائن وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره ثم يجمعُ في قدحٍ ويصب عليه، وقد رأيتُ جماعةً من الملاحدة بديار والمشرق يعترضون على هذا ويقولون إنه كذب منكم أو حيلة ممن تنسبونه إليه. قلنا لهم هذا يردُه أمران عظيمان، أحدهما الوجود فإنا نرى العينَ تؤثر في المعين ثم نرى الشفاء يحصل في الحالِ. وأما الثاني فليس يمتنع أن تكون خاصة لا يعلمها إلًّا خالق العام والخاص إطلع عليها رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كما نظمتم أنتم طبائع إلَّادوية على طبائع الخلقة الآدمية فيما يعرضُ لها من المعاني التي تعدل بها عن مزاجها الأصلي ثم لما إن وجدتم أشياء تنفع في تعديل المزاج ولم تروْا بينها وبين المزاج مناسبةً، قلتم هذه خاصة وجمعتم منها عشرة آلافٍ ولم تسامحوا لنا في عشرةٍ ص. فإن قلتم إن الوجودَ يشهدُ لنا. قلنا والوجودُ يشهدُ لنا ونحنُ نقول إن الكلَ لله تعالى وتدبيره فإذا سلمتوه قسرًا بالدليل فعبّروه كيفَ ما يسَّر الله تعالى على ألسنتكم ومما يجري مثله في الوجهِ الثاني في السحرِ، فإن الله تعالى قدرَ به في العالم في جملةِ المضرّات كما قدر سائرها، وهو فعل غريب يحدثُ عند قول الساحر وفعله في جسم المسحور أو ماله وضعَه الله تعالى في الأرض بمشيئته وحكمته فتحق الكلمة على من سبقت عليه بالهلكةِ وهو كفر في نفسه لأنه لا يتأتى إلا بالكفرِ، وقد بينا حقيقته وحكمه في كتاب ¬

_ (¬1) في ج وم سوى محلها.

أحكام القرآن (¬1)، وشرح الحديث وكتب الأصول ومن فصول الشريعة وفضلها وحكمتها البالغة ما وضع الله من الرقى في إذهاب الأمراض من الأبدان بها وإبطال سحر الساحِر منها وردَّ عين العائن عند الاسترقاء بها ودفع ضرر كل مضرٍ بإذن الله سبحانه بالشّخص فيها وذلك لا تستقر به نفوسكم ولا تنشرح عليه صدوركم، إلا إذا علمتم أن البارئ تعالى هو الذي خلقَ الشفاء عند استعمال الدواء لاحظ في الدواء في ذلك إلا جري العادة، وإن الذي يشرب الغاريقون (¬2) فإذا وقعَ في معدتِه ألان الله تعالى به (¬3) البلغم، فأخرجه عنه وأبقى سائر الأخلاط على صفتها، وكذلك إذا شربَ السقمونيا (¬4) فاستقرت في معدته ألان الله تعالى له الصفراءَ، فأخرجها عنه وترك سائر الأخلاط على هيئتها فيا عجبا لقومٍ يدعون أن الغاريقونَ والسقمونيا يفعلان هذا الفعل الغريبَ أو يصحُّ في عَقل واحدٍ أن يكونَ جمادًا فاعلًا، فإن قال ذلك طبع فيهما. قلنا: كلمةُ باطل أريد بها (باطل ما) (¬5) الطبع والتّطبع، إنما هو الله تعالى يصرف مخلوقاته كيف شاء، وكما يصرفُ الأفعال الغريبة داخل البدن بالأدوية كذلك يصرفها من خارج البدن بالرقاء والتعويذ وقد شاهدنا ذلك والمشاهدة أقوى من الدليل النظري وقد استوفينا الكلام مع هؤلاء في كتب الأصول فإن قيل فإذا جوّزتم الاسترقاء فهل يجوز أن يسترقي الرجل بالكافر (¬6) قلنا ذلك جائز فدعهم يقولون فإن قالوا حقاً ¬

_ (¬1) قال في الأحكام ص (31) من أقسامه فعل ما يفرق به بين المرء وزوجه ومنه ما يجمع بين المرء وزوجه ويسمى التولة وكلاهما كفر والكل حرام قاله مالك وقال الشافعي السحر معصية إن قتل بها الساحر قتل وإن أضر بها أدب على قدر الضرر وهذا باطل من وجهين أحدهما أنه لم يعلم السحر وحقيقته إنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى وتنسب إليه فيه المقادير والكائنات والثاني أن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر لأنه تعالى قال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} من السحر وما كفر سليمان بقول السحر ولكن الشياطين كفروا به وبتعليمه وهاروت وماروت يقولان إنما نحن فتنة فلا تكفر وهذا تأكيد للبيان. (¬2) الغاريقون شراب يعزى استخراجه إلى أفلاطون وهو رطوبات تتعفن في باطن متآكل من الأشجار حتى عن التين والجميز وقيل هو عروق منقلة أو قطر يسقط من الشجر والأنثى الخفيف الأبيض الهش والذكر عكسه وهو مركز قوي وذكر الأنطاكي من فوائده الكثير. تذكرة داود الأنطاكي 1/ 243. (¬3) زيادة من ج. (¬4) السقمونيا عبارة عن لبن ينوعات مخصوصة تنبت بالأحجار والجبال أصلاً واحدًا يتفرع عنه قضبان كثيرة تطول نحو ثلاثة أذرع وعليها رطولة دقيقة لزجة وذكر من منافعه داود الأنطاكي الكثير. انظر تذكرة داود الأنطاكي في الطب 1/ 193. (¬5) زيادة من ح وم. (¬6) في ج وك الكفار.

وخلق الله تعالى الشفاء فذلك المطلوب في الوجهين وان قالوا باطلًا فخلق الله تعالى الشفاء ربحنا وخسروا فإن قيل وهل يجوز التعالج بالأدوية كما يجوز التعالج بالرقاء قلنا: قد قال مالك رضي الله عنه ترجمة على هذا المعنى تعالج المريض (¬1) وذكر حديث زيد بن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجلين من أنمار: (أيكما أطب؟ فقالا: أوفي التطبيب خير يا رسول الله؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنزل الدواء الذي أنزل الداء) (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: (في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام) (¬3) وقال أيضًا: (إن يكن الشفاء ففي ثلاث شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار) (¬4) وقد قال أبو رثمة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: أنا طبيب قال له: (الطبيب الله بل أنت رفيق) (¬5). واختلف الناس في هذا المعنى على ثلاثة أقوال: الأول: ترك التطبيب والاستسلام لأمر الله تعالى والتوكل عليه أخذًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) (¬6) وكذلك قيل ................................ ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 943. (¬2) الموطأ 2/ 943 مالك عن زيد بن أسلم أن رجلًا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابه جرح فاحتقن الجرح الدم وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فنظرا إليه فزعما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهما: أيكما أطب فقالا: أوفي الطب خير يا رسول الله؟ فزعم زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء) وهذا مرسل عند جميع الرواة لكن شواهده كثيرة وصحيحة منها ما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء) البخاري في الطب 7/ 158، وما أخرجه مسلم من حديث جابر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله عزّ وجلّ) مسلم في كتاب السلام باب لكل داء دواء حديث (2204). (¬3) حديث متفق عليه أخرجه البخاري في الطب باب الحبة السوداه 7/ 160 ومسلم في كتاب السلام باب الحبة السوداء (2215) من حديث أبي هريرة. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الطب باب الدواء بالعسل 7/ 159 ومسلم في كتاب السلام باب لكل داء دواء حديث (2205) من رواية جابر بن عبد الله. (¬5) رواه أبو داود من حديث أبي رثمة - حديث (4207) والنرمذي (2812) وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبيد الله بن إياد وقد تقدم تخريجه. (¬6) مسلم في كتاب الإيمان باب دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب حديث (218) وأحمد في المسند 4/ 436 و 441 و 443 والبغوي في شرع السنة 14/ 299 من حديث عمران بن حصين قال: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، قالوا: ومن هم يا رسول الله؟

............................................. للصديق (¬1) في مرضه: ألاندعو لك طبيبًا قال: الطبيب أمرضني (¬2) وكذلك لما لد (¬3) النبي- صلى الله عليه وسلم - في مرضه اقتص منهم وقال: (لا يبقى أحد في البيت إلا لد إلا العباس فإنه لم يشهدكم) (¬4). الثاني: وقالت طائفة أخرى يتطبب إذا نزل الداء كما أمر النبي- صلى الله عليه وسلم - حين ذكر الداء والأدواء وما ذكرها إلا تعليمًا فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يطبب أصحابه إذا نزلت بهم الأدواء (¬5) فيكويهم كما فعل بالسعدين (¬6) ويسقيهم، كما قال للرجل حين جاءه فقال له إن أخي يشتكي بطنه: اسقه شربة عسل ثم عاد إلى الشكوى فعاد له القول (¬7)، الحديث. ¬

_ قال: هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة فقال: أدع الله أن يجعلنى منهم قال: أنت منهم، فقام رجل فقال: يا نبي الله أدع الله أن يجعلني منهم، قال: سبقك بها عكاشة). (¬1) في م قيل لأبي بكر الصديق. (¬2) لم أجده بهذا اللفظ وإنما وجدت في طبقات ابن سعد 3/ 198 من طريق أبي السفر قال: مرض أبو بكر فقالوا: ألا ندعو الطبيب فقال: قد رآني فقال إني فعال لما أريد. (¬3) قالت عائشة لددناه أي جعلنا في جانب فمه دواء بغير اختياره وهذا هو اللدود. فتح الباري 8/ 147، جامع الأصول 7/ 515. (¬4) روى البخاري في كتاب الطب باب اللدرد 7/ 164 قالت عائشة: لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني فقلنا: كراهية المريض للدواء فلما أفاق قال: ألم أنهكم أن تلدوني، قلنا كراهية المريض للدواء فقال: فلا يبقى في البيت أحد إلا لدّ وأنا أنظر إلى العباس فإنه لم يشهدكم، ورواه مسلم في كتاب السلام باب كراهية التداوي باللدود (2213) قال ابن الاثير إنما أمر النبي- صلى الله عليه وسلم - أن يلد كل من في البيت عقوبة لهم حيث لدوه بغير إذنه لا بل بعد نهيه إياهم عن ذلك. جامع الأصول 7/ 615. (¬5) في م فقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم -. (¬6) قلت أما كيه - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن معاذ فوارد في صحيح مسلم من رواية أبي الزبير المكي عن جابر قال رمي سعد بن معاذ في أكحله فحسمه النبي- صلى الله عليه وسلم - بمقص ثم ورمت فحسمه الثانية. مسلم في كتاب السلام حديث (2208) ورواه أبو داود في سننه (3866) مختصرًا وابن ماجه (3494) والراد بالمشقص سهم له نصل طويل وقيل عريض وقيل هو النصل نفسه. وأما السعد الآخر فلعله أسعد بن زرارة فقد روى الترمذي من حديث أنس أن النبي- صلى الله عليه وسلم - (كوى أسعد بن زرارة من الشوكة) قال أبو عيسى وفي الباب عن أبي وجابر وهذا حديث حسن غريب (2050) والطحاوي في معاني الآثار 2/ 385. (¬7) حديث متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الطب باب دواء المبطون 7/ 165 من حديث أبي سعيد قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أخي استطلق بطنه فقال: (اسقه عسلًا) فسقاه، فقال: إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً فقال: (صدق الله وكذب بطن أخيك) وأخرجه مسلم في كتاب السلام باب التداوي بسقي العسل حديث (2217).

وقد أمر النبي- صلى الله عليه وسلم - بالغسل من الحمى فقال: (فأبردوها بالماء) (¬1) وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يصب عليه في مرضه من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن (¬2) وقد استرقى بجبريل وقال له باسم الله أرقيك والله يشفيك (¬3). القول الثالث: وقالت طائفة أخرى يجوز التطبب قبل حصول الداء احترازًا منه واستدامة للصحة التي هي قوام العبادة وهذا كله قد استوفيناه على التفصيل والتطويل في شرح الحديث لانتشار أطرافه وكثرة تفاصيله والذي يضبطه الآن ثلاثة فصول: الفصل الأول: أن التطبيب جائز من غير شك لا يحط المرتبة ولا يقدح في المنزلة وذلك إذا نزل الداء فأما قبل نزوله فقال علماؤنا إن ذلك مكروه والذي عندي فيه أنه إذا رأى المرء أسبابه وخشي من نزوله فإنه يجوز له قطع سببه بالتداوى فإن قطع السبب قطع للمسبب ولو كان التداوي يحط المرتبة والاسترقاء يقدح في المنزلة ما استرقى - صلى الله عليه وسلم - ولا رقى ولا تداوى فأما قوله هم الذين لا يسترقون الحديث ففيه ثلاث تأويلات الأول هم الذين لا يسترقون بالتمائم كما كانت العرب تفعله التأويل الثاني هم الذي لا يسترقون قبل حلول المرض التأويل الثالث هم الذين لا يسترقون عند اليأس كما فعل الصديق. فإن قيل لو ترك رجلٌ التطبب والاسترقاء أصلًا وتوكل على الله تعالى وفوض أمره إليهِ ولم يستعمل رقيةً ولا دواء. قلنا إن صحت نيته وتناسبت أفعاله فهي منزلة كما قلنا وقليل ما هم وإن لم تتناسب أفعاله فقد ترك سنةً، وإنما يترك التطببُ كما قلنا في حالين قبل الداء وسببه وعند اليأس كما فعل الصديق وكما فعلَ عمران بنِ حصين فإنه قد كان صار له الداء زمانة حتى لزمه أربعين عامًا والزمانة لا يبرأ منها أبدًا فاستعمل هو الكي مع اليأس فما أفلح ولا أنجح وحطت ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الطب باب الحمى من فيح جهنم 7/ 167، ومسلم في كتاب السلام باب لكل داء دواء واستحباب التداوي (2210) من حديث عائشة. (¬2) روى البخاري من حديث عبيد الله بن عتبة أن عائشة قالت لما ثقل النبي- صلى الله عليه وسلم- واشتد به وجعه استأذن أزواجه في أن يمرض في بيتي فأذن له فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بين رجلين تخط رجلاه في الأرض بين ابن عباس ورجل آخر قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله بن عباس فقال: أتدري من الرجل الآخر؟ قلت: لا، قال: هو علي، وكانت عائشة رضي الله عنها تحدث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال بعد ما دخل بيته واشتد وجعه: (هريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن ..) البخاري في كتاب الوضوء باب الغسل والوضوء في المخضب 1/ 61. (¬3) رواه مسلم من حديث أبي سعيد في كتاب السلام باب الطب والمرض والرقى (2186) والترمذي رقم (972).

مرتبته، فتركت الملائكة السلام عليه ثم تاب فعادت إلى السلام عليه (¬1). الفصل الثاني: قلنا هذا الذي ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم - من التداوي والأدوية ذكر العلماء أنه خرج على أحد قسمي الطب، والطب عندهم قسمان: الطب القياسي وهو يوناني، والطب التجاري وهو طب الهند والعرب فخرجت أجوبة النبي- صلى الله عليه وسلم - على مذاهب أهل التجربة لتأتي العرب بما كانت تعتاده دنواً منها وتقريبًا للمرام عليها. الفصل الثالث: هذه الأصول التي ذكر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هي جماع أبواب الطب ما أشرنا إليهِ منها ومَا تركنا وذلك أن الأمراض إنما تكون بغلبةِ الدمِ أو بالأخلاطِ حتى ينحرف البدن عن سنن الاعتدال الذي أجرى الله تعالى العادة باستمرارِ الصحة معه فإن تتبع الدم فدواؤهِ الاستخراج والحجامة نوع من خروجه وقد احتجم - صلى الله عليه وسلم - (¬2) ولم تنقص منزلته وأما سائر الأخلاط فدواؤها الإِسهال والعسل أصلٌ فيه ولذلك لا يخلو معجون منه واتفقوا على أن السكنجبين (¬3) هو شراب الطب وحده وغيره من الأشربةِ إنما هو تركيب أدوية، وأما الكي فهو من أنواع الطب ولكنه لرهبته هو آخر الأدويةِ فلا يلجأ إليه إلا عند الضرورة. وقد قال ¬

_ (¬1) روى مسلم من حديث مطرف قال: قال لي عمران بن حصين أحدثك حديثًا عسى الله أن ينفعك به إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحرمه وقد كان يسلم عليّ حتى اكتويت فتُركت ثم تركت الكي فعاد. مسلم في كتاب الحج (1226). قال الحافظ النهي عن الكي محمول على الكراهة أو على خلاف الأولى لما يقتضيه مجموع الأحاديث وقيل إنه خاص بعمران لأنه كان به الباسور وكان موضعه خطراً فنهاه عن كيه فلما اشتد عليه كواه فلم ينجح وقال ابن قتيبة الكي نوعان كي الصحيح لئلا يعتل فهذا الذي قيل فيه لم يتوكل من إكتوى لأنه يريد أن يدفع القدر والقدر لا يدافع، والثاني كي الجرح إذا نغل أي فسد والعضو إذا قطع فهو الذي يشرع التداوي به فإن كان الكي لأمر محتمل فهو خلاف الأولى لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقق. وحاصل الجمع أن الفعل يدلّ على الجواز وعدم الفعل لا يدل على المنع بل يدل على أن تركه أرجح من فعله وكذلك الثناء على تاركه. وأما النهي عنه فإما على سبيل الاختيار والتنزيه وإما عما لا يتعين طريقًا إلى الشفاء. فتح الباري 10/ 155. (¬2) روى أبو داود من حديث أبي الزبير المكي عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم على وركه من وثء كان به، أبو داود (3863) والنسائي في المناسك حديث (2851) والوثء شبيه بالخلع وليس به. (¬3) السكنجبين هو أول ما ركب وجعله أبو قراط ما ركب من حامض وحلو فسماه سركنجبين يعني خل وعسل وعرب فحذفت راؤه واختار ابن سينا أن يركب من النحل والعسل في أيام البرد وأن يختار بحسب الفصول من التمر الهندي والليمون والأترج والسفرجل مضافًا إلى كل واحد منها العسل أو أي حلو كالسكر أو الدبس فقد بان لك انقسام السكنجبين بحسب مادته وزمنه وقد ذكروا له منافع لا تكاد تحصى سواء لحفظ الصحة أو رفع المرض. انظر تذكرة داود الأنطاكي 1/ 211 ملخصاً.

النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (في الحبِّة السوداء شفاء من كل داءً إلا السَّام) (¬1) فقال علماؤنا إن هذا خرجِ مخرج العموم، والمراد به الخُصوص وذلك أن الغالب من الأمراضِ إنما هي الرطوبات فنبَّه به على أمثَالِه ورأيت بعضَ علماءِ الطب يقول إنما أراد بذلك الشونيز (¬2). التنبيه على أنَّ كل دواءٍ وإن كان للحارِ اليابس لا بدَّ من أن يكون فيه حار يابس ويسمون الأدوية الباردة الرطبة (¬3) وللأدواء الحارة اليابسة جثة ويسمون ما يضيفون إليها من الأدوية الحارة اليابسة أجنحة هذا منتهى كلامه وهو صحيح مليحٌ وقد مهَّدناه في شرح الحديث، وكذلك سقيه العسَلِ لصاحب الإسهال أصل في أنّ كل تخمةٍ أو داءٍ غالبٍ من خلطٍ لا يعافى إلًّا بإخراج ذلك الخلط، فإذا أجرى الله تعالى العادةَ بخرُوجه فليعن على الخروج حتى إذا نفد الخلط ارتفع المرض فهذا هو الذي راعى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في الأمرِ بالعودةِ إلى الشرب والسائل يجهل هذا القدر ويعود إلى الشكوى حتى قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - (صدق الله العظيمَ)، يعني في قولهِ: {شفاء للنّاس} (¬4) وكذبَ بطنُ أخيك فيما رأيت من أمرهِ) ويتركب على هذا أصل عظيم من الطب وهو أنّ الدواءَ إذا لم يرفع الداءَ فلا يخرجه ذلك عن أن يكونَ دواء، فإن البارئ تعالى إن شاء أن يخلقَ الشفاء عقب الدواء خلقه وإن شاء أن يمنع منه بعارضٍ آخر وبغير عارضٍ منع، وقد أخبرني بعض علمائنا أن بعض الناسِ أصابته حمى (¬5) فاغتسل بالماء فزاده ذلك شدة فقال في قولِ النبي- صلى الله عليه وسلم - كلاماً لا أرضى ذكره، وكان ذلك بجهل المتناولِ للماءِ فإن قولَ النبي- صلى الله عليه وسلم -: (أبردوها بالماء) أو بردوها يحتمل وجهين أحدهما أن يكونَ ذلك بشرب الماءِ البارد، فإنه قد يطفئ الحرارة الباعثة للداءِ ويكون من أحدِ الأدويةِ وقد شاهدتُ هذا في نفسي فإنه كان عندي عليلٌ فكان يستدعي الماء كثيرًا فخفت عليه منه وتوقعتُ أن يرميه في نفخٍ فمنعته وكان ذلك برأي بعضهم فلقيتُ بعضَ أهل الصناعة فحدثته بمرضهِ وصفة حالهِ فقال قتلته إسقهِ الماء يبرأ فكان ذلك ويحتملُ أن يكونَ التبريدُ بالماءِ في الأطراف لا في جميع البدن ألا ترى أسماء كيف كانت تصب الماء على المحموم بينه وبينَ ثيابه ولا تصبه على بدنه كله (¬6). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في كتاب الطب باب الحبة السوداء 7/ 160 ومسلم في كتاب السلام باب التداوي بالحبة السوداء (2215) من حديث أبي هريرة إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت ...) لفظ مسلم. (¬2) الشونيز هو الحبة السوداء كما ورد في الحديث السابق. . (¬3) في ج المرطبة. (¬4) سورة النحل آية (69) (¬5) في ك الحمى. (¬6) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الطب باب الحمى من فيح جهنم 7/ 167، ومسلم في كتاب السلام باب =

عيادة المريض والطيرة

عيادة المريض والطيرة (¬1) أما قوله النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن عائد المريض يخوض الرحمة) (¬2) فهو كقوله (عائد المريض في غرفة الجنّة) (¬3) وذلك أن عيادة المريض والمشي إليه سببٌ إلى الجنَّة فعبَّر عن المسبب بالسببِ على أحد قسمي المجاز ترغيبًا في العيادةِ لما فيها من الألفةِ والشفقةِ ولما يدخلَ على المريض من الإنس بعائده والسكون إلى كلامه ولذلك قال النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (إذا دخلتم على المريض فنفسوا في أجله فإن ذلك لا يرد القدر ويطيّب نفسَهُ) (¬4) ولو لم يكن فيها من الفائدة إلا ما قال النّبي - صلى الله عليه وسلم -): (من عاد مريضًا لم يحضر أجله فقال له سبع مرّاتٍ أسأل الله العظيم رب العرشِ العظيم أن يشفيك عوفي من ذلك المرض) (¬5)، وربما احتاج المريض إلى التمريض فيتناول ذلك العائد إن لم يكن له أهل وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (عودُوا ¬

_ لكل داء دواء حديث (2211) والموط 2/ 945 وشرح السنة 12/ 153 من حديظ فاطمة بنت المنذر أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها كانت إذا أتيت بالمرأة قد حُمَّت تدعو لها أخذت الماء فصبته بينها وبين جيبها قالت وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نبردها بالماء. (¬1) الموط 2/ 946. (¬2) مالك إنه بلغه عن جابر بن عبد الله أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا عاد الرجل المريض خاض الرحمة حتى إذا قعد عنده قرت فيه) أو نحو هذا وهذا البلاغ رواه الإِمام أحمد في مسنده 3/ 304 مسندًا من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من عاد مريضًا لم يزل يخوض في الرحمة حتى يرجع فإذا جلس انغمس فيها) ورواه البيهقي في شعب الإيمان (9179) والحديث قال عنه الزرقاني رجاله رجال الصحيح شرح الزرقاني على الموطأ 4/ 332. (¬3) رواه مسلم في كتاب البر والصلة باب فضل عيادة المريض (2568) من حديث ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (عائد المريض في مخرفة الجنة حتى يرجع). قال ابن الأثير المخارف جمع مخرف بالفتح وهو الحائط من النخل أي أن العائد فيما يحوز من الثواب كأنه على نخل الجنة يخترف ثمارها وقيل المخارف جمع مخرفة وهي سكة بين صفين من نخل يخترف من أيهما شاء أن يجتني وقيل المخرفة الطريق أي أنه على طريق تؤديه إلى طريق الجنة. النهاية 2/ 24. (¬4) رواه الترمذي من طريق موسى بن محمَّد بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي سعيد الخدري (2087) وقال هذا حديث غريب، وابن ماجه (1438)، والبغوي في مصابيح السنة 1/ 530 والحديث فيه موسى بن محمَّد بن إبراهيم التيمي قال عنه الحافظ منكر الحديث. التقريب ص 553 وعليه فهو ضعيف. (¬5) رواه أبو داود في الجنائز باب الدعاء للمريض (3106)، والترمذي في الطب (2083) وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث المنهال بن عمرو والحديث من رواية ابن عباس وقد صححه الشيخ ناصر في صحيح الجامع الصغير 5/ 322 وفي تخريج مشكاة المصابيح 1/ 489.

المريضَ) (¬1) لجماعِ هذه الفوائد. والتمريض فرض على الكفابة لا بد أن يقوم به بعض الخلق عن البعض فالقريب ثم الصاحب ثم الجار ثم سائر الناس. وأما الطيرة، فأدخل تحتها مالك رضي الله عنه، حديث لا عدوى (¬2) وهي عبارة عن اعتقاد المرءِ إن مكروهًا جلبَ إليه مكروهًا، وأصلهم في ذلك السانح (¬3) والبارح (¬4) فعبّروا بكل مكروهٍ يجلب في اعتقادهم مكروهًا عنهُ فقول النبي- صلى الله عليه وسلم -: (لا عدوى) نفياً لأن تكونَ الأدواء تجلبُ الأدواءَ. قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: (أجرب بغيرِ جرابٍ مائة، يعني من أعدى الأول) وهذه من الأدلةِ القَواطِع وأما قوله ولا هام فأرادَ به الردَ على العرب فيما كانت تعتقده من الحياة (¬5) في الهَام الذي يقولُ فيه شاعرهم، حدثان المكنَّى بذي الأصبع: ياعمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني (¬6) ¬

_ (¬1) رواه البخاري في كتاب الطب باب وجوب عيادة المريض من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني) 7/ 150 وأخرجه البغوي في مصابيح السنة 1/ 513. (¬2) مالك إنه بلغه عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن ابن عطية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا عدوى ولا هام ولا صفر ولا يحل الممرض على المصحح وليحلل المصح حيث شاء) فقالوا: يا رسول الله وما ذاك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنه أذى). الموطأ 2/ 946. قال الزرقاني كذا رواه يحيى وتابعه قوم وقال القعنبي عن ابن عطية الأشجعي عن أبي هريرة وتابعه جماعة منهم عبد الله بن يوسف وأبو مصعب ويحيى بن بكير إلا إنه قال عن أبي عطية أي بأداة الكنية وابن عطية اسمه عبد الله بن عطية ويكنى أبا عطية قيل هو مجهول لكن الحديث محفوظ من وجوه عن أبي هريرة قاله ابن عبد البر. شرح الزرقاني 4/ 333. والحديث متفق عليه من رواية أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا عدوى ولا صفر ولا هامة) فقال الأعرابي: يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فمن أعدى الأول)، وعن أبي سلمة سمع أبا هريرة يقول قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يوردن ممرض على مصح) وأنكر أبو هريرة الأول. وقلنا ألم تحدث إنه لا عدوى فرطن بالحبشية قال أبو سلمة فما رأيته نسي حديثًا غيره، البخاري في الطب باب لا هامة 7/ 175 وفي باب لا صفر 7/ 166 ومسلم في كتاب السلام حديث (2221) وزاد ولعمري لقد كان أبو هريرة يحدثنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا عدوى) فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر. (¬3) السنح بالضم اليمن والبركة يقال من بالسانح بعد البارح أي المبارك بعد الشؤم. ترتب القاموس 1/ 626. (¬4) البرح الشده والشروع باليمن ولقي منه برْحاً بارحاً مبالغة ولقي منه البرحين وتثلث الباء أي الدواهي والشدائد. ترتب القاموس 1/ 241. (¬5) في بعض النسخ الخياط وليس لها معنى عندي. قال أبو عبيد كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير فيسمون ذلك الطائر الصدى الفتح 10/ 241. (¬6) البيت ذكره ابن منظور وعزاه لما عزاه له الشارح. لسان العرب 12/ 624.

المتحابون في الله

وأما صفر فقيل أراد به النَّسىء وقيل أراد به دواب البطن ومن الجهال من يظن أنها تعدي، وأما قوله لا تحلل الممرَّض على المصح فإنه اعتراض على قوله لا عدوى لأنه إن كانت العدوى باطلة فليختلط الصحيح والأجرب إذ لا تأثير بينهما ولأجل هذا كانا يقولون إنه حرف أخطأ فيه الراوي أو نسيه حتى قالوا إنه لم ينس قط أبو هريرة شيئًا غير هذا والحديث صحيح (¬1) الأول صحيح ليس فيه تعارض ولا بينهما تناقض، فإنه وإن كان لا عدوى فإنه كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم - إذ المعنى أنه يتأذى به ابتداء في وجودهِ ويتأذى به انتهاء إن خلق الله تعالى في الِإبل الصحاح أمثاله في مالهِ بما يحدث عليه من الجرب وفي اعتقاده أن يخطر بباله أن هذا البعير الجرب هو الذي أجْرَبَ جماله وقد سمعتُ من يقولُ من العلماءِ إن المراد بقوله: لا عدوى في بعضِ الأدواءِ، ألَّا ترى أن الطاعون كيف منع من الدخول فيهِ والخروج عنهُ، وِقد قدمنا الكلام عليه، وبينا في أحدِ الوجوه أن المعنَى فيه أنه ربَّما دخلَ فأصابه قدر أو خرَجَ عنه فنجي من مرض فيعتقد إن ذلك فائدة الدخول والخروج وينسى حكم الله تعالى وربما خرج عنه أيضًا فأدركته العقوبة. المتحابون في الله حديث أبي هريرة سبعة يظلهم الله إلى آخره (¬2). زاد في الصحيح: (إن البقرةَ وآل عمران تأتيان يوم القيامة يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو فرقان من طير صوافّ) (¬3) وإنما بوّب مالك رضي الله تعالى عنه من هذا الحديث على المحبة في الله تعالى، دون سائر الخصال, لأنها أعظمها نفعًا وأعمها (¬4) بركة لما فيها من الألفة التي تقيم الشعائر ¬

_ (¬1) قال أبو سلمة فما رأيتة نسي حديثًا غيره وهي رواية البخاري السابقة. (¬2) الموطأ 2/ 952 من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تبارك وتعالى يقول يوم القيامة أين المتحابون لجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلّا ظلي) ورواه مسلم في كتاب البر والصلة باب فضل الحب في الله (2566). (¬3) رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (804) من حديث أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه اقرأوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما ..) والغمامة السحابة والغياية كل شيء أظل الإنسان وغيره من فوقه وهي كالسحابة والمراد به أن السورة كالشئ الذي يظل الإنسان من الأذى من الحر والبرد وغيرهما ... جامع الأصول 8/ 471. (¬4) في ك أهمها.

باب الرؤيا

الإِسلامية، وتستخرج الحقوق وتحمي البيضة، وسائر الخصال غير الإِمام العادل في الحديث تخص صاحبها. باب الرؤيا هو فصلِ كبير من الحقائِق، وأمر مشكل على الخلائقِ وهو ما يراة النائم في منامِه، تقؤل رأيتُ رؤية، إذا عاينت ببصرك، ورأيت رؤيًا إذا اعتقدت شيئًا في قلبك، ورأيت رؤيا إذا رأيت شيئًا في منامك، وقد تستعمل الرؤيا مصدرًا في اليقظةِ كما قال الراعي: وكبّر للرؤيا وهاش فؤاده ... وبشَّرَ نفسًا كان قبل يلومها (¬1) والأبيات قبله تدلُّ على أنها رؤية اليقظةِ، واختلفَ الناسُ فيها فمنهم من أفرط، ومنهم من فرّط، ومنهم من استوى واقتصرَ وقد بينا ذلك في شرح المشكلين، ومحاسِن الإحسان على الاستيفاء والاستيعاب فلينظر هناك ويكفي الآن على هذا الاستعجال أن صالحَ المعتزلي (¬2) قالَ: إن رؤية المنام من رؤية العين، وقال آخر هي رؤية بعينين في القلب يبصرُ بهما، وأذنين في القلبِ يسمع بهما، وقالت المعتزلة: هي تخايل لا حقيقة لها ولا دليل فيها وقال علماؤنا هي حق وبشرى ودليل من الله تعالى اتفقت عليه الأمم من العرب والعجم ووجدت حقيقة وأدركت بالتجربةِ والمعتزلة في انكارها جارية على أصلها في التَخيل على العامةِ بإنكار كل ما قرر الشرع من أصلِ كإنكار الجن وأحاديثها، والملائكة وكلامها وأن جبريل لو كلمَ محمَّدًا بصوتِ كصَلْصلةِ الجرس لسمعه الحاضرون فهم ينكرون حقائق النبوّة فكيف دقائق الرؤيا وأما علماؤنا بعد أن قالوا إنها حق، فاختلفوا في تفسيرها على ثلاثة أقوالِ: قال القاضي: هي خواطر واعتقادات وقال الأستاذ أبو بكرٍ هي أوهَام وذلك قريب من الأول وقال الأستاذ أبو إسحاق هو إدراك بأجزاءٍ لم تحلها آفة النوم، وقال القاضي إذا وَجَدها النائم فلا يخلو أن تعمل (¬3) كما قالت المعتزلة أو تضاف إلى النَائم أو إلى الشيطان أو ¬

_ (¬1) انظر البيت في لسان العرب 6/ 365. (¬2) هو صالح قبة تلميذ النظام أبو جعفر محمَّد بن قبة من متكلمي الشيعة وهو من الطبقة السابعة عند المعتزلة وله كتب كثيرة خالف الجمهور في أمور منها كون المتولدات فعل الله ابتداء وكون الإدراك معنى هكذا ذكر عنه صاحب الفرق وطبقات المعتزلة 78 وانظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 5/ 71، وقد رد ابن حزم على مقولة صالح قبة هذه في الملل والنحل 5/ 123. (¬3) في م تهمل.

