الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب
حمد بن ناصر آل معمر
بيانات الكتاب
بيانات الكتاب عنوان الكتاب: الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب تأليف: حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر (ت 1225 هـ) تقريظ: الشيخ العلامة الجليل صالح بن إبراهيم البليهي دراسة وتحقيق: عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم الناشر: دار العاصمة الطبعة: الأولى عدد المجلدات: [1] مصدر الكتاب: موقع المكتبة الرقمية على الإنترنت [ملاحظات بخصوص الكتاب] 1 - غير مقابل 2 - تم الحفاظ على ترقيم الكتاب مع إعادة ضبط بعض الصفحات (*) اعتنى به أسامة بن الزهراء - عفا الله عنه - عضو في ملتقى أهل الحديث
تقريظ الشيخ العلامة الجليل صالح بن إبراهيم البليهي
تقريظ الشيخ العلامة الجليل صالح بن إبراهيم البليهي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله. صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد، فمن المعروف بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- يعتبر من المجددين لدين الإسلام. وكذلك أولاده وأحفاده وتلامذة الجميع قاموا بما قام به ودعوا إلى ما دعا إليه من توحيد الله وإفراده بالعبودية بجميع أنواعها. ومن تلامذته عالم فاضل متبحر في فنون العلم هذا العالم هو "حمد بن ناصر بن عثمان آل معمر" -رحمه الله- هذا العالم الذي هو من فطاحلة العلماء له أجوبة سديدة وحكيمة في الرسائل المشهورة التي رتبها الشيخ عبد الرحمن بن قاسم -رحمه الله-. وله رسالة جيدة ونافعة ومفيدة ينبغي لطالب العلم أن يقرأها ويتأملها جيداً لما فيها من العلم النافع. هذه الرسالة أسماها "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب" وسبب كتابة الرسالة هو أن غالباً الشريف أمير مكة أرسل إلى الإمام عبد العزيز بن سعود يطلب منه أن يرسل إليه من العلماء لديه من يناظر علماء الحرم. وذلك في سنة 1211هـ وحيث إن هذه مهمة عظيمة ولها نتائجها ولها
ما بعدها أرسل إليه الإمام عالماً متضلعاً ومتبحراً في فنون العلم: وخاصة علم العقائد والتوحيد هو "حمد بن ناصر آل معمر". فلما وصل حمد بن ناصر مع رفقائه إلى مكة وقضوا عمرتهم، جمع الشريف علماء مكة ثم جرت المناظرة في جلسات عديدة. وحضر هذه المناظرة من أهالي الحجاز الخلق الكثير. والجم الغفير: وبعد مساجلات وأخذ ورد ومناظرات حارةٍ طار شررها: وثار دخانها بعد ذلك كانت أعلام النصر ترفرف في جانب الشيخ حمد بن معمر: حيث ظهر على المناظرين: بالدليل والبرهان: والحجة والبيان: وهكذا كان وهكذا يكون كل من كان في جانب الحق سوف يعلوا وسوف يكون مرفوع الرأس وسوف ينتصر: وسوف يكون غلاباً لخصمه. تحقيقاً لقوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} . ومما جرى في جلسات المناظرة أن علماء مكة من الحنفية والمالكية والشافعية سألوا حمد بن ناصر عن مسائل عديدة فأجابهم عن ثلاث مسائل. أجابهم بما يشفي العليل ويروي الغليل. ويزيل الشبهات. ويحرق المغالطات: وقال إذا أجبتم على هذه المسائل الثلاث أجبناكم عن بقية المسائل: كما قيل ويقال ليس الخبر كالعيان بعد ذلك أفسح المجال للقارئ الكريم ليقرأ المسائل الثلاث ويقرأ جوابها: حيث كانت بين يديه والله الموفق والهادي إلى طريق الرشاد. وبعدما تقدم أقول للقراء الأفاضل لنا جميعاً أخ في الله هو الأستاذ عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم. وفيما أعتقد أنه وفقه الله فكر في موضوع ما فكر فيه غيره وقد تحققت فكرته المباركة بالعمل وها هو سدد الله خطاه في بداية الطريق
هذه الفكرة هي إيجاد وإظهار الكتب والرسائل التي كتبها علماء الدعوة السلفية: وهم شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وتلامذته وتلامذة التلاميذ فقام الأستاذ عبد السلام بنشر هذه الرسائل وتحقيقها وتخريج أحاديثها. وترقيم الآيات القرآنية الموجودة فيها وما ذاك إلا لأن الكتب والرسائل التي كتبها هؤلاء العلماء الأفاضل أكثر العلماء وطلبة العلم الذين درسوا في المعاهد والكليات والجامعات والمتوسطات والثانويات، لا يعرفون عن هذه الكتب القيمة شيئاً. وهي من تراثنا النفيس الغالي فجزى الله الأخ الفاضل الأستاذ عبد السلام بن برجس خير جزاء وأثابنا الله وإياه ثواب المحسنين والمصلحين ورزقنا الله وإياه الإخلاص في النية والقول والعمل. وأول رسالة حققها الأخ عبد السلام وخرّج أحاديثها وأبرزها للوجود هي دحض شبهات على التوحيد للشيخ العلامّة مفتي الديار النجدية في زمنه عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين. والرسالة الثانية التي حققها الأخ عبد السلام هي سؤال وجواب في أهم المهمات للشيخ عبد الرحمن بن سعدي. والرسالة الثالثة هي تحقيق الكلام في مشروعية الجهر بالذكر بعد السلام للعالم العلامة سليمان بن سحمان. والرسالة الرابعة التي هي الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب للشيخ العلامة ابن معمر وهي التي بين يدي القارئ. فجزى الله الأخ عبد السلام عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأعظم الله لنا وله الأجر والثواب.
وهكذا ينبغي لطلاب العلم أن ينزلوا إلى ميادين العلم ليستفيدوا ويفيدوا أمة الإسلام بما ينفعها في عقائدها وأحكام دينها. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال ذلك وأملاه الفقير إلى الله صالح بن إبراهيم البليهي. الجمعة 20/ 7/ 1407هـ.
مقدمة المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المحقق الحمد لله الذي أرسل رسله مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب والموازين، لتقوم الحجة على جميع العالمين، وليتميز حزب الله من حزب الشياطين. أحمده سبحانه على ما أولانا من النعم الظاهرة والباطنة، ودفع عنا من الشرور والنقم المتغايرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الحمد في الأولى والآخرة، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمد الذي محا الله به عبادة الأوثان والأشجار والأصنام، وأزال به معالم الكفر والفجور والأنصاب والأزلام، وأبطل به ما عليه أهل الجاهلية من ظلم وإجرام، فأشاد الله به الحنيفية ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بعد أن أضحت مطموسة الأعلام، ووعده بحفظها ونشرها على مدى السنين والأيام، فأيّده بالقرآن الذي فيه الهدى والبيان والشفاء للأسقام، وآتاه معه جوامع النطق والكلام، فأزكى الله وأتمّ سلامة عليه وعلى أصحابه الأجلاّء الكرام، الذين حقّقوا التوحيد وقاموا به حق القيام، وناضلوا عنه بكل ما أتوا من قوة وحسن خصام، وحاربوا من حد وانحرف عنه وصرف العبادة لغير الملك العلاّم حتى استقام عليه الحاضر والباد كما ينبغي ويرام فلا ترى في وقتهم من يهرع إلى أصحاب القبور في المُدْلهمّات الجسام، ولا من يفزغ إلى الدعاء والتوسل بالأنبياء والصالحين في النكبات العظام، ولا
من يُشِيد القبور بالقباب والحرير والرّخام، فرضي الله عنهم كما حفظوا لنا دين الإسلام، ورضي الله عمّن اتبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم القيام. أما بعد، فهذه هي الرسالة الثانية من سلسلة رسائل وكتب علماء نجد الأعلام، وهي من كتابات الشيخ العالم العلاّمة حمد بن ناصر آل معمر -رحمه الله تعالى- اسمها "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب". وهذه الرسالة فريدة في بابها، بديعة في أسلوبها وخطابها، مهذّبة ومنقّحة لطلاّبها، اشتملت مع صغر حجمها على تقرير التوحيد، ونقض جذور الشرك والتنديد، وذلك بالأدلّة الواضحة من الكتاب والمجيد، ومن صحيح سنة أفضل الخلق والعبيد -صلى الله عليه وسلم- فهي رسالة جديرة بالاهتمام، رفيعة القدر والمقام، ينبغي أن يستعين بها الطلاّب، وأن لا يرغب عنها العلماء أولو الألباب.
النسخ المعتمد عليه في التحقيق
النسخ المعتمد عليه في التحقيق توفر لدي عند الشروع في تحقيق هذا الكتاب عدة نسخ: الأولى: نسخة خطية محفوظة في مكتبة الرياض السعودية تحت رقم "86/ 613" تقع في أربع وعشرين لوحة. وهي نسخة حسنة الخط، لم يذكر فيها اسم الناسخ، ولا تاريخ النسخ. لكن ذكر الناسخ ما يدل على أنها كتبت في عهد الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود -رحمه الله- وذلك في قوله: " ... طلب غالب والي مكة المشرفة من عبد العزيز بن محمد بن سعود والي نجد، متعنا الله بحياته ... " فعلى هذا تكون هذه النسخة قد كتبت في حياة المؤلف -رحمه الله- لأن الإمام عبد العزيز توفي سنة "1218هـ" وتوفي المؤلف بعده بسبع سنين فهذه النسخة كتبت قطعاً قبل سنة "1218هـ" والرمز إلى هذه النسخة بحرف "أ". الثانية: نسخة خطية أيضاً محفوظة في مكتبة الرياض السعودية تحت رقم "86/ 607" تقع في خمس وعشرين لوحة. وهي نسخة حسنة الخط، كثيرة الأخطاء الإملائية، كتبت بخط المسمّى "عبد الله بن أحمد" ولم يذكر ناسخها تاريخ النسخ. وهذه النسخة كتبت بعد وفاة الإمام بعد العزيز بن محمد أي بعد سنة "1218" كما يشعر بذلك قول الناسخ: " ... والي نجد -رحمه الله- وتغمده برحمته ... " والإشارة إلى هذه النسخة بحرف "ب".
الثالثة: النسخة المطبوعة في مطبعة المنار بمصر سنة "1344هـ" ضمن كتاب الشيخ العلامة سليمان بن سحمان "الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية". وهناك نسخة رابعة طبعت في الرياض قديماً بمطبعة "النور" وهي صورة من النسخة الثالثة تماماً. تنبيه وقع في جميع النسخ غلط في اسم المؤلف حيث كتب "أحمد" والصواب "حمد" ووقع في "ب" و"المطبوعة" "المعمري" والصواب "المعمّر" بدون ياء النسب.. تنبيه ثان: نظراً لكثرة الأغلاط الإملائية في نسخة "ب" والزيادات التي تكون غالباً من النساخ كـ"سبحانه" عند لفظ الجلالة و"رضي الله عنه" عند ذكر الصحابة وما شابه ذلك مما لا أثر له لم أذكر تغاير النسخ فيه.
