الفواكه الشهية في الخطب المنبرية والخطب المنبرية على المناسبات

عبد الرحمن السعدي

أولا الفواكه الشهية في الخطب المنبرية تأليف علامة القصيم المحقق الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي من أفاضل علماء عنيزة رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على نعمه، وأشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو، وأن محمدا عبده ورسوله. وبعد: فهذه خطب استجدت بعد ما جمعنا الخطب السابقة ونشرناها، أحببنا جمعها ونشرها؛ لتعم الفائدة، ولو كانت في موضوع واحد أو مواضيع متقاربة اكتفينا بالخُطب الأُوَل؛ لما فيها - ولله الحمد - من حصول المقصود، ولكن هذه الخطب كالأُوَل، جمعت بين الوعظ والتعليم، والتوجيهات للمنافع ودفع المضار الدينية والدنيوية، بأساليب متنوعة، والتفصيلات المضطر إليها كما ستراه. ونسأله تعالى أن يجعل عملنا خالصا لوجهه، موافقا لما يحبه ويرضاه، نافعا لنا ولغيرنا. إنه جواد كريم.

1 - خطبة في الحث على التقوى وبيان حدها وفوائدها الحمد لله المتفرد بعظمته وكبريائه ومجده، المدبر للأمور بمشيئته وحكمته وحمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وفضله ورفده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خير داع إلى هداه ورشده، اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وجنده. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، فإن تقوى الله خير لباس وزاد، وأفضل وسيلة إلى رضى رب العباد، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] فوعد المتقي بالفرج والخروج من كل هم وضيق، وبالرزق الواسع المتيسر من كل طريق، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا - وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 4 - 5] فوعد من اتقاه أن ييسره لليسرى في كل الأمور، وأن يكفر عنه السيئات ويعظم له الأجور، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29] فبشر المؤمنين إذا اتقوه بالفرقان؛ وهو العلم النافع،

المفرق بين الحلال والحرام، وبتكفير السيئات ومغفرة الآثام، وبالفضل العظيم من الملك العلام. فإن سألتم عن تفسير التقوى التي هذه آثارها، وهذه ثمراتها وفوائدها، فإن أساسها التوبة النصوح من جميع الذنوب، ثم الإنابة منكم كل وقت إلى علام الغيوب، وذلك بالقصد الجازم إلى أداء الفرائض والواجبات، وترك جميع المناهي والمحرمات، وهو القيام بحقوق الله، وحقوق المخلوقين. والتقرب بذلك إلى رب العالمين. علامة المتقي أن يكون قائما بأصول الإيمان، متمِّمًا لشرائع الإسلام وحقائق الإحسان، محافظا على الصلوات في أوقاتها، مؤديا الزكاة لمستحقيها وجهاتها، قائما بالحج والصيام، بارا بوالديه واصلا للأرحام، محسنا إلى الجيران والمساكين، صادقا في معاملته مع جميع المعامَلين، سليم القلب من الكبر والغل والحقد والحسد، مملوءا من النصيحة ومحبة الخير لكل أحد، لا يسأل إلا الله، ولا يستعين إلا بالله، ولا يرجو ولا يخشى أحدا سواه. وقد وصف الله المتقي وبين ثوابه، في قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] إلى قوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 136] من الله علي وعليكم بتحقيق التقوى، وجعلنا وإياكم ممن استمسك بالعروة الوثقى، وبارك لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في الحث علي الإحسان

[خطبة في الحث علي الإحسان] بمناسبة الجدب الذي ضر البوادي وتلفت به أموالهم الحمد لله الذي وعد المنفقين أجرا عظيما وخلفا، وأوعد الممسكين لأموالهم عن الخير عطبا وتلفا. وأشهد أن لا إله إلا هو الملك الجواد، الرءوف بالعباد. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل الرسل وخلاصة العباد، اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وأصحابه، أولي الفضل والعلم والانقياد. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله حق تقواه، وارحموا عباده تفوزوا بثوابه ورضاه، قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20] وقال صلى الله عليه وسلم: «ينزل كل صباح يوم ملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» . أيها الغني الذي عنده فضل من رزقه وماله: عد على أخيك

المعدم وترفق لحاله، فالراحمون يرحمهم الرحمن. «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» ارحموا إخوانكم الذين تلفت مواشيهم وقلت أموالهم، ارحموا عبادا اختلت أمورهم وتضعضعت أحوالهم، ارحموا أناسا كانوا بالأمس أغنياء واجدين، فأصبحوا من كل ما يملكونه معدمين، ارحموا أناسا أصابهم الجهد والفقر والضراء يرحمكم الرحمن في حالة السراء والضراء. أيها المؤمنون: ألا تثقون بوعد من لا يخلف الميعاد، ومن ليس لخيره وفضله نقص ولا نفاد، فإن الله وعد على الإنفاق الأجر ومضاعفة الثواب، ومدافعة البلايا والنقم والعذاب والخلف العاجل في المال والبركة في الأعمال، ووعد بفتح أبواب الرزق وصلاح الأحوال، فكونوا بوعده واثقين، وببره ومعروفه طامعين، فالقليل من الإنفاق مع النية الصالحة يكون كثيرا، وينيل الله لصاحبه مغفرة وأجرا كبيرا، قال صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لأحدكم، كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل العظيم، واتقوا النار ولو بشق تمرة» . ليتصدق أحدكم من درهمه من ديناره من صاع بره من صاع شعيره. كيف يشبع أحدنا وأخوه المسلم جائع؟! كيف يتقلب أحدنا في نعيم

الدنيا وأخوه معدم فاقد؟! أين أهل الرحمة والشفقة؟ وأين من يقتحم العقبة؟ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ - فَكُّ رَقَبَةٍ - أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ - يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ - أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 12 - 16] لقد قست قلوبنا فما ينفع فيها وعظ ولا تذكير، ولقد قلت رغبتنا في الخير فما يؤثر فيها تشويق ولا تحذير، أين نحن من أهل الصدقة والإحسان؟! الذين حنوا بما في قلوبهم من الرحمة على نوع الإنسان! يسارعون إلى الخيرات وإخراج المخبوءات! ويفرحون بالمال الذي يدفعون به الحاجات والضرورات، ويتقربون بذلك إلى رب السماوات، أولئك الذين يظلهم الله في ظله الظليل، وأولئك الذين حازوا الأجر والثواب الجزيل، وسلموا من العقاب والعذاب الوبيل، فليبشروا بالخلف العاجل من المولى الجليل، وبالبركة في أعمالهم، وأعمارهم وأرزاقهم، والخير الجميل، {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ - لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29 - 30] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في بيان لطفه بالعباد عند المكاره

[خطبة في بيان لطفه بالعباد عند المكاره] 3 - خطبة في بيان لطفه بالعباد عند المكاره الحمد لله الرؤوف الرحيم، البر الجواد الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العظيم، له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، والإحسان العميم، وله الرحمة الواسعة، والحكمة الشاملة، وهو العليم الحكيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه، الذين هُدُوا إلى الحق وإلى طريق مستقيم. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله تعالى، فإن روح التقوى شكر المولى على نعمائه، والصبر والرضى بمر قضائه، شكره على المحاب والمسار، والتضرع إليه عند المكاره والمضار، قال صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» . واعلموا أن في تقديره للضراء والمكاره حكما لا تخفى، وألطافا وتخفيفات لا تحد ولا تُستقصى، والمؤمن حين تصيبه المكاره يغنم على ربه فيكون من الرابحين، يغنم القيام

بوظيفة الصبر، فيتم له أجر الصابرين، ويرجو الأجر والثواب فيحظى بثواب المحتسبين، وينتظر الفرج من الله فيحوز أجر الراجين لفضله الطامعين، فإن أفضل العبادة انتظار الفرج العاجل، ورجاء الثواب الآجل، والله تعالى يبتلي عباده، فإذا ابتلى لطف وأعان، وإذا تصعبت الأمور من جانب تسهلت من نواح أخرى، فيها الرأفة والامتنان، أما ترون حين قدر الله بحكمته انحباس الغيث، ووقوع الجدب في النبات، كيف لطف بكم في حشو هذا البلاء بنعم متتابعات؟! ، وأياد وآلاء سابغات، أنعم عليكم بالآلات الحديثة التي قامت بها الزروع والحروث، واستخرجت بها المياه، وتتابعت بها النقليات لجميع المؤن من الضروريات والكماليات، ومرافق الحياة، فلو أن هذا الجدب صادف الناس بغير هذه الحالة، لهلكت الحروث وتعطلت النقليات، لقلة المواشي وعجزها، ولوقع بالعباد مجاعات وأضرار، وقاهم الله شرها، كما أن من ألطافه ما يسره للعباد من كثرة الأعمال المعينة على الرزق والمعاش، فقامت بها أمور الأغنياء والفقراء، وتم بها الانتعاش، فكم لله علينا من فضل عظيم، وكم أسبغ علينا من إحسان عميم، فعلينا أن نشكر الله بالاعتراف بنعمه وأياديه، وأن نتحدث بها في كل

ما يُسره أحدنا ويُبديه، وأن نستعين بها على طاعته ونتبع مراضيه، وعلينا أن نصبر ونرضى فيما يدبره مولانا ويقضيه، وأن يكون الفرج نصب أعيننا وقبلة قلوبنا، والطمع في فضله غاية قصدنا، ونهاية مطلوبنا، فإننا لم نرج مخلوقا ولا ممسكا ولا عديما، وإنما نرجو ربا غنيا جوادا كريما، لا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا يبالي بكثرة العطايا وإجابة السائلين، عم البرايا كلها بفضله وخيره وعطائه، ووسع الخليقة كلها بنعمه وآلائه، أمرنا بالدعاء والسؤال، ووعدنا عليه الإجابة وكثرة النوال: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في تذكير الناس بنعم الدين

[خطبة في تذكير الناس بنعم الدين] 4 - خطبة في تذكير الناس بنعم الدين الحمد لله الذي منَّ بظاهر النعم وباطنها، وفروعها وأصولها، فأعطى النفوس من سوابغ نعمائه، غاية منيتها ومنتهى سولها، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي تفرد بإيصال الخيرات والمسار، ودفع العقوبات والمكروهات والمضار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه الأخيار، وعلى التابعين لهم بإحسان، بالأقوال والأفعال والإقرار، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واشكروا مولاكم على ما خصكم به من النعم والآلاء، واعلموا أنكم لا تقدرون على العد لها والإحصاء، فاشتغلوا بالتفكر بأصول النعم وقواعدها، وما ترتب على ذلك من ثمراتها ونتائجها وفوائدها، فإنكم إذا ألقيتم نظرة على حالة الأمم وانحرافهم عن دين الإسلام القويم امتلأت قلوبكم من شكر الرب الرحيم، الذي منَّ عليكم بدين الإسلام، وبالسنة والصراط المستقيم، ثم إذا نظرتم في المنتسبين إلى دين الإسلام، وتفرقها على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة

إلا أهل السنة التي منَّ الله عليكم بها، فيالها أكبر منحة وأسبغ منة. ونقى لكم دينكم من البدع والإشراك، وسلمكم من وسائل الشرك وطرق الغي والهلاك، بوسائل وأسباب يسرها الرب الكريم، حيث أقام لكم كل إمام قد استقام على الصراط المستقيم. فكان إمامكم الإمام أحمد بن حنبل، أكبر إمام نصر السنة والكتاب، وبه وبأصحابه وأتباعه ونظرائه يعرف السني من البدعي من سائر الطوائف والأحزاب، حتى أقام الله شيخ الإسلام والمسلمين، أحمد بن تيمية تقي الدين، فجاهد الكفار والمنافقين، وسائر الملحدين، وفرق المبتدعين. وأظهر من صريح السنة وأعلامها وعلومها ما عجزت عنه مدارك الأولين والآخرين، وسلك طريقته تلامذته وأتباعه من فحول العلماء المحققين، حتى جاءت النوبة لشيخ الجزيرة، وإمامها الأواب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، فقام بهذا الأمر أتم القيام ولم يزل في جهاد مع الأعداء وجلاد. حتى نشر التوحيد الخالص والسنة المحضة بين العباد. وقمع الشرك ووسائله، والبدع والفساد، فخلصت الجزيرة ولله الحمد، وانصبغت بالسنة والتوحيد، وسلمت بمساعيه المشكورة ومساعي تلاميذه وأحفاده وأنصاره من الشرك والتنديد، فلم تجد فيها - ولله

الحمد - قبة على قبر ولا مشهدا، ولا توسلا بالمخلوقين، ولا مولدا ولا معبدا. أو ليس من أكبر منن الله عليكم وأجل إحسانه الواصل إليكم أن قيض لكم هؤلاء السادة الغرر؟! الذين حفظ الله بهم الدين الصحيح، وتحقق وانتشر حتى نشأتم أنتم وآباؤكم وأولادكم، تشربون من معين الشريعة أصفى شراب. وتغترفون من زلالها أحسن اغتراف، لم تدركوا هذا بوسيلة منكم، ولا قوة علم ولا ذكاء، وإنما ذلك فضل الله الذي ليس له غاية ولا انتهاء، بينما ترون الأقطار الأخرى محشوة بالشرك والكفر والإلحاد الصراح، مملوءة من البدع وبناء المشاهد على القبور. والأخلاق القباح، فاحمدوا ربكم على هذه النعم، التي لا تستطيعون لها عدا ولا شكورا، واستغفروه من تقصيركم، وتوبوا إليه إنه كان عفوا قديرا، وسلوه أن يحفظ عليكم أديانكم، وأن يثبتكم على الحق إلى الممات، وأن يحييكم في عافية مما أحاط بكم من الشرور والأمور المهلكات، إنه قريب مجيب الدعوات. فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في أن الجزاء من جنس العمل وأسباب شرح الصدر

[خطبة في أن الجزاء من جنس العمل وأسباب شرح الصدر] 5 - خطبة في أن الجزاء من جنس العمل وأسباب شرح الصدر الحمد لله الذي شرح صدور الموفقين بألطاف بره وآلائه، ونور بصائرهم بمشاهدة حكم شرعه وبديع صنعه ومحكم آياته، وألهمهم كلمة التقوى، وكانوا أحق بها وأهلها، فسبحانه من إله عظيم، وتبارك من رب واسع كريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وخيراته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أشرف رسله وخير برياته، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه في غدوات الدهر وروحاته. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن سعادة الدنيا والآخرة بصلاح القلوب وانشراحها، وزوال همومها وغمومها وأتراحها، فألزموا طاعة الله، وطاعة رسوله، تدركوا هذا المطلوب، واذكروا الله كثيرا، ألا بذكر الله تطمئن القلوب. أما علمتم أن الإقبال على الله - رغبة ورهبة وإنابة - في جميع النوائب والحالات أعظم الأسباب لانشراح الصدور وطمأنينة النفوس وإدراك الغايات؟ وأن الإعراض عن الله والانكباب على

الشهوات نار تلظى في القلوب، وخسران وحسرات؟ وأن السعي في طلب العلم النافع مع النية الصادقة من أكبر الطاعات، وبه تزول التبعات والجهالات، والأمور المعضلات؟ وأن تنوع العبد في السعي في نفع المخلوقين في قوله وفعله وماله وجاهه يصلح الله به أموره في الدنيا والدين؟ ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر عليه أو على الخلق وضعه، ومن عفى وسامح سامحه الله، ومن استقضى استقضى الله عليه، ومن تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته وفضحه، ومن تورع عن عيوب الخلق كف الله عن عرضه، ومن تقرب إلى الله، تقرب الله منه، ومن أعرض عن الله، أعرض الله عنه، والجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلام للعبيد. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] إلى قوله: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 11]

خطبة في وجوب العناية بحقوق الله

[خطبة في وجوب العناية بحقوق الله] 6 - خطبة في وجوب العناية بحقوق الله الحمد لله الذي أيقظ الغافلين، ونفع بالتذكرة المؤمنين، فلم يشتغلوا بالدنيا وحدها، بل جمعوا بين الدنيا والدين، وعرفوا ما لربهم من الحق، فقاموا به قيام الصادقين، أحمده حمد الحامدين، وأشكره وأستعينه، فهو نعم المولى ونعم المعين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي المصطفى الأمين، اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق تقواه لتفوزوا بنعيمه ورضاه، فإن الله خلقكم لمعرفته وعبادته، فطوبى لمن قام بحق مولاه، فحقه عليكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شركا خفيا ولا جليا، وأن تحققوا المتابعة والإخلاص، ويكون الله وحده لكم ناصرا ووليا، فتداركوا أعماركم بالتوبة النصوح، وإصلاح الأعمال قبل احترام النفوس وحضور الآجال، قبل أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وطاعة ذي الجلال، كيف تغترون بالدنيا وقد أمدكم بعمر يتذكر فيه من تذكر

وجاءكم النذير؟! وقد علمتم أن الأجل ينطوي والإنسان في كل لحظة يرحل ويسير، يا عجبا لنا نضيع أوقاتنا - وهي أنفس ما لدينا - باللهو والبطالات، وقد جعلنا الدنيا دار قرار، وإنما هي دار العمل والتزود واغتنام الخيرات، يا عجبا تستوفي جميع مراداتك من مولاك ولا تستوفي حقه عليك، وأنت متبع لهواك، وتعرض عن مولاك وقت الرخاء والسراء، وتلجأ إليه حين تصيبك الضراء، أكرمك وقدمك على سائر المخلوقات، فقدمه في قلبك، وقدم حقّه على كل المرادات، من أقبل على ربه تلقاه، ومن ترك لأجله وخالف هواه عوضه خيرا مما تركه، ورضي عنه مولاه، ومن قدم رضى المخلوقين على رضاه فقد خسر دينه ودنياه، ومن أعرض عن ذكره فإن له معيشة ضنكا، وذلك بما قدمت يداه، ومن توكل عليه صادقا من قلبه، يسر له أمره وكفاه، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] وحفظه من الشر وحماه {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في التوكل

[خطبة في التوكل] 7 - خطبة في التوكل الحمد لله القوي المتين، الملك الحق المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله، فإياه نعبد وإياه نستعين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد المرسلين وإمام المتقين. اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واعتصموا بحبل الله، وتوكلوا في أموركم كلها على الله، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 122] {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» . فالاستعانة بالله والتوكل عليه من أعظم واجبات الإيمان، وأفضل الأعمال المقربة إلى الرحمن، فإن الأمور كلها لا تحصل، ولا تتم إلا بالاستعانة بالله، ولا عاصم للعبد سوى الاعتماد على الله، فإن ما شاء الله كان؛ وما لم يشأ لم يكن، ولا تحول للعباد

من حال إلى حال إلا بالله، ولا قدرة لهم على طاعة الله إلا بتوفيق الله، ولا مانع لهم من الشر والمعاصي إلا عصمة الله، وكذلك أسباب الرزق لا تحصل وتتم إلا بالسعي في الطلب مع التوكل على الله، قال صلى الله عليه وسلم: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» ، فوصف صلى الله عليه وسلم المتوكل على الله بوصفين: السعي في طلب الرزق والاعتماد القوي على مسبب الأسباب، فمن فقد الوصفين أو أحدهما خسر وخاب، ومن سعى في الأسباب المباحة واعتمد على ربه وشكر المولى إذا حصلت له المحبوبات وصبر لحكمه عند المصائب والكريهات، فقد فاز ونجح واستولى على جميع الكمالات، من علم أنه فقير إلى ربه في كل أحواله كيف لا يتوكل عليه؟! ومن علم أنه عاجز مضطر إلى مولاه كيف لا يستعين به وينيب إليه؟! ومن تيقن أن الأمور كلها بيد الله كيف لا يطلبها ممن هي في يديه؟! ومن علم بسعة غناه وجوده كيف لا يلجأ في أموره كلها إليه؟! ومن استيقن أنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها كيف لا يطمئن قلبه إلى تدبيره؟! ومن علم أنه حكيم في كل ما قضاه كيف لا يرضى بتقديره؟! فيا أيها العبد المقبل على الخير إنك لن تناله إلا ببذل المجهود، والاستعانة والاعتماد على المعبود، ويا أيها المجاهد

نفسه عن المعاصي والذنوب إنه لا يتيسر لك تركها إلا بقوة الاعتصام بعلام الغيوب، فإنه من توكل عليه كفاه، ومن استعان به واعتصم أصلح له دينه ودنياه، ومن أعجب بنفسه وانقطع قلبه عن ربه خاب وخسر أولاه وأخراه، فكم من ضعيف عاجز عن مصالحه قوي توكله على ربه فأعانه عليها، وكم من قوي اعتمد على قوته فخانته أحوج ما يكون إليها، ما ثم إلا عون الله وتوفيقه، فهو عدة المؤمنين، ولا فلاح ولا سعادة إلا بعبادة الله والاستعانة به، فهو المعبود حقا، وهو نعم المعين، {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4] {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60] بارك الله لي ولكم.

خطبة في الحياة الطيبة

[خطبة في الحياة الطيبة] 8 - خطبة في الحياة الطيبة الحمد لله الرب الغفور، العفو الرؤوف الشكور، الذي وفق من شاء من عباده لتحصيل المكاسب والأجور، وجعل شغلهم بتحقيق الإيمان والعمل الصالح، يرجون تجارة لن تبور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي بيده تصاريف الأمور، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل آمر وأجل مأمور، اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وذلك بالقيام بحقوق الإيمان والأعمال الصالحة، فرضها ونفلها، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] فوعد من جمع بين الإيمان والعمل الصالح بالحياة الطيبة في هذه الدار، وبالأجر العظيم والثواب الجزيل في دار القرار، أما الإيمان فهو الإقرار والاعتراف بأصوله المبني على العلم واليقين والإذعان المقتضي للعمل الصالح وهو القيام بحقوق الله، أو حقوق الوالدين والأقارب،

والأصحاب وذوي الحقوق والجيران، فكل واجب أو مستحب فهو داخل في العمل الصالح، ويدخل في ذلك ترك الفسوق وجميع القبائح، فمن قام بذلك فليبشر بالحياة الطيبة، فهو المفلح الناجح، لا تحسبن الحياة الطيبة مجرد التمتع بالشهوات، ولا الإكثار من عرض الدنيا وتشييد المنازل المزخرفات، إنما الحياة الطيبة راحة القلوب وطمأنينتها، والقناعة التامة برزق الله، وسرورها بذكر الله وبهجتها، وانصباغها بمكارم الأخلاق، وانشراح الصدور وسعتها، لا حياة طيبة لغير الطائعين، ولا لذة حقيقة لغير الذاكرين، ولا راحة ولا طمأنينة قلب لغير المكتفين برزق الله القانعين، ولا نعيما صحيحا لغير أهل الخلق الجميل والمحسنين، لقد قال أمثال هؤلاء الأخيار: لو علم الملوك، وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة الأنس بالله لجالدونا بالسيوف عليه، ولو ذاق أرباب الدنيا ما ذقناه من حلاوة الطاعة، لغبطونا وزاحمونا عليه، ما ظنك بمن يمسي ويصبح ليس له هم سوى طاعة مولاه، ولا يخشى ولا يرجو ولا يتعلق بأحد سواه، إن أعطي شكر، وإن منع صبر، وإذا أذنب استغفر وتاب مما جناه، هذا والله النعيم الذي من فاته فهو المغبون، وهذه الحياة الطيبة التي لمثلها يعمل العاملون، أي نعيم لمن قلبه

يغلي بالخطايا والشهوات، وأي سرور لمن يتلهب فؤاده بحب الدنيا وهو ملآن من الحسرات، وأي راحة لمن فاته عيش القانعين، وأي حياة لمن تعلق قلبه بالمخلوقين، وأي عاقبة وفلاح لمن انقطع عن رب العالمين، ومع ذلك لا يرجو العقبى، وثواب العاملين بالله، لقد فاز الموفقون بعز الدنيا والآخرة، ورجع أهل الدناءة بالصفقة الخاسرة.

خطبة في تفسير قوله إن الله يأمر بالعدل

[خطبة في تفسير قوله إن الله يأمر بالعدل] 9 - خطبة في تفسير قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90] إلخ الحمد لله الذي جعل القرآن تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة للمؤمنين، وجمع فيه أصول الدين وفروعه، وأصلح به الدنيا والدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل الخلق وسيد المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بامتثالكم لأوامره، واجتنابكم لمناهيه، وتوددوا إليه بالتقرب إليه، واتباع مراضيه، فقد جمع الله الخير في آية واحدة من كتابه، وهي قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] فتأملوا كيف جمعت كل مأمور، ونهت عن كل شر ومحظور، أمر الله فيها بالعدل الذي قامت به الأرض والسماوات، وصلحت الأمور واستقامت به الموجودات، أكبر العدل القيام بالعبودية، وتحقيق التوحيد، وأعظم الظلم الشرك بالله، واتخاذ العديل به والتنديد، ومن

العدل إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والقيام بشرائع الدين، والقيام بحق الوالدين، والأقارب والجيران، والمعاملين، ومن العدل القيام بالقسط في الأحكام والولايات، بأن يكون الناس كلهم عندك سواء، البعداء والأقرباء، والأعداء وأهل المودات، ومن العدل معاملة الناس بالوفاء، والصدق والإنصاف، وأن تعطيهم ما لهم عليك كاملا كما تستوفي حقك بلا نقص ولا إجحاف. فـ {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ - الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ - وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ - أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ - لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 1 - 5] ومن العدل القيام على نفسك والأقربين والأبعدين وأن لا يضلك الهوى عن طريق الشرع والدين، ومن العدل أن تساوي بين زوجاتك في النفقة، والكسوة والعشرة، فعل أهل الكمال، وأن لا تفضل بعض أولادك على بعض في عطية أو بر أو وصال، وأمر تعالى بالإحسان في عبادته، وذلك بمراقبته وخوفه ورجائه، والإخلاص له في الأقوال والأعمال، وبالإحسان إلى عباد الله، بالنصح، والتعليم، وبذل الجاه والمال، ومن الإحسان بذل المعروف والعفو عن المسيئين ولين الكلام وطلاقة الوجه وحسن الخلق مع المسلمين كافة، ومن الإحسان إكرام الجيران وإيتاء

ذي القربى، ولهذا خصه الله بالذكر لشرفه ومصلحته العظمى، ومن الإحسان الرفق بالمماليك والخدم والبهائم، وأن لا يشتمهم ولا يحملهم ما لا طاقة لهم به، فعل المسرف الظالم، ونهى في الآية عن الفحشاء، وهي الكبائر من الجرائم، كالقتل والزنا والربا، والغش وسائر العظائم، وكذلك الرياء والكبر والسخرية بالخلق فإن ذلك من أشنع المآثم، وزجر عن منكرات الأخلاق، والأعمال والأهواء والأدواء، وعن البغي على الخلق، في أنفسهم وأموالهم، وأعراضهم، فالباغي لا بد أن يصرعه بغيه، وتكون له العاقبة الوخيمة السوء. من الله علي وعليكم بالعدل والإحسان، وجنبنا الفواحش والمنكرات والعدوان، وبارك لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في إنما الأعمال بالنيات

[خطبة في إنما الأعمال بالنيات] 10 - خطبة في «إنما الأعمال بالنيات» الحمد لله العالم بالبواطن والظواهر، والخفيات والجليات، المطلع على مكنون الصدور وخبايا الأمور، ودقيق المخلوقات في زوايا الظلمات، يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى وكامل الصفات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي شهدت له بالربوبية جميع الموجودات، وأذعن له بالألوهية والإخلاص خلاصة المخلوقات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الرسل وسيد البريات، اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وأصحابه أهل السرائر الصافيات، وعلى التابعين لهم بإحسان في صحة العقيدة وزكاء النيات. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فأحذروه، قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» ، وهذا من جوامع كلماته الشريفة، ومن أعظم أصول الشريعة المنيفة، فيدخل في هذا جميع العبادات والعادات، ويتناول المعاملات والمعاوضات والتبرعات، فلا يصح لأحد صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج

إلا بالنية، ولا تكمل عباداته كلها وينمو ثوابها إلا بكمال الإخلاص وصحة الطوية، والنية بها تميز فروض العبادات من نفلها، وبإخلاصها لله، يعظم أجرها، ويفوز العامل بفضلها. أيها الناس: وطنوا نفوسكم على الاحتساب في كل شيء وإرادة وجه الله، ومرنوها على محبة الخير للمسلمين والنصح لعباد الله، فإن الله لا ينظر إلى صوركم الظاهرة وأعمالكم، وإنما ينظر إلى بواطن قلوبكم، وما اشتملت عليه من أحوالكم، وعودوا أنفسكم الإخلاص في كل ما تأتون وما تذرون، واحتساب الأجر فيما تسرون وما تعلنون، ليكون الإخلاص لكم قرينا، وارتقاب الثواب على الخير لكم عوينا، فمن كان مشتغلا بتجارة، أو صناعة، أو حرفة، أو فلاحة، أو غيرها من الأعمال، فلينو بذلك القيام بواجب النفس والأهل والعيال، فإن ذلك جهاد واشتغال بالواجب؛ وهو من أفضل الأعمال، وإذا أطعم أحدكم أهله أو من يمونه فليقصد بذلك وجه الله، فإنه إذا رفع اللقمة إلى في امرأته أو ولده أو كساهم محتسبا كان له رفعة وثوابا عند الله. ومن أكل أو شرب أو نام أو استراح، ينوي بذلك التقوي على الطاعة فهو في عبادة، ومن طلب العلم يبتغي به وجه الله ونفع نفسه والمسلمين فهو في جهاد ورفعة وزيادة، ومن عجز عن فعل الخير

فنواه بصدق فله أجر ما نواه، ومن كان له عادة خير وطاعة فمرض أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما، فما أحق العبد بشكر مولاه، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن هم بسيئة فتركها لله كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن حرص على فعل المعصية فعجز عنها فهو بمنزلة الفاعل، ومن سعى في خير فأدركه الموت قبل تكميله وقع أجره على الله الذي أكرمه بلطفه الشامل، ومن أخذ أموال الناس وعاملهم يريد الوفاء أداها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله، ومن توسل بحيلة إلى معاملة محرمة فهو مخادع ظالم، ومن وقف وقفا أو أوصى بوصية يريد حرمان غريمه أو مضارة وارثه فهو معتد آثم، ومن عضل زوجته وظلمها لتفتدي منه نفسها فذلك من أعظم الجرائم، فطوبى لأهل الهمم العالية، لقد انقلبت عاداتهم بالنية الصالحة عبادات، ويا ويح أهل الجهل والهمم الدنيّة، لقد كادت عباداتهم لضعف النية تكون عادات، قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء: 19] الآية.

خطبة في الحث علي الدعاء

[خطبة في الحث علي الدعاء] 11 - خطبة في الحث علي الدعاء الحمد لله الذي أمر بالدعاء، ووعد عليه الإجابة، وحث على أفعال الخير كلها، وجعل جزاءها القبول والإثابة، فسبحانه من كريم جواد، رؤوف بالعباد، يأمر عباده بالتقرب إليه بالدعاء، ويخبرهم أن خزائنه ليس لها نفاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا مضاد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الرسل وخلاصة العباد، اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه العلماء العبّاد، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم التناد. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وتعرضوا لنفحات المولى في جميع الأوقات، بالدعاء والرجاء، واعلموا أن الدعاء يجلب الخيرات ويستدفع به البلاء، وأنه ما دعى الله داع إلا أعطاه ما سأله معجلا، أو ادخر له خيرا منه ثوابا مؤجلا، وصرف عنه من السوء أعظم منه، كرما منه وإحسانا وتفضلا، وفي الصحيح مرفوعا: «يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم، أو قطيعة رحم ما لم يعجل " قيل: يا رسول الله: ما الاستعجال؟ قال:

" يقول قد دعوت، وقد دعوت فلم أر يستجاب لي، فيتحسر عند ذلك، ويدع الدعاء» ، وفي حديث: «من فتح الله له باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة» ، و «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» [الدعاء] ، هو العبادة " ثم قرأ قوله تعالي: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] الآية، إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء، ليسأل أحدكم ربه حاجاته كلها، وكيف لا يكون الدعاء مخ العبادة وخالصها؟ وهو من أعظم القرب لرب العالمين، وبه يدرك العبد مصالح الدنيا والدين، وبكثرة الإلحاح فيه على الله ينقطع الرجاء من المخلوقين، ويكمل رجاؤه وطمعه في رحمة أرحم الراحمين، ألا وإن الدعاء ينبئ عن حقيقة العبودية، وقوة الافتقار، ويوجب للعبد خضوعه وخشوعه لربه وشدة الانكسار، فكم من حاجة دينية، أو دنيوية ألجأتك إلى كثرة التضرع واللجأ إلى الله والاضطرار إليه، وكم من دعوة رفع الله بها المكاره وأنواع المضار؟! وجلب بها الخيرات والبركات والمسار، وكم تعرض العبد لنفحات الكريم في ساعات الليل والنهار، فأصابته نفحة منها في ساعة إجابة، فسعد بها، وأفلح والتحق بالأبرار، وكم ضرع تائب فتاب عليه وغفر له الخطايا والأوزار!! وكم دعاه

مضطر فكشف عنه السوء وزال عنه الاضطرار، وكم لجأ إليه مستغيث فأغاثه بخيره المدرار!! فمن وفق لكثرة الدعاء فليبشر بقرب الإجابة، ومن أنزل حوائجه كلها بربه فليطمئن بحصولها من فضله وثوابه، فحقيق بك أيها العبد أن تلح بالدعاء ليلا ونهارا، وأن تلجأ إليه سرا وجهارا، وأن تعلم أنه لا غنى لك عنه طرفة عين في دينك ودنياك، فإنه ربك وإلهك ونصيرك ومولاك، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] الآية.