إلى البارىء تعالى فإهمالها باطل لاستحالة حدوث الشيء نفسه، ويستحيل أن تضاف إلى النائم باستحالة أن يخلقَ أو يكتسبَ، ويستحيل أن تضاف إلى الشيطان أو إلى الملك لما ثبت من الدليل أنه لا يفعَل أحد في غيره شيئًا إلا الله تعالى فدل على أن البارئ سُبحانه وتعالى هو الذي يخلق تلك الاعتقادات في قلبه، ولما خرجَت عن أصولِ المعتزلة عممت (¬1) في إنكارها فصدقتها آيات القرآن وأحاديثَ النبي- صلى الله عليه وسلم -. هذا منتهى تحقيق القاضي. وأما الأستاذ فقال إن الإنسان إذا رأى وهو في المغرب شخصًا بالمشرقِ أو رأى نفسه عارجًا إلي العلوّ فهي أمثلة خلق الله تعالى لها إدراكًا في جزءِ لم تحله آفة جعله علامة على معاني ولذلك لا يري في منامه إلا ما يصح تقديره ولا يرى في المنام محالًا فإذا رأى الله أو رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - فهي أمثلة. تصرّف له بمقدارِ حالِهِ, فإن كان موحدًا رآه حسنًا، وإن كانَ ملحدًا رآه قبيحًا، وهو أحد التأويلين في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (رأيت ربي في أحسن صورة) (¬2) ولقد ¬

_ (¬1) في ك وم وت (غمغمت) والغمغمة الكلام الجر بيِّن قال ابن منظور الغمغمة والتغمغم الكلام الذي لا يبين وقيل هما أصوات الثيران عند الذعر أو أصوات الأبطال في الوغى عند القتال. لسان العرب 12/ 444. (¬2) هذا الحديث رواه الترمذي من طريق عبد الرحمن بن عائش الحضرمي عن مالك بن يخامر السكسكي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (احتبس عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة عن صلاة الصبح حتى عندنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعًا فثوب بالصلاة فصلى رسول - صلى الله عليه وسلم - وتجوز في صلاته فلما سلم دعا بصوته قال لنا: على مصافكم كما أنتم ثم انفتل (أي أقبل) الينا ثم قال: أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة إني قمت من الليل فترضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال يا محمَّد: قلت: لبيك رب، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى فقلت: لا أدري، قالها ثلاثاً، قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت ...) 3235، وقال حسن صحيح وقال سألت محمَّد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال هذا حديث حسن صحيح. ورواه الإِمام أحمد في المسند 4/ 66 من حديث عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخرجه أيضًا 5/ 243. وقد رواه الترمذي من طريق أبي قلابة عن ابن عباس وقال: أي الترمذي وقد ذكروا بين أبي قلابة وبين ابن عباس في هذا الحديث رجلاً وقد رواه قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجاج عن ابن عباس حديث (3233) ورواه أحمد في المسند 1/ 368. وهذه الرؤيا صوب جمع من الأئمة إنها رؤيا منامية فالحافظ ابن كثير يطلق عليه حديث المنام انظر تفسيره 2/ 151 ويقول في موضع آخر في سورة ص4/ 44 وهو حديث المنام المشهور ومن جعله يقظة فقد غلط وقد نبه رحمه الله إلى أن الاختصام المذكور في هذه الآية ليس هو الاختصام الوارد الذي في الآية الكريمة فهو في =

قال لي يومًا بعض الأمراءِ وكان متحاملًا على الرعيّة، كنت أرى البارحة النبي- صلى الله عليه وسلم -في المنامِ في صورةٍ أسود كأشد ما يكون من السَّوادِ، فقلتُ له: ظلمك للخلق وتغييرك للدين. قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: (الظلم ظلمات يوم القيامة (¬1) فالتغيير فيك لا فيه وكان بالحضرة كاتبه وصهره ووَلدهِ، فأما الكاتب فمات، وأما صاحباه فتنمَّرا (¬2)، وأمّا هو فكان مستندًا فجلسَ على نفسه، وجعل يعتذر وكان آخر كلامهِ: وددتُ أن أكون حشميًا (¬3) بمخلاةٍ أعيش في الثغر، قلتُ له: وما ينفعك إن أقبلَ أنا عذرك وخرجت فوالله ما توقَّفت لي عنده بعد ذلك حاجة، وقد بينت في غير ما كتاب أن الذي أرتضيه كلام الأستاذ أبي إسحاق، إذا ثبت هذا عدنا إلى الرؤيا فقلنا ثبتَ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الرؤيا ثلاث. فالرؤيا الصالحة بشرى من الله تعالى ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا يحدثُّ بها المرء نفسه) (¬4)، وزاد ابن المسيّب أضغاث أحلام (¬5)، وبلغها بعضهم سبعة أصنافٍ وقد بينَّا تفصيلها وكيفيتها في موضعهِ وأن المعوّل منها (¬6). على الرؤيا الصالحة وأن الرؤيا المحزنة تدفعها الاستعاذة منها والتفل عليها والوضوء والصلاة على ما وردَ في صحيح الخبر وقد قال مالك رضي الله عنه إن خالداً بن الوليد قال لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: إنّي أروّع في مَنامي. فقال له: (قل أعوذ بكلمات الله التاماتِ من شرِّ ما خلق) (¬7) الحديث. فبين - صلى الله عليه وسلم - ما يدفع ضرر الرؤيا السيئة قبلَ وجودها ¬

_ = شأن قصة آدم وأمر الملائكة بالسجود له عند تسوية خلقه وما كان من إبليس عند ذلك. وهذا الحديث من أحاديث الصفات ومذهب السلف في مثل هذه الأحاديث إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والإيمان به من غير تأويل له والسكوت عنه وعن أمثاله مع الاعتقاد أن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ومذهب السلف هذا هو المتعين ولا حاجة إلى التأويل. انظر الفتح الرباني 17/ 223. (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في المظالم باب الظلم ظلمات يوم القيامة 3/ 169 ومسلم في البر والصلة باب تحريم الظلم حديث (2579) من حديث ابن عمر. (¬2) تنمر تمدد في الصوت عند الوعيد وتشبه بالنمر لأن النمر لا يلقى إلا متنكراً غضبان، ترتيب القاموس 4/ 442. (¬3) كذا في جميع النسخ (حشميًا) والحشم الخدم اللسان 12/ 135. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في التعبير باب القيد في المنام 9/ 47، ومسلم في كتاب الرؤيا حديث (2263)، وشرح السنة 12/ 208 من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الرؤيا ثلاث حديث النفس وتخويف الشيطان وبشرى من الله فمن رأى شيئًا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل). (¬5) لم اطلع عليه. (¬6) في م عليها. (¬7) الموطأ 2/ 950 مالك عن يحيى بن سعيد قال: بلغني أن خالد بن الوليد قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني أروع في =

تتميم

أو يدفعها بعدَ وجودها ومن استعاذ بالله (¬1) استعاذ بعظيم ومن تحصَّن بكلماته التي لا تنفر التامة التي لا يتطرَّق إليها نقصان فما أبقى بعد ذلك. وقوله فيها التامات كقوله: {قل رب احكم بالحق} (¬2) وليس هنالك باطل ولكنه تكميل للوصفِ وتحقيق للخبر. تتميم: قال مالك رضي الله عنه في الحديث في تجزئة الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة (¬3)، وقد اختلفت في ذلك الآثار حتى بلغت إلى سبعين (¬4). وقيل خمسٌ وأربعون (¬5)، وست وأربعون (¬6)، وخمس وسبعون (¬7)، قال علماؤنا في ذلك تأويلات منها أن هذه الرؤيا المنقسمة على هذه الأجزاء إنها رؤيا ذي النبوة، لا أنها نفس النبوةِ واختلاف الأعداد فيها لأنها جعلت بشارات، فأعطى من فضله جزءًا من سبعين جزءًا في الابتداء، ثم زاد من فضلهِ حتى بلغت خمساً وأربعين، وانتهى بعضهم إلى أن يقول إن مدة النبي- صلى الله عليه وسلم - كانت ثلاثًا وعشرين سنةً، وأن ستة أشهرٍ منها كان يوحى إليه في المنام (¬8) وهذا يفتقر إلى ¬

_ منامي فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده وهمزات الشاطين أن يحضرون). قال الزرقاني أخرجه ابن عبد البر من طريق ابن عيينة عن أيوب بن موسي عن محمَّد بن يحيى بن حبّان أن خالد بن الوليد وهو مرسل وأخرجه أيضًا من طريق ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مسندًا لكنه قال الوليد بن الوليد وهو أخو خالد. شرح الزرقاني 4/ 340. (¬1) في ج زيادة فقد. (¬2) سورة الأنبياء (112). (¬3) مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لن يبقى من بعدي من النبوة إلا المبشرات) فقالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: (الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة). الموطأ 2/ 957 وقد وصله البخاري من طريق الزهري عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة 9/ 40. (¬4) ورد عند مسلم من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءًا من النبوة) (2265). (¬5) هذه رواية مسلم (2263) من حديث أبي هريرة. (¬6) ورد الحديث بهذا اللفظ عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة. (¬7) هذا القول ذكره الحافظ ولم يسنده لأحد، انظر الفتح 12/ 363. (¬8) هذا القول نقله ابن بطال عن أبي سعيد السفاقسي أن بعض العلماء ذكر أن الله أوحى إلى نبيه في المنام ستة =

ما جاء في النرد والشطرنج

نقلٍ صحيح ولو ثبت بالنقلِ ما أفادنا شيئًا في غرضِنا ولا صح حمل اللفظ عليه، وأصح ما في ذلك تأويل الطبري عالم القرآن والحديث، قال نسبة هذه الأعداد إلى النبوة إنما هو بحسب اختلاف حال الرائي، فتكون رؤيا الصالح على نسبته والمحطوط عن درجته (¬1) على دونها وهذا تأويل جملي فأما تحقيق الأجزاء وكيفيَّة القسمة , فلا يمكن ذلك أبدًا وتكفي هذه الجملة حتى تقفوا على التمام في شرح الحديث. ما جاء في النَّرد والشطرنج قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: (من لعب بالنّرد فقد عصَى الله ورسوله) على ما روى مالك رضي الله عنه في الموطأ نصّ في التحريم (¬2) وقد روى مسلم: (من لعب بالنردشير (¬3) فقد غمس يده في لحم الخنزير ودمه) (¬4) ووجه التمثيل فيه أنه تناول هذا محرمًا للذة النفس كما تناول ¬

_ = أشهر ثم أوحى إليه بعد ذلك يقظة بقية حياته ونسبتها إلى الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءًا لأنه عاش بعد النبوة ثلاثاً وعشرين سنة على الصحيح قال ابن بطال هذا بعيد من وجهين أحدهما أنه اختلف في قدر المدة التي بعد البعثة والثاني أنه بقي حديث سبعين جزءًا لا معنى له. وقال الخطابي هذا وإن كان وجهًا تحتمله قسمة الحساب والعدد فأول ما يجب على قائله أن يثبت ما ادعاه خبراً ولم نسمع فيه أثراً ولا ذكر مدعيه فيه خبرًا فكأنه قال على سبيل الظن والظن لا يغني من الحق شيئاً وليس كل ما خفي علينا علمه يلزمنا حجة كأعداد الركعات وأيام الصيام ورمي الجمار فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها ولم يقع ذلك في موجب اعتقادنا للزومها قال ولئن سلمنا أن هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة لكنه يلحق بها سائر الأوقات التي أوحي إليه فيها منامًا في طول المدة كالرأيا في أحد ودخول مكة فإنه يتلفق من ذلك مده أخرى تزاد في الحساب فتبطل القسمة التي ذكرها وأجيب عن هذا بأن المراد على تقدير الصحة وحي المنام المتتابع فما وقع منه في غضون وحي اليقظة فهو يسير بالنسبة إلى وحي اليقظة فهو مغمور في جانب وحيها وحي اليقظة فلم يعتبر به. فتح الباري 12/ 364. (¬1) قال الحافظ وقد جمع بين الأقوال جماعة أولهم الطبري فقال رواية السبعين عامة في كل رؤيا صادقة من كل مسلم ورواية الأربعين خاصة بالمؤمن الصادق الصالح وأما ما بين ذلك فبالنسبة لأحوال المؤمنين. فتح الباري 12/ 365. وانظر شرح النووي على مسلم 15/ 21. (¬2) مالك عن موسي بن ميسرة عن سعيد بن أبي هند عن أبي موسيى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من لعب بالنرد فقد عصى الله) الموطأ 2/ 958 ورواه أبو داود في الأدب (4938) رجاله ثقات إلا أن أبا زرعة وغيره ذكروا أن حديث سعيد بن أبي هند عن أبي موسي مرسل. انظرت ت 4/ 94. (¬3) النرد اسم عجمي معرب وشير بمعنى حلو. النهاية 5/ 39. (¬4) مسلم في كتاب الشعر باب تحريم اللعب بالنردشير (2260) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه ورواه البغوي في شرح السنة 12/ 385.

ذلك محرمًا للذة البطنِ والشطرنج (¬1) أخو النرد غذاه بلبانه، وساواه في لهوهِ عن ذكرِ الله تعالى وعن الصلاة وأشغاله، وقد جوزه الشافعي (¬2) وانتهى حال بعضهم إلى أن يقول هو مندوب إليهِ حتى اتخذوه في المدرسةِ، فإذا أعيا الطالب من القراءة لعبَ بالشطرنج في المسجدِ وأسندوا إلى قوم من الصحابة والتابعين إنهم لعبوا بها (¬3) وما كان ذلك قط، وتالله ما مستها يد تقي، ويقولون إنها تشحذ الذهن والعيان يكذبهم، ما تبحر فيها قط رجل له ذهن. سمعتُ الإِمام أبا الفضل عطاء المقدسي يقول بالمسجدِ الأقصى في المناظرةِ إنها تعلم الحربَ، قال له الطرطوشي بل تفسد تدبير الحرب لأنّ الحرب المقصود منها الملك واغتياله وفي الشطرنج تقول له شاه إياك الملك نحّه عن طريقي، فاستضحك الحاضرونَ، وتارة شدَّد فيها مالك رضي الله عنه فحرمها وقال فيها فماذا بعدَ الحق إلَّا الضلال، وتارَةً استهان بالقليلِ منها, ولا هون والقول الأول أصح والله أعلم (¬4). ¬

_ (¬1) قال الزرقاني (الشطرنج) بكسر الشين وفتحها مع الأعجام والاهمال أربع لغات حكاها ابن مالك فالإعجام من المشاطرة وكأن كل لاعب له شطر من القطع والإهمال من تشطير الرقعة بيوتًا عند التبعية وتعقب ذلك ابن بري بأن الأسماء العجمية لا تشتق من الأسماء العربية وبأنها خماسية واشتقاقها من الشطر يوجب أنها ثلاثية فيكون النون والجيم زائدتين وهذا بين الفساد. شرح الزرقانى 4/ 357، وقال القاري الشطرنج بكسر أوله معرب شش رنج أي ست محن وقيل بفتحها وهو معرب شطرنج أي ساحل التعب ولا يفتح أوله لعبة معروفة والسين لغة فيه. أوجز المسالك 15/ 92. (¬2) قال البغوي كره الشافعي اللعب بالشطرنج والحمام كراهية تنزيه لاكراهية تحريم إلا أن يغامر به فيحرم. شرح السنة 12/ 385 ونقل عنه البيهقي قوله وإذا كانوا هكذا يعني أمل الأهواء فاللاعب بالشطرنح وإن كرهنا له وبالحمام وإن كرهنا له أخف حالًا من هؤلاء بما لا يحصى ولا يقدر. قال البيهقي: وإنما قال ذلك لما فيه من اختلاف العلماء. السنن الكبرى 10/ 211. (¬3) قال البغوي اختلف أهل العلم في إباحة اللعب بالشطرنج فرخص فيه بعضهم لأنه قد ينتصر به في أمر الحرب ومكيدة العدو ولكن بثلاث شرائط ألا يقامر به ولا يؤخر الصلاة عن وقتها وأن يحفظ لسانه عن الخناء والفحش فإن فعل شيئًا منها هو ساقط المروءة مردود الشهادة وإلى الرخصة فيه ذهب سعيد بن جبير وروي أنه كان يلعب به استدباراً وكان الشعبي يلعب به. شرح السنة 12/ 385. ونقل البيهقي بسنده إلى سعيد بن جبير إنه كان يلعب به وكذلك محمَّد بن سيرين وهشام بن عروة فقد كانا يلعبان به استدبارًا مثل سعيد وكان الشعبي يلعب به ذلك إنه كان متواريًا عن الحجاج. السنن الكبرى 10/ 211. (¬4) قال يحيى وسمعت مالكًا يقول: لا خير في الشطرنج وكرهها وسمعته يكره اللعب بها وبغيرها من الباطل ويتلو هذه الآية {فماذا بعد الحق إلا الضلال} الموطأ 2/ 958. قال الباجي وأما كراهية اللعب بها جملة فلا خلاف عند مالك في ذلك قليلًا كان أو كثيرًا لقمارٍ كان أو لغير قمار=

القول في السلام

القول في السلام السلام اسم من أسماء الله تعالى (¬1) قد بينا وصفَه وشرحنا حقيقته في الأمد الأقصى وقد ثبتَ في الصحيح عن النبي- صلى الله عليه وسلم -: (أن الله خلقَ آدم على صورته ستون فراعًا في الهوى ثم قال له اذهب إلى أولئك النفر من الملائكةِ فسلم عليهم، فقالوا وعليك السلام ورَحمة الله وبركاته، فقال له: هذه تحيتك وتحية ذريتك) (¬2) وقد يقال معرفًا السلام عليكم ومنكرًا سلام عليكم فإذا نكر فهو مصدر وإذا عرّف احتمل أن يكونَ مصدرًا معرفاً واحتمل أن يكون عبارة عن الله تعالى فإذا كان منكرًا كان التقديرُ ألقيتُ عليك سلامة مني، فالقِ عليّ سلامة منك، وإذا كان معرَّفًا احتمل أن يكونَ فيه هذا المعنى بعينه واحتملَ أن يكون معناه الله رقيبٌ عليك (¬3) والسنة فيه أن يبدأ بالسلام قبل حَرف الجر فإن قال ابتداءً عليكم السلام، ¬

_ = قال القاضي أبو محمَّد لأنّ اللعب بها يؤي إلى القمار أو الحلف كاذبًا وترك الصلاة ولا يعتبر بقول من قال إن الإكثار منها يؤدي إلى ذلك لأنّ قليلها يؤدي غالبًا إلى كثيرها فيجب حسم الباب. المنتقى 7/ 278. وقال ابن رشد: سئل مالك عن لعب الرجل بها مع امرأته في البيت، فقال: ما يعجبني ذلك وليس من شأن المؤمن اللعب لقول الله عز وجل: {فماذا بعد الحق إلا الضلال} فهذا من الباطل فاللعب بشيء من ذلك كله على سبيل القمار والخطار لا يحل ولا يجوز بإجماع من العلماء لأنه من الميسر. مقدمات ابن رشد 3/ 468. (¬1) ترجم البخاري في صحيحه في الاستئذان فقال السلام اسم من أسماء الله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} قال الحافظ وأما لفظ الترجمة فأخرجه في الأدب المفرد من حديث أنس بسند حسن. فتح الباري 11/ 12. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في الأنبياء باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته 4/ 160، ومسلم (2841) في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير وأخرجه البغوي في شرح السنة 12/ 254. (¬3) قال الحافظ معنى السلام السالم من النقائص وقيل المسلم لعباده وقيل المسلم على أوليائه ... واختلف في معنى السلام فنقل عياض أن معناه اسم الله أي كلاءة الله عليك وحفظه كما يقال الله معك ومصاحبك وقيل معناه إن الله مطلع عليك فيما تفعل وقيل معناه إن اسم الله يذكر على الأعمال توقعا لاجتماع معانى الخيرات فيها وانتفاء عوارض الفساد عنها وقيل معناه السلامة كما قال تعالى: {فسلام لك من أصحاب اليمين} فكان المسلم أعلم من سلم عليه إنه سالم منه وأن لا خوف عليه منه وقال ابن دقيق العيد السلام يطلق بإزاء معان منها السلامة ومنها التحية ومنها إنه اسم من أسماء الله، قال: وقد يأتى بمعنى السلامة محضًا وقد يأتي مترددًا بين المعنيين كقوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا} فإنه يحتمل التحية والسلامة. فتح الباري 11/ 13.

فإنه يكره رَوى أبو داود وغيره أن رجلًا جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال: عليك السلام. فقال: (قل سلام عليك فإن عليك السلام تحية الميت) (¬1) يشير إلى ما وردت به اللغة من قولهم: عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ماشاء أن يترحَّما (¬2) وكقولهم: عليك سلام من أميرٍ وباركت .................................... (¬3) وكان ابن عمر إذا سلم على يهودي أو نصراني يظنه مسلمًا يستقبله (¬4) لأنها معاقدة، فإذا انكشف له الغطاء طلب حل العقدِ ولم ير مالك رضي الله عنه ذلك فإن الألفاظ عنده، والعقود إنما ترتبط بالمقاصد والنيات، ولذلك لو حلفَ على زيدٍ أنه في الدار يظنه ولم يكن فيها لم يحنث ويرى أن اليمينَ لغو غير منعقدة لما فاتَ فيها القصد. وأما حديث أبي واقدٍ الليثي (¬5) في الثلاثة نفر فإنه كان في غزوة تبوك قال بينا نحنُ في مسير في غزوة تبوك ¬

_ (¬1) أبو داود (5209) من حديث أبي تميمة الهُجيمي عن أبي جري الهجيمي قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: عليك السلام يا رسول الله قال: (لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى) ورواه الترمذي (2721 و 2722) وقال حسن صحيح وعزاه المنذري للنسائي. تهذيب السنن 8/ 78، والحاكم في المستدرك 4/ 186، وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وعبد الرزاق في المصنف (19434). (¬2) البيت لعبدة بن الطيب يرثي به قيس بن عاصم الصحابى المشهور انظر الإصابة 3/ 252، والنهاية لابن الأثير 2/ 333، والاستيعاب 3/ 1296، وابن سعد في الطبقات 7/ 36 وقد تقدم في الطهور للصلاة. (¬3) لفظ البيت: عليك سلام من أمير وباركت. يد الله في ذلك الأديم الممزق. والبيت في الاستيعاب 3/ 1158 وقال ابن عبد البر قالت عائشة: إني لأحسب القائل من الجن وأورده ابن الأثير في النهاية 3/ 393 ولم يعزه، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 144، وابن سعد في الطبقات 3/ 374 وعزاه الخطابي أبي الشماخ حسب نقل المبارك فوري في تحفة الأحوذي 7/ 507، وانظر شرح السنة 5/ 470 والبيان والتبيين للجاحظ 3/ 364. (¬4) روى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن ابن عمر سلم على يهودي لم يعرفه فأخبر فرجع فقال: رد علي سلامي، فقال: قد فعلت. المصنف (19458). (¬5) حديث أبي واقد الليثي رواه مالك في الموطأ 2/ 960 ولفظه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل نفر ثلاثة فأقبل اثنان إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وذهب واحد فلما وقفا على مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلما فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبًا فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم قأوى إلى الله فآواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه). وأخرجه البخاري في كتاب العلم باب من قعد حيث ينتهي به المجلس 1/ 26، ومسلم في كتاب السلام باب=

إذ نفدَت أزواد القوم فهمّوا بنحرِ الإبل وأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال له عمر: يا رسولَ الله هلّا أمرت بالأزوادِ فجمعت ودَعوت الله فيها بالبركةِ (¬1) ففعلَ وارتحلوا فمطروا فنزلوا لأجل المطرِ وجلس النّبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد وخطبَ الناس يعني في مسجدِ العسكر لا مسجد المدينة (¬2) فبينما هو يخطب إذ أقبلَ ثلاثة نفرٍ فذكرَ الحديثَ وكان عبدُ الله بن عمر ¬

_ = من أتى مجلسًا فوجد فرجة فجلس فيها (2176) والسياق السابق ليس فيه ذكر لغزوة تبوك ولم أجد من شراح , الموطأ من تابع ابن العربي على قوله ويظهر لي إنه جمع بين حديثين كما يأتي والرجال الثلاثة قال فيهم الحافظ لم أقف في شيء من طرق الحديث على تسمية واحد منهم ثم قال: وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه أي جازاه بأن سخط عليه وهذا مشاكلة لأن الإعراض هو الالتفات إلى جهة أخرى وذلك لا يليق بالله تعالى فهو مجاز عن السخط والغضب وهو محمول على أن من أعرض الله عنه إخباراً وادعاء وفي حديث أنس فاستغنى فاستغنى الله عنه وهذا يرجح كونه خبرًا. فتح الباري 1/ 156 - 157 وقال أبو عمر: يحتمل إنه منافق إذ لا يعرض غالبًا عن مجلسه - صلى الله عليه وسلم - إلا منافق بل بأن لنا بقوله: (فأعرض الله عنه) إنه منافق لأنه لو أعرض لحاجة ما قال ذلك القول فيه ومن كانت هذه حاله كان إعراض الله عنه سخطًا عليه. التمهيد 1/ 317، وانظر شرح الزرقاني 4/ 360. (¬1) أما الحديث الثاني فقد رواه مسلم من رواية أبي صالح عن أبي هريرة قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير قال: فنفدت أزواد القوم حتى هم بنحو بعض حمائِلهم قال: فقال عمر: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم فدعوت الله عليها، قال: ففعل فجاء ذو البر ببره وذو التمر بتمره قال: وقال مجاهد وذو النواة بنواه قلت: وما كانوا يصنعون بالنوى قال: كانوا يمصونه ويشربون عليه الماء قال: فدعا عليها حتى ملأ القوم أزودتهم ... ورواه من طريق أخرى عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو أبي سعيد شك الأعمش قال: لما كان غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة قالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (افعلوا) قال: فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلت قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثم ادع الله لهم عليها بالبركة لعل الله أن يجعل في ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نعم) قال: فدعا بنطع فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة قال: ويجيء الآخر بكف تمر، قال: ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير قال: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبركة ... مسلم في كتاب الإيمان (44 - 45) ورواه الإمام أحمد من الطريق الثاني 3/ 11. (¬2) أما قوله: (فارتحلوا لأجل المطر ...) فهو قريب من قول ابن هشام بلغني عن الزهري إنه قال لما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث راحلته ثم قال: (لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم مثل ما أصابهم). قال ابن إسحاق فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء. سيرة ابن هشام 4/ 522. وعن ابن عباس قيل لعمر بن الخطّاب حدثنا عن شأن العسرة فقال عمر: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك في غيظ شديد فنزلنا منزلًا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستقطع حتى إن كان أحدنا يذهب يلتمس=

باب الاستئذان

يمشي إلى السوق يسلم يطلبُ الحسنات (¬1) , لأنّ السلامَ متعَدٍّ والحسنَة المتعدية أفضل من الحسَنَة القاصرة. باب الاستئذان إن الله تعالى لما خلق الإنسان عورة وأخرجه إلى المخالطة لقصوره عن حظِ نفسِه، وأمره بالتستر وعلم منه أن إدامة الستر غير ممكنةٍ وأنه يتعرض للتكشف في الخلوات للراحات وعند قضاء الحاجات شرع الاستئذان فعممه كل موضع وصار أصلًا في كل رقيةٍ وهيئةٍ ووقت لكلِ منزلٍ حتى قال النبي- صلى الله عليه وسلم - في حديثِ الشفاعةِ فآتي فاستأذن على ربي في داره (¬2) فيؤذن (¬3) لي والكلام فيه في ستة فصول في حقيقته وأنه استفعال من الإذنِ أي طلب له. الثاني: في المستأذنِ فيه وهو دخول كل موضعٍ محجوب يكرهُ صاحبه أن يرى فيه غيره. الثالث: في الوقت الذي يقع فيه الإذن وذلك مأخوذ من قول الله تعالى: {يا أُيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذينَ ملكت أيمانكم) (¬4) الآية. ¬

_ الخلاء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته تتقطع وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويضعه على بطنه فقال أبو بكر: يا رسول الله إن الله عودك في الدعاء خيرًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتحب ذلك يا أبا بكر) قال: نعم، قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه فلم يرجعها حتى قالت السماء فأطلت ثم سكبت فملؤا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت المعسكر. رواه البزار والطبراني في الأوسط ورجال البزار ثقات. مجمع الزوائد 6/ 194 و 195 وأورده ابن كثيرفي سيرته 4/ 16 وقال: إسناده جيد. (¬1) مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أن الطفيل بن أبي كعب أخبره إنه كان يأتي عبد الله بن عمر فيغدو معه إلى السوق قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله بن عمر على ساقط ولا صاحب بيعة ولا مسكين ولا أحد إلا سلم عليه ... الموطأ 2/ 962، وأورده الخطيب التبريزي في المشكاة 2/ 1322، وعزاه لمالك والبيهقي في الشعب. (¬2) كذا في جميع النسخ (في داره) ولم أجدها في أي رواية من روايات الحديث وأعتقد أنها خطأ من النساخ وإن صحت الرواية بها فيجب الإيمان به على مراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬3) حديث الشفاعة متفق عليه أخرجه البخاري في تفسير سورة الإسراء باب {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} 6/ 105 , وفي باب قوله {لقد أرسلنا نوحًا إلي قومه} 4/ 163، ومسلم في الإيمان (194)، والترمذي (2434) من حديث أبي هريرة. (¬4) ورة النورآية (58).

التشميت

الرابع: في صفتِه وأنه بالسلام وإن دنا بالحجاب أو بقعقعة الباب إن بعد. الخامس: في الآذن وهو من كان من أهلِ المنزل وإن كان الصبي الصغير الذي يعقل الحجبة ويفهمُ الإذن. السادس: في صفةِ الجواب مثل أن لا يقولُ في جوابٍ من؟: أنا، فقد كره النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لمن قال له وجعل يقول أنا، يكررها تكرر المتكرة (¬1)، وقد تقدم تفصيل ذلك كله في شرح الحديث. التشميت (¬2) قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: (العطاس من الله والتثاؤب من الشيطان) (¬3) الحديث فأضافَ العطاس إلى الله لأجلِ أنه يكون عن خفَةِ البدن وسعةَ المنافِذ وذلك محبوبٌ إلى الله تعالى، فإن المنافذ إذا اتسعت ضاقت عن الشيطان وإذا ضاقت بالأخلاط والغذاء اتسعت عليه وأضاف التثاؤب إلى الشيطان لأنه إما أن يكونَ من كسلٍ أو مرضٍ أو امتلاءٍ وذلك لا يضاف إلى الله تعالى، وإن كان الكل منه على اسم الأدب ألا ترى إلى قول الخليلِ عليه السلام: {والذي هو يطعمني ويسقين} (¬4) فأضافه إلى الله تعالى ثم قال: {وإذا مرضت فهو يشفين}، فأضافه إليه فإذا وجد ذلك فليحمد الله تعالى على ما رزقه من الخفة، فإذا حمدَ الله تعالى فعلى سامعِه أن يدعو له بالرحمةِ، وسمَّى الله تعالى هذا الرد تشميتًا بالشين المعجمة أو تسميتًا بالسين المهملة، وإن كانَ بالشين المعجمة، فهو مأخوذ من الشوامتِ وهي القوائم، وإن كان بالسين المهملة فهو مأخوذ من السَّمتِ وهو قصدُ الشيء ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في الاستئذان باب إذا قال من ذا فقال أنا 8/ 68, ومسلم في كتاب الآداب باب كراهة قول المستأذن أنا إذا قيل من هذا (2155) من حديث محمَّد بن المنكدر قال: سمعت جابراً رضي الله عنه يقول: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في دين كان على أبي فدققت الباب فقال: (من ذا) فقلت: أنا، فقال: (أنا أنا) كأنه كرهها, لفظ البخاري. (¬2) الموطأ 2/ 965. (¬3) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب باب إذا تثاوب فليضع يده على فيه 8/ 61 وكذلك البغوي في شرح السنة 12/ 306، من حديث أبي هريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله يجب العطاس ويكره التثاؤب فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان على كل مسلم سمعه أن يقول له يرحمك الله وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان ...) ورواه أبو داود (5028)، والترمذي (2748). (¬4) سورة الشعراء آية (79).