ترجمة المؤلف
ترجمة المؤلف (1) هو الإمام العالم العلاّمة، الحبر البحر الفهامة، المحقق المجتهد، الحافظ المتفنن، قامع المشبهين، ورافع راية الموحدين، الشيخ الجليل، المدقق النبيل، حمد بن ناصر بن عثمان بن حمد بن عبد الله بن محمد (2) بن حمد بن حسن بن طوق بن سيف آل معمّر (3) العنقري السَّعدي (4) التميمي النجدي الحنبلي. وحسن بن طوق هذا هو الذي نزح من "ثرمداء" إلى "ملهم" ثم أتى إلى "العيينة" وكان فيها آل يزيد من بني حنيفة فاشتراها منهم عام "850هـ" واستوطنها هو وأولاده. وما زالت تنمو شيئاً فشيئاً حتى بلغت الذروة -بين بلدان نجد- في التقدم العمراني وكثرة السكان
والحركة التجارية والعلمية لا سيما في زمن الأمير -عبد الله بن محمد بن معمر- كما قاله ابن بشر في عنوان المجد. وذكر الشيخ الفاضل عبد الله بن بسام -حفظه الله- في كتابه علماء نجد "1/ 239" أن بين المترجم له، وحسن بن طوق قرابة من عشرة أجداد لم يستطع العثور على أسمائهم. هكذا قال: والصواب أن بينه وبين حسن خمسة أجداد، وأسماؤهم معروفة، وقد أثبتها من شجرتنا "آل عبد الكريم"، ومن كبار أسرة "آل معمّر". ولد هذا العالم الجليل في مدينة "العيينة" سنة "1160هـ" وكانت يومؤذ أكبر مدن نجد، كما أنها بلد عشيرته آل معمّر -حكّام العيينة- فكان من بيت حكم وإمارة. ومن المعلوم أن العيينة بعد قيام دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب تأثرت بدعوته، وصار فيها أناس من أنصار منهجه، فنشأ المترجم فيها وأخذ العلم عن علمائها الذين هم أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب. ولما شبّ رغب في التزود من العلم فرحل إلى "الدرعية" مقرّ دعوة شيخ الإسلام. ولازم فيها شيخ الإسلام ملازمة الظل، فانتفع بذلك أعظم الإنتفاع، كما أخذ العلم عن غيره من علماء الدرعية كالشيخ سليمان بن عبد الوهاب، والشيخ حسين بن غنام. وثابر على تحصيل العلم بجد واجتهاد، ووافق ذلك منه فهماً جيداً، وذكاء حاداً، وحفظاً قوياً، فبرز في العلوم الشرعية عامة، وأدرك في العلوم العربية إدراكاً جيداً، وبلغ مبلغاً كبيراً حتى صار من أكابر علماء نجد، ومن أوسعهم إطلاعاً، وأطولهم باعاً، وأجوبته أكبر شاهد على ذلك.
قال ابن قاسم: بلغ في العلوم العقلية والنقلية مبلغاً، له اليد الطولي في الأصول، والفروع، والحديث، واللغة العربية، وغيرها، قليل المثل في الديانة والعبادة، جمع أنواع المحاسن والمعالي، قرن بين خلتي العلم والحلم، والحسب والنسب، والعقل والفضل، والتدريس والتصنيف، والفتاوى والنصائح، أوحد العصر في أنواع الفضائل، مجالسه بالعلم معمورة، وبالفقهاء مشحونة، وأوقاته بالخير مقرونة، وأخلاقه بالذكاء مشهورة، اهـ. قال ابن بسام فلما بلغ هذا المبلغ الكبير من العلم، جلس للتدريس في مدينة الدرعية الزاهية بالعلماء والآهلة بالطلاب، والمستمعين، فنفع الله تعالى بعلمه خلقاً كثيراً، واستفاد منه جم غفير، فصار من طلابه النابهون ابنه الشيخ عبد العزيز بن معمر -صاحب كتاب "منحة القريب المجيب في الردّ على عباد الصليب"-، والشيخ المحدّث الفقيه العلاّمة سليمان بن عبد الله آل الشيخ، والشيخ العلاّمة الإمام عبد الرحمن بن حسن، والشيخ المحقق الجليل عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين، والشيخ عبد العزيز بن حمد بن مشرّف، والشيخ عثمان بن عبد الجبار بن شبانة، والشيخ علي بن حسن اليماني، والشيخ جمعان بن ناصر، وغيرهم من العلماء. كما قصد بالأسئلة والفتاوى من أنحاء الجزيرة العربية فأجاب عنها الأجوبة المحررة السديدة التي تدل على العلم الواسع، والفقه النقي، والباع الطويل في
جميع العلوم الشرعية فجاءت في فتاويه ورسائله فوائد زائدة عما كتبه من قبله من الفقهاء تنبئ عن حسن تصرف، وجمال تخريج على كلام العلماء الذين سبقوه، ففتاويه ورسائله لو جمعت لجاءت سفراً كبيراً مفيداً، ولكنها طبعت مفرقة مع فتاوى ورسائل علماء نجد، اهـ. وقال محمد بن عثمان القاضي: وكان ذا مكانة مرموقة، وله شهرة بلغت الآفاق، ولكلمته نفوذ، وكان واعظ زمانه، ولمواعظه وقع في القلوب، غزير الدمعة لا تفارق خدّه ... وكان يعظ الناس أدبار الصلوات في الدرعية وفي الحجاز مدة إقامته فيه، ويأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، والولاة يشدّون من أزره، ونفع الله به أمماً لا يحصون، ومحا بدعاً كانت في الحجاز، فهدم الشريف قباباً كانت على القبور بسبب إرشاداته القيمة، وله هيبة، ولكلامه وقع في القلوب، اهـ. قال الشيخ ابن بسام -حفظه الله- حدثني وجيه الحجاز الشيخ السلفي محمد بن حسين نصيف قال حدثني رجل ثقة من آل عطية من أهل جدة عن أبيه قال: جمعنا في مسجد عكاشة حينما قدم حمد بن ناصر بكتاب الصلح بين سعود وغالب فصعد المنبر وخطب خطبة بليغة تدور حول تحقيق التوحيد وإخلاص العبادة، ثم حذّر من ترك الصلوات، وأمر بأدائها في المساجد، ونهى عن شرب الدخان، وبيعه وتعاطيه، كما أمر بهدم القباب التي على القبور، وأمر بالحضور إلى المساجد لسماع رسائل الشيخ محمد بن عبد الوهاب فامتثل الناس هذا كله، فصرتَ لا ترى الدخان لا استعمالاً ولا بيعاً، وصارت المساجد تزدحم بالمصلين وهدمت القباب التي على القبور، وصار الناس يحضرون لسماع الدرس، اهـ.
وقد كان موضعَ الثقة من الأمراء، فقد بعثه الإمام عبد العزيز عام "1211هـ" إلى الشريف غالب أمير مكة -وقد تقدم ذكر سبب هذه البعثة وما دار فيها-. ولولا مكانته العلمية، وعقليته الراسخة، ما اختاره الإمام عبد العزيز وأيده علماء الدرعية على أن يكون السفير الكبير في هذه المهمة العظيمة، فصار يجادل العلماء بمذاهبهم، ويرد عليهم من كتبهم، وأقوال أئمتهم. وفي سنة "1222هـ" بعثه الإمام سعود رئيساً لقضاة مكة المكرمة فمكث يقضي، وسدد في أحكامه، وظل في منصبه حتى توفاه الله في العشر الأوسط من ذي الحجة سنة "1225هـ" في مكة، وصلى عليه المسلمون تحت الكعبة المشرّفة، ثم خرجوا به من الحرم إلى البيضية، وخرج الإمام سعود بن عبد العزيز من القصر وصلى عليه بعدد كثير ودفن في مكة، اهـ. من ابن بشر كما في الروضة.
وجد بأول النسخ ما نصه (1) : بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين (2) الحمد لله الذي نصر الدين، بالحجة والسيف والتمكين، وجعل لدينه من ينفي (3) عنه غلو الغالين، وتحريف المحرفين، بالدلائل (4) القاطعة والبراهين. أما بعد، فلما كان في السنة الحادية عشر بعد المائتين والألف من هجرته صلى الله عليه وسلم طلب غالب والي مكة المشرفة من عبد العزيز بن محمد بن سعود والي نجد متعنا الله بحياته (5) أن يبعث إليه عالماً من علمائه، وليناظر علماء الحرم الشريف في شيء من أمور الدين. فبعث إليه عبد العزيز الشيخ حمد (6) بن ناصر بن عثمان الحنبلي في ركب فلما وصلوا والي مكة بها جمع علماء الحرم الشريف، وأرباب مذاهب الأئمة الأربعة خلا الحنابلة فوقعت مناظر عظيمة بين الشخ حمد (7) المذكور وعلماء الحرم الشريف ومقدمهم يومئذ في الكلام الشيخ عبد الملك الحنفي فوقعت المناظرة في مجالس عديدة لدى والي مكة بمشهد عظيم من أهلها وذلك في شهر رجب من السنة "1211هـ" المذكورة من هجرته صلى الله عليه وسلم فظهر الحق وبان، وانخفض الباطل واستكان، وأقرّ الخصم بعد البيان، ومما سألوه عنه ثلاث مسائل فأجاب أيّده الله بروح منه بما يشفي العليل،
ويبتهج به من يتبع (1) الدليل، وسميت هذه الأجوبة "الفواكه العذاب في الرد على من لم يحكم السنة والكتاب" (2) المسألة الأولى....