خطبة في التوسل إلى الله بالوسائل النافعة

[خطبة في التوسل إلى الله بالوسائل النافعة] 12 - خطبة في التوسل إلى الله بالوسائل النافعة الحمد لله الرب العظيم، الرؤوف الرحيم، ذي الفضل العظيم، والإحسان العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الكريم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم في هديهم القويم. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35] أما التقوى هنا فهي اجتناب الكفر والفسوق والعصيان، وأما الجهاد في سبيله فهو بذل الجهد في مقاومة أهل الانحراف والإلحاد والكفران، وأما ابتغاء الوسيلة إليه فهي التقرب إليه بأصول الإيمان وشرائع الإسلام وحقائق الإحسان، من تعبد له أو دعاه بأسمائه وصفاته فذاك أفضل الوسائل، ومن توسل إليه بإحسانه ونعمه وجوده وكرمه فقد سلك مسلك الأصفياء الأفاضل، ومن تقرب إليه بترك معاصيه والعمل بما يرضيه فهو الذي لا شك إلى كل خير واصل، ومن توسل إليه

بحاجته وفقره وضرورته فقد توسل إليه بخير الوسائل، ومن توسل إليه بذوات المخلوقين وجاههم فهو مبتدع ظالم، ومن دعا مخلوقا أو استغاث به وزعم أنه يتوسل به إلى الله فهو مشرك آثم. فتوسلوا إلى ربكم بكثرة السجود والركوع، وتوسلوا إليه بتلاوة كلامه بتدبر وخشوع، وتوسلوا إليه بالإحسان إلى الخلق إن الله يحب المحسنين، وببر الوالدين وصلة الأرحام، فإن الله يصل الواصلين ويقطع القاطعين، توسلوا إليه بخوفه ورجائه والتوكل عليه، فإن الله يحب المتوكلين، وتوسلوا إليه باللهج بذكره، واستغفاره فيا سعادة الذاكرين، توسلوا إليه بمحبة نبيكم وكثرة الصلاة والسلام عليه، فمن أكثر الصلاة عليه كفاه الله همه وقضى حاجته، ومن صلى عليه، صلى الله عليه عشر أضعافها، ونال حبه وشفاعته، توسلوا إليه بالحنو على اليتامى والضعفاء، وتقربوا إليه برحمة البهائم فإنما يرحم الله من عباده الرحماء، توسلوا إليه بسلامة الصدور من الفسق والغل والحقد على المسلمين، وبالنصيحة والشفقة على الخلق أجمعين، توسلوا إلى الله بترك ما تدعو له النفس الأمارة بالسوء من الهوى والتبعات، وبغض الأبصار وصيانة اللسان والبعد عن جميع المحرمات، توسلوا إلى الله بكمال الإخلاص للمعبود والمتابعة للرسول، لتدركوا كل مطلوب ومرغوب ومأمول. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في قوله صلى الله عليه وسلم احرص علي ما ينفعك

[خطبة في قوله صلى الله عليه وسلم احرص علي ما ينفعك] 13 - خطبة في قوله صلى الله عليه وسلم «احرص علي ما ينفعك» الحمد لله الذي جعل الشريعة محتوية على الهدى والشفا والنور، وأوصل من استرشد بكلامه وكلام رسوله إلى كل خير وسرور، أحمده على أوصافه الكاملة وأسمائه الحسنى، وأشكره على آلائه الباطنة والظاهرة وما له من عميم النعمى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته، ولا نديد له في عظمته وكبريائه ومجده وأحديته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير بريته، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه القائمين بحقوقه ونصرته. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق تقواه، وتمسكوا بإرشاد نبيه وهديه وهداه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله» ، فيالهما من كلمتين عظيمتين جمع فيهما خيري الدنيا والآخرة، لمن فهمهما وعمل بهما من العباد، فأما الحرص والجد في تحصيل الأمور النافعة في المعاش والمعاد، وذلك بالاجتهاد في القيام بعبودية الله التي خلق الله المكلفين لأجلها، وبما يعين على ذلك من كسب الحلال المساعد على أمرها، ولا

يتم ذلك إلا بسلوك طرقها النافعة وأبوابها، ولا يحصل إلا بقوة الاستعانة بالله والتوكل عليه، لا على الأسباب، بل على مسببها، فلا يفوت أحدا الخير إلا بترك واحد من هذه الأمور، إما أن لا يحرص بل يستولي عليه الكسل والفتور، أو يكون حريصا على غير الأمور النافعة، أو لا يستعين بميسر الأمور. أعظم الأمور النافعة أن تتعلم ما يقيم دينك وعباداتك ومعاملاتك، وأن تؤدي الشرائع الظاهرة والباطنة مجتهدا في تكميل عباداتك قائما بحقوق الخالق وحقوق الخلق، مستعينا بربك في طلب الحلال من الرزق، فيا طوبى لمن قوي توكله على ربه في تيسير أمر دينه ودنياه، ويا سعادته إذا شاهد النجاح والفلاح عند تمام مسعاه، إذا أردت أن تختار عملا نافعا تصلح به دنياك، فاسلك الطريق الموصل إليه برفق، واستعن بمولاك، فإنك إذا حققت التوكل عليه سهل لك الأمر، ويسره وكفاك، وإن أعجبت بنفسك ورأيك خذلك، ووكلك إلى ضعفك فوهنت قوتك وقواك، فلو توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا، ولكن كثيرا منكم يعجب بنفسه فيرهقه وهنا وهوانا وخذلانا، {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]

خطبة في انتظار الفرج وقت الشدة

[خطبة في انتظار الفرج وقت الشدة] 14 - خطبة في انتظار الفرج وقت الشدة الحمد لله الحميد في وصفه وفعله، الحكيم في خلقه وأمره، الرحيم في عطائه ومنعه، المحمود في خفضه ورفعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في كماله وعظمته ومجده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل مرسل من عنده، اللهم صلى وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وجنده. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وتفكروا في حكم المولى في تصريف الأمور، وأنه المحمود على ذلك، المثني عليه المشكور، واعلموا أن ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير، وأن هذه الشدة واللأواء لا بد أن يفرجها من هو على كل شيء قدير، ولا بد أن يبدل الشدة بضدها والعسر بالتيسير، بذلك وعد، وهو الصادق السميع البصير، فعودوا على أنفسكم بالاعتراف بمعاصيكم وعيوبكم، وتوبوا إليه توبة نصوحا من جميع ذنوبكم، وقوموا بما أمركم الله به، وهو الصبر عند المصائب، واحتسبوا الأجر والثواب، إذا أنابتكم المكاره والنوائب، وكونوا في أوقاتكم كلها خاضعين لربكم متضرعين، وفي كل أحوالكم سائلين له كشف ما بكم ولكرمه

مستعرضين، ووجهوا قلوبكم إلى من بيده خزائن الرحمة والأرزاق، وانتظروا الفرج وزوال الشدة من الرؤوف الرحيم الخلاق، فإن أفضل العبادة انتظار الفرج من الرحيم الرزاق، وإياكم أن يستولي على قلوبكم القنوط واليأس، أو تتفوهوا بالكلام الدال على التضجر والتسخط والإبلاس، فإن المؤمن لا يزال يسأل ربه ويطمع في فضله ويرجوه، ولا يزال مفتقرا إليه في جلب المنافع، ودفع المضار من جميع الوجوه، إن أصابته السراء كان في مقدمة الشاكرين، وإن نالته الضراء فهو من الصابرين، يعلم أنه لا رب له غير الله يقصده ويدعوه، ولا إله له سواه يؤمله ويرجوه، ليس له عن باب مولاه تحول ولا انصراف ولا لقلبه تلفت إلى غيره، ولا تعلق ولا انحراف، لا تخرجه السراء والنعم إلى الطغيان والبطر، ولا يكون هلوعا عند مس الضراء متسخطا للقضاء والقدر، يتمشى مع الأقدار السارة والمحزنة بطمأنينة وسكون، ويهدي الله لها قلبه لعلمه أنها تقدير من يقول للشيء كن فيكون، فهذا عبد موفق قد ربح على ربه وقام بعبوديته في جميع التقلبات، وقد نال السعادتين راحة البال، وحسن الحال والمآل، واكتسب الخيرات، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في الزجر عن إضاعة الصلاة

[خطبة في الزجر عن إضاعة الصلاة] 15 - خطبة في الزجر عن إضاعة الصلاة الحمد لله الرب العظيم، الواسع الحليم الرؤوف الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله الجواد الكريم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ومن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم في الصراط المستقيم. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وإياكم أن تكونوا ممن قال الله فيهم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] أضاعوا الصلاة بأن فوتوها عن الأوقات، وتهاونوا بالجمع والجماعات، ولم يخشوا ربهم ولا حذروا من العقوبات، إذا صلوها نقروها نقر الغراب، فلا سكون ولا طمأنينة ولا احتساب، تحسبهم إذا شرعوا فيها مطرودين، وتشاهدهم لأركانها وشروطها مهملين، وتبصرهم عن جميع كمالاتها غافلين، نسوا الله فنسيهم، وضيعوا مصالح الدنيا والدين، ضيعوا الصلاة واتبعوا لغيهم الشهوات، وقدموا أغراض النفوس على القيام بالواجبات، إن بدا لهم طمع طاروا إليه جماعات ووحدانا، وإذا جاء أمر الله فهم كسالى عنه

فحسبهم بذلك هوانا وخسرانا فياويح من قدم شهوات الغي عن طاعة مولاه، وما أخسر من زهد في الخير واتبع هواه فأهلكه وأرداه. أين الإسلام والإيمان يا من يدعيه؟! وأين الخوف من يوم يجد فيه كل عامل عمله ويلاقيه؟ يوم لا يجد هذا المفلس من أعماله ما ينجيه من عذاب ربه ويقيه. فويل يومئذ للمضيعين للصلاة من {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ - وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ - لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37] فأين هؤلاء الأراذل من أقوام يرون الصلاة أكبر نعمة من الله وأجل غنيمة؟! فيتلقونها بصدور منشرحة، وهمم صادقة، وأعمال مستقيمة، لا تفقدهم في جمعة ولا جماعة إلا إذا كان لهم عذر من الأعذار، {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ - لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 37 - 38] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في النار وصفتها وأهلها

[خطبة في النار وصفتها وأهلها] 16 - خطبة في النار وصفتها وأهلها الحمد لله الذي جعل النار مثوى للكافرين، وعاقبة المجرمين والمتكبرين والمتجبرين، فهو الحكم العدل شديد العقاب، وأحكم الحاكمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي حذر وأنذر، وأخبر أن جهنم مثوى الظالمين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أئمة المتقين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا ربكم، واتقوا النار التي أعدت للكافرين، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، فإن الله أخبر أنه لا يصلى النار إلا الأشقى، الذي كذب وتولى، وجمع فأوعى، ونسي المبتدأ والمنتهى، فهي دار من طغى وبغى وتجبر على الخلق وآثر الحياة الدنيا، دار الشقاء الأبدي والعذاب الشديد السرمدي، دار جمع الله فيها للطاغين أصناف العذاب، وأحل على أهلها السخط والسعير والحجاب، دار اشتد غيظها وزفيرها، وتفاقمت فظاعتها وحمي سعيرها، قعرها بعيد،

وعذابها شديد ولباس أهلها القطران والحديد، وطعامهم الغسلين وشرابهم الصديد، يتجرعه المجرم ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان، وما هو بميت فيستريح من التنكيد، يتردد أهلها بين الزمهرير المفرط برده وبين السعير، ويلاقون فيها العنا والشقا، فيا بئس المثوى ويا بئس المصير، ويلقى عليهم الجوع الشديد المفظع، والعطش العظيم الموجع، فيستغيثون للطعام والشراب، فيغاثون من هذا العذاب بأفظع عذاب، يغاثون بماء كالمهل وهو الرصاص المذاب، خبيث الطعم منتن الريح حره قد تناها، إذا قرب من وجوههم أسقط جلدها ولحمها وشواها، وإذا وقع في بطونهم صهرها وقطع أمعاءها، يغلي طعام الزقوم في بطونهم كغلي الحميم، فشاربون عليه من الحميم، فشاربون شرب الإبل العطاش الهيم، هذا نزلهم فبئس النزل غير الكريم، ينادودن مالكا خازن النار: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] فيقول {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ - لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77 - 78] وينادون مستغيثين بربهم {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ - رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ - قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 106 - 108] فحينئذ ييأسون من كل خير ويأخذون في الزفير والشهيق، وكلما رفعهم اللهب

وأرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم: ذوقوا عذاب الحريق، لا يفتر عنهم من عذابها وهم فيه مبلسون، ويبكون دما بعد الدموع فلا يرحمون، جزاء بما كانوا يكسبون، قد فاتهم مرادهم ومطلوبهم، واعترفوا بذنوبهم وأحاطت بهم ذنوبهم يدعون بالويل والثبور: يا ثبوراه! يا حسرتنا على ما فرطنا في جنب الله! واحزننا من فظيعة العذاب والشقا، واكربنا من دار العقاب وتجدد العنا، وافجيعتنا من الخلود في الجحيم ويا عظيم البلا، فمالنا من شافعين، ولا أولياء وأخلاء دافعين، قد نسينا الرحمن في العذاب كما نسيناه وكما جحدنا آياته وجزاءه ولقاه، فوالله إن أفئدتنا لتفتت من قوة العقاب، وإن قلوبنا لتتقطع من الكروب وعظم المصاب، سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، فالعذاب دائم وسواء دعونا أو سكتنا فليس لنا مشفق ولا ولي ولا راحم. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في ذكر صفة الجنة وأهلها

[خطبة في ذكر صفة الجنة وأهلها] 17 - خطبة في ذكر صفة الجنة وأهلها الحمد لله البر الكريم، الرؤوف الرحيم، ذي الفضل العظيم، والإحسان الشامل الكامل العميم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العظيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى الكريم، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه السالكين للصراط المستقيم. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، فإن الله أعد الجنة للمتقين. {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ - وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ - أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران: 134 - 136] فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلوب العالمين، فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، ولهم فيها من كل

الثمرات، والفواكه المتنوعة لذيذة الطعم سهلة المنال على المتناولين، وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، ظلها ممدود وخيرها غزير غير محدود، وأنهارها تجري في غير أخدود، فتبارك الرب المعبود، دار جل من سواها وبناها، دار طابت للأبرار منازلها المزخرفة وسكناها، دار تبلغ النفوس فيها منيتها ومناها، رياضها الناضرة مجمع الأصفياء المتحابين، وبساتينها الزاهرة نزهة المشتاقين، وخيام اللؤلؤ والدر على شواطئ أنهارها بهجة للناظرين، فيها خيرات الأخلاق حسان الوجوه، قد جمع الله لهن الجمال الباطن والظاهر من جميع الوجوه، أبكارا عربا أترابا، كأنهن اللؤلؤ المكنون، قاصرات الطرف من حسنهن الذي قصر عن وصفه الواصفون، مقصورات في خيام اللؤلؤ، والزبرجد عن رؤية العيون، يتمتع أهلها في كرم الرب الرحيم، وينظرون بأبصارهم إلى وجهه الكريم، فإذا رأوا ربهم تعالى نسوا ما هم فيه من النعيم، ينادي المنادي في أرجاء الجنة مبشرا لأهلها بدوام النعيم سرمدا، إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، وإن لكم أن يحل الكريم عليكم رضوانه فلا يسخط عليكم أبدا يتزاور فيها الأصحاب

والأقارب والأحباب، ويجتمعون في ظلها الظليل، ويتعاطون فيها كؤوس الرحيق والتسنيم والسلسبيل، ويتنادمون بأطيب الأحاديث متحدثين بنعم المولى الجليل، قد نزع من قلوبهم الغل والهم والأحزان، وتوالت عليهم المسرات والخيرات والكرم والإحسان، لمثل هذه الدار فليعمل العاملون، وفي أعمالهم الموصلة إليها فليتنافس المتنافسون، فواعجبا كيف نام طالبها؟ وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها؟ وكيف طاب القرار في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟ وكيف قر للمشتاقين القرار دون معانقة أبكارها؟ طريقها يسير على من يسره الله عليه، وهو امتثال الأوامر واجتناب النواهي والتوبة والإنابة إليه. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل واعتقاد، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل واعتقاد، إنك أنت الكريم الجواد.

خطبة في تيسير الله المعايش لعباده

[خطبة في تيسير الله المعايش لعباده] 18 - خطبة في تيسير الله المعايش لعباده الحمد لله ذي الفواضل الجليلة والعوائد، الذي خفف عن عباده المعضلات الشدائد، بما قيضه من أرزاق متنوعة، وبركات متتابعة وفوائد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك العظيم الواجد الماجد، الذي تفرد بالكمال المطلق فهو الإله السيد الصمد الأحد الواحد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل محمود وأكمل مثن على الله وحامد. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه المحسنين في الأعمال والمقاصد. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وتفكروا في نعم ربكم واشكروه، واذكروا آلاء الله وتحدثوا بفضله ولا تكفروه، واذكروا إذ كنتم من قبل أن ينزل عليكم هذا الغيث مبلسين، فأمدكم بغيثه فأصبحتم برزقه فرحين مستبشرين، ولئن شكوتم غلاء الأسعار وصعوبة المؤنة وتعذر المطلوب، فانظروا ما في ضمن ذلك من الألطاف والخصب الذي وضعه الله في القلوب، أما ذلك من ألطاف الباري ليخفف به عنكم الشدائد

والكروب، أليس من إحسانه إليكم أن سهل لكم كل مطلوب؟ فكم لله من خيرات وبركات ربانية، وكم له من أسرار وألطاف ظاهرة وخفية، أما قدر أسبابا وأعمالا متنوعة لتقوم بها معائش الخلق ويرتفقوا، أما سخر الغني للفقير والفقير للغني لينتفع الجميع ويرتزقوا؟ أما خصكم بما فجر لكم من ينابيع الأرض والعيون الجارية؟ أما أفادكم من بركات أرضه ونعمه المتتابعة المتوالية؟ أما ذلك نعمة في حق الأغنياء، وزيادة فضل عليهم وامتنان، ونعمة في حق الفقراء، لتكثر الأعمال والحرف ويتوافر الإحسان، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون، وأكثروا من ذكره وشكره لعل النعم تدوم عليكم وترحمون، جعلنا الله وإياكم من الشاكرين لنعمائه، الصابرين على أقداره وبلائه، وجعل ما أنعم به علينا معونة على الخير، ودفع عنا وعن المسلمين كل شر وضير {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في فضيلة الذكر

[خطبة في فضيلة الذكر] 19 - خطبة في فضيلة الذكر الحمد لله الذي أعطى الذاكرين ما لم يعط أحدا من العالمين، ورفع لهم المنازل العالية، وجعلهم صفوة المؤمنين، وأشهد أن لا إله إلا هو ولا ضد ولا معين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الذاكرين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واستعينوا على ذلك بذكر الملك العظيم، فإن ذكره يوصل العبد إلى كل خير جسيم، وينجيه من العذاب الأليم، فبذكر الله تطمئن القلوب، وتزول المكاره والكروب، أما علمتم أن من ذكر الله في نفسه ذكره الله في نفسه؟ ومن ذكره في ملأ ذكره في ملأ خير منهم، في حضرة قدسه، وأن الذاكرين الله كثيرا والذاكرات هم المفردون، وأنهم إلى كل خير وكرامة ونعمة سابقون، فذكر الله مجلبة للغنى وأنواع الفوائد مطردة للهم والغم والأنكاد والشدائد، أما سمعتم أن الإكثار من ذكر الله خير لكم من إنفاق الذهب والفضة والجهاد، وما شرعت العبادات كلها إلا لإقامة ذكر رب العباد، وأن الجنة

طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان، وغراسها العمل الصالح والإكثار من ذكر الملك الديان، فمن قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، غرس له بكل واحدة شجرة في رياض الجنان، ومن أكثر من ذكر الله غفرت له الذنوب وجبر ما فيه من نقصان، فيا فوز الذاكرين بمحبة الله في الدنيا وذوق حلاوة الإيمان، ويا سعادتهم يوم لقائه حين يحل عليهم الكرامة والرضوان، ويا غبطتهم في قبورهم حين يفترشون الروح والريحان، ويا فرحهم حين تتلقاهم الملائكة مهنئين لهم بالخير والكرامات والإحسان، ويا خسارة الغافلين ماذا فاتهم من النعم والسرور؟ وماذا حصل لهم من العقوبات والشرور؟ لقد حرموا خير الدنيا والآخرة، وباءوا بالخيبة والحسرة والصفقة الخاسرة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في التوكل على الله والاستعانة به

[خطبة في التوكل على الله والاستعانة به] 20 - خطبة في التوكل على الله والاستعانة به الحمد لله الذي وعد المتوكلين عليه بالكفاية التامة والمعونة، وهون عليهم الأثقال وحمل عنهم المشقة والمؤنة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى الذي خلقكم ورزقكم ورباكم، والذي أطعمكم وكفاكم وآواكم، والذي أنقذكم من الردى وهداكم، وتوكلوا حق التوكل عليه في إصلاح دينكم ودنياكم، واعلموا أن التوكل على الله من لوازم الإيمان، وبه يتحقق للعبد كل خير وبر وامتنان، فأنتم تعلمون أنكم فقراء مضطرون إلى ربكم في كل الأحوال والشئون، والرب هو الفعال لما يريد إذا قضى أمرا قال له كن فيكون، وهو الذي يعلم من مصالحكم مالا تعلمون، ويريد منها مالا تريدون ويقدر على ما ليس عليه تقدرون، فقوموا بالأسباب متوكلين على الله لا على سواه فأدوا أمره، واجتنبوا نهيه طالبين منه أن يعينكم على محبته ورضاه، وقوموا بالأسباب الدنيوية من تجارة أو صناعة أو فلاحة

أو غيرها من الأسباب قائمين بالسبب متوكلين ومعتمدين على مسبب الأسباب، فإنكم إذا اتصفتم بذلك لم تزالوا في عبادة وأعانكم المولى، ويسر لكم الطرق والأبواب، وثلاث كلمات هن روح التوكل والاستعانة، فمن قالها بلسانه مستحضرا لمعناها في قلبه فقد حقق التوكل واستقام بنيانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وحسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، التي هي كنز من كنوز الجنة، توصل العبد إلى كل خير عميم، فمتى علم العبد أنه لا حول لأحد ولا قوة إلا بالله، فاعتمد كل الاعتماد على ربه في جلب مصالح دينه ودنياه، وفي استدفاع المضار والمكاره واثقا بمولاه، عالما أنه النافع الضار، وأنه الواقي للشرور الجالب للمحاب والمسار، وأن الخلق كلهم في غاية الاضطرار إلى ربهم ونهاية الافتقار، فقطع رجاءه وتعلقه بالمخلوقين، وانزل حوائجه وشؤونه كلها بالله رب العالمين، فليبشر بالكفاية التامة وتيسير الأمور، ويا قرة عينه بالحياة الطيبة في كل ما يجري به المقدور، ومن انقطع تعلقه بالله وتعلق بمن سواه خذله ووكله إلى غيره وولاه ما رضيه لنفسه وتولاه، فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في السعي والطلب، وتوكلوا على المسبب

لا على السبب، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا - وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 2 - 3] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في النهي عن الإسراف في النفقات

[خطبة في النهي عن الإسراف في النفقات] 21 - خطبة في النهي عن الإسراف في النفقات الحمد لله الذي دبر عباده في كل أمورهم أحسن تدبير، ويسر لهم أحوال المعيشة وأمرهم بالاقتصاد ونهاهم عن الإسراف والتقتير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير، اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا طرق الاعتدال والتيسير. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى ودعوا مجاوزة الحد في كل الأمور، واسلكوا طريق الاقتصاد في الميسور والمعسور، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] فيدخل في هذا الإرشاد النفقات الواجبة والمستحبات، كما يدخل فيه النوائب التي تنوبكم عند عوارض الحاجات، وقد حدث التوسع الزائد في هذه الأوقات، في الولائم ومحافل النساء وغيرها من الدعوات، وهذا ضرر عظيم، مخالف للشرع والعرف وحسن التدبير، ومضاره شاملة للغني والفقير، فالإسراف مخالف لما أمر به الشارع، فقد جعل الله

الأموال قياما للناس تقوم بها المصالح والمنافع، فمن صرفها في غير وجهها أو تجاوز بها حدها فقد ضيع ما جعله الله قواما حيث صرفها عن المصلحة وصدها، وهذا النوع من النفقة لم يضمن الله للمنفق خلفها ورفدها، ألا وإن الإسراف في النفقات لا يستجيزه أهل العقول الوافية، ولا يبني مكرمة عند ذوي الهمم العالية، ولا يصير له موقع يذكر، ولا معروف وإحسان يشكر، بل نشاهد المدعوين القادح منهم أكثر من المادحين، وذلك ضار لصاحبه ولمن أراد مقابلته من الفاعلين، ألا ترون العاجزين ومن ليس لهم مقدرة يلتزمون ذلك مجاراة للأغنياء القادرين، فلو أن رؤساء الناس التزموا واتفقوا على الاقتصاد لشكروا على ذلك، وكان خيرا لهم ولأهل البلاد، أما تشاهدون أفرادا من الرجال الأبرياء الذين لا يشك في كرمهم وعقلهم إذا سلكوا طريق الاقتصاد اتفق الناس على الثناء عليهم، ويرونه من محاسنهم وإحسانهم إلى الذين يختمون إليهم، وخصوصا في هذه الأوقات التي اشتدت بها المؤنة وارتفعت الأسعار، وصار الواحد إذا جارى الناس في توسعهم حمل ذمته مالا يطيق وتحمل المضار. فلو بذل ذلك في ضروراته وحاجاته، لكان خيرا له من بذله في أمور الست من كمالاته، وقد تشاهدون من يسرف في هذه النفقات

فهو مقصر غاية التقصير في قيامه بما عليه من الواجبات، فانظروا رحمكم الله ماذا يجب عليكم في أموالكم، وما يحسن شرعا وعقلا، واسلكوا هذا السبيل ولا تصغوا لمن يريد غير ذلك أصلا، ولا تضطروا عباد الله بإسرافكم في أمور لا يحبونها ولا تدخلوهم في أحوال ونفقات لا يرتدونها. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة واعظة

[خطبة واعظة] 22 - خطبة واعظة الحمد لله الجليل وصفه، الجميل لطفه، الجزيل ثوابه، الشديد عقابه، الحي القيوم، الذي أوجد الكون من عدم ودبره، وخلق الإنسان من نطفة فقدره، ثم السبيل يسره، ثم أماته فأقره، ثم إذا شاء انشره، فسبحانه من إله ما أعزه وأقدره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة معترف بوحدانيته، مقر بألوهيته وربوبيته وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل بريته، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه صفوة الله من خلقه وخيرته. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله ولا تغتروا بإمهاله وحلمه، وأصلحوا أعمالكم فإنها محصاة عليكم ومجازون عليها بحكمته وعلمه، واحذروا الدنيا فإنها كثيرة آفاتها وعللها، مدبر مقبلها ومائل معتدلها، إن أضحكت بزخارفها قليلا، أبكت بأكدارها طويلا، انظروا من جمعها ومنعها، كيف انتقلت إلى غيره وصار عليه تعبها ومأثمها، فتفكروا في عواقب من دانت لهم الأمور، وأسكرهم الجهل والغرور، وصنعوا فيها ما اشتهوا وأرادوا، ووصلوا من أرادوا وصله وقطعوا وعادوا، كيف هجم عليهم

الموت بغتة وهم لا يشعرون، وكيف انتزع أرواحهم العزيزة وهم في غفلة نائمون، عوضهم موحشات القبور، بعد منتزهات القصور، وصنع بهم الدود مستبشع الأمور، وتراكيبهم المعتدلة أمالها، ومفاصلهم المتصلة أزالها، وعيونهم المليحة أطفأ نورها وأحالها، ووجوههم الصبحية المليحة غيرها، وألسنتهم الفصيحة أسكتها وقطعها، وشعورهم الحالكة مزقها، وأبدانهم الناعمة لعب البلاء بها وفرقها، يتمنون الرجوع إلى الدنيا وهيهات لهم الرجوع، ويودون أن يردوا ليستدركوا ما يقدرون عليه من التوبة والنزوع، فلو سألتهم عما وصلوا إليه من الأحوال، لقالوا قد لقينا الشدائد والقلاقل والأهوال، ولقد حوسبنا على الدقيق والجليل من الأعمال، فلم نفقد من أعمالنا قليلا ولا كثيرا ولم نجد لنا شافعا ولا وليا ولا نصيرا، فيا حسرتنا على ما فرطنا في جنب الله، ويا ندامتنا على ما تجرأنا عليه من محارم الله، ويا شقاءنا من العذاب الدائم، ويا فضيحتنا من الحزن والخزي المتراكم، لقد جاءتنا الآيات والنصائح فرددناها، ولقد توالت علينا النعم من ربنا فما شكرناها، ولقد قدمنا الدنيا على الآخرة وآثرناها، فالآن أصبحنا بأعمالنا مرتهنين، وعلى ما قدمت أيدينا من الجرائم نادمين. {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [الشعراء: 205] الآيات. بارك الله لي ولكم.