باب الصور

وناحيته كأنَّ العطاس يجل مرابط البدنِ ويفصل معاقده فيدعو له بأن يرد الله تعالى شوامته على حالها وسمته على صفته قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا عطس فليخمر وجهه) (¬1) كما أنه إذا تثاءبَ فليجعل يده على فمه ولا يفتحها للشيطان، فأنه يضحك به (¬2) ولا يصرف وجهه يمينًا ولا شمالًا، فإن بعضهم قد صَرَفه فبقى كذلك مصروفًا طول عمره. بابُ الصُّور (¬3) هذا بابُ عطيم لا يمكن استيفاؤه هنا، استوفيناه في مكانِه في شرح الحديث والأحاديث فيه متعارضة. ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الملائكة لا تدخلُ بيتًا فيه كلب ولا صورة) (¬4) وروي عنه إلا ما كان رقمًا في ثوب (¬5)، وقد روي في أمرِ النمرقة أنه قالت له عائشة رضي الله عنها: اشريتها لك لتقعدَ عليها وتتوسدها فقال: (إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم احيوا ما خلقتم) (¬6)، وروي أنه قام على الباب فرأى سترًا فرجع قال فقطعناه، فاتخذنا منه نمارَق (¬7)، وكل هذا صحيح وهو متعارض ولَم يعرف منه ¬

_ (¬1) لم أجده بلفظ (فليخمر وجهه) وإنما الذي وجدته من رواية أبي هريرة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض أو غض بها صوته، قال أبو داود شك يحيى "وهو ابن سعيد" أبو داود (5029)، والترمذي (2745)، وقال حسن صحيح، وأحمد 2/ 439، والبغوي في مصابيح السنة 3/ 298, والحاكم في المستدرك 4/ 293. (¬2) هذه رواية البخاري السابقة 8/ 61. (¬3) الموطأ 2/ 965. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء 4/ 158، ومسلم في كتاب اللباس (2106)، من حديث ابن عباس عن أبي طلحة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولاصورة). (¬5) متفق عليه أخرجه البخاري في اللباس باب من كره القعود على الصور 7/ 216، ومسلم في اللباس والزينة (2106) (85)، والبغوي في شرح السنة 1/ 1322 من طريق بشر بن سعيد عن زيد بن خالد عن أبي طلحة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصورة) قال بشر: ثم اشتكى زيد فعدناه فإذا على بابه ستر فيه صورة فقلت لعبيد الله ربيب ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول، فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال إلا رقمًا في ثوب. (¬6) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب اللباس باب من كره القعود على الصور 7/ 216 ومسلم في اللباس والزينة (2107) (96)، وشرح السنة 12/ 128، والموطأ 2/ 966. (¬7) متفق عليه أخرجه البخاري في اللباس باب من لم يدخل بيتًا فيه صورة 7/ 217، ومسلم في اللباس والزينة =

باب الضب

المتقدم من المتأخر، فوجبَ أن ينظرَ فيه، والذي يستقرَ الآن عندي أنه إذا فصّل وقطع جاز بلا كلام، وإن كان رقماً ولم يكن مجسدًا ففيه إشكال أقواه أنه يجوز لأنه نصٌ في الإباحة بعدَ التحريم (¬1). باب الضبّ فقد تقدم ولكن ذكره في الجامع مشيرًا به إلى نكتةٍ وقع التلويح بها في حديثِ عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر أن رجلًا نادى رسوِل الله - صلى الله عليه وسلم - ما ترى في الضبِ فقال: (لستُ بآكلِهِ ولا محرّمه) (¬2) فاحتمل أن يكونَ معنى هذا الحديث ما وقع في الصحاح من أنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه (¬3). فتركه لأجل العيافة أو يكون لا يأكله لما رواه مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الضب فقال: (إن أمةً من الأمم مسخت فلا ¬

_ = (2107) (96)، من حديث عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الباب فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية قالت: يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله ماذا أذنبت قال: (ما بال هذه النمرقة) فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتتوسدها ... لفظ البخاري. (¬1) قال النووي يجمع بين الأحاديث بأن المراد باستثناء الرقم في الثوب ما كانت الصورة فيه من غير ذوات الأرواح كصورة الشجر ونحوها قال الحافظ ويحتمل أن يكون ذلك قبل النهي كما يدلّ عليه حديث أبي هريرة الذي أخرجه أصحاب السنن ولفظه: (أتاني جبريل فقال: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب فمر برأس التمثال الذي على البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة ومر بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطأن ومر بالكلب فليخرج) ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الترمذي (2806) وقال حسن صحيح، وأبو داود (4158)، وأحمد في المسند 2/ 305، ونقل الحافظ عن الشارح قوله: إن كانت الصور ذات أجسام حرم بالإجماع وإن كانت رقمًا فأربعة أقوال، الأول: يجوز مطلقًا على ظاهر قوله (إلا رقمًا في ثوب)، الثاني: المنع مطلقًا حتى الرقم، الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم وإن قطعت الرأس أو تفرقت الأجزاء جاز قال وهذا هو الأصح، الرابع: إن كانت مما يمتهن جاز وإن كان معلقًا لم يجز. فتح الباري 10/ 391 ,وانظر العارضة 10/ 248. (¬2) البخاري في الذبائح باب الضب 7/ 125، ومسلم في الصيد والذبائح (1943). (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في الذبائح 7/ 125، ومسلم في الصيد والذبائح (1945)، والموطأ 2/ 968 عن ابن عباس عن خالد بن الوليد في رواية البخاري والموطأ وفي رواية مسلم عن ابن عباس قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة فأتى بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: (لا, ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه)، قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر.

باب الشؤم

أدري أهي الضبّ أم لا) (¬1) وأما قوله في حديث خالدٍ فقال لخالد وعبد الله بن عباس: (كُلا) فقالا: أوَلا تأكل أنت يا رسولَ الله؟ فقال: (إني تحضرني من الله حاضرة) (¬2) فيحتمل أن تكون مع الضباب والبيض رائحة متكرهة فيكون منِ بابِ أكل البصل والثوم، وأما أن يريد أن الملك ينزل بالوحي علىَّ ولا يصلح لمن كان في هذه المرتبة ارتكاب المشتبهات (¬3). باب الشؤم هي نوع من الطيرة التي تقدم شرحنا لها وهذه المعاني المكروهة ليس بممتنع أن يخلقها الله تعالى في الطائر المار والبهيمة السانحةِ والبارحة (¬4) وفي الثوب أو الدار أو المرأة أو الفرس وقد قيل للنبي- صلى الله عليه وسلم - في دار مكمل بن عوف أخي عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكنَّاها والعدد كثير والمال وافر، فقلَّ العدد وذهب المال فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) مسلم من حديث أبي الزبير إنه سمع جابر بن عبد الله يقول: أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضب فأبى أن يأكل منه وقال: (لا أدري لعله من القرون التي مسخت) (1949) وفي حديث أبي سعيد بعده (1951) قال: (إن الله لعن أو غضب على سبط من بني إسرئيل فمسخهم دواب يدبون على الأرض فلا أدري لعل هذا منها فلست آكلها ولا أنهى عنها). قال الطبري: ليس في الحديث الجزم بأن الضب مما مسخ وإنما خشي أن يكون منهم فتوقف عنه وإنما قال ذلك قبل أن يعلم الله تعالى نبيه أن الممسوخ لا ينسل وبهذا أجاب الطحاوي ثم أخرج عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القردة والخنازير أهي مما مسخ قال: (إنه الله لم يهلك قومًا أو يمسخ قومًا فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة) وأصل الحديث في صحيح مسلم وكأنه لم يحضره. فتح الباري 9/ 666. (¬2) هذه رواية الموطأ 2/ 967 وهي مرسلة من رواية سليمان بن يسار قال: دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة بنت الحارث فإذا بضباب فيها بيض ومعه عبد الله بن عباس ... قال الزرقاني: هذا مرسل وقد رواه بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار عن ميمونة. شرح الزرقاني 4/ 369. (¬3) قال المازري في قوله: (فإني يحضرني من الله حاضرة) يعني الملائكة وكأن للحم الضب ريحًا فترك أكله لأجل ريحه كما ترك كل الثوم مع كونه حلالًا. فتح الباري 9/ 665. (¬4) قال الحافظ: أصل التطير أنهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير فإذا خرج أحدهم لأمر فأن الطير طار يمنة تيمن به واستمر وإن رآه طار يسرة تشاءم به ورجع وربما كان أحدهم يهيج الطير ليطير فيعتمدها فجاء الشرع بالنهي عن ذلك وكانوا يسمونه بالسانح بمهملة ثم نون ثم حاء مهملة والبارح بموحده وآخره مهملة فالسانح ما ولاك ميامنه بأن يمر عن يسارك إلى يمينك والبارح بالعكس وكانوا يتيمنون بالسانح ويتشاءمون بالبارح لأنه لا يمكن رميه إلا بأن ينحرف إليه وليس في شيء من سنوح الطير ويروحها ما يقتضي ما اعتقدوه. فتح الباري 10/ 212.

(دعوها ذميمة) (¬1) ومعنَى هذا والله أعلم أنه عسر عليهم قلع ذلك من نفوسهم فكره أن يعيشوا في غم فأمرهم بالارتحال عنها ومن نحوِ هذا في الفألِ والطيرة كراهية الأسماء القَبيحة والاستحسان للأسماء الحسنةِ والاستبشار بها، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتفاءل بالأسماء الحسنةِ للرجال والبِقاع (¬2) وذلك كثير. حديث: قال عمر بن الخطّاب لرجل: "ما اسمك؟ قال: جمرة. قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب. قال: ممن؟ قال: من الحُرقةِ. قال: أين سكنك؟ قال: بحرة النَّارِ. قال: بأيها؟ قال: بذاتِ لظى. قال عمر رضي الله عنه: أدرك أهلك فقد احترقوا، فكان كما قال عمر رضي الله عنه" (¬3)، اختلف في هذا الحديث فمنهم من قال إن عمر أدركه إلهام من الله تعالى ألقاهُ في روعهِ كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ في كل أمة محدثون وإن عمرَ منهم) (¬4)، وقيل إنما ذلك فراسة واستدلال بظاهرٍ على باطنٍ وإنفاذ قضاء سابق بسبب حاصلٍ، والحكمة التي استدل بها عمر وتفرَّسها ¬

_ (¬1) مالك عن يحيى بن سعيد إنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوها ذميمة)، الموطأ 2/ 972، قال ابن عبد البر: وهذا محفوظ من وجوه منها حديث أنس يرويه عكرمة بن عمار عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس. التجريد ص232، هذه الطريق التي ذكر ابن عبد البر هي رواية أبي داود عن أنس بن مالك قال: قال رجل: يا رسول الله إنا كنا في داركثير فيها عددنا وكثير فيها أموالنا فتحولنا إلى دار أخرى فقل فيها عددنا وقلت فيها أموالنا .... أبو داود (3924)، ورواه البيهقي في السنن 8/ 140، وأورده صاحب كنز العمال 10/ 127 الحديث (28640) وعزاه لابن جرير. وقد ورد في حديث أبي داود أن السائل رجل، قال الزرقاني: ويجمع بينهما بأن كلا من الرجل والمرأة سأل عن ذلك، شرح الزرقاني 4/ 381. (¬2) روى أبو داود بسنده إلى عبد الله بن بريدة عن أبيه أن النبي- صلى الله عليه وسلم - لا يتطير من شيء وكان إذا بعث عاملًا سأله عن اسمه فإذا أعجبه اسمه فرح به ورؤي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمه رؤي كراهية ذلك في وجهه وإذا دخل قرية سأل عن اسمها فإن أعجبه فرح ورؤي بشر ذلك في وجهه وإن كره اسمها رؤي كراهية ذلك في وجهه. (3920) ورواه أحمد 5/ 347 - 348، والبغوي في مصابيح السنة 3/ 253 وحسنه. (¬3) مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطّاب قال لرجل: ما اسمك ... الموطأ 2/ 973، وهو منقطع وقد وصله أبو القاسم بن بشران في فوائده من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر وصاحب هذه القصة مع عمر ذكره الحافظ في الإصابة فقال: جمرة بن شهاب مخضرم له قصة مع عمر رويناها في فوائد أبي القاسم بن بشران من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر ... ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيّب قال عمر فذكر نحوه ... الإصابة 1/ 275 وانظر شرح الزرقاني 4/ 382. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في الفضائل باب مناقب عمر بن الخطّاب 5/ 15 ومسلم في فضائل الصحابة باب فضائل عمر (2398) من حديث ابي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لقد كان فيماكان قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتى أحد فإنه عمر) لفظ البخاري وأما رواية مسلم فهي من طريق عائشة.

ما جاء في المشرق

اجتماع النار عليه من كل وجهٍ فيه وفي أبيه وفي جهته ومحله ومسكنه فأخرجها عُمر له في الدنيا رجاء أن يعصمَهُ الله تعالى منها في الآخرةِ وكانَ ذلك تعليمًا لتحسين الأسماء. أخبرني الطيوري الخطيب أبو بكر البغدادي (¬1)، أخبرنا أبو محمَّد الحسن بن محمَّد الخلال (¬2). قال: دخلَ بي أبي على بعضِ الشيوخ الصوفية فقال لي: ما اسمك؟ قلت: حسن، قال: إن الله حسَّن لك اسمك فحسن له فعلك. ما جاء في المشرق (¬3) إستفاض على لسانِ النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن جهة المشرق، وذكر أن فيه الفتنة وفيها الفدادون (¬4) أهلها وكانت في ذلك الوقت نجد كلها كفرًا ومن جملتها العَراق الذي كرهِ "كعب لعُمر بن الخطّاب رضي الله عنه دخوله لأنّ الله تعالى قَدر فيه باطلًا كثيراً وهو السحر ولأجل هذا عدَلت إليهِ فسقة الجِنُّ وبها الداء العضال" (¬5)، يريدُ الهلاك في الدينِ وكذلك كانَ منها نشأة البدع ومنه طارت إلى الآفاق ولذلك كان مالك رضي الله عنه يسمّي الكوفة ¬

_ (¬1) تقدمت ترجمته. (¬2) هو الحافظ المجود محدث العراق أبو محمَّد الحسن بن أبي طالب محمَّد بن الحسن بن علي البغدادي الخلال أخو الحسين ولد سنة اثنتين وخمسين وثلاث مائة ومات سنة تسع وثلاثين وأربعمائة. سير النبلاء 17/ 593 وانظر تاريخ بغداد 7/ 425، الأنساب 8/ 215، المنتظم 8/ 132 - 133، اللباب 1/ 473، تذكرة الحفاظ 3/ 1109 - 1111، والعبر 3/ 189 طبقات الحفاظ (426). (¬3) الموطأ 2/ 975 وذكر فيه حديث عبد الله بن عمر إنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشير إلى المشرق ويقول: (ها إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان) وقد أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب صفة إبليس 4/ 150 ومسلم في الفتن وأشراط الساعة باب الفتنة في المشرق من حديث يطلع قرنا الشيطان (2905). (¬4) في ج العدادون ولعل ما في الأصل هو الصواب فالفدادون الجمالون والرعيان والبقارون والحمارون والفلاحون وأصحاب الوبر والذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم والمكثرون من الإبل، ترتيب القاموس 3/ 456. (¬5) مالك أنه بلغه أن عمر بن الخطّاب أراد الخروج إلى العراق فقال له كعب الأحبار: لا تخرج إليها يا أمير المؤمنين فإن بها تسعة أعشار السحر وبها فسقة الجن وبها الداء العضال. الموطأ 2/ 975. قال الباجي: كان معظم السحر ببابل وهي من أرض العراق فأخبر أن معظمه هناك وقوله وبها فسقة الجن يحتمل إنه وجد ذلك في بعض الكتب التي قرأها فإن مثل هذا لا يعلم إلا بتوقيف وبها الداء العضال يريد الذي يعي الأطباء وهذا أصله ثم استعمل في كل أمر يتعذر محاولته من أمر دين أو دنيا. وعن مالك الداء العضال الهلاك في الدين وقال محمَّد بن عيسى وغيره من أهل العلم: البدع في الإِسلام ومعنى هذا إن صح في وقت دون وقت وقد سكن الكوفة أفضل الصحابة ومن العشرة كعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وعبدَ الله بن مسعود وجماعة من البدريين وغيرهم. المنتقى 7/ 299.

ما جاء في الحيات

دار الضَّرب (¬1)، وأول من ضرب فيها الأحاديث الحارث الأعور (¬2) عن عليّ رضي الله عنه وكثير من أصحاب عليٍّ رضي الله عنه، ومما يكرة لعلي رضي الله عنه اختيار العراق وهو على الصَّوابِ، واختار معاوية الشام وهو على الخطأ، ولو بقي عليّ رضي الله عنه في حرمِ الله وحرمِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - لجمعَ الله تعالى له الأمر المشتَّت ببركةِ البقعة ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعُولًا. ما جاء في الحياتِ (¬3) نهى النبي- صلى الله عليه وسلم - عن قتل الحيات التي في البيوت إلا ذا الطفيتين والأبتر فإنهما يخطفان البصر ويطرحان ما في بطون النساء (¬4)، والعلة في أمرِ النبي- صلى الله عليه وسلم - بقتلِ الحياتِ، والعلة في نهي ما نهى عنه مما لا خلافَ فيه، وقد وردَ ذلك في أحاديث كثيرة منها قوله: (خمس فواسق يقتلن في الحلِ والحرم (¬5)) فذكر العقربَ واتفقت الأمة على أنها متعلقة بالإذاية ¬

_ (¬1) قال منصور بن سلمة الخزاعي: كنت عند مالك فقال له رجل: يا أبا عبد الله أقمت على بابك سبعين يومًا حتى كتبت ستين حديثًا فقال: ستون حديثاً وجعل يستكثرها فقال الرجل: ربما كتبنا بالكوفة أو بالعراق في المجلس الواحد ستين حديثًا فقال: وكيف بالعراق دار الضرب يضرب بالليل وينفق في النهار. سير النبلاء 8/ 114. (¬2) الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني بسكون الميم الحوتي بضم المهملة والمثناة الكوفي أبو زهير صاحب على كذبه الشعبى في رواية ورمي بالرفض وفي حديثه ضعف وليس له عند النسائي سوى حديثين مات في خلافة ابن الزبير. التقريب ص 146، وانظر ت ت 2/ 145، والكاشف 1/ 195. (¬3) الموطأ 2/ 975. (¬4) مالك عن نافع عن سائبة مولاة لعائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل الجنان التي في البيوت ... الموطأ 2/ 976. وهذا الحديث مرسل وهو موصول في الصحيحين بنحو من حديث ابن عمر وعائشة وأبي لبابة. كذا ذكر الزرقاني في شرحه على الموطأ 4/ 386. وقد اتفق الشيخان على إخراج حديث الثلاثة انظر البخاري في كتاب بدء الخلق باب خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال 6/ 154، ومسلم في كتاب السلام باب قتل الحيات وغيرها (2232 و 2233 و 136) قال الحافظ قوله: (لا تقتلوا الجنان إلا كل ذي طفيتين) إن كان الإستثناء متصلًا ففيه تعقب على من زعم أن ذا الطفيتين والأبتر ليس من الجنان ويحتمل أن يكون منقطعًا أي لكن كل ذي طفيتين فاقتلوه والجنان بكسر الجيم وتشديد النون جمع جان وهي الحية الصغيرة وقيل الرقيقة الخفيفة وقيل الرقيقة البيضاء. فتح الباري 6/ 354. (¬5) متفق عليه أخرجه البخاري في الحج باب ما يقتل المحرم من الدواب 3/ 17، ومسلم في الحج باب ما يندب =

ْفتعددت الأحكام من كل جنس إلى بقيته ونظيره لوجود العلة فيه كما حرَّم - صلى الله عليه وسلم - الربا في الأعيان السّتةِ (¬1) ثم تعدى حكم الربا من الأربعة منها إلى كل جنسٍ من أجناسها حيث وجدت العلة، وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بقتلهن أيضًا، وقال: (ما سالمناهنَّ منذ حاربناهنَّ) (¬2) إشارة إلى ما جرى بينها وبين آدم وإبليس، وذلك مذكور في الإسرائيليات فلينظر فيها وهو المراد في أحد التأويلات في قوله تعالى: {اهبطوا منها جميعًا} (¬3) إشارةً إلى الأربعة آدم، وحواء، والحية، والشيطان (¬4). ثم نهى - صلى الله عليه وسلم - عن قتلِ حيات البيوتِ وهي العوامر وفي ذلك علتان أحدهما: قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ بالمدينة جنَّاً أسلموا فما بدا لكم منها فانذروه ثلاثًا، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه) (¬5)، والثانية: أن ¬

_ للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم (1199)، وشرح السنة 7/ 266 من حديث ابن عمر عن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام الفأرة والعقرب والغراب والحدأة والكلب العقور) لفظ مسلم. (¬1) تحريم الربا في هذه الأعيان ورد في حديث عبادة بن الصامت قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن (بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح إلا سواء بسواء عينًا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربي ..) مسلم في القسامة (1587) ,وأبو داود (3349)، والترمذي (1240)، والنسائي (4564)، وابن ماجه (2254)، وفي ألفاظه زيادة ونقص. (¬2) أبو داود (5248) وأحمد في المسند 2/ 247 و 432 و520, والطبري في تفسيره 1/ 537، من حديث أبي هريرة وصححه الشيخ أحمد شاكر ورواه أبو داود من حديث ابن عباس (5250). (¬3) سورة البقرة (38). (¬4) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قول: {وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو} قال: آدم وحواء وإبليس والحية، الدر المنثور 1/ 134، وابن جرير 1/ 536. وقال الحافظ ابن كثير ذكر المفسرون من السلف كالسدي بأسانيده وأبي العالية ووهب بن منبه وغيرهم ههنا أخبارا إسرائيلية في قصة الحية وإبليس وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته. تفسير ابن كثير 1/ 81، وفي هامش المنذري قال يحيى بن أيوب سئل أحمد بن صالح عن تفسير قوله: (ما سالمناهن منذ حاربناهن. متى كانت العداوة؟ قال: حين خرج آدم من الجنة قال الله العظيم {اهبطوا منها جميعًا بعضكم لبعض عدو} البقرة آية (38) قال هم قالوا آدم وحواء وإبليس والحية قال: والذي صح أنهم الثلاثة فقط بإسقاط الحية. تهذيب السنن 8/ 104. (¬5) رواه مالك في الموطأ 2/ 976 عن صفي مولى ابن أفلح عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة إنه قال: دخلت على أبي سعيد الخدري فوجدته يصلي فجلست انتظره حتى قضى صلاته فسمعت تحريكًا تحت سرير في بيته فإذا حية فقمت لأقتلها فأشار أبو سعيد الخدري أن اجلس، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال: ألا ترى هذا البيت؟، فقلت: نعم، قال: إنه كان فيه فتى حديث عهد بعرس فخرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (خذ سلاحك فإني أخشى عليك بني قريظة)، فانطلق الفتى إلى أهله فوجد امرأته قائمة بين البابين فأهوى إليها بالرمح ليطعنها وأدركته غيرة فقالت: لا تعجل حتى تدخل وتنظر ما =

قتلها معرض للإذاية إذ يتصوَّر الشيطان في صورها لأنّ الله تعالى يسَّر للملك في شرفه وللشيطان في خساسته أن يتشكلا في أي صورة شاءا كما يسَّر لنا أن نتصرف في أي جهةٍ شئنا بالحركاتِ خلا العلو والسفل، فإن الله تعالى أبقاهما تعجيزًا، والبارئ تعالى مكن الشيطان من الكبائر وقبضه عن الصغائر، وقد بينا ذلك فيما سبقَ فتراه يتولج في أضيق المسالك فإذا أغلق الباب لم يقدر أن يتجاوزه وسلط علينا في الوسواس، ومنع فينا من الأفعالَ لطفًا منه تعالى بنا ورفقاً ووعدًا سبق منه حقًا حين قال: {ولآمرِنهم} (¬1)، ولم يقل ولأفعلنَّ بهم وقد بين ذلك في قوله تعالى: {وما كان لي عليكم من سلطان ...} (¬2) الآية إلَّا أنه إذا كانت الإذاية (¬3) من الآدميين لهم، ربما مكنوا من الانتقام ورُبما قصروا فهذه الخشية التي توجب التوقف، وتبقي مدة الأعذار بالإقرار ثلاثة أيام كما في صحيح الحديث (¬4)، ؤاختلفَ هل ذلك خاص في المدينة أم عام في سائر البلدان، والصحيح أنه عام في سائر البلدان لوجهين. أحدهما: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: (إن بالمدينة جِنَّاً أسلموا)، وقد أخبر أن بنصيبين جِنَّاً أسلموا (¬5) وكذلك كل بلدٍ فيه، والله أعلم (مثله) (¬6). ¬

_ = في بيتك، فدخل فإذا هو بحية منطوية على فراشه فركز فيها رمحه ثم خرج بها فركزه في الدار فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ميتًا فما أدري أيهما كان أسرع موتًا الفتى أم الحية فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (إن بالمدينة جنًا قد أسلموا ...)، ورواه مسلم (2236) في كتاب السلام، والبغوي في شرح السنة 12/ 193، وأبو داود (5257)، والترمذي (1484). (¬1) يقول تعالى: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} النساء الآية (119). (¬2) {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} سورة إبراهيم آية (22). (¬3) في م من جهة الآدميين. (¬4) في رواية أخرى عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن بالمدينة نفرًا من الجن قد أسلموا فمن رأى شيئًا من هذه العوامر فليؤذنه ثلاثًا فإن بدا له بعد فليقتله فإنه شيطان) لفظ مسلم (2236) (141)، وأبوداود (5259). (¬5) روى البخاري ومسلم والترمذي من حديث ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجن ولا رآهم: انطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طائقة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟، قيل: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب، قالوا: وما ذاك إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو. (¬6) كذا في جميع النسخ (مثله) ولا أرى لها فائدة.

باب السفر

والثاني: ورد النهي مطلقًا من غير تخصيص (¬1) بقعةٍ، وجعل - صلى الله عليه وسلم - الطفيتين والأبتر علامة على الإذالة الجبليّة الموجبة للقتل ابتداءً لأنّ الحيوان على قسمين: منه ما جبلته الإذاية فهذا يقتل ابتداءً كما سبق. ومنها ما لا يؤدي إلا عَرَضًا فهذا لا يقتل إلا أن ينشىء الإذاية كالجمل الصؤول والكلب العقُور. باب السفر أدخل مالك رضي الله عنه هذه الترجمة، ولم يدخلها أئمة التصنيف في أكثر وهو باب كبير، وله فصولٌ كثيرة، ومسائل متعلقة يجمعُها أن السفر على قسمين هرب أو طلب، وينقسم من جهة أقسام أحكام المكلفين إلى عددها الخمسة، فالقسم الأول هو قسم الهرب وينقسم إلى ستة أقسامٍ. الأول: الخروج من دار الحرب إلى دار السلام، وقد كانت فرضًا في زمن النبي- صلى الله عليه وسلم -، يتعين على الخلق أن يهاجروا إليه، حيث كان. ثم انقطعت تلك الهجرة بفتح مكة، وبقي الخروج من أرضِ الحرب دائمًا، فإن بقي في دار حربٍ فهو آثم. الثاني: الخروج من أرض البدعة. قال ابن القاسم: سمعتُ مالكًا يقول:"لا يحلُّ لأحدٍ أن يقيم بأرض يُسبُّ فيها السلف"، وهذا صحيح فإن المنكر إذا لم تقدر على تغييره لم يحلْ لك أن تجالس صاحبه. قال تعالى: {وإذا رأيتَ الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} إلى قوله {الظالمين} (¬2) وقال تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات ¬

_ تهامة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا ويين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا: {فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} فأنزل الله عز وجل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}، البخاري في تفسير سورة الجن 6/ 199، ومسلم في الصلاة (449)، والترمذي (3320)، أما نفي ابن عباس القراءة على الجن فقد أجاب عنه الحافظ بقوله: أثبت ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ على الجن فكان ذلك مقدمًا على نفي ابن عباس وقد أشار إلى ذلك مسلم فقد أخرج عقب حديث ابن عباس هذا حديث ابن مسعود. فتح الباري 8/ 670 وانظر مسلم (450) في الصلاة. (¬1) في ك وم ببقعة. (¬2) سورة الأنعام آية (68).

الله ....} إلى قوله {جميعًا} (¬1) وقد كنتُ أقول لشيخنا أبي بكر الفهري ونحن بالثغر (¬2) أخرج إلى بلادك، عن هذه البقعة الظالم أهلها فيقول: أكرهها لغلبةِ الجهل عليها وقلة عقولهم، فأقول: فأخرج إلى الحرمين تفني فيها بقية عُمرَك ... !؟ فيقولِ: قد رددتُ من الباطلِ ههنا كثيرًا، وقد أظهرت من العلم عظيمًا. قلت له: وسمعت باطلًا كثيرًا ولا يفي ذلك بهذا. وانتهى الكلام بيني وبينه إلى حدٍ أوضحناه في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من كتاب المشكلين. الثالث: الخروج من أرضٍ إلى أرضٍ غلبَ عليها الحرام، فإن طلبَ الحلال فريضةً، وكان ذلك مما كنت أعترض به على شيخنا الفهريّ، وكنتُ أحتجُ عليه بالزاهد العربي الذي ما كان يعيش في ذلك الثغر إلا من بذر الخطمى (¬3). الرابع: الفرار من الأذَّية في البدن. كخروج إبراهيم عليه السلام، لما خاف من قومه (¬4)، وخروج الكليم عليه السلام خائفًا يترقب (¬5)، وخروج الحبيب من الضرر الواقع بالبدن وهو، الخامس: من خوف المرض: الخروج من الأرض العمقة (¬6) إلى الأرض النزهة عند الاحتواء كما. أَذَن النبي- صلى الله عليه وسلم - للعكليين (¬7) أن يخرجوا إلى السَّرح عند الرعاء (¬8)، وقد استثي من هذا الجائز الخروج من أرضِ الطاعون حسبما تقدم. السادس: الخروج خوفًا على الأهل والمال لأنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه، وقد ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (140). (¬2) المراد بالثغر هنا ثغر الإسكندرية لأنّ الفهري كان مقيمًا بها. (¬3) الخطمي ضرب من البنات يغسل به الرأس. لسان العرب 12/ 188، النهاية 2/ 51. (¬4) حكى الله ذلك عنه في قول: {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين} سورة الصافات آية (99). (¬5) يقول الله تعالى {فأصبح في المدينة خائفًا يترقب ...} القصص آية (18). (¬6) العمق ما بعد من أطراف المفازة. ترتيب القاموس 3/ 313. (¬7) قال الحافظ ثبت في الصحيحين أنهم كانوا من عكل وعرينة. فتح الباري 12/ 110. (¬8) ورد في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال: قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - نفر من عكل فأسلموا فاجتووا المدينة فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا فصحوا فارتدوا وقتلوا رعاتها واستاقوا فبعث في أثارهم فأُتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ثم لم يحسمهم حتى ماتوا. البخاري في كتاب المحاربين 8/ 201، ومسلم في القسامة (1671).

اعترض الخليل عليه السلام في أهله (¬1)، ولكن الله تعالى عصمه بآيته وسخّر الكافِرَ ليهبَ له الوليدةَ لخدمتِه وأما وجه الطلب فيتعدد إلى أنواع كثيرة الحاضرُ الآن من أمَّهاته (¬2) ثمانية. الأول: سفر العبرة: قال الله تعالى: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا} (¬3)، فمنَ المندوب إليه أن يعتبر الرجلُ في الأرض في آياتِ الله تعالى، وإن كان له في نفسه أعظم عبرةً ولهذا سافر ذو القرنين يتبع الأسباب (¬4)، وينظر في الملكوت الأرضي وما فيه من عجائب الصنعة الدالة على سعة القدرة. الثاني: سفر الحج: والأول ندب وهذا فرض، لكنه أخص منه، وفيه أيضًا عبرة شنعاء، فإنه يرى أوحش بقعة في الأرض إلى خلق الله تعالى بوادٍ غيرَ ذي زرع، فيه حجارة مجموعة ليسَ لها شارة جمال تعلقت بها قلوب الخلق واستشعروا فيها رضي الحق، وهذه عبرة تدل على سعة القدرة وعظيم الحكمة. الثالث: سفر الجهاد: وله أحكامه. الرابع: سفر المعاش: وهو الاحتطاب أو احتشاش أو صيدٍ أو تجارة. الخامس: سفر التجارة للكسب: وذلك ما أذنَ الله تعالى فيه لعبادهِ لما علِمَ من علاقة قلوبهم بالاستكثار من الدنيا, ولأنه سبحانه فَرق المنافع على المشرقِ والمغرب ثم اصطفى قوماً لعبادتِه واستخدم آخرين في جلبِ المنافع من بلدٍ إلى غيره ليتم بذلك ما ضمنَ من رزقهِ ومصلحتِه. ¬

_ (¬1) ورد ذلك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات اثنتين منهن في ذات الله عزّ وجلّ قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا، وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبار من الجبابرة فقيل له: إن ههنا رجلًا معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأله عنها فقال: من هذه؟ قال: أختي سارة، فأتى سارة قال: يا سارة ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك وإن هذا سألني فأخبرته أنكِ أختي فلا تكذبيني ...) البخاري في كتاب الأنبياء باب قول افى تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلًا} 4/ 171. (¬2) في ج من أمهاتها. (¬3) {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف وإن عاقبة الذين من قبلهم ...} سورة فاطر الآية (44). (¬4) قال تعالى: {ويسألونك عن ذى القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرًا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فاتبع سببا} الكهف آية (83, 84 , 85).

