الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية

النخجواني

الجزء الأول لا اله الا الله بسم الله الرّحمن الرّحيم سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم. سبحان من تجلى لذاته بذاته. في ملابس أسمائه وصفاته. وتعزز بكبريائه عن أن تصفه ألسنة مظاهره ومصنوعاته. جل جناب قدسه عن أن يكون شرعة كل وارد. ووجهة كل قاصد. فيا عجبا من المدرك وما الإدراك. في مقام لا يسع فيه سوى ما عرفناك تعالى الحق عن همم الرجال ... وعن وصف التفرق والوصال إذا ما جل شيء عن خيال ... يجل عن الاحاطة والمثال بحمدك لنفسك نتوسل إليك. وبثنائك لذاتك نثنى عليك. لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. ونصلى على رسولك المؤيد من عندك. لتبليغ سرائر حكمك وأحكامك. الى خلص عبادك. ونتضرع إليك أن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديت إذ بيدك أزمة الأمور. وبمشيئتك يجرى ما في الصدور. إخواني أبقاكم الله لا تلوموني بما أنا عليه. ولا تعيرونى بأمر قصدت اليه. إذ من سنته سبحانه اظهار ما خفى في علمه. وإبراز ما كمن في غيبه. يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد. لا حول ولا قوة الا بالله. وما بكم من نعمة فمن الله. هو يقول الحق وهو يهدى السبيل. وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب. عن جميع ما يعيبني ويريب. والملتمس من الاخوان. والمرجو من الخلان. أن لا ينظروا فيه إلا بعين العبرة. لا بنظر الفكرة. وبالذوق والوجدان. لا بالدليل والبرهان. وبالكشف والعيان. لا بالتخمين والحسبان. والله ما هذا الفقير الحقير من أصحاب القيود. المتشبثين بأذيال الحجج والحدود. ولا من المتصوفة المتصلفة من الوارد والمورود. المتفوهة عن الواجد والموجود. بل من خدام الفقراء المنسلخين عن جميع الرسوم والعادات. المنتظرين بما ظهر لهم من الحق في عموم الأوقات وشمول الحالات. نفعنا الله وإياكم بالقرآن العظيم. وشرح صدورنا وصدوركم بالآيات والذكر الحكيم. انه هو الجواد الكريم. الفتاح العليم.

التواب الرحيم. ثم لما كان ما ظهر فيه من جمل الفتوحات التي قد فتحها الحق ووهبها من محض جوده سمى من عنده بالفواتح الإلهية. والمفاتح الغيبية الموضحة للكلم القرآنية. والحكم الفرقانية. وقبل الخوض في المقصود لا بد من تمهيد أصل كلى جملي يتضمن على سرائر عموم المعارف والحقائق. والمكاشفات والمشاهدات الواردة على قلوب الكمل وعلى مطلق الأوامر والنواهي وعموم التكاليف والاحكام الواردة من الله الموردة في الكتب والصحف الإلهية وعلى أسرار مطلق الإنزال والإرسال وحكم عموم الوحى والإلهام ومصالح الولاية المطلقة والنبوة والرسالة وعلى وضع الملل والأديان وصور الطاعات والعبادات الدنيوية والمعتقدات الاخروية من الحشر والنشر والجنة والنار والصراط والسؤال والحساب والجزاء وما يترتب عليها من اللذات الجسمانية والروحانية. والدرجات العلية الجنانية. والدركات الهوية النيرانية. وغير ذلك من الأمور الجارية على السنة الكتب والرسل وفي عرف عموم الشرائع والأديان. الموضوعة لإرشاد الإنسان. وتكميله ليصل الى مرتبة المعرفة والإيقان. ويتمكن في مقر التوحيد والعرفان" اعلم". ان الوجود البحت وان شئت قلت الذات الاحدية أو الحقيقة المتحدة المحمدية أو الهوية الشخصية السارية في عموم المظاهر والأكوان أو مسمى اسم الله المستجمع لعموم الأسماء والأوصاف الإلهية وكأنه قد وضع هذا الاسم له سبحانه وضع الأعلام وان كان وضع العلم «4» بالنسبة اليه سبحانه محالا في نفسه الى غير ذلك من العبارات انما هو عبارة عن المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي لعموم ما ظهر وبطن وغاب وشهد وهو ينبوع بحر الوجود وقبلة الواجد والموجود وهو الموجود حقيقة وما سواه معدوم باطل وظل زاهق زائل. وبالجملة ليس المقصود من العبارات المذكورة الا الإشارة والتنبيه على الحقيقة المتحدة الإلهية التي قد استقل بها في الوجود وتفرد بالتحقق والثبوت بلا تعدد فيه وشركة وكثرة أصلا الا وهو الوجود «5» البحت الخالص عن مطلق القيود المخصصة والأوصاف المتخصصة وإياك إياك ان تفهم من لفظ الوجود المعنى المصدري او المفهوم الكلى المنقسم الى المتواطئ والمشكك او المفهوم الزائد على الماهيات أو العين لها الى غير ذلك من المزخرفات التي قد أوهمها أصحاب القيود المتشبثين بأذيال الحجج والحدود التي قد اعتبرتها أحلامهم السخيفة وعقولهم الكثيفة المموهة بتمويهات الأوهام والخيالات الباطلة الشيطانية المورثة لهم من القوى البهيمية الناسوتية المتفرعة على الشركة والثنوية قطعا من غير تفطن وتنبه لهم الى عالم اللاهوت ومقتضيات القوى الروحانية المترتبة على الوحدة الذاتية الحقيقية الحقية وما ذلك الا من ظلمات الفهم وعاداتهم بالمدركات الحسية وبمنتزعاتها الكلية والجزئية المستنبطة من المحسوسات الشهادية ومن الملكات الرديئة الكثيفة التقليدية الراسخة في نفوسهم من القوى والآلات الناسوتية بلا شعور منهم وانتباه الى الملكات اللطيفة الفطرية اللاهوتية التي هم جبلوا عليها وخلقوا لأجلها. وبالجملة من لم يجعل الله له نورا فماله من نور. بل لك أن تفهم من لفظ الوجود الكون والتحقق والثبوت الواقع في الواقع وفي نفس الأمر المعبر عنه بلغة الفرس بلفظة «هست» المقابل للفظة «نيست» والوجود بهذا المعنى يقابل للعدم تقابل العدم والملكة بحيث لا اتصاف لاحد المتقابلين بالآخر أصلا فيكون الوجود واجب الوجود البتة والعدم ممتنع الوجود البتة بلا امتزاج لهما

_ (4) اعلم ان وضع العلم لذات الحق محال من البشر والملك والجن لان وضع العلم مسبوق بالعلم بالموضوع له على ما هو عليه مع جميع لوازمه وعوارضه ليمكن للواضع وضع العلامة بإزائه ولا يتيسر لهؤلاء الاطلاع على ذات الحق على الوجه المذكور حتى يمكن لهم وضع العلم بإزائه سبحانه اللهم الا ان يقال قد وضع الحق لذاته المعلومة لذاته على الوجه المذكور علما وعلمه عباده من الملائكة والثقلين وهذا العلم له سبحانه ضروري حضورى ولا استحالة في ذلك تأمل منه (5) وهو المبدأ واليه المعاد لا اله الا هو ولا موجود سواه وكل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون منه

بالآخر وتركب بينهما أصلا لمنع الجمع فيكون الوجود وجودا وان شئت قلت موجودا بلا تفاوت بين الوجود والموجود أزلا وأبدا على ما كان عليه حيا قيوما دائما باقيا لاستحالة أن يزول عنه مقتضاه بل لا يزال هو على صرافة تحققه ووجوده وثبوته بلا مكيال زمان وآن. ومقدار شأن ومكان. بل له شأن لا يسع في شأن. وكذا العدم عدم ممتنع ان يزول عنه مقتضاه أصلا ولا ثالث لهما إذ لا واسطة بينهما لمنع الخلو والذي يقال له ممكن الوجود لا بد ان لا يخرج عن حيطتهما لانحصار مطلق المفهوم فيهما بلا واسطة بينهما كما صرح به علماء الرسوم ايضا والذي أثبته بعض المنحرفين عن جادة العدالة الفطرية والفطانة الحدسية المنصرفين عن مقتضى الشعور الجبلي وهم منهم واتباع بشيطانى الوهم والخيال لا يؤبه بهم ولا يعتد بقولهم هذا لا جائز ان يكون ممكن الوجود من حيطة الوجود إذ هو واجب الوجود دائما لا يزول مقتضاه عنه أصلا وما هو ممكن الوجود قد يزول عنه الوجود المستعار ويتصف بالعدم فتعين ان يكون من حيطة العدم فظهوره على صورة الموجود المتأصل وكونه مصدرا للآثار الظاهرة ظاهرا انما هو من ظهور الوجود وتجليه على مرآة العدم دائما ازلا وابدا بعموم أوصافه وأسمائه الذاتية. وبجميع شئونه وتطوراته الغير المتناهية. ومن انعكاس لمعات وجهه الكريم. على صحيفة العدم حسب أوصافه وأسمائه العظيم. يتراءى من العدم الصقيل ما يتراءى من الصور والآثار الكونية الكيانية والغيبية والشهادية والدنيوية والاخروية والمثالية والبرزخية. وبالجملة ارتباط العالم بالحق ليس الا مثل ارتباط الصور المرئية في المرايا الى ذي الصورة وارتباط العكوس والاظلال الى الأضواء. والأمواج الى الماء فيكون العالم الذي هو ممكن الوجود على صرافة عدميته الاصلية ما شم رائحة من الوجود أصلا سوى ان الوجود قد انبسط وتجلى عليها فيتراءى من سراب العدم ما يتراءى. مثل الصور المرئية في الماء والمرايا. واما دوام العالم على تجدداتها المرئية وتطوراتها المشاهدة منها وتبدلاتها بالأشباه والأمثال مثل تجدد الاعراض بل ما هي في الحقيقة إلا نسب وأعراض ولله در من قال كل ما في الكون وهم او خيال ... او عكوس في المرايا او ظلال لاح في ظل السوى شمس الضحى ... لا تكن حيران في تيه الضلال فمبنى على ان للوجود البحت بالمعنى الذي ذكر شئوناتي. وتطورات لا تعد ولا تحصى. إذ للتحقق والثبوت الذي هو الواقع في نفس الأمر حقيقة ومعنى ازلا وابدا حيا قيوما شئون واطوار كاملة مترتبة في الكمال غير متناهية غير مكررة ابدا غير منقطعة أصلا إذ الوجود وجود دائما متجدد مستمر على شئون غير متكررة ازلا وابدا. فلك ان تصفى سرك عن مألوفات طبعك رأسا وعن مدركات قواك وآلاتك مطلقا وتراجع ذوقك ووجدانك بعد اطراح عموم الرسوم والعادات عن البين. وإسقاط جميع الكوائن والفواسد عن العين/ حتى تجد في سرك طورا غريبا وطرزا عجيبا وتذوق من وجدك ووجدانك لذة لدنية وشعورا حقيقيا معنويا ووحدانا تاما ذوقيا شوقيا حضوريا كشفيا شهوديا لا كمدركات العقول والافهام. بحسب الانطباع والحصول ولا مثل شعور القوى والأحلام. بل له شأن لا يعرضه شأن. ولا يحيط به ذوق ووجدان. ولا يسبقه حين ولا زمان. ولا يشغله مكان واركان. بل كل يوم وآن في شأن لا كشان. وكل ما انعكس منه في سراب الإمكان هو فان. ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام. ومتى تحققت بمقام قد اومأنا عليك. وذقت حلاوة ما أشرنا إليك. وصرت على يقين كامل وذوق تام من لذة التحقق والوجود والثبوت والحضور وترقيب أنت في كشفه وشهوده

من مرتبة العلم الى العين ومن العين الى الحق فقد نلت بما نلت وفزت بما فزت وليس وراء الله مرمى ومنتهى. وبعد ما قد وصلت الى هذا المشهد العظيم. وتمكنت في مقام الرضاء والتسليم. فقد تحققت بشئون الوجود ونشآته الغير المحدودة. وحينئذ قد ظهر عندك ولاح لديك كمالات الوجود المتجددة. دائما بالأمثال الى ما لا نهاية لها وتطوراته المتماثلة الغير المتكررة. وتشعشعاته المتشابهة الغير المتطابقة. وتجلياته المتناسبة الغير المتوافقة. وبعد ما قد شاهدت الوجود الحق الحقيق بالتحقق والثبوت على هذا المنوال وانكشفت لك لوامعه اللامعة ازلا وابدا على هذا المثال قد ظهر لك ولاح دونك احوال مطلق الصور والاظلال والعكوس المنعكسة منها والأمثال المترتبة عليها التي هي عبارة عن السوى والأغيار المسمى بالعالم المنعكس من مرآة العدم عند امتداد نور الوجود عليه وظهوره فيه وتبينه به ومنه إذ لا ضد للوجود سواه حتى يبينه ويكون مرآة له وظهور الوجود بلا مرآة مستحيل قطعا إذ قد احرق حينئذ سبحات وجهه ولمعات شروق تجلياته عموم ما انتهى اليه بصره مطلقا" واعلم" ان تشعشع الوجود الحق ازلا وابدا على هذا المنوال وتجدده دائما بتوهم الأشباه والأمثال انما هو دليل توحده وتشخصه سبحانه بالذات والحقيقة وان لم يكن تجليه كذلك فمن انى يعلم انفراد الذات ووحدتها وتشخصها مثلا لو فرض بقاء قرص الشمس ازلا وابدا على تشعشعها وبريقها ولمعانها الذاتية التي نشاهد منها الآن لا بد ان تكون متجلية دائما على هذا الوجه والشان المشاهد البتة بلا طريان اطوار أخر عليها وشئون شتى متخالفة لها بالذات حتى تكون باقية على حالها وشخصها وصرافة وحدتها والا فكيف يعلم انها هي شخصها وان كانت الشئون المتجددة المتواردة عليها آنا فآنا طرفة فطرفة غير متناهية في أنفسها وغير متكررة في حدود ذواتها وهكذا تجليات الحق وشئون الوجود ازلا وابدا بلا تكرر في نشآته وتجلياته أصلا بل، هو متجل دائما بتجليات متناسبة متشابهة في الكمال «2» بلا تناه وتكرار «3» وبالجملة العارف الفطن صاحب الذوق الصحيح والشهود التام إذا أمعن فيما أومأنا عليه وأشرنا نحوه

_ (2) وليس في الحقيقة وعند لتحقيق الا ذات واحدة ووجود بحت وحقيقة متحدة وهوية شخصية لها نشآت حبية وشئون ذاتية وتجليات شهودية وتطورات ثبوتية لا تجزى فيها حقيقة التي يفصلها ولا انقسام لها حتى يخصصها ويقيدها ولا توارد يعقبها ولا تعاقب يرد عليها ويلحق بها ولا تقضى يعدمها ولا انصرام يفنيها بل ما هو الا حبل الله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات التي هي ايضا عين الذات لا شيء زائد عليها ملحق بها مغير لها وبالجملة لا اضافة فيها ولا نسبة بين شئونها أصلا بل نشآت الوجود كلها هذا الكل لا كمثل كل سائر الأشياء القابل للتجزئة والتقسيم حسا او عقلا او حكما حاضر حاصل بالفعل بلا توهم ابتداء وانتهاء واحاطة بداية ونهاية وذهاب وغيبة وتجدد وحدوث ودبور وعبور وافول وعقود بل هي مقضية حسب التجلي الحبى المشار اليه في الحديث القدسي لإظهار آثار وإبراز أشباح وأمثال لا بداية لها ولا نهاية تحصرها مرسمة منها منعكسة عنها على مرآة العدم وسراب العالم وتلك الآثار والاظلال المرسومة والعكوس والأشباح المموهة المعدومة معروضة للنسب الموهومة ومحل للكثرات المتوهمة والإضافات المعدومة التي يتوهمها احلام المحجوبين المحبوسين في سجن الطبائع والأركان المتفرعة على سجين الإمكان المستتبع لسلاسل الزمان وأغلال المكان الحاصلة كلها من النسب والإضافات المتوهمة المترتبة على التجزى المخيل والاهمام الموهومة والكثرة المصورة والتعدد المعدوم وبالجملة الحقيقة المتحدة الإلهية لا تعدد فيها أصلا ولا تجزى بين شئونها ونشآتها مطلقا حتى تصور فيها ترتب وترتيب ولا بساطة لها ولا تركيب ولا تعدد فيها ولا تعقيب وكذا فيما يترتب عليها وينعكس منها من الآثار والاظلال ازلا وابدا في الحوادث الكائنة الماضية والآتية مطلقا عند العارف المحقق المتحقق بمرتبة الكشف والشهود والمتمكن في المقام المحمود الوارد على الحوض المورود الذي هو عبارة عن صفاء بحر الوجود إذ هو نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور والمحجوب المجبول على الغفلة والضلال. محروم عن ذوق الوصال. والله اعلم بحقائق مطلق المقال. والحمد لله على كل حال. منه (3) بل هو عند التحقيق تجل واحد لا تعدد فيه ولا تكرر ولا تجدد الا وهما منه

نطمع ونرجو منه طاب وقته ان يعتذر عنا ويعفو عن زلاتنا إذ لا يسع لاقدام الأرقام. ولا لألسنة التعبير والأقلام. الاقدام على سرائر الوجود والالتزام. على شرحه وإيضاحه وإفهامه على ما هو عليه في نفسه بل قصارى ما قيل في شانه وقصوى ما يقال في وصفه وبرهانه المتعالي عن مطلق الافهام والأحلام انما هو التنبه والتنبيه على وحدة ذاته وكثرة شئونه وتطوراته المترتبة على أسمائه وصفاته الذاتية والا فمنازل الوصول الى كنهه لا ينقطع ابد الآباد كما لم ينقطع في أزل الآزال. ولعمري انى مع قلة بضاعتي وضعف يقيني وكلال فهمي وتزلزل قدمي وتذبذب عزمي عن درك الوجود ووجده قد رمت وهممت مرارا ان اكتب ما ذقت وفزت من حلاوة فهمه ووجده وما نلت به منه وبسره حسب ما يسر الله لي وكشف على بمقتضى فضله وجوده والله لقد كل لساني وقصر نطقى وبيانى عن تقرير ما في ذوقى ووجداني وانحسر فطنتي وعقلي عن فحص ما في سرى وقلبي وصرت بحيث قد اعتزل عنى حينئذ عموم قواي وآلاتى ومدركاتها بالمرة وانعزل عنها وعن مقتضياتها جميعا في تلك الحالة الغريبة البديعة وقد بقي إذا في سرى سرور. وفي خلدي وروعي وجد وحضور. لا يحوم حوله فترة وفتور. ولا يعتريه غفلة وقصور. ولا شك ان التعبير عن مطلق الوجدانيات على وجهها متعذر عند جمهور العقلاء وذوى الأذواق الصحيحة والعزائم الخالصة من العرفاء الأمناء «2» بخلاف الانطباعيات الحاصلة بوسائل القوى والآلات فان التعبير عنها على وجهها ميسر لكل من تصدى وقصد التعبير عنها والسر في ذلك والله اعلم ان في الانطباعيات قد تنفعل وتتأثر القوة المدركة المحصلة لها والقوى والآلات المؤدية إليها الممدة إياها فيمكن التعبير عن الصور الحاصلة المنطبعة في القوة العاقلة الحاملة لها وكذا عن جميع ما حصل في سائر المشاعر والآلات من الصور والأمثال بخلاف الوجدانيات فان فيها ومنها تتأثر الروح الذي هو من عالم الأمر الإلهي فكما لا يمكن التعبير عن الروح وعن لميته وكيفيته كذلك لا يمكن التعبير عن الوجدانيات ومطلق اللدنيات والحضوريات ايضا. وبعد ما قد ظهر من سياق ما قررنا لك وسباق ما تلونا عليك ان الوجود الحي القيوم الدائم الثابت ازلا وابدا على صرافة وحدانيته وفردانيته واستقلاله في ذاته وتحققه ووجوده يمكن ادراك انيته ووجدته وحضوره وكشفه وشهوده على الوجه الذي هو عليه وكذا ادراك اتصافه بالأوصاف والأسماء الذاتية وتجليه عليها دائما بلا فترة وتعطيل وبلا انقضاء وتحويل لكن لا يمكن ان يدرك لميته وكيفيته وحقيقته التي هو به هو إذ الخوض فيه وفي إيضاحه وشرحه والغوص في لججه وغوره خارج عن مشاعرنا ومداركنا مطلقا متعال عن طور البشر وفهمه بالمرة إذ البشر عاجز عن معرفة نفسه فكيف عن معرفة ربه «3» ولهذا قال اصدق القائلين صلى الله عليه وسلم في مقام العجز والقصور من عرف نفسه فقد عرف ربه إذ النفس والروح كلاهما من عالم الأمر الإلهي وما لنا اطلاع به على طريق اللمية والحصول بل بطريق الإنية والحضور. وبعد ما ثبت ان الوجود المطلق والحق المحقق والذات المتحقق الثابت ازلا وابدا قد كان معلوم الإنية والحضور مجهول اللمية والحصول ينكشف به الموحدون المكاشفون ويشهده المقربون المخلصون ويفنى فيه الهائمون الحائرون ويبقى ببقائه الوالهون الواصلون ولمثل هذا فليعمل العاملون ثبت ان ظهوره غيبا وشهادة صورة ومعنى دنيا وعقبى ازلا وابدا انما هو من وراء سرادقات آثار الأوصاف والأسماء

_ (2) ولهذا لا تصير الوجدانيات دليلا على الخصم ولا يتركب منها الادلة والقياسات وان كانت في أنفسها من أجل العلوم وأجلاها «منه» (3) ولقد احسن من قال ما للتراب ورب الأرباب «منه»

الذاتية الإلهية المتفرعة المترتبة عليها مطلق الصور والآثار الصادرة الظاهرة والباطنة المعقولة والمحسوسة. وبالجملة العالم عبارة عن عموم الصور والآثار والاظلال المنعكسة من تلك الأسماء والصفات الإلهية المستندة الى الذات الاحدية فباعتبار انها آثار متكثرة وقوابل متعددة واظلال متخالفة وعكوس متلونة وأمثال متجددة متنوعة متفرعة على تلك الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية مستحدثة منها معلولة لها تسمى عالم الناسوت وعالم الملك وعالم الشهادة وعالم الحس وعالم الخيال وعالم المثال وعالم النقوش والأشباح الى غير ذلك من العوالم والعبارات المتكثرة الغير المنحصرة وباعتبار مؤثراتها ومصادرها وأصولها ومدبراتها وعللها وفواعلها واربابها واسبابها تسمى عالم اللاهوت وعالم الملكوت وعالم الجبروت وعالم الغيب وعالم الأمر وعالم الأسماء والصفات وعالم الأعيان الثابتة وعالم النفوس والأرواح وغير ذلك من العبارات والاعتبارات التي لا تعد ولا تحصى وباعتبار اندماج الكل في المرتبة الواحدية واندراجها في الهوية الشخصية وكمونها في الحقيقة المتحدة المحمدية وانطوائها في المرتبة الجامعة الجمعية واستهلاكها في حضرة الذات الاحدية المنزهة عن شوب الكثرة وشين الثنوية مطلقا تسمى باسم الله المستجمع لعموم الأوصاف والأسماء وبالغيب المطلق وبالعماء الذاتي وبالوجود المطلق البحت الخالص عن مطلق القيود والحدود وبالحق الحي القيوم المحقق المتحقق ازلا وابدا وبلفظة هو المعبر به عن الهوية المتحدة المتوحدة المتفردة بالذات مطلقا. وبالجملة عليك ان تتفطن من هذه العبارات المتلوة عليك. والروايات المقروة عندك والإشارات المرموزة بها إليك. الى ما هو قبلة عموم مقاصدك. وقدوة جميع مطالبك ومآربك. مجردة عن اكسية عموم الألفاظ والعبارات. معراة عن تعبيرات مطلق الحروف والكلمات. وعن عموم الرموز والإشارات. المؤدية اليه والدرايات. المشعرة له والإدراكات. المشيرة إياه بل لك ان تخلى فطنة فطرتك وجودة سرك وفكرتك عن رذائل مطلق الرسوم والعادات الطارئة عليك من مألوفات طبعك ومدركات حواسك ومنتزعات آلاتك وقواك. وبالجملة عليك ان تصفى سرك عن نشآت ناسوتك رأسا وتحليها بالواردات الغيبية اللاهوتية المنصبغة بصبغ الحق الحقيق بالحقية الفائضة من لدنه سبحانه بمقتضى استعدادك وفطرتك التي قد فطرك الحق عليها في حضرة علمه الحضوري المحيط وفي لوح قضائه الأزلي السرمدي المحفوظ عن طريان تبديل وتغيير بلا تصرف فيهما منهم شياطين الأوهام والخيالات الناسوتية المستدعية المستتبعة لانواع الرسوم والقيود الامكانية والحدود المتفرعة على الكثرة المقتضية للشركة في الألوهية والربوبية المنافية لصرافة الوحدة الذاتية الحقية الحقيقية المستغنية في ذاته عن مطلق الكثرات الناسوتية مطلقا وإياك إياك ان تنظر الى منطوقات الألفاظ ومحتملاتها فإنها حجب غليظة وسدل كثيفة مسدولة مرخاة بينك وبين مقصدك الحقيقي فلولا ان التنبه والتنبيه والإفادة والاستفادة قد حصلا بالألفاظ والعبارات وبتأديتها وأدائها لما صح وجاز التنطق والتكلم بحجب الألفاظ والعبارات مطلقا سيما لأرباب المعارف والحقائق وذوى العزائم الصحيحة والأذواق الخالصة الذين هم قد خرقوا عموم الحجب والأستار عن البين. وفتقوا مطلق الاغطية والاغشية عن العين. بحيث صاروا ما صاروا بلا سترة وحجاب جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم وصل لهذا الأصل ثم لما كان ظهور الحق وبروزه ازلا وابدا من وراء أستار الآثار الناسوتية وحجب العكوس والاظلال الكونية والكيانية التي هي ملابس الأسماء والصفات اللاهوتية أراد سبحانه ان ينبه على ارباب العناية والقبول من العكوس والاظلال المجبولين على فطرة الايمان والعرفان. المصورين بصورة الرحمن المختصين بخلعة الخلافة والنيابة من لدنه سبحانه وحدة ذاته المتصفة بعموم

أوصاف الكمال ونعوت الجلال إذ لولا تنبيه الحق وإرشاده وهدايته سبحانه إياهم الى وحدة ذاته ووجوب وجوده وكمالات أسمائه وأوصافه لما تيسر لهم الاطلاع والوقوف على ذاته سبحانه أصلا مثلا لو فرض بقاء شروق الشمس واضاءتها ازلا وابدا على هذا المنوال بلا طريان افول وزوال. وتعاقب ظلمة وليال. من انى يعلم ان الأنوار والأضواء المحسوسة قد صدرت منها ومن جملة خواصها وأشعتها ولمعانها وشمس الحقيقة الحقية ازلا وابدا على شئونها ولمعانها الذاتية بلا تعاقب افول وطريان تغير وتحول أصلا. وبالجملة لولا ارشاد الحق لعباده الى وحدته الذاتية لصاروا محجوبين منه ومن معرفته ازلا وابدا ولا يهتدون اليه سبيلا أصلا فاقتضت الحكمة الإلهية وضع الطرق والسبل الموصلة الى وحدة ذاته ووجوب وجوده واستقلاله فيه وتوحده في ألوهيته وتفرده في ربوبيته والى سريان سر وحدته الذاتية على ذرائر عموم مظاهره ومجاليه المتكثرة وانبساطه عليها حسب شئونه وتطوراته المترتبة على أوصافه وأسمائه الذاتية المنوطة على تشعشع تجلياته المتجددة دائما بحسب الكمالات الذاتية والنشآت الحبية اللازمة للوجود المطلق المنزه عن وصمة عموم الفتور والفطور. المعرى عن سمة مطلق النقص والقصور. بل يتلألأ دائما على شئون الكمال ازلا وابدا بلا انقضاء وزوال وبلا انصرام وانخرام فيترتب ازلا وابدا دائما مستمرا على نشآته وشئونه الآثار والأمثال. ويتراءى منها على الدوام العكوس والاظلال. فوضع سبحانه حسب حكمته المتقنة مراتب النبوة والرسالة والولاية المطلقة فيفرع عليها الايمان والعرفان والكشف والعيان الى غير ذلك من الحالات العلية والمقامات السنية الواردة لأرباب القلوب الصافية ويظهر ايضا في مقابلة هذه المراتب المذكورة مراتب نقائضها وأضدادها فتكثرت الشئون والنشآت وتشعبت الصور والآثار واختلفت الآراء والأفكار وتزاحمت الطرق والمذاهب وتخالفت الملل والأديان وانقلبت الأطوار والمشارب. وبالجملة قد تحزب نوع الإنسان المجبول على فطرة الدراية والشعور والمعرفة والايمان أحزابا مختلفة وتفرقوا فرقا شتى متخالفة وبالجملة قد بلغت الكثرة غايتها والخلاف والاختلاف نهايتها لذلك اقتضت الحكمة العلية الغالبة الإلهية ثانيا ايضا بوضع النشأة الاولى والاخرى فوضع في الاولى ما وضع من طرق التكاليف المشتملة على الأوامر والنواهي والمندوبات والمحظورات والمكروهات والمستحبات ومطلق المعروفات والمستحسنات الشرعية ومكروهاتها ومستقبحاتها الموضوعة بالوضع الإلهي المثبتة في الكتب المنزلة على الأنبياء والرسل وفي الاخرى التي هي دار المكافاة والمجازاة عن عموم ما جرى في النشأة الاولى كل لنظيرها او نقيضها فوضع سبحانه حسب حكمته المتقنة وفاقها وطباقها ما وضع بمقتضى العدل الإلهي والقسط الحقيقي من الجنة والنار والثواب والعقاب والسؤال والحساب ومطلق الدرجات الجنانية والدركات النيرانية وعموم المعتقدات الاخروية الجارية فيها بالوضع الإلهي ثم اعلم ان مطلق العوالم والنشآت الكلية الإلهية مثل الغيب والشهادة والملك والملكوت والاولى والاخرى وعالم الحس وعالم الخيال وعالم الأمر وعالم المثال وعالم الأشباح وعالم الأرواح وغير ذلك من العوالم والنشآت المحيطة والشئون المحتوية الكلية بل عالم السموات وعالم الأعيان الثابتات وعالم الطبائع والأركان قد يتمثل ويتصور في احد النظيرين او النقيضين منها ما في النظير او النقيض الآخر من الصور والأمثال. والهياكل والأشكال. بصور وهيآت متطابقة متوافقة لها في الحقيقة والمآل. متخالفة بحسب الصورة والحال. فيؤثر ما في احد العالمين في ما في العالم الآخر ويتأثر هو منه بناء على ارتباطات رقيقة ومناسبات دقيقة لا يعلمها الا هو وصور الرؤيا وتعبيراتها ايضا منها

وهذا من غوامض ما قد ينكشف لبعض ارباب المعارف والحقائق الواصلين الى مرتبة الكشف والشهود بحيث قد صار كمالاتهم كلها بالفعل بل بلا انتظار منهم وترقب وبالجملة هذا مبنى على ارتباط جميع أجزاء العالم بعضها ببعض واتصاف كل منها بصفة الآخر على سبيل الإبدال. واتحاد الكل في الحقيقة والمآل. والله اعلم بحقائق عموم المدارك والمقال. والحمد لله على كل حال وصل آخر وبعد ما قد بلغت الكثرة غايتها وانتهت المخالفة نهايتها اظهر سبحانه مرتبتي النبوة والولاية كما أشرنا اليه بان خص بعض النفوس القدسية بالإلهامات الغيبية والإلقاءات الكشفية المعدة للنفوس الزكية لان ينزل عليها سلطان الوحدة الذاتية حسب شئونها وأوصافها وأسمائها وبعد ما قد نزلت الوحدة الذاتية عليها على وجهها وتمكنت فيها بذاتها وتشرفت هي بنزولها وورودها قد فنيت حينئذ هويتها الناسوتية في لاهوتية الحق بالمرة فمنهم من انجذب إليها بالكلية ولم ينزل عن تلك المرتبة أصلا بل قد بقيت في عالم اللاهوت منخلعة عن البسة عالم الناسوت رأسا بلا شائبة التفات ورجوع منهم الى جانب عالم الناسوت ومقتضياتها أصلا الا وهم البدلاء الأمناء العرفاء الحائرون الهائمون الوالهون الواصلون الفانون الفائزون الباقون الدائمون التائهون الآمنون وهم هم تحت قباب عز الوجوب متمكنون. وعن لوازم الإمكان منسلخون. الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ومنهم من حاز كلتى مرتبتي الظاهر والباطن والغيب والشهادة والاولى والاخرى فاستقروا في مرتبة الخلافة والنيابة الإلهية واحاطوا عموم مراتب الملك والملكوت والناسوت واللاهوت والغيب والشهادة فاستحقوا بكمال التمجيد والتعظيم واختصوا بمزيد التربية والتكريم من لدنه سبحانه وكيف لا وهم قد تأيدوا من عنده سبحانه بالقوة القدسية والحدس الفطري والكشف الجبلي بتربية بعض الأسماء الإلهية إياهم وتقويته عليهم وتأييده إليهم فهؤلاء هم الأنبياء الأمناء الأصفياء الواصلون الى وحدة الذات المتمكنون في مقر الخلافة الإلهية والنيابة الحقيقية الحقية وبالجملة قد انتهت علومهم اللدنية وادراكاتهم الفطرية اللاهوتية الفائضة عليهم من العقل الكل المنشعب من حضرة العلم المحيط الإلهي الى مبدئها الأصلي ومنشأها الحقيقي وكذا عموم أعمالهم الصالحة المقبولة المرضية عند الله الفائضة عليهم من النفس الكلية المنشعبة من حضرة القدرة العلية الغالبة المحيطة الإلهية ايضا الى منشأها الأصلي ومبدئها الحقيقي وبالجملة قد انتهت عموم اوصافهم وأفعالهم ومواجيدهم وأحوالهم الى ما قد فاضت عليهم من المبدء الفياض وكيف لا وقد خلقهم الحق بأخلاقه بعد ما خلفهم عن نفسه وانابهم مناب قدس ذاته وبعثهم الى جميع خليقته وعموم بريته بالولاية المطلقة والدعوة العامة والهداية الكاملة والإرشاد التام الى وحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته وأيدهم بأنواع الكرامات والارهاصات. والمعجزات الخارقة لمطلق الرسوم والعادات. وبوضع الملل والأديان والشرائع المنسوبة الى كل واحد منهم في زمان بعثته وأوان ظهوره وبروزه في أمته ومع ذلك قد خص المرسلين منهم بانزال الكتب والصحف المشتملة على الأخلاق الحميدة الإلهية وسننه السنية وشيمه العلية وخصاله المرضية الجملية المأمورة لهم من لدن حكيم عليم" واعلم" ان بعض ارباب المشارب والأذواق الصحيحة قدس الله أسرارهم قد وجدوا لبعض الأوصاف والأسماء الإلهية مزيد تربية واختصاص بالنسبة الى بعض من المنقطعين نحو الحق بالكلية بتوفيق من لدنه وجذب من جانبه ولهذا ترى بعض المرشدين المكملين يرشدون بعض ارباب الطلب والارادة المسترشدين منهم في أوائل أوان طلبهم وارادتهم باسماع أمهات الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية وتلاوتها عليهم وقراءتها عندهم على تؤدة وطمأنينة تامة وترتيل كامل ليتفرسوا منهم كمال المناسبة والاختصاص

بالنسبة الى بعض الأسماء وأشعروا منهم زيادة تأثرهم وانفعالهم عنه وقبول الأثر منه وبعد ما قد تفرسوا منهم ذلك بالنسبة الى اسم معين وصفة مخصوصة معينة قد ارشدوهم بها وامروهم بتكرارها وتذكارها الى ان قد أحاط بهم أثرها وتمثل عندهم ذلك الاسم والوصف بهيكل ملك ينزل على قلوبهم ويوحى إليهم من المغيبات اللاهوتية وبعد ما قد أتموا امر هذا الاسم ارشدوهم باسم آخر وهكذا الى ان يستوفوا جميع أمهات الأسماء والأوصاف الإلهية على وجهها وحينئذ تمكن في مقر الخلافة والنيابة والولاية المطلقة وصار ما صار بلا سترة وحجاب فحينئذ امروهم وأجازوا لهم بالإرشاد والتكميل ثم اعلم ان العوالم الكلية التي وقع مجالي لتجليات الحق وشئونه الذاتية ومظاهر وآثارا لأوصافه العلية وأسمائه السنية أجل من ان يحيط بها الآراء. او يضبطها العقول والأهواء. بل لا نهاية تحيطها ولا غاية تحصرها أصلا فمن وصل منها الى ما وصل فقد حصل دونه وصدقه وتحقق عنده ومن لم يصل اليه ولم يذعن به ولم يحصل عنده لا بد له ان لا يبادر الى نفيه وإنكاره بل ان يؤمن به ويذره في فضاء الوجود وسواد شئونه وتطوراته المتواردة عليه الى ما شاء الله وما يعلم جنود ربك الا هو وبالجملة ليس الشعور والاطلاع على شئون الوجود وتجليات الحق ونشآته الذاتية وآثار أسمائه وصفاته الغيبية منحصرا بطرق الإدراكات الرسمية والعلوم العادية بواسطة القوى والآلات الطبيعية والمدارك الحسية او العقلية او الوهمية او الخيالية بل طرق العلوم اللدنية والإدراكات الحضورية والوجدانيات الفطرية والحدسيات الجبلية غير متناهية مثل المعلومات والمدركات الإلهية التي ذكرت بل لكل فرد فرد من افراد الإنسان بل لغيره من الحيوانات العجم بل لسائر المولدات وعموم المركبات من السماويات والأرضيات ومن الممتزجات الكائنة بينهما بل لعموم الذرائر والهباآت المتطايرة في عالم الشهود والفطرات المتتالية في بحر الوجود المترشحة منها على تعاقب الأزمان والعهود طرق اطلاع وشعور شتى وسبل عثور وإدراكات لا تكاد تتناهى كلها منتشئة منشعبة من العقل الكل المنشعب من حضرة العلم المحيط الإلهي وبعد ما ثبت ان العوالم الكلية غير منضبطة وغير متناهية وغير محدودة أصلا وان طرق الشعور والإدراك ايضا كذلك فكيف يسع لاحد ان ينفى ما لم يحط به علما وبالجملة من وصل الى سعة قلب الإنسان المصور بصورة الرّحمن واطلع على فسحة فضاء صدره الذي لا يقدر وسعته بمطلق المقادير أصلا قد انكشف بكثرة مظاهر الحق ومجاليه وعدم تناهيها حسب سعة قلبه وفسحة صدره فحينئذ لا يتأتى منه النفي والإنكار أصلا فلك ان تستحضر وتتذكر ما قال سلطان العارفين وبرهان الواصلين أنال الله براهينه وقدس الله اسراره مشيرا الى سعة قلب الإنسان لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس وقد قال ايضا رأس الموحدين ورئيس المحققين محي الملة والدين قدس الله اسراره ورضى عنه وأرضاه مبالغا لو أن ما لا يتناهى وجوده قدر انتهاء وجوده في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس والحديث القدسي الذي اخبر به سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم مشيرا الى سعة عرشه وفسحة مجلاه بقوله لا يسعني ارضى ولا سمائي بل يسعني قلب عبدي المؤمن يغنيك عن كلا القولين المذكورين وبالجملة القلب الذي قد وسع الحق فيه لا يكتنه وسعته مطلقا ولا يدرك به ولا يحاط بفسحته أصلا ومن وصل اليه وحصل دونه لم يبق له مجال انكار وجدال جعلنا الله ممن وصل اليه وحصل دونه بمنه وجوده ثم اعلم ان مفتاح عموم الأسماء الإلهية والصفات الذاتية والفعلية انما هي صفة الحياة الازلية الابدية للوجود المطلق ومن لوازمها القيومية السرمدية والديمومية المطلقة الحقيقية الحقية والحي الحقيقي لا بد ان يكون واجب الوجود دائم التحقق والثبوت متصفا

بعموم الأوصاف والأسماء الكاملة الشاملة ازلا وابدا وصفة الحياة الحقيقية التي هي ثابتة للوجود المطلق مستتبعة لها مستدعية إياها البتة والقيومية المطلقة والديمومية ازلا وابدا لازمة لها غير منفكة عنها أصلا ليكون حيا قيوما دائما في نفسه قياما لما يترتب على أوصافه وأسمائه من الآثار والاظلال والصور والأمثال" واعلم" ايضا ان للاوصاف والأسماء الذاتية الإلهية الفائتة للحصر والإحصاء والحد والانتهاء آثارا بعضها الاعداد وإعطاء الاستعدادات والقابليات ليستعد البعض ويقبل الكمالات اللائقة الفائضة عليه من البعض الآخر في نشآت ومراتب وبالعكس في نشآت ومراتب اخرى وبالجملة بعض الأوصاف الإلهية والأسماء الذاتية يوجد ويظهر أثرا قابلا لقبول ما يفيضه البعض الآخر من الكمالات اللائقة الوجودية في مرتبة وشأن وهذا الفاعل ايضا قابل بالنسبة الى فاعل آخر في شأن آخر وكذا هذا القابل ايضا فاعل بالنسبة الى قابل آخر في مادة اخرى بل كل القوابل فواعل والفواعل قوابل بحسب الشئون والمواد وهكذا جريان التفاعل والتمازج ازلا وابدا بين مقتضيات الأسماء والأوصاف الذاتية والفعلية الإلهية والصور والآثار المترتبة عليها والشئون والتطورات الطارئة إياها وبالجملة سريان الوحدة الذاتية على عموم الكثرات الاسمائية والصفاتية ازلا وابدا على هذا المنوال بلا انقضاء وزوال فعليك ايها العارف المتفرج اعانك الله على ما يعنيك ان تنصرف أنت في نفسك عن تصرفات مداركك ومشاعرك مطلقا وتنعزل عن مقتضيات قواك وآلاتك جملة وعن لوازم حواسك ومدركاتها رأسا وبالجملة عليك ان تميت نفسك بالموت الإرادي عن مقتضيات الحياة المستعارة الصورية ولوازمها الناسوتية مطلقا حتى تكون أنت بلا أنت وكنت بلا كنت متصفا بالحياة الحقيقية الحقية ولوازمها اللاهوتية ومقتضياتها الروحانية الباقية ازلا وابدا وحينئذ يمكنك التحقق والتمكن والتقرر في مقر الخلافة والنيابة الإلهية بلا تزلزل وتلوين فحينئذ حق لك ان تتفرج في مظاهر الحق ومجاليه التي هي متنزهات اليقين العلمي والعيني والحقي وتتنعم أنت بلا أنت في روضات المكاشفات والمشاهدات الجارية فيها انهار المعارف والحقائق المملوة بمياه العلوم اللدنية والإدراكات الفطرية الفائضة من العقل الكل والنفس الكلية المنشعبتين من حضرتى العلم المحيط الإلهي والقدرة الكاملة الشاملة المنبسطة من القوة القدسية المترشحة من بحر الوجود بمقتضى الجود الإلهي وإياك إياك ان تميل الى مزخرفات الدنيا الدنية ومقتضيات القوى البهيمية ومشتهيات النفس والهوى فإنها تعوقك عن المولى وتضلك عن طريق الرشد والهدى عصمنا الله وعموم اهل الطلب والارادة عن متابعة النفس ومشايعة الهوى بمنه وجوده ثم اعلم ان الأوصاف الكاملة والأسماء العامة الشاملة الإلهية المشتمل عليها الوجود المطلق الإلهي المندرجة في الوحدة الذاتية والهوية الشخصية السارية الحقيقية الحقية تقتضي الظهور والبروز حسب كمالاتها الذاتية الكامنة فيها إذ من لوازم عموم الكمالات الوجودية ومن مقتضياتها الكمالية التحقق والبروز على حسب الكمال الوجودي بمقتضى التجلي الحبى بحسب الجود الإلهي ولا شك ان ظهور الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية بحسب الكمال انما هو بصدور الآثار منها وبترتب الصور والاظلال عليها وحصول العكوس والأمثال من شئونها وتجلياتها في عموم العوالم والمجالى غيبا وشهادة وظهور الآثار والأمثال منها انما هو بتوهم الذوات والموصوفات والمسميات الحاملة إياها ظاهرا فمن ظهور الأوصاف والأسماء الذاتية ظهر الصور والآثار والاظلال الوهمية المستندة الى الذوات المعدومة والموصوفات الموهومة المنعكسة من تلك الأوصاف والأسماء الذاتية الكاملة في أنفسها المقتضية للظهور والبروز المربية لتلك الصور والاظلال والأشباح المرئية في عالم

الشهادة المستحدثة منها فيها فمن ظهور تلك الأوصاف العلية والأسماء السنية على هذا الوجه قد ظهرت مراتب الربوبية والعبودية والخالقية والمخلوقية والإيجاد والموجودية والصانعية والمصنوعية الى غير ذلك من العبارات الدالة على الشئون والكثرات المنتشئة من وحدة الذات فظهر ان مناط عموم التكاليف الإلهية ومنشأ مطلق الأوامر والنواهي وجميع الحكم والاحكام والأخلاق والأطوار الحميدة والخصال المرضية المأمور بها ونقائضها المنهي عنها وسائر المعتقدات الاخروية والطاعات والعبادات الدنيوية التي قد نطقت بجميعها السنة الرسل والكتب الإلهية انما هي واردة منوطة مربوطة على مرتبة العبودية القابلة للاسترشاد والاستكمال المعدة المستعدة للإرشاد والتكميل ليتخلق العباد المربوبون والاظلال المألوهون بأخلاق الحق ويتقربوا اليه ويتمكنوا على مقر الخلافة والنيابة الإلهية التي قد فطروا عليها وجبلوا لأجلها وكلفوا فيها حسب استعدادهم وايضا من ظهور هاتين المرتبتين قد ظهر منازل الجنة والنار ودرجات القرب والوصال ودركات البعد والفراق ولاح شياطين الأوهام والخيالات وانواع الكفر والضلالات وما يترتب عليها من العقارب والحيات وكذا طرق الهداية وسبل السلامة وما يترتب عليها من الغلمان والولدان والحور القاصرات الى غير ذلك من عموم المواعيد والوعيدات وانواع التبشيرات والإنذارات الواردات في الكتب الإلهية والصحف السماوية النازلة من عند الله العليم الحكيم ثم اعلم ان الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية ما هي الا عين الذات لا امور زائدة عليها منفصلة عنها منافية لصرافة وحدتها وإطلاقها الحقيقي وتجردها المعنوي بل ما هي عند التحقيق الا شئون الوجود وتجليات الحق وتطورات بقائه وثبوته وتحققه بحسب الكمال إذ للوجود البحت في كل آن شأن لا مثل شأن سابق ولا مثل شأن لا حق بل يتعاقب عليه الشئون والأطوار متجددة مترتبة ازلا وابدا بلا تكرر وتوارد أصلا فيترتب دائما على شئونه وتطوراته آثار واظلال وتنعكس منها صور وأمثال فيتراءى في سراب العالم ومرايا الاعدام بانبساطها عليها وامتدادها إياها ازلا وابدا هياكل وأمثال وأشباح واشكال لا نهاية لها ولا غاية تحصرها فباعتبار إيجادها الصور والآثار وإظهارها الأشباح والأمثال تسمى اسماء الهية وباعتبار انعكاس الاظلال والصور الكائنة والآثار المرئية المستحدثة منها تسمى اوصافا ذاتية وباعتبار اطلاق الذات وتجردها عن الكل في حد ذاتها وتشعشعها حسب كمالاتها تسمى شئون الوجود وتجليات الحق ولمعات شمس الذات فمن لا حظ كيفية تنزلات الذات الاحدية وهبوطها عن مكمن العماء الذاتي والغيب المطلق ومرتبة البطون الى فضاء البروز ومرتبة الكشف والجلاء وعالم الظهور والانجلاء اثبت له سبحانه حسب المراتب العلمية على سبيل التفصيل العلمي اسماء واوصافا ذاتية هي علل موجبة وارباب موجدة واسباب مظهرة لمسببات عموم المظاهر والمجالى العلوية والسفلية من الصور والآثار والأشباح الكائنة في العوالم الكلية والجزئية الغيبية والشهادية الدنيوية والاخروية والبرزخية والمثالية وغير ذلك من العوالم والمجالى التي قد لمعته عليها بروق الوجود ولاحت دونها شروق شمس الذات الاحدية ومن ترقى من مرتبة العلم الى العين ورفع حجب الصور والأمثال عن البين ومحا وحك نقوش عموم العكوس والاظلال ومطلق الصور والأمثال والهياكل والأشكال المرتكزة المنعكسة في مرايا الاعدام عن دفتر الوجود وجرده عن امتزاج العدم واختلاط النسب والإضافات به وانعكاسه عنه مطلقا فقد رأى الحق وانكشف به وبدا له هو سبحانه بلا كيف واين ووضع وجهة على الوجه الذي بدا وطلع دونه شمس الذات الاحدية من آفاق عموم الذرات المترتبة على الأسماء والصفات

الإلهية فلم يبق عنده وفي بصر بصيرته وعين شهوده نقوش مطلق العكوس والسوى والاظلال والأغيار مطلقا بل ما شاهد وما رأى الا الحق وأوصافه وأسمائه في كل ما شاهد ورأى حسب إطلاقه الذاتي مجردا عن ملابس الكثرات والنسب والإضافات مطلقا بحسب ما زاغ بصره وما طغى حين رأى آيات ربه الكبرى وبالجملة ما كذب فؤاده ايضا في عموم ما علم ورأى إذ ليس وراء الله مريء ومرمى ومن ترقى من مرتبة العين الى الحق فقد هدى الى ما هدى ووصل الى ما وصل وحصل عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وتشرف بشرف اللقيا وتكرم بكرامة قاب قوسين او ادنى وحينئذ قد اوحى اليه الحق ما اوحى فقد طويت دونه سجلات الأوصاف والأسماء واضمحل لديه نشآت الاولى والاخرى وارتفع عن بصر بصيرته ونظر كشفه وشهوده مطلق التعداد والإحصاء ولم يبق دونه لا الآراء ولا الأهواء بل قد تلاشى عنه الاسم والمسمى وقد فنى حينئذ هو وهويته وذاته وماهيته في هوية الحق وذاته مطلقا واضمحلت تعينه في عينه سبحانه وبالجملة قد لاحت عنده وبرزت دونه عماء في عماء مشتملة على صفاء في صفاء بحيث لا يتعاقب فيها لا الظلمة ولا الضياء ولا الصباح ولا المساء ولا اللذة ولا العناء ولا الوجد ولا الفقد ولا الجد ولا الجد ولا الفرح ولا الترح ولا العدد ولا المعدود ولا الحد ولا المحدود ولا الحامد ولا المحمود ولا الشاهد ولا المشهود ولا الحضور ولا الشهود ولا الوجود ولا الموجود ولا الوجدان ولا الفقدان بل هو نور على نور. وحضور في حضور. وسرور غب سرور. بحيث لا يعرضه فترة وفتور. ولا يحوم حوله غفلة وفطور. وفتور وقصور. ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. أدركنا بلطفك يا رحيم يا غفور ثم اعلم ان مطلق الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية التي ما يشعر بها وما يدل عليها وعلى انيتها وثبوتها الا صدور الأفعال المتقنة منها وترتب الآثار المحكمة عليها وانعكاس الصور والأمثال العجيبة عنها ولا شك ان مطلق الآثار والأفعال. وعموم العكوس والاظلال. أعراض سريعة الزوال. مسرعة على الانقضاء والارتحال. بلا قرار ومدار بل ما هي في الحقيقة الا نقوش معدومة. وتمثلات موهومة. وصور مموهة وهياكل مخيلة قد انعكست على مرآة العدم من اسباب الأسماء والصفات الإلهية فيتراءى بصور الموجودات المتأصلة كالصور المرئية في المرايا والأمواج الحادثة على سطح الماء فلكل اسم ووصف من الأوصاف الإلهية والأسماء الذاتية الوجودية له اثر خاص وصورة مخصوصة متعينة في عموم العوالم الكلية والجزئية القابلة للتمثل والانعكاس منها تدل تلك الأثر والصورة على ذلك الاسم والصفة المربية له وتستمد هي منه على الدوام متجددا متبدلا مثل تجدد الاعراض وتبدلها بالأمثال والأشباه هكذا تجليات عموم الأسماء والصفات الذاتية الإلهية ازلا وابدا على هذا المنوال بلا تبدل وانتقال وتغير وزوال وبالجملة الآثار والاظلال الكائنة في عوالم المظاهر والمجالى الإلهية مطلقا كلها اعدام عاطلة وخيالات باطلة واظلال زائغة زائلة لا ثبات لها حقيقة ولا قرار لها حكما ومعنى ومؤثراتها واربابها واسبابها وعللها وموجداتها اسماء شتى وأوصاف لا تحصى وشئون ذاتية لا تتناهى قائمة بذات الحق غير زائدة عليها وغير منفكة عنها ما هي الا عينها وعين شئونها وتجلياتها بحيث لا تغاير بينها وبينها أصلا كما أشرنا اليه فيما مضى. ومن جملة الأوصاف الكاملة الشاملة الإلهية القائمة بذاته سبحانه الكلام الحامل لمطلق الوحى والإلهام الإلهي المؤدى لعموم أوامره ونواهيه الجارية على السنة عموم الشرائع والأديان والملل والمذاهب القاضي المنفذ لمطلق الحكم والاحكام المتداولة بين المظاهر والمجالى الإلهية جملة وكذا لسائر التدبيرات والتصرفات الواقعة في نشآت اللاهوت والناسوت وعالم الملك وعالم الملكوت

وعالم الأمر وعالم الجبروت وهكذا جرى ويجرى حكمه في مطلق العوالم الكلية والجزئية وفي اظهار عموم المرادات والمقدورات ومطلق المعلومات والمدركات المندرجة في الاستعدادات الجبلية والقابليات الفطرية وبالجملة صفة الكلام وسيلة وآلة لعموم الأفعال الصادرة والتصرفات الواردة من الفاعل المطلق والمتصرف المختار بالإرادة والاختيار ولها بالنسبة الى كل عالم من العوالم الكلية ومجلى من المجالى الإلهية اثر خاص ومربوب مخصوص ينعكس منها له مناسبة وملائمة مخصوصة بالنسبة الى ذلك العالم ينسب الى ذلك الأثر المخصوص جميع الأمور المذكورة المفوضة إليها والتصرفات المشار بها آنفا في عالم عالم والأثر المخصوص لصفة الكلام الإلهي في عالم الإنسان المصور على صورة الرّحمن اثر الصوت الحاصل من تقاطعه في مخارج نوع الإنسان جواهر الحروف الحاصلة منها ومن تراكيبها الغير المحصورة هيآت الكلمات الملفوظة ومفردات الألفاظ المنطوقة والأسامي الموضوعة لوحدات المعاني وآحاد المسميات على سبيل التعداد ويحصل ايضا من تراكيب تلك الكلمات وانضمام بعضها الى بعض برقائق الامتزاجات والاختلاطات ودقائق الارتباطات صور الكلام وهيآت الجمل والآيات واسفار السور وصفائح الصحف والكتب وجرائد الآثار والاخبار وعموم القصص والقصائد ومطلق الحكايات والعبر والأمثال المعربة المفصحة عما في ضمائر اولى الأيدي والأبصار المظهرة لما في مكنونات مطلق القابليات ومطاوى عموم الاستعدادات الى فضاء البيان والعيان وبالجملة قد يترتب عليها وينشأ منها ما شاء الله من ارقام الأقلام على صفائح الأكوان وألواح الأعيان والأركان ومن ملتقطات الافهام وموهوبات منطوقات الوحى والإلهام الفائضة من حضرة العليم العلام القدوس السّلام النازلة على قلوب الأمناء العرفاء الظاهرة الصادرة من السنة الأنبياء والرسل الكرام والأولياء الكمل والأصفياء العظام الواصلين الى مرتبة الكشف والشهود والمستغرقين بمطالعة وجه الله الكريم الودود الواردين على الحوض المورود المتمكنين في المقام المحمود الذي هو عبارة عن وجوب الوجود وفضاء الوحدة الذاتية التي هي منبع مطلق الكرم والجود وينبوع بحر الوجود واليه ينتهى كل مأمول ومقصود. ثم لما أراد سبحانه من كمال فضله وجوده ان يرشد عباده الى كعبة ذاته وعرفات أسمائه وصفاته ويهديهم الى فضاء وحدته وكمالاته المترتبة على أسمائه وصفاته وينبه عليهم طريق الهداية والرشاد الموصل الى الفوز بأنواع السعادات السنية والدرجات العلية الجنانية. ويجنبهم عن سبل مطلق الغي والعناد الموصلة الى الدركات الهوية النيرانية. وبالجملة أراد سبحانه ان يوقظهم عن نعاس عالم الناسوت ويرفعهم عن حضيض عالم الحس واغوار اودية الإمكان . الموصل الى دركات النيران. بأنواع الخيبة والحرمان. ويوصلهم الى أوج عالم اللاهوت وسعة فضاء وجوب الوجود وصفاء درجات القرب والشهود أرسل عليهم الأنبياء العظام والرسل الكرام من أبناء جنسهم واشخاص نوعهم وأفاض على قلوبهم ما أفاض من المعارف والحقائق والعلوم اللدنية والمعالم اليقينية والمراسم الدينية الموصلة الى المراتب العلية الوجوبية الوجودية وأيدهم بانزال الوحى والإلهام بسفارة العقل الجزئى المنشعب من العقل الكلى المستفيض من حضرة العلم المحيط الإلهي المفيض لهم انواع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات اللدنية الفائضة المترشحة من بحر الوجود وينبوع الوحدة الذاتية وقد أيدهم ايضا بالنفس الجزئية المتفرعة على النفس الكلية المستفيدة المستفيضة من حضرة القدرة الكاملة الشاملة الإلهية المفيضة عليهم استعدات عموم الأعمال والطاعات وقابليات مطلق الخيرات والعبادات المقربة لهم الى فضاء عالم اللاهوت وحضرة الرحموت المبعدة المخلصة عن كدر مضيق الناسوت وقدر سجن الإمكان وكذا

عن سلاسل الزمان وأغلال المكان وانما أيدهم وشرفهم سبحانه بهاتين الوديعتين البديعتين اللتين إحداهما أب العلم اللدني المنشعب من حضرة العلم المحيط الإلهي وثانيتهما أم العمل المتفرعة على حضرة القدرة الغالبة الشاملة الإلهية ليتولد لهم من امتزاج هاتين البديعتين الغيبيتين اللاهوتيتين جميع الأعمال والأخلاق المرضية والخصال السنية والسجايا الفاضلة المؤدية الى التخلق بالأخلاق المرضية الإلهية والتقرر بمرتبة الخلافة والنيابة المودعة لهم من عنده سبحانه حسب فضله وجوده المترتبة على وجودهم الباعثة عن إيجادهم واظهارهم وفق الحكمة المتقنة البالغة. ثم لما كمل سبحانه ذوات الرسل والأنبياء بما كمل وقررهم في مقر خلافته ونيابته وفق ما أراد وشاء بعثهم سبحانه بالإرادة والاختيار الى من بعثهم من بريته وخليقته ممن صورهم على صورته وأظهرهم على نشأة خلته وفطرة خلافته ونيابته ليدعوهم الى زلال وحدته وسعة رحمته ويرشدوهم الى طريق الهداية والتوحيد ويبعدوهم عن سبل الضلالة والتقليد ويلقنوا عليهم الايمان ويبذروا في قلوبهم بذور اليقين والعرفان. وبالجملة يرغبوهم الى درجات الجنان التي هي عبارة عن فضاء الوجوب وصفاء الوصلة الذاتية ويجنبوهم عن دركات النيران التي هي عبارة عن عالم الكثرة ومضيق الإمكان ومع ذلك قد أيد الرسل منهم صلوات الرّحمن عليهم بمزيد الكرامة والإحسان بانزال الكتب والصحف المبينة لشرائعهم واديانهم الموضوعة بالوضع الإلهي المقتبسة من حضرة الكلام النفسي القديم الإلهي المنصبغة بصبغ الألفاظ والحروف الحاصلة من تقاطع الأصوات على الوجه الذي قد أشرنا اليه لتكون معجزة لهم وذريعة الى قبول دعوتهم وتصديقهم في عموم أقوالهم وأفعالهم وأحكامهم والى تأييد دينهم وشريعتهم وترويج مذهبهم وملتهم ووقاية لها بحفظها عن تطرق مطلق التبدل والتحريف نحوها والانصراف عنها والعمل بمقتضاها ومع ذلك لا يقبلها منهم الا اقل من القليل ثم اعلم ان أفضل من انزل اليه الكتاب. وأكمل من اوتى نحوه الحكمة وفصل الخطاب. انما هو الحضرة الحتمية الخاتمية التي قد طويت دون ظهور دينه وشرعه سجلات عموم الشرائع والأديان واضمحلت عند بعثته مراسم جميع الملل والنحل وغارت وانخفضت وتلاشت بظهوره صلّى الله عليه وسلّم رسوم عموم اصحاب البدع والأهواء. وخمدت نيران جميع اهل الزيغ والآراء. وكيف لا وقد لاحت عند ظهوره صلّى الله عليه وسلّم شمس الذات الاحدية من آفاق عموم الذرات وأشرق نور الحق الحقيق بالحقية على صفائح مطلق الأكوان والأعيان وغار ظلمة الليل الباطل على اغوار الإمكان ومهاوي الاعدام وأضاء صفاء سره وسريرته قلوب عموم الأولياء الأمناء المستخرجين من أمته المقتبسين من مشكاة نبوته ورسالته أنوار مرتبته صلّى الله عليه وسلّم بحيث قد صار علماء أمته وعرفاء شرعه وملته مثل سائر الأنبياء الماضين بكرامة إرشاده وتربيته وبشرف متابعته وصحبته ولهذا ما تفوه احد من الأنبياء والرسل الذين مضوا من قبله صلّى الله عليه وسلّم بالتوحيد الذاتي في دعوته بل كلهم قد مضوا على اظهار توحيد الصفات والأفعال وان كان بطانة دعوة الكل توحيد الذات الا انهم لم يتكلموا به ولم يتفوهوا عنه ولم يصرحوا به انتظارا لظهور مرتبته صلّى الله عليه وسلّم وبروز نشأته وكيف وقد كانت جميع مناقبه وحليته وأوصافه وأطواره صلّى الله عليه وسلّم وكذا ظهور دينه وملته وشرعه وأمته وكتابه ونسخه عموم الكتب والأديان. وبالجملة جميع شمائله وخصاله صلّى الله عليه وسلّم مكتوبة محفوظة في كتبهم وصحفهم ملهمة إياهم من قبل ربهم بزمان وهم كانوا مترقبين ظهوره صلّى الله عليه وسلّم في عموم أوقاتهم. وبعد ما ظهر صلّى الله عليه وسلّم وعلا قدره وانتشر

صيته في اقطار الآفاق وشاع خبره في جميع النواحي والجهات نسخ معالم دينه ومراسم شرعه وملته احكام جميع الملل والشرائع ورسوم عموم الأديان والمذاهب. وبالجملة قد جرى كلمة التوحيد الذاتي بعد بعثته صلّى الله عليه وسلّم على السنة عموم العباد المسترشدين منه صلّى الله عليه وسلّم والمتعطشين بزلال هدايته وإرشاده وكذا من أولاده وأحفاده الائمة الهادين المهديين وأصحابه المهاجرين والأنصار والتابعين الأخيار الأبرار رضوان الله عليهم وعلى من يتبع أثرهم ويقتدى بهم ويتابعهم الى يوم الدين ولهذا قد ختم ببعثة الحضرة الختمية الخاتمية وبنزول كتابه شأن التشريع والتديين ووضع الملل والمذاهب وطريق التوضيح والتبيين وسد باب الإنزال والإرسال وانسد طرق الوحى ونزول الملك بالكتب والصحف وغير ذلك من آيات الإرشاد والتكميل ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم انا أتمم مكارم الأخلاق ونزل في شانه «اليوم أكملت لكم دينكم» الآية وبالجملة بعد ما لاح شمس الذات الاحدية عن المشكاة المحمدية وظهر طريق التوحيد الذاتي المبين بالقرآن العظيم لم يبق لعموم العباد حاجة الى تبيين مبين آخر وهداية هاد سواه وفقنا الله بشرف متابعته وبانقياد دينه وملته واطاعة كتابه وشريعته وحشرنا تحت لوائه ومن زمرته وفي حيطة حوزته بفضله وجوده. ثم اعلم ان القرآن الفرقان المنزل على خير الأنام. المبين لعموم البرايا احكام دين الإسلام. المبنى على التوحيد الذاتي أعظم الكتب الإلهية نفعا وأفضلها شأنا. وأوضحها حجة وبرهانا. وأتمها بيانا وتبيانا. واجمعها حكما واحكاما وأكملها معرفة وإيقانا. وأهداها الى طريق الحق وسبيل الوحدة الذاتية التي هي مناط عموم التكاليف الواردة الموردة في الكتب الإلهية والصحف السماوية الا وهو المنشأ والمبدأ وكذا العلة الغائية والحكمة المتقنة السنية والمصلحة العلية لوضع مطلق الملل والأديان والمذاهب والمشارب. وبالجملة القرآن الفرقان منزل من الحق على الخلق بالحق لتبيين طريق الحق لأهل الحق بحيث لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه وهو المشتمل على شرح كمال الإنسان. المصور بصورة الرّحمن. المستخلف عن الله من بين عموم الأكوان. وهو الجامع لجميع أطواره الحسنة وأخلاقه المستحسنة المقبولة عند الله المرضية دونه سبحانه انما أنزله سبحانه على حبيبه الذي هو اشرف نوع الإنسان وأفضلهم وأكرم الناس على الله وأولاهم لينشرح صدره صلّى الله عليه وسلّم بما ذكر فيه من الأوامر والنواهي والحكم والاحكام والمعارف والحقائق والرموز والإشارات والعبر والأمثال والحكايات الموردة فيه المتعلقة بعضها باصحاب الزيغ والضلال. المنحرفين عن جادة الاستقامة والاعتدال. وبعضها بأرباب القرب والوصال. المنخرطين في سلسلة الوجود. المتشبثين بحبل الله الممدود. من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات بلا التفات لهم الى لوازم ناسوتهم أصلا وبعد ما انشرح صدره صلى الله عليه وسلّم قد وسع الحق فيه ونزل سلطان الوحدة على قلبه فقد فنى في الله وبقي ببقائه واضمحل ناسوته الباطل في لاهوت الحق فحينئذ قد حق الحق الحقيق بالتحقق والثبوت وبطل الباطل الزاهق الزائل فتخلق صلّى الله عليه وسلّم بأخلاق الحق مطلقا. وبعد ما صار صلّى الله عليه وسلم ما صار امر بتبليغ القرآن الفرقان الى عموم عباد الله المنجذبين نحو الحق المجبولين على فطرة الخلافة والنيابة ليقتدوا به وبما فيه كي يهتدوا الى زلال وحدته سبحانه ويتخلقوا بأخلاقه ليتمكنوا على مقر الخلافة والنيابة وعلى صراط العدالة الإلهية التي هم جبلوا لأجلها. وبالجملة من أراد ان يصل الى مرتبة الإنسان المخلوق على صورة الرّحمن فعليه ان يتخلق بأخلاق القرآن ويمتثل بأوامره ويجتنب عن نواهيه ويحافظ على حدوده وأحكامه ايمانا واحتسابا مستبصرا يقظانا حتى يستشعر من سرائر

الجزء الأول

حكمه واسرار أحكامه. وبالجملة من استشعر بحكم القرآن واعتبر من عبره فقد استهدى منها الى معارفه وحقائقه ورموزه وإشاراته ومكاشفاته ومشاهداته التي ما نزل عموم ما نزل من عند الله الا لأجلها. وبالجملة من تشبث بالقرآن وامتثل بما فيه من الحكم والاحكام وتخلق بأخلاقه واتصف بآدابه فقد تحقق بمرتبة الإنسان الكامل الذي هو مرآة الحق يتراءى منه عموم أوصافه وأسمائه الذاتية جعلنا الله من زمرة من امتثل بأوامر القرآن واجتنب عن نواهيه واعتبر من عبره وأمثاله وتخلق بما فيه من أخلاقه المأمورة بها لخلص عباد الله ومن جملة من أطاع الله ورسوله واستن بسننه السنية وآدابه الرضية المرضية بمنه وجوده فها أنا اشرع فيما اقصد وافتتح ما أريد والله الموفق والملهم للخير والصواب وعنده أم الكتاب. [سورة الفاتحة] فاتحة سورة الفاتحة «1» [الآيات] لا يخفى على من أيقظه الله تعالى من منام الغفلة ونعاس النسيان ان العوالم وما فيها انما هي من آثار الأوصاف الإلهية المترتبة على الأسماء الذاتية إذ للذات في كل مرتبة من مراتب الوجود اسم خاص وصفة مخصوصة لها اثر مخصوص هكذا بالنسبة الى جميع مراتب الوجود ولو حبة وذرة وطرفة وخطرة والمرتبة المعبر عنها بالأحدية الغير العددية والعمآء الذي لاحظ لأولى البصائر والنهى منها الا الحسرة والحيرة والوله والهيمان وهي غاية معارج عروج الأنبياء ونهاية مراتب سلوك الأولياء فهم بعد ذلك يسيرون فيه لا به واليه الى ان يستغرقوا فيتحيروا الى ان يفنوا لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه ثم لما أراد سبحانه ارشاد عباده الى تلك المرتبة ليتقربوا إليها ويتوجهوا نحوها حتى ينتهى توجههم وتقربهم الى العشق والمحبة الحقيقية الحقية المؤدية الى إسقاط الاضافة المشعرة للكثرة والاثنينية وبعد ذلك خلص نيتهم وصح طلبهم للفناء فيه نبه سبحانه الى طريقه إرشادا لهم وتعليما في ضمن الدعاء له والمناجاة معه متدرجا من نهاية الكثرة الى كمال الوحدة المفنية لها متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المعبر به عن الذات الاحدية باعتبار تنزلها عن تلك المرتبة العمائية إذ لا يمكن التعبير عنها باعتبار

_ (1) اعلم ان كل امر من الأمور التي يبين بها شيء من الأشياء او يوضح بها حكم من الاحكام او ينسب إليها بداية لا بد وان يكون له فاتحة خاصة له حافظة لمرتبة بدايته وأوليته وخاتمة مخصوصة إياه حافظة لمرتبة نهايته وآخريته وامر ثالث بينهما يكون مرجع الحكمين ومآل الطرفين اليه يجمعهما ويتعين بهما ويتبين منهما ولا شك ان كل سورة من سور القرآن بل كل كتاب وصحف سماوية واسفار الهية نازلة على الأنبياء العظام والرسل الكرام صلوات الله عليهم ما نزلت ووردت حقيقة ومعنى من عنده سبحانه الا ليبين ويوضح به سبحانه لخلص عباده ظهور وحدته الذاتية وهويته الشخصية السارية في عموم الكوائن والفواسد غيبا وشهادة ظاهرا وباطنا الظاهرة في الأنفس والآفاق وفي جميع الأقطار والجهات بكمال الاستقلال والاستحقاق بلا شركة وكثرة أصلا وينبهها عليهم من كل منها بطريق مخصوص وطرز معين إذ زبدة عموم الكتب والصحف الإلهية ما هي الا هذا البيان والتبيان الا وهو العلة الغائية المترتبة على مطلق الإرسال والإنزال حقيقة وكذا على عموم مراتب الولاية المطلقة والنبوة والرسالة بل على بروز عموم الملل والنحل وجميع الأديان والمذاهب ومطلق الشرائع والاحكام الجارية على السنة الرسل الكرام والأنبياء الأمناء العظام عليهم التحية والسّلام فلا بد ان يكون لكل سورة من سور القرآن فاتحة مخصوصة وخاتمة معينة لتكون كل منها ممتازة عن صاحبتها إذ كل سورة من السور القرآنية انما هي رسالة مخصوصة مفرزة مستقلة وسفر مخصوص معين لبيان هذه المصلحة العلية المذكورة آنفا لذلك ما صدرنا كل سورة منها الا بفاتحة خاصة لها وما ختمناها ايضا الا بخاتمة معينة مخصوصة إياها مناسبة كل منهما لما فيها من الحكم والمصالح بتوفيق الله وتيسيره تأمل تفز بسرائرها والعلم عند الله والعالم هو الله هو يرشد نحوه وهو يهدى اليه وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب

[سورة الفاتحة (1) : آية 2]

تلك المرتبة أصلا وباعتبار شمولها واحاطتها جميع الأسماء والصفات الإلهية المستندة إليها المظاهر كلها المعبر عنها عند ارباب المكاشفة بالأعيان الثابتة وفي لسان الشرع باللوح المحفوظ والكتاب المبين" الرَّحْمنِ". المعبر به عن الذات الاحدية باعتبار تجلياتها على صفحات الأكوان وتطوراتها في ملابس الوجوب والإمكان وتنزلاتها عن المرتبة الاحدية الى المراتب العددية وتعيناتها بالتشخصات العلمية والعينية وانصباغها بالصبغ الكيانية والكونية الرَّحِيمِ المعبر به عن الذات الاحدية باعتبار توحيدها بعد تكثيرها وجمعها بعد تفريقها وطيها بعد نشرها ورفعها بعد خفضها وتجريدها بعد تقييدها الْحَمْدُ والثناء الشامل لجميع الاثنية والمحامد الصادرة عن السنة ذرائر الكائنات المتوجهة نحو مبدعها طوعا المعترفة بشكر منعمها حالا ومقالا ازلا وابدا ثابتة مختصة لِلَّهِ اى للذات المستجمع لجميع الأسماء والصفات المظهرة المربية للعوالم وما فيها بأسرها رَبِّ الْعالَمِينَ ولولا تربيته إياها وإمداده لها طرفة لفنى العالم دفعة الرَّحْمنِ المبدأ المبدع لها في النشأة الاولى بامتداد اظلال أسمائه الحسنى وصفاته العليا على مرآة العدم المنعكس منها العالم كله وجزؤه شهادته وغيبه أولاه وأخراه بلا تفاوت الرَّحِيمِ المعيد للكل في النشأة الاخرى بطى سماء الأسماء وارض الطبيعة السفلى الى ما منه الابتداء واليه الانتهاء مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ والجزاء المسمى في الشرع بيوم القيامة والطامة الكبرى المندكة فيها الأرض والسماء المطوية عند قيامها سجلات الاولى والاخرى إذ فيها ارتجت الآراء والأفكار وارتفعت الحجب والأستار واضمحلت اعيان السوى والأغيار ولم يبق الا الله الواحد القهار ثم لما تحقق العبد وتمكن في هذا المقام ووصل الى هذا المرام وفوض أموره كلها الى الملك العلام القدوس السّلام حق له ان يلازم ربه ويخاطب معه بلا ستر ولا حجاب تتميما لمرتبة العبودية الى ان يرتفع كاف الخطاب عن البين وينكشف الغين عن العين وعند ذلك قال لسان مقاله مطابقا بلسان حاله إِيَّاكَ لا الى غيرك إذ لا غير في الوجود معك نَعْبُدُ نتوجه ونسئلك على وجه التذلل والخضوع إذ لا معبود لنا سواك ولا مقصد الا إياك وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اى ما نطلب الإعانة والأقدار على العبادة لك الا منك إذ لا مرجع لنا غيرك اهْدِنَا بلطفك الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الذي يوصلنا الى ذروة توحيدك صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ من المترددين الشاكين المنصرفين بمتابعة العقل المشوب بالوهم عن الطريق المستبين وَلَا الضَّالِّينَ بتغريرات الدنيا الدنية وتسويلات الشياطين عن منهج الحق ومحجة اليقين آمِّينَ اجابة منك يا ارحم الراحمين خاتمة سورة الفاتحة عليك ايها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات يسر الله أمرك وبلغك املك ان تتأمل في الأبحر السبعة المشتملة عليها هذه السبع المثاني من القرآن العظيم المتفرعة على الصفات السبع الذاتية الإلهية الموافقة للسماوات السبع والكواكب السبعة الكونية وتتدبر فيها حق التدبر وتتصف بما رمز فيها من الأخلاق المرضية حتى تتخلص من الأودية السبعة الجهنمية المانعة من الوصول الى جنة الذات المستهلكة عندها جميع الإضافات والكثرات ولا يتيسر لك هذا التأمل والتدبر الا بعد تصفية ظاهرك بالشرائع النبوية والنواميس المصطفوية المستنبطة من الكلم القرآنية وباطنك بعزائمه وأخلاقه صلى الله عليه وسلّم المقتبسة من حكمها المودعة فيها فيكون القرآن الجامع لهما خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم

سورة البقرة

ظاهرا وباطنا الموروث له من ربه المستخلف له فالقرآن خلق الله المنزل على نبيه من تخلق به فاز بما فاز. لذلك قال النبي صلّى الله عليه وسلّم تخلقوا بأخلاق الله التي هي القرآن والفاتحة منتخبة من جميع القرآن على ابلغ وجه وأوضح بيان من تأمل فيها نال بما نال من جميع القرآن لذلك فرض قراءتها عند الميل والتوجه الى الذات الاحدية المعبر عنه بلسان الشرع بالصلوة التي هي معراج اهل الايمان كما قال صلّى الله عليه وسلّم الصلاة معراج المؤمن وقال ايضا لا صلاة الا بفاتحة الكتاب فعليك ايها المصلى المتوجه الى الكعبة الحقيقية الحقية والقبلة الاصلية الاحدية الصمدية ان تواظب على الصلوات المفروضة المقربة إليها وتلازم الحكم والأسرار المودعة في تشريعها بحيث إذا أردت الميل الى جنابه والتوجه نحو بابه لا بد لك أولا من التوضى والتطهر من الخبائث الظاهرة والباطنة كلها والتخلي عن اللذات والشهوات برمتها بحيث يتيسر لك التحريمة بلا وسوسة شياطين الأهواء المضلة فإذا قلت مكبرا لله محرما على نفسك جميع حظوظك من دنياك (الله اكبر) لا بد لك ان تلاحظ معناه بانه الذات الأعظم الأكبر في ذاته لا بالنسبة الى الغير إذ لا غير معه وافعل هذا للصفة لا للتفضيل وتجعلها نصب عينك وعين مطلبك ومقصدك وإذا قلت متيمنا متبركا بسم الله انبعثت رغبتك نحوه ومحبتك اليه وإذا قلت الرّحمن استنشقت من النفس الرحمانى ما يعينك على الترقي نحو جنابه وإذا قلت الرّحيم استروحت من نفحات لطفه ونسمات رحمته وجئت بمقام الاستيناس معه سبحانه بتعديد نعمه على نفسك وإذا قلت مثنيا عليه شاكرا لنعمه الحمد لله توسلت بشكر نعمه اليه وإذا قلت رب العالمين تحققت بمقام التوحيد وانكشفت باحاطته وشموله سبحانه وتربيته على عموم الأكوان وإذا قلت الرّحمن رجوت من سعة رحمته وعموم اشفاقه ومرحمته وإذا قلت الرّحيم نجوت من العذاب الأليم الذي هو الالتفات الى غير الحق ووصلت اليه بعد ما فصلت عنه بل اتصلت وإذا قلت مالك يوم الدين قطعت سلسلة الأسباب مطلقا وتحققت بمقام الكشف والشهود فحينئذ ظهر لك ولاح عليك ما ظهر فلك ان تقول في تلك الحالة بلسان الجمع إياك نعبد بك مخاطبين لك وإياك نستعين بإعانتك مستعينين منك وإذا قلت اهدنا الصراط المستقيم تمكنت بمقام العبودية وإذا قلت صراط الذين أنعمت عليهم تحققت بمقام الجمع وإذا قلت غير المغضوب عليهم استوحشت عن سطوة سلطة صفاته الجلالية وإذا قلت ولا الضالين خفت من الرجوع بعد الوصول فإذا قلت مستجيبا راجيا آمين أمنت من الشيطان الرجيم فلك ان تصلى على الوجه الذي تلى حتى تكون لك صلاتك معراجا الى ذروة الذات الاحدية ومرقاة الى السماء السرمدية ومفتاحا للخزائن الازلية والابدية وذلك لا يتيسر الا بعد الموت الإرادي عن مقتضيات الأوصاف البشرية والتخلق بالأخلاق المرضية والخصائل السنية الإلهية ولا يحصل لك هذا عند الميل الا بالعزلة والفرار عن الناس المنهمكين في الغفلة والانقطاع عنهم وعن رسومهم وعاداتهم بالمرة والا فالطبيعة سارقة والأمراض سارية والنفوس آمرة بالهوى مائلة عن المولى عصمنا الله من شرورها وخلصنا من غرورها بمنه وجوده [سورة البقرة] فاتحة سورة البقرة لا يخفى على السالكين المتدرجين في مسالك التحقيق المتعطشين بزلال التوحيد ان الطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق إذ ما من ذرة من ذرائر العالم الا وله طريق منها وأقوم الطرق وأحسنها وأوضح السبل وأبينها هو الذي اختاره الله سبحانه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ولورثته من الأولياء زاد الله فتوحهم في كتابه

الآيات

المسور بالسور المفصلة بالآيات المنقسمة بالمحكمات والمتشابهات المشتملة كل سورة منها على احكام الشريعة وآداب الطريقة واسرار الحقيقة فلا بد للخصائص في لجج بحار القرآن. والغائص فيها لاستخراج فرائد اليقين والعرفان. ان يتأمل في كل سورة منها على وجه ينكشف له ما فيه من الأسرار بقدر استعداده وقابليته والا فغوره بعيد وقعره عميق منها سورة البقرة المشتملة اوائلها على الاحكام الشرعية المهذبة للظاهر عن الرذائل الردية والخصال الغير المرضية وأواسطها على آداب الطريقة من الشيم الجميلة والأخلاق الحميدة المصفية للباطن عن الكدورات البشرية وأواخرها على التوحيد الصرف الذاتي الخالص عن شوب الكثرة وشين الثنوية قطعا وانما خصص صلّى الله عليه وسلّم بأواخر هذه السورة لأنه صلّى الله عليه وسلّم هو المظهر للتوحيد الذاتي بخلاف الأنبياء السالفة صلوات الله عليهم فإنهم لم يظهروه لذلك ختم ببعثته صلّى الله عليه وسلّم امر النبوة والرسالة وانسد طريق الوحى والإنزال ثم لما أراد سبحانه ارشاد عباده الى سبيل الهداية وابعادهم عن طريق الضلال انزل عليهم هذه السورة الجامعة لهما فقال متيمنا متبركا على وجه التعليم مخاطبا لنبيه المبعوث على الخلق العظيم بِسْمِ اللَّهِ المتوحد المتفرد المستغنى بذاته عن جميع الأكوان المتلبس بواسطة أسمائه وصفاته ملابس الحدوث والإمكان الرَّحْمنِ لعباده الذين هم مظاهر أسمائه وصفاته برش نوره عليهم ومد ظله إليهم في معاشهم الرَّحِيمِ لهم في معادهم ينجيهم عن ظلمة الإمكان المعبر عنها بلسان الشرع بالسعير والجحيم ويهديهم الى روضة الرضى وجنة التسليم [الآيات] الم ايها الإنسان الكامل اللائق لخلافتنا الملازم لاستكشاف اسرار ربوبيتنا وكيفية سريان هويتنا الذاتية السارية على صفحات المكونات المداوم للاستفادة والاستنباط من حضرة علمنا المحيط المنتزع عنها والمأخوذ منها ذلِكَ الْكِتابُ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه البعيدة درجة كماله عن افهام البشر الجامع لجميع مراتب الأسماء والصفات في عالم الغيب والشهادة المنزل على مرتبتك الجامعة لجميع مراتب الكائنات من الأزل الى الأبد بحيث لا يشذ عنها مرتبة أصلا لا رَيْبَ فِيهِ بانه منزل من عندنا لفظا ومعنى اما لفظا فلعجز جماهير البلغاء ومشاهير الفصحاء عن معارضة اقصر آية منه مع وفور دواعيهم واما معنى فلاشتماله على جميع احوال الحقائق العينية والأسرار الغيبية مما كان وسيكون في النشأتين ولا يتيسر الاطلاع عليها والإتيان بها على هذا النمط البديع الا لمن هو علام الغيوب وانما أنزلناه إليك ايها اللائق لأمر الرسالة والنيابة لتهتدى به أنت الى بحر الحقيقة وتهدى به ايضا من تبعك من التابعين في بيداء الضلالة. إذ فيه هُدىً عظيم لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يحفظون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه نفوسهم عن خبائث المعاصي المانعة عن الطهارة الحقيقية ومن الوصول الى المرتبة الاصلية التي هي الوحدة الذاتية والذين يُؤْمِنُونَ يوقنون ويذعنون باسراره ومعارفه بِالْغَيْبِ اى غيب الهوية الوحدانية التي هي ينبوع بحر الحقيقة وإليها منتهى الكل وبعد ذلك يتوجهون بمقتضيات أحكامها نحوها ويهتدون إليها بسببها وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ اى يديمون الميل بجميع الأعضاء والجوارح على وجه الخضوع والتذلل الى جنابه إذ هو المقصد للكل اجمالا وتفصيلا ولكل عضو وجارحة تذلل خاص وله طريق مخصوص يناسبه يرشدك الى تفاصيل الطرق فعله صلّى الله عليه وسلّم في صلاته على الوجه الذي وصل إلينا من الرواة المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين وَلما تنبهوا له بمتابعته ومالوا نحو جنابه سبحانه بالميل الحقيقي بالكلية لم يبق لهم ميل الى ما سواه من المزخرفات الفانية بل الى أنفسهم ايضا لذلك مِمَّا رَزَقْناهُمْ وسقنا إليهم ليكون مبقيا لحياتهم ومقوما لمزاجهم يُنْفِقُونَ في سبيلنا طلبا لمرضاتنا وهربا عما يشغلهم عنا فكيف

[سورة البقرة (2) : آية 4]

انفاق الفواضل منه وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ينقادون ويمتثلون بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الكتاب الجامع اسرار جميع ما انزل من الكتب السالفة على الوجه الأحسن الأبلغ ومن السنن والأخلاق الملهمة إليك وَمع ذلك يعتقدون صريحا ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين وَمع الايمان بجميع الكتب المنزلة وان كان كل كتاب متضمنا للايمان بالنشأة الآخرة بل هو المقصد الأقصى من جميعها بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أفردها بالذكر اهتماما بشأنها لكثرة المرتابين فيها وبالجملة أُولئِكَ المؤمنون المعتقدون بجميع الكتب المنزلة على الرسل والموقنون المذعنون بالنشأة الآخرة خاصة عَلى هُدىً عظيم مِنْ رَبِّهِمْ الذي رباهم بأنواع اللطف والكرم الى ان يبلغوا الى هذه المرتبة التي هي الاهتداء الى جناب قدسه وَمع ذلك الجزاء العظيم والنفع الجسيم أُولئِكَ السعداء المقبولون هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون الى فضاء الوجوب الناجون عن مضائق الإمكان رزقنا الله النجاة عنه والوصول اليه ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية في كتابه هذا من تعقيب الوعد بالوعيد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اى ستروا الحق واعرضوا عنه وأظهروا الباطل وأصروا عليه عنادا واستكبارا لا ينفعهم إنذارك يا أكمل الرسل وعدمه بل سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بك وبكتابك لأنهم قد خَتَمَ اللَّهُ المحيط بذواتهم واوصافهم وأفعالهم عَلى قُلُوبِهِمْ كيلا يكونوا من ارباب المكاشفة وَعَلى سَمْعِهِمْ كيلا يصيروا من اصحاب المجاهدة وَعَلى أَبْصارِهِمْ كيلا يكونوا من ارباب المشاهدة غِشاوَةٌ ستر عظيم وغطاء كثيف لا يمكنك رفعها بل وَلَهُمْ فيها عَذابٌ عَظِيمٌ هو عذاب الطرد والبعد عن ساحة عز الحضور في مقعد الصدق ولا عذاب أعظم منه وبالجملة أولئك الأشقياء المردودون هم الضالون في تيه الحرمان الباقون في ظلمة الإمكان بأنواع الخيبة والخذلان أعاذنا الله من ذلك وَمِنَ النَّاسِ الذين نسوا العهود السابقة التي عهدوها مع الله في مبدأ الفطرة مَنْ يَقُولُ قولا لا يوافق اعتقادهم وهو انهم يقولون تزويرا وتلبيسا آمَنَّا واذعنا بِاللَّهِ الذي انزل علينا الكتاب والرسول وَقد أيقنا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الموعود به لجزاء الأعمال وَالحال انه ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ موقنين بهما في بواطنهم بل ما غرضهم من هذا التلبيس والتزوير الا انهم يظنون انهم يُخادِعُونَ اللَّهَ المحيط بجميع أحوالهم وأفعالهم مخادعتهم مع آحاد الناس تعالى عن ذلك وَايضا يخادعون الموحدين الَّذِينَ آمَنُوا باحاطة الله بتوفيقه والهامه وانما خادعوا بما خادعوا وقالوا ما قالوا حفظا لدمائهم وأموالهم منهم وَهم لم يعلموا انهم ما يَخْدَعُونَ بهذا الخداع إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لان الله سبحانه ومن هو في حمايته من المؤمنين أجل وأعلى من ان ينخدعوا منهم فثبت انهم ما يخدعون بهذا الخداع الا أنفسهم وَما يَشْعُرُونَ بخداعهم وانخداعهم لأنه كان فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ اى غشاوة وغطاء مختوم على قلوبهم لا ينكشف الا بكتاب الله المنزل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولما لم يؤمنوا به ولم يلتفتوا اليه عن ظهر القلب بل كذبوا رسوله المنزل عليه كتابه فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً غشاوة وغطاء لأجل ذلك احكاما لختمه وتأكيدا لحكمه وَلَهُمْ مع ذلك في يوم الجزاء عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم وهو ابعادهم وطردهم عن ساحة عز الحضور كل ذلك جزاء بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم تغريرا وخداعا وَمع ظهور حالهم وخداعهم عند الله وعند المؤمنين إِذا قِيلَ لَهُمْ امحاضا للنصح لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتكذيب كتاب الله ورسوله المنزل عليه حتى لا تخرجوا من مرتبة الخلافة لان خلافة

[سورة البقرة (2) : آية 12]

البشر انما هي بالتوحيد وإسقاط الإضافات والتوحيد انما يحصل بالإيمان بالله وكتابه وبرسوله قالُوا في الجواب على وجه الحصر والقصر إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ لا نتجاوز عن الصلاح أصلا وما قالوا ذلك ايضا الا تتميما وتأكيدا لخداعهم الفاسد الكاسد وترويجا له على المؤمنين تغريرا وتلبيسا أَلا تنبهوا ايها المؤمنون الموقنون بكتاب الله المصدقون لرسوله إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ المقصورون على الفساد لا يرجى منهم الصلاح والفلاح أصلا لكونهم مجبولون على الغواية الفطرية والفساد الجبلي وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ بمشاعرهم لغشاوة قلوبهم وأبصارهم واسماعهم وَمن شدة قسوتهم ونهاية غفلتهم وسكرتهم إِذا قِيلَ لَهُمْ تلطفا ورفقا من جانب نبينا صلّى الله عليه وسلّم او من جانب أصحابه الكرام آمِنُوا بالله وبكتابه ورسوله كَما آمَنَ النَّاسُ الذين نسوا مزخرفات آبائهم بالإيمان بالله وبكتابه ورسوله وفازوا في الدارين فوزا عظيما بسبب ايمانهم وعرفانهم قالُوا في الجواب توبيخا وتقريعا أَنُؤْمِنُ ونصدق بهذا الرجل الحقير الساقط عن أعيننا وبهذه الأساطير الكاذبة ونترك دين آبائنا وأسلافنا كَما آمَنَ السُّفَهاءُ منا التاركون دين آبائهم بتغرير هذا المدعى المفترى أَلا تنبه ايها المبعوث لإهداء المضلين المجبولين على فطرة الهداية إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ المجبولون المقصورون على الغواية في بدأ الفطرة لا يمكنك هدايتهم أصلا لعدم قابليتهم واستعدادهم للايمان وَان ظنوا في زعمهم الفاسد بأنهم من العقلاء لكِنْ لا يَعْلَمُونَ ولا يعقلون أصلا لتركب جهلهم في جبلتهم فيسلب قابليتهم الفطرية وَمن امارات نفاق هؤلاء الضالين المخادعين انهم إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وكتابه ورسوله قالُوا على طريق الاخبار عن الأمور المحققة ترويجا وتغريرا على المؤمنين آمَنَّا بالجملة الفعلية الماضوية بلا مبالغة وتأكيد لحكمهم وجزمهم بسفاهة المؤمنين واعتقادهم بان السفيه يقبل الاخبار بلا تأكيد لعدم تفطنه على انكار المتكلم فنزلوهم وان كان من حقهم الإنكار حقيقة منزلة خالي الذهن لسفاهتهم وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ اى بقوا خالين مع أصحابهم المستمرين على الكفر المجاهرين به بلا خداع ونفاق كالشيطان المصر على الضلال المستمر على الإضلال قالُوا على وجه المبالغة والتأكيد قلعا لما اعتقدوا من ظاهر حالهم ومقالهم موافقتهم مع المؤمنين سرا وجهرا وتحقيقا لمواخاتهم معهم حقيقة إِنَّا وان كنا في الظاهر مداهنون مع أولئك الحمقاء الجاهلين لمصلحة دنيوية متفقون مَعَكُمْ لفائدة دينية وقد أتوا بالجملة الاسمية المصدرة بان تحقيقا واهتماما واعلموا ان قولنا آمنا استهزاء منا إياهم لا تصديق لمدعاهم وبالجملة ما نحن مؤمنون لهم بمجرد هذا القول المزخرف بل إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ مستخفون بهم تجهيلا وتسفيها وتغريرا لهم بمجرد القول الكاذب الغير المطابق للاعتقاد والواقع وبالجملة هم من غاية انهماكهم في الغي والضلال مغرورون جازمون بأنهم مستهزؤن بل ما هم في الحقيقة الا مستهزؤن إذ اللَّهُ المحيط بجميع مخايلهم الباطلة وافكارهم الفاسدة يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ في كل لحظة وطرفة آنا فآنا وَلم يشعرهم باستهزائه إياهم بل يَمُدُّهُمْ يمهلهم ويسوقهم فِي طُغْيانِهِمْ المتجاوز عن الحد في الضلالة بتلبيس الأمر على الله وعلى المؤمنين يَعْمَهُونَ يترددون اقداما واحجاما وبالجملة أُولئِكَ البعداء الضالون عن طريق الهداية هم الَّذِينَ اشْتَرَوُا اى استبدلوا واختاروا الضَّلالَةَ المتقررة في نفوسهم بتقليد آبائهم بِالْهُدى المتفرع على الايمان بالله وبرسوله فَما رَبِحَتْ بهذا الاختيار والاستبدال تِجارَتُهُمْ اى ما يتجرون به وَما كانُوا مُهْتَدِينَ رابحين هادين بسبب هذا الاستبدال بل

[سورة البقرة (2) : آية 17]

خاسرين ضالين به او المعنى فما يثمر تجارتهم اى اتجارهم هذا الربح والهداية وما كانوا مهتدين بهذا الاتجار مَثَلُهُمْ اى شانهم وحالهم بهذا الاستبدال والاتجار في يوم الجزاء كَمَثَلِ اى كحال الشخص الَّذِي طلب شيأ في الظلمة وترقبه ولم يهتد اليه ولذلك اسْتَوْقَدَ ناراً ليستضيء بها للفوز بمبتغاه فَلَمَّا استوقد وأَضاءَتْ النار ما حَوْلَهُ اى حول المستوقد وترقب حينئذ وجدان مطلوبه ذهب ضوءها وسكن لهبها فضل عن مطلوبه وخسر خسرانا عظيما كما قال سبحانه ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ اى اطفأ الله شعل نيران المنافقين وأنوار سرجهم التي هي كفرهم ونفاقهم على زعمهم الفاسد وأفسد اضاءتها لهم في يوم الجزاء حين ترقبهم بوجدان مطالبهم بحيث لم يهتدوا بها بل قد عذبهم الله بسببها وَتَرَكَهُمْ لأجلها فِي ظُلُماتٍ ظلمة الضلالة المتقررة الراسخة في نفوسهم بتقليد آبائهم المنتجة للكفر والنفاق وظلمة فقدان المطلوب المترتب عليها في زعمهم مع ترقبهم والظلمة العارضة لهم بعد استضاءتهم وبسبب هذه الظلمات المتراكمة لا يُبْصِرُونَ سبيل الهداية ولا يرجى نجاتهم في عذاب الله بل قد صاروا مخلدين فيه ابدا وكيف لا يخلدون وهم في أنفسهم حين دعوة الرسل إياهم صُمٌّ لعدم اصغائهم لقول الحق على السنة الرسل صلوات الله عليهم بُكْمٌ لعدم قولهم بالإيمان المقارن بالتصديق عُمْيٌ لعدم التفاتهم الى الدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة مع قابليتهم الفطرية واستعدادهم الجبلي فَهُمْ في هذه الحالة لا يَرْجِعُونَ اى لا يطمعون الرجوع الى الهداية بتذكرهم الإفراط والتفريط الذي قد صدر عنهم في النشأة الاولى المستتبع لهذا العذاب أَوْ كَصَيِّبٍ اى مثلهم في هذا الاستبدال والا تجار كسحاب نازل مِنَ جانب السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ متوالية متتالية بعضها فوق بعض شدة وضعفا بحسب تخلخل السحب وتكاثفها وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ مستحدث من الابخرة والادخنة المحتبسة فيه متى أبصرها الناس وسمعوا أصوات بروقه ورعوده يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ اى انا ملها فِي آذانِهِمْ خوفا مِنَ الصَّواعِقِ النازلة منها المهلكة غالبا لمن أصيب بها وانما يجعلون ويفعلون ذلك كذلك حَذَرَ الْمَوْتِ اى حذر ان يموتوا من اصابتها يعنى انهم لما شبهوا في نفوسهم دين الإسلام بالصيب المذكور في ابتداء ظهوره من غير ترقب واشتماله في زعمهم على ظلمات التكاليف المتفاوتة المتنوعة ورعود الوعيدات الهائلة وبروق الاحكام الخاطفة وجب عليهم الاحتراز عن غوائله بمقتضى أحلامهم السخيفة لذلك مالوا عنه واعرضوا وانصرفوا مرعوبين فجعلوا أصابع أحلامهم وعقولهم في آذان قبولهم خوفا من الصواعق النازلة المصيبة المفنية ذواتهم في ذات الله حذر الموت الإرادي وهم بسبب هذا الميل والاعراض يعتقدون بل يظنون انهم قد خلصوا عن الفناء في ذاته وَلم يعلموا انهم هم المستهلكون فيها المقصورون على الاضمحلال والهلاك إذ اللَّهُ المتجلى في ذاته لذاته مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ الساترين بذواتهم الباطلة حسب زعمهم الفاسد ذات الله سبحانه غافلين عن شروق تجلياته الجمالية والجلالية عليهم وعلى غيرهم دائما وكيف يغفلون عنها أولئك الغافلون الجاهلون مع انها يَكادُ ويقرب الْبَرْقُ اى برق التجلي اللطفى من غاية قربه يَخْطَفُ ويعمى أَبْصارَهُمْ التي يرون بها أنفسهم ذوات متأصلات في الوجود بل كُلَّما أَضاءَ وأشرق لَهُمْ التجلي اللطفى وأمد عليهم بحسب البسط والجمال مَشَوْا وساروا فِيهِ باقين ببقائه وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ وقبض ظله عنهم بمقتضى التجلي القهرى حسب القبض والجلال قامُوا سكنوا وبقوا على ما هم عليه من العدم وَبالجملة لَوْ شاءَ اللَّهُ المنتقم الغيور

[سورة البقرة (2) : آية 21]

المتجلى عليهم بالقهر دائما لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وبعموم تعيناتهم التي ظنوا أنفسهم بسببها انهم موجودات حقيقية وصيرهم فانين معدومين بحيث لا وجود لهم أصلا كما هم عليه حقيقة دائما عند العارف المحقق المتحقق بوحدة الوجود المسقطة لعموم الكثرات قل لهم يا أكمل الرسل بلسان الجمع إِنَّ اللَّهَ المتجلى بالتجلى اللطفى عَلى إبقاء كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وعلى افنائه ايضا بالتجلى القهرى إذ لا يجرى في ملكه الا ما يشاء ثم نبه سبحانه على كيفية رجوعهم اليه سبحانه وتنبههم على تجلياته فناداهم إشفاقا لهم وامتنانا عليهم ليقبلوا منه ويتوجهوا نحوه فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ الذين نسوا حقوق الله بمتابعة آبائهم اعْبُدُوا على وجه التذلل والتضرع وانقادوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ أخرجكم وأظهركم من كتم العدم باشراق تجلياته اللطفية الى فضاء الوجود وَايضا اخرج آباءكم واسلافكم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وتحذرون من تجلياته القهرية هذا في بدء الوجود وفي المعاش اعبدوا ربكم الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً مبسوطا لتستقروا عليها وتسترزقوا فيها وَالسَّماءَ بِناءً وسقفا مرفوعا لترتقى الابخرة والادخنة المتصاعدة إليها وتتراكم السحب الماطرة منها فيها بمقتضى الحكمة المتقنة البالغة وَبعد إيجاد هذه الأسباب أَنْزَلَ بمحض فيضه وفضله مِنَ جانب السَّماءِ ماءً منبتا لكم الزروع والأثمار المقومة لا مزجتكم فَأَخْرَجَ بِهِ سبحانه بعد ما انزل أنواعا مِنَ الثَّمَراتِ لتكون رِزْقاً لَكُمْ مقوما لأمزجتكم كي تعيشوا بها وتتمكنوا بسببها الى الطاعة والعبادة والتوجه نحو توحيده وتفريده سبحانه الذي هو غاية ايجادكم والحكمة في وجودكم وخلقكم ومعظم ما يترتب على بدئكم وظهوركم وإذا كان الأمر كذلك فَلا تَجْعَلُوا ايها المنعمون بأنواع النعم لِلَّهِ الواحد الأحد القهار لعموم الأغيار أَنْداداً اشباها وأمثالا في استحقاق العبادة والأقدار على الإيجاد والتكوين والترزيق والإنبات والأحياء وغير ذلك مما يتعلق بالالوهية وَأَنْتُمْ وصلتم الى مرتبة التوحيد الذاتي الذي هو المقصد الأقصى من ايجادكم ووجودكم تَعْلَمُونَ يقينا ان سلسلة الأسباب منتهية اليه سبحانه ولا موجد لها سواه بل لا موجود الا هو وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو والتحقق بهذا المقام والوصول الى هذا المرام لا يتيسر الا بعد التخلق بأخلاق الله والتخلق بأخلاقه سبحانه لا يحصل الا بمتابعة المتخلق الكامل وأكمل المتخلقين نبينا عليه السّلام وتخلقه صلّى الله عليه وسلّم انما يكون بالكتاب الجامع لجميع اخلاق الله المنزل على مرتبته الجامعة لجميع مراتب المظاهر وَإِنْ كُنْتُمْ ايها المحجوبون بالأديان الباطلة فِي رَيْبٍ شك وارتياب مِمَّا نَزَّلْنا بمقتضى تربيتنا وإرشادنا عَلى عَبْدِنا الذي هو خليفتنا ومرآتنا ومظهر جميع اوصافنا وحامل وحينا من الكتاب المنزل عليه من لدنا المشتمل على جميع أخلاقنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ او جملة قصيرة مِنْ مِثْلِهِ في الاشتمال على الأخلاق الإلهية إذ من خواص هذا الكتاب ان مجموعه مشتمل على عموم الأخلاق الإلهية وكذا كل سورة منه ايضا مشتمل على ما اشتمل عليه المجموع اجمالا وتفصيلا تأمل تفز وَان عجزتم أنتم عن آياتنا ادْعُوا شُهَداءَكُمْ اى حضراءكم وظهراء كم التي أنتم تشهدون بالوهيتهم وترجعون في الخطوب والملمات نحوهم مِنْ دُونِ اللَّهِ المحيط بكم وبهم فأمروهم بإتيانها كذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ انهم آلهة غير الله سبحانه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولم تأتوا بها أنتم ايها الجاهلون المعاندون في حين التحدي والمعارضة وَلَنْ تَفْعَلُوا ايضا ابدا مع تلك التماثيل الباطلة العاطلة بعد ما رجعتم إليهم فلا تكابروا بعد ذلك ولا تنازعوا بل

[سورة البقرة (2) : آية 25]

انقادوا وامتثلوا بأوامر الكتاب المنزل على عبدنا واجتنبوا عن نواهيه فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي قد اخبر الله في الكتاب المنزل مكررا بانه وَقُودُهَا اى ما يتقد به النَّاسُ الذي نسوا الله ويعبدون غيره وَالْحِجارَةُ التي هي معبوداتهم الباطلة التي قد نحتوها بأيديهم وما أُعِدَّتْ وهيئت هذه النار الموصوفة بهذه الصفة الا لِلْكافِرِينَ الجاهلين الجاحدين طريق توحيد الحق والمنكرين المكذبين كتاب الله ورسوله وَبَشِّرِ المؤمنين الموقنين الموحدين الَّذِينَ آمَنُوا بالكتاب المنزل على عبدنا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم فيه واجتنبوا عن الفاسدات المنهية عنها فيه أَنَّ اى قد حق وثبت لَهُمْ بعد رفع القيود وإسقاط الإضافات جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق التي هي المعارف الكلية المخلصة عن جميع القيود المنافية لصرافة التوحيد الذاتي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف الجزئية المترتبة على تلك المعارف الكلية وهم كُلَّما رُزِقُوا وحظوا مِنْها اى من تلك المعارف الكلية اللدنية مِنْ ثَمَرَةٍ حاصلة من شجرة اليقين المغروسة في قلوبهم رِزْقاً حظا كاملا ونصيبا شاملا يخلصهم من ربقة الإمكان قالُوا متذكرين العهود السابقة هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ في الأعيان الثابتة او في عالم الأسماء والصفات او في اللوح المحفوظ او في عالم الأرواح الى غير ذلك من العبارات وَمن غاية التذاذهم ونهاية شوقهم واحتظاظهم بالثمرة المحظوظ بها أُتُوا بِهِ متماثلا مُتَشابِهاً متجددا بتجدد الأمثال وَلَهُمْ فِيها اى في تلك المراتب الكلية اللدنية أَزْواجٌ اعمال صالحة ونيات خالصة مُطَهَّرَةٌ عن شوائب العوائق المانعة عن الوصول الى دار القرار وَهُمْ فِيها اى تلك المراتب الجنانية خالِدُونَ دائمون بدوامه باقون ببقائه مستغرقون بمشاهدة لقائه سبحانه اللهم أذقنا بلطفك حلاوة التحقيق وبرد اليقين ثم لما طعن الكفار من غاية استكبارهم وعتوهم ونهاية استعظامهم في نفوسهم واعتقادهم الاصالة في الوجود والاستقلال بالآثار المترتبة عليه الصادرة منهم ظاهرا على هذا الكتاب والرسول المنزل عليه قائلين بان ما جئت به وسميته وحيا نازلا إليك من عند الله الحكيم لا يدل على انه كلام من يعتد به ويعتمد عليه فضلا عن ان يدل على انه كلام الحكيم المتصف بجميع أوصاف الكمال المستحق للعبادة لان ما مثل به فيه هي الأشياء الخسيسة الخبيثة والضعيفة الحقيرة مثل الكلب والحمار والذباب والنحل والنمل والعنكبوت وغيرها والكلام المشتمل على أمثال هذه الأمثال لا يصدر من الكبير المتعال رد الله عليهم وروج امر نبيه صلوات الله عليه فقال إِنَّ اللَّهَ المستجمع لجميع الأوصاف والأسماء المقتضية لظواهر الكائنات المربية لمراتب الموجودات الظاهر على جميع المظاهر بلا تفاوت كظهور الشمس وإشراقها على جميع الآفاق وسريان الروح في جميع الأعضاء لا يَسْتَحْيِي استحياء من في فعله ضعف وله عاقبة وخيمة بل له سبحانه أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا بمظهر ما من المظاهر الغير المتفاوتة في المظهرية اذله سبحانه بذاته ومع جميع أوصافه وأسمائه ظهور في كل ذرة من ذرائر العالم بلا اضافة فلا تفاوت في المظاهر بالنسبة الى ظهوره سبحانه إذ ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت سواء كانت بَعُوضَةً مستحقرة عندكم او احقر منها فَما فَوْقَها في الحقارة والخساسة كالبق والذباب والنمل فلا يبالى الله في تمثيلها إذ عنده الكل على السواء فَأَمَّا الَّذِينَ صدقوا النبي صلّى الله عليه وسلّم الأمي حيث آمَنُوا بجميع ما جاء به من عند ربه فَيَعْلَمُونَ علما يقينيا أَنَّهُ اى التمثيل بهذه الأمثال الْحَقُّ الثابت الصادر مِنْ رَبِّهِمْ الذي رباهم بكشف الأمور على ما هي عليه وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عن تصديق الحق ورسوله