خطبة في سؤال العبد عن النعم

[خطبة في سؤال العبد عن النعم] 23 - خطبة في سؤال العبد عن النعم الحمد لله الذي أعطى عباده الأسماع والأبصار والأفئدة لعلهم يشكرون، وأسدى عليهم أصناف النعم وسيحاسبهم عليها وعنها يسألون، فمن استعان بها على طاعة المنعم فأولئك هم المفلحون، ومن صرفها في معاصيه، فأولئك الذين خسروا أنفسهم وأهلهم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي ختمت به الأنبياء والمرسلون، وبهديه وسيرته يهتدي المهتدون، اللهم صلي وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم في الأقوال والأفعال والحركة والسكون. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واعرفوا مقدار نعم الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن خمس، عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم» . فكلنا معشر المسلمين مسئول عن هذه الخمس، كما أخبر به الصادق في

المقال، فلينظر العبد موقع حاله، وماذا يجيب به هذا السؤال، فمن قال بصدق: يا رب قد أفنيت عمري في طاعتك، وأبليت قوتي وشبابي في خدمتك، ولم أزل مقلعا تائبا عن معصيتك واكتسبت مالي من طرق الحلال واجتنبت المكاسب الردية الموجبة للهلاك والنكال، وأنفقته فيما تحب واجتنبت إنفاقه في الفسوق، ولم أبخل بالزكاة ولا في النفقات الواجبة وآتيت الحقوق، وعلمت الخير ففعلته، وعرفت الشر فتركته، فليبشر عند ذلك برحمة الله وأمانه، والفوز بجنته ورضوانه. ومن قال: قد قضي عمري وشبابي في الذنوب والغفلات، ولم أبال بالمكاسب الخبيثة ولا بالغش والخيانات، وعلمت الخير والشر فلم انتفع بعلمي، ولا أغنت عني معرفتي ولا فهمي. فذلك العبد الذي هلك مع الهالكين، وسلك سبيل الظالمين المعتدين. فيا سوءتاه حين يندب الشاب شبابه، ويفتضح الشيخ إذا قرأ كتابه ويا ندامة المفرطين حين يحشر المتقون إلى الرحمن وفدا، ويساق المجرمون إلى جهنم وردا، لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا، ينادون مالكا خازن النار: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ - لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77 - 78] ويقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ - قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 107 - 108] الآيات. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في وجوب معرفة الله وتوحيده

[خطبة في وجوب معرفة الله وتوحيده] 24 - خطبة في وجوب معرفة الله وتوحيده الحمد لله المتوحد بصفات العظمة والجلال، المتفرد بالكبرياء والكمال، المولي على خلقه النعم السابغة الجزال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الرسل في كل الخصال، اللهم صل وسلم، على محمد وعلى آله وأصحابه خير صحب وأشرف آل. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واعبدوه، فإن الله خلقكم لذلك قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] خلقهم ليعبدوه ويدينوا بعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه والتوجه في كل الأمور إليه، خلقهم ليعرفوا ويعترفوا أنه الرب الذي أوجد جميع المخلوقات، وأعدها وأمدها بكل ما تحتاج إليه من كل الجهات، وهي الفقيرة إليه بالذات وكل الصفات، خلقهم ليعرفوا ويعترفوا أنه الملك المالك لجميع الموجودات والعوالم والممالك، الذي له الحكم والحمد في الأولى والآخرة وإليه يرجعون، وإليه تنتهي الأقدار ومنه تبتدئ، وإذا أراد شيئا قال له كن فيكون، خلقهم ليعرفوا أحكامه الشرعية والقدرية

والجزائية، ولها يخضعون، فيعلمون أن كل شيء بقضاء وقدر، وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، هو مولانا وعليه فليتوكل المؤمنون، فنرضى بالله ربا وسيدا ومدبرا وحاكما، وبمحمد نبيا رسولا ومبشرا ومنذرا، وبالإسلام دينا وطريقا ومسلكا، خلقهم ليعرفوا ويعترفوا أنه الله الذي لا إله إلا هو، فليس له شريك في ألوهيته، كما ليس له شريك في ربوبيته وملكه، فكما أنه الخالق الرزاق المدبر لجميع الأمور فهو الإله المعبود، المحمود المشكور، وكما أن جميع النعم الظاهرة والباطنة منه لطفا وإحسانا، فهو المستحق لكمال الشكر إخلاصا ومحبة له وخضوعا وإذعانا، وكما أنه الذي لطف بكم وعدلكم وسواكم، فليكن وحده معبودكم ومرجوكم ومولاكم، وكما شرع لكم دينا حنيفا ميسرا موصلا للفلاح، فاسلكوا الصراط المستقيم متقربين إليه في الغدو والرواح، فليس لكم رب سواه، ولا معبود ومقصود إلا الله، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، ولا معول في الأمور إلا عليه، فقوموا بعبوديته ظاهرا وباطنا لعلكم تفلحون، واستعينوا به وتوكلوا عليه لعلكم ترحمون، إذ سألتم فلا تسألوا إلا الله، وإذا استعنتم فلا تستعينوا بأحد سواه، فإن الخلق كلهم فقراء عاجزون، وجميعهم إلى ربهم مضطرون مفتقرون، أعانني الله وإياكم على

ذكره وشكره وحسن عبادته، ووفقنا لمحبته ومعرفته والقيام بطاعته، ولا حرمنا خير ما عنده من الإحسان بشر ما عندنا من الإساءة والعصيان. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في بعض حقوق النبي صلى الله عليه وسلم

[خطبة في بعض حقوق النبي صلى الله عليه وسلم] 25 - خطبة في بعض حقوق النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أوجب لرسوله حقوقا هي من لوازم الإيمان، وفضله وخصه بخصائص لا يشاركه فيها ملك ولا إنسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالوحدانية والكبرياء والسلطان، الذي له كل اسم حسن ووصف جميل، وهو الرحيم الرحمن، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث إلى الإنس والجان. اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، فإن الله كتب الرحمة الكاملة للمؤمنين، فقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 156 - 157] فهذه

الآيات الكريمة قد تضمنت ما يجب لهذا النبي الكريم من الحقوق التي لا يحصل ولا يتم الإيمان إلا بها، حقه الأصيل أن نؤمن به ونعترف بصدقه وأن كل ما جاء به حق لا ريب فيه، وأن نتبعه في أصول الدين وفروعه، ونقدم قوله وطاعته على طاعة كل أحد، ونعلم أنه لا يأمر إلا بالمعروف الذي هو الخير والهدى والبر والصلاح، ولا ينهى إلا عن المنكر الذي هو كل ذر وفساد وأعمال قباح، وأنه أحل لنا جميع الطيبات من المآكل والمشارب والملابس والمناكح وجميع التصرفات، وحرم كل خبيث من هذه الأشياء فرسالته احتوت على كل الكمالات، وكان دينه مبنيا على اليسر والسهولة، ورفع الأغلال قرة العيون وحياة القلوب، ووسيلة إلى كل خير وكمال، وعلينا أن نعزره بنصره ونصر شريعته في حياته وبعد مماته، فهو أولى بنا من أنفسنا في أمور العبد وحالاته، وعلينا أن نخضع لهديه ونقتدي به في جميع حركاته وسكناته، وعلينا أن نوقره بالإجلال والإكرام، والتوقير التام والاحترام، وأن يكون أحب إلينا من والدنيا وأولادنا ونفوسنا والناس أجمعين، وأن نكثر من الصلاة والتسليم عليه في كل وقت وحين، وأن لا ندعوه باسمه بل إذا خاطبناه فعلى وجه الإجلال والتكريم، وقد رفع الله له ذكره، فلا يذكر الله إلا ذكر

معه الرسول، كما في الخطب والشهادتين، اللتين هما أساس الإسلام، وفي الأذان الذي هو شعار الإسلام، وفي الصلاة التي هي عماد الدين، لما له من الحق الأكبر على الناس أجمعين، وكما أنه صلى الله عليه وسلم تميز عن الخلق بكل أوصاف الكمال الممكن الذي لا يساويه فيه مخلوق فكان حقه بعد حق الله أوكد الحقوق، من الله علي وعليكم بمعرفة نبينا والقيام بحقه والاقتداء به في كل حال، وثبتنا بالقول الثابت على سنته في الحال والمال، وحشرنا في زمرته، وأدخلنا في شفاعته، وأوردنا حوضه العذب الشهي الزلال، إنه جواد كريم واسع النوال. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في حديث إني حرمت الظلم

[خطبة في حديث إني حرمت الظلم] 26 - خطبة في حديث «إني حرمت الظلم. . .» الحمد لله الغني الحميد، الواسع الكرم ذي الخير المديد، يسأله من في السماوات والأرض وقد تكفل بشؤون العبيد، فسبحانه من إله كريم، وسع كل شيء رحمة وعلما، وتبارك من أولى عباده عفوا ومغفرة وحلما. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، في جميع النعوت والصفات، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل الرسل وخير المخلوقات، اللهم صل وسلم، وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والكرامات. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، واشكروه على سوابغ نعمه وأياديه، وأشعروا قلوبكم الافتقار إليه على الدوام في هداية قلوبكم وحصول مطلوبكم على التمام، فقد سعد من تعلق قلبه خوفا ورجاء بالملك المولى وقد خاب من طغى وأعرض واستغنى، فمن تعلق بغير الله وكل إليه، ومن تعلق بربه أسعفه بمراده وقربه إليه، قال صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني

أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر، ذلك بأني جواد واجد ما جد عطائي كلام وعذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له كن فيكون، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في التحذير من حلق اللحى

[خطبة في التحذير من حلق اللحى] 27 - خطبة في التحذير من حلق اللحى الحمد لله الذي من علينا بالنبي الكريم، وهدانا به إلى الصراط المستقيم، واستنقذنا به من طرق الجحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله الرب الرحيم، الملك الجواد الكريم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي هو بالمؤمنين رؤوف رحيم، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في كل هدي قويم. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى وتمسكوا بهدي نبييكم المصطفى وامتثلوا أوامره واجتنبوا ما عنه زجر ونهى، فقد أمركم بحف الشوارب وإعفاء اللحى، وأخبركم أن حلق اللحى وقصها من هدي الكفار والمشركين، ومن تشبه بقوم فهو منهم فأحذروا مشابهة الظالمين، يا عجبا لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، كيف يزهد في هدي نبيه وأصحابه والتابعين لهم بإحسان؟! ويختار هدي كل كافر وفاسق فأين الأيمان؟ لقد أكرم الله الرجال باللحى وجعلها لهم جمالا ووقارا، فيا ويح من حلقها وأهانها وعصى نبيه جهارا، أيظن هؤلاء أن حلقها يكسب صاحبها بهاء وجمالا، كلا والله إنه ليشين الوجه، ويذهب نوره، ويزداد به إثما

ووبالا، ولكنه الاقتداء الضار يحسن كل قبيح، ويوقع صاحبه في الشر الصريح، أما قال أهل العلم: من جنى على لحية غيره فأزالها أو أزال جمالها على وجه لا يعود فعليه الدية كاملة؟! ثم هو مع ذلك يجني على نفسه ويجحد نعمة الله الشاملة، أما ترون وجوه الحالقين لها كيف يذهب بهاؤها وخصوصا عند المشيب، وتكون وجوههم كوجوه العجائز قد ذهبت محاسنها، وهذا من الشيء العجيب! فالله الله عباد الله في لزوم دينكم، ولا تختاروا عليه سواه، فإن فيه الخير والسعادة وكل جمال قد حواه، فوالله ما في الاقتداء بأهل الشر إلا الخزي والندامة، ولا في الاقتداء بنبيكم صلى الله عليه وسلم إلا الصلاح والفلاح والكرامة، وإياكم أن تصبغوها بالسواد، فقد نهى عن ذلك خير العباد، فتوبوا إلى الله واستغفروه، وتمسكوا بالخير ولازموه، قبل أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، يا ليتني حذرت من أهل الشر واقتديت برسول الله، يا ليتني أعود إلى الدنيا لأعمل صالحا وأتوب، فالآن فات كل مطلوب، وحصل كل مرهوب، وأحاطت بأهل المعاصي الخطايا والذنوب، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا - يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا - لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29]

خطبة في كل معروف صدقة

[خطبة في كل معروف صدقة] 28 - خطبة في كل معروف صدقة الحمد لله المعروف بالخير والكرم، والامتنان المجازي البر بالبر، وعلى الإحسان بالإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله الرحيم الرحمن، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الرسل وخلاصة الإنسان، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن مدار التقوى على فعل الخير واجتناب الشر والفساد، وعلى إخلاص الدين للمولى والإحسان إلى العباد، فلقد قال من أعطى جوامع الكلام: «كل معروف صدقة» فيالها من كلمة عظيمة جامعة للخيرات، وياله من كلام بليغ محيط بأصناف البر والبركات، فكما دخل في هذا الإحسان الديني يدخل فيه الإحسان الدنيوي، وكما يدخل فيه المعروف بالجاه والمقال، يدخل فيه المعاونات البدنية والإحسان بالمال، ويتناول المعروف إلى الصاحب والقريب، والمعروف إلى العدو والبعيد، فمن علم غيره علما أو أهدى له نصحا فقد تصدق عليه، ومن نبهه على

مصلحة دينية أو دنيوية أو حذره من مضرة فقد أحسن إليه. أيها العبد لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق، وتباشر جليسك بالبشاشة وحسن الخلق، ولو أن تفرغ الدلو للمستقي والمتوضي، ولو أن تعطي صلة الحبل وتعير الإناء للمستجدي، وكلما كانت العارية أنفع كان أجرها أفضل، ومن المعروف إماطة الأذى عن الطريق، وعزل العظم والشوكة وجميع ما يؤذي، ومن المعروف هداية الأعمى في المساجد والطرق وهداية الحيران، وأن تسمع الأصم وتطعم الجائع وتسقي الظمآن، وتغيث المكروب واللهفان، ومن المعروف إعانة أصحاب الحوائج من الأقارب والأباعد والجيران، والعفو عمن ظلمك ومقابلة الإساءة بالإحسان، ومن المعروف الدعوة إلى طعام أو قهوة أو شراب، للأغنياء والفقراء والبعداء والأقراب، وسماحك لمن ينتفع بشيء من ملكك من ماشية ونخل وأشجار، بلبن أو خوص أو حطب أو ثمار، وإعانة المسلم بكتابة وعمل صنعة ونقل متاع، ومن المعروف بذل الفضل في المعاملات والمحاباة فيها فما شيء يترك ثوابه ولا يضاع، ومن المعروف الإحسان إلى المماليك من الآدميين وسائر الحيوانات، ففي كل كبد حراء أجر واكتساب للخيرات، ومن المعروف أن

تبذل لغيرك دواء نافعا أو تباشره بطب أو تصف له حمية أو دواء ناجعا، فكلما أوصلته إلى الخلق من البر والإحسان والتكريم، فأنه داخل في خطاب النبي الكريم، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في العقل

[خطبة في العقل] 29 - خطبة في العقل الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه، فتبارك الله أحسن الخالقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين وإمام المتقين، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم أجمعين، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واذكروا ما تفضل به عليكم من العقل الذي تميزتم به على كثير من المخلوقات، واحذروا أن تضيعوه أو تهملوه في وضعه في الأمور الضارة أو غير الأمور النافعات، فما أنعم الله على عبد نعمة فاستعملها فيما خلقت له إلا حفظها الله ونماها، ولا أهملها ووضعها في غير موضعها إلا سلبها وبقي عليه شقاها، فهذا العقل الذي منحكم الله إياه من أفضل العطايا، فما بالكم تستعملونه في ركوب الدنايا، خلق الله لكم العقول لتعقلوا بها ما ينفعكم من

المعارف والعلوم النافعة، وترتقوا بها إلى مدارج الفلاح بهمم قوية وقلوب واعية، فقاوموا بها ما يضركم من الأخلاق الرذيلة، فلا خير فيمن غلبت شهوته عقله فألقته في المهالك الوبيلة، فكروا في المصالح والمنافع فإذا توضحت فاسلكوها، وزاحموا بها النفوس العالية المقبلة على الخير ونافسوها، وإياكم أن تكون هممكم في تحصيل الأغراض الدنيئة فتخسروا عقولكم وتضيعوها، طوبى لمن كانت أفكاره حائمة حول ما يحبه الله، دائرة حول ما ينفع عباد الله، الإخلاص لله في كل الأمور شعاره، والإحسان المتنوع على الخلق دثاره، طوبى لمن كانت شهوته تبعا لعقله فآثر النافع وفاز بالسعادتين، وويل لمن غلبت شهوته عقله فاختار الرذائل فخسر الدنيا والدين، من ترك ما تهواه نفسه لله لم يجد فقده، وعوضه الله الإيمان والثواب، ومن تبع هواه وأعرض عما يحبه مولاه ابتلاه بالهموم وأنواع الأوصاب، سبحان من فاوت بين عباده بالعقول والهمم والأعمال، وباين بينهم في صفات النقص والكمال، وقسم بينهم الأخلاق كما قسم بينهم الأرزاق، فتبارك الله الواحد الملك الخلاق. من الله علي وعليكم بمحاسن الأعمال وأحاسنها، وحفظنا من أسافل الأخلاق وأراذلها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في قوله صلى الله عليه وسلم قد أفلح من هدي للإسلام

[خطبة في قوله صلى الله عليه وسلم قد أفلح من هدي للإسلام] 30 - خطبة في قوله صلى الله عليه وسلم «قد أفلح من هدي للإسلام. . .» إلخ الحمد لله الملك القهار، العزيز الجبار، وأشهد أن لا إله إلا الله الرحيم الغفار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المتقين الأبرار، اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى فإن تقوى الله عماد الدين، وحقه الواجب على الخلق أجمعين، قال صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من هدي للإسلام وكان عيشه كفافا وقنعه الله بما آتاه» . فجعل صلى الله عليه وسلم هذه الثلاث عنوان الفلاح، وبها يحصل الخير والنجاح، فإن من جمع الله له هذه الثلاث فقد جمع له خير الدنيا والآخرة، وتمت عليه النعم الباطنة والظاهرة، وبها الحياة الطيبة في هذه الدار، والسعادة الأبدية في دار القرار. أما الهداية للإسلام، فإن الإسلام به العصمة والنجاة من طرق الجحيم، ولن يقبل الله من أحد دينا غير الاستسلام للرب العظيم. الإسلام هو الاستسلام الباطن والظاهر لله، وهو الانقياد الكامل لطاعة الله، الإسلام مقصوده القيام بحق الله وحق العباد، وروحه

الإخلاص لله والمتابعة للرسول في الهدي والرشاد، المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» وأما الكفاف من الرزق فهو الذي يكفي العبد، ويكف قلبه ولسانه عن التشوف وسؤال الخلق، واغتباطه برزق الله والثناء على الله بما أعطاه من ميسور الرزق. فإن من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه وليلته فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وأغبط الناس من عنده رزق يكفيه، وبيت يؤويه، وزوجة ترضيه، وسلم من الدين الذي يثقله ويؤذيه، فليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغني غني القلب، قال صلى الله عليه وسلم: «من كانت نيته الآخرة جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه أمره ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له» ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن ما عند الله لا ينال عصيته، وإنما ينال بطاعته وخدمته، فاحمدوا الله عباد الله على الهداية للإسلام واشكروه على الكفاية من الرزق والغنى عن الآثام، وانظروا إلى من فضلتم عليه بالعافية والرزق والعقل والتوفيق، فإنه أحرى لشكر النعم والهداية لأقوم طريق، من الله

علينا وعليكم بالقيام بحقه والقناعة بميسور رزقه، إنه جواد كريم. {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في نصائح نبوية

[خطبة في نصائح نبوية] 31 - خطبة في نصائح نبوية الحمد لله الذي من على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، وخصه بجوامع الكلم وغرر الحكم، وجعل قبول وصاياه واتباع هديه داعيا لمحبة رب، العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الناصح البار الأمين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه الطاهرين، ومن تبعهم إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم، فمن قبل نصائحه استقام على الصراط المستقيم، وأوصله ذلك إلى جنات النعيم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت وأتبع الحسنة السيئة تمحها،

وخالق الناس بخلق حسن» ، ثلاث منجيات وثلاث مهلكات: فأما المنجيات فتقوى الله في السر والعلانية، والقول بالحق في الرضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر، أما المهلكات فهوى متبع وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه وهي أشدهن، ومن تواضع لله رفعه، فهو في نفسه صغير وفي أعين الناس عظيم، ومن تكبر وضعه الله فهو في أعين الناس صغير، وفي نفسه كبير، حتى لهو أهون عليهم من كلب وخنزير، بئس العبد عبد تخيل واختال، ونسي الكبير المتعال، بئس العبد عبد تجبر واعتدى، ونسي الجبار الأعلى، بئس عبد سهى ولهى ونسي المقابر والبلاء، بئس العبد عبد عتى وطغى، ونسي المبتدأ والمنتهى، بئس العبد عبد يختل الدنيا بالدين، بئس العبد عبد طمع يقوده، بئس العبد عبد هوى يضله، بئس العبد عبد رغب يذله، من التمس رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، ومن التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله، وهو الإشراك بالله، يقول الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وديوان لا يتركه الله وهو ظلم العباد فيما بينهم حتى يقتص بعضهم من بعض، وديوان لا يعبأ الله به؛ ظلم العباد فيما بينهم وبين الله، فذاك إلى الله إن

شاء عذبه وإن شاء تجاوز عنه، من الله علي وعليكم بقبول النصائح، وحمانا من جميع الشرور والقبائح. {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في الاهتمام بصلاح القلب

[خطبة في الاهتمام بصلاح القلب] 32 - خطبة في الاهتمام بصلاح القلب الحمد لله الذي أصلح بلطفه الصالحين، وخلع عليهم خلع الإيمان واليقين، وحفظهم بعنايته مما يقبح ويشين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مالك يوم الدين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن مدار التقوى على إصلاح القلوب، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي " القلب» فمتى صلح القلب بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وصحح ذلك بالمعرفة وحسن الاعتقاد ثم توجه القلب إلى ربه بالإنابة والقصد وحسن الانقياد - فإن الجوارح كلها تستقيم على طريق الهدى والرشاد، فصلاح الجوارح ملازم لصلاح القلوب، فاغتنموا رحمكم الله إصلاحها بحسن النية في كل مطلوب، فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم، ولكن ينظر ما أكنته القلوب،

فأخلصوا الأعمال لله في كل ما تأتون وما تذرون، وأنيبوا إلى ربكم واطمعوا في رحمته لعلكم ترحمون، فالعمل اليسير مع الإخلاص خير من الكثير مع الرياء، والثمرات الطيبة إنما تحصل لمن حقق النية واتقى، فمن أصلح باطنه. أصلح الله له الأحوال، وسدده في الأقوال والأفعال، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] وسلوا مولاكم أن يطهر قلوبكم من الغل والحقد، ومن الكبر والتعاظم على العباد والحسد، فقد قال-صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة من ولاه الله أمركم، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» «لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه» طوبى لمن أخلص لله في أقواله وأفعاله، ورجا فضله في حاله ومآله، وطهر قلبه من البغضاء والعداوة للمسلمين، وتعاون معهم في أمور الدنيا والدين،

وويل لمن تعلق قلبه بأحد من المخلوقين، أو امتلأ من الغل والحقد على المؤمنين؛ أما الأول فإنه يسعى في علو الدرجات، وأما الآخر فإنه يتردى في مهاوي الهلكات. اللهم يا مصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا، ويا من بيده خزائن كلى شيء اسعفنا بمطلوبنا، ويا من يغفر الذنوب جميعا اغفر ذنوبنا واستر عوراتنا وعيوبنا إنك أنت الجواد الكريم. {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 25] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة عن الآيات المخوفة والتحذير من الذنوب

[خطبة عن الآيات المخوفة والتحذير من الذنوب] 33 - خطبة عن الآيات المخوفة والتحذير من الذنوب الحمد لله الحكيم في خلقه ورزقه وتدبيره، الحميد في خفضه ورفعه وعطائه ومنعه وجميع تقديره، الغفور الرحيم لمن خشيه واتقاه، شديد النكال والعقوبة على من عانده وعصاه، وأشهد أنه لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ومختاره ومصطفاه، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله فإن تقوى الله بها حصول الخيرات وفيها دفع الشرور والمكروهات قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] وأخبر أن الدعاء سبب للإجابة بحصول المطلوب، وأن الذنوب أكبر الموانع لنزول الغيث، ونزع البركة من الأرض والثمار والحبوب، كيف تطمعون في حصول ما تحبون وأنتم مصرون على الذنوب

والجنايات، كيف ترجون حصول الغيث وأنتم مقيمون على الغش والخيانات، وقد برئ صلى الله عليه وسلم من أهل الكذب والغش في كل المعاملات، أما سمعتم أن بخس المكاييل والموازين وبخس الناس أشياءهم أهلك الله به أهل مدين بالعذاب في الدنيا قبل الآخرة، وأن من لم يتب منها فعاقبته أفظع العواقب وقد باء بالصفقة الخاسرة، فوالله إن الحرام والغش ليستدرج صاحبه ثم يمحق محقا، وأن المكاسب الخبيثة مع إثم صاحبها لتنزع منها البركة حقا وصدقا، وأن المكاسب الطيبة ليصلح الله بها الأحوال، والورع عن الحرام خير لصاحبه في الحال والمآل، أما ترون الله يستعتبكم ويخوفكم بما يريكم من الآيات والشدة والنكال، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ويصرفها عمن يشاء وهو شديد المحال؟! أما ترون الله يصرف عنكم أمورا وشرورا قد انعقدت أسبابها بما كسبت أيدي العباد لتتوبوا إليه وترجعوا عن الشر والفساد؟! أما علمتم أن المعاصي تخرب الديار العامرة، وتسلب النعم الباطنة والظاهرة؟! فكم لها من العقوبات والعواقب الوخيمة، وكم لها من الآثار والأوصاف الذميمة، وكم أزالت من نعمة، وأحلت من محنة ونقمة، فاتقوا الله عباد الله واحذروه، واعلموا أنكم لا بد أن تلاقوه، فيحاسبكم وينبئكم بما قدمتموه وأخرتموه. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في التوحيد

[خطبة في التوحيد] 34 - خطبة في التوحيد الحمد لله الذي خلق المكلفين ليعبدوه، وأدر عليهم الأرزاق ليشكروه، ووضح لهم الأدلة والبراهين ليعرفوه، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي يتعين علينا أن لا ندعو غيره ولا نخافه ونرجوه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي فاق الرسل من جميع الوجوه، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه جميع الذين اتبعوه. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وأطيعوه، واحذروا جميع ما يسخطه وتتبعوا مراضيه، أما دلكم على وحدانيته بالآيات البينات، أما وضح لكم معرفته بالحجج والبراهين القاطعات، تعرف لكم بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا ونعمه الواسعة العظمى. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ - الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ - فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 - 8] {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ - وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20 - 21] {خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ - ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ - ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ} [السجدة: 7 - 9] وجعل له السمع والبصر والفؤاد وجميع

القوى فتبارك الله أحسن الخالقين، أحسن بقدرته المخلوقات، وزين السماء بالشمس والقمر والكواكب النيرات، ومهد الأرض وأودع فيها منافعها المتنوعات، وثبتها بالجبال الشم الشاهقات، أجرى فيها العيون والأنهار، وأخرج أصناف الزروع والأشجار والثمار، وجعلها متاعا للبشر وأنعامهم، فتبارك الكريم القهار، أسبغ على عباده النعم، وصرف عنهم المكاره والنقم، فكم له على عباده من الخير المدرار، فهو المتفرد بالعطاء والمنع والخفض والرفع، وهو الواحد الغفار، مجيب الدعوات، وفارج الكربات، ومغيث اللهفات، وسامع الأصوات بتفنن اللغات، فسبحان الحليم الستار، يعلم السر وأخفى، وإليه ترفع الحاجات والشكوى، وإليه ينتهي السائلون، وهو محل النجوى، ومزيل المكاره والشدائد والأخطار، يقول تعالى في الحديث القدسي: «إني والجن والأنس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد أتحبب إليهم بالنعم، وأنا الغني عنهم ويتمتعون إلي بالمعاصي وهم الفقراء إلي» ، فاتقوا الله عباد الله وراقبوه، وتوبوا إليه كل وقت واستغفروه، وانظروا إلى كثرة نعمه عليكم، فاشتغلوا بالثناء عليه، والجؤا إلى الله وتوكلوا عليه. أجارنا الله وإياكم من النار وغفر لنا الذنوب والأوزار، وبارك لنا ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في نعيم البرزخ وعذابه

[خطبة في نعيم البرزخ وعذابه] 35 - خطبة في نعيم البرزخ وعذابه الحمد لله الذي لم يزل قائما بشؤون الخليقة على أحسن نظام، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل على الكمال والتمام، فهو الملك العظيم القدوس السلام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الأنام، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم، وأنكم عند انتقالكم من الدنيا لا بد أن يمتحنكم ويسألكم ويجازيكم، فمن كان في الدنيا ثابتا على الصراط المستقيم ثبته الله عند مماته وفي قبره وبشر بالفوز والنعيم، ومن كان في هذه أعمى معرضا عن الله فلا بد أن يلاقي ما قدمت يداه، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا قبر الميت أتاه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول المؤمن: ربي الله، فيقولان: له ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما

هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره. وأما الفاجر أو الكافر فإذا سأله الملكان من ربك وما دينك ومن نبيك قال: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته فيضربانه بمطرقة من حديد فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنس والجن ولو سمعوها لصعقوا، فينادي مناد أن كذب عبدي فافرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فلا يزال معذبا إلى أن تقوم الساعة» . أما والله لو نشر لكم أهل القبور، فحدثوكم بما وصلوا إليه من عظائم الأمور لقالوا: قد وجدنا ما وعدنا الله ورسوله حقا ولم نفقد من أعمالنا مثقال ذرة من خير أو شر فأصبحنا مرتهنين صدقا، أما طائعنا فقد اغتبط بعمله ولقي الفوز والروح والريحان، وأما عاصينا فقد باء بالخيبة والحسرة والهوان، يتمنون الرجوع إلى الدنيا ليتوبوا، ويودون أن لو مكنوا ليعملوا صالحا وينيبوا، وأنتم إلى ما صاروا إليه

صائرون، وبكأس الحمام الذي يدور على الخليقة شاربون فتوبوا إلى ربكم ما دمتم في زمن الإمهال، وتقربوا إليه بما استطعتم من صالح الأعمال، {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة: 83] إلى آخر السورة. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في فضل الإسلام

[خطبة في فضل الإسلام] 36 - خطبة في فضل الإسلام الحمد لله الذي جعل الإسلام مل الخليقة في دينها، ودنياها وأرشد فيه النفوس إلى هداها وحذرها من رداها، وأشهد أنه الرب العظيم، الذي لم يزل ربا وإلها، وأشهد أن محمد عبده ورسوله أعظم الخلق عند الله فضلا وقدرا وجاها، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاما وبركة لا تنقضي ولا تتناها. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واعلموا أن دين الإسلام هو الدين القيم الذي فيه صلاح العباد، وهو أعظم المنن من الكريم الوهاب، ولا يقبل الله من العباد سواه، وقد تكفل لسالكه بخير دينه ودنياه، فيه من المبادئ السامية، والأخلاق العالية والنظم العادلة ما تشتهيه الأنفس وتمتد إليه الأعناق، وقد تكفل بالحياة الطيبة لمتبعيه لحسنه وجماله، وفضائله التي فضل بها غيره وفاق، أليست عقائده الصحيحة أصح العقائد، وأصلحها للقلوب وأنفعها للأرواح؟ أليست أخلاقه أجمل الأخلاق، وبراهينه في غاية القوة والبيان والإيضاح؟ فهل أعظم وأنفع وأكمل من الاعتقاد اليقيني الذي لا ريب فيه أن تعلم أن لنا ربا عظيما تتضاءل عظمة المخلوقات كلها في عظمته وتضمحل إذا

نسبت إلى كبريائه ومجده وحكمته؟ له الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، أحاط بكل شيء علما ورحمة وقدرة وحكمة وحكما، وشمل كل موجود بحسن تدبيره إحكاما ونظاما وحسنا، قد أحسن ما خلقه، وأبدع ما صنعه، وأحكم ما شرعه، له العلو المطلق من جميع الوجوه، وهو الغاية في الكمال فلا نخشى غيره ولا نرجوه، يجيب الداعين، ويفرج الكربات عن المكروبين، من توكل عليه كفاه، ومن أناب إليه وتقرب إليه قربه وأدناه، ومن أوى إليه آواه، لا يأتي بالخير والحسنات إلا هو، ولا يكشف السوء والضراء سواه، يتودد إلى عباده بكل سبيل، ويسبغ عليهم من عطائه وكرمه الجزيل، لا يخرج عن خيره وجوده إلا المتمردون، ولا يعرض عن طاعته إلا الظالمون، فهل تصلح القلوب والأرواح إلا بالتأله إليه؟ وهل للعباد معاذ وملجأ إلا إليه؟ وكذلك يهدي هذا الدين لأحسن الأخلاق، والأعمال، على محاسن الآداب وطرق الكمال، لا خير ولا، فلاح ولا هدى إلا دل عليه، ولا شر ولا ضرر ولا فساد إلا حذر منه. أما حث على الصدق والعدل في الأقوال والأفعال؟ أما أمر بالإخلاص له في كل الأحوال؟ أما حث على الإحسان المتنوع لأصناف المخلوقات، وبالتواضع للحق وللخلق في كل الحالات؟ أما أمر بنصر المظلومين وإغاثة الملهوفين، وإزالة الضر عن المضطرين؟ أما رغب في حسن الخلق بكل طريق، على

القريب والبعيد والعدو والصديق؟ أما نهى عن الكذب والفحش والخيانات، وحث على رعاية الشهادات والقيام بالأمانات؟ أما حذر من ظلم الخلق في الدماء والأموال والأعراض والحقوق؟ أما زجر عن القطيعة والإساءة والعقوق؟ أما أمر بفعل الأسباب النافعة مع التوكل على المولى؟ أما حث على التآلف والاجتماع والمودة والإخاء؟ أما أمرنا أن نعد لأعدائنا ما نستطيعه من قوة نافعة وواقية؟ وأن نقوم بكل ما يقيم الدين ويصلح الدنيا بالوسائل الكافية؟ أما أباح لنا الطيبات من المآكل والمشارب والملابس والمعاملات؟ وحرم علينا الخبائث والمضار والمفاسد في كل الحالات؟ فأي صلاح ديني ودنيوي لم يرشد إليه هذا الدين، وأي ضرر وشر إلا بين طرقه وحذر عنه العالمين؟ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في عمل اليوم والليلة

[خطبة في عمل اليوم والليلة] 37 - خطبة في عمل اليوم والليلة الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فما أعظمه ربا وملكا قديرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي أرسله إلى جميع الثقلين بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله تعالى جعل الأوقات والشهور تتكرر على العباد لتقوم وظائف الطاعات، وتنشط النفوس على الخيرات، لما مضت الأشهر الثلاثة الكرام، أولها رجب وآخرها شهر الصيام، أعقبها بالشهور الثلاثة شهور الحج إلى بيته الحرام، فكما أن من صام رمضان وقام غفرت له جميع الذنوب والآثام فمن حج البيت أو اعتمر غفرت ذنوبه فضلا من الملك العلام، فما يمضي على المؤمن وقت من الأوقات، إلا ولله عليه وظيفة من وظائف الطاعات، فإذا قام بها ووفاها كان من الذاكرين الله كثيرا

والذاكرات، المعد لهم المنازل العالية الطيبات، أليس من أجل نعمه على العباد أن جعل الليل والنهار يتناوبان كلما ذهب أحدهما خلفه الآخر؟ لإنهاض همم العاملين إلى الخيرات، فمن فاته الورد بالليل استدركه بالنهار، ومن فاته بالنهار استدركه بالليل على مدى الأوقات، ألا وإن شجرة الإيمان قد غرسها الله في قلوب المؤمنين، ورتب العبادات على اختلافها لتنميتها وتكميلها في كل وقت وحين، فلولا أعمال اليوم والليلة لذوى غرس الإيمان، فإليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفع ذلك إلى الملك الديان، فلقد سبق المفردون الذين لا تزال ألسنتهم تلهج بذكر الله إلى جنات النعيم، ولقد فاز المسارعون إلى الخيرات برفعة الدرجات والقرب من الرب الكريم، فيا ويح المعرضين عن ربهم ما أشد خسارهم وأشقاهم، ويا ندامة الغافلين لقد انفرطت أمور دينهم ودنياهم، فوالله إن ذكر الله لحياة الأرواح والقلوب، وإن القيام بخدمته ليوصل العبد إلى أجل مطلوب. أعانني الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، ووقانا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا بلطفه ورعايته. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19] الآية. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في النصيحة