السادس: قصد البقاع الكريمة وهي قسمان لا ثالثَ لهما. أحدهما: ما تضمّنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) (¬1). الحديث. الثاني: الثغر للرباطِ فيه تكثيرًا لأهله وحسمًا لداءِ تعلقِ طلب العدوّ به. السابع: القصد في طلب العلم وهو مشهور. الثامن: القصد إلى الأخوان لتفقد أحوالهم ومنه الحديث: (من زار أخًا له في الله نصب الله على مدرجته ملكًا) (¬2) هذا إذا كانَ حيًا، فإن كان ميتًا، فيجوز زيارة قبر أيضًا، والترحُّم عليه لينتفع الميتُ بالحي، ولا يقصد الانتفاع بالميت فإنها بدعة وليست لأحدٍ على وجه الأرض إلا لواحدٍ وهو قبر محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬3) أما إنَّا رأينا بالشام قُبُورًا لكئير من الأنبياء، كان الثابت منها قبر إبراهيم الخليل عليه السلام، وإسحاق ويعقوب في مسجد الخليل عليه السلام، وكان منها قبر موسى عليه السلام، بشرقي الطور عند الكنيسة (¬4) الغرتية وكان على باب صينون من بيت المقدس كنيسة (¬5) داودَ وكان يقال إن بها قبره، وكان ¬

_ (¬1) هذا حديث متفق عليه. (¬2) لم أجده بهذا اللفظ. (¬3) هذه مسألة خلافية بين العلماء والحديث السابق دليل واضح على المنع حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد). قال الحافظ اختلف في شد الرحال إلى غيرها (أي غير المساجد الثلاثة) كالذهاب لزيارة الصالحين أحياء وأمواتًا وإلى المواضع الفاضلة لقصد التبرك بها والصلاة فيها فقال الشيخ أبو محمد الجويني يحرم شد الرحال إلى غيرها عملًا بظاهر هذا الحديث وأشار القاضي حسين إلى اختياره وبه قال عياض وطائفة ويدل عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار بصرة الغفاري على أبي هريرة خروجه إلى الطور وقال له: لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت واستدل بهذا الحديث فدلّ على أنه يرى حمل الحديث على عمومه ووافقه أبو هريرة وذهب فريق آخر إلى الجواز ولكن الراجح لدينا ما قدمناه. انظر الفتح 3/ 65، وشرح النوويّ على مسلم 9/ 106. (¬4) كذا في جميع النسخ عند الكنيسة الغِرتيه والذي في الصحيحين عند الكثيب الأحمر فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليهما السلام فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت .. فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر قال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكتب الأحمر) البخاري في الجنائز باب من أحب الدفن بالأرض المقدسة ونحوها 2/ 113، ومسلم في الفضائل باب فضل موسى (2372). (¬5) كذا في كل النسخ (كنيسة داود) وفي معجم البلدان بيت لحم قرية على نحو فرسخ من جهة جبرين ولد بها عيسى ابن مريم عليه السلام .. ولما ورد عمر بن الخطّاب إلى بيت المقدس أتاه راهب من بيت لحم فقال له: معي منك أمان على بيت لحم، فقال له عمر: ما أعلم ذلك فأظهره وعرفه عمر فقال له: الأمان صحيح ولكن لا بد في كل موضع للنصارى أن يجعل فيه مسجد فقال الراهب إن بيت لحم حنية مبنية على قبلتكم=

بحلحول (1) قبر يونس وكان من نينوى ومات بحلحول ودُفن هنالك بالطريق وإلى جانبه قبر داخل على نحو من فرسخ على الطريق أيضًا، وكان بسبسطية (¬2) على نحو الخمسين ميلًا، من المسجد الأقصى في الغرب المنحرف إلى الجوف على نحوٍ من فرسخين من نابلس، (مخرق اعراق (¬3) الثرى) صلوات الله عليه قبر يحيى بن زكريا، ووقفت على قبر إسماعيل بالحجر تحت الصخرة السوداء، وهو دليل على جواز الدفن (¬4) في المساجد ما لم يكن للقبر شخص يمنع الصلاة ويفسد الصفوف. فهذه جملة من أنواع السفر ولم يتعرض مالك رضي الله عنه إلا لآدابه وآدابه كثيرة قد ذكرها العُلماء فلا نطوّل بها فمنها ما ذكره مالك رضي الله عنه من القول عند الشروع فيه وقبله ما كان ينبغي أن يبين الاستخارة عليه، فإنه من أهم الأمور التي تقدم فيها الاستخارة لما فيه من الغرر والمشقة. وذكر مالك رضي الله عنه حديثًا بلغه وهو صحيح ثابت: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال ...) (¬5) وذكر فيه اسمين غريبين لله، أحدهما الصاحب "والآخر الخليفة وقد استوفينا بيانهما في الأمد الأقصى والصاحب" (¬6) يرجعُ إلى العالم وإلى الحافظ بمعنى وإلى اللطيف بآخر، وبالجملة فإن من كان الله معه فلا يعدم فائدة ولا تطرقت إليه آفة، والصاحب اسمٌ شريف وخطةٌ رفيعة سمى الله تعالى بها نفسهُ على لسانِ نبيهِ، وسمى بها رسوله فقال: {ما ضل صاحبكم وما غوى} (¬7) الآية والخليفةُ يرجع معناهُ إلى معنى الوكيل، وقد بيناهُ، ويرجعُ إلى الآخر وإلى الباقي من أقسام ¬

_ = فاجعلها مسجدًا للمسلمين ولا تهدم الكنيسة فعفا له عن الكنيسة وصلى في الحنية واتخذها مسجدًا ويقال إن بها قبر داود عليه السلام، معجم البلدان 1/ 521. (1) في قرية بين بيت المقدس وقبر إبراهيم الخليل وبها قبر يونس بن متى. معجم البلدان 2/ 290. (¬2) سبسطية بلدة من نواحي فلسطين بينها وبين بيت المقدس يومان ولها قبر زكريا ويحيى بن زكريا عليهما السلام وهي من أعمال نابلس معجم البلدان 3/ 184. (¬3) في حروم مخرق أعراق الثرى والعبارة لم أفهمها. (¬4) أما قوله رحمه الله بالجواز فإننا نرى خلافه لعموم النهي عن اتخاذ القبور مساجد ولعن فاعل ذلك الفعل ولأنه وسيلة إلى الشرك قال الحافظ ويقول بالمنع مطلقًا من يرى سدّ الذريعة وهو هنا متجه: قوى: الفتح 3/ 208. (¬5) مالك إنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا وضع رجله في الغرز وهو يريد السفر يقول: (باسم الله اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم ازوِ لنا الأرض مهادا وهون علينا السفر، اللهم اني أعوذ بك من وعثاء السفر ومن كآبة المنقلب ومن سوء المنظر في المال والأهل) الموطأ 2/ 977، وقد رواه مسلم موصولًا من طريق ابن عمر (1342) في الحج باب ما يقول إذا ركب في سفر الحج وغيره. (¬6) ما بين المعكوفتين زيادة من ج وك. (¬7) سورة النجم آية (2).

الآخر, لأنّ الخلافة هي عمل بعد ذهاب المستخلف والبارئ سبحانه وتعالى آخر بعدَ كل أحدٍ بدوام الوجود، كما هو أول قبل كلِ أول بقدم ابتداء الوجود، وعلم أيضًا ما يقوله: (إذا نزل أعوذ بكلماتِ الله التامّاتِ من شرِّ ما خلقَ) (¬1) وضَمِنَ عدم الضرر بها، فلعمر إلهكم لقد جربتها أحد عشر عامًا فوجدتُها. وبوّب على ما جاء في الوحدة، وهو كلام صحيح، فإن الرفيقَ قبل الطريق (¬2)، لا شيء أصعب على المرء من الانفراد بين سمعِ الأرضِ وبصرها، وهو عُرضةً للشيطان، ولا ينبغي لأحدٍ أن يفعلهُ إلا للضرورة، وأقل الصحبةِ ثلاثة, لأنّ أحدهم إن مضى يحتطب أو يستقي بقي اثنان، وجعلَ النبي- صلى الله عليه وسلم - الواحد شيطانًا مجازًا (¬3)، كأنه صاحب الشيطان، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مَقامَهُ، ويدفع خوفه الأذان كما جاء في صحيح مسلم (¬4) وآية الكرسي، فإن من قرأها لا يقربُه شيطان (¬5)، وهذا الذي ورد منه في الحديث ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 978 مالك عن الثقة عنده عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن سعد بن أبي وقاص عن خولة بنت حكيم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نزل منزلًا فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لن يضره شئ حتى يرتحل) الموطأ 2/ 978. ورواه مسلم بلفظ الموطأ من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن الحارث بن يعقوب عن يعقوب المذكور. مسلم في كتاب الذكر والدعاء باب التعوذ من سوء القضاء ودرك الشفاء وغيره (2708). (¬2) أي حصَّلْ الرفيق أولاَّ واختبره فربما لم يكن موافقًا ولا تتمكن من الاستبدال به. مجمع الأمثال للميداني 2/ 52. (¬3) مالك في الموطأ 2/ 978 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب) وأخرجه أبو داود (2607) في الجهاد، والترمذي (1674) في الجهاد وقال حسن صحيح والبغوي في شرح السنة 11/ 21، وحسنه وأحمد في المسند 2/ 86 أو 214. (¬4) مسلم في كتاب الصلاة باب فضل الأذان (389) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال له ضراط حتى لا يسمع صوته فإذا سكت رجع فوسوس فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يسمع صوته فإذا سكت رجع فوسوس). (¬5) روى البخاري تعليقًا في الوكالة باب إذا وكل رجلًا فترك الوكيل شيئًا فأجازه الموكل فهو جائر 3/ 132، قال: وقال عثمان بن الهيثم أبو عمرو: حدَّثنا عوف عن محمَّد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت والله لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال: فخليت عنه فأصبحت فقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة)؟ قال: قلت: يا رسول الله حاجة شديدة وعيالًا فرحمته فخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك وسيعود) فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه سيعود فرصدته فجاء يحثو من الطعام وبعد ثلاث مرات قال له: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها فعلمه آية الكرسي.

باب العمل في السفر

موجود في التجربةِ، وذكر مالك رضي الله عنه سفر المرأة مع المحرم (¬1). قال علماؤنا: فائدة ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم - المحرم القيام بحفظ المرأَةِ والذبّ عنها، فإذا كانت رفقةً مأمونة فيها نساء تآلفنَ وكان الحفظُ موجودًا لهنَّ فلما وجد المحرم فيهنَّ جاز السفر لهنَّ. وأنكر أبو حنيفة رضي الله عنه ذلك مع غوصِه على المعاني وهي مسألة خلاف قد بيناها في موضعها. وذكر مالك رضي الله عنه. باب العمل في السفر وأدخل فيه الرفق (¬2)، وذكر فيه من صفات الله تعالى، أنه رفيق ويرجع إلى اللطيف وقد بيناهُ في كتاب الأمدِ الأقصى ومتعلقه دقائق النعم التي لا تحصى، كما أن متعلق الوهاب عظائم النّعم، وفيه الحضّ على الرفق بالدوابِّ، فلها حقُ الحيوانيةِ التي تشارك فيها الآدمية، ولها على الناسِ حق الكفاية لما تحمل عنهم من المؤن، وتبلغُهم من الآمال، وتجلبُ إليهم من الفوائد. وذكرَ النهي عن التعريس في الطريق، فإن فيه مضرة الآدمي ومضرة الحيوانات، فإنها سبيل الكل، وذكرَ الإسراع فيهِ في الأرض الجدبةِ لحق الدَّوابّ وعلى الجملة لحق الأهل، فإن للأهل حقًا في الكون معهُنَّ، فإذا كان عذر من ¬

_ (¬1) مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم منها) الموطأ 2/ 979، والبخارى في كتاب تقصير الصلاة باب في كم يقصر الصلاة 2/ 54، ومسلم في الحج باب سفر المرأة مع محرم في الحج (1339). (¬2) الموطأ 2/ 979 مالك عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد الملك عن خالد بن معدان يرفعه: (إن الله تبارك وتعالى رفيق يحب الرفق ويرضى به ويعين عليه ما لا يعين على العنف فإذا ركبتم هذه الدواب العجم فأنزلوها منازلها قدكانت الأرض جدبة فأنجوا عليها بنقيها وعليكم يسير الليل فإن الأرض تطوى بالليل ما لا تطوي بالنهار وإياكم والتعريس على الطريق فيها طرق الدواب ومأوى الحيات). قال ابن عبد البر هذا الحديث يسند من وجوه كثيرة التجريد ص 241. وقد رواه مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض وإذا سافرتم بالنسبة فأبردوا بها نقيها وإذا عرستم فاجتنبوا الطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام) مسلم في الإمارة باب مراعاة مصلحة الدواب في السير والنهي عن التعريس في الطريق (1926).

شغلٍ فالله تعالى أولى به، وإذا ارتفع العذرُ تعيَّن الرجُوع إلى الأهل لحقهم فإذا رجع إليهم فلا يدخُل إليهم إلا كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم - فليُطرقهن ولو بحجر (¬1). خرَّجه الدارقطني. ومن الرفق في السفرِ، الرفق بالأجير وَالرفق بالمملوك، وقد بوَّب مالك رضي الله عنه على الرفق بالمملوك وأدخلَ حديث أبي هريرة للمملوك طعامه وشرابه (¬2) وفي الصحيح حديثان حسنانِ (¬3). أما أحدُهما فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إخوانكم خولكم ملككم الله رقابهم فأطعموهم مما تأكلون) (¬4) الحديث. والثاني حديث أبي مسعودٍ قال: كنتُ أضربُ غلامي، فإذا بصوتٍ من خلفي يقول: (إعلم) (¬5) أبا مسعودٍ، إعلم أبا مسعود، فصَرفت بَصري. فإذا رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأيتُه ألقيتُ السَوط، فقال لي: (الله أقدرُ منك) (¬6). وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق يضربُ غلامهُ في السفر، فجعل النبي-صلى الله عليه وسلم - يبتسم ويقول: (أُنظروا إلى هذا المحرم يضرب غلامه) (¬7)، فوعظَ أبا مسعودٍ بالقدرة لما كان يعلم في قلبهِ من الغلظةِ، ووكل أبا بكرٍ الصديق لما علم في قلبه من الرأفة (¬8) وما زادهُ على الذكر لأنه محرم، ومن تجرَّد عن المباحِ أولى وأحرى أن يتجرد عن المكروه أو المحذور أو ضرر الغير. خرَّجه أبو داود وغيره. ¬

_ (¬1) لم أطلع عليه. (¬2) الموطأ 2/ 980 مالك إنه بلغه أن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق) ورواه مسلم في كتاب الإيمان باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس من حديث أبي هريرة موصولًا (1662). (¬3) في م صحيحان وهي الأولى. (¬4) متفق عليه أخرجه البخاري في الإيمان باب المعاصي من أمر الجاهلية 1/ 4، ومسلم حديث (1661) (38 و 39 و40) من حديث أبي ذر. (¬5) ليست في ك وم. (¬6) رواه مسلم في كتاب الإيمان باب صحبة المماليك حديث (1659) وأبو داود (5159 و 5160)، والترمذي (1948) قال حسن صحيح. (¬7) أبو داود (1818) في الحج من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجاجًا حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلنا ... وكانت زمالة أبي بكر وزمالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة مع غلام أبي بكر فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه فطلع وليس معه بعيره قال: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة قال: فقال أبو بكر: بعير واحد تضله قال فطفق يضربه ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبسم ويقول: (انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع ...)، ورواه ابن ماجه (2933) وصححه الشيخ ناصر في صحيح ابن ماجه 2/ 158. (¬8) في م الرفق.

ما جاء في البيعة

ما جاء في البيعة (¬1) عقدَ مالك رضي الله عنه هذا الباب لأنه أعظم عقودِ الإِسلام التي أمر الله تعالى بالوفاء بها فقال: {أوفوا بالعقود ...} (¬2) الآية وإذا عاقَدتَ صاحبك قولًا أو فعلًا أو إشارة تعين عليك الوفاء بذلك العقدِ فالقول هو أن تقول له أبايعك على كذا؛ ومعناه: أُعطيك ما عندي لتعطيني ما عندك. ومبايعةُ الله تعالى لفضله أن نعطيه أنفسُنا فيعطينا أنفس ما عنده، وهو البائع وهو المشتري، وهذه علامات وأمارات على ما سبق للعبدٍ وأما العقد بالفعلِ فهو أن يجمعهما طريق وهو الصَّاحب بالجنبِ في أحدِ التأويلين أو يجمعهما جوار، أو مجتمع خيرٍ كالمسجد أو حلقةِ الذكر أو طاعة كالجهاد والصلاة والحج وسائر أسباب الألفةِ الدينية، وقد قال تعالى مبينًا لذلك في مواضعٍ كثرة من كتابه. من أمهاتها قوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا ...} إلى قوله {وما ملكت أيمانكم} (¬3) الآية وأما العقد بالإشارة فكنحو ما جاء في الحديث: (إذا حَدَّث الرجلُ والتفت فهي أمانة) (¬4) فالالتفاتُ معاقدة من المحدثّ ودوام (¬5) المجالسة رابط له إلى سائرِ الروابط التي بيناها في موضعَها من شرح الحديث والباب طويل، ؤهذه الإشارة تكفي فيه. الكلام في الكلام قد بينا في الأصول أن محلَ الكلام والعلمِ القلبُ، وأنّ هذه العبادات الدائرة على الألسن بتقطيع الحروف والأصوات عليه دليلٌ شرَّف الله به الآدمي، كما قال سبحانه مخبرًا عن هذه المنَّة {خلقَ الإنسان علمهُ البيان} (¬6) الآية .. ثم لما خلقَهُ من حَمإٍ مسنونٍ ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 982. (¬2) سورة المائدة آية (1). (¬3) سورة النساء آية (36)، وانظر أقوال العلماء في تفسيرها في تفسير ابن كثير 1/ 494، تفسير القرطبى 5/ 188. (¬4) أبو داود (4868)، والترمذي في البر (1959)، وقال حديث حسن وأحمد في المسند 3/ 324 و 352 و 379 و 380 و 394 وشرح السنة 13/ 191 من حديث جابر. (¬5) في ج وم (ذمام). (¬6) سورة الرحمن آية (3 - 4).

وكتب عليه إساءة الأقوال كما كتبَ عليهِ إساءة الأفعالِ بينَ معاقدِ الجواز في القول كما بين مراتبه في الفعل وجعل مَحِل الدليل على الكلام على الاختصاص اللسان وجعل سائر الجوارحَ تدلُّ عليه بالإشارة وعلى عظيم شرفِ اللسانِ سلط الله تعالي سبحانه عليه الآفات ففيه خصلة واحدة وهي الصدق وفيه نيفٍ على عشرين آفةٍ شرُّها الكذب. قال لي دايشمند (¬1): إذا أردت ألَّا يبقى على فعلك آفة، ولا على لسانك فالزم الصدق، فإنك إذا عرفتَ أنك ستسأل فيقال لك فعلتَ كذا؟ فإن قلت لا كذبتَ وإن قلتَ نعم هكلت. فالصدقُ رأس مال المطيعين وما لزمه أحدٌ قط في الإِسلام لزومًا أعرضَ فيه عن المعاريض إلا ربعي بن حراش (¬2) فإنه لم يكذب قط في الإِسلام كذبة. ولقد خرج ولده مع ابن الأشعث على الحجاج فطلبه وجعل فيه الجعل أزيد من عامٍ فلم يقدر عليه فلما أعجزهُ، قال له بعض من رأى اهتمامه به أيها الأمير إنْ أردت أن تجده فاسأل عنه أباه فإنه لا يكذب، فأرسل إلى ربعي فقال: أتعرف لابنك مستقرًا؟ قال: نعم. قال له: وأين هو؟ قال: في موضع كذا. فأرسل الحجاج إليه فجيء بهِ، فلما مثل بين يديهِ صعَّد فيه النظر وصوَّب ثم قال: قد وهبتك (¬3) لصدقِ أبيك. وكان الناسُ قد اختلفوا قديمًا أيما أفضل الصَّمت أم الكلام حتى كادوا يقولون لو كان الكلام من فضة لكان الصَّمتُ من ذهب، فتكلمنا عن ذلك (¬4) مع شيخنا أبي بكر الفهري رحمه الله تعالى بالمسجد الأقصى طهّره الله تعالى وذكرنا ما وقعَ من الكلام فيه فقال: هذا كله خطأ، الكلام أفضل علي كل حالٍ, لأنّ الكلامَ من صفاتِ الله تعالىَ عزَّ وجلَّ، وما كان لله من صفاته للعَبد منها أُنموذج فإنها أشرف من صفةٍ يتعالى الله تعالى عنها عزَّ وجل، وما ذلك في الغباوة إلَّا بمنزلة من يقول الجهل أشرف من العلم، بيد أنهُ لشرف اللسان حف بالآفات ولقلةِ احتراز الناس في المنطق هربوا إلى الصَّمت، وذلك بمنزلة من يفر من العلمِ إلى الجهلِ لتعب الطلب. انتهى كلام الشيخ رَحمهُ الله تعالى ولما كان شرفُ الكلام أظهر من الشمس في البيان، بوَّب مالك رضي الله عنه على ما يُكره منه في سبعة أبواب: الباب الأول: في المكروه المطلق منه، ذكر فيه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من قال ¬

_ (¬1) داشمند الشيخ الكبير بالفارسية ومراده هنا شيخه الإِمام الغزالي الطوسي. (¬2) ربعي بن حراش بكسر المهملة وآخره معجمة أبو مريم العبسي الكوفي ثقة عابد مخضرم من الثانية مات سنة مائة وقيل غير ذلك. التقريب ص 205، وانظر ت ت 3/ 236. (¬3) في وهبناك. (¬4) في م زيادة يومًا.

لأخيه كافر فقد باءَ به أحدهما) (¬1) تمامه إن كان كما قال وإلا جاءت عليه (¬2)، وهذا معنى صحيح, لأنَّهُ إذا عُلمَ من صاحبه إنَّه مؤمن فكفَّرة فقد أخبر عن الإيمان بالكفر وهو كفر. فإن قيل: أفتحكمون له بالكفر؟ قلنا: لا، فإن قيل: فلمَ وقد كفر الإيمان؟ قلنا: لأنّ قولهُ يحتمل أن يكون سبَّاً بالكذب، أخبرَ عما يعتقدُ فيه خلافهُ، فلو حقق النسبة بالاعتقاد كأن يقول السُني للقدري يا كافر، لحكمنا عليه بالكفر واستتبناه. حديث: قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: (إذا سمعتَ الرجلَ يقول هلكَ الناسُ فهو أهلكَهُم) (¬3) يروى برَفع الكافِ ونصبها (¬4) , فإن رفعت الكافُ كان المعنى أنه أشدهم هلاكًا, لأنه بحكمهِ على الخلقِ بأنهم قد هلكوا، وقطعه عليهم أو ظنَّه قد استوجبَ إثمًا عظيمًا, لأنَّه حكمَ على الله تعالى بما لمْ يعلَمْ، ونسب الناس إلى التمالي على البَاطل فهو أشدهم هَلاكًا من وجهين: أحدهما: أن معاصي الناس لم تتعدَّهم، ومعصيتُه هو تعدَّت إلى الخلق، بل عمَّتهم والمعصيَةُ المتعديةُ أعظمُ إثمًا مِنَ المعصيَة القاصِرَة، كما أن الحسنة المتعدية أوفر أجرًا من الحسنةِ القاصرَة. والثاني: أن معصية الناس وقفت بهم أيضًا، ومعصيتُه هُو تعلقت بجميعهم، والأجر يتضاعف بالمتعلقات كالطيب مثلًا فيه أجرُ السنة ونظافة المرء ونفع الجليس وإكرام الملائكة إلى غير ذلك مما يتعلقُ به، وكذلك المعصية كظلم الضعيف واليتيم يوم عرفة بعد صلاة العصر في يوم جمعةٍ لكلِّ متعلقٍ أيضًا جزء من الإثم، وليس هذا بمضاعفة مبتدأةٍ، وإنما هو تَضعيف بالأسباب، وإنما تكون المضاعفة المبتدأة بالحسنَات، وأما من رواة بنصب الكاف فمعناهُ إنه كان سببَ هلاكهم, لأنّ الخلقَ لا يهلكُ أحد منهم بمعصيَة نفسه، وإنما يهلك الناس بمعاصي العامة المتعدية على ما يأتي بيانه إنْ شاء الله تعالى. حديث: (لا يقولنَ أحدكم يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدَّهر) (¬5) ظنَّ بعضُ الجهَّال ¬

_ (¬1) مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما). وأخرجه البخاري في كتاب الأدب باب من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال 8/ 23، ومسلم في الإيمان باب بيان حال إيمان من قال لأخيه يا كافر (60). (¬2) هذه رواية مسلم ولفظها: (إن كان كما قال وإلا رجعت عليه). (¬3) الموطأ 2/ 984 ورواه مسلم في كتاب البر والصلة باب النهي من قول هلك الناس (2623) من حديث أبي هريرة. (¬4) قال الإِمام مسلم قال أبو إسحاق: لا أدري أهلكهم بالنصب أو أهلكهُم بالرفع، مسلم في الباب السابق. (¬5) الموطأ 2/ 984 وأخرجه البخاري في كتاب الأدب باب لا تسب الدهر 8/ 51 ومسلم في كتاب الألفاظ. من=

أن هذا يقتضي تعديد الدهرِ في أسماء البارئ تعالى. وذلك باطل ولكن خرجَ هذا على عَادة الجاهلية في نسْبتها الأفعال إلى غيرِ الله تعالى من الأسباب المتردّدةِ، والحوادث المتعاقبة، فإذا جاءَ الخلقُ من ذلك ما يحبُّون، فرِحُوا بذلك المتاع، وإذا جاءهم ما يكرهون عكفوا على الدهر يسبُّونه وينسبونه إلى اللوم والإذاية، فأراد النبي- صلى الله عليه وسلم - أن يطهِّر عقائدهم من هذا المنزع الخبيث، ويعلمهم بأن هذه الأفعال التي يكرهون، والأفعال التي يحبُّون، ليست منسوبة إلى الأسباب، ولا محسُوبة على الحوادث، وإنما هي كلها مضافة إلى الله تعالى تقديرًا وخلقًا، وسبّ الحكم والمعلول سبَّ للعلة، فإنك إذا قلت فعلَ الله بفلان كذا كذا وكان المشار إليه باللوم موجودًا في غيره فَقد دخلَ في حُكمهِ وأما قول عيسى عليه السلام للخنزير: إذهبْ بسلامٍ (¬1)، فإنه من أعظم أدَب الكلام لقوله أخَافُ أن أعوِّدَ لساني لمنطقِ السوء. وُيروى أن الربيعَ بن خُثيم جاءه ابنه فقال له: أذهبُ ألغب؟ قال له: إذهب صلِّ. فقال له بعضُ جلسائِه ما هذا جَوابه؟ قال: كرهتُ أن يكتبَ في صحيفتي العبْ. وقد فهِمَ هو ما أراد. وأما الباب الثاني: في التحفظ من الكلام ففيه إشارة إلى أن المرء لا ينبغي أن يسترسل في الحديث بل يرويه في نفسه ويتدبره بَفكره وينظر في فائدته وعاقبته، وحينئذ يخبر به. فإنه قد يتكلمُ بالكلمة لا يلقي لها بالا فتهلكه (¬2) دنيا أو دينًا، ولذلكَ قالوا في المثلِ: "ما من شيء أحقُّ بطولِ سجنٍ من لسانِ" (¬3) ولذلك قال في الباب الخامسِ: (من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة) (¬4). الحديث. ¬

_ = الأدب وغيرها باب النهي عن سب الدهر (2246) (4) من حديث أبي هريرة. (¬1) مالك عن يحيى بن سعيد أن عيسى ابن مريم لقي خنزيرًا بالطريق فقال له: (اذهب بسلام فقيل له: تقول هذا لخنزير؟ فقال عيسى: إني أخاف ان أعود لساني النطق بالسوء) الموطأ 2/ 985. (¬2) في ج لايلقى لها بالاً فيها حتفه. (¬3) هذا القول ذكره البغوي في شرح السنة 14/ 320 بلفظ: (ما شيء أحوج إلى سجن طويل من اللسان). وقال الهيثمي قال ابن مسعود: ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان. رواه الطبراني بأسانيد ورجالها ثقات. مجمع الزوائد 10/ 303. (¬4) مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله قال: (من وقاه الله شر اثنين ولج الجنة ...)، الموطأ 2/ 987، قال أبو عمر مرسل بلا خلاف أعلمه وقد رواه البخاري موصولًا عن سهل بن سعد في كتاب الرقاق باب حفظ اللسان 8/ 125، والترمذي (2408) في الزهد.

وكذلك رُوي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا أصبحَ ابِن آدمَ كفّرت أعضاؤه اللسان (¬1) تقول له: إتقِ الله فينا، فإنك إن استقمتَ ...) الحديث. ومعنى كفَّرت سلّمت عليه بخضوع الأعاجم وركوعَها، واستعار للسان سلام الأعاجم لأنه نهاية الذلة والاعتراف بالخدمَه. ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "هذا أوردني (¬2) الموارد فقالت له عائشة: موارد الجنة إن شاء الله" (¬3). وأما الباب الثالث (¬4) في الكلامِ بغيرِ ذكر الله تعالى، فإن مالكًا رضي الله عنه عقده عقدًا بديعًا لنكتة صوفية. وذلك أن اللسان عبد لله، فلا ينبغي أن يُذكرَ سواهُ، فتكون خدمة عبدٍ لغيرِ مَولاه وهذا هو أصل الدين والذي عليه كافة المسلمين. ومن شيوخ الصُّوفية من كان يرى ألا يذكر الله تعالى ويقول ومثلي يذكره، والله لا أذكره حتى أغسلَ فمي بألف توبةٍ متقبَّلةٍ. منهم سمنون المحبة (¬5)، وهذا لا يجري على قوانين الشريعة، وإنما على العبد أن يذكر ربه كان مطيعًا له أو عاصيًا، والخلاف الذي قدمناه من الصوفية إنما هو في ذكر النفل لا في الفرضِ، ثم إن الله تعالى جوَّز للعبدِ لحاجة النفس أن يتكلمَ في معاشِه ورياشه بغير ذكر ربه. قالت الصوفية: وينوي بذلك كلهِ وجه الله تعالى فيعود الكلِ إلى ذكر الله عز وجل، حتى لا يتكلم العبدُ بأقوال من اللغوِ ليسَ فيها حَظ إلا ما يدّعيه من راحةِ النفس وهذا هو معنى قول عيسى عليه السلام: "لا تكثروا الكلام بغير ذكرِ الله فتقسو قلوبكم" (¬6) ولذلك قال مالك رضي الله عنه في حديثِ النبي- صلى الله عليه وسلم -: (إن من البيان ¬

_ (¬1) رواه الترمذي من طريق أبي الصهباء عن سعيد بن جبير عن أبي سعيد الخدري رفعه (2407)، وأحمد في المسند 3/ 96، والبغوي في شرح السنة 14/ 316، وأبو الصهباء لم يوثقه غير ابن حبّان وروى عنه جماعة وباقي رجاله ثقات وصححه ابن خزيمة فيما نقله السيطي في الجامع الصغير. (¬2) مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطّاب دخل على أبي بكر الصديق وهو يجذب لسانه فقال له عمر: غفر الله لك، فقال أبو بكر: إن هذا أورني الموارد. الموطأ 2/ 988، وسنده صحيح ورواه البيهقي في شعب الإيمان (4947). (¬3) لم أطلع على قول عائشة. (¬4) الموطأ 2/ 986. (¬5) في ج وم المحب. (¬6) الموطأ 2/ 986 مالك إنه بلغه أن عيسى ابن مريم كان يقول: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد فإنما الناس مبتلى معافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية). وقد روى الترمذي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة =

لسحرًا) (¬1) أنه مكروه لأنه يخدع الناس خِدعَة الساحر. هذا هو رأيه فيه، وعليه تدُّل ترجمة الباب (¬2) الذي أدخله عليه. وقال غيره من العلماء إنما أراد به مدح الكلام لأنه أثنَى وذمَّ وكان الكلُّ صدقًا، وصرَّفه بمقدار الحاجة فصار أمرًا بعيدًا فأثنَى عليهِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا سيّما وكان من حاجةِ المتكلم في الإعراب عن نفسه، والذي ذهب إليه مالك أصح (¬3)، والدليلُ عليه ما تفطّن له مالك رضي الله عنه من أن المرء إذا اتخذ هذا عادةً لم يأمن أن يسقطهُ، ولذلك أدخلَ بعده كلام عيسى عليه السلام "لا تكثروا الكلام بغيرِ ذكر الله تعالى .. " إلى آخره. وأما قول عائشة: ألا تريحون الكتّاب (¬4)؟ فليس عليهم تعب لأنّ الله تعالى أخبر عنهم أنهم عباد مكرمون لا يستحسرون ولا يفترون، ولكنها أخذتْ ذلك من قول النبي- صلى الله عليه وسلم -للحولاء (¬5): (إن الله لا يملُّ وأنتم تملُّون) (¬6) فضربَ لقطع الأجر مثلًا المَلل الذي يقطعُ به العبدُ العمل. فكذلك قالت ألا تقطعون كلامكم حتى تقطع الملائكة عملها، وكذلك روي أن اليهود قالت إن الله تعالى خلق الخلق في ستةِ أيّامٍ ثم استراح في اليوم السابع (¬7)، فأنزل الله ¬

_ الكلام بغير ذكر الله قسوة وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي) الترمذي (2411)، في الزهد وقال: حسن غريب. (¬1) رواه مالك في الموطأ 2/ 986 عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر إنه قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن من البيان لسحرًا) وأخرجه البخاري في الطب باب البيان سحرًا 7/ 178، وشرح السنة 12/ 362. (¬2) باب ما يكره من الكلام بغير ذكر الله. (¬3) انظر كلام الحافظ على هذا الحديث في الفتح 10/ 237، وشرح السنة 12/ 363. (¬4) مالك إنه بلغه أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت ترسل إلى بعض أهلها بعد العتمة فتقول ألا تريحون الكتاب. الموطأ 2/ 987. (¬5) الحولاء بالمهملة والمد وهو اسمها بنت تويت بمثنايتين مصغرًا ابن حبيب ابن أسد بن عبد العزي من رهط خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها. الفتح 1/ 101. (¬6) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب أحب الدين إلى الله ألومه 1/ 17، ومسلم في صلاة المسافرين باب فضيلة العمل الدائم (782)، من حديث عائشة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وعندها امرأة قال: (من هذه)؟ قالت: فلانة تذكر من صلاتها قال: (مه عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل حتى تملوا وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه) لفظ البخاري. (¬7) قال القرطبي قال قتاده والكلبي هذه الآية نزلت في يهود المدينة زعموا أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة واستراح يوم السبت فجعلوه راحة فأكذبهم الله تعالى في ذلك. القرطبي 7/ 24.