[سورة البقرة (2) : آية 27]

فَيَقُولُونَ مستهزئين متهكمين على سبيل الاستفهام ماذا أَرادَ اللَّهُ المقدس عن جميع الرذائل المتصف بجميع الأوصاف الحميدة على زعمهم بِهذا الدنى الحقير الخسيس بان يضرب مَثَلًا هذا تعريض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأبلغ وجه وآكده يعنى جميع ما جئت به كلمات مفتريات بعضها فوق بعض وانما نسبته بالوحي وأسندته الى الله لتروجها على ذوى الأحلام الضعيفة ومن غاية استكبارهم ونهاية جهلهم المقتضى لعمى القلب لم يروا الحكمة في تمثيله ولم يعلموا انه سبحانه يُضِلُّ بِهِ اى بإنكار هذا التمثيل بمقتضى اسمه المنتقم كَثِيراً من المستكبرين المستحقرين بعض المظاهر وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً من الموحدين الموقنين الذين لا يرون في عموم المظاهر الا الله الظاهر إذ في هذا المشهد العظيم لا تسع الإضافات المستلزمة للاستعظام والاستحقار بل سقط هناك عموم الاضافة والاعتبار ثم بين سبحانه سبب إضلاله فقال وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يخرجون عن طريق التوحيد باستحقار بعض المظاهر حيث يَنْقُضُونَ اى يفصمون ويقطعون عَهْدَ اللَّهِ الذي هو حبله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات سيما مِنْ بَعْدِ توكيده بذكر مِيثاقِهِ الموثق به بقوله الست بربكم وقولهم بلى وَبعد ما نقضوا العهد الوثيق الذي من شانه ان لا ينقض لم يفزعوا ولم يتوجهوا الى جبره ووصله بل يَقْطَعُونَ التوجه عن امتثال ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ في كتابه المنزل أَنْ يُوصَلَ اى لان يوصل به ما نقض من عهده وَمع ذلك لا يقنعون ولا يقتصرون بنقض العهد وقطع الوصل المختصين بهم بل يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بأنواع الفسادات السارية في أقطارها من إفساد عقائد الضعفاء والبغض مع العرفاء الأمناء والمخاصمة مع الأنبياء والأولياء وبالجملة أُولئِكَ البعداء الضالون عن منهج التوحيد هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الكلى الذي لا خسران أعظم منه أعاذنا الله وعموم عباده من ذلك ثم استفهم سبحانه مخاطبا لهم مستبعدا لما صدر عنهم من الكفر والطغيان على سبيل الكناية تحريكا لحمية الفطرة الاصلية التي فطر الناس عليها وتذكيرا لهم عن العهد الوثيق الذي عهدوا مع الله في مبدأ فطرتهم بقوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ وتشركون بِاللَّهِ الذي قدر وجودكم في علمه السابق وَكُنْتُمْ أَمْواتاً اعداما صرفا لا امتياز لها ولم تكونوا مذكورين وبعد ما قدر وجودكم أراد ايجادكم فَأَحْياكُمْ وأظهركم من كتم العدم بمد ظله عليكم وبعد ما أظهركم أنعم عليكم ورباكم في النشأة الاولى بأنواع النعم لتعرفوا المنعم وتشكروا له في مقابلتها ثُمَّ بعد ما رباكم بأنواع النعم يُمِيتُكُمْ ويخرجكم من النشأة الاولى إظهارا لقدرته وقهره ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ايضا في النشأة الاخرى لتجزى كل نفس بما كسبت في النشأة الاولى ثُمَّ بعد ما قطعتم المنازل وطويتم المراتب والمراحل إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال تُرْجَعُونَ إذ لا وجود لغيره ليرجع اليه فثبت ان لا مبدأ سوى الله ولا منتهى ولا مرجع الا هو ولا رجوع الا اليه لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون وبالجملة هُوَ الَّذِي جعلكم خلائف في الأرض وصوركم على صورته وصيركم مظاهر جميع أوصافه وأسمائه وكرمكم على عموم مظاهره ومصنوعاته حيث خَلَقَ اى قدر ودبر لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعنى قد سخر لكم جميع ما في العالم السفلى من آثار الأسماء والصفات تتميما لجسمانيتكم وحصة ناسوتكم لتتصرفوا فيها وتنتفعوا بها متى شئتم ثُمَّ لما تم تقدير ما في العالم السفلى ترقى عنه حيث اسْتَوى وتوجه إِلَى السَّماءِ اى الى تقدير ما في العالم العلوي تتميما لحصة لاهوتكم فَسَوَّاهُنَّ وعدلهن وهيأهن سَبْعَ

[سورة البقرة (2) : آية 30]

سَماواتٍ مطبقات مشتملات على ملائكة ذوى علوم وإدراكات واعمال ومعاملات وعلى كواكب ذوى خواص وآثار كثيرة كلها من مقتضيات أسمائه وأوصافه ومظاهر لهما وَبالجملة لا يخفى عليه تعالى شيء مما في العالمين إذ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ثم لما قدر سبحانه لنوع الإنسان جميع ما في العالم العلوي والسفلى أشار الى اصطفاء شخص من هذا النوع وانتخابه من بين عموم الأشخاص الانسانية ليكون مظهرا جامعا لائقا لأمر الخلافة والنيابة الإلهية فقال مخاطبا لنبيه وحبيبه صلّى الله عليه وسلّم لاستعداده ومرتبته الجامعة لعموم المراتب مذكرا له محضرا إياه وَإِذْ قالَ رَبُّكَ استحضر أنت يا أكمل الرسل وذكر لمن تبعك وقت قول ربك على طريق المشورة لِلْمَلائِكَةِ الذين هم مظاهر لطفه ومجالي جماله بحيث لا يظهر عليهم اثر من آثار الجلال والقهر الإلهي إِنِّي أريد ان اطالع ذاتى وألاحظ عموم أسمائي وأوصافي على التفصيل فانا جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ اى العالم السفلى خَلِيفَةً مرآة مجلوة عن صدأ الإمكان ورين التعلق لا تجلى فيها بجميع أوصافي وأسمائي ليصلح خليفتي هذا مفاسد عموم عبادي ويحسن أخلاقهم نيابة عنى وبعد ما شاور سبحانه معهم قالُوا في الجواب بمقتضى علمهم من العالم السفلى الذي هو عالم الكون والفساد ومحل الجدال والعناد ما نرى في العالم السفلى الا اللدد والفساد والخصومة المستمرة بين العباد والخروج من حدودك من سفك الدماء ونهب الأموال وسبى الذراري وبالجملة أَتَجْعَلُ يعنى أنسلم ونجوز بعد ما شاورت معنا يا ربنا ان تجعل وتخلق بمقتضى عزك وجلالك خليفة لك نائبا عنك فِيها اى في الأرض سيما مَنْ يُفْسِدُ فِيها بأنواع الفسادات مع انا ننزهك ونقدسك من مطلق الرذائل وَلا سيما من يَسْفِكُ الدِّماءَ المحرمة وبالجملة ليس من وسعنا هذا التسليم ولا نرى هذا الأمر لائقا بعظمتك وجلالك يا مولانا وَان شئت بمقتضى فضلك وجودك ان تصلح بين عبادك وتدبر أمورهم نَحْنُ اولى باصلاحهم وتدبيرهم وحفظ حدودك فيهم إذ نُسَبِّحُ ونشتغل دائما بِحَمْدِكَ وثنائك ونشكرك مستمرا على آلائك ونعمائك وَنُقَدِّسُ لَكَ اى ننزه ذاتك عن جميع ما يشعر بالعلل والأغراض فنحن اولى بخلافتك وبعد ما بسطوا ما بسطوا من الكلام قالَ سبحانه بلسان الجمع في جوابهم إرشادا لهم وامتنانا على آدم إِنِّي أَعْلَمُ من آدم الذي هو مظهر ذاتى وعموم أسمائي وصفاتي ما لا تَعْلَمُونَ أنتم اى من الجمعية التي أنتم لا تشعرون بها لعدم جامعيتكم ثم لما علم سبحانه استحقاق آدم للنيابة ولياقته للخلافة وأجاب عن شبههم التي قد أوردوها حين المشورة اجمالا أشار الى تفصيل ما أجمل عليهم إرشادا لهم على مرتبة الجمع وتنبيها على جلالة قدر المظهر الجامع فقال وَعَلَّمَ الأسماء آدَمَ اى ذكر سبحانه وفصل له الْأَسْماءَ التي قد اودعها في ذاته وأظهره بمقتضاها وأوجد بها ايضا ما في العالم من الآثار البديعة كُلَّها بحيث لم يبق من الأوصاف المتقابلة والأسماء المتخالفة المتضادة شيء الا ما استأثر الله به في غيبه ثُمَّ عَرَضَهُمْ اى الأسماء المودعة باعتبار مسمياتها وآثارها الظاهرة في الآفاق عَلَى الْمَلائِكَةِ الذين هم يدعون الأولوية لأنفسهم في امر الخلافة فَقالَ سبحانه مخاطبا لهم على سبيل الإسكات والتبكيت أَنْبِئُونِي وأخبروني عن روية صائبة وبصيرة تامة بِأَسْماءِ هؤُلاءِ المسميات وبأسباب هؤلاء الآثار والمسببات إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الأولوية والأحقية للنيابة محقين في الاعتراض على آدم لا عن علم بحاله قالُوا مستوحشين من هذه الكلمات الهائلة المهولة معتذرين متذللين خائفين

[سورة البقرة (2) : آية 33]

من عتابه سبحانه وجلين من سوء الأدب مع الله مستحيين عن سؤالهم من فعله الذي لا يسأل عنه مطلقا قائلين سُبْحانَكَ ننزهك ان نعترض عليك ونسأل عن فعلك نحن او غيرنا من المظاهر والمصنوعات فلك الحكم في ملكك وملكوتك والتصرف في مقتضيات أسمائك وصفاتك يا مولانا وانما بسطنا الكلام معك يا ربنا لانبساطك بنا إذ لا عِلْمَ لَنا منها إِلَّا ما عَلَّمْتَنا حسب استعداداتنا وقابلياتنا الفائضة منك علينا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ بجميع القابليات الْحَكِيمُ بافاضة ما ينبغي لمن ينبغي بلا علل وأغراض وبعد ما اعترفوا بذنوبهم واعتذروا عن قصورهم واجترائهم قبل الله عنهم عذرهم وتوبتهم ثم اظهر عليهم الحكمة المقتضية لخلافة آدم صلوات الله عليه جبرا لانكسارهم ورفعا لحجابهم امتنانا عليهم حيث قالَ يا آدَمُ المستجمع لآثار عموم الأسماء المتخالفة أَنْبِئْهُمْ عن خبرة وحضور تام بِأَسْمائِهِمْ المركوزة في هويتك عن هؤلاء المسميات والمسببات المعروضة عليك المعبر عنها بالعالم ثم لما سمع آدم نداء ربه بادر الى الجواب بمقتضى الوحى والإلهام الإلهي وأجاب بما أجاب فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بتوفيق الله بِأَسْمائِهِمْ على التفصيل الذي أودعه الحق فيه لان المرآة تظهر وتحاكى جميع ما في الرائي ثم لما سمع الملائكة منه ما سمعوا من تفصيل الأسماء المعروضة عليه استحيوا من انبائه وندموا عما صدر عنهم في حقه وزادوا الاستحياء من الله وتوجهوا نحوه ساكتين لائمين أنفسهم حتى لطف سبحانه معهم وأدركتهم العناية الشاملة وشملتهم الرحمة الواسعة حيث تكلم سبحانه معهم وخاطبهم مذكرا لهم عما جرى بينه سبحانه وبينهم مستفهما لهم على وجه التأديب لئلا يصدر عنهم أمثاله ولئلا يغتروا بعلومهم ومعاملاتهم ولا يستحقروا مظاهر الحق مطلقا ولا ينظروا إليها بنظر الاهانة والاستحقار بل بنظر العبرة والاعتبار ولا يتوهموا إخفاء شيء من الله المحيط لعموم الأشياء احاطة حضور وشهود حيث قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ أولا اجمالا إِنِّي أَعْلَمُ منكم غَيْبَ السَّماواتِ اى عالم الأسباب التي قد ادعيتم العلم بتفاصيل أحوالها وَغيب الْأَرْضِ اى عالم المسببات التي قلتم فيها كلاما على التخمين والحسبان وبحسب الظاهر وَأَعْلَمُ ايضا ما تُبْدُونَ وتظهرون في حق آدم باللسان من الاستحقار والاستكسار وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ في سرائركم وضمائركم من المراقبة له وافراط المحبة معى ودعوى الاستقلال فيها والانحصار عليها. ثم لما اعترفوا بذنوبهم وأقروا قصورهم وتضرعوا نحو الحق تائبين نادمين عن اجترائهم ومجادلتهم معه سبحانه مستحيين عنه سبحانه وعمن استخلفه عن نفسه يعنى آدم بنسبة انواع المكاره اليه خائبين عما نووا في نفوسهم من الأولوية في الاستحقاق تقبل الله سبحانه منهم عذرهم وأسقط حق آدم عنهم ثم أمرهم بسجوده استحلالا منه وتكريما له وإيفاء لحقه ليسقط عن ذممهم فقال وَإِذْ قُلْنا اى اذكر يا أكمل الرسل وقت قولنا لِلْمَلائِكَةِ النادمين عن الجرأة التي صدرت عنهم في حق آدم اسْجُدُوا تذللوا وتواضعوا تكريما لِآدَمَ وامتثالا لأمرنا فَسَجَدُوا له مجتمعين متذللين واضعين جباههم على تراب المذلة والندامة إِلَّا إِبْلِيسَ منهم قد أَبى اى امتنع عن السجود وَاسْتَكْبَرَ عن الانقياد له وأصر على ما هو عليه من العناد والجحود وَكانَ بعدم امتثال الأمر الوجوبي مِنَ الْكافِرِينَ المطرودين عن ساحة الحضور والسر في استثنائه سبحانه إبليس عن هذا الحكم وعدم توفيقه واقداره إياه على السجود ان يظهر سر الظهور والإظهار والربوبية والعبودية والايمان والكفر والجنة والنار وجميع المعتقدات الشرعية والتكاليف الإلهية إذ بسببه يظهر الاثنينية ويتعدد الطرق وتتفاوت الآراء والمقالات وتتبين المخالفات

[سورة البقرة (2) : آية 35]

والمنازعات وبتغريره وتضليله يستتر الحق ويظهر الباطل وبالجملة هو الرقيب الحاجب الحافظ المحافظ لآدابه سبحانه والمعتكف ببابه حتى لا يكون شرعة لكل وارد او يتوجه اليه واحد بعد واحد غيرة منه على الله وحمية لحمى قدس ذاته وفضاء لاهوته ولهذا قد تمنى كثير من المحققين مرتبته ومن كمال غيرته على ربه الهاء بنى آدم واغرارهم بالمستلذات والمزخرفات التي مالت إليها نفوسهم بالطبع ليشغلهم ويلهيهم بها عن التوجه الى جنابه والعكوف حول بابه والسرفى طرده ولعنه وابعاده عن ساحة عز الحضور تحذيرهم من الانقياد له والاقتداء به على ابلغ وجه وآكده وتمرين لعداوته لهم ورقابته معهم في نفوسهم لئلا يغفلوا عنه ومع ذلك لم يتركوا متابعته ولم يجتنبوا من اقطاعه الملهية نعوذ بالله من شرور أنفسنا وبعد ما جعلنا آدم خليفة في الأرض أزلنا عنه قوادح القادحين وأمرنا جميع خصمائه بتعظيمه وسجوده وامتثلوا بالمأمور به جميعا الا إبليس من بينهم قد تركه للحكمة المذكورة آنفا ولئلا يتكبر آدم ويتجبر بسبب انقياد جميعهم كما تجبر كثير من ابنائه في الأرض بانقياد الشرذمة القليلة الى ان ادعوا الألوهية لأنفسهم وَقُلْنا له على سبيل الشفقة والنصيحة يا آدَمُ المستخلف المختار لازم العبودية ولا تغتر بالخلافة وداوم على التوجه ولا تغفل عن المعاتبة واعلم ان العبودية انما تحصل بامتثال أوامرنا واجتناب نواهينا وبعد قبولك الامتثال والاجتناب اسْكُنْ أَنْتَ ايها الخليفة اصالة وَزَوْجُكَ تبعا لك الْجَنَّةَ التي هي دار السرور ومنزل الفراغ والحضور ومقام الانس مع الرب الغفور وبعد سكونكما فيها وَكُلا مِنْها اى من جميع محظوظاتها ومستلذاتها الروحانية والجسمانية رَغَداً واسعا كثيرا بلا مقدار وعدد حَيْثُ شِئْتُما بلا مزاحمة ضد ومنازعة احد وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ المخصوصة المعينة حتى لا تخرجا من ربقة العبودية وان تخرجا فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية بارتكاب المنهي عنه ثم لما استشعر إبليس بالتوصية والمعاهدة المذكورة المنبئة عن كمال العناية الإلهية بالنسبة الى آدم وبنيه بادر الى دفعها ونقضها فوسوس لهما بان القى في قلبهما الدغدغة في تخصيص هذه الشجرة المعينة المعنية بالنهى وبالغ في وسوستهما الى حيث انساهما الوصية الإلهية والمعاهدة المذكورة في العبودية وبالجملة فَأَزَلَّهُمَا والجأهما الى ارتكاب الزلة بالوسوسة الشَّيْطانُ المضل المغوى فتناولا عَنْها اى عن الشجرة المنهية فَأَخْرَجَهُما الحق بسبب تلك التناول مِمَّا كانا فِيهِ اى من الحضور الذي كانا فيه في دار السرور وَبعد ظهور زلتهما قُلْنَا لهما ولناصحهما اهْبِطُوا من دار السرور الى دار الحزن والغرور ومن دار الكرامة الى دار الابتلاء والملامة وعيشوا فيها مع انواع النزاع والخصومة إذ فيها بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ينتهز الفرصة لمقته وَلَكُمْ بعد هبوطكم فِي الْأَرْضِ التي هي محل التفرقة وموطن الفتن والمحن مُسْتَقَرٌّ موضع قرار وَمَتاعٌ اى استمتاع بمزخرفاتها ومستلذاتها الغير القارة التي ألهاكم الشيطان بها عن النعيم الدائم إِلى حِينٍ اى الى قيام الساعة التي هي الطَّامَّةُ الْكُبْرى. ثم لما لم يكن زلة آدم من نفسه وبمقتضى طبعه بل بتغرير عدوه وبمقتضى اغرائه ووسوسته اشفق سبحانه عليه وتلطف معه فَتَلَقَّى واستفاد آدَمُ المذنب العاصي مِنْ رَبِّهِ المستخلف له المستقبل عليه كَلِماتٍ مشتملات على الرجوع والانابة عما صدر عنه من الزلة وهي قوله بإلقاء الله إياه ربنا ظلمنا أنفسنا وان لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وبعد ما تلقى ما تلقى من الكلمات التامات واستغفر بها ورجع عن إتيان أمثال ما صدر فَتابَ الله عَلَيْهِ ترحما وقبل توبته تفضلا وكيف لا إِنَّهُ سبحانه

[سورة البقرة (2) : آية 38]

هُوَ التَّوَّابُ الرجاء للمذنبين المنهمكين في المعاصي بالإنابة اليه عن ظهر الجنان الرَّحِيمُ لهم عما صدر عنهم من المعاصي والآثام بلا عتاب وانتقام ثم لما لقناه الكلمات التي تاب بها وقبلنا عنه توبته أخرجناه من اليأس والقنوط واطمعناه الرجوع الى الجنة بان قُلْنَا له ولذريته المتفرعة عليه منبهين عليهم طريق الرجوع والانابة اهْبِطُوا والزموا مكان الهبوط واستقروا عليها حال كونكم خارجين مِنْها جَمِيعاً اى من الجنة وترقبوا دخولها باذن منا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ايها المترقبون مِنِّي هُدىً من وحى والهام فهو علامة إذني ودليل رضائى برجوعكم فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ ورجع بمقتضاه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين المراجعة الى المقام الأصلي والموطن الحقيقي وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بعد رجوعهم اليه بل كما بدأكم تعودون وَالَّذِينَ لم يترقبوا الرجوع ونسوا ما هم عليه في الجنة ولم يلتفتوا الى الهدى المؤتى به بل كَفَرُوا به وأنكروا به وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وبرسلنا الذين أتوا بها وكذا بعموم دلائلنا الدالة على صدقهم من المعجزات الظاهرة والآيات الباهرة أُولئِكَ الهابطون الناسون الموطن الأصلي والمقام الحقيقي المستبدلون الجنة الباقية بعرض هذا الأدنى الفاني الكافرون بطريق الحق المكذبون بالرسل الهادين هم أَصْحابُ النَّارِ التي هي محل البعد والخذلان ومنزل الطرد والحرمان هُمْ فِيها خالِدُونَ بسبب نسيانهم وتكذيبهم الى ما شاء الله ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب ثم لما بين سبحانه طريق الهداية والضلال ونبه على جزاء كل منهما اجمالا أشار الى تفصيله وتوضيحه بإيراد قصص القرون الماضية والأمم السالفة ليعتبر المؤمنون منها ومن جملتها قصة ندائه سبحانه بنى إسرائيل يعنى أولاد يعقوب مخاطبا لهم آمرا بتذكرهم بالنعم التي أنعمها عليهم ليكونوا من الشاكرين لنعمه الموقنين بعهود كرمه بقوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ المتنعمين بالنعم الجليلة اذْكُرُوا واشكروا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وعلى من استخلفكم من اسلافكم وَأَوْفُوا بعد اعداد النعم وتعديدها على انفسكم بِعَهْدِي الذي قد عهدتم معى من متابعة الهدى النازل منى على السنة انبيائى ورسلي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ايضا بارجاعكم وايصالكم الى مقامكم الأصلي الذي كنتم فيها قبل هبوطكم الى دار المحن وبعد رجوعكم إليها في النشأة الاخرى لا يبقى لكم خوف من الأغيار بل لا بد لكم حينئذ ان ترهبوا من سطوة سلطتى وقهري حسب جلالي وَإِيَّايَ عند عروض تلك الرهبة فَارْهَبُونِ وارجعوا الى وتحننوا نحوي لأؤانس معكم وازيل رهبتكم عنكم وَاعلموا ان علامة وفائكم بعهدي هي الايمان فأذعنوا وآمِنُوا على وجه الإخلاص والإيقان بِما أَنْزَلْتُ بمقتضى فضلي وطولى على عموم رسلي سيما بالقرآن المنزل على الحضرة الختمية الخاتمية المؤيد بالدلائل القاطعة والحجج الساطعة والمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة مع كونه مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين مشتملا على عموم ما في الكتب السالفة من الاحكام والقصص والمواعظ والحقائق مع لطائف أخر قد خلت عنها جميعها وَبعد ظهور المنزل به وادعاء من انزل عليه الرسالة والهدى لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ اى لا تكونوا مبادرين على الكفر بالهادي وما هدى به بل كونوا أول من آمن وصدق بعموم ما جاء به من عند ربه وانتهزوا الفرصة للايمان ولا تغفلوا عنه وَبعد نزوله وظهوره لا تَشْتَرُوا ولا تستبدلوا بِآياتِي المنزلة على رسلي ثَمَناً قَلِيلًا من المزخرفات الفانية وَان عسر عليكم ترك هذا الاستبدال بميل نفوسكم اليه بالطبع إِيَّايَ فَاتَّقُونِ عند عروض ذلك لأحفظكم

[سورة البقرة (2) : آية 42]

منه وأسهله عليكم وَبالجملة لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ الظاهر الثابت بِالْباطِلِ الموهوم المزخرف للضعفاء الذين لا تمييز لهم وَلا تَكْتُمُوا الْحَقَّ ايضا في نفوسكم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حقيقته عقلا وسمعا وَبعد ما آمنتم بالله وكتبه المنزلة على رسله واجتنبتم عما نهيتم عنه أَقِيمُوا الصَّلاةَ اى داوموا على الميل والتقرب الى جنابه والتوجه نحو بابه بجميع الأعضاء والجوارح قاصدين فيه تخلية الظاهر والباطن عن الشواغل النفسية والعوائق البدنية المانعة من الميل الحقيقي وَآتُوا الزَّكاةَ المطهرة لنفوسكم عن العلائق الخارجة والعوارض اللاحقة المثمرة لانواع الأمراض في الباطن من البخل والحسد والحقد وغير ذلك وَان قصدتم التقرب والتوجه على الوجه الأتم الأكمل ارْكَعُوا اى تذللوا وتضرعوا نحوه سبحانه مَعَ الرَّاكِعِينَ الذين قد خرجوا عن هوياتهم الباطلة بالموت الإرادي ووصلوا الى ما وصلوا بل اتصلوا لا مع الذين يراؤن الناس ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم لذلك خاطبهم سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع فقال أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ ايها المراؤون المدعون لليقين والعرفان على سبيل النصح والتذكير بِالْبِرِّ المقرب الى الله وَتَنْسَوْنَ أنتم أَنْفُسَكُمْ من امتثال ما قلتم وَالحال انه أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ المشتمل على الأوامر والنواهي وتدعون علمه فحقكم ان تمتثلوا به أولا أَتلتزمون تذكير الغير وأنتم منهمكون في الغفلة والضلال فَلا تَعْقِلُونَ ولا تفهمون قبح صنيعكم هذا ايها المسرفون المفرطون وَبعد ما أمرتم بعد الايمان بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المطهرتين لنفوسكم ظاهرا وباطنا فعليكم الإتيان والامتثال بالمأمور على الوجه الأتم الأكمل ولا يتيسر لكم هذا على الوجه الذي ذكر الا بادامة الاستقامة والاستعانة والمظاهرة من الخصلتين الكريمتين لذلك أمركم سبحانه باستعانتهما بقوله اسْتَعِينُوا في التوجه والتقرب الى الله بِالصَّبْرِ عن المستلذات الجسمانية والمشتهيات النفسانية وَالصَّلاةِ الميل الى الله والاعراض عن ما سوى الله ولا تستحقروا امر هذه الاستعانة ولا تخففوها وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ شاقة ثقيلة على كل احد إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الخاضعين الموقنين الَّذِينَ يرفعون رين الغيرية عن العين ويسقطون شين الاثنينية عن البين بل يَظُنُّونَ ويعتقدون أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ في هذه النشأة لأنهم يعبدون الله كأنهم يرونه وَهم يعلمون يقينا أَنَّهُمْ إِلَيْهِ سبحانه لا الى غيره من الوسائل والأسباب راجِعُونَ عائدون صائرون في النشأة الاخرى اللهم اجعلنا منهم ومن متابعيهم ومحبيهم ثم لما من سبحانه عليهم بالنعم التي يظهر آثارها وثمراتها في العالم الروحاني بحسب النشأة الاخرى من عليهم ايضا بالنعم التي ظهرت آثارها عليهم في العالم الجسماني بحسب النشأة الاولى فناداهم ايضا مبتدئا مذكرا بقوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا واشكروا ولا تكفروا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وعلى اسلافكم وَاعلموا أَنِّي بمقتضى كمال حولي وقوتي قد فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ من أبناء نوعكم بفضائل قد اغنت شهرتها عن الإحصاء والتعديد وبعد ما ذكرتم النعمة وعرفتم المنعم المفضل لا تغتروا بفضلي ولطفي بل احذروا عن قهري وبطشى وَاتَّقُوا يَوْماً واى يوم يوما تحشرون الى للجزاء والحساب وفي ذلك اليوم لا تَجْزِي ولا تسقط نَفْسٌ مطيعة كانت او عاصية عَنْ نَفْسٍ عاصية شَيْئاً من جزائها وعذابها وَلا يُقْبَلُ ايضا فيه مِنْها اى من النفس العاصية شَفاعَةٌ من شافع ولا صديق حميم وَكذا لا يُؤْخَذُ مِنْها فيه كفيل عَدْلٌ لتمهل مدة وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ فيه

[سورة البقرة (2) : آية 49]

بالأنصار والأعوان بل كل نفس يومئذ رهينة بما كسبت ضمينة بما اقترفت وبعد ما أمرهم سبحانه بتذكر النعم اجمالا وحذرهم عن جزاء الكفران أشار الى تعداد النعم العظام التي هم مختصون بها امتنانا عليهم فقال وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ اى اذكروا وقت انجائنا إياكم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ الذين يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ اى يكلمونكم ويفضحونكم بسوء العذاب الذي لا عذاب أسوأ منه وهو انهم يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ لئلا يبقى ذكركم في الدنيا إذ بالابن يذكر الأب ويحيى اسمه لأنه سره وَاشنع من ذلك انهم يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وبناتكم باستبقائهن ليلحق العار عليكم بتزويجهم اياهن بلا نكاح ولا عار اشنع من ذلك ولذلك عد موت البنات من المكرمات وَفِي ذلِكُمْ يعنى واعلموا ان في هذه المحن المشار إليها بَلاءٌ واختبار لكم مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ليجزيكم بنعم هي أعظم منها وهي انجاءكم عنهم واستيلاءكم عليهم وَبعد ما ابتليناكم باحتمال الشدائد والمتاعب ومقاساة الأحزان أردنا انجاءكم من عذابهم وإهلاكهم بالمرة فامرناكم بالسير والفرار من العدو ففررتم ليلا فأصبحتم مصادفين البحر والعدو ايضا قد صادفكم اذكروا إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ اى وقت تفريقنا بالفرق الكثيرة الْبَحْرَ المتصل في نفسه ليسهل عبوركم منه ونجاتكم منهم وبالجملة فَأَنْجَيْناكُمْ من أيديهم وعبرناكم سالمين وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ المقتحمين بالفور خلفكم باجتماع تلك الفرق واتصال البحر على ما هو عليه في نفسه وَأَنْتُمْ حينئذ تَنْظُرُونَ الافتراق والاجتماع المتعاقب وكيف لا تذكرون هذه النعم الجليلة ولا تشكرون لها وَبعد ما قد أنجيناكم من البحر سالمين وأغرقنا عدوكم بالمرة واورثناكم ارضهم وديارهم وأموالهم اذكروا وقت إِذْ واعَدْنا مُوسى المتحير في ضبط المملكة في أول استيلائه حيث قلنا له على سبيل التوصية والمعاهدة ان أخلصت التوجه والميل إلينا مدة أَرْبَعِينَ لَيْلَةً متوالية خصصها سبحانه لخلوها عن الشواغل المانعة من الإخلاص قد أنزلنا عليك تأييدا لأمرك كتابا جامعا لمرتبتى الايمان والعمل حاويا على جميع التدابير والحكم المتعلقة بالظاهر والباطن ثُمَّ لما اشتغل موسى بإنجاز الوعد وإيفاء العهد فذهب الى الميقات مخلصا قد اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الذي صوغتهم أنتم بأيديكم من حليكم بتعليم السامري المضل إياكم بسبب صدور الخوار الذي ظهر منه ابتلاء لكم وفتنة الها من دون الله وادعيتم شركته معه سبحانه مكابرة بل قد حصرتم الألوهية له بقولكم هذا إلهكم واله موسى وبالجملة قد أخلفتم الوعد والعهد جميعا مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد ذهاب موسى الى الميقات وقبل رجوعه منه وَأَنْتُمْ بسبب خلف الموعود والاتخاذ المذكور ظالِمُونَ خارجون عن ربقة الايمان والتوحيد العياذ بالله من ذلك ثُمَّ لما تبتم ورجعتهم نحونا نادمين عَفَوْنا عَنْكُمْ وأزلنا عن ذممكم جزاء ذلك الظلم الذي ظلمتم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الاجتراء لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تواظبوا على أداء شكر نعمه بالعفو الذي هو من آثار اللطف والجمال بعد ظلم المعفو عنه الذي هو من آثار القهر والجلال حتى تكونوا من زمرة الشاكرين الذين يشكرون الله في السراء والضراء وَبعد اخلافكم الوعد قبل تمامها وظلمكم لأنفسكم باتخاذكم العجل لم نهمل امر موسى ولم نخلف الوعد الذي قد واعدناه به واذكروا وقت إِذْ آتَيْنا مُوسَى انجازا لوعدنا إياه الْكِتابَ الموعود الجامع لأسرار الربوبية وَالْفُرْقانَ الفارق بين الحق والباطل وبين الهداية والضلال لَعَلَّكُمْ تقتدون له وتَهْتَدُونَ به الى طريق التوحيد وتجاهدون فيه الى ان تتخلصوا عن مطلق الشواغل المانعة عنا وَبعد ما أنجزنا وعد موسى

[سورة البقرة (2) : آية 55]

ورجع الى قومه غضبان أسفا اذكروا وقت إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ المؤمنين به المعاهدين له بعد رجوعه من الميقات والتورية معه يا قَوْمِ الناقضين لعهدي المتجاوزين عن حدود الله إِنَّكُمْ قد ظَلَمْتُمْ أنتم أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ الها مستحقا للعبادة فَتُوبُوا عن هذا الاعتقاد والاتخاذ وارجعوا متذللين متضرعين إِلى بارِئِكُمْ الذي قد برأكم وأظهركم من العدم ليبرأ كم عن هذا الظلم وبعد ما تبتم ورجعتم نادمين فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الامارة بهذا الظلم بأنواع الرياضات وترك المشتهيات والمستلذات وقطع المألوفات وترك المستحسنات لائمين عليها بأنواع الملامات حتى تكون مطمئنة بما قسم لها الحق راضية بجريان حكم القضاء الإلهي مرضية بالفناء الكلى في الله بل فانية عن الفناء ايضا ذلِكُمْ المشار اليه من الانابة والرجوع وإبراء الذمة والإذلال بأنواع الرياضات والفناء المطلق خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ وخالقكم الذي قد خلقكم لمصلحة التوحيد والعرفان وبعد ما تحقق انابتكم وإخلاصكم فيها فَتابَ عَلَيْكُمْ وقبل توبتكم ورضى عنكم إِنَّهُ سبحانه هُوَ التَّوَّابُ الرجاع للعباد الى التوبة والانابة الرَّحِيمُ لهم يقبل توبتهم وان عظمت زلتهم وَاذكروا ايضا وقت إِذْ قُلْتُمْ لموسى عند دعوتكم الى الايمان والهداية يا مُوسى المدعى للرسالة الداعي الى الله بمجرد الاخبار لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ولما جئت به من عند ربك حَتَّى نَرَى اللَّهَ الذي ادعيت الرسالة منه جَهْرَةً ظاهرة بلا سترة وحجاب كما نرى بعضنا بعضا وبعد ما قد أفرطتم في حقنا فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ النازلة من قهرنا وغضبنا لإنكاركم ظهورنا الذي هو اظهر من الشمس بل الشمس ايضا انما هي من جملة عكوس لمعاتنا الذاتية ومن اظلال اشعة اوصافنا الجمالية والجلالية وَأَنْتُمْ حال نزول تلك الصاعقة الهائلة تَنْظُرُونَ متحيرين والهين بلا تدبير وتصرف الى ان صرتم فانين مغلوبين تحت قهرنا وجلالنا ثُمَّ بَعَثْناكُمْ وانشأناكم احياء بمقتضى التجلي اللطفى مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ وفنائكم بالقهر والغضب ترحما عليكم وامتنانا لكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة الوجود بعد العدم والحيوة بعد الموت وتعتقدون الحشر الموعود في يوم الجزاء وتؤمنون به وَاذكروا ايضا وقت إذ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ يوم لا ظل وأنتم حينئذ تائهون في التيه في ايام الصيف بان سار معكم حيث شئتم ولا يزال يظل عليكم وَمع ذلك قد أنعمنا عليكم أعظم من ذلك بان أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ الترنجبين من جانب السماء تسكينا لحرارتكم وتبريد أمزجتكم وَأنزلنا ايضا منها لغذائكم السَّلْوى وهو السمانى او مثله في النزول من جانب السماء وأبحنا لكم تناولهما حيث قلنا لكم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ من خصائص النعم واشكروا لها ولا تكفروا بها وَبالجملة ما ظَلَمُونا بكفران النعم ونسيان حقوق الكرم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ويحرمون من الفوائد العائدة لنفوسهم من نعمنا وازديادها عليهم بدوام شكرنا والمواظبة على اقامة حدودنا وَاذكروا ظلمكم ايضا وقت إِذْ قُلْنَا لكم بعد خروجكم من التيه إشفاقا لكم وامتنانا عليكم ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ التي هي منازل الأنبياء والأولياء يعنى بيت المقدس فَكُلُوا مِنْها اى من مأكولاتها ومشروباتها حَيْثُ شِئْتُمْ بلا مزاحم ولا مخاصم رَغَداً واسعا بلا خوف من السقم والمرض حتى يتقوى بها مزاجكم ويزول ضعفكم وبعد تقويتكم المزاج بنعمنا ارجعوا إلينا وتوجهوا نحو بيتنا الذي قد بنينا فيها وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً متذللين خاضعين واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان وعند سجودكم وتذللكم استغفروا ربكم من خطاياكم وَقُولُوا متضرعين رجاؤنا منك يا مولانا

[سورة البقرة (2) : آية 59]

حِطَّةٌ اى حط ما صدر عنا وجرى علينا من المعاصي والآثام وإذا دخلتم على الوجه الذي أمرتم واستغفرتم كما علمتم نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ التي قد جئتم بها واستغفرتم لها أنتم وَسَنَزِيدُ بمقتضى فضلنا وجودنا الْمُحْسِنِينَ منكم تفضلا منا إياهم وتكريما بالرضوان الذي لا مرتبة عندنا أعلى منه واكبر والمحسنون هم الذين لم يتجاوزوا الحد ولم يخالفوا الأمر الإلهي ثم لما امرناهم بالدخول على هذا الوجه وعلمناهم طريق الدعاء والاستغفار خالف بعضهم المأمور ظلما وتأويلا فَبَدَّلَ واستبدل القوم الَّذِينَ ظَلَمُوا بالخروج عن مقتضى أمرنا قولنا لهم لإصلاح حالهم تعليما وإرشادا قَوْلًا آخر لفظا ومعنى غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ حيث أرادوا من القول الملقى إليهم لفظا آخر ومعنى آخر برأيهم الفاسد وطبعهم الكاسد وهو قولهم حطا سمتاتا اى حنطة حمراء ولما لم يأتوا بالمأمور به ومع ذلك قد بدلوه الى ما تهوى أنفسهم أخذناهم بها فَأَنْزَلْنا بمقتضى قهرنا وجلالنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا تنصيصا عليهم وتخصيصا لهم ليعلم ان سبب أخذهم وانتقامهم انما هو ظلمهم رِجْزاً طاعونا نازلا مِنَ قبل السَّماءِ مقدرا أسبابه فيها بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بشؤم ما يخرجون عن مقتضى الحدود الإلهية المنزلة من عنده على السنة رسله وَاذكروا ايضا جلائل نعمنا إياكم وقت إِذِ اسْتَسْقى مُوسى وطلب السقي منا بانزال المطر لِقَوْمِهِ حين بثوا الشكوى عنده من شدة العطش في التيه فَقُلْنَا له مشيرا الى ما يترقب منه مطلوبه بل يستبعد حصوله عند أشد استبعاد اضْرِبْ يا موسى بِعَصاكَ الْحَجَرَ الذي بين يديك ولا تستبعد حصول مطلوبك منها فتفطن موسى بنور النبوة بمضمون الأمر الوجوبي فضربه دفعة بلا تردد فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ فجاءة على الفور اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً متمايزة منفردة كل منها عن صاحبته بعدد رؤس الفرق الاثنى عشر بحيث قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ من كل فرقة مَشْرَبَهُمْ المعين لهم رفعا للتزاحم والتنازع ثم أمرناكم بما ينفعكم ظاهرا وباطنا بان قلنا لكم كُلُوا وَاشْرَبُوا متنعمين مترفهين مِنْ رِزْقِ اللَّهِ الذي قد أفاض عليكم من حيث لا تحتسبون وَنهيناكم عما يضركم صورة ومعنى بان قلنا لكم لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ ولا تظهروا عليها خيلاء متكبرين مُفْسِدِينَ بأنواع الفسادات مفتخرين بها واعلموا ان الله المنتقم الغيور لا يحب كل مختال فخور وَاذكروا ايضا وقت إِذْ قُلْتُمْ لموسى في التيه بعد إنزال المن والسلوى وانفجار العيون من الحجر الصماء قولا خاليا عن الإخلاص والمحبة ناشئا عن محض الغفلة والفساد وكفران النعم يا مُوسى على طريق سوء الأدب لَنْ نَصْبِرَ معك في التيه عَلى طَعامٍ واحِدٍ مع انه غير ملائم لأمزجتنا وطباعنا فَادْعُ لَنا رَبَّكَ الذي قد ادعيت تربيته إيانا يُخْرِجْ لَنا ويهيء لغذائنا من جنس ما تنبت الأرض التي هي معظم عناصرنا مما يناسب لمزاجنا سواء كان مِنْ بَقْلِها خضرواتها التي يأكلها الإنسان للتفكه والتلذذ بحرافتها وحموضتها ومرارتها الملايمة لطبعه وَقِثَّائِها التي يتفكه بها لتبريد المزاج وَفُومِها حنطتها التي يتقوت بها لشدة ملاءمتها مزاجه لذلك ما أزل الشيطان أبانا آدم الا بتناولها وكذا ما نهى سبحانه عباده عنها لكمال ملاءمتهم بها وميل طباعهم إياها وَعَدَسِها الممد لهضم الغذاء وَبَصَلِها التي تشتهيها النفوس المتنفرة عن الحلاوة والدسومة ثم لما سمع موسى منهم ما سمع ايس وقنط من صلاحهم وإصلاحهم لذلك قالَ في جوابهم موبخا ومقرعا أَتَسْتَبْدِلُونَ وتختارون ايها الناكبون عن طريق الحق الراكنون الى الهوى الَّذِي هُوَ أَدْنى

[سورة البقرة (2) : آية 62]

المخرج من الأدنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ وأعلى المنزل من الأعلى وبالجملة انا استحى من الله بسؤال ما سألتم وإنجاح ما املتم اهْبِطُوا وانزلوا مِصْراً ارض العمالقة وديار الفراعنة فَإِنَّ لَكُمْ فيه ما سَأَلْتُمْ بالكد والفلاحة وانواع التعب والعنا وَبعد ما أذلوا نفوسهم بطلب الأشياء الدنية الخسيسة ضُرِبَتْ اى قد غلبت وختمت عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ لخباثة نفوسهم وقساوة قلوبهم وتمكن النفاق في جبلتهم لذلك ما ترى يهوديا الا ذليلا في نفسه خبيثا في معاشه وَضربت عليهم ايضا الْمَسْكَنَةُ والهوان المذموم المتفرع على الذلة المتفرعة على الدناءة والخباثة وَبعد ما قد ضربت عليهم الذلة باؤُ وصاروا مقارنين بِغَضَبٍ نازل مِنَ اللَّهِ المطلع على سرائرهم وضمائرهم ذلِكَ اى السبب الموجب لنزول الغضب بِأَنَّهُمْ كانُوا من خبث طينتهم وشدة نفاقهم وضغينتهم يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ونعمه النازلة عليهم عطاء وامتنانا وَلا يقتصرون على كفران النعم فقط بل يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ المنبئين لهم معالم دينهم الناهين لهم عن قبح صنيعهم بِغَيْرِ الْحَقِّ الذي ظهر عندهم من الجنايات الموجبة للقتل بل ما ذلِكَ الكفر والقتل الا بِما عَصَوْا عصيانا فاحشا على الله وعلى خلص عباده وَكانُوا في العصيان والفسوق يَعْتَدُونَ ويتجاوزون عن حدود الله عنادا واستكبارا ثم لما بالغوا في الاعراض عن الله والتجاوز عن حدوده وكفران نعمه وصاروا من نهاية افراطهم وتفريطهم مظنة ان لا يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح أصلا تقاعد موسى صلوات الله عليه وسلامه عن تبليغهم وايس عن اهتدائهم بالمرة ثم أشار سبحانه الى ان منهم ومن أمثالهم من ذوى الأديان والملل من يهتدى الى الحق ويتوجه الى طريق مستقيم فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بدين محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالَّذِينَ هادُوا وانقادوا بدين موسى عليه السّلام وَالنَّصارى الذين قد آمنوا بدين عيسى عليه السّلام وَالصَّابِئِينَ وهم الذين تدينوا بدين نوح عليه السّلام مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعنى أيقن بوحدانية الله وأقر باستقلاله في ربوبيته واعترف وعرف ان لا موجود الا الله الواحد الأحد الفرد الصمد ومع ذلك صدق واعترف بيوم الجزاء وَعَمِلَ عملا صالِحاً موافقا لما امر خالصا لوجه الله مخلصا فيه فَلَهُمْ فيه أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي يوفقهم على التوحيد والإخلاص وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العقاب والعذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عن سوء المنقلب والمآب وَاذكروا ايضا إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ اى قد طلبنا منكم العهد الوثيق بان تتبعوا موسى وتمتثلوا بأوامر كتابه وتجتنبوا عن نواهيه فامتنعتم عن متابعته وأبيتم عن انقياده مستثقلين أنتم ما في كتابه من الأوامر والنواهي فألجأناكم اليه بان أمرنا جبرائيل عليه السّلام بقلع جبل طور من مكانه وَبعد ما قلعه رَفَعْنا بتوفيقنا إياه فَوْقَكُمُ الطُّورَ معلقا عليكم وقلنا لكم حينئذ ملجأ خُذُوا جميع ما آتَيْناكُمْ من الدين والكتاب بِقُوَّةٍ جد كامل واجتهاد تام وَاذْكُرُوا جميع ما فِيهِ على التفصيل لنفوسكم وان لم تأخذوا وتذكروا نسقط عليكم الجبل فنستأصلكم فعهدتم ملجئين خوفا من سقوطه وانما فعلنا ذلك بكم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ يعنى لكي تحذروا عن مقتضى قهرنا وانتقامنا ثُمَّ لما أمهلناكم زمانا قد تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عن العهد مِنْ بَعْدِ ما قد أزلنا عنكم ذلِكَ الخوف والرعب وبالجملة أنتم في جبلتكم قوم ظالمون مجاوزون عن الحدود والعهود الإلهية مجبولون على الظلم والعدوان فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بارادة ايمانكم وصلاحكم وَرَحْمَتُهُ الواسعة الشاملة لكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب لَكُنْتُمْ في

[سورة البقرة (2) : آية 65]

انفسكم مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيمة الا ذلك هو الخسران المبين وكيف لا تكونون أنتم من جملة الخاسرين الناقضين للعهود الإلهية وأنتم قوم شأنكم هذا وَالله لَقَدْ عَلِمْتُمُ وحفظتم أنتم قصة المسرفين المفرطين الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ ومن اسلافكم متجاوزين عن مقتضى العهد الإلهي في زمن داود عليه السّلام فِي اصطياد يوم السَّبْتِ وذلك انهم سكنوا على شاطئ البحر في قرية يقال لها ايلة وكان معاشهم من صيد البحر فأرسل الله عليهم داود عليه السّلام فدعاهم فآمنوا له وعهد عليهم معهم على لسان داود بان لا يصطادوا في يوم السبت بل يخصونه ويعينونه للتوجه والتعبد فقبلوا العهد وأكدوه بالميثاق وكانت حيتان البحر بعد العهد يحضرن في يوم السبت على شاطئ البحر ويخرجن خراطيمهن من الماء ثم لما مضى عليها زمان احتالوا لصيدها حيث حفروا حياضا وأخاديد على شاطئ البحر وأحدثوا جداول منه إليها ولما كان يوم السبت يفتحون الجداول ويرسلون الماء الى الحياض واجتمعت الحيتان فيها وفي يوم الأحد يصطادونها منها وبالجملة قد نقضوا عهدنا بهذه الحيلة واغتروا بامهالنا إياهم زمانا بل ظنوا انهم قد خادعونا ثم انتقمنا عنهم فَقُلْنا لَهُمْ حينئذ بعد ما قد أفسدتم على انفسكم لوازم الانسانية التي هي الإيفاء والوفاء على العهود والتكاليف قد افسدنا ايضا انسانيتكم بالمرة كُونُوا إذا الساعة قِرَدَةً صورة ومعنى خاسِئِينَ مهانين مبتذلين فمسخوا عن لوازم الانسانية من العلم والإدراك والمعرفة والايمان على الفور ولحقوا بالبهائم بل صاروا أسوأ حالا منها فَجَعَلْناها اى قصة مسخهم وشانهم هذا نَكالًا وعبرة لِما بَيْنَ يَدَيْها من الحاضرين المشاهدين حالهم وقصتهم وَما خَلْفَها ممن يوجد بعدها من المذكرين السامعين قصصهم وتواريخهم وَمَوْعِظَةً وتذكيرا لِلْمُتَّقِينَ الذين يحذرون عن المناهي مطلقا ويحفظون نفوسهم عنها دائما وَاذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين من سوء معاملة بنى إسرائيل مع أخيك موسى الكليم عليه السّلام وقبح صنيعهم معه ومجادلتهم بما جاء به من عندنا جهلا وعنادا ليتنبهوا ويتفطنوا على ان الايمان بنبي يوجب الانقياد والإطاعة له وترك المراء والمجادلة معه ودوام المحبة والإخلاص بالنسبة اليه وتفويض الأمور اليه ليتم سر الربوبية والعبودية والنبوة والرسالة والتشريع والتكليف والاقتداء والانقياد والتوسل والتقرب والوصول وذلك وقت إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ حين حدثت الفتنة العظيمة فيما بينهم وهي انه كان فيهم رجل من صناديدهم له اموال وضياع وعقارات كثيرة وله ابن واحد وبنوا أعمام كثيرة فطمعوا في ماله وقتلوا ابنه ليرثوه وطرحوا المقتول على الباب فأصبحوا صائحين فزعين يطلبون القاتل فأراد الله تفضيحهم وتشهيرهم فأمر موسى عليه السّلام بان قال لهم مخبرا إِنَّ اللَّهَ المطلع على سرائر الأمور يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً حتى ينكشف لكم امر المقتول ثم لما سمعوا من موسى ما سمعوا استبعدوا قوله وتحيروا في امره وقوله هذا ومن غاية استبعادهم قالُوا له على طريق المعاتبة أَتَتَّخِذُنا هُزُواً يعنى أتعتقد أنت يا موسى الداعي للخلق الى الحق انا محل استهزائك وسخريتك مع انه لا يليق بك ولا بنا هذا قالَ موسى مستنزها نفسه عن الاستهزاء مستعيذا أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ المستهزئين بالناس بل ما اتبع الا ما يوحى الى ثم لما سمعوا منه الاستبراء والاستعاذة خافوا من ابتلاء الله إياهم فأوجس كل منهم خيفة في نفسه لكونهم خائنين واشتغلوا بتدبير الدفع وشاوروا بينهم واستقر رأيهم على ان نووا تلك البقرة المخصوصة المعلمة المعينة المعهودة عندهم المعلومة بالشخص

[سورة البقرة (2) : آية 68]

وبعد ذلك سألوا عنه تعيينه بان قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ اكبير أم صغير قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ كبير في السن وَلا بِكْرٌ صغير فيه بل عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ اى متوسط استكمل سن النمو ولا يميل الى الذبول وبعد ما تحققتم أمرها فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ به ثم لما اشتد خوفهم من الفضيحة بنزول الوحى زادوا في الاستفسار عن التعيين مكابرة وعنادا تسويفا وتأخيرا حيث قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها من الألوان المتعارفة المشهورة حتى نذبحها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ اصيل في الصفرة كأنه وضع اسم الصفرة بإزائها أولا وبالجملة لَوْنُها كلون الذهب تَسُرُّ النَّاظِرِينَ والسرور عبارة عن الانبساط والانتعاش الحاصل في القلب عند فراغه عن جميع الشواغل في تلك الحالة يتعجب عن كل ذرة بل عن نفسه ويؤدى تعجبه الى التحير فإذا تحير غرق في بحر لا ساحل لها ولا قعر أدركنا يا دليل الحائرين ثم لما جزموا الإلجاء فقطعوا النظر عن الخلاص كابروا وعاندوا ايضا مبالغين فيها حيث قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ اى ما هويتها وهيئتها المعينة المشخصة وقل له يا موسى حكاية عنا إِنَّ الْبَقَرَ المأمور به تَشابَهَ عَلَيْنا ومتى استوصفناه منك قد وصفتنا بالأوصاف المشتركة العامة وَإِنَّا بعد ما قد عينتها بتعيين الله إيانا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ بذبحها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ عجف مهزول بسبب تقليب الأرض واثارتها للزراعة وَلا ذلول سبب ذلتها وضعفها انها تَسْقِي الْحَرْثَ بالدلو والسقاية بل هي مُسَلَّمَةٌ من حين صغرها عن أمثال هذه المذلات بحيث لا شِيَةَ فِيها اى لا عيب ولا ضعف فيها ثم لما بالغوا في الاستفسار الى ان بلغوا على ما قد نووا في نفوسهم الزموا وأفحموا قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ الثابت الكائن في الواقع وفي نيتنا واعتقادنا حكى ان شيخا صالحا من صلحائهم قد كانت له هذه العجلة المتصفة بهذه الصفات فذهب بها الى ايكة فأودعها عند الله وقال اللهم انى استودعها عندك لولدي حتى يكبر ثم مات الشيخ وكانت تلك البقرة في حفظ الله وحمايته حتى يكبر الولد وحدثت تلك الحادثة فيما بينهم فأمر الله سبحانه بذبح تلك البقرة على سبيل الإلجاء فاشتروها بملإ مسكها ذهبا فَذَبَحُوها ملجئين مكرهين وَلولا الجاؤنا إياهم واكراهنا عليهم ما كادُوا وما قاربوا يَفْعَلُونَ لخوف الفضيحة وغلاء ثمنها وَكيف تفعلونه أنتم مع انكم تعلمون في نفوسكم ان سبب نزوله تفضيحكم واظهار ما كتمتم في نفوسكم اذكروا وقت إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً بغير حق فَادَّارَأْتُمْ وتدافعتم فِيها اى في شانها بان أسقط كل منكم قتلها عن ذمته وقد سترتم أمرها وهدرتم دمها وَاللَّهُ المحيط بسرائركم وضمائركم مُخْرِجٌ مظهر ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ في نفوسكم فَقُلْنا لكم بعد ما قد تدارأتم وتدافعتم فيها وأنتم ذبحتم البقرة المأمورة اضْرِبُوهُ اى المقتول بِبَعْضِها اى ببعض البقرة اى بعض كان فضربوه فحي المقتول باذن الله فأخبر بقاتله فافتضحوا وارتفعت المداراة كَذلِكَ اى مثل احياء هذا المقتول بلا سبب يقتضيه عقولكم ويرتضيه نفوسكم يُحْيِ اللَّهُ القادر على عموم ما يشاء جميع الْمَوْتى في يوم الحشر والجزاء بلا اسباب ووسائل اقتضتها عقول العقلاء إذ عنده الإبداء عين الإعادة والإعادة عين الإبداء بل الكل في مشيته وقدرته على السواء وَيُرِيكُمْ قبل ظهور النشأة الاخرى آياتِهِ الدالة على تحقق وقوعها لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رجاء ان تتفكروا وتتفطنوا منها اليه وتؤمنوا بجميع المعقدات الشرعية الدنيوية والاخروية وتصدقوها على وجه التعبد والانقياد بلا مراء ومجادلة مع من اتى بها من الرسل والأنبياء ووارثهم

[سورة البقرة (2) : آية 74]

من الأولياء والأصفياء ولا يتيسر لكم هذه الرتبة العلية الا بعد ذبحكم بقرة النفس الامارة المسلطة بالقوة التامة عليكم المتلونة بألوان المسرة لنفوسكم وطباعكم المسلمة الممتنعة من التكاليف الشرعية من الأوامر والنواهي وضربكم بها على النفس المطمئنة المقهورة المقتولة ظلما لتصير حية بالحيوة الابدية باقية بالبقاء السرمدي فتخبركم عن صنائع امارتكم الظالمة المتجاوزة عن الحد خلصنا الله وعموم عباده من غوائلها ثُمَّ قَسَتْ بالقساوة الاصلية والرين الجبلي قُلُوبُكُمْ المتكبرة المتجبرة الصلبة البليدة مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الأحياء الملين للقلوب الخائفة الوجلة عن خشية الله وبعد ما لم يلين قلوبكم ولم يؤثر فيها هذه الآية الكبرى فَهِيَ اى فظهر انها اى القلوب القاسية في الصلابة والقساوة كَالْحِجارَةِ التي لا تقبل النقر والأثر أصلا أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً بل أشد صلابة من الحجارة فان من الحجارة ما تتأثر بالحيل وقلوبكم لا تقبل التأثر أصلا وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ ويتأثر منها وقلوبكم لا تتأثر بأنهار المعارف المنشعبة عن بحر الذات الجاري على جداول السنة الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ اى يتأثر بالشقوق الحادثة بأنفسها بالتحليل الحاصل من مر الدهور وكر الأعوام او من مؤثر خارجى وبعد ما تشقق فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ فيدخل فيه الماء وقلوبكم لا تتأثر لا بنفسها ولا بالمؤثر الخارجي وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ ينزل من أعلى الجبل مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ الناشئة من ظهور الآيات مثل المطر الهاطل والريح العاصفة والزلزلة القالعة وغير ذلك من الآيات الظاهرة في الآفاق وقلوبكم لا تتأثر بالآيات الباهرة النازلة عليكم من ربكم ترغيبا وترهيبا هذا تقريع وتوبيخ لهم على ابلغ وجه وآكده وحث على المؤمنين وتحذير لهم عن أمثالها بأنهم مع قابليتهم على التأثر لا يقبلون الأثر النافع لهم في الدارين والحجارة مع صلابتها وعدم قابليتها تتأثر فهم في أنفسهم أسوأ حالا وأشد قساوة وصلابة منها ومع ذلك تخادعون الله بالستر والإخفاء وتظنون غفلته وَمَا اللَّهُ المظهر لذواتهم وأشباحهم المحيط بعموم مخايلهم وحيلهم بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ولو طرفة وخطرة ولمحة ثم لما ذكر سبحانه امتنانه على بنى إسرائيل وانعامه إياهم بأنواع النعم وذكر ايضا ظلمهم وعدوانهم وكفرانهم نعمه أراد أن ينبه على المؤمنين المحمديين المتمنين ايمان اليهود وانقيادهم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومواخاتهم مع المؤمنين بان متمناكم وملتمسكم محال أَفَتَطْمَعُونَ يعنى الم تسمعوا قصتهم ولم تعرفوا خباثتهم ودناءتهم وذلتهم المضروبة عليهم وسوء معاملتهم مع أنبيائهم المبعوثين إليهم فترجون منهم طامعين أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ اى لنبيكم ويحابوا معكم لله مع علمكم بحالهم وَلم تسمعوا متواترا انه قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ اى من أسلافهم قوم يَسْمَعُونَ ويتلون كَلامَ اللَّهِ النازل لهم يعنى التورية وفيه وصف نبينا صلّى الله عليه وسلّم فيضطربون ويستثقلون بعثته صلّى الله عليه وسلّم ثُمَّ لما قرب عهده صلّى الله عليه وسلّم وظهر بعض علاماته استشعروا من اماراته انه صلّى الله عليه وسلّم هو النبي الموعود في كتابهم أخذوا يُحَرِّفُونَهُ اى الكتاب حسدا وعنادا ويغيرونه مكابرة مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ جزموه وحققوه انه هو وَهُمْ ايضا في أنفسهم يَعْلَمُونَ مكابرتهم وعنادهم ويجزمون في نفوسهم حقيته ويقولون في خلواتهم انه وان كان النبي الموعود لكن لا نؤمن له لأنه من العرب لا منا ومنهم من آمن وصدق ظاهرا لمصلحة دنيوية وهو في نفسه على خباثته الاصلية ودنائته الجبلية بل أخبث منهم وَعلامة خباثتهم انهم إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا وأخلصوا في ايمانهم قالُوا آمَنَّا برسولكم الذي

[سورة البقرة (2) : آية 77]

هو الرسول الموعود في التورية يقينا وصدقناه في جميع ما جاء به من عند ربه وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يعنى المنافقين مع المصرين المجاهرين بالكفر قالُوا اى كل من الفريقين لآخر عند المشاورة وبث الشكوى أترون امر هذا الرجل كيف يعلو ويترقى وما هو الا النبي المؤيد الموعود في التورية اى شيء تعملون يا معاشر اليهود أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وأخبركم في كتابه من شيمه وأوصافه لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ ويغلبوا عليكم ويترقبوا عِنْدَ رَبِّكُمْ فالعار كل العار أم تحرفون كتابكم وتحكون منه أوصافه وبالجملة لا تسلموا غيرة وحمية أَفَلا تَعْقِلُونَ ولا تتفكرون ولا تتأملون ايها المتدينون بدين الآباء في امر هذا الرجل هكذا جرت وصدرت منهم دائما أمثال هذه الهذيانات الى ان يتفرقوا قل يا ايها الرسول في حقهم نيابة عنا على سبيل التعجب أَوَلا يَعْلَمُونَ ولا يفقهون أولئك المجبولون على فطرة الدراية والشعور أَنَّ اللَّهَ المحيط بظواهرهم وبواطنهم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما يُسِرُّونَ من الكفر والتكذيب عنادا ومكابرة وَكذا عموم ما يُعْلِنُونَ من القول غير المطابق للاعتقاد هذا حال علمائهم وأحبارهم وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ ولا يفهمون من انزاله وإرساله والامتثال بما فيه من الأوامر والنواهي وجميع المعتقدات الشرعية والتكاليف الإلهية إِلَّا أَمانِيَّ كسائر الأماني الدنياوي وانما أخذوها تقليدا لرؤسائهم ورهابينهم وَإِنْ هُمْ اى ما هم في أنفسهم زمرة العقلاء من المميزين في المعتقدات الشرعية إِلَّا يَظُنُّونَ يعنى ما هم سوى انهم يظنون ظنا بليغا في تمييز علمائهم المحرفين للكتاب وبواسطة هذا الظن الفاسد لم يؤمنوا بنبينا صلّى الله عليه وسلّم. ثم لما كان المحرفون ضالين في أنفسهم مضلين لغيرهم من اتباعهم استحقوا أشد العذاب فَوَيْلٌ اى حرمان عظيم عن لذة الوصول بعد ما قرب الحصول او طرد وتبعيد عن ذروة الوجوب الى حضيض الإمكان او عود وترجيع لهم من الحرية السرمدية الى الرقية الابدية في النشأة الاخرى لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ بعد تحريفهم بآرائهم السخيفة ثُمَّ يَقُولُونَ لسفلتهم وجهلتهم ترويجا لتحريفهم وتغريرا هذا ما نزل مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وانما قالوا كذلك لِيَشْتَرُوا بِهِ اى بنسبة هذا المحرف الى الله ثَمَناً قَلِيلًا على وجه التحف والهدايا من الضعفاء الذين يظنونهم عقلاء أمناء في امور الدين كما يفعله مشايخ زماننا انصفهم الله مع من يتردد حولهم من عوام المؤمنين ثم لما كان الويل عبارة عن نهاية مراتب مقتضى القهر والجلال وغاية البعد عن مقتضيات اللطف والجمال كرره سبحانه مرارا وفصله تكرارا تحذيرا للخائفين المستوحشين عن طرده وابعاده حيث قال فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ من المحرفات الباطلة وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ من الفتوحات والمعاملات الخبيثة ومن جملة هذياناتهم مع ضعفائهم انهم لما ظهر فيما بينهم واشتهر ما نزل في التورية ان الذين اتخذوا العجل آلها من دون الله يدخلون النار قد اضطربت الضعفاء منهم من هذا الكلام الى حيث خاف المحرفون من اضطرابهم ان يميلوا الى الإسلام وَقالُوا لهم تسلية وتسكينا لا تضطربوا ولا تبالوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ بسبب عبادة العجل إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قلائل أربعين مقدار مدة عبادة العجل او اقل من ذلك قُلْ لهم يا أكمل الرسل توبيخا وتقريعا أَتَّخَذْتُمْ أنتم وأخذتم عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً او نزل عليكم في كتابكم بان لا تمسكم النار الا أياما معدودة فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ البتة ان ثبت وجرى منه سبحانه هذا العهد بل نحن ايضا من المؤمنين له المصدقين به أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ افتراء ما لا تَعْلَمُونَ ثبوته عنده فيجازيكم بما افتريتم البتة بَلى اى بل الأمر الحق والشان المحقق الثابت

[سورة البقرة (2) : آية 82]

عنده سبحانه وجرى عليه السنة السنية المستمرة ان مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً اى خصلة شاغلة ملهية مبعدة عن الحق وَمع ذلك قد أَحاطَتْ اى شملت واحتوت بِهِ خَطِيئَتُهُ اى خطاياه المنتهية كل منها الى سيئة مبعدة فَأُولئِكَ البعداء عن طريق الحق المحاطون بالخطايا وانواع السيئات أَصْحابُ النَّارِ اى نار البعد والخذلان وملازموها لا نجاة لهم منها أصلا بل هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون مخلدون الى ما شاء الله وَالَّذِينَ آمَنُوا واعتقدوا بوحدانية الله وأيقنوا ان لا وجود لغيره مطلقا وَمع الايمان والإيقان بالجنان قد عَمِلُوا بالجوارح والأركان الصَّالِحاتِ من الأعمال المقربة المترتبة على هذا الاعتقاد المثمر إياها أُولئِكَ المقربون والواصلون الى ما وصلوا من القرب والكرامة أَصْحابُ الْجَنَّةِ وملازمو القرب والوصول هُمْ فِيها خالِدُونَ متمكنون راسخون ما شاء الله إذ لا مرمى وراء الله ولا مقصد سوى الله لا اله الا الله لا حول ولا قوة الا بالله وَاذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين وقت إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ اى العهد الوثيق منهم حين ظهر منهم نقض العهود والمواثيق المؤكدة بان قلنا لهم على سبيل التأكيد والمبالغة لا تَعْبُدُونَ يعنى لا تتقربون وتتوجهون إِلَّا اللَّهَ الذي أظهركم من كتم العدم ورباكم بأنواع اللطف والكرم كي تعرفوه حق معرفته وَايضا لا تعاملون بِالْوالِدَيْنِ المربيين لكم باستخلاف الله إياهما الا إِحْساناً محسنين معهما خافضين لهما جناح الذل ببذل المال وخدمة الأركان وَكذا مع ذِي الْقُرْبى المنتمين إليكم بواسطتهما وَايضا لا تقهرون الْيَتامى والأطفال الذين لا متعهد لهم من الوالدين ولا من ذوى القربى بل تحسنون لهم وتشفقون إياهم وَكذا مع الْمَساكِينِ الذين لا يمكنهم اكتساب المعيشة لعدم مساعدة آلاتهم وَبالجملة قُولُوا لِلنَّاسِ اى لجميع الأجانب المستغنين عن امدادكم وانعامكم حُسْناً قولا حسنا هينا لينا منبئا عن المحبة والوداد وَلما امرناهم ونهيناهم كذلك بما يتعلق بمبدأهم ومعاشهم امرناهم ايضا بما يتعلق بمعادهم ورجوعهم إلينا حيث قلنا لهم أَقِيمُوا الصَّلاةَ يعنى داوموا على الميل والصلاة التي هي معراجكم الحقيقي الى ذروة التوحيد والعروج إليها لا يتحقق الا بترك العلائق وطرح الشواغل المانعة عنها وَكذلك آتُوا الزَّكاةَ المصفية لنفوسكم عن خبث الشح المزيلة عنها محبة الغير والسوى بل محبة نفوسكم الشاغلة عن الوصول الى شرف لقيا المولى ثُمَّ لما استثقلتم الأوامر والنواهي نقضتم العهود حيث تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عنها ونبذتموها وراء ظهوركم إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وهم الذين ذكرهم الله في قوله ان الذين أمنوا والذين هادوا الآية وَبالجملة أَنْتُمْ في انفسكم قوم مُعْرِضُونَ شأنكم الاعراض عن الحق والانصراف عن اهله وَكيف لا تكونون معرضين اذكروا قبح صنيعكم وقت إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ حيث لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ اى لا يسفك بعضكم دم بعض عدوانا وظلما بلا رخصة شرعية وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ اى لا يخرج بعضكم بعضا من دياره تعديا وظلما ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ طوعا واعترفتم رغبة بهذا العهد وَأَنْتُمْ بأجمعكم تَشْهَدُونَ وتحضرون وكلكم متفقون عليه راضون به ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ الحمقاء الخبيثون الدنيون المفسدون المسرفون قد نقضتم العهد سيما بعد توكيدها حيث تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ اى بعضكم نفس بعض بغير حق وَتُخْرِجُونَ اى يخرج بعضكم فَرِيقاً بعضا منكم مِنْ دِيارِهِمْ المألوفة اجلاء وظلما وأنتم بأجمعكم تَظاهَرُونَ وتعينون عَلَيْهِمْ اى على المخرجين والظالمين بِالْإِثْمِ اى بالخصلة الفاحشة المستتبعة للحد

[سورة البقرة (2) : آية 86]

الشرعي وَالْعُدْوانِ اى الظلم المتجاوز عن الحد وَمن جملة عهودكم ايضا إِنْ يَأْتُوكُمْ اى ان يأت بعضكم بعضا أُسارى موثقين في يد العدو تُفادُوهُمْ وتعطوهم فديتهم وتنقذوهم من أيدي العدو تبرعا وأنتم لا تنقضون هذا العهد مع انه غير محرم عليكم ترك افدائهم وتنقضون العهد الوثيق المتعلق بالقتل والإخراج وَالحال انه هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ وقتلهم وبالجملة أَفَتُؤْمِنُونَ وتوفون بِبَعْضِ العهود الثابتة في الْكِتابِ وهو عهد الفدية وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وهو عهد عدم القتل والاجلاء مع انه لا تفاوت بين العهود المنزلة من عند الله فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ الفصل والتفرقة بين عهود الله المنزلة حال كونه مِنْكُمْ ايها المسرفون المستكبرون في كتابه عتوا واستكبارا إِلَّا خِزْيٌ ذل يستكرهه جميع الناس فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ القائمة للعدل والجزاء يُرَدُّونَ أولئك الناقضون لعهود الله إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ الذي هو قعر بحر الإمكان لا نجاة لا حد منه وَمَا اللَّهُ المستوي على عروش الذرات الكائنة في العالم رطبها ويابسها شهادتها وغيبها بِغافِلٍ مشغول بشيء يشغله عَمَّا تَعْمَلُونَ أنتم بل شأنكم وحالكم وأعمالكم كلها عنده مكشوف معلوم له سبحانه يعلم الكل بعلمه الحضوري بحيث لا يشذ عن حيطة حضرة علمه المحيط الشامل شيء منها أصلا ثم لما ذكر سبحانه قبح معاشهم ومعادهم أراد أن ينبه على المؤمنين اسباب مقابحهم واعراضهم ليحذروا عن أمثالها ويحترزوا عنها فقال مشيرا إليهم على سبيل التوبيخ أُولئِكَ البعداء عن منهج الصدق والصواب هم الَّذِينَ اشْتَرَوُا اى استبدلوا واختاروا الْحَياةَ الدُّنْيا الفانية الغير القارة بل اللاشيء المحض بِالْآخِرَةِ التي هي النعيم المقيم واللذة الدائمة المستمرة والحيوة الازلية السرمدية فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ اى عذاب الإمكان والافتقار وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ويصلون الى مناهم من الحوائج بل صاروا مفتقرين دائما محتاجين مضطرين مسودة الوجوه في النشأتين. وَاذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين ايضا من قبح صنائعهم ليعتبروا من أفعالهم لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى المبعوث إليهم الْكِتابَ اى التورية المشتملة على المصالح الدنيوية والاخروية فكذبوه ولم يلتفتوا الى كتابنا المنزل عليه وَبعد ما قضى وانقرض موسى قَفَّيْنا وعقبنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ المرسلة إليهم ذوى الدعوات الظاهرة والآيات الباهرة والمعجزات الساطعة القاهرة فكذبوا الكل ولم يلتفتوا بعموم ما جاءوا به وَبعد انقراض أولئك الثقات الهداة الباذلين مهجهم في طريق الحق آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ المبعوث إليهم الْبَيِّناتِ الواضحات الموضحات المبينات لأمور معاشهم ومعادهم وَمع ذلك قد أَيَّدْناهُ وخصصناه وقويناه بِرُوحِ الْقُدُسِ اى بلوازمه المنزه عن رذائل الإمكان لذلك رفعناه الى السماء وأحييناه الى انقراض الدنيا ومع ذلك قد كذبوه بل أرادوا قتله ولم يظفروا به أَفَكُلَّما اى الم تكونوا أنتم ايها الحمقاء الناقضون للعهود والمواثيق أولئك الجاهلون المفرطون المسرفون الذين متى جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ حتى يصلحكم ويرشدكم الى طريق الحق اسْتَكْبَرْتُمْ عليه واستحقرتموه فَفَرِيقاً من الرسل قد كَذَّبْتُمْ أنتم بهم وانكرتم نبوتهم كموسى وعيسى عليهما السّلام وَفَرِيقاً منهم تَقْتُلُونَ كزكريا ويحيى عليهما السّلام والقوم الذين شانهم هذا وهكذا كيف يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح وَمن غاية عداوتهم معك يا أكمل الرسل ومع من تبعك من المؤمنين قالُوا حين دعوتك إياهم الى الايمان والتصديق بدين الإسلام

[سورة البقرة (2) : آية 89]

مستهزأ معك منكرا لدعوتك لا نفقه حديثك ولا نفهم معناه إذ قُلُوبُنا التي هي وعاء الايمان والإذعان غُلْفٌ اى مغلوفة مغشاة بالاغطية الكثيفة لا تصل إليها دعوتكم وإخباركم فنحن معذورون عن السماع والاستماع قل لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع لا غطاء ولا غشاوة إلا عنادكم وحسدكم على ظهور دين الإسلام وبغيكم عليه مع انكم قد جزمتم بحقيته عقلا ونقلا بَلْ اعرض عنهم يا أكمل الرسل وذرهم وكفرهم إذ قد لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ اى طردهم وبعدهم عن ساحة عز حضوره بمقتضى اسمه المنتقم بشؤم كفرهم وشركهم المركوز في جبلتهم حسب الفطرة الاصلية وهم مقهورون تحت اسمه المضل المذل وإذا كان شانهم هذا فَقَلِيلًا ما اى نزرا يسيرا منهم يُؤْمِنُونَ ويهتدون الى طريق التوحيد إبقاء لحق الفطرة الاصلية التي هم فطروا عليها وهم الذين ذكرهم سبحانه في قوله ان الذين آمنوا والذين هادوا الآية وبالجملة لا يرجى منهم الايمان وَايضا من شدة عتوهم وعنادهم ونهاية حسدهم على ظهور دين الإسلام لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مشتمل على جميع الاحكام والمعتقدات الدينية وعموم الحقائق والمعارف اليقينية مع انهم جزموا في أنفسهم نزوله مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لتوافقه وتطابقه على ما في كتبهم واعجازه عموم من تحدى معه ومع ذلك مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من الكتب المنزلة على الأنبياء الماضين وَالحال انهم قد كانُوا مِنْ قَبْلُ اى قبل ظهوره ونزوله يَسْتَفْتِحُونَ بهذا الكتاب ويستنصرون بمن ينزل عليه ويفتخرون به وبدينه وكتابه عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بكتابهم ودينهم ونبيهم ويقولون سينصر ديننا بالنبي الموعود وبدينه المنزل عليه فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا في كتابهم من ظهور النبي الموعود الذي قد انتصروا به قبل مجيئه وافتخروا ببعثته على معاصريهم كَفَرُوا بِهِ عند مجيئه مكابرة وعنادا فاستحقوا بشؤم هذا الكفر والعناد مقت الله وطرده عن طريق التوحيد وتخليده إياهم في نيران الإمكان بأنواع الخيبة والخذلان نعوذ بالله من غضب الله فَلَعْنَةُ اللَّهِ الهادي للكل الى سواء السبيل نازلة دائما مستمرا عَلَى عموم الْكافِرِينَ المصرين على العناد المستكبرين على العباد ثم لما ذكر سبحانه من ذمائم أخلاقهم ما ذكر وعد من قبائح أفعالهم وأطوارهم ما عد أراد ان يذكر كلاما جمليا على وجه العظة والنصيحة في ضمن تعييرهم وتقريعهم ليتذكر به المؤمنون ويتنبه بسببه الغافلون فقال بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ اى بئس شيأ باعوا واستبدلوا به معارف نفوسهم ومكاشفاتها ومشاهداتها أَنْ يَكْفُرُوا اى ينكروا ويكذبوا من شدة عتوهم وعنادهم بِما أَنْزَلَ اللَّهُ حسب حكمته على من هو قابل للهداية والإرشاد ليهدى به من ضل عن طريق الحق مع جزمهم بحقيته بلا شبهة ظهرت عندهم بل هم ما يكفرون وينكرون به الا بَغْياً وعدوانا وحسدا وطغيانا على أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ المستجمع المستحضر لعموم القابليات والاستعدادات مِنْ فَضْلِهِ بلا سبق علل وأغراض عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ الخلص وهم الذين قد ارتفعت هوياتهم وتلاشت هياكلهم وماهياتهم وبالجملة قد فنوا في الله وصاروا ما صاروا لا اله الا هو ولا شيء سواه ثم لما حسدوا على أنبياء الله وبخلوا بمقتضى فضله وجوده فَباؤُ ورجعوا مقارنين بِغَضَبٍ عظيم من الله المنتقم عن جريمتهم متراكم عَلى غَضَبٍ عظيم حسب ما شاء الله الظهور عليهم باسمه المنتقم وَبالجملة لِلْكافِرِينَ المستحقرين على كتاب الله وعلى دينه وعلى نبيه عَذابٌ مُهِينٌ لهم في النشأة الاولى والاخرى في الدنيا بضرب الذلة والمسكنة والجزية والصغار وانواع الهوان والخسار وفي الآخرة بطردهم وحرمانهم عن ساحة عز القبول

[سورة البقرة (2) : آية 91]

المترتب على النشأة الانسانية ولا عذاب أشد من ذلك وَمن شدة انكارهم استكبارهم إِذا قِيلَ لَهُمْ على وجه العظة والتذكير آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ اى بجميع ما قد انزل عليكم لتزكية أخلاقكم وأعمالكم قالُوا في الجواب مكابرين حاصرين نحن نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا من عنده سبحانه ونصدق به جميعا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ اى سوى كتابهم وَالحال انه هُوَ الْحَقُّ المنزل من الحق بالحق على الحق لإظهار الحق وهم ايضا يعلمون حقيته ومع ذلك مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ من الكتاب الحق النازل على الحق يعنى التورية موافقا له في أكثر الاحكام وانما كفروا به للحسد والعناد الراسخ في طبائعهم وأحلامهم السخيفة ومبالغتهم في المكابرة والعناد والإصرار على تكذيب هذا الكتاب مع ان الايمان بأحد المتصادقين يوجب الايمان بالآخر وهو دليل على ان لا ايمان لهم بالتورية ايضا بل هم كافرون بها كفرهم بالفرقان لدلالة أفعالهم وأعمالهم على الكفر والإنكار وان أظهروا الايمان بها ظاهرا قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما عليهم فَلِمَ تَقْتُلُونَ ايها المتدينون بدين اليهود المؤمنون المصدقون بالتورية سيما أَنْبِياءَ اللَّهِ الحاملين للتورية العاملين بمقتضاها مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بها مصدقين بجميع ما فيها فثبت انكم لستم بمؤمنين بها ايضا لتخلفكم عن مقتضاها وقتلكم الرسل العاملين بها وتكذيبكم إياهم وَان أنكروا التكذيب اذكر لهم يا أكمل الرسل لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى المؤيد من لدنا بِالْبَيِّناتِ الواضحات المبينات في التورية الموضحات لطريق التوحيد والايمان فكذبتم موسى عليه السّلام وانكرتم على جميع بيناته ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ المسترذل الها مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد ما ذهب موسى الى الطور للفوائد الاخر المتعلقة لتكميلكم وَبالجملة أَنْتُمْ قوم ظالِمُونَ مجاوزون عن حدود الله ناكبون عن طريق الحق ومنهج الرشد وَان أردت يا أكمل الرسل زيادة إلزامهم واسكاتهم. اذكر لهم نيابة عنا وقت إِذْ أَخَذْنا منكم ايها الناقضون لعهودنا المنكرون لكتابنا مِيثاقَكُمْ الذي قد واثقتم معنا ثم تركتموه وَالجأناكم على إيفاء ما عهدتم بان رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ معلقا وقلنا لكم استعلاء وتجبرا خُذُوا جميع ما آتَيْناكُمْ على نبيكم من الأوامر والنواهي بِقُوَّةٍ اى جد واجتهاد كامل وَاسْمَعُوا جميع ما فيه من المعارف والحقائق بسمع الرضاء وعلى نية الكشف والشهود وبعد ما سمعوا منا قالُوا ظاهرا سَمِعْنا جميع ما أمرنا به ونهينا عنه وَخفية قالوا عَصَيْنا عنها مع الامتثال بها وَسبب عصيانهم انهم لخساستهم ودنائة طبعهم وركاكة رأيهم قد أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ يعنى تحببوا وتطيبوا في قلوبهم التي هي وعاء الايمان والتوحيد ومحل العرفان واليقين محبة العجل المسترذل المستقبح المستحدث من حليهم وما هي الا بِكُفْرِهِمْ اى بشؤم ما كفروا بالله وبكتبه ورسله وحصروا ظهور الحق في مظهر مخصوص ومع ذلك يدعون الايمان بموسى عليه السّلام قُلْ لهم يا أكمل الرسل تقريعا لهم على وجه التعريض بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ من انكار كتاب الله وتكذيب رسله وقتلهم بغير حق واعتقادكم الشركة مع الله إِنْ كُنْتُمْ صادقين في كونكم مُؤْمِنِينَ ثم لما اشتهر بين الناس قولهم لن يدخل الجنة الا من كان هودا وامتنع عن قبول الإسلام كثير من القاصدين العازمين لقبوله وتغمم بسبب ذلك ضعفاء المسلمين أشار سبحانه الى دفع هذا المقال مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم فقال قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ التي هي منازل الشهداء ومقام العرفاء الأمناء الواصلين الى مرتبة الفناء في الفناء

[سورة البقرة (2) : آية 95]

والبقاء بالبقاء الإلهي عِنْدَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد خالِصَةً منحصرة مخصوصة مسلمة لكم مِنْ دُونِ الله شركة النَّاسِ المنسوبين الى الأديان الاخر فَتَمَنَّوُا عن صميم القلب ومحض الطوع والرغبة الْمَوْتَ الإرادي المقرب لكم إليها الموصل إياكم الى لذائذها كما يتمناه خلص المؤمنين الموقنين بوحدانية الله في اكثر أوقاتهم وحالاتهم قال المرتضى الأكبر كرم الله وجهه والله لابن ابى طالب أشوق الى الموت من الطفل بثدي امه وقال ايضا سلام الله عليه لا أبالي سقطت على الموت او سقط الموت على وقال ايضا عليه السّلام جزى الله عنا الموت خيرا فانه ... أبر بنا من كل خير وارأف يعجل تخليص النفوس من الأذى ... ويدنى الى الدار التي هي اشرف وقال عمار رضى الله عنه حين استشهد الآن ألاقي الأحبة محمدا وأصحابه وأنتم ايضا تمنوا الموت إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعويكم وَالله لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ وكسبت أَيْدِيهِمْ وأنفسهم من الحرص وطول الأمل والاستلذاذ باللذات الحسية والوهمية من الجاه والمال والمكانة والاعتبار بين الناس والاستكبار عليهم الا تريهم يتوجهون ويرجعون الى الله عند نزول البلاء المشعر لتعجيل الموت المقرب نحوه سبحانه ويسئلون فرجا واستكشافا وإذا انكشف عنهم ولوا على ما هم عليه مدبرين وَبالجملة اللَّهُ المحيط بسرائر عباده وضمائرهم عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ منهم الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية القائلين بأفواههم ما ليس في قلوبهم وَالله يا أكمل الرسل لو فتشت عن أحوالهم واستكشفت عما جرى في سرائرهم وضمائرهم لَتَجِدَنَّهُمْ اى اليهود ولتصادفنهم أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ دائمة مستمرة عموما وَخصوصا مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا واعتقدوا ان لا حيوة الا في دار الدنيا بل من نهاية حرصهم وطول أملهم يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ويحب لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ او يزيد عليه الفا أخر وهكذا وَالحال انه بهذه المحبة ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ اى ليس هو مبعد نفسه مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ الى غاية ما يتمناه ويحبه بل ما يزيد الا عذابا فوق العذاب حسب لوازم الإمكان وَاللَّهُ المجازى لهم على أعمالهم بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ اى بجميع أعمالهم طول اعمارهم بحيث لا يعزب عن علمه شيء منها ثم لما ظهر دين الإسلام وترقى امره وارتفع قدره واشتهر نزول القرآن الناسخ لجميع الكتب والأديان اضطرب اليهود ووقعوا فيما وقعوا ومن شدة قلقهم واضطرابهم سئلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمن انزل عليه من الملائكة فقال صلّى الله عليه وسلّم أخونا جبرائيل قالوا هو عدونا القديم ليس هذا أول ظهوره علينا بالعداوة بل قد ظهر علينا من قبل مرارا وهو دائما بصدد نسخ ديننا قال سبحانه مخاطبا لحبيبه قُلْ يا أكمل الرسل مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ اى لمن يدعى عداوة أمين وحينا جبرائيل عليه السّلام بواسطة إنزال القرآن إليك لا وجه لاتخاذكم جبرائيل عليه السّلام عدوا فَإِنَّهُ عليه السّلام انما نَزَّلَهُ اى القرآن عَلى قَلْبِكَ يا أكمل الرسل الذي هو وعاء الايمان والإسلام ومهبط الوحى والإلهام بِإِذْنِ اللَّهِ والقائه اليه ووحيه إياه بتنزيله إليك لا من عند نفسه حتى تتخذوه عدوا وان اتخذتم عدوا فاتخذوا الله الآمر المنزل الحقيقي عدوا مع انه لا وجه للعداوة أصلا لكون المنزل عليه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب المنزلة وَهُدىً يهدى الى طريق الايمان والتوحيد وَبُشْرى بالنعيم

[سورة البقرة (2) : آية 98]

الدائم الباقي لِلْمُؤْمِنِينَ المهتدين به جعلنا الله منهم وممن اقتفى باثرهم بمنه وجوده وقل لهم ايضا يا أكمل الرسل مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ بنقض عهوده وبعدم الامتثال بأوامره والاجتناب عن نواهيه وَمَلائِكَتِهِ بنسبتهم الى ما هم منزهون عنه وَرُسُلِهِ بالتكذيب والقتل والاهانة والاستهزاء وَلا سيما جِبْرِيلَ وَمِيكالَ كلا الأمينين المقربين عند الله بنسبة الميل والخيانة إليهما فهو كافر بالله بأمثال هذه الخرافات فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ بكفرهم وإصرارهم عليه وَمن جملة كفرهم وعنادهم لَقَدْ أَنْزَلْنا من كمال فضلنا وجودنا إِلَيْكَ يا من وسعت مظهريته جميع اوصافنا وأخلاقنا آياتٍ دلائل وشواهد بَيِّناتٍ واضحات لطريق المعرفة والايمان فكفروا بها وكذبوها وَما يَكْفُرُ بِها مع غاية وضوحها وجلائها إِلَّا الْفاسِقُونَ الخارجون عن ربقة العبودية بعدم الايمان والانقياد بالكتاب والنبي بل بالإنزال والمنزل أصلا أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً يعنى هم لم لم يكونوا فاسقين خارجين عن مقتضيات الحدود الإلهية مع انهم هم من شدة غيهم وضلالهم كلما عاهدوا عهدا وثيقا مؤيدا مؤكدا مع الله ورسله نَبَذَهُ ونقضه فَرِيقٌ مِنْهُمْ بسبب الفسوق والخروج وعدم الوفاء والإيفاء ثم سرى نقضهم الى الكل جميعا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ولا ينقادون بالعهود والمواثيق الجارية من الله على السنة رسله وكتبه وَمن جملة عتوهم وعنادهم انهم لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ المرسل للرسل لهداية الناس الى توحيده مع انه مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من الكتب المنزلة على الرسل الهادين ليرتفع التعدد والاختلاف عن اهل التوحيد مع ان مجيء هذا الرسول موعود مثبت في كتابهم الذي هم يدعون الايمان به نَبَذَ وطرح فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى اليهود كِتابَ اللَّهِ يعنى التورية وَراءَ ظُهُورِهِمْ بحيث لم يلتفتوا اليه ولم يعملوا بمقتضى ما فيه بل صاروا من شدة عداوتهم وعنادهم مع الرسول المبعوث كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ ولا يقرؤن كتابهم أصلا وَبعد نبذهم التورية وراء ظهورهم باشتمالها على اوصافك وظهورك يا أكمل الرسل أخذوا في معارضتك بالسحر واتَّبَعُوا ما تَتْلُوا اى تنسبوا وتفتروا الشَّياطِينُ اى المردة من الجن عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ بان استيلائه وتسلطه وتسخيره الجن والانس والوحوش والطيور والرياح انما هو بالسحر وَالحال انه ما كَفَرَ وسحر سُلَيْمانَ قط بل شانه مقصور على الوحى والإلهامات الإلهية والواردات الغيبية وَلكِنَّ الشَّياطِينَ يسترقون من الملائكة وينسبون الأمور الى الوسائط اصالة وبسبب ذلك قد كَفَرُوا وبعد كفرهم بالله وشركهم به سبحانه يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ المستلزم لانواع الفسوق والعصيان والكفر والطغيان وَلا سيما يسترقون ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ المحبوسين بِبابِلَ المسميين هارُوتَ وَمارُوتَ مع ان المنزل إليهما انما هو من مكر الله وإيقاعه الفتنة بين عباده ابتلاء لهم واختبارا وَمع ذلك ما يُعَلِّمانِ كلا الملكين السحر مِنْ أَحَدٍ من الناس حَتَّى يَقُولا له توصية وتذكيرا إِنَّما نَحْنُ الظاهرون بالسحر الخارق للعادة فِتْنَةٌ من الله العليم الحكيم وابتلاء منه لعباده فَلا تَكْفُرْ بنسبة الأمور إلينا ولا تكن بصدد التعلم ايضا وبعد ما اوصى الملكان بما أوصيا فَيَتَعَلَّمُونَ اى الشياطين المسترقون مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ مما يورث قطع المحبة والعلاقة المستلزمتين لحفظ النسب المتفرعة على الحكمة البالغة الإلهية المقتضية للزواج والازدواج إضرارا للدين القويم وانحرافا عن الطريق المستقيم وَالحال انه ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا

[سورة البقرة (2) : آية 103]

بِإِذْنِ اللَّهِ وبمقتضى تقديره ومشيته إذ لا يجرى في ملكه الا ما يشاء وَبالجملة هم بادعائهم العلم والعقل لأنفسهم يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ ضررا فاحشا في النشأة الاولى والاخرى وَلا يَنْفَعُهُمْ نفعا حسب النشأتين أصلا وَالله لَقَدْ عَلِمُوا اى اليهود لَمَنِ اشْتَراهُ واستبدله اى كتاب الله بالسحر والشعبذة ما لَهُ اى للمستبدل فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ حظ ونصيب ولو علموا علم يقين لامتنعوا من الاستبدال البتة لكنهم لم يعلموا فاستبدلوا فثبت انهم ليسوا من العقلاء العالمين وبعد ما عيرهم سبحانه بما عيرهم وجهلهم على ابلغ وجه وآكده كرر تعييرهم تشديدا ومبالغة ليكون تذكيرا للمتذكرين بها فقال ايضا مقسما وَالله لَبِئْسَ ما شَرَوْا وباعوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ اى حقائقها ومعارفها ولذاتها الروحانية بالسحر المتفرع على الكفر بالله وكتبه ورسله وملائكته لان المشهور من اصحاب السحر ان سحرهم لا يؤثر الا بالكفر وغاية الخباثة والكثافة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ويفهمون قباحته لما ارتكبوا لكنهم لم يعلموا فارتكبوا فثبت جهلهم وغباوتهم ومع ذلك هم يدعون الايمان بالله والرسل والكتب وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالله على وجه الإخلاص وكتبه ورسله بلا مراء ومجادلة وَاتَّقَوْا نفوسهم عن محارم الله لَمَثُوبَةٌ اى لكانت فائدة قليلة عائدة إليهم مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عندهم خَيْرٌ من الدنيا وما فيها من المزخرفات الفانية كما هو عند المؤمنين الموقنين بوحدانيته لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ خيريتها لم يكفروا بالله لكنهم قد كفروا فثبت انهم هم جاهلون جاهدون في مقتضى أحلامهم السخيفة ثم لما سمع اليهود من المؤمنين قولهم راعنا عند رجوعهم اليه صلّى الله عليه وسلّم في الخطوب والوقائع قالوا هؤلاء ليسوا مؤمنين منقادين له مطيعين لأمره لدلالة قولهم له راعنا عند محاورتهم معه راعنا على انك محتاج إلينا ممنون منا فلك ان تراعينا حق الرعاية ولما كان فيه من إيهام سوء الأدب وان كان غرضهم الترقب والالتفات أشار سبحانه الى نهى المؤمنين عن هذا القول الموهم تأديبا للمؤمنين وتعظيما لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا مع نبيكم عند الخطاب له راعِنا وان كان مقصودكم صحيحا ظاهرا لكن العبارة توهم خلاف المقصود بل الاولى والأليق بحالكم ان لا تخاطبوا رسولكم إكراما له وتعظيما وَان اضطررتم الى خطابه صلّى الله عليه وسلّم قُولُوا بدل قولكم راعنا انْظُرْنا بنظر الرحمة والشفقة وَاسْمَعُوا هذا التذكير والوصاية منا بسمع الرضاء والقبول وواظبوا على مقتضاه لئلا تنسبوا الى الإساءة معه صلّى الله عليه وسلّم وَاعلموا ان لِلْكافِرِينَ المغتنمين الفرصة في أمثال هذه الكلمات المذكورة المنهية عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم لهم أشد الإيلام في الدنيا والآخرة ثم لما عجزوا عن معارضتكم صريحا أخذوا في التلبيس والتحميق وادعاء المحبة واظهار المودة على سبيل النفاق ليحفظوا به دماءهم وأموالهم عنكم فعليكم ان لا تغتروا بودادتهم ولا تسمعوا منهم أقوالهم الكاذبة إذ ما يَوَدُّ ويحب الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ لإصلاح حالكم وزيادة انعامكم وافضالكم مِنْ خَيْرٍ وحى نازل مِنْ رَبِّكُمْ الذي اجتباكم واصطفاكم على جميع الأمم بغضا لكم وحسدا مركوزا في طباعهم بالنسبة إليكم وبخلا على ما اعطى الله إياكم من الخير وَلم يمكنهم منع إعطائه تعالى إذ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ الواسعة ونعمته العامة الشاملة التي هي عبارة عن المعرفة والتوحيد مَنْ يَشاءُ من خلص عباده بلا علة وغرض ومرجح ومخصص مع كمال اختيار وارادة بلا إيجاب وتوليد كما زعمت الحكماء والمعتزلة الفاقدين للبصيرة سيما في الإلهيات ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور وَ

[سورة البقرة (2) : آية 106]

لا تشكوا في سعة رحمة الله وفضله بحرمان البعض وطرده إذ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يفضل على من يفضل حسب مشيته وحكمته ومصلحته المختفية عن عقول عباده الا من اطلعه الله على سرائر أفعاله من الكمل جعلنا الله من محبيهم ومتبعيهم ثم اعلم ان الحوادث الكائنة في الآفاق كلية كانت او جزئية غيبا او شهادة وهما او خيالا انما هي بمقتضيات الأوصاف والأسماء الإلهية الكلية المشتملة كل منها على أوصاف جزئية غير متناهية بلا تكرر وتوارد فما من حادثة حدثت في عالم الكون والفساد إلا وهي ناشئة من وصف خاص الهى واسم خاص يخصه ويربيه بحيث لا يوجد في غيره لذلك قيل لا يتجلى الله في صورة مرتين لئلا يلزم التكرار المنافى للقدرة الكاملة ولا في صورة واحدة لاثنين لئلا يلزم العجز عن إتيان الصورة الاخرى والى هذا أشار سبحانه بقوله ما نَنْسَخْ نغير ونبذل مِنْ آيَةٍ نازلة حاكمة في وقت وزمان يقتضيه نزولها من اسم مخصوص الهى أَوْ نُنْسِها نمحها ونحكها من القلوب كأنها لم تنزل قط نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها اى متى ننسخها او ننسها نأت بخير منها حسب اقتضاء الزمان الثاني والاسم الخاص له إذ سريان الوجود دائما على الترقي في الكمال حسب الحكمة المتقنة البالغة أَوْ مِثْلِها إذ التجدد انما يكون بالأمثال والإعادة على طبق الابتداء ثم استفهم سبحانه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم تعظيما له وتذكيرا للمؤمنين فقال أَلَمْ تَعْلَمْ أنت يا أكمل الرسل يقينا أَنَّ اللَّهَ المتجلى بالتجليات الغير المتناهية عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإبداء والإعادة والإنزال والتغيير قَدِيرٌ لا تنتهي قدرته عند المراد بل له التصرف فيه ما شاء بالإرادة والاختيار أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يتصرف فيهما كم شاء وكيف يشاء بلا فتور ولا فطور هذا في الآفاق وارجعوا الى انفسكم وَاعلموا انه ما لَكُمْ في ذواتكم وهوياتكم مِنْ دُونِ اللَّهِ المحيط بكم وبجميع اوصافكم مِنْ وَلِيٍّ يولى أموركم وَلا نَصِيرٍ يعين عليكم من دونه بل هو بذاته محيط بهوياتكم وماهياتكم كما اخبر به سبحانه في قوله كنت سمعه وبصره ويده ورجله الحديث أتسلمون وتفوضون أموركم الى الله ورسوله ايها المؤمنون وتقبلون دين الإسلام تعبدا وانقيادا أَمْ تُرِيدُونَ وتقصدون أَنْ تَسْئَلُوا وتقترحوا عن سرائر الآيات النازلة عليكم لإصلاح حالكم رَسُولَكُمْ عنادا ومكابرة كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ من الآيات النازلة لإصلاح بنى إسرائيل فما نزل عليهم من آية الا وقد سئلوا سرها من موسى عليه السّلام على وجه الإلحاح والاقتراح فجازاهم الله بمقتضى اقتراحهم وان اقترحتم ايضا كما اقترحوا يجازيكم الله ايضا كما جازاهم وَاعلموا ان مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ الموهوم المذموم بِالْإِيمانِ المحقق المجزوم فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ اى عن الصراط السوى الموصل الى التوحيد الذاتي كما ضل بنوا إسرائيل عن طريق الحق بمخالفة كتاب الله وتكذيب رسله ثم اعلموا ايها المؤمنون انه قد وَدَّ وأحب كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ سيما اليهود والنصارى لَوْ يَرُدُّونَكُمْ بأنواع الحيل والنفاق مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ بالله وكتبه ورسله كُفَّاراً مرتدين واجب القتل والمقت عند الله وليس ودادتهم كفركم لغاية تشددهم وتصلبهم في دينهم ونهاية غيرتهم عليه بل حَسَداً عليكم ناشئا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ من غاية عداوتهم معكم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ وظهر عندهم ان دينكم الْحَقُّ المطابق للواقع بشهادة كتابهم ونبيهم وإذا فهمتم أمرهم وعرفتم عداوتهم فَاعْفُوا عن الانتقام والعقوبة وَاصْفَحُوا اى اعرضوا وانصرفوا عن التعيير والتقريع واصبروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ويحكم بحكمه المبرم من ضرب

[سورة البقرة (2) : آية 110]

الذلة والمسكنة والغضب عليهم دائما إِنَّ اللَّهَ المتجلى باسمه المنتقم عَلى كُلِّ شَيْءٍ من انواع الانتقامات قَدِيرٌ على الوجه الأشد الأبلغ وَبعد ما فوضتم أموركم الى الله واتخذتموه وكيلا حسيبا لكم حفيظا عن شرور أعدائكم أَقِيمُوا الصَّلاةَ اى رابطوا ظواهركم وبواطنكم اليه سبحانه دائما على وجه التذلل والخضوع وغاية الانكسار والخشوع وَآتُوا الزَّكاةَ اى طهروا قلوبكم عن الميل الى ما سوى الحق وَاعلموا ان ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ في هذه النشأة مِنْ خَيْرٍ توجه دائم نحو الحق وأعراض مستمر عن محبة غيره تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ حين انكشافكم بتوحيده وتجريده وتفريده وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المحيط بذواتكم بِما تَعْمَلُونَ من خير بَصِيرٌ عليم خبير وَمن جملة حيلهم وخداعهم إياكم وودادتهم كفركم انهم قالُوا على وجه العظة والتذكير لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ من اهل الملل والأديان إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ المهملات وأمثالها ما هي الا أَمانِيُّهُمْ التي يخمرونها في نفوسهم بلا مستند عقلي او نقلي وان ادعوا دليلا قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما لهم وتبكيتا هاتُوا ايها المدعون المبهوتون بُرْهانَكُمْ من آيات الله وسنن رسله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الاختصاص قل لهم يا أكمل الرسل بعد ما بهتوا كلاما ناشئا عن محض الحكمة والإخلاص لا وجه لدعوى الاختصاص بالنسبة الى الجنة الموعودة لا منكم ولا منا بَلى اى بل مبنى الأمر والشان في استحقاق الجنة على ان مَنْ أَسْلَمَ وجه وسلّم وَجْهَهُ المنسوب اليه مجازا لِلَّهِ المنسوب اليه حقيقة وَالحال انه هُوَ في نفسه مُحْسِنٌ عارف مشاهد مكاشف بالله فَلَهُ أَجْرُهُ مرجعه ومقصده من الجنة الموعودة عِنْدَ رَبِّهِ اى مرتبته المخصوصة له المربية إياه عند الله وَبالجملة لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لفنائهم عن قابلية الخوف والحزن ومقتضيات الطبيعة مطلقا وبقائهم بتربية مربيهم وَمن عدم تفطنهم للايمان والإذعان وغفلتهم عن طريق التوحيد والعرفان قالَتِ الْيَهُودُ الدين ديننا والكتاب كتابنا والنبي نبينا لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ في امر الدين وشانه بل هم ضالون عن طريق الحق لا يهتدون اليه أصلا الا ان يؤمنوا ويقتدوا بديننا وَايضا قالَتِ النَّصارى ديننا حق وشرعنا مؤبد ونبينا مخلد لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ في الدين والايمان بل الدين الحق ديننا وَالحال انه هُمْ اى كلا الفريقين يَتْلُونَ الْكِتابَ المنزل على نبيهم ويدعون الايمان والإذعان ومع ذلك لم يخلصوا عن الجهل والعناد ولم يتنبهوا على التوحيد المزيح لمطلق الخلاف والاختلاف المشعر على كمال العرفان والائتلاف بل لا فرق بينهم وبين سائر المشركين النافين للصانع إذ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الكتاب والنبي والدين والايمان مِثْلَ قَوْلِهِمْ بان الحق ما نحن عليه بلا كتاب ولا نبي لان الإنسان مجبول على ترجيح ما هو عليه سواء كان حقا او باطلا صلاحا او فسادا والأنبياء انما يرسلون ويبعثون ليميزوا لهم الحق عن الباطل والصالح عن الفاسد وهم مع بعثة الرسل إليهم صاروا سواء مع المشركين الذين لا كتاب لهم ولا نبي فَاللَّهُ المحيط بسرائرهم وضمائرهم يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ على مقتضى علمه بأعمالهم وأحوالهم يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد لجزاء الأعمال فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ على مقتضى آرائهم واهوائهم فيجازيهم بمقتضى ما يعلمون ويعملون به وَمَنْ أَظْلَمُ على الله المظهر للعباد ليعرفوه ويتوجهوا نحوه في الأمكنة والبقاع المعدة للتوجه مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ المعدة الموضوعة أَنْ يُذْكَرَ اى لان يذكر فِيهَا اسْمُهُ اى يذكر المؤمنون فيها أسماءه الحسنى

[سورة البقرة (2) : آية 115]