[خطبة في النصيحة] 38 - خطبة في النصيحة الحمد لله الذي أوجب على عباده النصح في العبادات والمعاملات، وحذرهم من الغش والغل والخيانات، وأشهد أن لا إله إلا الله المعروف بجميل الهبات، وعظيم الصفات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد الرسل الذي رفعه الله أعلى الدرجات، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وأصحابه، ومن تبعهم في كل الحالات. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وبترك مساخطه والإقبال على مراضيه، وتقربوا إليه بالنصيحة فيما يظهره أحدكم أو يخفيه، قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة "، ثلاثا، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» فأخبر صلى الله عليه وسلم خبرا متضمنا للحث على النصيحة والترغيب فيها، إن الدين كله منحصر في النصيحة، أي ومن قام بالنصيحة كلها فقد قام بالدين، وفسره تفسيرا يزيل الأشكال، ويعم جميع الأحوال، أما النصيحة لله فهي القيام بحقه وعبوديته، وذلك يشمل ما يجب اعتقاده من

أصول الإيمان، وما يتعين القيام به من شرائع الإسلام وحقائق الإحسان، من أعمال القلوب والجوارح وأقوال اللسان، وهو فعل المأمور من الفرائض والنوافل، ونية القيام بما يعجز عنه منها. وأما النصيحة لكتاب الله فهي الإقبال بالكلية على تلاوته وتدبره وتعلم معانيه وتعليمها، وجملة ذلك وحاصله هو الإيمان بالله ورسوله وطاعة الله ورسوله. وأما النصيحة لأئمة المسلمين وهم ولاتهم من السلطان الأعظم إلى الأمير إلى القاضي إلى جميع من لهم ولاية كبيرة أو صغيرة، فهؤلاء لما كانت مهمتهم وواجباتهم أعظم من غيرهم وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتهم، وذلك باعتقاد إمامتهم والاعتراف بولايتهم، ووجوب طاعتهم في المعروف، وحث الرعية على طاعتهم ولزوم أمرهم، وبذل ما يستطيعه الإنسان من نصيحتهم، وتوضيح ما خفي عليهم مما يحتاجون إليه في رعايتهم، كل أحد بحسب مرتبته، والدعاء لهم بالتوفيق والصلاح، فإن صلاحهم صلاح للرعية وللأمور،

واجتناب سبهم والقدح فيهم وإشاعة مثالبهم، فإن في ذلك شرا وضررا وفسادا كبيرا ومن رأى منهم مالا يحل فعليه أن ينبههم سرا لا علنا بلطف وعبارة تليق بالمقام، فإن هذا مطلوب في حق كل أحد وبالأخص ولاة الأمور، فتنبههم على هذا الوجه فيه خير. وأما النصيحة لعامة المسلمين فبمحبة الخير لهم وإيصاله إليهم بحسب الإمكان، وكراهة الشر لهم والسعي في دفعه بحسب القدرة، وتعليم جاهلهم ووعظ غافلهم، ونصحهم وإرشادهم في أمور دينهم ودنياهم، وكل ما تحب أن يفعلوا مع الإحسان؟ فافعله معهم، ومعاونتهم على البر والتقوى، ومساعدتهم في كل ما يحتاجونه، فمن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته. فتبين بهذا أن النصيحة تشمل الدين كله أصوله وفروعه، وحقوق الله وحقوق عباده، فأين النصيحة ممن تهاون بحقوق الله فضيعها وعلى محارمه فتجرأ عليها؟! وأين النصيحة من أهل الخيانات وأصحاب الغش في المعاملات؟! وأين النصيحة ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، ومن يتتبعون عورات المسلمين وعثراتهم؟! فهؤلاء عن النصيحة بمعزل، ومنزلهم منها أبعد منزل، طوبى للناصحين، ويا خسارة الغشاشين. من الله

علي وعليكم بالقيام بالنصيحة، وحفظنا من أسباب الخزي والفضيحة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في سنن الفطرة

[خطبة في سنن الفطرة] 39 - خطبة في سنن الفطرة الحمد لله الذي شرع لنا ما يقربنا إليه ويدنينا، ونهج لنا من الطرق ما يكفينا عن غيرها ويغنينا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهنا ومليكنا وناصرنا وهادينا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه الله بالهدى ودين الحق شرعة وتوحيدا ودينا، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان أفضل الناس أخلاقا وأعمالا وعلما ويقينا. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واشكروه على آلائه الباطنة والظاهرة، وتقربوا إليه بما يحبه ويرضاه من العقائد والأعمال والأخلاق الفاضلة، فقد شرع لكم من فطرة الإسلام ما يطهر الظواهر ويزكي القلوب، ويسر لكم كل سبب تدركون به المطلوب، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ - مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 30 - 31] فهذه الفطرة الباطنة التي عمادها على الإخلاص والإقبال بالقلب عليه، وتمامها بترك الشرك قليله

وكثيرة وتحقيق الإنابة إليه، قولوا بألسنتكم وقلوبكم إذا أصبحتم وأمسيتم: أصبحنا وأمسينا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وملة أبينا إبراهيم ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الفطرة الباطنة التي تطهر القلب من الشرك والشك والشقاق والنفاق، وتنقيه من الغل والغش والحقد ومساوئ الأخلاق، وتملأ القلب علما ويقينا وعرفانا، وتوجهه إلى ربه إخلاصا وطمأنينة وبرا وإيمانا. أما الفطرة الظاهرة فقد حث الشارع على تنقية الجسد من الأوساخ والأنجاس والأوضار، ورغب في حلق العانة ونتف الإبط، وحف الشارب وإعفاء اللحية، وتقليم الأظفار، وأخبر أن الطهور الشرعي- وهو إزالة الأخباث والأحداث- شطر الإيمان؛ لما في ذلك من طهارة البدن من الأوضار والأدران، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن النكاح والحناء والتطيب من سنن المرسلين، وأن استدامة الطهور والمداومة عليه من أوصاف المؤمنين، وقال تعالى بعد ما ذكر الطهارة بالماء والتراب: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] فهذه الطهارة التي شرعها من أكبر نعمه على العباد، وبها تكفر الخطايا وتحصل العطايا الكثيرة يوم التناد، فمن توضأ وضوءا كاملا خرجت خطاياه مع الماء من تحت

الأظفار، ومن أحسن الوضوء ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفرت ذنوبه، واستحق رضا الغفار، ومن توضأ فأحسن وضوئه ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين- فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، وما ذلك بعزيز على فضل الكريم الغفار، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، إن أمتي يدعون غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» وقال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» . رزقنا الله الاعتراف بنعمه وأياديه، ووفقنا للقيام بما يحبه ويرضيه. {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] الآية، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في البداءة باليمين

[خطبة في البداءة باليمين] 40 - خطبة في البداءة باليمين الحمد لله الذي فضل بعض المخلوقات على بعض بحكمته الشاملة، وخصص بعضها بأوصاف تميزت بها، فسبحان من اختص بالأوصاف الكاملة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في نعوته وفي أياديه التامة، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى ونبيه المقتفى، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه النجبا. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن كمال التقوى وزينتها الاجتهاد في التأدب بالآداب الشرعية والتحقق بالإرشادات النبوية، قالت عائشة - رضي الله عنها-: «كان رسول الله يعجبه التيمن في طهوره وترجله وتنعله، وفي شأنه كله» . قال العلماء: ينبغي للعبد إذا تطهر أن يبدأ باليمين من اليدين والرجلين قبل اليسار، وأن يجعل يمناه لأكله وشربه وأخذه وعطائه، فمن سمى الله عند أكله وشربه وتناول أكله وشربه بالأدب باليمين وحمد الله إذا فرغ- نال رضى رب العالمين، أو ناول أحدا شيئا أو تناول منه فليكن ذلك باليمين، ومن صافح غيره صافحه باليمين، ومن أدار على جماعة طعاما أو

شرابا أو طيبا أو غيرها بدأ بالأيمن فالأيمن، ولو كان الأيسر فاضلا والأيمن مفضولا، إلا أن يؤثر صاحب الحق غيره في بالتقديم، واحذروا من الأكل والشرب باليسار من غير عذر، فأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، فاحذروا من مشابهة الشيطان في أعماله، وإذا دخل أحدكم المسجد فليقدم رجله اليمنى، ويقول: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، فمن غفر له ورحم وفقه الله لتكميل العبادات، ومن عليه بما يفعل في المسجد من الطاعات، وإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى، وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك، ليكون متعلقا رجاؤه بربه في أمور دينه، ودنياه، فإن من سأل ربه وتوكل عليه رزقه من حيث لا يحتسب وكفاه، وإذا لبس لباسا بدأ بالجانب الأيمن، فإن كان جديدا قال: الحمد لله الذي كساني هذا اللباس ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، اللهم كما سترت وجملت ظاهري باللباس فجمل باطني بلباس التقوى، وإذا خلع ذلك بدأ بالجانب الأيسر، وليجعل يده اليسرى لمباشرة النجاسات والأوساخ والأقذار، كالاستنجاء والاستجمار والإستنثار. {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]

خطبة فيها آداب الشرع في السلام والتحية وغيرها

[خطبة فيها آداب الشرع في السلام والتحية وغيرها] 41 - خطبة فيها آداب الشرع في السلام والتحية وغيرها الحمد لله الذي جعل الأدب الشرعي عنوان التوفيق، وهدى من شاء من خلقه لأقوم طريق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة مبنية على الإخلاص والمحبة والتحقيق، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أخرج الله به المؤمنين من الكربات والظلمات والضيق، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والسوابق والتوفيق. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الآداب الشرعية أفضل الآداب، فاسلكوا سبلها لتحظوا من ربكم بجزيل الثواب، ألا وإن أصل الأدب مراقبة الله في السر والعلانية، والقيام بحقوقه وحقوق خلقه بنية وهمة عالية، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «حق المسلم على المسلم ست بالمعروف: يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات، ويحب له ما يحب لنفسه» «إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام» «إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه

فليسلم عليه» «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا دلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» واعلموا أن السلام الشرعي بالمشافهة والمكاتبة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فاستبدل به الجهال الذين لا يعرفون قدر الآداب الشرعية ألفاظا استحسنوها وهي غير مرضية، فأين هذه الألفاظ التي لا فائدة فيها أصلا من تحية المسلمين التي تجمع أكمل الدعاء وأنفع الخير والثناء، وليسلم الراكب على الماشي، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير، والماشي على الجالس، وإذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل سامعه: يرحمك الله، فإذا قال ذلك فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم، فإن حمد الله فشمتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا خير في الجلوس في الطرقات» أي التي لا بيع فيها ولا شراء إلا لمن هدى السبيل، ورد التحية، وغض البصر، وأعان على الحمولة، ولم يؤذ الناس ولم يتتبع عوراتهم ويشتغل بالتفتيش عن أحوالهم، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته وفضحه بين العباد وأظهر للناس عيوبه التي كان يخفيها، ومن تغافل عن عيوب الناس وأمسك لسانه عن تتبع أحوالهم التي لا يحبون

إظهارها سلم دينه وعرضه، وألقى الله محبته في قلوب العباد وستر الله عورته، فإن الجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلام للعبيد. {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في حسن الخلق

[خطبة في حسن الخلق] 42 - خطبة في حسن الخلق الحمد لله الرؤوف الرحيم، البر الجواد الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العظيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الهادي إلى صراط مستقيم، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في كل أمر قويم. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بالقيام بحقوقه وحقوق العباد، وبكمال المتابعة للرسول وقوة الإخلاص للرب الجواد، قال صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» ، فعاشروا رحمكم الله الخلق بالخلق الجميل، وبالتواضع لهم في كل كثير وقليل، واعقدوا قلوبكم عقدا جازما على محبة جميع المسلمين والتقرب بذلك إلى رب العالمين، واجتهدوا في تحقيقها ودفع ما ينافيها، واعملوا على كل ما يحققها ويكملها وينميها، واتخذوا المؤمنين إخوانا، وعلى الخير مساعدين وأعوانا، ومتى رأيتم قلوبكم منطوية على خلاف ذلك فبادروا إلى زواله، وسلوا ربكم أن لا يجعل فيها غلا للذين آمنوا تحظوا بنواله، وميزوا في هذه المحبة من لهم في الإسلام مقام جليل، كعلمائهم وولاتهم العادلين

وعبادهم، فتمام محبة الله محبة أوليائه، بحسب مقاماتهم وعملهم واجتهادهم، ووطنوا نفوسكم على ما ينالكم من الناس من الأذى، وقابلوه بالإحسان، وتقربوا بذلك إلى الله راجين فضل الكريم المنان، فمن كمال حسن الخلق أن تعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتحسن الخلق لمن أبغضك وهجرك، فإن الجزاء من جنس العمل، فمن عفي عن عباد الله عفى الله عنه، ومن سامحهم سامحه الله، ومن أغضى معائبهم ومساويهم ستر الله عليه، فاجعل كبير المسلمين بمنزلة أبيك وصغيرهم بمنزلة ابنك ونظيرهم محل أخيك، وتكلم مع كل أحد منهم بما يناسب الحال؛ فمع العلماء بالتعلم، وبالتعليم مع الجهال، ومع الصغار باللطف، ومع الفقراء بالرحمة والعطف، ومع النضراء بالآداب والظرف. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في مفاتيح الخير والشر

[خطبة في مفاتيح الخير والشر] 43 - خطبة في مفاتيح الخير والشر الحمد لله الفتاح العليم، الملك العظيم، الرب الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، البر الرحيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قال الله فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم القويم. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بفعل الخير وترك العصيان، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الخير والشر خزائن ولهذه الخزائن مفاتيح، فطوبى لمن كان مفتاحا للخير مغلاقا للشر، وويل لمن كان مغلاقا للخير مفتاحا للشر» بهذا الذي ذكر المصطفى توزن الرجال، وبه يعرف أهل النقص من أهل الكمال، فكونوا رحمكم الله مفاتيح للخيرات، مغاليق للشرور والآفات، فمن كان منكم مخلصا لله ناصحا لعباد الله، ساعيا في الخير بحسب إمكانه فذاك مفتاح للخير حائز للسعادة، ومن كان بخلاف ذلك فهو مغلاق للخير، وقد تحققت له الشقاوة،

من الناس من إذا اجتمع بهم في مجالسهم حرص على إشغالهم فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ومنهم من يشغلهم بما يضر وما لا يغني، فهذا قد حرمهم الخير وأشقاهم، ومنهم من يسعى في تقريب القلوب وجمع الكلمة والائتلاف، ومنهم من يسعى في إثارة الفتن والشقاق والتنافر والخلاف، ومنهم من يجتهد في قلع ما في قلوبهم من البغضاء، ومنهم من يلهب في قلوبهم الشحناء، ومنهم من يحث على الجود والكرم والسماحة، ومنهم من يدعو إلى البخل والشح والوقاحة، ومنهم من يتنوع في فعل المعروف في بدنه وقوله وماله، ومنهم من لا يعرف المعروف ولو قل، فلا تسأل عن سوء حاله، ومنهم من مجالسه مشغولة بالغيبة والنميمة والوقيعة في الناس، ومنهم من ينزه نفسه عن ذلك وينزه الجلاس، ومنهم من تذكر رؤيته بالله، ويعين العباد في مقاله وحاله على طاعة الله، ويأمرهم بالقيام بالحقوق الواجبة والمسنونة، ومنهم المثبط عن الخير وأحواله غير مأمونة، فتبارك الذي فاوت بين العباد هذا التفاوت العظيم، فهذا كريم على الله وعلى خلقه، وهذا لئيم، وهذا مبارك على من اتصل به، وهذا داع إلى كل خلق ذميم، وهذا مفتاح للبر والتقوى وطرق الخيرات، وهذا مغلاق لها ومفتاح للشرور والآفات، وهذا

مأمون على النفوس والأعراض والأموال، وهذا خائن لا يوثق به في حال من الأحوال وهذا قد سلم المسلمون من لسانه ويده وهذا لم يسلم منه أحد وربما سرت أذيته على أهله وولده أجارني الله وإياكم من منكرات الأعمال والأخلاق والأهواء، وعافانا من كل شر قاصر ومتعد ومن البلوى، ورزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في الحث على مؤونة الأقارب وغيرهم

[خطبة في الحث على مؤونة الأقارب وغيرهم] 44 - خطبة في الحث على مؤونة الأقارب وغيرهم الحمد لله الذي كرم بني آدم، وفضلهم على كثير من المخلوقات، ويسر لهم من ألطاف بره وأسباب كرمه ما به ينتفعون ويرتفعون درجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كامل الأسماء والصفات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى من جميع البريات، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه الذين فضلوا الأمة بالعلوم النافعة والأعمال الصالحات. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى واعلموا أن من أجل القربات وأفضل الطاعات القيام بمؤنة البنين والبنات، والإخوان والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وجميع القرابات، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعله في فم امرأتك» ، و «من عال جاريتين حتى يغنيهما الله كانتا له حجابا من النار» «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال: وكالقائم لا يفتر وكالصائم لا يفطر» «أنا وكافل اليتيم له أو لغيره

في الجنة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا، «خير بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت فيه يتيم يساء إليه» فما أعظم توفيق من قام بكفالة أحد من أقاربه العاجزين، وما أولاه بالأجر والثواب والخلف من رب العالمين، فإنه في عبادة وثواب متزايد، كلما أطعمهم وكساهم، وهو في جهاد كلما سعى في الكسب لهم وضمهم إليه وآواهم، وقد يفتح الله له بسببهم طرقا من الخير وأبوابا، وينزل له البركة ويعطيه خلفا عاجلا وأجرا وثوابا، فإنما ينصر الناس ويرزقون بعاجزيهم وضعفائهم، وإنما ترحمون برحمتهم إياهم وكثرة سؤالهم ودعائهم، أما تحبون أن يحسن الله إليكم إذا أحسنتم إليهم؟ أما ترغبون أن يكرمكم مولاكم إذا آويتموهم وتفضلتم عليهم؟ أما تغتنمون أدعيتهم لكم في كل الأحوال؟ أما علمتم أن من فرج عنهم كربة فرج الله عنه يوم القيامة الشدائد والأهوال؟ ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن شرح صدر قريبه المحتاج يسر الله أمره، وغفر له يوم فقره وفاقته. {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في الحث على تدبر القرآن الكريم

[خطبة في الحث على تدبر القرآن الكريم] 45 - خطبة في الحث على تدبر القرآن الكريم الحمد لله الذي قال لنبيه المصطفى، منوها بعظمة القرآن وما فيه من الرحمة والنور والهدى: {طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى - إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى - تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا - الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى - لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى - وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 1 - 8] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك المولى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المختار من الخليقة المجتبى، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأخيار النجبا. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بمراعات العلم وتحقيق التقى، وتدبروا هذا الكتاب العزيز فإنه مبارك، فيه الرحمة والشفا، فهو الهدى الذي يهدي من الضلالة، وينير الحقائق الصحيحة في ظلم الجهالة، يهدي إلى معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويبين الطريق الموصل إلى فضله وأفضاله، ويوضح

الأحكام كلها في العبادات والمعاملات، ويبين الحقوق في جميع التعلقات، وهو الشفاء من الأمراض البدنية والقلبية، وبه العصمة والنجاة في الأمور الدينية والدنيوية، وهو المزيل لأمراض الشبهات وأمراض الشهوات، بما فيه من البراهين القاطعة، والمواعظ المؤثرة والتذكيرات، وهو الموصل إلى المعارف الجليلة والعلم واليقين الكاشف للحقائق كلها بالتوضيح الكامل والبراهين، فيه نبأ الأولين والآخرين، وفيه الحكم العادل بين الخلق أجمعين، وفيه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد ما تطمئن به القلوب، وفيه التفاصيل العظيمة النافعة الموصلة إلى كل مطلوب، كتاب عظيم هيمن على الكتب السابقة حتى أحاط بها وحواها، وحكم بالحق في كل ما تنازعت فيه الأمم، أولاها وأخراها، أعيا ببلاغته وحسن نظمه جميع البلغاء، وحير بحسن أسلوبه وما كشفه من غيوبه أفئدة العقلاء، وأصلح بهدايته العقائد والأخلاق والأعمال، وهدى للتي هي أقوم وأصلح وأنفع، في كل الأحوال، كتاب حفظه الله من التغيير والتبديل والزيادة والنقصان، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حميد رحيم رحمان، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه فقد هدي إلى

صراط مستقيم. اللهم اجعل القرآن العظيم لقلوبنا ضياء، ولأسقامنا دواء، ولذنوبنا ممحصا، وعن النار مخلصا، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا رب العالمين.

خطبة في وجوب العدل في كل شيء

[خطبة في وجوب العدل في كل شيء] 46 - خطبة في وجوب العدل في كل شيء الحمد لله الذي أوجب العدل في كل الأحوال، وحرم الظلم في الدماء والأعراض والحقوق والأموال، وأشهد أن لا إله إلا كامل الأوصاف وواسع النوال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي فاق جميع العالمين في العدل والفضل والإفضال، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه خير صحب وأشرف آل. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى واعلموا أن مدار التقوى على القيام بالعدل في حقوق الله وحقوق العباد، فإن التوحيد غاية العدل والشرك أعظم الظلم وأشنع الفساد، إذا كان الله هو الذي خلقك ورزقك وعافاك وأعطاك فمن العدل الواجب أن يكون معبودك، وإليه ترجع في رغباك ورهباك، فمن أظلم ممن سوى المخلوق الناقص الفقير بالرب الغني الكامل القدير. إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] الآية. قد أمر الله ورسوله

بالعدل بين الناس في جميع الحقوق، ونهى عن الظلم والجور والفسوق. بالعدل تعمر الأسباب الدينية والدنيوية، ويتم التعاون على المصالح الكلية والجزئية، والعدل واجب في الولايات كلها والمعاملات، وهو أن تؤدي ما عليك كاملا كما تطلبه تاما من كل الجهات. فمتى عدل الرعاة والمعاملون في المعاملات صلحت الأمور واتسعت دائرة الأسباب والتجارات، ومتى رفع من المعاملة روح العدل والأمانة وحل محله البخس والغش والتطفيف والخيانة، فمنع الإنسان ما عليه واستوفى ماله. {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ - الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ - وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ - أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ - لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 1 - 5] ويل لهم مما يترتب على البخس والتطفيف من العقوبات، وما يرفع بذلك من الخيرات والبركات، وما يتوقف بسببه كثير من المعاملات النافعات، كل معاملة فقدت العدل فهي معاملة ضارة، قال تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من غشنا» . فالغش والمعاملات الجائرة ليست من الدين، وصاحبها متعرض لعقوبة رب العالمين. والعدل يكون في الحقوق الزوجية، فعلى كل واحد من الزوجين معاشرة

الآخر بالمعروف، فمتى قام كل منهما بما عليه التأمت الزوجية، وتم لهما حياة سعيدة طيبة، وحصلت الراحة وحلت البركة، ونشأت العائلة نشأة حميدة، ومتى لم يقم كل منهما بالحق الذي، عليه، تكدرت الحياة، وتنغصت اللذات، وطال الخصام وتعذر الوئام، قال صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته. فالإمام راع على الناس ومسئول عن رعيته. والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته. والمرأة راعية على بيت زوجها هي مسئولة عن رعيتها، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» فذكر صلى الله عليه وسلم الولايات كلها كبارها وصغارها، وأخبر أن من تولى ولاية فهو مسئول عنها، وهل عدل فيها وسلك المأمور به فله الثواب، أو ظلم فيها وجار فعليه العقاب. العدل تقوم به الولايات، وتصلح به الأفراد والجماعات، وتمشي به الأحوال في كل الأوقات. سلك الله بنا وبكم سبيل العدل والإنصاف، وأعاذنا وإياكم من الجور والأعتساف، وبارك لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في معرفة الله وتوحيده

[خطبة في معرفة الله وتوحيده] 47 - خطبة في معرفة الله وتوحيده الحمد لله الذي أوجب على العباد معرفته بأسمائه وصفاته، وأسبغ عليهم نعمه وأمرهم أن يستدلوا بآياته، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي لا يلجأ العبد إلا إليه في كل مهماته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف برياته، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه مدى الدهر وأوقاته. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وأنيبوا إليه، واستغفروه من جميع الذنوب، ثم توبوا إليه، فإنه الودود الغفور لمن لجأ إليه، وتعرفوا إليه بمعرفة أسمائه وصفاته، وتحببوا إليه بطاعته والثناء عليه وذكر آلائه، فإنه الرب العظيم، الذي ملأت عظمته قلوب أوليائه، وحنت إلى وداده ومحبته أفئدة أصفيائه، موصوف بصفات الكمال، منعوت بنعوت الجلال والجمال، منزه عن العيوب والنقائص والمثال، هو كما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله، وفوق ما يصفه أحد من الخلق في كل الأحوال، حي لا يموت، قيوم لا ينام، عليم لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، بصير يرى دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء

على الصخرة الصماء، سميع يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، تمت كلماته صدقا وعدلا، وجلت صفاته أن تقاس بصفات خلقه شبها ومثلا، وتعالت ذاته أن تشبه شيئا من الذوات أصلا، ووسعت الخليقة أفعاله حكمة ورحمة وعدلا، وعم البرية جوده ومواهبه رحمة وإحسانا وفضلا، لخلق والأمر، وله الملك والحمد، وله الثناء والمجد، أول ليس قبله شيء، آخر ليس بعده شيء، ظاهر ليس فوقه شيء، باطن دونه شيء، أسماؤه كلها أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد، ونعوته أوصاف كمال وجلال وجمال وتحميد، كل شيء من مخلوقاته دال عليه، ومرشد للعقول إلى الوصول إليه، لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا، ولا ترك الإنسان سدى ولا عاطلا، وإنما خلق الخلق لقيام توحيده وعبادته، وأسبغ عليهم نعمه ليتوسلوا بشكره إلى كرامته، تعرف إلى عباده بأنواع التعرفات، وصرف لهم الآيات ونوع الدلالات، ودعاهم إلى محبته من جميع الأبواب، ومد بينه وبينهم من عهده أقوى الأسباب، فأتم عليهم نعمه السابغة، وأقام عليهم حجته البالغة، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، فتبارك الله الملك الجواد، وتعالى من شمل خيره جميع العباد.

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27] لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من المخلوقات، ولو كان فيهما إله غير الله لفسدت الأرض والسماوات، ملجأ المضطرين، وملاذ المستجيرين، وغياث المستغيثين، ومجيب دعوات الداعين، وقرة عيون المحبين، وأنيس المستوحشين، وهو الغني عن جميع العالمين، ميسر الأمور، وشارح الصدور، ومحكم الأحكام والمقدور، ومدبر المخلوقات ومصرف الدهور، اضمحلت في عظمته وكبريائه عظمة الملوك والعظماء، وتلاشت لديه مقدرة الأقوياء، وعلوم العلماء، وافتقرت إليه جميع الخليقة في كل شئونها الأغنياء منهم والفقراء، من توكل عليه كفاه، ومن دعاه أجابه، وأفاض عليه عطاياه، ومن اعتز به أسعده وتولاه، ومن انتصر به نصره على عداه، ومن اتقاه جعل له مخرجا وفرجا، وسهل أمور دينه ودنياه. ماله {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 7 - 8] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في أحكام فقهية

[خطبة في أحكام فقهية] 48 - خطبة في أحكام فقهية الحمد لله الملك الحق المبين. وأشهد أن لا إله إلا الله مالك يوم الدين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين وإمام المتقين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وانتبهوا ونبهوا إخوانكم على ما يحتاجونه من مسائل الأحكام، فمن ذكر أخاه مسألة واحدة كتب له الأجر عند الملك العلام. واعلموا أن الأصل طهارة الأشياء كلها، فمن أصابه ماء من ميزاب أو رطوبة. أو وطئ روثا أو أرضا لا يدري عنها فجميع ذلك محكوم له بالطهارة. ومن صلى وهو محدث ناسيا حدثه أعاد الصلاة. ومن صلى وعلى ثوبه أو بدنه نجاسة جهلها أو نسيها ولم يدر عنها حتى فرغ فلا إعادة عليه. ومن عدم الماء أو تضرر باستعماله تيمم بالتراب، وعليه أن يستوعب بالمسح جميع وجهه وكفيه وينوي بتيممه جميع حدث عليه. ومن كان مريضا وقد تلوث بدنه وثيابه بالنجاسة فإن كان يقدر على خلعها وجب عليه ألا يصلي إلا على طهارة،

ومن كان لا يقدر على ذلك فليصل على حسب حاله، وصلاته تامة لا إعادة عليه. ومن أدرك من صلاة الجمعة ركعة أتمها جمعة، وإن أدرك أقل من ركعة نواها وصلاها ظهرا. ومن كانت عليه فوائت يقضيها فليبادر إلى قضائها مرتبا. وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن النفل في ثلاثة أوقات: من الفجر حتى ترتفع الشمس قيد رمح، ومن صلاة العصر إلى غروب الشمس، وعند زوال الشمس حتى تزول، إلا ما استثناه الشارع. ومن جاء منكم والإمام راكع فعليه أن يكبر تكبيرة الإحرام وهو قائم قبل أن يهوي إلى الركوع، فإن كبر وهو يهوي ففريضته غير صحيحة. ومن فاته شيء من الصلاة فلا يحل له أن يقوم لقضاء ما فاته حتى يفرغ الإمام من التسليم، فإن قام قبل أن يسلم التسليمة الثانية ولم يعد انقلبت صلاته نفلا. ومن جاء منكم والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، وكذلك في غير الخطبة. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة الجزاء من جنس العمل

[خطبة الجزاء من جنس العمل] 49 - خطبة الجزاء من جنس العمل الحمد لله الذي من حكمته جعل الجزاء من جنس الأعمال، وأرى العباد من ذلك نموذجا ليحدوهم به إلى أكمل الخصال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الكرم والجلال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي فاق الخلق في كل كمال، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه خير صحب وأشرف آل. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أن الله بحكمته قضى أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر ليعرف العباد أنه حليم عليم رؤوف رحيم، وليرغبوا في الخير ويحذروا من أسباب العذاب الأليم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» ، إن الله طيب لا يقبل من الأعمال والأقوال والنفقات إلا طيبا، إن الله طيب نظيف يحب النظافة، جواد يحب الجود، كريم يحب الكرم، وما نقصت صدقة من مال بل تزيده، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد إلا رفعه الله، ومن أحسن إلى

الخلق أحسن الله إليه، ومن عفى عنهم عفى الله عنه، ومن غفر لهم غفر الله له، ومن تكبر عليهم وضعه الله، ومن يسر عن معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، ومن أنفق لله أخلف الله عليه، ومن أمسك عما عليه أتلفه الله، وما ظهر الغلول وأكل المال بغير حق في قوم إلا أوقع في قلوبهم الرعب وابتلاهم الله بالذل، وما نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، وما نكث قوم العهد إلا سلط عليهم الأعداء، وما فشى في قوم الزنا إلا كثر فيهم الوبا والموت، وما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم، ومن وصل رحمه وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، ومن أوى إلى الله آواه الله، ومن استحيا من الله استحيا الله منه، ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه، ومن تقرب إلى الله تقرب الله منه أكثر من ذلك، ومن أشبع مسلما من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقاه على ظمأ سقاه من حلل الجنة، ومن نصر أخاه المسلم نصره الله، ومن خذله خذله الله، ومن تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته وأظهر عيوبه،

ومن سترهم وأغضى عن معائبهم ستره الله، ومن يستعفف يعفه ومن يستغن يغنه الله، ومن يصبر يصبره الله، ومن أقال مسلما بيعته أقاله الله عثرته يوم القيامة، ومن أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله، ومن فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته، ومن جمع متحابين جمع الله بينه وبين أحبته. من الله علي وعليكم بالقيام بالأسباب النافعة، وحمانا وإياكم من الأسباب الضارة. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في الصدق

[خطبة في الصدق] 50 - خطبة في الصدق الحمد لله الذي أمر بالصدق في الأقوال والأفعال، وأثنى على الصادقين بالفضل والكمال. وأشهد أن لا إله إلا الله الكبير المتعال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل من نطق وقال، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل. أما بعد: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، قد أمر الله بالصدق في عدة آيات، وأثنى على الذين يرعون العهد والأمانات، وأخبر بما لهم من الثواب الجسيم، فقال {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119] وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عنه الله صديقا» . فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصدق يهدي إلى البر، والبر اسم جامع لكل خير وطاعة وإحسان إلى الخلق، والصدق عنوان الإسلام وميزان الإيمان وعلامة الكمال،

وإن لصاحبه المقام الأعلى عند الملك المتعال، بالصدق يصل إلى منازل الأبرار، وبه تحصل النجاة من الآفات وعذاب القبر وعذاب النار، بالصدق يكون العبد معتبرا عند الله وعند الخلق، قال صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما» ، فالبركة مقرونة بالصدق والبيان، والتلف والمحق مقرون بالكذب والكتمان، والمشاهدة أكبر شاهد على ذلك والعيان، لا تجد صادقا إلا مرموقا بين الناس بالمحبة والثناء والتعظيم، ولا كذابا إلا ممقوتا بهذا الخلق الأثيم، الصادق يطمئن إلى قوله العدو والصديق، والكاذب لا يثق به بعيد ولا قريب، الصادق الأمين مؤتمن على الأموال والحقوق والأسرار، ومتى حصل منه كبوة أو عثرة فصدقه يقيه العثار، والكاذب لا يؤمن على مثقال ذرة، ولو فرض أحيانا لم يحصل به الثقة والاستقرار، ما كان الصدق في لا زانه، ولا الكذب في شيء إلا شانه، الصدق طريق الإيمان، والكذب بريد النفاق، اللهم تفضل علينا بالصدق في أقوالنا وأفعالنا وجميع أحوالنا، إنك جواد كريم، رؤوف رحيم.