تعالى تكذيبًا لهم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ...} (¬1) الآية. فإن كانت اليهود وجدت هذه اللفظة في التوارة فذلك جائز، ولكني أخطات في حملها على ظاهرها، فقد جاء في القرآن أمثالها ولكن من حملها على ظاهرها كان أخا لليهود، وقد مرّ مالك بن دينار على قوم يتحدثون فيكثرون، فقال لهم: لو اشتريتُم الرقَ والمداد من دراهمكم للكتبة لكان كلامكم أقل. سمعتُ الشيخ الإِمام أبا سعدٍ بالمسجدِ الأقصى يقول: سمعتُ الإِمام أبا القاسم القشيري يقول بنيسابور: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وقد كان قادرًا أن يخلقها في لحظةِ ولكنه أرادَ أن يُعلّم الناسَ ترك العجلةِ معَ القدرةِ. وأما الباب الرابع في الغيبة فقد قال الله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (¬2) معناهُ يذكرهُ بما فيهِ مما يكره، فإن ذكرهُ بغير ما فيهِ فهو البهتان (¬3) حرم الله تعالى ذلك لأنه يتناول الأعراض، وكما حرَّم على الناسِ تناول أموال الناس ودمائهم بغير حِق، كذلك حرَّم غليهم تناول أعراضهم بغير حقٍ، ولا فرقَ بين الأحوال الثلاثة، وقد حفَّ الله تعالى الدماء بالقَصَاصِ وحَفَّ الأموال بالقطعِ، وحفَّ الأعراض بالحدّ كل ذلك حجبٌ لا يحلُّ اختراقها، فمن اخترقها بالأذى أُدبَ ومن اخترقها بالأقصى حُدَّ. ترتيبُ حكيم للمصلحة وتدبيرَ عزيزٍ له القَهرُ والغَلبةُ. أخبرنا أبو سعيد الزنجاني قال: قال لنا أبو القاسم القُشيري: قال الله تعالى في الغيبة: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} فذكر وجوهًا أولها وأولاها تنزيل الغائب منزلةَ الميتِ لأنّ الحاضِرَ ينتصرُ لنفسِهِ إذا سمع عرضه، والغائب لا ناصر لهُ من نفسِه كالميت. وأما الباب الخامس (¬4) في مناجاة بعضَ الناس دون بعض فاختلف الناسُ فيه على أربعة أقوالٍ: ¬

_ (¬1) سورة ق (38). (¬2) سورة الحجرات (12). (¬3) روى مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أتدرون ما الغيبة)؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (ذكرك أخاك بما يكره) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟، قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته) مسلم في كتاب البر والصلة باب تحريم الغيبة (2589). (¬4) الموطأ 2/ 988.

الأول: إن ذلك في السفر لأنه موضع التقاة (¬1) ومكان الحذر. الثاني: أنه مخافة أن يحزن صاحبهُ، وكذلك جاءَ في الحديث كراهية أن يحزنه (¬2)، فإن كان من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد انحسم التأويل، وإن كان من قولِ الراوي فهو أولى من تأويلِ غيره. الثالث: إن ذلك من سوء الأدب. الرابع: ويرتبط بالثالث، أنه خَلاف ما يقتضيهِ عقد المجالسة فإنهما إنما يتجالسان بالصحبة والألفة والأنسة، فإذا انخذل عنه إلى السرِّ فقد نقض هذا الميثاق، وفعْلُ عبد الله بن عمر مع عبدِ الله بن دينار يدلُّ أن الحضَرَ في ذلك كالسفرِ (¬3)، لكن المعنى في السفر أولى منهُ في الحضَرِ، وقد تتزايد العلة الشرعية ويبقى الحكم على حَاله وهذا المنع اختلف الناس هل يزول بالإذن أم لا؟ والصحيح أنه يزول, لأنّ الحق له فإذا أسقطه ¬

_ (¬1) قال الحافظ وظاهر الإطلاق إنه لا فرق في ذلك بين الحضر والسفر وهلى قول الجمهور. وحكى الخطابي عن أبي عبيد بن حربُوية إنه قال: هو مختص بالسفر في الموضع الذي لا يؤمن فيه الرجل على نفسه فأما في الحضر والعمارة فلا بأس وحكى عياض نحوه ولفظه قيل إن المراد بهذا الحديث السفر والمواضع التي لا يؤمن فيها الرجل رفيقه أو لا يعرفه أو لا يثق به ويخشي منه، قال: وقد روي في ذلك أثر وأشار إلى ما أخرجه أحمد من طريق أبي سالم الجيشاني عن عبد الله بن عمرو أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (ولا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة أن يتناجى اثنان دون صاحبهما) الحديث. وفي سنده ابن لهيعة وعلى تقدير ثبوته فتقييده بأرض الفلاة يتعلق بإحدى علتي النهي، قال الخطابي: إنما قال يحزنه لأنه إما أن يتوهم أن نجواهما إنما هي لسوء رأيهما فيه أو أنهما يتفقان على غائلة تحصل له منهما، قال الحافظ: قال عياض: قيل كان هذا في أول الإِسلام فلما فشا الإِسلام وأمن الناس سقط هذا الحكم وتعقبه القرطبي بأن هذا تحكم وتخصيص لا دليل عليه وقال ابن العربي (أي الشارح) الخبر عام اللفظ والمعنى والعلة الحزن وهي موجودة في السفر والحضر فوجب أن يعمهما النهي جميعًا. فتح الباري 11/ 84 - 85 وانظر القرطبي 4/ 57 وشرح النووي على مسلم 14/ 167. (¬2) متفق عليه من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجي اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه) البخاري في الاستئذان باب إذاكانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمسارة والمناجاة 8/ 80 ومسلم في كتاب السلام باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بيغير رضاه (2184). (¬3) الموطأ 2/ 988 مالك عن عبد الله بن دينار قال: كنت أنا وعبد الله بن عمر عند دار خالد بن عقبة التي بالسوق فجاء رجل يريد أن يناجيه وليس مع عبد الله بن عمر غيري وغير الرجل الذي يريد أن يناجيه فدعا عبد الله بن عمر رجلًا أخر حتى كنا أربعة فقال للرجل الذي دعاه: استأخر شيئًا فإني سمعت رسول- صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا يتناجي اثنان دون واحد). وأخرجه أبو داود (4852)، والبخاري في الأب المفرد (1172)، والبغوي في شرح السنة 13/ 89.

سقط , وقد قال ابن القاسم: سمعتُ مالكاً رضي الله عنه يقول: لا يتناجَ أربعة دونَ واحدٍ، وصَدَقا لأن العلة أكثر والتقيةُ أعظم، هذا في تناجي الجماعةِ دونَ الواحد، وأما تناجي الجماعة دون الجماعة، فإنه أيضًا مكروه أو محرّم وقد نص الله تعالى عليه فقال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} (¬1) الآية. وقد بينا ذلك على تفصيلٍ في تفسير القرآن. أما الباب السادس في الصدق والكذب فاعلموا وفقكم الله تعالى، أن الصدقَ لم يحسن لعينه وذاته، ولا قُبِّح الكذب لعينه وذاته, لأنه ليسَ شيء يقْبحُ ويحسنُ للذّاتِ، وإنما حسنَ وقبح عادةً لما يترتبُ عليَها من المنافع والمضارِ ويكون فيها من الملامةِ والمنافرةِ وحسنها وقبحها في الشرع بما يتصل بها من الأمر والنهي، والدليلُ على صحةِ ذلك أن القتل الواقع اعتداء يُجانس القتل المستوفى قصاصًا ويماثله في الصورة والصفةِ، بدليلِ أن الغافلِ عنها لا يفرق بينهما وكذلك إيلاجَه النكاح كإلاجة الزنا في الصورة والصفةِ بدليل أن الجاهل بسببهما لا يميزُ بينهما، فدلّ على أن الأشياءَ لم تحسن في الشريعة ولا قبحت لأعيانها، فإنما حسَّنَها الأمر وقبَّحها النهي، فإذا ثبت هذا فللشرع أن يتصرف في التحسين والتقبيح، فيحسن تارةً شيئًا ويقبحُه أخرى، وبعكسه أيضًا إذا ثبت هذا جئنا إلى بابنا فقلنا: إن الإخبار عن الشيء بما هو عليهِ هو الصدق، الذي أمرَ الله تعالى به والإخبار عنه بخلافِ ما هو عليه هو الكذب الذي نهى الله تعالى عنه، وقد يحتاج المرء أن يخبرَ عن الشيء بخلافِ ما هو عليه فيكون حسنًا، بل قد يكونُ واجباً وذلك إذا طلبَ ظالمٌ عادلًا فإنه يجوز له أن يصدَّه (¬2) عنهُ بالخبر الذي هُو بخلافِ مُخبره مثل أن يلقاهُ يطلبه وقد أخذَ المطلوب يمينًا فيقولُ له قد أخَذَ على اليَسار، لكن بنكتة حققها العلماء وهي أنه لا يجوزُ لك أن تقصد بقلبك ما أخبرت عنه بلسَانك، فإن لك لا حاجة بك إليهِ، ولا نجاة للمطلوب فيه، ولكنك تريدُ بقلبك في قولك أخذ يسارًا، أخذ جانب اليسر واليمن يسر وهذا هو اللحن الذي صنف فيه العلماء كتباً لأجل إيمان البيعة واستطالة الظلمة وكذلك لو حلفَ ظالم عادلًا أنه ما قضى حاجةً لفلان قط لحلفَ، ولكن يقصد بقلبه بالقضاء القطع وبالحاجة الشوكة، وقد صنَّف في هذا المعنى ابن دُرَيد (¬3) ...................................... ¬

_ (¬1) سورة النساء آية (114). (¬2) في جـ وك يجوز لك أن تصده. (¬3) ابن دريد 223 - 321هـ. هو محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية الأزدي البصري أبو بكر أديب شاعر لغوي نحوي نسابة ولد بالبصرة وقرأ=

نكتة

........................ كتاب الملاحِن (¬1) ففتحَ البابَ واستوفاه بعده الكاتب المفجع (¬2). نكتة: قال: جاء رجل لرسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أكْذِبُ إمرأتي؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا خيرَ في الكذب) (¬3). كره النبي- صلى الله عليه وسلم - الكذبَ, لأنّ الكذبَ وردَ تحريمه، فكره النبي- صلى الله عليه وسلم - أن يعلق على اللفظ المكروهَ التحليل حتى جاءَ الرجلُ بلفظ الوعد، فقال له أعدُهَا؟ قال: (لا جناحَ عليك). قال علماؤنا: لكن إنما يكون الوعد بشرط النفز عند القدرة، فإن خلاف الوعد كذب، إلا أن يلحن بأن يقول لها سأشتري ثوباً، وهو يريد أبيعُ وغير ذلك من الألفاظ المحتملةِ التي لا يحصَى احتمالها، وقد تفطَّنَ مالك رضي الله عنه لهذا الفقه المأثور في ¬

_ = على علمائها ثم صار إلى عمان فأقام بها مدة ثم سافر إلى جريرة ابن عمر ثم رحل إلى فارس فسكنها مدة ثم قدم بغداد فأقام بها إلى أن مات، له مؤلفات عدة منها الجمهرة في اللغة، اشتقاق أسماء القبائل، أدب الكاتب، المقصور والممدود، غريب القرآن لم يكمل. سير النبلاء 15/ 96، تاريخ بغداد 2/ 195 - 197، الأنساب 5/ 305 و 306، معجم الشعراء 425، الفهرست 91 - 92، نزهة الألباء 175 - 178، معجم الأدباء 18/ 127 - 143، وفيات الأعيان 4/ 323 - 329، العبر 2/ 187، ميزان الإعتدال 3/ 520، الوافي بالوفيات 2/ 339 - 343، طبقات الشافعية 3/ 138 - 142، لسان الميزان 5/ 132. (¬1) ذكره بهذا الإسم أيضًا إسماعيل باشا في هدية العارفين 6/ 32. (¬2) ابن المفجع 327 هـ. هو محمَّد بن أحمد بن عبد الله البصري الشيعي المعروف بالمفجع أبو عبد الله أديب شاعر كاتب نحوي صحب ثعلبًا من آثاره الترجمان في الشعر ومعانيه، المنقذ من الإيمان, أشعار الجواري لم يتم، غريب شعر زيد الخيل الطائي وعرائس المجالس. معجم المؤلفين 8/ 279، الفهرس لابن النديم ص 123 وذكر إنه كانت بينه وبين أبي بكر بن دريد مهاجاة. هدية العرافين 2/ 31. (¬3) الموطأ 2/ 989 مالك عن صفوان بن سليم أن رجلًا قال لرسول - صلى الله عليه وسلم -: أكذب امرأتي يا رسول الله؟ فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: (لا خير في الكذب) فقال الرجل: يا رسول أعدها وأقول لها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا جناح عليك) قال الزرقاني قال أبو عمر لا أحفظه مسندًا بوجه من الوجوه وقد رواه ابن عيينة عن صفوان عن عطاء بن يسار مرسلًا. شرح الزرقانى 4/ 408.

هذا الحديث. فسُئل: أَيحلُّ خنزير الماء؟ فقال: أنتم تقولونَ خنزير (¬1)؟! حديث: (قيل لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيكونُ المسلم جبانًا؟ قال: نعم، قيل: أيكون بخيلًا؟ قال: نعم، قيل: أيكون كذابًا قال: لا) (¬2) وهذا هو حديث عظيم ضلت فيه الفرق ضلالاً وضُلةً (¬3) فما أصابوا له معنىً يستقل به. قال بعضُ المحققين إنما قال في الخبر: والبخل إنه يكونُ مؤمنًا معهما, لأنّ الإيمان لا يُنتفى إلا بضده وهو الكفر، ولذلك لم يجعل أحدُ من أهل السنة مؤمنًا كافرًا بمعصيَة ولا يقتل مثله من الموحدين الصالحين ... قيل لبعضِ العلماء: إن من قتل فهو كافر يخلد في النَّار بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (¬4) فقال لهم: نظرتم نارًا وعميتم عن نورٍ؟ ألم تسمعوا إلى قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (¬5) الآية فأثبت له الإخوة مع قتله له. وقال أيضًا في تقاتل المسلمين وسفك دمائهم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (¬6) الآية فأثبت الإيمان فكيف عميتم عن هذا النور فكل معصية تجتمع مع الإيمان على الإطلاق في كل حالٍ قليلًا كانت المعاصي أوكثيرًا إلَّا الكذب فإنه يناقضه في الخبرِ عن الله تعالى وصفاته، وعن النبي- صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته فلا تجتمع معه هنالك ولا تجتمعُ معه في الإخبار عن الأحكام والحديث عن الحلال والحرام فلأجل ذلك لا يكونُ المؤمنُ كذابًا وإنما يوجد الكذب الذي لا يناقض الإيمان فيما لا يعود إلى الشريعة، فلا يكون المؤمن كذابًا أبدًا، نعم يكونُ الآدمى كذابًا فهو أعظم وجوه الحديث. وأيضًا فإن الآدمي إذا تعوَّد الكذب في خبرهِ عن آدميته ربما سقط في الإخبارعن الشرع وقد جرب ذلك فوُجدَ. ومن الكذب الذميم المتضاعف حال ذي الوجهين الذي يأتي هؤلاء بكلامٍ وهؤلاء بكلام فهذا حرامٌ بنص الشريعة وإجماع الأمة، إلّا في الصلح بين الناس، فإنه يجوز أن يأتي كل طائفة بحديث يصلح لها لأن ما يرجى حصُوله من الألفة أعظم من آفة اختلاف الوجه بين الناس لا سيما واختلاف الوجه لم يحرم لعينه وإنما حُرَّم لما فيه من دناءة المرءِ بالتصنع، ¬

_ (¬1) انظر تفسير القرطبي 2/ 223 مواهب الجليل 3/ 235، تبيين المسالك 2/ 366. (¬2) الموطأ 2/ 990 مالك عن صفوان بن سليم إنه قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيكون المؤمن بخيلاً؟ فقال: (نعم) فقيل له: أيكون المؤمن كذاباً؟ فقال: (لا) هذا مرسل أو معضل. قال ابن عبد البر: لا أحفظه مسندًا من وجه ثابت وهو حديث حسن مرسل. شرح الزرقاني 4/ 410. (¬3) الضلة بالضم الحذق بالدلالة وبالفتح الحيرة والغيبة لخير أو شر. ترتيب القاموس 3/ 35. (¬4) سورة النساء آية (93). (¬5) سورة البقرة آية (178). (¬6) سورة الحجرات آية (9).

باب عذاب العامة

ولما يعتاده المرء من الكذب، وقد كان بعضُ أصحابنا يقارفُ محرّمًا فولِّي الشرطة فأصبح في الدُيسْتِ (¬1) وحكم النهارَ، فلما جاء المساء استدعاه أحدُ نُدمائه للمعادة، فكتب اليهِ: أبا بكرٍ تركتُ الخمر لا عن كراهيةٍ فنفسي تشتهيها, ولكني كرهت أن أحيا بها وأقيم حَد الله فيها. فذو الوجهين معلوم بأن لا يكون كما رَويناهُ وجيهًا (¬2). بابُ عذاب العامة ذكر حديث أم سلمة قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: (نعم إذا كثر الخبث) (¬3)، وذكر قول عمر رضي الله عنه إن الله لا يُعذب العامة بذنب الخاصَّة ولكن إذا عمل المنكر جهارًا إستحقوا العقوبة كلهم (¬4)، وإنما أُدْخِل قول عمر بعده لمعارضة مطلق الحديث لظاهر القرآن في قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬5) وكذلك ¬

_ (¬1) هذه كلمة أعجمية يقال: فلان حسن الدست أي شطرنجي حاذق، أساس البلاغة ص 129. (¬2) الحديث أخرجه مالك في الموطأ 2/ 991، والبخاري في الأحكام باب ما يكره من ثناء السلطان وإذا خرج قال غير ذلك 9/ 89، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب ذم ذي الوجهين وتحريم فعله حديث (2526) (98, 99 , 100) من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من شر الناس ذر الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه). (¬3) الموطأ 2/ 991 مالك إنه بلغه أن أم سلمة زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (نعم، إذا كثر الخبث). قال ابن عبد البر هذا الحديث لا يعرف لأم سلمة إلا من وجه ليس بالقوي يروى عن محمَّد بن سوقة عن نافع بن جبير بن مطعم عن أم سلمة وإنما هو معروف لزينب بنت جحش وهو مشهور محفوظ. شرح الزرقاني 4/ 412. قلت: الحديث متفق عليه من حديث زينب بنت جحش إنه - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فزعاً يقول: (لا إله إلَّا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجرج مثل هذه) وحلق بين اصبعيه الإبهام والتي تليها، قالت زينب ابنة جحش. فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث). البخاري في كتاب الأنبياء باب قصة يأجوج ومأجوج 4/ 168، ومسلم في الفتن باب اقتران الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج حديث (2880). (¬4) المراد بقوله هنا عمر هو ابن عبد العزيز فقد رواه مالك في الموطأ 2/ 991 عن إسماعيل بن حكيم إنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: كان يُقال (إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة ...) قال الزرقاني وشاهده الحديث قبله (يعني حديث زينب السابق) وقوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} الزرقاني 4/ 412. (¬5) سورة الأنعام آية (164).

قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (¬1) قال الزبير بن العوَّام: (ما كنا نرى أن أحدًا منّا يقعُ فيها فإذا نحنُ الذين أُصِبنا بها) (¬2)، وقال ابنُ عباس: (هذه الآية في أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم - خاصَّة) (¬3) وخطبَ أبو بكر الصديق الناس فقال: "يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتتأوّلونها على غير تأويلها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده" (¬4). وروت عائشة رضي الله عنها في حديث الجيش الذي يخسف به في البيداء، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يعمهم العقاب ثم يحشر كل أحد على نيته) (¬5) وبين ظاهر الأحاديث تعارض والذي يضم نشره أن الأدلة القاطعة قد قامت على أن أحدًا لا يعاقب بذنب أحدٍ لا على العموم ولا على الخصوص، ولكن من ذنوب العامة والخاصة: التواطوء بالباطل وترك التناهي عن المنكر وهو الذي عاب الله تعالى على قوم لوطٍ وهو الذي أنكر على بني إسرائيل في قوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (¬6) وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض العالمين وخلافة المرسلين ومصلحة الخلق أجمعين وآكد فروض الدين، فإذا ترك عُوْجل الناس بالعقوبة، وقوله {وَاتَّقُوا فِتْنَةً} الآية، آية مشكلة, لأنّ قوله {إتَّقُوا} أمر، وقوله {لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ} نهي، بدليل دخول النون الثقيلة في فعله فيبقى الأمر بلا جواب، وقد اختلف الناس فيها اختلافًا متباينًا على أقوالٍ: ¬

_ (¬1) سورة الأنفال آية (25). (¬2) عن مطرف قال: قلنا للزبير: يا أبا عبد الله ما جاء بكم ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه؟، فقال الزبير: إنا قرأناها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان ... لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح. مجمع الزوائد 7/ 27 وانظر الفتح الرباني 18/ 151، وأورده الحافظ ابن كثير في تفسيره وعزاه للإمام أحمد ثم قال: وقد رواه البزار من حديث مطرف عن الزبير وقال: لا نعرف مطرفاً روى عن الزبير غير هذا الحديث. تفسير ابن كثير 2/ 299 ورواه ابن جرير من الطريق الثانية منه من طريق الحسن 13/ 474. (¬3) أورده ابن كثير في تفسره 2/ 200 وقال: هذا تفسير حسن وكذلك ابن جرير 13/ 474، والقرطبي 7/ 391. (¬4) رواه أحمد 1/ 2 و 5/ 7 وأبو داود (4338) في الملاحم والترمذي (2168) في الفتن وفي (3057) في تفسير سورة المائدة وابن ماجه (4005)، وصححه ابن حبّان (1837)، وهو في شرح السنة 14/ 344، والحديث قال فيه الترمذي حسن صحيح وصححه الشيخ ناصر في صحيح ابن ماجه 2/ 368. (¬5) متفق عليه أخرجه البخاري في الحج باب ما ذكر في الأسواق 3/ 86 ومسلم في الفتن باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت (2884). (¬6) سورة المائدة آية (79).

الأول: أن منهم من قرأها {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وقرأت {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} كذلك قرأها أبيّ وعبد الله بن مسعود ما منكم من أحد إلَّا وله فتنة في أهله ومالِهِ، وكان ابن عباس يخالفه ويقول: هي في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، والصحيح أنها عامة في كل أحد وأن المراد بها غير فتنةِ الأهل والمال والدليل عليه حديث حذيفة الصحيح حين سأله عمر رضي الله عنهما عن الفتنة فقال له: فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والصدقة والصوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال: ليس عن هذا أسألك! فقال: أتسالني عن التي تموج كما يموج البحر؟! إن بينك وبينها بابًا مغلقًا (¬1)، الحديث. فليس في قول ابن مسعودٍ في ذلك وجه، وأما إعراب الآية فقال بعضُهم إنه نهي بعد أمرٍ، كل واحدٍ منهما مستقل بنفسه، كما تقول قم لا تتكلم. وهذا لا يصحُّ لأنه قال {وَاتَّقُوا فِتْنَةً}، وليس هذا الكلام بمفيد حتى يتركب عليه الجواب، وقال الطبري: إعرابها اتقوا فتنةً إن لم تتقوها أصَابتكم وهذا التقدير لا يخلصه في الكلام لأنه يقال له إن كان الجواب في قوله لا تصيب فمجازه لا تصيبُ الذين ظلموا منكم خاصة وقال شيخنا أبو عبد الله النحوي: قال بعض البصريين: هو نهي فيه معنى جواب الأمر كما تقول: انزل عن الدابة لا تطرحك ويجوز لا تطرحنَّك وقد جاء مثله في القرآن في آية أخرى، قال الله تعالى: {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} (¬2) فهذه أختها، وقال النقاش: هو نهى عن السبب، كما يقول الرجل للرجل لا تقطع يدك ولا تضرب ظهرك، أي لا تأتي بسببٍ يؤدي بك إلى ذلك، وهذه الأقوال كما تراها (¬3) متعارضة ومنها مغمغم (¬4) ومنها قاصر غير مسبوق الغرض، والعبارة الحلوة في ذلك أن يقال لوجهين. أولاهم: أن النهي يكونُ جوابُ الأمر. والثاني: أن يقال إن النون الثقيلة تدخل في النهي كما تدخل في الخبر، فأي هاتين العبارتين كان أحرى في أصول ¬

_ (¬1) وراه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان أن الإِسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا من حديث ربعي عن حذيفة قال: كنا عند عمر فقال: أيكم سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تحنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل، قال: تلك تكفرها الصلاة والصدقة والصيام والزكاة ... مسلم حديث (144) وشرح السنة 15/ 7. (¬2) سورة النمل آية (18). (¬3) في م زيادة كلها. (¬4) الغمغمة والتغمغم الكلام الذي لا يبين وقيل هما أصوات الثيران عند الذعر وأصوات الأبطال في الوغى عند القتال. لسان العرب 12/ 444.

باب ما جاء في التقى

النحو قلنا به، ولا يفتقر إلى هذا التطويل وقد بيناه في رسالة المجيئة على التفصيل، والمعنى أيضًا فيها مفهوم قريب لأنها إن كانت خاصة في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال ابن عباس فالذين ظلموا هم قتلة عثمان، والذين أصابت من لم تقتله من العشرة وغيرهم وإنما كان الذنب في قول العلماء الذين أصابتهم به أن عثمان استسلم، وقال لا يحميني أحد فتركوه ورأيه، ولم يكن الحق له وحده حتى ينفع في ذلك إسقاطه وإنما كان الحق لجميع الأمة والله تعالى أعلم. باب ما جاء في التقى (¬1) هذه ترجمة عظيمة أفردها مالك رضي الله عنه دون غيره من المصنفين، وعجبًا لهم كيف أغفلوها وهي عماد الدين، قال لي شيخنا أبو بكر الفهري بالمسجد الأقصى طهَّره الله تعالى: كنت في مدينة البصرة أدرّس في بيتي حتى دخل عليّ رجل من أصحابنا فقال لي: يا أبا بكر إن الله تعالى يوصينا بمذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك، ولكنه قال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬2) الآية ثم خرج عنا إلى العبادة فما دخل المدرسة أبدًا وقد ذكرها الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابهِ، وعلق بها سعادة الدنيا والآخرة، ورتب عليها إثني عشرة خصلة أولها التوفيق، قال الله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (¬3) وثمرتها القبول. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬4) وكان لعامر بن عبد الله بن الزبير (¬5) خمس مائة نخلة فكان يصلي تحت كل نخلة منها ركعتين كل يوم، فلما احتضر كان يبكي فقيل له في ذلك، فقال تعبت دهري وحرمتُ القبول لأنّ الله تعالى قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬6) وخاتمتها الخلود في جنة عدن. ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 992. (¬2) النساء آية (131). (¬3) سورة الأحزاب آية (70 - 71). (¬4) سورة المائدة آية (27). (¬5) عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي أبو الحارث المدني ثقة عابد مات سنة 121 هـ. القريب ص 288 وانظر ت ت 5/ 74، سير النبلاء 5/ 219، التاريخ الكبير 6/ 448، الطبقات الكبرى القسم المتمم (110)، المعرفة والتاريخ 1/ 665، التحفة اللطيفة 2/ 277، الحلية 3/ 166 - 168. (¬6) قال السيوطي أخرج ابن أبي الدنيا عن همام بن يحيى قال: بكى عامر بن عبد الله عند الموت فقيل له: ما يبكيك؟ قال: آية في الكتاب الله، فقيل له: أية آية؟ قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} الدر المنثور 3/ 57.

قال الله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (¬1) ومن الحق المؤكد والغرض اللازم في كل ساعةٍ المتجدد لكل أحدٍ أن يعرف حقيقتها ومحلها، فأما حقيقتها فهي فعلى من وقى يقي وقاية ووقوى أبدلت الواو ياءً كما فعلوا في كثير والتقى التي ترجم بها مالك رضي الله عنه هي جمع تقاة وهو حجاب يجعله العبد بينه وبين الذنب من العزم. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (¬2) أي لم يجعل بينه وبين المعصية وقاية في الاحتراز من عدوٍ كان حذر منه، وأما محلها فالعين والأذن واللسان والقلب وأحوج ما يكون إليها الإِمام، ولذلك أشار مالك رضي الله عنه إلى الجميع بالترجمة ثم اقتصَر فيما جلب تحتها على قول عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: "لتتقين الله أو ليعذبنك الله" (¬3) فأما العين فهي الرائد وهو المرئّية، فإذا اطلعت أرسلت إلى القلب ما حصل عندها من علم وتحصّل عندها ما يجوز وما لا يجوز وفي القلب لكل شيء وجد على ما يأتي تفسيره، فإذا كفّت عما لا يجوز ولم ترسل إلى القلب إلا الخير استراح من تعبها وتخلص من شغبها, ولقد أحسَن في ذلك القائل حيث قال: وأنت إذا أرسلت طرفك رائدًا ... لقلبك يومًا أسلمتك المناظرُ رأيت الذي لا كلّه أنت قادرُ ... عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ (¬4) وهذا وإن كان أخذ طرفًا من المعنى، فإن الفقيه عطاء شيخ الشافعية بالمسجد الأقصى فقهًا وعلمًا وشيخ الصوفية طريقةً استوفى لنا هذا المعنى فيما أنشدنا: إذا لمتُ عيني اللتين أضرّتا ... بجسمي وقلبي قالتا لي لُمْ القلْبَا فإن لمتُ قلى قال عيناك جرَّتا ... إليّ الرؤيا ثم لي تجعل الذنبا وهذا من الحق الذي استوفاه الشاعر وجلاه في أبدع وصف من النظم الذي بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن الله كتبَ على ابن آدم حظه من ¬

_ (¬1) سورة آل عمران آية (133). (¬2) سورة طه آية (115). (¬3) مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال: سمعت عمر بن الخطّاب وخرجت معه حتى دخل حائطًا فسمعته وهو يقول وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط: (عمر بن الخطّاب أمير المؤمنين, بَخ بَخ والله لتتقين الله أو ليعذبنك) الموطأ 2/ 992. (¬4) البيتان لجارية من أهل المدينة انظر عيون الأخبار 4/ 22 ط دار الكتاب العربي وانظر أيضًا الأغاني 16/ 125 ط بلاق ويوجد اختلاف في بعض الكلمات.

الزنا أدرك ذلك لا محالة، العينَان تزنيان واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك أو يكذبهُ) (¬1)، (ومن حسن إسلام المرء تركه النظر إلى ما لا يحتاج إليه، كما أن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) (¬2)، وقد أخبرنا أبو سعيد الصّوفي قال: حضر الصوفية دعوة في منزل، فقدم الماء وصبّ على الأيدي فغسَل واحد وقبض يده آخر، فقال له جليسه: لم قبضت يدك؟ قال: الصوفية لا تستخدم بالنساء!! قال له: ما هذا الأدب السيء، منذ أربعين سنة دخلت هذه الدار ما علمتُ إن كان الذي يطرحُ الماء رجل أو امرأة. وأما الأذن فهي أيضًا رائد عظيم، وطليعة كبيرة على وَعي الأصوات وفيها باطِل عظيم وتخليط كثير يرجعُ إلى إللسان على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى وتحصيل حجابه وتحصيل الحائل بينه وبين المعاصي الذي هو تقواه ألا يدَاخل مظان اللغو والباطل ابتداءً ثم إن سمع كلامًا وعى أحسنه وأرسل سيئه كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (¬3) قال علماؤنا رحمة الله عليهم: فجاء في هذه الآية بنكتتين بديعتين: الأولى: قوله: {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} مطلقًا ثم قال: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} مقيدًا بالإحسان, لأنه ليس في قدرته الاستماع إلى الحسن دون القبيح فلم يكلَّف فيه التمييز وفي قدرته اتباع الأحسن دونَ القبيح بكلفةٍ، وأما اللسان فقد تقدم بيانهُ بما فيه فائدة وآفة وتفصيل القول فيه فليؤخذ منه، وأما القلب فهو البحر العجاج، فيه الفوائد بأجمعها، والآفات بجملتها، وقد أشار النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى بيان ذلك من التقوى، فقال: (أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر المقابر والبلاء) (¬4) إشارة إلى كسر شهوة النفس وتحقير الأمل بالنظر في المآل، وبقدر توجه الآفات على القلب من سبلها وأبوابها، فعلى كل باب ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في الإستئدان باب زنا الجوارح دون الفرج 8/ 67، ومسلم في القدر باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره (2657). (¬2) رواه الترمذي (2318) في الزهد وابن ماجه (3976) في الفتن، والبغوي في شرح السنة 14/ 320 من حديث أبي هريرة والحديث صححه الشيخ ناصر في صحيح ابن ماجه 2/ 360. (¬3) سورة الزمر آية (18). (¬4) رواه الترمذي (2458) في صفة القيامة، وأحمد في المسند 1/ 387، والبغوي في شرح السنة 14/ 234، والحاكم في المستدرك 4/ 332 من حديث ابن مسعود وهو حديث ضعيف لضعف الصباح بن محمَّد بن أبي حازم البجلي الأحمسي الكوفي ضعيف أفرط فيه ابن حبّان من السابعة. التقريب 274، قال العقيلي في حديثه وهم ويرفع الموقوف. الضعفاء 2/ 213، وانظرت ت 4/ 408، والكاشف 2/ 25.