وَلا يقتصر على المنع بل سَعى واجتهد فِي خَرابِها وتخريبها ليستأصلها ويخرجها عما تعد له مطلقا أُولئِكَ البعداء المشركون ما كانَ وما صح وجاز لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها اى المساجد لنجاستهم وخباثة طينتهم وان دخلوها أحيانا لحاجة فلا بد لهم ان لا يدخلوها إِلَّا خائِفِينَ خاضعين متذللين مستوحشين بحيث لم يتوجهوا يمنة ويسرة استحياء من الله بل منكسين رؤسهم على الأرض الى ان يخرجوا قل يا أكمل الرسل نيابة عنا لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ قتل واجلاء وسبى وذلة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ حرمان عن الكمال الإنساني بكفرهم وظلمهم وَقل للمؤمنين يا أكمل الرسل تسلية لهم وتفريحا لا تغتموا عن منعهم عنها وسعيهم في تخريبها ولا تحصروا توجهكم الى الله في الأمكنة المخصوصة بل لِلَّهِ المتجلى في الآفاق الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ هما كنايتان عن طرفي العالم فَأَيْنَما تُوَلُّوا وتوجهوا نحوه فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ اى ذاته إذ هو سبحانه بذاته منتهى عموم الأماكن والجهات مع انه خال عن جميعها محيط بكلها منزه عنها مطلقا إِنَّ اللَّهَ المتعالي عن مطلق التحديد والتقدير واسِعٌ أجل من ان يحيط به القلوب الا من وسعه الله بسعة رحمته كما اخبر سبحانه بقوله لا يسعني ارضى ولا سمائي بل يسعني قلب عبدى المؤمن عَلِيمٌ لا يغيب عن علمه شيء وحيث اتجهتم نحوه وتوجهتم اليه قد علمه سبحانه قبل توجهكم بل توجهكم انما هو منه فلا يتوجه اليه الا هو لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه ومن غاية جهلهم بالله الواسع العليم الذي لا يسعه الأرض والسماء ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء انهم حصروه سبحانه في شخص وخيلوه جسما واثبتوا له لوازم الأجسام وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً كعيسى وعزير عليهما السّلام سُبْحانَهُ وتعالى الصمد الفرد الذي شانه انه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد عن ان يتخذ صاحبة وولدا بَلْ لَهُ مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَكذا مظاهر ما في الْأَرْضِ يظهر عليها ويتجلى لها إظهارا لكمالاته المرتبة على صفاته المندرجة في ذاته ونسبته تعالى الى جميع المظاهر في التكوين والخلق على السواء من غير تفاوت وعيسى وعزير عليهما السّلام ايضا من جملة المظاهر ولا شك ان مرجع جميع المظاهر والمجالى الى الظاهر والمتجلى إذ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ خاضعون منقادون معترفون على ما هم عليه قبل ظهورهم من العدم مقرون بانه بَدِيعُ اى مبدع السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من العدم بلا سبق مادة ومدة وَمن بدائع ابداعه انه إِذا قَضى وأراد أن يوجد ويظهر أَمْراً من الأمور التي في خزائن علمه ولوح قضائه وكتابه المبين فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ إمضاء لحكمه وانفاذا لمقتضى ارادته كُنْ فَيَكُونُ بلا تراخ ولا مهلة بحيث لا يسع حرف التعقيب ايضا الا لضرورة التعبير والتقريب فالالفاظ بمعزل عن أداء سرعة نفوذ قضائه وَلما ظهر واشتهر ان القرآن ناسخ لجميع الكتب السالفة مع كونه مصدقا لها ناطقا بان الكل منزلة من عند الله على الرسل الماضين الهادين الى طريق الحق وان حكم الناسخ ماض نافذ وحكم المنسوخ قد مضى ولم يبق اثره مع ان كلا منهما كلام الله المؤدى لحكمه حسب الزمانين قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ولا يعرفون ظهور الله وتجلياته سبحانه بحسب أسمائه الحسنى وصفاته العليا في كل آن وشأن لا كشان لا نقبل هذا الحكم ولا نؤمن به لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ مشافهة بان هذا ناسخ راجح وذاك منسوخ مرجوح أَوْ تَأْتِينا على يدي من يدعى الرسالة آيَةٌ ملجئة تدل على هذا الحكم بلا احتمال آخر وبعد ما لم يكن لا هذا ولا ذاك لا نقبله ولا نؤمن به ولا تستبعد منهم يا أكمل الرسل أمثال هذا القول الباطل إذ كَذلِكَ اى مثل ذلك الذي سمعت منهم

[سورة البقرة (2) : آية 119]

قالَ الَّذِينَ كفروا للأنبياء الماضين مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ هذا وهكذا بلا تفاوت واختلاف بل قد تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ المنكرة المخمرة بهذه الأباطيل الزائغة المموهة سابقا ولاحقا مع انا قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ المنزلة الدالة على توحيدنا لِقَوْمٍ ذوى قلوب صافية عن كدر الإنكار يُوقِنُونَ بها سرائر الآيات الظاهرة على الآفاق والأنفس وهم لأنهما هم في كدر الإمكان والإنكار لا يرجى منهم الايمان والإقرار إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل ملتبسا بِالْحَقِّ بَشِيراً نحو طريق الحق وَنَذِيراً عن طرق الباطل وَان لم يبشروا ولم ينذروا بعد ما بلغت إليهم التبشير والإنذار لا تُسْئَلُ أنت عَنْ أعراض أَصْحابِ الْجَحِيمِ المجبولين على الكفر والعناد في اصل قطرتهم بل نحن نسئل عنهم وعن اسباب اعراضهم وانصرافهم في يوم الجزاء فنجازيهم على مقتضى أعمالهم وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى ابدا بمجرد المؤانسة واظهار المحبة وإرخاء العنان إياهم حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ التي ادعوا حقيتها بل قد حصروا الحقية والهداية عليها قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما على وجه التذكير وإمحاض النصح إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي يهدى به عباده هُوَ الْهُدى النازل من عنده الا وهو دين الإسلام فاتبعوه ليهتدوا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ يا أكمل الرسل أنت ومن تبعك بعد ما ايستم أنتم عن اتباعهم بكم أَهْواءَهُمْ الباطلة بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ من لدنا على هدايتك وإهداء من تبعك ما لَكَ وقت تعلق مشية الله بمقتك وهلاكك مِنَ غضب اللَّهِ الهادي للكل الى سواء السبيل مِنْ وَلِيٍّ يحفظك من الضلال وَلا نَصِيرٍ يدفع عنك النكال ثم قال سبحانه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ واصطفيناهم من بين الأمم بإرسال الرسل وهم يَتْلُونَهُ اى الكتاب متأملين متدبرين لما يشتمل عليه من الأوامر والنواهي والمعارف والحقائق مراعين حَقَّ تِلاوَتِهِ بلا تحريف ولا تبديل أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وبما فيه من الاحكام والآيات والاخبار وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ بتحريفه وتبديله الى ما تهوى أنفسهم فَأُولئِكَ المحرفون المغيرون كتاب الله لمصلحة نفوسهم هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران المؤبد والحرمان المخلد وهم الذين قد خسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة بسبب تحريف كتاب الله وتبديله ثم لما خاطب سبحانه بنى إسرائيل أولا بايفاء العهد الذي هو شعار اهل الايمان وما يتعلق بايفاء العهد من الرجوع اليه سبحانه والايمان بكتبه ورسله وعدم المبادرة الى الكفر وعدم استبدال آيات الله الدالة على ذاته علما وعينا وحقا بالمزخرفات الفانية التي لا مدار لها أصلا وعدم لبس الحق الظاهر المكشوف المحقق بالباطل الموهوم المعدوم وباقام الصلاة وإيتاء الزكاة المنبئين عن التوجه الفطري والرجوع الحقيقي الأصلي بالركوع والسجود والخشوع على وجه التذلل والانكسار الى ان يصل العبد بإتيانه الى مقام الفناء في ذاته سبحانه بل الى فناء الفناء لينعكس البقاء الحقيقي ثم عير سبحانه تعييرا فوق تعيير على الناسين نفوسهم في الغفلة من غير توجه ورجوع ثم امر سبحانه خلص عباده باستعانة الصبر المورث للتمكين والصلاة المشعرة بالتوجه التام المسقط لجميع المعاصي والآثام لتصفية ذواتهم ثم خاطبهم سبحانه ثانيا وأوصاهم بشكر نعم تفضيلهم وتكريمهم على بنى نوعهم بأنواع الكرامات الدينية والدنياوية ثم حذرهم وخوفهم عن يوم الجزاء على وجه المبالغة والتأكيد لتصفية اوصافهم المتعلقة لأمور معاشهم في النشأة الاولى ثم لما ذكر سبحانه كفرانهم وطغيانهم وعدم انقيادهم بالكتب والرسل وتكذيبهم الأنبياء وقتلهم إياهم من خباثة

[سورة البقرة (2) : آية 123]

طينتهم ودنائة طبعهم وقساوة قلبهم وشدة عداوتهم مع المؤمنين وسوء صنيعهم مع الأنبياء الماضين كرر خطابه سبحانه إليهم ثالثا بما سبق ثانيا مبالغة وتأكيدا تلطيفا وامهالا كي يتنبهوا ومع ذلك لم يتنبهوا لخبث طينتهم فقال يا بَنِي إِسْرائِيلَ المعرضين عنى بأنواع الاعراضات والمعترضين على آياتي بأصناف الاعتراضات قد مضى ما مضى اذْكُرُوا واشكروا عموم نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ بمقتضى فضلي وإحساني إليكم وَلا سيما نعمة الجاه والتفضيل على جميع البرايا أَنِّي بحولي وطولى قد فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ من بنى نوعكم وامتثلوا لامرى ولا تتجاوزوا عن حكمى واحذروا عن قهري وانتقامي وَاتَّقُوا يَوْماً صفته انه لا تَجْزِي ولا تحمل نَفْسٌ مطيعة عَنْ نَفْسٍ عاصية شَيْئاً قليلا من أوزارها وَمع ذلك لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ فدية حتى تخلص بها عن بطش الله وَايضا لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ من شفيع حميم حتى يخفف عذابها لأجلها وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ من غيرهم في تحمل العذاب بل ما يحمل رزاياهم الا مطاياهم ومع هذه المبالغة والتأكيد قليلا منهم يؤمنون بخلاف الملة الحنيفية البيضاء الخليلية فإنهم بأجمعهم يرجى منهم الايمان بوحدانية الله ان أقاموا الصلاة اليه مخلصين الا المصلين الذينهم في صلاتهم ساهون بما يلهيهم من محبة المال والجاه عصمنا الله من ذلك ثم لما ذكر سبحانه قصة بنى إسرائيل وانعامه عليهم بأنواع النعم وكفرانهم لنعمه من خبث طينتهم أراد أن يذكر طيب طينة الملة الخليلية وصفاء عقائدهم وتحملهم على الاختبارات والابتلاءات الإلهية فقال وَإِذِ ابْتَلى اى واذكر يا أكمل الرسل وقت ابتلاء أبيك إِبْراهِيمَ رَبُّهُ الذي قد ابتلاه واختبر خلته بأنواع البلاء من عذاب النار والمنجنيق وذبح الولد والاجلاء من الوطن وغير ذلك من البليات النازلة عليه بِكَلِماتٍ صادرة من ربه حين أراد اختباره فَأَتَمَّهُنَّ على الوجه المأمور بلا فتور ولا قصور تتميما لرتبة الخلة والخلافة ثم لما اختبر سبحانه خلة خليله بأنواع المحن والبلاء اظهر مقتضيات خلته إياه بأنواع العطاء حيث قالَ سبحانه إِنِّي من غاية محبتي وخلتي معك ايها الخليل الجليل جاعِلُكَ لِلنَّاسِ الناسين التوجه والرجوع الى إِماماً مقتدى لهم هاديا يهديهم الى طريق التوحيد ولما رأى ابراهيم عليه السّلام انبساط ربه معه وإحسانه اليه واظهار الخلة له قالَ وَاجعل يا رب مِنْ ذُرِّيَّتِي ايضا ائمة الى يوم الدين قالَ سبحانه تلطفا له وامتنانا عليه ومن ذريتك ايضا الصالحين منهم لا الفاسقين إذ لا يَنالُ عَهْدِي الذي هو خلعة نيابتي وخلافتي الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن مقتضى حدودي وعهودى وَبعد ما جعلناه اماما للناس هاديا لهم الى طريق الحق هيأنا له طريق الهداية والإرشاد إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ اى الكعبة المعدة للتوجه إلينا بترك المألوفات وقطع التعلقات من الأهل والمال والوطن والاجتناب عن التصرفات المانعة عن التوجه الحقيقي من الرفث والفسوق والجدال والقتل وغير ذلك من الأمور المتعلقة للحياة المستعارة مَثابَةً موضع ثواب لِلنَّاسِ ليتقربوا إلينا ويتوجهوا نحونا فيها وَأَمْناً من جميع المخاوف الدينية إذا كان الطواف والزيارة على نية الإخلاص وَبعد ما جعلنا البيت مثابة للناس قلنا للزائرين لها والطائفين حولها اتَّخِذُوا ايها الزوار مِنْ مَقامِ خليلنا إِبْراهِيمَ مُصَلًّى موضع ميل وتوجه اقتداء له صلوات الرّحمن عليه وَبعد ما أمرنا الزوار بما أمرنا قد عَهِدْنا ووصينا إِلى خليلنا إِبْراهِيمَ وَذبيحنا إِسْماعِيلَ ابنه عليهما السّلام أَنْ طَهِّرا بالمظاهرة والمعاونة بَيْتِيَ المعد للطهارة الحقيقية عن جميع الشواغل لِلطَّائِفِينَ الذين قصدوا الميل الى جنابنا ببذل المهج

[سورة البقرة (2) : آية 126]

وَالْعاكِفِينَ المقيمين ببابنا رجاء ان تنكشف لهم اسرار التكاليف التي كلفوا بها وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ اى الراكعين الساجدين إلينا على وجه التذلل والانكسار حتى يتحققوا بمقام العبودية وَبعد ما امرناهما بطهارة البيت واقدرناهما على امتثال المأمور اذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ منيبا إلينا داعيا راجيا في دعائه النفع العام رَبِّ اجْعَلْ بيتك هذا بَلَداً آمِناً ذا أمن وأمان للمتوجهين إليها والعاكفين ببابها عن العلائق المانعة عن التوجه المعنوي وَبعد ما توجهوا نحو بيتك ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ المترتبة على سرائر تعيينه وتخصيصه ووجوب طوافه على المستطيعين المنهمكين في الشواغل المانعة عن التوجه الى الكعبة الحقيقية الممثلة عنها هذا البلد ولما دعا ابراهيم بهذا الدعاء المجمل المطلق لهم فصل سبحانه اجابة دعائه بقوله مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ اى المتوجهين الزائرين بِاللَّهِ الواحد الأحد تعبدا وانقيادا وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المحقق الوقوع إذعانا وتصديقا فلهم ما دعوت لهم من انواع الإفضال والانعام جزاء لهم واجابة لدعائك إياهم ثم قالَ سبحانه وَمَنْ كَفَرَ منهم وجحد بعد ما وضح لهم طريق الحق فَأُمَتِّعُهُ متاعا قَلِيلًا من مفاخرة الأقران والاستكبار على الاخوان وتفرج البلدان ثُمَّ أَضْطَرُّهُ بعد الجحود والإنكار إِلى عَذابِ النَّارِ بل أشد منه الا وهو حرمانه عن الفوائد المترتبة على الطواف والزيارة المنبئة عن الوصول الى مرتبة العبودية المخلصة عن جهنم الإمكان الذي هو مصير اهل الكفر والطغيان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم إذ لا نجاة لاحد منه عصمنا الله وعموم عباده منه بمنه وجوده وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ يَرْفَعُ ويحمل جدك إِبْراهِيمُ الاواه المنيب الْقَواعِدَ اى التكاليف الشاقة الناشئة مِنَ إنشاء الْبَيْتِ المعد للاهتداء الى كعبة الوصول من التجريد عن لوازم الحيوة ومقتضيات الأوصاف المترتبة عليها وترك المألوفات وقطع التعلقات العائقة عن الموت الإرادي الموصل الى مقر الوحدة المفنية للكثرة الموهومة المستتبعة للبعد والفراق عن فضاء التوحيد وَأبوك ايضا إِسْماعِيلُ الراضي بقضاء الله المرضى بعموم ما جرى عليه من البلاء واذكر ايضا دعائهما ومناجاتهما مع ربهما بعد ما احتملا المتاعب والمشاق بقولهما رَبَّنا يا من ربانا بأنواع المنح والعطايا التي ليست في وسعنا وقدرتنا تَقَبَّلْ مِنَّا ما اقدرتنا عليه إِنَّكَ أَنْتَ القادر المقتدر بجميع حاجاتنا السَّمِيعُ المجيب لعموم مناجاتنا قبل لقائنا إليك يا مولانا الْعَلِيمُ بنياتنا واخلاصنا فيها رَبَّنا وَاجْعَلْنا بفضلك مُسْلِمَيْنِ لَكَ مفوضين جميع أمورنا إليك مخلصين فيها ربنا وَاجعل ايضا مِنْ ذُرِّيَّتِنا المنتسبين إلينا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ مطيعة لأمرك وَأَرِنا واكشف لنا ولهم مَناسِكَنا اى سرائر أعمالنا التي نعملها على مقتضى أمرك وتكليفك وَان أخطأنا وانصرفنا عما امرتنا به تُبْ عَلَيْنا واعف عما جرى علينا من لوازم بشريتنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرجاع للعباد العاصين الخاطئين عن خطاياهم الرَّحِيمُ بقبول توبتهم وان نقضوها مرارا وتابوا عنها تكرارا ثم لما كان الغالب عليهما عليهما السّلام توحيد الصفات والأفعال دعوا ربهما متضرعين ان يبعث من ذريتهما من يغلب عليه توحيد الذات فقالا رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ اى في الامة المسلمة المسلمة رَسُولًا مِنْهُمْ هاديا إلى توحيد الذات يَتْلُوا عَلَيْهِمْ أولا آياتِكَ الدالة على وحدة ذاتك ظاهرا وَثانيا يُعَلِّمُهُمُ ويفهمهم الْكِتابَ المبين لسرائر الآيات وَثالثا يكشف ويوضح لهم الْحِكْمَةَ التي هي عبارة عن سلوك طريق التوحيد الذاتي وَ

[سورة البقرة (2) : آية 130]

رابعا يُزَكِّيهِمْ ويطهرهم عن رؤية الغير في الوجود مطلقا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب القاهر للاغيار الْحَكِيمُ في إيجادها وإظهارها على وفق مشيتك وارادتك وَبعد ما قد جعلنا الخليل الجليل اماما مقتدى للأنام هاديا لهم الى دار السّلام مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ اى من يعرض ويميل عن ملته الحنيفية الطاهرة عن الميل الى الآراء الباطلة المستتبعة لانواع الجرائم والآثام البيضاء المنورة لقلوب اهل التفويض والتسليم المبتنية على محض الوحى والإلهام إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ اى لا ينصرف عن ملته الغراء الا من ترك نفسه في ظلمة الإمكان من غير رجوع الى فضاء الوجوب ليتبع طريقه الموصل اليه وَالله لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ وانتخبناه من بين الأنام فِي الدُّنْيا للرسالة والنبوة ليرشد عموم العباد الى طريق التوحيد وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ للتحقق والوصول الى ينبوع بحر الوجود التي هي الوحدة الذاتية لا على وجه الاتحاد والحلول بل بطريق التوحيد الذاتي المسقط لعموم الاعتبارات والإضافات واذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ اختبارا له أَسْلِمْ اى توجه الى حسب علمك وكشفك منى قالَ على مقتضى علمه بربه أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ لأنه قد انكشف له ربه من ذرات الكائنات لذلك لم يخصصه ولم يقيده بمظهر دون مظهر وَوَصَّى بِها اى بالتوحيد الذاتي إِبْراهِيمُ بَنِيهِ إرشادا لهم الى طريق الحق ووصى بها ايضا بنوه بنيه وَايضا قد وصى بها يَعْقُوبُ بنيه بما وصى به أبوه وجده وقال اى كل منهم لأبنائهم يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ اى دين الإسلام المشتمل على توحيد الذات والصفات والأفعال فَلا تَمُوتُنَّ اى فلا تكونن في حال من الأحوال عند الموت إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ موحدون بالتوحيد الذاتي ثم لما اعتقد اليهود ان يعقوب وبنيه كانوا هودا والنصارى قد اعتقدوهم نصارى أراد سبحانه ان يظهر فساد عقائدهم فقال اتسمعون ايها اليهود والنصارى يهودية يعقوب وبنيه ونصرانيتهم ممن انزل عليكم من الرسل والكتب أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ حضراء وقت إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ لا هذا ولا ذاك بل كنتم مفترين عليهم جاهلين بحالهم اذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ يعقوب حين اشرف على الموت لِبَنِيهِ إرشادا لهم ماذا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي يا بنى قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً أحدا صمدا فردا وترا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وَنَحْنُ لَهُ لا لغيره من الآلهة الباطلة مُسْلِمُونَ منقادون متوجهون قل يا أكمل الرسل للناس الذين بعثت فيهم قولا مطلقا ناشئا عن محض النصح والإرشاد خاليا عن المكابرة والعناد قالعا عرق عموم التقليدات والتخمينات الراسخة في قلوب العباد تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ومضت لَها ما كَسَبَتْ من العزائم الدينية وعليها ما اكتسبت من الجرائم المتعلقة به بحسب تلك الحال والزمان وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ من فوائد الايمان والإسلام وعليكم ما اكتسبتم من غوائل الكفر والطغيان حسب زمانكم هذا إذ كل منكم ومنهم لم يجز الا بما عمل وكسب وَلا تُسْئَلُونَ ولا تؤاخذون أنتم عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من السيئات كما لا تثابون من حسناتهم بل كل امرئ بما كسب رهين وَان قالُوا اى كل من الفريقين لكم كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى كي تَهْتَدُوا الى طريق الحق قُلْ لهم نحن لا نتبع آراءكم الفاسدة وأهواءكم الباطلة بَلْ نتبع مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً مائلا عن الآراء الباطلة مبرأ منها وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بالله باعتقاد الوجود

[سورة البقرة (2) : آية 136]

لغير الله في حال من الأحوال بل قُولُوا لهم في مقابلة قولهم ايها المؤمنون المتبعون لملة ابراهيم إرشادا لهم واسماعا إياهم طريق الحق قد آمَنَّا بِاللَّهِ الواحد الأحد المتجلى في الآفاق بالاستحقاق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وَآمنا ايضا ما أُنْزِلَ إِلَيْنا بوسيلة رسولنا من الكتاب المبين لمصالحنا المتعلقة بمبدئنا ومعادنا في زماننا وَآمنا ايضا بجميع ما أُنْزِلَ إِلى متبوعينا الماضين إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ المورثين لملتنا وديننا وَكذلك قد آمنا بعموم ما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى من الكتب والآيات الدالة على توحيد الذات والصفات والأفعال وصدقنا جميع ما جاء به هؤلاء الرسل من عند الله وَبالجملة انا قد آمنا بجميع ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لهداية الضالين من عباده الى توحيده لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالإيمان والإنكار بل نؤمن بجميعهم ونصدقهم لكونهم هادين الى توحيد الله وان تفاوتت طرقهم وَنَحْنُ لَهُ اى لتوحيد الحق مُسْلِمُونَ منقادون مسلمون متوجهون وان بين بطرق متعددة وكتب مختلفة بحسب الأعصار والأزمان المتوهمة من تجليات الذات حسب الأسماء والصفات فَإِنْ آمَنُوا بعد ما سمعوا منكم هذه الأقوال الحقة بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ بعد سماعكم طريق الايمان من رسولكم فَقَدِ اهْتَدَوْا الى طريق التوحيد كما اهتديتم وَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن أقوالكم صفحا واعراضا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ اى ما هم الا في خلافهم وشقاقهم وعداوتهم الاصلية الجبلية ولا تبالوا بهم وبخلافهم وشقاقهم فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ المحيط بك يا أكمل الرسل وبهم المطلع على ما في سرائرهم وضمائرهم مؤنة خلافهم وشقاقهم وَلا تترددوا ايها المؤمنون في كفايته سبحانه إذ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الباطلة الكاذبة الْعَلِيمُ بكفرهم ونفاقهم الكامنة في قلوبهم ثم قولوا لهم بعد ما أظهروا الخلاف والشقاق ما جئنا به نحن من التوحيد الحاصل من متابعة الملة الحنيفية البيضاء ليس الا صِبْغَةَ اللَّهِ المحيط بنا انما صبغ بها قلوبنا لنهتدي الى صفاء تجريده وزلال تفريده وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً حتى نتبعه إذ لا وجود لغيره ولا رجوع الا اليه وَإذا لم يكن لغيره وجود نَحْنُ لَهُ لا لغيره من العكوس والاظلال عابِدُونَ عائدون راجعون رجوع الظل الى ذي الظل والصور المرئية في المرآة الى الرائي ثم لما طال نزاع احبار اليهود مع المؤمنين ومجادلتهم مع الرسول عليه السّلام امر سبحانه لحبيبه بان يتكلم معهم بكلام ناش عن لب الحكمة ومحض المصلحة فقال قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما دالا على توحيد الذات مسقطا لجميع الإضافات أَتُحَاجُّونَنا وتجادلوننا فِي اللَّهِ المظهر للكل من كتم العدم باشراق تجليات أوصافه فيه ورشه من نوره عليه وَالحال انه ليس له اختصاص ببعض دون بعض بل هُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ بإظهار ذواتنا وذواتكم من العدم وَبعد إظهاره إيانا لَنا أَعْمالُنا اى جزاء صالحها وفاسدها وَلَكُمْ ايضا أَعْمالُكُمْ الصالحة والفاسدة لا تسرى منكم إلينا شيء ولا منا إليكم شيء وَنَحْنُ المتبعون لملة ابراهيم لَهُ اى لله المظهر الظاهر بجميع الأوصاف والأسماء لا لغيره من الاظلال الهالكة المستهلكة في حدود ذواتها مُخْلِصُونَ متوجهون على وجه الإخلاص المنبئ عن المحبة المؤدية الى الفناء في ذاته جعلنا الله من خدام احبائه المخلصين أيسلم اليهود والنصارى ويذعنون بعد ما أوضحنا لهم انا على ملة ابراهيم دونهم أَمْ يعاندون وتَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى تابعين لملتنا فان كابروا وعاندوا وقالوا مثل هذا قُلْ لهم يا أكمل الرسل مستفهما موبخا على وجه التنبيه أَأَنْتُمْ

[سورة البقرة (2) : آية 141]

أَعْلَمُ بحالهم أَمِ اللَّهُ النافى عنهم اليهودية والنصرانية بقوله ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مائلا عنهما ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وَبعد ما ظهر عندهم حقية دين نبينا صلّى الله عليه وسلّم وتحقق موافقته لملة أبيه ابراهيم بشهادة كتبهم ورسلهم مَنْ أَظْلَمُ وأجرأ على الله مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً ثابتة في كتب الله التي قد صحت وثبتت عِنْدَهُ انها منزلة مِنَ اللَّهِ المنزل للرسل والكتب مصدقا بعضها بعضا كتمانا ناشئا عن محض العداوة والشقاق سيما بعد جزمهم حقيتها ومع ذلك يتوهمون كتمانها من الله ايضا وَمَا اللَّهُ المحيط بمخائلهم ومخادعاتهم بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من الكتمان والنفاق حفظا لجاههم وجاه آبائهم قل لمن تبعك يا أكمل الرسل تذكيرا لهم وتحذيرا تِلْكَ أُمَّةٌ صالحة او طالحة قَدْ خَلَتْ ومضت لَها في النشأة الاخرى جزاء ما كَسَبَتْ من الحسنات والسيئات الصادرة منهم في النشأة الاولى وَلَكُمْ ايضا فيها جزاء ما كَسَبْتُمْ وَبالجملة أنتم لا تُسْئَلُونَ في يوم الجزاء عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من الصالحات والفاسدات كما لا يسئلون أولئك عن أعمالكم بل كل منكم ومنهم مجزى بضيعته مقضي ببضاعته نعوذ بك من عدلك يا دليل الحائرين ثم لما كان الغالب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أوائل حاله وسلوكه توحيد الصفات والأفعال الموروثين له عن آبائه الكرام صلوات الله عليهم وكان صلّى الله عليه وسلّم تابعا لهم في قبلتهم التي كانوا عليها ايضا صورة وحين ظهر وانكشف له صلّى الله عليه وسلّم توحيد الذات وغلبت عليه تجلياتها وإشراقها استغرق ووله بل قد فنى واضمحل وتلاشت فيها هويته وبعد ما أفاق وتنزل عن ولهه واستغراقه خص له سبحانه قبلة مخصوصة ووجهة معينة صورة لتكون آية دالة على قبلته الحقيقية المعنوية ثم لما امره سبحانه بتوجهها واستقبالها وهو في الصلاة الى القبلة التي كان عليها قبل الأمر وتحول نحوها فيها أخذ المنافقون في الغيبة واشتغلوا بالنفاق ونسبوه الى ما هو منزه عنه واغتنموا الفرصة لمقابلته وصمموا العزم لمجادلته أراد سبحانه ان ينبه نبيه بما هم عليه من النفاق والشقاق في امر القبلة على وجه الاخبار فقال سَيَقُولُ السُّفَهاءُ المعزولون عن مقتضى العقل الجزئى المنشعب من العقل الكل المتفرع عن الاسم العليم مِنَ النَّاسِ المحجوبين بظلمة التعينات عن نور الوجود قولا ناشئا عن محض الغفلة والسفاهة على سبيل الاستهزاء وهو قولهم ما وَلَّاهُمْ واى شيء حولهم وصرفهم اى المؤمنين عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها من قبل مع انها قبلة من يدعون الانتساب إليهم والاقتداء بملتهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل على وجه التنبيه والإرشاد بلسان التوحيد الذاتي بعد انكشافك به لِلَّهِ المنزه عن مطلق الأماكن والجهات المتجلى فيها الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ اى جميع مما يتوهم من الزمان والمكان والجهة والكل انما هي مظاهر ذاته ومجالي أسمائه وصفاته يَهْدِي بحبه الذاتي مَنْ يَشاءُ من عباده المتوجهين نحو جنابه إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى وحدة ذاته من اى مكان كان وفي اى جهة وزمان وآن وشأن إذ هو محيط بكلها وَكَذلِكَ اى مثل الصراط المستقيم الموصل الى وحدة ذاتنا المعتدل المتوسط بين الطرق قد جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً معتدلة قابلة للخلافة والنيابة في تولية الأمور بين عموم العباد لِتَكُونُوا شُهَداءَ قوامين بالقسط عَلَى النَّاسِ الغافلين عن التوجه إلينا وَكذلك أرسلنا إليكم رسولا منكم حتى يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً حفيظا لكم يحفظكم ويمنعكم عن كلا طرفي الإفراط والتفريط في عموم ما صدر عنكم من الأمور فعليكم ان تلازموا وتداوموا لامتثال

[سورة البقرة (2) : آية 144]

ما جاء به رسولكم من عند ربكم لتكونوا هادين مهتدين اليه سبحانه على الصراط المستقيم وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ اى قبلتك يا أكمل الرسل الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها قبل هجرتك منها إِلَّا لِنَعْلَمَ اى نميز ونفصل مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ الهادي الى توحيد الذات مِمَّنْ يَنْقَلِبُ اى يعود ويرجع عَلى عَقِبَيْهِ اى توحيد الصفات والأفعال قبل الوصول الى توحيد الذات وَإِنْ كانَتْ الوصلة الى الوحدة الذاتية لَكَبِيرَةً ثقيلة شاقة إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ الى وحدة ذاته حيث وفقهم الى الايمان والإطاعة بمن يرشدهم ويهديهم اليه وَما كانَ اللَّهُ الحكيم المظهر لأشباحكم لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ بعد ما وفقكم اليه إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ الذين يؤمنون على وجه الإخلاص بالرسول الهادي لهم الى توحيد الذات ويصدقون بجميع ما جاء به من عنده لَرَؤُفٌ عطوف رَحِيمٌ مشفق يوصلهم الى غاية ما يظهر هم لأجله بفضله وطوله ثم لما انكشف له صلّى الله عليه وسلم توحيد الذات حقيقة ومعنى واستغرق فيها وتوجه نحوها منخلعا عن مقتضيات الأفعال والصفات مجردا عن لوازم الهويات مطلقا انتظر صلّى الله عليه وسلّم الوحى والإلهام المطابق لهذا الانكشاف بحسب الصورة ايضا فقال سبحانه قَدْ نَرى نطلع ونعلم حين انكشافك بوحدة ذاتنا تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ اى نحو عالم الأسماء والصفات التي هي منبع الوحى والإلهامات منتظرا للوحى المتضمن للتوجه الصوري فَلَنُوَلِّيَنَّكَ بعد انكشافك المعنوي قِبْلَةً صورية تَرْضاها أنت بها لكونها مناسبة لقبلتك المعنوية مشيرة إليها فَوَلِّ يا أكمل الرسل بعد ما عينا لك قبلة معينة وَجْهِكَ الذي به مواجهتك صورة شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ اى جهة المسجد الذي يحرم فيه التوجه الى غير الذات البحت الخالص عن عموم الإضافات والاعتبارات مطلقا وَلا تختص هذه الكرامة لك بل تسرى منك الى جميع من تبعك من المؤمنين حَيْثُ ما كُنْتُمْ أنت وهم من مراتب الوجود ومقامات الشهود وبعد ما سمعتم ما سمعتم من الكرامة الإلهية لكم فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ الفائضة لكم ايها المؤمنون المخلصون من ربكم شَطْرَهُ لتكونوا من زمرة المهتدين المنكشفين بوحدة ذاته سبحانه وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى لَيَعْلَمُونَ يقينا بشهادة كتبهم ورسلهم أَنَّهُ اى شأن انكشافك وتحققك يا أكمل الرسل بالتوحيد الذاتي الْحَقُّ الثابت المنزل مِنْ رَبِّهِمْ الذي رباهم بإعطاء العقل المميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل ومع ذلك ينكرون لك ولدينك وكتابك عنادا ومكابرة وَمَا اللَّهُ المطلع على عموم ما جرى في صدور عباده بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ من الإخفاء والستر سيما بعد الوضوح والكشف وَالله لَئِنْ أَتَيْتَ أنت يا أكمل الرسل الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ نازلة لك دالة على توحيد الذات الذي هو مقصدك الأقصى ومطلبك الأعلى ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لشدة انهماكهم في الغفلة والضلال وَما أَنْتَ ايضا بعد ما انكشف لك الأمر يقينا بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ التي توجهوا إليها ظنا وتخمينا وَايضا ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لتفاوت ظنونهم وآرائهم وَالله لَئِنِ اتَّبَعْتَ أنت يا أكمل الرسل أَهْواءَهُمْ الباطلة مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ اليقيني المطابق لليقين العيني بل للحقى إِنَّكَ مع اصطفائنا إياك واجتبائنا لك إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ المعرضين عنا بعد ما وفقناك وأرشدناك الى الكعبة الحقيقية وهذا تهديد لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد تمهيد وحث له صلّى الله عليه وسلّم لدوام التوجه على ما انكشف له من توحيد الذات وتحريض للمؤمنين على متابعته صلّى الله عليه وسلّم في دوام التوجه والميل اليه ومثله

[سورة البقرة (2) : آية 146]

في القرآن كثير ثم قال سبحانه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ المبين لهم طريق توحيد الصفات والأفعال المنبه لهم على توحيد الذات وعلى من يظهر به هم يَعْرِفُونَهُ اى النبي الموعود الذي جاء به بالأوصاف والخواص المبينة في كتابهم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ الذين هم خلقوا من أصلابهم بل أشد من ذلك لإمكان الخلاف في أبنائهم دونه وَمع ذلك إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ عنادا واستكبارا لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ الثابت في كتابهم وَهُمْ ايضا يَعْلَمُونَ حقيته جزما وما يكتمونه إلا مكابرة وعنادا وبالجملة الْحَقُّ الذي أنت قد ظهرت به ونسخت عموم الأديان والاحكام بسببه انما هو ناش مِنْ رَبِّكَ الذي أظهرك مظهرا كاملا لذاته فَلا تَكُونَنَّ أنت ومن تبعك مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين في توحيد الذات كما كنتم قبل الانكشاف اعلموا ان كُلٍ اى لكل فرد فرد من افراد الأمم جْهَةٌ مقصد وقبلة معينة من الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهيةوَ مُوَلِّيها حسب اقتضائها الذاتي وغلبتها الحقيقيةاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ اى بادروا ايها المحمديون الى منشأ جميع الخيرات ومنبع عموم المبرات الناشئة من الأسماء والصفات الا وهو الذات الوحدانية المستجمعة لجميعهايْنَ ما تَكُونُوا من مقتضيات الأوصاف والأسماء الذاتيةأْتِ بِكُمُ اللَّهُ اى الذات الجامعة لهامِيعاً مجتمعين بعد رفع التعينات الناشئة من الصفات نَّ اللَّهَ المتجلى بالأوصاف الذاتيةلى كُلِّ شَيْءٍ من المظاهر المتعينة المتكثرة بحسب المبدأ والاسم الظاهردِيرٌ على رفع التعينات المسقط لجميع الكثرات بحسب المعاد والاسم الباطن وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ أنت يا أكمل الرسل عن مقتضى كعبة الذات بغلبة حكم بعض الصفات فَوَلِّ وَجْهَكَ منها متذكرا شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وكعبة الذات المحرم فيه التوجه الى السوى والغير مطلقا وَإِنَّهُ اى شأن التوجه نحوه لَلْحَقُّ اى الثابت النازل مِنْ رَبِّكَ الذي رباك بمقتضى جميع أوصافه وأسمائه وَاعلم انه مَا اللَّهُ المطلع على عموم السرائر والخفايا بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أنت ومن اتبعك وعلى مقتضى علمه تجازون أنتم في يوم الجزاء وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ أنت يا أكمل الرسل عن مقتضى توحيد الذات بتكفير بعض المظاهر وبترك ما يستقبلونه أولئك المستقبلون فَوَلِّ أنت وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الجامع لجميع المظاهر ونحو قبلة الذات وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ أنتم ايها المؤمنون فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ اقتداء لرسولكم لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ المعترضين عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ غلبة بادعائكم التوحيد الذاتي وإخراجكم بعض المظاهر منه إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بنفي ذات الله وصفاته الا وهم الدهريون القائلون بوجود الطبائع بلا فاعل خارجى فإنهم لا يلزمون ولا ينزجرون بأمثاله فَلا تَخْشَوْهُمْ ولا تخافوا منهم في التوجه الى الكعبة الحقيقية ولا تبالوا بهم وبهذياناتهم بل وَاخْشَوْنِي في عدم التوجه الى حتى لا تحرموا عن مقتضيات بعض الأوصاف وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي الواصلة حسب أوصافي وأسمائي واوفرها عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الى ذاتى بسببها ومن إتمام نعمنا عليكم انا قد هديناكم الى جهة الكعبة الحقيقية وأمرناكم بالتوجه نحوها والعكوف حولها كَما أَرْسَلْنا من مقام جودنا فِيكُمْ رَسُولًا هاديا لكم ناشئا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ أولا آياتِنا اى آثار اوصافنا الدالة على وحدة ذاتنا وَثانيا يُزَكِّيكُمْ من الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة الصادرة من العقل الجزئى الغير المتصل بعقل الكل وَثالثا يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ الموضح للدلائل والآيات المبين للآراء والمعتقدات المميز الفاصل بين صحيحها

[سورة البقرة (2) : آية 152]

وفاسدها وَرابعا يظهر لكم الْحِكْمَةَ الموصلة الى توحيد الذات وَبعد ذلك يُعَلِّمُكُمُ من الحقائق والمعارف المكتسبة والموروثة ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ أنتم لولا إرشاده وإرساله سبحانه وبعد ما أنعمنا عليكم بهذه النعم العظام وأتممناها لكم فَاذْكُرُونِي ايها المؤمنون الموحدون المحمديون بالميل الدائم والتوجه التام الصادق أَذْكُرْكُمْ انا إياكم بنفثات رحمانية ونسمات روحانية وَاشْكُرُوا لِي باسناد النعم الى وَلا تَكْفُرُونِ باسنادها الى الوسائل والأسباب العادية ثم انه لما بالغ سبحانه في التنبيه والإرشاد إياهم وناداهم رجاء ان يتنبهوا له مع ان فطرتهم الاصلية مجبولة على التوحيد الذاتي فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الذات اسْتَعِينُوا لتحققه وانكشافه بِالصَّبْرِ على ما جرى عليكم من البليات المنفرة لنفوسكم وَالصَّلاةِ اى الميل الدائم الى جنابه بجميع الأعضاء والجوارح إِنَّ اللَّهَ المتجلى بجميع أوصاف الكمال مَعَ الصَّابِرِينَ المتحملين للبلاء الى ان كوشفوا به سبحانه رب اجعلنا من زمرة عبادك الصالحين الصابرين وَمما يستعان به على تجرع مرارة الصبر الى ان ينكشف سره الجهاد ولذلك لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ طالبا الوصول الى بابه أَمْواتٌ كالأموات الاخر بَلْ هم أَحْياءٌ بالحيوة الحقيقية باقون بالبقاء الأزلي الأبدي الإلهي وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ أنتم بحياتهم ما دمتم محجوبين بالحيوة المستعارة المستهلكة الدنياوية وما هي في الحقيقة الا عكس منها موت في نفسها وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ والله لنختبرن ولنجربن تمكنكم ورسوخكم في توحيد الذات بِشَيْءٍ قليل مما يشعر بالكثرة والاثنينية مِنَ الْخَوْفِ الحاصل من المنفرات الخارجية مثل الحرق والغرق والعدو وغير ذلك وَالْجُوعِ الحاصل من المنفرات الداخلية كالحرص والأمل والبخل والحسد وغيرها وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ التي تميل قلوبكم إليها بالطبع وَالْأَنْفُسِ التي تظاهرون وتفتخرون بها من الأولاد والاخوان والعشائر والأقران وَالثَّمَراتِ المترتبة على الأموال والأولاد من الجاه والثروة والمظاهرة والغلبة على الخصماء وغير ذلك وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل الصَّابِرِينَ من اهل التوحيد يعنى الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا بلسان الجمع إِنَّا لِلَّهِ اى نحن اظلال الله الواحد الأحد المتجلى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا في النشأة الاولى وَإِنَّا بعد انقضاء نشآتنا هذه إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال راجِعُونَ عائدون صابرون رجوع الظل الى ذي الظل وبالجملة أُولئِكَ السعداء المتمكنون في مقر التوحيد المستمسكون بحبل التفويض والتسليم عَلَيْهِمْ دائما متواليا صَلَواتٌ جذبات وخطفات ناشئة من سحائب اللطف والكرم الإلهي مشتملة على مياه العلوم اللدنية المترشحة المنشعبة من بحر الذات الجارية على جداول الأسماء والصفات الفائضة الى فضاء الظهور لا نبات المعارف والحقائق في أراضي الاستعدادات الموصلة الى النعيم المقيم الدائم واللذة المستمرة الباقية ازلا وابدا نازلة لهم دائما مِنْ رَبِّهِمْ الذي أوصلهم الى مقر عزه وَرَحْمَةٌ فائضة شاملة لهم ولغيرهم حسب وفورها وسعتها وَبالجملة أُولئِكَ السعداء الواصلون هُمُ الْمُهْتَدُونَ الى المبدأ الحقيقي والمنزل الأصلي المقصورون على الهداية والفلاح الأبدي السرمدي ثم لما نبه سبحانه الى الكعبة الحقيقية بالكعبة الصورية أراد أن ينبه على اماراتها بشعائرها وعلاماتها فقال إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ اى الجبلان المعروفان اللذان هما كنايتان عن نشأتى الظهور والبطون مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ وامارات توحيده فَمَنْ حَجَّ وقصد الْبَيْتَ الصوري الممثل من البيت المعنوي والمنزل الحقيقي والمرجع

[سورة البقرة (2) : آية 159]

الأصلي على الوجه المفروض أَوِ اعْتَمَرَ على الوجه المسنون قاصدا فيه التوجه الى الذات الاحدية معرضا عن العلائق المادية المانعة منه فَلا جُناحَ اى لا تعب ولا ضيق عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما اى يسعى بينهما معتقدا ارتباطهما الى ان ينكشف باتحادهما وَمَنْ تَطَوَّعَ وقصد بطوافهما خَيْراً زائدا على ما امر وفرض فَإِنَّ اللَّهَ الميسر له شاكِرٌ راض بفعله عَلِيمٌ بنيته وإخلاصه ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ويسترون ما أَنْزَلْنا في التورية مِنَ الْبَيِّناتِ الدالة على ظهور نبي يغلب عليه توحيد الذات وَالْهُدى المشير الى انه مبعوث الى كافة البرايا ناسخ لجميع الأديان إذ به يتم امر التكميل والإرشاد ولا بعثة بعد ظهوره بل ختم به صلى الله عليه وسلّم امر الإرسال والإنزال والتديين والتشريع والحال ان كتمانهم مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ وأوضحناه لِلنَّاسِ الناظرين فِي الْكِتابِ المستفيدين منه المتأملين فيه يعنى التورية أُولئِكَ الكاتمون المفرطون يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ اى يطردهم ويبعدهم عن عز حضوره لخروجهم عن مقتضى العبودية بكتمان ما أراد الله ظهوره وَايضا يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ المتحققون باعتدال العبودية المواظبون على ما أمروا حسب وسعهم وطاقتهم إِلَّا الَّذِينَ تابُوا منهم عن الكتمان ورجعوا عن البغي والعدوان وأظهروا جميع ما ظهر لهم ولاح لديهم من آيات كتابهم وَأَصْلَحُوا بالإظهار عموم ما أفسدوا على نفوسهم بالكتمان وَبَيَّنُوا ما بينهم الله في كتابه من وصف نبيه المبعوث الى كافة الأمم وعامة البرايا فَأُولئِكَ التائبون المخلصون المصلحون المنيبون المبينون عموم ما ظهر لهم في كتابهم أَتُوبُ عَلَيْهِمْ من العصيان ان اقبل منهم توبتهم وأتجاوز عن سيئاتهم وزلاتهم وَكيف لا أَنَا التَّوَّابُ الرجاع لهم عما جرى عليهم من العصيان والكفر والطغيان الرَّحِيمُ لهم بعد ما رجعوا الى مخلصين مخبتين ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بكتمان ما بين الله في كتابه وَماتُوا وَهُمْ عند موتهم كُفَّارٌ كاتمون ما في كتاب الله من أوصاف رسوله أُولئِكَ المصرون المعاندون في امر الكتمان سيما بعد الظهور مكابرة ينزل عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ طرده وتبعيده دائما مستمرا منحصرا عليهم غير منفك عنهم كما تقتضيه الجملة المعبرة عنه بخلاف اللعنة السابقة وَتنزل عليهم ايضا لعنة الْمَلائِكَةِ المستغفرين لمن تاب اللاعنين لمن كابر وأصر وَايضا لعنة النَّاسِ العارفين بحقوق الله المواظبين على أداء آدابه المعتكفين حول بابه أَجْمَعِينَ مجتمعين متفقين ملازمين عليها دائما لخروجهم عن ربقة العبودية خالِدِينَ فِيها بحيث لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ المترتب عليها لحظة ليتنفسوا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ اى يمهلون ساعة ليعتذروا وَإِلهُكُمْ المظهر لكم ايها المؤمنون من كتم العدم واله الكافرين الكاتمين إِلهٌ واحِدٌ لا تعدد فيه ولا اثنينية في ذاته بل لا إِلهَ في الوجود ولا موجود حقيقة إِلَّا هُوَ الوجود الحقيقي الحقي إذ لا كثرة في الوجود المطلق بل هو وحداني الذات فردانى النعت والصفات ليس كمثله شيء ولا دونه حي الرَّحْمنُ المبدئ لكم ولهم عامة باشراق أنوار تجلياته ومد اظلال ذاته على مرآة العدم في النشأة الاولى الرَّحِيمُ المعيد لكم خاصة الى مبدئكم ومقصدكم الحقيقي في النشأة الاخرى ثم لما كان لوحدته سبحانه آيات ودلائل واضحات لمن تأمل في عجائب مصنوعاته وبدائع مبدعاته ومخترعاته المترتبة على أسمائه وصفاته المستندة الى وحدة ذاته أشار سبحانه الى نبذ منها إرشادا وتنبيها فقال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ اى اظهار العلويات التي هي عالم الأسماء والصفات المؤثرة الفاعلة

[سورة البقرة (2) : آية 165]

وَالْأَرْضِ اى اظهار السفليات التي هي عالم الطبائع والأركان القابلة المتأثرة من العلويات «2» وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ اى ظلمة العدم والجهل والعمى وَالنَّهارِ نور الوجود واليقين والعلم وَالْفُلْكِ اى الأجساد الحاصلة بين تأثير الأسماء وتأثر الطبيعة منها الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ اى بحر الوجود الذي لا ساحل له ولا قعر بِما يَنْفَعُ النَّاسَ من جواهر المعارف ودرر الحقائق المستخرجة منه وَما أَنْزَلَ اللَّهُ بمقتضى كرمه وجوده مِنَ السَّماءِ المعدة للافاضة مِنْ ماءٍ علم وعين وكشف فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ اى طبيعة العدم بَعْدَ مَوْتِها بالجهل الجبلي وَبعد ما أحياها قد بَثَّ ونشر وبسط فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ من القوى المدركة والمحركة المنشعبتين بالشعب الكثيرة المترتبتين على صفة الحيوة المتفرعة على التجلي الحبى وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ المروحة للنفوس المتوجهة نحو المبدأ الناشئة المنتشئة من النفس الرحمانى ونحو الطبيعة المكدرة بالكدورات الجسمانية وَالسَّحابِ اى حجاب العبودية وقيود الغيرية الناشئة من مقتضيات الأسماء والصفات الْمُسَخَّرِ الممدود بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ اى سماء الأسماء الإلهية وارض الطبيعية الكونية لَآياتٍ دلائل قاطعات وبراهين ساطعات دالة على ان مظهر الكل واحد لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ اى يعلمون الأشياء بالدلائل العقلية اليقينية المنتجة لعلم اليقين المؤدى الى العين والحق لو كوشفوا ربنا اكشف علينا عموم ما قد أودعت فينا من بدائع ودائعك بفضلك وجودك انك أنت الجواد الكريم وَمع ظهور لوامع هذه الآيات الواضحات وشروق أنوار هذه الشواهد العينية وبروق اشعة تلك الواردات الغيبية الدالة على وحدة الذات مِنَ النَّاسِ المجبولين على فطرة التوحيد القابلين لها مَنْ يَتَّخِذُ منهم جهلا وعنادا مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المفنى للكثرة والتعدد مطلقا أَنْداداً أمثالا أحقاء للالوهية والربوبية مستحقين للعبادة بحيث يُحِبُّونَهُمْ اى كل منهم معبودهم كَحُبِّ اللَّهِ الجامع للكل لحصر كل طائفة منهم مرتبة الألوهية في مظهر مخصوص وسموه معبودا مستحقا للعبادة ورجعوا نحوه في عموم الوقائع والملمات لذلك كفروا بالله وَالَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الله هم أَشَدُّ حُبًّا منهم لِلَّهِ المحيط للكل الحقيق بالحقية لحصرهم الألوهية والربوبية والتحقق والوجود والهوية والذات والحقيقة والصفات كلها الى الله لا الى غيره إذ لا غير في الوجود معه بل لا اله الا هو وكل شيء هالك الا وجهه له الحكم في النشأة الاولى واليه الرجوع في النشأة الاخرى أذقنا بلطفك حلاوة اليقين وارزقنا محبة المؤمنين الموقنين وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا في النشأة الاولى حين خرجوا عن طريق التوحيد وانصرفوا عن الصراط المستقيم واتخذوا أمثالا لله يحبونهم كحب الله تقليدا لرؤسائهم ما يرون وقت إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ النازل عليهم ولرؤسائهم في النشأة الاخرى باتخاذهم آلهة باطلة من أَنَّ الْقُوَّةَ الكاملة والقدرة الشاملة الجامعة والحول المطلق لِلَّهِ المتفرد بالمجد والبهاء جَمِيعاً يومئذ وَمن أَنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء شَدِيدُ الْعَذابِ صعب الانتقام سريع الحساب يعنى لو ظهر لهم ولاح لديهم في الدنيا ما سيظهر ويلوح عليهم في النشأة الاخرى من ان الحول والقوة والعزة والعظمة لله بالاستقلال والانفراد بلا مشاركة ولا مظاهرة أصلا لتبرءوا البتة عن آلهتهم ومتبوعيهم في الدنيا ايضا كما تبرؤا عنهم في الآخرة اذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا من الأنداد والأمثال مِنَ

_ (2) لا يخفى على الفطن المتأمل وجه افراد الأرض وجمع السموات

[سورة البقرة (2) : آية 167]

الَّذِينَ اتُّبِعُوا لهم من المتخذين وَذلك حين رَأَوُا اى المتبوعون المعبودون الْعَذابَ النازل على تابعيهم باتخاذهم آلهة وكذبوهم وأظهروا البراءة عنهم ليبرؤا نفوسهم عن الإضلال والتضليل والتابعون ايضا بعد ما يرونهم كذلك ويفهمون منهم براءتهم عنهم أخذوا يقصدون انتقامهم وَلا يستطيعون إذ قد تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ اى اسباب الانتقام بانقطاع النشأة الاولى وَبعد ما ايسوا من الانتقام قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا نادمين متحسرين متمنين لَوْ أَنَّ لَنا ولهم كَرَّةً مكررة في النشأة الاولى مرة اخرى فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ فيها تلافيا وتداركا لما مضى من اتخاذنا إياهم آلهة كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا أولئك في هذه النشأة الاخروية وبالجملة ما ينفعهم هذه الندامة والتمني بل ما يزيدهم إلا غراما فوق غرام وأواما غب أوام كَذلِكَ اى مثل عذابهم على قدر اتخاذهم يُرِيهِمُ اللَّهُ اى يحضرهم أَعْمالَهُمْ الفاسدة السابقة كلها ويعذبهم عليها فردا فردا ويقول لهم ماذا تقولون فيه وما لهم في تلك الحالة سوى حَسَراتٍ نازلة عَلَيْهِمْ من تذكر سوء عملهم وقبح صنيعهم وهذا من أسوأ العذاب وأشد العقاب أعاذنا الله من ذلك وَبالجملة ما هُمْ لا التابعون ولا المتبوعون بِخارِجِينَ ناجين ابدا مِنَ النَّارِ اى نار البعد والإمكان المورث لهم من اصناف البغي والعدوان المورث لانواع الخيبة والخذلان اجرنا من النار يا مجير ثم لما بين سبحانه طريق توحيده على خلص عباده المتوجهين نحو جنابه تطهيرا لبواطنهم عن خبائث الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة أراد أن يرشدهم الى تهذيب ظواهرهم ايضا وتحليتهم بالخصال الحميدة الجميلة والأخلاق المرضية المعتدلة ليكون ظاهرهم عنوانا لباطنهم فقال مناديا لهم إشفاقا وإرشادا يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على فطرة التوحيد كُلُوا وتناولوا من جميع ما خلق لكم فِي الْأَرْضِ لتقويم مزاجكم وتقويته حَلالًا إذ الاصل في الأشياء الحل ما لم يرد على حرمته الشرع طَيِّباً مما يحصل بكد يمينكم وعرق جبينكم إذ لا رزق أطيب منه وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ اى لا تقتدوا ولا تقتفوا في تحصيل الرزق اثر وساوس شياطين الأهواء والآراء المضلة عن طريق الحق المفضية الى سبيل الظلم والعدوان ولا تغتروا بتمويهات الشيطان وتزييناته «2» إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة عند ذوى البصائر الناظرين بنور الله المقتبسين من مشكاة توحيده إِنَّما يَأْمُرُكُمْ ويغرركم بِالسُّوءِ اى الخصلة الذميمة وَالْفَحْشاءِ الظاهرة القبيحة ليخرجكم عن حدود الله الموضوعة فيكم لتهذيب ظاهركم وَأَنْ تَقُولُوا بعد ما خرجتم عن حدود الشرع عَلَى اللَّهِ المتوحد المتفرد المنزه في ذاته ما لا تَعْلَمُونَ لياقته في حقه من حصره في الأنداد والأشباه واثبات الولد له والمكان والجهة والجسم تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اى للمتبعين خطوات الشيطان امحاضا للنصح وتحريكا لحمية الفطرة الاصلية اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على نبيه من الهدى والبينات لتهتدوا الى توحيد الله قالُوا في الجواب بإلقاء شياطينهم لا نتبع ما القيتم أنتم علينا من المزخرفات بَلْ نحن ما نَتَّبِعُ الا ما أَلْفَيْنا وما وجدنا عَلَيْهِ آباءَنا وهم اعقل منا ومنكم قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا توبيخا وتقريعا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ الضالون الجاهلون لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً من شعائر

_ (2) منها ملازمة السكان ومدافعة الدربان ومدارات اهل الديوان والمجاملة مع الصدور والأعيان والمصاحبة مع الظلمة والأعوان والمنازعة مع الاخوان والمخاصمة مع الأقران والمفاخرة على اهل الزمان والعداوة مع ارباب اليقين والعرفان والرياسة على ضعفاء اهل الايمان كل ذلك من تسويلات نفس الإنسان المعبرة عنها بالشيطان عصمنا الله الحفيظ المنان من طغيان النفس والشيطان وهو المستعان وعليه التكلان

[سورة البقرة (2) : آية 171]

الدين وَلا يَهْتَدُونَ أصلا الى مرتبة الايمان واليقين فتتبعونهم ايها الضالون الجاهلون وتقتفون أثرهم ايها المسرفون المفرطون وَان شئت يا أكمل الرسل زيادة تفضيحهم اذكر للمؤمنين قولنا مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا تقليدا لآبائهم مع قابليتهم واستعدادهم للايمان كَمَثَلِ الشخص الَّذِي يَنْعِقُ يخاطب ويصوت من سفاهته بِما اى بجماد لا يَسْمَعُ منه شيأ في مقابلته إِلَّا دُعاءً وَنِداءً منعكسة من دعائه وندائه شبه حالهم في السفاهة والحماقة بحال من يصوت نحو الجبل فيسمع منه صوته منعكسا فيتخيل من سفاهته انه يتكلم معه والحال ان آباءهم ايضا أمثالهم صُمٌّ كانوا لا يسمعون دعوة الحق من السنة الرسل بُكْمٌ لا يتكلمون بما ظهر لهم من الحق الصريح نقلا او عقلا عُمْيٌ ايضا لا يبصرون آثار الصفات وأنوار تجليات الذات الظاهرة على الآفاق وبالجملة فَهُمْ وآباؤهم من غاية انهماكهم في الغفلة والنسيان كأنهم جمادات لا يَعْقِلُونَ ولا يخلقون من زمرة العقلاء نبهنا بفضلك عن سنة الغفلة ونعاس النسيان ثم ناداهم سبحانه وأوصاهم بما يتعلق بأمور معاشهم بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ اى مزكيات ما أحل لكم من الحيوانات وسقناه نحوكم تفضلا منا عليكم تقويما وتعديلا لأمزجتكم وَبعد تقويتنا وتعديلنا إياكم اشْكُرُوا لِلَّهِ المنعم المتفضل المربى لكم بلا التفات الى الوسائل والوسائط إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ لا الى غيره من الأسباب والوسائل تَعْبُدُونَ وتحصرون العبادة له قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اى ما حرم ربكم عليكم في دينكم من الحيوانات الا الْمَيْتَةَ التي ماتت حتف أنفها بلا تزكية وتهليل وَالدَّمَ السائل على اى وجه كان وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ المرخص في الأديان الاخر لنجاسة عينه وخباثة طبعه شرعا وَما أُهِلَّ اى الحيوان الذي ذبح وصوت بِهِ لِغَيْرِ اسم اللَّهِ عند ذبحه بل من اسماء الشياطين والأصنام وانما حرم عليكم هذه المحرمات وقت سعتكم فَمَنِ اضْطُرَّ منكم بأكلها حال كونه غَيْرَ باغٍ للولاة القائمين بأوامر الله المقيمين لأحكامه الحافظين لحدوده وَلا عادٍ مجاوز عن سد الجوعة الى وقت السعة فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ان تناول منها مقدار سد الرمق إِنَّ اللَّهَ الحكيم المرخص لكم في أمثال هذه المضائق والاضطرار غَفُورٌ ساتر لكم عن أمثال هذه الجرأة رَحِيمٌ عليكم بهذه الرخصة ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر لأمور عباده مِنَ الْكِتابِ المبين لهم طريق الرشاد والسداد ويظهرون بدله ما تشتهيه نفوسهم وترتضيه عقولهم عتوا واستكبارا وَيَشْتَرُونَ بِهِ اى بكتمان كتاب الله ثَمَناً قَلِيلًا من ضعفاء الأنام على سبيل التحف والهدايا أُولئِكَ الأشقياء الكاتمون طريق الحق الناكبون عن منهج الصدق ما يَأْكُلُونَ وما يغتذون ويتناولون بهذه الحيلة والتزوير ولا يستحيل فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ اى نار الحرص والطمع المقتبسة من نيران الإمكان المنتهية الى نار الجحيم أعاذنا الله وعموم عباده منها وَمن فظاعة أمرهم وشناعة صنيعهم لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ المستكشف عن احوال العباد يَوْمَ الْقِيامَةِ ليجزيهم على مقتضى أعمالهم التي كانوا عليها في النشأة الاولى بل يسوقهم الى النار بلا كشف وتفتيش عن جالهم وَبعد ما ساقهم إليها لا يُزَكِّيهِمْ ولا يطهر هم الله بها كما يطهر عصاة المؤمنين بالنار ثم يخرجهم الى الجنة بل يبقون فيها خالدين وَلَهُمْ فيها عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم غير منقطع إيلامه ابدا أُولئِكَ الضالون الخاسرون الَّذِينَ هم اشْتَرَوُا واستبدلوا الضَّلالَةَ المستتبعة لهذا النكال بِالْهُدى الموصل الى النعيم الدائم في النشأة الاولى وَالْعَذابَ المؤلم المزعج

[سورة البقرة (2) : آية 176]

بِالْمَغْفِرَةِ الملذة المستمرة في النشأة الأخرى فَما اعجب حالهم ما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ بارتكاب تلك الموجبات المؤدية إليها ذلِكَ النكال والعذاب بِأَنَّ اللَّهَ المرشد لهم الى التوحيد الذاتي قد نَزَّلَ الْكِتابَ اى القرآن المبين لهم طريقة التوحيد والعرفان ملتبسا بِالْحَقِّ الصريح الثابت في الواقع وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي حقية الْكِتابَ وتبيينه لَفِي شِقاقٍ خلاف ونفاق بَعِيدٍ بمراحل عن الحق والوفاق حققنا بفضلك حقية ما أنزلت علينا بمقتضى جودك ثم لما اختلف الناس في امر القبلة واهتموا بشأنها بان حصروا البر والخير كله فيها أشار سبحانه الى تخطئتهم ونبه على البر الحقيقي والخير الذاتي بقوله لَيْسَ الْبِرَّ اى ليس الخصال السنية والأخلاق المرضية مجرد أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مثلا بلا اتصاف بالعزائم والحكم المترتبة على تشريع القبلة وَلكِنَّ الْبِرَّ الحقيقي مَنْ آمَنَ وصدق منكم بِاللَّهِ المنشئ المظهر لكم من كتم العدم بعد ان لم تكونوا شيأ مذكورا وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء الأعمال وَالْمَلائِكَةِ المهيمين الوالهين في مطالعة جمال الله المستغفرين لمن آمن وعمل صالحا من خلص عباده وَالْكِتابِ يعنى صدق ايضا بالكتاب المبين لكم طريق الهداية وَالنَّبِيِّينَ المبعوثين إليكم به ليرشدوكم الى مقاصده ويبينوا لكم ما فيه من المعارف والحقائق وَبعد الايمان بالمذكورات آتَى الْمالَ المانع من التوجه الحقيقي وأنفقه عَلى حُبِّهِ سبحانه طالبا لرضاه على المحتاجين أولاهم إعطاء ذَوِي الْقُرْبى المنتمين اليه من قبل أبويه وَالْيَتامى الذين لا متعهد لهم من الوالدين وذوى القربى وَالْمَساكِينَ الذين أسكنهم الفقر العارض من عدم مساعدة آلات الكسب والحوادث الاخر وَابْنَ السَّبِيلِ القرباء الذين لا يمكنهم التصرف في أموالهم لوقوع البون بينهم وبين أوطانهم وأموالهم وَالسَّائِلِينَ الذين قد الجأهم الاحتياج مطلقا الى السؤال من اى وجه كان وَفِي الرِّقابِ من الإسراء الموثقين في يد العدو والمكاتبين الذين لا يقدرون على تفكيك رقابهم من مواليهم وغير ذلك من المضطرين وَأَقامَ الصَّلاةَ بان ادام الميل والتوجه بجميع الأعضاء والجوارح نحوه سبحانه في جميع الأوقات خصوصا في الأوقات المخصوصة التي فرض فيها الصلاة وَآتَى الزَّكاةَ المفروضة المقدرة في كتاب الله وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا كلهم من خيار الأبرار وَبشر من بينهم يا أكمل الرسل الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ اى الفقر المكسر للظهر وَالضَّرَّاءِ المرض المسقم للجسم وَخصوصا الغزاة الذين صبروا حِينَ الْبَأْسِ من اقتحام العدو بالانعامات العلية والكرامات السنية أُولئِكَ الأبرار والأحرار الصابرون في البلوى المرجحون لرضاء المولى على أنفسهم هم الَّذِينَ صَدَقُوا في أقوالهم وأصلحوا أفعالهم وأعمالهم وأخلصوا في نياتهم وَبالجملة أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ المحفوظون عن عموم ما خيف عليهم من الأمور المنافية للأمور الدينية الواصلون الى مرتبة التحقيق واليقين ربنا اجعلنا منهم بلطفك وكرمك يا ارحم الراحمين ثم ناداهم سبحانه إصلاحا لهم فيما يقع بينهم من الوقائع الهائلة والفتن العظيمة الحادثة من ثوران القوة الغضبية وطغيان الحمية الجاهلية المؤدية الى قتل البعض بعضا ظلما وعدوانا فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم وتوحيدكم المحافظة عليه بزجر النفس الامارة بالسوء من مقتضياتها المنشعبة من القوى البشرية وان وقع فيكم أحيانا فاعلموا انه قد كُتِبَ وفرض عَلَيْكُمُ في دينكم الْقِصاصُ بالمثل فِي الْقَتْلى المقتولين عمدا فيقتل الْحُرُّ القاتل بِالْحُرِّ المقتول عمدا وَكذا الْعَبْدُ

[سورة البقرة (2) : آية 179]

القاتل بِالْعَبْدِ المقتول كذلك وبالحر بالطريق الاولى وَكذا تقتل الْأُنْثى القاتلة حرة كانت اوامة بِالْأُنْثى المقتولة ايضا كذلك كل لنظيرتها قياسا على الحر والعبد والامة بالحرة بالطريق الاولى وكذا بالذكرين منهما واما قتل الحر والحرة بالعبد والامة فقد خولف فيه والظاهر انه لم يقتل فَمَنْ عُفِيَ لَهُ اى للجاني والقاتل مِنْ أَخِيهِ اى من الحقوق والسهام المشتركة بين الغرماء الطالبين منه قصاص أخيهم المسلم المقتول بيده ظلما شَيْءٌ قليل من الحقوق المذكورة فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ اى فالحكم اللازم عليكم في دينكم ايها الغرماء متابعة المعروف المستحسن عند الله وعند المؤمنين الا وهو الرجوع الى الدية وعدم القصاص وَعليك ايها الجاني أَداءٌ اى أداء الدية التي هي فدية حياتك إِلَيْهِ اى الى ولى المقتول بِإِحْسانٍ معتذرا نادما متذللا على وجه الانكسار بلا مطل وتسويف ذلِكَ اى سقوط القصاص بعد عفو البعض ولزوم الدية بدله تَخْفِيفٌ لكم ايها المؤمنون وإصلاح لحالكم نازل مِنْ قبل رَبِّكُمْ اما التخفيف بالنسبة الى الغرماء فبتسكين القوة الغضبية وتليين الحمية العصبية بالأموال المسرة لنفوسهم بعد وقوع ما وقع واما بالنسبة الى الجاني فظاهر لإبقائه الحيوة بالمال وَرَحْمَةٌ نازلة لكم من ربكم لتصفية كدورتكم الواقعة بينكم بواسطة القتل فَمَنِ اعْتَدى وتجاوز منكم عن الحكم بَعْدَ ذلِكَ المذكور بان قتل الغرماء الجاني بعد عفو البعض وحكم الحاكم بأداء الدية او امتنع الجاني عن أداء الدية على الغرماء بعد الحكم فَلَهُ اى لكل من المعتدين عَذابٌ أَلِيمٌ يؤاخذون في الدنيا بما صدر عنهم ويعاقبون ايضا عليه في الآخرة وَلَكُمْ ايها الموحدون المكاشفون بسرائر الشرائع والنواميس الإلهية الموضوعة بين المؤمنين في هذه النشأة سيما فِي الْقِصاصِ المسقط للجرائم الصادرة من جوارحكم البادية عليها بغيا وطغيانا حَياةٌ عظيمة حقيقية لكم في النشأة الاخرى إذ لا يؤخذون عليه فيها بعد مؤاخذتكم في النشأة الاولى يا أُولِي الْأَلْبابِ الناظرين بنور الحق في لب الأمور المعرضين عن قشورها لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رجاء ان تتحفظوا عن مقتضى القوى البهيمية المنافية لطريق التوحيد المبنى على الاعتدال والوفاق المؤدية الى أمثال هذه الجرائم والجنايات الكبيرة ثم قال سبحانه كُتِبَ عَلَيْكُمْ في دينكم ايضا ايها المؤمنون إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اى ظهرت أسبابه واماراته إِنْ تَرَكَ خَيْراً مالا كثيرا يقبل التجزية والانقسام المعتد به بلا تحريم الورثة الْوَصِيَّةُ اى الحصة المستخرجة منها لرضاء الله إنفاقا للفقراء المستحقين لها وأفضل الوصية وأولاها الوصية لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ان كانوا مستحقين لها وأفضلها الإخراج بِالْمَعْرُوفِ المعتدل المستحسن بين الناس بحيث لا يتجاوز عن ثلث المال حتى لا يؤدى الى تحريم الورثة وانما فرض الوصية في دينكم ايها المؤمنون حَقًّا لازما عَلَى الْمُتَّقِينَ اداؤه حفظا لغبطة الفقراء ومحبة ذوى القربى وامدادا لهم فَمَنْ بَدَّلَهُ وغيره من الحضار والأوصياء الشاهدين عليها سيما بَعْدَ ما سَمِعَهُ من الموصى صريحا فَإِنَّما إِثْمُهُ- اى اثم التبديل والتغيير عَلَى المغيرين الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ظلما وزورا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بأقوال الموصى عَلِيمٌ بنيته فيها وبما صدر من المبدلين المغيرين ايضا فيجازى كلا منهم على مقتضى علمه وخبرته فَمَنْ خافَ من الأوصياء والوكلاء مِنْ مُوصٍ حين الوصية جَنَفاً وميلا ببعض المستحقين ناشئا عن الغفلة بحالهم بلا قصد أَوْ إِثْماً ناشئا عن القصد فَأَصْلَحَ الوصي الخائف بَيْنَهُمْ اى الموصى لهم على مقتضى علمه بأحوالهم فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ اى على الوصي في هذا التبديل والتغيير بل يرجى من الله باصلاحه الثواب له ولمن اوصى اليه ايضا

[سورة البقرة (2) : آية 183]

إِنَّ اللَّهَ المطلع بحالهما غَفُورٌ رَحِيمٌ لكل منهما ثم لما نبههم سبحانه بنبذ مما يتعلق بتهذيب ظواهرهم أراد أن ينبههم على بعض ما يتعلق بتهذيب بواطنهم فقال ايضا مناديا لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ في دينكم الصِّيامُ وهو الإمساك المخصوص من طلوع الفجر الثاني الى غروب الشمس في الشهر المعروف والإمساك المطلق والاعراض الكلى عما سوى الحق مطلقا عند اولى النهى واليقين المستكشفين عن سرائر الأمور المتحققين بها حسب المقدور كَما كُتِبَ عَلَى امم الأنبياء الَّذِينَ خلوا مِنْ قَبْلِكُمْ ايها المحمديون وانما فرض عليكم هذا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رجاء ان تحفظوا انفسكم عن الإفراط في الاكل المميت للقلب المطفي نيران العشق والمحبة الحقيقية الحقية وإذا فرض عليكم صوموا أَيَّاماً قلائل مَعْدُوداتٍ هي شهر رمضان فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ حين حضور شهر رمضان الذي فرض فيه الصيام مَرِيضاً مرضا يضره الصوم او يعسر عليه أَوْ حين وروده عَلى جناح سَفَرٍ مقدار مسافة مقدرة في الشرع عند الفقهاء وأفطر رخصة فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يعنى يجب عليه ان يصوم أياما أخر مساوية للأيام المفطرة قضاء بلا كفارة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ اى الصوم فيفطرونه مع انهم ليسوا مرضى ولا مسافرين فعليهم فِدْيَةٌ هي طَعامُ مِسْكِينٍ اى فدية كل يوم من الأيام المفطرة من رمضان طعام واحد من المساكين بلا قضاء ولا لزوم كفارة عليه هذا في بدء الأمر ثم نسخ بالآية التي ستأتى فَمَنْ تَطَوَّعَ وزاد في الفدية خَيْراً تبرعا زائدا مما كتب له فَهُوَ اى ما زاد عليها خَيْرٌ لَهُ عند ربه يجزيه سبحانه عليه زيادة جزاء وَأَنْ تَصُومُوا ايها المؤمنون المطيقون في وقته بلا تأخير الى القضاء خَيْرٌ لَكُمْ من الفدية والزيادة عليها تبرعا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سرائر الإمساك والفوائد العائدة منها الى نفوسكم من كسر الشهوة والتلقي على الطاعة والتوجه مع الفراغة هذا في بدء الإسلام ثم نسخ بالآية التي ستذكر عن قريب واعلموا ايها المؤمنون ان أفضل الشهور عند الله وارفعها قدرا ومرتبة شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ اى ابتدأ نزوله او نزل كله فيه بل الكتب الاربعة ايضا قد نزلت كلها فيه على ما نقل في الحديث صلوات الله على قائله وكيف لا يكون أفضل الشهور مع ان القرآن المنزل فيه هُدىً لِلنَّاسِ الموقنين بتوحيد الله المتوجهين نحو جنابه يهديهم الى مرتبة علم اليقين وَبَيِّناتٍ شواهد وآيات واضحات مِنَ الْهُدى الموصل للمستكشفين عن سرائر التوحيد الى مرتبة عين اليقين وَالْفُرْقانِ الفارق لهم بين الحق الذي هو الوجود الإلهي والباطل الذي هو الموجودات الكونية الباطلة المعدومة في أنفسها المنعكسة من آثار الأوصاف والأسماء الإلهية فوصلهم الى مرتبة حق اليقين فَمَنْ شَهِدَ وأدرك مِنْكُمُ الشَّهْرَ المذكور مطيقا بلا عذر فَلْيَصُمْهُ ثلثين يوما حتما بلا إفطار وإفداء لان هذه الآية ناسخة لحكم الآية السابقة وَمَنْ كانَ منكم مَرِيضاً لا يطيق على الصوم فيه خوفا من شدة المرض أَوْ عَلى متن سَفَرٍ فأفطر لدفع الحرج فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ اى لزم عليه صيام ايام أخر قضاء لأيام الفطر بلا لزوم كفارة انما يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ بهذه الرخصة الْيُسْرَ لئلا تتحرجوا وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ لئلا تضطروا وتضطربوا وَانما الزم لكم القضاء بعد الرخصة لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ التي قد فرض لكم الصيام فيها في كل سنة لئلا تحرموا عن منافع الصوم وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ وتعظموه عَلى ما هَداكُمْ الى الرخص عند الضرورة والاضطرار وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تتنبهون

[سورة البقرة (2) : آية 186]

وتتقربون بشكر نعمه الفائضة عليكم في أمثال هذه المضائق الى ذاته إذ بشكر نعمه يحصل التقرب اليه وَلذلك اخبر سبحانه نبيه إرشادا لعباده الشاكرين لنعمه عن تقربه إليهم بقوله إِذا سَأَلَكَ ايها الداعي للخلق الى الحق عِبادِي الشاكرين لنعمي عَنِّي بقولهم اقريب إلينا ربنا فنناجيه مناجاتنا لنفوسنا أم بعيد منا فنناديه نداءنا للاباعد عنا قل لهم يا أكمل الرسل في جوابهم نيابة عنى فَإِنِّي قَرِيبٌ لهم من نفوسهم بحيث أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ اى استقبله مسرعا لإجابة دعائه كما نطق به الحديث القدسي حكاية عنه سبحانه فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي في عموم مهماتهم وحاجاتهم وَلْيُؤْمِنُوا بِي معتقدين إيصالي إياهم الى غاية متمناهم إذ لا مرجع لهم غيرى ولا ملجأ لهم سواي وانما أخبروا بما أخبروا وأمروا بما أمروا لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ رجاء ان يهتدوا الى مقر التوحيد راشدين مطمئنين اهدنا بلطفك الى مقر عزك يا هادي المضلين ثم أشار سبحانه الى بيان احكام الصوم مما يتعلق بالحل والحرمة فيه فقال أُحِلَّ لَكُمْ ايها الصائمون لَيْلَةَ الصِّيامِ دون نهاره إذ الإمساك عن الجماع في يوم الصوم مأخوذ في تعريفه شرعا ايضا الرَّفَثُ الوقاع والجماع إِلى نِسائِكُمْ اى معهن إذ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ لا تصبرون أنتم عنهن لاقتضاء طبعكم وميل نفوسكم إليهن وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ايضا لا يصبرن عنكم لاشتداد شهوتهن الى الوقاع بأضعاف ما أنتم عليه وانما رخص لكم الوقاع في الليالى إذ قد عَلِمَ اللَّهُ المحيط بسرائركم وضمائركم منكم أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ اى توقعونها بأيديكم الى التهلكة والخيانة فتعاقبون عليها وتحرمون انفسكم عن جزاء الصوم المتكفل له الحق بذاته كما قال صلّى الله عليه وسلم حكاية عنه سبحانه الصوم لي وانا اجزى به وإذا علم الله سبحانه منكم ما علم فَتابَ عَلَيْكُمْ اى أقدركم على التوبة ووفقكم عليها وَعَفا قد أزال ومحا عَنْكُمْ ما يوقعكم الى الفتنة والعذاب وهو تحريم الرفث في الليلة ايضا وبعد ما رخص لكم الوقاع فيها فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ اى الصقوا بشرتهن ببشرتكم في ليلة الصيام المرخصة فيها الجماع ولا تخافوا من عقوبة الله بعد ما اذن وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ اى اطلبوا سرائر ما قدر الله لكم من الولد الصالح المتفرع على اجتماعكم مع نسائكم إذ سر الجماع والنزوع انما هو إبقاء نوع الإنسان المصور على صورة الرّحمن ليترقى في العبودية والعرفان الى ان يستخلف وينوب عنه سبحانه وَكُلُوا في ليلة الصيام وَاشْرَبُوا فيها حَتَّى يَتَبَيَّنَ يعنى الى ان يظهر لَكُمْ بلا خفاء الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ اى البياض الممتد الذي يقال له في العرف الصبح الصادق مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ البياض المتوهم قبل الصبح الصادق المعبر عنه بالصبح الكاذب وكلاهما مِنَ الْفَجْرِ الذي هو عبارة عن آخر الليل ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ من الوقت المبين إِلى ابتداء اللَّيْلِ وهو غروب الشمس بحيث لا يرى في الأفق الشرقي بياض وحمرة منها وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ في ليلة الصيام ايضا وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ معتكفون فِي الْمَساجِدِ إذ الاعتكاف في الشرع عبارة عن اللبث في المسجد على نية التقرب فيبطله الخروج الا الى التوضى والطهارة. والجماع فيه ليس بمرخص شرعا تِلْكَ الاحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ الحاجزة بينه وبين نفوس عباده فلكم ان لا تجاوزوا عنها فَلا تَقْرَبُوها ايضا الى حيث يتوهم تجاوزكم عنها كَذلِكَ اى كالحدود والاحكام المأمورة والمنهية المذكورة يُبَيِّنُ اللَّهُ الهادي عموم عباده الى وحدة ذاته جميع آياتِهِ اى دلائله الدالة على وحدة ذاته لِلنَّاسِ الناسين العهود السابقة بواسطة تعيناتهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ رجاء ان يحذروا عنها بسبب اشراق نور الوجود

[سورة البقرة (2) : آية 188]

الحقي المفنى لعموم التعينات مطلقا وَمن جملة الاحكام الموضوعة فيكم لإصلاح حالكم ان لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ اى لا يأكل كل منكم مال الآخر بِالْباطِلِ اى بسبب الباطل الغير المبيح له أكل مال الغير من السرقة والغصب والربوا والرشوة والحيل المنسوبة الى الشرع افتراء ومراء الى غير ذلك مما ابتدعه المتشيخة والفقهاء في الوقائع من الشبه والمخائل ونسبوها الى السمحة السهلة البيضاء المحمدية المنبئة عن الحكمة الإلهية المنزهة عن أمثال تلك المزخرفات الباطلة وَايضا من جملة الاحكام الموضوعة ان لا تُدْلُوا بِها اى لا يحاول بعضكم مال البعض إِلَى الْحُكَّامِ المسلطين عليكم اى لا يفترى بعضكم بعضا افتراء يوقع بينكم العداوة والبغضاء المفضية الى المصادرة والحكومة المستلزمة لاخذ المال من الجانب او من الجانبين لِتَأْكُلُوا اى بالتحاكم إليهم فَرِيقاً اى بعضا او كلا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ المظلومين بِالْإِثْمِ الصادر عن المدلى المفترى منكم وَأَنْتُمْ ايها المدلون تَعْلَمُونَ انكم آثمون مفترون بك نعتصم عن أمثاله يا ذا القوة المتين. ثم لما قدر سبحانه في سابق علمه الحضوري سؤال أولئك السائلين عن كمية ازدياد القمر وانتقاصه وبدوه دقيقا رقيقا واستكماله بدرا ورجوعه على ما كان عليه اخبر نبيه صلّى الله عليه وسلم عما سيسألون إلحاحا واقتراحا امتنانا عليه فقال يَسْئَلُونَكَ ايها الداعي للخلق الى الحق بالحق لترويج الحق عَنِ الْأَهِلَّةِ اى عن كمية اختلافها كمالا ونقصانا قُلْ لهم في جوابهم كلاما ناشئا عن محض الحكمة مطابقا لأسلوب الحكيم مقتضى حالكم وادراككم ان تسئلوا عن الحكم والمصالح المودعة فيها لا عن كمية امر القمر فإنها خارجة عن طوق البشر وطور إدراكه سيما عن احلام العوام إذ نهاية مدرك العقلاء من القمر ان نوره مستفاد من الشمس وانه مظلم في ذاته وان استفادته النور من الشمس بحسب مقابلته لها وعدم ممانعة الأرض منها واما ان الشمس ما هي في حد ذاتها والقمر ما هو والارتباط بينهما على اى وجه فسر لا يحوم حوله احد من خلقه بل هو مما استأثر الله به في علمه فلا يسأل عنه احد بل هِيَ اى الاختلافات الواقعة في القمر زيادة ونقصانا ترقيا وتنزلا لأجل انه مَواقِيتُ معينة لِلنَّاسِ في امور معاشهم من الآجال المقدرة لقضاء الديون والعدة والتعليقات المتعلقة بها وغير ذلك من التقديرات الجارية في المعاملات بين الناس في العادات والعبادات وَخصوصا في الْحَجِّ والصوم والنذور المعينة والكفارات فإنها تضبط كلها باختلافات القمر الى غير ذلك من العبادات الموقتة وَكما ان سؤالكم هذا ليس من الأمور المبرورة المتعلقة بدينكم كذلك لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها لا من ابوابها وذلك ان الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب البيوت بل يثقبون ظهورها ويدخلون منها ويعدون هذه الفعلة من الأمور المبرورة ويعتقدونها كذلك الى حيث نبه سبحانه على خطاهم وارشدهم الى البر الحقيقي بقوله وَلكِنَّ الْبِرَّ المقبول عند الله بر مَنِ اتَّقى عن محارم الله مطلقا حين لبس الإحرام إذ الإحرام للموت الإرادي المعبر بلسان الشرع بالحج بمنزلة الكفن للموت الطبيعي فكما ان لابس الكفن محفوظ عن جميع المحارم اضطرارا كذلك لابس الإحرام لا بدان يحفظ نفسه عن جميع المحارم ارادة واختيارا وَبعد ما لم يكن الدخول من ظهور البيوت وثقبها من البر أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها مغمضين عيونكم عن المناهي غاضين أبصاركم عنها حافظين قلوبكم عن الميل الى المحرمات والمحظورات مطلقا وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ مخلصين له خائفين منه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ رجاء ان تفوزوا بالفلاح من عند الله بسبب تقويكم وَمن جملة الحدود الموضوعة فيكم القتال مع الأعداء

[سورة البقرة (2) : آية 190]

قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع المشركين المعرضين عن طريق الحق المائلين عنه تعنتا واستكبارا لا سيما مع الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ويقصدون استيصالكم بادين للقتال مجترئين عليها وَلا تَعْتَدُوا ولا تتجاوزوا ايها المؤمنون عما نهيتم عنه من قتل المعاهد والعجزة والاقتحام في الحرب فجأة والمقاتلة في الحرم وفي الشهور المحرمة والابتداء بالمقاتلة وغير ذلك إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عن الحدود والعهود المحفوظة شرعا وَان اجتمعوا لقتالكم وتوجهوا نحوكم اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ اى في اى مكان وجدتموهم في حل او حرم وَأَخْرِجُوهُمْ ان ظفرتم عليهم مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ يعنى مكة وَبالجملة القوا بينهم الفتن والاضطراب وأوقعوهم في حيص بيص إذ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ تأثيرا مِنَ الْقَتْلِ لان اثر القتل منقطع به واثر الفتنة مستمر دائم غير منقطع وَعليكم المحافظة للعهود سيما القتل لا تُقاتِلُوهُمْ وأنتم بادون للقتل سيما عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الذي قد حرم عنده ازالة الحيوة مطلقا حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ وهم بادون معتدون عن الحدود ناقضون للعهود فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فيه فَاقْتُلُوهُمْ بعد ذلك فيه ايضا قائلين لهم كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ الهاتكين حرمة بيت الله فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر والقتال مع المؤمنين وآمنوا على وجه الإخلاص فَإِنَّ اللَّهَ المطلع بما في ضمائرهم ونياتهم غَفُورٌ لما صدر عنهم من الكفر رَحِيمٌ بهم يقبل منهم الايمان والإسلام بعد ما أخلصوا وَان لم يؤمنوا قاتِلُوهُمْ ايها المؤمنون الى ان تستأصلوهم حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ اى لا تبقى فتنتهم على وجه الأرض وخلافهم عليها بل وَيَكُونَ الدِّينُ كله لِلَّهِ بلا مزاحم ومخاصم فَإِنِ انْتَهَوْا عن كفرهم بلا مقاتلة ودخلوا في دين الإسلام طائعين فَلا عُدْوانَ ولا عداوة تبقى لكم معهم بل هم إخوانكم في الدين إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ اى مع القوم الظالمين منهم المجاوزين عن الحدود والعهود المصرين على ما هم عليه من الكفر والجحود وبعد ما قاتل الكفار مع المؤمنين عام الحديبية في ذي القعدة الحرام وعزم المؤمنون على الخروج الى مكة لعمرة القضاء ايضا في السنة الثانية وهم يكرهون القتال لئلا يهتكوا حرمة شهر هم هذا كما هتكوا انزل الله عليهم هذه الآية فقال الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ اى لا تبالوا ولا تمتنعوا ايها المؤمنون عن القتال فيه إذ هتككم حرمة شهركم في هذه السنة بسبب هتكهم حرمته في السنة السابقة فيئول اثم كلا الهتكين إليهم وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ يعنى واعلموا ان الحرمات التي يجب المحافظة عليها وعدم هتكها يجرى فيها القصاص بالمثل فلما هتكوا حرمة هذا الشهر في السنة السابقة فافعلوا أنتم معهم في هذه السنة بمثله ولا تجاوزوا عنه فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وهذا ايضا من جملة الحدود الموضوعة فيكم لإصلاح حالكم وتهذيب أخلاقكم وَاتَّقُوا اللَّهَ ان تتخلفوا عن حدوده بالاقدام على ما نهيتم عنه والاعراض عما أمرتم به وَاعْلَمُوا ايها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ المدبر لكم المصلح لأحوالكم مَعَ الْمُتَّقِينَ منكم وهم الذين يحفظون نفوسهم عن محارم الله ومنهياته ويرغبونها نحو أوامر الله ومرضياته وَايضا من جملة الأخلاق الموضوعة فيكم الانفاق من فواضل أموالكم الى الفقراء والمساكين وهم الذين قد أسكنهم لوازم الإمكان والافتقار في زاوية الخمول أَنْفِقُوا ايها المؤمنون فِي سَبِيلِ اللَّهِ مقتصدين فيه بين طرفي التبذير والتقتير المذمومين عند الله ولدي المؤمنين وَبالجملة لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ انفسكم إِلَى التَّهْلُكَةِ والمشقة بالإسراف والتضييع او بالبخل والتقتير إذ بالبخل تبقى النفس في ظلمة الإمكان وتوطن

[سورة البقرة (2) : آية 196]

في وحشة الحرمان والخذلان وبالتبذير تصير من اخوان الشيطان وَمن اجلة أخلاقكم الإحسان أَحْسِنُوا ايها المتوجهون الى فضاء التوحيد أخلاقكم وأعمالكم وأقوالكم وجميع اوصافكم إذ ما من ولى ولا نبي الا وهو مجبول على حسن الخلق والشيم المقتبسة من الأخلاق الإلهية وبذلك استحقوا الخلافة والنيابة إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ المتفضلين بالأموال والأعمال وَمن الأركان الموضوعة المفروضة في دينكم ايها المحمديون الحج أَتِمُّوا الْحَجَّ اى الخصال والنسك المحفوظة المفروضة فيه وان ادى الى المقاتلة والمشاجرة وَالْعُمْرَةَ اى أتموا الأمور المسنونة فيه خاصة خالصة لِلَّهِ قاصدين التقرب اليه والتوجه الى بابه إذ الحج الحقيقي انما هو الوصول الى الكعبة الحقيقية التي هي الذات الاحدية فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ منعتم وحبستم بعد ما أحرمتم للحج والعمرة من الوصول الى الميقات وتتميم الواجبات فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ اى فعليكم إذا أردتم التحلل والخروج من الإحرام ذبح ما تيسر لكم حصوله من الهدى المحلل مثل البقرة والبدنة والشاة وغيرها حسب طاقتكم وقدرتكم بان تبعثوها الى الحرم او تذبحوها حيث أحصرتم وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ ايها المحصورون المريدون التحلل حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ المبعوث اليه او تذبحونه في المكان المحصور وبالجملة لا تحلقوا رؤسكم قبل ذبح الهدى او قبل وصولها الى الحرم فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً مرضا قد ازداد بشعر الرأس أَوْ بِهِ أَذىً ناشئا مِنَ شعر رَأْسِهِ من تزاحم قمل او صداع مفرط او جرب مشوش وحلق لأجله فَفِدْيَةٌ اى فاللازم عليه حينئذ الفدية سواء كانت مِنْ صِيامٍ مقدر بثلاثة ايام للفقراء العاجزين عن غيرها أَوْ صَدَقَةٍ مقدرة بثلاثة أصوع من الطعام للمتوسطين أَوْ نُسُكٍ من بدنة او بقرة او شاة للأغنياء على اختلاف طبقاتهم فَإِذا أَمِنْتُمْ اى إذا أحرمتم للحج حال كونكم آمنين من الموانع من إحصار العدو والمرض العارض ونزول الحادثة وغير ذلك من الموانع فعليكم إتمام مناسكه على الوجه الذي أمرتم به بلا إهمال شيء من آدابه المحفوظة فيه فَمَنْ تَمَتَّعَ وتقرب الى الله منكم بِالْعُمْرَةِ في أشهر الحج قبل تقربه اليه بالحج وبعد ما تم مناسك عمرته قصد إِلَى الْحَجِّ ونوى إياه فَمَا اسْتَيْسَرَ اى فعليه ذبح ما استيسره مِنَ الْهَدْيِ ويقال له عند الفقهاء دم الجبر ان يذبحه حين احرم للحج ولا يأكل منه فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدى منكم لفقره فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي زمان الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ الى أوطانكم وأهليكم إذ الصوم في مكة خصوصا في ايام الحج من أشق المشاق المفضى الى الحرج جدا تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ قائمة مقام الهدى للفقراء الغرباء الفاقدين وجود الهدايا وانما أمرتم بصوم الثلاثة فيها لئلا تحرموا عن إتمام متممات الحج في أوقاته ذلِكَ الحكم المذكور لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ اى لم يكن من جملة المتوطنين فيها او في حواليها اقل من مقدار مسافة القصر وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور واحفظوا أوامره التعبدية وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر المتهاونين بأوامره شَدِيدُ الْعِقابِ لهم إذ اكثر الأمور الشرعية والعزائم الدينية انما هي تعبدية لا يدرك سره خصوصا الأعمال المنسوبة الى الحج ثم لما امر سبحانه عباده بالحج بان يأتوا الى بيته من كل بلد بعيد وفج عميق عين له وقتا معينا من الأوقات التي لها فضيلة ومنزلة عنده سبحانه فقال الْحَجُّ اى أوقاته أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ متبركات معروفات وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة بتمامها او بعضها على ما خولف فيه فَمَنْ فَرَضَ على نفسه فِيهِنَّ

[سورة البقرة (2) : آية 198]

الْحَجُّ بان ارتكب بشرائطه وأركانه ناويا له في خلال هذه الأشهر لزمه إتمامه بلا فسخ العزيمة وقلب النية وحل المحرمات فيه فَلا رَفَثَ ولإجماع وان طالت المدة وَلا فُسُوقَ ولا خروج عن حدود الله بارتكاب المحظورات وَلا جِدالَ والمجادلة والمراء مع الخدام والرفقاء فِي ايام الْحَجُّ إذ الحج كناية عن الموت الإرادي المنبئ عن الحيوة الحقيقية وهذه الأمور من أوصاف الأحياء بالحيوة الطبيعية فمن قصد الحج الحقيقي والحيوة الحقيقية فعليه ان يميت نفسه من لوازم الحيوة الطبيعية المستعارة الغير القارة ليفوز بالحيوة الحقيقية الازلية والبقاء الأبدي السرمدي وذلك لا يتيسر الا بالخروج عن مقتضيات العقل الجزئى المشوب بالوهم والخيال بل هو مغلوب منهما محكوم لهما دائما ولا يحصل ذلك الا للسالك الناسك الذي قد جذبه الحق عن نفسه متدرجا مترقيا من عالم الى عالم من العوالم المنتخبة عنها ذاته الى ان وصل الى مقام ومرتبة قد طويت المراتب عندها وفنيت العوالم بأسرها فيها وفنى هو ايضا فيها بل قد فنى فناءها ايضا فيها ولم ينزل منها هابطا أصلا بل تقرر وتمكن واطمئن فيها كما نشاهد نحن مثلها متحسرين إليها متمنين لها من بعض بدلاء الزمان ادام الله ظله العالي على مفارق اهل اليقين والعرفان وإبهام اسمه انما هو لإبهام شانه هيهات هيهات مالنا وماله حتى نتكلم عنه جعلنا الله من خدامه وتراب اقدامه وبعد ما امر سبحانه عباده بحج بيته تعظيما له ولبيته حثهم على مطلق الخيرات وبذل المال فيها وفي طريقها ليتقرر في نفوسهم هذه الخصلة الحميدة إذا البخل انما هو المانع عن ميل القلوب الى المحبوب الحقيقي الا وهو أساس كل فتنة ورأس كل خطيئة فقال وَما تَفْعَلُوا لرضاء الله مِنْ خَيْرٍ خالص عن شوب المنة والأذى عار عن امارات العجب والرياء سالم عن وسوسة شياطين الأهواء يَعْلَمْهُ اللَّهُ بعلمه الحضوري إذ أمثال هذه الخيرات جارية على مقتضى العدالة الإلهية التي هي عبارة عن صراط الله الأعدل الأقوم وَبالجملة تَزَوَّدُوا للعبور عن صراط الله بالتقوى عن الدنيا وما فيها فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ للعباد انما هو التَّقْوى عن عموم المحارم والفسادات وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ المتوجهين الى لب اللباب المتمائلين عن القشور العائقة عن الحضور. أدركنا بلطفك يا خفى الألطاف لَيْسَ عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون جُناحٌ ضيق وتعب بعد اتقائكم عن سخط الله وتزودكم بالتقوى أَنْ تَبْتَغُوا وتطلبوا اى كل منكم فَضْلًا من المعارف اليقينية واللذات الروحانية مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم فَإِذا أَفَضْتُمْ وانتشرتم أنتم ايها المؤمنون مِنْ عَرَفاتٍ الذات المحيطة بجميع الصفات المربية لكم. وجمعها باعتبار وصول كل من الواصلين إليها بطريق مخصوص وان كانت بعد الوصول إليها واحدة وحدة حقيقية ذاتية لا كثرة فيها أصلا فَاذْكُرُوا اللَّهَ المستجمع لذواتكم عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ اى الصفات المحرم ثبوتها لغير ذات الله أفرده سبحانه لاختصاص كل من افراد الإنسان بصفة مخصوصة تربيه وتختص به وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ بتفويض الأمور كلها اليه واستعيذوا به من وساوس شياطين الأوهام والأهواء المضلة وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ اى قبل هدايته لَمِنَ الضَّالِّينَ التائهين في بيداء الضلالة الناكبين عن طريق الهداية الحقيقية ثُمَّ لما تم توجهكم ووقوفكم بعرفة الذات وتحققكم فيها أَفِيضُوا منها وانتشروا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ تنزلوا منها الى المراتب المترتبة على الصفات وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ المحيط بكم فيها إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ساتر لذنبكم وتعيناتكم رَحِيمٌ بكم يوصلكم الى مبدأ كم الأصلي بعد رفع تعيناتكم فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ المأمورة لكم من الاجتناب عن مقتضيات الحيوة الطبيعية

[سورة البقرة (2) : آية 201]

والاتصاف بمقتضيات الحيوة الحقيقية فَاذْكُرُوا اللَّهَ الهادي لكم الى هذه المرتبة كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ بلا تردد وتشكيك أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً بل ذكر الله أشد وضوحا من ذكر الآباء إذ قد يجرى فيه التشكيك بخلاف ذكر الله المتفرع على الشهود المستتبع للفناء فيه فانه خال عن وصمة الريب مطلقا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يحصر التوجه والرجوع الى الله والمناجاة معه في فوائد النشأة الاولى فقط لذلك يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا ما نحن محتاجين اليه من امور معاشنا وَهو وان وصل الى مبتغاه في الدنيا ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ حظ ونصيب لصرفه استعداده الى ما لا يعنيه حقيقة بل يضره ويغويه وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ جامعا بين الظاهر والباطن والاولى والاخرى رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ترضى بها عنا وتقبلها منا وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً توصلنا الى توحيدك وَقِنا بلطفك عَذابَ النَّارِ اى نار الإمكان المحوج الى الذات الوهمية المنتجة لانواع الخيبة والخذلان وبالجملة أُولئِكَ المؤمنون الموحدون الجامعون بين رتبتي الظاهر والباطن لَهُمْ نَصِيبٌ حظ كامل ونصيب شامل مِمَّا كَسَبُوا في الدنيا التي هي مزرعة الآخرة من المعارف اللدنية والكشوف الإلهية وَاللَّهُ المحيط بهم وبضمائرهم سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسبهم ويجازيهم على ما كسبوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ بعد تتميمكم مناسككم وآداب وقوفكم بعرفة فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ هي ايام التشريق فَمَنْ تَعَجَّلَ اى استعجل للرجوع والنفر فِي يَوْمَيْنِ اى في ثانى ايام التشريق فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ باستعجاله وَمَنْ تَأَخَّرَ ايضا فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بتأخيره يعنى أنتم مخيرون في استعجال النفر وتأخيره بعد ما وصلتم الى ما وصلتم واعلموا ان العاقبة الحميدة لِمَنِ اتَّقى عن محارم الله والتجأ نحوه من غوائل نفسه وتسويلاتها وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ في جميع ما صدر ويصدر عنكم واستحفظوا منه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بأجمعكم إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال تُحْشَرُونَ وترجعون رجوع الظل الى ذي الظل ومن جملة الآداب الموضوعة فيكم بوضع الله المدبر لأموركم المهذب لأخلاقكم الاجتناب عن الجلساء السوء لذلك خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلّم امتنانا عليه وإرشادا لكم ايها المؤمنون فقال وَمِنَ النَّاسِ المجبولين على البغض والنفاق المستمرين عليه دائما بلا تصفية ووفاق مَنْ يُعْجِبُكَ ويوقعك في التعجب المحير العارض لنفسك يا أكمل الرسل بلا علمك بموجبه وسببه قوله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا اى مقوله المتعلق بأمور الدنيا واسباب المعاش وذلك ان من نظم امور الدنيا وترتيبها ولم يتوسل بها الى الآخرة ولذاتها كما هو المشهور بين اهل الدنيا يسمونه عقل المعاش وَمع اغرائه وتغريره إياك بقوله يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ من حب الدنيا ويدعى موافقة كلام الله وحكمة المودعة فيه على ما يدعيه تأكيدا ومبالغة لا تغفل عنه يا أكمل الرسل ولا تغتر بقوله واغرائه وَاعلم انه هُوَ في نفسه أَلَدُّ الْخِصامِ وأشد العداوة والجدال معك ومع من تبعك من المؤمنين فعليك ان لا تغتر بعذوبة لسانه وحلاوة بيانه. قيل نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وكان من بلغائهم وفصحائهم له الوجاهة والطلاقة وحسن المحاورة والمصاحبة يتردد الى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويصاحب معه نفاقا ويظهر المحبة والإخلاص مراء ويدعى الايمان له والانقياد بدينه استهزاء وَإِذا تَوَلَّى انصرف وأدبر من عنده صلّى الله عليه وسلّم سَعى فِي الْأَرْضِ الموضوعة للإصلاح فيها والصلاح لِيُفْسِدَ فِيها بأنواع الفسادات وَمن جملة ذلك يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ بالظلم والفسوق والعصيان المتجاوز عن الحد وانواع الطغيان والعدوان مثل الزنا وقطع الطريق والخروج على الولاة القائمين

[سورة البقرة (2) : آية 206]

بحدود الله المقيمين باحكامها كالمتشيخة المبتدعة الذين ظهروا في هذه الامة في زماننا هذا بإفساد عقائد ضعفاء المسلمين بالشيخوخة وترغيبهم الى البدع والأهواء الباطلة المؤدية الى تحليل المحرمات الشرعية ورفع التكاليف الدينية والمعتقدات اليقينية شتت الله شملهم وفرق جمعهم وَاللَّهُ الهادي للعباد لا يُحِبُّ الْفَسادَ وَمن غاية عتوه وعناده ونهاية استكباره إِذا قِيلَ لَهُ امحاضا للنصح اتَّقِ اللَّهَ عن أمثال هذه الفضائح واستحى منه سبحانه أَخَذَتْهُ قد هيجته وحركته الْعِزَّةُ والحمية الجاهلية المرتكزة في نفسه بِالْإِثْمِ الذي قد منع عنه بحيث أصر عليه لجاجا وعنادا وبالجملة فَحَسْبُهُ وحسب أمثاله جَهَنَّمُ الإمكان الذي يلعبون بنيرانها كفت مؤنة شرورهم وطغيانهم وَالله لَبِئْسَ الْمِهادُ هذا الإمكان المستتبع لمهد النيران المتضمن لانواع الخذلان والحرمان واصناف الخيبة والخسران وايضا من جملة الآداب الموضوعة فيكم بل من أسناها وأجلها الرضاء والتسليم بعموم ما جرى من قضاء الله ومقضياته لذلك قال سبحانه وَمِنَ النَّاسِ المتشمرين الى الله بالرضاء والتسليم مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ويوقعها في المهلكة لا لداعية دنيوية تنبعث من نفسها بل ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ طالبا لرضاه راضيا بجميع ما قضى له وَاللَّهُ المطلع بعموم الحالات رَؤُفٌ عطوف مشفق بِالْعِبادِ سيما الصابرين في البلوى الراجعين الى المولى الراضين بما يحب ويرضى ثم لما كان الرضاء والتسليم من احسن احوال السالكين المتوجهين الى الله الكريم العزيز العليم وارفعها قدرا ومنزلا عنده أمرهم سبحانه بها امتنانا عليهم وإصلاحا لحالهم فقال مناديا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم الرضاء والتسليم ادْخُلُوا ايها المستكشفون عن سرائر التوحيد فِي السِّلْمِ اى الطاعة والانقياد المتفرعين على الرضاء والإخلاص المنبئين عن التحقق بمقام العبودية كَافَّةً اى ادخلوا في السلم حال كونكم مجتمعين كافين نفوسكم عما يضر إخلاصكم وتسليمكم وَلا تَتَّبِعُوا ايها المتوجهون الى مقام العبودية والرضاء اثر خُطُواتِ الشَّيْطانِ اى الأهواء والآراء المضلة عن طريق الحق المعبرة عنها في عرف الشرع بالشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة والإضلال يضلكم عما يهديكم الحق اليه فَإِنْ زَلَلْتُمْ وانصرفتم عن طريق الحق مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ المبينة الموضحة لكم طريقه فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب قادر على انواع الانتقام حَكِيمٌ لا ينتقم الا بالحق هَلْ يَنْظُرُونَ اى ما ينتظر المزلون عن طريق الحق سيما بعد الوضوح والتبيين إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بعذابه المدرج المكنون فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ السحاب الأبيض المظل لهم صورة يتوقعون منه الراحة والرحمة وَالْمَلائِكَةُ الموكلون بجر سحب العذاب إليهم فانزل عليهم العذاب واستأصلهم بالمرة وَقُضِيَ الْأَمْرُ المحكم والحكم المبرم المقصى عليهم من عنده سبحانه لانتقامهم كالأمم الماضية وَبالجملة إِلَى اللَّهِ لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية تُرْجَعُ الْأُمُورُ أولا بالذات وان تشكك احد في الانتقام ونزول العذاب على المزلين المنصرفين عن طريق الحق سيما بعد الوضوح والتبيين قل يا أكمل الرسل نيابة عنا إلزاما له سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ وتذكر قصتهم كَمْ كثيرا آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ مبينة في كتبهم فأنكروا عليها ظلما وعدوانا فأخذناهم بظلمهم الى ان استأصلناهم بالمرة وَلا يختص هذا ببني إسرائيل بل كل مَنْ يُبَدِّلْ ويغير نِعْمَةَ اللَّهِ المستلزمة للشكر والايمان كفرا وكفرانا سيما مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ من لدنا تفضلا وإحسانا فله من العذاب والنكال ما يستحقه فَإِنَّ اللَّهَ المتجلى باسمه المنتقم شَدِيدُ

[سورة البقرة (2) : آية 212]