سبب تأليف هذه الرسالة وصفتها
سبب تأليف هذه الرسالة وصفتها لما كانت السنة الحادية عشرة بعد المائتين والألف "1211هـ" من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أرسل أمير مكة الشريف غالب بن مساعد إلى الإمام عبد العزيز بن سعود -رحمه الله- يطلب منه أن يبعث إليه بعض علماء بلده، ليتحقق عن كنه دعوتهم التي أوشكت على دخول مصره، وليناظروا علماء الحرم في مسائل من فروع الدين وأصله. فما كان من الإمام عبد العزيز إلا أن أرسل إليه بعض العلماء المحققين، الذين لهم قدم راسخ في المناظرة بالحجج والبراهين، ليمطوا اللثام عن حقيقة دعوة أهل نجد الموحدين، وليرشقوا بنبال التوحيد شبه المشركين، وكان على رأسهم حمد بن معمّر أحد العلماء المبرّزين. فلما وصلوا إلى بيت الله الحرام، وأدوا العمرة براحة وسلام، استقبلهم الشريف غالب استقبالاً جميلاً، وأكرمهم إكراماً جزيلاً. ثم بعد ذلك عقدت المناظرة، واشتدّت الخصومة والمشاجرة -بين الشيخ حمد وعلماء مكة الزاخرة- وقد حشدت الحشود لهذه المساجلة، واجتمع الناس لها من الحاضرة والبادية (1) . فأقام عليهم الشيخ حمد الحجة والدليل، وقطع عليهم المحجة والسبيل، وأبان لهم قبح ما عليه الآباء
ومشائخ الجيل، من صرف العبادة لغير الله بدون برهان أو تعليل. فخضعت لأدلّته أعناقهم، وذلّت لها حجتهم (1) وبرهانهم، وتيقنوا أن الحق فيما جاءهم. ولكن الشيطان أملى لهم، وزيّن لهم سوء أعمالهم، فنكسوا على رؤوسهم، وقالوا ما قاله أشياعهم وأسلافهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [سورة الزخرف- 23] . قال الشيخ حسين بن غنّام في كتابه "روضة الأفكار والأفهام" 2/ 202: وصفة ما جرى منهم أنهم حضروا ببيت الشريف، تجاه بيت الله المنيف، فأول ما فتتحوا به التكلم والتخاطب، وأجمعوا عليه في المطالب، وجرى بينهم التحاور والمفاوضة، والتخاطب فيه والمراوضة، مسألة قتال الموحدين من الناس، والكشف عن وجهها حجب الإلتباس، فطلب حمد بيان الحجة والدليل، والبرهان السالم من الأعاليل، والنص القاطع للاحتمال والتأويل، والقامع لسائر الأقاويل، على ذلك المنهج والسبيل، فأتى لهم بالنص القاطع القامع، لكل أذن صاغية وسامع، وجلب من الأحاديث الصحيحة الراجحة، والأدلّة الباهرة اللائحة، ما شفى وكفى، وصيرهم من قطع اللسان والحجة على شفا وأزاح عن محياها القتام ونفا، فعصفت على بيت عنكبوتهم نسيم الحق فهفى، ومزّق آثارهم ومنارهم بعدما هبّ عليهم وسفى، وأوقفهم على المنصوص، فأقرّوا وسلموا لتلك النصوص، وصدر منهم إذعان بعدما حملهم الشيطان على كون تلك لم تكن في الكتب مسطّرة، ولا موصولة فيها ومقررة، وتفوهوا بحضرة الشريف بذلك، حتى أوقفهم حمد على ما هنالك، ونقل من الكتب
التي عندهم ما ضعضع وِجْدهم، وجلب عليهم علتهم وجهدهم، فوطفت جباههم من العرق، لما داخلهم من الخجل والفرق، فلم يكن لهم حينئذ بدٌ ولا حيلة، حين قرؤا حجته ودليله، ولم يستطع منهم إنسان، على جحود ذلك البرهان، بل صار منهم إقرار وإذعان ... إلى أن قال -رحمه الله- ص 203: فلما انقضت تلك الأيام والليال، وتقضت ساعات المناظرة والجدال، طلبوا من حمد بن ناصر بن معمّر، تأصيل ما برهن به واحتج به وقرّر، وكَتْب ما سجله عليهم وسطر، فانتدب لذلك أدام الله نفعه وكثر، فجمع لديهم عجالة وعجل لهم في سُوحِهِم رسالة، أوجز فيها المقالة، وأتى فيها بما فيه كفاية في الحجة والدلالة، يذعن بعد سمعها كل منصف عاقل، ويشهد بفضل قائلها كل فاضل، ويقر بصدقها وصحة مضمونها الأمثل، ولا عبرة بمنافق أو غبي أو جاهل. بنى للحق المبين على أساسها صرحاً، وأجاد فيما أحكمه من التحرير إضاحاً وشرحاً، فأفاد فيما نحاه من التحبير صدعاً وصدحاً، وترك مناظريه يعانون في الجواب عنها كدحاً، فلم يدركوا من سعيهم ربحاً، بل زادوا فيما زخرفوه عن الصواب بعداً ونزحاً فهي عليك مجلوة، وحججها مقروءة ومتلوة، مميطة لوضيء حسنها النقاب، سافرة الوجه للنقاد والنقاب، خالية من شين الإسهاب والإطناب ... انتهى بتصرف كثير. ولقد صدق هذا الشيخ المنصف فيما قرره، وسيقف القارئ على هذا بقراءة ما كتبه الشيخ حمد وسطّره. والله المسؤول المرجو أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه
وصلى الله وسلم وبارك على سيّد الخلق أجمعين محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه والتابعين (1) . حرره الفقير إلى عفو ربه القدير عبد السلام بن برجس بن ناصر آل عبد الكريم الرياض 20/ 11/ 1405 هجرية
المسألة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم المسألة الأولى [قالوا: ما قولكم فيمن دعا نبياً أو ولياً واستغاث بهم (1) في تفريج الكربات، كقوله يا رسول الله أو يا ابن عباس أو يا محجوب أو غيرهم من الأولياء والصالحين] . الجواب: الحمد لله نحمده (2) ، ونستعينه (3) ، ونستغفره (4) ، ونعوذ (5) بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله، وصحبه، ومن تبعهم بإحسان وقفى أثرهم إلى آخر الزمان. أما بعد، فإن (6) الله تعالى قد أكمل لنا الدين، ورسوله قد بلغ البلاغ المبين، وأنزل عليه الكتب هدى وذكرى للمؤمنين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة- 3] ، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل- 89] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس- 57] ، وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى , وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه- 123- 124] . قال ابن عباس: تكفل الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة (1) . وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ , وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (2) [الزخرف- 36- 37] . وروى الإمام مالك في الموطإ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله" (3) .
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقد تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما تركت من شيء يقرب إلى الجنة إلاّ وقد حدثتكم به ولا شيء يقربكم من النار إلاّ
وقد حدثتكم به" (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (2) .
فمن أصغى إلى كتاب الله وسنة رسوله وجد فيهما الهدي والشفا. وقد ذَمّ الله تعالى من أعرض عن كتابه ودعى عند التنازع إلى حكم غيره فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء- 61] . إذا عُرِفَ هذا فنقول: الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة، والإحسان إلى الميت بالدعاء له، والترحم عليه، والإستغفار له، وسؤال العافية كما في صحيح مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: "السلام على أهل الديار-
وفي لفظ- "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون (1) نسأل الله لنا ولكم العافية" (2) . وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" (3) . وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه" (4) فبعد الدفن أولى وأحرى. فبدل أهل الشرك قولاّ غير الذي قيل لهم، بدلوا الدعاء له بدعائه، والشفاعة له بالإستشفاع به، وقصدوا بالزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إحساناً إلى الميت سؤال الميت، وتخصيص تلك البقعة بالدعاء الذي هو مخ العبادة بنص رسول الله صلى الله عليه سلم، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة" رواه
الترمذي (1) ، وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" -ثم قرأ- رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية [غافر- 60] ، رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة (2) . ومن المحال أن يكون دعاء الموتى مشروعاً، ويصرف عنه القرون
الثلاثة المفضلة (1) بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ثم يتوقف
الخلوف (1) الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه (2) طريقة الصحابة والتابعين لهم بإحسان هل نقل عن أحد منهم نقل (3) صحيح أو حسن (4) أنهم كانوا إذا كان لهم حاجة قصدوا القبور فدعوا عندها، وتمسحوا بها فضلاً عن أن يسألوا أصحابها جلب الفوائد وكشف الشدائد، ومعلوم أن مثل هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، وقد كان عندهم من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير فهم متوافرون، فما منهم من استغاث عند قبر ولا دعاه، ولا استشفى به، ولا استنصر به، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، ولا كانوا يقصدون الدعاء عند قبور الأنبياء، ولا الصلاة عندها. فإن كان في هذا (5) أثر صحيح أو حسن فأوقفونا عليه، بل الذي صح عنهم خلاف ما ذهبتم إليه. ولما قحط الناس في زمن (6) عمر بن الخطاب استسقى بالعباس وتوسل بدعائه وقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فأسقنا فيسقون" كما (7) ثبت ذلك في صحيح البخاري في كتاب"8" الاستسقاء من صحيحه"9".
ونحن نعلم بالضرورة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها. بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور، وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرّمه الله ورسوله (1) . قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا
مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن- 18] ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ , وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف 5- 6] ، وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء- 213] ، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} الآية [الرعد- 14] ، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس- 106] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ , إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ... } [فاطر- 13- 14] ، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً , أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء-56- 57] . قال مجاهد يبتغون إلى ربهم الوسيلة هو: عيسى وعزير والملائكة (1) ، وكذا قال إبراهيم النخعي قال: كان ابن عباس يقول في قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء- 57] هو: (2) عزير والمسيح والشمس والقمر (3) .
وعن السدي عن أبي صالح (1) عن ابن عباس قال: عيسى وأمّه والعزير (2) وعن عبد الله بن مسعود قال: نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم الجنيون والأنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم فنزلت هذه الآية. ثبت ذلك عنه في صحيح البخاري ذكره في كتاب التفسير (3) . وهذا الأقوال في معنى الآية كلها حق فإن الآية تعمّ كل من كان معبوده عابداً لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر، فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعواً، وذلك المدعوّ يبتغي
إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته، ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتاً أو غائباً من الأنبياء والصالحين فقد تناولته هذه الآية. ومعلوم أن المشركين يسألون الصالحين بمعنى أنهم وسائط بينهم وبين الله، ومع هذا فقد نهى الله عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضرّ عن الداعي (1) ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال {وَلاَ تَحْوِيلاً} فذكَرَ نكرة (2) تعم أنواع التحويل، فكل من دعا ميتاً من الأنبياء، أو الصالحين، أو دعا الملائكة، أو دعا الجن فقد دعا من لا يغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويلاً. وهؤلاء المشركون اليوم منهم من إذا نزلت به شدّة (3) لا يدعو إلا شيخه، ولا يذكر إلى إسمه، قد لهج به كما يلهج (4) الصبي بذكر أمّه، فإذا تعس أحدهم قال: يا ابن عباس، أو يا محجوب، ومنهم من يحلف بالله ويكذب، ويحلف بابن عباس أو غيره فيصدق ولا يكذب، فيكون المخلوق في صدره أعظم من الخالق. فإذا كان دعاء الموتى يتضمن هذا الاستهزاء بالدين، وهذه المحادة لرب العالمين (5) ، فأي الفريقين أحق بالاستهزاء (6)
والمحادة لله (1) ؟ من كان يدعو الموتى، ويستغيث بهم، أو يأمر بذلك، أو من كان لا يدعو إلاّ الله وحده لا شريك له كما أمرت به رسله، ويوجب طاعة الرسول، ومتابعته في كل ما جاء به. ونحن بحمد الله من أعظم إيجاباً لرعاية جانب الرسول، تصديقاً له فيما أخبر، وطاعة له فيما أمر، واعتناء بمعرفة ما بعث به، واتباع ذلك دون ما خالفه عملاً بقوله: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف- 3] ، وقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام- 155] . ومعنا ولله الحمد أصلان عظيمان أحدهما: أنا (2) لا نعبد إلاّ الله، فلا ندعو إلاّ هو ولا نذبح النسك إلا لوجهه، ولا نرجو إلاّ هو، ولا نتوكل إلاّ عليه وحده لا شريك له (3) . والأصل الثاني: أنا (4) لا نعبده إلاّ بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة. وهذان الأصلان هما تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله (5) فإن شهادة أن لا إله إلاّ الله تتضمن إخلاص الإلهية لله، فلا يتأله القلب، ولا اللسان، ولا الجوارح لغيره (6) ، لا بحب، ولا خشية، ولا إجلال، ولا رغبة، ولا رهبة (7) . وشهادة أن محمداً
رسول الله تتضمن تصديقه في جميع ما أخبر به، وطاعته واتباعه في كل ما أمر به، فما أثبته وجب إثباته، وما نفاه وجب نفيه ... وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلاّ من أبى" قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟، قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى" (1) . إذا تمهد (2) هذا فنقول: الذي نعتقده وندين الله به، أن من دعا نبياً، أو ولياً، أو غيرهما وسأل منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، أن هذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا أولياء، وشفعاء يستجلبون بهم المنافع، ويستدفعون بهم المضار بزعمهم. قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ- إلى قوله- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس- 18] . فمن جعل الأنبياء، أو غيرهم، كابن عباس، أو المحجوب، أو أبي طالب (3) ،وسائط يدعوهم، ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب
المنافع، ودفع المضار، بمعنى أن الخلق يسألونهم وهم يسألون الله، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أنْ (1) يباشروا سؤال الملك، أو لكونهم أقرب إلى الملك، فمن جعلهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك، حلال المال والدم، وقد نص العلماء رحمهم الله على ذلك وحكوا عليه الإجماع. قال في الإقناع وشرحه (2) : ومن جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم، ويدعوهم، ويسألهم كفر إجماعاً (3) ، لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر- 3] ، انتهى. وقال الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي -رحمه الله تعالى- (4) :
لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذْ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم، قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع. مثل تعظيم القبور، وإكرامها، والتزامها (1) بما نهى عنه الشرع، من إيقاد النيران، وأخذ تربتها تبركاً، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخِرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى. انتهى كلامه. وقال الإمام البكري الشافعي -رحمه الله- في تفسيره عند قوله
تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر- 3] . وكانت الكفار إذا سئلوا من خلق السموات والأرض قالوا "الله" فإذا سئلوا عن عبادة الأصنام قالوا: ما نعبدهم إلى ليقربونا إلى الله زلفى (1) لأجل طلب شفاعتهم عند الله. فهذا كفرُ منهم. انتهى كلامه. فتأمل ما ذكره صاحب الإقناع، وكذا (2) ما ذكره ابن عقيل من تعظيم القبور، وخطاب الموتى بالحوائج، وأن ّذلك كفر. وقال الحافظ عماد الدين (3) بن كثير -رحمه الله- في تفسيره (4) عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} : أي إنما يحملهم على عبادتهم لهم (5) أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور الملائكة المقربين بزعمهم، فعبدوا تلك الصور، تنزيلاً لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ليشفعوا لهم عند الله في نصرهم، ورزقهم، وما ينوبهم من أمور الدنيا. فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به (6) . قال قتادة والسديّ ومالك عن زيد بن أسلم، وابن زيد {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} أي
ليشفعوا لنا، ويقربونا عنده، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك تملكه وما ملك (1) . وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- بردّها، والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأنّ هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم لم يأذن الله فيه، ولا رضي به، بل أبغضه، ونهى عنه قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل- 36] ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الانبياء- 25] . وأخبر أن الملائكة التي في السموات من المقربين وغيرهم كلهم عبيد خاضعون لله لا يشفعون عنده إلاّ بإذنه لمن ارتضى، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وكرهوه (2) {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل- 74] تعالى الله عن ذلك علواً (3) كبيراً. انتهى كلامه. وقال الإمام البكري -رحمه الله- عند قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} [يونس- 31] فإن قلت: إذا أقروا بذلك فكيف عبدوا الأصنام؟ قلت: كلهم
كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله تعالى والتقرب إليه لكن (1) بطرق مختلفة. ففرقة قالت: ليست لنا أهلية عبادة الله تعالى بلا واسطة لعظمته، فعبدناها لتقربنا إليه زلفى. وفرقة قال الملائكة ذو وجاهة ومنزلة عند الله فاتخذنا لنا أصناماً على هيئة الملائكة لتقربنا إلى الله زلفى. وفرقة قالت جعلنا الأصنام قبلة لنا في العبادة كما أن الكعبة قبلة في عبادته. وفرقة اعتقدت أن لكل صنم شيطاناً موكلاً بأمر الله، فمن عبد الصنم حق عبادته قضى الشيطان حوائجه بأمر الله، وإلاّ أصابه شيطانه بنكبة بأمر الله تعالى. انتهى كلامه. فانظر إلى كالم هؤلاء الأئمة وتصريحهم بأن المشركين ما أرادوا ممن عبدوا إلاّ التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم عند الله. وتأمل ما ذكره ابن كثير، وما حكاه عن زيد بن أسلم وابن زيد ثم قال: وهذه الشبهة هي (2) التي اعتمدها المشكرون في قديم الدهر وحديثه، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بردّها والنهي عنها. وتأمل ما ذكره البكري -رحمه الله- عند آية الزمر: أن الكفار ما أرادوا ممن عبدوهم (3) إلا الشفاعة. ثم صرّح بأن هذا كفر. فمن تأمل ما ذكره الله تعالى في كتابه تبين له أن الكفار ما أرادوا ممن عبدوا إلا التقرب إلى الله وطلب شفاعتهم عند الله، فإنهم لم يعتقدوا فيها أنها تخلق الخلائق، وتنزل المطر، وتنبت النباتـ بل كانوا مقرين أن الفاعل لذلك هو الله وحده قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ -إلى قوله- فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}
[يونس- 31] ، وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت- 61] ، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ , سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ , قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ , سَيَقُولُونَ لِلَّهِ..} [المؤمنون- 84- 85] إلى غير ذلك من الآيات التي يخبر الله فيها أن المشركين معترفون أن الله هو الخالق الرازق (1) ، وإنما كانوا يعبدونهم ليقربوهم ويشفعوا لهم، كما ذكره سبحانه ففي قوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس- 18] فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب ليعبدوه (2) وحده، ولا يجعل معه إله آخر. وأخبر سبحانه أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلاّ بإذنه، وأنه لا يأذن إلاّ لمن رضِيَ قوله وعمله، وأنه لا يرضى إلاّ التوحيد، فالشفاعة مقيدة بهذه القيود. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ , قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر- 43] ،
وقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} [الم تنزيل السجدة- 4] ، وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة- 255] , وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ... } [طه- 109] ، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم- 26] , وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الانبياء- 28] ، وقال تعالى: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ- 23] . وفي الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو سيد ولد آدم، وأكرم الخلق على الله- أنه قال: آتي تحت العرش فأخر لله ساجداً. فيفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع. قال فيحد لي حداً ثم أدخلهم الجنة ثم أعود -فذكر أربع مرات (1) - صلوات الله وسلامه عليه، وعلى سائر الأنبياء. وقال الإمام البكري الشافعي -رحمه الله- عند قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام- 51] نفى الشفيع وإن كانت الشفاعة واقعة في الآخرة، لأنها من حيث أنها لا تقع إلاّ بإذنه كأنها غير موجودة من غيره وهو كذلك، لكن جعل الله ذلك لتبيين الرتب. وجملة النهي حال من ضمير "يحشروا" وهي محل الخوف، والمراد به المؤمنون العاصون. انتهى. وقال أيضاً عند قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه- 109] دلّ أن الشفاعة تكون للمؤمنين فقط.
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير عند قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} [الرعد- 16] (1) يقرر تعالى أنه لا إله إلاّ هو لأنه معترفون أنه (2) هو الذي خلق السموات والأرض، وهو ربها ومدبرها، وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء (3) يعبدونهم، وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة يعترفون أنها مخلوقة عبيد له. كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك. وكما أخبر عنهم في قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر- 3] فأنكر تعالى ذلك عليهم حيث اعتقدوا ذلك وهو تعالى لا يشفع عنده أحد إلاّ بإذنه ولا تنفع الشفاعة عنده إلاّ لمن أذن له ثم إنه (4) قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم يزجرهم عن ذلك وينهاهم عن عبادة من سوى الله فكذبوهم. انتهى (5) . والمقصود بيان شرك المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم ما أرادوا ممن عبدوا إلاّ التقرب إلى الله، وطلب شفاعتهم عند الله. وبيان أن طلب الحوائج من الموتى والإستغاثة بهم في الشدائد أنه من الشرك الذي كفر الله به المشركين. وبيان أن الشفاعة كلها لله ليس لأحد معه من الأمر شيء. وأنه لا شفاعة إلا بعد إذن الله. وإنه تعالى لا يأذن إلاّ لمن رضي (6) قوله
وعمله. وأنه لا يرضى إلاّ التوحيد. كما تقدمت الأدلة الدالة على ذلك. ومعلوم أن أعلى الخلق، وأفضلهم، وأكرمهم عند الله هم: الرسل (1) ، والملائكة المقربون، وهم عبيد محض لا يسبقونه بالقول، ولا يتقدمون بين يديه، ولا يفعلون شيئاً إلاّ بعد إذنه لهم، وأمرهم فيأذن الله سبحانه لمن شاء أن يشفع، فيه. فصارت الشفاعة فيه الحقيقة إنما هي له تعالى، والذي يشفع (2) عنده إنما شفع بإذنه له وأمره بعد شفاعته سبحانه إلى نفسه، وهي إرادته أن يرحم عبده. وهذا ضد الشفاعة الشركية التي أثبتها المشركون ومن وافقهم، وهي التي أبطلها سبحانه في كتابه بقوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} الآية [البقرة- 123] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة- 254] . ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد، كما صرحت بذلك النصوص. فروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلاّ الله خالصاً من قلبه" (3) .
وعن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتاني آتٍ من عندي ربي فخيرني بين أن (1) يدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً". رواه الترمذي وابن ماجه (2) . فأسعد الناس بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل التوحيد، والذين جردوا التوحيد لله، وأخلصوه من التعلقات الشركية, وهم الذين ارتضى الله سبحانه، قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الانبياء- 28] ، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه- 109] فأخبر سبحانه أنه لا يحصل يومئذ شفاعة تنفع إلا بعد رضاه قول المشفوع له وإذنه للشافع فيه وأما المشرك فإنه لا يرتضيه، ولا يرضى قوله، فلا يأذن للشفعاء أن يشفعوا فيه، فإنه سبحانه علقها بأمرين رضاه عن المشفوع له، وإذنه للشافع. فما لم يوجد مجموع الأمرين لم توجد الشفاعة، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه سبحانه، فإنه الذي أذن، والذي قبل، والذي رضي عن المشفوع، والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة.
فالرب تبارك وتعالى هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك ولهذا أثبتها سبحانه بإذنه في مواضع من كتابه، وبين النبي صلى الله عليه وسلم انها لا تكون إلاّ لأهل التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة وعوف بن مالك. فمتخذ الشفيع مشرك، لا تنفعه شفاعة، ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهة ومعبوده هو الذي يأذن سبحانه للشفيع أن يشفع فيه. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ , قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} الآية [الزمر- 43- 44] ، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس- 18] فبين أن المتخذين شفعاء مشركون، وأن الشفاعة لا تحصل باتخاذهم، وإنما تحصل بإذنه سبحانه وتعالى للشافع، ورضاه عن المشفوع له كما تقدم بيانه. والمقصود أن الكتاب والسنة دلاَّ على أن من جعل الملائكة، أو الأنبياء، أو ابن عباس أو أبا طالب، أو المحجوب "وغيرهم من الأنبياء والصالحين" (1) وسائط بينه وبين الله ليشفعوا له عند الله، لأجل قربهم من الله، كما يفعل عند الملوك أنه كافر مشرك، حلال المال والدم، وإن قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد (2) أن محمداً رسول الله، وصلى، وصام، وزعم أنه مسلم، بل هو من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
ومن تأمل القرآن العزيز وجده مصرحاً بأن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون بأن اله سبحانه هو الخالق الرازق، وأنا السموات السبع، ومن فيهن، والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده، وتحت قهره، وتصرفه، كما حكاه تعالى عنهم في سورة "يونس" وسورة "المؤمنون" و"العنكبوت" وغيرها من السور، ووجده مصرحاً بأن المشركين يدعون الصالحين كما ذكر تعالى ذلك (1) عنهم في سورة "سبحان" و"المائدة" وغيرهما من السور، وكذلك أخبر (2) عنهم أنهم يعبدون الملائكة، كما ذكر ذلك في "الفرقان" (3) و"سبأ" و"النجم"، ووجده مصرحاً أيضاً (4) بأن المشركين ما أراد ما ممن عبدوا إلا الشفاعة، والتقرب إلى الله، كما ذكر تعالى ذلك عنهم في سورة "يونس" و"الزمر" وغيرهما من السور (5) . فإذا تبين لكم أن القرآن قد صرح بهذه المسائل الثلاث أعني: اعتراف المشركين بتوحيد الربوبية. وأنهم يدعون الصالحين. وأنهم ما أرادو (6) منهم إلاّ الشفاعة "التقرب إلى الله" (7) . تبين لكم أن هذا الذي يفعل عند القبور اليوم، من سؤالهم جلب الفوائد، وكشف الشدائد، أنه الشرك الأكبر الذي كفر الله به
المشركين، فإن هؤلاء المشركين مشبهون شبهوا الخالق تعالى بالمخلوق (1) وفي القرآن، وكلام أهل العلم من الرد على هؤلاء ما لا
يتسع له هذا الموضع، فإن الوسائط التي بين الملوك وبين الناس تكون على أحد وجوه ثلاثة (1) . إما لإخبارهم عن (2) أحوال الناس بما لا يطلعون عليه (3) . ومن قال: إن الله لا يطلع على (4) أحوال العباد حتى يخبره بذلك بعض الأنبياء، أو غيرهم من الأولياء والصالحين فهو كافر، بل هو سبحانه يعلم السّر وأخفى، لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. الثاني: أن يكون الملك عاجزاً عن تدبير رعيته، ودفع أعدائه إلاّ بأعوان يعاونونه فلا بدّله من أعوان وأنصار لذلّه وعجزه. والله سبحانه ليس له ظهير ولا ولي من الذل وكل ما في الوجود من الأسباب فهو سحبانه ربّه وخالقه فهو الغني عن كل ما سواه وكل ما سواه وكل ما سواه فقير إليه بخلاف الملوك المحتاجين إلى ظهرائهم وهم في الحقيقة شركاؤهم. والله سبحانه ليس له شريك في الملك بل لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد ولهذا لا يشفع عنده أحد إلاّ بإذنه لا ملك مقرّب ولا نبي مرسل فضلاً عن غيرهما فإن من شفع عنده بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب أثر فيه بشفاعته حتى يفعل ما يطلب منه. والله تعالى لا شريك له بوجه من الوجوه. الثالث: أن يكون الملك ليس مريداً النفع لرعيته (5) ، والإحسان إليهم، إلاّ بمحرّك يحركه من خارج، فإذا خاطب الملك من ينصحه،
أو يعظه، أو من يدل عليه (1) ، بحيث يكون يرجوه ويخافه، تحركت إرادة الملك، وهمته في قضاء حوائج رعيته. والله تعالى رب كل شيء، ومليكه، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها (2) ، وكل الأسباب إنما تكون بمشيئته، وإرادته فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وهو سبحانه إذا أراد إجراء نفع العباد بعضهم على يد بعض (3) جعل هذا يحسن إلى هذا، أو يدعو له (4) ، أو يشفع له فهو الذي خلق ذلك كله، وهو الذي خلق في قلب هذا المحسن والداعي إرادة الإحسان، والدعاء، والشفاعة، ولا يجوز أن يكون في الوجود من يكرهه على خلاف مراده، أو يعلمه ما لم يكن يعلم، والشفعاء الذين يشفعون عنده لا يشفعون إلاّ بإذنه كما تقدم إيضاحه (5) ، بخلاف الملوك المحتاجين، فإن الشافع عندهم يكون شريكاً لهم في الملك، وقد يكون مظاهراً لهم (6) معاوناً لهم على ملكهم، وهم يشفعون عند الملوك بغير إذن الملوك،
والملك يقبل شفاعتهم تارة لحاجته إليهم، وتارة لجزاء إحسانهم، ومكافأتهم حتى أنه يقبل شفاعة ولده وزوجته لذلك، فإنه محتاج إلى الزوجة والولد حتى لو أعرض عنه ولده وزوجته لتضرر بذلك، ويقبل شفاعة مملوكه فإنه إذا لم يقبل شفاعته يخاف أن لا يطيعه (1) ، ويقبل شفاعة أخيه مخافة أن يسعى في ضرره، وشفاعة العباد بعضهم عند بعض كلها من هذا الجنس فلا يقبل أحد شفاعة أحد إلاّ لرغبة أو لرهبة (2) . والله تعالى لا يرجو أحداً، ولا يخافه، ولا يحتاج إلى أحد بل هو الغني سبحانه عما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، والمشركون يتخذون شفعاء من جنس ما يعهدونه من الشفاعة عند المخلوق، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِِ -إلى قوله- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس- 18] ، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً , أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء- 56- 57] فأخبر سبحانه أن ما يدعى من دونه لا يملك كشف الضر ولا تحويله، وأنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويتقربون إليه. فقد نفى سبحانه ما أثبتوه من توسط الملائكة والأنبياء. وفيما ذكرنا كفاية لمن أراد الله هدايته (3) , وأما من أراد الله فتنته فلا حيلة فيه {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [الكهف- 17] .