غلقٌ من التقوى وحجابٌ من العصمةِ أمهاتها باب الشرك حجابها التوحيد، فإن عرض لك فيه الشيطان بشبهة، فدواؤه الأدلة وهي حجابٌ وذلك أمر مستمرّ ممكن، فإن عرض لك بداء الوسواس فدواؤه الاستعاذة، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا: (لا يزال الشيطان يقول من خلقَ كذا؟ ومن خلق كذا؟، فيقال: الله، حتى يقول من خلق الله؟! فإذا وجد أحدكم ذلك، فليقل: لا إله إلا الله) (¬1) فأمر النبي- صلى الله عليه وسلم - بجواب إبليس في كل سؤال لأنه سؤال صحيح، فلما سُئل عمّا لا يسأل وذكر ما لا يعقل أمر بالإعراض عنه والرجوع للتوحيد، وهذا كما جرى لأهل النار فإنهم قالوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ}، قيل لهمُ {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (¬2) ثم استغاثوا فقيل لهم: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} فقيل لهم {اخْسَئُوا فِيهَا ...} (¬3) الآية. فلم يستحقوا جوابًا لأنهم سألوا محالًا قالوا: لقد غلبت علينا شقوتنا، فأقروا بأن القَضَاء والقدر سبق عليهم بالشقوة، ثم قالوا أنقض قضاءك. وبدل كلامك وأخرجنا، فخسئوا وأغلقت عليهم أبواب الجحيم فلم يكلموا أبدًا. وأما باب المعصية فدواؤه الطاعة، فإنه ما من معصيةٍ إلا بحذائها طاعة ولا ذنب إلا بإزائه مغفرة، ولكن الذي يعين على الطاعة بتيسير الله تعالى وتقديره أن النفس أمارةً بالسوء، كما قال الصديق. قال شيخ الصوفية (¬4) هي مركب اجتمعت فيها شرار خصَالِ الدواب فهي جرون (¬5)، جموح (¬6) شموس (¬7)، فإذا أردتَ استخدامها فقلل عَلفَها، فإنك إذا أعطيتها قوتها بالعلف قويت عليك، وثقُل حملها بالطاعة والدؤوب فيها فإنك إذا خفّفت ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها حديث (132 - 133 - 134) من رواية أبي هريرة. (¬2) سورة فاطرآية (37). (¬3) سورة المؤمنون آية (105 و 106 و 108). (¬4) لا أدري من هو شيخ الصوفية الذي يقصده هنا. (¬5) جرن جرونًا تعهد الأمر ومرن والثوب والدرع انسحق ولان والحب طحنه. ترتب القاموس 1/ 482، أساس البلاغة ص 57. (¬6) جمع الفرس جماحًا وجموحًا وجماحًا اعتز فارسه وغلبه والمرأة خرجت من بيت زوجها إلى أهلها قبل أن يطلقها. ترتيب القاموس 1/ 524 أساس البلاغة ص 63. (¬7) داية شموس وخيل شمُسٌ لا تكاد تستقر. أساس البلاغة ص 241.

القول في الرعد

حمل الدابة الشموس اضطربت فيه، وسقط وإذا ثقلته اشتغلت به عن كل شيء ولازم ذلك دائمًا فإن الطريق إذا طال على الدواب الحمولةِ هانتْ ولانتْ، ولا تريحها فإن راحتها إجمام، إلا بمقدار ما ترى أنه يديم بها المتاع والخدمة، ولا تعجلُ لها الهلكة، وتستعين بعد ذلك كله بالتضرع إلى الله في الإعانة على ما تصدّيت له من هذه المحاولهُ، وتتضرعُ إليه في الإعانة، فإن رأيتَ ذلك قد حصل لك، فدُم عليه، وإن رأيته قد تعذر عليك فإياك أن تستحضر (¬1) (فيستجاب لإحدِكم ما لم يعجَل) (¬2) وكن سائلًا في التوبة، إن لم تكن تائبًا ومتعرضًا لنفحاتِ رحمة الله تعالى حتى يأتيك ما قُدر لكْ واجتهد أولًا في تحصيل هديك والإكثار من عملك والإقلال من قولك، فإن ذلك جزء من خمسةٍ وعشرين جزءًا من النبوةِ، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم - في الحديثِ الصحيح: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم) (¬3)، الحديث. ولم يقل وأقوالكم، وهذه النكتة التي ختمنا الكلام بها، ختم مالك الباب ليربط أولهِ بآخره. قال: عن القاسم بن محمَّد: أدركت الناس وما يعجبون بالقول (¬4). يريد بذلك أنه ينظر إلى عمله ولا ينظر إلى قوله، فقول عمر للأئمة، وقول القاسم لسائِر الناس. القول في الرعد (¬5) هذا فن من العلم لم ير مالك رضي الله تعالى عنه أن يخلي عنه كتابه، نبه عليه ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ (أن نستحضر) ولعله (تستحسر) كما هي رواية مسلم قال النووي: قال أهل اللغة يقال حسر واستحسر إذا أعيا وانقطع عن الشيء والمراد هنا إنه ينقطع عن الدعاء. شرح النوويّ على مسلم 17/ 52، وانظر النهاية 1/ 384. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في الدعوات باب يستجاب للعبد ما لم يعجل 8/ 92، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والاستغفار باب بيان إنه يستجاب للداعي ما لم يعجل فيقول دعوت فلم يستجب لي (2735) (90 و 91 و 92) من حديث أبي هريرة. (¬3) مسلم في كتاب البر والصلة باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (2564) (34) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). (¬4) الموطأ 2/ 992 قال مالك: وبلغني أن القاسم بن محمد كان يقول: أدركت الناس وما يعجبون بالقول. قال مالك: يريد بذلك العمل إنما ينظر إلى عمله ولا ينظر إلى قوله. (¬5) الموطأ 2/ 992.

العلماء، وحذقه حذقًا كثيرًا قفاه العامة الذين لا يفهمونه إن ذكر، ولا ينزلونه على منازلهِ إن سمع، ونحن نشيرُ إلى نكتة تكشف بعض قناعه فنقول: إن العلوم كلها محمودة وليس شيء من العلومِ مذمومًا, لأنّ العلم شريف بذاته على الإطلاق ثم يشرُف بشرف متعلقاته، وأشرف العلوم ما تعلق بالله تعالى وصفاته وأفعاله وأحكامه في خلقه وترتيب ملكه لعباده وشرائعه وكل علم مطلق بعيد من الله تعالى إذا صرفته إليه انصرف، كما أن كل فعل مطلق من أفعال الخلق مما يقصدون به منافعهم الخاصة بهم وأغراضهم العارضةِ لهم كالأكل واللباس والتطيب والنكاح إذا رجعتَهُ إلى الله تعالى رجع، فيكون الكل عبالة بعدَ أن كان عادة، فتأكل لتتقوى على الطاعةِ، وتلبس الثياب لتسترَ ما أمرك الله تعالى به من العَورة وتستجد لتصرح بأثر النعمة عندك، وتتطيَّب للأغراض السابقة الدينيَّةِ وتطأ معتصمًا بالحلالِ طالبًا للولدِ لتكثير أمة النبي- صلى الله عليه وسلم - معصمًا لأهلك عن تعلق البالِ بالرجال, وهكذا إلى آخر الحالِ، فإذا ثبت هذا، وفُهمَ أن شرف العلمِ ابتداءً بذاتِه فالجملة المقصودة التي بُعثَ لها الأنبياء أن يرشدوا إلى الأفعال المنجية من أهوالِ الآخرة التي لا يهتدي العقل إلى تفصيلها ولا يتمكن بانفراده من تحصيلها، فيصطفي الله تعالى من بعض عباده من بينها لبقيتهم، ومع أن هذا هو المقصود فلا بد من توابع في عمارة الدنيا، وقد بينا في كتاب العلم من المقسط أن أصولَ العلم تنقسم إلى اثنين من وجهٍ، وإلى ثلاثةٍ من وجه وإلى أربعة من آخر، وهكذا إلى عشرة، إلى مائة، إلى ألفٍ، والقسمة الأولى. وهي علم الدنيا وعلم الدين، ولو شاء ربك لخلق الخلق للجنة ابتداء، ولكنه أسكنهم داراً سابقةً لها، وأخرجهُم فيها إلى المعاش وإلى الرياش وكلفهم فيها التكسب وبنَى نصية الخلق (¬1) في الابتداء على ذلك وإليه وقعت الإشارة في القرآن في آياتٍ منهَا قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (¬2) الآية، فاقتضت هذه الآية الإشارة الجملية إلى جميع الدنيا بما فيها والتنبيه على ما اشتملت عليه من جميع معانيها ومن أصل (¬3) نظام الدنيا وترتيب المعاش فيها معرفة الحساب وهو على قسمين من وجه معرفة الأعداد الجملية المتصرفة بيّن أيدي الخلق في المكيل والمهوزون بالحس، كما أن الوزن يُعرفُ في حساب السماء بالعقل، وللعقل ميزان، كما أن للحس آخر، وإليه وقعت الإشارة بقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} (¬4)، ومعرفة حساب ¬

_ (¬1) في ج وك الخلقة. (¬2) سورة يونس آية (5). (¬3) في ج أصول. (¬4) سورة الرحمن آية (7).

السماء كان لضرورة اختلافِ الأزمنة بضرورة ترتيب المعاش عليها بضرورة حاجة الخلق إليها وهو أمر مشاهد, لأنّ الله تعالى: {جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} (¬1)، وهي الآية الأخرى المشتملة على المصَالح المنبهة على ارتباطِ المنافع، وقد سُئِلَ مالك رضي الله عنه عن قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} (¬2) قال هي قصورٌ في السماء (¬3) فلحن في الجواب لحنًا فهمه أصحابه، وقالوا هي الاثني عشر برجاً التي هي الحمل، والثور، والتوأمان، والسرطان، والأسد، والسُنبلة، والميزان , والرامي، والعقرب (¬4)، والساقي، والحوت (¬5). وقال بعض المشتغلين المعاني في قول الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} إشارة إلى أن الفساد والفناء في السموات والأرض ردًا على منَ يقول أنه ليس في السموات فناء ولا فساد، ولما كان نزول الشمس والقمر في هذه البروج لترتيب المعاش مشاهدًا في القمر، مستدلًا عليه في الشمس والعادة وحالة الهيئة ونظامه عندهم من الحساب معلوم، نظمه الناس ورتبوه إما مجردًا للمنافع ككتب الأنواء وهذا أمرٌ جمع منه ما تكلمت فيه الصحابةِ، فقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال، في حين الاستسقاء: كم بقي لنوء الثريَّا؟ وألمح به مالك رضي الله عنه في باب الاستمطارِ بالنجوم (¬6)، فإنه لم يقل باب كراهية الاستمطار، ولم يقل باب جواز الاستمطار، وإنما أطلق القولَ لاحتمال الحال الجواز والتحريم، وهذا أصل في أبواب كتابه إذا كان الشيء جائزًا قال باب جواز كذا، وإذا كان حرامًا ممنوعًا قال باب تحريم كذا، وقد بينا في كتاب الصلاة انقسام الحال فيها إلى الجواز والمنع، أما القول في الرعد فلم يبهم مالك رضي الله ¬

_ (¬1) سورة الفرقان (61). (¬2) سورة النساء (78). (¬3) قال في الأحكام 1/ 461 قال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول (بروج مشيدة) هي قصور السماء ألا تسمع إلى قول الله سبحانه {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} وانظر تفسير القرطبي 5/ 282. (¬4) في ج زيادة الكبش والقوس. (¬5) وقال في الأحكام 1/ 461 قال علماؤنا: والبروج في السماء اثنا عشر برجًا عند العرب وعند جميع الأمم: الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الأسد، السنبلة، الميزان, العقرب، القوس، الجدي، الدلو، الحوت. وقد يسمون الحمل الكبش والجوزاء التوأمين والسنبلة العذراء والعقرب الصورة والقوس الرامي والحوت السمكة وتسمى أيضًا الدلو الرشا. (¬6) الموطأ 1/ 192.

عنه فيه القول لأجل تخليط الأوائل فيه حتى قالوا أنه اصطكاك الأجرام، وهو قول يخرق الاحترام ويوجب الاجترام وقد بينا فساده في موضعهِ وهذا أبين من الإطناب فيه فإنه دعوى في أمرٍ غالب لا يدلّ عليه دليل عقلي ولا شرعي ومن ادعَاهُ فطالبوه بذكره (¬1) فأنه يفتضحُ في خرقهِ، وإنما بناه مالك رضي الله عنه لأجل أن الناس يؤثرون فيه عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أشياء لا أحل لها أمثلها حديث يرويه شتير بن نهار (¬2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قال ربكم عز وجل: لو أن عبادي أطاعوني لأسقيتهم المطرَ بالليل، ولأطبعت عليهم الشمس بالنهار ولم أسمعهُم صوتَ الرعد) (¬3) تفرَّد به محمَّد بن واسع (¬4) عن شتير بن مشكلٍ (¬5) أخبرناه ولهذا قال عَبدُ الله بن الزبير فيما رواه في الموطأ عن عامرٍ بن عبد الله بن الزبير عن أبيهِ أنه كان إذا سمعَ صوت الرعد ترك الحديث وقال: (سبحان الذي يسبحُ الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثَم يقول إن هذا لوعيد لأهل الأرض شديد) (¬6) وفي رواية أخرى بإسناده عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمعَ صوتَ الرعد قال: (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك، وعَافنا قبل ذلك) (¬7)، وفي رواية أخرى (¬8) عنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا سمعه: (سبحان من يسبح الرعد بحمده) (¬9) وعن الصحابة ¬

_ (¬1) في ك تذكرة. (¬2) قال الذهبي في الكاشف: شتير بن نهار العبدي عن أبي هريرة وعنه محمَّد بن واسع وقيل شميرة. الكاشف 2/ 5كذا قال الحافظ وقال عن أبي هريرة حديث حسن الظن من العبادة وعنه محمَّد بن واسع فيما قاله حماد بن سلمة وقال غيره عن محمَّد بن واسع عن شمير بن نهار قال البخاري: قال لي محمَّد بن بشار عن ابن مهدي: ليس أحد يقول شتير إلا حماد بن سلمة، قال أبو نضرة: كان من أوائل من قصّ في هذا المسجد. ت ت 4/ 312. (¬3) رواه الإِمام أحمد في المسند 2/ 359، والحكم في المستدرك 2/ 349، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي بل واه. (¬4) محمَّد بن واسع بن جابر بن الأخنس الأزدي أبو بكر أو أبو عبد الله البصري ثقة عابد كثير المناقب مات سنة ثلاث وعشرين ومائه. العقريب ص 511، وانظر ت ت 9/ 499. (¬5) لم أجد من نسبه إلى مشكل. (¬6) الموطأ 2/ 992 وكذلك البخاري في الأدب المقرد (723)، وقال محققه: قال في شرح فضل الصمد أخرجه مالك موقوفًا وصحح النووي إسناده الأدب المفرد ص 252. (¬7) ذكره ابن جرير بلفظ: بلغنا أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمع صوت الرعد الشديد قال: (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك) تفسير ابن جرير 16/ 388. (¬8) في ك زيادة في رواية أخرى بإسناد غير أبي هريرة ولعل ذلك هو الصواب. (¬9) رواه ابن جرير من طريق إسرائيل عن أبيه عن رجل عن أبي هريرة رفع الحديث إنه كان إذ سمع الرعد قال:=

باب تركة النبي - صلى الله عليه وسلم -

رضي الله عنهم في ذلك آثاركلها لم ترد من طريقٍ صحيح، فخّرج مالك رضي الله عنه حديث عبد الله بن الزبير لصحته عنده ولأنه يدلّ على أنه وعيد كما جاء التصريح به في هذه الأحاديث: والله أعلم. "أنا أبو الحسين الحنبَلي، أنا أبو يعلي بن عبد الواحد أنا أبو علي بن شعبة، أنا أبو العبَّاس أحمد بن محمَّد، أنا محمَّد بن عيسَى، أنا قتيبة، ثنا عبد الواحد بن زنادٍ عن حجاج بن أرطأة عن أبي مطرٍ عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه" (¬1): أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سمِعَ صوتَ الرعدِ الصواعق قال: (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك)، قال محمَّد: هذا حديث غريب (¬2). باب تركة النبي - صلى الله عليه وسلم - خلقَ الله تعالى جميعَ ما في الأرض للخلق ثم لم يتركهم فيه سُدىً، ولا جعله بينهم بددًا، ولكنه خص به بعضهم بالحكمة وأحال الباقين عليهم بالحجةِ، وأدَام الاختصاص المحكومَ به للحي بعدَ مماته لمن يختص به من أبناء جنسِه وأقوى أسباب الاختصاص البعضية، وكان لها سبب فرتب الله تعالى، المواريث على السبب والبعضية بحسب التفاوت في القُرب والبعدِ ثم أخرجَ الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم عن هذا الحكم تشريفًا لهم عن الارتباط بعلائق الدنيا, ولم يجعل للأنبياء فيها مُلْكًا إلا بقدر الحاجة. قال - صلى الله عليه وسلم -: (إنا معشر الأنبياء لا نورث) (¬3) وأنكرت هذا الرافضة، فقالت إن النبي- صلى الله عليه وسلم - موروث، وإن ¬

_ = (سبحان من يسبح الرعد بحمده)، تفسير ابن جرير تحقيق محمود شاكر 16/ 389، الدر المنثور 4/ 623. (¬1) سقط هذا الإسناد بكامله من ج وم. (¬2) رواه الترمذي في الدعوات (3450) وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وأحمد في المسند (5763)، والبخاري في الأب المفرد (721)، والنسائي في عمل اليوم والليلة رقم (928)، والحاكم في المستدرك 4/ 286 وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي وأخرجه البيهقي في السنن 3/ 362، وفي هذا الإسناد علتان الأولى ما أشار إليه الحافظ في التهذيب 12/ 238، في ترجمة أبي مطرف عن سالم بن عبد الله بن عمر في القول عند الرعد وعنه الحجاج بن أرطأة وعبد الواحد بن زياد والصحيح عن عبد الواحد عن حجاج عنه ذكره ابن حبّان في الثقات. والثانية جهالة أبي مطرف لم يرو عنه غير الحجاج بن أرطأة وقد قدمنا في ترجمته إنه ضعيف قال الذهبي في الضعفاه نكرة 2/ 808، وقال في الميزان 4/ 574 لايدري من هو، وقال الحافظ في التقريب ص 674: مجهول وعلى هذا يكون الحديث ضعيفًا لا كما ذهب إليه المرحوم الشيخ أحمد شاكر من تصحيح إسناده والله أعلم. انظر المسند تحقيق أحمد شاكر حديث (5763). (¬3) ذكر الحافظ في التلخيص 3/ 100 أن النسائي رواه في سننه الكبير بهذا اللفظ أي الذي ساقه به الشارح وهو =

فاطمة محرومة، ما كان وَجب لها من حقِ في تركته، وقد كانتْ أرسلت فاطمة إلى أبي بكرِ الصديق تقول له إن متَّ ورثتك ابنتك فأعطني ميراثي في أبي. فقال لها أبو بكرٍ الصديق: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نورث ما تركنا صدقة) (¬1)، وقال: "لا يقتسموا (¬2) ورثتي دينارًا ولا درهمًا، ما تركتُ بعد نفقة عيالي ومؤنة عاملي فهو صدقة، ولكني أعول من كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوله (¬3)، ولم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - رزق إلا مما جلبَ عليه رمحه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: مالي مما آفاءَ الله عليكم إلا الخُمس، والخُمس مردود عليكم" (¬4)، ولما قال هذا أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه عرفته الصحابة وأذعنت له، واحتج به عمر على العباس وعلي رضي الله عنهم بحضرة أهل الشورى، وقال: أنشدكم الله ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نورث ما تركنا صدقة)؟ قالوا: اللهم نعم (¬5). وتخصّص بهذا عموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} (¬6) {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} على قولِ من يقول إن الأمر ¬

_ = متفق عليه بغير هذا اللفظ. والحديث متفق عليه أخرجه البخاري في الفرائض باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا نورث ما تركنا صدقة) 8/ 185، ومسلم في الجهاد باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا نورث ما تركنا فهو صدقة) حديث (1759)، والموطأ 2/ 993 من حديث عائشة أن فاطمة والعباس عليهما السلام أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا نورث ما تركنا صدقة) لفظ البخاري. (¬1) رواه الترمذي في كتاب السير ما جاء في تركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث (1608) وقال حسن غريب من هذا الوجه إنما أسنده حماد بن سلمة وعبد الوهاب بن عطاء عن محمَّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وسألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: لا أعلم أحدًا رواه عن محمَّد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة إلا حماد بن سلمة وروى عبد الوهاب بن عطاء عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة وعن أبي هريرة نحو رواية حماد بن سلمة. الترمذي 4/ 157. (¬2) في م لا تقسم وهي لفظ الحديث. (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في الفرائض باب قول - صلى الله عليه وسلم - لا نورث ما تركنا صدقة 8/ 186، ومسلم في الجهاد باب قول النبي- صلى الله عليه وسلم - لا نورث ما تركنا صدقة (1760)، والموطأ 2/ 993 من حديث أبي هريرة. (¬4) رواه أبو داود (2694)، وأحمد في المسند 2/ 184 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (¬5) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين 9/ 121 وفي فرض الخمس 4/ 96، وفي الفرائض باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نورث ما تركنا صدقة 8/ 185، ومسلم في الجهاد (1757)، وأبو داود (2963)، والترمذي (1610)، والنسائي (4140)، من طريق ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان (قال) وكان محمَّد بن جبير ذكر لي ذكرًا من حديثه ذلك فانطلقت حتى أدخل على مالك بن أوس فسألته عن ذلك الحديث فقال مالك: بينا أنا جالس في أهلي حين متع النهار إذا رسول عمر بن الخطّاب يأتينى فقال: أجب أمير المؤمنين فانطلقت معه حتى أدخل على عمر فإذا هو جالس ... لفظ البخاري. (¬6) سورة النساء آية (11).

يدخل في الأمر يبقي (¬1) العموم سليمًا لم يتطرق إليه تخصيص، ولذلك احتجت فاطمة على أبي بكرٍ يالقياس كما سبقَ وروي أنها قالت له: أليسَ الله يقولُ كذا؟ فاحتجت بالقرآن. فقال العلماء: بقيت نفقة نساء النبي- صلى الله عليه وسلم - في ذلك المال لبقاء الزَّوجية، ومن جعل التحريم لأجل الإذاية جعل النفقة كسائر نفقات النساء مأخوذة من بيتِ المال لهن والصحيح هو الأول، فإن قيلَ، فقد قال الله تعالى مخبرًا عن العبدِ الصالح: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} (¬2) وقد صَرَّح النبي- صلى الله عليه وسلم - بالإرثِ في هذه الآية. قلنا: أراد وراثة النبوّة ليبقى الأجر ويدومُ العمل الصالح، فإن العبدَ إذا مات انقطعَ عمله إلا من ثلاث ولدٌ صالح يدعُو له (¬3)، الحديث. والدليل على أنه أراد شرف المرتبة لا ملك المنفعةِ قوله {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} (¬4) وليس الموروث من الآل المال، وإنما الموروث منهم الشرف، وكانت الحكمة من تبويب مالك رضي الله عنه على تركة النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬5) أن أخماسه وصفاياه بخيبر وفدك، كان عمر رضي الله عنه قد أعطاها لعلي والعباس رضي الله عنهما بحضرة أهل الشورى كما ثبتَ في الصحيح ليسيروا فيها بسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا على الملك لهم، فلم تزل في يد العلوية لم يأخذها من أيديهم من عادهم من الخلفاء، فخشي مالك رضي الله عنه أن يُتوهم على مر الأيام أنها بأيديهم ملكًا، فأراد أن يبين أنها بأيديهم أمانةً، وعوَّل على الحديث الطويل في تخاصمِ العبَّاس وعلي عند عمر رضي الله عنهما بحضرة أهل الشورى، وما جرى بينهم من القضاء، وما استقر عليه الأمرُ في ذلك اليوم وبَعده. ونصّه: قال مالك بن أوس بن الحدثان، بينا أنا جالس في أهلي حينَ طلع النهار، إذا رسُول عمر رضي الله عنه يأتيني، فقال أجب أمير المؤمنين، فانطلقتُ معه حتى أدخل على عمر فإذا هو جالس على رمال سرير ليس بينه وبينه فراش متكئ على وسادة من أدمٍ، فسلمت عليه ثم جلستُ، فقال: يا مالُ (¬6) إنه قد قدم علينا من قومك أهل أبيات وقد أمرتُ برضخ فاقبضه فاقسمه بينهم، قلتُ: يا أميرَ المؤمنين لو أمرت غيري. قال: اقبضه أيها المرء. فبينما أنا جالس عنده إذ ¬

_ (¬1) في ج فيبقى. (¬2) سورة مريم آية (5 و 6). (¬3) رواه مسلم في كتاب الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته حديث (1631)، والبغوي في شرح السنة 1/ 300 من حديث أبي هريرة. (¬4) سورة مريم آية (6) (¬5) الموطأ 2/ 993. (¬6) كذا في جميع النسخ يا مال وهو ترخيم.

جاءَ حاجبُه يرفأ (¬1) فقال: هل لك في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص؟ قال: نعم. فإذن لهم فدخلوا وسلموا وجلسوا، ثم جلس يرفأ يسيرًا. فقال: هل لك في عليٍّ والعباس؟ قال: نعم. وأذنَ لهما فدخلا وسلما وجلسا وهما يختصمان في التي أفاء الله على رسوله من بني النضير، فاستبَّ علي وعباس. قال العباس: يا أميرَ المؤمنين أقضِ بيني وبين هذا الظالم الكاذب الغادر الآثم, فقال الرهط: يا أمير المؤمنين أقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر، فقال عمر رضي الله عنه: إبتدئوا، وروي نبدكم أنشدكم بالله الذي بِإذنه تقوم السموات والأرض، هل تعلمونَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نورثُ ما تركنا صدقة) يريد بذلك نفسه، قالوا: قد قالَ ذلك، فأقبل على عليٍّ وعباس رضي الله عنهما فقال: أنشدكما الله هل تعلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك؟ قالا: نعم. قال مالك بن أوس: قال عمر رضي الله عنه: فإنِّي أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله قد خصَّ رسوله في هذا الفيء بشيءٍ لم يعطه أحدًا غيره، ثم قال: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} إلى قوله تعالى {قديرٌ} (¬2) الآية فكانت هذه خالصة لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - والله ما احتازها دونكم، ولا استأثر بها عليكم، وقد أعطاكموه وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مالِ الله في السلاح والكراع عدة في سبيل الله فعمل فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياته، أنشدكم الله هل تعلمون ذلك؟، قالوا: نعم، ثم قال لعليٍّ وعباسٍ: أنشدكما الله هل تعلمان ذلك؟ قالا: نعم، قال عمر رضي الله عنه: ثم توفي الله رسوله، فقال أبو بكرٍ: أنا ولي رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقبضَها أبو بكرٍ رضي الله عنه فعمل فيها بما عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنتما تزعمان أن أبا بكر فيها كان كاذبًا آثمًا غادرًا، خائنًا، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق ثم توفي أبو بكر رضي الله عنه، فقلتُ: أنا ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ فقبضتها سنتين من إمارتي أعمل فيها بما عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمل فيها أبو بكر والله يعلم إنه فيها لصادق بار راشدُ تابع للحق، جئتماني تكلماني وكلمتكما واحدة وأمركما واحد، جئتني يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك وجاءني, يريد عليّاً، يريدُ نصيبَ امرأته من أبيها، فقلتُ لكما: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نورث ما تركنا صدقة)، فلما بدا لي أن أدفعها إليكما، على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها ¬

_ (¬1) يرفأ علم على حاجب عمر بن الخطّاب رضي الله عنه. (¬2) سورة الحشر آية (6).

باب الترغيب في الصدقة

بما عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما عمل فيها أبو بكرٍ، وبما عملتُ فيها منذ وليتُها، فقلتما إدفعها إلينا بذلك، فدفعتها إليكما بذلك. أنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك؟ قال الرهط: نعم. قال: فتلمسان مني قضاءً غير ذلك؟ فوالله الذي بإذنه تقومُ السموات والأرضُ لا أقضي فيها قضاءً غير ذلك. وكانت هذه الصدقة بيد علىٍّ رضي الله عنه فمنعها علي عباسًا، فغلبه عليها، ثم كانت بيد حسن بن علي رضي الله عنه ثم بيد علي بن حسين وحسَن بن حسين كلاهما كانا يتداولانها ثم بيد زيد بن حسين وهي صدقةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. زاد البرقاني في صحيحه من طريق معمر قال: فغَلبَ علي عليها فكانت بيد علىّ رضي الله عنه ثم كانت بيَد حسن بن عليّ ثم كانت بيد حسين ثم كانت بيد عليّ بن الحسين ثم كانت بيد الحسَن بن الحسين ثم كانت بيد زيد بن الحسين، قال معمر: ثم بيد عبد الله بن الحسين ثم وليها بنو العباس (¬1). باب الترغيب في الصدقةِ جاء مالك رضي الله عنه في هذه الترجمة بفائدةٍ عظيمةٍ أخرجها بها من أبواب الأحكام إلى أبواب الفضائل، نبّه بها على فضْلِ الصدقةِ وشرفِها، وهي تشرف بوجوهٍ كثيرة ذكر منها مالك رضي الله عنه ستة أوجهٍ تنبيهًا على باقيها. الأول: شرف القُبول في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من تصدق بصدقةٍ من كسب طيب، ولا يقبلُ الله إلا طيبًا، كان إنما يضعها في كف الرحمن) (¬2) فعبرَ - صلى الله عليه وسلم - عن شرفِ القبولِ بالكف ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في المصنف (9772) والبخاري في آخر غزوة بني النضير 5/ 115، وشرح السنة 11/ 135، قال الحافظ وزاد إسماعيل القاضي إن إعراض العباس عنها كان في خلافة عثمان، قال عمر بن شبه: سمعت أبا غسان هو محمَّد بن يحيى المدني يقول: إن الصدقة المذكورة اليوم بيد الخليفة يكتب في عهده يولي عليها من قبله من يقبضها ويفرقها في أهل الحاجة من أهل المدينة. قلت كان ذلك على رأس المائتين ثم تغيرت الأحوال والله المستعان. الفتح 6/ 207. (¬2) 2/ 995 مالك عن يحيى بن سعيد عن أبي الحباب سعيد بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من تصدق بصدقة من كسب طيب ...) وهذا مرسل عند يحيى وأكثر الرواة وأسنده معن وابن بكير عن مالك عن يحيي عن أبي الحباب. شرح الزرقاني 4/ 417، وهو حديث متفق عليه من رواية أبي هريرة أخرجه البخاري في الزكاة باب لا يقبل الله صدقة من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب 2/ 134، وفي التوحيد باب قول الله تعالى {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} 9/ 154، ومسلم في الزكاة باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (1014).

استعارة بالأخبار عن التهمم عن أن يقول القائل أخذها الملك بيده مني وأعطانيه بيدهِ وذلك أشرف من أن يأمر به، فتناول ذلك نائبه عنه (¬1)، وقد قال مالك رضي الله عنه: أرى أن يؤدب هؤلاء الذين يَروونَ هذه الأحاديث المشكلة وأي إشكالٍ أعظم من نسبة الكف إلى الله تعالى، الذي رَوَاه هو، ولله تعالى اليد العليا واليمنَى، وكلا يديه يَمينُ، وله الإصبعُ وله الكف، وكل واحد منهما عبارة عَن القدرة، وتعلقها بالمقدورات، فاليد عبارة عن القدرة جملة بجملة، واليَمين، عبارة عن الشرفِ أو فضل قوةٍ في التصريف، والكفّ عبارة عن تمهيدِ محل القبول أو بسط القابض كفه ليأخذ بها ما يعطى، والأصبع كناية عن التصرف في الأمور الخفيةِ بارتباط العلم بالقدرة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (قلبُ المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن) (¬2) أو عبارة عن تحقير الأشياء العظيمة، بالإضافةِ إلى أقل متعلقات القدرة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (يضعُ الله السموات على أصبع والأرضين على أصبع) (¬3). الحديث الثاني: شرف الأجر كقوله - صلى الله عليه وسلم - (بخ (¬4) ذلك مالٌ رابح ورايح) (¬5)، ¬

_ (¬1) سيأتي الرد على هذا التأويل وغيره من التأويلات المخالفة لمذهب السلف. (¬2) روى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص إنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء) ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم مصرف القلوب صوف قلوبنا على طاعتك) حديث (2654). (¬3) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب كلام الرب عزّ وجلّ يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم 9/ 181، ومسلم في كتاب صفات المنافقين كتاب صفة القيامة والجنة والنار (2786) من حديث عبد الله بن مسعود قال: جاء حبر من اليهود فقال: (إنه إذا كان يوم القيامة جعل الله السموات على إصبع والأراضين على إصبع والماء والثرى على إصبع والخلائق على إصبع ثم يهزهن ثم يقول أنا المالك أنا الملك ...) لفظ البخاري. أقول: لقد ذكرنا أكثر من مرة أن منهج القاضي ابن العربي رحمه الله في الصفات منهج أشعري قائم على التأويل وهو يتعارض مع مذهب السلف الذي يتمثل في الإيمان بكل ماورد عن الله وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - على غرار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فالمسلم الحق يمر هذه الصفات على ظاهرها معرضًا فيها عن التأويل مجتنبًا الشبيه معتقدًا أن الباري سبحانه وتعالى لا يشبه شيء من صفاتة صفات الخلق كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق. قال شيخ الإِسلام ابن تيمية مذهب سلف الأمة وأئمتها أن يصفوا الله وصف الله به نفسه ولا به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا يجوز نفي صفات الله التي وصف بها نفسه ولا تمثيلها بصفات المخلوقين. أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات ص 71، وانظر الشرح والإبانة ص 213، والتمهيد 7/ 132، وشرح السنة 1/ 168، الفتح 17/ 413. (¬4) بخ بخ هي كلمة تقال عند المدح والرض بالشيء وتكررللمبالغة وهي مبنية على السكون وصلت جررت ونونت فقلت: بخ بخ وربما شددت وبخبخت الرجل إذا قلت له ذلك ومعناها تعظيم الأمر وتفخيمه. النهاية 1/ 101. (¬5) مالك عن اسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة إنه سمع أنس بن مالك يقول: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة =

وقول العرب بخٍ بخٍ كنايةً عن تشريف الأمر والرغبة فيه كما تقدَّم في الحديث، كما أن قولَهم كَخٍ كَخٍ كلمةٍ تقولها العربُ عند تحقير الشيء والنفرة (¬1) عنهُ، كما قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لولدهِ حين رأي تمرة الصدقة في فيهِ: (كخٍ كخٍ) (¬2)، وكذلك رابح معناه وجوب الزيادة فيه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (رايح) بالياء، معنَاهُ دوام المثوبة عليه. الثالث: حال المعطي: كقولهِ - صلى الله عليه وسلم -: (أعطوا السائل ولو جاءَ على فرسٍ) (¬3) فإن للسائل حقاً لا يؤديه إلا الإجابة، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يُسألُ قط شيئاً إلا أعطاه لئلا يبقى عليه درك، ولكن إذا صدق السائل فإنه مع الصدق تحلُّ له المسألةِ الكثيرة والقليلةُ وما يحتاج إليه وما لا يحتاج إليه، وما رأيت أصدق من السؤال ببغداد. رأيتُهم بجامعِ الخليفةِ، يقول قائلهم: أيها الناس ارحموني أخوكم لا يأتي الجمعة إلا في ثياب المهنةِ، ولا يقدرُ على إقامةِ ما يجبُ لها من السَّنية، فشاهَدتهم يخلعونَ عليه ثياب الجمعة ويروح بها في الثانية، وشاهدتُ سائلهم يقول: أيها الناس ارحموني اشتهيت حذاية (¬4) وما أكلتها منذ عامٍ والقدر منها بدينارٍ (¬5)، فرأيتُهم يتصدقون عليه بدينارٍ، وهكذا في كل ما يطلبون، فإن كذب السائلُ حَرُمَ عليه ما يأخذ، ووجب عليه رده، روي أن عمرَ رضي الله عنه مر بسائِل على عنقه مخلاة مملوءة كسراً وتمراً، فخفقَهُ بالدرة وأمر بها ففرغت بين يدي نعم ¬

_ = مالاً من نخل وكان أحب إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إلىّ بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها .. الموطأ 2/ 995، والبخاري في الزكاة باب الزكاة على الأقارب 2/ 148، ومسلم في الزكاة باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين (998)، من حديث أنس. (¬1) كخ كخ هو زجر للصبي وردع ويقال عند التقذر أيضاً. النهاية 4/ 154. (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في الزكاة باب ما يذكر في الصدقة للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -2/ 157، ومسلم (1069) في الزكاة باب تحريم الزكاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله من حديث أبي هريرة. (¬3) مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أعطوا السائل وإن جاء على فرس)، الموطأ 2/ 996 قال ابن عبد البر: لا أعلم في إرسال هذا الحديث خلافاً عن مالك وليس فيه مسند يحتج به فيما أعلم. الزرقاني 4/ 420، ورواه ابن عدي في الكامل (1878) من حديث أبي هريرة وقال: لا أعلم يرويه عن زيد غير عاصم وهو ابن سليمان الكوزي وضعفه الشيخ ناصر في ضعيف الجامع الصغير 1/ 300. (¬4) قال الجوهري الحذاية بالكسر القطعة من اللحم قطعت طولاً. صحاح الجوهري 6/ 2310. وانظر ترتيب القاموس 1/ 609. (¬5) في ج والقدر المتقن منها يقوم بمثقال.