خطبة في الاستقامة

[خطبة في الاستقامة] 51 - خطبة في الاستقامة الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي ليس لفضله منتهى ولا مدد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير مولود وأشرف ولد، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه صلاة وسلاما بغير عدد. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وتقربوا إليه، واستقيموا إليه، واسلكوا كل طريق يوصلكم إليه، فقد «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: " قل آمنت بالله ثم استقم» ، فجمع صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية أصول الخير وفروعه، بلفظ موجز واضح مثمر للسعادة والفلاح وجميع المصالح، فقوله: " آمنت بالله " أي أعترف من صميم قلبي أنه ربي وإلهي الذي لا رب لي سواه، ولا معود لي إلا إياه، وأنه الموصوف بصفات الكمال، المنزه عن العيوب والنقائص والمثال، الأول الذي ليس قبله شيء، الآخر الذي ليس بعده شيء، الظاهر الذي ليس فوقه شيء،

الباطن الذي ليس دونه شيء، المحيط بكل شيء رحمة وعلما وقدرة ومشيئة وحكما، الحميد في أسمائه وأوصافه وأفعاله. الحكيم في خلقه وشرعه وعطائه ومنعه، الرحمن الرحيم، الجواد الكريم، الذي شمل العباد بواسع نواله، يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن، يغفر ذنبا ويفرج كربا، ويعطي سائلا، ويرفع أقواما ويضع آخرين، بيده ملكوت كل شيء، وإليه مرجع كل حي، ليس للعباد غنى عن طاعته والافتقار إليه، ولا لهم ملجأ ومعاذ وملاذ ولا اضطرار إلا إليه، فمن آمن بالله على الوجه الذي جاء عن رسول الله واستقام على شرع الله فقد استقام على الصراط المستقيم، واستحق الفوز في جنات النعيم. ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولا بمجرد الأقوال الخالية من الأعمال، إنما الإيمان ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وأثمر الخشية من علام الغيوب. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4] المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، وتمام الاستقامة بمعرفة الخير

والاجتهاد في فعله، ومعرفة الشر والاجتهاد في تركه، فليجاهد العبد نفسه في تحقيق التقوى، ويستعين بالملك الأعلى، ونسأل الله الثبات إلى الممات، وأن يحفظه الله من فتن الشبهات والشهوات. {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] وبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في التعرف إلى الله

[خطبة في التعرف إلى الله] 52 - خطبة في التعرف إلى الله الحمد لله ذي الألطاف الواسعة والنعم، وكاشف الشدائد والمكاره والنقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجود والكرم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي فضل على جميع الأمم، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم في طريقهم من الأمم. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى وتعرفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، وتقربوا إليه بطاعته يجلب لكم السعادة ويدفع عنكم المشقة، فمن اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه عرفه الله في شدته ورعى له تعرفه السابق، وكان معه ومحل طمعه ورجائه، قال تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ - لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144] فكان ليونس مقدمة صدق نجي بها، ويعين الله ما يتحمله المتحملون، فمن عامل الله في حال صحته وشبابه وقوته عامله الله باللطف والإعانة في حال شدته، ومن كان مطيعا لله لاهجا بذكره في حال السراء أغاثه الله وأنقذه من المكاره والضراء، لا سيما عند انتقاله

من الدنيا في تلك الشدائد والكروب، فإن الله يلطف به ويثبته فيخرج من الدنيا على غاية المطلوب، ولقي ربه وهو راض عنه حيث قدم رضى ربه على كل محبوب، ومن نسي الله في حال قوته وصحته ولم يتب إلى ربه ولا تاب من زلته- فلا يلومن إلا نفسه حين وقوعه في كربه وشدته وشقوته، قال صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه: «من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه» . والمؤمن المتقي إذا حضره الموت فبشر بالسعادة أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، والمعرض الغافل إذا بشر بالشقاء كره لقاء الله وكره الله لقاءه ". {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في وجوب دفع الأذية عن الناس

[خطبة في وجوب دفع الأذية عن الناس] 53 - خطبة في وجوب دفع الأذية عن الناس الحمد لله الذي جعل الإحسان أكبر الأسباب لنيل الكرامات، وأذية الخلق والإضرار بهم موجب للعقوبات، وأشهد أن لا إله إلا الله كامل الأسماء والصفات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف المخلوقات، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والكرامات. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن من توفيق العبد وسعادته كف أذيته عن المسلمين، ومن شقاوته عدم مبالاته في إيصال الضرر للعالمين، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، ومن عزل حجرا أو شوكة أو عظما عن طريق الناس فقد سعى لنفسه بالأمان، وقال صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي بطريق إذ وجد غصن شوكة فأزاله فشكر الله له فغفر له وأدخله الجنة» ، فرحم الله عبدا كف أذيته عن الناس فلم يؤذهم بالتخلي في طرقهم ومساجدهم ومجالسهم، وما أحسن توفيق من رفع الأذى عنهم في جميع أحوالهم وتصرفهم، وازجروا من رأيتموه يتخلى في مغاسل المساجد فإنه موجب للعنة

اللاعنين، وقد باء فاعل ذلك بالإثم وأذية المؤمنين، قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل» وإياكم وكشف العورات بمرأى أحد أوقات التخلي والاغتسال، كما يفعل ذلك من لا يخشى الله من المتهاونين الأرذال، فقد لعن الناظر والمنظور وحق عليهم الوبال، أفلا يستحي أحدكم أن يكون أسوأ حالة من البهائم، فيبدي عورته والناس ينظرون، وهذا من أعظم الجرائم، فإن الله يمقت أشد المقت على كشف العورات، فمن فعل ذلك فقد باء بغضب من الله وحقت عليه العقوبات، عافاني الله وإياكم من جميع البليات، وستر منا العيوب والعورات، وأمننا من المخاوف والروعات، وسلك بنا مسلك أهل الأدب والحيا والصيانات. {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] الآية. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في الوتر وغيره

[خطبة في الوتر وغيره] 54 - خطبة في الوتر وغيره الحمد لله مفضل الأعمال بعضها على بعض، والمتصرف في الأمور كلها بالإحكام والحكم في الطول والعرض، مالك السماوات والأرض، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا يقدر أحد على القدح في حكمته ولا النقض، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد أهل السماوات والأرض، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب والعرض. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، فإن أصل التقى القيام بالواجبات، وكمال التقوى وزينتها تحليتها بالمستحبات، وخصوصا ما حث عليه الشارع من نوافل الصلاة المؤكدات، فقد حث على الوتر وفضله تفضيلا، وأمر به وأخبر عن فضله وثوابه إجمالا وتفصيلا، فقال: «يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر، فمن لم يوتر فليس منا» . وإن الله قد أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر، وهي ما بين أن تصلوا العشاء والفجر، فمن شاء أن يوتر من أول الليل أو وسطه أو

آخره، ومن طمع أن يقوم من آخر الليل فليوتر آخره، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل، ومن شاء أن يوتر بواحدة أو ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع أو إحدى عشرة ركعة فلا بأس، وله أن يسردها، وأن يسلم من كل ركعتين، فكله ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن نام عن الوتر أو نسيه أو غيره من الصلوات قضاه إذا استيقظ وذكره. ومن دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، ليتعجل من ربه أجره مرتين. ومن توضأ في ليل أو نهار فليصل ركعتين خفيفتين. ومن حافظ على ثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة تطوعا بنى الله له بيتا في الجنة؛ أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، فهذه الرواتب التي لا ينبغي للعبد أن يتركها ومن تركها لعذر قضاها. ومن هم بأمر ديني أو دنيوي فليصل ركعتين من غير الفريضة وليدع ربه بدعاء الاستخارة المعروف، وليستشر في ذلك من هو بالنصح والخبرة معروف، فلا ندم من استشار ولا خاب من استخار، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء: 94] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم

[خطبة في الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم] 55 - خطبة في الصلاة علي النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي جعل حق نبيه مقدما على حقوق العالمين. وأوجب علينا الإيمان به وطاعته وتقديم محبته على الخلق أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] لهذا وجب لنبينا علينا حقوق كثيرة، ومن تلك الحقوق الإكثار من الصلاة والسلام عليه في جميع الأوقات، وتجب الصلاة عليه في الخطبة والصلاة، وتتأكد في يوم الجمعة وليلتها، وفي أول الدعاء وآخره، وعند ذكر سيد المخلوقات، ومن سمع المؤذن قال مثل ما يقول ثم قال: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم حلت عليه شفاعته-صلى الله عليه وسلم، وأولى الناس به وأحقهم بشفاعته أعظمهم إخلاصا لله، وأكثرهم صلاة وسلاما عليه. ومن دخل

المسجد فليقل: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وعند الخروج يقول ذلك ويقول: وافتح لي أبواب فضلك. وما جلس قوم مجلسا ثم تفرقوا ولم يذكروا الله ويصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة يوم القيامة. ومن أكثر من الصلاة والسلام عليه كفاه الله همه وقضى حاجته وغفر له ذنبه، ومن صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفع له عشر درجات. وكل أمر ذي بال حلي بذكر الله والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أحل فيه البركة، وكل أمر ذي بال لا يذكر الله فيه ولا يصلى فيه على النبي صلى الله عليه وسلم فهو أجذم ممحوق البركة، فالإكثار من الصلاة عليه فيها غفران الزلات، وتكفير السيئات وإجابة الدعوات، وقضاء الحاجات وتفريج المهمات والكربات، وحلول الخيرات والبركات، ورضى رب الأرض والسماوات، وهي نور لصاحبها في قبره، منجية من الشرور والآفات، وفيها القيام ببعض حقه وتنمية محبته في القلب التي هي من أشرف القربات، وهي من أسباب الهداية إلى صراط مستقيم، وهي دعاء وسؤال للرب الرحيم، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في تيسير طريق الجنة والنجاة من النار

[خطبة في تيسير طريق الجنة والنجاة من النار] 56 - خطبة في تيسير طريق الجنة والنجاة من النار الحمد لله الذي فاوت بين عباده في العقول والهمم والإرادات، ورفع بعضهم فوق بعض درجات. وأشهد أن لا إله إلا الله كامل الأسماء والصفات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل المخلوقات، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم في كل الحالات. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، فتقوى الله وقاية من العذاب، وطريق إلى الفوز والثواب. عباد الله، قد بين الله ورسوله لكم مراتب الخير والشر وثوابه، وفتح لكم طريق البر وأبوابه، وأبان لكم أن من قصد رضوانه وسلك السبيل فلابد أن يوفقه ويوصله إلى كل فضل جزيل، ومن تولى عن مولاه واتبع شيطانه وهواه ولاه الله ما تولى لنفسه وخذله وأضله وأعماه، فلا يهلك على الله إلا الطغاة المتمردون، ولا يخرج عن رحمته إلا من أبى أن يسلك ما سلكه الصادقون، فهذه الشرائع التي شرعها لكم المولى ويسرها لكم قوموا بها بجد واجتهاد، يصلح لكم أحوالكم، «قال معاذ بن جبل: يا رسول الله أخبرني بعمل

يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: " لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» أي فمن قام بهذه الشرائع الخمس وكملها استحق دخول الجنة والنجاة من النار، ثم قال له مبينا لأمته أبواب الخير: «ألا أدلكم على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل " ثم تلا قوله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] إلى قوله: {يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] ثم قال: " ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله "؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: فأخذ بلسان نفسه فقال: " كف عليك هذا " قلت: يا رسول الله: إنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: " ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخيرهم إلا حصائد ألسنتهم» فمن ملك لسانه فأشغله بما يقرب إلى الله- من قراءة وذكر ودعاء واستغفار، وحبسه عن الكلام المحرم من غيبة أو نميمة أو كذب وكل ما يسخط الجبار- فقد وفق للخير والثواب، وسلم من الشر والعقاب. فانظروا رحمكم الله ما أسهل هذه

الشرائع وأيسرها، وما أعظم ثوابها وأجرها وما أكملها. {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في الرضى بالقدر

[خطبة في الرضى بالقدر] 57 - خطبة في الرضى بالقدر الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكفى بالله وليا ونصيرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله إلى جميع الثقلين بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله فقد فاز المتقون، واعتمدوا على ربكم في كل ما به تتصرفون، واعلموا أن كل شيء بقضاء قدره من يقول للشيء كن فيكون، ألا وإن الاعتقاد في القضاء والقدر أحد أصول الإيمان، وبتحقيقه يتحقق للعبد الربح ويسلم من الخسران، فإن هذا الاعتقاد إذا وقر في القلوب نشط العاملين في أعمالهم، ورقاهم إلى مدارج الكمال في كل أحوالهم، فمن آمن حق الإيمان بالله وعلم أن كل شيء بقدره وقضاه ثبت الله قلبه للرضى والتسليم وهداه، ومن استعان بالله معتمدا بقلبه عليه أعانه، ومن لجأ إليه واحتمى بحماه حماه وعصمه وصانه، ومن تحمل في سبيله الأثقال والمشاق سهلها عليه

وهونها، ومن قصد نحوه صادقا كفاه كل مؤنة وزين في قلبه مسالك الخير وحسنها، كيف يرهب الخلق في رضى الخالق من يعلم أن الأجل محتوم؟ وكيف يخشى الفقر فيما ينفق من ماله في الخير من تيقن أن الرزق مقسوم؟ كيف لا يطمئن إلى كفاية الله ورزقه من يعلم أن الله تكفل بأرزاق الخليقة؟ كيف لا يثق بوعد من قال: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] ؟ وهو الذي بيده خزائن الملك على الحقيقة، كيف يتسخط العبد المصائب والمكاره والله هو الذي قدرها؟ كيف لا يحتسب له ثوابها ويرجو ذخرها من يعلم أن الله هو الذي أجراها ودبرها؟ ألا وإن الإيمان بقضاء الله وقدره يوجب الطمأنينة إلى الله في كل الحالات، ويسهل على العبد اقتحام الصعاب والأهوال الملمات، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف. واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا» . {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في التقوى

[خطبة في التقوى] 58 - خطبة في التقوى الحمد لله الذي فاوت بين عباده في العقول والهمم والإرادات، ورفع بعضهم فوق بعض بالإيمان والعلم ولوازمهما درجات. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الذات، ولا سمي له في الأسماء ولا مثيل له في الصفات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف البريات، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم في كل الحالات. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى فتقوى الله وقاية من الشر والعذاب، وسبب موصل للخير والثواب. عباد الله: قد بين الله لكم مراتب الخير وثوابه، وحضكم على ذلك وسهل لكم طرقه وأسبابه، فقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] وإلى قوله: {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74] فوصف المتقين بالقيام بحقوقه وحقوق عباده وبالتوبة والاستغفار، ونفى عنهم الإقامة على الذنوب والإصرار، وقال معاذ بن جبل - رضي الله عنه- «يا رسول الله: أخبرني بعمل يدخلني الجنة وينجيني من النار. قال صلى الله عليه وسلم: " لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله

عليه تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان وتحج البيت» ، أي فمن قام بهذه الشرائع الخمس حق القيام استحق النجاة من النار ودخول دار السلام، ثم لما رآه شديد الرغبة في الخير وضح له وللأمة الأسباب التي توصل إلى خيري الدنيا والآخرة، والأبواب التي تفضي إلى النعم الباطنة والظاهرة- فقال: «ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة» أي: وقاية في الدنيا من الذنوب، ووقاية في الآخرة من جميع الكروب، «والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل " ثم تلا قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16]- حتى بلغ- {يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] ثم قال: "ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر: الإسلام وعموده: الصلاة وذروة سنامه: الجهاد في سبيل الله " ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ " قلت بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه وقال: " كف عليك هذا " قلت يا رسول الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخيرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!» فمن ملك لسانه فأشغله بما يقربه إلى الله من علم وقراءة وذكر ودعاء واستغفار، وحبسه عن الكلام المحرم من غيبة ونميمة وكذب

وشتم وكل ما يسخط الجبار- فقد ملك أمره كله واستقام على الصراط المستقيم. ومن أطلق لسانه فيما يضره استحق العذاب الأليم. فانظروا رحمكم الله ما أسهل هذه الشرائع وأيسرها، وما أعظم ثوابها عند الله وأكملها. فجاهدوا نفوسكم على تحقيقها وإكمالها، وسلوا ربكم الإعانة على أقوالها وأفعالها. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في المنجيات والمهلكات

[خطبة في المنجيات والمهلكات] 59 - خطبة في المنجيات والمهلكات الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ملكه وسلطانه، ولا مثل له في أسمائه وصفاته، وبره وإحسانه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المؤيد ببرهانه، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأعوانه. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واسلكوا سبيل السلامة والنجاة، واحذروا سبل العطب والأمور المهلكات، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث منجيات وثلاث مهلكات، فأما المنجيات: فتقوى الله في السر والعلانية، والقول بالحق في الرضا والسخط، والقصد في الغنى والفقر، وأما المهلكات: فهوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه، وهي أشدهن» . فياله من كلام جامع لمسالك الخيرات، محذر عن موانع الهلكات. أما تقوى الله في السر والعلانية، فهي ملاك الأمور، وبها حصول الخيرات واندفاع الشرور، فهي مراقبة الله على الدوام، والعلم بقرب الملك العلام، فيستحي من ربه أن يراه حيث نهاه، أو يفقده في

كل ما يقرب إلى رضاه، وأما قول الحق في الغضب والرضى، فإن ذلك عنوان على الصدق والعدل والتوفيق، وأكبر برهان على الإيمان وقهر العبد لغضبه وشهوته، فإنه لا ينجو منها إلا كل صدّيق، فلا يخرجه الغضب والشهوة عن الحق، ولا يدخلانه في الباطل، بل الصدق عام لأحواله كلها وشامل، وأما القصد في الفقر والغنى فإن هذا علامة على قوة العقل وحسن التدبير، وامتثال لإرشاد الرب القدير في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] فهذه الثلاث جمعت كل خير متعلق بحق الله، وحق النفس، وحقوق العباد، وصاحبها قد فاز بالقدح المعلى والهدى والرشاد، وأما الثلاث المهلكات فأولاهن هوى متبع، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] فإن الهوى يهوي بصاحبه إلى أسفل الدركات، وبالهوى تندفع النفوس إلى الشهوات الضارة المهلكات، وأما الشح المطاع فقد أحضرت النفوس شحها، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ومن انقاد لشحه فأولئك هم الخاسرون، فإن الشح يحمل على البخل ومنع الحقوق، ويدعو إلى الضرر والقطيعة والعقوق، أمر الشح أهله بالقطيعة فقطعوا، ودعاهم إلى منع الحقوق الواجبة فامتثلوا، وأغراهم

بالمعاملات السيئة من البخس والغش والربا ففعلوا، فهو يدعو إلى كل خلق رذيل، وينهى عن كل خلق جميل، وأما إعجاب المرء بنفسه فإنه من أعظم المهلكات وفظائع الأمور، فإن العُجب باب إلى الكبر والزهو والغرور، ووسيلة إلى الفخر والخيلاء واحتقار الخلق الذي هو من أعظم الشرور، فهذه الثلاث: الهوى المتبع والشح المطاع والإعجاب بالنفس، من جمعها فهو من الهالكين، ومن اتصف بها فقد باء بغضب من الله واستحق العذاب المهين، فطوبى لمن كان هواه تبعا لمراضي الله، وطوبى لمن وقي شح نفسه فكان من المفلحين، وعرف نفسه حقيقة فتواضع للحق وخفض جناحه للمؤمنين. من الله علي وعليكم بمكارم الأخلاق ومعاليها، وحفظنا من مضارها ومساوئها، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

خطبة واعظة

[خطبة واعظة] 60 - خطبة واعظة الحمد لله الخالق ومن سواه مخلوق، الرازق وغيره عبد فقير مرزوق. أحمده على ما له من الصفات وأسأله أن يعيننا على أداء الحقوق. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل بريته، اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم في سنته. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى وإياكم والاغترار بالأماني والآمال، فإنكم على وشك النقلة والارتحال، أين من جمع الأموال ونماها؟! وافتخر على أقرانه وتمتع بلذاته وباهى؟! أما ترون القبر قد حواه والتراب قد أكله وأبلاه، ولم يبق له إلا ما قدمت يداه، {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ - فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الانشقاق: 6 - 7]- إلى قوله - {وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 12] كتاب ينطق بما جرى شفاها، كتاب عرف بجميع الأعمال حسنها وسيئها وجلاها، تعرض خائنة الأعين على من قد رآها، وخافية الصدور وصاحبها قد أخفاها، لا يغادر كبيرة ولا صغيرة

إلا أحصاها، فحينئذ يغتبط المتقون بكتب أعمالهم التي قدموها، ويقولون لمعارفهم مبتهجين بالأعمال الصالحة التي أسلفوها: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ - إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ - فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ - فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ - قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 19 - 23] ويقال لهم {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول حين أيقن بالشقاء الأبدي والعذاب السرمدي {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ - وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ - يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ - مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ - هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 25 - 29] فيقال للزبانية عند ذلك: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ - ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 30 - 32] والسبب الذي أوصله إلى هذا العذاب الفظيع والعقاب الشديد والموضع المريع أنه كان لا يؤمن بالله العظيم، ولا يحض على طعام المسكين، ضيع حق الله فتجرأ على الكفر والفسوق والعصيان، وضيع حقوق المحتاجين بالقسوة والبخل وعدم الإحسان، يا له من يوم يخسر فيه المبطلون، ويفوز فيه المتقون، ويربح فيه العاملون. {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل: 111] أجارني الله وإياكم من النار، ومن علينا بالرحمة والمغفرة، فإنه الكريم الستار.

خطبة في معرفة الله

[خطبة في معرفة الله] 61 - خطبة في معرفة الله الحمد لله الولي الحميد، المبدىء المعيد، الفعال لما يريد، الذي تفرد بكل كمال وجلال وجمال، فهو الغني المجيد، وتوحد بالألوهية والربوبية، فلا ضد له في ذلك ولا نديد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال في عظمته وكبريائه، وأوصاف التمجيد، وذو الإكرام الذي ملأت مهابته ومحبته قلوب صفوة العبيد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي هدى أمته إلى كل فعل جميل وقول سديد، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم في الهدى الرشيد. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وراقبوه، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه. لقد تعرف لكم بأسمائه الحسنى وصفاته، وتحبب إليكم بنعمه المتواترة وآلائه. أخبركم أنه أحاط بكل شيء رحمة وعلما، وحكمة واقتدارا، وأنه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، إعذارا لكم وإنذارا، وأنه يحب المحسنين والمتقين، كي نسارع إلى تحقيق التقوى ونتسابق إلى الإحسان. ويحب الصابرين ترغيبا لنا في الصبر على المكاره وعلى الطاعات

وعن العصيان، وأنه المتفرد بسوابغ النعم ليجذب العباد إلى محبته وشكره والثناء عليه، وصارف المكاره والنقم ليعلموا أنه لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه. وأنه الله الذي لا إله إلا هو، ولا يستحق العبادة سواه، ليعبدوه ويستعينوا به، فإنه من توكل على الله كفاه، ويسر له أمور دينه ودنياه. أخبرهم أنه المانع المعطي، والنافع الضار، وأنه الغفور الرحيم، الحليم الستار، كي يستدفعوا به المكاره ويستجلبوا منه المنافع والمسار، ويرغبوا إليه في كل ما نابهم في الإعلان والإسرار. وأخبرهم أنه العزيز المقتدر الملك الجبار، ليخضعوا لعظمته ويستولي عليهم الذل والانكسار. وتعرف إليهم باسمه الباسط الفتاح الرزاق، ليتعلقوا بخزائن جوده الواسع الذي لا ينقص على تنوع الإنفاق. سبحانه وتعالى، وتقدس عن كل نقص وعن ند وضد ومثال، وتبارك من عظمت صفاته، وكثرت خيراته، وتوالت آلاؤه الجزال، ولا إله إلا الله الذي لا شريك له في ربوبيته، ولا نديد له في ألوهيته، ولا سمي له في أسمائه، ولا مثيل له في صفاته، ولا نظير له في حكمته، ولا عديل له في سعة علمه ورحمته، ولا سبيل للعباد للإحاطة ببعض أوصافه، ولا يحصي أحد ثناء عليه من أهل أرضه وسمائه. بسم الله الرحمن الرحيم.

{طه - مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى - إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى - تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا - الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى - لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى - وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 1 - 8] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في التوحيد

[خطبة في التوحيد] 62 - خطبة في التوحيد الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، العزيز الغفار، مكور النهار على الليل والليل على النهار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد الرسل وإمام الأبرار، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه الأطهار. أما بعد: أيها الناس، {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22] من الذي أوجدكم من العدم؟ وغمركم بسوابغ النعم؟ من الذي صرف عنكم المكاره والمضار والنقم؟ من الذي أعطاكم العقول والأسماع والأبصار؟ من الذي سخر لكم الليل والنهار؟ من الذي فلق الحب عن الزروع وعن الأشجار وعن النوى؟ من الذي أحيا الأرض بعد موتها بما أنزل عليها من غيث السماء؟ من الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء؟ من الذي أمسك السماوات

والأرض عن الزوال؟ من الذي أحكم خلقها وأحسن نظامهما فلا يرى فيها خلل ولا إخلال؟ من الذي فجر الأرض بالأنهار والعيون. وأخرج الثمار اللذيذة والفواكه الشهية من يابس الغصون؟ أما ذلك إبداع من يقول للشيء: كن فيكون؟ من الذي خلق المخلوقات فعدلها وأحسنها وسوى، وقدر أقدارا وإليها وجه أهلها وهدى؟ من الذي خلق السماء وبناها؟ ورفع سمكها فسواها؟ وأغطش ليلها وأخرج ضحاها؟ والأرض بذلك دحاها؟ أخرج منها ماءها ومرعاها؟ والجبال أرساها متاع لكم ولإنعامكم؟ فجعل ملكا عظيما، وربا وإلها، إله قامت البراهين القاطعة على وحدانيته، وشهدت الموجودات ببديع حكمته، وسعة علمه ورحمته، وخلق المكلفين لعبادته ومعرفته، فقوموا رحمكم الله، بما خلقتم له، فإنكم عن ذلك مسئولون، واستعدوا للقاء ربكم فإنكم إليه راجعون، وخذوا ما استطعتم من الباقيات الصالحات. وتوبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم السيئات، ويدخلكم جنات تجري من تحتط الأنهار فيها المساكن الطيبات. أما ترون الله يتابع عليكم نعه لتشكروه؟ ويذكركم بآلائه لتعرفوه وتذكروه!! ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وبذكره تغفر الخطايا ويحصل كل مطلوب، من

أقبل على ربه وتقرب إليه تلقاه، ومن استعان به وتوكل عليه كفاه، ومن رجع إليه في أموره كلها لطف به وتولاه مولاه، ومن تعرف إليه في الرخاء عرفه في الشدة، ومن قام بتقواه جعل له فرجا ومخرجا من كل مشقة. فسبحان من فتح لعباده من رحمته كل باب. ويسر لهم الوسائل إلى الخيرات والأسباب. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في فضل الدين الإسلامي

[خطبة في فضل الدين الإسلامي] 63 - خطبة في فضل الدين الإسلامي الحمد لله الذي شرع لنا من الدين ما وصى به المرسلين، وأكمله وأتم به النعمة على المؤمنين، وجعله حجة قاطعة وآية ساطعة على المعاندين، وأشهد أن لا إله إلا الله، فإياه نعبد وإياه نستعين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، الذين أصلح الله بهم الدنيا والدين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واذكروا نعمة الله عليكم، إذ كنتم قبل هذا الدين أعداء فألف بينكم بهذا الدين القويم، وكنتم قبله غواة ضالين فهداكم به الصراط المستقيم، فهو الدين الحاوي لروح الرحمة والعلم والحكمة، المساوي في أحكامه بين أصناف الأمم على وفق العدالة والرأفة والرحمة، هدى الله به من الضلالة، وأنقذ به من الجهالة، فكم ألان قاسيا، وهذب خشنا، وعلم جاهلا، ونبه غافلا، وكم أزال من تقاعد وكسل، وكم أصلح من فاسد وإخلال وخلل، وكم حث على الخيرات والفضائل، وحذر من الشرور والرذائل، وكم جمع الأشتات

والمتفرقات، وكم أزال من ظلم وأصلح المتصدعات، وكم مكن لأهله من نظم منوعة فيها صلاحهم، وكم حداهم إلى ما فيه ربحهم وفلاحهم، فهو السراج الذي بنوره إلى كل مشكلة يسترشدون، وهو الأساس الأعظم الذي عليه بنيانهم وعليه يعتمدون، صحح العقائد وهذب العلوم، وأصلح الأعمال، وإليه يلجأ الخصوص والعموم، نهج لأهله السعي لإدراك السعادتين، وجمع بين ترقية الأرواح والأجساد بوجهين متفقين، وأعان كل منهما للآخر فمشيا مصطحبين، فأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال ابتغوا فضل ربكم بالأسباب النافعة، واستعينوا بها على عبادة رب العالمين. الإخلاص لله شعاره، والنصح والإحسان للعباد دثاره، والنشاط إلى الأمور النافعة أنيسه، والعلم الصحيح والعمل الصالح جليسه. دعا إلى المعارف الشرعية الدينية، وإلى المعارف الأفقية الكونية، ومع ذلك أمرهم أن لا يكتفوا بالعلم عن العمل، ولا يدعوا استثمار المواهب والاستعدادات التي فيهم ويخلدوا إلى الكسل، فالدين كله جد وعمل، وتأمل وتفكير، وكله ترق إلى الفضائل مع الاستعانة بالملك القدير، ونظمه تساير في سيرها الأعصار، وتسابق في سيرها الليل والنهار، وتغلب في خيرها السحب

الغزار، خضعت العقول الصحيحة لحكمه وأحكامه، واسترشدت به واهتدت إلى علمه وأعلامه، فقوم الدين معوجها المائل، وأوضح المعضلات وحل المشاكلات، وتكفل بإصلاح العاجل والآجل، وعصم من الشرور وأنواع المهالك، فليس له ند في شيء من ذلك ولا مشارك، وهو مع ذلك يحث على التعاون بين الراعي والرعية، ويعرفهم أن المنافع مشتركة بينهم محفوظة مرعية، ويحذرهم من اليأس والكسل، وينفخ فيهم روح الرجاء وقوة الأمل، ويربط بالروابط المعنوية والمادية أدناهم بأقصاهم، ويجمع لهم بين مصالح دنياهم وأخراهم، فما من خير ونفع وصلاح إلا دعا إليه، وبين الوسائل والطرق الموصلة إليه. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] الآية. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في فضل ليلة القدر

[خطبة في فضل ليلة القدر] 64 - خطبة في فضل ليلة القدر الحمد لله البر الرحيم، الجواد الكريم، ذي الفضل العظيم. والإحسان المتواتر العميم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد بالكمال وحسن الأفعال، والبر الجسيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي هو بالمؤمنين رؤوف رحيم، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم فسلك الصراط المستقيم. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، قال تعالى: {حم - وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ - إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ - فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ - أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ - رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان: 1 - 6] وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ - لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ - تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ - سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5] انظروا رحمكم الله فيما احتوت عليه هذه الآيات من فضيلة هذه الليلة وشرفها، وما تضمنته من برها وخيرها وتحفها، ليلة خصها الله بإنزال القرآن الكريم، الذي فيه

الهدى والرحمة والفرقان، وفيه أنقذ الله العباد من الشقا والخسران. ليلة مباركة في كثرة خيراتها، مباركة في سعة فوائدها ومبراتها، من بركتها أنها تفوق ليالي الدهر، ليلة القدر خير من ألف شهر، ومن بركتها أن من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنوبه، ومن قامها محتسبا أصلح الله أحواله وستر عيوبه، ومن دعا الله فيها بقلب حاضر خالص أجابه وآتاه مطلوبه. قالت عائشة - رضي الله عنها-: «يا رسول الله: إن وافقت ليلة القدر فبم أدعو؟ قال: "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» ، فهكذا كانت حالة الصفوة الأخيار، ينافسون في هذه الليلة، ويلتجئون إلى الملك الغفار. أما يحق لك أيها المؤمن أن تجرد قلبك في هذه الليلة من جميع الأشغال، وأن تقبل بكليتك إلى طاعة ذي العظمة والجلال، وأن تعترف بذنوبك وفاقتك وافتقارك، وأن تتوسل إليه مخلصا في خضوعك وانكسارك؟ تقول: يا رب قد عظمت مني الذنوب، يا رب قد تكاثرت علي الخطايا والعيوب، يا رب أنا الفقير المعدم المضطر إليك، يا رب لا ملجأ لي منك إلا إليك، إن رددتني من يقبلني؟ وإن خيبتنى من يصلني؟ وإن حرمتني من يعطيني؟ وإن أبعدتني فمن الذي يقربني ويدنيني؟ لا رب لي غيرك، ولا إله لي سواك،

ولا أستعين بغيرك، ولا أعبد إلا إياك. أنت الذي خلقتني ورزقتني، وأنت الذي واليت علي النعم وعافيتني. آلاؤك تتوالى الليل والنهار، ونعمك ليس لها حد ولا منتهى ولا انحصار. أرجوك في هذه الليلة الكريمة أن تغفر ذنوبي، وأن تصلح فاسدي وناقصي وعيوبي، وأن تسعفني يا مولاي بمطلوبي. ويحق لك أن تدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، الذي جمع خير الدنيا والآخرة. وشمل حصول النعم الباطنة والظاهرة؛ فتقول "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر. اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت " لعلك تصادف ساعة إجابة تسعد فيها سعادة لا تشقى بعدها، ولعلك توافق نفحة من نفحات الكريم تصلح أمورك بها. فكم سعد في هذه الليلة أقوام؟ وكم لله فيها من جزيل الفضل وواسع الإنعام؟ وكم أعتق فيها المسرفون من النار؟ حين أخلصوا لربهم وأكثروا من التوبة والاستغفار، وكم صفى فيها للصفوة من قلوب نيرة وأسرار؟ وكم أغدق على قلوبهم من المعارف العالية؟ فصاروا من خيرة الأبرار.