الْعِقابِ صعب الانتقام سريع الحساب ثم ذكر سبحانه مساوي اهل الكفر والنفاق وسوء معاملتهم مع المؤمنين المخلصين ليجتنب المؤمنون عن أمثاله فقال على وجه الاخبار زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا اى قد حسن وحبب في عيونهم وارتكز في قلوبهم الْحَياةُ الدُّنْيا اى الحيوة المستعارة المنسوبة الى الدنيا وَادى أمرهم في هذا التزيين والتحسين الى ان يَسْخَرُونَ ويستهزؤن مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا اى صار المؤمنون بفقرهم وعرائهم عن امتعة الدنيا الدنية ورثاثة زيهم وحالهم محل استهزائهم وسخريتهم متى قصدوا الاستهزاء على فاقدى الدنيا أخذوا منهم وَالحال ان المؤمنين الَّذِينَ اتَّقَوْا عن لذائذ الدنيا ومزخرفاتها الفانية الغير الباقية يكونون فَوْقَهُمْ رتبة ومنزلة عند الله يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد لجزاء الأعمال الحاصلة في النشأة الاولى وَاللَّهُ الرازق للكل يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ من عباده الرزق الدنيوي بِغَيْرِ حِسابٍ فيها ابتلاء واختبارا بل يمهلهم على تجبرهم وتكبرهم مفتخرين بمزخرفاتها الى النشأة الاخرى فيحاسبهم ويجازيهم عليها ويرزق ايضا من يشاء من عباده بالرزق الأخروي بغير حساب لا في النشأة الاولى ولا في الاخرى بل قد صار أولئك السعداء المقبولون متمكنين في حمائه سبحانه ازلا وابدا بحيث لا يشوشهم الحساب ولا تتفاوت عندهم اللذة والعذاب بل صاروا بما صاروا بلا سترة وحجاب آتنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب ثم قال سبحانه كانَ النَّاسُ في الفطرة الاصلية والمرتبة الحقيقية الجبلية أُمَّةً واحِدَةً وملة وحدانية متوجهة الى مبدئهم الحقيقي ومقصدهم الأصلي طوعا ثم اختلفت آرائهم وتشتتت أهواءهم بمقتضيات القوى الحيوانية التي هي من جنود إبليس فظهر بينهم العداوة والبغضاء والمجادلة والمراء فَبَعَثَ اللَّهُ المدبر لأمورهم النَّبِيِّينَ من بنى نوعهم المؤيدين من عند ربهم مُبَشِّرِينَ لهم طريق الإطلاق والتوحيد وَمُنْذِرِينَ لهم عن الكثرة والتقييد وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ تصديقا لهم الْكِتابَ الجامع لعموم ما يبشر به وينذر عنه ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع لِيَحْكُمَ كل نبي به بَيْنَ النَّاسِ المنسوبين اليه فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من امور معاشهم ومعادهم وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ اى في الكتاب المنزل إليهم بالتكذيب والإنكار احد من الناس إِلَّا القوم الَّذِينَ أُوتُوهُ اى الكتاب وما كان اختلافهم الا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ الواضحات المصدقات بانه منزل لهم من عند الله العليم الحكيم وبالجملة ما اختلفوا في عموم ما اختلفوا الا بَغْياً وعدوانا وخروجا عن طريق الحق وحسدا لأهله ناشئا من طغيانهم واقعا بَيْنَهُمْ من وساوس شياطينهم ومقتضيات اوهامهم وخيالاتهم من حب الجاه والرياسة والعتو والاستكبار فَهَدَى اللَّهُ بلطفه الَّذِينَ آمَنُوا بالنبي المبعوث إليهم والكتاب المنزل معه لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الأمور الدينية مع المعاندين المنكرين والحال انه اى اختلافهم ناشئ مِنَ الْحَقِّ الصريح المطابق للواقع واختلافهم ايضا معهم انما يكون بِإِذْنِهِ اى بامره المنزل في كتابه وَاللَّهُ المرشد الموفق لكل العباد الى ما هم عليه يَهْدِي بفضله مَنْ يَشاءُ من خلص عباده إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى بابه بلا عوج وضلال أرجوتم وطمعتم ايها المحمديون المتوجهون الى زلال التوحيد وصفو التجريد والتفريد ان تصلوا اليه بانانيتكم هذه بلا سلوك ومجاهدة وسكر وصحو وتلوين وتمكين وقيد واطلاق ونفى واثبات وفناء وبقاء هيهات هيهات أَمْ حَسِبْتُمْ وتمنيتم متوقعا أَنْ تَدْخُلُوا فجأة بهويتكم هذه بلا افنائها وفنائها في هوية الله الْجَنَّةَ التي ارتفعت عندها الهويات واضمحلت دونها الماهيات وَلَمَّا يَأْتِكُمْ اى لم يأتكم مَثَلُ الَّذِينَ

[سورة البقرة (2) : آية 215]

خَلَوْا ومضوا مِنْ قَبْلِكُمْ اى شانهم وقصتهم المشهورة المعروفة المنسوبة الى الأحرار الأبرار الواصلين الى دار القرار كيف مَسَّتْهُمُ بأبدانهم واجسادهم وهوياتهم الجسمانية الْبَأْساءُ المذلة المزمنة المزعجة المفنية لأنانياتهم وَكيف مستهم ايضا بأرواحهم المتكثرة باشباحهم المترتبة على الأوصاف الذاتية الإلهية الضَّرَّاءُ المسقطة للاضافات كلها وَبعد ما وصلوا الى هذه المرتبة المعبرة عنها بالقيامة والطامة الكبرى عند العارف زُلْزِلُوا اى اضطربوا وتلونوا وتذبذبوا لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء وكان حالهم هكذا بين الحيرة والحسرة يترددون ويتحيرون الى ان قد غلب على قلوبهم المحبة والشوق وانبعث من المحبة الخالصة والارادة الصادقة الصافية العشق المفرط المنبعث من جذب المعشوق الحقيقي المائل بالطبع عموم المظاهر نحوه وحينئذ احتاجوا الى نصر الله وتوفيقه وجذبه بلطفه فاضطروا واضطربوا في بين وبين وصاحوا الى اين واين حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ المرشد لهم الى طريق التوحيد مناجيا مع الله رافعا اليه سبحانه أمرهم وَيقول ايضا الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مشايعين له في قوله ودعائه مشاركين معه في هذا الاشتياق والاستبطاء وقلة التصبر وكمال الفزع والاضطرار والمراقبة والانتظار مَتى نَصْرُ اللَّهِ وغلبته علينا حتى تتخلص من التلون والتذبذب بل من التمكن بل الكون والتكون والظهور والإظهار والغيب والشهادة وغير ذلك من الإضافات مطلقا حتى قيل لهم حينئذ وما لنا تعيين القائل إذ لا قائل في الوجود الا هو منبها مستعربا مستعجبا مستغربا أَلا اى تنبهوا ايها الاظلال الممدودة المتعددة المنتشئة من الأوصاف المحمودة الذاتية الاحدية المضافة بعضها الى بعض ارفعوا اضافتكم عن البين وغشاوتكم عن العين حتى تتصل العين بالعين ويرتفع البين عن البين وقولوا وما ادرى هاهنا ايضا من القائل وما المقول به وما المقول اليه وما هذا وماذا أدركنا بلطفك عن حجاب الألفاظ وغشاوة العبارة إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ وغلبته عليكم ايها الاظلال قَرِيبٌ حاضر غير مغيب لو تنبهتم الى ذي ظلكم والتنبه له محال الا لمن كشف سبحانه عليه كيفية الظل والاظلال والامتداد والتعدد الحاصل فيه والكوائن الغير المتناهية والمكونات الغير المحصورة الحاصلة فيه الكائنة من عكوس أوصافه واظلال أسمائه باشخاصها وأنواعها وأجناسها الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله وبالجملة لا تحوم الفهوم حول سرادقات عز جلاله حتى تتفوه عن مكنوناته ومصنوعاته إذ ليس كمثله شيء ليقاس عليه ولا دونه حي ليسمع فيه ويبصر به بل هو السميع وهو البصير وبالجملة ليس وراء الله مرمى ومنتهى يَسْئَلُونَكَ اى الهادي للكل عن الانفاق وعن ما ينفق به وعن من ينفق عليه ويقولون ماذا يُنْفِقُونَ اى اى شيء ينفقه المنفق في سبيل الله قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة ما أَنْفَقْتُمْ اى اى جنس أنفقتم كما وكيفا سواء كان تمرة او كسيرة او حبة او ذرة صادرة مِنْ خَيْرٍ خالص عن شوب المنة والأذى فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إليكم بسببهما اى فهم اولى ان كانوا مستحقين وَبعد ذلك أولاهم الْيَتامى الذين لا متعهد لهم وَبعد ذلك الْمَساكِينِ الذين قد أسكنهم المذلة والهوان وَبعد ذلك ابْنِ السَّبِيلِ وهم الذين قد تعذر لهم الوصول الى املاكهم ومملوكاتهم وَبالجملة اعلموا ايها المؤمنون انه ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ خالصا لرضا الله سبحانه فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ بصدوره عنكم وبنياتكم فيه ثم لما ظهر امر الإسلام وعلا قدره وارتفع مناره فرض سبحانه على المؤمنين الموقنين بطريق التوحيد

[سورة البقرة (2) : آية 216]

المشاجرة والمقاتلة مع المخالفين الناكبين عن طريق الحق بالشرك والإشراك لتظهر شمس التوحيد على الآفاق ويضمحل شوب الكثرة والثنوية المنبعثة عن الكفر والنفاق ويتميز الحق عن الباطل والوجود عن العدم العاطل فقال كُتِبَ عَلَيْكُمُ ايها المؤمنون الْقِتالُ مع مخالفيكم من اهل الكثرة وَهُوَ كُرْهٌ مكروه مستهجن لَكُمْ مذموم عندكم ما دمتم في انانيتكم وهويتكم هذه وما دمتم أنتم فيها مع تكثر الإضافات ولوازم الإمكان وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً في النشأة الاولى وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في النشأة الاخرى وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً فيها وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ فيها وَبالجملة اللَّهُ المطلع بسرائركم يَعْلَمُ خيركم ويأمركم به وشركم فيحذركم عنه وَأَنْتُمْ بمقتضى هويتكم هذه لا تَعْلَمُونَ شيأ من الخير والشر بل لكم التعبد والإطاعة والانقياد بعموم ما امر ونهى والعلم عند الله العزيز العليم وسرائر الأمور واسراره مخزونة عنده محفوظة لديه لا يعلمها الا هو يَسْئَلُونَكَ ايضا ايها الداعي للخلق الى الحق بالحق عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ اهو من المحرمات الإلهية بمقتضى حكمته البالغة أم لا ويسئلونك ايضا عن قِتالٍ واقع فِيهِ اهو ايضا من المحرمات الشرعية أم لا قُلْ يا أكمل الرسل للسائلين نيابة عنا هما من جملة محرماته سبحانه التي قد اقتضتها حكمته المتقنة البالغة بل قِتالٍ فِيهِ ذنب كَبِيرٌ إذ هو خروج عن مقتضى الحد الموضوع من لدنه سبحانه في هذا الشهر وَمع كونه ذنبا كبيرا صَدٌّ منع وصرف ايضا للتجار عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي قد أباح لهم سبحانه تكسب معاشهم وَمع ذلك العياذ بالله كُفْرٌ بِهِ اى بالله بعدم اطاعة امره وَصد ايضا عن طواف الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الذي قد حرم الله الصد والاعراض عنه روى انه عليه السّلام بعث عبد الله ابن جحش ابن عمته على سرية في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين ليترصد القفل الذي كان لقريش في جانب الشام وفيهم عمرو بن عبد الله الخضرمي وثلثة معه فلما ظفروا عليهم قتلوا الخضرمي وأسروا اثنين واستاقوا العير نحو المدينة وفيها تجارة للطائف ايضا وكان ذلك غرة رجب وهم يظنونه من جمادى فقال قريش قد استحل محمد الشهر الحرام مع انه قد كان شهرا يأمن فيه الخائف ويتردد الناس فيه الى معايشهم ثم لما سمع صلّى الله عليه وسلّم تعيير قريش قال لعبد الله ما أمرت لك بالقتال في الشهر الحرام وسوق العير فيه وشق هذا القول على اصحاب السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا فنزلت ورد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العير والأسارى فلاموه وعيروه على ما صدر عنه وقالوا يتوجه الى المسجد الحرام ويمنع الزوار منه رد الله عليهم فقال وَإِخْراجُ أَهْلِهِ اى اهل المسجد الحرام مِنْهُ عدوانا وظلما أَكْبَرُ ذنبا عِنْدَ اللَّهِ من منع الزوار والقتل سهوا او خطأ ناشئا من عدم التدبر في تعيين الوقت إذ الإخراج افتتان بين المسلمين المستأهلين ببيت الله وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ إذ شرها عام ممتد بخلاف القتل وَبالجملة ان الكفار المصرين على الكفر والعناد لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ ايها المؤمنون حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ المنزل عليكم من ربكم هداية لكم إِنِ اسْتَطاعُوا وَالحال انه مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الذي هو الايمان والتوحيد فَيَمُتْ بعد الارتداد وَهُوَ كافِرٌ ساتر طريق الحق تارك مشرب التوحيد فَأُولئِكَ الكافرون المرتدون عن طريق الإسلام قد حَبِطَتْ انحطت واضمحلت وسقطت عن درجة الاعتبار عند الله أَعْمالُهُمْ الصادرة عنهم بالمرة بحيث لا تفيد لهم أصلا لا فِي الدُّنْيا لحرمانهم عن مصاحبة اهل الايمان والعرفان وَلا في الْآخِرَةِ لإرجاعهم

[سورة البقرة (2) : آية 218]

أنفسهم الى قعر الإمكان المفضى الى أسفل دركات النيران وَبالجملة أُولئِكَ المحرومون عن لذة التوحيد أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالتوحيد الذاتي وادي ايمانهم الى ان قد وصلوا بمرتبة اليقين العلمي وَالَّذِينَ هاجَرُوا وتركوا ما يضاده وينازعه الى ان وصلوا الى مرتبة اليقين العيني وَبعد ذلك جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع نفوسهم الى ان وصلوا بل اتصلوا وحصلوا باليقين الحقي أُولئِكَ المقربون المتدرجون في طريق الوصول يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ما داموا في السلوك باشباحهم وَاللَّهُ المطلع بضمائر عباده غَفُورٌ ساتر لهم أشباحهم عن عيون بصائرهم رَحِيمٌ لهم يوصلهم الى ما يتوجهون اليه حسب فطرتهم الاصلية من جنة الذات بمنه وجوده أدركنا بلطفك يا خفى الألطاف يَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أهما من المحرمات الإلهية أم لا قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ اما في الخمر فلكونه معطلا للقوى المدركة مزيلا للعقل الجزئى المودع في هيكل الإنسان ليتوصل به الى العقل الكل المتفرع على الاسم العليم الشامل لجميع ما كان ويكون الا وهو اللوح المحفوظ والكتاب المبين واما في الميسر فلكونه متلفا للمال الذي هو سبب تعمير البدن الذي هو مخزن جوهر العقل المركوز ومركب الروح الذي اختص الله به الإنسان وبه استحق رتبة الخلافة والنيابة الإلهية وَبالجملة وان كان فيهما مَنافِعُ لِلنَّاسِ اى لبعضهم من المرضى الذين لا يمكنهم العلاج بدون ازالة عقولهم به او التداوى لهم منحصر في الخمر عند اصحاب الطب ومن استغناء بعض السفلة من الناس واسترزاقهم بالميسر وَلكن إِثْمُهُما عند اولى النهى واليقين أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما عندهم بل لا نفع فيهما بالنسبة إليهم إذ لا يبقى لهم علاقة مع أبدانهم ليصلحوها او يصححوها بالتداوى وَايضا يَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل ماذا يُنْفِقُونَ اى من اى شيء ينفقون وعلى اى وجه ينفقون قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا أنفقوا الْعَفْوَ اى الفاضل من أموالكم لئلا تتضرروا بالجهد وليسهل عليكم التجاوز عنه ولا يشق على انفسكم إنفاقه كَذلِكَ اى على الوجه الأحسن الأسهل يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ جميع الْآياتِ المنزلة عليكم والاحكام الموردة لإصلاح حالكم لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ رجاء ان تتأملوا فِي الدُّنْيا اى في الآيات المتعلقة لأمور الدنيا فتتصفوا بها فيها وَايضا تتأملوا في الآيات المتعلقة لأمور الْآخِرَةِ فتحققوا بها وتتمكنوا عليها وتطمئنوا بسببها ليتم لكم تهذيب الظاهر والباطن وبعد ذلك يترتب على وجودكم وظهوركم ما يترتب وَيَسْئَلُونَكَ ايضا عَنِ الْيَتامى الذين لم يبلغوا الحلم ولا متعهد لهم من ذوى القربى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ أحوالهم خَيْرٌ وثواب عظيم للمؤمنين من ابقائهم في المذلة والهوان وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ من غاية المرحمة والاشقاق فَإِخْوانُكُمْ في الدين يجزيكم الله خيرا ان كنتم قاصدين فيه إصلاحهم ورعايتهم دون إفساد مالهم وعرضهم وَاللَّهُ المطلع بما في ضمائر عباده يَعْلَمُ ويميز الْمُفْسِدَ المبطل منكم مِنَ الْمُصْلِحِ المحق فيجازى كلا منهم على مقتضى علمه بهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ المطلع لإفسادكم واعناتكم ان يعنتكم ويفسد عليكم لَأَعْنَتَكُمْ اذلكم وافسدكم البتة أشد من افسادكم واعناتكم إياهم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب قادر على وجوه الانتقام حَكِيمٌ لا ينتقم بلا موجب وَمن جملة الاحكام الموضوعة لإصلاحكم ان لا تَنْكِحُوا ايها المؤمنون النساء الْمُشْرِكاتِ الكافرات حَتَّى يُؤْمِنَّ لئلا يختلط ماءكم بمياههن وليوجد

[سورة البقرة (2) : آية 222]

الولد على فطرة الإسلام وَاعلموا ايها المؤمنون لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ لكم ان تنكحوها مِنْ حرة مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ مالها وجمالها وَايضا لا تَنْكِحُوا أيتها المؤمنات الْمُشْرِكِينَ الكافرين حَتَّى يُؤْمِنُوا وَاعلمن أيتها المؤمنات لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ لنكاحكن خَيْرٌ مِنْ حر مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ماله وجماله إذ لا كفاءة بين المؤمن والكافر وبالجملة أُولئِكَ المشركون والمشركات يَدْعُونَ اى يريدون ويقصدون دعوتكم إِلَى النَّارِ المتفرعة على شركهم وكفرهم وَاللَّهُ الهادي لكم الى امتزاج المؤمنين مع المؤمنات الحفيظ المراقب لكفاءتكم في النكاح والإنكاح يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ المتفرعة على الايمان والتوحيد وَالْمَغْفِرَةِ المستلزمة لرفع الآثام والمعاصي بِإِذْنِهِ اى بتوفيقه واقداره وَيُبَيِّنُ آياتِهِ اى أحكامه وآدابه وأخلاقه في كتابه لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ رجاء ان يتذكروا ويتعظوا بها ليهتدوا الى زلال التوحيد وَيَسْئَلُونَكَ ايضا عَنِ الْمَحِيضِ روى ان اهل الجاهلية كانوا لم يسكنوا مع الحيض ولم يأكلوا معهن كاليهود والمجوس واستمر ذلك منهم الى ان سئل ابو الدحداح مع جمع من الصحابة عن ذلك فنزلت قُلْ يا أكمل الرسل هُوَ أَذىً يتأذى منه من يقربه فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ بالإتيان والوقاع لا بالمصاحبة والمحافظة حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قاصدين فيه حكمة إبقاء نوع الإنسان المستخلف عن الله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ عن الميل الى خلاف ما امر الله به وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ عن الأدناس الظاهرة والباطنة وبالجملة نِساؤُكُمْ ايها المؤمنون حَرْثٌ لَكُمْ اى موضع حراثتكم ومحل إتيانكم فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ مقبلين او مدبرين روى ان اليهود كانوا يقولون من جامع امرأته من جانب دبرها كان ولده أحول رد الله عليهم بهذه الآية وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ايها المستكشفون عن سرائر الأمور من الحكم والأسرار المودعة في التلذذ والتزوج والانبعاث والشوق والانتعاش وانواع الكيفيات المستحدثة عند الوقاع ولا تغفلوا عن سرائره ولا تطمئنوا بمجرد قضاء شهوة كالحيوانات العجم وَاتَّقُوا اللَّهَ عن الخيانة والخباثة والإتيان الى غير المأتى المأمورة في الشرع وغير ذلك من المحظورات المسقطة لحرمات الله الواقعة في امر الجماع والاجتماع إذ هي مزلة اقدام اولى الأحلام من عظماء الأنام وَبالجملة اعْلَمُوا بأجمعكم أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ سبحانه فتزودوا بزاد يليق بجنابه ويقبل في بابه وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل الْمُؤْمِنِينَ القائمين بحدود الله المحافظين عليها الخائفين من خشية الله الراجين من رحمته بان لهم عند ربهم روضة الرضاء وجنة التسليم وَمن جملة الأخلاق المنزلة لكم ان لا تَجْعَلُوا اللَّهَ اى اسم الله عُرْضَةً وجهة ومعرضا لِأَيْمانِكُمْ المتعلقة بكل دنى خسيس وحق وباطل اى لا تكثروا الحلف بالله في الأمور إذ أنتم لبشريتكم ما تخلون عن شوب الكذب والبطلان ما لكم والتلفظ باسم الحق الحقيق بالحقية سيما لترويج الأمور المزخرفة الباطلة ان أردتم أَنْ تَبَرُّوا افعلوا الخيرات وواظبوا على الطاعات وتوجهوا الى الله في عموم الأوقات وشمول الحالات وَان أردتم ان تَتَّقُوا اجتنبوا عن المحظورات واحذروا عن المحرمات وارجعوا نحو ربكم بإسقاط عموم الإضافات وَان أردتم ان تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ تليينا لقلوبهم ادعوهم الى طريق الحق بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلوهم بالتي هي أقوم وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأيمانكم عَلِيمٌ بنياتكم فيها فيجازيكم على مقتضى علمه بحالكم هذا في الايمان المثبتة للواقع والاحكام المقارنة للقصد والارادة واما الايمان

[سورة البقرة (2) : آية 225]

الجارية على السنة العوام بلا اثبات شيء ونفيه بل على سبيل الاتفاق فمما يعفى عنه لذلك قال سبحانه لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ الواقع فِي أَيْمانِكُمْ بلا قصد وارادة وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ بواسطة الايمان الكاذبة من الأمور الباطلة التي لا تطابق الواقع فلبستم فيها وأتيتم بها وَاللَّهُ غَفُورٌ لكم لو تبتم ورجعتم اليه عما صنعتم وكسبتم من الآثام حَلِيمٌ لا يعجل بالانتقام رجاء ان يتوبوا عنها ثم قال سبحانه لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ اى يحلفون ان يمتنعوا مِنْ وقاع نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ اى يلزم عليهم الانتظار الى ان تنقضي مدة اربعة أشهر فَإِنْ فاؤُ ورجعوا في هذه المدة عن الحلف بان جامعوا معهن في أثناء هذه المدة حنثوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ بحنثهم يتجاوز عنهم بالكفارة رَحِيمٌ لهم بابقاء النكاح بينهم وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ بلا حنث الحلف فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع منهم الطلاق عَلِيمٌ بنفرة قلوبهم منهن وَالْمُطَلَّقاتُ المدخولات بهن يَتَرَبَّصْنَ وينتظرن بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ اى مضى مدتها والقرء يطلق على الحيض والطهر واصل وضعه لانتقال من الطهر الى الحيض وهو المراد في الآية لأنه لاستبراء الرحم وهو الدال على البراءة وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ اى للمطلقات المعتدات أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ مدة العدة من الحيض والولد لئلا يختلط النسب إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ العالم بالسرائر والخفايا وَالْيَوْمِ الْآخِرِ التي تبلى فيه جميع السرائر والضمائر وَبالجملة بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ أليق واولى بِرَدِّهِنَّ إليهم فِي ذلِكَ اى في زمان التربص إِنْ أَرادُوا اى الأزواج إِصْلاحاً وَاعلموا ايها المؤمنون ان لَهُنَّ عليكم من الرعاية والمحافظة والاستيناس وغير ذلك مِثْلُ الَّذِي لكم عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ من الحقوق والرعاية والمحافظة على آداب الخدمة وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فضيلة بحسب الخلقة والعقل والتمييز وكمال الايمان والمحافظة على حدود الله وامتثال مأموراته وَاللَّهُ عَزِيزٌ يعز من يشاء ويذل من يشاء منهم حَكِيمٌ في فعله لا يسأل عما يفعل ثم قال سبحانه الطَّلاقُ الصادر عن اولى العزائم وذوى الألباب مَرَّتانِ مرة عند عروض النفرة المنافية للرغبة السابقة المستلزمة للزواج والازدواج المنبعث عن الطبيعة المقتضية بالطبع للاختلافات والازدواجات الواقعة بين اسبابها الا وهي الأوصاف الذاتية الإلهية ثم إذا رجع العازم عنه لا بد ان يكون رجوعه ايضا عن روية وتدبير بان يلاحظ انه بسبب انبعاث الرغبة السابقة واشتياقها ثانيا فيكذب نفسه ويرجع إليها وان طلقها بعد تلك الرجعة فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ اى فعليه بعد الطلقة الثانية احد الأمرين ولا يتجاوز عنه الى الطلقة الثالثة والا لسقط من زمرة العقلاء العازمين على الأمور الشرعية بالعزيمة الخالصة اما إمساك بالمعروف المستحسن عند الله وعند المؤمنين بل لا بد ان يكون هذا الإمساك احسن من الإمساك السابق على الطلاق حين الوفاق أَوْ تَسْرِيحٌ واطلاق وتبعيد مقارن بِإِحْسانٍ من مال وخلق حسن وكلمة طيبة ليرتفع غبار العداوة والبغضاء الواقعة باغواء الشيطان بينهما وَلا يَحِلُّ لَكُمْ ايها الحكام المقيمون للاحكام الشرعية أصلا أَنْ تَأْخُذُوا من النساء مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ من المهور والصدقات شَيْئاً وتردوه الى أزواجهن إِلَّا أَنْ يَخافا اى الزوجان كل منهما على نفسه أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ الموضوعة من عنده سبحانه لإصلاح حالهما فَإِنْ خِفْتُمْ ايها الحكام ايضا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ بينهما فَلا جُناحَ ولا اثم عَلَيْهِما اى على الرجل في أخذ ما افْتَدَتْ بِهِ المرأة بدل الخلاص والطلاق وعلى المرأة لاعطائه له

[سورة البقرة (2) : آية 230]

وبالجملة تِلْكَ الاحكام المذكورة حُدُودَ اللَّهِ الموضوعة بينكم ايها المؤمنون لإصلاح أحوالكم فَلا تَعْتَدُوها اى لا تتجاوزوا عنها بالمخالفة وَعدم الامتثال واعلموا ان مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ اى المتجاوزون عن حد الانسانية الى البهيمية المضيعون لمقتضيات العقل الشريف المفاض عليهم من لدنه سبحانه فَإِنْ طَلَّقَها ثالثا اى ان وقع الطلاق بينهما بعد المرتان فَلا تَحِلُّ المرأة المطلقة لَهُ اى للرجل المطلق مِنْ بَعْدُ اى بعد وقوع الطلقة الثالثة حَتَّى تَنْكِحَ وتتزوج المرأة زَوْجاً ثانيا مواقعا إياها إذ لا يكفى مجرد النكاح بلا وقاع غَيْرَهُ اى غير الزوج الاول فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا اى يرجع كل من الزوج الاول والمرأة الى الآخر بالزواج والازدواج ويلمس كل منهما عسيلة الآخر بل الزوج الاول عسيلة الزوج الثاني ان اشتهى وذلك حسن إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ بينهما وَتِلْكَ الاحكام المذكورة حُدُودَ اللَّهِ الموضوعة بين عباده انما يُبَيِّنُها يظهرها ويوضحها سبحانه لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعقلون ويفهمون سرائر حدوده ويعملون بها بمقتضى العقل المفاض إذ التكاليف الواقعة في الشرع انما هي له وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ اى قرب انقضاء عدتهن فَأَمْسِكُوهُنَّ اى فعليكم بعد ما قرب انقضاء مدة العدة ان تراجعوهن فيها وتمسكوهن بِمَعْرُوفٍ مستحسن عقلا وشرعا أَوْ سَرِّحُوهُنَّ وفارقوهن بِمَعْرُوفٍ حتى لا يتضررن بطول المدة وَعليكم ان لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً اى لمجردان تضروهن لِتَعْتَدُوا وتبقوا مدة طويلة بلا محبة ومودة حتى يأتيهن الموت كما يفعله الجهال غيرة وحمية وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الفعل القبيح منكم فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بالتعريض على عقاب الله بابطال حكمته وتعطيل محل ظهور خلقه وقدرته وَبالجملة لا تَتَّخِذُوا ايها المؤمنون المكلفون آياتِ اللَّهِ النازلة عليكم المشتملة على إصلاح أحوالكم وأخلاقكم هُزُواً اى محل استهزاء تتهاونون بها وتأخذونها هملا بل احذروا من بطش الله وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ الفائضة عَلَيْكُمْ وواظبوا بشكرها وَاعملوا بمقتضى ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ لإصلاح حالكم مِنَ الْكِتابِ المبين لكم طريق المعاش في النشأة الاولى وَالْحِكْمَةِ الموصلة لكم الى ذروة التوحيد في النشأة الاخرى يَعِظُكُمْ بِهِ فعليكم ان تتعظوا وتتذكروا به وَاتَّقُوا اللَّهَ من مساخطته وانتقاماته ولا تتجاوزوا عن حدوده المبينة في كتابه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المحيط بكم وبعموم أحوالكم بِكُلِّ شَيْءٍ صدر عنكم من الخير والشر والنفع والضر العائد لنفوسكم عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يعزب عن علمه شيء مما ظهر وكان ويظهر ويكون وَإِذا طَلَّقْتُمُ ايها المؤمنون النِّساءَ اى منكوحاتكم فَبَلَغْنَ بعد الطلاق أَجَلَهُنَّ من العدة المقدرة في الشرع لاستبراء الرحم فَلا تَعْضُلُوهُنَّ اى لا تحبسوهن ولا تعيروهن ان أردن أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ كما يفعله الجهال من الحمية الجاهلية ذلِكَ العظة والتذكير المنزلة من عند الله يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وبجميع ما انزل من المواعظ والاحكام وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اى بعموم ما فيه من الوعد والوعيد ذلِكُمْ اى امتثالكم بالمواعظ والاحكام والآداب والأخلاق أَزْكى لَكُمْ لتزكية نفوسكم عن الأهواء الفاسدة والآراء الباطلة وَأَطْهَرُ لقلوبكم عن متابعتها وَبالجملة اللَّهُ المدبر لأمور عباده يَعْلَمُ عموم مصالحهم وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ مصالحكم فعليكم بالامتثال لأوامر الله والاجتناب عن نواهيه تعبدا وانقيادا وَالْوالِداتُ سواء كن مطلقات او غيرهن يُرْضِعْنَ

[سورة البقرة (2) : آية 234]

ولا يضيعن أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ اى يجب لهن ان يرضعن أولادهن للأب الذي أراد إتمام إرضاع ولده وَيجب ايضا عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ اى على الأب رِزْقُهُنَّ اى أجور المرضعات الأمهات وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ المتعارف المعتدل عقلا وشرعا إذ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها اى من سنته سبحانه ان لا يكلف عباده في مطلق التكاليف الا بما يطيقونه ويقدرون عليه لذلك لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها بان الزم عليها بانه ولد لك لا بد لك ان ترضعيه بلا اجرة وَلا يضار ايضا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ بان حمل وكلف عليه ما ليس في وسعه من اجرة الرضاعة وَان لم يكن المولود له موجودا يجب عَلَى الْوارِثِ والولي الحائز للتركة مِثْلُ ذلِكَ اى مثل ما يجب على المولود له من حفظ الولد وارضاعه فَإِنْ أَرادا اى المولود له والمرضعة قبل انقضاء الحولين فِصالًا فطاما صادرا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ اى مشورة واقعة بينهما في امر الطفل فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في هذا الفطام ان لم يتضرر الرضيع أصلا وان تضرر فللحاكم ان يمنعهما لئلا يفضى الى تضييع الرضيع وتخريب بناء الله وَإِنْ أَرَدْتُمْ ايها المؤمنون أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ اى تطلبوا المرضعة لا رضاع رضيعكم سواء كانت المرضعة أم الرضيع أم لا فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ اى لا ضيق ولا تعب عليكم ان تسلموا بالطريق المعروف المستحسن ما سميتم وعينتم من الاجرة للإرضاع قبل انقضاء مدة الرضاع وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور على تضييع الرضيع وتنقيص اجرة المرضعة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يجازيكم على مقتضى علمه وبصارته وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ايها المؤمنون وَيَذَرُونَ اى يتركون أَزْواجاً واحدة او ثنتان او ثلاثا او أربعا يَتَرَبَّصْنَ اى لزم عليهن ان ينتظرن ويعتدن بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً حتى يعلم ويظهر انهن حاملات أم لا فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ بان انقضت المدة المقدرة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ايها الحكام فِيما فَعَلْنَ فِي إصلاح أَنْفُسِهِنَّ من طلب الخطبة والخاطب والناكح والتجسس عنه والعرض عليه ان صدر عنهن هذه الأمور بِالْمَعْرُوفِ المستحسن في الشرع والعرف والا فعليكم الجناح ايها الحكام عند الله ان لم تمنعوهن وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ ايها الحكام من التهاون في اجراء أحكامه وحفظ حدوده خَبِيرٌ يؤاخذكم عليه ويجازيكم حسب خبرته وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ اى في كلام وألفاظ قد قصدتم به تعريضا حسنا وتلميحا مليحا خاليا عن وصمة الفساد ناشئا مِنْ ارادتكم خِطْبَةِ النِّساءِ المعتدات للوقاع واظهار الميل الى نكاحهن أَوْ أَكْنَنْتُمْ أضمرتم وأخفيتم فِي أَنْفُسِكُمْ مع انه قد عَلِمَ اللَّهُ المطلع لظواهركم وبواطنكم منكم وان أخفيتم أَنَّكُمْ لميل طبيعتكم إليهن سَتَذْكُرُونَهُنَّ فاذكروهن على الوجه الأحسن الأبعد عن التهمة وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا اى الوقاع والجماع اى لا تخالطوا معهن الى حيث ارتفع الحجاب عنكم فتتكلمون معهن بالكلمات الجارية بين الزوج والزوجة إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً يومى الى خطبتكم ونكاحكم اياهن ان خفتم ان يسبق عليكم غيركم من المريدين القاصدين لخطبتهن وَعليكم ان لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ اى لا تستعجلوا في العزيمة على العقدة قبل انقضاء أجل العدة حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ اى ما فرض في الكتاب من العدة المقدرة فيه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المطلع لضمائركم يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من الخيانة في حدوده فَاحْذَرُوهُ من غضبه لتنجوا من عذابه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن عزم على المعصية ولم يفعل خوفا من الله

[سورة البقرة (2) : آية 236]

ومن بطشه حَلِيمٌ لا يعجل بعقوبة العاصين لا جُناحَ عَلَيْكُمْ اى لا وزر ولا اثم عليكم ايها المؤمنون إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ اى مادام لم تجامعوا معهن أَوْ لم تَفْرِضُوا وتقدروا لَهُنَّ فَرِيضَةً مهرا وصداقا وَمَتِّعُوهُنَّ اى عليكم ان تحسنوا لهن بعد ما طلقتموهن جبرا لما كسرتم من قلوبهن بالطلاق واعلموا ان التمتيع والإحسان عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ اى قدر وسعه ويسره وَكذا عَلَى الْمُقْتِرِ المعسر قَدَرُهُ اى قدر إعساره وإقتاره مَتاعاً اى متعوهن متاعا ملتبسا بِالْمَعْرُوفِ الذي يستحسنه الشرع والمروءة ولهذا صار ذلك التمتيع المجاز في الشرع حَقًّا لازما عَلَى المؤمنين الْمُحْسِنِينَ الذين لا يريدون الأذى لاحد من الناس وان وقع منهم نادرا جبروا بالإحسان حفظا للمودة والإخاء الدينية وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَالحال انه قَدْ فَرَضْتُمْ سميتم وقدرتم لَهُنَّ فَرِيضَةً صداقا ومهرا فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ اى لزمكم أداء نصف ما سميتم من المهر إليهن إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ اى المطلقات فلا يأخذن شيئا اتقاء عن التهمة أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ويرد جميع المهر إليها تبرعا وَأَنْ تَعْفُوا اى عفوكم ايها المؤمنون في أمثال هذا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى واقبل عند المولى وَبالجملة لا تَنْسَوُا ولا تتركوا الْفَضْلَ والإحسان بَيْنَكُمْ ايها المؤمنون الموقنون بل أحسنوا بعضا مما احسن الله لكم الى إخوانكم إِنَّ اللَّهَ المراقب لجميع ما صدر عنكم بِما تَعْمَلُونَ من الفضل والإحسان بَصِيرٌ يجازيكم عليه بفضله وجوده ثم لما كان للعارف الحائر في بحر الحيرة هيولا وتوجهات متعددة حسب تجددات أنفاسه وتنفساته المستنشقة المستمدة بها من النفثات الرحمانية المهبة من قبل عين عالم اللاهوت المنتشئة من حضرة الذات الاحدية المتجلية بالتجليات الجمالية والجلالية المعبرة بالأسماء والصفات الإلهية المتخالفة في الآثار والمقتضيات على حسب الكمال أراد سبحانه ان ينبه عليه بمحافظة الصلوات والميول والأوقات كلها لئلا يشتغل عن الحق في وقت من الأوقات فقال حافِظُوا اى واظبوا وداوموا ايها المتوجهون نحو توحيد الذات عَلَى الصَّلَواتِ المكتوبة لكم في الأوقات المقدرة المحفوظة وَلا سيما الصَّلاةِ الْوُسْطى التي هي عبارة عن التوجه الرقيق المعنوي بين كل نفسين من أنفاسكم وَبالجملة قُومُوا ايها الاظلال الهالكة في أنفسها المستهلكة في الذات الاحدية إذ لا وجود لكم من ذواتكم لِلَّهِ المظهر لكم من كتم العدم بامتداد ظلال أسمائه ورش من زلال بحر جود وجوده عليكم قانِتِينَ خاضعين متذللين مفنين هويتكم الظلية الغير الحقيقية بالكلية في الهوية الحقيقية الإلهية فَإِنْ خِفْتُمْ عن مقتضيات القوى البشرية فَرِجالًا اى فعليكم التوجه راجلين منسلخين عنها وعن مقتضياتها بالمرة أَوْ رُكْباناً راكبين عليها بتسخيرها بالرياضات الشاقة الى حيث تنصرف عن مقتضياتها بالمرة فَإِذا أَمِنْتُمْ من شرورها فَاذْكُرُوا اللَّهَ المفنى للغير والسوى مطلقا كَما عَلَّمَكُمْ وعلى الوجه الذي ألهمكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ أنتم من وحدة ذاته لولا اعلامه والهامه بانزال سورة الإخلاص وكلمة التوحيد وغيرها من الآيات الدالة على توحيده الذاتي ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ اى يستشرفون الى الوفاة مِنْكُمْ ايها المؤمنون وَيَذَرُونَ أَزْواجاً بعدهم لزمهم ان يوصوا وَصِيَّةً حصة مخرجة من أموالهم لِأَزْواجِهِمْ ليتمتعن بها مَتاعاً إِلَى انقضاء الْحَوْلِ بعد موتهم غَيْرَ إِخْراجٍ لهن من المسكن المألوف وكان ذلك في أوائل الإسلام ثم نسخت بتعيين المدة لعدة الوفاة من اربعة أشهر وعشرا

[سورة البقرة (2) : آية 241]

فَإِنْ خَرَجْنَ من مسكن الأزواج بعد الحول فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ايها الحكام وعليهن فِي ما فَعَلْنَ من التطيب وترك الحداد وطلب الخطبة فِي إصلاح أَنْفُسِهِنَّ ان كانت الأمور الصادرة منهن مِنْ مَعْرُوفٍ مستحسن مشروع مرخص فيه وان لم يكن كذلك فعليكم المنع ايها الحكام وعليهن الوزر والوبال وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب قادر على الانتقام ينتقم من المتجاوزين عن حدوده المتهاونين في اجراء أحكامه حَكِيمٌ في رعاية حقوق عباده وضبط مصالحهم وَاعلموا ايها المؤمنون المطلقون ان لِلْمُطَلَّقاتِ مطلقا مَتاعٌ وتمتع بِالْمَعْرُوفِ المشروع المستحسن لازم لزوما حَقًّا حتما ثابتا عَلَى الْمُتَّقِينَ المطلقين لهن مأونهن في العدة اى جميع مؤنتهن عليهم فيها كَذلِكَ اى مثل ما ذكر من احكام الطلاق والأمور المتفرعة عليه يُبَيِّنُ اللَّهُ الهادي لَكُمْ جميع آياتِهِ الدالة على توحيده لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رجاء ان تتأملوا فيها وتفوزوا بالفوز العظيم من عنده ثم قال سبحانه تنبيها على المستيقظين المتذكرين أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى القوم الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وهم اهل داوردان هي قرية قبل واسط وقع فيهم طاعون فخرجوا هاربين وَهُمْ أُلُوفٌ كثيرة هرب الكل حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ بعد ما علم منهم الفرار عن قضائه مُوتُوا ايها الهاربون عن قضائنا جميعا فماتوا بالمرة ثُمَّ أَحْياهُمْ بدعاء حزقيل عليه السّلام حين مر على تلك القرية فأبصرهم قد عريت عظامهم وتفرقت أجسامهم فتعجب من ذلك فأوحى الله تعالى اليه ناد فيهم ان قوموا بأمر الله ومشيته فناديهم فقاموا يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا اله الا أنت وما ذلك الا من كمال فضل الله عليهم ومزيد إحسانه إياهم إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده لَذُو فَضْلٍ تام واحسان عام عَلَى النَّاسِ المجبولين على الكفران والنسيان وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ولا يواظبون على أداء حقوق افضاله وانعامه وبوجه آخر «الم تر» ايها المعتبر الرائي «الى الذين خرجوا من ديارهم» المألوفة المأنوسة الا وهي بقعة الإمكان «و» الحال انه «هم ألوف» متألفون فيها مع بنى نوعهم «حذر الموت» الإرادي «فقال لهم الله» الهادي لعموم مظاهره الى توحيده الذاتي بلسان مرشديهم «موتوا» عن انانيتكم وهويتكم ايها المتوجهون الى بحر الحقيقة فماتوا عن مقتضيات القوى البشرية ولوازم الحيوة الطبيعية بالكلية «ثم أحياهم» الله بالحيوة الحقيقية والعلم اللدني والوجود العيني الحقيقي والبقاء الأزلي السرمدي وبالجملة «ان الله» المتكفل لأمور عباده «لذو فضل على الناس» اى الناسين منزلهم الأصلي ومقصدهم الحقيقي بايصالهم الى ما هم عليه قبل نزولهم الى فضاء الإمكان «ولكن اكثر الناس لا يشكرون» ولا يعقلون ولا يفهمون نعمة الوصول الى الموطن الأصلي والمقام الحقيقي حتى يقوموا بشكره ويواظبوا عليه وَان أردتم ايها المؤمنون ان تكونوا من الشاكرين لنعم الحق الفائزين بفضله وإحسانه قاتِلُوا مع الكفرة التي هي عبارة عن القوى الحيوانية فِي سَبِيلِ اللَّهِ المفنى للغير مطلقا واعلموا ايها المؤمنون ان متم فالى الله تحشرون وان عشتم فالى الله تبعثون ومالكم ان لا تقاتلوا مع جنود الشياطين حتى تنجوا من مهلكة الإمكان وتصلوا الى فضاء الوجوب وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم المتعلقة بعدم الجهاد عَلِيمٌ بنياتكم المترتبة على الحيوة الطبيعية مَنْ ذَا العارف الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ اى يفوض ويسلم هويته الامكانية وماهيته الكونية والكيانية الى الله المسقط للهويات مطلقا قَرْضاً حَسَناً تفويضا سلسا نشطا فرحانا بلا مضايقة

[سورة البقرة (2) : آية 246]

ولا مماطلة راضيا مما قضى عليه صابرا على عموم البلوى المقربة اليه فَيُضاعِفَهُ لَهُ بعد ما فنى عن هويته أَضْعافاً كَثِيرَةً لا يحيط بكنهها الا هو إذ المحدث متى قرن بالقديم قد ترتب عليه ما ترتب عليه بل قد سقطت الاثنينية بالكلية عن البين مطلقا وارتفع غبار الغيرية عن العين بالمرة وَاللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد يَقْبِضُ الى ذاته ما ينشر وَيَبْصُطُ من اظلال أسمائه وصفاته وآثار تجلياته الذاتية وَإِلَيْهِ لا الى غيره تُرْجَعُونَ ايها الاظلال والآثار طوعا وكرها أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الذين كانوا معرضين عن القتال في حيوة موسى صلوات الله عليه كيف اضطروا اليه مِنْ بَعْدِ وفاة مُوسى اذكر إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ هو يوشع او شمعون او اشمويل حين ظهرت العمالقة عليهم وخربوا ديارهم ونهبوا أموالهم وأسروا أولادهم ابْعَثْ لَنا مَلِكاً معينا نُقاتِلْ معه فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع أعدائه قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ يعنى أتفرس منكم الجبن والتقاعد إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ من عنده سبحانه وأخاف منكم أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا في جوابه حين سمعوا منه ما سمعوا وَما لَنا اى اى شيء عرض لنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع أعدائنا وَالحال انا قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا ظلما وعدوانا وَحرمنا عن أَبْنائِنا وأهلينا بسبب ترك القتال ولو لم نجاهد ولم نقاتل بعد لكنا مستأصلين بالمرة فَلَمَّا كُتِبَ وفرض عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا اى انصرفوا واعرضوا عنه مدبرين بعد ما بالغوا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ مقدار ثلاثمائة وثلثة عشر بعدد اهل بدر ثبتوا على ما عاهدوا وَبالجملة اللَّهِ مطلع بما في ضمائر عباده عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ المجاوزين عن أوامره وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ بالهام الله ووحيه إياه إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالحكم قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ من المرتجلات العجمية وجالوت ايضا وهما كنايتان عن جنود الامارة والمطمئنة مَلِكاً يولى أموركم ويقاتل مع عدوكم وهو كناية عن العقل المفاض لهم من قبل ربهم قالُوا مستكبرين مستنكفين أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا اى من اين يتيسر له ويليق به ان يملك علينا وهو من اراذل الناس وسفلتهم كيف يستأهل هذا المنصب وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ مكنة ومكانة وَالحال انه لَمْ يُؤْتَ له سَعَةً مِنَ الْمالِ حتى يتقوى به ويتمكن على الولاية بسببه وانما استحقروه واستبعدوا منه الولاية لأنه كان فقيرا راعيا او سقاء او دباغا وكان من أولاد بنيامين ولم يكن في أولاده النبوة والملك أصلا وانما كانت النبوة والولاية في أولاد لاوى والملك في أولاد يهوذى وكان فيهم من اسباطهما جمع كثير قالَ لهم نبيهم بمقتضى الوحى الإلهي إِنَّ اللَّهَ المعز لا ذلة عباده قد اصْطَفاهُ واختاره للملك والامارة عَلَيْكُمْ مع فقره وسقوط نسبه وَزادَهُ سبحانه بعد ما اصطفاه بَسْطَةً حيطة في القدرة والقوة ورزانة فِي الْعِلْمِ المتعلق لتدبير المملكة وَقوة عظيمة في الْجِسْمِ ليقاوم العدو ويدافعه وَبالجملة اللَّهَ المدبر لمصالح عباده يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ من عباده على مقتضى علمه باستعداداتهم وحكمته من غير التفات الى فقرهم ورثاثة حالهم وسقوط نسبهم وَاللَّهُ المتصف بكمال العلم والحكمة واسِعٌ في فضله ورحمته عَلِيمٌ في عدله وحكمته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بلا سبق علل وأغراض وَبعد ما ايسوا من تغيير قضاء الله وتبديل رضاه أتوا يطلبون الدليل والامارة على ملكه وإمارته قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ بوحي الله والهامه إياه إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ الذي فِيهِ سَكِينَةٌ الا وهي كناية عن النفس المطمئنة اى فيه ما يوجب سكينتكم وطمأنينكم

[سورة البقرة (2) : آية 249]

وقراركم على الحرب ووقاركم فيه إذ هو صندوق التورية المنزل مِنْ رَبِّكُمْ لإصلاح أموركم وَايضا من آية ملكه ان يأتيكم بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ وهي الكلمات المورثة المتعلقة للإرشاد والتكميل وقيل هي رضاض الألواح وعصا موسى وعمامة هارون كان أنبياء بنى إسرائيل يتوارثون حيث تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ والقوى العقلية بأمر الله وتوصله الى طالوت إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآيَةً لَكُمْ على ملكة طالوت إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله وبما جاء من عنده على أنبيائه وبعد ما آتاه الله الملك والعلامات الدالة عليه تجهز بتوفيق الله وخرج نحو العدو. روى انه قال وقت خروجه لا يخرج معى الا الشاب الخالي عن الحيل الفارغ عن الأمل النشيط للأجل الفرحان للمقاتلة والشهادة فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ وكان في شدة الحر والعبور على مفازة لا ماء فيها ناجى مع الله كل من جنوده في نفسه ان يظهر عليهم نهرا في تلك المفازة خوفا من شدة العطش فالهم الله مناجاتهم الى قلب طالوت حيث قالَ لهم بمقتضى الإلهام إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على عموم ما يشاء مُبْتَلِيكُمْ اى مختبركم ومجربكم في هذه المفازة بِنَهَرٍ عظيم فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي اى ليس من أشياعي وأعواني وظهيري وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ ولم يذقه فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ لا لتسكين العطش بل بشكر نعمة الله وانجاز وعده وتعديد إحسانه وفضله سبحانه على نفسه ثم لما وصلوا اليه فَشَرِبُوا مِنْهُ على الفور إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم لم يشربوا قيل هم ثلاثمائة وثلثة عشر وقيل ثلثة آلاف وقيل ألف إياك وإياك ايها المبتلى بنهر الدنيا الدنية في فضاء الوجود ان تشرب قطرة منها خوفا من عطش حرارة العشق المفنى للعاشق والعشق في المعشوق الحقيقي بالمرة حتى لا تخرج أنت من زمرة المحبين المحترقين بنيران المحبة الى ان خلصوا عن هوياتهم بالكلية وإياك ايضا ان تطعم وتذوق من مستلذاتها ومشتهياتها الفانية حتى لا تحرم من مرتبة اولى النهى واليقين الفائزين بروضة الرضاء وجنة التسليم فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا اى بعضهم لبعض خفية على سبيل المشورة والتحسر لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ لشدة قوتهم وصولتهم وغاية كثرتهم وشوكتهم قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ بالله ظنا حسنا بل يعلمون يقينا أَنَّهُمْ بعد انخلاعهم عن ملابس الإمكان مُلاقُوا اللَّهِ بلا سترة الثنوية وحجاب الهوية كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ من جنود العقل والنهى قد غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً من جنود النفس والهوى بِإِذْنِ اللَّهِ اى بتوفيقه وتيسيره وَبالجملة اللَّهَ المختبر لإخلاص عباده مَعَ الصَّابِرِينَ منهم لبلواه ينصرهم على من يعاديهم بحوله وقوته وما النصر الا من عنده وَلَمَّا بَرَزُوا وظهروا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ ودنوا منهم معاينين قالُوا متوجهين الى ربهم متضرعين له مستمدين منه رَبَّنا أَفْرِغْ أفض عَلَيْنا صَبْراً نصبر به عند نزول بلائك وَثَبِّتْ أَقْدامَنا فيه رضاء لقضائك وَانْصُرْنا لتنفيذ حكمك وإمضاء أمرك عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ لآلائك ونعمائك انك أنت العزيز الحكيم وبعد ما تضرعوا نحو الحق وتشبثوا بأذيال حوله وقوته فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وبكمال نصره وعونه وانهزموا بالمرة وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ قيل كان شعيا في عسكر طالوت مع ستة من بنيه وكان داود سابعهم وكان صغيرا يرعى الغنم فأوحى الله سبحانه الى نبيهم انه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد كلمته في الطريق ثلثة أحجار فقالت انك بنا تقتل جالوت فحملها في مخلاته ورماه بها فقتله ثم زوجه طالوت بنته وَبعد ذلك آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ اى ملك بنى إسرائيل ولم يجتمعوا قبل داود على ملك

[سورة البقرة (2) : آية 252]

وَايضا قد آتاه الْحِكْمَةَ اى دعوة الخلق الى طريق الحق بالحكمة المؤتاة له من قبل ربه وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ من العلوم والحكم وآتاه من انواع المعجزات وخوارق العادات والارهاصات وَبالجملة لَوْلا دَفْعُ اللَّهِ الرقيب الحفيظ لحدوده بين عباده النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ اى ظلم بعض الظالمين بتقوية بعض المظلومين ونصره عليهم لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ التي هي منشأ الكون والفساد ومعدن الظلم والعناد وفشا فيها الجور والجدال فانحرفوا جميعا عن جادة العدالة الفطرة الإلهية وَلكِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده ذُو فَضْلٍ كثير وطول عظيم عَلَى الْعالَمِينَ ليعتدلوا ويتمكنوا على أداء العبادة ومواظبة الطاعات بلا مزاحمة بعضهم بعضا ظلما وزورا تِلْكَ المذكورات من الحكم والاحكام والحدود الموضوعة بين الأنام آياتُ اللَّهِ الدالة على توحيد ذاته وتعظيم شانه نَتْلُوها عَلَيْكَ يا أكمل الرسل ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ المتلوين عليهم آياتنا امتنانا لهم بل أنت من أفضلهم واكملهم إذ تِلْكَ الرُّسُلُ المخصوصون بالوحي والإلهام والإنزال قد فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بأنواع الفضائل والكمالات مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ معه وهو موسى الكليم صلوات الرّحمن عليه وسلامه وَمنهم من رَفَعَ بَعْضَهُمْ فوق بعض دَرَجاتٍ وهم ما ذكرهم الله سبحانه في كتابه بقوله في مواضع ورفعناه مكانا عليا ورفعنا كذا في وصف خلص أنبيائه فعليك استقصاؤها وَلا سيما قد آتَيْنا من بينهم عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ الواضحات الدالة على نبوته وَمع ذلك قد أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ المنزه عن رذائل الأغيار مطلقا الا وهو الذات البحت الخالص عن جميع القيود والاعتبارات ومع ذلك كم بين فضل عيسى عليه السّلام وفضل نبينا صلّى الله عليه وسلّم إذ قال سبحانه في حقه وأيدناه بروح القدس وفي شانه صلّى الله عليه وسلّم في مقام الامتنان الم نشرح ونوسع لك صدرك ايها المظهر الجامع الكامل بذاتنا المقدس عن الاحاطة مطلقا ووضعنا عنك وزرك اى هويتك التي بها انفصالك عنا الذي انقض اى كسر ظهرك قبل انكشافك بذاتنا كما انقض ظهور سائر المخلوقات الباقية وراء الحجاب وبعد ذلك رفعنا لك ذكرك الى ان قد وصلت إلينا وارتفعت الاثنينية بيننا لذلك قلت من أطاعني فقد أطاع الله وتفوهت بمن رآني فقد رأى الحق وقلنا لك مخاطبا متنبها على علو شانك وسمو برهانك ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله وغير ذلك من الرموز والإشارات الواردة في القرآن والحديث وبالجملة لم يقدر احد من الأنبياء صلوات الله عليهم ان يتفوه عن الرؤية واللقاء سوى نبينا صلّى الله عليه وسلّم فانه يقول رأيت ربي ليلة المعراج ولهذا نزل في شانه صلّى الله عليه وسلّم اليوم أكملت لكم دينكم الآية وقوله بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وغير ذلك من الآيات والأحاديث المشعرة للتوحيد الذاتي المسقط للاضافات والاعتبارات مطلقا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي للكل هداية جميع الناس مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ آمنوا لهم اى للأنبياء مِنْ بَعْدِهِمْ سيما مِنْ بَعْدِ ما قد جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ الواضحة لهم طريق الرشاد الباقية بعدهم بين أممهم لهدايتهم وإرشادهم وَلكِنِ قد جرت عادة الله وسنته ان يختلفوا ويقتتلوا حسب اقتضاء الأوصاف المتقابلة لذلك اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بنبي بعث إليهم وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هدايتهم جميعا مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ الفاعل المختار يَفْعَلُ ما يُرِيدُ لا يسئل عن فعله انه حكيم حميد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم قطع العلائق عن ما سوى الله سيما عن المزخرفات العائقة عن الميل الحقيقي نحوه أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ ابتلاء لإخلاصكم في ايمانكم

[سورة البقرة (2) : آية 255]

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ولا معاوضة ولا تجارة حتى تحصلوا فيه ما فوتم لأنفسكم وَلا خُلَّةٌ حتى تتعاونوا بهم وتستظهروا منهم وَلا شَفاعَةٌ مقبولة من احد حتى تستشفعوا منه وَبالجملة الْكافِرُونَ الساترون هوية الحق بهوياتهم الباطلة المضيفون نعم الله إليها اصالة هُمُ الظَّالِمُونَ المتجاوزون عن حدود الله عنادا واستكبارا المعتقدون اصالتهم في الوجود واستقلالهم في الآثار الصادرة عنهم مع كونهم هالكين مستهلكين في وجود الحق وهويته سبحانه إذ اللَّهُ اى الذات الموجود الكائن الثابت الحق الحقيق بالحقية والتحقق والثبوت إياك ان تتقيد بالألفاظ ومحتملاتها إذ الغرض من التعبير انما هو التنبيه والا فكيف يعبر عنه سبحانه وهو أجل من ان يحيط به العقول فتعبر عنه وتورده في قالب الألفاظ الذي لا إِلهَ اى لا موجود وان شئت قلت لا وجود ولا تحقق ولا كون ولا ثبوت إِلَّا هُوَ هذا هو نهاية ما ينطق به السنة التعبير عن الذات الاحدية إذ كل العبارات والإشارات وعموم الإدراكات والمكاشفات والمشاهدات انما ينتهى اليه وبعد انتهاء الكل اليه تكل وتجهل وتعمى وتدهش ما للتراب ورب الأرباب حتى يتكلموا عنه سوى ان الحق سبحانه لما ظهر لهم بذاته وبعموم أوصافه وأسمائه انزل عليهم على قدر عقولهم المودعة فيهم كلاما جامعا ينبههم على مبدئهم ومعادهم بعد توفيق منه وجذب من جانبه الى أسهل الطرق بالنسبة الى المسترشدين انما هو الألفاظ المنبهة عن غيب الذات إذ الألفاظ خالية عن المواد الغليظة والكدورات الكثيفة المزيحة لصفاء الوحدة ومع ذلك ايضا لا يخلو عن شوب الكثرة والحجاب والحاصل ان من اطلع باطلاع الله والهامه إياه على ان فيه مبدأ التكاليف الذي هو العقل الجزئى المنشعب من العقل الكل المنشعب من حضرة العلم الحضوري الحقي فلا بد له ان يصرفه الى امتثال ما امر واجتناب ما نهى ليكون في مرتبة العبودية مطمئنا راضيا مستدرجا من الحيوة الصورية الى الحيوة المعنوية التي هي عبارة عن الوجود البحت الا وهو الْحَيُّ الحقيقي الأزلي الأبدي السرمدي الدائم القائم بذاته الواجب الوجود في نفسه دائم التحقق والثبوت الْقَيُّومُ الذي لا تَأْخُذُهُ فتور وفترة وتعطيل وغفلة ولا سِنَةٌ نعاس لا ينتهى الى حد النوم وَلا نَوْمٌ يتجاوز عنها قدمها مع ان المناسب للترقي تأخيرها اهتماما بشأنها لكونها اقرب نسبة الى الله تعالى من النوم بالنسبة الى ذوى الأحلام السخيفة من المجسمة وغيرها القادر الحكيم لَهُ محافظة كل ما ظهر فِي السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات الذاتية التي هي أول كثرة ظهرت من الغيب المطلق الى الشهادة الاضافية وَكذا ما ظهر فِي الْأَرْضِ اى طبيعة العدم التي هي آخر كثرة عادت من الشهادة المطلقة الحقيقية الى الغيب الإضافي الذي هو قلب الإنسان وهو البرزخ بين الغيب المطلق الحقيقي والشهادة المطلقة الحقيقية مَنْ ذَا من الأنبياء والأولياء من الهادين المرشدين الَّذِي يَشْفَعُ للناقصين المنحطين عن الرتبة الانسانية عِنْدَهُ سبحانه إِلَّا بِإِذْنِهِ اى الا بوحيه سبحانه على قلبه برقائق مناسباته التي لا يمكننا التعبير عنها إذ هو الحكيم الذي يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حالتئذ وَما خَلْفَهُمْ ازلا وابدا وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ قليل مِنْ عِلْمِهِ الحضوري إِلَّا بِما شاءَ وتعلق ارادته ومشيته عليه من هذا يتفطن العارف المحقق ان العالم ما هو الا مظاهر ذات الحق واظلال أسمائه وآثار أوصافه إذ الموجود الحقيقي هو والوجود الحقيقي هو والقيوم المطلق هو والرقيب المحافظ الملازم على محافظة عموم ما ظهر وبطن في الاولى والاخرى هو والعالم المدبر بالحضور مصالح جميع

[سورة البقرة (2) : آية 256]

ما ظهر وبطن ليس الا هو والعلم والإدراكات الصادرة من المظاهر هو علمه الحضوري فلم يبق للعالم الا مناسبة الظلية والانعكاس والمظهرية فقط إذ قد وَسِعَ كُرْسِيُّهُ مجلاه ومظاهره السَّماواتِ المذكورة وَالْأَرْضَ المذكورة وَلا يَؤُدُهُ ولا يثقله حِفْظُهُما وان كانت سماوات الأسماء وارض الطبيعة غير متناهية بل وان فرضت بأضعافها وآلافها أمورا متعددة غير متناهية لا يثقله إذ كل من تحقق بسعة قلب الإنسان المنعكس من الذات الاحدية المائل نحوها بالميل الحبى والشوقى المتلذذ دائما بوجده وحضوره قد تحقق عنده ولاح لديه من الوسعة والسعة ما لا يمكن التعبير عنه مطلقا. كما سمح به سلطان العارفين وبرهان الواصلين اعنى أبا يزيد البسطامي عمت بركات أنفاسه الشريفة على عموم الفقراء المتوجهين نحو فضاء التوحيد حيث قال لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس. وايضا قد جاء بعده رأس الموحدين ورئيس ارباب التحقيق واليقين محى الملة والدين الذي هيج بحر الوحدة تهييجا شديدا الى حيث يترشح من تيار قلبه الزخار رشحات المعارف والحقائق على ذوى العزائم الصحيحة المقتفية اثر طريقه قدس الله روحه العزيز وأرواحهم وشكر الله سعيه ومساعيهم حيث قال في فصوص الحكم وهذا وسع ابى يزيد في عالم الأجسام بل أقول لو ان ما لا يتناهى وجوده قدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس بذلك في علمه انتهى وبالجملة الحديث القدسي مغن عن أمثالهما لان قوله سبحانه وسعني قلب عبدى المؤمن وسعة قد عجز عنها التعبير مطلقا هب لنا من لدنك قلبا وسيعا فسيحا انك أنت الوهاب وَبالجملة مالكم وليس في وسعكم وطاقتكم ايها العباد من معرفة الذات الاحدية غير هذا هُوَ الْعَلِيُّ بذاته تعالى عن ان يدركه عقول العقلاء وتنزه عن ان يصفه السنة الفصحاء الْعَظِيمُ بآثار أسمائه وصفاته الممتدة على صفحات الاعدام وهو في ذاته على صرافة وحدته الذاتية وبعد ما ثبت كمال عظمة الله وجلاله لا إِكْراهَ اى لا جبر ولا تهديد ولا اضطرار ولا إلجاء فِي الدِّينِ والانقياد بدين الإسلام والإطاعة له بعد ما ظهر الحق إذ قَدْ تَبَيَّنَ وتميز الرُّشْدُ والهداية مِنَ الْغَيِّ والضلالة فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ التي هي عبارة عن النفس الامارة المضلة عن طريق الحق وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ الهادي الى سواء السبيل فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بل تمسك وتشبث بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى التي هي حبل الله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات بحيث لَا انْفِصامَ ولا انقطاع لَها أصلا وَاللَّهُ الهادي للكل نحو جنابه سَمِيعٌ بذاته لأقواله عَلِيمٌ بحكمه ومصالحه المودعة فيها فانظروا ما أنتم ايها الهلكى وبالجملة اللَّهُ اى الذات المستجمع لجميع الأسماء والصفات وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله يولى أمورهم حسب شموله واحاطته إياهم بحيث يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ المتراكمة المزدحمة ظلمة الطبيعة وظلمة الإمكان وظلمة التعينات والإضافات الواقعة فيها إِلَى النُّورِ صفاء الوحدة الخالصة الخالية عن رين الإضافات وشين الكثرات مطلقا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأنكروا ذاته وأوصافه الذاتية أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ التي هي علم الجنس للنفوس البهيمية التي هي الطواغيت المضلة عن الهدى الحقيقي لذلك يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ اى المرآة الصقيلة المجلوة القابلة لان يتراءى فيها جميع ما في العالم الا وهي قلب الإنسان المنعكس من اسم الرّحمن إِلَى الظُّلُماتِ ظلمة الغفلة وظلمة الكثرة وظلمة الاضافة وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون المطرودون عن ساحة عز الوحدة أَصْحابُ النَّارِ

[سورة البقرة (2) : آية 258]

وملازمون لجهنم الخذلان وسعير الإمكان هُمْ فِيها خالِدُونَ الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى الكافر العابد للطاغوت وهو نمرود اللعين المكابر المعاند الَّذِي قد حَاجَّ على وجه الجدال والمراء مع إِبْراهِيمَ صلوات الرّحمن عليه فِي شأن رَبِّهِ وذلك سبب أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وأبطره عليه وغره به وذلك وقت إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ إلزاما له حين أخرجه من السجن فسأله عن ربه الذي يدعى الدعوة اليه رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي يوجد من العدم وَيُمِيتُ يرد اليه بعد إيجاده قالَ اللعين مجادلة ومكابرة أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ايضا بالعفو والقصاص قالَ إِبْراهِيمُ تصريحا لإلزامه من غير التفات الى كلامه فَإِنَّ اللَّهَ القادر على عموم المقدورات يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ أنت ايها المسرف المعاند بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ العاصي اللعين الَّذِي كَفَرَ بالله بدعوى المعارضة معه فصار مبهوتا متحيرا وَبالجملة اللَّهُ الهادي للكل لو شاء وتعلق مشيئته لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين المجاوزين عن حدود الله التاركين آداب العبودية معه أَوْ كَالَّذِي اى الم تر الى الشخص الذي قد مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ هي بيت المقدس في زمان قد خربها بختنصر فرآها وَهِيَ خاوِيَةٌ ساقطة حيطانها عَلى عُرُوشِها قالَ محاجا مجادلا لا منكرا للحشر والنشر أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها اى كيف يقدر على احياء أهلها وهم قد انقرضوا واندرسوا الى حيث لم يبق منهم اثر فَأَماتَهُ اللَّهُ فجأة إظهارا لقدرته وتبيينا لحجته والبثه مِائَةَ عامٍ ميتا كالأموات الاخر ثُمَّ بَعَثَهُ وأحياه بعد تلك المدة ثم سأله هاتف بان قالَ كَمْ لَبِثْتَ في هذا المكان ايها اللابث قالَ لَبِثْتُ يَوْماً فالتفت الى الشمس فرأها باقية قال أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ له السائل أنت ما تعرف مدة لبثك في هذا الموضع فكيف تنكر الحشر بَلْ قد لَبِثْتَ أنت فيه مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ ايها المكابر المنكر للحشر الجسماني بنظر العبرة إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ولم يتغير من كمال قدرة الله على حفظه مع سرعة تغيره وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف تفرقت عظامه وتفتتت أوصاله واجزاؤه مع بطؤ تغيره وتفتته وَبعد ما نظرت إليهما معتبرا تذكر قولك حين مرورك على القرية انى يحيي هذه الله بعد موتها فالزم ثم قيل له من قبل الحق وانما فعلنا ذلك معك ايها المنكر للحشر والنشر لِنَجْعَلَكَ آيَةً حجة ودليلا لِلنَّاسِ القائلين بالحشر الجسماني على المنكرين المعاندين له وَبعد ما تحققت حالك انْظُرْ بنظر العبرة إِلَى الْعِظامِ الرفات التي تعجبت من كيفية إحيائها بل أنكرت عليها كَيْفَ نُنْشِزُها نركب بعضها مع بعض ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً بعد تتميم تركيب العظام على وجهها فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ امر الحشر الزم واسلم حيث قالَ أَعْلَمُ يقينا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر عَلى احياء كُلِّ شَيْءٍ مبدئا مبدعا قَدِيرٌ على احيائه موجدا معيدا مرة بعد اخرى وكرة بعد اولى وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ جدك إِبْراهِيمُ الخليل الجليل صلوات الرّحمن عليه وسلامه حين أراد ان يتدرج ويرتقى من العلم الى العين ثم الى الحق رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ له ربه تنشيطا له على الترقي أَتقول ذلك وَلَمْ تُؤْمِنْ ولم تذعن وتوقن أنت ايها الخليل بانى قادر على الإيجاد الا عادى كما اننى قادر على الإيجاد الابداعى قالَ بَلى قد آمنت وأذعنت يا ربي بانك على كل شيء قدير وَلكِنْ انما سألتك المعاينة لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بها ويزيد بصيرتي بسببها وحيرتي منها قالَ سبحانه

[سورة البقرة (2) : آية 261]

فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ طاوس مزخرفات الدنيا الدنية وديك شهواتها وغراب الآمال الطويلة فيها وحمام الأهواء الباطلة المتعلقة بها وبعد ما أخذتها فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ اى املهن واضممهن الى نفسك بحيث تجد جميع اجزائهن في نفسك على التفصيل بلا فوت جزء ثم جزأهن أجزاء هبائية هوائية ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ من الجبال المشهورة في مملكة بدنك ونفسك مِنْهُنَّ جُزْءاً الى حيث تخيلت تفانيها وتلاشيها بالمرة واطمأننت عن شرورها بالكلية ثُمَّ ادْعُهُنَّ فارضا وجودهن مستحيلا ايجادهن مرة اخرى يَأْتِينَكَ بأجمعهن سَعْياً ساعيات مسرعات بلا فوات جزء ونقصان شيء منهن وَبعد ما تحققت بها واستكشفت عنها اعْلَمْ علما يقينا بل عيانا وحقا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب قادر على كل ما أراد حَكِيمٌ ذو حكمة متقنة بالغة في كل ما يفعل ويريد. وانكار الحشر والنشر انما نشأ من ظلمات العقل الجزئى المشوب بالوهم المزخرف المزور والخيال القاصر المقصر عن ادراك رقائق الارتباطات الواقعة بين الحق وأجزاء العالم المستمدة هي منه سبحانه دائما على سبيل التجدد وسواء كانت مبتدأة او معادة والا فمن خلص عقله المودع فيه عن مزاحمة الأوهام والخيالات وتجرد عن شوب الرسوم والعادات واتصل بالعقل الكل المدرك بالحضور جميع ما كان ويكون من المكونات وتأمل في عجائب المصنوعات وغرائب المخترعات والمبتدعات الواقعة في عموم الآنات والحالات التي هي فيها قد انكشف له بلا سترة وحجاب امر الحشر والنشر وجميع الأمور المتعلقة بالنشأة الاولى والاخرى ولا ينكر بشيء منها بل يؤمن بها ويوقن بجميعها بلا شك وريب ربنا آتنا من لدنك هداية وعلما وهيئ لنا من أمرنا رشدا ثم قال سبحانه مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ المنسوبة إليهم بنسبة شرعية فِي سَبِيلِ اللَّهِ طلبا لمرضاته كَمَثَلِ باذر حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَبالجملة اللَّهِ القادر المقتدر على عموم المقدورات يُضاعِفُ حسب قدرته الكاملة تلك المضاعفة ايضا بأضعاف غير متناهية لِمَنْ يَشاءُ من خلص عباده حسب إخلاصهم في نياتهم وبمقتضى إخراجهم نفوسهم عن البين وتفويضهم الأمور كلها الى الله اصالة وَاللَّهُ المتجلى في الأنفس والآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق واسِعٌ لا ضيق في احاطة فضله وإحسانه عَلِيمٌ بأحوال من توجه نحوه وأنفق لرضاه خالصا مخلصا بحيث لا يعزب عن حيطة علمه شيء ولا سيما بشر يا أكمل الرسل من بينهم المنفقين المحسنين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ معتقدين انهم مستخلفون نائبون عن الله فيها لا مالكون لها حقيقة ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لاعتقادهم الاستخلاف والنيابة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ المخلف لهم المنيب إياهم بحيث لا يدرك سبحانه ولا يطلع مقداره وكيفيته أحدا من خلقه وَبعد ما أنفقوا ما أنفقوا على الوجه المذكور لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من الحساب والعقاب الأخروي وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات الأجر وقلة الجزاء بل لهم عند ربهم ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وبالجملة قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ورد جميل للسائل ناش من حسن الخلق وَمَغْفِرَةٌ مرجوة من الله بعد رده متحسرا على نعمة الانفاق خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً إذ بذلك القول يرجى الثواب وبتلك الصدقة يستحق العقاب وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن انفاقكم بالمن والأذى للفقراء الذين هم عيال الله وفي حمى لطفه وحوزة حفظه وحضانته حَلِيمٌ لا يعجل بمؤاخذة من يمن ويؤذى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله الغنى الحليم مقتضى ايمانكم ان لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ عند الله بِالْمَنِّ وَالْأَذى

[سورة البقرة (2) : آية 265]

على فقراء الله حتى لا تعاقبوا عليها باشد العقاب ولا تكونوا عنده سبحانه كَالَّذِي اى كالكافر الذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَالحال انه لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء الأعمال فَمَثَلُهُ اى مثل المنفق المرائى في إنفاقه ما عند الله في يوم الجزاء كَمَثَلِ صَفْوانٍ حجر أملس عَلَيْهِ تُرابٌ قد اجتمع من هبوب الرياح فطرح فيه البذور لتنبت وتثمر فَأَصابَهُ وابِلٌ مطر عظيم القطر فأزال التراب والبذور فَتَرَكَهُ اى الحجر صَلْداً أملس كما كان الى حيث لا يَقْدِرُونَ عَلى تحصيل شَيْءٍ قليل مِمَّا كَسَبُوا وبذروا عليه لينتفعوا به وَبالجملة اللَّهُ الهادي لخلص عباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ المتصدقين المبطلين بالمن والأذى حكمة الله المتعلقة لتربية الفقراء وتقوية العجزة والضعفاء فلا بد للمؤمنين الموقنين ان يجتنب عن أمثاله وبعد ما مثل سبحانه انفاق المنفق المرائى المبطل إنفاقه بالمن والأذى عقبه بإنفاق المحق المحسن بقوله وَمَثَلُ المؤمنين المنفقين الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ في سبيل الله ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ لا لعوض ولا لغرض لا ديني ولا دنيوى فضلا عن سمة السمعة والرياء وعن وصمة المن والأذى وَتَثْبِيتاً اى احكاما وتقريرا لهم ناشئا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ليثبتوا على ما أمرهم الله به واستخلفهم فيه بقوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه كَمَثَلِ جَنَّةٍ اى مثلهم كمثل بستان واقع بِرَبْوَةٍ مكان مرتفع من الأرض قد أَصابَها وابِلٌ مطر وأنبتها نباتا حسنا ورباها فَآتَتْ أُكُلَها قطوفها وأثمارها ضِعْفَيْنِ بالنسبة الى ما في الأرض المنخفضة وما حصل فيها بتربية الوابل إياها وتنميته لها فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ اى ان لم يصبها وابل فيكفى في أضعاف ثمرتها طل وهو رطوبة رقيقة تنزل على الأرض في المواضع المرتفعة لصفاء هوائها وترابها عن جميع الكدورات كاراضى بيت المقدس شرفها الله. والمعنى ان انفاق المؤمن المخلص في الانفاق الطالب لرضا الحق المائل عن مطلق المن والأذى والسمعة والرياء الراغب الى امتثال الأمر وتثبيت النفس وتقريرها عليه كمثل تلك الجنة بل حقيقة ومعنى هي الجنة الحقيقية المثمرة لفواضل الإحسانات التي لا يدرك غورها ولا يكتنه طورها وَبالجملة اللَّهِ المحيط لجميع أحوالكم وأعمالكم بِما تَعْمَلُونَ من الإخلاص والرضا ورعونات الرياء وكدورات المن والأذى بَصِيرٌ لا يغيب عن بصارته وحضوره شيء ثم حث سبحانه عموم عباده على الإخلاص ورغبهم عن الرياء والمن والأذى على ابلغ وجه وآكده كأنه قد استدل عليه فقال أَيَوَدُّ ويحب أَحَدُكُمْ ايها المؤمنون المنتشرون في فضاء الدنيا أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مملوءة مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ومع ذلك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وكان لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ المتنوعة المتلونة وَالحال انه قد أَصابَهُ الْكِبَرُ وأدركه الهرم وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ لا يقدرون على الكسب فَأَصابَها اى الجنة المذكورة إِعْصارٌ اى ريح عاصفة تستدير عند هبوبها فيرى من شدة غبرتها ورفعتها مثل العمود الممدود نحو السماء ومع ذلك حدث فِيهِ نارٌ متكونة من الابخرة والادخنة المحبة فيه التقطها من شعل النيران الموقدة على الأرض فسقطت النار في الجنة المذكورة فَاحْتَرَقَتْ بالمرة بحيث قد خرجت عن الانتفاع مطلقا كيف يحرم صاحبها وحرمانكم ايها المراؤون بالأعمال الصالحة والصدقات في النشأة الاخرى أشد من حرمانه بل بأضعافه والآفة لإحراقكم جنة الأعمال الصالحة المشتملة على نخيل التوحيد وأعناب الرضاء والتسليم تجرى من تحتها انهار المعارف والحقائق المنتشئة من بحر جود الوجود المثمرة لثمرات الانفاق والصدقات المنشعبة من بحر الرضاء والتسليم المشعر للتحقق بمقام العبودية المسقط للاضافات كلها باعصار

[سورة البقرة (2) : آية 267]

السمعة والرياء والمن والأذى المشتملة على نيران الأنانية المشتعلة المتكونة من ابخرة الهوى وادخنة اللذة الوهمية والشهوات البهيمية فاحترقت بالمرة جميع ما يترتب عليها من اللذات الروحانية والثمرات العرفانية والحال انكم معطلون حينئذ عن التدارك والافتقاد وقواكم الكاسبة قد رجعت الى بدئها قهقرى ضعفاء معطلات أمثالكم وبالجملة كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فيها وتدخرون الزاد ليوم لا كسب فيه ولا يمكنكم الافتقاد ولا الزرع ولا الحصاد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا لرضاء الله على المستحقين من عباده مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وجيدات ما اقترفتم في النشأة الاولى بالحراثة والتجارة والصناعة وَايضا مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ بلا سبق عمل منكم من الحبوب والثمار والمعدنيات وغير ذلك وَعليكم ان لا تَيَمَّمُوا ولا تقصدوا الْخَبِيثَ مِنْهُ اى لا تقصدوا الى إخراج الردى الخبيث من أموالكم المكتسبة والموهوبة حين تُنْفِقُونَ للفقراء وَالحال انكم لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ من الغير في معاملاتكم إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا وتسامحوا فِيهِ اى في اخذه وَبالجملة اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المقتدر الغيور غَنِيٌّ عن انفاقكم وتصدقكم وانما يأمركم به لانتفاعكم واستفادتكم إذ هو في ذاته حَمِيدٌ شكور مشكور في نفسه لولا أنتم وانفاقكم وشكركم وبالجملة الشَّيْطانُ المضل المغوى يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ في الانفاق ويخوفكم منه ويوقع في انفسكم مخايل التقتير والإمساك وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ اى البخل المفرط المتجاوز عن الحد وَاللَّهُ المصلح لعموم مفاسدكم يَعِدُكُمُ فيه مَغْفِرَةً لذنوبكم ناشئة مِنْهُ سبحانه إحسانا وَفَضْلًا زائدا على وجه التبرع والإكرام خلفا لما أنفقتم في سبيله طلبا لمرضاته وَاللَّهُ واسِعٌ لا ضيق في سعة فضله وإحسانه عَلِيمٌ بنية من أنفق وإخلاصه فيها حكيم في إفاضته على قلوب خلص عباده بمقتضى حكمته إذ هو سبحانه يُؤْتِي الْحِكْمَةَ اى سرائر جميع الأعمال المأمورة لعباده مَنْ يَشاءُ بفضله وجوده عناية منه وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ من العباد فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً لا يحيط بكثرته الا هو وَما يَذَّكَّرُ اى ما يتذكر وما يتعظ بمضمون هذه الآية الكريمة الشاملة لفوائد لا تحصى إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ الواصلون الى لب الأمور المائلون عن قشورها المتوجهون الى الله بالعزائم الصحيحة المعرضون عن الرخص المؤدية الى الجرائم وَاعلموا ايها المؤمنون المستمسكون بحبل التوفيق الإلهي ان ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ خالصة لمرضاة الله أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ يؤدى الى الانفاق في سبيل الله فَإِنَّ اللَّهَ الموفق لكم على عموم مصالحكم يَعْلَمُهُ بعلمه الحضوري ويجازى عليه بأضعافه وآلافه وَما لِلظَّالِمِينَ المجاوزين والمتجاوزين عن حدوده بمتابعة الشيطان المضل عن طريق الحق مِنْ أَنْصارٍ ينصرهم عند انتقام الله إياهم وقهرهم على ما صدر عنهم من الفسوق والعصيان ومن التبذيرات الواقعة فيها إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ ايها المؤمنون وتظهروها فَنِعِمَّا هِيَ اى نعم شيأ عند الله وعند الناس إبداء الصدقات وإعطاؤها علانية وَإِنْ تُخْفُوها اى الصدقات وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ خفية من الناس فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من ابدائها لعرائها عن وصمة السمعة والرياء وعن شوب المن والأذى ولا سيما عن لحوق العار على الفقراء وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ لستركم ذلة الفقراء الذين يذلون عند أخذها منكم وَاللَّهُ المجازى لكم بِما تَعْمَلُونَ من الخيرات خَبِيرٌ يكفيكم خبرته بمجازاتكم عليه ثم قال سبحانه مخاطبا لنبيه كلاما خاليا عن وصمة الشبهة ناشئا عن محض الحكمة لَيْسَ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل هُداهُمْ

[سورة البقرة (2) : آية 273]

اى ان تجعلهم مهتدين مهديين الى طريق الحق بل ما عليك الا الإرشاد والتنبيه على مسالك التوحيد والترغيب على محاسن الأوامر المتعلقة به والترهيب عن مقابح المناهي المنافية له وَلكِنَّ اللَّهَ الهادي للكل يَهْدِي بتوفيقه مَنْ يَشاءُ من عباده الى الصراط المستقيم ليوصلهم الى بابه وَقل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ صدقة او نذر فَلِأَنْفُسِكُمْ اى فهو لكم ونفعه عائد إليكم فلا تبطلوا نفعه بالمن والأذى ولا تنفقوا الردى الخبيث لئلا تنقصوا من نفعكم وانتفاعكم بها وَقل لهم ايضا خير انفاقكم انكم ما تُنْفِقُونَ شيأ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ طلبا لرضاه شكرا لنعمه وهاربا عما يشغلكم عن الحق مائلا عن مطلق الجزاء ولا جزاء أعظم من مطالعة وجهه الكريم وَاعلموا ان ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ على هذا الوجه يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه فوق ما يصفه السنة مصنوعات الكريم وتدركه عقولهم وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ اى لا تنقصون ولا تخسرون في هذه المعاملة مع الله ومتى عرفتم أنتم خير الانفاق فعليكم ان تعرفوا خير من ينفق اليه فاجعلوا انفاقكم لِلْفُقَراءِ العرفاء الأمناء الَّذِينَ أُحْصِرُوا اى قد تقرروا وتمكنوا مستغرقين متحيرين فِي سَبِيلِ اللَّهِ متشمرين للفناء فيه باذلين مهجهم في طريق توحيده بحيث لا يَسْتَطِيعُونَ من غاية استغراقهم في مطالعة جماله ضَرْباً فِي الْأَرْضِ لطلب الرزق الصوري ومن غاية استغنائهم عن الدنيا وما فيها يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ بحالهم أَغْنِياءَ مِنَ كمال التَّعَفُّفِ المرتكز في جبلتهم بحيث تَعْرِفُهُمْ وتنتبه على حالهم واحتياجهم ايها المؤمن المنفق لرضاء الله بِسِيماهُمْ من ضعف القوى ورثاثة الحال وبالجملة هم من غاية رجوعهم وركونهم عن الدنيا وما فيها نحو المولى لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ ولا يطلبون منهم حوائجهم وكفافهم إِلْحافاً جهارا إلحاحا متمنين راجين منهم مما عندهم بل رزقهم على الله يرزقهم من حيث لا يحتسب وبعد ما سمعتم أوصاف أولئك الوالهين في مطالعة جمال الله وجلاله بادروا الى تقوية أمزجتهم وتربية طباعهم بما عندكم من الرزق الصوري ليتمكن لهم الوصول الى الدرجة العليا والسعادة العظمى التي لا مرتبة أعظم منها وأعلى وَاعلموا ايها المنفقون ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ سيما لهؤلاء العظماء الكرام فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ بذاته عَلِيمٌ يجازيكم بمقتضى علمه بإحسانكم وإخلاصكم فيه ربنا اجعلنا من خدامهم وتراب اقدامهم وبالجملة المؤمنون الموقنون المحسنون الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ المنسوبة إليهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً اى في عموم أوقاتهم وحالاتهم طلبا لمرضاة الله وهربا عما يشغلهم عن مطالعة جماله فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ حسب قابليتهم واستعدادهم وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من التضييع والإحباط وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من سوء المنقلب والمآب ثم قال سبحانه المفسدون المسرفون المفرطون الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا وهي عبارة عن تنمية المال بأسوء الطرق وأقبح السبل المؤدى الى إضرار الأخ المسلم وإتلاف ماله وإخراجه من يده مجانا بلا رعاية غبطته وجانبه أصلا وهم لا يَقُومُونَ في يوم البعث والحشر إِلَّا كَما يَقُومُ الشخص الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ اى الجن مِنَ الْمَسِّ في النوم كيف يقوم مصروعا حائرا مضطربا متهتكا قلقا هائلا هائما وما ذلِكَ الا بِأَنَّهُمْ اى بشؤم ما قالُوا في نفوسهم مصرين معتقدين إِنَّمَا الْبَيْعُ في التنمية والزيادة مِثْلُ الرِّبا وهما سيان في الازدياد والنمو وَمن اين أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وما يترتب عليه من الربح وَحَرَّمَ الرِّبا مع ان رضاء المتعاقدين حاصل فيها من كلا الجانبين وبالجملة فَمَنْ جاءَهُ وبلغه مَوْعِظَةٌ مِنْ قبل رَبِّهِ فَانْتَهى

[سورة البقرة (2) : آية 276]

واجتنب عن الربوا ونهى نفسه عنه فَلَهُ أخذ ما سَلَفَ قبل ورود الموعظة لا يسترده شرعا وَأَمْرُهُ مفوض إِلَى اللَّهِ يجازيه عن الانتهاء بأحسن الجزاء ان كان من اصحاب العزيمة والقبول او يعاقب عليها ان كان من ذوى التزلزل والاضطراب وَمَنْ عادَ ورجع سيما بعد ما سمع الموعظة وانتهى عنها فَأُولئِكَ العادون الراجعون هم أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون مستمرون ما شاء الله ومن سنته سبحانه انه يَمْحَقُ اللَّهُ العليم الحكيم الرِّبا اى يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل هي فيه وَيُرْبِي اى يزيد وينمى المال الذي يخرج منه الصَّدَقاتِ ويضاعف ثوابها ويبارك على صاحبها كما أشار اليه صلّى الله عليه وسلّم بقوله ما نقصت زكاة من مال قط وَاللَّهُ المتجلى بالتجلى الحبى لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ ستار مصر على تحليل المحرمات أَثِيمٍ بارتكاب المحظورات مجترئ على ترك المأمورات ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر في ذاته وبرسوله المرسل من عنده وبجميع ما جاء به من الأوامر والنواهي وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ اى الأعمال المأمورة لهم تتميما لإيمانهم وتأكيدا له وَلا سيما قد أَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة لهم بمقتضى الكتاب الإلهي وَايضا آتَوُا الزَّكاةَ المكتوبة عليهم فيه لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من ترقب مولم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوت مسر ملذ بل لهم جميع ما ينبغي لهم ويليق بحالهم بالفعل بلا انتظار وترقب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ اى مقتضى ايمانكم اختيار التقوى عن محارم الله والعزيمة الخالصة في جميع الأعمال المأمورة لكم والاجتناب عن الرخص سيما عن المناهي وَذَرُوا واتركوا ما بَقِيَ لكم مِنَ الرِّبا عند الغرماء إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بحرمة الربوا وبسر حرمته وحكمة منعه فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولم تمتثلوا بما أمرتم ولم تتيقنوا سر ما منعتم منه فَأْذَنُوا اى انتظروا وترقبوا بِحَرْبٍ عظيم نازل مِنَ اللَّهِ المتجلى باسمه المنتقم وَمن رَسُولِهِ التابع له المتخلق بأخلاقه وَإِنْ تُبْتُمْ عن الارتباء والانتماء على هذا الطريق الأخس الأدنى فَلَكُمْ في دينكم هذا رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ على السواء بحيث لا تَظْلِمُونَ أنتم بأخذ الزيادة وإتلاف مال الغريم بلا عوض وَايضا لا تَظْلِمُونَ ولا تتضررون أنتم بالمطل والتسويف في الأداء والتأخير فيه وَإِنْ كانَ الغريم الذي عليه رؤس أموالكم ذُو عُسْرَةٍ لا يقدر على أداء حقوقكم دفعة فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ اى فعليكم ان تنظروه وتمهلوه الى وقت ايساره ثم تأخذوا وَأَنْ تَصَدَّقُوا اى تصدقكم بها على ذي عسرة خَيْرٌ لَكُمْ عند الله يجازيكم به جزاء لا يدرك كنهه الا هو إذ إدخال السرور في قلب المؤمن سيما في هذه الحالة يوازى عند الله عمل الثقلين إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ هذا تتصدقون بها البتة وَبالجملة اتَّقُوا يَوْماً واى يوم يوما تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ المسقط لجميع الإضافات المطلع على جميع الحالات منسلخين عن عموم ما أنتم عليه في الدنيا مؤاخذين عليها لتحاسبوا عن نقير وقطمير ثم تجازوا عليها ثُمَّ تُوَفَّى وتجزى كُلُّ نَفْسٍ على مقتضى ما كَسَبَتْ من خير وشر وظلم وجور وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أصلا لا بتنقيص الثواب ولا بتضعيف العقاب بل كل نفس فيها رهينة بما كسبت. وعن ابن عباس رضى الله عنهما انها آخر آية نزل بها جبريل عليه السّلام وقال ضعها في رأس المأتين والثمانين من البقرة وعاش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها أحدا وعشرين يوما وقيل أحدا وثمانين وقيل سبعة ايام وقيل ثلاث ساعات وعليك ايها المؤمن المتوجه الى تصفية الذات يسر الله عليك أمرك ان تدخر لنفسك من هذه الآية من الزاد ما لا يسعه

[سورة البقرة (2) : آية 282]

المطولات ولا يندرج في المجلدات ولا تفي باستقصائها التعبيرات والإشارات وبالجملة هي محتوية على عموم السرائر والأسرار الباعثة للارسال والإنزال والتبشير والإنذار لذلك ختم به الوحى وانقطع به الإنزال ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم المحافظة على الحدود الشرعية سيما إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ اى يعطى بعضكم بعضا ويأخذه ان يؤديه له إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معين معلوم مقدر بالأيام والشهور والأعوام لا بوقت الحصاد وقدوم الحاج وغير ذلك من المبهمات فَاكْتُبُوهُ لئلا يقع بينكم العداوة والبغضاء المؤدية الى النزاع والمراء المنافى للايمان والتوحيد وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ على الوجه الذي وقع بلا زيادة ولا نقصان والحاصل ان يكتب صورة المراضاة المعقودة المعهودة بينكم حين الأخذ والإعطاء بلا تفاوت حتى يكون وقاية لكم لدى الحاجة وَبعد ما شرع في الكتابة لا يَأْبَ ولا يمتنع كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ اى لا يوجز ايجازا مخلا ناقصا منقصا ولا يطنب اطنابا مخلا مزيدا لئلا يؤدى الى النزاع والمناكرة عند الأداء بل فَلْيَكْتُبْ الكاتب العادل عدلا وَلْيُمْلِلِ على الكاتب المديون وهو الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ والقضاء لأنه المعترف بالأداء وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ حين الإملاء عن فوت شيء من الحقوق وَلا يَبْخَسْ اى لا ينقص مِنْهُ شَيْئاً هذا التخصيص بعد ما دل عليه الكلام السابق ما هو الا لزيادة تأكيد والاهتمام في الاجتناب عن تضييع الحقوق فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً ناقص العقل منحطا عن العدالة أَوْ ضَعِيفاً في الرأى والقوة غير مراع للغبطة لأجل الصبا او الهرم أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ لخرس او جهل باللغة فَلْيُمْلِلْ من قبله وَلِيُّهُ اى من يولى امره شرعا ملتبسا بِالْعَدْلِ مع رعاية الجانبين بلا ازدياد ولا تبخيس وَمع ذلك اسْتَشْهِدُوا على دينكم ومراضاتكم من الجانبين شَهِيدَيْنِ حاضرين في مجلس المراضاة مِنْ رِجالِكُمْ لكمال عقلهم ودينهم فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ اى فعليكم ان تستشهدوا بدل الرجلين رجلا وامرأتين دفعا للحرج هذا مخصوص بالأموال دون الحدود والقصاص لقلة عقلهن وضعف تأملهن مِمَّنْ تَرْضَوْنَ أنتم ايها المعاملون مِنَ الشُّهَداءِ الذين ثبتت عندكم عدالتهم وأمانتهم وديانتهم وانما خص هذا العدد لأجل أَنْ تَضِلَّ وتنسى إِحْداهُما بطول الزمان فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اى الذاكرة منهما الْأُخْرى الناسية لئلا تضيع حقوق المسلمين وَبعد ما شرع الاشهاد في الوقائع لا يَأْبَ ولا يمتنع الشُّهَداءِ عن الحضور إِذا ما دُعُوا لأداء الشهادة او تحملها وَمع الاشهاد والاستشهاد لا تَسْئَمُوا ولا تساهلوا في هذا ايها المؤمنون المعاملون أَنْ تَكْتُبُوهُ اى الكتاب الشامل على مراضاتكم في معاملاتكم المؤجلة صَغِيراً كان الحق أَوْ كَبِيراً قليلا او كثيرا فاحفظوه إِلى وقت حلول أَجَلِهِ المسمى له عند الأخذ ذلِكُمْ اى الكتاب على الوجه المذكور أَقْسَطُ اعدل معاملاتكم عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وأعون لأدائها وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا اى اقرب الطرق لحفظ ما جرى بينكم من المعاملة نسية فعليكم ان تحافظوا عليها ولا تجاوزوا عنها إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها وتداولونها بَيْنَكُمْ يدا بيد فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ضيق وذنب أَلَّا تَكْتُبُوها لبعدها عن التنازع وَبالجملة أَشْهِدُوا فيها وان لم تكتبوها إِذا تَبايَعْتُمْ احتياطا إذ البشر قلما يخلو عن الضرر والإضرار وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ هذه الصيغة تحتمل البنائين وكل منهما يصلح لان يكون مرادا اما بناء الفاعل

[سورة البقرة (2) : آية 283]

فلا بد ان لا يضر الكاتب المعاملين بترك الاجابة وعدم الحضور عند المملى او بالزيادة والنقصان في المكتوب وغير ذلك وايضا الشاهد الذي يدعى الى التحمل او الأداء بترك الاجابة وبالتهاون والإنكار وغير ذلك واما بناء المفعول فلا بد ان لا يضر الكاتب بمنع أجرته واستعجاله عن مصلحته وكذا الشاهد وَإِنْ تَفْعَلُوا شيأ مما نهيتم عنه فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وخروج عن حدود الله لاحق بكم ضرره وَاتَّقُوا اللَّهَ عن مخالفة حدوده وأحكامه وَخصوصا بعد ما يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ المدبر لمصالحكم ما ينبغي لكم ويليق بحالكم وَاللَّهُ المتجلى بصفات الجمال والجلال بِكُلِّ شَيْءٍ صدر عنكم عَلِيمٌ يجازيكم على مقتضى علمه وَإِنْ كُنْتُمْ ايها المتداينون عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ اى فعليكم في أمثال هذه المعاملات رهان مقبوضة من المديون الى الأجل المسمى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ ايها الدائنون بَعْضاً من المديونين بلا ارتهان اعتمادا على أمانته فَلْيُؤَدِّ المديون الَّذِي اؤْتُمِنَ اعتمادا أَمانَتَهُ اى دينه الذي في ذمته عند انقضاء اجله المسمى وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في الإنكار والخيانة والبخس والمماطلة وَلا تَكْتُمُوا ايها المؤمنون الشَّهادَةَ الحاضرة الحاصلة عندكم المتعلقة بحقوق الناس سواء كنتم من المستشهدين او الشاهدين على انفسكم المقرين المعترفين بما في ذمتكم من حقوق الغير وَمَنْ يَكْتُمْها عنادا واستكبارا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ اى يأثم قلبه ومن كان إثمه من قلبه لا يرجى منه الفلاح والفوز بالنجاح وَاللَّهُ المحيط بعموم حيلكم ومخايلكم بِما تَعْمَلُونَ من الخيانة والإنكار وكتمان الشهادة والإضرار عَلِيمٌ ينتقم عنكم بكل ما جرى في نفوسكم منها واعلموا ايها المكلفون بإقامة الحدود الإلهية انه لِلَّهِ الواحد الأحد الصمد الفرد الحي الحقيق بالحقية القيوم المتفرد بالقيومية الدائم الظاهر المتوحد بالديمومية مظاهر ما فِي السَّماواتِ اى سموات الأسماء الذاتية والصفات الفعلية وَما فِي الْأَرْضِ اى الطبيعة العدمية القابلة لمظهرية آثار الصفات الذاتية المحدثة المظهرة للكائنات الكونية الكيانية والواردات الغيبية والواضحات العينية وَبعد ظهور عموم ما ظهر وما بطن عنده سبحانه إِنْ تُبْدُوا وتظهروا ايها الاظلال والعكوس ما فِي أَنْفُسِكُمْ من مقتضيات الأنانية ودعوى الاصالة في الوجود والاستقلال بالآثار أَوْ تُخْفُوهُ وتكتموه يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الجامع لجميع الأسماء المحيط لجميع الأشياء بل وجود عموم الأشياء كلها مستهلكة في وجوده سبحانه فانية في ذاته فَيَغْفِرُ اى يستر ويمحو ذنب الأنانية ومعصية الغيرية لِمَنْ يَشاءُ من عباده بفضله وجوده وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بمقتضى قهره وجلاله ارادة واختيارا إظهارا لقدرته وقلعا لشركته وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مما شاء ويشاء قَدِيرٌ بالقدرة الازلية الابدية له التصرف مطلقا في عموم ما كان ويكون لا يعزب عن حضوره ذرة ولا يشغله فترة وتعطيل وعلى ذلك قد آمَنَ الرَّسُولُ الفاني في الله الباقي ببقائه المستغرق بمطالعة لقائه بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات المتكثرة المتجددة بتجددات التجليات المنتشئة مِنْ رَبِّهِ الذي رباه لاستخلافه ونيابته وتحمل اسرار أعباء نبوته ورسالته وَالْمُؤْمِنُونَ المتبعون المسترشدون منه المقتفون اثره صلّى الله عليه وسلم كُلٌّ منهم قد آمَنَ بِاللَّهِ المتفرد بالبقاء المتعزز بالعظمة والكبرياء وَمَلائِكَتِهِ الموسومين بالصفات الذاتية والأسماء الإلهية وَكُتُبِهِ المترتبة على صفة الكلام المنزلة على السنة الرسل والأنبياء للهداية والإهداء وَرُسُلِهِ المنبهين على ذوى البصائر والنهى مما في مضامين

[سورة البقرة (2) : آية 286]

آياته الكبرى من السرائر والأسرار التي قد تفتتت دونها الآراء واضمحلت عندها الأهواء قائلين يعنى هؤلاء المؤمنين المقرين المعترفين لا نُفَرِّقُ ولا نميز بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ المبعوثين إلينا من لدنه سبحانه بعد ما قد ظهر الكل منه ورجع اليه وَبعد ما آمنوا بالله وإحاطته قالُوا طوعا سَمِعْنا وَسمعا أَطَعْنا بجميع ما قد جاء به الرسل من عندك يا مولانا نرجو منك غُفْرانَكَ رَبَّنا الذي ربيتنا بقدرتك بالمعرفة والايمان بين ملابس الإمكان المفضى بالطبع الى انواع الخذلان والخسران وَإِلَيْكَ يا هادي الكل لا الى غيرك إذ لا غير معك الْمَصِيرُ في الإعادة عن شياطين الأوهام والخيالات الباطلة الناشئة من لوازم الإمكان المفضية الى دركات النيران. ثم نبه سبحانه على خلص عباده ما يئول أمرهم اليه وينقطع سعيهم دونه بقوله لا يُكَلِّفُ اللَّهُ الهادي لعباده نحو جنابه نَفْساً إِلَّا وُسْعَها اى حسب ما في وسعها واستعدادها مما عينه الله له في سابق علمه ولوح قضائه فظهر انه لَها ما كَسَبَتْ من ثواب الخيرات حسب استعداده الفطري وَعَلَيْها ايضا مَا اكْتَسَبَتْ من جزاء الشرور والقبائح بمتابعة القوى الامارة الامكانية التي هي منشأ جميع الفتن والفساد ثم لما أشار سبحانه الى سرائر التكاليف والمجازاة أراد ان يشير الى ان الإتيان بما كلف به لا يكون الا باقداره وتوفيقه وجذب من عنده لذلك لقنهم الدعاء اليه والاستعانة منه والمناجاة معه بقوله رَبَّنا يا من ربيتنا بلطفك لقبول تكليفاتك لنصل الى صفاء توحيدك وتقديسك لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا إتيان ما كلفتنا به بسبب إمكاننا أَوْ أَخْطَأْنا فيها لقصور إدراكنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً حجابا غليظا وغشاء كثيفا تعمى به بصائر قلوبنا عن ادراك نور توحيدك وأبصارنا عن احساس شمس ذاتك كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا سهل علينا طريق توحيدك وَلا تُحَمِّلْنا من متاعب الرياضات ومشاق التكليفات القالعة لدرن الإمكان ورين التعلقات ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ ولا يسع في وسعنا العمل والإتيان به وَاعْفُ اى امح بفضلك عَنَّا مقتضيات القوى البشرية واوصافنا الامكانية وَاغْفِرْ لَنا اى استر انانيتنا وهويتنا عن نظرنا وَارْحَمْنا بعد ذلك برحمتك الواسعة أَنْتَ مَوْلانا ومولى نعمنا فَانْصُرْنا بعونك ونصرك في ترويج دينك وإعلاء كلمة توحيدك عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق الظاهر في الأنفس والآفاق حققنا بلطفك بحقيتك وتوحيدك يا خير الناصرين ويا هادي المضلين خاتمة سورة البقرة عليك ايها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات شرح الله صدرك ويسر لك أمرك ان تأخذ نصيبك حسب قدرتك وطاقتك من هذه السورة المشتملة على جميع المطالب الدينية والمراتب اليقينية فلك ان تشمر أولا ذيلك عن الدنيا وما فيها معرضا عن لذاتها وشهواتها متوجها بوجه قلبك الى توحيد ربك مستفتحا بما أودعه سبحانه في صدرك من خزائن جوده ودفائن وجوده طاويا كشح حالك ومقالك عما لا يعنيك هاربا عن مصاحبة ما يضرك ويغويك طالبا الوصول الى معارج التوحيد ومدارج التجريد والتفريد راغبا عما سوى الحق من اسباب الكثرة والتقييد مستنشقا من نسمات أنسه ونفحات قدسه مستروحا بنفثات رحمته مستكشفا عن اسرار ربوبيته مستهديا من زلال هدايته بمتابعة نبيه المخلوق على صورته المبعوث الى جميع بريته مسترشدا من كتابه المنزل عليه

سورة آل عمران

الجامع لما في الكتب السالفة من الحكم والمواعظ والعبر والأمثال والرموز والإشارات الواردة لهداية التائهين في فضاء وجوده المستغرقين في تيار بحار إحسانه وجوده فعليك ايها المريد القاصد لسلوك طريق الحق ان تلازم هذا الكتاب الذي لا ريب في هدايته لمن آمن بغيب الهوية الإلهية وادام التوجه نحوه صارفا عنان عزمك عن كل ما يشغلك عن ربك مقبلا بشأنك نحو مقصدك ومطلبك معرضا على نفسك ما فيه من الحقائق والمعارف والحكم والاحكام والقصص والتذكيرات إذ ما من حرف من حروف هذا الكتاب الا وهو ظرف لمعان الى ما شاء الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم فلا بد لك عند تلاوة القرآن ان تطهر ظاهرك وباطنك عن جميع لوازم بشريتك بحيث تغيب عنك نفسك وتفنى هويتك وشانك في هوية الحق وأنطقك ربك بكلامه ومتى رسخت هذه الحالة فيك وصارت خلقك وشيمتك فزت بحظك ونصيبك من تلاوته وإياك إياك ان تغفل عند قراءته عن فحص اشارته والتدقيق في روايته ودرايته ومتى صفت سرك وسريرتك عن العوائق كلها وخلصت طويتك عن العلائق برمتها صح لك ان تسترشد منه حسب ما قدر الله لك ووفقك عليه في سابق علمه انه سبحانه على جميع ما يشاء قدير وبإجابته حقيق جدير [سورة آل عمران] فاتحة سورة آل عمران لا يخفى على الراسخين في العلوم اللدنية المتأملين في محكمات الكتب المنزلة من عند الله المتعلقة بتهذيب الظاهر عن الكدورات البشرية ومتشابهاتها المصفية للباطن بالنسبة الى اولى العزائم الصحيحة عن جميع الأوهام والخيالات الفاسدة المنافية لصرافة الوحدة الذاتية الهوية السارية في جميع المظاهر حسب تعددات التجليات المترتبة على الأوصاف والأسماء الذاتية ان سر الإنزال والإرسال والوحى على الأنبياء والإلهامات والارهاصات الواردة على قلوب المخلصين من الأولياء انما هو للتفطن والتنبه على كيفية انبساط الظل الإلهي الممتد على طبيعة العدم المقابل للوجود القابل لانعكاس اشعة انواره الفائضة حسب تجلياته الجمالية والجلالية وكيفية ارتباط الاظلال والعكوس الغير المحصورة على المبدأ الوحدانى الذي هو الوحدة الذاتية التي لا تعدد فيه أصلا الا بحسب الأوصاف والشئون كما قال سبحانه في وصف ذاته المنزه عن شوب الكثرة. قل هو الله احد السورة وقال في شانه المقتضى للتعدد كل يوم هو في شأن وقال في ارتباط الاظلال ورجوعها الى الوحدة وما من دابة الا هو آخذ بناصيتها الآية. وقال ايضا بلسان الاظلال. انا لله وانا اليه راجعون وقال ايضا. كل إلينا راجعون. وقال ان إلينا إيابهم الى غير ذلك من الآيات والاخبار الواردة في هذا الباب والشهودات والكشوفات الصادرة من ارباب الولاء أنار الله براهينهم. ولما كان الإنسان الكامل قابلا لمظهرية جميع الأوصاف الإلهية لائقا للخلافة والنيابة عنه سبحانه انزل عليه من عنده كتابا مشتملا على عموم ما كان ويكون من رطب ويابس ونقير وقطمير كما قال سبحانه في محكم تنزيله. ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين. وقال في وصف كتابه. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فلا بد للمسترشد الخبير منه ان يتعمق في طلب دفائن اسراره الكامنة في أغواره ويغوص في ذخار تيار بحاره حتى يفوز بغرر فوائده ودرر فرائده ويتحقق بمقام التخلق بأخلاق الله تعالى حتى يتصف بالخلافة والنيابة الإلهية ويستحق الخطاب الإلهي ولهذا خاطب سبحانه رسوله الذي هو أكمل الرسل الكاملين وأتم المخلوقين صلوات الله عليه وسلامه متبركا بِسْمِ اللَّهِ