الصدقة، فأكلوها. ولله در عمر فما أفقههُ رأى السائل قد سأل باسم الحاجة وهو غني لم يفسر مسألته، ولا فضَّل قدر ما يحتاج، فوجبَ رد ما بيده على أربابه ولم يتعينوا لعمر رضي الله عنه فيردها عليهم فوجب التصدُّقُ بها، فكره أن يحملها يطلب المساكين المستحقينَ لها لوجهين: أحدهما: مَا في ذلك من التكليف عليهِ. والثاني: ما في ذلك من تأخير إنفاذِ ما وجبَ عليهِ، وقد أسرعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في صَلاةٍ، ثم دخَلَ بيته وخرج بتبرٍ كان عنده واعتذر أنه قام لأجله (¬1)، وقالت له أم سلمة رضي الله عنها: ما ليِ أراك قد أصبحت ساهم الوجه؟ فقالَ لها: (إن دنانير كنتُ نسيتُها تحت الفراش فباتت فيهِ). فانظر إلى ما كان يعتقدُ في سرعة التنفيذ أن تختصر لأجله الصلاة وتتغير له نفسه الكريمة حتى يظهر أثر التغيير على غرّته البهية. الرابع: حقُّ المعطي فإنه ينبغي أن لا يرد في وجهه ما يعطيهِ كان قليلاً أوكثيراً، ولا يحل له أن يقولَ بهذا تستقبلني، فإن الله لم يحقرِ أن يستقبلَ به، فكيفَ يستحقره الآدمي الذي يأخذه وإن استحقره صغيراً ليرينه كثيرًا وقد جاء هذا فعلاً في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في الصَّدَقَاتِ} (¬2) يُريد بالمطوَّع الذي يعطي ما خفَّ عليهِ، ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} يريدُ الذي يُعطي ما قدرَ عليه. فهذه مرتبتان حَسنتان، وان كانت الآخرة منهما أشرف من الأولى. الخامس: حال الشيء المعطى. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا نساءُ المؤمنات) (¬3) على إعراب النداء المضاف على ما بيناه في رسالة الملجِئة (لا تحقرن إحداكنَّ لجارتها ولو كراع ¬

_ (¬1) رواه البخاري في كتاب الأذان باب من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم 1/ 215، من حديث عقبة بن الحارث وأوردهُ الخطيب التبريزي في المشكاة 1/ 590، ولم يعزه لغير البخاري. (¬2) سورة التوبة آية (79). (¬3) قال القاضي عياض الأصح الأشهر نصب النساء وجر المسلمات على الإضافة وهي رواية المشارقة من إضافة الشيء إلى صفته كمسجد الجامع وهو عند الكوفيين على ظاهره وعند البصريين يقدرون فيه محذوفاً وقال السهيلى وغيره جاء برفع الهمزة على أنه منادى مفرد ويجوز في المسلمات الرفع صفة على اللفظ على معنى يا أيها النساء المسلمات والنصب صفة على الموضع وكسرة التاء علامة النصب وروي بنصب الهمزة على أنه منادى مضاف وكسرة التاء للخفض بالإضافة كقولهم مسجد الجامع وهو مما أضيف فيه الموصوف إلى الصفة في اللفظ. فتح الباري 5/ 197.

شاة محرق) (¬1) أو محرقا على ما بيناه وعلى ما فعلت عائشة رضي الله عنها حين أعطت حبَّة من عنبٍ كان بين يديها، فاستحقرها الرسولُ، فنبهتُه عائشة رضي الله عنها على طريق التعظيم، وقالت له: كم ذرة فيها (¬2) إشارة إلى قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (¬3). السادس: الثقة بالقَبولِ وينبغي للمرءِ أن يكون واثقاً به على خطرٍ منه، كما تقدم لنا في قصة عامر بن عبد الله وفي القائل له ما قال لنا دانشمند (¬4) قدم علينا حاجاً بمدينة السلام سنة تسعين، قال لنا شيخنا سمعتُ الأستاذ الإِمام ابن فورك (¬5) يقول: كنتُ في أيام الإرادةِ (¬6) يصحبنا فتيً من أهلها فمرضَ، فَعدتُه فألفيته يجادلُ فاسترفقت (¬7) له وأشفقت من حالِه ومما كان فيه من المواظبة أيام الصحبةِ ومن غلبة الخوفِ علي قلبهِ والخشيةِ، فإذا به قد فتح بصرَهُ وجرّده إلىَّ وقال: يا أبا بكرٍ لمثل هذا فليعَمل العاملون. ¬

_ (¬1) مالك عن زيد بن أسلم عن عمرو بن معاذ الأشهلي الأنصاري عن جدته أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تحقرن إحداكن أن تهدي لجارتها ولو كراع شاة محرقاً) الموطأ 2/ 997. وأخرجه البخاري في كتاب الهبة باب الهبة وفضلها 3/ 201، ومسلم في الزكاة باب الحث على الصدقة (1030) من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة). (¬2) الموطأ 2/ 997 مالك قال: بلغني أن مسكيناً استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب فقالت لإنسان: خذ حبَّة فأعطه إياها فجعل ينظر إليها ويعجب فقالت عائشة: أتعجب كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة. والحديث ذكر السيوطي إنه أخرجه ابن سعد وعبد بن حميد من طريق عائشة رضي الله عنها أن سائلاً أتاها وعندها سلة عنب فأخذت حبَّة من عنب فأعطته فقيل لها في ذلك فقالت: هذه أثقل من ذر كثير ثم قرأت {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} الدر المنثور 8/ 597. (¬3) سورة الزلزلة آية (7). (¬4) هذا لقب فارسي ومعناه الشيخ الكبير وهو يعني به شيخه الغزالي. (¬5) هو محمَّد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني الشافعي أبو بكر متكلم فقيه مفسر أصولي أديب نحوي لغوي واعظ أقام بالعراق مدة وورد الري وكثر سماعه بالبصرة وبغداد مات سنة (406 هـ)، انظر سير النبلاء 17/ 214، طبقات الشافعية للسبكي 4/ 127 - 135، طبقات الأسنوي 2/ 266، تبين كذب المفتري 332، شذرات الذهب 3/ 181، العبر 3/ 95. (¬6) اتفقت النسخ على هذه العبارة ولعلها اسم مكان. (¬7) في ك وم فاسترفعت له وأشفقت.

ما جاء في صفة جهنم

ما جاء في صفة جهنم هذه ترجمة عظيمة ترجم بها العلماء وترجموا بنظيرها في المقابل لها وهي صفة الجَنةِ، وإنما ترجَم مالك رضي الله عنه بصفةِ جهنم دونَ صفة الجَنةِ لأن العالم يجب أن يراعي الغالب على أحوال الخلق، فإن الغالب على أحوالهم الطاعة والخوف ذكرهم بسعةِ الرحمةِ ونقلهم إلى مقام الرَّجاء، وإن كان الغالب عليهم الانهماك في المعاصي والاتكال على سعةِ الرحمة وعِظهم بآيات الخوف وآثاره ونقلهم إلى مقامه، فلما رأى مالك رضي الله عنه في زمانه الانهماك في المعاصي للناس وفي الظلمِ للولاةِ ترجمَ بآثار التخويف لينقلهم إلى مقامه، وأحاديث ذلك كثيرة منها حديثين عن أبي هريرة رضي الله عنه. الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ناركم هذه الذي توقدونَ جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم) (¬1) زاد غيره: (بعد أن صُبغت في البحر صبغتين) (¬2) تنبيهاً على أنها لو كانت بحالها ما احتملت الأرض سقط زنادٍ منها، وفي الحديث ان دلواً من غسّاقٍ لو صب في المشرق لأنتنَ منهُ المغرب (¬3) كما روي في مقابله لو أن نصيفًا (¬4) ظهر للدنيا من الحُور العين ¬

_ (¬1) الموطأ 2/ 994 مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم) فقالوا: يا رسول الله إن كانت لكافية؟ قال: (إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً). وقد أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق باب صفة النار وإنها مخلوقة 4/ 147، ومسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها (2842)، وزاد أحمد في روايته وضربت في البحر مرتين ولولا ذلك ما انتفع بها أحد، انظر الفتح الرباني 24/ 163، وكذلك روي هذه الزيادة ابن حبان 9/ 276. (¬2) لم أجده بهذا اللفظ وقد ورد في تخريج أحاديث الأحياء للعراقي قوله: قيل: (إن نار الدنيا غسلت بسبعين ماء من مياه الرحمة حتى أطاقها أهل الدنيا) قال العراقي: ذكره ابن عبد البر من حديث ابن عباس، انظر الأحياء 4/ 531. (¬3) رواه الترمذي (2584) وقال: لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد وفي رشدين مقال من قبل حفظه ورواه أحمد في المسند 3/ 28 من طريق ابن لهيعة، والحاكم في المستدرك 4/ 601 - 602 عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث وصححه وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس (5116). ورواه البغوي من رواية الترمذي شرح السنة 15/ 245 وانظر المشكاة (5682)، والطبرى 23/ 14، وابن كثير 7/ 69، الزهد لابن المبارك 2/ 90، والحديث ضعفه الشيخ ناصر في ضعيف الجامع الصغير 5/ 41. (¬4) في جميع النسخ نصيفاً والذي في الحديث وصيفاً.

باب التعفف عن المسألة

لأضاءت منه (¬1)، وقال: (أترون ناركم هذه حَمراء لهي أسود من القار) (¬2) وإن كان العذاب واحداً في جوهرها , ولكنه بيَّن بصفةِ السَّواد تضاعف العذاب، وفي قوله: "أسود" دليل على جواز استعمال أفعَل في باب ما أحسن زيداً دون نسبتهِ إِلى شدةٍ أو خفةٍ حسب ما ذكره النحاةُ حين ظنوا الأغلب كلا، وقد نبهنا عليهِ في رسالة الملجئة. بابُ التعفف عن المسألة المسألة حكم علته الحاجة فهي مترتبة عليها، قد كانت الحاجة ضرورة دنيوية أو دينية، كانت المسألة واجبة عند الفقهاء، وعليه تدل قصة الخضر وموسى - صلى الله عليه وسلم - حين استطعما أهل القرية عند الحاجة وقصة أبي الهيثم بن التيهان وقد تقدم ذلك كله، وإن كانت الحاجة فيها مشقة كان السؤال مندوباً إِليه إِذ يجوز له احتمال المشقةِ، وإن كانت الحاجة لشهوةٍ كانت مكروهة, لأن اتباع الشهوات مكروه شرعاً، وكسر النفس بترك الشهوة مندوب إِليِه وإن كان ذلك نادراً كان السؤال مباحاً، وقال شيوخ الزهد (¬3): السؤال حَرام إِلا عندَ الضرورة فإنه مباح والأفضل له الاستسلام لأمر الله، وهذا الذي قالوه إِنما ينبني على أصلهم في التفويض والتوكل فإذا انتقل الإنسان من مقامات السلوك إِلى مستقر التوكل والتفويض حينئذٍ يترتب عليه هذا الحكم، ومن أراد أن يفعله قبل أن يحصل في ذلك المقام فهو بمنزلة من أراد أن يصلي قبلَ أن يتوضأ، وهذه المسألة بابها أحكام الزكاة، ولكنها ذكرها الإِمام في الجامع لأنها مقام من مقامات الأولياء ومنزلة عظيمة من آداب الشرع فأدخلها مع أخواتها وذكر فية حديث سؤال الأنصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4) ويحتمل أن يكون الأنصار سألوا ¬

_ (¬1) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (5114)، عن ابن عباس قال: (لو أن وصَيفاً أو وصيفة أهبط إلى دار الدنيا لأقتتل عليه الناس من حسنه وجماله حتى يتفانوا). (¬2) مالك عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة إنه قال: أترونها حمراء كناركم هذه لهي أسود من القار، والقار الزفت. الموطأ 2/ 994، وأخرجه البغوي في شرح السنة 15/ 240. قال الباجي: مثل هذا لا يعلمه أبو هريرة إلا بتوقيف. المنتقى 7/ 319. (¬3) المراد بهم شيوخ الصوفية. (¬4) مالك عن ابن شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري أن ناساً من الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم حتى نفد ما عنده ثم قال: (ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم ومن يستعفف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله ...) الموطأ 2/ 997، وأخرجه مسلم في الزكاة باب فضل التعفف والصبر (1053)، وكذلك أخرجه البخاري في الزكاة باب الاستعفاف عن المسألة 2/ 151.

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يحتاجون إليه ويحتمل أن يكون سألوه ما يستغنون عنه لكن بوجه من الحاجة يحسن توقعه كسؤال الرجل له الحلة التي يراها عليه وهو مستغن عنها لتكون كفنه، والاحتمال الثاني أغلب لقوله - صلى الله عليه وسلم - بعد ما نفد ما عنده: (ومن يستعفف يعفه الله) والعفاف هو الكف عما يعرض من الأمل تعلق بدين أو بدن أو أمل وكذلك قال من يستغني يريد بعز الطاعة وحرية النفس لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الغنى كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) (¬1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من تصبر صبره الله) إشارة إلى من غلبته الحاجة فليتكلف وليتعاط (¬2) أمثالها من الصَّبر هذا في الانتفاع ومثله في الاستدفاع في مكروهٍ يعرض أو بلاءٍ ينزلُ فليتصبر له وليعطه من الصبر والأصل في التعفف عن الانتفاع كثير من فنونهِ ما روي عن عيسى عليه السلام: أنه اضطجع ووضع تحت رأسه حجراً يرفعه عن الأرض ليعتدل له به وزن الضجعة فمرّ به إبليس قال له: يا عيسى أنت تزعمُ أنك تترك الدنيا فما بالك استعنت بالحجر؟ فرمَى به إليه، وقال: خذه إليك ووضع رأسَه على الأرض، والأصل في الاستدفاع فنون كثيرة أعظمها حال أيوب فإنه نزل به البلاء فيُروى أنه ما سأل ربه قط كشفه لحظة في زمن بلائه اللهمَّ إلا إنه لما اشتد به الكرب قال: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬3)، وما سألَ الكشفَ ويقولُ أهل التفسير أنه ما قال هذه الكلمة مع لينها إلَّا حين مست الدود قلبه، فلما شغله ذلك عن ذكر الله في قوله مسّني الضر (¬4) يُريدُ في ديني وأما بدنه فما سألَ قط عنه ثم قال: وما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر، وفي بعض الأخبار: الصبرُ نصفُ الإيمان (¬5)، وأنا أقول إنه الإيمان كله. قال علماؤنا رحمهُم الله، إنما قال الصبر نصف ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه البخاري في الرقاق باب الغنى غنى النفس 2/ 118، ومسلم في الزكاة (1051) من حديث أبي هريرة. (¬2) في م وليتغلظ وفي ج فليتكلف ولا يتعاط مثله. (¬3) سورة الأنبياء آية (83). (¬4) نقل القرطبي عن الشارح في قوله مسّني الضر لاشتغاله عن ذكر الله وما أحسن هذا لو لكان له سند ولم تكن دعوى عريضة. تفسير القرطبي 11/ 323 - 324. (¬5) رواه البيهقي في الشعب من طريق يعقوب بن حميد ثنا محمَّد بن خالد المخزومي عن سفيان الثوري عن زيد بن أبي وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله) تفرد به يعقوب عن المخزومي والمحفوظ عن ابن مسعود من قوله غير مرفوع. شعب الإيمان (9716 و 9717) وأورده الديلمي في مسند الفردوس (3841)، ورواه أبو نعيم في الحلية 5/ 34، والخطيب في تاريخه 13/ 226 وأورده صاحب الأحياء 1/ 231، والمنذري في الترغيب والترهيب 4/ 277، والزبيدي في أتحاف السادة المتقين 9/ 5. =

الإيمان, لأن الشريعة قسمان: مأمورٌ ومنهيٌّ، والنهي يقتضي ترك الشهوة، ولا يستطاع ذلك إلا بالصبر وإيثار التعب على الراحة، وأما المنهيات أسهل في الكف من المأمورات في الفعلِ عادة، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا به ما استطعتم، وما نهيتكم عن شيءٍ فاجتنبوه) (¬1) وهذا يدل على ما اخترناه من أن باب المأمورات يحتاجُ إلى الصبر، ولذلك شرط فيه الاستطاعة وشرط ترك النهي مطلقاً وأما اليد العليا واليد السفلى، فقد تكلمنا عليه في أبواب الزكاة وبينا اختلاف العلماء في أن اليد العليا يد السائل أم يد المعطي، وعند الفقهاء أن اليد العليا هي يد السائل بحجتين في ذلك أن يد السائل نائبة عن يد الله تعالى لأجل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إِنما تقعُ في كف الرحمن قبل أن تقعَ في كف السائل)، وقوله في الحديث: العليا هي المنفقة واليد السفلى هي السائلة من قول الراوي وتأويله لا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتنزيله (¬2)، قال الفقراء فيدُ المعطي هي العليا صورة ويد السائل هي العليا معنيً، والمعاني هي التي تعتبر ليست الصور والبابُ عظيم القدر، فليُطْلَب في مكانه وله أمثلة (¬3) وأما مسألة عمر وحكيم فكان حكيم يرى أن غيره بالعطاء آثر ¬

_ = والحديث فيه يعقوب بن حميد بن كاسب المزني نزيل مكة وقد نسب لجده صدوق ربما وهم، مات سنة (241)، التقريب ص 607 ت ت 11/ 323، الكاشف 3/ 290. وقد رمز المناوي في فيض القدير 5130 للحديث بالضعف. (¬1) حديث متفق عليه أخرجه البخاري في الاعتصام باب الإقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - 9/ 116، ومسلم في الفضائل (1337) من حديث أبي هريرة. (¬2) تقدم تحقيق ذلك في الزكاة. (¬3) قال الحافظ: الأحاديث متضافرة على أن اليد العليا هي المنفقة المعطية وأن السفلى هي السائلة وهذا هو المعتمد وهو قول الجمهور وقيل اليد السفلى الآخدة سواء كان بسؤال أم بغير سؤال وهذا أباه قوم واستندوا إلى أن الصدقة تقع في يد الله قيل يد المتصدق عليه، قال ابن العربي: التحقيق أن السفلى يد السائل وأما يد الآخذ فلا لأن يد الله هي المعطية ويد الله هي الآخذة وكلتاهما عليا وكلتاهما يمين، قال الحافظ: وفيه نظر لأن البحث إنما هو في أيد الآدميين وأما يد الله تعالى فباعتبار قبوله للصدقة ورضاه بها نسبت يده إلى الأخذ ويده العليا على كل حال وأما يد الآدمي فهي أربعة يد المعطي وقد تضافرت الأخبار بأنها عليا ثانيها يد السائل وقد تضافرت بأنها سفلى سواء أخذت أم لا وهذا موافق لكيفية الإعطاء والأخذ غالباً وللمقابلة بين العلو والسفل المشتق منهما. ثالثهما يد المتعفف عن الأخذ ولو بعد أن تمد إليه يد المعطي مثلاً وهذه توصف بكونها علياً علواً معنوناً. رابعها يد الآخذ بغير سؤال وهذه قد اختلف فيها فذهب جمع إلى أنها سفلى. ثم قال: ومحصل ما في الآثار =

نكتة

منه لاستغنائه هو عنه وكان عمر يُشهد عليهِ أنه قد أوصلَ إليهِ حقه (¬1)، ويرى عمر أن ما جرى له مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصل فيما بينه وبين حكيم وقد بين النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن ما كان عن غير مسألةٍ فهو رزق رزقه الله، يُريدُ من غير تعَبٍ ولا مهانةٍ (¬2)، فإن التعب كلفةً والسؤال ذلةً، ولذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - على الفقراءِ بالعزَّة فقال: (لأن يأخذ أحدكم حيلة فيحتطبُ خيرٌ له من أن يسأل) (¬3) وأما كيفية السؤال المترتبة على من عنده مال فهي مسألة فقهية، الصحيح فيها أنها تجوز لكلِ أحدٍ وبكلِ حال إذا بيَّن سؤاله كما بيناهُ. نكتة: ذكر مالك رضي الله عنه أنه بلغهُ قول رسوِل الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحلُّ الصدقة لآل محمّدٍ، إنما هي أوساخ الناس) (¬4) والحديث صحيح ضرَبَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المثل بقوله: (أرأيت لو أن ¬

_ = المتقدمة أن أعلى الأيد المنفقة ثم المتعففة عن الأخذ ثم الأخذ بغير سؤال وأسفل الأيدي السائلة والمانعة. فتح الباري 3/ 297. (¬1) هذا حديث متفق عليه أخرجه البخاري في الزكاة باب الاستعفاف عن المسألة 2/ 152، ومسلم في الزكاة باب بيان أن أفضل الصدقة الصحيح الشحيح (1035) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال: (يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه) ... ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئاً فقال عمر: أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه .... (¬2) روى مالك في الموطأ 2/ 998 عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى عمر بن الخطاب بعطاء فرده عمر، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لم رددته)؟ فقال: يا رسول الله أليس أخبرتنا أن خير لأحدنا ألا يأخذ من أحد شيئاً؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما ذلك عن المسألة فأما ما كان من غير مسألة فإنما هو رزق يرزقكه الله) فقال عمر بن الخطاب: أما والذي، نفسي بيده لا أسأل أحداً شيئاً ولا يأتيني شيء من غير مسألة إلا أخذته. قال ابن عبد البر هذا مرسل باتفاق الرواة. شرح الزرقاني 4/ 424، وقد أخرجه البخاري في كتاب الأحكام باب يزق الحكام والعاملين عليها 9/ 84 - 85 موصولاً وكذلك أخرجه مسلم في الزكاة باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إسراف (1045) (110 و 111 و 112). (¬3) مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه)، الموطأ 2/ 998، ورواه البخاري في الزكاة باب الإستعفاف عن المسألة 2/ 152، ومسلم في الزكاة باب كراهة المسألة للناس (1042). (¬4) الموطأ 2/ 1000 ورواه مسلم من طريق الزهري أن عبد الله بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب =

ما جاء في طلب العلم

رجلاً بادياً في يومٍ حارٍ ...) (¬1) الحديث. وقد اختلفَ الناس في العلة في تحريم الصدقة على محمدٍ وآله فقالت طائفة: إنما حرمت عليهم لنفي التهمة عنهم لئلا يقول الناس طلب لنفسه أو جلب جلباً له شطره، ومنهم من قال لأنها أوساخ الناس فحرمت عليهم تنزيهاً لهم، وليس يمتنع أن تجتمع العلتانِ لأنهما لا يتناقضَانِ، فأما تحريمها على الناسِ فهو باب من الفقه عيّنها الله تعالى لثمانية أصناف، وحرَّمها على الصنف الواحد وهم الأغنياء وأحلها لهم على خمسة أحوال على ما جاءَ في الحديثِ: (لا تحلُّ الصدقة إِلا لخمسة) (¬2) الحديث. ما جاء في طلب العلم (¬3) ترجمَ مالك به وبوّبَ به البخاري (¬4) وغيره على الإطناب فيه، وأدخل فيه مالك رضي الله عنه مسألة لقمان كأنها فرع من الإسرائيليات (¬5) التىِ اعتمدها كثيراً وقد اخْتلِفَ في لقمان ما بين كبيرٍ وصغيرٍ وما بين زيادة النون وحذفها. ورأى مالك رضي الله. عنه أن كل ما وافق عن الحكمة ولم يخرج عن السنة من الإسرائيليات فروايته جائزة وهو المراد بقوله: (حدثوا ¬

_ = حدثه أن عبد المطلب بن ربيعه بن الحارث حدثه قال: اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا: والله لو بعثنا هذين الغلامين (قالا لي وللفضل بن عباس) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلماه فأمرهما على هذه الصدقات فأديا ما يؤدي الناس وأصابا مما يصيب الناس .... مسلم في الزكاة باب ترك استعمال آل النّبي على الصدقة (1072). (¬1) مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه إنه قال: قال عبد الله بن الأرقم: أدللني على بعير من العطايا أستحمل عليه أمير المؤمنين فقلت: نعم جملاً من الصدقة، فقال عبد الله بن الأرقم: أتحب أن رجلاً بادناً في يوم حار غسل لك ما تحت إزاره ورفغيه ثم أعطاكه فشربته قال: فغضبت وقلت: يغفر الله لك .... الموطأ 2/ 1001. (¬2) تقدم الحديث في الزكاة فلينظر هناك. (¬3) الموطأ 2/ 1002. (¬4) قال البخاري في صحيحه 1/ 22 كتاب العلم. (¬5) مالك إنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه فقال: يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الله الأرض الميتة بوابل السماء. الموطأ 2/ 1002. وهذا البلاغ ذكر الزرقاني إنه رواه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لقمان قال لابنه: يا بني عليك بمجالسة العلماء واسمع كلام الحكماء فإن الله ليحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر) ثم قال الزرقاني: قال المنذري: سنده حسن به الترمذي غير هذا الحديث. شرح الزرقاني 4/ 430.

ما يتقى من دعوة المظلوم

عن بني إسرائيل ولا حَرج) (¬1) وفي أحد التأويلات هذا المثل الذي جَرى من لقمان في الإِحياء والإِماتة ورد مفسراً في حديث أبي موسى عن النّبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال: (مثل ما بعثني الله بهِ من الهدى والحكمة كمثل غيثٍ أصَابَ أرضاً ...) (¬2) الحديث. إلى غيرِ ذلك من الآثار البديعةِ. وأبهم مالك رضي الله عنه الترجمة في قوله طلب العلمِ على ما نبهنا عَليهِ من أغراضهِ في الإبهامِ, لأن العلم ينقسم من جهة طلبَه إلى قسمين: واجب، ومندوب. فالواجب العلمُ بالله تعالى بأدلته التي نصبها طريقاً إلى معرفته. أولَها وأُولاها بالإنسان نفسه ولذلك قال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} (¬3) فإذا أراد العبد أن يعلمَ ربه فليعلم نفسه، فإن كل حال من أحوالهِ تدل على صفةٍ من صفاتِ ربه عجزٌ بقُدرةٍ، وجهلٌ بعلم، ونقص بكمالٍ، إلى آخر القصَّةِ، والعلم بالوظائف التي رُتبت عليه لتقويم (¬4) النفس على محجة السلوك إلى الله عَزَّ وَجَلَّ وغير ذلك مندوبٌ والباب عظيم طويل فليُطلب في شرح البخاري وغيره. ما يتقى من دَعوة المظلوم بوَّب مالك رضي الله عنه على الحديث المروي: (إتقوا دعوة المظلم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب) وأُدخلَ ذلك عن عمر رضي الله عنه (¬5)، وذلك في كتابِ الله تعالى ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء 4/ 207 من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار). (¬2) متفق عليه أخرجه البخاري في كتاب العلم باب فضل من عَلِمَ وعَلّمَ 1/ 30، ومسلم في الفضائل باب بيان مثل ما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من الهدى والعلم (2282) من حديث أبي موسي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن مثل ما بعثني الله به عزّ وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا ورعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به: فعلِمُ وعَلّمَ ...). (¬3) سورة الذاريات آية (21). (¬4) في بقية النسخ ليقوم النفس. (¬5) مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب استعمل مولى له يدعى هُنياً على الحمى فقال: يا هُني =

أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم -

موجود. قال الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} (¬1) والمظلوم مضطر, فإذا قال المظلوم المضطر: ربِّ إني قد اضطررتُ إليك فأجب دعائي. والضرورة قد تكون في البدن، وقد تكون في الدين بالمعصيَةِ. فيقول: رب قد اضطرَرت إليك في التوبة، ورجعت إليك رجوع العبد الآبق إلىِ المولى الكريم، فاقبلني بفضلك كأكرم قبول لقي به مَولىً عبده، فإنك لطيف كريم وأنت أرحم الراحمين. فهكذا كان يدعو بعض أشياخي وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬2) وفيها عشرون قولًا ذكرناها في كتاب المشكلين، من أمهاتها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من داعٍ يدعو إلا كان بين إحدى ثلاثٍ) (¬3) الحديث. أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرنا في كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أسماءه وجميع متعلقاته وختمناها بمعجزاته وغزواته وذكرنا له ألف معجزة وذكرنا من أسمائه فيها عدة سلبت النوائِب بعضها فَالحاضِرُ في الخاطر الآن منهَا. الرسول، المرسل، الشهيد، النبي، مصدّق، نور، مسلم، بشير، مبشر، نذير، منذر، مبين, أمي، عبدٌ، داعي، سراج، منير، إمام، ذِكرٌ، هادٍ، مُذَكر، مهاجر، حامد، مبارك، رحمة، آمر، ناهي، طيب، كريم، محلل, محرم، واضح، مخبر، خاتم النّبيين، ثاني اثنين، منصُور، أذُنُ خيرٍ، مصطفى، أمين، مأمون، قاسم، نقيب، المزمل، المدثر، عبد الله، علي، حكيم، مؤمن، رؤوف، رحيم، صاحب، شفيع، متوكل، محمَّد، أحمد، ماحي، حاشر، مقفي، عاقب، نبي التوبة، نبي الرحمة، نبي الملحمة، خطيب، نبي الحرمين. ذكره أهل ما وراء النهر. ¬

_ = أضمم جناحك عن الناس واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة ... الموطأ 2/ 1003، ورواه البخاري في الجهاد باب إذا أسلم قوم في دار الحرب ولهم مال وأرضون فهي لهم 4/ 87. (¬1) سورة النمل آية (62). (¬2) سورة البقرة آية (186). (¬3) رواه أحمد في المسند 3/ 18 من حديث أبي سعيد الخدرى وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد 10/ 148 لأحمد وأبي يعلى بنحوه والبزار والطبراني في الأوسط ورجال وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير علي الرفاعي وهو ثقة.