اللهم وما قسمت في هذه الليالي المباركة من خير وبر وفضل وإحسان فاجعل لنا منه أوفر الحظ وأشمل الامتنان، وما قسمت فيها من شر وبلاء فاصرفه عنا في كل وقت وأوان، اللهم خلى بنواصينا إليك، وأقبل بقلوبنا إليك، ولا تحرمنا خير ما عندك بشر ما عندنا، يا أرحم الراحمين.

خطبة في إصلاح التعليم

[خطبة في إصلاح التعليم] 65 - خطبة في إصلاح التعليم الحمد لله الذي أمرنا أن نأتي البيوت من أبوابها، وأن نسير في طريق مصالحنا بتعرف مناهجها وأسبابها. وأشهد أن لا إله إلا الله الذي أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم من العلوم قليلا ولا كثيرا، وجعل لنا الأسماع والأبصار والأفئدة لنشكره بصرفها إلى المعارف النافعة، وكان ربك قديرا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أرسل إلى جميع الثقلين بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، صلاة وسلاما كاملا كثيرا. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بمعرفة الخير واتباعه، ومعرفة الشر وتركه واجتنابه، واعلموا أن العلم هو الأساس الذي يستقيم عليه البنيان، وبه الصلاح والفساد والكمال والنقصان، فليكن تأسيسكم على علوم نافعة صحيحة، ومعارف قوية صادقة رجيحة، فالعلوم النافعة كلها تنقسم إلى مقاصد ووسائل، فالمقاصد هي الأصول المصلحة للعقائد والأخلاق لمضائل، وهي العلوم الدينية التي بينها الرسول وحث عليها،

وهي التي لا تنفع العلوم كلها إلا إذا أسست أو بنيت عليها، فوجهوا- رحمكم الله- وجوهكم ووجوه المتعلمين إلى علوم الدين، واغرسوا هذا الغراس الجميل الباقي في أذهان الناشئين، فبذلك تصلح الأحوال، وتزكو الأعمال، وبذلك يتم النجاح في الحال والمآل، وبذلك تصلح العقائد والأخلاق، وبه يسير التعليم إلى كل خير وينساق، ولا يتم ذلك إلا بتخير الأساتذة الفضلاء الناصحين، وملاحظتهم التامة لأخلاق المتعلمين، وأن يعلق النجاح والشهادات الراقية لمن جمع بين العلم والدين، فإن العلم الخالي من الدين لا يزكي صاحبه، وإنما هو صنعة من الصناعات، ولابد أن يهبط بأصحابه إلى أسفل الدركات، أما رأيتم حالة المدارس المنحرفة حين أهمل فيها تعليم الدين، كيف انساق أهلها إلى الشر والإلحاد؟ وكيف كان الكبر ملأ قلوب أهلها، وأعرضوا عن رب العباد، فالعلوم العصرية إذا لم تبن على الدين شرها طويل، وإذا بنيت على الدين أينعت بكل ثمرة جميلة وعمل جليل، لقد افترى من زعم أن العلوم تقوم بغير الدين، ولقد خاب من توسل بعلوم المادة المحضة وخسر الخسران المبين، أما ترون الماديين كيف انحلت منهم الأخلاق الجميلة؟ وحصلوا على كل خصلة رذيلة، أما

ترونهم يسعون خلف أغراض النفوس وخسيس الشهوات؟! أما تشاهدون أحوالهم فوضى قد مرجت فيهم المعنويات والصفات؟! أما ترونهم حين عرفوا شيئا من علوم الطبيعة أعجبوا بأنفسهم فهم مستكبرون! وحين جاءتهم علوم الرسل احتقروها وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون. فنعوذ بالله من علم لا ينفع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يجاب ويشفع، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} [النحل: 125] الآية، {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79] لقد أرشدنا ربنا إلى الطريقة المثلى في تعليم المتعلمين، وأن نسلك أقرب طريق يوصل المعارف إلى أذهان المشتغلين، فلا نزحمها بكثرة الفنون فإن الأذهان لا تتحملها، ولا تلقي عليها من المسائل ما لا تطيقها ولا تحفظها. بل تلقي على كل أحد ما يتحمله ذهنه وما يشتاق إليه. ونتعاهد بالدرس والإعادة وكثرة المرور عليه، فالقليل الثابت الراسخ البنيان، خير من الكثير الذي هو عرضة للزوال والنسيان، فتزاحم العلوم يضيع بعضها بعضا وتوجب الكسل والملل، وذلك من أعظم الأضرار والإخلال وشدة الخلل، فكم من تلميذ على هذا الوصف مكث المدة الطويلة بغير معرفة صحيحة ونجاح، وكم من تلميذ سلك الطريق

النافعة، ففاز بكل خير وفلاح. فكما أن القوى لا تكلف من الأعمال والأشغال إلا ما تطيق وتستطيع، فكيف بالأذهان الصغيرة إذا زحمت بما لا طاقة لها به وذلك عبء ثقيل مريع. {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران: 187] الآية. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في الحث علي العلم

[خطبة في الحث علي العلم] 66 - خطبة في الحث علي العلم الحمد لله الذي رفع من أراد به خيرا بالعلم والإيمان، وخذل المعرضين عن الهدى وعرضهم لكل هلاك وهوان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكريم المنان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي كمل الله له الفضائل والحسن والإحسان، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم مدى الزمان. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن التقوى لا تتم لكم إلا بمعرفة ما يتقى من الكفر والفسوق والعصيان، ولا تستقيم لكم إلا بقيامكم بأصول الإيمان وشرائع الإسلام وحقائق الإحسان. فطلب العلم إذن من أفرض الفرائض وأوجب الواجبات، فإن عليه المدار في قيام الطاعات وترك المخالفات. فمن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، ومن لم يرد به خيرا أعرض عن طلب العلم وسماعه، فكان من الهالكين الجاهلين. فما بالكم معرضين عن العلم، وهو من الفروض الواجبة؟! وما لكم مقبلين على ما يضركم تاركين ما ينفعكم،

راضين بالصفقة الخاسرة؟! قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر» فهذه الرياض البهيجة فيها من العلوم من كل زوج كريم، فيها يعرف الله ويهتدي إلى الصراط المستقيم، وفيها يعرف الحلال من الحرام والصلاح من الفساد، وفيها يعرف سبيل الغي والضلال، وسبيل الهدى والرشاد، فكيف تعتاضون عنها بمجالس اللهو وتضييع الأوقات، أو مجالس الشر والفساد. أما إن طلب العلم قربة وثواب عند رب العالمين، والإعراض عنه شر وخسران مبين. فيا أيها المعرضون عن طلب العلم ما هو عذركم عند الله، وأنتم في العافية تتمتعون؟ وماذا يمنعكم منه وأنتم في أرزاق ربكم ترتعون. أترضون لأنفسكم أن تكونوا كالبهائم السائمة؟ أتختارون الهوى على الهدى والقلوب منكم ساهية هائمة؟ أتسلكون طرق الجهل وهي الطرق الواهية، وتدعون سبل الهدى وهي السبل الواضحة النافعة؟ أترضى إذا قيل لك: من ربك وما دينك ومن نبيك لم تحر الجواب وإذا قيل: كيف تصلي وتتعبد أجبت بغير الصواب؟ وكيف تبيع وتشتري وتعامل وأنت لم تعرف الحلال من الحرام؟ أما والله إنها حالة لا يرضاها إلا أشباه الأنعام. فكونوا- رحمكم الله- متعلمين، فإن لم تفعلوا

فاحضروا مجالس العلم مستمعين ومستفيدين، واسألوا أهل العلم مسترشدين متبصرين، فإن لم تفعلوا وأعرضتم عن العلم بالكلية فقد هلكتم، وكنتم من الخاسرين، أما علمتم أن الاشتغال بالعلم من أجل العبادات وأفضل الطاعات والقربات، وموجب لرضى رب الأرض والسماوات، ومجلس علم تجلسه خير لك من الدنيا وما فيها، وفائدة تستفيدها وتنتفع بها لا شيء يزنها ويساويها؟ فاتقوا الله عباد الله، واشتغلوا بما خلقتم له من معرفة الله وعبادته، وسلوا ربكم أن يمدكم بتوفيقه ولطفه وإعانته. {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة في التعلق بالله دون غيره

[خطبة في التعلق بالله دون غيره] 67 - خطبة في التعلق بالله دون غيره الحمد لله الذي بيده أزمة الأمور ومقاليدها، وبإرادته حصول الأسباب والمسببات ومفاتيحها، وتبارك من لم يشاركه في الخلق والرزق والتدبير أحد من العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله ولا ضد ولا ظهير ولا معين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين، وإمام المتقين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله واخشوه، ولا تخشوا أحدا سواه، ولا تتعلقوا بتألهكم ونفعكم وضركم وأموركم كلها بغير الله، فإنه المالك القادر الذي بيده الحياة والإماتة وأمور الأرزاق، وبيده الإعزاز والإذلال والإغناء والإملاق. {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر: 2 - 3] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]

فمتى علمت أن الأمور كلها بيد الله فلم التعلق بالمخلوقين؟! ولم الخوف والرجاء والرغبة والرهبة لغير رب العالمين؟! أليس الخلق كلهم عن مصالحهم ومنافعهم عاجزين؟! أليس الملوك والرعايا والأغنياء والفقراء والضعفاء والأقوياء إلى ربهم مضطرين؟! فما منهم من أحد يملك لنفسه، - فضلا عن غيره- نفعا ولا ضرا ولا حياة ولا موتا ولا نشورا. فتعين علينا أن لا نستنصر ولا نسترزق إلا من ربنا، وكفى به ناصرا ورازقا ووليا ونصيرا. كيف نذل ونبذل كرامتنا لمملوك مثلنا عاجز فقير؟! كيف نخشى ونخاف غير ربنا ونواصي العباد بيده وهو على كل شيء قدير؟! أما تولى خلقنا وتدبيرنا ونحن في الأصلاب والأرحام أطوارا أطوارا، أما ربانا بأصناف نعمه وغمرنا ببره صغارا وكبارا، أما صرف عنا السوء والآفات، ولطف بنا في كل الحالات والتنقلات، أما أطعمنا من جوع، وكسانا من عري، وأمننا المخاوف، أما يسر لنا الأرزاق ووقانا المحاذير والمتالف؟! فيحق لنا أن لا نحمد ولا نشكر ولا نثني إلا عليه، وأن نذكره آناء الليل والنهار، ونتوكل عليه ويكون خوفنا ورجاؤنا ورغبتنا مقصورة عليه.

خطبة في الحج

[خطبة في الحج] 68 - خطبة في الحج الحمد لله الذي رتب على حج بيته الحرام كل خير جزيل، وجعل قصده من أجل القربات الموصلة إلى ظله الظليل، ويسر أسبابه وهون الوصول إليه والسبيل، وسهله بلطفه وكرمه غاية التسهيل. وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الجليل. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل الخلق في كل خلق جميل، اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين، لهم في كل عمل نبيل. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى واغتنموا الفرص إلى حج البيت العتيق، قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] وقال صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة. تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة. الحجاج والعمار وفد الله، إن سألوه أعطاهم، وإن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم، يالها من

وفادة عظيمة على ملك الملوك وأكرم الأكرمين، وعلى من عنده ثواب الدنيا والآخرة وجميع مطالب السائلين، ليست وفادة على أحد من المخلوقين الفقراء المساكين، وإنما هي وفادة على بيته الذي جعله مثابة للناس وهدى ورحمة للعالمين، قد غنم الوافدون فيها منافع الدنيا والدين، غنموا تكميل إيمانهم وتتميم إسلامهم، ومغفرة ذنوبهم وستر عيوبهم وحط آثامهم، غنموا الفوز برضى ربهم ونيل رحمته وثوابه، والسلامة من سخطه وعقوبته وعذابه، قد وعدوا الثواب على المشقات وما ينالهم من الصعوبات، ووعدوا إخلاف ما أنفقوا أو مضاعفته ورفعة الدرجات، ووعدوا بالغنى ونفي الفقر وغفران الذنوب، وصلاح الأحوال وحصول كل مطلوب ومرغوب، والسلامة من كل سوء ومكروه ومرهوب. يالها من وفادة تشتمل على تلك المواقف العظيمة، والمشاعر الفاضلة الكريمة، وفادة أهلها في مغنم عظيم في كل أحوالهم، وتنوع في طاعة المولى في جميع أعمالهم. إذا أنفقوا ضوعف أجرهم بغير حساب، أو نالهم نصب ومشقة فذلك يهون في طاعة الملك الوهاب، أو تنقلوا في مناسكهم ومواقفهم نالوا به الخير والثواب، فهم في كرم الكريم يتمتعون، وفي خيره وبره المتواصل يرتعون، إذا فرح الوافدون

على الملوك بالعطايا الدنية الفانية، فقد اغتبط هؤلاء الأخيار بالعطايا الجزيلة الباقية، وإذا سارع المترفون إلى المصيف والنزهة في البلاد النائية مع كثرة النفقات، تسابق هؤلاء الصفوة إلى المواقف الكريمة التي وعد أهلها بالخيرات الكثيرة والبركات. فهل يستوي من قدم أغراضه الدنية واتبع هواه، ممن ترك محبوباته وسارع لرضى مولاه؟! {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]

خطبة في الحث علي المساهمة في عمارة المساجد بمناسبة عمارة جامع البلد

[خطبة في الحث علي المساهمة في عمارة المساجد بمناسبة عمارة جامع البلد] 69 - خطبة في الحث علي المساهمة في عمارة المساجد بمناسبة عمارة جامع البلد الحمد لله الذي جعل عمارة بيوته من أعظم شواهد الإيمان، وأذن الله أن ترفع وتعظم تعظيما للرحيم الرحمن. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في منازل الجنان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم المنان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله السابق إلى كل خير ومعروف وبر وإحسان، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم ما ودامت الملوان. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أن أفضل الأعمال ما عظم نفعه وحسن وقعه، واستمر ثوابه وتسلسل خيره، وذلك مثل المشاريع الخيرية، والسبل النافعة الدينية، التي من أفضلها وأجلها ثوابا ما عاد إلى عمارة المساجد التي أمر الله أن ترفع وتعظم، ويذكر فيها اسمه ويتقرب إلى الله فيها وتحترم، وتكفر بعمارتها السيئات، وتضاعف به الحسنات، وترفع به الدرجات، قال تعالي: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 18]

الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة» وهذا المثال من النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أن من ساعد على عمارة المسجد ولو بشيء قليل بحيث تكون حصته من المسجد هذا المقدار- وهو مفحص القطاة- استحق هذا الثواب الجزيل، وما ذلك على فضل الله وكرمه بعزيز ولا جليل، لهذا نذكركم- رحمكم الله- للمساهمة في بنيان هذا المسجد الذي هو من أفضل المشاريع النافعة، وأجل الأعمال المدخرة الصالحة، فكل من يحب المشاركة في الخير فالطريق له مفتوح، وسواء قل ما بذله أو كثر فإنه مقبول، وذلك لقصد تعميم النفع في المشاركة في الخيرات، وأن لا يحرم منه من يقصد الثواب والمبرات، وأن يكون هذا العمل مؤسسا من مجموع نيات المشاركين فيه وأموالهم، ومن توجهاتهم إلى الله بالإخلاص في أعمالهم، فإن آثار الأعمال تكون مباركة مضاعفة بحسب نيات العاملين وإخلاصهم، فما ظنكم بعمل يحبه الله، وقد تولد من مجموع نيات صادقة وهمم خالصة، وإرادات وتوجيهات في الخير راغبة، فلمثل هذا فليعمل العاملون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، لهذه الأسباب فإنا نحثكم على التبرع في عمارته بما سهل وتيسر من النفقات، ولو بدرهم واحد ولو بأعواد من خشب أو غيرها

من الآلات، ليدوم للمنفق ثوابها ويستمر له أجرها، ويتسلسل له خيرها ونفعها، فإنه مادامت آثار النفقة موجودة فالثواب دائم وما استمرت آثاره فالأجر ثابت قائم، وكثير من أهل الخير يبحث عن أفضل عمل يبذل فيه نفقة في حياته، أو وصية يوصي بها بعد مماته، فلا يجد أفضل من هذا العمل الجليل، ولا يدرك أكمل من هذا الأمر الخالد الجميل، فإن المنفق فيه قد شارك المصلين في صلاتهم، والمتعبدين في عباداتهم، فإن الله يكتب ما قدمه لعباد وباشروه وآثار أعمالهم، وذلك من تعظيم الله وتعظيم شعائره الذي هو غاية المطلوب، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، وإذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: منها الصدقة الجارية التي يدوم الانتفاع بها، ويتم الاغتباط بثوابها. {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

خطبة لصفر

[خطبة لصفر] 70 - خطبة لصفر الحمد لله مصرف الأوقات والدهور. ومدبر الأحوال في الأيام والشهور. ومسهل الصعاب وميسر الأمور. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإليه المنتهى والمصير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه وضاعف اللهم لهم الأجور. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الأمور كلها بيد العزيز الحكيم، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن من صغير وعظيم. {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر: 2] {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] فالأمر كله بيد الله، والتصاريف كلها منقادة لقدر الله، والأسباب والمسببات تبع لحكمة الله. ليس لشيء من الأوقات والشهور عمل ولا تأثير، وإنما الأوقات تجري مسخرات

بتقدير الملك الكبير، إنما جعلها الله رحمة وخلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، وظروفا للأعمال نافعها وضارها، فكل ميسر لما خلق له تيسيرا، فأوقات الموفقين زاهرة بالأعمال النافعة والخيرات، وأوقات المجرمين قد ملئت من الشرور والآفات ليس لشهر صفر وغيره نحس ولا سعد ولا شؤم، فلا هامة ولا صفر، وإنما هي تدابير الحي القيوم، فلقد أبطل هذه الخرافات الساقطة النبي المعصوم، وأخبر أن الأسباب النافعة قسمان: أسباب دينية، ترجع إلى الأعمال الصالحة الحسان، المبنية على الإخلاص والتقوى والإيمان، وأسباب دنيوية تصلح المعاش، يقوم بها العبد مستعينا بالرحمن، وكل هذا داخل في قوله صلى الله عليه وسلم «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» - كما يفعل الأحمق الكسلان -، فليس شيء من الخرافات سببا لخير ولا شر ولكنها خلل في العقول والأديان، فمن علق بشيء منها أمله فهو جاهل ضال، وإنما المؤمن يتعلق بربه الكبير المتعال. يسر الله لنا كل خير ومطلوب، وحفظنا من كل سؤ وشر ومرهوب، ومن علينا بالهدى والتقى، والعفاف والغنى، وغفر لنا في الآخرة والأولى.

خطبة في الحث على التوبة

[خطبة في الحث على التوبة] 71 - خطبة في الحث على التوبة الحمد لله الذي فتح لعباده أبواب الرحمة والمتاب، ويسر لهم الخروج من التبعات وسهل الأسباب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عليه توكلت وإليه متاب. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل مخلص أواب، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، أشرف آل وأكرم صحاب. أما بعد: أيها الناس، اتقوا ربكم وتوبوا إليه ولا تلتفتوا بقلوبكم ولا تعولوا إلا عليه. فقد أمركم بالتوبة ويسر لكم أسبابها، ونهج لكم السبل النافعة، وفتح أبوابها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] إلى قوله- {قَدِيرٌ} [التحريم: 8] {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] وقال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] فأخبر أنه غفار لمن تاب من السيئات، وآمن بوحدانية الله وما له من عظيم الصفات، وسارع إلى مرضاة ربه بالأعمال الصالحات، ثم اهتدى وداوم على الإنابة إلى الممات. فمن ندم على ما مضى من الزلات، وأقلع في الحال عن

الخطيئات وعزم أن لا يعود في مستقبله إلى الجنايات- فقد قام بشروط التوبة، والله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. ومن تطهر طهرا كاملا، وقال بعده: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين، وصلى ركعتين لا يحدث فيهما- نفسه- غفر الله ذنوبه، وأناله مراده ومطلوبه. وقال تعالى {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] وفي الحديث القدسي «يقول الله تعالى: " يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم» . وجعل الله الصلاة في جوف الليل والصدقة على المحتاجين مطفئتان للخطايا كما يطفئ الماء النار، كما جعل كظم الغيظ والعفو عن الناس من خصال التقوى، وماحيا للأوزار، وما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا أذى إلا كفرت بها عنه الخطيئات، وقد جعل تعالى جميع الحسنات تذهب السيئات. فتوبوا إلى ربكم قبل تعذر المتاب. وقبل طي الصحائف وغلق الباب. قبل {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] الآيات. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.

بسم الله الرحمن الرحيم تم نقل هذه المجموعة من خطب الشيخ " عبد الرحمن بن ناصر السعدي " سنة 1372 هـ غفر الله له ولوالديه في 12 ربيع أول المبارك من خط المؤلف بقلم الفقير إلى الله في كل من أحواله عبد الله بن سليما بن عبد الله السلمان غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه.

ثانيا الخطب المنبرية على المناسبات

[ثانيا الخطب المنبرية على المناسبات] [خطبة في الاعتصام بالله من الشيطان] ثانيا الخطب المنبرية على المناسبات تأليف علامة القصيم المحقق الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي من أفاضل علماء عنيزة رحمه الله

الطبعة الأولى 1375 هـ الطبعة الثانية 1412هـ

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلي، والنعم الظاهرة والباطنة، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه. أما بعد: فهذه خطب منبرية سوى الخطب التي نشرناها سابقا تبع المناسبات.

1 - خطبة في الاعتصام بالله من الشيطان الحمد لله الذي جعل لنا من الإيمان والتوكل السبب العاصم الأقوى، ومن الأوراد الشرعية حصنا حصينا نستدفع به الأعداء، وحذرنا مسالك الشيطان وطرقه، فهو نعم النصير ونعم المولى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العظمة والكبرياء، وذو الفضل العظيم والرحمة الواسعة والنعماء. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد الرسل وإمام الأصفياء، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه النجباء، وعلى التابعين لهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، واستعدوا كل وقت لمحاربة عدوكم مستعينين بالملك الكافي، فقد أخبركم بما توعدكم به عدوكم الملازم لكم في كل وقت وحين، {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ - ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17] وقال:

{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168] فحققوا رحمكم الله الإيمان بالله والتوكل عليه لتعتصموا به من هذا العدو المبين، فـ {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99 - 100] فمن صدق الله ورسوله وأطاعهما فقد حقق الإيمان، ومن قوي اعتماده وثقته بالله فقد حقق التوكل عليه، والله نعم العون لمن به استعان. وقال تعالى آمرا بهذين الأصلين: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} [الملك: 29] {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] فالزموا هذين الأمرين ظاهرا وباطنا، فما خاب من توكل عليه وإليه أناب. وحافظوا على قراءة المعوذتين عند المساء والصباح، وأكثروا من ذكر الله، فإنه دافع للأعداء ومحصل للفلاح، وليقل أحدكم: {رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ - وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 - 98] أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق، وذرأ وبرأ، ومن طوارق الليل وطوارق النهار، إلا طارقا يطرق بخير يا رب ". فلقد سعد من اعتصم وتوكل على الرحمن، فسلم بحفظ الله من نزغات الشيطان، ولقد خاب من أعرض عن ربه فافترسته الأعداء. {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50] بارك الله لي ولكم.

خطبة بعد نزول الغيث

[خطبة بعد نزول الغيث] الحمد لله الذي أجزل لعباده الفضل والإنعام. وغمرهم بجوده وإحسانه العام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد الأنام، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق تقواه، واشكروه على آلائه وكرمه ونعماه، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ} [الروم: 48] إلى آخر الآيات، وقال تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ينظر إلى عباده أزلين قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب» ، فهو سبحانه يبتلي عباده بالمكاره وحبس الغيث لعلهم أن يرجعوا إليه ويثوبوا، ويلجأوا إليه ويتضرعوا ويتوبوا، فيكون ذلك كفارة لخطاياهم، وداعيا لهم إلى الانكسار لمولاهم، فإنه لا ملجأ ولا منجى للعباد منه إلا إليه، ولا معول لهم في كل الأمور إلا عليه، فهو ينعم عليهم

بتقدير بلائه، ثم يتفضل ببسط جوده وعطائه. يبتليهم بالمصائب ليصبروا، ثم يبدلها بالنعم ليحمدوه ويشكروا. اذكروا حالكم السابق، إذ كنتم أزلين قد حسبتم للجدب كل حساب، فأصبحتم مغتبطين بمنة الملك الوهاب. أنزل عليكم غيثا مغيثا هنيا، فعم الأراضي بعد الجدب والعطش الشديد ريا، ولم يزل بعباده رؤوفا رحيما لطيفا حفيا، ولم يزل يوالي خيراته على عباده شيئا فشيئا، فطوبى لمن كان لنعمه شاكرا وبعهده وفيا، وويل لمن توالى عليه النعم فيصبح طاغيا متمردا عصيا. عباد الله: تأملوا هذه النعم التي تتوالى عليكم تترى، فكلما جدد لكم ربكم نعما فجددوا له حمدا وشكرا، وكلما صرف عنكم المكاره فقوموا بحقه طاعة له وثناء وذكرا، وسلوا ربكم أن يبارك لكم فيما أعطاكم، وأن يتابع عليكم منافع دينكم ودنياكم، فإنه الجواد المطلق الرؤوف بالعباد، فليس لخيره ولا لخزائنه نقص ولا نفاد. بارك الله لي ولكم.

خطبة في الحث على تكميل الصلاة

[خطبة في الحث على تكميل الصلاة] 3 - خطبة في الحث على تكميل الصلاة الحمد لله الذي جعل الصلاة أعظم شرائع الإسلام، ووعد من حافظ عليها بالثواب الجزيل في الدنيا وفي دار السلام، وأوعد من ضيعها بالعقوبات المتنوعة والآلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، سيد الأنام، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وحافظوا على الصلوات في أوقاتها، وإياكم والتفريط في واجباتها ومكملاتها. حافظوا على الطمأنينة والسكون في القيام والقعود، والركوع والسجود، واجتهدوا في حضور القلب والخشوع للملك المعبود. وإياكم والالتفات، فإنه نقص واختلاس من الشيطان، واحذروا كثرة الحركة، فإنها موجبة للخلل والنقصان. وإياكم ورفع البصر وإقعاء كإقعاء الكلب في القعود، ولا تفترشوا الذراعين، ومكنوا

الأعضاء السبعة في السجود، ولا تضعوا اليدين على الخاصرة أو تتمايلوا تمايل اليهود. ولا تستقبلوا أو تستصحبوا ما يشغل ويلهي، ولا تمسحوا الجباه ومواضع السجود، فإن كان لا بد فواحدة تكفي. ولا تسابقوا الإمام، فمن سابق إمامه فلا وحده صلى، ولا بإمامه اقتدى، ولا بنبيه اهتدى. وإذا ركع الإمام فاركعوا، وإذا سجد الإمام فاسجدوا، وإذا رفع الإمام فارفعوا، واقتدوا بإمامكم، ولا تتقدموا عليه ولا تأخروا. وإذا قرأ القرآن جهرة فاستمعوا له وأنصتوا. وإياكم والمرور بين يدي المصلين، فمن فعل ذلك فهو من الآثمين الظالمين، ومن أراد أن يمر بين يدي أحدكم فليدافعه فإن معه القرين، يريد أن يؤثم الفاعل وينقص أجر المصلين، فإن مر بين يدي المصلي حمار أو امرأة أو كلب أسود بطلت الصلاة، إلا لمن هو وراء السترة أو مع الإمام، فإن سترته سترة لمن خلفه، وهذا من فوائد الجماعات. ومن كان حاقنا أو محتاجا إلى طعام أو غيره فليذهب لحاجته، فإن أدرك الجماعة وإلا فقد تم أجره بنيته وعذره وراحته. ومن جاء والإمام راكع فليكبر تكبيرة الإحرام وهو قائم، فمن كبرها أو أكملها وهو يهوى فصلاته باطلة، وهو آثم. ومن فاته شيء من الصلاة مع الإمام فلا يستعجل بالقيام لقضاء ما فاته قبل تكميل

السلام، وذلك لوجوب الاقتداء والائتمام. فمن حافظ على الصلاة وأكملها قبلت وصعدت إلى الله ولها نور وبرهان، ومن أخل بها ضرب بها وجه صاحبها وآلت إلى البطلان أو النقصان. كيف تهون عليك صلاتك وهي رأس مالك وبها يصح الإيمان؟ تقدم عليها حظوظ النفس وهي أكبر حظ لمن وفق للإحسان؟! {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] بارك الله لي ولكم.

خطبة في التعرف إلى الله بالأعمال الصالحة

[خطبة في التعرف إلى الله بالأعمال الصالحة] 4 - خطبة في التعرف إلى الله بالأعمال الصالحة الحمد لله الذي جعل الأعمال الصالحة سببا لحصول الخيرات، ومنقذة من الهلكات والشدات. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الأسماء والصفات. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل المخلوقات. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أولى الفضائل والكرامات. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى وتعرفوا إليه بالأعمال الصالحة في حال الرخاء يعرفكم في الشدة، وقوموا بحقوق ربكم في كل حال ينقذكم من كل مشقة، فقد قال الله تعالى في ذكر السبب الذي أنقذ به يونس عليه السلام من بطن الحوت إذ نادى وهو مكظوم: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ - لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144] وقال صلى الله عليه وسلم: «دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] » ،

قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] وقد قال يوسف عليه السلام، حيث أزال الله عنه المكاره والمشقات، وأوصله إلى الخير العاجل والعز والتمكين، وجمع له بين خير الدنيا وخير الدين: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 90] وقال موسى عليه السلام لقومه: {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] فلما امتثلوا أمره واستعانوا بالله وصبروا قال الله مخبرا عما إليه وصلوا: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137] وقال تعالى مذكرا للمؤمنين حالهم مع نبيهم عليه الصلاة والسلام بعد الشدائد والاضطهاد وإبدالها بالخير والسكون: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26] وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة العظيمة فسدت عليهم باب الغار، فتوسلوا بأعمالهم الصالحة إلى الملك الغفار، فأحدهم توسل ببره الكامل لأبويه، والثاني بعفته العظيمة حين ترك محبوبه مع القدرة عليه، والثالث بالوفاء بالمعاملة الذي لا نظير له فيقاس عليه، ففرج الله

عنهم بهذه المقدمات الطيبة حين لجؤا إليه. وقال صلى الله عليه وسلم: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» . فمن حفظ الله في حال الصحة والقوة والشباب حفظه الله في كبره وأحسن له الخاتمة والمآب. فكم لله على المحسنين من فضل عظيم، وكم له على المطيعين من ألطاف وخير جسيم.