الآيات

الذي انزل الكتاب وأرسل الرسل إرشادا لعموم العباد الى سبيل المعاد الرَّحْمنِ عليهم بانزال المحكمات المعدة لفيضان اليقين والعرفان الرَّحِيمِ عليهم بانزال المتشابهات المتضمنة للب التوحيد وزبدة التحقيق والإيقان [الآيات] الم ايها الإنسان الكامل الأوحدي الأقدسى اللائح على الصورة الرحمانية الملازم الملاحظ لمقتضيات الأوصاف والأسماء الإلهية المتفرعة عليها جميع المظاهر الكونية المشتمل عليها المحيط بها اللَّهُ اى الذات الواحد الأحد الفرد الصمد المبدع المظهر الموجد الذي لا إِلهَ ولا موجود ولا مظهر في الوجود إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الدائم الثابت الذي لا يقدر حياته الزمان ولا يحصرها المكان إذ لا يشغله شأن عن شأن الْقَيُّومُ الذي لا يعرضه الفتور ولا يعجزه كر الأعوام ومر الدهور الا وهو الذي نَزَّلَ عَلَيْكَ يا مظهر الكل وأكمل الرسل امتنانا لك الْكِتابَ اى القرآن الجامع الشامل لما في الكائنات أعلاها وأدناها أوليها واخراها ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السالفة المنزلة على الأنبياء الماضين صلوات الله عليهم أجمعين وَأَنْزَلَ ايضا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ على موسى وعيسى عليهما السّلام مصدقين كذلك لعموم ما مضى من الكتب السابقة مِنْ قَبْلُ اى قبل إنزال القرآن عليك ومن سنته سبحانه إنزال اللاحق مصدقا للسابق لكون الكل هُدىً لِلنَّاسِ اى نازلا من عنده سبحانه لمصلحة الهداية يهديهم الى توحيده الذاتي عند ظهور امارات الغي والضلال وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ ايضا لهذه المصلحة ليفرق الحق من الباطل والهداية من الضلال وآيات الله من تسويلات الشيطان إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ سيما تحققوا بعد نزوله وكذبوا بالرسل المنزلة عليهم الكتب والآيات لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ هو الطرد والحرمان عن ساحة عز التوحيد بسبب انكارهم الآيات الهادية لهم الى طريقه وَبالجملة اللَّهِ الهادي للكل الى زلال توحيده عَزِيزٌ غالب قادر ذُو انْتِقامٍ عظيم وتعذيب شديد على من كفر بآياته واستكبر على من انزل اليه وكيف لا إِنَّ اللَّهَ المحيط بجميع ما كان ويكون لا يَخْفى عَلَيْهِ ولا يغيب عنه شَيْءٌ مما حدث فِي الْأَرْضِ وَلا مما حدث وكان فِي السَّماءِ من الايمان والكفر والهداية والضلالة وغير ذلك من الأعمال والأحوال الصادرة من العباد فكيف يخفى عليه سبحانه شيء من الأشياء إذ هُوَ الموجد المصور الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ بقدرته ابتداء فِي الْأَرْحامِ بعد انصبابكم من أصلاب آبائكم إليها كَيْفَ يَشاءُ اى على اى وجه تتعلق به مشيئته وارادته بلا مزاحمة ضد ولا مشاركة احد من شريك وند إذ لا إِلهَ اى لا موجد ولا مصور في الوجود إِلَّا هُوَ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بلا منازع له ولا مخاصم دونه بل هو الْعَزِيزُ الغالب على كل ما يشاء الْحَكِيمُ المتقن في كل ما يريد وكيف لا هُوَ الَّذِي اصطفاك يا أكمل الرسل لرسالته واجتباك لنيابته وخلافته بان أَنْزَلَ عَلَيْكَ تفضلا وامتنانا من عنده لتصديقك وتأييدك الْكِتابَ المعجز لجميع من تحدى وتعارض معك تعظيما لشأنك وفصله بالسور والآيات الدالة على الأمور المتعلقة لأحوال العباد في النشأة الاولى والاخرى إذ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ متعلقة بأحوال عموم العباد وعلى اختلاف طبقاتهم في معاشهم ومعادهم من الاحكام والمعاملات والمعتقدات الجارية فيما بينهم حسب النشأتين هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ واجبة الاقتداء والامتثال لكافة الأنام إياها وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ متعلقة بالمعارف والحقائق المترتبة على الحكم والمصالح المودعة في إيجاب التكليفات والطاعات والعبادات المؤدية إليها بالنسبة الى اولى العزائم

[سورة آل عمران (3) : آية 8]

الصحيحة المتوجهين الى بحر التوحيد فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ميل وعدول عن طريق الحق الجامع بين الظاهر والباطن فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ويتركون الامتثال بمحكماته جهلا وعنادا ولم يعلموا ان الوصول الى المعارف والحقائق انما تنال بتهذيب الظاهر بامتثال المحكمات بل ليس غرضهم من تلك المتابعة الا ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ اى طلب إيقاع الفتنة بين الناس وإفساد عقائدهم عن منهج التوحيد وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ الى ما يرتضيه عقولهم وتشتهيه نفوسهم كالمبتدعة خذلهم الله وَالحال انه ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ على ما ينبغي إِلَّا اللَّهُ الحكيم المنزل إذ تأويل كلامه لا يسع لغيره الا بتوفيقه واعانته وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ اللدني المؤيدون الموفقون من عنده حسب الهامه ووحيه بمعارف وحقائق لا تحصل بمجرد القوى البشرية الا بتأييد منه سبحانه وجذب من جانبه يَقُولُونَ على مقتضى تحققهم بمقام التوحيد المسقط لعموم الإضافات آمَنَّا بِهِ اى قد أيقنا واذعنا بمحكمات الكتاب ومتشابهاته جميعا إذ كُلٌّ منزل مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وانى لنا ان نتفاوت فيه وَبالجملة ما يَذَّكَّرُ وما يتعظ به وبأمثاله على وجه الإخلاص والتيقظ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ المجبولون على لب التوحيد المعرضون عن قشوره التي هي من مقتضيات القوى النفسانية التي هي من جنود شياطين الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة رَبَّنا يا من ربيتنا بلطفك على نشأة توحيدك لا تُزِغْ ولا تمل قُلُوبَنا عن طريق معرفتك سيما بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا عليه بانزال الكتب وإرسال الرسل وَهَبْ لَنا وتفضل علينا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً عامة شاملة لليقين العلمي والعيني والحقي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ والجواد الفياض بلا اعواض وأغراض رَبَّنا إِنَّكَ بذاتك وبحسب اوصافك وأسمائك جامِعُ شتات النَّاسِ لِيَوْمٍ آن وشأن لا رَيْبَ فِيهِ ولا شك في وقوعه لاخبارك عنه ووحيك على السنة رسلك وكتبك وكيف لا إِنَّ اللَّهَ الجامع لشتات العباد في يوم المعاد لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ الذي وعده في كتابه بل قد انجزه على مقتضى انزاله ووحيه واخباره إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن أوامر كتبه ورسله وأصروا على كفرهم وانكارهم اغترارا بمزخرفاتهم الباطلة من الأموال والأولاد لَنْ تُغْنِيَ ولن تدفع عَنْهُمْ في النشأة الاخرى لا أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ غضب اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ المصرون المعاندون هُمْ وَقُودُ النَّارِ اى أجسامهم وقود نار الحسرة والخذلان لان دأبهم وديدنهم في النشأة الاولى كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ المفسدين المسرفين المفرطين كعاد وثمود وكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا المنزل على رسلنا المستخلفين من عندنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ باسمه المنتقم بِذُنُوبِهِمْ الصادرة منهم من التكذيب والإنكار والعناد والاستكبار فاستأصلهم بالمرة في النشأة الاولى واحرقهم بالنار في النشأة الاخرى جزاء بما كسبوا في دار الدنيا وَبالجملة اللَّهُ القادر المقتدر على عموم ما يشاء شَدِيدُ الْعِقابِ لكل من عاند واستكبر قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا لِلَّذِينَ كَفَرُوا بك وبكتابك اخبارا لهم مما سيجرى عليهم سَتُغْلَبُونَ بكمال قهر الله وغضبه في يوم الجزاء وَتُحْشَرُونَ بين يدي الله وتحاسبون عنده سبحانه على عموم ما جرى عليهم في النشأة الاولى وبعد ذلك تساقون إِلى جَهَنَّمَ البعد والخذلان مطرودين مهانين وَبِئْسَ الْمِهادُ وما تمهدوا فيها بما اقترفته نفوسهم من الاستكبار على الأنبياء والإصرار على ما هم عليه من الكفر والضلال سيما بعد ظهور آيات الايمان وعلامات الهدى والعرفان إذ قَدْ كانَ لَكُمْ ايها الضالون في تيه

[سورة آل عمران (3) : آية 14]

الحرمان آيَةٌ ظاهرة دالة على الهدى الحقيقي فِي فِئَتَيْنِ وفرقتين حين الْتَقَتا إحداهما فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمته واظهار توحيده وَأُخْرى كافِرَةٌ تقاتل في سبيل الطاغوت مع الموحدين مكابرة وعنادا ومع كونكم ايها الكافرون المعاندون بأضعاف المؤمنين الموحدين وكثرة عددكم وعددكم يَرَوْنَهُمْ اى المؤمنين مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ اى في بادى النظر ويرهبون منهم رهبة شديدة بتأييد الله ونصره وَاللَّهُ المحيط بجميع ما جرى في ملكه يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ العزيز مَنْ يَشاءُ من عباده المخلصين في أطاعته وانقياده إِنَّ فِي ذلِكَ التأييد والنصر مع ظهور عكسه لَعِبْرَةً تبصرة وتذكرة لِأُولِي الْأَبْصارِ المستبصرين بنظر الاعتبار عن سرائر الأمور واسرارها بلا التفات لهم الى مزخرفات الدنيا الدنية من شهواتها ولذاتها المنهمكين المستغرقين في بحر الغفلة والغرور إذ زُيِّنَ اى قد حبب وحسن لِلنَّاسِ المغرورين لزخرفة الدنيا حُبُّ الشَّهَواتِ اى المشتهيات المنحصرة أصولها في هذه المذكورات مِنَ النِّساءِ اللاتي هن من اشهاها إذ هن ما جعلن الا للوقاع والجماع الذي هو من ألذ الملذات النفسانية وَالْبَنِينَ للمظاهرة والمفاخرة والغلبة على الأقران وَالْقَناطِيرِ اى الأموال الكثيرة الْمُقَنْطَرَةِ المجتمعة المخزونة مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لكونها وسائل الى نيل جميع المشتهيات التي مالت القلوب إليها بالطبع وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ المعلمة المنسوبة إليهم ليركبوا عليها خيلاء بطرين وَالْأَنْعامِ من الإبل والبقر والغنم ليحملوا عليها اثقالهم ويأكلوا منها ويزرعوا بها وَالْحَرْثِ ليعيشوا بها كل ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الدنية بل من اجلة أمتعتها الفانية المانعة من الوصول الى جنة المأوى التي هي دار الخلود وموعد لقاء الخلاق الودود وَبالجملة اللَّهُ الهادي للكل الى سبل الصواب عِنْدَهُ لمن توجه نحوه واستقبل اليه حُسْنُ الْمَآبِ وخير المنقلب والمتاب قُلْ يا أكمل الرسل للمؤمنين المخلصين في عبادة الله الراغبين الى جزيل عطائه وجميل جزائه الطائرين نحو فضاء فنائه الطالبين الوصول الى شرف لقائه الفانين في الله ليفوزوا بشرف لقائه تحريكا لسلسلة شوقهم الفطرية ومحبتهم الجبلية أَأُنَبِّئُكُمْ وأخبركم ايها الحيارى في صحارى الإمكان الموثقون بقيود الأكوان المحبوسون في مضيق الحدثان بسلاسل الزمان وأغلال المكان بِخَيْرٍ بمراتب ودرجات مِنْ ذلِكُمْ الذي قد ملتم إليها واشتهيتم الى نيلها ووصولها بالطبع في نشأتكم هذه حاصل واصل لكم في النشأة الاخرى لكن لِلَّذِينَ اتَّقَوْا منكم عن محارم الله وتوجهوا نحوه في نشأة الدنيا ولم ينكبوا على ما نهاهم الله عنه بالسنة رسله وكتبه عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي وفقهم على ترك المحظورات واجتناب المكروهات والمنكرات جَنَّاتٌ متنزهات المعارف والحقائق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة بمياه الحيات المرشحة من بحر الذات على كؤس التعينات خالِدِينَ فِيها دائما لا يتحولون عنها الا الى درجات هي أعلى منها وَلهم فيها ايضا أَزْواجٌ اعمال واحوال مُطَهَّرَةٌ خالصة عن مطلق الرياء والرعونة صافية عن كدر الميل الى البدع والأهواء المورثة لانواع الجهل والغفلات وَمع ذلك لهم علاوة على الكل عند ربهم رِضْوانٌ عظيم مِنَ اللَّهِ لتمكنهم في مقام العبودية وتحققهم بمقام الرضاء بعموم ما جرى عليهم من القضاء بحيث لا ينسبون شيأ من الحوادث الكائنة الى الأسباب والوسائل العادية ولا يرون الوسائط في البين أصلا وَاللَّهُ الهادي للكل بَصِيرٌ بِالْعِبادِ الراضين المرضيين بقضاء الله وإمضائه يعنى الَّذِينَ يَقُولُونَ بألسنتهم موافقا لما في قلوبهم

[سورة آل عمران (3) : آية 17]

عند مناجاتهم مع الله وعرض حاجاتهم إياه سبحانه رَبَّنا إِنَّنا بعد ما آمَنَّا بك وبكتبك ورسلك بمقتضى توفيقك إيانا فَاغْفِرْ لَنا بلطفك ذُنُوبَنا التي كنا عليها حسب انانيتنا واستر عيوبنا التي كنا متصفين بها قبل انكشافنا بتوحيدك وَقِنا واحفظنا بفضلك وجودك عَذابَ النَّارِ المعدة لأصحاب البعد والضلال عن جادة توحيدك وساحة عز حضورك الصَّابِرِينَ على عموم ما أصابهم من البأساء والضراء في طريق توحيدك وَالصَّادِقِينَ المعرضين عن الكذب مطلقا في أقوالهم المعبرة عما في ضمائرهم وافئدتهم من الايمان والإذعان وَالْقانِتِينَ الخاضعين الخاشعين إليك بظواهرهم وبواطنهم وَالْمُنْفِقِينَ من طيبات ما رزقت لهم وسقت إليهم طلبا لمرضاتك بلا شوب المنة والأذى وَالْمُسْتَغْفِرِينَ لك الخائفين الوجلين من سخطك وجلالك الراجين منك العفو في عموم أوقاتك سيما بِالْأَسْحارِ الخالية عن جميع الموانع والشواغل العائقة عن التوجه الى جنابك الشاهدين بوحدانيتك بما شَهِدَ اللَّهُ به لذاته إلا وهي أَنَّهُ لا إِلهَ اى لا ثابت ولا موجود ولا كون ولا وجود ولا تحقق ولا ثبوت الى غير ذلك من العبارات المشيرة الى الذات الاحدية والهوية الغيبية إِلَّا هُوَ الحي الحقيق بالحقية الوحيد بالقيومية الفريد بالديمومية لا شيء سواه وَكذلك بما شهد به الْمَلائِكَةُ المهيمون اى الأسماء والصفات القائمة بالذات الاحدية إذ الكل قائم به ثابت له لا مرجع لهم سواه وَكذا بما شهد به أُولُوا الْعِلْمِ وذووا المعرفة والشهود من المظاهر المخلوقة على صورته المتأثرة من أوصافه وأسمائه المتصفة بها ذاته وان كانت شهادة كل منهم راجعة الى شهادته سبحانه لكون الكل قائِماً متحققا متقوما بِالْقِسْطِ اى بالعدل الإلهي المنبسط على ظواهر الكائنات ازلا وابدا إذ لا إِلهَ اى لا مظهر ولا موجد للمظاهر بل لا موجود ولا ظاهر حقيقة ولا معنى إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على إظهارها الْحَكِيمُ المتقن في تربيتها وتدبيرها قائلين مقرين معترفين طوعا ورغبة بعد ما تحققوا بمقام العبودية والتسليم إِنَّ الدِّينَ القويم والشرع القوى المستقيم المقبول المرضى عِنْدَ اللَّهِ الهادي للعباد الى سبيل الرشاد هو الْإِسْلامُ المنزل من عنده سبحانه الى خير الأنام محمد عليه الصلاة والسّلام وَمَا اخْتَلَفَ المعاندون المنكرون لدين الإسلام وهم الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى اليهود والنصارى إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما قد جاءَهُمُ الْعِلْمُ اليقيني في كتبهم المنزلة عليهم من عند الله بانه سيظهر الدين الحق الناسخ لجميع الأديان السابقة وقد علموا حقيته بالدلائل والعلامات المبينة في كتابهم ومع ذلك ينكرونه بَغْياً وحسدا ثابتا بَيْنَهُمْ راسخا في قلوبهم ناشئا من طلب الرياسة والاستكبار والعتو والإصرار وَبالجملة مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ بأمثال هذه الأباطيل المموهة يجازهم على كل منها بلا فوت شيء فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يعزب عن علمه شيء شديد العقاب لمن أنكر آياته سيما بعد ظهور حقيتها فَإِنْ حَاجُّوكَ وجادلوا معك يا أكمل الرسل بعد ما ثبت حقية دينك وكتابك عندهم مكابرة وعنادا لا تجادل أنت معهم بل اعرض عنهم فَقُلْ أَسْلَمْتُ اى فوضت وسلمت امرى في ظهور ديني ووجهت وَجْهِيَ اى صورتي المخلوقة على صورة الحق المستجمع للكل لِلَّهِ ظاهرا وباطنا وَمَنِ اتَّبَعَنِ من الموفقين على الانقياد والتسليم الى الله في كل الأمور وَقُلْ ايضا يا أكمل الرسل امحاضا للنصح لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ وهم الذين لا يأتيهم الكتاب والدعوة أَأَسْلَمْتُمْ بدين الإسلام المبين لتوحيد الله كما أسلمت

[سورة آل عمران (3) : آية 21]

انا ومن اتبعن بعد ما ظهر لكم دلائل حقيته أم لم تسلموا بغيا وعنادا فَإِنْ أَسْلَمُوا بعد تنبيهك عليهم وتعليمك طريق الهداية والإرشاد فَقَدِ اهْتَدَوْا الى طريق الحق كما اهتديت أنت ومن تبعك من المؤمنين وَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عنك وعن دعوتك عنادا واستكبارا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ اى لم يضروك بانصرافهم واعراضهم عنك بل ما عليك من حسابهم من شيء ولا عليهم من حسابك من شيء فاعرض أنت ايضا عنهم وَاللَّهُ المحيط بهم وبضمائرهم بَصِيرٌ خبير بِالْعِبادِ وأحوالهم وأعمالهم يجازيهم على مقتضى علمه وخبرته وقل لهم ايضا تذكيرا واستحضارا حكاية عن حال أسلافهم الماضين إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ وينكرون بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على أنبيائه سيما بعد ظهور صدقها وحقيتها وَمع ذلك يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ الذين قد انزل عليهم الآيات من عنده سبحانه بِغَيْرِ حَقٍ بلا رخصة شرعية اى بلا موافقة بشرع ودين وَيَقْتُلُونَ ايضا المؤمنين الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ والعدل مِنَ النَّاسِ الذين يتبعون شرائعهم وينقادون باديانهم ويمتثلون باوامرهم وأحكامهم قد جرى عليهم في الدنيا ما جرى وسيجرى عليهم في الآخرة بأضعاف ذلك لعلهم يتنبهون ويمتنعون والا فَبَشِّرْهُمْ يا أكمل الرسل بِعَذابٍ أَلِيمٍ جزاء لاصرارهم وعنادهم وبالجملة أُولئِكَ المصرون المعاندون هم الَّذِينَ حَبِطَتْ وضاعت بالمرة أَعْمالُهُمْ كلها بحيث لا ينفع لهم عند الله لا فِي الدُّنْيا وَلا في الْآخِرَةِ وَما لَهُمْ عند ربهم مِنْ ناصِرِينَ ليشفع لهم او يعين عليهم من الذين كانوا يدعون الاقتداء بهم ويستبصرون منهم لكونهم ضالين منهمكين بالغفلة بحيث لا حظ لهم من الهداية أصلا أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى الَّذِينَ اى الى إصرار اليهود وعنادهم مع كونهم قد أُوتُوا نَصِيباً كاملا مِنَ الْكِتابِ اى التورية في زعمهم حين يُدْعَوْنَ في الوقائع إِلَى رجوع كِتابِ اللَّهِ مع انهم يدعون الايمان به والعمل بمقتضاه لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حسبما امر الله فيه كيف يتكاسلون ويتهاونون ثُمَّ يترقى تكاسلهم وتهاونهم الى ان يَتَوَلَّى يستدبر وينبذ فَرِيقٌ مِنْهُمْ الكتاب وراء ظهورهم وَهُمْ مُعْرِضُونَ عنه وعن أحكامه بالمرة روى انه عليه السّلام دخل مدارس اليهود فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على اى دين أنت يا محمد فقال على دين ابى ابراهيم عليه السّلام فقال ان ابراهيم كان يهوديا فقال صلّى الله عليه وسلّم هلموا كتابك ليحكم بيننا وبينكم فأنكرا عليه صلّى الله عليه وسلّم وامتنعا عن احضاره فنزلت ذلِكَ التولي والاعراض انما حصل لهم من اعتقادهم الفاسد بِأَنَّهُمْ قالُوا على مقتضى ما اعتقدوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ المعدة لجزاء العصاة إِلَّا أَيَّاماً قلائل مَعْدُوداتٍ سواء كانت ذنوبا كثيرة او قليلة صغيرة كانت او كبيرة وَبالجملة قد غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ اى جزاؤهم على العصيان والطغيان فيما يفترون في شأن دينهم من أمثال هذه الهذيانات منها قولهم هذا ومنها اعتقادهم ان آباءهم الأنبياء هم يشفعون لهم وان عظمت زلتهم ومنها ان يعقوب عليه السّلام ناجى مع الله ان لا يعذب أولاده الا تحلة القسم قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا فَكَيْفَ لا تمسهم النار اذكر لهم وقت إِذا جَمَعْناهُمْ إلينا بعد تفريقهم منا لكسب المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات لِيَوْمٍ آن وشأن لا رَيْبَ فِيهِ عند من يكاشف له وبعد ما جمعنا إياهم وَوُفِّيَتْ ووفرت كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما كَسَبَتْ من الحقائق والعرفان والمعاصي والخذلان وَهُمْ اى كل منهم في ذلك

[سورة آل عمران (3) : آية 26]

اليوم مجزى بما كسب بحيث لا يُظْلَمُونَ فالنيل والوصول يومئذ لأرباب الفضل والقبول والويل والثبور لأصحاب الطرد والخمول أدركنا بلطفك يا خفى الألطاف فاعف عنا يا رحيم يا غفور قُلِ يا ايها المتحقق بمقام الشهود الذاتي المكاشف بوحدة الحق دعاء صادرا من لسان مرتبتك الجامعة الشاملة لجميع المراتب اللَّهُمَّ يا مالِكَ الْمُلْكِ اى المتصرف على الإطلاق المستقل بالالوهية والربوبية بكمال الاستحقاق أنت تُؤْتِي وتعطى بلطفك وأنت تكشف بكمال فضلك وجودك الْمُلْكِ المطلق اى التحقيق بمرتبة التوحيد مَنْ تَشاءُ من خواص مظاهر صفاتك وأسمائك وَأنت تَنْزِعُ وتمنع وتستر بقهرك الْمُلْكِ المذكور مِمَّنْ تَشاءُ من العوام تتميما لمقتضيات أوصاف جمالك وجلالك ولطفك وقهرك وَأنت تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بايصالهم الى فضاء فنائك وَايضا أنت تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بابقائهم وراء حجاب سرادقات عزك وجلالك وبالجملة بِيَدِكَ وبقبضة قدرتك وبمقتضى مشيتك وارادتك الْخَيْرُ «2» كله اى الوجود وظهوره على أنحاء شتى واطوار لا تعد ولا تحصى إِنَّكَ بذاتك وبمقتضى أسمائك وصفاتك عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مظاهر تجلياتك قَدِيرٌ لا تنتهي قدرتك عند مقدور أصلا ومن جملة مقدوراتك انك تُولِجُ اى تدخل وتدرج الى حيث تظهر اللَّيْلَ اى العدم فِي صورة النَّهارِ اى الوجود إظهارا لقدرتك حسب لطفك وجمالك وَتُولِجُ أنت ايضا النَّهارِ اى نور الوجود فِي اللَّيْلِ اى مشكاة العدم إظهارا لقهرك وجلالك وَأنت تُخْرِجُ وتظهر الْحَيَّ الحقيقي الذي هو عبارة عن نور الوجود مع غاية صفائه وظهوره مِنَ الْمَيِّتِ اى العدم الأصلي الذي هو مرآة التعينات وَايضا أنت تُخْرِجُ الْمَيِّتَ اى العدم الجامد الذي ما شم رائحة الحيوة أصلا بامتداد اظلال أسمائك ورش رشحات صفاتك عليه مِنَ الْحَيِّ الذي لا يموت ابدا الا وهو ذاتك وَبالجملة أنت تَرْزُقُ بلطفك وجودك مَنْ تَشاءُ من مظاهرك من موائد فضلك وجودك ونوال إنعامك وإحسانك بِغَيْرِ حِسابٍ تفضلا لهم وامتنانا عليهم بلا مظاهرة احد ومعاونته هب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب ثم لما بين سبحانه ان الهداية الى طريق التوحيد والإضلال عنه انما هي بقدرته واختياره بحيث يؤتى ملك توحيده من يشاء من عباده ويمنعه عن من يشاء أراد ان ينبه على خلص عباده بما يقربهم الى الهداية ويبعدهم عن الضلال فقال تحذيرا لهم وتخويفا لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ المتوجهون نحو توحيد الذات الطالبون المريدون افناء ذواتهم الباطلة في ذات الحق الحقيق بالحقية ليخوضوا في لجج بحر التوحيد ويفوزوا بدرر المعارف والحقائق الكائنة فيها الْكافِرِينَ الساترين بهوياتهم الباطلة وماهياتهم الكثيفة العاطلة المظلمة نور الوجود أَوْلِياءَ من دون المؤمنين ولا يصاحبون معهم ولا يجلسون في مجالسهم موالاة لهم ومواخاة معهم لقرابة طينية وصداقة جاهلية سيما قد خلوا معهم مِنْ دُونِ حضور الْمُؤْمِنِينَ المظاهرين لهم لئلا يسرى كفرهم ونفاقهم إليهم إذ الطبائع تسرق والأمراض تسرى سيما الكفر والفسوق لان الطبائع مائلة إليهما بالطبع وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ولم يترك مصاحبتهم وموالاتهم فَلَيْسَ مِنَ ولاية اللَّهِ وطريق توحيده فِي شَيْءٍ بل هو ملحق بهم معدود من عدادهم بل أسوئهم حالا وأشدهم جرما ووبالا عند الله بعد ما نهاهم الله عنها ولم ينتهوا إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا وتخافوا مِنْهُمْ تُقاةً توجب

_ (2) خص الخير بالذكر لان الوجود خير محض لا شرفيه قطعا منه

[سورة آل عمران (3) : آية 29]

الموالاة والمصاحبة معهم ضرورة من إتلاف النفس والمال والعرض وعند ذلك المحذور موالاتهم جائزة ومواخاتهم معذورة مداراة ومداهنة وَمع وجود تلك الضرورة المرخصة للموالاة الضرورية يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ اى يحذركم ويخوفكم الله اهل العزائم الصحيحة عن نفسه على وجه التأكيد والمبالغة حتى لا تأمنوا عن سخطه ولا تغفلوا عن غضبه ولا تميلوا عنه سبحانه بارتكاب ما نهيكم عنه وَاعلموا ان عموم المحذورات راجعة إِلَى اللَّهِ إيجادا وإظهارا إذ اليه الْمَصِيرُ في مطلق الخير والشر والنفع والضر لا مرجع سواه ولا منقلب الا إياه قُلْ لهم يا أكمل الرسل تذكيرا وعظة وتنبيها لهم على ما في فطرتهم إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ من محبة الأقارب والعشائر أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ المحيط بظواهركم وبواطنكم وَيَعْلَمُ ايضا بعلمه الحضوري جميع ما فِي السَّماواتِ من الكوائن والفواسد ازلا وابدا وَكذا جميع ما فِي الْأَرْضِ منها بحيث لا يغيب عن حضوره شيء مما لمع عليه برق وجوده وَاللَّهُ المتجلى بذاته لذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مظاهر تجلياته قَدِيرٌ بلا فتور ولا قصور يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد يجازيهم على مقتضى علمه وقدرته في النشأة الاخرى. اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ خيرة جزاء ما عَمِلَتْ في النشأة الاولى مِنْ خَيْرٍ انعام واحسان وعمل صالح ويقين وعرفان مُحْضَراً بين يديه يستحضره ويود استعجاله وَكذا تجد كل نفس شريرة ما عَمِلَتْ فيها مِنْ سُوءٍ عمل غير صالح وكفر ونفاق وشرك محضرا بين يديه مشاهدا بين عينيه تستأخره وتتمنى بعده بل تَوَدُّ وتحب لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وزمانا متطاولا بل يتمنى ان لا تلقاه أصلا وَبالجملة يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ بهذا التذكير والتنبيه نَفْسَهُ اى عن نفسه وعن قدرته على وجوه الانتقام وزيادة قهره وغضبه على من استكبر عن أوامره ونواهيه وَاللَّهُ القادر المقتدر على انتقام العصاة رَؤُفٌ عطوف مشفق رحيم بِالْعِبادِ الذين يترصدون نحو الحق بين طرفي الخوف والرجاء معرضين عن كلا جانبي القنوط والطمع قُلْ لهم يا ايها المخلوق على صورتنا المجبول على مقتضيات جميع اوصافنا وأسمائنا المتخلق بجميع أخلاقنا مخاطبا لمن تريد إرشادهم وتبليغهم من البرايا إِنْ كُنْتُمْ ايها الاظلال المنهمكون في تيه الغفلة والضلال تُحِبُّونَ اللَّهَ اى تدعون محبة المبدع المظهر لكم من كتم العدم وتطلبون التوجه الى بابه والتقرب نحو جنابه فَاتَّبِعُونِي بامره وحكمه يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ اى يقربكم الى جنابه ويوصلكم بشرف لقائه وَيَغْفِرْ اى يستر ويضمحل لَكُمْ عن أبصاركم وبصائركم ذُنُوبَكُمْ التي قد حجبتم بها عن مشاهدة جمال الله وجلاله وعن مطالعة آثار أوصافه وأسمائه وَاللَّهُ الهادي لكم الى صراط توحيده غَفُورٌ لكم يرفع موانع وصولكم رَحِيمٌ لكم يوصلكم الى مطلوبكم قُلْ لهم يا أكمل الرسل ايضا أجل أعمالكم وأفضلها اطاعة امر الله واتباع رسول الله المرسل إليكم أَطِيعُوا اللَّهَ في امتثال جميع أوامره وأحكامه واجتناب عموم نواهيه ومحظوراته وأطيعوا الرَّسُولَ المبلغ لكم كتاب الله المبين لكم المراد منه فان اطاعوا طوعا ورغبة فازوا بما فاز به المؤمنون فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن اطاعة الله واطاعة رسوله تعنتا وعنادا فقد كفروا فلهم ما سيجرى عليهم من عذاب الله وغضبه في النشأة الاخرى فَإِنَّ اللَّهَ الهادي لعباده لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ منهم بحيث لا يقربهم الى كنف جواره ولا يرضى عنهم بل يعذبهم ويبعدهم عن عز حضوره. ثم لما وقف سبحانه محبته ورضاه لعباده على متابعة رسوله واطاعة

[سورة آل عمران (3) : آية 33]

حبيبه المصور على صورته المتخلق بأخلاقه صار مظنة ان يتوهم ان نسبة ظهوره سبحانه الى المظاهر كلها على السواء فما وجه التخصيص بامتياز بعض بالمتابعة أشار سبحانه الى دفعه بان من سنتنا تفضيل بعض مظاهرنا على بعض حسب تقربهم إلينا وتخلقهم باخلاقنا وتوجههم نحونا وما هي الا بتوفيقنا عليهم واقدارنا إياهم فقال إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى اى قد اختار واجتبى آدَمَ بالخلافة والنيابة وامر الملائكة الذين يدعون الفضيلة عليه بسجوده وكرمه على سائر مخلوقاته وَقد اصطفى ايضا نُوحاً بالنجاة والخلاص وإغراق جميع من في الأرض بدعائه وَكذا قد اصطفى آلَ إِبْراهِيمَ اى اهل بيته بالإمامة والخلافة المؤيدة لذلك دعا ابراهيم عليه الصلاة والسّلام حسب الهام الله ووحيه إياه ربه بان لا يخلو الزمان عن امامة ذريته الى يوم القيمة وَقد اختار سبحانه ايضا آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ بارهاصات ظاهرة ومعجزات باهرة لم يظهر مثلها من احد مثل إبراء الأكمه واحياء الموتى والولادة بلا أب وغير ذلك من الخوارق المشهودة من عيسى وامه صلوات الله وسلامه عليهما ثم ان اصطفاء الله إياهم ليس مخصوصا بهم بل قد اصطفى منهم ذُرِّيَّةً أخلافا فضلاء بَعْضُها فوق بعض اى أعلى رتبة مِنْ بَعْضٍ في الفضيلة كما قال سبحانه. تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض الآية وَبالجملة اللَّهُ المحيط بسرائر عباده المتوجهين نحو بابه سَمِيعٌ لمناجاتهم الصادرة عن السنة استعداداتهم عَلِيمٌ بما يليق بحالهم حسب قابلياتهم من المراتب العلية والمقامات السنية اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من مناقب آل عمران سيما وقت إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ حين ناجت ربها في سرها بلسان استعدادها وقت ظهور حملها بإلقاء الله إياها رَبِّ يا من رباني بحولك وقوتك لامتثال أوامرك واجتناب نواهيك إِنِّي قد نَذَرْتُ لَكَ طلبا لمرضاتك ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً معتقا من امور الدنيا كلها خالصا مخلصا لعبادتك وخدمة بيتك بحيث لا يشغله شيء سوى الخدمة وقد كان من عادتهم يومئذ تحرير بعض أولادهم الذكور لخدمة البيت المقدس شرفه الله فَتَقَبَّلْ مِنِّي بلطفك ما نذرت لك للتقرب إليك يا رب إِنَّكَ بذاتك وصفاتك وأسمائك أَنْتَ السَّمِيعُ لمناجاة عبادك الْعَلِيمُ بنياتهم وحاجاتهم فَلَمَّا وَضَعَتْها أنثى أيست وقنطت عما نوت ونذرت ومن شدة يأسها قالَتْ متحزنة متحسرة مشتكية الى ربها رَبِّ إِنِّي وان بالغت في اخلاص النية وخلوص الطوية في نذرى لم تقبله منى يا ربي إذ قد وَضَعْتُها أُنْثى والأنثى لا تصلح لخدمة بيتك وَلما امتدت في اظهار التحزن وبث الشكوى والتحسر نوديت في سرها على سبيل الإلهام لا تجزعي ولا تحزني إذ اللَّهُ المطلع لعموم حالاتك سيما لإخلاصك في نيتك ونذرك أَعْلَمُ منك بِما وَضَعَتْ وبما ظهرت منها من البدائع والغرائب والارهاصات الخارقة للعادات وَلَيْسَ الذَّكَرُ الذي قد حرر لخدمة البيت في الازمنة السالفة كَالْأُنْثى هذه إذ يترتب على وجودها من عجائب صنع الله وبدائع قدرته وحكمته ما لم يترتب على سائر المذكر لا في الزمان السابق ولا في الزمان اللاحق وَبعد ما سمعت بسمع سرها ما سمعت قالت ناشطة فرحانة إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ ليكون اسمها مطابقا لمسماها لان لفظة مريم في لغتهم بمعنى العابدة وَبعد ما تحققت عندها بالهام الله إياها وقاية الله إياها وذريتها قالت مفوضة الى الله إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها ايضا مِنَ إغواء الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ واغرائه ليكون هي وهم دائما في حفظك وحماك ابدا فَتَقَبَّلَها رَبُّها ما نذرت له

[سورة آل عمران (3) : آية 38]

بِقَبُولٍ حَسَنٍ حتى نشطت وفرحت بمكاشفة اللطف من قبل الحق بعد ما أيست وقنطت وَبعد قبول الحق إياها قد أَنْبَتَها ربها بلطفه ورباها بكرمه حتى صارت نَباتاً حَسَناً مظهرا لعجائب صنعه وبدائع حكمته وَبعد ما تقبلها ربها وأنبتها ورباها هكذا كَفَّلَها اى قبل كفالتها وحضانتها من احبار البيت زَكَرِيَّا روى ان حنة أم مريم لما كوشفت بأمرها بالهام الله إياها لفتها في خرقة وحملتها الى المسجد ووضعتها عند الأحبار المجاورين فيه على مقتضى العادة المستمرة وقالت دونكم هذه النذيرة فاختلفوا في حضانتها لأنها كانت بنت امامهم وملكهم فقال زكريا انا أحق بحضانتها لان خالتها عندي فأبوا الى ان اقترعوا وكانوا سبعة وعشرين فانطلقوا الى نهر فالقوا فيه أقلامهم فطفى قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها زكريا في بيت لا باب له إلا كوة في سقفه فلما أراد زكريا ان يأتى برزقها نزل منها ولما خرج أغلقها وقفلها ثم لما مضت عليها مدة صارت حالها هكذا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ لتفقد حالها وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً رغدا من ألوان الأطعمة والفواكه وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف والصيف في الشتاء فتعجب من حالها الى ان سألها منها حيث قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا اى من اين لك هذا الرزق الآتي الذي لا يشبه بارزاق الدنيا ولا فاكهتها في الأرض لا على فوق العادة والأبواب مغلقة عليك قالَتْ بالهام الله إياها ما هُوَ الا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ المتكفل لأرزاق عباده إِنَّ اللَّهَ المراقب المحافظ لتربية مظاهره يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ما يشاء كثيرا واسعا بِغَيْرِ حِسابٍ اى بلا إحصاء وتعديد بلا انتظار وترقب بل من حيث لا يحتسب. ثم لما سمع زكريا منها ما سمع ورأى ما رأى هُنالِكَ اى في تلك الحالة والزمان دَعا زَكَرِيَّا المراقب لنفحات الحق في جميع حالاته رَبَّهُ الذي رباه بتعرض نفحاته لإصلاح حاله متمنيا في دعائه خلفا مثلها يحيى اسمه حيث قالَ مناجيا رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً زكية طاهرة عن جميع الرذائل والنقائص كما وهبتها لامرأة عمران هذه إِنَّكَ باحاطتك على سرائر عموم عبادك وضمائرهم وعلى جميع مقاصدهم وحاجاتهم فيها سَمِيعُ الدُّعاءِ اى مطلق الدعاء والنداء الصادر عن السنة استعداداتهم وقابلياتهم بإلقائك إياهم وإلهامك على قلوبهم. ثم لما كان دعاؤه عليه السّلام صادرا عن عزيمة صحيحة وارادة صادقة واردا في وقت قدر الله له في علمه بادر سبحانه الى اجابته وامر الملائكة بالتبشير فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ بمقتضى الأمر الإلهي ووحيه وَهُوَ في تلك الحالة مترصد للاجابة قائِمٌ منتظر مقارن لانواع الخضوع والتذلل يُصَلِّي لله ويميل نحوه مقبلا عليه بعموم أعضائه وجوارحه فِي الْمِحْرابِ المعد للانابة والاستقبال قائلين له منادين عليه يا زكريا اعلم أَنَّ اللَّهَ السميع بمناجاتك ودعائك يجيبك ويُبَشِّرُكَ بِيَحْيى اى بابن مسمى من عنده بيحيى لتضمن دعائك بطلب من يخلفك ويحيى اسمك. ثم لما كان الباعث لك على هذا الدعاء مشاهدتك الخوارق والارهاصات الظاهرة من مريم رضى الله عنها صار ابنك الموهوب لك مُصَدِّقاً لابنها الموهوب لها من لدنا بلا سبق الأسباب العادية سيما بلا مباشرة زوج بل بِكَلِمَةٍ اى بمجرد كلمة صادرة مِنَ اللَّهِ مسمى من عنده بالمسيح وَمع كونه مصدقا بعيسى عليه السّلام يصير يحيى في نفسه سَيِّداً فائقا على اهل زمانه بالزهد والتقوى فانه عليه السّلام كان في مدة حياته ما هم بمعصية قط وَمع كونه يحيى سيدا ورئيسا في قومه كان حَصُوراً مبالغا في حبس نفسه عن مشتهياتها مع القدرة عليها وَبسبب اتصافه بالأوصاف المذكورة يصير

[سورة آل عمران (3) : آية 40]

نَبِيًّا مِنَ زمرة الأنبياء الصَّالِحِينَ لتبليغ احكام الله الى عباده وهدايتهم الى جنابه ثم لما سمع زكريا من الملائكة ما سمع من البشارة قالَ متحسرا مستبعدا حصول الولد منه لكونه على خلاف جرى العادة مناجيا مع ربه على سبيل التأسف رَبِّ يا من رباني بنعمك الى كبر سنى أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ اى من اين يحصل لي ولد منى في كبر سنى وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ غايته وَالحال ان امْرَأَتِي عاقِرٌ عقيم ذات عقر من الأولاد في اصل الخلقة ومع ذلك كبيرة اليوم لا ترجى منها الولادة وبعد ما قد بث الشكوى نحو الحق متحسرا متأسفا قالَ له جبريل بوحي الله إياه لا تستبعد من كمال قدرة الله أمثال هذا فانه سبحانه كَذلِكَ يخلق عموم ما يشاء سبحانه بلا سبب يوافق العادة إذ اللَّهُ المقتدر المختار يَفْعَلُ ويوجد ما يَشاءُ من الموجودات ابداعا واختراعا بلا سبق مادة ومدة واسباب عادية فلك ان ترفع غشاوة الأسباب الحاجبة عن البين وتنسب ما جرى في ملكه اليه سبحانه بلا رؤية الوسائط والأسباب إذ لا حجاب عند اولى الألباب بل كل ما صدر عنه لا يتوقف على شيء من سوابقه ولا يتوقف عليه شيء من لواحقه عند اولى البصائر الناظرين بنور الله في تجددات تجليات الوجود الإلهي ثم لما تفطن زكريا عليه السّلام من هذا الكلام ما تفطن قالَ مستسرعا مستنشطا رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم اجْعَلْ لِي بفضلك آيَةً امارة وعلامة اعرف بها الحمل والحبل ليفرح بها قلبي وأخلص عن التردد والانتظار قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ اى أنت لا تطيق التكلم معهم لعدم مساعدة آلاتك عليه مدة ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ولا تعلمهم حوائجك إِلَّا رَمْزاً اشارة بيد ورأس وغير ذلك وَبعد ما حبست نفسك عن التكلم والتنطق اذْكُرْ رَبَّكَ في نفسك ذكرا كَثِيراً وَسَبِّحْ اى نزه ربك عن مطلق النقائص تسبيحا مقرونا بِالْعَشِيِّ اى جميع أجزاء الليل وَالْإِبْكارِ اى جميع أجزاء النهار لتستوعب أنت جميع أوقاتك وآنائك بتسبيحه. من هذا تفطن العارف ان الداعي المناجى الى الله المستجيب من لدنه سبحانه لا بد له ان يفرغ قلبه عن غير الله ويستوعب أوقاته بذكره بل يكل لسانه عن ذكر الغير مطلقا حتى يفوز بمطلوبه ويجيب له بفضله وطوله وَاذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من مدائح آل عمران واصطفاء الله إياهم سيما وقت إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ بأمر الله ووحيه لمريم رضى الله عنها ملهمين لها منادين على سرها أبشري يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ الذي أظهرك من كتم العدم ورباك بأنواع اللطف والكرم قد اصْطَفاكِ واختارك لخدمة بيته مع انه لم يعهد اختيار النساء للخدمة وَطَهَّرَكِ بفضله عن مطلق الخبائث والأدناس العارضة للنسوان وَاصْطَفاكِ اى قد خصصك وفضلك بهاتين الخصلتين الحميدتين عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ وانما خصها سبحانه بما خصها لتكون آية ومقدمة لعموم ما يترتب على وجودها ويظهر منها من البدائع التي قد اودعها الله في نفسها من حملها بلا مباشرة احد بل بمجرد كلمة ملقاة من عنده وإرهاصات ومعجزات صدرت منها ومن ابنها بحيث لم يظهر مثلها من الرسل والأنبياء ثم لما أخبرت الملائكة إياها باصطفائه سبحانه نادتها الملائكة ثانيا بأمر الله ايضا تعليما لها التوجه والرجوع الى الله على وجه الخضوع والتذلل والإخبات والخشوع يا مَرْيَمُ المختارة المقبولة عند الله اقْنُتِي اى توجهي وتضرعي لِرَبِّكِ الذي رباك بلطفه وقبلك نذيرة من أمك واصطفاك على نساء العالمين بأنواع الفضائل شكرا لما تفضل عليك وَاسْجُدِي تذللي واخضعى ملقية جباهك على تراب المذلة والهوان

[سورة آل عمران (3) : آية 44]

لأداء شيء من حقه وَارْكَعِي دائما لخدمة بيته وتطهيره من الأوساخ والأدناس مَعَ الرَّاكِعِينَ المحررين المنحنين قامتهم دائما على خدمة الله وخدمة بيته ذلِكَ المذكور من اصطفاء الله آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران ولا سيما قصة مريم وابنه وامه وزكريا وزوجته وابنه مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ اى من جملة الاخبار المغيبة المجهولة عندك نُوحِيهِ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تفضلا وامتنانا لك مع خلاء خاطرك وضميرك عنها ولا معلم لك سوى الوحى والإلهام منا مع كونك اميا عاريا عن مطالعة القصص والتواريخ وَالحال انك بهويتك وشخصك ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ وقت إِذْ يُلْقُونَ اى الأحبار أَقْلامَهُمْ للاقتراع في انهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ ويحفظ مَرْيَمَ وَايضا ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ وقت إِذْ يَخْتَصِمُونَ في أمرها وحفظها وانما نوحيه ونلهمه إليك يا أكمل الرسل لتكون آية لك في صدق دعواك النبوة والرسالة والإنكار على أمثال هذه الاخبارات والانباآت الصادرة عن الأنبياء والأولياء المستندة الى محض الإلهام والوحى النازل من عند العليم العلام انما ينشأ من العقل القاصر المموه بالوهم المزخرف والخيال الباطل المضل عن طريق الكشف واليقين والا فمن صفا عقله المفاض له من حضرة العلم المحيط الإلهي عن كدورات الوهم والخيال وانكشفت سريرة سره بسرائر الأقوال واسرار الأحوال ومرموزات الاحكام والأفعال ظهر عنده بلا سترة وحجاب ان من النفوس البشرية من تترقى في هذه النشأة عن عالم الشهادة الى عالم الغيب المطلق واتصلت بالمبادى العلية التي هي الصفات الإلهية بحيث قد اضمحلت حصة ناسوتها بالمرة وغلبته الحصة اللاهوتية عليها وحينئذ ظهرت منها بامداد الحضرة العلية العلمية الإلهية واردات غيبية ومكاشفات قلبية وملاحظات سرية ومشاهدات عينية بعضها متعلق بعالم الغيب وبعضها بالشهادة كالاخبار عن الوقائع الماضية والآتية كما نسمع ونشاهد أمثال ذلك من بعض بدلاء الزمان ادام الله بركته على مفارق اهل اليقين والعرفان في حالتي قبضه وبسطه كلمات وحكايات متعلقة بوقائع وقعت في البلاد النائية ونحن نجزم بوعها كما نسمع ونعلم ايضا جزما انه حاضر عند وقوعها وايضا نجزم بانه لم يسمع من احد قط لانسلاخه عن مطلق الاستخبار والاستفسار على الوجه المتعارف بين الناس ونسمع ايضا منه مد الله ظله أحوالا ووقائع قد جرت بيننا وبينه بمدة متطاولة وزمان ممتد قد يستحضرها في خلواته ويتلفظ بها على وجهها بلا فوت دقيقة وشوب شائبة ونحن إذا راجعنا وجداننا لم نستحضر الأمور التي جرت علينا في يومنا بل في ساعتنا هذه بلا فوت شيء منها وبالجملة وقوع أمثال ذلك منه مد ظله اكثر من ان تحصى. ومن له ادنى بصيرة وايمان كامل ويقين صادق بطريق الكشف والإلهام والوحى الإلهي لا يشتبه عليه أمثال ذلك الانباآت والاخبارات سيما من الأنبياء والرسل الكرام سيما من أفضلهم واكملهم صلوات الله عليه وعليهم أصلا بل يعلم يقينا ان الحكمة والمصلحة في اظهار نوع الإنسان على صورة الرّحمن وإرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم انما هي لهذا التفطن والتنبه غاية ما في الباب انه من لم يجعل الله له نورا فما له من نور. اذكر ايضا يا أكمل الرسل لمن تبعك من مدائح مريم وعيسى وقت إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ منادين على سرها مبشرين لها مخاطبين إياها يا مَرْيَمُ المختارة المصطفاة إِنَّ اللَّهَ المتفضل عليك بأنواع اللطف والكرم يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ صادرة مِنْهُ مكونة لك منك ابنا بلا أب إظهارا لكمال قدرته ليكون إرهاصا لك معجزة لابنك اسْمُهُ المعروف النازل عليه من عنده سبحانه الْمَسِيحُ لفظ سرياني معناه المبارك لأنه سبحانه بارك عليه وكثر

[سورة آل عمران (3) : آية 46]

الخير بسببه على عموم البرايا وعلمه الشخصي بين الأنام عِيسَى وهو من الأعلام العجمية وكنيته ابْنُ مَرْيَمَ إذ لا أب له حتى يكنى به وهو مع كونه بلا أب وَجِيهاً مشهورا معروفا مرجعا للأنام فِي الدُّنْيا بالنبوة والرسالة يتوجه اليه الناس في امور معاشهم ومعادهم وَفي الْآخِرَةِ ايضا لرجوعهم اليه للشفاعة وَكيف لا يشفع هو للعصاة مع كونه مِنَ الْمُقَرَّبِينَ عند الله وَعلامة تقربه انه يُكَلِّمُ النَّاسَ بما يتعلق بأمور الدين والدنيا حال كونه طفلا فِي الْمَهْدِ وَحال كونه كَهْلًا على منوال واحد بلا تفاوت زيادة ونقصان وبالجملة لنجابة عرقه في حالتي الكهولة وَالطفولة مِنَ الصَّالِحِينَ للرسالة والنبوة فلما سمعت مريم ما سمعت تضرعت الى ربها واشتكت حيث قالَتْ رَبِّ يا من رباني بالستر والصلاح والعبادة والفلاح أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ اى من اين يحصل لي ولد وَأنت تعلم يا ربي انى لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ومن سنتك ظهور الولد بعد مباشرة الفحل قالَ سبحانه إشفاقا لها وازالة لتشكيها كَذلِكِ اى مثل ايلادك بلا مساس احد وجود جميع الأشياء الظاهرة من كتم العدم ظهورا إبداعيا اللَّهُ يَخْلُقُ ويظهر بقدرته الكاملة جميع ما يَشاءُ بلا سبق مادة ومدة بل إِذا قَضى وأراد سبحانه أَمْراً من الأمور الثابتة في حضرة علمه فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ تنفيذا لقضائه مجرد كلمة كُنْ فَيَكُونُ ويوجد بلا تراخ ومهلة وبلا توقف على شرط وارتفاع مانع وحالك التي أنت تتعجبين منها وتستبعدين وقوعها من هذا القبيل ولا تخافي ولا تحزني من التهمة والتعيير والتشنيع والفضيحة إذ لابنك خصائص ومعجزات قد رفعت عنك جميع ما يشينك ويعيبك إذ لا يشتبه على ذي فطنة ان ولد الزنا لا يتصف بأمثال هذه الخصال العلية والخوارق السنية وَمن جملتها انه يُعَلِّمُهُ سبحانه من لدنه بلا تعليم احد من بنى نوعه الْكِتابَ اى العلوم المتعلقة بالشرائع والتدابير الملكية الشهادية وَالْحِكْمَةَ اى العلوم اللدنية المتعلقة بالحقائق الغيبية وَيعلمه ايضا التَّوْراةَ المنزل على موسى صلوات الله عليه وَينزل عليه خاصة الْإِنْجِيلَ من عنده وَبعد ما انزل عليه الإنجيل قد أرسله رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ليدعوهم الى طريق الحق ويهديهم الى صراط مستقيم وبالجملة نؤيده بالآيات والمعجزات الباهرة الظاهرة من يده الدالة على صدقه الى حيث يقول بعد ما أرسله الله أَنِّي بمقتضى امر ربي ووحيه الى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ دالة على نبوتي ورسالتي نازلة مِنْ رَبِّكُمْ وهي أَنِّي أَخْلُقُ اى اصور واقدر لَكُمْ بين أيديكم باقدار الله إياي مِنَ الطِّينِ الجامد هيئة وصورة كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ وصورته اى مثالا لا حس له ولا حركة فَأَنْفُخُ فِيهِ بعد تكميل الصورة فَيَكُونُ طَيْراً طيارا ذا حس وحركة ارادية كسائر الطيور وبالجملة ذلك التقدير والنفخ يصدر عنى بِإِذْنِ اللَّهِ وبمقتضى قدرته الشاملة وارادته الكاملة وَكذا أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ المكفوف العينين وَالْأَبْرَصَ الذي لا يرجى برؤه وَأعظم من ذلك انى أُحْيِ الْمَوْتى القديمة بِإِذْنِ اللَّهِ وكمال قدرته وهذه الخوارق المذكورة مما لا اطلاع لكم على لميته بعد الوقوع ايضا وَمن الخوارق التي لكم اطلاع عليه بعد ما وقعت انى أُنَبِّئُكُمْ وأخبركم بِما تَأْكُلُونَ من الطعام والفواكه وَما تَدَّخِرُونَ منها فِي بُيُوتِكُمْ احتياطا وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من المعجزات والخوارق التي ما جاء به احد من الأنبياء لَآيَةً ظاهرة دالة على نبوتي ورسالتي لَكُمْ لإرشادكم وهدايتكم إِنْ كُنْتُمْ

[سورة آل عمران (3) : آية 50]

مُؤْمِنِينَ بالله وبإرساله الرسل وانزاله الكتب وَمع هذه الآيات الطاهرة والمعجزات الباهرة قد جئتكم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ المشتملة على ظواهر الاحكام بل لجميع الكتب المنزلة على عموم الأنبياء والرسل الماضين صلوات الله عليهم أجمعين ولعموم اديانهم وشرائعهم إذ من جملة امارات النبوة والرسالة تصديق الأنبياء والرسل الذين مضوا والكتب التي جاءوا بها من قبله سبحانه وَايضا قد جئتكم لِأُحِلَّ لَكُمْ في دينكم وملتكم المنزل من عند الله على بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ في الأديان الماضية ومن سنته سبحانه نسخ بعض الأديان ببعض وان كان الكل نازلا من عنده ولمية امر النسخ ما مر في سورة البقرة في قوله ما ننسخ من آية الآية وَبالجملة انى قد جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ قاطعة ساطعة نازلة مِنْ رَبِّكُمْ دالة على توحيده سبحانه ناشئة من عنده انما أفردها لان كل واحد من المذكورات يكفى لثبوت نبوته وبعد ما ظهر منه الكل فَاتَّقُوا اللَّهَ واحذروا من غضبه ان لا تؤمنوا له سيما بعد وضوح الدلائل القاطعة وَبالجملة أَطِيعُونِ اى أطيعوني في عموم ما قد جئت به من لدنه سبحانه إِنَّ اللَّهَ المدبر المصلح لحالي وحالكم هو رَبِّي وَرَبُّكُمْ قد احسن تربيتي وتربيتكم بان أرسلني إليكم وأيدني بأنواع المعجزات فَاعْبُدُوهُ حق عبادته كي تعرفوه حق معرفته واعلموا ان هذا اى طريق العبادة والايمان وسبيل المعرفة والإيقان صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ موصل الى اليقين والعرفان فعليكم ان تسلكوه على الوجه الذي أمرتم بسلوكه والله المستعان يوصلكم الى غاية مبتغاكم ونهاية مقصدكم ومرماكم فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى اى أشعر وأدرك بنور النبوة مِنْهُمُ الْكُفْرَ وعدم تأثرهم بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة قالَ مستفهما مستفسرا إظهارا لمحبتهم واختيارا لهم على مقتضى رفق النبوة مَنْ أَنْصارِي وأعواني في هداية المضلين إِلَى اللَّهِ وطريق توحيده قالَ الْحَوارِيُّونَ اى الجماعة من أصحابه المنسوبة الى الحور الذي هو البياض سموا به لصفاء عقائدهم عن كدورة النفاق والشقاق وخلوص طويتهم بالاتفاق والوفاق نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وأعوان رسوله ننصرك لدى الحاجة حسب وسعنا وطاقتنا في اجراء أحكامه وتنفيذ أوامره إذ قد كنا آمَنَّا بِاللَّهِ المرسل للرسل الذي نزل الكتاب لتبليغك إيانا وَاشْهَدْ أنت ايها الداعي للخلق الى الحق لنا يوم العرض الأكبر عند الملك المقتدر بِأَنَّا مع كوننا مؤمنين مخلصين مُسْلِمُونَ منقادون مطيعون لما جئت به من عند ربنا لإصلاح حالنا ولما اعترفوا بالإيمان بالله وبنصرة رسوله المبلغ لأحكامه وأشهدوه على ايمانهم وإسلامهم ناجوا مع الله مخلصين مخبتين في سرهم حيث قالوا رَبَّنا يا من ربانا بإرسال الرسل وإنزال الكتب قد آمَنَّا بتوفيقك وبإرشاد رسلك وهدايتهم بِما أَنْزَلْتَ من الكتاب المبين لأحكامك المتعلقة بسرائر توحيدك وَمع الايمان به قد اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ المنزل عليه ممتثلين بجميع أوامره الموصلة الى الكشف والشهود وبالجملة فَاكْتُبْنا بفضلك وجودك مَعَ الشَّاهِدِينَ المشاهدين الذين لا يشاهدون في فضا الوجود سوى شمس ذاتك وتجلياتها وَبعد ما ظهر عيسى صلوات الله عليه على من ظهر من الكفرة وغلب عليهم قد مَكَرُوا واحتالوا اى الكفرة لدفعه وقتله بان وكلوا عليه من يقتله غيلة وَمَكَرَ اللَّهُ الرقيب عليه المراقب لحفظه في انجائه ورفعه الى السماء وإلقاء شبهه على قالب من اغتال عليه حتى قتل مجانا على مظنة انه هو عليه السّلام مع انه قد رفع الى السماء وَاللَّهُ المنتقم عن من ظلم لأجل من ظلم خَيْرُ الْماكِرِينَ اى أقوى المحتالين واغلبهم على من اغتال عليه اذكر

[سورة آل عمران (3) : آية 56]

إِذْ قالَ اللَّهُ اعلاما لعيسى عليه السّلام حين هموا بقتله وعينوا من اغتال عليه وهو غافل عن كيدهم يا عِيسى إِنِّي بغلبة لاهوتيتى عليك مُتَوَفِّيكَ ومصفيك عن كدر ناسوتيتك المانعة من الوصول الى مقر عز اللاهوت وَبعد تصفيتك عن شوب التعلقات الناسوتية رافِعُكَ بعد ارتفاع موانع وصولك إِلَيَّ إذ لا مرجع لك غيرى وَبعد رفعك وجذبك الى مُطَهِّرُكَ ومزكيك من خبائث مطلق الرذائل سيما مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اى ستروا بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الذات الظاهرة المتجلية على عموم الذرات وَبعد رفعك وإعلاء قدرك جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ وآمنوا بك في جميع ما جئت به لإصلاح حالهم فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا اى أعلى رتبة وارفع قدرا ومكانا منهم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بحيث قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ولهم عذاب اليم وبعد ما ظهر عيسى عليه السّلام لم يتفق غلبة اليهود أصلا بل صاروا مغلوبين منكوبين دائما الى الآن بل الى انقضاء الزمان ثُمَّ قال سبحانه بلسان التوحيد على سبيل التنبيه والتعليم لعيسى ولمن آمن له ولمن أنكر عليه وكفر إِلَيَّ لا الى غيرى مَرْجِعُكُمْ ومنقلبكم جميعا في النشأة الاخرى ايها المختلفون في الدين والإطاعة والايمان والكفر في النشأة الاولى فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ بعد رجوعكم الى فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ على مقتضى علمي وإرادتي ثم فصل سبحانه حكمه بقوله فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وستروا سبيل الحق الظاهر عن مشكاة النبوة والرسالة عنادا واستكبارا وأنكروا الأنبياء وكذبوهم بعموم ما جاءوا به من الاحكام والمواعظ والحكم والعبر وأصروا عليها فَأُعَذِّبُهُمْ اى اطردهم وابعدهم عن ساحة عز الحضور عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بأنواع المذلة والصغار وضرب الجزية والاجلاء وَفي الْآخِرَةِ بجحيم الخزي والخذلان وسعير الطرد والحرمان وَما لَهُمْ بعد ظهور الدين الناسخ لعموم الأديان الماضية مِنْ ناصِرِينَ لا من الأنبياء الذين يدعون الايمان بهم وبدينهم وكتابهم ولا من غيرهم حتى ينصروهم وينقذوهم من عذاب الله لتركهم العمل بالناسخ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالدين القويم والكتاب الناسخ واتبعوا النبي الذي جاء به من عند ربه وَمع الايمان والإذعان قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة فيه تأييدا وتأكيدا فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ اى يوفر عليهم سبحانه أجور أعمالهم بأضعاف ما عملوا تفضلا عليهم لمحبة الله إياهم بسبب امتثال أوامره واطاعة رسله وَاللَّهُ الهادي لعموم عباده لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن حدوده المنزلة على رسله المكاشفين بحقيقة توحيده وبالجملة ما جراهم وبعثهم على الظلم والخروج الا عقولهم المنخسفة بظلام الوهم المضل عن الطريق المستبين ذلِكَ المذكور من انباء عيسى عليه السّلام وغيره هو الذي نَتْلُوهُ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل مع كونك خالي الذهن عنه ولم تتعلم ايضا من معلم بشر وأنت أمي لا تقدر على الاستفادة والإملاء من القصص والتواريخ بل انما هي مِنَ الْآياتِ المنزلة عليك من عندنا الدالة على نبوتك ورسالتك وَمن جملتها الذِّكْرِ الْحَكِيمِ اى الكلام المحكم المشتمل على الحكم المتقنة والاحكام المبرمة الصادرة عن محض الحكمة بحيث لا يأتيه الباطل ولا يعتريه النسخ والتبديل ثم قال سبحانه على سبيل التنبيه والتذكير إِنَّ مَثَلَ عِيسى اى شانه وقصته الغريبة والخارقة للعادة وهي وجوده بلا أب عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ وشانه في إبداء الله إياه وإيجاده بل قصة آدم اغرب من قصته إذ لا أب له ولا أم بل خَلَقَهُ اى قدره وصوره سبحانه مِنْ تُرابٍ جماد جامد ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ بشرا حيا فَيَكُونُ بالفور حيوانا ذا حس وحركة

[سورة آل عمران (3) : آية 60]

ارادية وادراك وفهم وبالجملة هذا الكتاب المتلو عليك يا أكمل الرسل هو الْحَقُّ المطابق للواقع النازل إليك لتأييدك وتصديقك في دعواك الرسالة المحقق الثابت المنزل مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ أنت في حقيته مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين بمقتضى عقولهم السخيفة فَمَنْ حَاجَّكَ اى جادلك وخاصمك فِيهِ اى في امر عيسى وشانه من النصارى سيما مِنْ بَعْدِ ما قد جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ اليقيني المنزل من عندنا المستنبط من كتابنا المبين بشأنه وظهوره بلا أب فَقُلْ لهم حين خاصموك تَعالَوْا هلموا ايها المجادلون المدعون ابنية عيسى لله المفرطون في امره نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ونجتمع نحن وأنتم في مجمع عظيم ثُمَّ نَبْتَهِلْ اى نتباهل بان يدعو كل منا ومنكم الى الله فَنَجْعَلْ نحن وأنتم لَعْنَتَ اللَّهِ اى طرده وتبعيده عَلَى الْكاذِبِينَ منا المفترين على الله بأمثال هذه الخرافات المستبعدة عن شانه سبحانه حتى يتميز الصادق من الكاذب ويمتاز الحق عن الباطل. روى انهم لما دعوا الى المباهلة قالوا حتى ننظر ونتأمل فلما خلوا مع ذا رأيهم قالوا له ما ترى في هذا الأمر قال والله لقد عرفتم انه هو النبي الموعود في كتابكم ولقد جاءكم بالفصل في امر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا الا هلكوا فان أبيتم الا ألف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا فاتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد غدا محتضنا الحسين أخذا بيد الحسن وفاطمة تمشى خلفه وعلى خلفها وهو يقول صلّى الله عليه وسلّم إذا انا دعوت فآمنوا وبعد ما رأوهم كذلك قال أسقفهم يا معشر النصارى انى لأرى وجوها لو سألوا الله ان يزيل جبلا من مكانه لأزاله البتة فلا تبأهلوا فتهلكوا وبعد ما الجؤا الى الهدنة التزموا الجزية فأعطوا الفى حلة حمراء وثلثين درعا من حديد فقال عليه السّلام والذي نفسي بيده لو باهلوا لمسخوا قردة او خنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولا ستأصل الله نجران واهله حتى الطير على الشجر قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا إِنَّ هذا المذكور من نبأ عيسى ومريم عليهما السّلام لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ المطابق للواقع فلا تكفروا باعتقاد ابنية عيسى لله وزوجية مريم وَلا تقولوا بالأقانيم والتثليث إذ ما مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق في الوجود إِلَّا اللَّهُ الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا وَإِنَّ اللَّهَ الحق الحقيق بالحقية المتصف بالديمومية المتوحد بالقيومية لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القاهر للاغيار مطلقا الْحَكِيمُ في إظهارها على مقتضى ارادته واختياره فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن الحق سيما بعد ظهور الدلائل والشواهد اعرض عنهم يا أكمل الرسل ولا تجادل معهم فَإِنَّ اللَّهَ المنتقم لمن اعرض عن سبيله عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون في الأرض بإفساد عقائد ضعفاء العباد بصرفهم عن طريق الحق والحادهم عن الصراط المستقيم قُلْ لهم يا أكمل الرسل امحاضا للنصح كلاما صادرا عن لسان الحكمة والتوحيد خاليا عن وصمة الغفلة والتقليد يا أَهْلَ الْكِتابِ الذين يدعون الايمان بوحدة الحق وحقية كتبه ورسله تَعالَوْا نتفق ونراجع إِلى كَلِمَةٍ حقة حقيقة سَواءٍ حقيتها وحقيقتها بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ مسلمة ثبوتها عندنا وعندكم بلا خلاف منا ومنكم أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ المعبود بالحق المستحق للعبادة بالأصالة وَلا نُشْرِكَ بِهِ في عبادته شَيْئاً من مصنوعاته وَلا يَتَّخِذَ ايضا بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً واجب الإطاعة والانقياد مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد بالالوهية المنفرد بالمعبودية وان قبلوا قولك واتفقوا عليه واطاعوا فقد آمنوا كما آمنتم فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن الكلمة الحقية المسلمة وانصرفوا عنها عنادا واستكبارا فَقُولُوا لهم ايها المؤمنون

[سورة آل عمران (3) : آية 65]

إلزاما وتبكيتا اشْهَدُوا ايها المنكرون الجاحدون بِأَنَّا لا أنتم مُسْلِمُونَ موحدون مؤمنون بالله مصدقون بجميع ما جاء من عند الله ثم قل لهم يا أكمل الرسل مناديا لهم على سبيل الإلزام يا أَهْلَ الْكِتابِ المفرطين المسرفين لِمَ تُحَاجُّونَ وتجادلون عنادا ومكابرة فِي شأن جدي إِبْراهِيمَ الخليل بانه يهودي او نصراني وَالحال انه ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ المبين لليهودية وَالْإِنْجِيلُ المبين للنصرانية إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ بمدة متطاولة أَفَلا تَعْقِلُونَ أنتم ايها المكابرون في هذه الدعوى ولا تتنبهون بكذبها وعدم مطابقتها للواقع وبالجملة ها أَنْتُمْ ايها الحمقاء العمياء في امور الدين هؤُلاءِ الهلكى الضالون المصرون على الكفر والعناد قد حاجَجْتُمْ وجادلتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مذكور مثبت في كتابكم من بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم وحليته وأوصافه فتغيرونه وتحرفونه مكابرة وعنادا بعد ما ظهر عندكم صدقه وحقيته فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مثبت مذكور في كتابكم من يهودية ابراهيم ونصرانيته فتغيرونه وتنسبون الى كتابكم ما لم يذكر فيه افتراء ومراء وَبالجملة اللَّهُ المطلع الغيور يَعْلَمُ منكم ما حرفتم وما افتريتم ويعاقبكم على مقتضى علمه وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ولا تعتقدون بعلمه على ما فرطتم فيه ثم قال سبحانه ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا لان موسى عليه السّلام انما جاء بعده بألف سنة وَلا نَصْرانِيًّا لان عيسى عليه السّلام انما جاء بألفي سنة وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط مثل افراط اليهود والنصارى في عزير وعيسى وتفريطهم في انكار محمد صلّى الله عليه وسلّم بل كان مُسْلِماً معتدلا مستويا على صراط العدالة والتوحيد وَما كانَ في حال من الأحوال مِنَ الْمُشْرِكِينَ الضالين عن طريق التوحيد بنسبة الحوادث الكائنة في الأقطار الى الأسباب والوسائل العادية اصالة واستقلالا وبالجملة إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ وأقربهم دينا وأشدهم محبة ومودة لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ من أمته وتدينوا بدينه وملته وامتثلوا بجميع ما جاء به من عند ربه وَهذَا النَّبِيُّ المبعوث من شيعته المنتسب الى ملته المنشعب من اهل بيته وزمرته وَالَّذِينَ آمَنُوا بهذا النبي وبكتابه الناسخ لعموم الكتب السالفة المبين لطريق التوحيد الذاتي وَاللَّهُ الهادي لعموم عباده الى جادة توحيده وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ الموحدين الذين يريدون وجه الحق في عموم أحوالهم ومقاماتهم لذلك ينصرهم ويولى امور دينهم بحيث لا يشغلهم عن التوجه نحوه مزخرفات الدنيا الشاغلة العائقة عن التوجه الحقيقي ثم قال سبحانه وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لخباثة نفوسهم وشدة بغضهم المرتكز في قلوبهم حسدا عليكم وعلى ظهور دينكم لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ويحرفونكم تغريرا وتلبيسا عن جادة الشريعة وسبيل الايمان والتوحيد نزلت في اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا ومعاذا الى اليهودية وَالحال انهم ما يُضِلُّونَ باضلالهم هذا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ إذ يضاعف عليهم العذاب بسبب هذا الإضلال وَهم ما يَشْعُرُونَ ضرر هذا الضلال والإضلال ونكاله ثم قال سبحانه امحاضا للنصح يا أَهْلَ الْكِتابِ المدعين الايمان بموسى وعيسى عليهما السّلام والتصديق بكتابهما لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ المنزلة فيهما الناطقة على بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالحال انه أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ فيهما أوصافه ونعوته وتنتظرون الى ظهوره وبعثته وبعد ما ظهر وبعث لم انكرتم عليه عنادا وكفرتم به استكبارا ومع ذلك قد غيرتم وحرفتم كتابكم عنادا ومكابرة يا أَهْلَ الْكِتابِ المحرفين لكتاب الله لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ الظاهر البين المكشوف المنزل من

[سورة آل عمران (3) : آية 72]

عند الله بِالْباطِلِ المموه المزخرف المختلق من عند انفسكم وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ الثابت الذي هو بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالحال انكم أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حقيته في نفوسكم ولا تظهرونه حسدا وبغيا عدوانا وظلما وَمن شدة حسدهم ونهاية بغضهم وشكيمتهم انهم قد احتالوا ومكروا واستخدعوا لإضلال المسلمين الى حيث قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لأصحابهم وجلسائهم على سبيل الحيلة والخداع آمِنُوا استهزاء وتسفيها بِالَّذِي اى بالكتاب الذي يدعون هؤلاء الحمقاء انه أُنْزِلَ على محمد موافقة منكم عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا به وَجْهَ النَّهارِ اى في أول بدوه ليفرحوا ويسروا بموافقتكم إياهم وَاكْفُرُوا آخِرَهُ اى اتركوه وأنكروا عليه في آخر النهار معللين بانا لم نجد محمدا على الوصف الذي ذكر في كتابنا ليتردد أولئك المؤمنون ويضطرب نبيهم من مخالفتكم وقولكم هذا وافعلوا معهم كذلك مرارا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن دينهم وايمانهم وَبالجملة لا تُؤْمِنُوا ولا تظهروا يا اهل الكتاب ما في قلوبكم من الإذعان والتصديق بان هذا الشخص هو النبي الموعود المذكور في كتابكم إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ من إخوانكم وأصحابكم المتدينين بدين آبائكم واسلافكم ولا تفشوه عند هؤلاء قُلْ لهم يا أكمل الرسل ردا لمخادعتهم ودفعا لحيلتهم كلاما ناشئا عن محض الحكمة خاليا عن وصمة التهمة إِنَّ الْهُدى الموصل الى سواء السبيل هُدَى اللَّهِ الهادي لعباده ويوفق ويهدى من يشاء منهم الى طريق توحيده ويضل ويغوى من يشاء عنه ارادة واختيارا وانما دبرتم ايها المسرفون المفرطون بما دبرتم ومكرتم بما مكرتم ارادة أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من الكفر والجحود بنبوة النبي الموعود أَوْ يُحاجُّوكُمْ ويغلبوكم بهذا المكر والخداع عِنْدَ رَبِّكُمْ على زعمكم الفاسد واعتقادكم الباطل قُلْ لهم يا أكمل الرسل لا تغتروا بمزخرفات عقولكم ولا تطمئنوا بمقتضياتها إذ هي قاصرة عن معرفة الله مطلقا سيما عند تزاحم الوهم والخيال بل إِنَّ الْفَضْلَ والهداية المطلقة انما هي بِيَدِ اللَّهِ اى بقدرته ومشيته يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ بلا معاونة العقل ونصرته وَاللَّهُ الهادي لعباده واسِعٌ في فضله وهدايته لا حصر لطرق الهامه وإفاضته عَلِيمٌ باستعدادات عباده يوصل كلا منهم الى مشرب توحيده بطريق يناسب استعداده بل يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ الواسعة الشاملة لجميع الفضائل والكمالات مَنْ يَشاءُ من خلص عباده تفضلا عليهم من لدنه بلا اقتضاء وجذب من استعداداتهم ويخصهم بفتوحات لا يدرك طوره ولا يكتنه غوره وَبالجملة اللَّهُ المتجلى بعموم الكمالات ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ واللطف الجسيم على بعض مظاهره من الأنبياء والأولياء الذين قد فنيت وتلاشت هوياتهم البشرية بالكلية في بحر الوحدة وتجردوا عن جلابيب الكثرة بالمرة وَمن تفاوت الاستعدادات واختلاف القابليات الفطرية ترى مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ ثقة عليه واعتمادا بِقِنْطارٍ مال منضد مخزون يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ على الوجه الذي ائتمنته عليه بلا تغيير وخيانة لصفاء فطرته ونزاهة استعداده وقابليته وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ او اقل لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ حين مطالبتك لخباثة طينته وردائة فطرته إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ وتطالب منه أمانتك قائِماً دائما على سبيل الإلمام والإلحاح نزلت في عبد الله بن سلام حين استودعه قريشي الفا ومائتي اوقية ذهبا واداه اليه وفنحاص بن عازوراء استودعه ايضا قريشي آخر دينارا أنكر وجحد مع اتفاقهما في الكفر واشتراكهما في الضلال والإصرار ذلِكَ اى ترك أداء

[سورة آل عمران (3) : آية 76]

بعض اليهود بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم استحلوا مال من ليس على دينهم وقالُوا لَيْسَ في كتابنا المنزل عَلَيْنا من عند ربنا فِي حق الْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم سَبِيلٌ اى طريق معاتبة ومؤاخذة يعنى لا نؤاخذ ولا نسأل نحن لأجل هؤلاء لأنهم ليسوا من اهل الكتاب وَهم بهذا القول الباطل يَقُولُونَ ويفترون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إذ ليس في كتابهم هذا الباطل الزاهق بل لا يفترونه الا عنادا ومكابرة وَهُمْ ايضا يَعْلَمُونَ انه افتراء منهم ومراء روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم انه قال عند نزول هذه الآية كذب اعداء الله ما من شيء في الجاهلية الا وهو تحت قدمي الا الامانة فإنها مؤداة الى البر والفاجر بَلى للحق سبيل معاتبة وانتقام معهم في كل واحد من عباده على اى دين كان وملة إذا صدر عنهم الخيانة والتعدي الا مَنْ أَوْفى منهم بِعَهْدِهِ الذي قد عهد مع الله ومع عباده وَاتَّقى عن غضب الله بعدم الوفاء فهو من المحبوبين عند الله فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ويرضى عنهم ويوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ ويستبدلون بِعَهْدِ اللَّهِ الذي قد عهدوا مع رسوله وَأَيْمانِهِمْ المغلظة الصادرة منهم الدالة على وفائه كقولهم والله لنؤمنن به ولننصرنه ثَمَناً قَلِيلًا من متاع الدنيا مثل أخذ الرشى وإبقاء الرياسة أُولئِكَ المستبدلون الخاسرون هم الذين لا خَلاقَ اى لا نصيب ولا حظ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ التي هي دار الوصول والقرار وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ فيها مثل تكليمه مع خلفائه الذين ظهروا حسب أوصافه وأسمائه وتخلقوا بأخلاقه وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بنظر الرحمة حتى تنعكس بروق أنوار الوحدة الذاتية المتلألئة المتشعشعة من عالم العماء التي هي السواد الأعظم المشار اليه في الحديث النبوي صلوات الله على قائله على مرايا قلوبهم وَلا يُزَكِّيهِمْ ولا يثنى عليهم ولا يلتفت نحوهم حين التفاته الى خلص عباده المصفين المطهرين مرايا قلوبهم عن صدأ الالتفات الى الغير مطلقا وعن رين التوجه والميل الى المزخرفات جملة لتنعكس فيها ومنها اشعة أنوار التجليات الإلهية الجمالية والجلالية اللطفية والقهرية حتى يعتدلوا ويستقيموا على الطريق القويم والصراط المستقيم الذي هو صراط توحيد الله وَلَهُمْ في تلك الحالة عَذابٌ أَلِيمٌ وخذلان مولم لا إيلام أعظم منه إذ حرمان الوصول الى غاية ما يترتب على الوجود من أشد المؤلمات والمؤذيات نعوذ بالله من غضب الله لا حول ولا قوة الا بالله وَإِنَّ مِنْهُمْ من غاية بغضهم وعداوتهم مع النبي صلى الله عليه وسلّم لَفَرِيقاً اى فئة وفرقة من المحرفين الذين يحرفون اسمه ونعته صلّى الله عليه وسلّم في التورية حيث يقصدون تشهير المحرف وترويجه على ضعفاء العوام اضلالا لهم يَلْوُونَ ويطلقون أَلْسِنَتَهُمْ بالمحرف إطلاقهم بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ اى السامعون انه مِنَ الْكِتابِ وَالحال انه ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ المنزل أصلا لا نصا ولا أخذا ولا تأويلا ومع ذلك يفترون وَيَقُولُونَ هُوَ اى المحرف منزل مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَالحال انه ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بل من تسويلات نفوسهم الخبيثة وانما الباعث عليها اهويتهم الباطلة المتعلقة بحب الجاه والرياسة وَبالجملة هم لترويج أباطيلهم الكاذبة يَقُولُونَ وينسبون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ افتراء ومراء وَهُمْ ايضا يَعْلَمُونَ يقينا انه فرية قد صدرت عنهم عنادا ومكابرة وبالجملة هم اى النصارى مع انهم يدعون الايمان والتوحيد وتصديق الرسل والكتب لم يتفطنوا ولم يعلموا ان البشر وان أرسل وانزل وخصص بفضائل جليلة وخصائل حميدة

[سورة آل عمران (3) : آية 79]

لكن لا ينسلخ عن اللوازم البشرية مطلقا حتى يتصف بمقتضيات الألوهية والربوبية بل لا يزال العبد عبدا والرب ربا غاية ما في الباب ان الأشخاص البشرية في التجريد عن لوازمها متفاوتة فمن كان تجريده اكثر كان الى الله اقرب والى الفناء أميل والى البقاء أشوق والا فالسلوك لا ينقطع ابد الآبدين كما قال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث القدسي حكاية عن الله عز وجل إلا طال شوق الأبرار الى لقائي وبالجملة ما للتراب ورب الأرباب حتى يتصفوا بأوصافه فعيسى صلوات الله عليه وسلامه من جملة البشر وان ارتفع قدره وعلا رتبته عند الله وظهر منه بنصر الله خوارق خلت عنها الأنبياء عليهم السّلام لكن لا ينسلخ عن اللازم البشرية بالكلية بل لا يمكن هذا مطلقا وهم من ردائه رأيهم يدعون انسلاخه عنها بالمرة ويعبدون له كعبادته سبحانه وينسبونه الى الله بالبنوة العياذ بالله وبالجملة ما قدروا الله حق قدره لذلك نسبوا له سبحانه ما هو منزه عنه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ولذا رد الله عليهم على وجه التنبيه والتعليم بقوله ما كانَ اى ما صح وجاز لِبَشَرٍ قد خصه الله من بين بريته لرسالته ونيابته سيما أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ المبين له الشرائع وَالْحُكْمَ المتعلق بأحوال العباد في معاشهم وَالنُّبُوَّةَ المتعلقة بضبط احوال معادهم ثُمَّ بعد ما اختاره الله واصطفاه بالتشريف الأتم الأكمل يَقُولَ لِلنَّاسِ الذين أرسل إليهم لهدايتهم وإرشادهم كُونُوا عِباداً لِي فاعبدوني عبادة خاصة كعبادة الله وخصصوها لي مِنْ دُونِ اللَّهِ وبالجملة ما هي وأمثال هذا إلا شرك غليظ وكفر ظاهر كيف صدر عن ارباب الولاية والنبوة الفانين في الله الباقين ببقائه المستغرقين بمطالعة وجهه الكريم وَلكِنْ قولهم لهم وأمرهم عليهم هكذا كُونُوا ايها الموحدون رَبَّانِيِّينَ مخلصين في عبادة الله ولا تكونوا شيطانيين مشركين فيها بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ يعنى كونوا ربانيين موحدين مخلصين بما تعلمون وتفيدون أنتم من الكتاب غيركم من المستفيدين من الأمور المتعلقة بدينكم وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ تقرءون وتأخذون أنتم من غيركم من المعلمين المفيدين وبالجملة لا يأمر ولا يوصى الأنبياء والرسل على أممهم الا هكذا وَلا يَأْمُرَكُمْ رسلكم وانبياءكم اضلالا لكم أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ المبعوثين إليكم من عند الله أَرْباباً آلهة مستحقين للعبادة موجودين اصالة واستقلالا من دون الله أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ يعنى اتظنون ان يأمركم النبي المرسل لهدايتكم الى طريق التوحيد بالشرك والإشراك سيما بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ موحدون بمتابعته ورسالته أفلا تعقلون وَاذكر يا أكمل الرسل لمن خاصمك من اهل الكتاب وقت إِذْ أَخَذَ اللَّهُ المدبر لأمور عباده مِيثاقَ النَّبِيِّينَ اى عهودهم الوثيقة المتعلقة بالامتثال والمحافظة لَما آتَيْتُكُمْ تفضلا عليكم مِنْ كِتابٍ مبين لكم ولأممكم الاحكام الظاهرة المتعلقة بالمعاملات وَحِكْمَةٍ مورثة لكم ولهم الأخلاق المرضية الموصلة الى التوحيد الذاتي ثُمَّ أخذ منكم المواثيق ايضا على لسان انبيائكم بانه متى جاءَكُمْ وعلى أممكم رَسُولٌ أرسل من عندنا على التوحيد الذاتي مع انه مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ من توحيد الصفات والأفعال لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ أنتم ولتبلغن على أممكم ان تؤمنوا له وتصدقوه وَلا تكتفون أنتم وأممكم بمجرد الايمان والتصديق به بل لَتَنْصُرُنَّهُ في عموم ما جاء به من مقتضيات التوحيد الذاتي وكيف لا تنصرونه مع ان مرجع جميع الملل والنحل انما هي اليه لذلك ختم بعثته صلّى الله عليه وسلم امر الإنزال والإرسال وبعد أخذ المواثيق الوثيقة منهم هكذا قالَ سبحانه مستفهما

[سورة آل عمران (3) : آية 82]

على سبيل التقرير تأكيدا وتحكيما أَأَقْرَرْتُمْ ايها الأنبياء أنتم وَأَخَذْتُمْ من أممكم المنسوبين إليكم عَلى ذلِكُمْ اى على عهودكم ومواثيقكم هذه إِصْرِي اى حلفي وعهدي الثقيل الذي يوجب نقضه أنواعا من النكال والعذاب قالُوا سمعا وطوعا أَقْرَرْنا بعهودك ومواثيقك يا ربنا وأخذنا ايضا من اممنا ما امرتنا بأخذه قالَ سبحانه فَاشْهَدُوا اى استحضروا العهود واحفظوا المواثيق ولا تغفلوا عنها وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ الحاضرين المطلعين بحفظكم ووفائكم فَمَنْ تَوَلَّى واعرض عنكم بَعْدَ ذلِكَ العهد الوثيق فَأُولئِكَ المعرضون الناقضون هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طريق التوحيد الذاتي الجامع لجميع الطرق أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ الذي هو التوحيد الذاتي يَبْغُونَ وتطلبون ايها المعرضون الفاسقون وَالحال انه لَهُ أَسْلَمَ اى انقاد وتذلل عموم مَنْ فِي السَّماواتِ من ارباب الشهود والمكاشفات وَكذا جميع من في الْأَرْضِ من اصحاب العلوم والمعاملات طَوْعاً تحقيقا ويقينا وَكَرْهاً تقليدا وتخمينا وَكيف لا إِلَيْهِ لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية يُرْجَعُونَ رجوع الظل الى ذي الظل قُلْ يا أكمل الرسل بلسان الجمع آمَنَّا بِاللَّهِ الواحد الأحد الصمد المتفرد بالتحقق والوجود وَصدقنا جميع ما أُنْزِلَ عَلَيْنا من عنده سبحانه من الآيات المبينة لتوحيده وَصدقنا ايضا جميع ما أُنْزِلَ في سالف الزمان من عنده عَلى أسلافنا إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ اى أولاد يعقوب وأحفاده وَصدقنا ايضا جميع ما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ الموحدون الملهمون مِنْ رَبِّهِمْ على مقتضى استعداداتهم بحيث لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ في الإطاعة والتصديق وَكيف نفرق ونفضل إذ نَحْنُ المتدينين بدين الله المتجلى في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق لَهُ باعتبار تفرده واحاطته وظهوره في المظاهر كلها بعموم أوصافه وأسمائه بلا تفاوت مُسْلِمُونَ مؤمنون موقنون منقادون وَمَنْ يَبْتَغِ ويطلب غَيْرَ الْإِسْلامِ المنزل على خير الأنام دِيناً وشرعا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ يوم العرض الأكبر إذ الدين القويم المستجمع لجميع الأديان الناسخ لعمومها هو الإسلام لابتنائه على التوحيد الذاتي المسقط للاضافات وعموم الخصوصيات المقتضية للكثرة مطلقا وَهُوَ اى المتدين بغير دين الإسلام فِي النشأة الْآخِرَةِ وقت حصاد كل ما يزرعه في النشأة الاولى مِنَ الْخاسِرِينَ خسرانا مبينا نعتصم بك من إنزال قهرك يا ذا القوة المتين ثم قال سبحانه مستفهما مستبعدا على سبيل التوبيخ والتقريع كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ الهادي لعباده قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ بوحدانية الله وَشَهِدُوا اى أقروا واعترفوا طائعين أَنَّ الرَّسُولَ المبين لهم طريق التوحيد المرشد لهم اليه حَقٌّ مرسل من عند الله صادق في دعواه وَمع ذلك قد جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الدالة على صدقه فقبلوا الجميع ثم ارتدوا العياذ بالله وَبالجملة اللَّهُ الهادي للكل الى سواء السبيل لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى حدوده أُولئِكَ الأشقياء الظالمون الضالون عن منهج الصدق والصواب جَزاؤُهُمْ المتفرع على ظلمهم وضلالهم أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ اى طرده وتخذيله إياهم ثابتة لهم مستقرة عليهم ازلا وابدا وَايضا لعنة الْمَلائِكَةِ المستغفرين لعباد عباد الله وَكذا لعنة عموم النَّاسِ أَجْمَعِينَ وهم قد صاروا خالِدِينَ فِيها وفي لوازمها مستمرين عليها ابدا بحيث لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ

[سورة آل عمران (3) : آية 89]

الْعَذابُ المتفرع عليها أصلا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وينتظرون تخفيفه إِلَّا الَّذِينَ تابُوا منهم في النشأة الاولى مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الارتداد والضلال وَأَصْلَحُوا أحوالهم بالتوبة والإخلاص والاستغفار والندامة عما صدر منهم فَإِنَّ اللَّهَ الموفق لهم على التوبة غَفُورٌ يستر جرائمهم رَحِيمٌ مشفق يتجاوز عن زلاتهم ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اى ارتدوا العياذ بالله سيما بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ لم يتوبوا اى لم يرجعوا ولم يتندموا بل ازْدادُوا كُفْراً اى إصرارا واستكبارا لَنْ تُقْبَلَ منهم تَوْبَتُهُمْ ابدا بعد ما عاندوا وَأُولئِكَ المعاندون المصرون هُمُ الضَّالُّونَ المقصورون على الضلالة في بيداء الفطرة لا يرجى منهم الفلاح أصلا بل إِنَّ المسرفين المصرين الَّذِينَ كَفَرُوا في مدة اعمارهم وَماتُوا وَالحال انه هُمْ كُفَّارٌ كما كانوا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ اى لن تقبل توبتهم عند الله وان أنفق وافتدى كل واحد منهم ملء الأرض ذهبا رجاء ان تقبل توبته بل أُولئِكَ الهالكون في تيه الضلال لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم دائما مستمرا وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ من انواع النصر لا من الانفاق ولا من الشفاعة ولا من العمل الصالح والحج المبرور ولا غير ذلك ثم لما سجل سبحانه عليهم العذاب بحيث لا يخفف عنهم أصلا ولا يقبل توبتهم ابدا وان أنفق كل منهم ملء الأرض ذهبا نبه على المؤمنين طريق الانفاق المستحسن المقبول وخاطبهم على وجه التأكيد والمبالغة حيث قال لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ اى لن تصلوا ولن تبلغوا ايها المؤمنون مرتبة الأبرار الخيرين عند الله مطلقا حَتَّى تُنْفِقُوا امتثالا لأمر الله وطلبا لمرضاته مِمَّا تُحِبُّونَ اى من احسن ما عندكم وأكرمه وَاعلموا ان ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ ولو حبة وذرة وكلمة طيبة خالصا لرضا الله بلا شوب المنة والأذى فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لجميع أحوالكم ونياتكم بِهِ عَلِيمٌ لا يغيب عن علمه شيء فيجازيكم على مقتضى علمه ثم لما ادعى اليهود ان ما حرم في ديننا قد كان حراما في دين ابراهيم وملته فلم تحلون أنتم ايها المدعون متابعته ما حرم في دينه رد الله عليهم وكذبهم بقوله كُلُّ الطَّعامِ الذي يقتات به الإنسان ويتغذى قد كانَ حِلًّا مباحا حلالا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إذ الأصل في الأشياء الحل ما لم يرد الشرع بتحريمه إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ وهو يعقوب عليه السّلام عَلى نَفْسِهِ على وجه النذر بلا ورود الوحى إذ كان له عرق النسا فنذر ان شفى لم يأكل ما هو أحب الطعام والذه عنده وهو لبن الإبل ولحمه فشفى ولم يأكل بعده منهما وذلك مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ ثم لما ظهر انواع الخبائث والقبائح من اليهود حرم الله عليهم في التورية طيبات أحلت لهم قبلها بسبب خباثتهم وكثافتهم فان أنكروا على هذا وقالوا لسنا أول من حرم عليه هذه الأشياء المحرمة فيها بل قد حرم لمن قبلنا ونحن نقتدي بهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها على رؤس الاشهاد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم والا فقد افتريتم على كتاب الله ما ليس فيه فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ظهور ذلِكَ البرهان فَأُولئِكَ المفترون المنهمكون في العتو والعناد هُمُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مسالك التوحيد المتمردون عن ربقة الايمان قُلْ لهم يا أكمل الرسل امحاضا للنصح صَدَقَ اللَّهُ المطلع بجميع ما كان ويكون ان لا حرمة لهذه الأشياء في دين ابراهيم عليه السّلام بل أول من حرم عليهم أنتم ايها اليهود وان أردتم استحلالها فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ التي هي الإسلام المنزل على خير الأنام لأنه كان حَنِيفاً طاهرا عن عموم الخبائث والرذائل المؤدية الى تحريم الطيبات

[سورة آل عمران (3) : آية 96]

إذ هو مستو على صراط التوحيد وجادة العدالة بعيد عن كلا طرفي الإفراط والتفريط المؤديين الى الشرك والشقاق وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بحال لصفاء فطرته ونجابة طينته. ثم لما كان ابراهيم صلوات الرّحمن عليه مستقيما على صراط التوحيد مستويا عليه ما وضع سبحانه أول معبد للموحدين الا لأجله كما قال إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ليعبدوا فيها لله ويتوجهوا الى جنابه لَلَّذِي بِبَكَّةَ اى البيت الذي وضع بمكة شرفها الله قيل قد وضع المسجد الحرام قبل وضع بيت المقدس بأربعين سنة وانما وضع مُبارَكاً كثير الخير والبركة والنفع لساكنيه وزائريه يرشدهم الى الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وَهُدىً لِلْعالَمِينَ يوصلهم الى التوحيد الذاتي لو كوشفوا بسرائر وضعه وتشريعه إذ فِيهِ آياتٌ دلائل وشواهد بَيِّناتٌ واضحات دالة على توحيد الذات منها مَقامُ إِبْراهِيمَ وهو مقام الرضا والتسليم وَمَنْ دَخَلَهُ حنيفا مسلما مسلما مفوضا كانَ آمِناً عن وسوسة الأنانية ودغدغة الغيرية متصفا بصفة الخلة وَلِلَّهِ اى للوصول الى مشرب توحيده وللتحقق بمقام عبوديته وتفريده قد أوجب سبحانه عَلَى النَّاسِ المجبولين على فطرة المعرفة واليقين حِجُّ الْبَيْتِ اى طواف البيت الممثل على قلب الخليل اللائق لخلعة الخلة والخلافة على مَنِ اسْتَطاعَ منكم ايها الحيارى في صحارى الإمكان إِلَيْهِ سَبِيلًا فليسلك نحوه يعنى من استطاع اى يميت نفسه بالموت الإرادي ويترك بقعة الإمكان مهاجرا الى الله مفوضا أموره كلها اليه بل مفنيا هويته في هوية الله مثل الخليل الجليل صلوات الرّحمن عليه وسلامه فعليه ان يزور ويطوف حول بيت الله الذي هو قلب الإنسان حقيقة راجيا منه سبحانه خلعة الخلة والخلافة ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا وَمَنْ كَفَرَ ولم يحج بيت ربه مع استطاعته إنكارا وعنادا فَإِنَّ اللَّهَ المستغنى في ذاته عن جميع مظاهره ومصنوعاته غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ لم يبال بهم وبعباداتهم وانما أظهرهم وأوجب عليهم العبادة والرجوع الى جنابه والتوجه نحو بابه ليتحققوا في مرتبة العبودية ويتقرروا فيها حتى يستحقوا الخلافة والنيابة المتفرعة على سر الظهور والإظهار قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر شعار الإسلام يا أَهْلَ الْكِتابِ المدعين للايمان بوحدانية الله لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده المنزلة على نبيه الذي قد جاء من عنده بالتوحيد الذاتي ليكون مرسلا الى كافة البرايا رحمة للعالمين وَلا تخافون من غضب الله وسخطه عليكم ايها المكابرون إذ اللَّهُ شَهِيدٌ مطلع حاضر عَلى عموم ما تَعْمَلُونَ أنتم من الإنكار والاستكبار والتحريف والتغيير قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ المدعين الاتباع بالكتب والرسل المنزلة من عند الله لِمَ تَصُدُّونَ وتصرفون وتعرضون عباد الله عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو دين الإسلام مع انه هو الصراط المستقيم الموصل الى صفاء الوحدة الذاتية مَنْ آمَنَ انقاد وتدين به تَبْغُونَها وتطلبونها عِوَجاً اى أنتم طالبون ان توقعوا فيه عوجا وانحناء وضعفا حتى يضعف اعتقاد المسلمين ويتزلزل آراؤهم في امور الدين كما في زماننا هذا وَالحال انكم أَنْتُمْ شُهَداءُ مطلعون من مطالعة الكتب المنزلة عليكم من عند الله المخبرة بظهور دين الإسلام وارتفاع قدره وقدر من اتى به ومع ذلك حرفتم الكتب وانكرتم عليه عنادا واستكبارا وبالجملة لا تغفلوا من حلول غضب الله وانتقامه عليكم وَمَا اللَّهُ العالم بالسرائر والخفيات بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من التلبيس والعناد والتحريف والتغيير ثم لما بالغ سبحانه في توبيخ الكافرين القاصدين إضلال المؤمنين بما بالغ أراد ان يحذر المؤمنين عن مخالطتهم

[سورة آل عمران (3) : آية 100]

ومواخاتهم فناداهم إذ هو ادخل في قبول النصح وقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اى وفقوا على تشريف الايمان مقتضى ايمانكم الاجتناب عن مخالطة الكفار ومواخاتهم وادعاء المحبة والمودة معهم لأنكم إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ طائعين قاصدين اطاعتهم وانقيادهم يَرُدُّوكُمْ البتة بَعْدَ إِيمانِكُمْ وتوحيدكم كافِرِينَ مشركين على ما أنتم عليه في جاهليتكم نزلت في فرقة من الأوس والخزرج كانوا يجتمعون ويتحدثون ويتناشدون فمر على اجتماعهم شاس بن قيس اليهودي فغاظه مواخاتهم ومخالطتهم فأمر بشاب من اليهود ان يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وينشد بعض ما قيل فيه وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس ففعل فتنازع القوم وتفاخروا الى ان تغاضبوا وتخاصموا وصاحوا السلاح السلاح واجتمع من الجانبين خلق عظيم وتوجه نحوهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه وقال لهم اتدعون الجاهلية وانا بين أظهركم بعد ان أكرمكم الله بالإسلام وشرفكم بالإيمان والتوحيد الرافع لجميع الخصومات فعلموا انها نزعة من الشيطان وكيد من قبل عدوهم فالقوا السلاح واستغفروا وتعانقوا وتحابوا وانصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَلذلك قيل لهم كَيْفَ تَكْفُرُونَ ايها المؤمنون بالله الواحد الأحد الفرد الصمد وَالحال انكم أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ الدالة على توحيده وَمع ذلك فِيكُمْ رَسُولُهُ المرسل إليكم المولى لأموركم وَمَنْ يَعْتَصِمْ منكم بِاللَّهِ ويتبع رسوله المرسل من عنده بتوحيده الذاتي فَقَدْ هُدِيَ واهتدى إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى صفاء الوحدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا معظم أموركم في محافظة الايمان المؤدى الى الكشف والعيان التقوى والاجتناب عن محارم الله ومنهياته والتحلي بأوامره ومرضياته اتَّقُوا اللَّهَ المطلع لجميع حالاتكم حَقَّ تُقاتِهِ خالية عن الميل الى الرياء والبدع والأهواء المفضية الى الإلحاد والزندقة وَاجتهدوا ايها المؤمنون ان لا تَمُوتُنَّ ولا تخرجن عن هويتكم هذه إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون في الاعتصام بحبل التوحيد والايمان مخلصون عن ربقة التقليد والحسبان وَبعد ما خرجتم عن انانيتكم ايها المخلصون الموقنون اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ الممتد من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات وارفعوا مقتضيات هوياتكم جَمِيعاً عن البين حتى لا يبقى توهم الغير والسوى مطلقا وتخلص نفوسكم عن مشتهياتها ومستلذاتها الفانية وتصل الى الحيوة الازلية والبقاء السرمدي وَلا تَفَرَّقُوا اى لا تشتتوا ولا تفرقوا بمقتضيات أوهامكم المتفرعة على هوياتكم الباطلة عن الجمعية الحقيقية الحقية وَبعد ما وصلتم بمقام الجمعية والوحدة الذاتية اذْكُرُوا ايها العكوس والاظلال نِعْمَتَ اللَّهِ المتجلى فيكم بذاته المتفضل عَلَيْكُمْ بلا عوض ولا غرض سيما وقت إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً بعداء متروكين في ظلمة العدم فَأَلَّفَ سبحانه بتجلياته الجمالية بَيْنَ قُلُوبِكُمْ في فضاء الإمكان بان جعلكم أزواجا وبنين وحفدة متظاهرين بعضكم ببعض على مقتضى الإضافات ورقائق المناسبات الواقعة بين الأسماء والأوصاف الإلهية فَأَصْبَحْتُمْ بعد ما استيقظتم عن منام الإمكان ونعاس الغفلة والنسيان وصرتم بِنِعْمَتِهِ التي هي التوفيق والأقدار على طلب الرشد والرشاد إِخْواناً مجتمعين في فضاء الوحدة بلا توهم الكثرة المستدعية العداوة والخصومة وَالحال انه قد كُنْتُمْ في طغيان الإمكان عَلى شَفا حُفْرَةٍ اى طرف واد غائر قد ملئت مِنَ النَّارِ وأنتم مشرفون بالوقوع فيها الا وهي وادي العدم وغور الإمكان المباين لفضاء الوجود والوجوب المملو بنيران البعد والخذلان فَأَنْقَذَكُمْ

[سورة آل عمران (3) : آية 104]

الله اى أنجاكم وخلصكم مِنْها بلطفه بان أودع فيكم العقل الجزئى المنشعب من العقل الكل الصائر اليه الراجع نحوه كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ الهادي لَكُمْ دائما مستمرا الى توحيده الذاتي آياتِهِ آثار أسمائه وأوصافه الدالة على ذاته لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ رجاء ان تهتدوا منها إليها مع غاية ظهورها ووضوحها وَبعد ما وفقتم للايمان ونبهتم على مسالك التوحيد والعرفان لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ملتزمة للإرشاد والتكميل يَدْعُونَ الناس إِلَى الْخَيْرِ اى المختص الى التوحيد وإسقاط الإضافات وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ المستحسن في طريق التوحيد وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ المستقبح فيه المانع عن الوصول اليه وَأُولئِكَ الراشدون الهادون المهديون هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون من عنده سبحانه بالمثوبة العظمى والدرجة العليا التي هي مقام الجمعية والرضا وَبالجملة لا تَكُونُوا ايها المحمديون المتحققون بمقام الجمعية كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الدالة على الجمعية والاتفاق ولم يتنبهوا منها على التوحيد الذاتي وَأُولئِكَ الأشقياء المردودون الهالكون في تيه الخذلان والحرمان لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في جهنم البعد وجحيم الإمكان وسعير الطرد والخذلان. اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ بقبول النور من الوجه الباقي الإلهي وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ببقائها في سواد الإمكان فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ولم يرتفع غشاوة هوياتهم وكثافة ماهياتهم عن أعينهم وأبصارهم ولم تتصف مرآة قلوبهم عن صدأ الكثرة ورين الثنوية قطعا قيل لهم لذلك تقريعا وتوبيخا أَكَفَرْتُمْ وأعرضتم عن الحق ايها الهالكون في بقعة الإمكان سيما بَعْدَ إِيمانِكُمْ بوجوب الوجود ووجوب الرجوع اليه فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما اى بانا نيتكم التي كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وتسترون بها نور الوجود وصفاء التوحيد الخالص عن الكدورات مطلقا وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ عن شين التعلقات ورين الإضافات واضمحلت هوياتهم في هوية الحق وارتفعت عن عيون بصائرهم وأبصارهم مطلقا الحجب والأستار المانعة عن الوصول الى دار القرار فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ التي وسعت كل شيء مستغرقون وفي بحر توحيده غائصون سابحون لا يخرجون منها ابدا بل هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون مستمرون ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله تِلْكَ المواعيد والوعيدات المذكورة للأولياء والأعداء آياتُ اللَّهِ الدالة على كمال قدرته وتفرده في ألوهيته واستقلاله في ربوبيته نَتْلُوها عَلَيْكَ يا أكمل الرسل تفضلا منا إليك وامتنانا عليك ملتبسة بِالْحَقِّ بلا شك في وقوعها وَمَا اللَّهُ المنتقم للعباد في يوم المعاد يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ بل يجازيهم بمقتضى ما صدر عنهم في النشأة الاولى ان خيرا فخير وان شرا فشر. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا فيها فتقديره فيها ومن يعمل شرا فكذلك وبالجملة لا يتصور الظلم والتعدي من جانبه سبحانه أصلا وَكيف لا يكون كذلك إذ لِلَّهِ المستوي على عروش ذرائر الكائنات بالقسط والاعتدال الحقيقي محافظة ما فِي السَّماواتِ اى ما ظهر في عالم الغيب وعالم الأرواح وَما ظهر فِي الْأَرْضِ اى عالم الشهادة والأشباح من الصور الحاملة لآثار أسمائه الحسنى المظهرة لصفاته العليا وَبالجملة إِلَى اللَّهِ لا الى غيره من الأسباب والوسائل العادية تُرْجَعُ الْأُمُورُ المتعلقة بالمظاهر كلها إذ هو الفاعل المطلق والمتصرف المستقل لا فاعل سواه بل لا شيء في الوجود الا هو فلا رجوع الا إياه كُنْتُمْ ايها المحمديون المجبولون على التوحيد الذاتي خَيْرَ أُمَّةٍ في علم الله مستوية على صراط التوحيد معتدلة بين طرفي الإفراط والتفريط أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ اى قدر ظهوركم لتكميل الناقصين من الناس تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ

[سورة آل عمران (3) : آية 111]