المسألة الثانية
المسألة الثانية [وهي: من قال لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله، ولم يصل، ولم يزك هل يكون مؤمناً] . فنقول: أما من قال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله وهو مقيم على شركه يدعو الموتى ويسألهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات فهذا كافر مشرك حلال المال والدم وإن قال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله وصلى وصام وزعم أنه مسلم كما تقدم بيانه. وأما إن وحّد الله تعالى ولم يشرك به لكنه ترك الصلاة ومنع الزكاة، فإن كان جاحداً للوجوب فهو كافر إجماعاً، وأما أن أقراّ بالوجوب ولكنه ترك الصلاة تكاسلاّ عنها فهذا قد اختلف العلماء في كفره. والعلماء إذا أجمعوا فإجماعهم حجة لا يجمعون على ضلالة، وإذا تنازعوا في شيء ردّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، إذا الواحد منهم ليس بمعصوم على الإطلاق بل كل واحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا الله والرسول. قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء- 59] . قال العلماء الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إلى السنة بعد وفاته. وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى- 10] وقد ذم الله تعالى من أعرض عن كتابه ودعا عند التنازع إلى غيره، فقال
تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء- 61] . إذا عرفت هذا فنقول: اختلف العلماء -رحمهم الله- في تارك الصلاة كسلاً من غير جحود، فذهب الإمام أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه ومالك إلى أنه لا يحُكم بكفره واحتجوا بما رواه عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" (1) .
وذهب إمامنا أحمد بن حنبل والشافعي في أحد قوليه وإسحاق بن راهويه وعبدا الله بن المبارك والنخعي والحكم وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وغيرهم من كبار الأئمة والتابعين إلى أنه كافر، وحكاه إسحاق بن راهويه إجماعاً ذكره عنه الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي في شرح الأربعين. وذكره في كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر عن جمهور الصحابة -رضي الله عنهم-. وقال الإمام أبو محمد بن حزم: سائر الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم من التابعين يكفرون تارك الصلاة مطلقاً ويحكمون عليه بالإرتداد، منهم أبو بكر وعمر وابنه عبد الله وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس ومعاذ بن جبل وجابر بن عبد الله "وأبو الدرداء" وأبو هريرة" (1) وعبد الرحمن بن عوف "وغيرهم من الصحابة ولا نعلم لهؤلاء
مخالفاً من الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين" (1) . وأجابوا عن قوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له" أنّ المراد عدم المحافظة عليهن في وقتهن بدليل الآيات والأحاديث الورادة فيها وفي تركها. واحتجوا على كفر تاركها بما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" (2) وعن بريدة بن الحصيب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" رواه الإمام أحمد وأهل السنن وقال الترمذي حديث صحيح إسناده على شرط مسلم (3) وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بين العبد والكفر والإيمان الصلاة فإذا تركها فقد أشرك" (4) . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: "من حافظ
عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً وبرهاناً ونجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف" رواه الإمام أحمد وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه"1". وعن عبادة بن الصامت قال: أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشركوا بالله شيئاً ولا تتركوا الصلاة عمداً فمن تركها عمداً خرج من الملة" رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه (2) . وعن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله" رواه الإمام أحمد (3) وعن أبي الدرداء قال: أوصاني أبو القاسم صلى الله عليه وسلم أن لا أترك الصلاة متعمداً فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة. رواه ابن أبي حاتم (4) وعن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة ... " الحديث وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه الترمذي (1) . فهذه الأحاديث كما ترى صريحة في كفر تارك الصلاة مع ما تقدم من إجماع الصحابة، كما حكاه إسحاق بن راهويه وابن حزم وعبد الله بن شقيق، وهو مذهب جمهور العلماء من (2) التابعين ومن بعدهم. ثم اعلم "رحمك الله وأرشدك" (3) أن العلماء كلهم مجمعون على قتل تارك الصلاة كسلاً إلاّ أبا حنيفة ومحمد بن شهاب الزهري وداود فإنهم قالوا يحبس تارك الصلاة المفروضة حتى يموت أو يتوب. ومن احتج لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاً الله فإذا قالوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاً بحقها" (4) فقد أبعد النجعة، فإن هذا الحديث لا حجة فيه، بل هو حجة لمن يقول بقتله كما سيأتي بيانه إن شاء الله. واحتج الجمهور على قتله بالكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله
تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (1) إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة- 5] فشرط الكف التوبة من الشرك وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإذا لم توجد هذه الثلاث لم يكف عن قتالهم ولم يخل سبيلهم. قال ابن ماجه ثنا نصر بن علي ثنا (2) أو أحمد ثنا "أبو جعفر الزازي" (3) عن الربيع بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فارق الدنيا على (4) والإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، مات والله عنه راضٍ" قال أنس: وهو الدين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء. وتصديق ذلك في كتاب الله، في آخر ما نزل: {فَإِنْ تَابُوا} قال: خلعوا الأوثان وعبادتها {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} (5) -وقال في آية أخرى- {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة- 11] (6) (7) .
وأما السنة فثبت في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله" (1) فعلق العصمة على الشهادتين والصلاة والزكاة. وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً فيه:"من محمد رسول الله إلى أهل عمّان أما بعد: فأقروا بشهادة أن لا إله إلاّ الله. وأني رسول الله. وأدوا الزكاة. وخطوا المساجد. وإلا غزوتكم" خرّجه الطبراني والبزار وغيرهما ذكره الحافظ ابن رجب الحنبلي في "شرح الأربعين" (2) . وروى ابن شهاب عن حنظلة عن علي بن الأشجع أن أبا بكر الصديق بعث خالد بن الوليد وأمره أن يقاتل الناس على خمس. فمن ترك واحدة منهن فقاتله عليها كما تقاتل على الخمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله. وأن محمداً رسول الله. وإقام الصلاة. وإيتاء الزكاة. وصوم رمضان. وحج بيت الله الحرام. وقال سعيد بن جبير: قال عمر بن الخطاب: لو أن الناس تركوا الحج لقاتلناهم على تركه كما نقاتل على ترك الصلاة والزكاة.
وبالجملة فالكتاب والسنة يدلان على أن القتال ممدود إلى الشهادتين والصلاة والزكاة وقد أجمع العلماء على ذلك. قال في شرح الإقناع: أجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة عن (1) شريعة من شرائع الإسلام فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله كالمحاربين وأولى انتهى. وأما حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالواها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها" فهذا لا إشكال فيه -بحمد الله- (2) وليس لكم فيه حجة بل هو حجة عليكم ولو لم يكن إلاّ قوله: "إلاّ بحقها" لكان كافياً في إبطال قولكم وقد قال علماؤنا -رحمهم الله- إذا قال الكافر لا إله إلاّ الله، فقد شرع في العاصم (3) لدمه فيجب الكف عنه فإن تم ذلك تحققت العصمة وإلاّ بطلت ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال كل حديث في وقت. فقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله" ليعلم المسلمون أن الكافر المحارب إذا قالها كُفّ عنه وصار دمه وماله معصوماً ثم بين صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر أنّ القتال ممدود إلى الشهادتين والعبادتين فقال: "أمر أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله. وأن محمداً رسول الله. ويقيموا الصلاة. ويؤتوا الزكاة" فبين أن تمام العصمة وكمالها إنما يحصل بذلك ولئلا تقع الشبهة بأن مجرد الإقرار يعصم على الدوام كما وقعت لبعض الصحابة حتى جلاّها أبو بكر الصديق ثم وافقوه رضي الله عنهم.
ومما يبين فساد قولكم وخطأ فهمكم في معنى حديث أبي هريرة أن الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعوا على قتال مانعي الزكاة بعد مناظرة حصلت بين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- واستدل عمر على أبي بكر بحديث أبي هريرة فبين صدّيق الأمة -رضي الله عنه- أن الحديث حجة على قتال مانعي الزكاة وهم يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ويصلون. ونحن نسوق الحديث ثم نذكر ما قاله (1) العلماء في شرحه (2) ليتبين لكم أن فهمكم الفاسد لم يقل به أحد من العلماء وأنه فهم مشؤم مذموم مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأمة فنقول: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكَفَرَ من كفر من العرب قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله. وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها". فقال أبو بكر: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال فوالله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه. فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. وهذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الزكاة ومسلم في كتاب الإيمان. وهو من أعظم الأدلة على فساد قولكم، فإن الصديق -رضي الله عنه- جعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب.