خطبة في التحذير من المدارس الأجنبية المنحرفة

[خطبة في التحذير من المدارس الأجنبية المنحرفة] 5 - خطبة في التحذير من المدارس الأجنبية المنحرفة الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، تفرد بصفات الكمال، وتنزه عن النقائص والأشباه والأمثال. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل العالمين، وسيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بفعل أوامره وترك نواهيه، وتحببوا إليه بفعل ما يحبه ويرضيه. واعلموا أن الله من عليكم؟ بدين الإسلام، الذي فيه السعادة والفلاح والخير كله على التمام. أنقذكم به من الضلالة والشقا، وأرشدكم به إلى كل خير ورشد وهدى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] إلى قوله: {عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] واحذروا أعداء الإسلام، فإنهم لا يزالون يبغون

لكم الغوائل، وينصبون لإضلالكم المصائد والحبائل. فأعظم حبائلهم مدارسهم التي لم تؤسس إلا لإضلال الناس، ولا بنيت إلا لإفساد العقائد والأخلاق، فبئس الأساس. انظروا إلى آثارها، ومن يتخرج منها كيف انسلخوا وانحلوا من الدين؟! وكيف كان الاستهزاء واحتقار الدين مهنة هؤلاء الأرذلين؟! فكم أخرجت هذه المدارس المنحرفة من أبناء المسلمين من كانوا للإسلام أكبر الأعداء!! ويظن الغالطون أنها أدوية لأمراضهم، وكانت والله أعظم الداء، ويعتبرونها نافعة لهم في دنياهم، فكانت هي الشر والبلاء!! خرجوا منها منسلخين من أخلاقهم وآدابهم وإيمانهم، متهكمين ومستهزئين بأسلافهم وآبائهم وإخوانهم!! مستبدلين من الأخلاق الجميلة كل خلق رذيل، منحرفين من الصراط السوي إلى منجرف السبيل. كيف يرضى مسلم أن يختارها لأولاده وهم عنده ودائع وأمانات؟! وكيف يضعهم في شبكة الهلاك؟ فهذا أكبر الخيانات!! وكيف يرضى أن يخسر ولده بسعيه واختياره؟! ويذهب عمله سدى بل ضررا إذا باء بغبنه وخساره. ألم يكن عندكم وفي بلادكم من مدارس الحكومة ما يحصل به المقصود؟ وفيها الأساتذة المعروفون بالعلم والدين وبذل المجهود؟ ألم تبذل الحكومة لراحة الجميع خير

مجهود؟ ألم تروا من آثار أعمالهم ومنفعة المتعلمين ما هو محسوس ومشهود؟ ففيم الرغبة بعد هذا في مدارس الأجانب التي نفعها الدنيوي طفيف بالنسبة إلى ما فيها من الأضرار؟ وعاقبة المتخرجين منها في الغالب الهلاك والبوار؟ كل تعليم لا يقوم على الدين فهو ساقط منهار، وكل سعي لا يصلح الأخلاق فهو سفه وخسار. إذا ذهب الدين فبأي شيء تفرح؟ وإذا خسرت الأخلاق الفاضلة فبأي سلعة تربح؟ وإذا اضمحلت الآداب فمتى تفلح وتنجح؟! {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ - يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الجاثية: 7 - 8]

خطبة في وجوب ملاحظة الأولاد

[خطبة في وجوب ملاحظة الأولاد] 6 - خطبة في وجوب ملاحظة الأولاد الحمد لله الذي أنعم علينا بنعم الدنيا والدين، وجعلنا من أمة محمد المسلمين. ونسأله أن يعيننا على القيام بالحقوق فإياه نعبد وإياه نستعين. ونشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، خاتم النبيين. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بالقيام بحقه وحق من لهم حق من العباد، واتقوا النار التي أعدت لمن أهمل الواجبات وارتكب الفساد. واعلموا أن من أوجب الواجبات عليكم ملاحظة الأهل والأولاد، قال صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن ترك الصلاة فقد كفر» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم» .

وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة. والصلاة هي آخر ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وهي آخر ما يفقد من الدين، فمن لم يصل فهو من الكافرين. وقد عظم الشر والبلاء في إهمالكم لأولادكم، وذلك أصل وأساس لفسادهم وفسادكم. فانظروا هل ترون أحدا منهم في المساجد إلا النادر، وكثير منهم قد لا يصلي أصلا، ومن لا يصلي فهو كافر. عباد الله: الأمر عظيم، والخطر جسيم، والإهمال يترتب عليه شر عميم، يترتب عليه تضييع حق الله وحق الأولاد، الذين هم ودائع عندكم وأمانات. وينشأ الجيل القادم وقد اضمحل الدين منهم بتركهم الصلاة. وهذا معلق بذمة أوليائهم ومعلميهم، وبذمة الولاة. فعلى الجميع أن يقوموا بواجباتهم نحوهم، ويتساعدوا على تقويمهم وإصلاحهم، وأن يصدقوا الله في فعل الأسباب التي تعود إلى تهذيبهم ونجاحهم. فالقيام بهذا أجره عظيم، ومصالحه عظيمة، والإهمال إثمه كبير، ومفاسده جسيمة. إنكم الآن قادرون عليهم فاستدركوا الأمر قبل الفوات، قبل أن ينشأوا على ترك الصلاة وفعل الشر فيتعذر الاستدراك. كيف ترضون لأولادكم أن يؤسسوا الأساسات

الضارة لحاضرهم ومستقبلهم القادم؟ وكيف تتهاونون بهذا الأمر وفيه سخط الله وعقوبته، وهو أكبر الجرائم؟ لئن تمادينا على هذا الإهمال فالمستقبل وخيم، ولئن لم نقم بواجبنا فالخطر عميم، ولئن لم يفعل كل منا مقدوره فالضرر جسيم، ولئن لم نتساعد على إصلاح الأولاد فالإثم لازم والعذاب أليم. يا عجبا لنا!! نسعى في إصلاح الدنيا ونهمل الدين!! ونضيع رأس المال فيفوت الأصل والربح!! ألا ذلك هو الخسران المبين!! عباد الله: ألا قائم بما أوجب الله عليه؟ ألا مستيقظ لما بين يديه؟ ألا خائف من سوء الحساب؟ ألا راج لفضل الملك الوهاب؟ ألا مستدرك للفائت قبل حلول المصائب؟ ألا منتبه لحاضره ومستعد للعواقب؟ قبل أن تقول نفس: {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] الآيات.

خطبة في معنى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا

[خطبة في معنى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا] 7 - خطبة في معنى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] الحمد لله الولي الحميد، الواسع المجيد، المطلع على خفايا الأمور وأسرار العبيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا نديد، وأشهد أن محمدا عبده المصطفى، ورسوله المقتفى، ونبيه المجتبى. اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله الشرفاء، وأصحابه البررة النجبا، وعلى من بهديه اقتدى. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71] لقد أمركم الله في هذه الآية بتقواه وبالقول السديد، ووعدكم على ذلك المغفرة وإصلاح الأحوال والتوفيق والتسديد. فمن اتقاه بفعل الأوامر واجتناب النواهي فقد فاز فوزا عظيما، ومن ضيع تقواه واتبع هواه بغير هدى من الله أعد له عذابا أليما، ومن استقام على التقوى ولزم في منطقه القول السديد هدي إلى الطيب من القول وإلى صراط الحميد. لقد رتب الله على هذين الأمرين خير الدنيا

والآخرة، وأنعم على من قام بهما بالنعم الباطنة والظاهرة. من اتقى الله وأعمل " لسانه بذكر الله، واستعمل الخلق الجميل مع عباد الله جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب. ومن اتقى الله ولزم القول السديد يسره الله لليسرى، وجنبه السوء والعسرى، وغفر له في الآخرة والأولى. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5] من اتقى الله زاده الله علما وفرقانا، وملأ قلبه طمأنينة إليه وثقة به وأمنا وإيمانا، وأسبغ عليه آلاءه فضلا منه وإحسانا. كيف يكون متقيا لله من أهمل فرائض الله وضيعها، وتجرأ على محارمه وانتهكها؟ كيف يكون متقيا من تجرأ على الربا والغش والبخس وأكل الحرام، وأطلق لسانه في الغيبة والنميمة والكذب والآثام؟ كيف يكون متقيا من لا يخفى له طمع إلا خانه، ومن لا يراعي العهود ويؤدى الأمانة؟ لقد عرضت الأمانة التي هي القيام بحقوق الله وحقوق خلقه على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن من هذه الحال، وطلبن العافية وتضرعن إلى ذي العظمة والجلال، وحملها الإنسان على ظلمه وجهله، وتلقى ما فيها من الأوامر والأثقال. فمنهم من سعد بحملها وبلغ بالقيام بها الآمال، ومنهم من ضيعها فباء بالخسران والنكال.

أعانني الله وإياكم على القيام بالواجبات والسنن، وهدانا إلى أقوم طريق وأوضح سنن، وأعاذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] إلى آخر السورة.

خطبة في ختام العام

[خطبة في ختام العام] 8 - خطبة في ختام العام الحمد لله منشئ الأيام والشهور، ومفني الأعوام والدهور، وميسر الميسور ومقدر المقدور، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وأشهد أن لا إله إلا الله الغفور الشكور، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل آمر وأجل مأمور. اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، وضاعف اللهم لهم الأجور. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق تقواه، وتوبوا إليه وأطيعوه تدركوا رضاه. عباد الله: تصرمت الأعوام عاما بعد عام، وأنتم في غفلتكم ساهون نيام. أما تشاهدون مواقع المنايا، وحلول الآفات والرزايا، وكيف فاز وأفلح المتقون، وكيف خاب وخسر المبطلون المفرطون. ألا وإنه قد تصرم من أيام الحياة عام قد ودعتموه، شاهدا لكم أو عليكم بما أودعتموه. فمن أودعه صالح العمل فالخير بشراه، ومن فرط فيه فأحسن الله في عمره عزاه. فيا ليت

شعري على أي شيء تطوى صحائف هذا العام، أعلى أعمال صالحة وتوبة نصوح تمحى بها الآثام؟ أم على ضدها؟ فليتب الجاني إلى ربه، فالعمل بالختام. فاتقوا الله عباد الله واستدركوا عمرا ضيعتم أوله، فإن بقية عمر المؤمن لا قيمة له. فرحم الله عبدا اغتنم أيام القوة والشباب، وأسرع بالتوبة والإنابة قبل طي الكتاب، وأخذ نصيبا من الباقيات الصالحات، قبل أن يتمنى ساعة واحدة من ساعات الحياة. أين من كان قبلكم في الأوقات الماضية؟ أما وافتهم المنايا وقضت عليهم القاضية؟! أين آباؤنا وأين أمهاتنا؟ أين أقاربنا؟ وأين جيراننا؟ أين معارفنا وأين أصدقاؤنا؟ رحلوا إلى القبور، وقل والله بعدهم بقاؤنا. هذه دورهم فيها سواهم، هذا صديقهم قد نسيهم وجفاهم. أخبارهم السالفة تزعج الألباب، وادكارهم يصدع قلوب الأحباب، وأحوالهم عبرة للمعتبرين، فتأملوا أحوال الراحلين، واتعظوا بالأمم الماضين، لعل القلب القاسي يلين. وانظروا لأنفسكم مادمتم في زمن الإمهال، واغتنموا في حياتكم صالح الأعمال، قبل أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، فيقال هيهات، فات زمن الإمكان، وحصل الإنسان على عمله من خير أو عصيان. فنسألك اللهم يا كريم يا منان أن

تختم عامنا هذا بالعفو والغفران، والرحمة والجود والامتنان، وأن تجعل عامنا المقبل عاما مباركا حميدا، وترزقنا فيه رزقا واسعا وتوفيقا وتسديدا. اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وأصلح لنا جميع أحوالنا. اللهم اصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر. اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة، يا كريم يا رحيم.

خطبة في قوله تعالى إنما حرم ربي الفواحش

[خطبة في قوله تعالى إنما حرم ربي الفواحش] 9 - خطبة في قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف: 33] إلخ الحمد لله الذي أمر عباده بكل ما فيه خير لهم وصلاح، ونهاهم عن جميع المضار والأعمال القباح. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكريم الفتاح، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي نهى عن كل خبيث وأذن في كل طيب وأباح. اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه، أولي الرشد والتقى والنجاح. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بترك مساخطه ومناهيه، والقيام بفرائضه ومراضيه. فقد جمع لكم أصول ما حرم عليكم في آية واحدة، وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] فهذه الآية لم تبق شيئا من المحرمات إلا شملته، ولا شرا وضررا إلا حذرته. حرم الله بها الفواحش، وهي كبائر الذنوب وعظائمها، ما ظهر منها: كالقتل والزنا والربا والخمر والميسر وأكل مال اليتيم. وما بطن منها: كالكبر والنفاق والحقد والغش

للمسلمين. حرم منها ما ظهر للناس وشاهدوه عيانا، وما اختفى صاحبه به وأسره كتمانا. وحرم الإثم، وهو كل معصية تعلقت بحق الله. والبغي؛ وهو الظلم والتجري على عباد الله. وحذر فيها من الشرك؛ وهو صرف شيء من العبادات لغير الله. {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] وحرم القول عليه بغير علم في أسمائه وصفاته، وفي شرعه ودينه وقدره. فهذه المحرمات التي حذر الله منها تهوي بصاحبها إلى أسفل الدركات، لما فيها من الشر والضرر والفساد والهلكات. فالفواحش تحلل الأخلاق، وتوجب غضب الخلاق، وتعجل لصاحبها الفضيحة والخزي في الدنيا، مع ما ادخر له من العقوبة في الأخرى. والمعاصي والمآثم تخرب الديار العامرة، وتسلب النعم الباطنة والظاهرة. والمشرك بالله قد خسر دينه وعقله ودنياه، فإنه محرم عليه الجنة، والنار مصيره ومأواه. خلقه ربه فعبد سواه، ورزقه فشكر غيره واتبع هواه، وأنعم عليه بأصناف النعم فتمرد عن طاعة مولاه. ومن تقول على الله بغير علم، فقد تجرأ على أمر فظيع، ولم يخش من هو مطلع عليه سميع. فاعرفوا رحمكم الله حدود هذه المحرمات، واجتنبوها فإنها تفضي إلى الهلكات. وتوبوا إلى ربكم من مقارفة

الخطيئات. فكل من تاب تاب الله عليه، وكل من أقبل على ربه آواه وقربه إليه. فيا من عافاه الله منها هنيئا لك السعادة والفلاح، ويا فوزك بالخيرات الكثيرة والأرباح. أجارني الله وإياكم من الفواحش والمآثم والعدوان، وحفظنا من الشك والشرك والتجري والطغيان، وغمرنا بالعافية والرحمة والإحسان، فإنه الرب الكريم المنان.

خطبة في حفظ اللسان

[خطبة في حفظ اللسان] 10 -خطبة في حفظ اللسان الحمد لله الذي له الحمد كله، وله الملك كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ذاته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل مخلوقاته، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، المقتدين به في كل حالاته. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بالمحافظة على مراضيه، وحفظ الجوارح كلها عن مساخطه ومناهيه. واعلموا أن أهم ما يجب حفظه والعناية به اللسان، فإنه يكب صاحبه إذا لم يحفظه في النيران، وقد يرقيه إلى أعلى مراتب الإيمان. قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت يهوى بها في النار أبعد مما بلاد المشرق والمغرب» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق

ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «تجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه» ، وقال عليه الصلاة والسلام: «أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ تقوى الله وحسن الخلق، أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ الأجوفان: الفم والفرج» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، وتقول: اتق الله فينا، فإن استقصت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء» . وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بالنار» . وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تظهر الشماتة بأخيك فيرحمه الله ويبتليك» . وقال صلى الله عليه وسلم: «اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: أصدقوا إذا حدثتم، وأدوا إذا ائتمنتم، وأوفوا إذا وعدتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تعدون المفلس فيكم "؟ قالوا: من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وصدقة، ويأتي

وقد ظلم هذا، وضرب هذا، وشتم هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فألقيت عليه ثم طرح في النار» . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71]

خطبة في آداب الأكل واللباس

[خطبة في آداب الأكل واللباس] 11 - خطبة في آداب الأكل واللباس الحمد لله الملك الوهاب، الذي شرع لنا أكمل الشرائع وأحسن الآداب، في العبادات والمعاملات واللباس والطعام والشراب. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك التواب، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خير الخلق ولب الألباب، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم إلى يوم الحشر والمآب. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه، وتأدبوا بآداب نبيكم واهتدوا بهداه. فقد قال صلى الله عليه وسلم: «اجتمعوا على طعامكم وسموا الله يبارك لكم فيه» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله، وإنه ليستحل الطعام الذي لا يذكر اسم الله عليه» ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل أحدكم بيته فذكر

الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: أدركتم المبيت والعشاء» ، وأمر صلى الله عليه وسلم بلعق الأصابع بعد الطعام، ونهى عن الأكل والشرب والإنسان متكئ. وكان لا يذم الطعام، بل إن اشتهاه أكله، وإلا تركه. وقال: «كلوا من جوانب الصحفة ولا تأكلوا من وسطها، فإن البركة تنزل في وسطها» ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من طعامه قال: «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين» . وكان يتنفس إذا شرب ثلاث مرات، يبين الإناء من فمه، ويحمد الله ويسمي. وقال: «أغلقوا الأبواب إذا أمسيتم، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمروا أوانيكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليه عودا وأطفؤا مصابيحكم واذكروا اسم الله» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه، وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار. ومن أكل طعاما فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوبا جديدا

فقال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي، ثم عمد إلى الثوب الذي خلق فتصدق به: كان في كنف الله، وفي حفظ الله، وفي ستر الله، حيا وميتا» . وقال: «كلوا واشربوا وتصدقوا، والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة، إن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه، إن الله طيب يحب الطيب، نظيف يحب النظافة، كريم يحب الكرم، جواد يحب الجود {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] » . بارك الله لي ولكم.

خطبة في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله

[خطبة في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله] 12 - خطبة في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} [الحديد: 28] الآية الحمد لله الذي جعل القيام بطاعته خير الوسائل، وحصول مغفرته ورحمته أفضل المقاصد والمطالب الكوامل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا مماثل. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بالحق الظاهر وأوضح الدلائل. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه، أولي المقامات العالية والفضائل. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28] فوعد من قام بالإيمان والتقوى ثلاثة أمور؛ وعدهم المغفرة والرحمة، والمضاعفة، والعلم الذي هو النور. فيالها من ثلاثة ما أجلها وأعلاها، وما أعظم حظ من نالها وتبوأ علاها. أتدرون ما هو الإيمان؟ وما هي التقوى؟ اللذان من قام بهما نال النجاة وفاز برضى المولى. الإيمان: أن تؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر

والقدر خيره وشره. وأما التقوى: فأن تعملوا بطاعة الله على نور من الله، ترجون ثواب الله، وأن تتركوا معصية الله على نور من الله، تخشون عقاب الله. إذا وقر الإيمان في القلب: صدقته الأعمال، وإذا استقام العبد صلحت له جميع الأقوال والأفعال. ليس الإيمان بالتسمي الخالي من الحقيقة والبرهان، إنما الإيمان هو اعتقاد القلوب وأعمالها، وأعمال الأركان، والقيام بشرائع الإسلام وأصول الإيمان وحقائق الإحسان. قال تعالى: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 3 - 4] رزقنا الله وإياكم إيمانا كاملا ويقينا، ووهب لنا من تقواه ما يقربنا إليه ويدنينا. إنه جواد كريم.

خطبة في تزكية النفس

[خطبة في تزكية النفس] 13 - خطبة في تزكية النفس الحمد لله الذي فتح لأوليائه أبواب الخيرات، وأسبغ عليهم الهبات الواسعة والمبرات، وخذل المعرضين عنه، فبقيت قلوبهم في الظلم والضلالات. وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرض والسماوات، الغني بذاته، المغني لجميع المخلوقات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل البريات. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والكرامات. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بإصلاح البواطن والظواهر، وتقربوا إلى ربكم بطيب المقاصد وحسن السرائر. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا - وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10] وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى - وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14 - 15] فعلق الفلاح على من زكى نفسه وطهر قلبه من كل خلق سافل، وذكر اسم ربه فصلى وتحلى بالفضائل، وجعل الخيبة والخسارة على من دس نفسه فغمسها بالرذائل، ما جعل الفلاح لمن زكى نفسه إلا لأنه عظيم، وبحصوله للعبد يتم كل خير عميم. فرحم الله عبدا اعتز بصلاح قلبه فنقاه من مرآة الخلق، وزكاه بالصدق

والإخلاص للحق. نقاه من العجب والتعاظم والتكبر على الناس، وحلاه بحلية التواضع التي هي خير لباس. نقاه من الغش والغل والحقد، وجمله بإرادة الخير والنصح لكل أحد. نقاه من الميل إلى المعاصي، وهو مرض الشهوات، ومن أمراض الشكوك والريب والشبهات، وجمله بالعقل الراجح لفعل الخيرات، والإقلاع المصمم الصادق عن المحرمات، وسعى في العلوم النافعة الجالبة لليقين، وتحصيل الأدلة الصحيحة والبراهين. فبذلك يتم شفاؤه من الأهواء والأدواء، وبذلك يحصل فلاحه ويستقيم على الهدى، ولا يحصل له ذلك إلا بتوفيق وإعانة من المولى، قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21] وكان صلى الله عليه وسلم يتضرع إلى ربه في طلب التقوى وتزكية النفس، من كل رديء فيقول: «اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها» . فحقيق بك أيها العبد الجد في تزكية نفسك لتنال الفلاح، وتستعين الله على إصلاح قلبك فإنه الجواد الفتاح، فإن الله لا ينظر إلى الصور والأموال، وإنما ينظر برحمته إلى القلوب الطاهرة وصادق الأعمال.

خطبة في الحث علي إكرام البهائم والنهي عن أذيتها

[خطبة في الحث علي إكرام البهائم والنهي عن أذيتها] 14 - خطبة في الحث علي إكرام البهائم والنهي عن أذيتها الحمد لله الرحيم الرحمن، الملك الكريم الديان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والربوبية والسلطان، ولا ند له في الألوهية، ولا في الكرم والإحسان، ولا مثل له في كمال العدل، والقسط والميزان، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث إلى الإنس والجان. اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بالإحسان في عبادته، واحنوا على المخلوقات، واتقوا الظلم فإن الظلم يوم القيامة ظلمات، وارحموا هذه المخلوقات التي سخرها لكم المولى، فمن رحمها وأحسن إليها جوزي بالحسنى، ومن أساء إليها أو عذبها فله عاقبة الشر والسوأى. فقد «أخبر صلى الله عليه وسلم أن امرأة عذبت في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض» . كما أخبر أن بغيا غفر الله لها جرمها بكلب رحمته فسقته وأنقذته. وقال صلى الله عليه وسلم: «في كل كبد رطبة أجر» .

وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا آجرك الله عليها. فهذه حال من رحم، أو أهان البهائم التي لا ملك له عليها، فكيف ببهائمه التي يجب عليه القيام لها، فخير الناس أحسنهم ملكة وقياما بالواجب، وشرهم سيئ الملكة الذي لا يخشى العواقب. واشتكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جمل بأن صاحبه يجيعه ويتعبه، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكى إلي أنك تجيعه وتدئبه» . فكل من أجاع بهائمه وآذاها. فإنها تشتكي إلى ربها وناصرها ومولاها. وقال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة، ومن لا يرحم لا يرحم» . فالسعيد من حنى على هذه البهائم المسخرات، وقام عليها بما عليه من واجب النفقات، والشقي من نزعت الرحمة من قلبه فآذاها وشتمها، وأجاعها وأتعبها بغير حق وظلمها. فمن لعن شيئا من البهائم عادت لعنته عليه، ومن أجاعها أو شق عليها شق الله عليه، ومن رحمها فأكرمها أكرمه ربه وأنعم عليه. فسبحان من أكرم هذا الآدمي وسخر له الأنعام، يتمتع بمنافعها وألبانها ولحومها وظهورها على الدوام. فمن شكر الله على هذه

النعم بارك له فيها وزاده من الخير والإنعام، ومن لم يعترف بنعمة الله فيها سلبها وخلت عليه الآلام. أوزعنا الله وإياكم شكر أياديه، ومن علينا بالاعتراف بها بالقلب واللسان، واستعمالها في مراضيه، وعافانا من حال من كفر بنعم الله وجحد آلاء الله فحل به البوار، ووقع في الخيبة والخسار، إنه كريم رحيم غفار.

خطبة لرمضان وفضله غير ما تقدم

[خطبة لرمضان وفضله غير ما تقدم] 15 - خطبة لرمضان وفضله غير ما تقدم الحمد لله على ما له من الأسماء الحسنى والمثل الأعلى، وما خلقه وحكم به في الأولى والأخرى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وله ترفع الشكوى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى، ونبيه المجتبى. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه العلماء الفضلاء النجباء. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق تقواه، وذلك باجتناب مساخطه وتتبع رضاه، وبالشكر له على ما أولاه من النعم وأسداه. فقد أمدكم الله بهذا الشهر الكريم، وأسبغ عليكم فيه كرمه العميم. أنزل الله فيه القرآن محتويا على الهدى والخير والبيان. فيه تفتح أبواب الرحمة والخيرات، وفيه تغلق أبواب الجحيم وتتوب العصاة من السيئات، وينادي فيه منادي الخير: يا باغي الخير أقبل على الطاعات، ويا باغي الشر أقصر وتب عن المخالفات. ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة عند الإفطار. فتعرضوا لنفحات المحسن الغفار. فمن جمع بين

الإمساك عن المفطرات وأمسك عن الأقوال والأفعال المحرمات، واحتسب الثواب عند فاطر الأرض والسماوات- غفر له ما تقدم من ذنبه ورفعت له الدرجات، ومن تجرأ على المعاصي والمظالم وانتهك فيه الأعراض وخاض المآثم فليس لله حاجة في أن يدع الطعام والشراب والشهوات. فإن الله كتب الصيام على هذه الأمة ليكونوا من المتقين، وليستعينوا بترك شهواتهم على إصلاح الدين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] فأخبر أن الصيام أكبر الوسائل لتحقيق التقوى، وفيه كمال الثواب ورضى المولى، فقد اختصه الله لنفسه من بين سائر الأعمال، فقال صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، يقول الله: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلى» ، «وللصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه» ، و «لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك» . الصوم جنة: أي وقاية من المعاصي ووقاية من العذاب، وسبب لنيل الفضائل وحصول الثواب. فيا له من عمل عظيم تولى جزاءه الرحمن، وغمر أهله بالجود والكرم والإحسان، وهيأ

عند دخولهم الجنة لهم باب الريان. يفضون منها إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، في جوار الرب الكريم. قد أعد لهم من كرمه مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على القلوب. وهيأ لهم ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، من كل مطلوب ومرغوب. أعده نزلا وضيافة للصائمين وكرامة ومنحة للمتقين، كما قال تعالى في حق هؤلاء المحسنين: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] بارك الله لي ولكم.

خطبة حين حل الجراد على الناس واجتاح كثير من أثمارهم

[خطبة حين حل الجراد على الناس واجتاح كثير من أثمارهم] 16 - خطبة حين حل الجراد على الناس واجتاح كثير من أثمارهم الحمد لله الذي يبتلى عباده بالسراء والضراء، ويختبرهم في المنع والعطاء، وله الحكمة والرحمة فيما قدر وقضى. وأشهد أن لا إله إلا الله الذي لا ترفع الشكوى إلا إليه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى، وخليله المرتضى. اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه الأتقياء. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى وكونوا لنعمائه شاكرين، ولابتلائه واختباره صابرين محتسبين، فإن الله قضى أن يبتلي عباده فيما يحبون ويكرهون، لينظر كيف يعملون، هل يصبرون أو يجزعون. قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157]

فأخبر أنه لا بد أن يبتلي عباده بشيء من هذه المذكورات، ووعد الصابرين بالرحمة والهدى والصلوات، فله الحكمة التامة والرحمة السابغة في تقديره المصيبات. انظروا إلى هذا الجند الضعيف، كيف يستبد بأرزاق الآدميين والبهائم؟ ليعرف العباد فقرهم إلى ربهم، وضعفهم عن هذا الجند الغاشم، فليس له سوى لطف الكريم بدافع ومقاوم، ومع ذلك على كثرته لو سلط لضرهم ضررا كبيرا، ولكن الله لطف وخفف، فكان الضرر يسيرا، فلئن أتلف كثيرا من الخضر والثمار، فلقد بقى للعباد خير كثير ونعم غزار، ومع ذلك فليبشر الصابرون المحتسبون بالثواب الآجل والخلف العاجل، وبالبر والإحسان والخير المتواصل، وليتضرعوا إلى ربهم في دفع المكاره والنوازل، وليتوبوا إليه من جميع الذنوب، ويلجأوا في أمورهم كلها إلى علام الغيوب. قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا بديع السماوات والأرض، يا حي يا قيوم، خذ بأفواه هذا الجند عن معائشنا، ولا تكلنا إلى

حولنا وقوتنا، فإنا فقراء عاجزون، محتاجون إلى دفعه ومضطرون. اللهم ادفع عنا من البلاء ما لا يدفعه سواك، فإنا لا نستعين بغيرك ولا نرجو إلا إياك. اللهم اجبر مصيبة من أصيب بشيء من الخضر والثمار، وتفضل عليه بالخلف العاجل والخير المدرار. اللهم بارك لنا في أموالنا، وحروثنا وثمارنا، وبارك لنا في أعمالنا وأولادنا وأعمارنا. اللهم أغدق علينا من كرمك العميم، وأسبغ علينا من فضلك العظيم، يا جواد يا كريم.

خطبة في وجوب الاستعداد بالفنون الحربية

[خطبة في وجوب الاستعداد بالفنون الحربية] 17 - خطبة في وجوب الاستعداد بالفنون الحربية الحمد لله الذي أمرنا بأخذ العدة للمعتدين، وبإعداد المستطاع من القوة للأعداء الكافرين، وبالاستعداد الكامل لحماية الدنيا والدين، وبالاحتياط من كل وجه لحفظ بلاد المسلمين، نحمده ونستنصره، وهو نعم المولى ونعم المعين، ونستغفره من الخطايا وهو خير الغافرين. ونشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق المصدوق المصطفى الأمين. اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وبالتقرب إليه في كل ما يحبه ويرضيه. واعلموا أن القيام بالدين والجهاد فيه قوام الأمور وصلاحها، وأخذ الحذر ومقاومة الأعداء، به كمال الأحوال ونجاحها، فقد أمر الله رسوله بالجهاد في نصوص كثيرة، ورتب عليه خيرات وأجور غزيرة، ومالا يتم

المأمور به من وسائله فهو داخل في المأمور، ومترتب عليه ما فيه من الخيرات والأجور. لا يقوم الجهاد إلا بتعلم العلوم الحربية، والتفنن بالفنون العسكرية، والتدريب على القوة والشجاعة، والحزم في أمور الحرب وعدم الإضاعة. قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60] تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على- المنبر، وحث الناس على العمل بها وقال: «ألا إن القوة الرمي ثلاث مرات» ، وقال صلى الله عليه وسلم حاثا لأمته على القوة والشجاعة والتدريبات العسكرية ووسائلها: «ارموا واركبوا، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا» . يا عجبا لنا معشر المسلمين كيف أهملنا هذا الأصل العظيم من أصول ديننا، وكيف ضيعنا هذا الفرض الذي لا تستقيم الأمور إلا به، تجدنا لا نحسن الرمى والركوب ولا فنون الجهاد، وليس عندنا اهتمام بتنظيم الجيوش التي تحمي الدين والبلاد، بهذا يقع التخاذل والضعف والهوان، وبهذا يتسلط علينا الأعداء في كل مكان، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا

يرفعه حتى تراجعوا دينكم» ، أخبر صلى الله عليه وسلم أن الناس إذا اشتغلوا بالدنيا وانكبوا على أسبابها، وأهملوا الاستعداد للجهاد، وأخذ الحذر من عدوهم- وقع في قلوبهم الجبن والوهن والضعف، وسلطت عليهم الأعداء. لقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم. فعلى المسلمين أن يتوبوا إلى ربهم، ويستدركوا أمرهم، ويستعدوا لعدوهم بكل ما استطاعوا من قوة مادية وقوة معنوية. ومن أهم الأمور في هذه الأوقات تعلم النظم الحربية والفنون العسكرية، التي تهيئ للمسلمين جيشا مخلصا منظما مدربا تتم به حماية الدين، ويوقف المعتدين عند حدهم، ويرهب الكافرين، ولا يكونون عالة على غيرهم، عزلا من السلاح والتعاليم النافعة والاجتهاد، فإنه لا تحصل القوة إلا بتنظيم الجيوش وتدريبها على الشجاعة وفنون الحرب والجهاد، ومقاومة الأعداء لحماية الدين والبلاد. فاجتهدوا- رحمكم الله- في تحقيق هذا الأصل الذي أهملتموه، وتعلموا وعلموا أولادكم هذا الفرض الذي طالما أضعتموه، لعل الله يمدكم بعونه وعنايته، ويحفظكم بلطفه وحفظه ورعايته. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]

أخبر الله تعالى أن دين الإسلام إنما يقوم بالعلم الشرعي والجهاد والقوة والسلاح والحديد، فكل واحد منهما يمد الآخر بمعونة العزيز الحميد. أما ترون أهون الأمم حين أهمل المسلمون هذه الأوامر قد استولوا على كثير من أوطانهم، ولا يزالون طامعين فيها؛ إن بقوا على تفرقهم وتخاذلهم وهوانهم. فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بهذا. الفرض الذي تنبني عليه جميع الواجبات، وبوسائله ومكملاته من جميع النواحي والجهات. فإن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين، و «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» ، قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 104] بارك الله لي ولكم.