المستحسن في سلوك طريق التوحيد بينكم وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ المحظور المستقبح وَذلك الأمر والنهى انما يصدر عنكم لكونكم تُؤْمِنُونَ وتوقنون أنتم في انفسكم بِاللَّهِ المستوي على عروش ذرائر الكائنات بالاعتدال الذي هو صراط الله الأقوم وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ بأجمعهم بدينكم وملتكم لَكانَ خَيْراً لَهُمْ ينجيهم ايمانهم هذا عن ورطتي الإفراط والتفريط ويهديهم الى صراط مستقيم موصل الى الوحدة الذاتية وان كان القليل مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الداخلون في حصن الايمان والتوحيد مع المؤمنين الداخلين فيه وَلكن أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن حدود الله وعن مقتضى حكمه وأحكامه وبالجملة لا تبالوا ايها الموحدون بفسوقهم وعصيانهم إذ لَنْ يَضُرُّوكُمْ بفعلهم هذا ضررا فاحشا إِلَّا أَذىً قد صدر من سقطات ألسنتهم والفاظهم من التقريع والتشنيع عليكم وَإِنْ بالغوا في العداوة الى ان يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ البتة اضطرارا وانهزاما ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بالكر عليكم بعد الفر منكم بل ينصركم الله عليهم بنصره العزيز ويخذلهم ويذلهم لذلك قد ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والمسكنة والصغار والهوان دائما أَيْنَ ما ثُقِفُوا ووجدوا صاروا مهانين صاغرين إِلَّا المعتصمين منهم بِحَبْلٍ نازل مِنَ عند اللَّهِ الا وهو عبارة عن الانقياد بدين الإسلام وَحَبْلٍ اى عهد وثيق وذمة مؤكدة مِنَ قبل النَّاسِ يعنى المؤمنين وَبعد ما باؤُ ورجعوا عن تصديق الإسلام المنزل على خير الأنام استحقوا بِغَضَبٍ عظيم نازل مِنَ اللَّهِ بمقتضى قهره وَلا يمكنهم دفعه إذ قد ضُرِبَتْ اى تمكنت وتقررت عَلَيْهِمُ الذلة والْمَسْكَنَةُ المذمومة الناشئة من خباثة طينتهم بحيث لا يرجى عزتهم أصلا ذلِكَ اى ضرب الذلة والهوان عليهم بِأَنَّهُمْ كانُوا في أوان عزتهم وعظمتهم يَكْفُرُونَ ويكذبون مستهزئين بِآياتِ اللَّهِ المنزلة من عنده وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ اى بلا رخصة شرعية ذلِكَ الكفر والقتل الصادر منهم بِما عَصَوْا اى بسبب عصيانهم وبشؤم خروجهم عن اطاعة امر الله والانقياد لأحكامه عتوا وعنادا وَالحال انهم لا يجبرون عصيانهم بالتوبة بل كانُوا يَعْتَدُونَ ويتجاوزون عن حدود الله بالمرة ويقتلون من يقيمها ويتقلد بها عنادا واستكبارا ومع ذلك لَيْسُوا سَواءً اى ليس جميع اهل الكتاب مستوية الاقدام في الإنكار والاعتداء بل مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ايضا أُمَّةٌ قائِمَةٌ مؤمنة مستقيمة على صراط العدالة لأنهم يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ الدالة على هدايته وتوحيده آناءَ اللَّيْلِ اى جميع أطرافه وساعاته وَهُمْ يَسْجُدُونَ ويصلون فيه خاضعين واضعين جباههم على تراب المذلة رغبة اليه سبحانه وخوفا من خشيته ورجاء من سعة رحمته وذلك لأنهم يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ اى بوحدانيته وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وبتحقق وقوعه وصدقه وَمع ذلك يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ويبادرون الى الطاعات المؤدية الى إسقاط الإضافات وقطع التعلقات المستلزمة لرفع الحجب وأستار التعينات المانعة عن المكاشفات والمشاهدات وَبالجملة أُولئِكَ المتصفون منهم بهذه الصفات العلية مِنَ زمرة الصَّالِحِينَ بسلوك سبيل الحق المستوجبين للوصول الى سواء التوحيد الذي هو السواد الأعظم المشار اليه في الحديث النبوي صلوات الله وسلامه على قائله وَبالجملة ما يَفْعَلُوا اى هؤلاء الموصوفون منهم مِنْ خَيْرٍ طالبين فيه رضا الله راجين ثوابه خائفين عن عقابه فَلَنْ يُكْفَرُوهُ اى لن ينقصوا من اجره بل يزدادوا ويضاعفوا وَاللَّهُ المفضل المنعم على عموم العباد

[سورة آل عمران (3) : آية 116]

عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ منهم يجازيهم على مقتضى علمه بهم وحسب لطفه وكرمه إياهم أدركنا بلطفك وكرمك يا أكرم الأكرمين إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله في النشأة الاولى عتوا واستكبارا مفتخرين بأموالهم وأولادهم متظاهرين بها لَنْ تُغْنِيَ ولن تدفع عَنْهُمْ في النشأة الاخرى وقت أخذ الله إياهم على ظلمهم وكفرهم لا أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ غضب اللَّهِ شَيْئاً قليلا وَأُولئِكَ الأشقياء المستكبرون المفتخرون هم أَصْحابُ النَّارِ وملازموها لا خلاص لهم منها بل هُمْ فِيها خالِدُونَ مخلدون ابدا لا يرجى نجاتهم منها وتخفيف العذاب عنهم أصلا ولا ينفع لهم إحسانهم وانفاقهم الذي صدر عنهم في الدنيا لعدم مقارنته بالإيمان والإيقان بل ثَلُ ما يُنْفِقُونَ رياء وسمعة ترفعا واشتهاراي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا لا لمثوبة اخروية لعدم اعتقادهم بهامَثَلِ رِيحٍ عاصف يها صِرٌّ اى برد شديدصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالفسوق والعصيان أَهْلَكَتْهُ بالمرة وصاروا آيسين قانطين من نفعها وشكوا من الله بما لا يليق بجنابه من نسبة الظلم والتعدي اليه تعالى عن ذلك الحال انه اظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى هم يظلمون أنفسهم بالكفر والفسوق ولم يتفطنوا له ونسبوه الى الله افتراء ومراء وما الله يريد ظلما للعباد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً اى صاحب سر تستودعون سرائركم وتكشفون ضمائركم عنده مِنْ دُونِكُمْ اى من الكفار دون المؤمنين واعلموا انهم لا يَأْلُونَكُمْ ولا يمنعون عنكم ولا يقصرون في شأنكم خَبالًا ضررا وفسادا بل قد وَدُّوا وأحبوا دائما ما عَنِتُّمْ اى ضرركم وهلاككم ومن غاية ودادهم هذا قَدْ بَدَتِ وظهرت الْبَغْضاءُ المكنونة في نفوسهم وصدورهم مِنْ أَفْواهِهِمْ هفوة بلا قصد واختيار وَلا شك ان ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ قصدا واختيارا أَكْبَرُ مما تبدى أفواههم وألسنتهم هفوة واضطرارا وبالجملة قَدْ بَيَّنَّا وأوضحنا لَكُمُ ايها المؤمنون الْآياتِ المتعلقة لمعاشكم ومعادكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وتفهمون مقاصدها وتتعظون بها وتعملون بمقتضاها ها أَنْتُمْ ايها المؤمنون الغافلون أُولاءِ الخاطؤن المغفلون الذين تُحِبُّونَهُمْ محبة خالصة صادقة صافية عن مطلق الكدورات وَلا يُحِبُّونَكُمْ أولئك المنافقون المزورون الا تلبيسا ونفاقا وَأنتم تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ اى بجميع الكتب النازلة من عند الله على رسل الله وهم لا يؤمنون بكتابكم الجامع لما في الكتب السالفة وَمن غاية نفاقهم معكم إِذا لَقُوكُمْ قالُوا تلبيسا وتغريرا آمَنَّا بدينكم وكتابكم ورسولكم وَإِذا خَلَوْا وانصرفوا عنكم عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ شدة الْغَيْظِ وعدم القدرة على الانتقام على وجه التشفي قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا مخاطبا لهم على سبيل التوبيخ والتقريع مُوتُوا ايها المنافقون المغتاظون بِغَيْظِكُمْ المتزايد المترقى يوما فيوما حسب ارتفاع قدر الإسلام وعلو شأنه ومع ذلك لا تأمنوا عن مكر الله وانتقامه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم ما تخفون في صدوركم من الكفر والنفاق ويجازيكم على مقتضى علمه بكم ولا يعزب عن علمه شيء ومن غاية حسدهم ونهاية بغضهم إِنْ تَمْسَسْكُمْ وتحط بكم حَسَنَةٌ مسرة مفرحة لنفوسكم تَسُؤْهُمْ وتشق عليهم من غاية عداوتهم ونفاقهم وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ مملة مولمة يَفْرَحُوا بِها تشفيا وتفرحا شامتين بها سارين عليها وَإِنْ تَصْبِرُوا على غيظهم وإذا هم وَتَتَّقُوا وترجعوا الى الله مفوضين أموركم كلها اليه يحفظكم عن جميع

[سورة آل عمران (3) : آية 121]

ما يؤذيكم بحيث لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ اى مكرهم وحيلهم شَيْئاً من الضرر إِنَّ اللَّهَ المطلع بسرائرهم وضمائرهم بِما يَعْمَلُونَ من الحيل والمخايل مُحِيطٌ لا يشذ عن علمه شيء ولو خطرة وطرفة وعلى قراءة تعملون بتاء الخطاب كان المعنى ان الله الموفق لكم على دين الإسلام بما تعملون من الصبر والتقوى والتفويض الى المولى محيط حاضر غير مغيب عنكم وعن عملكم وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ غَدَوْتَ وخرجت أنت مسرعا في الغدوة مِنْ أَهْلِكَ يعنى بيت عائشة رضى الله عنها حال كونك تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ وتريد ان تعين وتهيء لهم مَقاعِدَ امكنة ومواقف لِلْقِتالِ وبعض منهم مع جميع المنافقين يتقاعدون ويسوفون معللين بعلل ودلائل ضعيفة وبعض آخر يريدون الخروج ويرغبونك عليه وَبالجملة اللَّهُ المطلع بضمائر كلا الفريقين سَمِيعٌ لأقوالهما عَلِيمٌ بنياتهما روى ان المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ثانى عشر شوال سنة ثلث من الهجرة فاستشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أصحابه ودعا عبد الله بن ابى ولم يدعه قبل فقال هو واكثر الأنصار أقم يا رسول الله بالمدينة ولا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا منها الى عدو الا أصاب منا ولا دخلها علينا الا قد أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فان أقاموا أقاموا بشر محبس وان دخلوا قاتلهم الرجال ورماهم النساء والصبيان بالحجارة وان رجعوا رجعوا خائبين خاسرين وأشار بعضهم الى الخروج فقال عليه السّلام رأيت في منامي بقرة مذبوحة عند حولي فأولتها خيرا ورأيت في ذباب سيفي ثلما فاولته هزيمة ورأيت كأني ادخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فان رأيتم ان تقيموا بالمدينة وتدعوهم فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم احد اخرج بنا الى أعدائنا فبالغوا حتى دخل ولبس لأمته فلما رأوا ذلك ندموا على مبالغتهم فقالوا يا رسول الله اصنع ما شئت فقال لا ينبغي لنبي ان يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بشعب من احد ونزل في عدوة الوادي وجعل ظهر عسكره الى احد وسوى صفهم وامر عبد الله بن جبير على الرماة وقال انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا وحين استوى الصفوف وبلغوا الشوط قال ابن ابى علام نقتل أنفسنا وأولادنا فانصرف فوقع الخلاف بين المؤمنين فتزلزلوا اذكروا إِذْ هَمَّتْ وقصدت في تلك الحالة طائِفَتانِ مِنْكُمْ ايها المؤمنون وهما بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي العسكر أَنْ تَفْشَلا وتنهز ما ضعفا وجبنا وتتبعا اثر ابن ابى فعصمهما الله من متابعة الشيطان وجنوده فمضيا مع رسول الله مستغفرين عما جرى عليهما وَكيف لا يعصمهما عن مخالفة الرسول اللَّهُ القادر المقتدر الذي هو وَلِيُّهُما ومولى أمورهما لذلك ارشدهما الى ما هو أصلح بحالهما وَبالجملة عَلَى اللَّهِ المدبر لمصالح عباده لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ حتى يتحققوا بمقام الرضا والتسليم وَبعد ما قابلتم على العدو لا تيأسوا من نصر الله وتأييده ولا تضعفوا ولا تجبنوا ولا تبالوا بكثرة عددهم وعددهم بل اذكروا وتذكروا لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ الرقيب عليكم بِبَدْرٍ موضع بين مكة والمدينة يتسوق فيه العرب مع قوافل الحجاج وَالحال انه أَنْتُمْ في تلك الوقعة أَذِلَّةٌ ضعفاء في العدد والعدد وعدوكم على العكس بان انزل عليكم من الملائكة جنودا لم تروها فَاتَّقُوا اللَّهَ اليوم من الفرار والانهزام ومخالفة الرسول لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تلك النصرة فيما مضى. اذكر لهم يا أكمل الرسل «وقت» إِذْ تَقُولُ أنت يوم بدر لِلْمُؤْمِنِينَ حين حدث في قلوبهم الرعب

[سورة آل عمران (3) : آية 125]

من العدو لكون عددهم على أضعافهم قولا استفهاميا على سبيل التبكيت والإلزام بعد ما ظهر عندك الأمر بالوحي الإلهي أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ثم ألهمك ربك بان قلت بَلى يكفيكم هذا القدر ان تستغيثوا وتستلجئوا الى الله ترعبا وترهبا من العدو ولكن إِنْ تَصْبِرُوا في مقابلتهم ومقاتلتهم وَتَتَّقُوا عن الاستدبار والانهزام بل تصبروا قارين كارين مرارا طالبين رضا الله وإمضاء حكمه وإنفاذ قضائه يريد عليكم وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا اى ساعتهم الحاضرة التي هي هذه يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ جزاء صبركم وتقواكم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ معلمين معلومين ممتازين عن البشر وَاعلموا ايها المؤمنون ما جَعَلَهُ اللَّهُ الهادي لعباده الى زلال توحيده أمثال هذه الإمدادات والارهاصات الواردة في أمثال هذه الوقائع إِلَّا بُشْرى لَكُمْ يبشركم بمقام التوكل والتفويض والرضا والتسليم وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ اى لتكونوا مطمئنين بالله فانين فيه باقين ببقائه وَاعلموا ايضا مَا النَّصْرُ والانهزام إِلَّا مقدرين مِنْ عِنْدِ اللَّهِ العليم العلام الْعَزِيزِ الغالب القادر على الانعام والانتقام الْحَكِيمِ المتقن في فعله على ابلغ الوجوه وأتم النظام وانما جعله وبشر به لِيَقْطَعَ وليستأصل طَرَفاً جملة وجماعة مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اعرضوا عن طريق التوحيد فينهزم الباقون أَوْ يَكْبِتَهُمْ اى يخزيهم ويرديهم فَيَنْقَلِبُوا جميعا خائِبِينَ خاسرين نادمين وإذا كان الكل من عند الله العزيز الحكيم لَيْسَ لَكَ يا أكمل الرسل مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اى شيء من أمورهم بل الأمر كله لله فله ان يفعل معهم ما شاء وقدر وأراد اما ان يستأصلهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ توبة توبيخهم من انانيتهم أَوْ يُعَذِّبَهُمْ دائما جزاء ظلمهم وكفرهم فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ مستقرون على الظلم ما داموا في الحيوة الدنيا وَكيف لا يكون أمورهم مفوضة الى الله إذ لِلَّهِ المتصرف المطلق المستقل خاصة مستقلة بلا مزاحم ومشارك عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ وَما ظهر فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ يمحو ويستر لِمَنْ يَشاءُ جرائمه المخالفة لطريق توحيده بعد رجوعه وانابته اليه سبحانه ويدخل في جنة وحدته وَيُعَذِّبُ بها مَنْ يَشاءُ في جهنم البعد والخذلان وَبالجملة اللَّهُ غَفُورٌ لمن تاب واستغفر رَحِيمٌ لمن استحيي وندم ثم خاطب سبحانه المؤمنين مناديا لهم بما يتعلق برسوخهم في طريق التوحيد من الخصال الجميلة والشيم المرضية فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله مقتضى ايمانكم ان لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا سيما إذا كان أَضْعافاً مُضاعَفَةً بحيث يستغرق مال المدين مجانا وَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ولا تتجاوزوا عن حدوده لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بخير الدارين بامتثال مأموراته ومرضياته وَاتَّقُوا ايها المؤمنون النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ وهيئت لِلْكافِرِينَ اصالة وللمقتفين أثرهم تبعا ويعملون معاملتهم استنكافا واستكبارا من المؤمنين الفاسقين وَان أردتم الفلاح والفوز بالنجاح أَطِيعُوا اللَّهَ المولى لأموركم وَأطيعوا الرَّسُولَ المبين لكم طريق اطاعة الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ من عنده سبحانه ان اخلصتم في الإطاعة والانقياد وَعليكم ان لا تتكلوا ولا تتكئوا بطاعاتكم وعباداتكم ولا تزنوها عند الله بل سارِعُوا وبادروا مواظبين إِلى طلب مَغْفِرَةٍ سيئة ومحو لهوياتكم صادرة مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم على فطرة المعرفة والتوحيد وَوصول جَنَّةٍ منزل ومستقر عَرْضُهَا السَّماواتُ اى الأسماء والصفات الإلهية القائمة بذات الله وَالْأَرْضُ اى طبائع العدم القابلة لانعكاس

[سورة آل عمران (3) : آية 134]

اشعة تلك الأسماء والصفات انما أُعِدَّتْ وهيئت هذه لِلْمُتَّقِينَ من اهل التوحيد وهم الذين قد رفعت لهم غشاوة الغيرية وغطاء التعينات الموجبة للتعامى عن نور الوجود المطلق مطلقا وهم الَّذِينَ يُنْفِقُونَ من طيبات ما كسبوا من رزق صورى ومعنوي للمستحقين من اهل الله سواء كانوا فِي السَّرَّاءِ اى حين الفراغة عن الشواغل العائقة عن التوجه الحقيقي وَالضَّرَّاءِ اى عند عروض العوارض اللاحقة من لوازم البشرية وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ اى الماسكين الكافين غيظهم عند ثوران القوة الغضبية وهيجان الحمية البشرية الناشئة من طغيان القوى البهيمية وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ اى الذين يعفون ويتركون عقوبة من يسوءهم ويظلمهم عند القدرة لتحققهم في مقر التوحيد المسقط للاضافات والاختلافات مطلقا وَبالجملة اللَّهُ المطلع على سرائر عباده يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ منهم بجميع انواع الإحسان سيما بكظم الغيظ والعفو عند القدرة وعن النبي عليه السّلام ان هؤلاء في أمتي قليل الا من عصمه الله وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت وَمن جملة المتقين المعدودين من زمرتهم المؤمنون الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً فعلة قبيحة صغيرة كانت او كبيرة صدرت منهم بغتة خطأ أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بان صدرت عنهم تلك الفعلة عن قصد وتعمد ثم ذَكَرُوا اللَّهَ المنتقم الغيور خائفا من بطشه وانتقامه فَاسْتَغْفَرُوا منه سبحانه على الفور راجين العفو والستر لِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم عمدا او خطأ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ مطلقا من العباد إِلَّا اللَّهُ اى غير الله العفو الغفور الذي يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده ارادة واختيارا وَبعد ما استغفروا وتابوا لَمْ يُصِرُّوا ولم يرجعوا عَلى فعل ما فَعَلُوا بل قد تركوه بالمرة وَالحال انه هُمْ يَعْلَمُونَ قبح وخامة الإصرار وبالجملة أُولئِكَ السعداء المستغفرون المتذكرون التائبون الآئبون الخائفون الراجون جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ ستر ومحو لأنانياتهم عطاء مِنْ رَبِّهِمْ وامتنانا منه عليهم لإخلاصهم في الانابة والرجوع وَجَنَّاتٌ اى مشاهدات ومكاشفات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المترشحة من بحر الذات خالِدِينَ فِيها ابدا لا يظمؤون منها ابدا بل يطلبون مزيدا وَبالجملة نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ تلك المغفرة والجنات. بادروا ايها المؤمنون الى تلك الجنات وواظبوا على إتيان الطاعات والأعمال الصالحات المقربة نحوها وبالجملة لا تغفلوا عن الله في عموم الحالات واعلموا ايها الموحدون المحمديون قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِكُمْ في القرون الماضية سُنَنٌ ووقائع هائلة بين الأمم الهالكة المنهمكة في بحر الضلال والطغيان ان أردتم ان تعتبروا منها فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ اى عالم الطبيعة ايها المفردون السائحون المعتبرون المتفكرون في ملكوت السماوات والأرض فَانْظُروا من آثارهم واظلالهم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ بتوحيد الله وبرسله المبينين له وإذ أسرتم ونظرتم فاعتبروا يا اولى الأبصار وذوى العبرة والاستبصار هذا اى تذكر سننهم وسيرهم بَيانٌ واضح ودليل لائح لِلنَّاسِ المستكشفين عن غوامض مسالك التوحيد الذاتي من اهل الارادة وَهُدىً لأهل الكشف من ارباب المحبة والولاء وَمَوْعِظَةٌ وتذكير لِلْمُتَّقِينَ من عموم المؤمنين وَبالجملة لا تَهِنُوا ولا تضعفوا ايها المؤمنون من متاعب مسالك الفناء في طريق التوحيد الذاتي وَلا تَحْزَنُوا من المكروهات التي عرضت عليكم من مقتضيات الأوصاف البشرية في النشأة الاولى وَاعلموا ايها الموحدون المحمديون أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ في دار البقاء اى أنتم المقصورون على أعلى المراتب

[سورة آل عمران (3) : آية 140]

وارفع الدرجات إذ لا دين ولا نبي أعلى وأكمل من دينكم ونبيكم لظهوره على التوحيد الذاتي لذلك ختم به صلّى الله عليه وسلّم امر النسخ والتبديل وظهر في دينكم سر قوله سبحانه ما يبدل القول لدى الآية إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين متحققين بتلك المرتبة العلية متمكنين فيها آتنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب إِنْ يَمْسَسْكُمْ ويصبكم ايها المجاهدون المحمديون في سبيل الله لإعلاء كلمة توحيده قَرْحٌ ضيق ومشقة من اعداء الله يوم احد لا تبالوا به ولا تضعفوا بسببه فعليكم تذكر يوم بدر فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ اى أعدائكم قَرْحٌ مِثْلُهُ بل أشد من هذا ومع ذلك لم يضعفوا ولم يجبنوا مع كونهم ساعين على الباطل وأنتم أحقاء بان لا تضعفوا ولا تجبنوا لأنكم مجاهدون في طريق الحق ساعون لترويجه وَبالجملة تِلْكَ الْأَيَّامُ اى ايام النصر والظفر والفتح والغنيمة ايام وازمان نحن نُداوِلُها بَيْنَ عموم النَّاسِ وجمهور الأنام محقهم ومبطلهم مؤمنهم وكافرهم ليعلموا انهم بأجمعهم تحت حيطة اوصافنا الجمالية والجلالية واللطفية والقهرية وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ العليم الحكيم ويميز سبحانه بمقتضى علمه وحكمته الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله عن غيرهم بان أمرهم على الجهاد مع الأعداء ليتحققوا بالفناء ويفوزوا بشرف البقاء وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ ايها المؤمنون شُهَداءَ واصلين فانين في الله فائزين بشرف بقائه ولقائه صائرين احياء دائمين وَاللَّهُ المتوحد بذاته لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المجاوزين عن طريق توحيده المائلين عن صراطه المستقيم وَلِيُمَحِّصَ اى ليصفى ويطهر اللَّهُ المدبر العليم الحكيم بلطفه قلوب الَّذِينَ آمَنُوا اى تيقنوا وتحققوا بصفاء مشرب التوحيد الذاتي وَيَمْحَقَ يهلك في ظلمة البعد والإمكان والعذاب الشديد الْكافِرِينَ الساترين بهوياتهم الباطلة الكثيفة نور الوجود الحق اللطيف أتحسبون وتطمعون ايها المريدون القاصدون سلوك طريق التوحيد انكم كلكم مستوون عند الله في السلوك أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ اى الوحدة الذاتية وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ اى لم يفرق ولم يميز بعلمه الحضوري الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ في سبيله ظاهرا وباطنا وبذلوا جهدهم فيه ومهجهم في ترويجه حتى صاروا فانين في الله شهداء حضراء عنده باقين ببقائه عن المتقاعدين المتكاسلين منكم وَايضا لما يَعْلَمِ ولم يميز منكم الصَّابِرِينَ المتمكنين في مرامي القضاء الراضين بما جرى عليهم من سهام التقدير والبلاء بلا اقدام ولا احجام من غيركم وَبالجملة لَقَدْ كُنْتُمْ أنتم ايها المحمديون الموحدون المستكشفون عن سرائر التوحيد الذاتي تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ الموصل الى مرتبة اليقين العيني والحقي فيما مضى عند وصولكم الى مرتبة اليقين العلمي مسرعين عليها شوقا واستلذاذا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ الآن معاينين مشاهدين قتل إخوانكم وَبعد ما ظهر امارات التوحيد ولمع سراب الفناء وبرق صوارم القضاء من أفق عالم العماء المفضية الى إهلاك الغير والسوى مطلقا أَنْتُمْ ايها الطالبون الوصول الى جنة الذات تَنْظُرُونَ تبطؤن وتفترون وَاعلموا ايها المؤمنون المتوجهون نحو توحيد الذات ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ من الرسل هاد لكم الى طريق التوحيد قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الهادون اليه مثله المنبهون على طريقه وان كان في ضمن توحيد الصفات والأفعال وبالجملة ما لهم وله صلّى الله عليه وسلّم وعليهم الا التبليغ والتنبيه فعليكم ان تتنبهوا وتتحققوا بمقام التحقيق واليقين معرضين عن قشور التقليد والتخمين أَتؤمنون به صلّى الله عليه وسلّم وتسترشدون منه ايها المريدون حال حياته فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ ورجعتم عَلى

[سورة آل عمران (3) : آية 145]

أَعْقابِكُمْ غير واصلين الى فضاء التوحيد وَمَنْ يَنْقَلِبْ ويرجع منكم عَلى عَقِبَيْهِ بلا وصول الى مقصد التوحيد فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بنقصان او زيادة إذ هو سبحانه مستو على عرشه كما كان ازلا وابدا بلا تبديل ولا تغيير بل ما يضر المنقلب إلا نفسه بعدم إيصالها الى غايتها الممكن لها وبذلك قد حط عن رتبة الشاكرين وزمرة الموحدين وَالحال انه سَيَجْزِي اللَّهُ بلطفه الشَّاكِرِينَ منكم الصارفين جميع القوى والجوارح الى ما خلق لأجله الصابرين على ما أصابهم في سبيله الباذلين مهجهم في إعلاء كلمة توحيده الراجين منه سبحانه الوصول الى زلال تجريده وتفريده وَبالجملة اعلموا ايها المؤمنون الموقنون بقضاء الله وقدره ما كانَ لِنَفْسٍ من النفوس الخيرة او الشريرة أَنْ تَمُوتَ بقتل او حتف انف إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وبمقتضى تقديره الثابت المثبت في لوح قضائه السابق إذ كتب سبحانه له كِتاباً جامعا بجميع ما يجرى عليه في عالم الشهادة حياته وموته ورزقه ومدة عمره مُؤَجَّلًا موقتا بوقت معين بحيث لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه وَمَنْ يُرِدْ منكم ثَوابَ الدُّنْيا التي هي ادنى مرتبة الإنسان وانزل منزلته من المفاخرة بالمال والجاه والحسب والنسب نُؤْتِهِ ونعطه مِنْها مقدار ما نقدر له في سابق علمنا ونحاسبه عليه في يوم الجزاء وَمَنْ يُرِدْ منكم ثَوابَ الْآخِرَةِ من الحقائق والمعارف والمواهب العلية التي هي المقصد الأقصى والمطلب الأعلى من إيجاد وظهور نُؤْتِهِ مِنْها مقدار ما يقتضيه استعداده الفطري وَبالجملة سَنَجْزِي بروضة الرضا وجنة التسليم تفضلا منا وامتنانا بلا واسطة الأسباب والوسائل الشَّاكِرِينَ المنسلخين عن مطلق الارادة بل عن جميع الأمور والمرادات الراضين عموم ما قسم لهم وقدر عليهم في سابق علمنا ثم قال سبحانه وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ مجاهد في سبيل الله لترويج كلمة توحيده قد قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ الربانيون المخلصون كَثِيرٌ منهم قتلوا في سبيل الله وأصيبوا فَما وَهَنُوا وما جبنوا لِما أَصابَهُمْ من القرح فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه وكلمة توحيده وَما ضَعُفُوا من محاربة اعداء الله وَمَا اسْتَكانُوا وما تضرعوا على أعدائهم استمهالا واستخلاصا بل قد كانوا جراءين كرارين بحيث لا يرى عليهم امارات الجبن والخوف وعلامات الانهزام أصلا صابرين على ما أصابهم من القرح والجرح وقتل الأقارب والعشائر وَبالجملة اللَّهِ الهادي لعباده الى زلال توحيده يُحِبُّ الصَّابِرِينَ منهم في البلوى الصائرين نحو المولى الراضين لعموم ما يحب له ويرضى وَمن غاية تصبرهم وتمكنهم على الجهاد في سبيل الله ما كانَ قَوْلَهُمْ عند عروض المكروهات ولحوق المصيبات إِلَّا أَنْ قالُوا مستغفرين مسترجعين نحوه خائفين من ضعف الإخلاص في امتثال أوامره رَبَّنَا يا من ربانا في مضيق الإمكان بأنواع اللطف والإحسان اغْفِرْ لَنا بفضلك ذُنُوبَنا اى خواطرنا التي خطرت في نفوسنا من خوف أعدائك بعد ما امرتنا الى مقاتلتهم وَاغفر لنا ايضا يا ربنا إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا اى ميلنا وانحرافنا الى طريق الإفراط والتفريط عن حدودك التي وضعت لنا في امر الغزو والجهاد وَبالجملة ثَبِّتْ أَقْدامَنا على جادة توحيدك التي قد وضعت لنا في حضرة علمك وبينتها على السنة رسلك وَبعد ثبوتنا بتثبيتك يا ربنا انْصُرْنا بحولك وقوتك عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الساترين نور الوجود الحق بهوياتهم الباطلة وماهياتهم العاطلة المائلين عن طريق التوحيد بشؤم شياطين اوهامهم وخيالاتهم وبعد ما أخلصوا في رجوعهم واستغفروا لذنوبهم والتجائوا نحو حوله وقوته سبحانه فَآتاهُمُ اللَّهُ

[سورة آل عمران (3) : آية 149]

مجازيا لهم تفضلا وامتنانا ثَوابَ الدُّنْيا من النصر والغنيمة والفوز والفتح والظفر على الأعداء والرياسة على الأولياء على احيائهم وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ من المشاهدة والرضا والمكاشفة واللقاء على شهدائهم الذين قتلوا في سبيل الله متشوقين الى الفناء فيه كي يتحققوا ببقائه ويفوزوا بشرف لقائه ولا يحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل احياء الآية وَبالجملة اللَّهُ الهادي لعباده الى فضله في معاده يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ منهم ويرضى عنهم سيما الذين أحسنوا في سبيل الله باذلين مهجهم في طريق توحيده. رب اجعلنا من خدامهم وتراب اقدامهم. ثم لما أراد سبحانه تثبيت المؤمنين على قواعد الإسلام ورسوخهم على مقتضيات شعائر الدين والايمان حذرهم عن اطاعة الكفار ومخالطتهم والاستغاثة منهم والاستكانة إليهم فقال مناديا لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا منقادين مستنصرين القوم الَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيد الله عنادا واعرضوا عن كتبه ورسله تعنتا واستكبارا يَرُدُّوكُمْ البتة بعد هدايتكم وثبوتكم على الايمان عَلى أَعْقابِكُمْ التي قد كنتم عليها من الكفر والطغيان قبل انكشافكم بالتوحيد والايمان وان انقلبتم عليها فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ خائبين خسرانا عظيما وخيبة بليغة فعليكم ان تجتنبوا من موالاتهم ومواخاتهم بَلِ اللَّهُ المدبر لأموركم هو مَوْلاكُمْ يولى أموركم ويكفى مؤنة أعدائكم متى استعنتم منه واسترجعتم نحوه وَاعلموا ايها المؤمنون المضطرون في الوقائع والخطوب ان موليكم ونصيركم هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فاستعينوا منه وتوكلوا عليه ولا تيأسوا وما النصر الا من عند الله العزيز العليم. ثم قال سبحانه سَنُلْقِي يعنى حين توجهتم إلينا واستعنتم بنا مخلصين نلقى نحن على مقتضى قهرنا وغضبنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيدنا الرُّعْبَ والمخافة منكم مع كونكم مستضعفين في انفسكم وانما نلقيهم ما نلقيهم بِما أَشْرَكُوا اى بشؤم شركهم واشراكهم بِاللَّهِ المنزه عن الأشباه والأنداد ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً اى آلهة وأصناما لم ينزل الله بها عليهم حجة وبرهانا تلجئهم الى عبادتها واطاعتها بل ما اتخذوا كل ما اتخذوا من الآلهة والشركاء الباطلة الا من تلقاء أنفسهم ظلما وعدوانا تعالى عن ذلك علوا كبيرا وَبالجملة ليس مَأْواهُمُ في النشأة الاخرى الا النَّارُ الموعودة المعدة لمن اظلم وافترى على الله واتبع هواه وَبِئْسَ المثوى والمأوى مَثْوَى الظَّالِمِينَ الكافرين الخارجين عن مقتضيات حدود الله وشعائر توحيده ومأويهم. ثم قال سبحانه تسلية للمؤمنين وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ الرقيب الحفيظ عليكم ايها المؤمنون وَعْدَهُ الذي وعده من النصر والظفر وقت إِذْ تَحُسُّونَهُمْ اى أعدائكم ويحفظ كل منكم مكانه الذي عين له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِإِذْنِهِ اى باذن الله ووحيه بلا ميل الى الغنيمة والنهب حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ ملتم وانصرفتم الى الغنيمة وخالفتم حكم الله ورسوله وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ اى في امر التبادر والتسابق نحو الغنيمة وَعَصَيْتُمْ اى تركتم اطاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ من امارات ما تُحِبُّونَ تطلبون وتوعدون من النصر والظفر المشروط بالتقرر والتمكن وبعد ما رأيتم ما رأيتم قد انقسمتم قسمين مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وحطامها فترك المركز وخالف الأمر وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فثبت على المركز وحفظ الأمر ولم يذب عن مكانه ثُمَّ لما غيرتم ما في نفوسكم من وفاء عهد الله ورسوله صَرَفَكُمْ اى بعدكم الله عَنْهُمْ وعن أموالهم خائبين فارين وانما فعل بكم سبحانه ما فعل لِيَبْتَلِيَكُمْ ويختبركم ببلاء الهزيمة هل

[سورة آل عمران (3) : آية 153]

تستقرون وتثبتون على الايمان وتصبرون على مشاق المصائب الحادثة في حفظه أم لا وَبعد ما خالفتم امر الله وامر رسوله وملتم الى الغنائم سيما بعد ورود النهى من الله ورسوله لَقَدْ عَفا الله ومحا عَنْكُمْ ذنوبكم التي جئتم بها بعد ندامتكم واستغفاركم تفضلا عليكم وان كان مقتضى جريمتكم هذه استئصالكم بالمرة وَبالجملة اللَّهُ الرقيب الحافظ على احوال عموم عباده ذُو فَضْلٍ عظيم عَلَى الْمُؤْمِنِينَ منكم يجاوز عن سيئاتهم وان عظمت زلتهم بعد ما تابوا واستغفروا. اذكروا ايها المؤمنون قبح صنيعكم واستحيوا من الله نادمين عما صدر عنكم وقت إِذْ تُصْعِدُونَ وتذهبون الى الأباعد خوفا من العدو فارين من الزحف متخلفين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَعند فراركم وذهابكم لا تَلْوُونَ ولا تلتفتون على جوانبكم وأعقابكم ولا تنتظرون عَلى أَحَدٍ من أحوالكم وَالرَّسُولُ في تلك الحالة يَدْعُوكُمْ ويناديكم صارخا الى عباد الله وقد كان الرسول فِي أُخْراكُمْ اى ساقتكم وعصابتكم ولم يلتفت احد منكم الى عقبه لإجابة دعائه صلّى الله عليه وسلّم ومع ذلك لم تنجوا سالمين بل فَأَثابَكُمْ وأورثكم الله الرقيب عليكم المصلح لأحوالكم تربية لكم وتأديبا غَمًّا متصلا بِغَمٍّ آخر الى حيث قد أحاطت بكم الغموم من القتل والجرح والإرجاف بقتل الرسول صلّى الله عليه وسلّم الى غير ذلك من الهموم والغموم وانما فعل بكم سبحانه ما فعل لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من النهب والغنيمة وَلا على ما أَصابَكُمْ من الفرار والهزيمة حتى تتمكنوا في مقام الرضا والتسليم ولا تخالفوا امر الله ورسوله وَبالجملة اللَّهُ المصلح المدبر لأحوالكم خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ اى بعموم عملكم بمقتضى تسويلات نفوسكم فيجازيكم بها كي تتنبهوا وتتفطنوا وتسلموا أموركم كلها الى الله وتتحققوا بالتوحيد الذاتي ثُمَّ لما تبتم ورجعتم الى الله نادمين عما فعلتم أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ تفضلا وامتنانا مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ المفرط أَمَنَةً طمأنينة ووقارا الى حيث تورث لكم نُعاساً ورقودا يَغْشى ويعرض طائِفَةً مِنْكُمْ وهم المتحققون بمقام العبودية الراضون بعموم ما جرى عليهم من سلطان القضاء بحيث لا يشوشهم لا السراء ولا الضراء وَطائِفَةٌ اخرى من منافقيكم قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وأوقعتهم هويتهم العاطلة واهويتهم الباطلة في الهموم والغموم المبعدة عن مقام التفويض والتسليم بحيث يَظُنُّونَ بِاللَّهِ ظنا باطلا غَيْرَ الظن الْحَقِّ اللائق به سبحانه بل ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ الباطلة الفاسدة لذلك يَقُولُونَ لرسول الله استكشافا ظاهرا وإنكارا خفيا على سبيل الاستفهام هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ اى امر الله الذي قد وعدتنا به وهو النصر والظفر مِنْ شَيْءٍ أم الأمر والغلبة كله للعدو دائما واليد لهم مستمرا قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا إِنَّ الْأَمْرَ اى الحكم والشأن المتعلق بعموم ما يكون وما كان كُلَّهُ لِلَّهِ مستند اليه أولا وبالذات بلا رؤية الأسباب والوسائل في البين وبالجملة هم من نهاية غفلتهم عن الله وعن حيطة علمه وشمول ارادته وقدرته يُخْفُونَ ويضمرون فِي أَنْفُسِهِمْ من البغض والنفاق ما لا يُبْدُونَ لَكَ يا أكمل الرسل بل يظهرون لإخوانهم إذا خلوا معهم حيث يَقُولُونَ متهكمين مستهزئين لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ والغلبة شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا مظلومين صاغرين قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة لا مرد لقضاء الله ولا معقب لحكمه بل ما يجرى في ملكه الا ما ثبت في علمه ورسم في لوح قضائه واعلموا انكم

[سورة آل عمران (3) : آية 155]

لَوْ كُنْتُمْ متمكنين فِي بُيُوتِكُمْ غير خارجين منها للقتال لَبَرَزَ اى خرج وظهر البتة القوم الَّذِينَ كُتِبَ اى قدر وفرض عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ في هذه المعركة إِلى مَضاجِعِهِمْ مصارعهم ومقاتلهم المقدرة لهم في الوقت الذي قدر بلا تأخير وتقديم وَبالجملة انما فعل بكم سبحانه ما فعل لِيَبْتَلِيَ ويختبر اللَّهُ المطلع بضمائركم ويظهر ما فِي صُدُورِكُمْ هل هو من الإخلاص والرضا أم هو من النفاق والشقاق وَلِيُمَحِّصَ يصفى ويطهر ما فِي قُلُوبِكُمْ من الايمان والتوحيد عن الشرك والنفاق وَبالجملة اللَّهُ المطلع لسرائركم وضمائركم عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بالأمور المكنونة فيها ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا اى استدبروا وتخلفوا مِنْكُمْ ايها المؤمنون جبنا ورهبة بلا شائبة كفر ونفاق يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ اى وقت التقاء الصفين للقتال إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ وأزال قدمهم عن التثبت والتقرر بِبَعْضِ ما كَسَبُوا اى بشؤم بعض أعمالهم المتعلقة بتسويلات نفوسهم التي هي من جنود الشياطين وَبعد ما ندموا واستغفروا وأخلصوا الرجوع الى الله لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ومحا ذنوبهم بلطفه وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ ستار عليهم جميع ما صدر عنهم من الآثام حَلِيمٌ لا يعجل بالبطش والانتقام ليتوبوا ويرجعوا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عليكم ان تحافظوا على مقتضى الايمان والتوحيد ولا تنسبوا الحوادث الى غير الله بل فوضوها كلها الى الله اصالة حتى لا تَكُونُوا ايها المؤمنون كَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله بنسبة الحوادث اصالة الى الأسباب والوسائل العادية وَلذلك قالُوا لِإِخْوانِهِمْ اى في حق إخوانهم الذين ماتوا او قتلوا إِذا ضَرَبُوا وسافروا فِي الْأَرْضِ للتجارة والسياحة أَوْ قتلوا وكانُوا غُزًّى غازين في سبيل الله طالبين رتبة الشهادة لَوْ كانُوا اى هؤلاء الميتون والمقتولون متمكنين عِنْدَنا ما ماتُوا في الغربة وَما قُتِلُوا في يد العدو معتقدين ان ما أصابهم انما أصابهم من الغزو والغربة لا من الله وانما اخطرهم سبحانه بهذا الرأى الفاسد وأقولهم بهذا القول الباطل لِيَجْعَلَ اللَّهُ المنتقم عنهم في النشأة الاولى والاخرى ذلِكَ الحزن والأسف الطارئ عليهم حينئذ حَسْرَةً متمكنة فِي قُلُوبِهِمْ يمرضهم ويضعفهم بها في الدنيا ويعذبهم في الآخرة وَبالجملة اللَّهُ القادر المقتدر على عموم المقدورات المستقل في امر الأحياء والاماتة يُحْيِي بمقتضى لطفه وَيُمِيتُ حسب قهره بلا مظاهرة ولا مشاركة وَاللَّهُ المطلع بسرائر عباده بِما تَعْمَلُونَ ايها المؤمنون بَصِيرٌ ناقد خبير يميز ويصفى إخلاصكم من الرعونة والرياء وأعمالكم من البدع والأهواء وَالله ايها المؤمنون المتوجهون الى الله الطالبون الوصول الى زلال توحيده لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ طلبا لمرضاته أَوْ مُتُّمْ عن مقتضيات بشريتكم بالإرادة قبل موتكم سائرين سائحين في سبيل الفناء لَمَغْفِرَةٌ اى سترة ساترة لأنانيتكم ناشئة مِنَ اللَّهِ اى من جذبه لكم الى توحيده الذاتي وَرَحْمَةٌ اى جذبة نازلة منه مفنية لهوياتكم بالمرة في هويته خَيْرٌ لكم مِمَّا يَجْمَعُونَ وتدخرون أنتم لأنفسكم بهوياتكم الباطلة وان كنتم بارين خيرين فيها وَالله ايها المؤمنون الموحدون المخلصون لَئِنْ مُتُّمْ في طريق الفناء موتا طبيعيا او إراديا أَوْ قُتِلْتُمْ فيه بيد الأعداء لَإِلَى اللَّهِ لا الى غيره إذ لا غير في الوجود تُحْشَرُونَ وترجعون رجوع الظل الى ذي الظل فَبِما رَحْمَةٍ اى بسبب رحمة نازلة لك فائضة مِنَ اللَّهِ عليك يا أكمل

[سورة آل عمران (3) : آية 160]

الرسل «2» لِنْتَ لَهُمْ اى للمؤمنين وواسيت معهم حين مخالفتهم عن اطاعتك واتباعك وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا سيء الخلق غَلِيظَ الْقَلْبِ اى قاسيه لَانْفَضُّوا تفتتوا وتفرقوا البتة مِنْ حَوْلِكَ وان آذوك أحيانا جهلا وغفلة فَاعْفُ عَنْهُمْ تلطفا وترحما على مقتضى نبوتك وَبعد ما عفوك اسْتَغْفِرْ لَهُمْ من الله ليغفر زلتهم لأنك مصلحهم ومدبرهم وبعد عفوك عما لك واستغفارك من الله لأجلهم صف خاطرك معهم وأخرجهم من الحجاب وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ اى في الرخص المتعلقة بترويج الدين والايمان بعد ما تركت المشورة معهم بسبب جريمتهم فَإِذا عَزَمْتَ فالعزيمة لك خاصة خالصة بلا مشورة الغير فَتَوَكَّلْ في عموم عزائمك عَلَى اللَّهِ المتكفل لعموم أمورك واتخذه وكيلا ولا تلتفت الى الغير مطلقا إِنَّ اللَّهَ الهادي لعباده يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ منهم المتخذين الله وكيلا المفوضين أمورهم كلها اليه. وقل للمؤمنين يا أكمل الرسل امحاضا للنصح وايقاظا لهم عن رقدة الغفلة إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ المولى لأموركم بمقتضى لطفه وفضله وبسطته وعزته فَلا غالِبَ لَكُمْ اى لا احد يغلبكم ويعلو عليكم لكونكم حينئذ في حمى الله وفي كنف حفظه وجواره وحيطة حوله وقوته وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ حسب قهره وغضبه فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ اى بعد تعلق بطشه حسب قبضه وجلاله وَبالجملة عَلَى اللَّهِ المعز المذل القوى المتين فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ في جميع أمورهم حتى خلصوا وأخلصوا نم لما نسب المنافقون الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما برأه الله ذيل عصمته عنه من الخيانة والغلول رد الله عليهم هذا الظن الفاسد في حقه صلّى الله عليه وسلّم في ضمن حكم كلى جملي شامل لعموم مراتب النبوة والرسالة مطلقا فقال وَما كانَ اى ما صح وما جاز لِنَبِيٍّ من الأنبياء سيما خاتم النبوة صلّى الله عليه وسلّم أَنْ يَغُلَّ ويخون ويحيف ويميل على احد من الناس وكيف لا يكون كذلك وَمَنْ يَغْلُلْ أحدا من الناس يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ اى يأت الغال مغلولة بما غل فيه على رؤس الاشهاد ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مطيعة او عاصية جزاء ما كَسَبَتْ اى يعطى جزاء ما كسبت وافيا وافرا وَهُمْ يومئذ لا يُظْلَمُونَ ولا ينقصون من أجورهم إذ لا ظلم فيها عدلا بل يزاد عليها تفضلا وامتنانا أَفَمَنِ اتَّبَعَ انقاد وأطاع رِضْوانَ اللَّهِ ورضى بعموم ما قضى عليه وقدر له ورضى الله عنه لتحققه بمقام الرضى والتسليم كَمَنْ باءَ رجع وقصد بكفر وظلم مستلزم بِسَخَطٍ عظيم مِنَ اللَّهِ وَصار بسببه مَأْواهُ ومنقلبه جَهَنَّمُ البعد والخذلان ومصير الطرد والحرمان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصير اهل الكفر

_ (2) نقل عن بعض الصحابة لقد احسن الله إلينا كل الإحسان كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام لكنه دعانا الى كلمة واحدة فلما قبلناها وعرفنا حلاوة لإيمان قبلنا ما وراءها كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق الى ان تم هذا الدين وكملت هذه الشريعة واعلم ان من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب فانه يعلم ان الحوادث الارضية مستندة الى الأسباب الإلهية فيعلم ان الحذر لا يدفع القدر فلا جرم إذا فاته المطلوب لم يغضب وإذا حصل له مطلوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي اشرف من هذه الجسمانيات فلا ينازع أحدا في هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها ولا يغضب على شيء بسبب فوات شيء من مطالبها فيكون حسن الخلق طيب البشرة مع الخلق ولما كان صلّى الله عليه وسلّم أكمل البشر في القوتين النظرية والعملية وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق وجب ان يكون أكمل الناس خلقا وذلك من فضل الله ورحمته على الناس كما قال «فبما رحمة من الله لنت لهم» الآية (نقل عن تفسير نيسابوري)

[سورة آل عمران (3) : آية 163]

والطغيان والظلم والعدوان كلا وحاشا ليس هؤلاء الغواة مثل أولئك الهداة بل هُمْ دَرَجاتٌ اى لأولئك المتابعين رضوان الله درجات عالية عظيمة عِنْدَ اللَّهِ حسب مراتبهم العالية وأعمالهم الصالحة وَبالجملة اللَّهِ المطلع لعموم احوال عباده بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ يجازيهم بمقتضى عملهم ان خيرا فخير وان شرا فشر والله لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ المتفضل المنان منة عظيمة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ المخلصين وقت إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ لهدايتهم وإرشادهم رَسُولًا هاديا لهم ناشئا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأشياعهم يرشدهم ويهديهم الى طريق التوحيد بأنواع اللطف والكرم حيث يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ويسمعهم أولا آياتِهِ الدالة على وحدة ذاته وَيُزَكِّيهِمْ اى يطهرهم ثانيا عن وسوسة شياطين الأهواء المضلة عن الطريق المستبين وَيُعَلِّمُهُمُ ثالثا الْكِتابَ المبين لهم طريق تصفية الظاهر وما يتعلق بعالم الشهادة وَيكشف لهم رابعا الْحِكْمَةَ المصفية لبواطنهم عن الميل الى الغير والسوى الموصلة إياهم الى سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ اى قبل انكشافهم بالمراتب الاربعة العلية لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وخذلان عظيم. نبهنا بفضلك وجودك عن نومة الغافلين ثم قال سبحانه تسلية للمؤمنين وحثا لهم على الجهاد أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يعنى أتيأسون وتقنطون من فضل الله عليكم ايها المؤمنون حين أصابتكم مصيبة يوم احد ولا تذكرون نصره عليكم يوم بدر إذ قَدْ أَصَبْتُمْ فيه مِثْلَيْها إذ قتلتم يومئذ سبعين وأسرتم سبعين حيث قُلْتُمْ من غاية يأسكم واسفكم أَنَّى هذا اى من اين حدث لنا هذه الحادثة الهائلة ونحن قد وعدنا النصر والظفر من عند ربنا قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ وبعدم تثبتكم وتصبركم في مكانكم الذي قد عين لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باذن الله وبعدم وفائكم وثباتكم على العهد الذي عاهدتم معه صلّى الله عليه وسلّم او من أخذ الفدية التي أخذتم يوم بدر مع ان الاولى قتلهم واستئصالهم وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم مخايلكم عَلى كُلِّ شَيْءٍ من المصيبة والإصابة قَدِيرٌ وَاعلموا ايها المؤمنون الموقنون بقدرة الله على عموم الانعام والانتقام ان ما أَصابَكُمْ ولحق بكم يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ اى وقت التقاء الصفين يوم احد فَبِإِذْنِ اللَّهِ المنتقم منكم بسبب تغييركم ما في ضميركم من نية التقرب بالميل الى زخرفة الدنيا واتباع الهوى وَانما ابتليكم الله بما ابتليكم لِيَعْلَمَ اى يميز ويفرق الْمُؤْمِنِينَ الذين ثبتوا على الايمان وتمكنوا مستقرين على شعائر الإسلام عن غيرهم وَلِيَعْلَمَ ويفصل ايضا الَّذِينَ نافَقُوا اى أظهروا الوفاق وابطنوا الكفر والشقاق وَلذلك قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع اعداء الله حتى نستأصلهم أَوِ ادْفَعُوا ضررهم عنا قالُوا في الجواب بمقتضى ما في قلوبهم من النفاق لَوْ نَعْلَمُ مساواة بينكم وبينهم او نعلم كونهم على ضعفكم فنسميه قِتالًا فإذا لَاتَّبَعْناكُمْ فنقاتل معكم بل هم بأضعافكم وآلافكم عددا وعددا وبالجملة ما أنتم عليه انما هو إلقاء النفس في التهلكة لا المقاتلة والمدافعة فكيف نتبعكم وبالجملة هُمْ بسبب صدور هذا القول منهم لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ لمطابقة قولهم هذا بما في نفوسهم من الكفر وعدم مطابقته بايمانهم الذي هو مجرد القول إذ هم يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ حفظا لدمائهم وأموالهم تلبيسا وتغريرا ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ من القبول والإذعان وَاللَّهُ المطلع لما في ضمائرهم أَعْلَمُ منهم بِما يَكْتُمُونَ في قلوبهم من الكفر والنفاق يجازيهم بمقتضى

[سورة آل عمران (3) : آية 168]

علمه وبالجملة هم الَّذِينَ قالُوا من نهاية نفاقهم وشقاقهم لِإِخْوانِهِمْ اى في حق إخوانهم الذين خرجوا مع المؤمنين وقتلوا وَهم قد قَعَدُوا في مساكنهم متخلفين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لَوْ أَطاعُونا هؤلاء المقتولون في القعود والتخلف ما قُتِلُوا كما لم نقتل معتقدين ان القعود سبب السلامة والنجاة والخروج سبب القتل ولم يعلموا ان للموت أسبابا كثيرة وللحياة ايضا أسبابا لا يدركها ولا يحيط بها الا هو وكم من قاعد قد مات او قتل من حيث لا يحتسب وكم من خارج قد نجا وان اقتحم الوغا والعلم عند الله قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التبكيت والإلزام ان قدرتم على الدفع فَادْرَؤُا وادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ المقدر لكم من عند الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ايها المدعون الكاذبون وبعد ما بين سبحانه جرائم المؤمنين يوم احد وزلتهم ومتابعتهم للمنافقين في التخلف عن رسول الله والميل الى الغنيمة وترك المركز مع كونهم مأمورين على خلافها أراد ان ينبه عليهم سرائر الغزو والشهادة فيه وبذل المهج في سبيله فقال مخاطبا لرسوله على طريق الكف والنهى لنبيه ومن يقتدى له من المؤمنين لان أمثال هذه الخطابات والتنبيهات انما تليق لمن وصل الى ذروة مسالك التوحيد وتحقق بنهاية مراتب التجريد والتفريد بقوله وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ باذلين مهجهم في طريق الفناء ليفوزوا بشرف البقاء أَمْواتاً معطلين عن الحس والحركة كالأموات الاخر بَلْ هم أَحْياءٌ ذووا أوصاف واسماء ازلية وابدية مقربين بها عِنْدَ رَبِّهِمْ الجامع لجميع الأوصاف والأسماء يُرْزَقُونَ بمقتضاها من عنده فَرِحِينَ مسرورين بِما آتاهُمُ اللَّهُ عن موائد المعرفة والإحسان بسببها مِنْ فَضْلِهِ خالدين فيها ابدا وَمع تلك اللذة الكاملة والفرح المفرط يَسْتَبْشِرُونَ ويطلبون البشارة والشفاعة من لدنه سبحانه بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ من إخوانهم الذين بقوا مِنْ خَلْفِهِمْ في دار الدنيا التي هي منزل الخطر والعناء ومحل الخوف والفناء قائلين لهم منادين عليهم منبهين أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لو يلحقوا بنا وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لو خلصوا عن الدنيا ولوازمها بل يَسْتَبْشِرُونَ دائما لأنفسهم ولإخوانهم بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ جزاء لما جاهدوا في سبيله وَفَضْلٍ عطاء منه سبحانه امتنانا عليهم من لطفه وَاعلموا ايها العاملون لرضا الله المجاهدون في سبيله أَنَّ اللَّهَ المجازى لعموم عباده لا يُضِيعُ سبحانه بمقتضى كرمه وجوده أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ المجتهدين الذين بذلوا جهدهم في محبة الله ومحبة رسوله سيما الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ راجين الاجابة والقبول منهما حين دعاهم الله ورسوله الى المقاتلة مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ من العدو بلا مماطلة وتسويف بل رغبتهم على الكر أشد من المرة الاولى وذلك ان أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من المدينة فبلغوا روحاء ندموا وقصدوا الرجوع ليستأصلوهم فبلغ الخبر الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنصب أصحابه للخروج في طلبهم فقال لا يخرجن معنا اليوم الا من كان معنا أمس فخرج صلى الله عليه وسلّم مع جماعة من المؤمنين حتى بلغوا حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة وكان بأصحابه الفرح والسرور متلهفين متحسرين للشهادة متشوقين الى مرتبة إخوانهم الذين استشهدوا في سبيل الله فمر بهم معبد الخزاعي وكان يومئذ مشركا فقال يا محمد لقد عز علينا ما اصابك وأصحابك ثم خرج من بينهم فلقى أبا سفيان بالروحاء فقال له ابو سفيان ما ورائك يا معبد قال محمد قد خرج مع أصحابه يطلبونكم على تهور لم أر مثلهم أحدا يتحرقون عليكم تحرقا بحيث

[سورة آل عمران (3) : آية 173]

لو لقيتم إياهم ما بقيتم قال له ابو سفيان ويلك ما تقول قال والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال فو الله لقد اجمعنا للكرة عليهم لنستأصل بقيتهم قال فانى والله لقد أنهاك عن ذلك فالقى الله في قلوبهم الرعب فرجعوا مستوحشين لذلك قال سبحانه في حق المؤمنين لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ببذل الروح في سبيل الله بالخروج مع رسول الله مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا عن مخالفة امر الله ورسوله أَجْرٌ عَظِيمٌ لا اجر أعظم منه الا وهو الفوز بالبقاء الأبدي السرمدي وهم من كمال ايمانهم هم الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ المخبرون لهم ترحما وتحذيرا إِنَّ النَّاسَ يعنى أبا سفيان وأصحابه قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ليكروا عليكم ويستأصلوكم فَاخْشَوْهُمْ حتى لا يلحقكم ضررهم ثانيا فَزادَهُمْ قول المخبرين الناصحين إِيماناً اطاعة وانقيادا وتسليما ورضا على حكم الله ورسوله وَقالُوا في جوابه من غاية تفويضهم وتسليمهم حَسْبُنَا اللَّهُ وكافينا يكفينا عنايته لنا في حياتنا ومماتنا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ هو سبحانه لعموم مصالحنا نفوض أمورنا كلها اليه ونعتصم به من سخطه وغضبه. ثم لما فوضوا أمورهم الى الله واعتصموا له واستنصروا منه وتوكلوا عليه قذف الله في قلوب أعدائهم الرعب فهربوا فَانْقَلَبُوا يعنى هو صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه من حمراء الأسد بِنِعْمَةٍ عظيمة فائضة مِنَ اللَّهِ وهي تصبرهم على ما أصابهم في إعلاء كلمة الحق وَفَضْلٍ زيادة عطاء تفضلا وامتنانا لتحققهم بمقام الرضا بعموم ما أصابهم من القضاء وذلك انهم لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أصلا بعد ما أصاب لهم يوم احد بل ما صاروا بعد ذلك إلا غالبين دائما على الأعداء وَما ذلك الا انهم قد اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ ورضا رسول الله بلا ميل منهم الى مقتضيات نفوسهم وَبالجملة اللَّهِ المجازى لعموم عباده ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ولطف جسيم على من هو من اهل الرضا والتسليم واعلموا ايها المؤمنون المفوضون المسلمون إِنَّما ذلِكُمُ المخبرون المخوفون لكم هم الشَّيْطانُ واتباعه إذ ما يُخَوِّفُ الشيطان من الأعداء الا أَوْلِياءَهُ وهم المنافقون فَلا تَخافُوهُمْ أنتم ايها المؤمنون إذ الله معكم يحفظكم عما يضركم وَخافُونِ من اطاعة الشيطان ومتابعته حتى لا يلحقكم غضى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بقدرتي على عموم الانعام والانتقام وَبالجملة لا يَحْزُنْكَ يا أكمل الرسل ضرر الَّذِينَ يُسارِعُونَ ويوقعون أنفسهم فِي الْكُفْرِ سريعا من المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم إِنَّهُمْ بسبب كفرهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بل ضرر كفرهم انما يعود إليهم ويلحق بهم إذ يُرِيدُ اللَّهُ المقدر لكفرهم أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ لذلك وفقهم على الكفر وَهيأ لَهُمْ فيها عَذابٌ عَظِيمٌ هو عذاب الطرد والخذلان والحسرة والحرمان جزاء لكفرهم ونفاقهم ثم برهن عليه سبحانه بقوله إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا واستبدلوا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ من شدة نفاقهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ الغنى بذاته شَيْئاً بهذا الاستبدال والاختيار بل وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مولم في الدنيا بالقتل والسبي والاجلاء وفي الآخرة بالحرمان عن رتبة الإنسان وَبالجملة لا يَحْسَبَنَّ يا أكمل الرسل الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ اى امهالنا إياهم في النشأة الاولى خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ولهم فيه نفع وفائدة بل إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً موجبا للعذاب وَلَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ مُهِينٌ مذل مخز جزاء لاستكبارهم وعتوهم في الدنيا. ثم لما اختلط المنافقون مع المؤمنين وتشاركوا معهم في اظهار الايمان والقول به على طرف

[سورة آل عمران (3) : آية 180]

اللسان بلا اعتقاد منهم واخلاص أراد سبحانه ان يبين المؤمن ويميزه من المنافق والمخلص من المرائى فقال ما كانَ اللَّهُ المطلع لضمائر عباده لِيَذَرَ ويترك الْمُؤْمِنِينَ المخلصين عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الالتباس والمشاركة مع اهل الكفر والنفاق بحسب الظاهر بل يختبر ويمتحن إخلاصكم بأنواع البليات والمصيبات حَتَّى يَمِيزَ ويفصل الْخَبِيثَ المنافق المصر على النفاق مِنَ الطَّيِّبِ المؤمن الموقن بتوحيد الله الراضي بما جرى عليه من قضائه وَبعد تمييزه وفصله سبحانه ما كانَ اللَّهُ المطلع على عموم الغيوب لِيُطْلِعَكُمْ بأجمعكم عَلَى الْغَيْبِ الذي من جملة ما في ضمائر عباده من الوفاق والنفاق وَلكِنَّ اللَّهَ المحيط بعموم القابليات يَجْتَبِي ويختار مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ بان يوحى اليه ويلهمه التمييز بين استعدات عباده للايمان والكفر وإذا كان عموم الأمر عند الله العزيز العليم فَآمِنُوا ايها المؤمنون المخلصون بِاللَّهِ المميز لاستعداداتكم اصالة وَرُسُلِهِ الملهمين بالتمييز تبعا وَإِنْ تُؤْمِنُوا وتحافظوا على شعائر الايمان بعد ما آمنتم وَتَتَّقُوا عن الميل والمخالفة فَلَكُمْ عند الله الميسر لكم أَجْرٌ عَظِيمٌ هو ايصالكم الى التحقق بمقام العبودية والتوحيد إذ لا اجر أعظم منه وَمن جملة الأمور التي يجب الاتقاء والتحرز عنه البخل لا يَحْسَبَنَّ البخلاء الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ المنعم المفضل إياه مِنْ فَضْلِهِ اختيارا لهم تدخيرا وتوريثا لأولادهم هُوَ خَيْراً لَهُمْ اى البخل ينفعهم عند الله ويثيبهم لأجله او يدفع عنهم العذاب بسببه بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ يستجلب انواع العذاب عليهم وكيف لا يجلب سَيُطَوَّقُونَ اى يسلسلون ويغلون ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ويسحبون بتلك السلسلة والغل على وجوههم الى نار البعد والحرمان جزاء لبخلهم الذي كانوا عليه وَبالجملة لِلَّهِ لا لغيره من الأسباب والوسائل مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى حيازة جميع ما في عالم الأرواح وعالم الأشباح تملكا وتصرفا بحيث لا ينازع في ملكه ولا يشارك في سلطانه بل له الحكم والشان واليه رجوع عموم ما يكون وكان وَاللَّهُ المتوحد المتفرد في ملكه وملكوته بِما تَعْمَلُونَ من التصرفات المجازية خَبِيرٌ لا يغيب عن خبرته شيء من أفعالكم وأقوالكم كما اخبر سبحانه عن علمه بقول اليهود بقوله لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ السميع العليم قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا استهزاء ومراء حين نزل الآية الكريمة من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ قد استقرض منا وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وبعد ما سمع منهم سبحانه ما سمع قال على سبيل التهديد والتوعيد سَنَكْتُبُ ما قالُوا اى قولهم هذا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ فيما مضى في صحائف أعمالهم في نظم واحد ونجازيهم يوم الجزاء حسب ما كتبنا وَنَقُولُ لهم وقت جزائنا إياهم ذُوقُوا ايها المسيئون المفرطون في اساءة الأدب مع الله ورسله عَذابَ الْحَرِيقِ المحرق غاية الإحراق حيث يدرك ويذوق احراقنا اجسامكم وجميع قواكم ونقول لكم حينئذ لا تنسبونا في هذا التعذيب والإحراق الى الظلم والعدوان إذ حلول ذلِكَ العذاب عليكم انما هو بِما قَدَّمَتْ واكتسبت أَيْدِيكُمْ من المعاصي العظيمة والجرائم الكبيرة التي من جملتها قولكم هذا وقتلكم الأنبياء فيما مضى واهتمامكم بقتل آخر الأنبياء عليه السّلام وَاعلموا أَنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور لَيْسَ بِظَلَّامٍ اى ذي ظلم وعدوان لِلْعَبِيدِ الذين ظلموا في دار الدنيا بل يجازيهم وينتقم عنهم بمقتضى ظلمهم وطغيانهم بلا زيادة ونقصان عدلا منه سبحانه ومن جملة المعذبين ايضا بهذا العذاب المهين الَّذِينَ قالُوا افتراء

[سورة آل عمران (3) : آية 184]

على الله في تعليل عدم ايمانهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا في التورية وأوصانا أَلَّا نُؤْمِنَ ولا نقر لِرَسُولٍ اى لكل رسول يدعى الرسالة من عنده سبحانه ويظهر المعجزة وفق دعواه حَتَّى يَأْتِيَنا في أظهرنا وبين أيدينا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ وتحيله النَّارُ النازلة من جانب السماء وذلك لأنهم ادعوا ان أنبياء بنى إسرائيل يتقربون الى الله بقربان فيتقدم النبي يدعو والناس حوله فينزل نار من جانب السماء فتحيل القربان الى طبعها فجأة وقد كان هذه علامة قبول الله قرابينهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ اى المعجزات الواضحة الدالة على رسالتهم وَخصوصا بِالَّذِي قُلْتُمْ وادعيتم فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ مع إتيانهم بعموم ما اقترحتم منهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ان ايمانكم موقوف على هذه المعجزة وإذا كان أمرهم هذا وشانهم هكذا فَإِنْ كَذَّبُوكَ وأنكروا عليك يا أكمل الرسل لا تبال بتكذيبهم وانكارهم فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ذووا معجزات كثيرة وآيات كبيرة ومع انهم انما جاؤُ على من أرسل إليهم بِالْبَيِّناتِ الواضحة الموضحة وَالزُّبُرِ اى الصحف المشتملة على الاحكام فقط وَالْكِتابِ الجامع للحكم والاحكام والعبر والمواعظ والرموز والإشارات الْمُنِيرِ على عموم من استنار منه واسترشد ومع ذلك قد أنكروا عليه واستكبروا فمضوا هم ومن أنكر عليهم واستكبر إذ كُلُّ نَفْسٍ خيرة كانت او شريرة ذائِقَةُ كأس الْمَوْتِ عند حلول الأجل المقدر له من لدنا وَبالجملة إِنَّما تُوَفَّوْنَ وتعطون أُجُورَكُمْ اى جزاء أعمالكم خيرا كان او شرا يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد للجزاء والوفاء فَمَنْ زُحْزِحَ وبعد بصالح اعماله عَنِ النَّارِ المعدة للفجرة والأشقياء وَأُدْخِلَ بسببها الْجَنَّةَ التي أعدت للصلحاء والسعداء فَقَدْ فازَ فوزا عظيما ومن لم بزحزح عن النار ولم يبعد عنها بل ادخل فيها لفساد عمله فقد خسر خسرانا مبينا وَبالجملة اعلموا ايها المكلفون بالإيمان والأعمال الصالحة المتفرعة عليه مَا الْحَياةُ الدُّنْيا التي أنتم تعيشون بها فيها إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ بمزخرفاتها يغركم بلذاتها الفانية الغير القارة عن النعيم الدائم واللذة المستمرة وأنتم ايها المغرورون بمزخرفاتها الدنية لا يتنبهون. والله ايها المؤمنون لَتُبْلَوُنَّ ولتختبرن فِي إتلاف أَمْوالِكُمْ التي هي حطام دنياكم وَايضا باماتة أَنْفُسِكُمْ وأولادكم التي هي الهالكة المستهلكة في حدود ذواتها وَلَتَسْمَعُنَّ اخبارا ووقائع مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ من اليهود والنصارى وَايضا مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ممن لا كتاب لهم ولا نبي أَذىً كَثِيراً يؤذيكم سماعها فكيف ادراكها كل ذلك لتوطنوا انفسكم على مقتضيات التوحيد وتمكنوها في مقام الرضا والتسليم كي تستقروا في مقام العبودية مطمئنين بلا تزلزل وتلوين وَإِنْ تَصْبِرُوا ايها الموحدون بأمثالها وَتَتَّقُوا عن الإضرار بها والشكوى عنها فَإِنَّ ذلِكَ اى صبركم وتقويكم هذا مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ اى من الأمور التي قد عزم عليها عموم ارباب المحبة والولاء المستكشفين عن غوامض اسرار التوحيد فعليكم ان تواظبوا عليها ان كنتم راسخين في طلب اليقين. ثبتنا بلطفك على منهج الاستقامة واعذنا من موجبات الندامة يوم القيمة وَاذكر يا أكمل الرسل لمن يؤذيك من اهل الكتاب وقت إِذْ أَخَذَ اللَّهُ المرسل للرسل المنزل للكتب مِيثاقَ اى العهد الوثيق على الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اخبار اليهود والنصارى لَتُبَيِّنُنَّهُ اى الكتاب صريحا واضحا بلا تبديل

[سورة آل عمران (3) : آية 188]

ولا تغيير لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ شيأ مما فيه من القصص والعبر والرموز والإشارات سيما من أوصاف النبي الموعود صلّى الله عليه وسلّم فَنَبَذُوهُ بعد عهدهم وميثاقهم المعهود وَراءَ ظُهُورِهِمْ وان كان الواجب عليهم الحفظ والوفاء وَاشْتَرَوْا بِهِ اى اختاروا بدله ثَمَناً قَلِيلًا من الرشى من مترفيهم ومستكبريهم حفظا لرئاستهم وجاههم فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ ويختارون بدل ما يكتمون سيما أوصاف محمد صلّى الله عليه وسلّم وبالجملة لا تَحْسَبَنَّ ايها الكامل في امر الرسالة المنافقين الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا من الخداع والنفاق مع المؤمنين واظهارهم الايمان على طرف اللسان وَهم في أنفسهم يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا عند إخوانهم بِما لَمْ يَفْعَلُوا من الإخلاص مع المؤمنين وهم وان خلصوا عن أيدي المؤمنين ظاهرا بخداعهم وتغريرهم هذا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ يا أكمل الرسل بِمَفازَةٍ مخلص ومنجاة مِنَ الْعَذابِ المخلد المعد لهم في يوم الجزاء بل وَلَهُمْ فيه عَذابٌ أَلِيمٌ سيما عند رؤيتهم المؤمنين المخلصين في النعيم المقيم واللذة المستمرة وَان اغتر أولئك المغرورون بامهال الله إياهم في النشأة الاولى وما علموا انهم لا يمهلون في النشأة الاخرى إذ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ اى عالم الأرواح وَالْأَرْضِ اى عالم الطبيعة والأشباح. وله التصرف فيهما كيف يشاء متى يشاء بالإرادة والاختيار بطشا وامهالا ثوابا وعذابا وَبالجملة اللَّهُ المتعزز المتفرد في ملكه وملكوته عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الانعام والانتقام قَدِيرٌ بلا فتور ولا قصور. ثم قال سبحانه ايقاظا للمسترشد الخبير وتنبيها للمستبصر البصير إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ اى الأوصاف والأسماء الفياضة الفعالة وَالْأَرْضِ اى الطبيعة القابلة لقبول الفيض وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ اى آثار القبض والجلال وَالنَّهارِ اى آثار البسط والجمال لَآياتٍ دلائل وعلامات على رقائق المناسبات ودقائق الارتباطات الواقعة بين الأسماء والصفات المستدعية لظهور التجليات الظاهرة في الأنفس والآفاق حسب القوابل والمظاهر لِأُولِي الْأَلْبابِ الواصلين الى لب التوحيد المعرضين عن قشوره بالمرة. الا وهم الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ المتوحد في ذاته في جميع حالاتهم سواء كانوا قِياماً اى قائمين وَقُعُوداً اى قاعدين وَعَلى جُنُوبِهِمْ مضطجعين متكئين وَبالجملة هم في عموم شئونهم وحالاتهم يَتَفَكَّرُونَ دائما فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الى ان سكروا وترقى أمرهم في السكر الى ان يتحيروا وبعد تحيرهم استغرقوا وبعد استغراقهم تاهوا وهاموا وبعد ذلك فنوا في الله ثم فنوا ثم فنوا وانقطع سيرهم فمنهم من تمكن في تلك المرتبة العلية واستقر عليها وبقي في قباب عز الوحدة متعززا متفردا ومنهم من صحا عن سكره ورجع الى بدئه مستكملا قائلا رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا المحسوس المشاهد باطِلًا بلا طائل سُبْحانَكَ نقدسك وننزهك يا ربنا عن مدركات عقولنا وحواسنا فَقِنا واحفظنا بلطفك عَذابَ النَّارِ الذي قد أحاط بنا بسبب غفلتنا عن مطالعة وجهك الكريم رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ اى جعلته في مضيق الإمكان من المحبوسين المسجونين المعذبين المطرودين فظلموا أنفسهم بالتفاتهم نحو الغير وَبالجملة ما لِلظَّالِمِينَ المستقرين نفوسهم في ظلمة الإمكان بأنواع الخزي والخذلان مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم ويخرجونهم منها سوى المؤيدين من عندك من الأنبياء والأولياء المأمورين من لدنك بهداية المضلين رَبَّنا بعد ما وفقتنا بإرسال رسلك إلينا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً مشفقا هاديا مرشدا إذ هو يُنادِي ويرشد لِلْإِيمانِ بتوحيدك قائلا

[سورة آل عمران (3) : آية 194]

مخاطبا إيانا أَنْ آمِنُوا عباد الله وتوجهوا ايها التائهون في تيه العدم الذي هو عبارة عن مضيق الإمكان بِرَبِّكُمْ الذي رباكم سور وجوب الوجود وبعد ما سمعنا نداءه فَآمَنَّا به وامتثلنا امره وصدقنا قوله يا رَبَّنا فحققنا بإرشاده واشفاقه في مرتبة اليقين العلمي بوحدة ذاتك وبعد تحققنا فيها بإعانتك وتوفيقك فَاغْفِرْ واستر لَنا ذُنُوبَنا اى انانيتنا وهويتنا التي قد صرنا بها محرومين عن ساحة عز حضورك حتى نتحقق ونصل بفضلك ولطفك الى مرتبة اليقين العيني ونكاشف بمعاينة ذاتك ونتشرف بمطالعة وجهك الكريم وَبعد ما تحققنا فيها كَفِّرْ وطهر عَنَّا سَيِّئاتِنا اى عموم اوصافنا التي تشعر بالاثنينية بالكلية حتى نتحقق حسب فضلك وجودك في مرتبة اليقين الحقي وَبالجملة تَوَفَّنا في فضاء الفناء مَعَ الْأَبْرارِ الفانين في ذاتك الباقين ببقائك رَبَّنا ثبتنا في مقام عبوديتك وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى لسان رُسُلِكَ من الكشوف والشهود وسائر ما جاءوا به وأخبروا عنه وَلا تُخْزِنا ولا تحرمنا يَوْمَ الْقِيامَةِ حين لقيناك عما وعدتنا من شرف لقائك إِنَّكَ بمقتضى لطفك وجودك على عبادك لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ الذي قد وعدته إياهم من سعة رحمتك وجودك. ثم لما تضرعوا الى الله والتجئوا نحوه نادمين عما هم عليه من مقتضيات بشريتهم فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ واستقبل عليهم بالاجابة والقبول قائلا أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مخلص مِنْكُمْ سواء كان مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى إذ بَعْضُكُمْ ناش مِنْ بَعْضٍ ذكركم من انثاكم وانثاكم من ذكركم وكلكم مشتركون في مرتبة الانسانية وفي المظهرية الجامعة اللائقة للخلافة والنيابة وبالجملة فَالَّذِينَ هاجَرُوا منكم من دار الغرور طالبين الوصول الى دار السرور وَأُخْرِجُوا بسبب هذا الميل مِنْ دِيارِهِمْ المألوفة التي هي بقعة الإمكان وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي بواسطة قطع التعلقات البشرية وترك المألوفات الطبيعية وَقاتَلُوا مع القوى الحيوانية وَقُتِلُوا في الجهاد الأكبر مع جنود الامارة لَأُكَفِّرَنَّ اى لأمحون واطهرن عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي هي ذواتهم الباطلة العاطلة الهالكة المستهلكة في حدود ذواتها وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ ملاحظات ومكاشفات ومشاهدات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ دائما مملوة بمياه المعارف والحقائق المتجددة بتجدد الأمثال يثابون فيها دائما مستمرا ثَواباً نازلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تفضلا عليهم وامتنانا وَبالجملة اللَّهِ الجامع لشتات العباد عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ وخير المنقلب والمآب لا يَغُرَّنَّكَ يا أكمل الرسل تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا انتقالهم وترحالهم فِي الْبِلادِ لاستجلاب المنافع والمتاجر إذ هو مَتاعٌ قَلِيلٌ ولذة يسيرة في مدة قصيرة ثُمَّ اى بعد انقضاء النشأة الاولى مَأْواهُمْ ومنقلبهم جَهَنَّمُ البعد والخذلان خالدين فيها ابد الآباد وَبالجملة بِئْسَ الْمِهادُ مضيق الإمكان المستلزم لانواع الحرمان والخذلان لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ وحذروا عن الاشتغال بزخرفة الدنيا وأمتعتها منيبين اليه متوجهين نحوه لَهُمْ عنده سبحانه جَنَّاتٌ متنزهات محتوية بأنواع اللذات الروحانية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مملوة من العلوم البدنية خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حين وصلوا اليه واتصلوا به سبحانه وَاعلموا ايها المؤمنون الموحدون المحمديون ما عِنْدَ اللَّهِ من اللذات الدائمة والمثوبات المستمرة خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ المتوجهين الى دار القرار ثم قال سبحانه وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ المنزل للكتب على الرسل المرسل للرسل

[سورة آل عمران (3) : آية 200]

وَلا يفرق ولا يميز بين الكتب والرسل أصلا بل يؤمن لجميع ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن والرسول الذي هو محمد عليه السّلام وَكذا ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من التورية والإنجيل المنزلين على موسى وعيسى عليهما السّلام وكذا سائر الكتب والصحف المنزلة من عنده سبحانه على الرسل الماضين لتحققهم في مقام العبودية والتوحيد وهم في هذا الايمان والإذعان خاشِعِينَ خاضعين لِلَّهِ مخلصين له. وعلامة خشوعهم وخضوعهم انهم لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ بتبديلها وتحريفها ثَمَناً قَلِيلًا من الرشى مثل أحبار اليهود ومتفقهة هذه الامة في هذا العصر خذلهم الله وهم الذين يحتالون في احكام الشريعة المصطفوية بمقتضى أحلامهم السخيفة وآراءهم الباطلة ويأخذون الرشى لأجل حيلتهم هذه ويسمونها حيلة شرعية مع ان الشرع الشريف انما وضع لرفض المكر والحيلة كأنه قد ظهر ما قال صلّى الله عليه وسلّم الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ أُولئِكَ السعداء الأمناء المخلصون الخاشعون الخاضعون لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يوفيهم عليهم أجورهم يوم الجزاء من حيث لا يحتسبون ولا يستحقون بها بأعمالهم إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائرهم سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب أعمالهم ويجازيهم عليها سريعا بل يزيد عليهم تفضلا وامتنانا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق مقتضى ايمانكم الصبر على متاعب مسالك التوحيد اصْبِرُوا على مشاق التكليفات الواقعة في طريقه وَصابِرُوا اى غالبوا على جنود القوى النفسانية العائقة عن الرياضات القالعة للاهوية الفاسدة وَرابِطُوا قلوبكم الى المشاهدات والمكاشفات الواردة من النسمات الإلهية والنفسات الرحمانية المهبة من قبل يمن عالم اللاهوت حسب جود حضرة الرحموت وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ عن جميع ما يعوقكم ويشغلكم عن التوجه نحوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون منه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ربنا افرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين واحشرنا مع الصابرين المرابطين وهب لنا من لدنك رحمة انك ارحم الراحمين خاتمة سورة آل عمران عليك ايها الموحد المحمدي المترصد لفيضان الكشف واليقين ونزول الاطمئنان والتمكين ان تتصبر على عموم ما جرى عليك من المصيبات والبليات المشعرة للاختبارات الإلهية وابتلاءاته عن رسوخ قدمك في جادة التوحيد وصدق عزيمتك في مسلك الفناء وعلو همتك للتحقق بدار البقاء وتربط قلبك بحقك الذي هو أصلك وحقيقتك مقبلا عليه متوجها اليه مجتنبا عن جميع ما يعوقك عنه من لوازم ماهيتك ولواحق هويتك التي لا حقيقة لها عند التحقيق ولا قرار على ما يترتب عليها وعلى لوازمها إذ هي أعراض متبدلة بل اظلال باطلة واعدام صرفة زائلة عاطلة لا تحقق لها ولآثارها أصلا سوى ان الوجود الحقيقي قد انبسط عليها وأمد إليها بجميع كمالاته فانعكس منه ما انعكس فيتراءى العكوس والاظلال متشعشعة متجددة دائما بمقتضى تجدد تجليات الأوصاف والأسماء الى حيث قد ظن المحجوب الفاقد بصر البصيرة وعين الشهود انها متأصلات في الوجود بل ما هي عند التحقيق إلا تجل واحد منفرد مستمر ازلا وابدا على هذا المنوال. ذقنا بلطفك حلاوة معرفتك وتوحيدك يا أكرم الأكرمين فلك ان تصفى ضميرك عن عموم ما يؤدى الى التقليد والتخمين وتفرغ خاطرك عن جميع ما يوهم التعدد والكثرة حتى انشرح صدرك واتسع قلبك

سورة النساء

واستعد لان يصير منزلا لسلطان الوجود الذي هو منبع عموم الكمالات والجود وقبلة الواجد والموجود الا وهو الحوض المورود والمقام المحمود وإياك إياك ان تقتفى اثر وساوس مقتضيات نفسك التي هي أعدى عدوك وأشد ما يغويك ويضلك بل جميع شياطينك انما انتشأت منها واستتبعت عليها فعليك ان تلتجئ في الاجتناب عن غوائلها بالمرشد الرشيد الكافل الكامل الذي هو القرآن المجيد المنزل من عند الله على خير الأنام المؤيد من لدن عليم علام ليهدى الضالين المضلين عن جادة التوحيد. بمتابعة الشيطان المريد. ويوصلهم الى صفاء التجريد. وزلال التفريد. بتوفيق من الله وجذب من جانبه. وفقنا بلطفك وكرمك بما تحب وترضى عنا يا مولانا [سورة النساء] فاتحة سورة النساء لا يخفى على الموحدين المتأملين في كيفية انبساط الوحدة الذاتية على صفائح الأعيان الممكنة الفانية للحصر والإحصاء ان للحق جل جلاله وعم نواله حسب وحدته الذاتية ظهورا في كل ذرة من ذرائر الكائنات ليظهر منها آثار أوصافه وأسمائه الكامنة في غيب هويته حسب استعداداتها وقابلياتها والمظهر الكامل الجامع الذي يلوح منه عموم آثار الأسماء والصفات الإلهية على التفصيل ليس الا الإنسان الكامل لذلك قد خلقه سبحانه على صورته واستخلفه من بين بريته وكرمه على جميع خليقته ورزقه من طيبات معارفه وحقائقه والتفت بذاته نحو تخميره ورباه بإرسال رسله وإنزال كتبه ليظهر منه جميع ما أودعه فيه من الكمالات المترتبة على أسمائه الحسنى وصفاته العليا حتى يتمكن في مرتبة الخلافة والنيابة مطمئنا ويتقرر على مقر التوحيد متمكنا لذلك ناداهم امتنانا عليهم ليقبلوا اليه وأوصاهم بالتقوى ليتخذوه وقاية وكفيلا وقائدا ودليلا فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على من استخلفه بجميع كمالاته إظهارا لقدرته الرَّحْمنِ عليه بنشر ذريته وتوريث مرتبته الرَّحِيمِ عليه بهدايته الى مبدأه ومعاده حسب نشأته [الآيات] يا أَيُّهَا النَّاسُ الذين نسوا الموطن الأصلي والمنزل الحقيقي بزخرفة الدنيا المانعة من الوصول اليه عليكم الاتقاء من غوائلها والاجتناب عن مخايلها حتى لا تنحطوا عن مرتبتكم الاصلية ومكانتكم الحقيقية اتَّقُوا واحذروا عن تغريرات الدنيا الدنية والتجؤا رَبَّكُمُ الَّذِي رباكم بحسن التربية حيث خَلَقَكُمْ وأظهركم أولا مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ التي هي عبارة عن المرتبة الفعالة المحيطة بجميع المراتب الكونية والكيانية إلا وهي المرتبة الجامعة المحمدية المسماة بالعقل الكل والقلم الأعلى تكميلا لبواطنكم وغيبكم وَخَلَقَ مِنْها بالنكاح المعنوي والزواج الحقيقي الواقع بين الأوصاف والأسماء الإلهية حسب المناسبات الرقيقة والإضافات الدقيقة زَوْجَها التي هي النفس الكلية القابلة لفيضان عموم الآثار الصادرة من المبدأ المختار تتميما لظواهركم وشهادتكم حتى تستحقوا الخلافة والنيابة بحسب الظاهر والباطن وَبعد ما خلقهما كذلك قد بَثَّ اى بسط ونشر مِنْهُما بذلك النكاح المذكور رِجالًا كَثِيراً فواعل مفيضات مؤثرات وَنِساءً قوابل مستفيضات متأثرات أزواجا كل لنظيرتها حسب رقائق المناسبات الواقعة بين التجليات الحبية الإلهية على الوجه الذي بينتها الكتب والرسل. ثم لما كان الرب من الأسماء التي تتفاوت بتفاوت المربوب صرح بالالوهية المستجمعة لجميع الأوصاف والأسماء بلا تفاوت تأكيدا ومبالغة لأمر التقوى فقال وَاتَّقُوا اللَّهَ اى احذروا عن عموم ما يشغلكم عنه سبحانه مع قربه إليكم من حبل

[سورة النساء (4) : آية 2]

وريدكم إذ هو الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ اى تتساءلون وتتنافسون أنتم بحوله وقوته وتتوهمون بعده من غاية قربه وَاحفظوا الْأَرْحامَ المنبئة عن النكاح المعنوي والزواج الحبى على الوجه الذي ذكر إِنَّ اللَّهَ المحيط بكم وبأحوالكم واطواركم قد كانَ عَلَيْكُمْ دائما رَقِيباً حفيظا يحفظكم عما لا يعنيكم ان اخلصتم التوجه نحوه ومن جملة الأمور التي يجب المحافظة عليها ايها المأمورون بالتقوى حقوق اليتامى فعليكم ايها الأولياء والأوصياء ان تحرزوا مال اليتيم حين موت أبيه أوجده وتزيدوه بالمرابحة والمعاملة وتصرفوا منه لحوائجه بقدر الكفاف وَبعد البلوغ آتُوا الْيَتامى قبل البلوغ إذ لا يتم بعد البلوغ أَمْوالَهُمْ المحفوظة الموروثة لهم من آبائهم وَعليكم ان لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ الردى من أموالكم بِالطَّيِّبِ الجيد من أموالهم وَايضا ان أردتم التصرف في أموالهم مقدار معاشهم ان لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ اى مع أموالكم مختلطتين إِنَّهُ اى التصرف في أموالهم بلا رعاية المصلحة كانَ حُوباً كَبِيراً اى إثما عظيما مسقطا للمروءة بالمرة وَإِنْ خِفْتُمْ ايها الأولياء والأوصياء أَلَّا تُقْسِطُوا ولا تعدلوا فِي حفظ أعراض الْيَتامى النساء اللاتي لهن مال وجمال فَانْكِحُوا لدفع هذه الدغدغة ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ البالغات مقدار ما يسكن ميلكم وشهوتكم إليهن مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ اى اثنين اثنين وثلثة ثلثة واربعة اربعة حسب تفاوت ميولكم وشهواتكم ان حفظتم العدالة بينهن فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بين المتعددة منهن فَواحِدَةً اى فلكم ان تنكحوا الواحدة منهن لتأمنوا من الفتنة سواء كانت من الحرائر أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الإماء. ثم لما لم يكن في الإسلام رهبانية لان الحكمة تقتضي عدمها كما أشار اليه صلّى الله عليه وسلّم بقوله لا رهبانية في الإسلام نبه سبحانه على اقل مرتبة الزواج الصوري المنبئ عن النكاح المعنوي والارتباط الحقيقي بقوله ذلِكَ اى نكاح الواحدة والقناعة بالإماء أَدْنى مرتبة الزواج على الذين يخافون أَلَّا تَعُولُوا اى من كثرة العيال وَان أردتم النكاح ايها المسلمون آتُوا النِّساءَ الحرائر او الإماء لغيركم صَدُقاتِهِنَّ اى مهورهن نِحْلَةً بتة مؤبدا بلا حيلة وخديعة وعينوها لهن بل سلموها إليهن بلا مطل وتسويف فَإِنْ طِبْنَ وهبن لَكُمْ لإفراط المحبة عَنْ شَيْءٍ كل او بعض مِنْهُ اى من المهر نَفْساً رغبة ورضا لا كرها واستحياء فَكُلُوهُ اى الشيء الموهوب لكم من المهر هَنِيئاً حلالا مَرِيئاً طيبا تقويما لمزاجكم لإقامة القسط والعدل الذي هو من جملة حدود الله المتعلقة بالتقوى وَمن جملة الحدود المتعلقة بالتقوى ايضا ان لا تُؤْتُوا ايها الأولياء السُّفَهاءَ سواء كانوا من أصلابكم او ما ينتمى إليكم وهم الذين قد خرجوا عن طور العقل ومرتبة التدبير والتكليف أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ المدبر لأموركم ملكا لَكُمْ ايها العقلاء المكلفون قِياماً اى سببا لقيامكم على الطاعة والعبادة وتقويما لأمزجتكم على تحمل التكاليف الإلهية وَلكن ارْزُقُوهُمْ فِيها اى اجعلوا طعامهم وسائر حوائجهم في مدة اعمارهم في ربحها ونمائها وَاكْسُوهُمْ ايضا منها وَان كان منهم من له ادنى شعور بأمر الاضافة والتمليك ولكن لا ينتهى الى التدبير والتصرف المشروع قُولُوا لَهُمْ اى لهؤلاء المنحطين من زمرة العقلاء قَوْلًا مَعْرُوفاً مستحسنا عقلا وشرعا وأضيفوا أموالهم إليهم عندهم لئلا ينكسر قلوبهم وَايضا من جملة الأمور التي قد وجب عليكم حفظها ابتلاء رشد اليتامى قبل أداء أموالهم إليهم ابْتَلُوا اختبروا وجربوا

[سورة النساء (4) : آية 7]

ايها الأولياء عقول الْيَتامى وتدابيرهم في التصرفات الجارية بين ارباب المعاملات حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ اى السن المعتبر في باب النكاح وهو خمسة عشر عند الشافعى رحمه الله وثمانية عشر عند ابى حنيفة رحمه الله فَإِنْ آنَسْتُمْ اشعرتم وأحسستم مِنْهُمْ رُشْداً وتدبيرا كافيا وافيا للتصرفات الشرعية فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ على الوجه المذكور بلا مماطلة وتأخير وان لم تؤنسوا الرشد المعتبر منهم لا تدفعوها بل احفظوها الى إيناس الرشد منهم لكن وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً مسرفين في اجرة المحافظة وَبِداراً مبادرين في أكلها خوف أَنْ يَكْبَرُوا ويخرجوها من أيديكم وَمَنْ كانَ منكم ايها الأولياء غَنِيًّا ذا يسر فَلْيَسْتَعْفِفْ من أكلها. والتعفف منها خير له في الدنيا والآخرة وَمَنْ كانَ منكم فَقِيراً ذا عسر فَلْيَأْكُلْ منها بِالْمَعْرُوفِ المستحسن شرعا لا ناقصا من اجرة حفظه ولا زائدا عليها حفظا للغبطتين فَإِذا دَفَعْتُمْ ايها الأولياء بعد ما آنستم الرشد المعتبر منهم إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا اى احضروا ذوى عدل من المسلمين عَلَيْهِمْ ليشهدوا فيما جرى بينكم وبينهم وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً اى كفا الله حسيبا فيما جرى بينكم وبينهم في مدة المحافظة يحاسبكم ويجازيكم على مقتضى حسابه. ومن خطر هذه التصرفات قد كان ارباب الولاء من المشايخ قدس الله أسرارهم يمنعون اصحاب الارادة عن أمثالها لان البشر قلما يخلو عن الخطر سيما في أمثال هذه المزالق. ثبت أقدامنا على جادة توحيدك وجنبنا عن الخطر والتزلزل فيها بمنك وجودك. ثم لما امر سبحانه أولا عباده بالتقوى على وجه المبالغة والتأكيد وقرن عليها حفظ الأرحام ومراعاة الأيتام ومواساة السفهاء المنحطين عن درجة العقلاء أراد ان يبين احوال المواريث والمتوارثين مطلقا حتى لا يقع التظالم والتغالب فيها كما في الجاهلية الاولى إذ روى انهم لا يورثون النساء معللين بان هن لا يحضرن الوغا ولا يدفعن العدو رد الله عليهم هذا وعين لكل واحد من الفريقين نصيبا مفروزا مفروضا فقال لِلرِّجالِ سواء كانوا بالغين أم لا عقلاء أم سفهاء نَصِيبٌ سهمهم مفروض مقدر مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ المتروك مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً مقدرا في كتاب الله كما سيجيء بيانه وتعيينه عن قريب وَمن جملة الأمور المستحسنة المترتبة على التقوى تصدق الوارثين من المتروك إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ اى وقتها أُولُوا الْقُرْبى المقلين المحجوبين عن الإرث وَالْيَتامى الذين لا مال ولا متعهد لهم وَالْمَساكِينُ الفاقدون وجه المعاش فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ فأعطوهم ايها الوارثون من المقسم المتروك مقدار ما لا يؤدى الى حرمان الورثة وَقُولُوا لَهُمْ حين الإعطاء قَوْلًا مَعْرُوفاً خاليا عن وصمة المن والأذى وَلْيَخْشَ من حلول غضب الله ونزول سخطه الأوصياء والحضار الَّذِينَ حضروا عند من اشرف على الموت ان يلقنوا له التصدق من ماله على وجه يؤدى الى حرمان الورثة وعلى الحضار ان يفرضوا ويقدروا انهم لَوْ ماتوا وتَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً أخلافا ضِعافاً بلا مال ولا متعهد قد خافُوا البتة عَلَيْهِمْ اى على أولادهم ان يضيعوا فكيف لا يخافون على أولئك الضعاف الضياع بل المؤمن لا بد ان يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه بل اولى منه فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ اى أولئك الحضار والأوصياء عن التلقين المخل لنصيب الورثة وَلْيَقُولُوا له وليلقنوا عليه قَوْلًا سَدِيداً سويا معتدلا بين كلا طرفي الإفراط والتفريط رعاية للجانبين وحفظا للغبطتين. ثم قال سبحانه توبيخا وتقريعا على الظالمين المولعين في أكل اموال الأيتام من الحكام

[سورة النساء (4) : آية 11]

والأوصياء والمتغلبة من الورثة إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً بلا رخصة شرعية إِنَّما يَأْكُلُونَ ويدخرون فِي بُطُونِهِمْ ناراً معنويا في النشأة الاولى مستتبعا للنار الصوري في النشأة الاخرى إلا وهي نار البعد والخذلان وَهم فيها سَيَصْلَوْنَ ويدخلون سَعِيراً لا نجاة لاحد منه. ثم لما قدر سبحانه على المتوارثين نصيبا مفروضا على وجه الإجمال أراد ان يفصل ويعين أنصباءهم فقال يُوصِيكُمُ اللَّهُ اى يأخذ منكم العهد ويأمركم محافظته فِي أَوْلادِكُمْ اى الذين استخلفوا عنكم بعدكم وهو ان يقسم متروك المتوفى منكم بينهم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لان كل ذكر لا بد له من أنثى او اكثر ليتزوجها حتى يتم امر النظام الإلهي والنكاح المعنوي ويجب عليه حوائجها وكذا لكل أنثى لا بد لها من ذكر ينكحها بعين ما ذكر ويأتى بحوائجها فاقتضت ايضا الحكمة الإلهية ان يكون نصيبهما بقدر كفافهما واحتياجهما لذلك عينه سبحانه هكذا فَإِنْ كُنَّ اى الوارثات نِساءً خلصا ليس بينهن ذكر وهن فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ المتوفى وَإِنْ كانَتْ الوارثة بنتا واحِدَةً فقط فَلَهَا النِّصْفُ مما ترك المتوفى وان كانتا بنتين فقط فقد اختلف فيهما فقال ابن عباس رضى الله عنهما حكمهما حكم الواحدة وقال الباقون حكمهما حكم ما فوق الاثنتين وعلى هذا يكون لفظة فوق مقحما كما في قوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق وكذا عين سبحانه نصيب الأبوين فقال وَلِأَبَوَيْهِ اى لأبوي المتوفى لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ المتوفى إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكر او أنثى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ وللأب الباقي. هذا إذا لم يكن له غير الأب والام وارث فَإِنْ كانَ لَهُ اى للمتوفى إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ اى تردون الام من الثلث الى السدس بخلاف الأب فإنهم لا يرثون معه هذه القسمة والأنصباء المعينة انما تكون مِنْ بَعْدِ إخراج وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها من ماله للفقراء أَوْ قضاء دَيْنٍ كان في ذمته وهما ايضا انما يكونان بعد تجهيزه وتكفينه. ثم أشار سبحانه الى ان امر الميراث وتعيين الأنصباء امر تعبدي ليس لكم ان تتخلفوا عنها بمقتضى ميلكم وظنكم الى ان تورثوا بعض الورثة وتحرموا البعض الآخر بل لكم ان لا تتفاوتوا بينهم سواء كانوا آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ إذ لا تَدْرُونَ ولا تعلمون جزما أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً في الدار الآخرة عند الله فعليكم ان لا تتجاوزوا عن قسمة الله بل انقادوا لها واعتقدوها فَرِيضَةً مقدرة مِنَ اللَّهِ صادرة منه سبحانه بمقتضى حكمته المتقنة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده كانَ عَلِيماً بحوائجهم حَكِيماً في ضبطها وترتيبها وَلَكُمْ ايها الأزواج من الذكور نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ من الإناث إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ منكم او من غيركم او ولد ولد وان سفل فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ او ولد ولد كما ذكر فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ هذه ايضا مِنْ بَعْدِ تنفيذ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها للفقراء أَوْ أداء دَيْنٍ لازم عليهن وَلَهُنَّ اى للنساء الوارثات الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ايها الأزواج إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ منها او من غيرها او ولد ولد مثل ما مر فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ على التعميم المذكور فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ذلك ايضا مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها تقربا الى الله أَوْ قضاء دَيْنٍ لزم على ذمتكم وَإِنْ كانَ المتوفى رَجُلٌ يُورَثُ منه وكان كَلالَةً ليس لها والد ولا ولد أَوِ امْرَأَةٌ كذلك وَلَهُ اى للرجل أَخٌ أَوْ أُخْتٌ من أم لان حكم الأخ والاخت من الأبوين او من الأب سيجيء في آخر السورة فلا بد ان يصرف هاهنا الى ما صرف فَلِكُلِّ

[سورة النساء (4) : آية 13]

واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ من ماله فَإِنْ كانُوا اى الاخوة والأخوات من الام أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ بأجمعهم شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ على السوية لاشتراك السبب بينهم ذلك ايضا مِنْ بَعْدِ إخراج وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ يقضى غَيْرَ مُضَارٍّ لورثته بالزيادة على الثلث فعليكم ايها الحكام ان تتخذوا هذه القسمة وَصِيَّةٍ صادرة مِنَ اللَّهِ ناشئة منه سبحانه حسب حكمته المتقنة لإصلاح احوال عباده وَاللَّهُ المدبر المصلح بين عباده عَلِيمٌ بعموم مصالحهم حَلِيمٌ لا يعجل بالانتقام على من امتنع عن حكمه تِلْكَ المذكورات المتعلقة بأحوال الأموات حُدُودُ اللَّهِ الموضوعة بينكم ايها المؤمنون بالله وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وَرَسُولَهُ في جميع ما جاء به من عند ربه من الأمور المتعلقة لتهذيب الظاهر والباطن من الكدورات البشرية والعلائق البهيمية يُدْخِلْهُ الله بفضله ولطفه جَنَّاتٍ هي متنزهات التوحيد الا وهي اليقين العلمي والعيني والحقي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ انهار المعارف الجزئية الجارية من عالم الغيب الى عالم الشهادة وهم لا يتحولون عنها بل صاروا خالِدِينَ فِيها ابدا وَذلِكَ اى الخلود في متنزهات الشهود هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل الكريم طوبى لمن فاز من الله به وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ بإنكار الأوامر والإصرار على النواهي وَرَسُولَهُ بالتكذيب وعدم الإطاعة وانواع الإيذاء وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ المشروعة الموضوعة بين عباده يُدْخِلْهُ الله بمقتضى اسمه المنتقم ناراً هي نار البعد والطرد عن كنف جواره وعز حضوره فصار خالِداً فِيها ابدا وَلَهُ بسبب عصيانه وإصراره عليه عَذابٌ مُهِينٌ يبعده عن ساحة عز الحضور والقبول. أدركنا بلطفك يا خفى الألطاف ثم لما بين سبحانه احكام المواريث واحوال المتوارثين وعين سهامهم وأنصباءهم أراد ان يحذر المؤمنين عن الزنا التي هي هتك حرمة الله الموضوعة بين الازدواجات الحبية الإلهية واختلاط الأنساب المصححة للاحكام المذكورة وبالجملة هي الخروج عن مقتضى السنة السنية الإلهية التي قد سنها بين عباده على مقتضى الحكمة المتقنة الصالحة المصلحة لأصل فطرتهم التي هم خلقوا عليها وجبلوا لأجلها إلا وهي التحقق بالتوحيد الذاتي والزنا انما يتصور بين المرأ والمرأة الاجنبية المحرمة لذلك قدم سبحانه امر النساء وبين احكامهن وأحال حكم الرجال على المقايسة لقباحتها وشناعتها كأنه استبعد سبحانه عن عقلاء اهل الإسلام أمثال هذه الجرائم والآثام الا من النواقص ولأنهن في انفسهن شباك الشياطين يصطادون بهن ضعفاء المؤمنين بل أقوياءهم ايضا على ما نطق به حديث النبي صلوات الله على قائله ما ايس الشيطان من ابن آدم الا ويأتيهم من قبل النساء فقال وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ اى الفعلة القبيحة التي هي الزنا وهن مِنْ نِسائِكُمْ وفي حجركم ونكاحكم فاخبرتم بها العياذ بالله فعليكم في تلك الحالة ان لا تبادروا الى رميها ورجمها بل فَاسْتَشْهِدُوا واطلبوا الشهداء من المخبر ليشهدوا عَلَيْهِنَّ بالزنا والمعتبر ان تكون الشهود أَرْبَعَةً مِنْكُمْ من عدول رجالكم بشرط ان لا يسبق منهم ترقب وتجسس بل وقعت منهم النظرة بغتة على سبيل الاتفاق فيرون ما يرون كالميل في المكحلة مستكرهين مستقبحين فَإِنْ شَهِدُوا هؤلاء الشهود هكذا على الوجه المعهود فعليكم ايها المؤمنون المستحفظون لحدود الله ان لا تضطربوا ولا تستعجلوا في مقتهن واخراجهن بل عليكم الإمساك فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ التي أنتم فيها بلا مراودة إليهن كيلا يلحق عليكم باخراجكم اياهن عار آخر بل اتركوهن فيها حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ

[سورة النساء (4) : آية 16]

الطبيعي أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ ويحكم لَهُنَّ وفي حقهن سَبِيلًا حكما مبرما هذا في بدأ الإسلام ثم نسخ بآية الرجم والجلد وَالَّذانِ يَأْتِيانِها اى الفعلة القبيحة التي هي اللواطة وهما اى الآتي والمأتى كلاهما مِنْكُمْ ايها الرجال وهذه افحش من الزنا لخروج كل منهما عن مقتضى الحد الإلهي وانحطاطهما عن رتبة الكمال الإنساني بارتكابهما فعلا لا يقتضيه العقل والشرع والمروءة بخلاف الزنا ولشناعتها وخباثتها لم يعين لها سبحانه حدا في كتابه المبين لأنه تنافى اخلاق الإنسان ولم يصرح بها ايضا بل ابهمها وأجملها وأحال حكمها بالمقايسة على الزنا لكمال هجنتها وسماجتها كأن هؤلاء المفرطين ليسوا من الإنسان بل من البهائم بل أسوأ حالا منها لذلك قال فَآذُوهُما إيذاء بليغا وتعزيرا شديدا حتى يمتنعا فَإِنْ تابا وامتناعا وَأَصْلَحا ما افسدا بالتوبة والندامة فَأَعْرِضُوا عَنْهُما مستغفرين لهما من الله مستعفين غير موبخين ومقرعين عليهما إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده المذنبين النادمين كانَ تَوَّاباً لهم يرجعهم عن ما صدر عنهم نادمين رَحِيماً يعفو عنهم ويقبل توبتهم. ثم قال سبحانه إِنَّمَا التَّوْبَةُ اى ما التوبة المقبولة المبرورة الا التوبة الناشئة من محض الندامة المنبئة المتفرعة على تنبه القلب عن قبح المعصية سيما في أمثال هذه المزالق وهي المصححة الباعثة عَلَى اللَّهِ ان يقبلها النافعة لِلَّذِينَ اى للمؤمنين الذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ اى الفعلة الذميمة لا عن قصد وروية بل بِجَهالَةٍ عن قبحها ووخامة عاقبتها ثُمَّ اى بعد ما أدركوا قبحها واطلعوا على وخامة عاقبتها يَتُوبُونَ اى يبادرون ويراجعون الى التوبة والندبة مِنْ قَرِيبٍ اى قبل الانتهاء الى وقت الإلجاء فَأُولئِكَ التائبون المبادرون الى التوبة قبل حلول الأجل يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اى يقبل توبتهم بعد ما وفقهم عليها ولقنهم بها وَكانَ اللَّهُ المطلع على ضمائرهم عَلِيماً بمعاصيهم في سابق علمه حَكِيماً في الزام التوبة عليهم ليجبروا بها ما كسروا على نفوسهم وَبالجملة لَيْسَتِ التَّوْبَةُ الصادرة حين الإلجاء والاضطراء نافعة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ في مدة اعمارهم مسوفين التوبة فيها حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ الملجئ إليها قالَ متأسفا متحسرا مضطرا بعد ما ايس من الحيوة وابصر امارات الموت من نفسه واشرف على السكرات إِنِّي تُبْتُ الْآنَ على وجه التأكيد والمبالغة وهي لا تنفع له وان بالغ فيها والسر في عدم قبول الله إياها والله اعلم ان الانابة والرجوع الى الله لا بد وان تكون عن قصد واختيار وفي وقت القدرة على المعصية وحين الميل إليها حتى يعتبر عند الله ويقبل منه لا عن الحاء واضطرار إذ لا يتصف التائب حين الإلجاء بالعبودية والإطاعة وقصد التقرب الى الله بل وَلَا فرق بينهم وبين الكافرين الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ حين حلول الأجل عليهم كُفَّارٌ كما كانوا أُولئِكَ المسوفون المقصرون في امر التوبة قد أَعْتَدْنا لَهُمْ وهيئنا لأجلهم في النشأة الاخرى عَذاباً طردا وحرمانا أَلِيماً فظيعا فجيعا مؤلما لرؤيتهم اجر التائبين المبادرين عليها في مقعد الصدق عند المليك القادر المقتدر على انواع الانعام والانتقام. تب علينا بفضلك انك أنت التواب الرّحيم. ثم لما كانت العادة في الجاهلية ميراث نفوس النساء كرها وذلك انه لو مات واحد منهم وله عصبة القى ثوبه على امرأة الميت فكانت في تصرفه وحمايته وأحق له وله اختيارها سواء تزوجها بالصداق الاول كرها او طوعا او يضر عليها بمنعها الى ان تفدى هي مثل صداقها ثم أطلقها نبه سبحانه على المؤمنين ان لا تصدر عنهم أمثال هذا فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله اتركوا جميع ما قد كنتم عليه في جاهليتكم الاولى قبل الايمان سيما ميراث النساء واخذكم انفسهن