وقد تكلم النووي -رحمه الله- على هذا الحديث في شرح صحيح مسلم فقال: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله. محمد رسول الله. ويقيم الصلاة. ويؤتوا الزكاة. ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وأن من قال ذلك عصم نفسه وماله إلاّ بحقها ووكلت سريرته إلى الله تعالى. وقتال من منع الزكاة أو غيرها من حقوق الإسلام. واهتمام الإمام بشرائع الإسلام. وساق (1) الحديث ثم قال: قال الخطابي في شرح هذا الكلام كلاماً حسناً لا بدّ من ذكره لما فيه من الفوائد. قال -رحمه الله-: مما يجب تقديمه في هذا أن يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين صنف ارتدوا عن الدين ونابذوا (2) الملة وعادوا لكفرهم وهم الذين عنى أبو هريرة بقوله: "وكفر من كفر من العرب" والصنف الآخر فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة (3) من كان يسمع بالزكاة ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم جمعوا زكاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم وفي هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة لعمر -رضي الله عنه- فراجع أبا بكر -رضي الله عنه- وناظره واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فمن قال لا إله إلاّ الله فقد عصم نفسه وماله" وكان هذا من عمر تعلقاً بظاهر الكلام
قبل أن ينظر في آخر ويتأمل شرائطه. فقال له أبو بكر: الزكاة حق المال يريد أن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإيفاء شرائطها، والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والآخر معدوم. ثم قايسه بالصلاة ورد الزكاة إليها وكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعاً من الصحابة -رضي الله عنهم- ولذلك ردّ المختلف فيه إلى المتفق عليه فلما استقر عندهم صحة رأي أبي بكر وبان لعمر صوابه تابعه على قتال القوم وهو معنى قوله: "فلما رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال عرفت أنه الحق" يريد انشراح صدوره بالحجة التي أدلى بها والبرهان الذي أقامه نصاً ودلالة انتهى. فتأمل هذا الباب الذي ذكره النووي -رحمه الله- وهو إمام الشافعية على الإطلاق تجده صريحاً في ردّ شبهتكم أن من قال: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله. لا يباح دمه وماله وإن ترك الصلاة ومنع الزكاة فالترجمة بنفسها صريحة في ردّ قولكم فإنه صرح بالأمر بالقتال على ترك الصلاة ومنع الزكاة. وتأمل ما ذكره الخطابي أن الذين منعوا الزكاة منهم من كان يسمع بها ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدّوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم كبني يربوع فإنهم أرادوا أن يبعثوها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم. وأنه عرض الخلاف ووقعت الشبهة لعمر في أمر هؤلاء ثم إن عمر وافق أبا بكر على قتالهم. وتأمل قوله: احتج عمر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله". وكان هذا من عمر تعلقاً بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخر ويتأمل شرائطه" وتأمل قوله: "أن قتال الممتنع عن الصلاة كان إجماعاً من الصحابة" وقد أشار
الخطابي إلى أن حديث أبي هريرة مختصر. قال النووي -رحمه الله- قال الخطابي: ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر أن عبد الله بن عمر وأنساً -رضي الله عنهما- روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة. ففي حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حيث يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقّها" وفي رواية أنس: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله. وأن يستقبلوا قبلتنا. وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا. فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها. لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" انتهى. قلت (1) : وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور في الكتاب من رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله. ويؤمنوا بي وبما جئت به. فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها". وفي استدلال أبي بكر واعترض عمر -رضي الله عنه- دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عمر وأنس وأبو هريرة وكأن (2) هؤلاء الثلاثة سمعوا هذه الزيادة في روايتهم في مجلس آخر فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف، ولما كان احتج بالحديث فإن هذه الزيادة حجة عليه. ولو سمع أبو بكر هذه الزيادة لاحتج بها، ولما كان احتج بالقياس والعموم والله أعلم. انتهى كلام النووي.
فتأمل ما ذكره الخطابي تجده صريحاً في ردّ قولكم. وتأمل قوله: "فإن عمر لو سمع ذلك لما خالف ولما كان احتج بالحديث فإن هذه الزيادة حجة عليه" وبالجملة فحديث أبي هريرة حجة عليكم لا لكم. ولو لم يكن فيه إلاّ قوله: "بحقها" لكان كافياً في بطلان شبهتكم، فإن الصلاة والزكاة من أعظم حقوق لا إله إلاّ الله بل هم أعظمها على الإطلاق. ومما يد على بطلان قولكم وفساد فهمكم في معنى الحديث أعني حديث أبي هريرة- "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله" أن جميع الشراح والمحشين لم يتأولوه على هذا التأويل الذي ذهبتم إليه. فإنه حديث صحيح مخرج في الصحاح، هؤلاء شراح البخاري ومحشيه نحواً (1) من أربعين كما نبه عليه القسطلاّني في خطبة شرح البخاري وكذا شراح مسلم هل أحد منهم استدل به على ترك قتال (2) من ترك الفرائض بل الذي ذكروه خلاف ما ذهبتم إليه ولو لم يكن إلاّ احتجاج عمر به على أبي بكر ثم موافقته لأبي بكر على قتال مانعي الزكاة لكان كافياً. ونحن نذكر لكم كلام الشراح عذراً ونذراً. قال النووي -رحمه الله تعالى-: قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله، فمن قال: لا إله إلاً الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقها وحسابه على الله عز وجل". قال الخطابي: معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلاّ الله ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف. قال ومعنى "حسابه على الله" أي
فيما يسرونه ويخفونه "دون ما يخلون به في الظاهر. قال ففيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر يقبل منه إسلامه في الظاهر وهذا قول أكثر العلماء وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل ويحكى ذلك عن أحمد بن حنبل (1) هذا كلام الخطابي. وذكر القاضي عياض -رحمه الله- معنى هذا وزاد عليه وأضحه فقال: اختصاص عصمة المال والنفس لمن قال لا إله إلاّ الله تعبير (2) عن الإجابة إلى الإيمان وأن المراد مشركو العرب، وأهل الأوثان ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام وقوتل (3) عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقول لا إله إلاّ الله إذا كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده ولذلك جاء الحديث الآخر: "وأني رسول الله. ويقيم الصلاة. ويؤتي الزكاة". هذا كلام القاضي عياض. قلت: ولا بد من الإيمان بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة: "حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله. ويؤمنوا بي وبما جئت به". انتهى كلام النووي. فتأمل ما ذكره الخطابي وما ذكر القاضي أن المراد بقول: "لا إله إلاّ الله التعبير عن الإجابة إلى الإيمان، واستدل لذلك بالحديث الآخر الذي فيه "وأني رسول الله. وتقيم الصلاة. وتؤتي الزكاة".
وتأمل قوله: "إن المراد بحديث أبي هريرة مشركو العرب، ومن لا يوحد، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقول لا إله إلاّ الله. إذ كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده". وتأمل قول النووي: "ولا بد من الإيمان بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم" وبالجملة فقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله" لا (1) نعلم أحداً من العلماء أجراه على ظاهره، وقال إن من قال لا إله إلاّ الله يكف عنه ولا يجوز قتاله وإن ترك الصلاة ومنع الزكاة. هذا لم يقل به أحد من العلماء. ولازم قولكم أن اليهود لا يجوز قتالهم لأنهم يقولون لا إله إلاّ الله. "وأن الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب لا يجوز قتالهم، لأنهم يقولون لا إله إلاّ الله" (2) وأن الصحابة مخطئون في قتالهم لمانعي الزكاة لأنهم يقولون لا إله إلاّ الله. بل ولازم قولكم أن بني حنيفة مسلمون لا يجوز قتالهم لأنهم يقولون لا إله إلاّ الله. سبحان الله ما أعظم هذا الجهل {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم- 59] . ومن العجب أنكم تقرؤون في صحيح البخاري هذا الباب الذي ذكره في كتاب الإيمان. حيث قال: باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} ثنا عبد الله بن محمد المسندي (3) ثنا أبو روح الحرمي (4) ثنا شعبة عن واقد بن محمد قال: سمعت أبي
يحدث عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله. وأن محمداً رسول الله. ويقيموا الصلاة. ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منهي دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله" ثم بعد ذلك تقولون من قال: لا إله إلاّ الله حرم ماله ودمه ولا أدري بماذا تجيبون به عن هذه الآية والحديثين اللذين ذكرهما البخاري وبأي شيء تدفعون به هذه الأدلة؟. وقال الإمام أبو عيسى الترمذي في سننه باب أمرت أن أقاتل الناس حيت يقولوا لا إله إلاّ الله. ثنا هناد ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله" الحديث ثم أردفه بحديث أبي هريرة في قتال أبي بكر لمانعي الزكاة، وساق الحديث بتمامه. ثم قال: باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله. ويقيموا الصلاة. ثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ثنا ابن المبارك (1) ثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله. وأن محمداً عبده ورسوله. وأن تستقبلوا قبلتنا ويأكلوا ذبيحتنا. وأن يصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلاّ بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" وفي الباب عن معاذ بن جبل وأبي هريرة. هذا حديث حسن صحيح. والمقصود بيان فساد هذه الشبهة التي دسها من يدعي أنه من العلماء على الجهلة من الناس أن من قال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله
فهو مسلم ولا يجوز قتله وإن ترك فرائض الإسلام. فهذا كلام الله وهذا كلام رسوله وهذا كلام العلماء صريحاً (1) في رد هذه الشبهة بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على أن الطائفة الممتنعة تقاتل على ترك الصلاة ومنع الزكاة وإن أقرّوا بالوجوب كما تقدمت النصوص الدالة على ذلك. بل قد صرح العلماء أن أهل البلد إذا تركوا الأذان والإقامة يقاتلون كما سيأتي. وصرحوا أيضاً بأنهم لو تركوا إقامة صلاة الجماعة يُقاتلون. وكذلك لو تركوا صلاة العيد. وعلماء الحرم الشريف (2) يقولون: من قال لا إله إلاّ الله فقد عصم ماله ونفسه وإن لم يُصل ولم يُزك (3) فسبحان الله مقلب القلوب والأبصار (4) كيف يشاء. وهل هذا إلاّ معارضة لكلام الله وكلام رسول وكلام أئمة المذاهب، وهذا كلامهم موجود في كتبهم يُصرحون بأن من ترك الصلاة قُتل وأن الطائفة الممتنعة من فعل الصلاة والزكاة والصيام والحج تقاتل حتى يكون الدين كله لله، ويحكون عليه الإجماع كما صرح بذلك أئمة الحنابلة في كتبهم فإذا كانوا مصرحين بأن من ترك بعض شعائر الإسلام كأهل قرية إذا تركوا الأذان أو تركوا صلاة الجماعة أو تركوا صلاة العيد أنهم يقاتلون فكيف بمن ترك الصلاة رأساً. وهؤلاء يقولون: من قال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله فقد عصم ماله ودمه وإن كانوا طائفة ممتنعين من فعل الصالة والزكاة. بل يصرحون بأن أهل (5) البوادي مسلمون (6) حرام علينا دماؤهم وأموالهم مع العلم القطعي بأنهم لا
يؤذنون ولا يصلون ولا يزكون بل الظاهر عنهم أنهم كافرون بالشرائع وينكرون البعث بعد الموت. سبحان الله ما أعظم هذا الجهل. وقد ذكرنا من كلام الله وكلام رسوله وكلام شراح الحديث ما فيه الهدى لمن هداه الله. وبينا أن العصمة شرطها التوحيد وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فمن لم يأت بهذه الثلاث لم يكف عنه ولم يخل سبيله وقد قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال- 39] ، وقال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة- 5] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله". وأما كلام الفقهاء فنذكره على التفصيل إن شاء الله! أما كلام المالكية فقال الشيخ علي الأجهوري في شرح المختصر: من ترك فرضاً آخر لبقاء (1) ركعة بسجدتيها من الضروري قتل بالسيف حداً على المشهور. وقال ابن حبيب وجماعة ظاهر المذهب كفراً، واختاره ابن عبد السلام انتهى. وقال في فضل الأذان، قال المازري: في الأذان معنيان أحدهما إظهار الشعائر والتعريف بأن الدار دار (2) إسلام وهو فرض كفاية