خطبة في الفرق بين العلم النافع والعلم الضار

[خطبة في الفرق بين العلم النافع والعلم الضار] 18 - خطبة في الفرق بين العلم النافع والعلم الضار الحمد لله الذي جعل العلوم النافعة رافعة لأهلها إلى أعلى الدرجات، كما أن العلوم الضارة هابطة بهم إلى أسفل الدركات. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كامل الأسماء والصفات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف المخلوقات. اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والكرامات. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وتعلموا ما ينفعكم في الدنيا والدين، قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك علما نافعا، وأعوذ بك من علم لا ينفع» . قسّم صلى الله عليه وسلم العلم إلى نوعين: نوع نافع لأهله في الدنيا والدين، ونوع ضار لحامليه وهابط بهم أسفل سافلين. إنما تعرف العلوم والمعارف بآثارها، وبما يترتب عليها من منافعها أو مضارها. للعلوم النافعة والضارة علامات سأبديها:

العلوم النافعة تطهر القلوب وتزكيها، وتكمل الأخلاق الفاضلة وتنميها، تدعو أهلها إلى الإيمان والرغبة في الخيرات، وتحذرهم من الشرور ومصارع الهلكات، تدعو إلى الإخلاص وخفض الجناح للمؤمنين، وتحمل على التواضع ومحبة الخير لكافة المسلمين. أما العلوم الضارة: فإنها تدنس النفوس وتدسيها، وتميت الأخلاق الفاضلة ولا تحييها. تحمل أهلها على الكبر والعجب والغرور، وتوجب الأشر والبطر وأنواع الشرور. صاحبها معجب بنفسه، وبعقله الناقص المهين. محتقر لأهل الفضل والخير من المؤمنين. مهدر لحق من له حق وفضل على غيره وعليه، وربما احتقر من سفاهته وسقوط أخلاقه والديه. تعرف هذا النوع من الناس بسيماهم وأحوالهم، وتستدل على سفاهتهم بما يبدو من أفعالهم وأقوالهم. إذا أبدى غيرهم رأيا سديدا قالوا: هذا عقل عتيق سقيم، وقد أعجبوا بعقولهم الفاسدة الداعية لكل خلق ذميم. أما علموا أن العقول لا تزكو ولا تكمل إلا بالوحي والقرآن، ولا تكون عقولا نافعة حتى تغتذي باليقين والإيمان، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} [طه: 54] وقال: {لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] وهم أهل العقول الوافية

والأخلاق الزاكية. محال أن توجد عقول تقارب عقل النبي صلى الله عليه وسلم، الذي تستمد منه العقول والآراء، أو عقول أصحابه الكمل النجباء، أو عقول السلف والأئمة الصالحين، الذين أصلحوا بعقولهم ودينهم الدنيا والدين، حسب العقول الكاملة أن تستمد من عقل النبي صلى الله عليه وسلم وآرائه، وتستنير بنور هديه وتوجيهه وإرشاده. كيف تستقيم العقول إذا أعرضت عن الرشد والهدى والنور، وأقبلت على شهوات الغي والباطل والغرور؟ قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [غافر: 83]

خطبة في الحث علي أسباب الرحمة

[خطبة في الحث علي أسباب الرحمة] 19 - خطبة في الحث علي أسباب الرحمة الحمد لله ذي الفضل العظيم، والإحسان الجسيم، والبر الواسع العميم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العزيز الحكيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي هو بالمؤمنين رؤوف رحيم. اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك الصراط المستقيم. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى وتعرضوا لنفحات المولى الكريم، واعملوا كل سبب يوصلكم إلى فضله العظيم. قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] فكلما كان العبد أكمل إحسانا في عبادة الله، وأعظم نفعا لعباد الله: كان نصيبه وافرا من رحمة الله، وأعظم الأسباب لنيل رحمته في الدنيا والآخرة: امتثال الأمور واجتناب المحظور مع الإيمان ومتابعة الرسول، كما قال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 156 - 157]

، وقال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132] وقد فتح المولى أبواب الرحمة للتائبين والعابدين، وبسط فضله وإحسانه للداعين والمتضرعين، ولهذا لما تبوأ أهل الجنة منازلهم في جنات النعيم قالوا: مبينين السبب الذي أوصلهم إلى هذا الخير العميم، {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور: 28] وقال صلى الله عليه وسلم معرفا للعباد بربهم حاثا لهم على عبادته وسؤاله، والتعرض في كل وقت إلى نواله: «يد الله ملأى سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يقض ما في يمينه» . وفي بعض الآثار يقول الله تعالى: أيؤمل غيري للشدائد والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم. ويرجى غيري ويطرأ بابه بالتكبرات وبيدي مفاتيح الخزائن وبابي مفتوح لمن دعاني؟ من ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به؟ أم من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاه؟ أم من ذا الذي طرق بابي فلم أفتح له وأنا غاية الآمال؟ فكيف تقطع الآمال دوني؟ أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟ أليس الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي؟ فما يمنع المؤملين أن يؤملوني؟ لوجمعت أهل السماوات والأرض، ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع، وبلغت كل واحد أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضو

ذرة. كيف ينقص ملك أنا قيومه؟ فيا بؤسا للقانطين من رحمتي، ويا بؤسا لمن عصاني وتوثب على محارمي. أنا الجواد ومني الجود. وأنا الكريم ومني الكرم، ومن كرمي أني أغفر للعاصين بعد المعاصي، ومن كرمي أن أعطي العبد ما سألني وأعطيه ما لم يسألني، ومن كرمي أني أعطي التائب كأنه لم يعصني، فأين عني يهرب الخلائق، وأين عن بابي يتنحى العاصون؟ ". قال الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] الآية. بارك الله لي ولكم.

خطبة في الاعتدال باستعمال العلاجات

[خطبة في الاعتدال باستعمال العلاجات] 20 - خطبة في الاعتدال باستعمال العلاجات الحمد لله الذي من توكل عليه كفاه، ومن طلب الشفاء منه شفاه، ومن عمل بالأسباب النافعة صلح دينه ودنياه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا رب سواه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ومصطفاه، اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله في جميع الأوقات، وتوبوا إلى ربكم من الذنوب والهفوات. واعلموا أن التوسط في الأمور هو العدل والخير المرغوب، وأن التطرف شذوذ وانحراف عن المطلوب، فما ندم من توسط في أموره ولا خاب، ولا سلم من شذ وتطرف فغلا أو قصر من سوء المآب. قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] فقد حث المولى على الاقتصاد في الأكل والشرب والإنفاق، وكل ما كان في معنى ذلك، ففي ذلك الخير والبركة والارتفاق. وراعوا- رحمكم الله- صحة أبدانكم وقلوبكم براحة القلب

وحسن الغذاء، واستعملوا النظافة والرياضة تسلموا من كثير من الأدواء، واعتمدوا على ربكم ولا تستعملوا العلاج إلا عند الحاجة إلى الدواء، فما أنزل الله داء إلا جعل له شفاء، ولكن الأمور كلها بقصد وحكمة وميزان، فكما أن ترك التداوي مع الضرورة نقص وتهور من الإنسان، فكثرة العلاجات مع الصحة أو المرض البسيط نقص وضرر على القلب والأبدان. لقد ابتلي كثير من الناس بكثرة الخيالات والتوهمات، وصار الخوف نصب أعينهم في كل الحالات، يعتقدون أن الأمراض البسيطة ثقيلة، وربما توهموا وجود المرض، وليس لذلك حقيقة، وسبب ذلك ضعف القلب وعدم التوكل وكثرة الأوهام، فأمراض القلوب وخوفها وضعفها جالب لكثرة الأسقام. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي: كافيه أمور دينه ودنياه. وقال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] فاحذروا أن تنقطع صلتكم بالله وتضعف قلوبكم، فإنه المتكفل بجميع حاجاتكم، وهو إلهكم ومطلوبكم. فمن توكل على ربه في دفع ما نزل به كفاه ولطف به وشفاه وعافاه، وأذهب عنه ضعف القلب وخوفه الذي هو

الداء، وجلب له الأسباب النافعة والدواء. ألم تعلموا أن ضعف القلب وكثرة أوهامه هو الداء العضال، وقوة القلب مع التوكل على الله صفة أقوياء الرجال؟ فكم من أمراض ضعيفة صيرتها الأوهام شديدة؟ وكم من معافى لعبت به الأوهام فلازمه المرض مدة مديدة؟ وكم ملئت المستشفيات من أمراض الأوهام والخيالات؟ وكم أثرت على قلوب كثير من الأقوياء، فضلا عن الضعفاء في كل الحالات؟ وكم أدت إلى الحمق والجنون، والمعافى من عافاه من يقول للشيء كن فيكون. فصحة القلوب هي الأساس لصحة الأبدان، ومرض القلوب هو المرض الحقيقي والله المستعان. فسلوا ربكم أن يعافيكم من الأمراض الباطنة والظاهرة، وأن يتم عليكم نعم الدين والدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]

خطبة في صفة السابقين إلى الخيرات

[خطبة في صفة السابقين إلى الخيرات] 21 - خطبة في صفة السابقين إلى الخيرات الحمد لله الذي من على من شاء من عباده بفعل الخيرات وترك المنكرات. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كامل الأسماء والصفات. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أشرف المخلوقات. اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم في الأقوال والأفعال والاعتقادات. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بتصديق خبره وامتثال أمره واجتناب نهيه، فقد وصف الله الأخيار من خلقه بهذه الصفات. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ - وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ - أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57 - 61] وصفهم بكمال الإيمان به وبآياته، وبالإخلاص الكامل وترك الشرك من جميع

جهاته، وبالوجل والخشية من علام الغيوب، به يؤدون الحقوق ويدعون الذنوب، أولئك الذين سارعوا إلى كل خير فسبقوا، وأولئك الذين نافسوا في كل فضيلة فأدركوا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل عنهم: «هم الذين يصلون، ويصومون، ويتصدقون، ويحجون، ويعتقون، ويخافون أن لا يتقبل منهم» ، فقد جمعوا بين القيام بأحسن الأعمال وبين الوجل والخشية من ذي الجلال، أولئك الذين آمنوا بربهم، وعرفوا ما له من الحقوق والواجبات، فاجتهدوا في أدائها وتحقيقها، وحذروا من التقصير والهفوات، وقاموا بشروط التوبة من الندم على ما مضى، والإقلاع عن المحارم، وعزموا عزما جازما على ترك المآثم والمظالم، وسارعوا إلى ربهم بين الخوف من عقابه وعدله، وبين الرجاء والطمع في ثوابه وفضله، فالخوف يردعهم عن المعاصي والتقصير، والرجاء يحثهم على الطاعة ويطيب لهم المسير، والله مرادهم ومقصودهم، وهو نعم المولى ونعم النصير، والرسول إمامهم وقائدهم، وهو البشير النذير، والسراج المنير، فهؤلاء هم السادة الأبرار، وأولئك هم المتقون الأخيار. من الله علي وعليكم بهذه الصفات الجميلة، وحفظنا من كل خصلة رذيلة، إنه جواد كريم رؤوف رحيم.

خطبة بعد نزول الغيث سوى ما تقدم

[خطبة بعد نزول الغيث سوى ما تقدم] 22 - خطبة بعد نزول الغيث سوى ما تقدم الحمد لله المتفرد بالعظمة والكبرياء والجلال، المتوحد بالربوبية والوحدانية وصفات الكمال، الذي أسبغ على عباده النعم الجزال، وتعرف إليهم بآياته ومخلوقاته، فهي براهين على الحق دوال. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل الخلق في كل الخلال، اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه خير صحب وأشرف آل. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وأطيعوه، واذكروا آلاءه وتحدثوا بنعمه واشكروه، فما بكم من نعمة باطنة أو ظاهرة إلا من الله، وما دفع عنكم السوء والضراء أحد سواه. ألم تروا كيف أنزل عليكم سحابا، فروى به أودية وهضابا، وسقى به زروعا وأشجارا، وأنبع به عيونا وأنهارا، وأخرج حبا وأبا وثمارا، وأغدق به عليكم نعما غزارا؟ ذلكم الله ربكم فاعبدوه، وذلكم الكريم الجواد فاعترفوا بنعمه واشكروه، وذلكم بأنه هو الحق ذاته

وأسمائه وصفاته فاعرفوه. قال تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5 - 7] فأكثروا من ذكره وشكره والثناء عليه، وتوسلوا بنعمه إلى طاعته وما، يقربكم إليه، فبذلك يواصل عليكم نعمه، وبذلك يجزل لكم عطاياه وكرمه. وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] وإياكم أن تستعينوا بالنعم على الأشر والبطر والطغيان، فإن هذا سبب العقوبة والحرمان والخسران. حفظ الله علي وعليكم نعمه بالقيام بشكره وطاعته، وأعاننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وجعل ما أنعم به علينا من الخيرات معونة على ما أمر به من الطاعات.

خطبة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

[خطبة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم] 23 - خطبة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى والعلم واليقين، وأيده بالأدلة القواطع والبراهين، وجعله هدى ورحمة للعالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، إمام المتقين وأشرف المرسلين. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بمعرفة الحق واتباعه، ومعرفة الباطل واجتنابه. فإن الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالمين، وهدى لجميع المتقين. أرسله بكل علم نافع، ودليل صادق، وهدى نافع. علم به الجهالة، وهدى به من الضلالة. ما بقى علم من أصول الدين وفروعه إلا بينه، ولا قاعدة وأصلا من علوم الكون إلا أسسه وأصله. فالعلم الصحيح ما قام عليه الدليل، والنافع من العلوم والمعارف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. شريعته الكاملة هيمنت على جميع الشرائع السابقة وتممتها، وسنته وضحت أمور الدين والدنيا وبينتها. فهي في غاية العدل والحسن لقوم يعقلون. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]

فأحكامه في العبادات والمعاملات أحسن الأحكام، حكم بأن كل طيب حلال نافع، وكل خبيث فهو مضر حرام. وقد احتضنت علومه وشريعته كل علم وعمل نافع صحيح، وأتت بما يوافق العقول الصحيحة والفطر المستقيمة. فلم يأت ولن يأت علم صحيح ينافي ما جاء به الرسول، بل جميعها تشهد له بالحق والصدق. وكلها تعترف له بالكمال والفضل والسبق. فالعقول تهتدي وتقتدي بأقواله وأفعاله، وتعترف بافتقارها إليه في كل أحواله. فهو صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق حلما وصبرا. وأكثرهم عفوا عن الخلق وصفحا، وأجمعهم لجميع المحاسن والكمالات، وأكرمهم في الخير والمعروف وبذل الهبات. وهو الذي جمع الكرم والإحسان بعلمه وعمله وحاله ومآله، وهو الذي أرشد العباد للحق في جميع أحواله، وبذلك ملأ قلوب أمته رحمة وبرا وإحسانا، وأوصلهم إلى الفلاح والسعادة سرا وإعلانا. لم يبق شيء من الخير إلا علمهم به ودلهم عليه، ولا من الشر إلا حذرهم منه. دلهم على مكارم الأخلاق وحذرهم من الكريهات، وأحب لهم البصيرة النافذة عند حلول الشبهات، واستعمال العقل الكامل عند ورود الشهوات. والشجاعة في كل شيء، ولو على قتل المؤذيات، والسماحة ولو بكف من تمرات.

خطبة في شعب الإيمان

[خطبة في شعب الإيمان] 24 - خطبة في شعب الإيمان الحمد لله الذي جعل الإيمان به أصل الأصول، وبلغ من قام به غاية المنى والقبول. وأشهد أن لا إله إلا الله الذي سمى نفسه المؤمن، فإنه الحامد المثني على نفسه، المتفرد بالكمالات، المصدق لأنبيائه ورسله بالأدلة القواطع والبراهين الساطعات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أكمل من قام بأصول الإيمان، ودعا إلى حقائق اليقين، ومقامات الإحسان. اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه على توالي الزمان. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بالقيام بأصول الإيمان وشرائع الدين، وأصلحوا بذلك ظواهركم وبواطنكم في كل وقت وحين. فقد قال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» .

فذكر صلى الله عليه وسلم العقائد والأخلاق والأعمال، ومثل من كل واحد منها بمثال. فأصل الأصول قول العبد صادقا مخلصا: لا إله إلا الله، فهي أصل الدين وأساسه ومنتهاه، نعترف بأنه المستحق للألوهية، وهي جميع المحامد والكمالات، وللإخلاص في العبودية في كل الحالات. ومثل بالحياء الذي عليه تستنير أعمال القلوب، ومراقبة علام الغيوب، فيستحي العبد من ربه أن يراه حيث نهاه أو يفقده حيث أمره. فمن استحيا من ربه حق الحياء حفظ القلب وما وعى، والرأس وما حوى، وعرف ما خلق له من عبادة ربه، فآثر ما يبقى على ما يفنى. ومثل بإماطة الأذى عن الطريق تنبيها على أن الإحسان إلى الخلق يجلب مصالحهم ودفع أذاهم، من أعظم ما يقرب العباد إلى ربهم ومولاهم. فجميع شعب الإيمان ترجع وتدور على ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، في هذا الحديث الشريف، فهي: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، والقيام بشرائع الإسلام من الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، والإحسان إلى الوالدين والأقارب والجيران والمماليك، والحنو على اليتامى والمساكين والغرباء وجميع العالمين، والبعد عن جميع الموبقات، واستعمال المعروف مع كل أحد في كل الحالات.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] بارك الله لي ولكم.

خطبة في سير الشريعة

[خطبة في سير الشريعة] 25 - خطبة في سير الشريعة الحمد لله الذي جعل القيام بالشريعة طريقا للنجاة، وضمن للمطيعين له ولرسوله كمال الأجر وعلو الدرجات. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، المتفرد بالكمالات. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أكمل المصطفين من جميع البريات. اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين له في كل الحالات. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى بفعل ما أمر به وترك ما عنه نهى، فقد حكم الله لمن قام بذلك بالنجاة من المهالك وحسن الجزاء، ورتب الفلاح ووراثة الجنات لمن آمن به واتقى. قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ - فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 1 - 8] {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج: 33] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ - أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 9 - 11]

«وقال معاذ بن جبل: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار. قال: " لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت " ثم قال: " ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل ". ثم تلا قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17] ثم قال: " ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وفي وذروة سنامه؟ " قلت: بلى، قال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله " ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ " قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه فقال: "كف عليك هذا". قلت: يا رسول الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟» .

فانظروا - رحمكم الله - إلى هذه الأعمال التي جعلها الله ورسوله وسيلة لجميع الخيرات، - فإنها في غاية السهولة خالية من الصعوبة والمشقات. فاجتهدوا في الاتصاف بها فهي أفضل الزاد. واستعينوا بربكم في العمل بها، فما خاب من استعان برب العباد، وما نجح من نجح إلا بالقيام بهذه الأعمال، وبها السعادة في الدنيا والآخرة وصلاح الأحوال. وفقني الله وإياكم لأحسن الأعمال والأخلاق، وحفظنا من مساوئها فإنه الجواد الخلاق.

خطبة في أصول الدين

[خطبة في أصول الدين] 26 - خطبة في أصول الدين الحمد لله المعروف بأسمائه وصفاته، المتحبب إلى خلقه بجزيل هباته. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، المتفرد بالألوهية والوحدانية، المتوحد في العظمة والكبرياء والمجد والربوبية، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أكمل الخلق في مراتب العبودية، وأعلاهم في كل خصلة حميدة، فهو خير البرية، اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه الأخيار، وعلى التابعين لهم بالأقوال والأفعال والإقرار. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله خلقكم وأمركم بمعرفته وعبادته، وحثكم على إخلاص الدين وتحقيق طاعته. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] وقال:

{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19] وذلك أنه يجب علينا أن نؤمن ونعترف أن الله هو الخالق الرازق، المدبر لجميع الأمور، المتفضل على عباده بالنعم الظاهرة والباطنة، نعم الدنيا ونعم الدين. وأنه الموصوف بسعة الرحمة وشمول الحكمة، والعلم المحيط الشامل. المنعوت بالعظمة والكبرياء والعز الكامل. الحي القيوم الذي لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل على الكمال والتمام. حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. فهو الغني المطلق، ومن سواه إليه فقير، وهو القوي العزيز، ومن سواه عاجز ذليل، وهو الجواد الكريم، فلا غنى لأحد عن كرمه طرفة عين، {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70] ونؤمن أنه الله الذي لا إله إلا هو، فهو ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. فكما أنه لا رب ولا خالق ولا منعم سواه، فليس للعباد إله ومعبود إلا الله. فمن أخلص له الدين في ظاهره وباطنه فهو

الموحد حقا، ومن صرف شيئا من العبادة لغيره فهو المشرك صرفا، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] وقال: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65] فليس لنا معبود سواه، فلا نستعين إلا به، ولا نعبد إلا إياه، فهو الإله المقصود بالتأله والحب والتعظيم، وهو المقصود لقضاء الحاجات وتفريج الكربات، وكل أمر عظيم {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] ونؤمن بنزول ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا، كما أخبر به الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، مع أنه العلي الأعلى، الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى - اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه: 7 - 8] ونؤمن أن المؤمنين يرون ربهم في جنة المأوى، فرؤيته ورضوانه أكبر نعيم يجزل لهم المولى. ونشهد أن القرآن تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين،

على قلب النبي الكريم، بلسان عربي مبين، فهو كلام الله حقا منزل غير مخلوق، فهو الهدى والرحمة والشفاء والنور، وعليه المدار في الأصول والفروع والأحكام كلها، وجميع الأمور. ونشهد أن الله حق، وقوله حق، ووعده حق، ولقاؤه حق، والنبيون حق، ومحمد حق، {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 7] فيجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فيثيب الطائعين بفضله، ويعاقب العاصين بحكمته وعدله، {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8 - 9] ونؤمن بجميع ما جاء به الكتاب والسنة من أحوال اليوم الآخر، والشفاعة، والحوض، والميزان، والصراط، وصحائف الأعمال، وما ذكر من صفات الجنة والنار، وصفات أهلهما، كل ذلك حق لا ريب فيه، وكله داخل في الأيمان باليوم الآخر. والحاصل أننا نؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، إيمانا مجملا شاملا، وإيمانا مفصلا في كتاب ربنا وسنة نبينا. ونسأله تعالى أن يثبتنا على ذلك، ويميتنا ويحيينا عليه، إنه جواد كريم.

خطبة حين زادت الأمطار وخيف الضرر ثم أقلعت واستبشر الناس

[خطبة حين زادت الأمطار وخيف الضرر ثم أقلعت واستبشر الناس] 27 - خطبة حين زادت الأمطار وخيف الضرر ثم أقلعت واستبشر الناس الحمد لله اللطيف المنان، الرؤوف الرحيم الرحمن، ذو الكرم الواسع والجود، والخير المتتابع الممدود. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له المعبود، الواحد الأحد الفرد الصمد المقصود، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خير مرسل وأشرف مولود. اللهم صل وسلم على محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم في الصدور والورود. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى لعلكم ترحمون، واذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون، واشكروه على تتابع فضله لعلكم تكرمون. أنعم عليكم بهذا الغيث الغزير، وأسبغ عليكم بهذا الكرم الواسع الكثير، فلم يزل يتابعه حتى رويت الأراضي وامتلأت الغدران، حتى إذا خشي الناس منه الضرر والطغيان، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت من الخوف والهموم والأحزان - أمره المولى أن يقلع عنكم بلطفه وإحسانه، ونشر

عليكم رحمته برأفته وحنانه، فأصبح الناس بهذا وبهذا مستبشرين، وبنزوله ثم بإقلاعه فرحين، فكانت النعمة في إمساكه كالنعمة في إنزاله، فلم يزل العبد يتقلب بنعم ربه في كل أحواله. فاشكروا ربكم شكرا كثيرا، وسبحوه بكرة وأصيلا، وتوسلوا بنعمه وإحسانه إلى طاعته واتباع رضوانه. فمن شكر الله بقلبه ولسانه وعمله فليبشر بالمزيد، ومن قابل النعم بالغفلة والمعاصي فالعقاب شديد. والعباد في غاية الضعف والفقر والاضطرار، ولا ثبات لهم على حالة ولا قوة ولا اصطبار. إذا تباطأ الغيث يئسوا وقنطوا، وإذا تتابع عليهم قلقوا وجزعوا، فعليهم أن يلجأوا في أمورهم كلها إلى المولى، ويسألوه اللطف في مواقع القدر والقضاء، فتعرضوا لألطاف المولى بالتضرع والدعاء، واقصدوه في حالة السراء والضراء. «دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فشكى إليه الضرر، فقال يا رسول الله: هلكت الأموال، وجاعت المواشي، وتقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع يديه صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا". قال أنس: فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، حتى نشأت سحابة من وراء سلع مثل الترس، فانتشرت وأمطرت، فلا والله ما رأينا الشمس من الجمعة إلى الجمعة.

ثم دخل رجل وهو يخطب في الجمعة الأخرى، فقال يا رسول الله: هلكت الأموال، وانقطعت السبل، وتهدمت الأبنية، فادع الله أن يمسكها. فرفع يديه وهو يخطب. فقال: " اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر" فانجاب السحاب عن المدينة، مثل الإكليل، فخرجوا يمشون في الشمس.» فانظروا هذه الآيات الدالة على كمال قدرة الله وتوحيده، وعلى سعة رحمته وصدق رسوله، {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [الروم: 48] الآيات.

خطبة حين وضع مكبر الصوت في المسجد واستنكره بعض الناس

[خطبة حين وضع مكبر الصوت في المسجد واستنكره بعض الناس] 28 - خطبة حين وضع مكبر الصوت في المسجد واستنكره بعض الناس الحمد لله الذي خلق الخلائق وأحكم، وشرع الشرائع وحلل وحرم، وعلم الإنسان ما لم يكن يعلم. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له في ملكه وتدبيره، ولا ظهير له في إحكام الأشياء وحسن تقديره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله، اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن يفعل الخير ويقوله. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله وأطيعوه. واعرفوا ما أنزل من الحق واتبعوه، فمن عرف الحق واتبعه فهو السعيد، ومن عرف الحق وتركه فهو الشقي الطريد. واعلموا أن الله أمر بتبليغ الدين، ويسر كل سبب يوضح الحق ويبين. فكما أن استعمال الأسلحة القوية العصرية والعناية بها داخل في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] واستعمال الوقايات والتحصينات عن الأسلحة الفتاكة داخل في قوله تعالى:

{وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102] والقدرة على المراكب البحرية والجوية والهوائية داخل في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وجميع ذلك وغيره داخل في الأوامر بأخذ جميع وسائل القوة والجهاد، فكذلك إيصال الأصوات والمقالات النافعة إلى الأمكنة البعيدة من برقيات وتليفونات وغيرها داخل في أمر الله ورسوله بتبليغ الحق إلى الخلق، فإن إيصال الحق والكلام النافع بالوسائل المتنوعة من نعم الله، وترقية الصنائع والمخترعات لتحصيل المصالح الدينية والدنيوية من الجهاد في سبيل الله. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، ومن ضرورة تقارب الزمان تقارب المكان، وذلك بالوسائل التي قربت المواصلات بين البلدان والسكان، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] يتضح بذلك أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق والرشد والصدق، وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقال: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] فسبحان من أخرج الآدمي من بطن أمه، لا يعلم شيئا، ولا

يقدر على شيء، وجعل لهم السمع والأبصار والعقول، ويسر لهم كل سبب ينالون به من العلم والعمل كل مأمول. أليس هذا من أكبر الأدلة على عظمته وتوحيده وسلطانه؟ وعلى شمول رحمته وفضله وإحسانه؟ علمهم العلوم الدينية، حتى صاروا هداة مهتدين، وعلمهم العلوم الكونية، حتى كانوا جهابذة مهرة مخترعين. فمن شكر لمولاه وخضع لجلاله كان ذلك عنوان فضله وكماله، ومن طغى وتمرد على ربه، فيا سوء منقلبه ومآله.

خطبة في الحث على لزوم الصراط المستقيم

[خطبة في الحث على لزوم الصراط المستقيم] 29 - خطبة في الحث على لزوم الصراط المستقيم الحمد لله الذي نور بهدايته قلوب العارفين، وأقام على الصراط المستقيم أقدام السالكين. ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، فإياه نعبد وإياه نستعين، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله سيد المرسلين، وإمام المتقين، وقائد المهتدين، اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بلزوم طاعته وطاعة رسوله، وذلك بتصديق الخبر، وامتثال الأمر، واجتناب الزجر، فمن فعل ذلك: فقد استقام على الصراط المستقيم، وهو الطريق المعتدل الموصل إلى جنات النعيم. فقد أمركم الله بسلوك هذا الصراط، والاستقامة عليه، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] وأمركم أن تسألوه وتضرعوا إليه في كل ركعة من ركعات الصلاة، أن يهديكم إليه، وفي الحديث القدسي «يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم» فكل أحد مضطر إلى هداية ربه

في جميع أحواله، بأن يسدده في أخلاقه وأقواله وأفعاله، قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف: 178] ومن يتبع نبيه فهو الراشد المقتدي. ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهدني لأحسن الأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئ الأعمال والأخلاق لا يصرف عني سيئها إلا أنت» . وقد دعا بأربع كلمات تجمع للعبد خيري الدين والدنيا: «اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى» . فالهداية التامة هي الهداية للعلم النافع، والعمل الصالح، وهو الهدى ودين الحق. فمن عرف الحق فاتبعه وعرف الباطل فاجتنبه فقد هدي إلى صراط مستقيم، ومن قام بحقوق الله وحقوق عباده فهو المهتدي إلى جنات النعيم. ولهذا لما ذكر الله ما أمر به وما نهى عنه من الشرائع الكبار في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] فعددها وقال في آخرها: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] من لزم هذا الصراط قبل الله منه اليسير من العمل، وغفر له الكثير من الزلل، وجعل له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومر على جسر جهنم كلمح البصر، وهدي إلى الطيب من

القول، وهدي إلى صراط الحميد. وإذا تبوأ أهل الجنة منازلهم، قالوا مغتبطين بهذه الهداية، ومثنين على ربهم بالتوفيق بها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]

خطبة في بعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم

[خطبة في بعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم] 30 - خطبة في بعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي منَّ علينا بالنبي الكريم، وهدانا به إلى الصراط المستقيم، واستنقذنا به من الضلال والعذاب الأليم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العظيم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي قال الله فيه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم في هديهم القويم. أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته، وذلك بكمال محبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباع هداه، فلقد بعثه الله رحمة للعالمين، وهدى للمتقين، وحجة على العالمين. وكانت ولادته وهجرته ووفاته في شهر ربيع الأول، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأول أمري: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي» . دعوة أبي إبراهيم إذ قال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]

وبشارة عيسى، إذ يقول الله عنه: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] ورؤيا أمي: رأت أمه آمنة بنت وهب كأنه خرج منها نور عظيم أضاءت به قصور الشام. وفي لك للتنبيه على عظيم منة الله به وعموم رسالاته وشمول نفعه للعالمين، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ - يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16] فهذا النور العظيم، الذي فاض على العالم برسالته أعظم من نور الشمس والقمر، وأنفع للعباد من الغيث الكثير المنهمر. نور استنارت منه المشارق والمغارب والأقطار. ملأ الله به القلوب علما ويقينا وإيمانا، وشمل البسيطة عدلا ورحمة وخيرا وحنانا، طهر الله به الأخلاق من جميع الرذائل، واستكملت به جميع الفضائل، واستبدل به المؤمنون بعد الشرك إخلاصا لله وتوحيدا، وبعد الانحراف عن الحق هداية واستقامة وتوفيقا،

وبعد الفتن والافتراق ألفة واعتصاما بحبل الله، وبعد القطيعة والعقوق برا وصلة ورحمة بعباد الله، وبعد الظلم والجور وسوء المعاملات عدلا ووفاء بجميع الحقوق والمعاملات. نورا كسب به العباد بعد الفساد صلاحا، وبعد الشقاء والهلاك فلاحا ونجاحا. نور نشر عدله ورحمته على الأقطار، فصلحت به الأحوال وكثرت الخيرات، وانجلت به الشرور والهلكات. لم يزل ذلك النور سراجا وهاجا، إذ أهله به متمسكون، وبنوره مقتدون. فلما استبدلوا بهذا النور الظلم والظلمات، وانفصلوا أو كادوا ينفصلون من حبله المتين، وتقاطعوا وتدابروا، وتباغضوا وتنافروا، وذهبت عنهم الغيرة الدينية، والنخوة القومية، وتباينت الأغراض، وكثرت الأضرار، جاءهم ما كانوا به يوعدون من العقوبات العاجلة، وتكالبت عليهم الأعداء، وتشتت الأصدقاء. فلم يزالوا في نزول مضطرد ما داموا معرضين عن تعاليم هذا الدين. ولا يزالون في هبوط ما داموا متعشقين لأحوال المنحرفين، ولا - والله - ينقذهم مما هم فيه من الشقاء إلا الرجوع إلى دينهم، الكفيل لهم بكل خير وصلاح، ولا ينجيهم مما وقعوا فيه إلا التمسك بحبل الله، والاجتماع على القيام بدين الله.

فاتقوا الله عباد الله، وقوموا حق القيام بدين الله. فمن اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه قائما بالأسباب النافعة كفاه، ومن اعتصم به وبحبله حفظه من الشرور وحماه، ومن أخلص له الأعمال بلغه من كل خير غايته ومنتهاه، ومن أعرض عن أمره فلا يلومن إلا نفسه إذا لقى حتفه، وذلك بما قدمت يداه. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

§1/1