هذا منتهى ما اتفقَ أن يختطفَ في هذه العجالة من قبس النور الأعظم الذي أخذ منه الإِمام مالك رضي الله عنه بجزءٍ عظيمٍ في كتابه، وجعله للعالم قدوة، وكان لمن بعده فيه خيرُ اهتداءٍ وأسوة وختمه بذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصَّ على أسمائه الخمسة (¬1) التي تترتب عليها الشريعة، فإن الله تعالى سمَّى نفسه، وترتبت المخلوقات على أسمائِه الحسنى فتعلق بكل اسم من أسمائه جزء من مخلوقَاته، وكذلك تعلقَ كل جزء من أجزاء الشريعة بكل اسمٍ من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد انتزعنا هذا الإملاء مع شغوبٍ (¬2) وأمراض بقية الأغراض وأشرنا إلى ما حضرَ من نكتٍ قصدنا بها حسم الكلفة والعنّة (¬3) وشرعنا فيها طريقاً إلى معرفة ¬

_ (¬1) مالك عن ابن شهاب عن محمَّد بن جبير بن مطعم أن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (لي خمسة أسماء أنا محمّد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب). الموطأ 2/ 1004. والحديث قال فيه ابن عبد البر أرسله يحيى وأكثر الرواة وأسنده معن وأبو مصعب ومحمد بن المبارك الصوري ومحمد بن عبد الرحمن وابن شروس الصنعاني وإبراهيم بن طهمان وعبد الله بن نافع وآخرون كلهم عن مالك عن ابن شهاب عن محمَّد بن جبير عن أبيه جبير. وشرح الزرقاني 4/ 432. ورواه البخاري في كتاب الفضائل باب ما جاء في أسماء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -4/ 225، ومسلم في الفضائل باب أسمائه - صلى الله عليه وسلم - (2354). وهذه الأسماء بعضها في القرآن والبعض الآخر في الله يقول الحافظ: ومما وقع من أسمائه في القرآن بالإتفاق الشاهد المبشر النذير المبين الداعي إلى الله السراج المنير وفيه أيضاً المذكر والرحمة والنعمة والهادي والشهيد والأمين والمزمل والمدثر. وفي حديث عبد الله بن عمرو المتوكل ومن أسمائه المشهورة المختار والمصطفى والشفيع المشفع والصادق المصدوق. فتح الباري 6/ 557. وقال القاضي في عارضة الأحوذي 10/ 281 وأما أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أحصها إلا من جهة الورود الظاهر بصيغة الأسماء البينة فوعيت منها جملة الحاضر الآن منها سبعة وستون اسماً: الرسول، المرسل، النبي الأمي, الشهيد، المصدق، النور، المسلم، البشير، المبشر، النذير، المنذر، المبين، الأمين، العبد، الداعي، السراج، المنير، الإمام، الذاكر، المذكر، الهادي، المهاجر، العامل، المبارك، الرحمة، الآمر، الناهي، الطيب، الكريم، المحلل، المحرم، الواضع، الرافع، المجير، خاتم النبيين، ثاني اثنين، منصور، أذن خير، مصطفى، أمين، مأمون، قاسم، نقيب، المزمل، المدثر، العلي، الحكيم، المؤمن، الرؤوف، الرحيم، الصاحب، الشفيع، المشفع، المتوكل، محمَّد، أحمد، الماحي، الحاشر، المقفي، العاقب، نبي التوبة، نبي الرحمة، نبي اللحمة، عبد الله. وبعد سرده لهذه الأسماء شرع في شرحها الواحد تلو الآخر. (¬2) الشغب بالتسكين تهييج الشر وهو شغب الجند ولا يقال شغب. صحاح الجوهري 1/ 157، اللسان 1/ 504. (¬3) العِنة والعُنة الإعتراض بالفضول. لسان العرب 13/ 290.

غوامض من أغراض هذا الكتاب، فإن وقَعت بالموافقة من رضَى الله تعالى، فهذا هو المطلوب الأكبر، ولعلّ من ينظر فيها يكون لنا عند الله حظاً به فيها، فربَ آخرٍ أربى على أولٍ، وإن كانت فيه وَهلة فمن غفار الذنوب. نسأل رفع التثريب واليقين من الترتيب، والفوز عنده بالمنزل الرحب القريب إنه سميع مجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. انتهى جميع الكتاب وكان الفراغ من نقده ونسخه في العشرين من جمادى الآخرة سنة اثنين وسبعين وثمانمئة مائة على يد العبد الفقير إلى الله تعالى، العبدَ الحقير المعترف بالعجز والتقصير الضعيف الفاني محمَّد بن سَالم الحسنائي الشافعي، غفر الله له ولمن ترحم عليه، وعلى جميع المسلمين. والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيَدنا محمَّد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وحسبنا الله تعالى وكفى. تم الكتاب بحمد الله

فهرس المراجع

فهرس المراجع المراجع المخطوطة إتحاف الخيرة بزوائد المسانيد العشرة. أحكام الآخرة لابن العربي، مخطوطه الخزانة العامة بالرباط رقم 928 ب. أحكام القرآن الصغرى لابن العرب، الخزانة العامة بالرباط رقم 274 ك. الأمد الأقصى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى. نسخة الخزانة العامة بالرباط رقم 8304. إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي لابن حجر العسقلاني، مصور عن المكتبة السليمانية بتركيا. رسالة المتبصر لابن العربي، مخطوطه الخزانة العامة بالرباط رقم 251 ك. رجال الموطّأ لابن ناصر. رسالة ابن الصلاح في وصل بلاغات مالك الأربع. سراج المهتدين، نسخة خاصة. شواهد الجلة والأعيان في مشاهد الإِسلام والبلدان. العلل للدارقطني، مخطوطه مكتبة الحرم المكي. غرائب حديث مالك للدارقطني. المحصول في علم الأصول. مكروفلم الخزانة العامة بالرباط رقم 1175. مختصر الموطأ للقابسي، الخزانة العامة بالرباط رقم 172. مختصر الكامل لابن عدي للمقريزي، خاص. معجم الصحابة للبغوي، توجد منه نسخة بمركز البحث العلمي بجامعة أم القرى. مسند الموطّأ للغافقي، مكتبة الحرم رقم 313. موطأ يحيى بن بكير، بالجامعة الإِسلامية رقم 568.

تفسير القرآن

موطّأ أبي مصعب الزهري، بالجامعة الإِسلامية رقم 1720. موطّأ ابن وهب، توجد قطعة منه بالجامعة الإسلامية. المقسط لابن العربي، بالخزانة العامة بالرباطا رقم 2963. المسالك على موطّأ مالك لابن العربي، نسخة مركز البحث العلمي بأم القرى. الوصول إلى معرفة الأصول، بالخزانة العامة بالرباط رقم 1175. وهج الجمر في تحريم الخمر لابن دحية، توجد منه نسخة بالمكتبة المحمودية بالمدينة. تفسير القرآن أضواء البيان: محمَّد الأمين الشنقيطي. مطبعة المدني بمصر. أحكام القرآن: لأبي بكر أحمد علي الرازي الجصاص (370): دار الكتاب العربي- بيروت. أحكام القرآن: لأبي بكر محمَّد عبد الله المعروف بابن العربي (543): عيسى الحلبي بمصر. أحكام القرآن: للكيا الهراسي (ت 504): دار الكتب الحديثة القاهرة. تفسير أبي السعود: أبو السعود بن محمَّد العمادي الحنفي (982): مكتبة الرياض- الرياض. تفسير ابن كثير: أبو الفداء إسماعيل بن كبير (774): عيسى البابي الحلبي بمصر. تفسير فتح القدير: محمَّد بن علي بن محمَّد الشوكاني (1250 هـ): البابي الحلبي وشركاه بمصر. الدرر المنثور في التفسير بالمأثور: لعبد الرحمن جلال الدين السيوطي (ت 911): دار الفكر. دفع إيهام الاضطراب عن آيات القرآن: محمَّد الأمين الشنقيطي- مطبعة المدني بمصر. زاد المسير: جمال الدين، أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمَّد بن الجوزي (597): المكتب الإِسلامي- بيروت. العمدة في غريب القرآن: مكي بن أبي طالب القيسي: مؤسسة الرسالة- بيروت. قانون التأويل: لابن العربي، تحقيق محمَّد السليماني: رسالة ماجستير- بجامعة أم القرى. بمكة المكرمة. مجاز القرآن: لأبي عبيد معمر بن المثنى التيمي (210 هـ): الخانجي بمصر. المحرر الوجيز: لأبي محمَّد عبد الحق بن عطية الأندلسي (541): وزارة الأوقاف بالمغرب.

كتب الحديث

مختصر ابن كثير: محمَّد علي الصابوني (معاصر): دار القرآن الكريم - بيروت. المرشد الوجيز في علوم تتعلق بالكتاب العزيز: لأبي شامة المقدسي. مشكل القرآن: لأبي محمَّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (276 هـ): دار التراث بالقاهرة. النسخ في القرآن الكريم: الدكتور مصطفى زيد: دار الفكر- بيروت. النشر في القراءات العشر: محمَّد بن محمَّد (ابن الجزري) (833): دار الباز- بمكة. النكت والعيون للماوردي: تحقيق/ د. عبد الستار أوغدة: وزارة الأوقاف بالكويت. نواسخ القرآن: لابن الجوزي- تحقيق محمَّد أشرف: رسالة ماجستير بالجامعة الإِسلامية، بالمدينة المنورة. كتب الحديث الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة: لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 هـ). بدائع المنن في ترتيب مسند الشافعي والسنن: أحمد عبد الرحمن البنا. بلوغ المرام في أدله الأحكام: للحافظ أحمد بن علي بن حجر (ت 852 هـ). تجريد التمهيد: لأبي عمر يوسف بن عبد البر (ت 463 هـ). تحفة الأشراف في معرفة الأطراف: لأبي الحجاج يوسف المزي (ت 742 هـ): الدار القيمة بالهند. الترغيب والترهيب: للحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت 656 هـ): مكتبة الرشاد- مصر. تصحيفات المحدثين: لأبي أحمد الحسن بن عبد الله العسكري (ت 382 هـ): تحقيق د. محمود أحمد ميرة: المطبعة الحديثة- بالقاهرة. تغليق التعليق: للحافظ ابن حجر: تحقيق د. سعيد عبد الرحمن موسى القزقي - المكتب الإسلامي. تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: لابن حجر: المكتب الإِسلامي. جامع الأصول في تخريج أحاديث الرسول: لأبي السعادات مبارك بن محمَّد ابن الأثير (ت 606 هـ): المكتب الإِسلامي. الدراية في تخريج أحاديث الهداية: لابن حجر: الفجالة الحديثة بمصر. سنن أبي داود: سليمان بن الأشعث (ت 275 هـ): دار الحديث- حمص- سوريا. سنن ابن ماجه: محمَّد بن يزيد القزويني (ت 275 هـ): دار إِحياء التراث- بيروت.

سنن الدارقطني علي بن عمر: (ت 385 هـ): دار المحاسن بالقاهرة. سنن الدارمي: دار المحاسن بالقاهرة. سنن النسائي: أحمد بن شعيب النسائي (ت 303 هـ) المكتبة العلمية- بيروت. سنن النسائي الكبير: الدار القيمة بالهند. السنن الكبرى: للبيهقي، أبي بكر أحمد بن الحسين (ت 458 هـ). سلسلة الأحاديث الصحيحة: للشيخ ناصر: المكتب الإِسلامي. شرح معاني الآثار: لأبي جعفر أحمد بن محمَّد سلامة الطحاوي الحنفي (ت 321 هـ): الأنوار المحمدية بالقاهرة. شرح السنة: لأبي محمَّد الحسين بن مسعود الفرّاء البغوي (ت 516 هـ) المكتب الإِسلامي. الشريعة: لأبي بكر الآجري. صحيح ابن خزيمة: محمَّد بن إسحاق بن خزيمة (ت 311 هـ): المكتب الإِسلامي. صحيح البخاري: محمَّد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ): دار إحياء التراث- بيروت. صحيح مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج (ت 261 هـ): دار إحياء التراث- بيروت. العلل المتناهية: لابن الجوزي: فيصل أباد - دار العلوم الأثرية. غريب الحديث: لابن الجوزي: دار الكتب العربية - بيروت. غريب الحديث: لأبي عبيد: دار الكتب العربية - بيروت. غريب الحديث: لأبي سليمان أحمد بن محمَّد بن إبراهيم الخطابي (ت 388 هـ): تحقيق عبد الكريم العزباوي: دار الفكر بدمشق. الفتح الرباني في ترتيب مسند أحمد بن حنبل الشيباني: لأحمد بن عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي: مطبعة الأخوان المسلمين بمصر. كشف الحثيث عمّن رُمي بوضع الحديث: لبرهان الدين الحلبي (ت 841 هـ) تحقيق صبحي السامرائي: وزارة الأوقاف- العراق. كشف الأستار عن زوائد مسند البزار: للهيثمي، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي: المكتب الإِسلامي - بيروت. كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال: علاء الدين الهندي (ت 975 هـ): مكتبة التراث الإِسلامي بحلب. اللباب في الجمع بين السنة والكتاب: لمحمد علي بن زكريا الـ (ت 686هـ): دار الشروق بجدة.

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807 هـ) الطبعة الثالثة، دار الكتاب العربي - بيروت (ت 707 هـ). 1967 م. المحلّى لابن حزم: محمَّد علي بن أحمد الأندلسي (م 456 هـ)، تحقيق أحمد شاكر، المكتب التجاري - بيروت. مرويات عبد الله بن مسعود في الكتب الستة: الدكتور الشريف منصور عون العبدلي، رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى، كلية الشريعة. المستدرك على الصحيحين في الحديث: لأبي عبد الله محمَّد بن عبد الله النيسابوري (م 405 هـ) الرياض- مكتبة النصر الحديثة. مسند الإمام أحمد بن حنبل: الإِمام أحمد بن حنبل (241 هـ): المكتب الإِسلامي، بيروت. مسند الشافعي: لأبي عبد الله محمَّد بن إدريس الشافعي (204): دار الكتب العلمية، بيروت. مسند الحميدي: لأبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي (219 هـ): تحقيق- حبيب الرحمن الأعظمي: عالم الكتب - بيروت. مسند أبي عوانة: أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الإسفرائيني (316) - دار المعرفة - بيروت. مسند الطيالسي: سليمان بن داود (ت 204): دار الكتاب اللبناني - بيروت. مشكاة المصابيح: لمحمد بن عبد الله الخطيب التبريزي (ت 516 هـ): المكتب الإسلامي - بيروت. مشكل الحديث: لأبي بكر محمَّد بن الحسن بن فورك (ت 406 هـ): دار الباز بمكة. مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه: للهيثمي، تحقيق المنتقى الكشناوي - دار المعرفة- بيروت. مصنف ابن أبي شيبة: عبد الله بن محمَّد بن إبراهيم الكوفي العبسي (م 235): تحقيق عامر العمرى الأعظمي: (بومباي: الدار السلفية). مصنف عبد الرزاق: لأبي بكر عبد الرزاق الصنعاني (211): تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإِسلامي، 1390 هـ. المعجم الكبير: لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (360 هـ) تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي: وزارة الأوقاف بالعراق. منحة المعبود في ترتيب مسند أبي داود الطيالسي: (سليمان بن داود) (204) تعليق: أحمد عبد الرحمن البنا: المكتبة الإِسلامية - بيروت.

كتب التاريخ والرجال

المنتقى من السنن المسندة: لأبي محمَّد عبد الله بن علي بن الجارود النيسابوري (307 هـ): المكتبة الأثرية بباكستان. موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: للهيثمي، تحقيق ونشر عبد الرزاق حمزة: المكتبة السلفية، بالروضة- مصر. موطأ مالك (برواية يحيى): الإِمام مالك ابن أنس- تعليق محمد فؤاد عبد الباقي: دار إحياء التراث - بيروت لبنان. موطّأ مالك (برواية علي بن زياد): الإِمام مالك بن أنس، تحقيق الشاذلي النيفر، دار القلم - بيروت. نظم المتناثر للكتاني: دار الكتب العلمية ببيروت. نصب الراية لأحاديث الهداية: لجمال الدين أبي محمَّد عبد الله بن يوسف الحنفي (م 762 هـ)، الطبعة الأولى: دار المأمون- مصر، 1257 هـ. كتب التاريخ والرجال أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض: لشهاب الدين أحمد بن محمَّد المقري، (ت 1041 هـ): اللجنة المشتركة لنشر التراث الإِسلامي بين المغرب ودولهُ الإمارات العربية المتحدة. أسد الغابة في معرفة الصحابة: لعز الدين أبي الحسن علي بن محمَّد المعروف بابن الأثير الجزري (ت 630 هـ) الشعب. الاستقصاء في أخبار دول المغرب الأقصا: لأبي العباس الناصري: دار الكتب- الدار البيضاء سنة 1954 م. الإصابة في تمييز الصحابة: لأبن حجر: دار إحياء التراث العربي - بيروت. الأعلام: لخير الدين الزركلي: دار العلم للملايين - بيروت. الأنساب: لأبي سعد عبد الكريم بن محمَّد بن منصور السمعاني (ت 562 هـ) دائرة المعارف بالهند، تحت مراقبة شرف الدين أحمد. برنامج الوادي آشي: لمحمد بن جابر الوادي آشي (ت 749)، تحقيق: د. محمَّد الحبيب الهيلة- نشر مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى. البيان المغرب في ذكر بلاد أفريقيا والمغرب: لابن عزارا المراكشي (ت بعد 712) دار المعرفة - بيروت.

تاريخ بغداد: للخطيب البغدادي (ت 463 هـ) دار الكتاب العربي - بيروت. تاريخ خليفة بن خياظ: تحقيق د. أكرم ضياء العمري، مؤسسة الرسالة ودار القلم. بيروت ودمشق. تاريخ الطبري. محمَّد بن جرير (ت 2310): تحقيق الأستاذ محمَّد أبو الفضل إبراهيم. دار المعارف بمصر. التاريخ الكبير: للبخاري: دار الكتب العلمية - بيروت. التاريخ الصغير: للبخاري: المكتبة الأثرية- بكستان. تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإِمام الأشعري: لأبي القاسم بن عساكر (ت 571 هـ) - دار القلم. ترتيب ثقات العجلي: للهيثمي - نشر دار الباز بمكة. ترتيب المدارك: للقاضي أبي الفضل عياض اليحصي (ت 544 هـ): منشورات دار مكتبة الحياة - بيروت. تقريب التهديب: لابن حجر: دار الباز بمكة. تهذيب الأسماء واللغات: للنووي: مكتبة إحياء التراث - بيروت. تهذيب التهديب: لأبن حجر: دار صادر، بيروت. تهذيب تاريخ ابن عساكر: للشيخ عبد القادر بدران (ت 1346 هـ): دار المسيرة. الجرح والتعديل: لمحمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت 327 هـ): دار الكتب العلمية بيروت. الجواهر المضيئة في تراجم الحنفية: للقرشي: حيدر أباد- بالهند، 1332 هـ. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء: لأبي نُعيم الأصبهاني (ت 430 هـ) دار الكتاب العربي- بيروت. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال: لصفي الدين الخزرجي- الفجالة، 1932 م. الحلل الموشية في ذكر أخبار الدولة المراكشية: لمؤلف مجهول. تحقيق: سهيل زكار وعبد القادر زمانُه. دار الرشاد بالمغرب. حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة: للسيوطي. تحقيق أبي الفضل إبراهيم .. دار الكتب العربية- بالقاهرة. درة الحجال في أسماء الرجال: لأبي العباس أحمد بن محمَّد المكناسي (ت 1025 هـ) تحقيق د. الأحمدي أبي النور. دار التراث- بالقاهرة.

الديباج المذهّب في معرفة أعيان المذهب: لابن فرحون المالكي (ت 799 هـ) تحقيق. د. الأحمدي أبو النور - دار التراث- بالقاهرة. الذخيرة في محاسن الجزيرة: لابي الحسن علي بن بسّام (ت 542 هـ)، تحقيق د. إحسان عباس، دار الثقافة - بيروت. شجرة النور الزكية في طبقات المالكية: لمحمد بن محمَّد مخلوف: دار الكتاب العربي- بيروت. شذرات الذهب في أخبار من ذهب: لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي (ت 1089) المكتب التجاري للطباعة - بيروت. صفوة الصفوة: لابن الجوزي - دار المعرفة - بيروت. الضعفاء الكبير للعقيلي: محمَّد بن عمرو بن موسى العقيلي المكى (ت 322 هـ): دار الكتب العلمية- الطبعة الأولى. الضعفاء والمتروكون: للنسائي- حلب. طبقات الشافعية الكبرى: لتاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي السبكي (ت 771 هـ) تحقيق د. محمود محمَّد الطناحي، د. عبد الفتاح الحلو: عيسى البابي الحلبي وشركاه بالقاهرة- الطبعة الأولى. طبقات الشافعية: لأبي بكر بن أحمد بن محمَّد بن قاضي شهبة الدمشقي (ت 851 هـ): تعليق د. عبد العلم خان، حيدر أباد الدكن- الهند. طبقات الشافعية: لأبي بكر بن هداية الله الحسيني (ت 1014 هـ): تحقيق عادل نويهض، دار الآفاق الجديدة - بيروت. طبقات الفقهاء: لأبي إسحاق الشيرازي (ت 476 هـ) تحقيق د. إحسان عباس، دار الرائد العربي. طبقات الحنابلة: للقاضي أبي الحسين محمَّد بن أبي يعلى: دار المعرفة - بيروت. طبقات القراء الكبار للذهبي: طبقات المفسرين: لشمس الدين محمَّد بن علي بن أحمد الداودي (ت 945 هـ): دار الكتب العلمية. طبقات المفسرين: للسيوطي: مكتبة وهبة- القاهرة. العبر للذهبي: دار الكتب العلمية - بيروت. عصر المرابطين والموحدين في الأندلس: لعبد الله عنان: لجنة التأليف والنشر بالقاهرة.

عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء ببجّاية: لأبي العباس الغبريني أحمد بن أحمد بن عبد الله (ت 714 هـ) حققه وعلَّق عليه: عادل نويهض. دار الآفاق الجديدة - بيروت. غاية النهاية في طبقات القراء: لشمس الدين أبي الخير محمَّد بن محمَّد بن الجزري (ت 833 هـ) الطبعة الثانية 1400 هـ: دار الكتب العلمية - بيروت. فهرست ابن خير أبي بكر محمَّد بن خير: (ت 575). مؤسسة الخانجي بالقاهرة. فهرس ابن غازي محمَّد بن غازي المكناسي: تحقيق محمَّد الزاهي- الدار البيضاء. فهرس الفهارس: لعبد الحي بن عبد الكبير الكتاني، باعتناء د. إحسان عباس. الفكر السامي في تاريخ الفقه الإِسلامي: لمحمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي (ت 1376 هـ). الفوائد البهية في تراجم الحنفية: لأبي الحسنات محمَّد بن عبد الحي اللكنوي الهندي (ت 1304 هـ): دار المعرفة - بيروت. كشف الظنون في أسماء الكتب والفنون: للمولى مصطفى عبد الله المعروف بحاجي خليفة - دار الفكر. الكامل في ضعفاء الرجال: لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني (ت 365 هـ): دار الفكر - بيروت. الكاشف عن رجال الكتب الستة: للذهبي، تحقيق عزت عيد عطية وموسى محمَّد علي الموشي: دار النصر للطباعة- القاهرة. لسان الميزان: لابن حجر: دائرة المعارف النظامية بحيدرآباد الدكن- الهند. مأساة انهيار الوجود العربي بالأندلس: لعبد الكريم التواتي: مكتبة الرشاد- الدار البيضاء. مرآة الجنان وعدة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان: مؤسسة الأعظمي- 1970 م - بيروت. المجروحون: محمَّد بن حبان البستي (ت 354 هـ) دار الوعي بحلب. المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا: لايي الحسن بن عبد الله النباهي (ت 713 هـ) - المكتب التجاري - بيروت. مشاهير علماء الأمصار: لابن حبان - دار الكتب العلمية - بيروت. المعجب في تلخيص أخبار المغرب: لعبد الواحد المراكشي (647): المجلس الأعلى للشؤون الإِسلامية- القاهرة.

كتب مصطلح الحديث

المغرب في حلى المغرب: لابن سعيد: دار المعارف بالقاهرة. تحقيق د. شوقي ضيف. مقدمة ابن خلدون: (ت 807 هـ). عبد الرحمن بن محمَّد بن خلدون: دار الباز بمكة المكرمة. المعجم: محمَّد بن عبد الله القضاعي، المعرف بابن الأبار: دار الكتاب العربي- القاهرة. معجم البلدان: شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي (626 هـ): دار صادر بيروت. المغني في الضعفاء: لأبي عبد الله محمَّد بن أحمد بن عثمان الذهبي (748 هـ): تحقيق الدكتور نور الدين عتر. المنتظم: لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي (ت 597 هـ) حيدر آباد الدكن- الهند. المعارف: لأبي محمَّد عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 هـ): دار المعارف- القاهرة. معجم المؤلفين: لعمر رضا كحالة: دار إحياء التراث العربي - بيروت. ميزان الاعتدال في معرفة الرجال. للذهبي- عيسى البابى الحلبي- القاهرة. نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب: للمقري: تحقيق د. إحسان عباس: دار صادر- بيروت. وفيات الأعيان: لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمَّد بن خلّكان (ت 681 هـ)، تحقيق د. إحسان عباس: دار صادر: بيروت. كتب مصطلح الحديث الباعث الحثيث في شرح اختصار علوم الحديث: لأبي الفداء إسماعيل بن كثير - دار الكتب العلمية - بيروت. بحوث في تاريخ السنة: الدكتور أكرم ضياء العمري: مؤسسة الرسالة - بيروت. تدريب الراوي (في شرح تقريب النواوي): جلال الدين عبد الرَحمن السيوطي - دار إحياء السنة النبوية - بيروت.

كتب شروح الحديث

توضيع الأفكار: محمَّد بن إسماعيل الأمير الحسني الصنعاني (1182 هـ): دار إحياء التراث. فتح المغيث شرح ألفية الحديث: محمَّد عبد الرحمن السخاوي (ت 902 هـ): المكتبة السلفية بالمدينة. نخبة الفكر: لشهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني - المكتبة العلمية بالمدينة. النكت على كتاب ابن الصلاح: لابن حجر: المجلس العلمي بالجامعة الإِسلامية- بالمدينة. كتب شروح الحديث أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: لتقي الدين أبي الفتح ابن دقيق العيد (ت 702 هـ) دار الباز بمكة. أوجز المسالك إلى موطّأ مالك: لمحمد زكريا الكاندهلوي: دار الفكر - بيروت. الاستذكار لما في الموطأ من المعاني والآثار: لأبي عمر يوسف بن عبد البر: المجلس الأعلى للشؤون الإِسلامية بالقاهرة. تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: لمحمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المبارك فوري: (ت 1253 هـ): دار الفكر - بيروت. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: لابن عبد البر: وزارة الأوقاف بالمغرب. تهذيب السنن: لمحمد بن أبي بكر بن القيم الجوزية (ت 751 هـ): مكتبة السنة المحمدية بمصر تحقيق: محمَّد حامد الفقي. تنوير الحوالك على موطّأ مالك: لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي: دار الباز بمكة المكرمة. حاشية السندي على ابن ماجه: محمَّد بن عبد الهادي الحنفي (ت 1138هـ): دار الفكر - بيروت. شرح إكمال إكمال المعلم: لأبي عبد الله محمَّد بن خلفة الوشتاني (ت 827 هـ) مطبعة السعادة بمصر. شرح الزرقاني: لمحمد بن عبد الباقي الزرقاني (ت 1113هـ) عيسى البابي الحلبي بالقاهرة.

كتب الفقه

شرح النووي على مسلم: يحيى بن شرف النووي (ت 677 هـ) - المطبعة المصرية ومكتبتها. عارضة الأحوذي بشرح الترمذي: لأبي بكر بن العربي: دار المعارف - بيروت. عون المعبود شرح سنن أبي داود: لشمس الحق العظيم أبادي: المكتبة السلفية بالمدينة. المسوى في شرح الموطّأ: لولي الله الدهلوي (ت 1176 هـ) دار الباز. المنتقى: لأبي الوليد سلمان بن خلف الباجي (ت 494 هـ): دار الكتاب العربي. المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود: محمود محمَّد خطاب السبكي: مطبعة الاستقامة- بالقاهرة. فتح الباري في شرح صحيح البخاري: لابن حجر: المكتبة السلفية ومكتبتها بمصر. نيل الأوطار في شرح منتقى الأخبار: محمَّد بن علي الشوكاني: البابي الحلبي، القاهرة. كتب الفقه إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: محمَّد ناصر الدين الألباني (معاصر): المكتب الإِسلامي، بيروت 1399 هـ، الطبعة الأولى. الإجماع: لأبي بكر بن محمَّد بن إبراهيم النيسابوري (ت 318 هـ)، تحقيق أبي حماد: دار طيبة، 1402 هـ بالرياض. الإشراف على مسائل الخلاف: لأبي بكر السابق: دار طيبة بالرياض. إعلام الموقعين: لشمس الدين أبي عبد الله محمَّد بن أبي بكر بن قيم الجوزية. شركة مصطفى الحلبي، 1390 هـ، مصر. الإفصاح عن معاني الصحاح: عون الدين أبي المظفر يحيى بن محمَّد (650 هـ): المؤسسة السعودية بالرياض. الأُم: لأبي عبد الله محمَّد بن إدريس الشافعي دار المعرفة: بيروت. بداية المجتهد ونهاية المقتصد: لأبي الوليد محمَّد بن أحمد بن محمَّد (ت 595 هـ): مصطفى الحلبي: 1379 هـ بمصر. بدائع الصنائع: علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاشاني: زكريا علي يوسف- مصر.

البناية شرح الهداية: لبدر الدين أبي محمَّد محمود بن أحمد العيني (ت 855 هـ): الطبعة الأولى: دار الفكر 1400 هـ، بيروت. روضة الطالبين: لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي: المكتب الإِسلامي - بيروت. زاد المعاد في هدى خير العباد: لشمس الدين أبي عبد الله محمَّد بن أبي بكر بن قيم الجوزية مطبعة السنة المحمدية- مصر. الفتاوي الكبرى: لشيخ الإِسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت 728 هـ): الرياض 1389 هـ. فتح القدير: لكمال الدين محمَّد بن عبد الواحد السيواسي السكندري (ت 861 هـ). الطبعة الأولى: مصر: مصطفى الحلبي، 1389 هـ. فقه أبي ثور: لسعدي حسين علي- مؤسسة الرسالة - بيروت. المبدع في شرح المقنع: لأبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمَّد بن عبد الله بن مفلح الحنبلي (ت 884 هـ): المكتب الإِسلامي - بيروت. المبسوط: لأبي بكر محمَّد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي (ت 490 هـ) - بيروت: دار المعرفة. السيل الجرّار: لمحمد بن علي بن محمَّد الشوكاني: مصر- المجلس الأعلى للشؤؤن الإسلامية. المجموع شرح المهذب: لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي دار الفكر: بيروت. المدوّنة: للإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ): دار صادر - بيروت. مختصر خليل (مع شرحه مواهب الجليل): لمحمد عبد الرحمن المغربي، المعروف بالحطاب، (ت 954 هـ): دار الفكر - بيروت. مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج: لمحمد بن أحمد الخطيب الشربيني، (ت 977 هـ): مصطفى الحلبي- مصر. المغني لابن قدامة: أبو محمَّد عبد الله بن أحمد بن محمَّد (ت 620 هـ): مكتبة القاهرة- مصر. مقدمات ابن رشد: لأبي الوليد محمَّد بن أحمد بن رشد (ت 520 هـ): دار صادر- بيروت.

كتب في الأصول

كشّاف القناع: لمنصور بن يونس البهوتي (ت 1051 هـ): مطبعة الحكومة بمكة. الكافي: لابن عبد البر. تحقيق د. محمَّد محمَّد أحيد: مكتبة الرياض الحديثة. كتب في الأصول إرشاد الفحول: للشوكاني. التمهيد في تخريج الفروع على الأصول: لجمال الدين أبي محمَّد عبد الرحيم الإسنوي (ت 772 هـ) تحقيق د. محمَّد حسن هيتو: مؤسسة الرسالة. الرسالة: للإمام الشافعي. تحقيق أحمد شاكر. شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في علم الأصول: لشهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي (ت 684 هـ) تحقيق طه عبد الرؤوف: دار الفكر- بيروت. المنخول من تعليقات الأصول للغزالي: تحقيق د. محمَّد حسن هيتو - دار القلم. نشر البنود على مراقي السعود: للعلامة السيد عبد الله إبراهيم العلوي: اللجنة المشتركة بين المغرب ودولة الإمارات لنشر التراث. كتب العقيدة إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين: لمحمد بن محمَّد الحسين الزبيدي: دار إحياء التراث - بيروت. إحياء علوم الدين: لأبي حامد محمَّد بن محمَّد الغزالي (ت 505 هـ) دار المعرفة ببيروت. أصول اعتقاد أهل السنة: لأبي القاسم اللالكائي (ت 418 هـ): تحقيق الدكتور أحمد سعد حمدان، دار طيبة. الشرح والإبانة على أصول السنَّة والديانة: لعبيد الله محمَّد بن بطة (ت 387 هـ): تحقيق الدكتور رضا نعسان: المكتبة الفيصلية بمكة. شرح العقيدة الطحاوية: للإمام علي بن علي بن محمَّد (ت 792 هـ): الناشر: المكتب الإِسلامي بدمشق. العواصم من القواصم: لأبي بكر بن العربي: تحقيق محب الدين الخطيب: مكتبة أسامة بن زيد.

كتب اللغة

الفَرْق بين الفِرَق للبغدادي: عبد القادر بن طاهر البغدادي (ت 429 هـ): دار المعرفة- بيروت. كتب اللغة أساس البلاغة: لجار الله محمود بن عمر الزمخشري- مطبعة دار الكتب- مصر. البيان والتبيين: لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ): المكتبة التجارية 1345 هـ، مصر. بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: للسيوطي: طبع عيسى البابي الحلبي- مصر. تاج العروس: لأبي الفيض السيد محمَّد مرتضى الحسيني الزبيدي. الطبعة الأولى. المطبعة الخيرية، 1306 هـ - مصر. ترتيب القاموس: للطاهر أحمد الزواوي: دار الكتب العلمية - بيروت. الدراسات اللغوية في الأندلس: لرضا عبد الجليل: دار الرشيد بالعراق. شرح التسهيل لابن عقيل: تحقيق د. محمَّد كامل بركات: دارالمدني بجدة. الصحاح: لإسماعيل بن حماد الجوهري. تحقيق أحمد عبد الغفور عطّار - دار العلم للملايين - بيروت. لسان العرب: لأبي الفضل جمال الدين محمَّد بن مكرم بن منظور الأفريقي (ت 711 هـ): بيروت: دار صادر. مختار القاموس: للطاهر أحمد الزواوي: دار الكتب العلمية ببيروت. المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم: لأبي البقاء عبد الله بن الحسين البكري الحنبلي (ت 616 هـ): تحقيق: ياسين محمَّد السوّاس- مركز البحث العلمي- جامعة أم القرى 1403 هـ. المقتضب: لأبي يزيد المبرد (ت 285 هـ): المجلس الأعلى للشؤون الإِسلامية- بمصر.

§1/1