يقاتل أهل القرية حتى يفعلوه، فإن عجز عن قهرهم على إقامته إلا بقتال قوتلوا (1) ، والثاني الدعاء للصالة والأعلام بوقتها. وقال الأبي في شرح مسلم: والمشهور أن الأذان فرض كفاية على أهل المصر لأنه شعار الإسلام، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يسمع الأذان أغار والا أمسك (2) ، وقال المصنف يقاتلون عليه ليس القتال عليه من خصائص القول بالوجوب لأنه نصّ عن عياض، وفي قول المصنف والوتر غير واجب إلاّ (3) أنهم اختلفوا في التمالي على ترك السنن هل يقاتلون عليها؟ والصحيح قتالهم وإكراههم لأن في التمالي على تركها إماتتها. انتهى وقال في فضل صلاة الجماعة. قال ابن رشد: صلاة الجماعة مستحبة للرجل في نفسه (4) فرض كفاية في الجملة. ويعني بقوله في الجملة أنها فرض كفاية على أهل المصر ولو تركوها قوتلوا كما تقدم انتهى. وعبارة غيره وإن تركها أهل بلد قوتلوا وأهل حارة أجبروا عليها. انتهى كلام الشيخ علي الأجهوري. فانظر تصريحهم بأن تارك الصلاة يقتل باتفاق أصحاب مالك وإنما اختلفوا في كفره، وأن ابن حبيب وابن عبد السلام اختاروا أنه يقتل كافراً. وتأمل كلامهم في الطائفة الممتنعة عن الأذان أو عن إقامة الجماعة في المساجد أنهم يقاتلون، فأين هذا من قولكم إن من ترك
الفرائض مع الإقرار بوجوبها لا يحلّ قتالهم لأنهم يقولون: لا إله إلاّ الله. وأما كلام الشافعية فقال الشيخ الإمام العلامة أحمد بن حمدان الأذرعي -رحمه الله- في كتاب "قوت المحتاج في شرح المنهاج". من ترك الصلاة جاحداً لوجوبها كفر بالإجماع، وذلك جار في كل جحود مجمعٍ عليه معلوم من الدين بالضرورة، فمن تركها كسلاً قتل حداً على الصحيح أو المشهور. أما قتله فلأن الله أمر بقتل المشركين ثم قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} . [التوبة- 5] فدل على أن القتل لا يرفع إلا بالإيمان وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ولما في الصحيحين "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا من دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها" ثم قال: "إشارات" منها جعل قتلة ردة ووجد لشر ذمة منهم منصور التميمي، وابن خزيمة، وقضية كلام الرونق أنه كلام منصوص (1) حيث قال: فإذا قتل ففي ماله ودفنه بين المسلمين قولان: أحدهما ما رواه الربيع عن الشافعي إن ماله يكون فيئاً ولا يدفن في مقابر المسلمين والثاني ما رواه المزني عن الشافعي أن ماله يكون لورثته ويدفن في مقابر المسلمين. وقال منصور في المستعمل سألت الربيع ما نصنع بماله إذا قتلناه؟ قال يكون فيئاً. "ومنها" قال في الروضة: تارك الوضوء يقتل على الصحيح جزم به الشيخ أبو حامد. وفي البيان: لو صلى عرياناً مع القدرة على السترة (2) أو الفريضة قاعداً بلا عذر قتل، وكذلك لو ترك التشهد أو الإعتدال، حكاه ابن الأستاذ عن البحر. فإن صح طُرد في سائر الأركان
والشروط، ويجب أن يكون محله فيما أجمع عليه، ومنها لو امتنع من الصوم والزكاة حسب ومنع المفطرات. وقال إمام الحرمين يجوز أن يجعل الممتنع مما يضيق عليه كالممتنع من الصلاة يجبر عليه فإن أبى ضربت عنقه. قال المصنف والصحيح قتله بصلاة واحدة بشرط إخراجها عن وقت الضرورة انتهى كلام الأذرعي فانظر كلامه في قتل من ترك الصلاة كسلاً. وأن ربيع روى عن الشافعي أن ماله يكون فيئاً ولا يدفن في مقابر المسلين. وتأمل كلام أبي حمد وكالم صاحب الروضة في قتل تارك الوضوء وكلام صاحب البيان فيمن صلى عرياناً مع القدرة على السترة وصلى الفريضة قاعداً بلا عذر أنه يقتل فأين هذا من قولكم إن من قال لا إله إلاّ الله كف عنه ولا يجوز قتاله بوجه من الوجوه. وقال الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي (1) في التحفة في باب حكم تارك الصلاة: ان ترك الصلاة جاحداً وجوبها كفر بالإجماع، أو تركها كسلاً مع اعتقاده وجوبها قتل للآية {فَإِنْ تَابُوا} وخبر "أمرت أن أقاتل الناس" فإنهما شرطاًن (2) في الكف عن القتل والمقاتلة الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة لأن الزكاة يمكن الإمام أخذها ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا وقاتلوا فكانت فيها على حقيقتها بخلافها في الصلاة فإنه لا يمكن فعلها بالمقاتلة. فكانت فيها بمعن القتل (3) . وقال في باب صلاة الجماعة: قيل وهي فرض للرجل فتجب
بحيث تظهر بها الشعائر (1) في ذلك المحل في البادية أو غيرها فإن لم يظهر الشعار بأن امتنعوا كلهم أو بعضهم -كأهل محلة من قرية كبيرة ولم يظهر الشعار إلا بهم- قتلوا، يقاتلهم (2) الإمام أو نائبه لإظهار هذه الشعيرة الكبيرة. وقال في باب الأذان: الأذان والإقامة سنة وقيل فرض كفاية فيقاتل أهل بلد تركوهما أو أحدهما بحيث لم يظهروا الشعائر (3) . وقال في باب صلاة العيدين: هي سنة وقيل فرض كفاية فعليه يقاتل أهل بلد تركوهما أو أحدهما. انتهى كلامه في التحفة (4) . فانظر إلى كلامه في قتل تارك الصلاة كسلاً. وتأمل قوله إن الآية والحديث شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة الإسلام وإقام
الصلاة وإيتاء الزكاة، وإن الإمام يأخذ الزكاة بالمقاتلة ممن امتنعوا أو قاتلوا. وتأمل كلامه في باب صلاة الجماعة، وأنها تجب بحيث يظهر الشعار في ذلك المحل حتى في البادية وأنهم يقاتلون إذا امتنعوا. وتأمل كلامه في الأذان والإقامة، وأن الإمام يقاتل على تركهما وعلى ترك أحدهما على القول بأنهما فرض كفاية. وتأمل كلامه في الطائفة إذا امتنعوا من صالة العيدين، فأين هذا من كلام من يقول: إن أهل البلد والبوادي إذا قالوا: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله لم يجز قتالهم وإن لم يصلوا ولم يزكوا، سبحان الله ما أعظم هذا الجهل. وأما كلام الحنابة فقال في الإقناع وشرحه في كتاب الصلاة ومن حجب وجوبها كفر، فإن تركها تهوناً وكسلاً لا جحوداً (1) دعاه الإمام أو نائبه إلى فعلها لاحتمال أن يكون تركها لعذر يعتقد سقوطها به كالمرض ونحوه، فيهدّده فإن أبى أن يصليها حتى تضايق وقت التي بعدها وجب قتله بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} -إلى قوله تعالى- {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} . [التوبة- 5] . فمن (2) ترك الصلاة لم يأت بشرط التخلية فيبقى على إباحة القتل وبقوله عليه السلام: "ومن ترك الصلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ورسوله". رواه الإمام أحمد عن مكحول وهو مرسل جيد (3) ، ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام كمرتد (4) نصاً، فإن تاب بفعلها وإلاّ قتل بضرب عنقه بالسيف لما رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" رواه مسلم وروى بريدة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تركها فقد كفر" رواه الخمسة وصححه الترمذي، انتهى وقال -رحمه الله- في باب الأذان والإقامة: فإن تركهما أي الأذان والإقامة أهل بلد قوتلوا، أي يقاتلهم الإمام أو نائبه حتى يفعلوهما، لأنهما من أعلام الدين الظاهرة، فقوتلوا على تركهما كصلاة العيد. وقال -رحمه الله- في باب صلاة الجماعة: وهي واجبة وجوب عين، فيقاتل تاركها كالأذان، لكن الأذان إنما يقاتل على تركه إذا تركه أهل البلد كلهم بخلاف الجماعة فإنه يقاتل تاركها وإن أقامها غيره لأن وجوبها على الأعيان بخلافه. وقال -رحمه الله- في باب صلاة العيدين: وهي فرض كفاية إن تركها أهل بلد يبلغون أربعين بلا عذر قاتلهم الإمام كالأذان لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وفي تركها تهاون بالدين. وقال -رحمه الله- في "باب إخراج الزكاة" ومن منعها بخلاً أو تهاوناً أخذت منه قهراً كدين الآدمي، وإن غيب ماله أو كتمه وأمكن أخذها بأن كان في قبضة الإمام أخذت منه بغير زيادة، وإن لم يمكن أخذها استتيب ثلاثة أيام وجوباً، فإن تاب وأخرج كفّ عنه وإلاّ قتل لإتفاق الصحابة على قتال مانعيها وغن لم يمكن أخذها إلاّ بقتال وجب على الإمام قتاله إن وضعها موضعها، انتهى كلامه في الإقناع وشرحه. فتأمل كلامه فيمن ترك الصلاة كسلاً من غير جحود أن يستتاب، فإن تاب وإلاّ قتل كافراً وتأمل كلامه في أهل البلدان، إذا تركوا الأذان والإقامة وصلاة العيد أنهم يقاتلون بمجرد ترك ذلك، فهذا كلام المالكية، وهذا كلام الشافعية، وهذا كلام الحنابلة، الكل منهم قد صرح بما ذكرناه، فإذا كانوا مصرحين بقتال من التزم شرائع
الإسلام، إلاّ أنهم تركوا الأذان أو تركوا صلاة الجماعة أو تركوا صلاة العيد، فكيف بمن ترك الصلاة رأساً كالبوادي الذين لا يصلون ولا يزكون ولا يصومون، بل ينكرون الشرائع، ويكرون البعث بعد الموت، هذا هو الغاب عليهم إلا من شاء وهم القليل، وإلا فأكثرهم ليس معهم من الإسلام إلاّ أنهم يقولون لا لا إله إلاّ الله ومع هذا يجادل عنهم علماء مكة المشرفة ويقولون: إنهم مسلمون، وإن دماءهم وأموالهم حرام بحرمة الإسلام، وإن لم يصلوا ولم يزكوا ولم يصوموا إلاّ أنهم يقولون لا إله إلاّ الله، وهل هذا إلاً رد على الله تعالى حيث قال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة- 5] وهؤلاء يقولون يخلى سبيلهم وإن لم يصلوا ولم يزكوا. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منهي دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام". وهؤلاء يقولون: من قال لا إله إلاّ الله عصم دمه وماله وإن لم يصلّ ولم يزك {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم- 59] فهذا كتاب الله وهذه سنة رسوله وهذا إجماع الصحابة على قتل من ترك الصلاة أو منع الزكاة. قال صدّيق الأمة أبو بكر رضي الله عنه: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية عناقاً لقاتلتهم على منعها، وهذا أيضاً إجماع العلماء قال في شرح الإقناع: أجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام فإنه (1) يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله
كالمحاربين وأولى، انتهى. وقال أبو العباس -رحمه الله-: "القتال واجب حتى يكون الدين كله لله وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الزكاة أو الصيام أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء أو الأموال أو الخمر أو الزنا أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو ضرب الجزية على أهل الكتاب أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها، فان الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء، وإنما اختلف الفقهاء في الطائفة الممتنعة إذا أصرّت على ترك بعض السنن كركعتي الفجر أو الأذان أو الإقامة عند من لا يقول بوجوبها ونحو ذلك من الشعائر فهل تقاتل الطائفة الممتنعة على تركها أم لا؟ فأما الواجبات أو المحرمات المذكورة ونحوها فال خلاف في القتال عليها"، انتهى كلامه. فتأمل كلام إمام الحنابلة وتصريحه بأن من امتنع عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة كالصلوات الخمس أو الصيام أو الزكاة أو الحج، أو عن ترك المحرمات كالزنا أو شرب الخمر أو المسكرات أو غير ذلك، فإنه يجب قتال الطائفة الممتنعة عن ذلك حتى يكون الدين كله الله، ويلتزموا (1) جميع شرائع الإسلام، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائع الإسلام، وإن ذلك مما اتفق عليه الفقهاء من سائر الصحابة فمن بعدهم فأين هذا من قولكم: إن من قال لا إله إلاّ الله فقد عصم ماله ودمه وإن ترك (2) الفرائض وارتكب (3) المحرّمات، بل من تأمل سيرة النبي صلى الله
عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده عرف أن قولكم هذا مضاد لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وما فعله الخلفاء الراشدون ومن بعدهم. فيا سبحان الله: "أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وهم يقولون لا إله إلاّ الله وسبي نساءهم، واستحلّ دماءهم وأموالهم" (1) أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يغزو بني المصطلق لما قيل له إنهم منعوا الزكاة، وكان الذي قاله كاذباً، والقصة مشهورة في كتب الحديث والتفسير، ذكرها المفسرون عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات- 6] . أما علمتم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية مع أنهم يقولون لا إله إلاّ الله؟ أما علمتم أن الصحابة رضي الله عنه قاتلوا الخوارج بأمر نبيهم صلى الله عليه وسلم، مع أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصحابة يحقرون صلاتهم مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم، وقراءتهم مع قرآءتهم وقال: "أينما لقيتموهم فاقتلوهم؟ " أما علمتم أن الصحابة قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ويصلون ويؤذنون؟ (2) . أما علمتم أن الصحابة قاتلوا بني يربوع لما منعوا الزكاة، مع أنهم مقرون بوجوبها وكانوا قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر فمنعهم مالك بن نويرة وفي أمر هؤلاء عرضت الشبهة لعمر رضي الله عنه حتى جلاها الصديق أبو بكر رضي الله عنه وقال:
"والله لو منعوني عقالاً -وفي رواية عناقاً- كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: فوالله ما هو إلى أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر لقتال فعرفت أنه الحق، وقد تقدم ذلك مبسوطاً، وذكرنا لفظه في شرح مسلم في "باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلاّ الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة". أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث صاحب الراية (1) إلى رجل تزوج امرأة أبيه كما رواه الترمذي في سننه حيث قال: "باب ما جاء فيمن تزوج امرأة أبيه". حدثنا أبو سعيد الأشج أخبرنا حفص بن غياث (2) عن أشعث عن عدي بن ثبات عن البراء قال: مرّ بي خالي أبو بردة ومعه لواء فقلت أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن آتيه برأسه، حديث حسن غريب، انتهى (3) .