[سورة النساء (4) : آية 20]

او بدل صداقهن منهن واعلموا انه لا يَحِلُّ لَكُمْ في شرعكم ودينكم هذا أَنْ تَرِثُوا أنتم النِّساءَ اى نساء أقاربكم ومورثيكم سواء تزوجونهن على الصداق الاول او تفدون وتأخذون منهن بدل الصداق كَرْهاً حال كونكم مكرهين أو هن كارهات لتزوجكم او فديتكم وَايضا من جملة الحدود المتعلقة بأمور النساء ان لا تَعْضُلُوهُنَّ مطلقا اى لا يحل لكم ان تضيقوا على نسائكم حين انتقصت محبتكم اياهن وقل وقعهن عندكم الى ان تلجئوهن الى الفدية والخلع لِتَذْهَبُوا حين البينونة بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ او كلها حين النكاح إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ العياذ بالله بِفاحِشَةٍ وفعلة قبيحة شرعا مُبَيِّنَةٍ ثابتة ظاهرة وَان لم يأتين بشيء من الفواحش عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ المستحسن عقلا وشرعا فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ طبعا بلا جريمة صدرت منهن عليكم ان تكذبوا طباعكم المخالفة للعقل والشرع مرارا إذ هي من طغيان القوى البهيمية لا تبالوا بها وبمقتضياتها فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً بمقتضى طبعكم وَلا تعلمون ان يَجْعَلَ اللَّهُ لكم فِيهِ بمقتضى حكمته ومصلحته خَيْراً كَثِيراً نافعا لكم ولغيركم وَإِنْ غلب عليكم مقتضيات طباعكم وأَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ منكوحة جديدة مَكانَ زَوْجٍ قديمة تريدون تطليقها فعليكم في دينكم وشرعكم ان لا تأخذوا من المطلقة شيأ وَان آتَيْتُمْ وأعطيتم حالة النكاح إِحْداهُنَّ اى كل واحدة منهن ان كن اكثر من واحدة قِنْطاراً مالا كثيرا منضدا مخزونا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ اى من القنطار شَيْئاً قليلا نزرا يسيرا حين الطلاق فكيف بالكثير أَتَأْخُذُونَهُ اى مهرهن ايها المفرطون في متابعة الطبيعة بُهْتاناً تفترونه عليهن وَتكسبون لأنفسكم بأخذه إِثْماً مُبِيناً وجرما عظيما عند الله شنيعا سمجا عند المؤمنين وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ ايها المسرفون وَلا تعلمون ولا تستحضرون ولا تتذكرون انه قَدْ أَفْضى ووصل بالمهر والصداق بَعْضُكُمْ ذكوركم إِلى بَعْضٍ اناثكم وَأَخَذْنَ عهدن مِنْكُمْ اى من اجلكم ورعاية غبطتكم مع الله مِيثاقاً غَلِيظاً عهدا وثيقا لا ينفصم أصلا وهو ان لا يأتين بفاحشة ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن وان يقصرن نظرهن عليكم ويخدمن ويحسن المعاشرة الى غير ذلك من الحدود والحقوق وَايضا من الحدود المتعلقة بأمر النساء ان لا تَنْكِحُوا ولا تطأوا ولا تجامعوا ايها المؤمنون ما نَكَحَ ووطئ آباؤُكُمْ واسلافكم سواء كانوا مؤمنين او كفارا مِنَ النِّساءِ سواء كن أمهاتكم أم لا حرائر او رقيقات لاستهجان هذا الأمر عقلا وشرعا ومروة بل طبعا بناء على ما حكى عن بعض الحيوانات انه لا تجامع مع امه البتة كالفرس النجيب وغيره ومن اتى ما نهى عنه فقد استحق مقت الله وطرده إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ سبق منه وقوعه قبل ورود النهى إِنَّهُ اى نكاح منكوحة الاسلاف قد كانَ فاحِشَةً من جملة الفواحش العظيمة التي قد منعها الشرع والعقل والمروءة بل الطبع ايضا وَمع ذلك قد صار مَقْتاً حرمانا وطردا وانحطاطا عظيما عن الرتبة الانسانية التي هي الخلافة الإلهية المترتبة على محض الحكمة والعدالة وكمال الاستقامة لذلك سمى العرب من حصل منه من الولد المقتى وَساءَ سَبِيلًا لمن اتى به سبيل البعد والخذلان عن ساحة عز الحضور. عصمنا الله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. ومن شدة شناعته وعظم قبحه عند الله قدمه سبحانه على جميع المحرمات ثم فرعها عليه بقوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ في دينكم هذا أُمَّهاتُكُمْ اى نكاحها مطلقا وَبَناتُكُمْ ايضا كذلك وَأَخَواتُكُمْ مع من يتفرع عليهن وَعَمَّاتُكُمْ انفسهن وَخالاتُكُمْ ايضا كذلك اى مثل عماتكم وَبَناتُ الْأَخِ

[سورة النساء (4) : آية 24]

من الأبوين او من الأب او من الام وَبَناتُ الْأُخْتِ ايضا كذلك وَحرمت عليكم ايضا أُمَّهاتُكُمْ من الاجنبيات اللَّاتِي قد أَرْضَعْنَكُمْ مصة او مصتين وَحرمت ايضا أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ إذ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب غالبا وَكذا حرمت عليكم أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ لحرمة المصاهرة وَايضا حرمت عليكم رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ اى في تربيتكم وحضانتكم حال كون تلك الربائب مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا ضيق عليكم في تزوجهن وَكذا حرمت عليكم في دينكم حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ قد حصلوا مِنْ أَصْلابِكُمْ وَكذا حرمت عليكم أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ في زمان واحد إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أمثال هذا منكم قبل ايمانكم فإنكم لا تؤاخذون عليه إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالكم كانَ غَفُوراً لذنوبكم بعد انابتكم واستغفاركم رَحِيماً لكم يقبل توبتكم وان عظمت زلتكم وَحرمت عليكم ايضا الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ الاجنبيات اللاتي قد احصنهن أزواجهن إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من المسبيات اللاتي لهن ازواج كفار إذ بالسبي يرتفع النكاح فاعلموا ان تلك المحرمات قد صارت كِتابَ اللَّهِ اى من جملة الأمور التي أوجبها الله عَلَيْكُمْ حتما وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ اى ما سوى المحرمات المذكورة وانما أحل لكم ما أحل أَنْ تَبْتَغُوا اى لان تطلبوا بِأَمْوالِكُمْ أزواجا حلائل مصلحات لدينكم صالحات لابقاء نوعكم حال كونكم مُحْصِنِينَ بهن دينكم محافظين غَيْرَ مُسافِحِينَ اى مجتنبين عن الزنا المؤدى الى ابطال حكمة الله وإفساد مصلحته فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ اى فمن انتفعتم واجتمعتم بالمهر مِنْهُنَّ اى من النساء اللاتي قد احلهن الله لكم ايها المؤمنون فَآتُوهُنَّ اى فعليكم ان تدفعوا إليهن أُجُورَهُنَّ مهورهن حال كونكم معتقدين أداءها فَرِيضَةً صادرة من الله مقدرة من عنده واجبة الأداء شرعا وعقلا إذ الإفضاء انما هو بسببه كما مر هذا إذا كانت المرأة طالبة كمال مهرها وَلا جُناحَ اى لا ضيق ولا مؤاخذة عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من الأخذ والترك والزيادة والنقصان بعد ما حصل التراضي من الجانبين مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ المقدرة الواجبة الأداء إذ هذا الحكم مما يقبل التغيير بعد المرضاة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده كانَ عَلِيماً في سابق علمه بما يصلحهم ويرضيهم حَكِيماً في إصدارها عنهم إصلاحا لمعاشهم وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا اقتدارا وغنى أَنْ يَنْكِحَ به الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ المتعففات الحرائر فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ اى فعليكم ان تنكحوا مِنْ فَتَياتِكُمُ اى امائكم الْمُؤْمِناتِ المقرات بكلمتي الشهادة ظاهرا وَاللَّهُ المطلع بضمائر عباده أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ وايمانهن او كفرهن وكلكم في انفسكم أمثال أكفاء إذ بَعْضُكُمْ يا بنى آدم قد حصل مِنْ بَعْضٍ والتفاضل بينكم انما هو في علم الله وان اضطررتم الى لكاح الإماء فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ اى اربابهن وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ اى أعطوهن مهورهن المسماة باذن أهلهن بِالْمَعْرُوفِ اى إعطاء مستحسنا عقلا وشرعا بلا مطل وتسويف وإضرار وتنقيص حال كونهن مُحْصَناتٍ عفائف غَيْرَ مُسافِحاتٍ زانيات مجاهرات غير حاصرات وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ وأخلاء فَإِذا أُحْصِنَّ وانكحن بعد وجود الشرائط المذكورة فأمسكوهن بالمعروف المستحسن عند الله وعند المؤمنين فَإِنْ أَتَيْنَ بعد ما أحصن بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ الحرائر

[سورة النساء (4) : آية 26]

مِنَ الْعَذابِ الذي حد الله لهن في كتابه سوى الرجم إذ لا يجرى التنصيف فيه لذلك لم يشرع في حد الرقيق ذلِكَ اى نكاح الإماء انما يرخص لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ اى الوقوع في الزنا مِنْكُمْ ايها المؤمنون المجتنبون عن المحرمات وَأَنْ تَصْبِرُوا ايها المؤمنون الفاقدون لوجه المعاش وترتاضوا نفوسكم بتقليل الاغذية المستنمية المثيرة للقوة الشهوية الموقعة للمهالك وتدفعوا امارة امارتكم بالقاطع العقلي والواضح الشرعي وتتمرنوا على عفة العزوبة وتسكنوا نار الطبيعة بقطع النظر والاتقاء عن المخاطر فهو خَيْرٌ لَكُمْ من نكاح الإماء بل من نكاح اكثر الحرائر ايضا سيما في هذا الزمان الخوان وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده غَفُورٌ لذنب من صبر ولم ينكح لقلة معاشه رَحِيمٌ له يحفظه عن الفرطات والعثرات في امر المعاش. عصمنا الله وعموم عباده من المهالك المتعلقة بالمعاش بفضله وطوله انما يُرِيدُ اللَّهُ بتعيين المحرمات وتبيين المحللات لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ايها المؤمنون طريقي الرشد والغي والهداية والضلال وَيَهْدِيَكُمْ اى يرشدكم ويوصلكم سُنَنَ الَّذِينَ خلوا ومضوا مِنْ قَبْلِكُمْ من ارباب الولاء المكاشفين بسر التوحيد وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ويرجعكم عن ميل المزخرفات الدنية الدنيوية ليوصلكم الى المراتب العلية الاخروية وَاللَّهُ الهادي لعباده الى توحيده عَلِيمٌ بمصالحهم الموصلة اليه حَكِيمٌ في القائها إليهم في ضمن العظة والعبر والقصص والتواريخ والرموز والإشارات ليرتاضوا بها نفوسهم حتى يستعد قلوبهم لنزول سلطان التوحيد المفنى للغير والسوى مطلقا عن فضاء الوجود. ثم كرر سبحانه ذكر التوبة والرجوع عن المزخرفات الباطلة المانعة من الوصول الى دار السرور حثا للمؤمنين إليها ليفوزوا بمرتبة التوحيد بقوله وَاللَّهُ المرشد لكم الى طريق توحيده الذاتي يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ اى يوفقكم على التوبة التي هي الرجوع عما سوى الحق مطلقا ومتى انفتح عليكم باب التوبة انفتح باب الطلب المستلزم للترقي والتقرب نحو المطلوب الى ان يتولد منه الشوق المزعج الى المحبة المفرطة المفنية لغير المحبوب مطلقا بل نفس المحب بل نفس المحبوب ايضا. كما حكى عن المجنون العامري انه وله يوما من الأيام واستغرق في بحر المحبة الى ان اضمحلت عن بصر بصيرته غشاوة التعينات مطلقا بل ارتفع حجب الاثنينية رأسا وفي تلك الحالة السريعة الزوال تمثل ليلى قائمة على رأسه فصاحت عليه صيحة عن من شغلت يا مجنون فالتفت نحوها متألما عن الرجوع الى عالم التعينات فقد طاب وقته حينئذ فقال لها دعينى على حالي فان حبك قد شغلني عنك ثم قال سبحانه وَيُرِيدُ الَّذِينَ يضلونكم عن طريق التوحيد المسقط لعموم الرسوم والعادات بوضع طرق غير طريق الشرع مبتدعا او منسوبا الى مبتدع وقد عينوا فيه اللباس والكسوة المعينة ومع ذلك يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ ويبيحون المحرمات ويرتكبون المنهيات ارادة أَنْ تَمِيلُوا وتنحرفوا عن جادة التوحيد بأمثال هذه الخرافات والهذيانات مَيْلًا عَظِيماً وانحرافا بليغا بحيث لا يستقيم لهم أصلا وبالجملة يُرِيدُ اللَّهُ المدبر لعموم أحوالكم أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ايها المؤمنون أثقالكم التي هي سبب احتياجكم وإمكانكم وَالحال انه قد خُلِقَ الْإِنْسانُ في مبدأ الفطرة ضَعِيفاً لا يحتمل تحمل أثقال الإمكان مثل الحيوانات الاخر. خفف عنا بفضلك ثقل الا وزار واصرف عنا بمقتضى جودك شر الأشرار وارزقنا عيشة الأبرار. ثم نبه سبحانه على المؤمنين بما يتعلق بأمور معاشهم مع بنى نوعهم ليهذبوا به ظواهرهم فقال مناديا لهم ليهتموا باستماعها وامتثالها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وكتبه ورسله عليكم ان لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ اى

[سورة النساء (4) : آية 30]

بعضكم مال بعض محانا بلا رخصة شرعية بل بِالْباطِلِ ظلما وزورا سواء كان سرقة او غصبا او حيلة منسوبة الى الشرع افتراء ومراء او ربوا او تلبيسا وتشيحا كما يفعله المتشيخة ويأخذون بسببها حطاما كثيرة من ضعفاء المؤمنين واعلموا ايها المؤمنون ان مال الأخ المؤمن على المؤمن في غير العقود المتبرعة المشروعة حرام إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً معاوضة ومعاملة حاصلة عَنْ تَراضٍ ومرضاة مِنْكُمْ منبعثه عن اطمئنان نفوسكم عليها بلا غرور وإغراء واضطرار وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ اى ولا تلقوها بأيديكم الى المهالك التي جرت بين ارباب المعاملات من الربوا والخداع والتغرير والتلبيس وعير ذلك من انواع المكر والحيل حتى لا تنحطوا عن مرتبتكم الاصلية ومنزلتكم الحقيقية التي هي مرتبة العدالة والخلافة الإلهية إذ لا خسران أعظم من الحرمان منها. دركنا بلطفك يا خفى الألطاف وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المنه عليكم بأمثال هذه التدبيرات الصادرة عن محض الحكمة والمصلحة كانَ بِكُمْ رَحِيماً مشفقا عليكم مريدا ايصالكم الى ما خلقكم لأجله وأوجدكم لحصوله وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اى ما يحذر عنه من المهالك المذكورة ويمقت نفسه بالتعرض عليها لا عن جهل سادج بل عن جهل مركب قد اعتقدها حقا عُدْواناً مجاوزا مائلا عن الحق إصرارا وَظُلْماً خروجا وميلا عن طريق الشرع الموضح لسبيل التوحيد فَسَوْفَ منتقم عنه في يوم الجزاء ونُصْلِيهِ وندخله ناراً حرمانا دائما دائميا عن ساحة عر الحضور وطردا سرمديا عن فضاء السرور. بك يعتصم يا ذا القوة المتين وَلا تغفلوا ايها المنهمكون للاقتحام في المهالك المتعلقة لأمر المعاش عن انتقام الغيور إياكم ولا تعتقدوا عسره بالنسبة اليه سبحانه إذ كانَ ذلِكَ الانتقام على تلك الآثام والاجرام عَلَى اللَّهِ القدير القادر الميسر لكل عسير يَسِيراً وان استعسرتم في انفسكم إذ لا رادّ لإرادته ولا معقب لحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ثم قال سبحانه امتنانا على المؤمنين تفضلا وإشفاقا وجذبا لهم من جانبه إِنْ تَجْتَنِبُوا وتحرروا ايها المحبوسون في مهاوي الإمكان ومضيق الحدثان كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ وأعاظم ما تحدرون منه الا وهي الشرك بالله بأنواعه من اثبات الوجود لغيره واسناد الحوادث الكائنة الى الأسباب العادية وغير ذلك نُكَفِّرْ عَنْكُمْ اى نمحو ونتجاوز تفضلا عليكم سَيِّئاتِكُمْ اى صغائركم الصادرة من نفوسكم بمقتضى بشريتكم وَبعد عفونا عنكم الصغائر نُدْخِلْكُمْ بمحض جودنا ولطفنا مُدْخَلًا كَرِيماً هو فضاء التوحيد الذي ليس فيه هواء ولا ماء ولا غد ولا مساء بل ما فيها الافناء وصفاء وبقاء ولقاء بحيث لا يذوقون فيها الموت الا الموتة الاولى وفقنا بكرمك وجودك بما تحب وترضى وَمن مقتضى ايمانكم ايها المحمديون الموحدون المتوجهون نحو توحيد الذات من محجة الفناء والرضا بما نفذ عليه القضاء عليكم ان لا تَتَمَنَّوْا تمنى المتحسر المتأسف بحصول ما فَضَّلَ اللَّهُ تعالى بِهِ في النشأة الاولى بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ من الجاه والمال والمكانة الرفيعة في عالم الصورة إذ هي ابتلاء واختبار لهم وفتنة عظيمة تبعدهم عن طريق الفناء وتوقعهم في التكثر والتشتت والموحدون المحمديون لا بد لهم ان يقتفوا اثر نبيهم صلّى الله عليه وسلّم في ترك الدنيا وعدم الالتفات نحوها الا ستر عورة وسد جوعة إذ الاضافة والتمليك مطلقا مخل بالتوحيد والفناء جالب لانواع العذاب الأخروي. ربنا اصرف عنا عذاب جهنم ان عذابها كان غراما. واعلموا ايها الموحدون المحمديون السالكون سبيل الفناء ليفوزوا بجنة البقاء وشرف اللقاء ان لكم عند ربكم جنات ومداخل متفاوتة

[سورة النساء (4) : آية 33]

بتفاوت استعداداتكم المترتبة على تربية الأسماء والصفات الإلهية إذ لِلرِّجالِ اى الذكور الكمل منكم على تفاوت طبقاتهم نَصِيبٌ حظ من التوحيد الذاتي هو مقرهم وغاية مقصدهم ومعراجهم حاصل لهم مِمَّا اكْتَسَبُوا من الرياضات والمجاهدات المعدة لفيضان المكاشفات والمشاهدات وَكذا لِلنِّساءِ منكم مع تفاوت طبقاتهن نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ في تلك الطريق إذ كل ميسر لما خلق له وعليكم التوجه نحو مقصدكم وَسْئَلُوا اللَّهَ المسهل الميسر لأموركم مِنْ فَضْلِهِ وسعة رحمته وجوده ان ييسر لكم ما يعنيكم ويجنبكم عما لا يعنيكم ويغويكم وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ مما صدر عنهم من صلاح وفساد عَلِيماً يعلم بعلمه الحضوري ويصلح لهم وييسر عليهم الهدى بقدر قابلياتهم الموهوبة لهم من عند كرمه ازلا. ثم قال سبحانه وَلِكُلٍّ من الاسلاف الذين مضوا قد جَعَلْنا من محض جودنا وحكمتنا مَوالِيَ أخلافا يلونهم ويوالونهم ويأخذون مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ اى من الأموال المنسوبة إليهما وَكذا مما ترك الْأَقْرَبُونَ من ذوى الأرحام وَكذا من متروكات الأزواج الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ بالنكاح والزواج على الوجه المشروع فَآتُوهُمْ ايها الحكام نَصِيبَهُمْ اى نصيب كل من الولاة على الوجه المفروض إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده كانَ في سابق علمه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الحوادث الكائنة شَهِيداً حاضرا مطلعا. ثم نبه سبحانه على تفضيل الرجال على النساء بقوله الرِّجالُ المعتدلة الأمزجة المستقيمة العقول قَوَّامُونَ حافظون عَلَى النِّساءِ إذ لا بد لهن لضعفهن من يرقبهن عما يشينهن صيانة لعفتهن بِما فَضَّلَ اللَّهُ به بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ اى بعض بنى آدم على بعض الا وهو الحمية المنبعثة من كمال العقل وَبِما أَنْفَقُوا لهن مِنْ أَمْوالِهِمْ التي قد حصلت لهم من مكاسبهم فَالصَّالِحاتُ العفائف من النساء قانِتاتٌ مطيعات لأزواجهن خادمات لهم ظاهرا حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ اى لحقوقهم المخفية الباطنة عنهم تابعات ممتثلات بِما حَفِظَ اللَّهُ لهن من رعاية أزواجهن وعدم الخيانة في حقوقهم وَالنساء اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ عصيانهن وعدم حفظهن بحقوق الزواج من امارات ظهرت منهن فَعِظُوهُنَّ اى فعليكم ايها الأزواج ان تعظوهن أولا رفقا بما وعظ الله لهن من رعاية حقوق الله وحقوق الأزواج لعلهن يطعن ويتركن ما عليهن وان لم يتركن اهْجُرُوهُنَّ واتركوهن فِي الْمَضاجِعِ وحيدة فلا ترجعوا إليهن بل اعتزلوا عنهن لعلهن يتأثرن بها وَان لم يتأثرن بها ايضا اضْرِبُوهُنَّ ضربا مؤلما غير متجاوز عن الحد فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بأمثال هذه التأديبات فَلا تَبْغُوا ولا تطلبوا عَلَيْهِنَّ اى على طلاقهن واخراجهن سَبِيلًا استعلاء وترفعا بلا مجاملة ومداراة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده كانَ عَلِيًّا في ذاته وشانه كَبِيراً في حكمه وأحكامه لا ينازع في حكمه ولا يسأل عن فعله وَإِنْ تطاولت الخصومة والمنازعة بينهما حتى خِفْتُمْ وظننتم ايها الحكام شِقاقَ بَيْنِهِما وايستم عن المصالحة والوفاق فَابْعَثُوا اى فعليكم ايها الحكام ان تبعثوا حَكَماً مصلحا ذا رأى وثقة مِنْ أَهْلِهِ اى من أقاربه وَحَكَماً مثل ذلك مِنْ أَهْلِها ليصيرا وكيلين عنهما مطلقا صلاحا وطلاقا خلعا وفداء ثم إِنْ يُرِيدا اى الحكمان إِصْلاحاً لامرهما ورفعا لنزاعهما يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما ان رضيا بمصالحتهما والا فليرفعا عقدة النكاح بينهما على اى طريق كان إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده كانَ عَلِيماً بنزاعهما ابتداء خَبِيراً بما يئول اليه

[سورة النساء (4) : آية 36]

النزاع وَبعد ما هذبتم ظواهركم ايها المؤمنون المخلصون بهذه الأخلاق المرضية اعْبُدُوا اللَّهَ المتوحد في ذاته ووجوده المستقل في أفعاله وآثاره المترتبة على أوصافه الذاتية وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من مصنوعاته اى لا تثبتوا الوجود والأثر لغيره إذ الأغيار مطلقا معدومة في أنفسها مستهلكة في ذاته سبحانه وَافعلوا بِالْوالِدَيْنِ اللذين هما سبب ظهوركم عادة إِحْساناً قولا وفعلا وَايضا بِذِي الْقُرْبى المنتمين إليكم بواسطتهما وَايضا الْيَتامى الذين لا متعهد لهم من الرجال وَالْمَساكِينِ الذين قد أسكنهم الفقر والفاقة في زاوية الهوان وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى هم الذين لهم قرابة جوار بحيث يقع الملاقاة معهم كل يوم مرتين وَالْجارِ الْجُنُبِ هم الذين لهم بعد جوار بحيث لا يتفق التلاقي الا بعد يوم او يومين او ثلثة ايام وَعليكم رعاية جار الصَّاحِبِ المصاحب بِالْجَنْبِ اى الذي معكم وفي جنبكم في السراء والضراء يصاحبكم ويعين عليكم وَابْنِ السَّبِيلِ المتباعدين عن الأهل والوطن لمصلحة دينية مثل طلب العلم وصلة الرحم وحج البيت وغير ذلك وَايضا من أهم المأمورات لكم رعاية ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد والإماء والحيوانات المنسوبة إليكم وعليكم ان لا تتكبروا على هؤلاء المستحقين حين الاجسان ولا تنفقوا عليهم بالامتنان إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا متكبرا يمشى بين الناس خيلاء فَخُوراً بفضله او ماله او نسبه او حسبه يعنى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ من أموالهم التي استخلفهم الله عليها معللين بانا لم نجد فقيرا متدينا يستحق بالصدقة وَمع كونهم بخلاء في نفوسهم يَأْمُرُونَ النَّاسَ ايضا بِالْبُخْلِ لئلا يلحق العار عليهم خاصة وَمع ذلك يَكْتُمُونَ من الحكام والعاملين ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من الأموال خوفا من إخراج الزكوات والصدقات ومن عظم جرائم هؤلاء البخلاء الخيلاء أسند سبحانه انتقامهم الى نفسه وغير الأسلوب فقال وَأَعْتَدْنا اى قد هيأنا من غاية قهرنا وانتقامنا لِلْكافِرِينَ لنعمنا كفرانا ناشئا عن محض النفاق والشقاق عَذاباً طردا وحرمانا مؤلما وتخذيلا وإذلالا مُهِيناً وَمن هؤلاء المطرودين بل أسوأ حالا منهم الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لا لامتثال امر الله وطلب رضاه بل رِئاءَ النَّاسِ ليعتقدوا لهم ويكتسبوا الجاه والرياسة بسبب اعتقادهم وَمع هذا التوهم المزخرف لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الرّحيم التواب الكريم الوهاب وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء العصاة الغواة حتى يتوب عليهم ويغفر زلتهم وبالجملة هم من جنود الشياطين وقرنائه وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً حميما يحمله البتة على أمثال هذه الأباطيل الزائغة ويوقعه في اشباه هذه المهاوى الهائلة فَساءَ الشيطان قَرِيناً ايها المتوجهون الى الله الراغبون عما سواه فعليكم ان تجتنبوا عن غوائله ثم قال سبحانه توبيخا لهم وتنبيها لغيرهم وَماذا يعرض عَلَيْهِمْ واى شيء يلحق لهم من المكروه لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ المتوحد في الألوهية المتفرد بالقيومية وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد ليرى فيه كل جزاء ما عمل من خير وشر وَأَنْفَقُوا ما أنفقوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ خالصا لرضاه سبحانه بلا شوب المن والأذى والسمعة والرياء وَكانَ اللَّهُ المطلع بِهِمْ وبعموم ما صدر عنهم عَلِيماً بما في ضمائرهم ونياتهم بحيث لا يعزب عن حيطة علمه شيء مما كان ويكون وكيف يعزب عنه سبحانه شيء من أحوالهم إِنَّ اللَّهَ المجازى لاعمالهم لا يَظْلِمُ عليهم ولا ينقص من أجورهم مِثْقالَ ذَرَّةٍ اى مقدار اجر ذرة صغيرة قريبة من العدم جدا

[سورة النساء (4) : آية 41]

وَإِنْ تَكُ تلك الذرة حَسَنَةً صادرة عنهم مقارنة بالإخلاص يُضاعِفْها حسب فضله وطوله الى سبعة بل الى سبعين بل الى ما شاء الله وَمع تضعيفها لعموم المؤمنين يُؤْتِ للمخلصين منهم مِنْ لَدُنْهُ امتنانا عليهم وتفضلا أَجْراً عَظِيماً الا وهو الفوز بمقام الكشف والشهود. آتنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب فَكَيْفَ لا تفوزون ايها المحمديون بما تفوزون مع انا إِذا جِئْنا في يوم الحشر والجزاء مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ نبي مرسل إليهم هاد لهم إلينا باذن منا بطريق مخصوص وَجِئْنا بِكَ يا أكمل الرسل المرسل الى كافة البرايا وعامة العباد بالتوحيد الذاتي الجامع لجميع المراتب والطرق من توحيد الصفات والأفعال عَلى هؤُلاءِ الأمناء الخلص شَهِيداً مرشدا هاديا لهم إلينا بالدين القويم الناسخ لعموم الأديان. اذكر يا أكمل الرسل يَوْمَئِذٍ اى يوم إذ جئنا بك شهيدا على المؤمنين يَوَدُّ اى يحب ويتمنى الَّذِينَ كَفَرُوا وأشركوا بالله وَعَصَوُا الرَّسُولَ الأمي المبعوث الى كافة الأنام بدين الإسلام ان لَوْ تُسَوَّى وتغطى بِهِمُ الْأَرْضُ في تلك الساعة وصاروا نسيا منسيا لكان خيرا لهم من الصغار والمذلة التي قد عرضت عليهم في تلك الحالة وَبالجملة لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ المطلع بعموم أحوالهم حَدِيثاً اى لا يمكن لهم كتمان حديث نفوسهم وهواجس صدورهم من الله في تلك الحالة الهائلة فكيف كتمان أعمالهم الصادرة عنهم. ثم لما حضر بعض المؤمنين المسجد لأداء الصلاة سكارى حين اباحة الخمر وغفلوا عن أداء بعض الأركان وتعديلها وغلطوا في القراءة وحفظ الترتيب وسائر اعمال الصلاة نبه سبحانه عليهم ونهاهم عن المبادرة نحو المساجد قبل الإفاقة فقال مناديا ليقبلوا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم حفظ الأدب مع الله سيما عند الميل والتوجه نحوه فعليكم ان لا تَقْرَبُوا ولا تتوجهوا الصَّلاةَ اى لأداء الصلاة التي هي عبارة عن التوجه نحو الذات الإلهية بعموم الأعضاء والجوارح المقارن بالخضوع والخشوع المنبئ عن الاعتراف بالعبودية والإذلال المشعر عن العجز والتقصير فلا بد لأدائها من فراغ الهم وخلاء الخاطر عن ادناس الطبيعة مطلقا وَلا سيما أَنْتُمْ حين أدائها سُكارى بحيث لا تعلمون ما تفعلون وما تقرءون بل اصبروا حَتَّى تَعْلَمُوا اى تفيقوا وتفهموا ما تَقُولُونَ وما تفعلون في أدائها من محافظة الأركان والأبعاض والهيآت وغير ذلك وَعليكم ايضا ان لا تقربوا الصلاة حال كونكم جُنُباً مجنبين باى طريق كان إذ استفراغ المنى انما هو من استيلاء القوة الشهوية التي هي من أقوى القوى البهيمية وأبعدها عن مرتبة الايمان والتوحيد وحين استيلائها تسرى جنابتها الى جميع الأعضاء الحاملة للقوى الدراكة وتعطلها من مقتضياتها بالمرة فحينئذ تتحير الأمزجة وتضطرب لانحرافها عن العدالة الفطرية بعروض تلك الجنابة السارية فتكون الجنابة ايضا كالسكر من مخلات القوة العاقلة فعليكم ايضا ان لا تقربوها معها إِلَّا إذا كنتم عابِرِي سَبِيلٍ اى على متن سفر لا يسع لكم قدرة استعمال الماء لفقده او لوجود المانع فعليكم ان تتيمموا وتصلوا جنبا حفظا لكرامة الوقت حَتَّى تَغْتَسِلُوا وتتمكنوا على استعمال الماء وَكذا إِنْ كُنْتُمْ مقيمين حال كونكم مَرْضى تخافون من شدة المرض في استعماله أَوْ راكبين عَلى متن سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ اى من الخلاء محدثين أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ اى جامعتم معهن او لعبتم بهن بالملامسة والمساس فَلَمْ تَجِدُوا في هذه الصور المذكورة ماءً مزيلا لما عرض عليكم من الجنابة فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً اى فعليكم ان

[سورة النساء (4) : آية 44]

تقصدوا عند عروض هذه الحالات بالتراب الطيب من صعيد الأرض ورفيعها بان تضربوا أيديكم عليها وبعد ما ضربتم فَامْسَحُوا باليدين المغبرتين بِوُجُوهِكُمْ مقدار ما يغسل ليكون بدلا من الغسل نائبا عنه وَأَيْدِيكُمْ ايضا كذلك جبرا لما فوتم من الغسل بالماء إذا لتراب من جملة المطهرات سيما من الصعيد المرتفع وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المصلح لعموم أحوالكم كانَ عَفُوًّا لكم مجاوزا من أمثالها غَفُوراً يستر عنكم عموم زلاتكم ولا يأخذكم عليها ان كنتم مضطرين فيها بل يجازيكم خيرا تفضلا وامتنانا. ثم قال سبحانه مستفهما مخاطبا لكل من يتأتى منه الرؤية عن حرمان بعض المعاندين عن هداية القرآن أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى قبح صنيع القوم الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً وحظا مِنَ الْكِتابِ الجامع لجميع ما في الكتب السالفة الهادي للكل لكونهم موجودين عند نزوله سامعين الدعوة ممن انزل اليه صلّى الله عليه وسلّم كيف يحرمون أنفسهم عن هدايته الى حيث يَشْتَرُونَ ويختارون لأنفسهم الضَّلالَةَ بدل هدايته وَمع ذلك لا يقتصرون عليه بل يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا اى يسدوا ويظلموا عليكم ايها المؤمنون السَّبِيلَ الواضح الموصل الى زلال الهداية بإلقاء الشبه الزائغة في قلوب ضعفائكم واظهار التكذيب وادعاء المخالفة بينه وبين الكتب المتقدمة وبالجملة لا تغتروا ايها المؤمنون بودادهم وتملقهم ولا تتخذوهم اولياء إذ هم اعداء لكم حقيقة وَاللَّهُ الرقيب عليكم أَعْلَمُ منكم بِأَعْدائِكُمْ فعليكم ان تفوضوا أموركم كلها اليه والتجؤا نحوه واستنصروا منه ليدفع مؤنة شرورهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا اى كفى الله وليا لأوليائه وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً لهم ينصرهم على أعدائه بان يغلبهم عليهم وينتقم عنهم سيما مِنَ الَّذِينَ هادُوا نسبوا الى اليهودية ووسموا به وهم من غاية بغضهم مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم يدعون مخالفة القرآن بجميع الكتب السالفة لذلك يُحَرِّفُونَ ويغيرون الْكَلِمَ المنزلة في التورية في شأن القرآن وشأن بعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم عَنْ مَواضِعِهِ التي قد وضعها الحق سبحانه فيها بل يستبدلونها لفظا ومعنى مراء ومجادلة وَيَقُولُونَ حين دعاهم الرسول الى الايمان سَمِعْنا قولك وَعَصَيْنا أمرك وَاسْمَعْ منا في امر الدين كلاما غَيْرَ مُسْمَعٍ لك من احد وَبالجملة راعِنا واحسن رعايتنا لتستفيد منا وما يقصدون بأمثال هذه المزخرفات الباطلة الا لَيًّا اى اعراضا وصرفا للمؤمنين بِأَلْسِنَتِهِمْ عما توجهوا نحوه من التوحيد والايمان الى ما يشتهيه نفوسهم وَيريدون ان يوقعوا بها طَعْناً فِي الدِّينِ القويم والشرع المستقيم وَلَوْ أَنَّهُمْ كانوا من اهل الهداية ولهم نصيب منها قالُوا حين دعاهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم الى الإسلام سَمِعْنا قولك وَأَطَعْنا أمرك وَاسْمَعْ من وحى ربك من الاحكام واسمعها إيانا وَبالجملة انْظُرْنا بنظر الشفقة والمرحمة حتى نسترشد منك ونستهدي بهدايتك لَكانَ قولهم هذا خَيْراً لَهُمْ في أولاهم وأخراهم وَأَقْوَمَ اى اعدل سبيل الى التوحيد والايمان لو صدر عنهم هذا طوعا ورغبة وَلكِنْ قد لَعَنَهُمُ اللَّهُ اى طردهم عن عز حضوره في سابق علمه بِكُفْرِهِمْ المركوز في جبلتهم فَلا يُؤْمِنُونَ منهم إِلَّا قَلِيلًا مما استثناهم الله سبحانه في علمه السابق. ثم ناداهم سبحانه وأوعدهم رجاء ان يتنبهوا بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى التورية آمِنُوا بِما اى بالكتاب الجامع الذي قد نَزَّلْنا من كمال فضلنا وجودنا على محمد صلّى الله عليه وسلّم مع كونه مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ اى لكتابكم مِنْ

[سورة النساء (4) : آية 48]

قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً اى آمنوا بكتابنا قبل ان نمحو وتضمحل مراتب انسانيتكم وادراككم فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها قهقرى الى المرتبة الأرذل الأنزل قبل وصولكم الى مرتبة الكمال أَوْ نَلْعَنَهُمْ ونطردهم عن ساحة عز الوجوب الى مضيق الإمكان كَما لَعَنَّا طردنا ومسخنا أَصْحابَ السَّبْتِ بمخالفتهم الأمر الوجوبي باختراع الحيلة عن لوازم الانسانية مطلقا ورددناهم الى اخس المراتب وَلا تستبعدوا من الله القادر المقتدر على جميع ما يشاء أمثال هذا الطرد والأدبار إذ كانَ أَمْرُ اللَّهِ اى عموم ارادته المتعلقة بتكوين مراداته مَفْعُولًا مقضيا البتة بلا تخلف. ثم قال سبحانه إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بكمال المجد والبهاء لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ اى لا يستر ولا يعفو عن انتقام الشرك به بإثبات الوجود لغيره وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ من الكبائر والصغائر لِمَنْ يَشاءُ من التائبين وغيرهم ان تعلق ارادته ثم قال تأكيدا وتحذيرا وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ الواحد القهار الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد شيأ من مظاهره بادعاء الوجود له اصالة واستقلالا فَقَدِ افْتَرى على الله المنزه عن مطلق المراء والافتراء واكتسب لنفسه إِثْماً عَظِيماً لا مخلص له عنه وعن ما يترتب عليه في النشأتين نعوذ بك منك ونستغفرك من ان نشرك بك شيأ من مظاهرك ونحن نعلم به ونستغفرك ايضا لما لا نعلم انك أنت علام الغيوب أَلَمْ تَرَ ايها الرأى إِلَى القوم الَّذِينَ يُزَكُّونَ ويطهرون أَنْفُسَهُمْ بألسنتهم وألبستهم رياء وسمعة ويتفاخرون بها ويباهون عليها كيف وطنوا نفوسهم بهذا المزخرف الباطل ولم يتفطنوا ان العبد قلما يخلو عن الشرك الحلي فضلا عن الخفى وبالجملة لا يليق التزكية للعبد مطلقا سواء يزكى نفسه او غيره بَلِ اللَّهُ المطلع لأحوال عباده يُزَكِّي ويطهر بفضله مَنْ يَشاءُ من عباده والمراؤون المزكون لنفوسهم قولا بلا توافق أحوالهم وأعمالهم على مقالهم يعاقبون عليها على سواء وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا اى لا يزاد على انتقام ما اقترحوا مقدار حبل النواة وهو مثل في الصغر والحقارة انْظُرْ ايها المعتبر الرائي كَيْفَ يَفْتَرُونَ أولئك المراؤون المزكون نفوسهم عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بادعائهم تزكية الله إياهم ترويجا لما عليه نفوسهم من التلبيس وَكَفى بِهِ اى بالمفترى هذا الافتراء إِثْماً مُبِيناً ظاهرا موجبا لانتقام عظيم من الله أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى المسرفين المفرطين الَّذِينَ يدعون انهم أُوتُوا نَصِيباً مِنَ علم الْكِتابِ التورية المبين لطريق التوحيد الموضح لسبيله كيف يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ اى الصنم الذي لا خير يرجى منه ولا شر يتوقع عنه ولا نفع فيه ولا ضر يترتب عليه وَالطَّاغُوتِ التي هي عبارة عن الآراء الباطلة والاهوية الفاسدة المؤدية الى الكفر والزندقة والى الإلحاد والميل عن طريق الرشاد ولو انهم في أنفسهم من اهل التوحيد ولهم نصيب من علم الكتاب النازل من عند الله لتبيين طريق التوحيد وتعليم اماراته لما آمنوا بأمثال هذه الأباطيل الزائغة الفاسدة المضلة عن طريق الحق والصراط المستقيم وما صدقوها وما انقادوا لها مطلقا ومع ضلالهم في أنفسهم يريدون إضلال غيرهم وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا اى لضعفائهم واتباعهم هؤُلاءِ الضعفاء من إخواننا أَهْدى وأقوم مِنَ السفهاء الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد المدعى سَبِيلًا وانما يقولون أمثال هذه الخرافات استهانة منهم واستخفافا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقدحا وطعنا في دين الإسلام وبالجملة أُولئِكَ البعداء المعزولون عن منهج الرشد. هم الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ اى طردهم عن ساحة عز قبوله وطرحهم الى

[سورة النساء (4) : آية 53]

مضيق الإمكان بأنواع الخيبة والخسران وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ المنتقم المقتدر فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً يشفع له عنده سبحانه إذ لا غير معه ولا شيء سواه. أتعتقد وترى ايها المعتبر الرائي ان لهم حظا من الايمان ونصيبا من التوحيد والعرفان وليس لهم ذلك أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ والسلطنة الصورية والايالة المجازية فَإِذاً اى حين كانوا ملوكا متصرفين على وجه الأرض لا يُؤْتُونَ النَّاسَ اى الفقراء المحتاجين لوجه المعاش نَقِيراً منها بل لا قطميرا لنهاية شحهم وبخلهم أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ يعنى بل هم من شدة غيظهم مع المؤمنين المنظورين لله الناظرين بنوره سبحانه الى وجهه الكريم يحسدون عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من الحكمة والنبوة والكتاب المبين وهم من غاية بخلهم وحسدهم يكذبونهم وكتابهم عنادا. وإذا أردت ان ترى ايها الرائي من لهم نصيب من الملك والكتاب فَقَدْ آتَيْنا اى فاعلم انا قد آتينا من محض فضلنا وجودنا آلَ إِبْراهِيمَ وذريته الذين من اجلتهم وصفوتهم محمد صلّى الله عليه وسلّم الْكِتابَ المبين للشرائع والاحكام وَالْحِكْمَةَ اى السرائر المقتضية لتشريعها وَمع ذلك قد آتَيْناهُمْ في الدنيا مُلْكاً عَظِيماً اى استيلاء تاما وبسطة عالية ممتدة الى يوم القيمة فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ اى بنبوة آل ابراهيم وذريته وبعظمة ملكهم وبسطتهم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ اى اعرض ولم يؤمن عتوا وعنادا فلا تعجل يا أكمل الرسل بعقوبتهم وانتقامهم وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً اى كفى جهنم المسعرة المعدة لانتقامهم وتعذيبهم منتقما منهم على أقبح وجه وأشد تعذيب قل للمؤمنين يا أكمل الرسل نيابة عنا اخبارا لهم عن وخامة عاقبة هؤلاء المعرضين إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا كهؤلاء المدبرين المعاندين سَوْفَ نُصْلِيهِمْ وندخلهم ناراً مسعرة معدة لجزاء الغواة بحيث كُلَّما نَضِجَتْ اى فنيت واضمحلت وتلاشت جُلُودُهُمْ بإحراق نار الخذلان قد بَدَّلْناهُمْ من غاية قهرنا وانتقامنا إياهم جُلُوداً غَيْرَها مماثلة لما احترقت لِيَذُوقُوا الْعَذابَ اى يدوم لهم ذوقه وخذلانه ابدا وبالجملة إِنَّ اللَّهَ الغيور المنتقم منهم كانَ عَزِيزاً غالبا على الانتقام حسب المرام حَكِيماً عادلا لا يظلم بالزيادة ولا يهمل بالنقصان. ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ آمَنُوا بنا وبآياتنا ورسلنا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ اى أتوا بالأعمال المأمورة من لدنا سَنُدْخِلُهُمْ تفضلا عليهم وتكرما جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار اللذات الروحانية المترتبة على التجليات الرحمانية الغير المتناهية بحيث صاروا خالِدِينَ فِيها أَبَداً بلا انقطاع ولا انصرام ومع ذلك لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ صواحب وجلساء مصورة من مقتضيات الأسماء والصفات الإلهية يوانسونهم مُطَهَّرَةٌ عن ادناس الطبيعة مطلقا وَبالجملة نُدْخِلُهُمْ من غاية لطفنا إياهم ظِلًّا مروحا لقلوبهم ظَلِيلًا مروحا ممدودا لا يزول أصلا واعلموا ايها المبشرون بهذه البشارة العظمى إِنَّ اللَّهَ المبشر لكم بأمثاله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا وتدفعوا الْأَماناتِ من الأموال والشهادات وسائر حقوق العباد من التربية والتكميل والهداية والإرشاد إِلى أَهْلِها ومستحقيها وَيأمركم ايضا انكم إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ اى المتخاصمين في الوقائع والخطوب أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ اى على وجه الإنصاف والسوية بلا ميل منكم الى جانب احد من المتخاصمين إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالكم نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ اى نعم شيأ يعظكم به ويأمركم بامتثاله وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المطلع على جميع حالاتكم قد كانَ سَمِيعاً لعموم أقوالكم بَصِيراً لجميع أعمالكم

[سورة النساء (4) : آية 59]

وأفعالكم ونياتكم فيها بحيث لا يعزب عنه مثقال ذرة لا في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا اكبر. ثم قال سبحانه مناديا لأهل الايمان إيصاء لهم وتنبيها عليهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم اطاعة الله واطاعة رسوله أَطِيعُوا اللَّهَ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ الذي استخلفه من نفسه ليهديكم الى توحيده وَأطيعوا ايضا أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وهم الذين يقيمون شعائر الإسلام بين الأنام من الأمراء والحكام والقضاة المجتهدين في تنفيذ الاحكام واستنباطها فَإِنْ تَنازَعْتُمْ أنتم مع حكامكم فِي شَيْءٍ من امور الدين اهو موافق مطابق للشرع المتين او غير موافق فَرُدُّوهُ اى فراجعوا فيه إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ اى الى كتاب الله والى أحاديث رسوله بان اعرضوه عليهما واستنبطوه منهما إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ المجازى لاعمال عباده خيرا كان او شرا وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد للجزاء ذلِكَ الرد والرجوع خَيْرٌ لكم من استبدادكم بعقولكم وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ومآلا من تأويلكم واحمد عاقبة مما تتخيلونه أنتم برأيكم أَلَمْ تَرَ ايها الرسول المرسل الى كافة الأنام إِلَى المنافقين الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الفرقان الفارق بين الحق والباطل وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب المنزلة على اخوانك من الأنبياء عليهم السّلام ومع ادعائهم هذا يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا ويتراجعوا في الخطوب والوقائع إِلَى الطَّاغُوتِ المضل عن مقتضى الايمان والكتب وَالحال انهم قَدْ أُمِرُوا في الكتب المنزلة أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ اى بالطاغوت وَما ذلك الا ان يُرِيدُ الشَّيْطانُ الذي هو رئيس الطواغيت أَنْ يُضِلَّهُمْ عن طريق الحق ضَلالًا بَعِيداً بمراحل عن الهداية الى حيث لا يرجى منهم الاهتداء أصلا وَإِذا قِيلَ لَهُمْ امحاضا للنصح تَعالَوْا هلموا إِلى امتثال ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الكتاب الجامع لجميع الكتب المبينة لطريق الحق الهادية الى توحيده وَإِلَى متابعة الرَّسُولِ المبلغ الكاشف لكم أحكامه رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ الذين في قلوبهم مرض يَصُدُّونَ ويعرضون عَنْكَ وعن عظتك وتذكيرك يا أكمل الرسل صُدُوداً اى اعراضا ناشئا عن محض القساوة والعناد فَكَيْفَ لا يكونون هؤلاء المفسدون منافقين مع انهم إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من نفاقهم مع المؤمنين وتحاكمهم نحو الطاغوت وعدم الرضاء بقضائك وحكمك ثُمَّ اى بعد ما أصيبوا جاؤُكَ معتذرين لك يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا اى ما قصدنا مما جرينا عليه إِلَّا إِحْساناً اى طلبا للخير من الله لإخواننا المؤمنين وَتَوْفِيقاً بينهم. عن ابن عباس رضى الله عنهما ان منافقا نازع يهوديا فدعاه اليهودي الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمنافق الى كعب بن الأشرف ثم بعد النزاع والجدال الكثير احتكما الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحكم الرسول عليه السّلام لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه فقال نتحاكم الى عمر رضى الله عنه فحضرا عنده فقال اليهودي لعمر رضى الله عنه قضا لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يرض فخاصم إليك فقال عمر للمنافق أهكذا قال نعم فقال مكانكما حتى اخرج فدخل بيته وأخذ سيفه فخرج فضرب به عنق المنافق فقال هكذا اقضى لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله فنزل جبريل عليه السّلام وقال ان عمر رضى الله عنه قد فرق بين الحق والباطل فسمى الفاروق وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المنهمكون في الغي والضلال هم الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق والشقاق فلا يغنى عنهم حلفهم الكاذب شيأ من عذاب الله فَأَعْرِضْ أنت ايضا عَنْهُمْ وعن حلفهم عند المؤمنين وَعِظْهُمْ في الخلوات بمقتضى

[سورة النساء (4) : آية 64]

اشفاق مرتبة النبوة والرسالة وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ حين كانوا منفردين عن المؤمنين قَوْلًا بَلِيغاً ليؤثر فيهم ويحرك فطرتهم الاصلية التي هم فطروا عليها رجاء ان يتفطنوا بالتوحيد ويتنبهوا بحقيته بتوفيق الله وجذب من جانبه وَلا تستبعد يا أكمل الرسل أمثال هذا التوفيق منا إياهم إذ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ الى امة من الأمم الماضية إِلَّا لِيُطاعَ ويؤمن به ويمتثل بامره بِإِذْنِ اللَّهِ وعند تعلق ارادته بإطاعتهم له وايمانهم به وَلَوْ أَنَّهُمْ عن غاية جهلهم ونفاقهم إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالخروج عن اطاعتك وانقيادك عنادا جاؤُكَ تائبين معتذرين عما صدر عنهم فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ مخلصين نادمين وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ايضا بالاستشفاع والاستدعاء من الله بالقبول بعد ما جاءوا معتذرين لَوَجَدُوا اللَّهَ العفو الرءوف عطوفا البتة وصادفوه مفضلا كريما تَوَّاباً رَحِيماً يقبل توبتهم ويوفقهم عليها. فَلا وَرَبِّكَ يعنى فوحق ربك وعظم شانه وسطوع برهانه لا يُؤْمِنُونَ بالله وبكتبه ورسله حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ايها المبعوث للكل فِيما شَجَرَ وحدث بَيْنَهُمْ اى في عموم وقائعهم وخطوبهم التي اختلفوا فيها ثُمَّ اى بعد ما حكموك لا يَجِدُوا حين راجعوا وجدانهم فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ضيقا واضطرابا وشكا وارتيابا مِمَّا قَضَيْتَ وحكمت به أنت وَبالجملة يُسَلِّمُوا حكمك وقضائك تَسْلِيماً ناشئا عن محض الإطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا إذ اطاعتك وانقيادك يا أكمل الرسل عين اطاعتنا وانقيادنا وهكذا نفاقك وشقاقك وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا اى لو فرضنا وأمرنا عَلَيْهِمْ حتما أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ في سبيلنا أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ المألوفة التي هي بقعة الإمكان طلبا لمرضاتنا ما فَعَلُوهُ اى المأمور به إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ الا وهم الموفقون المخلصون المبادرون الى الفناء في الله ليفوزوا بشرف بقائه ولقائه وَلَوْ أَنَّهُمْ من شدة تشوقهم وتعطشهم بمرتبة الفناء فيه سبحانه قد فَعَلُوا عموم ما يُوعَظُونَ ويؤمرون بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ في أولاهم وأخراهم وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً لقدمهم في طريق التوحيد وصراط العرفان وَإِذاً اى حين ثبتوا على طريق التوحيد أشد تثبيتا لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا تفضلا منا إياهم بلا صنع منهم أَجْراً عَظِيماً الا وهو الفوز بمرتبة الكشف والشهود وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً يوصلهم الى وحدة ذاتنا بلا اعوجاج ولا انحراف اهدنا بلطفك صراطا مستقيما يوصلنا الى ذروة توحيدك يا هادي المضلين وَاعلموا ايها المؤمنون مَنْ يُطِعِ اللَّهَ حق أطاعته سبحانه وَيطع الرَّسُولَ المستخلف عنه سبحانه فَأُولئِكَ المطيعون لله ولرسوله مصاحبون مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ الذين يجمعون بين مرتبتي الكمال والتكميل الفائزين بمقام الكشف والشهود بحيث لا يرون غير الله في الوجود لذلك يدبرون الأمور الجارية في العالم الظاهر والباطن وَالصِّدِّيقِينَ وهم الذين يصلون الى مقام المشاهدة ويتحيرون في مطالعة وجه الله الكريم الى حيث لا يلتفتون الى الكمال والتكميل بل يهيمون ويستغرقون من كمال شوقهم وحضورهم وَالشُّهَداءِ وهم الذين يرفعون حجب انانيتهم ومزاحمة هويتهم عن البين مطلقا وَالصَّالِحِينَ وهم الذين يستعدون نفوسهم لفيضان المراتب السابقة لهم في علم الله ولوح قضائه ويترصدون لها ايمانا واحتسابا وَبالجملة قد حَسُنَ أُولئِكَ المقربون المجتهدون المجاهدون في طريق التوحيد حسب مقدورهم رَفِيقاً شفيقا للسالكين المتوجهين نحوه ذلِكَ الْفَضْلُ والهداية والرفاقة مع هؤلاء الأمناء العظام والكبراء الكرام والتفضل والانعام كرامة مِنَ اللَّهِ المفضل الكريم وامتنانا من لدنه بلا تصنع

[سورة النساء (4) : آية 71]

للعباد فيه ولا علم لاحد منا في كميته وكيفيته وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً في عموم مقدوراته وموهوباته هب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب ومن أجل اسباب المرافقة مع هؤلاء المقربين الجهاد لذلك أمرهم سبحانه بتهيئة أسبابه والتهيئ له فقال مناديا لهم اهتماما بشأن الجهاد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ترويج دينكم ونصرة نبيكم خُذُوا حِذْرَكُمْ اى عدتكم التي أنتم بها تحذرون عن العدو واستعدوا للقتال وبعد ما تم اعدادكم فَانْفِرُوا واخرجوا قبل العدو ثُباتٍ فرقة بعد فرقة أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مجتمعين مختلطين إذ الاجتماع ادخل في المهابة وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ان أناسا منكم ليتكاسلن ويتثاقلن في الاقدام على الجهاد لنفاقهم ومرض قلوبهم فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قتل وهزيمة قالَ المنافق المتكاسل قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ بسبب البطء والتأخير إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً حاضرا ليصيبني ما أصابهم وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ ظفر وغنم لَيَقُولَنَّ متمنيا من فرط تحسره وتحسده بكم كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ من الله يعنى كتحسر الأعداء للأعداء يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً كما فاز هؤلاء. ثم ان ابطأ المنافقون في امر القتال وتكاسلوا فيه لمرض قلوبهم فَلْيُقاتِلْ المؤمنون المخلصون المبادرون الى الفناء فِي سَبِيلِ اللَّهِ ألا وهم الَّذِينَ يَشْرُونَ ويستبدلون الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ ويبيعونها بها ابتغاء لمرضاة الله تعالى وَبالجملة مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ترويجا لدينه وإعلاء لكلمة توحيده مع المشركين المعاندين المصرين على الشرك فَيُقْتَلْ في أيديهم أَوْ يَغْلِبْ عليهم فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ من لدنا أَجْراً عَظِيماً تفضلا وإحسانا لا كأجور الدنيا ولا كأجور الآخرة المترتبة على الأعمال الصالحة إذ شهداءهم احياء عند الله واصلون اليه فرحون بما آتاهم الله من فضله والغزاة منهم في حمى الله وكنف حفظه وجواره وَماذا عرض ولحق لَكُمْ ايها المؤمنون المبشرون بهذه البشارة العظمى لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع اعداء الله ورسوله وَلا تنقذون الإسراء الْمُسْتَضْعَفِينَ منكم من أيديهم مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ قد بقوا في مكة أسارى بعد الهجرة فآذوهم أهلها واستذلوهم الى ان استعبدوهم. وهم الذين يَقُولُونَ من غاية حزنهم واسفهم ونهاية مذلتهم وضعفهم متضرعين الى الله مشتكين نحوه رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها إذ لا طاقة لنا بظلمهم وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يولى أمورنا وينقذنا من أيدي هؤلاء الغواة والطغاة ويخرجنا من بينهم سالمين وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً يا ربنا ينصرنا عليهم لننتقم عنهم فاستجاب الله دعاءهم بان الحق بعضهم الى المهاجرين ونصر بعضهم بالنبي والمؤمنين حين فتحوا مكة شرفها الله فوصلوا الى ما طلبوا من الله واعلموا ايها المكلفون الَّذِينَ آمَنُوا بالله يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تقربا اليه وطلبا لمرضاته وترويجا لدينه ونصرة على نبيه المبعوث لإعلاء كلمة توحيده فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ المضل عن طريق الحق وسبيل الهداية الى متابعة الشيطان وموالاته فلهم عذاب اليم لا عذاب أشد ايلاما منه فَقاتِلُوا ايها المؤمنون المخلصون بنصر الله أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ ولا تبالوا بعددهم وعددهم إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ ومكره بالنسبة الى كيد الله ومكره قد كانَ ضَعِيفاً بحيث لا عبرة له ولا تأثير أصلا أَلَمْ تَرَ إِلَى المؤمنين الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ عند ضعفهم ورثاثة حالهم حين كانوا في مكة قبل الهجرة يريدون ان يقاتلوا كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عن القتال الى ان يأذن الله

[سورة النساء (4) : آية 78]

لكم به ويرد الأمر عليه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ اى داوموا على الميل والتوجه المقرب لكم نحو الحق بجميع الأعضاء والجوارح وَآتُوا الزَّكاةَ المصفية لأموالكم ولنفوسكم عن الميل الى زخرفة الدنيا وحطامها وانتظروا للأمر الإلهي المتعلق بالقتال والجهاد فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ ونزل الوحى بعد ما قوى حالهم وزال ضعفهم إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ لضعف اعتقادهم وقلة وثوقهم واعتمادهم بنصر الله وتأييده يَخْشَوْنَ النَّاسَ ويخافون من الكفار كَخَشْيَةِ اللَّهِ اى مثل خوفهم من الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً يعنى بل خشيتهم من الناس أشد من خشيتهم من الله لوهن اعتقادهم وضعف اعتمادهم على الله ونصره وعونه إذ هم في أوائل ظهور الإسلام كانوا متزلزلين بحيث لا يصفو يقينهم عن شوب الظن والتخمين وَمن عدم وثوقهم وشدة تذبذبهم وتزلزلهم قالُوا حين سمعوا نزول امر القتال مسوفين مستأخرين رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ مع انا بعد باقون على ضعفنا لَوْلا وهلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يزداد فيه قوتنا ويكثر شوكتنا وعدتنا وانما قالوا ما قالوا خوفا من إلمام الموت وفوات المال قُلْ لهم يا أكمل الرسل تذكيرا وتنبيها مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وعمره قصير بالنسبة الى ما عند الله من العطاء الغير المجذوذ وشرف اللقاء وَبالجملة الْآخِرَةُ المعدة للجزاء والعطاء خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وحفظ نفسه عما يشغله عن لقائه وعطائه سبحانه وَاعلموا ايها المؤمنون انكم لا تُظْلَمُونَ اى لا تنقصون ولا تهملون مما قدر لكم الحق في لوح قضائه فَتِيلًا اى مقدار فتيل النواة واعلموا ايضا ان تسويفكم وتأخيركم هذا لا يفيدكم نفعا في حلول الأجل ونزوله بل وقته مبهم وامره مبرم وحكمه محكم أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ عند انقضاء الأجل المقدر للحياة من لدنه سبحانه وَلَوْ كُنْتُمْ أنتم متحصنين فِي بُرُوجٍ قلاع وحصون مُشَيَّدَةٍ بأنواع التجصيصات والتشييدات والتحصينات إذ لا مرد لقضاء الله ولا معقب لحكمه بل الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ارادة واختيارا وَمن غاية تزلزلهم وتذبذبهم وعدم رسوخهم وتقررهم في جادة التوحيد واليقين إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ فتح وغنيمة تسر بها نفوسهم وتنبسط بها قلوبهم يَقُولُوا فرحين هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تفضلا علينا وامتنانا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بلية واختبار بها تنقبض نفوسهم وتتألم قلوبهم يَقُولُوا متطيرين هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ اى أضافوها إليك يا أكمل الرسل متشأمين بك كما تشأمت اليهود حيث قالوا منذ دخل محمد صلّى الله عليه وسلّم المدينة قد نقصت ثمارها وغلت أسعارها قُلْ لهم كلاما ناشئا عن محض الحكمة والإيقان كُلٌّ من الحوادث الكائنة سواء كانت مفرحة او مملة مقبضة او مبسطة نازلة مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حسب قدرته وارادته لا يسأل عن فعله ولا يشارك في امره بل له التصرف مطلقا في ملكه وملكوته فَماذا عرض اى اى شيء لحق لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ المنحطين عن درجة التوحيد والعرفان لا يَكادُونَ ولا يقربون يَفْقَهُونَ يعلمون ويفهمون حَدِيثاً في ملكه وملكوته واضحا جليا يخلصهم عن التزلزل والتردد المترتب على الإضافات المنافية لصفاء التوحيد ولو انهم من اهل التدبر والتأمل في سرائر كلام الله ومرموزاته لفتح الله عليهم منه ما يخلصهم عن دغدغة الكثرة مطلقا فكيف عن إضافات الحسنة والسيئة. ثم لما أراد سبحانه ان ينبه على خلص عباده طريق توحيده وان ظهوره سبحانه في عموم مظاهره خير محض ونفع صرف وان الشر الموهوم انما يحصل من الاضافة المعدومة العارضة بسبب التعينات العدمية فقال مخاطبا لرسوله صلّى الله عليه وسلّم لان تحمل أمثال هذه

[سورة النساء (4) : آية 79]

الخطابات: الصادرة عن محض الحكمة المتقنة انما يليق بجنابه ليصل منه الى أمته ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ مسرة لنفسك يا أكمل الرسل فَمِنَ اللَّهِ وعلى مقتضى سنته وجرى عادته وظهوره على مظاهره بأنواع الخير والحسنى وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ محزنة مملة لنفسك فَمِنْ نَفْسِكَ تظهر ومن اضافتك تحصل وإلا فكل ما ظهر في فضاء الوجود خير كله إذ لا شر في الوجود أصلا بل هو انما يحصل من الإضافات الحاصلة من الكثرة وَاعلم انا قد أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل هاديا لِلنَّاسِ رَسُولًا منبها نبه لهم ما نبهت به من لدنا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ارسالك وتبليغك نبه وبلغ جميع ما أرسلت به ونبهت عليه على من أرسلت إليهم وما عليك الا البلاغ المبين ثم قال سبحانه مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ ويؤمن به ويصدقه بعموم ما جاء به من عند ربه فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه المظهر الكامل الجامع لجميع أوصافه وأسمائه تعالى وللمظهر الكامل حكم الظاهر فيه وَمَنْ تَوَلَّى واعرض عن اطاعتك اعرض أنت ايضا عنهم ولا تلتفت نحوهم فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظهم عما يشينهم بل ما أرسلناك الا مبلغا لهم وحى الله داعيا لهم الى طريق الحق وصراط توحيده باذنه وَممن يحوم حولك يا أكمل الرسل من المنافقين قوم إذا امرتهم بامتثال امر الله يَقُولُونَ في جوابك طاعَةٌ اى اطاعة وامتثال منا لعموم ما أمرت به فَإِذا بَرَزُوا وخرجوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ اى افترت وزورت ولبست غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ عندك او قلت لهم وَبالجملة اللَّهُ المجازى لهم والمحاسب عليهم أعمالهم يَكْتُبُ في صحائفهم ويجازيهم بمقتضى ما يُبَيِّتُونَ ويزورون فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تبال بإطاعتهم وقبولهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في جميع الأمور واتخذه وليا ونصيرا في عموم الأحوال وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يكفيك مؤنة ضرهم وشرهم وينتقم لك منهم. ومن جملة نفاقهم وشقاقهم انهم يطعنون في القرآن بأنواع المطاعن تارة ينسبونه الى غير الله وتارة يكذبونه وتارة يقولون هو من أساطير الأولين أَيترددون أولئك الحمقاء في امره ويطعنون في شانه فَلا يَتَدَبَّرُونَ ولا يتأملون الْقُرْآنَ لفظا ومعنى ظهرا وبطنا دلالة وحكما اقتضاء ونصا اشارة وإيماء تلويحا ورمزا حتى يتفطنوا انه ما هو من جنس كلام البشر وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ اى من جنس كلام البشر لَوَجَدُوا فِيهِ البتة اخْتِلافاً كَثِيراً حسب تفاوت درجات اشخاص البشر وَمن ضعفة المؤمنين قوم إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ موجبات الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ اى أفشوه ونشروه سواء كان مطابقا للواقع او اراجيف كاذبة ولحق للمسلمين بسبب تلك الإذاعة والاشاعة ما لا يليق بشأنهم وَلَوْ انهم حين سمعوا الخبر رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ اى اصحاب الرأى والتدبير مِنْهُمْ ليتأملوا فيه ويتبصروا لَعَلِمَهُ ولاستخرج له البتة المجتهدون والمجاهدون الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ويستخرجون له ولأمثاله مِنْهُمْ ومن علمائهم وجها وجيها موجبا للافشاء او الأسرار ولكان اولى وأليق بحالهم هذا. وبالجملة لا تغتروا ايها المؤمنون بعقولكم ولا تستبدوا بآرائكم وَاعلموا انه لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بإرسال الرسل فيكم وإنزال الكتب عليكم وَرَحْمَتُهُ الشاملة بكم بتوفيقكم على الايمان ومتابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم لَاتَّبَعْتُمُ أنتم بأجمعكم البتة الشَّيْطانَ المغوى المضل عن طريق الحق إِلَّا قَلِيلًا منكم. الا وهم الذين استثناهم الله سبحانه في سابق علمه تفضلا عليهم وامتنانا. وبالجملة ان انصرفوا عنك يا أكمل الرسل بالمرة وانفضوا عن حولك بالكلية فَقاتِلْ أنت يا أكمل الرسل وحدك منفردا بنفسك فِي سَبِيلِ اللَّهِ إذ لا تُكَلَّفُ

[سورة النساء (4) : آية 85]

إِلَّا نَفْسَكَ ولا تحمل أعباء الرسالة الا عليك فعليك ان تشمر ذيلك بنفسك لأمر الجهاد بلا مبالاة بإعانة احد منهم وانتصارهم ولا بتقاعدهم وانتشارهم فان الله ناصرك ومعينك لا الجنود والأحزاب يكفيك مؤنة عموم أعدائك ويكف عنك شرورهم وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ورغبهم على القتال إذ ما عليك الا الترغيب والتبليغ سواء قبلوا او لم يقبلوا ولا تخف من كثرة المشركين وشوكتهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ اى يمحو عن قلبك بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى قريشا وَاللَّهُ المنتقم المقتدر بالقدرة التامة الكاملة أَشَدُّ بَأْساً هيبة ومهابة وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا وتعذيبا من هؤلاء الغواة الطغاة يكفيك مؤنة شرورهم عن قريب وقد كفاه بان القى في قلوبهم الرعب فرجعوا خائبين خاسرين مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يراعى بها حق الله وحقوق عباده ويرغبهم بها على الخير ويبعدهم بها عن الشر خالصا لرضا الله بلا تغرير لنفسه او جلب نفع لها او دفع ضر عنها يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها اى من ثواب الشفاعة التي تسبب لها. والدعاء الخير للأخ المسلم من هذا القبيل. قال عليه السّلام من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يحمل بها عباد الله الى ارتكاب محرم او يوقعهم في فتنة وبلية يَكُنْ لَهُ ايضا كِفْلٌ ونصيب مِنْها ومن أوزارها وآثامها المترتبة عليها مثل فاعلها بل أزيد منه وَكانَ اللَّهُ المجازى لعباده عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الحسنة والسيئة مُقِيتاً مقتدرا على جزاء كل منهما فضلا وعدلا وَإِذا حُيِّيتُمْ ايها المؤمنون بِتَحِيَّةٍ ناشئة من أخيكم المسلم فَحَيُّوا أنتم بِأَحْسَنَ مِنْها وزيدوا عليها وفاء لحق المبادرة أَوْ رُدُّوها كمثلها بلا نقصان شيء منها وفاء لحق المروءة والمواخاة إِنَّ اللَّهَ المراقب لعموم حالاتكم كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ صدر عنكم من خير وشر ونفع وضر حَسِيباً يحاسبكم بلا فوت شيء ويجازيكم على مقتضى حسابه اللَّهُ المطلع لجميع مراتب الأسماء الموجدة المرتبة لمسمياتكم وهو يأتكم لا إِلهَ اى لا موجد ولا مربى لكم في الوجود إِلَّا هُوَ الحي القيوم الذي لا يعرض له التغير مطلقا لَيَجْمَعَنَّكُمْ وليحشرنكم من قبور تعيناتكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ التي قد عرضتم فيها الى الله وحشرتم نحوه منسلخين عن هوياتكم الباطلة لا رَيْبَ فِيهِ اى في يوم حلول القيمة وجمعكم فيه فلكم بعد ما أخبرتم ان تصدقوه وتؤمنوا له سيما قد اخبر الله به وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً حتى تصدقوا حديثه وتؤمنوا له فعليكم ان لا تخالفوا حكم الله وامره سيما بعد وروده. وإذا كان الأمر على هذا فَما لَكُمْ واى شيء عرض لكم ايها المؤمنون فِي شأن الْمُنافِقِينَ حتى تكونوا فِئَتَيْنِ وفرقتين لم لم تتفقوا على كفرهم وشركهم وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ اى والحال انه سبحانه قد قلبهم وردهم الى كفرهم بِما كَسَبُوا لأنفسهم من شؤم الشرك بالله العياذ بالله والبغض مع رسوله والنفاق مع المؤمنين أَتُرِيدُونَ بهذا التفرق والتردد في أمرهم أَنْ تَهْدُوا وترشدوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وتخالفوا حكمه كأنكم لم تصدقوه سبحانه وَاعلم ايها الرسول الكامل في امر الرسالة مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ويبعده عن نور الايمان والهداية فَلَنْ تَجِدَ أنت مع كونك مأذونا بالشفاعة لَهُ سَبِيلًا الى الهداية فضلا عن ان يجده غيرك وبالجملة هم من غاية بغضهم معكم ايها المؤمنون وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ اى تمنوا كفركم كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ أنتم معهم سَواءً في الكفر والضلال والبعد من جوار الله وكنف حفظه وحضانته وإذا كان الأمر على هذا فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ اى من أعدائكم

[سورة النساء (4) : آية 90]

أَوْلِياءَ توالونهم وتوادونهم حَتَّى يُهاجِرُوا اى الى ان يسلموا ويهاجروا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ويبعدوا عن ديارهم وعشائرهم تقربا الى الله وتوجها الى رسوله فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن الإسلام والتقرب الى الله بعد ما هاجروا عن ديارهم فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ كسائر المشركين وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ اى من هؤلاء المهاجرين المصرين على شركهم وكفرهم وَلِيًّا توالونه وَلا نَصِيراً تنتصرون به فعليكم ان تجانبوهم وتتركوا ولايتهم وودادتهم إِلَّا المهاجرين الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ غليظ وعهد وثيق على ان لا تستعينوا منهم ولا تعينوا عليهم والواصلون إليهم هم في حكمهم وعلى عهدهم فلا تأخذوهم ولا تقتلوهم حتى ينقضوا الميثاق أَوْ جاؤُكُمْ حال كونهم قد حَصِرَتْ ضاقت وانقبضت صُدُورُهُمْ من الرعب والمهابة وحينئذ كره لكم 3 ولم يؤذن أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ لان المروة تأبى عن ذلك حينئذ لأنهم ليسوا على عدة القتال فعليكم ان لا تبادروا اليه إذ القتال انما فرض مع المقاتلين المجترئين وَلَوْ شاءَ اللَّهُ قتالكم لَسَلَّطَهُمْ وجرأهم عَلَيْكُمْ وأزال رعبهم عنكم فَلَقاتَلُوكُمْ ولم ينصرفوا عنكم فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ وانصرفوا عنكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ ولم يتعرضوا لكم وَمع ذلك أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ اى الاستسلام والانقياد فَما جَعَلَ اللَّهُ الميسر لَكُمْ جميع أموركم عَلَيْهِمْ اى على قتلهم واسرهم سَبِيلًا بل اصبروا حتى يأذن الله لكم سَتَجِدُونَ آخَرِينَ من الكفار يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ بإظهار الهدنة والمحبة غيلة والاستسلام وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ ايضا عن شركم وقتالكم هم عدو لكم لا تغفلوا عنهم وعن هجومهم بغتة وغيلة إذ هم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ اى الكفر والعدوان أُرْكِسُوا فِيها وعادوا إليها وصاروا على ما كانوا بل أشد منهم فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ إظهارا لودادتكم وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ تخديعا لكم وتأمينا وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عن قتالكم تغريرا لكم حتى يعدوا ويهيئوا أسبابهم فَخُذُوهُمْ واسروهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وصادفتموهم في داركم او دارهم وَأُولئِكُمْ المخادعون المزورون الذين يغرونكم بمكرهم وخداعهم قد جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ اى على أخذهم وقتلهم سُلْطاناً مُبِيناً وحجة واضحة فعليكم ان لا تبالوا بدعواهم المحبة ولا تغتروا بصلحهم وكفهم والقائهم السلم إذ هم من غاية بغضهم معكم يريدون ان يخدعوكم وينتهزوا الفرصة لمقتكم وَما كانَ وما صح وما جاز لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً قصدا واختيارا مطلقا إِلَّا إذا صدر عنه القتل خَطَأً بلا تعمد وقصد وَمَنْ قَتَلَ منكم مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ اى قد لزم عليه شرعا تحرير رقبة متصفة بالإيمان محكومة به ليكون كفارة مسقطة لحق الله وَلزم عليه ايضا دِيَةٌ كاملة مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وورثته الذين يرثون منه حفظا لحقوقهم وجبرا لما انكسر من قلوبهم إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا اى يسقطوا حقوقهم متصدقين فَإِنْ كانَ المقتول مَنْ عداد قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ عداوة دينية وَهُوَ اى المقتول مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ اى فالواجب على القاتل تحرير رقبة مؤمنة فقط إذ لا مواساة حينئذ مع اهله ولا وراثة لهم منه وَإِنْ كانَ المؤمن المقتول مِنْ قَوْمٍ ذوى ذمة بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وعهد وثيق فَدِيَةٌ اى فاللازم حينئذ دية كاملة مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ حفظا للميثاق ومواساة معهم رجاء ان يؤمنوا إذ سر الوفاء على المواثيق والعهود الواقعة بين اهل الايمان والكفر انما هو المواساة والمداراة

[سورة النساء (4) : آية 93]

معهم ملاطفة رجاء ان يرغبوا الى الايمان طوعا وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لإسقاط حق الله وجبر ما انكسر من حدوده فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة مملوكة ولا ما يتوصل به إليها فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ اى يلزم عليه شرعا ان يصوم شهرين كاملين على التوالي بلا فصل كسرا لما جرأه على هذا الخطأ وليكون تَوْبَةً وندامة مقبولة عند الله مكفرة لخطئه ناشئة مَنْ خوف اللَّهِ وخشيته لاجترائه على تخريب بيته وَكانَ اللَّهُ المطلع بضمائر عباده عَلِيماً بحالهم وقت انابتهم ورجوعهم حَكِيماً فيما أمرهم به وحكمه عليهم لازالة ما صدر عنهم وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً مباشرا على قتله ارادة واختيارا. والعمد على هذا الوجه من امارات الاستحلال فَجَزاؤُهُ اى جزاء المستحل ووبال وزره لا يسقط عنه لا بالتحرير ولا بالدية ولا بالصوم ولا بالصدقة بل ما جزاؤه الا جَهَنَّمُ البعد عن جوار الله بحيث يصير خالِداً فِيها مؤبدا الى ما شاء الله وَمع خلوده في جحيم الخذلان وسعير الحرمان قد غَضِبَ اللَّهُ المنتقم الغيور عَلَيْهِ دائما اى اخذله واخزاه بأنواع المذلة والخزي والهوان وَلَعَنَهُ اى طرده عن ساحة عز حضوره واسقطه عن مرتبة خلافته وَأَعَدَّ لَهُ وهيأ لأجله عَذاباً عَظِيماً بحيث لا يصفو معه ابدا ولا ينظر اليه بنظر الرحمة والمغفرة أصلا. نعوذ بك من غضبك وسخطك يا ارحم الراحمين ومن عظم امر القتل عند الله وازالة الحيوة التي قد حصلت من نفخ الروح الذي قد اضافه الحق الى نفسه امر سبحانه على المؤمنين الذين يقصدون بالقتال والجهاد رضا الله وإعلاء دينه وترويج كلمة توحيده بالتبيين والتفتيش فيه على وجه المبالغة حتى لا يؤدى الى تخريب بنائه سبحانه وابطال صنعه بلا رخصة شرعية فقال مناديا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم إِذا ضَرَبْتُمْ وسافرتم للجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة توحيده وانتصار دينه ونبيه فَتَبَيَّنُوا اى فاطلبوا بيان الأمر ووضوح الحال من كل من استقبل عليكم ولا تبادروا الى قتل احد بغتة بلا تفتيش حاله وَخصوصا لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ اظهر الإطاعة والانقياد لَسْتَ مُؤْمِناً بمجرد إلقاء السّلام واظهار الوفاق بل ما أنت الا كافر مداهن خائف تبادر علينا بالاطاعة والايمان حفظا لدمك ومالك وأنتم تقولون له هكذا حال كونكم تَبْتَغُونَ وتطلبون بهذا القول عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا اى متاعها التي هي حطام زائلة وأثاث باطلة فَعِنْدَ اللَّهِ لكم ان امتثلتم لأمره ورضيتم لحكمه مَغانِمُ كَثِيرَةٌ مما يتلذذ به نفوسكم وقلوبكم يغنيكم عن حطام الدنيا ومزخرفاتها بادروا إليها ولا تميلوا الى لذات الدنيا الفانية كَذلِكَ اى مثل من القى إليكم السلم قد كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فيما مضى اى قبل رسوخكم على الايمان وقبل اطمينانكم على شعائر الإسلام قد تفوهتم أنتم ايضا بكلمتي الشهادة وأظهرتم الايمان والإطاعة لحفظ دمائكم وأموالكم بلا ملكة ورسوخ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالتمكن والاطمينان والعزيمة الصحيحة والاستقامة التامة الكاملة في شعائر الإسلام فَتَبَيَّنُوا أنتم ايضا عن حالهم واقبلوا منهم ما قالوا كما قبل الله منكم من قبل رجاء ان يكشفوا بما كوشفتم إِنَّ اللَّهَ المطلع بسرائركم وضمائركم قد كانَ في سابق علمه بِما تَعْمَلُونَ من الأغراض المؤدية الى الحطام الدنية الدنيوية خَبِيراً عليما لا يعزب عن علمه وخبرته شيء. روى ان سرية من اصحاب رسول الله غزت اهل فدك فهربوا وبقي فيها مرداس اعتمادا على إسلامه فلما رأى الخيل الجأ غنمه الى شعب الجبل وصعد عليه فلما تلاحقوا كبروا وكبر ايضا ونزل وقال لا اله الا الله

[سورة النساء (4) : آية 95]

محمد رسول الله السّلام عليكم يا اصحاب رسول الله مرحبا بكم وبقدومكم فقتله اسامة وساق غنمه فنزلت ثم قال سبحانه لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ عن الحرب مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حال كونهم غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ من الهرم والمرض والزمانة وغيرها وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ابتغاء لوجه الله وطلبا لمرضاته بل قد فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً بل درجات عظيمة وفاء لحق ما اجتهدوا في سبيله وَان كُلًّا منهم ممن قد وَعَدَ اللَّهُ لهم المثوبة الْحُسْنى والمرتبة العظمى والدرجة العليا وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ زيادة عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً هو الفوز بمرتبة الشهادة وقد فضل الله لهم في تلك المرتبة دَرَجاتٍ مِنْهُ بعضها قريب وبعضها اقرب الى ما شاء الله وَمَغْفِرَةً لذنوبهم بالمرة كيوم الولادة وَرَحْمَةً خاصة لهم بان يكونوا احياء عند ربهم وفي كنف جواره يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله وَكانَ اللَّهُ المراقب لأحوال عباده غَفُوراً لذنوبهم رَحِيماً لهم يرحمهم حسب فضله وطوله. ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ وهم الذين بقوا في مكة ولم يهاجروا مع رسول الله ولا بعده فاستذلهم العدو وأخرجوهم الى قتال رسول الله يوم بدر فقتلهم الملائكة حين امدادهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بتوطينها بين العدو مع القدرة على الهجرة مع انه حينئذ لا يقبل منهم الايمان بلا هجرة ثم نسخ بعد الفتح لذلك قال عليه الإسلام لا هجرة بعد الفتح قالُوا اى الملائكة لهم حين أظهروا الايمان بمحمد عليه السّلام يوم بدر فِيمَ كُنْتُمْ في اى امر وشأن من دينكم مع كونكم بين اعداء الله واعداء رسوله قالُوا في جوابهم معتذرين قد كُنَّا يومئذ مُسْتَضْعَفِينَ محبوسين فِي الْأَرْضِ اى ارض العدو حتى استذلونا وأخرجونا الى قتال رسول الله قالُوا اى الملائكة موبخين لهم مقرعين عليهم تبكيتا وإلزاما أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها مع كونكم غير ملجئين على القعود وبالجملة فَأُولئِكَ البعداء المداهنون مع الأعداء المظاهرون لهم مَأْواهُمْ ومثواهم جَهَنَّمُ البعد عن جوار الله وسعة رحمته وَساءَتْ جهنم مَصِيراً مآبا ومنقلبا لهم إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ الذين قد استضعفهم المرض او الهرم او عدم المكنة وَالنِّساءِ لأنهن لسن مكلفات بالهجرة الا مع أزواجهن وَالْوِلْدانِ وهم ليسوا من اهل التكليف وبالجملة المستضعفون هم الذين لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً اى لا يقدرون على احداث حيلة تنجيهم عن أعدائهم وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا يوصلهم الى أوليائهم حتى يهاجروا فَأُولئِكَ المضطرون في امر الهجرة المستضعفون في يد العدو عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ اى يمحو عن صحائف أعمالهم زلاتهم الاضطرارية ويغفر ذنوبهم كسائر المؤمنين ان كانوا مخلصين في الايمان وَكانَ اللَّهُ المطلع بسرائر عباده ونياتهم عَفُوًّا لمن أخلص غَفُوراً لمن تاب ورجع وَمَنْ يُهاجِرْ عن بقعة الإمكان التي هي ارض الطبيعة سالكا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو صراط الله الأقوم الموصل الى الفناء فيه سبحانه متوجها الى الفوز ببقائه الأزلي السرمدي يَجِدْ فِي الْأَرْضِ اى ارض الطبيعة مُراغَماً كَثِيراً اى بوادي واودية من اللذات الوهمية قد كثر وقوعه فيها الى ان ينجو وَيجد ايضا سَعَةً اى مخرجا من تلك المضايق حسب إخلاصه في سلوكه الى ان يفوز بمطلوبه وَبالجملة مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ اى عن بلد بنيته وديار هويته الباطلة في نفسها

[سورة النساء (4) : آية 101]

حال كونه مُهاجِراً إِلَى توحيد اللَّهِ وَمتابعة رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ الإرادي فمات عن لوازم بشريته وانسلخ منها مطلقا فَقَدْ وصل الى الله ووَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ كما قال سبحانه في الحديث القدسي من أحبني أحببته ومن أحببته قتلته ومن قتلته فعلى ديته ومن على ديته فانا ديته. ومن هذا تفطن العارف ان ليس وراء الله مرمى ومنتهى وإياك إياك ان تتقيد بهويتك ولوازمها ومتى تخلصت عنها وعن لوازمها فقد وصلت الى ما وصلت بل اتصلت وَكانَ اللَّهُ المرشد لعباده الى توحيده الذاتي غَفُوراً لذنوب انانياتهم العاطلة وهوياتهم الباطلة رَحِيماً لهم يوصلهم الى نهاية ما يتوجهون اليه ثم قال سبحانه وَإِذا ضَرَبْتُمْ وسافرتم فِي الْأَرْضِ اى عالم الطبيعة لا لمعصية دنيوية بل لمصلحة دينية من غزو او تجارة او حج او صلة او طلب علم او غير ذلك فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ اى ضيق لكم ووزر أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ الرباعية ركعتين سيما إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالاحتيال والاغتيال عليكم إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ دائما عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة مترصدين للفرصة وَإِذا كُنْتَ يا أكمل الرسل فِيهِمْ اى في المؤمنين فَأَقَمْتَ أنت لَهُمُ الصَّلاةَ اى قد كنت أنت اماما لهم مقتدا به فرقهم أولا طائفتين فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ متابعين لك مؤتمين بك وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ اى جميعها احتياطا فَإِذا سَجَدُوا اى هؤلاء المؤتمون فَلْيَكُونُوا اى الطائفة الاخرى مِنْ وَرائِكُمْ حارسين حافظين لكم وَلْتَأْتِ بعد ما صلوا هؤلاء طائِفَةٌ أُخْرى منهم وهم لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ كما صلوا وَلْيَأْخُذُوا معهم حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ كما أخذوا فليكن المصلون من ورائكم كما كانوا فيصلى الامام صلاة الخوف مرتين مع الطائفتين ويوزعها عليهما على الوجه الذي بينه الفقهاء فعليكم ايها المؤمنون ان لا تغفلوا من العدو سيما عند شدة الخوف إذ قد وَدَّ وتمنى القوم الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ أنتم عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ بصلاة ونحوها فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ بغتة مَيْلَةً واحِدَةً فيصادفونكم عزلا لا سلاح معكم فيستأصلونكم بالمرة وَليس هذا الأمر للوجوب بل لا جُناحَ ولا ضيق ولا حرج عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ وغيره أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى يشق عليكم أخذها أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ لدفع الحرج وَخُذُوا حين وضعها حِذْرَكُمْ اى من حذركم مقدار ما تحذرتم به ان ألمّوا عليكم بغتة إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على وجوه الانتقام قد أَعَدَّ وهيأ لِلْكافِرِينَ به وبرسوله عَذاباً مُهِيناً بأيدي المؤمنين حيث يغلبهم ويذلهم وانما وعد سبحانه للمؤمنين النصر والظفر بعد ما أمرهم بالاحتياط والتيقظ لئلا ييأسوا من عون الله ونصره فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ عند الخوف على الوجه المأمور فَاذْكُرُوا اللَّهَ بعد الفراغ منها قِياماً قائمين وَقُعُوداً قاعدين وَعَلى جُنُوبِكُمْ مضطجعين جبرا لما فوتم من أركانها وأبعاضها وآدابها حالة اضطرابكم واضطراركم فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ وزال خوفكم وارتفع رعبكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ واتموها وأدوها مراعين جميع شرائطها وآدابها محافظين عليها مهتمين بشأنها إِنَّ الصَّلاةَ المقربة لكم الى ربكم قد كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بوحدانية الله المتوجهين نحو فردانيته بجميع الأعضاء والجوارح كِتاباً مَوْقُوتاً اى فرضا موقتا محدودا لازم الأداء لكل مكلف جبل على نشأة التوحيد وَلا تَهِنُوا ولا تضعفوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ اى في وقت طلب الكفار قتالكم

[سورة النساء (4) : آية 105]

إذ هم أمثالكم إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ ايضا يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وفائدة القتال وَربحه عائد بكم إذ أنتم تَرْجُونَ مِنَ فضل اللَّهِ بانتصار دينه وإعلاء كلمته ما لا يَرْجُونَ أولئك المسرفون المفسدون فما لكم تضعفون وتجبنون عنه وَكانَ اللَّهُ الموفق لكم على القتال والآمر به عَلِيماً بقوتكم ومقاومتكم حَكِيماً فيما أمركم به ونهاكم عنه فاتخذوه سبحانه وقاية لأنفسكم وفوضوا أموركم كلها اليه وامتثلوا بجميع ما أمرتم به طائعين راغبين. ثم قال سبحانه إِنَّا أَنْزَلْنا من مقام جودنا وإحساننا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل الْكِتابَ الفارق بين الحق والباطل ملتبسا بِالْحَقِّ الصريح لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بالعدل الذي هو صراط الله الأعدل الأقوم سيما بِما أَراكَ اللَّهُ اى قد عرفك واوحى إليك به يا أكمل الرسل وَبالجملة لا تَكُنْ أنت بنفسك لِلْخائِنِينَ اى لأجلهم ورعاية جانبهم خَصِيماً زعيما لأهل البراءة في حال من الأحوال وامر من الأمور وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ المنتقم الغيور سيما من رمى البرئ والميل الى الخائن الغوى البغي إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده قد كانَ غَفُوراً لمن استغفر له رَحِيماً لمن أخلص في استغفاره. نزلت في طعمة ابن أبيرق من بنى ظفر سرق درعا من جاره قتادة ابن النعمان هو في جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه واودعها عند زيد بن سمين اليهودي فلما وقف قتادة ظن انه عند طعمة وطلب منه فأنكره وتفحص في بيته فلم يجدها وحلف ايضا ما أخذها وما له بها علم وخبر فتركه واتبع اثر الدقيق حتى انتهى الى منزل اليهودي فوجدها في بيته فقال اودعها عندي طعمة وشهد له ناس من اليهود فقال بنو اظفر انطلقوا بنا الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فالتمسوا منه صلّى الله عليه وسلّم ان يجادل عن صاحبهم وقالوا له صلى الله عليه وسلّم ان لم تجادل عنه هلك وافتضح فهم رسول الله ان يميل ويفعل ما التمسوا مداهنة ومجادلة فجاء جبرئيل عليه السّلام بهذه الآية فندم صلّى الله عليه وسلّم عما هم واستغفر ورجع وتضرع وَلا تُجادِلْ يا من أرسل بالحق على الحق مع المحقين عَنِ جانب المبطلين سيما الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ باقتراف الخيانة ونسبتها الى الغير افتراء إِنَّ اللَّهَ المرسل لك على الحق بالحق لإظهار الحق وتغليبه على الباطل الزاهق الزائغ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً مقترفا للخيانة مبالغا في اقترافها أَثِيماً معزيا لغيره تنزيها لنفسه عند الناس استخفاء منهم وهم من غاية حمقهم وجهلهم يَسْتَخْفُونَ خيانتهم مِنَ النَّاسِ مع بعدهم عنهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ والرقيب المراقب عليهم اقرب إليهم من وريدهم إِذْ يُبَيِّتُونَ اى يلبسون ويزورون ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ اى ما لا يرضى الله من القول الكاذب ورمى البرئ وشهادة الزور والحلف الكاذب وغير ذلك وَكانَ اللَّهُ المطلع بسرائرهم وضمائرهم بِما يَعْمَلُونَ من أمثال هذه الأباطيل الزائقة مُحِيطاً علمه بها لا يعزب عن علمه شيء منها وبالجملة ها أَنْتُمْ ايها المجادلون المبطلون هؤُلاءِ الخائنون المفترون قد جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فسترتم ما عرض لهم من الخيانة والعار في هذه الدار فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ المنتقم الغيور عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ومن يستر زلتهم عنه سبحانه فيها أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا يظاهرهم وينقذهم من عذاب الله وبطشه يومئذ وَ بالجملة مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً اى معصية متعدية يسوء به غيره رميا وافتراء أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بالخروج عن حدود الله بلا تعدية الى الغير ثُمَ بعد ما تفطن بوخامة عاقبته يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ الغفور الرّحيم بالتوبة والندامة الناشئة عن محض الخلوص والتيقظ يَجِدِ اللَّهَ

[سورة النساء (4) : آية 111]

الموفق له على التوبة غَفُوراً يغفر ذنوبه رَحِيماً يقبل منه توبته تفضلا عليه وامتنانا وَمَنْ يَكْسِبْ منكم إِثْماً موجبا للعذاب والنكال فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ لا يتعدى وباله عنه وَكانَ اللَّهُ المجازى لعباده عَلِيماً بعموم ما صدر عنهم حَكِيماً متقنا فيما يجازى عليهم وَمَنْ يَكْسِبْ منكم خَطِيئَةً اى معصية صادرة عن خطأ لا عن قصد وتعمد أَوْ إِثْماً صادرا عن قصد واختيار ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً منزها عنه لتنزيه نفسه فَقَدِ احْتَمَلَ وتحمل الرامي المفترى برميه بُهْتاناً اى افتراء وَإِثْماً مُبِيناً ظاهرا في إسقاط العدالة واستجلاب العذاب وَ بالجملة لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل بانزال الوحى وَرَحْمَتُهُ بإعلام ما هممت به من رمى البرئ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ عن منهج الرشاد وسبيل السلامة والسداد وعن مقتضى حكم الله وامره وَبعد ما أدركك الوحى والإلهام ما يُضِلُّونَ بتلبيسهم وتزويرهم إِلَّا أَنْفُسَهُمْ إذ قد عاد وباله ونكاله عليهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ اى شيأ من الضرر لان الله يعصمك عما لبسوه وزوروه عليك ويأخذهم وَعليك ان تجتنب عن تلبيساتهم مطلقا وعن الإصغاء الى أكاذيبهم ومفترياتهم رأسا إذ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ من غاية لطفه الْكِتابَ المبين للوقائع والاحكام وَالْحِكْمَةَ المتقنة الكاشفة عن سرائرها وَعَلَّمَكَ من الحقائق والمعارف ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أنت من قبل وَبالجملة قد كانَ فَضْلُ اللَّهِ المنعم المفضل عَلَيْكَ بإعطاء أمثال هذه الفضائل عَظِيماً إذ لا فضل أعظم منه وإذا كان شأنك عند الله هذا وهكذا لا تبال بهم وبمعاونتهم ومصاحبتهم إذ لا خَيْرَ ولا نفع فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ اى دعواتهم ومناجاتهم في خلواتهم إِلَّا مَنْ أَمَرَ نفسه بِصَدَقَةٍ على الفقراء موجبة لرحمة الله له أَوْ مَعْرُوفٍ مستحسن عقلا وشرعا من الأخلاق الحميدة والخصال المرضية أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ على الوجه الأحسن الا وفق وَمَنْ يَفْعَلْ كل واحد من ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ خالصا لرضاه بلا تخلل الرياء والسمعة وقصد الرياسة والجاه بين العوام فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ من وفور فضلنا وجودنا إياه أَجْراً عَظِيماً فوق ما يستحقه وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ ويخالفه سيما مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ وظهر لَهُ ان الْهُدى ما جاء به الرسول لدلالة المعجزات الساطعة والبراهين القاطعة على صدقه وَمع ظهور هذه الدلائل الواضحة يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ المتابعين له مكابرة وعنادا نُوَلِّهِ نسلطه ونمكنه على ما تَوَلَّى ونجعله قادرا ومقتدرا على الغي والضلال في النشأة الاولى وَفي النشأة الاخرى نُصْلِهِ وندخله جَهَنَّمَ البعد وسعير الخذلان وَساءَتْ جهنم مَصِيراً منقلبا ومرجعا ومآبا لأهلها اجرنا منها يا مجير. ثم قال سبحانه تسلية للعصاة وترغيبا لهم الى الانابة والرجوع إِنَّ اللَّهَ المطلع لسرائر عباده لا يَغْفِرُ ولا يعفو ولا يمحو أَنْ يُشْرَكَ بِهِ شيء من مصنوعاته في استحقاق العبادة إياه واسناد الحوادث نحوه وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ان تاب عنه واستكرهه بسره واستنكره وندم عنه ندامة مؤبدة ولم يرجع اليه قط وَبالجملة مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ بنسبة الحوادث الكائنة الى غير الله فَقَدْ ضَلَّ عن جادة التوحيد ضَلالًا بَعِيداً بحيث لا يرجى هدايته أصلا إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اى ما يدعون من دون الله آلهة إِلَّا إِناثاً وهي اللات والعزى والمناة وَإِنْ يَدْعُونَ وما يعبدون من دونه إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وبالجملة ما يدعون من دون الله الا

[سورة النساء (4) : آية 118]

شيطانا مطرودا مردودا لا خير فيه أصلا إذ هو قد حملهم وأغراهم على عبادة الأصنام الجامدة والأوثان الخامدة ولا شك ان عبادة هؤلاء الهلكى انما هي عائدة اليه لعنة الله راجعة نحوه وكيف يعبدونه ويدعون له وقد لَعَنَهُ اللَّهُ وطرده عن عز حضوره وأخرجه من زمرة خلص عباده بواسطة تغريره وتلبيسه عباد الله واغرائهم الى الشرك والطغيان وَبعد ما ايس الشيطان عن روح الله وقنط عن رحمته بسبب تضليل عباده قالَ لَأَتَّخِذَنَّ يا ربي مِنْ عِبادِكَ الذين هم سبب طردي وتبعيدى منتقما منهم نَصِيباً مَفْرُوضاً مفروزا وحظا كاملا مما فضلت عليهم وقدرت لهم من معارفك وتوحيدك وتقديسك بحيث اغريهم والبس عليهم وأزين لهم الفسوق والعصيان وأبالغ في تضليلهم الى ان يشركوا بك وينسبوا إليك ما لا يليق بشأنك وجنابك فينحطوا بذلك عن كنف حفظك وجوارك ويستحقوا بسخطك وغضبك وَلَأُضِلَّنَّهُمْ بأنواع الخداع والوسوسة عن طريق توحيدك وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ بما يتعلق بمعاشهم في دار الغفلة والغرور من الحرص وطول الأمل وسائر مشتهيات النفس ومستلذاتها وَلَآمُرَنَّهُمْ بتغيير اوضاعك وحدودك وتنقيص مصنوعاتك وتخريب بنيانك ومخترعاتك فَلَيُبَتِّكُنَّ وليشقن آذانَ الْأَنْعامِ وانوف الخيول وغير ذلك من الأعمال التي قد عملوها مع مخلوقاتك بلا رخصة شرعية وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ بموالاتي إياهم وبمواساتى معهم ومظاهرتى عليهم الى ان يغيروا ما خلق على مقتضى الحكمة المتقنة من الأمور التي قد خرجوا بها عن مقتضى الفطرة الإلهية وانحرفوا بسببها عن الطريق الأعدل الا قوم وَبالجملة مَنْ يَتَّخِذِ يؤثر ويختر الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ المتولى لعموم امور عباده فَقَدْ خَسِرَ لنفسه خُسْراناً مُبِيناً ظاهر الخسارة والحرمان إذ بدل المتخذ ولاية الله الهادي بولاية الشيطان المضل المغوى ولا خسران أعظم منه وكيف لا يكون ولاية الشيطان خسرانا إذ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ الشيطان شيأ لا ينالون ولا يصلون اليه أصلا وَكيف يصلون والى اى شيء ينالون إذ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ وما يغريهم عليه ما هو إِلَّا غُرُوراً واوهاما وخيالات باطلة لا وجود لها أصلا لا حالا ولا مآلا وبالجملة أُولئِكَ المغرورون بغرور الشيطان والضالون بإضلاله واغرائه مَأْواهُمْ ومثواهم جَهَنَّمُ البعد ونيران الإمكان وَهم لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً ملجأ ومهربا أصلا بل يبقون فيها مخلدا مؤبدا وَالَّذِينَ آمَنُوا بولاية الله إياهم وتوحيده وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ على مقتضى ما امر الله به ويسرهم عليه سَنُدْخِلُهُمْ بمقتضى فضلنا وجودنا جَنَّاتٍ اى متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق والكشوفات والشهودات المتجددة بتجددات التجليات وتطورات الشئونات المترتبة على الأسماء والصفات الإلهية خالِدِينَ فِيها أَبَداً مؤبدا مخلدا على هذا المنوال وبالجملة وَعْدَ اللَّهِ العليم الحكيم الذي قد وعده لخلص عباده حَقًّا ثابتا مثبتا في حضرة علمه الحضوري قبل خلقهم بمدة لا يعرفها الا هو فعليكم ايها المؤمنون ان تصدقوا وعده الثابت عنده وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا وقولا فصدقوه قوله وثقوا به واعلموا ايها المؤمنون المحمديون ان ما ينالكم ويصل إليكم مما وعد لكم ربكم لَيْسَ وصوله وحصوله لكم بِأَمانِيِّكُمْ اى بمجرد الأماني والميل النفساني منكم بلا قدم واقدام ونسك وسلوك وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ اى ليس ايضا ما يصل وينال إليهم بامانيهم كذلك فلا تخالفوا ولا تنازعوا معهم بل الأمور والمواعيد الواصلة إليكم وإليهم كلها انما

[سورة النساء (4) : آية 124]

هي بمقتضى فضل الله وعدله وبحسب توفيقه وتيسيره وبالجملة مَنْ يَعْمَلْ منكم ومنهم سُوءاً يسوء به نفسه او غيره يُجْزَ بِهِ على مقتضى عدل الله عاجلا وآجلا وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينقذه من عذاب الله وَلا نَصِيراً يحمل بعض عذابه تخفيفا له وَكذا مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ المأمورة له كلها او بعضها سواء كان العامل مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَالحال انه هُوَ مُؤْمِنٌ بالله وبكتبه ورسله وبعموم ما جاءوا به من عنده فَأُولئِكَ الصلحاء الأمناء يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ المعدة لأهل الايمان والصلاح وَلا يُظْلَمُونَ ولا ينقصون من جزاء ما عملوا نَقِيراً مقدار نقر النواة بل يزادون عليها ما شاء الله تفضلا وامتنانا لا حول ولا قوة الا بالله وَبالجملة مَنْ أَحْسَنُ دِيناً وأقوم طريقا وسبيلا مِمَّنْ أَسْلَمَ وسلم وَجْهَهُ المفاض له لِلَّهِ المفيض لوجود الأشياء الموجودة وَالحال انه هُوَ في حالة التسليم مُحْسِنٌ مع الله متأدب معه سبحانه مستغرق بمطالعة جلاله وجماله وَمع ذلك قد اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ التي هي أقوم الملل وأحسنها إذ هو في نفسه حَنِيفاً مائلا عن الأديان الباطلة والآراء الفاسدة مطلقا وَلذلك قد اتَّخَذَ اللَّهُ العليم المطلع لضمائر عباده إِبْراهِيمَ خَلِيلًا كأنه قد تخلل سبحانه فيه من كمال محبته وخلته الى حيث صار سمعه وبصره ويده ورجله على ما نطق به الحديث القدسي ولا يظن ان تخلّله فيه على وجه الحلول والاتحاد بل على سبيل التوحيد الصرف الخالي عن مطلق الكثرة والثنوية قطعا وَلِلَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ اى العلويات وَكذا عموم ما ظهر فِي الْأَرْضِ اى السفليات إذ كل ما ظهر وبطن غيبا وشهادة منه بدأ واليه يعود وَكانَ اللَّهُ المتجلى في الآفاق والأنفس بالاستقلال والاستحقاق بِكُلِّ شَيْءٍ من مظاهره مُحِيطاً لا كاحاطة الظرف بالمظروف بل كاحاطة الشمس بالاضواء والاظلال واحاطة الأرواح بالأشباح والماء بالأمواج. ذقنا بلطفك حلاوة توحيدك يا أكرم الأكرمين ثم قال سبحانه وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ميراث النِّساءِ هل ترثن أم لا قُلِ في جوابهم يا أكمل الرسل اللَّهُ الحكيم العليم يُفْتِيكُمْ ويبين لكم فِيهِنَّ وفي ميراثهن وَهو ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ اى القرآن فِي حق يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وتحرمونهن عن حقوقهن ظلما وَمع ذلك تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ او تعضلوهن كرها وَايضا في حق الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ إذ هم كانوا لا يورثونهم كمالا يورثون النسوان وَعليكم ايها الحكام أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ والعدل بلا حيف وميل لهم في مالهم وعرضهم وَبالجملة ما تَفْعَلُوا معهم مِنْ خَيْرٍ وشر فَإِنَّ اللَّهَ الرقيب عليكم كانَ بِهِ وبماله وعرضه عَلِيماً بعلمه الحضوري يجازيكم بمقتضى علمه وخبرته ان خيرا فخير وان شرا فشر وَإِنِ اضطرت امْرَأَةٌ الى السراح والفرقة بان خافَتْ مِنْ بَعْلِها بسوء عشرته معها وعدم رعاية حقوقها نُشُوزاً تجافيا عنها ميلا الى غيرها أَوْ إِعْراضاً طلاقا وسراحا فَلا جُناحَ ولا ضيق ولا تعب ولا اثم عَلَيْهِما اى على الزوجين أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما بان أسقط كل منهما عما استحق له شيأ أو زاد عليه الى ان يتصالحا صُلْحاً ناشئا عن التراضي من الجانبين ولا يؤدى أمرهما الى الفرقة والطلاق وَبالجملة الصُّلْحُ والالفة بينهما خَيْرٌ من الطلاق والفرقة وَلكن قلما يقع إذ قد أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ

[سورة النساء (4) : آية 129]