ولو تتبعنا الآيات والأحاديث والآثار وكلام العلماء في قتال من قال: لا إله إلاّ الله إذا ترك بعض حقوقها لطال الكلام جداً، فكيف بمن ترك (1) الإسلام كله، وكذب به، واستهزأ به على عمد إلا أنهم يقولون: لا إله إلاّ الله كهؤلاء البوادي؟ وفيما ذكرنا كفاية لمن طلب
الإنصاف، فقد ذكرنا الأدلة من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة، وإجماع العلماء بعدهم. فإن كان هذا الذي ذكرنا له معنى آخر ما فهمناه بينوه لنا من كلام الله وكلام رسوله وكلام العلماء فرحم الله أمرءاً نظر لنفسه، وعرف أنه ملاق الله الذي عنده الجنة والنار.
المسألة الثالثة
المسألة الثالثة وهي: [أما المسألة الثالثة فقالوا فهل يجوز البناء على القبور؟] . فنقول: ثبت في الصحيحين والسنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البناء على القبور وأمر بهدمه، كما رواه مسلم في صحيحه حيث قال: حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويّته (1) . وقال أيضاً: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبني عليه، وأن يكتب عليه (2) قال أيضاً: حدثنا هارون بن سعيد الأيلي قال: حدثنا وهب قال حدثني عمرو بن الحارث أن ثمامة بن شفي حدثه قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها (3) .
وقال الترمذي: "باب ما جاء في تسوية القبور" حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي (1) وائل أن علياً رضي الله عنه قال لأبي الهياج الأسدي ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته، ولا تمثالاً إلا طمسته. قال: وفي الباب عن جابر. وقال ابن ماجه في "باب ما جاء في النهي عن البناء على القبور وتجصيصها والكتابة عليها": حدثنا أزهر بن مروان ومحمد بن زياد حدثنا عبد الوارث عن أيوب عبن أبي الزبير عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور (2) . وحدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا حفص بن غياث عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب على القبر شيء. وحدثنا محمد بن يحيى حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي حدثنا وهب حدثنا عبد الرحمن بن يزيد عن القاسم بن مخيمرة عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبنى على القبور (3) .
وقال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم: قال الشافعي -رحمه الله- في الأم: "رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى، ويؤيد الهدم قوله: ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته". وقال الأذرعي -رحمه الله- في "قوت المحتاج" ثبت في صحيح مسلم النهي عن التجصيص والبناء. وفي الترمذي وغيره: النهي عن الكتابة. وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن يبنى عليها قباب ولا غيرها، والوصية عليها باطلة. قال الأذرعي: ولا يبعد الجزم بالتحريم في ملكه وغيره من غير حاجة على من علم النهي، بل هو القياس الحق، والوجه في البناء على القبور المباهاة والمضاهاة للجبابرة والكفار، والتحريم يثبت بدون ذلك. وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة، وانفاق الأموال الكثيرة عليه فلا ريب في تحريمه، والعجب كل العجب من يلزم ذلك الورثة من حكام العصر، ويعمل بالوصية بذلك! انتهى كلام الأذرعي -رحمه الله- ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور، وما أمر به، وما نهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما أنتم عليه من فعلكم مع قبر أبي طالب والمحجوب وغيرهما وجد أحدهما مضاداً للآخر، مناقضاً له بحيث لا يجتمعان أبداً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور كما تقدم ذكره، وأنتم تبنون عليها القباب العظيمة، والذي رأيته في المعلاة أكثر من عشرين قبة، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزاد عليها غير ترابها وأنتم تزيدون عليها غير التراب التابوت الذي عليه ولباس الجوخ، ومن فوق ذلك القبة العظيمة المبنية بالأحجار والجص. وقد روى أبو داود من حديث جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكتابة عليها كما تقدم في صحيح مسلم. وقال أبو عيسى الترمذي "باب ما جاء في تجصيص القبور والكتابة عليها": حدثنا عبد الرحمن بن الأسود ثنا محمد بن ربيعة عن ابن جريج (1) عن أبي الزبير عن جابر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور أن يكتب عليها، وأن يبنى عليها، وأن توطأ" هذا حديث حسن صحيح. وهذه القبور عندكم مكتوب عليها القرآن والأشعار. وقال أبو داود "باب البناء على القبور". حدثنا أحمد بن حنبل ثنا عبد الرزاق قال أخبرني ابن جريج (2) حدثني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد على القبر، وأن يجصص، وأن يبنى عليه انتهى. ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسرجها. والذي رأيته ليلة دخولنا مكة -شرفها الله- في المقبرة أكثر من مائة قنديل. هذا مع علمكم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله. فقد روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعن زائرات القبور، والمتخذين عليها المساج والسرج. رواه أهل السنن. وأعظم من هذا كله وأشد تحريماً الشرك الأكبر الذي يفعل عندها وهو دعاء المقبورين وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، لكن تقولون لنا: إن هذا لا يفعل عندها وليس عندنا أحد
يدعوها ويسألها. ونقول: اللهم اجعل ما ذكروه حقاً وصدقاً ونسأل الله أن يطهر حرمه من الشرك. ولا ريب أن دعاء الموتى وسؤالهم جلب الفوائد، وكشف الشدائد أنه من الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين كما تقدم بيانه في المسألة الأولى. وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن- 18] وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} [الإسراء- 56] ، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس- 106] (1) , وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ , إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا..} الآية [فاطر- 13] ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ , وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الاحقاف- 5- 6] ، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد- 14] . وقد روى الترمذي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء مخ العبادة" (2) وعن النهمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر- 60] . رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
قال العلقمي في شرح الجامع الصغير حديث "الدعاء مخ العبادة" قال شيخنا: قال في النهاية: مخ الشيء خالصه. وإنما كان مخها لأمرين: أحدهما أنه امتثال لأمر الله حيث قال: "ادعوني استجب لكم" فهو محض العبادة وخالصها. والثاني: أنه إذا رأى نجاح الأمور من الله تعالى قطع عمله عما سواه ودعاه لحاجته وحده وهذا أصل العبادة. ولأن الغرض من العبادة الثواب عليها وهذا هو المطلوب من الدعاء. وقوله: "الدعاء هو العبادة" قال شيخنا: قال الطيبي (1) : أتى بالخبر المعرف باللام ليدل على الحصر، وأن العبادة ليست غير الدعاء. وقال شيخنا: قال البيضاوي: لما حم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقية التي تتأهل أن تسمى عبادة من حيث أنه يدل على أن فاعله مقبل على الله معرض عما سواه لا يرجو إلاّ إياه ولا يخاف إلاّ منه. واستدل عليه بالآية يعني قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر- 60] فإنها تدل على أنه أمر مأمور به إذا أتى به المكلف قبل منه لا محالة، وترتب عليه المقصود ترتب الجزاء على الشرط، والسبب على المسبب، وما كان كذلك كان أتم العبادة. انتهى كلام العلقمي -رحمه الله-. وليكن هذا آخر الكلام على هذه المسائل الثلاث فإن وافقتمونا على أن هذا هو الحق فهو المطلوب. وإن زعمتم أن الحق خلافه فأجيبونا بعلم من الكتاب والسنة فإنهما الحاكمان بين الناس فيما تنازعوا فيه كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . [النساء- 59] . وقد ذكرنا لكم الأدلة من الكتاب والسنة وكلام الأئمة فإن لم تسلموا لهذه الأدلة فاذكروا لنا جوابها من الكتاب والسنة وكلام
الأئمة. فإذا أجبتم على هذه المسائل الثلاث أجبناكم عن بقية المسائل إن شاء الله. ولنختم الكلام بقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ , الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج- 40- 41] والحمد لله أولاً وآخراً كما يحب ربنا ويرضى وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً والحمد لله رب العالمين.
أهم المراجع حسب ورودها في الكتاب
أهم المراجع حسب ورودها في الكتاب تنبيه: المراجع التي استقيت المعلومات منها في الرسالة الأولى وهي من مراجعي في هذه الرسلة لا أذكرها في هذا الفهرس اكتفاءً بذكري لها في الرسالة الأولى وهكذا في جميع الكتب القادمة من هذه السلسلة إن شاء الله. 1- تلخيص الردّ على البكري، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط. السلفية بمصر 1346هـ. 2- روضة الأفكار والأفهام، لابن غنام، ط. المكتبة السلفية بالرياض. 3- علما نجد، لشيخ ابن بسّام، ط. مكتبة النهضة بمكة 1398هـ. 4- الدرر السنية، للشيخ ابن قاسم، ط. النور. 5- إغاثة اللهفان، لابن القيم، ط. دار المعرفة ببيروت. 6- درء تعارض النقل والعقل، لشيخ الإسلام، ط. جامعة الإمام محمد بن سعود 1401هـ. 7- معرفة القرّاء الكبار، للذهبي. 8- الإنصاف، للمرداوي، ط. أنصار السنة 1377هـ. 9- حاشية الروض المربع، للعلامة ابن قاسم، ط. الأهلية 1399هـ.
10- مختصر سنن أبي داود، للمنذري مع تهذيب ابن القيم، ط. أنصار السنة 1368هـ.