الامارة بالسوء من الجانبين الشُّحَّ اى قد صارت الأنفس حينئذ مطبوعة مرغوبة على إحضار الشح والبخل فيما وجب عليها فلا يسمح كل منهما شيأ من حقه لذلك لم يرتفع النزاع والخصومة وَبالجملة إِنْ تُحْسِنُوا ايها المؤمنون في المعاشرة مع الأزواج وَتَتَّقُوا عن غضب الله بالخروج عن مقتضى حدوده فَإِنَّ اللَّهَ المجازى لعباده كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الميل الى المحارم والاعراض عن حدود الله والمخالفة لأمره خَبِيراً يجازيكم على مقتضى خبرته وان كنتم ذوى ازواج متعددة فوق واحدة وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا وتعاشروا بالقسط بحيث لا يقع التفاوت والتفاضل بَيْنَ النِّساءِ أصلا وَلَوْ حَرَصْتُمْ وبالغتم في رعاية العدل إذ الميل الطبيعي يأبى عن اقامة العدل لذلك قيل لا وجود للاعتدال الحقيقي سيما في أمثاله فَلا تَمِيلُوا اى فعليكم ان لا تميلوا وتجانبوا عن من تميلون عنه كُلَّ الْمَيْلِ حتى تؤدى الى امارات الفرقة فَتَذَرُوها وتتركوها تلك المتروكة كَالْمُعَلَّقَةِ لا أيما ولا ذات بعل وَإِنْ تُصْلِحُوا بعد ما أفسدتم على انفسكم وَتَتَّقُوا عن غضب الله في اضاعة حقها فَإِنَّ اللَّهَ المطلع بعموم ما صدر ويصدر عنكم كانَ غَفُوراً لكم بعد ما تبتم ورجعتم عما صدر عنكم رَحِيماً لكم يقبل توبتكم ان اخلصتم فيها وَإِنْ يتنازعا حتى يَتَفَرَّقا وارتفع علقة النكاح من بينهما يُغْنِ اللَّهُ المنعم المتفضل كُلًّا منهما عن الآخر مِنْ سَعَتِهِ اى من سعة رحمته وبسطة رزقه وفسحة مملكته وَكانَ اللَّهُ المتفضل على عباده واسِعاً لهم في عطائه حَكِيماً في إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي وَكيف لا يكون سبحانه واسع العطاء إذ لِلَّهِ المنعم المتفضل جميع ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وما بينهما ملكا وخلقا تدبيرا وتصرفا إيجادا واعداما إبقاء وافناء وإذا كان الأمر هذا وهكذا فعليكم ان تتقوا من الله في السراء والضراء والخصب والرخاء وَاعلموا انا لَقَدْ وَصَّيْنَا من مقام فضلنا وجودنا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى اليهود والنصارى وجميع من انزل إليهم الكتاب في كتبهم مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ ايضا ايها المحمديون في كتابكم هذا أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ المالك لازمة الأمور بالاستحقاق وأطيعوا امره وتوجهوا نحوه ولا تكفروا به وَإِنْ تَكْفُرُوا به وتعرضوا عنه من غاية جهلكم وعنادكم ولا تعملوا ولا تأتوا بما فرض عليكم إصلاحا لحالكم فاعلموا ان الله الغنى بذاته لا يبالى بكفركم ولا بايمانكم ولا بعملكم ولا بعصيانكم فكيف لا يكون كذلك فَإِنَّ لِلَّهِ المالك للملك بالأصالة والاستقلال رجوع عموم ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ارادة وطوعا وَمع ذلك قد كانَ اللَّهُ القادر المقتدر غَنِيًّا مستغنيا في ذاته عن عموم العالمين وعن جميع اوصافهم ايمانا وكفرا إحسانا وعصيانا حَمِيداً في نفسه حمدا ولم يحمد وَكيف لا يكون سبحانه غنيا في ذاته حميدا في نفسه إذ ليس في الوجود غيره ولا شيء سواه ليحمده بل لِلَّهِ المنزه المستغنى عن عموم الأكوان الباطلة العاطلة في حدود ذواتها مطلقا كافة ما ظهر فِي السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات المترتبة على تجليات الذات وتشعشعاتها وَكذا عامة ما انعكس منها فِي الْأَرْضِ اى طبيعة العدم التي هي بمنزلة المرآة المقابلة لها وَبالجملة كَفى بِاللَّهِ اى قد كفى الله المتجلى لذاته بذاته في ملابس أسمائه وصفاته وَكِيلًا في مظاهره ومصنوعاته وفي اظلال أوصافه وعكوس أسمائه وبالجملة ليس نسبتكم الى الله ايها المنهمكون في بحر الغفلة والغرور المحجوبون بحجاب التعينات العدمية الا بالمظهرية والظلية إِنْ يَشَأْ سبحانه ويرد يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ اى الاظلال المحجوبون عن شمس

[سورة النساء (4) : آية 134]

الذات بالناسوت في ظلمة العدم ونور الوجود وَيَأْتِ بدلكم بِآخَرِينَ اى باظلال أخر يتذكرون لها ويتوجهون نحوها على الوجه الذي أمرهم به ووفقهم عليه وَبالجملة ما ذلك على الله بعزيز بل قد كانَ اللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء في ذاته عَلى ذلِكَ الاذهاب والتبديل وأمثاله قَدِيراً في ذاته لا يفتر قدرته دون مقدور أصلا بل قد جرت سنته سبحانه على مثل هذا دائما إذ هو في كل يوم وآن في شأن الا ان المحجوب لم يتنبه ولم يتفطن ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. نور قلوبنا بمعرفتك وأبصارنا بمشاهدتك وأرواحنا بمعاينتك انك على ما تشاء قدير وبالاجابة جدير مَنْ كانَ يُرِيدُ بالقتال والجهاد وكذا بعموم الأعمال المأمورة من عند الله ثَوابَ الدُّنْيا وما يصل اليه فيها من الغنيمة والرياسة والتفوق على الأقران وعلو المرتبة والشان بين العوام فَعِنْدَ اللَّهِ القادر المقتدر على إعطاء عموم النعم ثَوابَ الدُّنْيا انجاحا لمطلوبه وَالْآخِرَةِ ايضا تفضلا وامتنانا وَكانَ اللَّهُ المطلع لسرائر عباده سَمِيعاً لمناجاتهم بَصِيراً لحاجاتهم يوصلهم الى غاية متمنياتهم مع زيادة انعام وإفضال من لدنه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ مداومين محافظين على سبيل المداومة والمواظبة بِالْقِسْطِ اى بإقامة العدل والإنصاف بينكم وان كنتم شُهَداءَ في الوقائع والخطوب كونوا مخلصين لِلَّهِ في أدائها وآدابها بلا ميل وزور وإخفاء والحاف وَلَوْ كنتم شاهدين عَلى أَنْفُسِكُمْ مقرين معترفين بما على ذمتكم من حقوق الغير أَوِ لذمة الْوالِدَيْنِ وَذمم الْأَقْرَبِينَ فعليكم ايها الشهداء ان تقسطوا في أداء الشهادة بلا حيف وميل إِنْ يَكُنْ المشهود عليه والمشهود له غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً يعنى ليس لكم ان تراعوا جانب الفقير وتجانبوا عن الغنى او بالعكس بل ما عليكم الا أداء ما عندكم من الشهادة على وجهها فَاللَّهُ المطلع بحالهما أَوْلى بِهِما وبرعايتهما واصلاحهما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى اى ليس لكم الانصراف الى ما تهوى نفوسكم وتميل قلوبكم اليه ان أردتم أَنْ تَعْدِلُوا في أداء الشهادة وَإِنْ تَلْوُوا اى تغيروا وتحرفوا السنتكم عما ثبت وتحقق عندكم أَوْ تُعْرِضُوا عن أدائها مطلقا الجمتم في النشأة الاخرى بلجام من النار على ما نطق به الحديث صلوات الله على قائله فَإِنَّ اللَّهَ المجازى لعباده كانَ بِما تَعْمَلُونَ من تغييركم وأعراضكم خَبِيراً يجازيكم على مقتضى خبرته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اى الذين يدعون الايمان ويجرون كلمة التوحيد على اللسان على سبيل التقليد والحسبان وينكرون طريق ارباب الوحدة والعرفان وينسبون اهله الى الإلحاد والطغيان آمَنُوا أيقنوا وأذعنوا بِاللَّهِ المتفرد في ذاته المتوحد في أسمائه وصفاته حتى تعاينوا وتكاشفوا بتوحيده وَرَسُولِهِ اى خليفته المصور بصورته المبعوث على كافة بريته الجامع لجميع مراتب أسمائه وأوصافه وَالْكِتابِ المبين لطريق توحيده الَّذِي نَزَّلَ وانزل من كمال فضله ولطفه عَلى رَسُولِهِ المظهر لتوحيده الذاتي وَكذا بجميع الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ من عنده مِنْ قَبْلُ على الرسل الماضين المبعوثين على الأمم الماضين الظاهرين بتوحيد أوصافه وأفعاله وَبالجملة مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في التحقق والوجود باعتقاد الوجود لغيره من الاظلال والعكوس المستهلكة في حدود ذواتها وَمَلائِكَتِهِ اى أوصافه وأسمائه المنتشئة من انواع شئونه واصناف كمالاته وَكُتُبِهِ المنتخبة من تجلياته المتخذة من تطوراته وتنزلاته على هيئة الصوت والحرف ليبين بها طريق وحدة

[سورة النساء (4) : آية 137]

ذاته وكمالات أسمائه وصفاته على التائهين في بيداء الغفلة المنهمكين في تيه الحيرة والضلال وَرُسُلِهِ المكاشفين بمقاصد كتبه المتحققين المتصفين بعموم ما امر ونهى فيها المأمورين بالتبليغ والإرشاد الى مقاصدها وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء من يتنبه ويتفطن من إنزال الكتب وإرسال الرسل ومن لم يتنبه ولم يتفطن إذ الحكمة تقتضي التفضل والترحم على من تنبه الى طريق الحق سيما بعد ورود المنبه والمبين والانتقام على من لم يتنبه ولم يؤمن بل ينكر ويكفر ومن يكفر فَقَدْ ضَلَّ عن طريق التوحيد ضَلالًا بَعِيداً بحيث لا يتمنى هدايته وفلاحه أصلا من يضلل الله فلا هادي له نعوذ بك منك يا ذا القوة المتين. ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله حين ظهر موسى كليم الله وبعث إليهم ثُمَّ كَفَرُوا به وبدينه حين ظهر عليهم السامري بالعجل ثُمَّ آمَنُوا بعد رجوع موسى من الميقات ثُمَّ لما طال الزمان وانقطع الوحى والإرسال والإنزال ووقع في امر الدين فترة وضعف قد أرسل الله تعالى إليهم عيسى عليه السّلام وانزل عليه الإنجيل ليبين لهم طريق توحيده كَفَرُوا به وكذبوا بكتابه عنادا واستكبارا وبعد ما انقرض جيل عيسى عليه السّلام اظهر سبحانه النبي الموعود في الكتب السالفة بأنه سيأتى نبي مبعوث على كافة البرية بالتوحيد الذاتي وله دين ناسخ لجميع الأديان وكتاب ناسخ لعموم الكتب وبه يختم امر النبوة والوحى والإرسال والإنزال إذ بظهوره قد تم وكمل طريق التوحيد والعرفان ثُمَّ لما ظهر وتحقق عندهم ظهوره ازْدادُوا له كُفْراً وتكذيبا وأصروا على ما هم عليه عتوا وعنادا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ الهادي لعباده الماحي لذنوبهم لِيَغْفِرَ لَهُمْ ان بقوا على كفرهم وإصرارهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ان انهمكوا في الغي والضلال وبالجملة بَشِّرِ يا أكمل الرسل الْمُنافِقِينَ منهم وهم الذين يدعون الإسلام والايمان بك وبدينك وكتابك على طرف اللسان وقلبهم مختوم مطبوع على الشقاق والطغيان الأصلي بِأَنَّ لَهُمْ عند ربهم عَذاباً أَلِيماً وحذر منهم ومن سراية خبثهم ونفاقهم المؤمنين الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر بالله وتكذيب رسله أَوْلِياءَ أحباء أصدقاء يصاحبونهم مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قل يا أكمل الرسل للمتخذين من المؤمنين اولياء منهم نيابة عنا أَيَبْتَغُونَ ويطلبون عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ ويعتقدون انهم اعزة وهم ايضا يتعززون بهم وبمصاحبتهم وموالاتهم مع انه لا عزة لهم لا حقيقة ولا صورة بل قد ضربت عليهم الذلة والهوان فَإِنَّ الْعِزَّةَ الحقيقية والغلبة المعنوية والبسطة الاصلية والكبرياء الحقيقية لِلَّهِ المتعزز برداء العظمة والبهاء جَمِيعاً بحيث لا يليق لغيره أصلا ان يتعزز في نفسه الا بفضله وطوله وَمن فضل الله لكم انه قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ المبين لدينكم المنزل على نبيكم أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ اى انه إذا سمعتم وعلمتم حين تلاوتكم آياتِ اللَّهِ على رؤس الملأ انه يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها العياذ بالله فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ اى مع هؤلاء الكافرين المستهزئين بل اتركوهم واعرضوا عن مجالستهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فان لم تتركوهم ولم تخرجوا من بينهم قد صرتم أنتم ايضا أسبابا لكفرهم واستهزائهم بآيات الله إِنَّكُمْ إِذاً اى حين لم تتركوهم بل تقعدون معهم مِثْلُهُمْ في استحقاق العذاب والنكال إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء المجد والبهاء القادر على كل ما أراد وشاء جامِعُ الْمُنافِقِينَ المداهنين وَالْكافِرِينَ المكذبين المستهزئين المجاهرين فِي جَهَنَّمَ البعد والخذلان وسعير الطرد والحرمان جَمِيعاً مجتمعين بلا تفاوت في العقوبة وكيف لا يجمع المنافقين المداهنين مع

[سورة النساء (4) : آية 141]

الكافرين المجاهرين وهم الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ وينتظرون لمقتكم وهلاككم ايها المؤمنون المخلصون فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ وغنيمة حاصلة مِنَ نصر اللَّهِ عليكم قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وفي جندكم وعسكركم لم لم تسهموا علينا ولم تخرجوا حقنا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ المقاتلين نَصِيبٌ حظ من الاستيلاء والغلبة قالُوا للكفرة إظهارا للمظاهرة والمواخاة أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ ولم نستعن عَلَيْكُمْ بالتكاسل والتواني وعدم الإعانة والمظاهرة عليكم وإلقاء الرعب في قلوبهم وَنَمْنَعْكُمْ بهذه الحيل مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فعليكم ان تشاركونا فيما أصبتم منهم إذ كنا متسببين له وبالجملة لا تبالوا ايها المؤمنون بإيمان هؤلاء المنافقين وادعاء وفاقهم ولا بنفاقهم وشقاقهم فَاللَّهُ المطلع لضمائرهم يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد للفصل والانتقام وَان احتجوا عليكم وادعوا الايمان تلبيسا في هذه النشأة لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ المولى لأمور عباده لِلْكافِرِينَ المنافقين الملبسين عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الموقنين المخلصين سَبِيلًا اى حجة ودليلا في النشأة الاخرى إذ فيها تبلى السرائر وتكشف الضمائر وتجزى كل نفس بما تسعى ثم قال سبحانه إِنَّ الْمُنافِقِينَ المصرين على النفاق يتخيلون انهم يُخادِعُونَ اللَّهَ ويلبسون عليه كتخديعهم وتلبيسهم على آحاد المؤمنين وَالحال انه هُوَ خادِعُهُمْ وماكرهم باقدارهم على هذا الخداع إذ يترتب عليه من الجزاء ما لو علموا لهلكوا وَمن جملة نفاقهم وشقاقهم انهم إِذا قامُوا إِلَى أداء الصَّلاةِ مع المؤمنين قامُوا كُسالى مبطئين متكاسلين وليس غرضهم منها سوى انهم يُراؤُنَ بها النَّاسَ حتى يظنوا انهم مؤمنون مخلصون وَمع ذلك لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ في الصلاة إِلَّا قَلِيلًا منهم وهم الذين قد أخلصوا الايمان في أنفسهم ولم يظهروا به خوفا من إخوانهم وبالجملة اهل النفاق ليسوا من الكافرين عند الكافرين وايضا ليسوا من المؤمنين عند المؤمنين بل قد صاروا مُذَبْذَبِينَ مترددين بَيْنَ ذلِكَ بحيث لا يعدون ولا ينسبون لا إِلى هؤُلاءِ المؤمنين المخلصين وَلا إِلى هؤُلاءِ الكافرين المصرين المجاهرين بل هم في أنفسهم ضالون وعند الله مردودون وعند الناس مغبونون ملعونون وَبالجملة مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ المذل المضل ويجبله على الضلال فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا الى الهداية أصلا اهدنا بلطفك الى صراطك المستقيم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ أحباء مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ باتخاذكم وصنيعكم هذا أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ المحاسب المجازى لاعمال عباده عَلَيْكُمْ ايها المتخذون سُلْطاناً مُبِيناً وحجة واضحة على كفركم ونفاقكم واخذكم وانتقامكم إذ من صنيعكم هذا يلوح اثر النفاق والشقاق مع المؤمنين فعليكم ان لا تصاحبوهم ولا تتخذوهم اولياء سيما بعد ورود النهى حتى لا تلحقوا بهم ولا تحشروا في زمرتهم إِنَّ الْمُنافِقِينَ المصرين على النفاق فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ والدرجة الأرذل الأنزل مِنَ النَّارِ المعدة المسعرة لجزاء العصاة الطغاة الضالين عن طريق الحق وصراطه المستقيم وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ينصرهم او يشفع لهم وينجيهم منها إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وندموا عما جرى عليهم من امارات النفاق وَأَصْلَحُوا بالتوبة ما أفسدوا بالنفاق من شعائر الايمان والإسلام وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ الرءوف الرّحيم واتكلوا بفضله ولطفه حين رجعوا اليه وتوجهوا نحوه وَبعد ما تابوا واعتصموا بالله وفضله قد أَخْلَصُوا دِينَهُمْ اى اطاعتهم وانقيادهم لِلَّهِ المنزه عن الشريك والنظير المقدس عن المشير والظهير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فَأُولئِكَ

[سورة النساء (4) : آية 147]

السعداء المقبولون عند الله مصاحبون مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين المتمكنين في روح الله وكنف لطفه ورحمته وَبالجملة سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ المنعم المتفضل الْمُؤْمِنِينَ المخلصين في يوم الجزاء أَجْراً عَظِيماً هو الفوز بشرف اللقاء في دار البقاء واعلموا ايها المكلفون ما يَفْعَلُ اللَّهُ المتجلى في الآفاق بالاستحقاق المستغنى عن عموم مظاهره على الإطلاق بِعَذابِكُمْ اى طردكم وحرمانكم إِنْ شَكَرْتُمْ وتحققتم بظهوره سبحانه بهويته الحقة في هوياتكم الباطلة واسندتم جميع ما صدر وظهر عنكم اليه اصالة واستقلالا وَآمَنْتُمْ اى عرفتم وحدته واعترفتم به وَبعد ما فنيتم أنتم بهوياتكم المزخرفة الباطلة العاطلة في هوية الحق الحقة الثابتة الدائمة قد كانَ اللَّهُ الحميد بذاته شاكِراً لنعمه الفائضة من سجال فضله وكرمه على مرايا مظاهره ومصنوعاته عَلِيماً بمقتضاها وأنتم باقون على ما قد كنتم عليه من العدم ولقد احسن من قال لقد كنت دهرا قبل ان يكشف الغطا ... إخال بانى شاكر لك ذاكر فلما أضاء الصبح أصبحت شاهدا ... بانك مذكور وذكر وذاكر ومن مقتضيات التوحيد واليقين ايها الموحدون الموقنون المتوجهون نحو الحق ان لا تظهروا ولا تبثوا الى الله الشكوى في الأمور المتعلقة بالدنيا والاخرى ولا تلحوا له في المناجاة والدعاء فان ناقدكم بصير بحاجاتكم عليم بنياتكم فيها وعليكم الرضا بما جرى عليكم من القضاء فنعم القرين الرضا واعلموا ايها المكلفون انه لا يُحِبُّ اللَّهُ المتجلى باسم الرّحمن على ذرائر الأكوان معتدلا مستويا بالقسط بلا تفاوت ولا يحسن الْجَهْرَ والاشاعة بِالسُّوءِ اى لا يحب ولا يرضى ان يشاع ويجهر بالقبيح المستهجن عقلا وشرعا ويبالى بشأنه ويستدعى لأجله إذ لا يجرى في ملكه وملكوته الا العدل والخير سيما الجهر مِنَ الْقَوْلِ على سبيل الإلحاد والاقتراح بأنواع الصوت والصراخ إِلَّا قول مَنْ ظُلِمَ فانه سبحانه يحب قول المظلوم وجهره به ليبادر بإجابته ويستعجل بانتقامه عن من ظلمه إذ الظلم خروج عن مقتضى العدل الإلهي وطريقه الأقوم وَكانَ اللَّهُ المتجلى على العدل القويم سَمِيعاً لجهر المظلوم عَلِيماً بظلم الظالم وبما استحق عليه من الجزاء يجازيه على مقتضى علمه إِنْ تُبْدُوا وتظهروا ايها المؤمنون خَيْراً على رؤس الملأ والاشهاد أَوْ تُخْفُوهُ اى تفعلوه خفية عن الناس أَوْ تَعْفُوا وتجاوزوا عن الظالم ولم ينتقموا منه ولم يتضرعوا الى الله المنتقم عَنْ سُوءٍ اى عن فعل الظالم بكم فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لسرائركم ونياتكم كانَ عَفُوًّا عنكم ماحيا لذنوبكم مع كونه قَدِيراً على وجوه الانتقام من اجلكم. ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ويشركون له بإثبات الوجود لغيره وَرُسُلِهِ اى يكفرون ايضا برسله ويكذبون إياهم مع كونهم مبعوثين على الحق لتبين الحق بالحق من عند الحق وَمع كفرهم وتكذيبهم يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ المتوحد المتفرد بذاته المستقل في وجوده وَبين رُسُلِهِ المستخلفين عنه من عنده بظهوره عليهم بجميع أسمائه وصفاته وَيَقُولُونَ من غاية جهلهم بظهور الله واستيلائه على مظاهره نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ من الرسل وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ آخر مع ان ظهوره في الكل على السواء بلا تفاوت وَيُرِيدُونَ اى يزعمون ويتوهمون أَنْ يَتَّخِذُوا ويثبتوا بَيْنَ ذلِكَ اى ارتباط الظاهر بالمظهر والمظهر بالظاهر سَبِيلًا غير سبيل الحق المطابق للواقع أُولئِكَ البعداء المتوغلون في الكفر والضلال هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا اى الكافرون المنهمكون المتوغلون فيه المنتهون الى مرتبة لا يعبأ بايمانهم

[سورة النساء (4) : آية 152]

أصلا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ المستغرقين في الغي والضلال عَذاباً مُهِيناً مذلا مسقطا لهم عن المرتبة الانسانية بعد ما جبلوا عليها صورة إذ لا اهانة أشد من ذلك وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ المتوحد المتفرد في الوجود وَاعترفوا بظهوره سبحانه في رُسُلِهِ بعموم أوصافه وأسمائه وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالإيمان والكفر بل يؤمنون بجميعهم على السوية أُولئِكَ السعداء الموفقون بهذه الكرامة في هذه النشأة سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ تفضلا عليهم في النشأة الاخرى أُجُورَهُمْ بأضعاف ما استحقوا عليه بأعمالهم ونياتهم فيها وَلا تستبعدوا من الله أمثال هذا إذ كانَ اللَّهُ الموفق لهم على الهداية غَفُوراً لذنوبهم المبعدة عن طريق توحيده رَحِيماً لهم يوصلهم الى ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. هب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب يَسْئَلُكَ يا أكمل الرسل أَهْلُ الْكِتابِ من غاية جهلهم بالله وغفلتهم عنه أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ على مقتضى ما تهوى نفوسهم وترضى عنه عقولهم ولا تستكبر منهم أمثال هذا يا أكمل الرسل فَقَدْ سَأَلُوا أخاك مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ وأشد بعدا واستحالة فَقالُوا من غاية بعدهم عن الله ونهاية حجابهم عن مطالعة جماله أَرِنَا اللَّهَ الذي تدعونا اليه وترشدنا نحوه جَهْرَةً ظاهرة معاينة كالموجودات الاخر وهم من فرط انهماكهم في الغفلة والجهالة ما قدروا الله حق قدره لذلك أرادوا ان يحصروه في مرئى محسوس ويحيطوا به إحساسا وإدراكا مع انه سبحانه أجل وأعلى من ان يشار اليه او يدرك ويحاط به على ما هو عليه إذ الإشارة والاحاطة والإدراك انما هو منه وبه وفيه واليه ومن هذا شأنه كيف يدرك ويحس به ونهاية حال الواصلين اليه انهم قد انخلعوا عن هوياتهم الباطلة بالمرة وفنوا في هويته واضمحلوا في عينه إذ لا اله الا هو ولا موجود سواه وكل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون رجوع الأمواج الى الماء فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ النازلة من السماء بِظُلْمِهِمْ فهلكوا ثُمَّ بعد ما تابوا ورجعوا الى الله واستشفع لهم موسى صلوات الله عليه وسلامه قد اتَّخَذُوا الْعِجْلَ واعتقدوه آلها وحصروا الألوهية فيه حين لبس عليهم السامري وخادعهم به مع ان اتخاذهم هذا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ الواضحة الدالة على توحيد الله وتقدسه وتنزهه في ذاته من الحصر والاحاطة فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ ايضا بعد ما رجعوا إلينا والتجؤا نحونا متذللين وَآتَيْنا بعد ذلك أخاك مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً اى حجة واضحة ومعجزة ملجئة لهم الى الايمان وَذلك انه قد رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ معلقا عليهم بِمِيثاقِهِمْ اى بسبب ان نأخذ منهم العهد الوثيق ان جاءوا به وأوفوا عليه أزلنا عنهم الطور وان أبوا ولم يوفوا اسقطناه عليهم وَقُلْنا لَهُمُ ايضا بعد ما أخذنا الميثاق عنهم على لسان موسى عليه السّلام ادْخُلُوا الْبابَ اى بيت المقدس سُجَّداً حال كونكم ساجدين واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان هينين لينين فدخلوا مسرعين مزحفين فنقضوا العهد الوثيق المعهود وَقُلْنا لَهُمُ ايضا ميثاقا ومعاهدة على لسان داود عليه السّلام لا تَعْدُوا اى لا تجاوزوا ولا تخرجوا عن حدودنا مطلقا سيما فِي السَّبْتِ اى في اصطياد الحيتان فيه فاحتالوا في اصطيادها فنقضوا ما عهدوا وَبالجملة قد أَخَذْنا مِنْهُمْ مرارا مِيثاقاً غَلِيظاً اى مواثيق غلاظا على ارادة الجنس فنقضوا الكل وخالفوا الجميع فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ اى بسبب نقضهم المواثيق الغلاظ والعهود المؤكدة قد فعلنا بهم ما فعلنا من الابتلاءات

[سورة النساء (4) : آية 156]

والاختبارات وتحريم المباحات عليهم وانواع البليات والأذيات وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده المنزلة على خلص عبيده وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ المعصومين عن الجرائم مطلقا بِغَيْرِ حَقٍّ اى بلا رخصة شرعية وَقَوْلِهِمْ للأنبياء والرسل حين دعوتهم الى الايمان عتوا واستكبارا قُلُوبُنا غُلْفٌ يعنى اوعية مملوة بالحقائق والمعارف مختومة عليها لا يسع فيها ما جئتم به والحال انه ليس في قلوبهم ما يتعلق بأمور الدين مقدار خردلة بَلْ قد طَبَعَ اللَّهُ المضل المذل باسمه المنتقم وختم عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ بشؤم شركهم وكفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ ولا يوفقون على الايمان منهم إِلَّا قَلِيلًا وَبِكُفْرِهِمْ اى بسبب سترهم الحق عنادا ومكابرة واظهارهم الباطل عتوا واستكبارا وَقَوْلِهِمْ رميا وافتراء عَلى مَرْيَمَ المنزهة عن مطلق الكدورات البشرية بُهْتاناً عَظِيماً حيث يبهتونها ويرمونها بالزنا مع كمال عصمتها وعفتها وطهارة ذيلها عن مطلق الجرائم والآثام وَقَوْلِهِمْ ايضا ارجافا واسماعا تبجحا إِنَّا قد قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الذي زعمتموه رَسُولَ اللَّهِ وكلمته وروحا منه وَالحال انه ما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ إذ هو في حماية الله وفوق سمائه وَلكِنْ قد شُبِّهَ لَهُمْ رجل منهم اى القى الله شبهه على حارس منهم يحرسه ليظفروا عليه فرفع المشبهة به يعنى عيسى عليه السّلام نحو السماء وبقي المشبه يعنى الحارس فقتل وصلب. ثم اختلفوا فقالوا ان كان هذا عيسى فأين صاحبنا وان كان صاحبنا فأين عيسى وَبالجملة إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وفي قتله وصلبه ورفعه الى السماء لَفِي شَكٍّ مِنْهُ اى في تردد وارتياب في حقه ما لَهُمْ بِهِ وبشأنه مِنْ عِلْمٍ تصديق ويقين إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ والظن لا يغنى من الحق شيأ وَالحق انه ما قَتَلُوهُ يَقِيناً كما زعموه بَلْ الحق انه قد رَفَعَهُ اللَّهُ الرقيب عليه المتولى لحفظه وامره إِلَيْهِ اى الى كنف حفظه وجواره انجازا لوعده في قوله انى متوفيك ورافعك الى الآية وَكانَ اللَّهُ القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء عَزِيزاً غالبا قادرا على رفعه حَكِيماً في قتل من شبه له ليرجفوا بها ثم قال سبحانه وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ اى ما من جميع من انزل اليه الكتاب من المسلمين والنصارى واليهود وسائر من انزل إليهم احد مكلف إِلَّا ويجب له ويلزم عليه بايجابنا والزامنا إياه لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ اى بعيسى صلوات الله عليه وسلامه حين نزوله الى الأرض لتقوية دين محمد صلّى الله عليه وسلّم وترويجه إذ هو جامع لجميع الأديان الحقة لابتنائها على التوحيد الذاتي المشتمل على توحيد الصفات والأفعال وعند ظهوره صلّى الله عليه وسلّم قد اتحدت الأديان كلها الا ان المحجوبين لا يفهمون اتحادها لان عيسى عليه السّلام في نفسه من عجائب صنع الله وبدائع مخترعاته ومن اعزة أنبيائه واجلة رسله فلا بد ان يكون الايمان به قَبْلَ مَوْتِهِ إذ حكى في الحديث النبوي صلوات الله على قائله انه ينزل من السماء ويعيش في الأرض زمانا ويؤمن له جميع من في الأرض ثم يموت قبيل الساعة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ اى على جميع من آمن به واتبع هداه شَهِيداً يشهد لهم بالإيمان عند الله فَبِظُلْمٍ اى بسبب ظلم وخروج عن حدود الله ونقض لعهوده قد صدر وظهر مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ في كتابهم طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فيما مضى وَكذا بِصَدِّهِمْ ايضا بسبب اعراضهم وذبهم المؤمنين عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وطريق توحيده سبحانه اعراضا كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا من المضطرين أضعافا مضاعفة وَالحال انه قَدْ نُهُوا عَنْهُ في دينهم وكتابهم وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بلا رخصة شرعية مثل السرقة والغصب والربوا

[سورة النساء (4) : آية 162]

والرشوة وحيل الفقهاء وتزويراتهم التي ينسبونها الى الشرع الشريف افتراء وتلبيسات اصحاب التشيخ والتدليس ايضا من هذا القبيل ومن عظم جرم هؤلاء أسند سبحانه انتقامهم الى نفسه بقوله وَأَعْتَدْنا صيرنا وهيأنا لِلْكافِرِينَ الساترين طريق الحق مِنْهُمْ عَذاباً تبعيدا وطردا أَلِيماً مؤلما لتحسرهم على مرتبة اهل القرب والعناية لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وهم الذين يرتقون من مرتبة العلم الى العين والحق وَالْمُؤْمِنُونَ المصدقون منهم الذين يُؤْمِنُونَ ايضا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ بلا تفريق وتفاوت ايمانا واحتسابا وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وهم الذين يديمون الميل والتوجه نحو الحق بجميع الأعضاء والجوارح اطاعة وانقيادا إذ رجوع الكل اليه وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهم الذين يؤتون بما نسب إليهم من مزخرفات الدنيا طلبا لمرضاة الله وهربا عن التعلق بغيره وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ اى الذين يوقنون بوحدة الله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لثمرة الأعمال الصالحة المعمولة في طريقها أُولئِكَ السعداء الأمناء الموحدون المخلصون سَنُؤْتِيهِمْ من لدنا أَجْراً عَظِيماً الا وهو الفوز بشرف اللقاء. ربنا آتنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب. واعلموا ان رسوخ الراسخين المتمكنين في الايمان وطريق التوحيد والعرفان انما يحصل من الهامنا ووحينا واعلامنا وايقاظنا إياهم عن سنة الغفلة ونعاس النسيان وإرشادنا لهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم من عندنا وذلك من سنتنا المستمرة وعادتنا القديمة لا يحتاج فيها الإلحاح والاقتراح إِنَّا قد أَوْحَيْنا من مقام جودنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل الكتاب الجامع لجميع ما في الكتب السالفة على الوجه الأبلغ الأبين لطريق التوحيد كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ صحفا مبينة لطريق التوحيد والتنزيه قدمه لكونه أول من انزل اليه واقدم من سائر الأنبياء وَقد أوحينا ايضا بعد نوح الى النَّبِيِّينَ الذين جاءوا مِنْ بَعْدِهِ بما يبينون به طريق الحق من الكتب والصحف وَأَوْحَيْنا خصوصا إِلى آبائك يا أكمل الرسل إِبْراهِيمَ المتخلق بالأخلاق الإلهية المتحقق بمقام الخلة وَإِسْماعِيلَ المتمكن بمقام الرضا والتسليم وَإِسْحاقَ المترقب المتوجه الى الحق من كل صورة وشكل لتحققه بمقام التوحيد وَيَعْقُوبَ المتوجه الى الله في السراء والضراء لتحققه في مقام التفويض وَالْأَسْباطِ المتوجهين الى الله في جميع حالاتهم منهم يوسف المترقى من الصور الخيالية الى الأمور العينية والغيبية لصفاء ظاهره وباطنه عن الكدورات البشرية وَعِيسى المؤثر في العالم بالتأثيرات الإلهية والنفسانية الرحمانية لاضمحلال ناسوتيته في لاهوتية الحق وَأَيُّوبَ المتحقق المتمكن في مقام الصبر والرضا بما جرى عليه من القضاء لتحققه بمقام العبودية وَيُونُسَ المتحقق في مقام الخوف والرجاء مع الله وَهارُونَ المتمكن في مرتبة الامانة والديانة واطمئنان النفس وَسُلَيْمانَ الجامع لجميع مراتب عالم الغيب والشهادة لتحققه بمقام البسطة والاستيلاء وَقد آتَيْنا من كمال فضلنا وجودنا داوُدَ المتحقق بمقام الحكمة المقتضية لعموم التدبيرات الواقعة بين المراتب الإلهية زَبُوراً يفصل به بين الحق والباطل والخطأ والصواب وَكما أرسلنا الى هؤلاء المذكورين قد أرسلنا رُسُلًا ايضا قد قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ في كتابك مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَقد كمل امر الوحى نوع تكميل في موسى الكليم إذ كَلَّمَ اللَّهُ المرسل للرسل المنزل للكتب مع مُوسى المتحقق بمقام القرب والوصول تَكْلِيماً لا يدرك كيفيته ولا

[سورة النساء (4) : آية 165]

يكتنه لميته وانما أرسلنا رُسُلًا وأنزلنا معهم كتبا ليكونوا مُبَشِّرِينَ للناس بالتوحيد وبسائر المأمورات الواردة في الطريقة المؤدية اليه وَمُنْذِرِينَ لهم عن الشرك المنافى له وكذا عن جميع المحرمات المفضية اليه لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ المجبولين على الجدال والنزاع عَلَى اللَّهِ المنزه عن المجادلة والمراء حُجَّةٌ متمسك ودليل يتشبثون بها وقت أخذهم وانتقامهم يوم الجزاء ولا يبقى لهم حينئذ مجال مجادلة ومراء سيما بَعْدَ إرسال الرُّسُلِ لاهتدائهم الى طريق الحق وسبيل التوحيد مع كونهم مؤيدين من عنده سبحانه بالكتب والصحف والمعجزات الخارقة للعادات وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المستقل في الألوهية عَزِيزاً غالبا في جميع أوامره ونواهيه حَكِيماً في عموم تدبيراته المتعلقة بها ومن غاية جدالهم ونزاعهم يجادلون معك يا أكمل الرسل في رسالتك وكتابك ولا يشهدون بك وبحقية كتابك وبصدقك في رسالتك مع كونك مشهودا في كتبهم وعلى لسان رسلهم مكابرة وعنادا لا تبال بهم وبعدم شهادتهم لكِنِ اللَّهُ المطلع بالسرائر والخفيات يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ اى بحقيته وصدقك فيه بانه قد أَنْزَلَهُ إليك ملتبسا بِعِلْمِهِ المتعلق بتأليف كلماته وكيفية ترتيبه ونظمه على وجه يعجز عنه جميع من تحدى وتعارض معه وَالْمَلائِكَةُ ايضا يَشْهَدُونَ بانه منزل من الحق بالحق على الحق وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً سواء شهدوا او لم يشهدوا. ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبكتابك وَصَدُّوا اى اعرضوا وانصرفوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ المبين فيه قَدْ ضَلُّوا عن طريق التوحيد ضَلالًا بَعِيداً بحيث لا يرجى هدايتهم أصلا وكيف يرجى هدايتهم وقد أضلهم الله باسمه المضل وبالجملة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا طريق الحق وأظهروا الشرك وَمع ذلك قد ظَلَمُوا وخرجوا عن مقتضى حدود الله بالمرة لَمْ يَكُنِ اللَّهُ الهادي لعباده لِيَغْفِرَ لَهُمْ ذنوبهم لعظم جرمهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً من طرق النجاة لانهماكهم في الغفلة والضلالة إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ البعد والخذلان خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا ينجون منها أصلا وَلا تستبعد يا أكمل الرسل عن الله أمثال هذه التبعيدات والتخذيلات إذ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ المنتقم المضل للغواة الطغاة يَسِيراً ثم لما بين سبحانه حقية الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصدقه في دعواه وأوعد على من كذبه وخالف كتابه ما أوعد أراد ان ينبه على عامة اهل التكليف من ارباب الملل وغيرهم ان يؤمنوا به وبجميع ما جاء به من عند ربه جميعا فقال مناديا ليقبلوا عليه يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ المبعوث الى كافة الخلق ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع مرسلا مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم بنعمة العقل الذي هو مناط عموم التكاليف وبه الوصول الى الايمان والتوحيد فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ اى فان تؤمنوا به بعد ما قد ظهر صدقه وحقيته كان خيرا لكم عند ربكم يوصلكم الى توحيده وَإِنْ تَكْفُرُوا به عنادا ولم تؤمنوا له مكابرة لا يبالى الله بكم لا بكفركم ولا بايمانكم فَإِنَّ لِلَّهِ اى يسجد ويخضع له جميع ما فِي السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ ارادة وطوعا وَكانَ اللَّهُ المكلف الآمر لعباده عَلِيماً بقابلياتهم حَكِيماً في ما أمرهم به وكلفهم عليه ليفوزوا فوزا عظيما يا أَهْلَ الْكِتابِ اى الإنجيل المبالغين في امر عيسى عليه السّلام الى حيث ينتهى مبالغتكم الى الغلو المذموم عقلا وشرعا لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ونبيكم ولا تبالغوا في الإغراء في وصفه عليه السّلام وَعليكم ان لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد

[سورة النساء (4) : آية 172]

الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا إِلَّا الْحَقَّ الحقيق اللائق لجنابه المتعالي من سمة النقائص مطلقا إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ كسائر رسله وَغاية امره انه كَلِمَتُهُ اى حصل وتكوّن من كلمته التي قد أَلْقاها سبحانه حسب حكمته وقدرته إِلى مَرْيَمَ وَهي اى تلك الكلمة رُوحٌ يتجلى مِنْهُ سبحانه ويظهر فيه عليه السّلام كظهوره في سائر الأشخاص والمظاهر غاية الأمر فيه عليه السّلام ان حصة لاهوته قد غلبت على ناسوته لحكمة قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها لذلك ظهرت منه عليه السّلام من الخوارق ما خلت عنه الأنبياء فَآمِنُوا بِاللَّهِ المنزه عن الأهل والولد وَرُسُلِهِ المؤيدين من عنده لتبليغ حكمه وأحكامه الى عباده ومن جملة الرسل عيسى عليه السّلام وَلا تَقُولُوا لله المنزه عن التعدد مطلقا ما لا يليق بجنابه سبحانه بأنه ثَلاثَةٌ الله والمسيح ومريم انْتَهُوا ايها المجبولون على فطرة التكليف والتوحيد عن التثليث في حق الله بل عن التعدد مطلقا واقصدوا خَيْراً لَكُمْ يرشدكم الى سبيل التوحيد إِنَّمَا اللَّهُ المتجلى في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق إِلهٌ واحِدٌ اى وجود بحت وموجود واحد فرد لا يمكن التعدد ولا يجرى التكثر في ذاته أصلا سُبْحانَهُ بذاته وتعالى حسب أسمائه وصفاته عن أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ كما يقول الظالمون بل لَهُ باعتبار تجلياته على صفحات الاعدام بجميع أوصافه وأسمائه مظاهر ما فِي السَّماواتِ من عكوس شئونه ومرايا أوصاف جماله وجلاله وَما فِي الْأَرْضِ ايضا منها وكذا فيما بينهما وكذا فيما شاء الله وما يعلم جنود ربك الا هو وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا اى كفى الله المتجلى بجميع أوصافه وأسمائه وكيلا على مظاهره موليا لامورها اصالة واستقلالا ومن غاية إغراء النصارى في وصف المسيح ونهاية غلوهم في حقه قد ادعوا استنكافه واستكباره عليه السّلام عن كونه عبد الله لذلك نسبوه اليه سبحانه بالنبوة وعبدوا له كعبادة الله لذلك رد الله عليهم بقوله نْ يَسْتَنْكِفَ ولن يستكبر ويترفعْ مَسِيحُ وان ترقى الى السماء برفع الله إياه حسب قوة لاهوتيته نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ عند الله المترقون من السماء ايضا الى ما شاء الله إذ لا ناسوت لهم أصلا كيف يستنكف ويستكبر عن عبادته احد من مظاهره ومخلوقاته إذنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فلا بد ان يخرج عن حيطة تصرفه سبحانه ولا يسع لهم هذا بل سَيَحْشُرُهُمْ الله لَيْهِ جَمِيعاً ويحاسبهم بما صنعوا ويجازيهم على مقتضى حسابه باشد العذاب وأسوأ النكال فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وكتبه ورسله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم اطاعة وانقيادا فَيُوَفِّيهِمْ الله أُجُورَهُمْ بأضعاف ما استحقوا وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ما لا يسع في عقولهم وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا عن عبادة الله تعالى فَيُعَذِّبُهُمْ الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بعلو المجد والبهاء عَذاباً أَلِيماً بطردهم عن ساحة عز حضوره ولا الم أشد من ذلك وَمع ذلك لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يدفع عنهم الأذى وَلا نَصِيراً يخفف عنهم العذاب يا أَيُّهَا النَّاسُ المتوجهون الى توحيد الله لم يبق لكم عذر في الوصول اليه والرجوع نحوه إذ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ واضح نازل مِنْ رَبِّكُمْ على لسان نبيكم يبين لكم طريق الشرائع والاحكام المتعلقة بدين الإسلام فخذوا منه صلّى الله عليه وسلّم واقتدوا به وتدينوا بدينه وشريعته كي تصلوا الى ما جبلكم الحق لأجله وَمع ذلك قد أَنْزَلْنا من مقام جودنا إِلَيْكُمْ لإرشادكم وإصلاح حالكم وأبقينا بينكم ابدا

[سورة النساء (4) : آية 175]

نُوراً مُبِيناً الا وهو القرآن العظيم المرشد لكم الى مرتبة التوحيد والعرفان فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا منكم بِاللَّهِ المتوحد في ذاته وَاعْتَصَمُوا بِهِ وبكتابه ورسوله فَسَيُدْخِلُهُمْ الله بمقتضى فضله فِي رَحْمَةٍ عظيمة وروح دائم ومسرة مستمرة إشفاقا مِنْهُ سبحانه إياهم لا استحقاقا منهم وَفَضْلٍ واحسان امتنانا عليهم وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ اى الى وحدة ذاته صِراطاً مُسْتَقِيماً موصلا الى ذروة توحيده بحيث لا يعرض لهم فيها ضلال وإضلال أصلا. ثم قال سبحانه يَسْتَفْتُونَكَ يا أكمل الرسل عن ميراث الكلالة كيف يقسم قُلِ لهم اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ في أوائل السورة ويعيدها ايضا في آخرها تأكيدا ومبالغة وهي آخر ما نزلت من الاحكام إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ وحين هلك لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ لا ذكر ولا أنثى وَالحال انه لَهُ أُخْتٌ من الأبوين او الأب فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ الهالك وَكذا ان هلكت امرأة كذلك ولها أخ كذلك هُوَ يَرِثُها جميع مالها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ لا ذكر ولا أنثى فَإِنْ كانَتَا الأختان اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ أخوهما وَإِنْ كانُوا اى الوارثون إِخْوَةً وأخوات مختلطين رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ من متروكات أخيهم وانما يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ حكم الكلالة هاهنا مع انه قد بينها فيما مضى كراهة أَنْ تَضِلُّوا وتغفلوا عنها وَبالجملة اللَّهُ المدبر لعموم مصالحكم بِكُلِّ شَيْءٍ من حوائجكم المتعلقة لحياتكم ومماتكم عَلِيمٌ يعلمكم وينبهكم عليه كيلا تذهلوا وتغفلوا عنه خاتمة سورة النساء عليك ايها الطالب لتحقيق الحق القاصد نحو توحيده أوصلك الله الى أقصى مرامك ان تتمسك بالبرهان الواضح الذي وصل إليك من قبل الرسول الهادي صلّى الله عليه وسلّم الدال على توحيد الحق وتستضيء دائما من نور القرآن الفارق بين الحق الواقع والباطل في طريقه وتمتثل بما فيه من الأوامر المؤدية اليه وتجتنب ايضا عن نواهيه المضلة المبعدة عنه وتتخلق بعزائمه المكنونة في ضمن الاحكام والقصص المذكورة فيه لتتحقق أنت بما رمز فيه من غوامض سر التوحيد وسريان الوحدة في ملابس الكثرة وتتمكن في مقر الوحدة الذاتية المفنية للهويات الباطلة الزائلة في أنفسها ولا يتيسر لك هذا الا بطول خدمة المرشد الكامل المكمل الذي يرشدك الى سر حبل الله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات الا وهو القرآن المنزل على خير الأنام كما قال صلى الله عليه وسلّم القرآن حبل الله الممدود من السماء الى الأرض. ومن أراد ان يغوص في لجج بحار القرآن لاستخراج فرائد اليقين والعرفان فعليه أولا ان يتمسك بالاحكام الشرعية الفرعية التي قد استنبطها ارباب العزائم الصحيحة عن ظواهر كلم القرآن ليكون مهذبا بظواهر اصحاب اليقظة من اهل الطلب والارادة حتى تستعد بها نفوسهم وتتصفى بواطنهم لان يفيض عليها رشحات بحر التوحيد وتصير قابلا لان ينزل عليها سلطان العشق والمحبة إذ الوقاية للب التوحيد والصدف لدر المعرفة انما هي احكام الشريعة وآداب الطريقة للسالكين القاصدين نحو الحقيقة من طريق المجاهدة والسلوك. واما البدلاء المجذوبون المنجذبون المستغرقون في بحر الذات الهائمون بمطالعة جمال الله الفانون فيه مطلقا فهم هو وهو هم مالنا ومالهم حتى نتكلم عنهم جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم فعليك ايها المريد العازم لسلوك طريق الفناء الحازم الجازم في هذا

سورة المائدة

العزم ان تصفى أولا سرك وسريرتك عن التوجه الى غير الحق وتجعل مطلبك ومقصدك الاستغراق والفناء في بحر الوحدة ولا يتيسر لك هذا الا بعد كسر سفينة هويتك الباطلة وتخريب اركان بدنك العاطلة ولا يتأتى لك هذا الكسر والتخريب الا بالرياضات الشاقة والمجاهدات الشديدة من الجوع والعطش والسهر المفرط والانقطاع عن اللذات الحسية والمشتهيات النفسية وكذا بالتلذذ بالموت الإرادي والفناء الاختياري وبالصبر على البلاء الاضطراري والرضا على عموم ما قد جرى عليه القضاء الإلهي ومتى تحقق هذه الأمور فيك قد وهن هويتك وضعف سفينتك وحينئذ يمكنك كسرها ان وفقت بها. اللهم زين بلطفك ظواهرنا بشريعتك وبواطننا بحقيقتك وأسرارنا بمشاهدتك وأرواحنا بمعاينتك انك على ما تشاء قدير وبإنجاح رجاء المؤملين حقيق جدير [سورة المائدة] فاتحة سورة المائدة لا يخفى على المقيمين بحدود الله الموفين بعهوده المحافظين بعقوده المنعقدة بين أوصافه الذاتية بمناسبة بعضها مع بعض ومقابلة بعضها ببعض ان منشأ جميع الأوامر والنواهي الموردة في الشرع انما هي الأوصاف المتقابلة والأسماء المتخالفة الإلهية فإذا الاختلافات الواقعة بين الآثار المترتبة على تلك الأوصاف الذاتية انما تنشأ منها وتتفرع عليها والسر في ورود الأوامر والنواهي انما هو حصول الاعتدال والقسط الإلهي المعد لاستحقاق الخلافة والنيابة المقصودة من الظهور والإظهار والخلق والإيجاد لذلك كلف سبحانه خواص عباده المجبولين على هذه الفطرة بالتكليفات الشاقة والرياضات القالعة لعرق الكثرة والثنوية قطعا من قطع المألوفات وترك المشتهيات والمستلذات العائقة عن الاعتدال الفطري الإلهي وهداهم الى صراط مستقيم موصل الى توحيده بإسقاط الإضافات الطارئة من كثرة الأسماء والصفات المنتشئة من تطورات الذات وتجليات الحبية المتشعشعة ازلا وابدا بلا علل وأغراض ومالنا منها الا الحيرة والاستغراق والعجز والوله والهيمان ان وفقنا بها من عنده ولهذه المصلحة العلية قد امر سبحانه في هذه السورة عباده وأوصاهم أولا بإيفاء العهود ومحافظة العقود ليستعدوا بما لأجله جبلوا وخلقوا فقال مناديا متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المستوي على عرشه بالعدل القويم الرَّحْمنِ لعباده بهدايتهم الى الصراط المستقيم الرَّحِيمِ لهم بايصالهم الى روضة الرضا وجنة التسليم [الآيات] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم الوفاء بالعهود والعقود الموضوعة فيكم من لدنا لإصلاح حالكم أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وواظبوا على اقامة الحدود ومحافظة المواثيق التي وضعها الحق بينكم المتعلقة لتدابير امور معاشكم ومعادكم من حملتها انها قد أُحِلَّتْ لَكُمْ في دينكم هذا بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وهي الأزواج الثمانية التي ستذكر في سورة الانعام وما يشبهها تقويما لأمزجتكم وتقوية لها لتتمكنوا على إتيان ما كلفتم به إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في كتاب الله تحريمه حال كونكم غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ مطلقا وَأَنْتُمْ في تلك الحالة حُرُمٌ محرمين للحج مأمورين بحبس القوى الشهوية والغضبية عن مقتضياتهما بل أنتم بارادتكم واختياركم معطلين لهما حتى تتمكنوا وتقدروا على الموت الإرادي الذي هو عبارة عن الحج الحقيقي عند العارف المحقق إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده يَحْكُمُ بمقتضى حكمته ومصلحته ما يُرِيدُ لهم من التحليل والتحريم بحسب الأوقات والحالات لا يسأل عن فعله بل لا بد لهم الانقياد تعبدا سيما في اعمال الحج يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله اطاعة وتعبدا مقتضى ايمانكم ان لا تُحِلُّوا ولا تبيحوا لأنفسكم شَعائِرَ اللَّهِ اى المحرمات التي قد حرمها سبحانه في اوقات

[سورة المائدة (5) : آية 3]

الحج تعظيما لأمره وبيته وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ اى لا تحلوا ايضا قواكم الحيوانية عن الحبس والزجر في الازمنة التي حرم سبحانه إطلاقها فيها لتعظيم بيته وَلَا تبيحوا ايضا لأنفسكم فيها الْهَدْيَ اى التعرض لما اهدى نحو البيت قبل بلوغه الى محله وَايضا لا تتعرضوا الْقَلائِدَ وهي ما يعلم ويقلد من الحيوانات المباحة بقلادة دالة على انه من هدايا بيت الله على ما هو عادة العرب وَعليكم ايضا ان لا تتعرضوا ولا تتقاتلوا مع المؤمنين الموقنين الذين توجهوا نحو الكعبة الحقيقية مريدين ان يخرجوا من بقعة الإمكان سالكين سبيل المجاهدة مجتهدين فيها طالبين الوصول الى كعبة الوحدة وفضاء الوجوب تقربا وتشوقا مع كونهم آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يعنى قاصدين التقرب والتحقق نحو كعبة الذات والوقوف بعرفات الأسماء والصفات إذ لا بد من وقوفها لمن قصد زيارة بيت الله الأعظم بل الركن الأصلي لزيارة بيت الله هو هذا الوقوف عند المنجذبين نحو الحق من طريق المجاهدة المستتبعة للكشف والمشاهدة لأهل العناية واما المنجذبون نحوه بالاستغناء والفناء والاستغراق التام الذي لا يحوم حوله شائبة الكثرة أصلا فهم متمكنون في مقعد صدق عند مليك مقتدر حال كونهم يَبْتَغُونَ ويطلبون هؤلاء الزوار المريدون التحقق بهذه المرتبة العلية والمنزلة السنية فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ بلا وسائل الأعمال والنسك ووسائط الأوامر والنواهي وان كانوا ممتثلين بهما متصفين بمقتضياتهما وَيطلبون ايضا من فضل الله رِضْواناً من جانب الحق وقبولا من قبله فيما يأتونه من الشعائر المكتوبة لهم في الحج الحقيقي والوقوف المعنوي إذ لا وثوق للعبد في سلوكه هذا سوى الرضا منك يا أكرم الأكرمين ويا ارحم الراحمين وَاعلموا انكم ايها المكلفون إِذا حَلَلْتُمْ وأطلقتم قوى حيوانيتكم عن عقال التكاليف المفروضة المقدرة لكم في الحج بخروج أيامها وأوقاتها مع متمماتها فَاصْطادُوا اى ابيحوا على انفسكم اصطياد ما أحل الله لكم واباحه عليكم من صيد البر والبحر وَبعد ما علمتم فوائد الحج ومناسكه وعرفتم عرفاته وميقاته لا يَجْرِمَنَّكُمْ ولا يوقعنكم في الجريمة شَنَآنُ قَوْمٍ بغضهم وحسدهم إياكم وخوفكم منهم الى أَنْ صَدُّوكُمْ وصرفوكم عَنِ التوجه نحو الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الذي قد حرمت عنده سجود السوى 2 والأغيار مطلقا فعليكم ايها القاصدون زيارة الكعبة المعظمة والقبلة المكرمة التي هي عبارة عن بيت الوحدة أَنْ تَعْتَدُوا اى تتمرنوا وتعتادوا على المقاتلة والمقابلة مع الكفار المانعين عن الزيارة من القوى الشهوية والغضبية والمستلذات الوهمية والخيالية وَتَعاوَنُوا وتناصروا عَلَى جنود الْبِرِّ المورث للرجاء وحسن الظن بربكم وَكذا على جنود التَّقْوى المشعر للخوف من قهر الله وغضبه وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ اى الخصلة الذميمة عقلا وشرعا وَالْعُدْوانِ اى التجاوز عن الحدود الشرعية العياذ بالله وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ان تجرؤا عليه بنقض عهوده ومجاوزة حدوده إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على كل ما يشاء ويريد شَدِيدُ الْعِقابِ اليم العذاب على كل من ظلم نفسه بالإثم على الله والعدوان عن مقتضى حدوده. ثم لما كان الأصل في الأشياء الحل والاباحة والحرمة انما عرضت من التكاليف الشرعية بين سبحانه أولا حكم المحللات مطلقا وما يتفرع عليها ثم عين المحرمات التي استثناها بقوله الا ما يتلى فقال حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ في دينكم الْمَيْتَةُ المائت حتف انفه بلا سبب مزيل لحياته وَالدَّمُ المسفوح السائل بالتذكية او بغيرها وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ النجس الظاهر خباثته عقلا وشرعا وَمن جملة

[سورة المائدة (5) : آية 4]

المحرمات ايضا ما أُهِلَّ وصوت عند ذبحه لِغَيْرِ اسم اللَّهِ من اسماء الأصنام بِهِ وَكذا الْمُنْخَنِقَةُ الزائلة حياتها بالخنق وحبس النفس بلا تذكية كما يفعله المشركون وَكذا الْمَوْقُوذَةُ المضروبة بالخشب والأحجار الى ان يزول منها الروح وَالْمُتَرَدِّيَةُ اى التي سقطت من علو او في بئر فزالت حياته وَالنَّطِيحَةُ وهي التي نطحها ووطئها الحيوان الآخر فماتت وَكذا قد حرمت عليكم ما أَكَلَ السَّبُعُ منه فزال حياته إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ اى قطعتم حلقومه مهللين حين أحسستم الرمق منه فانه يحل لكم حينئذ وَكذا قد حرمت عليكم ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ اى على الأصنام المنصوبة الموضوعة حول البيت كانوا يعظمونها ويتقربون نحوها بالذبائح والقرابين وَايضا من جملة المحرمات أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ اى الأقداح. وذلك انهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلثة أقداح مكتوب على أحدها أمرني ربي وعلى الآخر نهاني ربي وعلى الآخر غفل فان خرج الأمر مضوا عليه وان خرج النهى انصرفوا عنه وان خرج الغفل اجالوها ثانيا. ومعنى الاستقسام بها الاستخبار والاستفسار عن القسمة الغيبية التي قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها. وأمثال هذا ما هي الا كهانة وكفر صدرت عن ذوى الأحلام السخيفة الخبيثة الناشئة من عدم الرضا بالقضاء ذلِكُمْ اى استقسامكم واستخباركم من ازلامكم وأقداحكم فِسْقٌ خروج عما عليه الأمر والشرع وديدنة الجاهلية فعليكم ان تجتنبوا عن أمثالها سيما الْيَوْمَ يَئِسَ وقنط بالمرة القوم الَّذِينَ كَفَرُوا عن انصرافكم مِنْ دِينِكُمْ لظهوره وغلبته على عموم الأديان فَلا تَخْشَوْهُمْ عن غلبتهم بترك رسومهم وعاداتهم المستقبحة بل وَاخْشَوْنِ عن بطشى وانتقامي بترك ما أمرت لكم ونهيت عنكم في جميع أحوالكم وازمانكم سيما الْيَوْمَ الذي قد أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأعنت عليكم وغلبتكم على مخالفيكم مطلقا وأظهرت دينكم على الأديان كلها وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ظاهرة وباطنة بالاستيلاء والغلبة على الأعداء وقمع عموم الآراء الباطلة والأهواء الفاسدة بالكلية وَمن إتمام نعمتي عليكم وتوفيرها لكم انى رَضِيتُ اى اخترت وانتخبت لَكُمُ الْإِسْلامَ اى الإطاعة والانقياد على سبيل التعبد والتسليم دِيناً اى ديدنة ومذهبا إذ لا دين أعز عند الله من دين الإسلام وبعد إكمال دينكم وإتمام النعم عليكم وتحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم فَمَنِ اضْطُرَّ منكم فِي مَخْمَصَةٍ مجاعة مفرطة ملجئة الى تناول الجيف والمحرمات حال كونه غَيْرَ مُتَجانِفٍ مائل لِإِثْمٍ وقاصد لمعصية رخص له التناول منها شرعا مقدار سد جوعة فَإِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالكم غَفُورٌ لما صدر عنكم حين اضطراركم ومخمصتكم رَحِيمٌ لا يؤاخذكم عليه بعد ما رخص لكم يَسْئَلُونَكَ من آمن بك يا أكمل الرسل ماذا اى اى شيء من الأشياء المأكولة المتعارفة أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ لهم قد أُحِلَّ لَكُمُ في دينكم هذا الطَّيِّباتُ التي مضى ذكرها في أول السورة من البهائهم المذكاة وما شابهها من الوحشيات وَكذا أحل لكم صيد ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ الكواسب لكم الصيد من ذوات القوائم والمخالب حال كونكم مُكَلِّبِينَ معلمين مؤدبين أنتم اياهن الصيد بحيث تُعَلِّمُونَهُنَّ أنتم مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من مقتضيات العقل المفاض لكم بأنواع الحيل اياهن وبعد ما علمتموهن فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ من صيدهن حلالا طيبا وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ اى وعليكم ان تذكروا اسم الله حين إرسال الجوارح المكلبة نحو الصيد وَاتَّقُوا اللَّهَ ان لا تهلوا على الصيد والذبائح ولا تحلوها

[سورة المائدة (5) : آية 5]

بذكر اسم الله تعالى عليها سيما بعد ورود الأمر به إِنَّ اللَّهَ المطلع بجميع حالاتكم سَرِيعُ الْحِسابِ شديد العقاب لمن لم يمتثل بأوامره ولم يجتنب عن نواهيه الْيَوْمَ اى حين انتشر وظهر دينكم على عموم الأديان كلها قد أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ المذكورة المحللة فيها وَايضا طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى اليهود والنصارى وذبائحهم حِلٌّ لَكُمْ في دينكم وَكذا طَعامُكُمْ واطعامكم حِلٌّ لَهُمْ لأنهم من ذوى الملل واولى الأديان وَكذا قد أحل لكم الْمُحْصَناتُ الحرائر العفائف مِنَ الْمُؤْمِناتِ اى نكاحكم اياهن وَكذا الْمُحْصَناتُ ايضا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مهورهن بلا تنقيص وتكسير حال كونكم مُحْصِنِينَ محافظين على حقوق الزواج والنكاح غَيْرَ مُسافِحِينَ مجاهرين بالزنا وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ مستترين به وَمَنْ يَكْفُرْ منكم وينكر بِالْإِيمانِ وبلوازمه وحدوده الدالة على صحته فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا ثم لما بين سبحانه ما يتعلق بمعاش عباده من الحل والحرمة والزواج والنكاح وحسن المعاشرة ورعاية الآداب والحقوق المشروعة فيها أراد ان يرشدهم الى طريق الرجوع نحو المعاد الذي هو المبدأ بعينه ليميلوا اليه ويتوجهوا نحوه على نية التقرب الى ان وصلوا بل اتصلوا فقال مناديا لهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا بوحدة ذات الحق وتنزهه عن وصمة الكثرة مطلقا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اى إذا قصدتم ان تخرجوا عن بقعة الإمكان مهاجرين وأردتم ان تميلوا نحو فضاء الوجوب متحننين متشوقين فَاغْسِلُوا أولا اى فعليكم ان تغسلوا بماء المحبة والشوق والجذب الإلهي المحبى المنبت نبات المعارف والحقائق من أراضي استعداداتكم ومزارع تعيناتكم وُجُوهَكُمْ التي تلى الحق عن رين الإمكان وشين الكثرة مطلقا وَطهروا أَيْدِيَكُمْ ثانيا اى قصروها عن ادناس الأخذ والإعطاء من حطام الدنيا ونظفوها عن اقذارها إِلَى الْمَرافِقِ اى مبالغين في تطهيرها الى أقصى الغاية وَبعد ما غسلتم الوجوه وطهرتم الأيدي امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اى امحوا وحكوا انانيتكم وهويتكم التي منها طلبكم واربكم وبسببها ومقتضاها تعبكم في الدنيا وَامحوا ايضا أَرْجُلَكُمْ واقطعوا اقدامكم التي بها سلوككم واقدامكم نحو مزخرفاتها إِلَى الْكَعْبَيْنِ مبالغين فيها الى ان ينقطع توجهكم وطلبكم عن غير الحق ويتمحض سيركم وسلوككم بالفناء في الله وَإِنْ كُنْتُمْ ايها المائلون نحو الحق جُنُباً منغمسين في خبائث الإمكان وقاذوراتها غاية الانغماس فَاطَّهَّرُوا اى فعليكم المبالغة في التطهير بالرياضات الشاقة والمجاهدات الشديدة القالعة لعروق التعلقات واصول المألوفات والمشتهيات وبالركون الى الموت الإرادي والخروج عن الأوصاف البشرية مطلقا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى اى من الأبرار الذين مرضوا بسموم الإمكان ويحموم نيرانه وصاروا محبوسين مسجونين فيه بلا قدم واقدام أَوْ عَلى سَفَرٍ من السالكين السائرين نحو الحق بلا بدرقة الجذبة أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ اى عاد ورجع عن التدلس والتلوث بغلاظ ادناس الدنيا من جاهها ومالها ورئاستها أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ التي هي كناية عن الدنيا الدنية ومزخرفاتها البهية وشهواتها الشهية واستكرهتموهن لأنهن من أقوى حبائل الشيطان وشباكها يصرف بها اهل الارادة عن جادة السلامة فَلَمْ تَجِدُوا في عموم هذه الصور المذكورة من لدن نفوسكم وقلوبكم ماءً اى محبة وشوقا الى الحق مطهرا

[سورة المائدة (5) : آية 7]

لخباثة نفوسكم قالعا لها مطلقا او جذبة صادقة مزيلة لدرن التعلقات عن أصلها او خطفة مفرطة بارقة من جانب الحق مزعجة ملجئة الى الفناء فيه فَتَيَمَّمُوا اى فعليكم ان تقصدوا وتتوجهوا صَعِيداً طَيِّباً اى مرشدا كاملا وهاديا مكملا طاهر عن جميع الرذائل والآثام العائقة عن الوصول الى جنة الوحدة فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ اى بهوياتكم الباطلة وَأَيْدِيَكُمْ اى اوصافكم الذميمة العاطلة مِنْهُ اى من تراب اقدامه وثرى سدته السنية وعتبته العلية لعله بيمن أنفاسه المتبركة يرشدكم الى النجاة عن مضيق التعينات ويهديكم نحو فضاء الذات. واعلموا ايها المكلفون القاصدون للتحقق نحو فضاء الوحدة الذاتية والقبلة الحقيقية ما يُرِيدُ اللَّهُ المدبر لعموم مصالحكم المتعلقة لمبدئكم ومعادكم لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ ويبقى فيكم مِنْ حَرَجٍ يمنعكم عن الوصول الى ما جبلتم لأجله وَلكِنْ يُرِيدُ بمقتضى فضله ولطفه لِيُطَهِّرَكُمْ ويصفيكم أولا من اقذار التعينات وادناسها وَلِيُتِمَّ ويوفر نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ثانيا مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ اى رجاء ان تشكروا له حين تفوزون ما تفوزون وَبعد ما سمعتم من الحق ما سمعتم ووعدتم من عنده ما وعدتم اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ التي أنعمها عَلَيْكُمْ وقوموا بمواظبة شكرها وَتذكروا مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ في أزل استعدادكم بالسنة قابلياتكم حين سمعتم قوله سبحانه الست بربكم سَمِعْنا قولك يا ربنا أنت أظهرتنا بفضلك وجودك من كتم العدم وربيتنا في كنف حفظك وجوارك بأنواع اللطف والكرم وَأَطَعْنا ما امرتنا به طوعا وَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور من نقض ميثاقه إِنَّ اللَّهَ المطلع بالسرائر والخفايا عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بمكنونات صدوركم يجازيكم على مقتضى علمه وخبرته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ مستقيمين في عموم ما أمركم به في طريق توحيده شُهَداءَ حضراء مستحضرين بِالْقِسْطِ والعدل بحقوق آلائه ونعمائه الفائضة عليكم من عنده تفضلا وامتنانا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ اى لا يحملنكم ولا يبعثنكم شَنَآنُ قَوْمٍ اى شدة عداوة قوم وبعضهم عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا ولا تقسطوا فيما أنعم الله تعالى عليكم بان تتجاوزوا عن حدود الله حين القدرة والاقتدار على الانتقام تشفيا لصدوركم بل عليكم ان تقسطوا في كل الأحوال سيما عند المكنة والقدرة والاقتدار وبالجملة اعْدِلُوا ايها المنعمون بالقدرة والظفر هُوَ اى عدلكم أَقْرَبُ لِلتَّقْوى عن محارم الله والاجتناب عن منهياته وَاتَّقُوا اللَّهَ المراقب لكم في عموم أحوالكم إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من مقتضيات نفوسكم وتسويلاتها وَعَدَ اللَّهُ المدبر لأمور عباده الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيده وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة نحوه المأمورة من عنده ان قد حصل لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم تفضلا منه وامتنانا وَمع ذلك لهم عند ربهم أَجْرٌ عَظِيمٌ الا وهو الفوز بشرف اللقاء ان أخلصوا واعتدلوا في عموم ما جاءوا. وبعد ما قد وعد سبحانه للمؤمنين ما وعد اردفه بوعيد الكفار جريا على مقتضى سنته المستمرة في دعوة عباده فقال وَالَّذِينَ كَفَرُوا بتوحيدنا واثبتوا الوجود لغيرنا مكابرة وعنادا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا اى دلائلنا الدالة على وحدة ذاتنا المنزلة على رسلنا أُولئِكَ البعداء المنهمكون الكفر والضلال أَصْحابُ الْجَحِيمِ اى مصاحبوها وملازموها لا نجاة لهم منها أصلا لكمال توغلهم وانهماكهم في اسبابها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ كيف ينجيكم من يد العدو وقت إِذْ هَمَّ وقصد قَوْمٌ من عدوكم أَنْ يَبْسُطُوا ويمدوا إِلَيْكُمْ

[سورة المائدة (5) : آية 12]

أَيْدِيَهُمْ حين كنتم مشغولين في الصلاة ويفاجئوا عليكم بغتة ويستأصلوكم مرة فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ بالوحي على نبيكم امتنانا وتفضلا عليكم وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ الحفيظ الرقيب عليكم من ان تخالفوا امره وَعَلَى اللَّهِ في كل الأمور فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ الموقنون بوحدانيته بحفظه وحمايته. ثم لما أراد سبحانه تقرير المؤمنين على الايمان وتثبيت قدمهم على جادة التوحيد والعرفان استشهد عليهم تزلزل بنى إسرائيل وعدم رسوخ قدمهم في الايمان والإطاعة مع أخذ المواثيق الوثيقة والايمان الغلاظ منهم على لسان نبيهم صلوات الرّحمن على نبينا وعليه فقال وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ العليم الحكيم بلسان موسى الكليم مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ اى العهد الوثيق منهم بعد ما خلصوا من فرعون وورثوا منه ما ورثوا واستقروا على ملك مصر وَذلك انا قد بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً من نجبائهم ونخبائهم من كل فرقة نقيب مسلم بينهم رئاسة ووجاهة وجاها وثروة وبالجملة كل من النقباء يولى امر فرقته عند نبينا موسى عليه السّلام فعهدوا بأجمعهم ان يسيروا مع موسى الى اريحاء في الشام حين أوحينا اليه بالسير والسفر نحوه فساروا الى ان وصلوا اليه وكان فيه الجبابرة الكنعانيون فلما أراد موسى عليه السّلام ان يفتش عن أحوالهم ويفحص عن اخبارهم أرسل النقباء جواسيس وعيونا يتجسسون العدو ولا يظهرون ما اطلعوا عليه من حال العدو على فرقهم فذهبوا وتجسسوا فلما رأوا العدو ذوى قوة واولى بئس شديد هابوا منهم وترهبوا فرجعوا الى قومهم فأخبروا لهم ما ظهر عليهم من شوكة العدو وبالجملة نقضوا العهود والمواثيق الا قليلا منهم فانصرفوا ورجعوا جميعا وَمع ذلك قالَ اللَّهُ الرقيب الحفيظ عليهم حين أمرهم إِنِّي مَعَكُمْ أنصركم على عدوكم وأخرجهم منها صاغرين فو عزتي وجلالي لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ على الوجه الذي وصل إليكم من نبيكم وامر في كتابكم وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ على الوجه المشروع وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي بلا تفريق بينهم وَعَزَّرْتُمُوهُمْ عظمتموهم ونصرتموهم في إعلاء كلمة الحق واشاعة احكام الدين القويم وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ الحكيم العليم مما في أيديكم من مزخرفة الدنيا قَرْضاً حَسَناً اى إنفاقا للفقراء والمساكين بلا شوب المن والأذى لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ ولأمحون عن ديوان أعمالكم سَيِّئاتِكُمْ بأسرها البتة وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جزاء إخلاصكم وانفاقكم جَنَّاتٍ منتزهات ثلثة العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مملوة بمياه الحقائق والمعارف فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ اى بعد ما سمع التذكير والعظة من الله فَقَدْ ضَلَّ وفقد سَواءَ السَّبِيلِ لا دواء لدائه ولا رجاء لإنجائه. اللهم اهدنا بجودك الى سواء السبيل فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وبعدم وفائهم للعهود الوثيقة المؤكدة قد لَعَنَّاهُمْ وطردناهم عن ساحة فضاء التوحيد وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً مظلمة مكدرة بظلمة الإمكان الى حيث يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ المثبتة في كتاب الله لإعلاء كلمة توحيده عَنْ مَواضِعِهِ التي وضعها الحق فيها وَنَسُوا حَظًّا ونصيبا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ اى بالتورية ووعظوا عنه واستفادوا منه مع انهم مجبولون على فطرة العظة والتذكير وَصاروا من غاية القساوة والنسيان بحيث لا تَزالُ تَطَّلِعُ دائما مستمرا عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ متبالغ في الخيانة إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين آمنوا بك وأنصفوا حيث أظهروا جميع ما في التورية ولم يحرفوها فَاعْفُ عَنْهُمْ يا أكمل الرسل بعد ما أنصفوا ورجعوا عن التحريف وان حرفوها زمانا وَاصْفَحْ وانصرف عن انتقامهم الى الإحسان

[سورة المائدة (5) : آية 14]

معهم إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على الانعام والانتقام يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ المتجاوزين عن الانتقام سيما بعد الاقتدار عليه وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى مدعين نصرة الدين وإعلاء كلمة الحق المبين قد أَخَذْنا ايضا كما أخذنا من اليهود مِيثاقَهُمْ فنقضوا ايضا كما نقضوا فَنَسُوا كما نسوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ اى بالإنجيل المنزل على عيسى عليه السّلام فَأَغْرَيْنا اى قد ألقينا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ المستمرة إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بحيث لا يصفو نفاقهم وشقاقهم أصلا بان جعلناهم فرقا متخالفين متخاصمين وهم اليعقوبية والمسطورية والملكائية وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ المنتقم العليم كلا الفريقين اى اليهود والنصارى بِما كانُوا يَصْنَعُونَ في الدنيا من البغض والنفاق وبما يكسبون به في الآخرة من العذاب والعقاب يا أَهْلَ الْكِتابِ اى اليهود والنصارى المجبولين على الكفر والعناد قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا اضافه الى نفسه تعظيما وتوقيرا يُبَيِّنُ ويظهر لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ من أوامره ونواهيه واخباره المتعلقة بالزمان الماضي والآتي سيما نعت خاتم الأنبياء والرسل صلوات الله عليه وسلامه وانما يبين لكم المذكورات لئلا يفوت منكم شيء من امور الدين ولا تؤاخذوا به وَمع ذلك يَعْفُوا ويصفح عَنْ تبيين كَثِيرٍ من مخفياتكم من الكتب مما لا يترتب عليه العذاب والنكال فعليكم ان تؤمنوا به وبما جاء به لهدايتكم الى طريق التوحيد إذ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ معه نُورٌ واضح الا وَهو كِتابٌ مُبِينٌ ظاهر لائح هدايته وإرشاده يَهْدِي بِهِ اللَّهُ الهادي لعباده مَنِ اتَّبَعَ منهم رِضْوانَهُ اى ما يرضى به سبحانه سُبُلَ السَّلامِ اى طرق التوحيد الموصولة الى سلامة الوحدة المسماة عنده سبحانه بدار السّلام وَيُخْرِجُهُمْ اى المتبعين رضوانه مِنَ الظُّلُماتِ المتراكمة ظلمة العدم وظلمة الإمكان وظلمة التعينات إِلَى النُّورِ اى الوجود البحت الخالص عن شوب الظلمة إذ هو نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء من اهل العناية بِإِذْنِهِ وتوفيقه وجذب من جانبه وَبالجملة يَهْدِيهِمْ به ان سبق لهم العناية منه إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيده ثم قال سبحانه والله لَقَدْ كَفَرَ واعرض عن الحق ولم يعرف حق قدره وقدر حقيته الغلاة الَّذِينَ بالغوا في وصف عيسى عليه السّلام وغلوا في شأنه مبالغين الى ان قالُوا عن سبيل الحصر والتخصيص إِنَّ اللَّهَ المتجلى في الآفاق بكمال الإطلاق والاستحقاق هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما فَمَنْ يَمْلِكُ اى يدفع ويمنع مِنَ اللَّهِ القادر المقتدر العالم بالسرائر والخفايا شَيْئاً من مراداته ومقدوراته إِنْ أَرادَ وشاء أَنْ يُهْلِكَ اى يبقى على الهلاك الأصلي والفناء الجبلي بلا مد من ظله ورش من نوره الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ايضا بل وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَبالجملة لا يبالى الله الغنى المستغنى بذاته عن مطلق المظاهر والأكوان لا به ولا بها ولا بهم جميعا إذ لِلَّهِ المنزه عن مطلق الكوائن والفواسد الكائنة الثابتة مطلقا مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يتصرف فيها حسب ارادته واختياره كيف يشاء إيجادا واعداما احياء وافناء بحيث يَخْلُقُ ويظهر ما يَشاءُ بلطفه ويعدم ويخفى ما يشاء بقهره وَبالجملة اللَّهَ المتصف بعموم أوصاف الكمال عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته قَدِيرٌ لا تفتر قدرته عند مقدور ولا ينتهى ارادته ومشيئته دون مراد وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى من غاية مبالغتهم وغلوهم في حق عزير وعيسى عليهما السّلام نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ

[سورة المائدة (5) : آية 19]

إذ نعبد ابنيه عزيرا وعيسى عليهما السّلام وَأَحِبَّاؤُهُ إذ نحن نحبهما وهما محبوباه سبحانه قُلْ لهم يا أكمل الرسل فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ الله المنتقم الغيور بِذُنُوبِكُمْ ان كنتم صادقين في هذه الدعوى وقد عذبكم في الدنيا بالقتل والسبي والاجلاء وضرب الذلة والمسكنة وفي الآخرة بأضعاف ما في الدنيا وآلافها فعليكم ان لا تغلوا في دينكم ونبيكم ولا تفتروا على الله الكذب بَلْ أَنْتُمْ ونبيكم ايضا بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ اى من جنس ما خلق الله بقدرته وأظهره حسب ارادته فله التصرف فيكم وفيهم بحيث يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ تفضلا وامتنانا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ عدلا وانتقاما وَاعلموا انه لِلَّهِ المتصرف المطلق مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يتصرف فيها كيف يشاء ارادة واختيارا وَإِلَيْهِ لا الى غيره الْمَصِيرُ والمرجع إذ الكل منه بدأ واليه يعود يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تفتروا في امور دينكم ولا تضعفوا فيها إذ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا الموعود في كتابكم يُبَيِّنُ لَكُمْ امور دينكم مع كونه عَلى فَتْرَةٍ انقطاع وحى مِنَ الرُّسُلِ وانما أرسلناه كراهة أَنْ تَقُولُوا وتعتذروا حين وهن دينكم وضعف يقينكم ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ حتى يصلح امور ديننا فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ اى يبشر وينذر لئلا تعتذروا على ما تقتصروا فيه فكذبتموه ولم تقبلوا منه عموم ما جاء به من اسرار الدين والايمان وَاللَّهُ المقتدر المجازى عَلى كُلِّ شَيْءٍ من انواع الجزاء قَدِيرٌ يجازيكم على مقتضى قدرته وخبرته وَاذكروا إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ وهم اسلافكم وآباءكم حين أراد أن يذكرهم نعم الله التي أنعمها عليهم ليقوموا بشكرها يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تفضلا وامتنانا إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ منكم أَنْبِياءَ كانوا يرشدونكم ويهدونكم الى طريق التوحيد وَجَعَلَكُمْ ايضا مُلُوكاً متصرفين في اقطار الأرض وَآتاكُمْ من الخوارق والارهاصات من فلق البحر وظل الغمام وسقى الحجر ونزول المن والسلوى وغير ذلك ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ حين ظهوركم واستيلائكم يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ المطهرة عن شوائب الفتن الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ اى قدرها في حضرة علمه القديم لمقركم ومسكنكم إذ هي منازل الأنبياء ومقر الأولياء والأصفياء فعليكم ان تقبلوا إليها تاركين ديار العمالقة والفراعنة التي هي محل انواع الجور والعناد ومجمع اصناف البغي والفساد وَعليكم ان لا تَرْتَدُّوا بعد ما سمعتم الوحى عَلى أَدْبارِكُمْ خوفا من الجبابرة قيل لما سمعوا أوصاف جبابرة الكنعان من نقبائهم خافوا واستوحشوا وفزعوا وقالوا ليتنا نرد على أعقابنا تعالوا ننصب رأسا ينصرف بنا الى مصر إذ موتنا فيها خير من الحيوة في موضع آخر وان ترتدوا وترجعوا فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ خسرانا عظيما لذلك صاروا بعد انقلابهم في الدنيا تائهين حائرين وفي الآخرة خاسرين خائبين وبعد ما سمعوا من موسى ما سمعوا قالُوا على صورة الاعتذار واظهار العجز وعدم الاقتدار وما هي الا من عدم تثبتهم على الايمان وعدم رسوخهم في مقتضياته وعدم وثوقهم بنصر الله واعانته سيما بعد ما أمرهم بالنقل والترحال ووعدهم ما وعدهم من النصر والظفر يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ لا يتأتى منا مقاومتهم ومقاتلتهم وَبالجملة إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها بقتال او غيره فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها على اى وجه فَإِنَّا داخِلُونَ إذ لا طاقة ولا قدرة لنا معهم قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ من قهر الله وغضبه سيما بعد ورود امره إذ هما من اهل الوثوق بنصر الله وانجاز وعده إذ قد أَنْعَمَ اللَّهُ المنعم المفضل عَلَيْهِمَا بالإيمان والإذعان وبإعطاء الحكمة والمعرفة

[سورة المائدة (5) : آية 24]

ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ اى ضيقوا على عدوكم باب بلدهم وقربوهم الى حيث يضطرون ويخافون من جسامتهم وضيق أمكنتهم فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ على هذا الوجه فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ غانمون البتة وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بما وعدتم قالُوا مستهزئين مصرحين بما تكن صدورهم من الكفر وعدم الوثوق والإخلاص ومناقضة العهود والمواثيق الإلهية يا مُوسى لا تحملنا ما لا طاقة لنا به إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها وان شئت فَاذْهَبْ أَنْتَ ايها الداعي وَرَبُّكَ الذي دعوتنا اليه وادعيت الإعانة والانتصار منه فَقاتِلا مع العدو إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ منتظرون الى ان يظهر الأمر قالَ موسى بعد ما سمع منهم ما سمع يؤسا قنوطا باثا الشكوى مع ربه رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ ولا أثق لامتثال أمرك إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى أمرك التاركين الامتثال به من عدم وثوقهم بإعانتك وتأييدك. ثم لما سمع سبحانه من موسى ما سمع من بث الشكوى وكان حالهم وصلاحهم معلومة عنده سبحانه قالَ مهددا إياهم فَإِنَّها اى الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ مدة أَرْبَعِينَ سَنَةً خص هذا العدد لأنهم لما أعادوا نفوسهم بعدم امتثال امر الله والاستهزاء به وبرسوله الى ما هم عليه قبل ايمانهم والايمان ما يكمل غالبا الا بعد الأربعين لذلك خص هذه المدة لمجازاتهم ومجاهداتهم ليكمل الايمان فيها وبعد ما ارتدوا من الشأم وتوجهوا نحو المصر يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ المقدرة بستة فراسخ تائهين حائرين مذبذبين لا الى مصر ولا الى الشأم في تلك المدة وموسى سار معهم فيها ليرشدهم الى ان يخرجهم من الحيرة والضلال الصوري والمعنوي ثم لما رأى موسى اضطرار قومه وحزنهم وقلقهم واضطرابهم رحمهم وندم عما دعا عليهم فدعا لهم بمقتضى شفقة النبوة ومرحمتها لذلك رد الله سبحانه عليه بقوله فَلا تَأْسَ اى لا تحزن ايها النبي الشاكي عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى التصديق والايمان التاركين سبيل اليقين والعرفان وَاتْلُ يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ اى على من تبعك من المؤمنين نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ اى قصة قابيل وهابيل واختلافهما وقربانهما وقتل قابيل هابيل ليعتبروا ويتنبهوا من قصتهما على ما هو الأقوم من السبل والأليق بحال المؤمن من حسن المعاشرة مع الخلان وآداب المصاحبة مع الاخوان ورعاية الغبطة والتصبر على البلية والمحنة وان ادى الى بذل المهجة والإخلاص مع الله في عموم الأحوال تلاوة ملتبسة بِالْحَقِّ مطابقة للواقع موافقة لما في الكتب السالفة وذلك انهما تنازعا في تزوج كل منهما توأمة الآخر على ما هو شرع أبيهم فقال قابيل توأمتى احسن صورة من توأمتك انا أحق بتزوجها منك فترافعا الى أبيهما فامرهما بالقربان المقرب الى الله اذكروا وقت إِذْ قَرَّبا باذن أبيهما كل واحد منهما بمقتضى اخلاصهما مع الله قُرْباناً كان قابيل صاحب زرع قرب مقدارا من أردإ قمحه وهابيل صاحب ضرع قرب شاة سمينة حسناء فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وقد كان علامة القبول حينئذ انه تنزل نار من جانب السماء وتأكل جميع ما يتقربوا به فأخذا قرباناهما وذهبا الى جبل فطرحا عليه وانتظرا القبول فنزلت نار فأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان أخيه فاشتد غضبه وسخطه على أخيه وزاد حسده بقبول الله قربانه الى حيث قالَ من شدة غضبه والله لَأَقْتُلَنَّكَ البتة إذ قد ظهر مزيتك على وفضلك عند الله منى وبذلك تفتخر وتتفوق على بين الناس قالَ هابيل يا أخي مالي في هذا التقرب الا الإخلاص والرجوع الى الله والإطاعة والانقياد لأمره والاجتناب

[سورة المائدة (5) : آية 28]

والتحرز عن سخطه وغضبه بلا غرض نفسانى وميل شهوانى فتقبل منى بمقتضى فضله ولطفه إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ اى ما يتقبل الله المطلع لسرائر عباده أعمالهم التي يتقربون بها الى الله الا مِنَ الْمُتَّقِينَ المتقربين اليه بين طرفي الخوف والرجاء المخلصين فيما جاءوا به خالصا لوجهه الكريم بلا ميل منهم الى ما تهوى نفوسهم ثم اقسم هابيل بعد ما أوعده اخوه بالقتل والله يا أخي لَئِنْ بَسَطْتَ أنت إِلَيَّ يَدَكَ من افراط غيظك وغضبك وشؤم امارة نفسك وطغيان طبعك لِتَقْتُلَنِي ظلما بلا رخصة شرعية بل عن محض عناد ومكابرة ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لدفع ضررك وصولتك عن نفسي او لِأَقْتُلَكَ على مقتضى امارتى وكيف اقعل كذا إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ من تخريب بنيته لمجرد دفع الصائل وان رخص شرعا ولا أخاف على نفسي من القتل إذ الشهداء المقتولون ظلما احياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله بل إِنِّي من غاية اشفاقى واعطافى معك يا أخي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ اى لان تذهب ولان ترجع أنت الى الله بِإِثْمِي اى بإثمك المنسوب الى قتلى وَإِثْمِكَ الذي كنت فيه فَتَكُونَ حينئذ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ عند الله بهذا الظلم الصريح وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ عنده سبحانه فَطَوَّعَتْ لَهُ اى لقابيل نَفْسُهُ اى هيجت نفسه حسده الى حيث رضى طوعا وحسن له الشيطان قَتْلَ أَخِيهِ رغبة فَقَتَلَهُ ظلما بلا مدافعة منه كما شرط فندم دفعة فَأَصْبَحَ وصار مِنَ جملة الْخاسِرِينَ خسرانا عظيما مبينا في الدنيا والآخرة وبعد ما وقع ما وقع تحير في دفعه واخفائه إذ لم يمت احد من بنى آدم الى تلك المدة فحمله على عاتقه ضرورة وسار معه الى حيث انتفخ وأنتن فَبَعَثَ اللَّهُ تعالى المدبر الحكيم حينئذ أعلا ماله غُراباً فقتل غرابا آخر من جنسه عنده فأراد ان يدفنه لذلك يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ اى يضرب بمنقاره ورجله عليها ليحفرها لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي يدفع ويستر سَوْأَةَ أَخِيهِ اى جسده وجثته التي يسوءه بنتنه ونفخه فتفرس قابيل منه الأعلام قالَ حينئذ متحسرا متحزنا قلقا حائرا يا وَيْلَتى ويا هلكتا احضرى أَعَجَزْتُ وعزلت عن مقتضى العقل وعن الاهتداء به الى حيث أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ المنعزل عن مقتضى العقل والإدراك بل صرت انا متابعا له متلمذا منه فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي بتعليمه فواراه ودفعه فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ندامة مؤبدة بحيث لا يضحك مدة حياته أصلا وعاش مائة سنة واسود لونه الى حيث لم يعرف اهوام غيره مِنْ أَجْلِ ذلِكَ وبسبب وقوع هذا بين بنى آدم كَتَبْنا اى قد قضينا والزمنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ اى بلا قصاص شرعي أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ مرخص موجب لقتله من شرك وبغى وقطع طريق وغير ذلك من الفسادات العامة السارى شرها وضرها فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً إذ كل فرد من افراد الإنسان مستجمع لكمالات الجميع بسعة قلبه وعلو رتبته وفسحة استعداده وقابليته لمظهرية الحق وخلافته فكان قتله قتل الجميع وَكذا مَنْ أَحْياها اى خلصها وأنجاها من المهلكة والمتلفة فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً على الوجه المذكور وَبعد ما قضينا على بنى إسرائيل ما قضينا لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا تأكيدا له وتشديدا إياه بِالْبَيِّناتِ الدالة على عظم جريمة القتل عند الله وعظم الجزاء والنكال المترتب عليها في الآخرة ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ اى من بنى إسرائيل سيما بَعْدَ ذلِكَ التأكيد والتشديد فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ على أنفسهم بالقتل بلا رخصة شرعية من غير مبالاة بالآيات البينات ثم قال سبحانه إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ

[سورة المائدة (5) : آية 34]

يُحارِبُونَ اللَّهَ العليم الحكيم ويقاتلون له بعدم امتثال امره وحكمه وانقياد شرعه وَرَسُولَهُ بتكذيبه وتكذيب ما جاء به من عند ربه والقتال معه ومع من تابعه وَمع ذلك يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يعنى يترددون في أقطارها مفسدين بأنواع الفسادات السارى ضررها في الآفاق أَنْ يُقَتَّلُوا حيث وجدوا دفعة أَوْ يُصَلَّبُوا حيا ليعتبر منهم من في قلبه مرض مثل مرضهم ثم يقتلوا على أفظع وجه واقبحه أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ متبادلتين ليعيشوا بين الناس كذلك لينزجر منهم نفوس اهل الاهوية الفاسدة أَوْ يُنْفَوْا ويخرجوا مِنَ الْأَرْضِ الى حيث يؤمن من شرورهم ذلِكَ المذكور من البغاة الطغاة المترددين بين الناس بالفساد لَهُمْ خِزْيٌ تدليل وتفضيح فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ اى طرد وتبعيد عن مرتبة اهل التوحيد إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ورجعوا الى الله عما كانوا عليه مخلصين نادمين خائفين من بطشه راجين من عفوه وجوده مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ اى غرماؤهم وتأخذوهم مطالبين القصاص عنهم فحينئذ يسقط عنهم حق الله بالتوبة ان أخلصوا فيها فَاعْلَمُوا ايها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ الموفق لهم على التوبة غَفُورٌ لهم يغفر ذنوبهم رَحِيمٌ لهم يقبل توبتهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم التقوى عن محارم الله اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور عن ارتكاب ما حرم عليكم ونهاكم عنه وَابْتَغُوا واطلبوا منه سبحانه إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ المقربة لكم الى ذاته لتتوسلوا به الى توحيده وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لقطع العلائق ورفع الموانع مع القوى البشرية الشاغلة عن التوجه نحوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بفضاء توحيده وصفاء تجريده وتفريده. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته من تعقيب الوعد بالوعيد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بوحدة الله وأصروا على ما هم عليه من الكفر والشقاق لَوْ أَنَّ لَهُمْ اى لو تحقق وثبت ان لهم وفي تصرفهم ملك ما فِي الْأَرْضِ من الزخارف والكنوز جَمِيعاً بل وَمِثْلَهُ مَعَهُ بل أضعاف أمثاله كل ذلك لِيَفْتَدُوا بِهِ ويخلصوا مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ونكاله المترتب على كفرهم المعد لهم بشركهم ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ لعظم جرمهم وإصرارهم عليه وَلَهُمْ فيها عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم مؤبد مخلد بحيث لا يرجى نجاتهم منه أصلا يُرِيدُونَ متمنين أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَالحال انه ما هُمْ بِخارِجِينَ مخرجين مِنْها لاستحالة الخروج عن مقتضى الحكم المبرم الإلهي بل وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم متجدد متلون لئلا يعتادوا بنوع منه ثم قال سبحانه وَالسَّارِقُ المتجاوز عن حدود الله وَكذا السَّارِقَةُ المتجاوزة عنها فَاقْطَعُوا ايها الحكام أَيْدِيَهُما اى اليمين منهما ان اخرجا المسروق من الحزر المتعارف جَزاءً بِما كَسَبا معهما نَكالًا عقوبة وتعذيبا صادرا مِنَ اللَّهِ المنتقم الغيور لتصرفهم في ملك الغير بلا رخصة شرعية وَاللَّهُ المتصرف في ملكه وملكوته بكمال الاستيلاء والاستقلال عَزِيزٌ غالب قادر على انواع الانتقام حَكِيمٌ متقن في تقديره وتعيينه فَمَنْ تابَ ورجع الى الله مخلصا خائفا مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وخروجه عن حدود الله وَأَصْلَحَ بالتوبة ما أفسد على نفسه من مجاوزة حكم الله فَإِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده يَتُوبُ عَلَيْهِ ويقبل منه توبته بعد ما وفقه عليها إِنَّ اللَّهَ الميسر لأمور عباده غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ لهم بعد ما رجعوا اليه راجين عفوه أَلَمْ تَعْلَمْ ايها الداعي للخلق الى الحق أَنَّ اللَّهَ المتوحد المستقل بالالوهية والتصرف لَهُ مُلْكُ

[سورة المائدة (5) : آية 41]

السَّماواتِ من الكائنات والفاسدات فيها وَالْأَرْضِ وما يتكون عليها وكذا ملك ما بينهما من بدائع الكوائن والفواسد الكائنة في الجو يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ من اهل التكاليف على ما صدر عنهم من الجرائم عدلا منه سبحانه وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ فضلا ولطفا وَاللَّهُ المتصرف المطلق بكمال الاستقلال والاستحقاق في ملكه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الانعام والانتقام قَدِيرٌ له الارادة والاختيار يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد يا أَيُّهَا الرَّسُولُ المبعوث بالحق على كافة الخلق بشيرا ونذيرا لا يَحْزُنْكَ ولا يشوشك صنيع الفرق الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ اى يسرعون اليه عند الفرصة لكون جبلتهم عليه وميلهم بالطبع نحوه وهم اى المسارعون المسرعون مِنَ المداهنين المنافقين الَّذِينَ قالُوا حفظا لدمائهم وأموالهم آمَنَّا قولا مجردا بِأَفْواهِهِمْ وَالحال انه لَمْ تُؤْمِنْ ولم تذعن قُلُوبُهُمْ بل قد ختم عليها بالكفر وَكذا المسارعون المجاهرون بالكفر مِنَ الَّذِينَ هادُوا ونسبوا الى اليهود صريحا إذ كلا الفريقين سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ اى للكذب المعهود المفترى بالتورية بانك يا أكمل الرسل ليس النبي الموعود فيها وهم يصدقون هذا القول الكاذب الصادر من احبار اليهود وهم من أعدى عدوك يا أكمل الرسل وأشدهم بغضا وغيظا ومع ذلك ايضا سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ممن آمن بك من أقاربهم وعشائرهم ليضلوهم عن طريق الحق وكذا ممن لم يؤمن بك لكن يميلون بقلوبهم الى الايمان ليقعدوهم ويصرفوهم عما نووا في نفوسهم وكيف لا يكون احبار اليهود من أعدى عدوك يا أكمل الرسل وهم من غاية بغضهم معك لَمْ يَأْتُوكَ ولم يحضروا عندك ومع إتيانهم بك يُحَرِّفُونَ ويغيرون الْكَلِمَ المنزلة في التورية لبيان بعثتك ووصفك وحليتك ومنشأك وحسبك ونسبك وعلو شانك وسمو برهانك وتكميلك امر النبوة والرسالة ونسخك جميع الأديان مِنْ بَعْدِ كون كل منها مثبتا في مَواضِعِهِ في كتاب الهى بوضع الهى وايضا هم من غاية بغضهم معك يَقُولُونَ لإخوانهم حين حكموك في امر لشهرة أمانتك ووثوقهم برأيك وعزيمتك سيما في قطع الخصومات وفصل الوقائع والخطوب إِنْ أُوتِيتُمْ وحكمتم طبق هذا اى المحرف المسموع لكم فَخُذُوهُ واقبلوه وامضوا عليه وارضوا به وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ موافقا له بل افتى بخلافه فَاحْذَرُوا منه واعرضوا عنه. ثم قال سبحانه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ اى كفره وفساده فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ ولن تدفع أنت يا أكمل الرسل عنه مِنَ غضب اللَّهُ المنتقم الغيور شَيْئاً أصلا لأنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء ويضل من يشاء وبالجملة أُولئِكَ البعداء عن منهج الرشد من زمرة الكافرين الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ المدبر الحكيم ولم يتعلق مشيته أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من خباثة الكفر والشرك بل لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ هوان وصغار وجزية ومذلة ومسكنة اضطرارية وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ الا وهو الخلود في نيران الحرمان عن مرتبة الإنسان وما هو الا انهم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ المذكور معتقدون صدقه ومطابقته للواقع وهم ايضا يريدون ان يسمعوه لضعفاء الأنام إغراء وتغريرا ألا وهم الأحبار المحرفون المبغضون أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ اى الحرام الذي يرتشون منهم بسبب تحريفهم نعتك يا أكمل الرسل من كتابهم ليبقى ويدوم رئاستهم وجاههم وبالجملة اعرض أنت عنهم وعن ايمانهم فَإِنْ جاؤُكَ ليحكموك في الوقائع ان شئت فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بالعدل أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وعن حكمهم بالمرة فلك الخيار وَلا

[سورة المائدة (5) : آية 43]

تبال بهم وبعداوتهم إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فإنهم وان عادوك أشد عداوة وبغض فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً من المكروه فان الله يعصمك ويكفيك مؤنة شرهم وضرهم وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ على الوجه الذي امره الحق ونطق به الفرقان إِنَّ اللَّهَ المستوي باسم الرّحمن على عروش مطلق الذرائر الكائنة معتدلا بلا تفاوت يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ المعتدلين من عباده المائلين عن كلا طرفي الإفراط والتفريط المنتهيين الى قعر الجحيم وبالجملة ليس غرضهم من تحكيمك يا أكمل الرسل الإطاعة بك وبحكمك والوثوق لأمانتك ووقوفك بل ليس غرضهم الا التسهيل والتيسير والاعراض عن بعض الاحكام مداهنة وَالا كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ مع عدم ايمانهم بك وبكتابك وَالحال انه عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ وقد ثبت فِيها حُكْمُ اللَّهِ على التفصيل وهم يدعون العلم والايمان به ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ وينصرفون عن حكمك مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى بعد ما حكمت فيما حكموك فيه مع انه مطابق لكتابهم وَبالجملة ما أُولئِكَ المعرضون المنصرفون عن حكمك هذا بِالْمُؤْمِنِينَ بكتابهم ايضا والا فلا وجه لاعراضهم وانصرافهم عن الحكم المطابق له إِنَّا من مقام جودنا قد أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ على موسى وادرجنا فِيها هُدىً يهدى به الى الحق من ضل عن طريقه وَنُورٌ يكشف طريق التوحيد لمن استكشف منه يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ من أنبياء بنى إسرائيل الَّذِينَ أَسْلَمُوا لله وفوضوا أمورهم كلها اليه بعد ما تحققوا بتوحيده لِلَّذِينَ هادُوا ونسبوا الى اليهود وَكذا يحكم بها الرَّبَّانِيُّونَ اى المؤمنون المخلصون المنسوبون الى الرب بمتابعة الأنبياء ألا وهم الأولياء منهم وَكذا الْأَحْبارُ المتفقهة منهم يحكمون بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ واستنبطوه منه وَقد كانُوا عَلَيْهِ اى على ما استحفظوا واستنبطوا من التورية شُهَداءَ مستحضرين يراقبون ويداومون على حفظه فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ اى عليكم ايها الحكام ان لا تميلوا في الاحكام عن طريق الحق من أجل الناس المتعظمين بجاههم ورئاستهم ولا تداهنوا فيها رعاية لجانبهم بل وَاخْشَوْنِ عن حلول غضبى عليكم حين مخالفتكم امرى وحكمى مداهنة وَعليكم ايضا انه لا تَشْتَرُوا بِآياتِي واحكامى المنسوبة الى الشريعة ثَمَناً قَلِيلًا من الرشى وَاعلموا ان مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ اىّ بمقتضاه موافقا له فَأُولئِكَ البعداء المداهنون المرتشون هُمُ الْكافِرُونَ الساترون مقتضى الحكمة البالغة الإلهية باهويتهم الباطلة الخارجون عن ربقة العبودية بمخالفة حكم الله وامره وَمن جملة الاحكام التي قد كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها القصاص فاعلموا ايها الحكام أَنَّ النَّفْسَ القاتلة تقتص بِالنَّفْسِ المقتولة عدوانا وَالْعَيْنَ الصحيحة تفقؤ بِالْعَيْنِ المفقوءة ظلما وَالْأَنْفَ يقطع بِالْأَنْفِ المقطوع وَالْأُذُنَ تصلم بِالْأُذُنِ المصلومة وَالسِّنَّ تقلع بِالسِّنِّ المقلوعة وَاعلموا ايضا ان الْجُرُوحَ مطلقا تجرى فيها قِصاصٌ مثلا بمثل على قياس ما ذكر في المذكورات فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ اى بالقصاص وعفا عنه طوعا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ اى عفوه وتصدقه عن القصاص ما هو الا كفارة لذنوبه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ العليم الحكيم في حكم من الاحكام ميلا وارتشاء مداهنة ومراء فَأُولئِكَ الحاكمون المتجازون عن مقتضى احكام الله هُمُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضيات الايمان والإطاعة والانقياد وَبعد ما انقرض أولئك الأنبياء الحاكمون قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ واتبعناهم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خلفا لهم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ

[سورة المائدة (5) : آية 47]

يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ حاكما باحكامه ممتثلا بأوامره ونواهيه وَآتَيْناهُ تأييدا له وامتنانا عليه الْإِنْجِيلَ فِيهِ ايضا هُدىً وَنُورٌ للمستهدين المستكشفين منه وَمع كونه مشتملا على الهداية والإنارة مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً هاديا لأهل العناية وَمَوْعِظَةً وتذكيرا لِلْمُتَّقِينَ المتوجهين نحو الحق بين الخوف والرجاء وَلْيَحْكُمْ ايضا أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ المطلع لمقتضيات كل زمان من الازمنة بمقتضى ما فِيهِ من الاحكام وَبالجملة مَنْ لَمْ يَحْكُمْ منهم ايضا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فيه لغرض من الأغراض الفاسدة المذكورة فَأُولئِكَ البعداء المنصرفون عن منهج الرشد هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن ربقة الايمان المنهمكون في بحر الضلال والطغيان ومآل هذه الصفات الثلث لهؤلاء الحاكمين المتجاوزين عما حكم الله في كتبه واحد إذ الكفر هو ستر حكم الله. والظلم عبارة عن التجاوز عنه الى غيره من الآراء الفاسدة والأهواء الباطلة. والفسق كناية عن الخروج عن حكمه سبحانه عنادا ومكابرة فمآل الكل الى الشرك بالله والإلحاد عن توحيده أعاذنا الله وعموم عباده منه وَبعد ما انقرض زمان نبوة عيسى صلوات الرّحمن عليه وسلامه قد أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل وخاتم النبيين الْكِتابَ الجامع لجميع فوائد الكتب السالفة ملتبسا بِالْحَقِّ متصفا بالصدق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ جنس الْكِتابَ الإلهي المنزل على الرسل الماضين وَمع كونه مصدقا قد صار مُهَيْمِناً عَلَيْهِ مستحضرا لما فيه يحفظه عن التحريف والتغيير إذ من خواص الكتب الإلهية ان كل لاحق منها يحفظه حكم سابقه ويصونه عن تطرق التحريف وان كان مشتملا على نسخ وتغيير الهى بحسب الزمان ومقتضيات المراتب والشان فَاحْكُمْ أنت ايضا يا أكمل الرسل بَيْنَهُمْ مطابقا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الحكيم المفضل إليك في كتابه هذا وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الباطلة ميلا ومداهنة ولا تنحرف عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ الصريح المطابق للحكمة المتقنة الإلهية المقتضية للاحكام. واعلموا ايها الأمم المتوجهون نحو توحيد الذات المسقط لعموم الإضافات لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً موردا وشرعا تردون أنتم منها الى بحر الوحدة وَمِنْهاجاً اى طريقا واضحا واسعا وجادة مستقيمة قد بينها الحق لأنبيائه ورسله بانزال الكتب عليهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي لعباده الى توحيده لَجَعَلَكُمْ وصيركم أُمَّةً واحِدَةً متحدة في المنهج والمقصد بحسب الظاهر ايضا وَلكِنْ كثركم وعدد طرقكم لِيَبْلُوَكُمْ ويجربكم فِي رعاية مقتضيات ما آتاكُمْ من المواهب والعطايا الفائضة من تجلياته الحبية فَاسْتَبِقُوا ايها المتعرضون لنفحات الحق المستنشقون من نسمات روحه ورحمته الْخَيْراتِ وبادروا الى الحسنات الفائضة عليكم من محض جوده وسارعوا نحوها وتعرضوا بها واعلموا ايها التائهون في سراب الإمكان إِلَى اللَّهِ المتوحد المتفرد بالجود والوجود مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ايها الاظلال الباطلة والتماثيل العاطلة المنعدمة في أنفسها وحدود ذواتها فَيُنَبِّئُكُمْ سبحانه بعد رفع تعيناتكم بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الإضافات المترتبة على الهويات الباطلة. ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا وَامرناك ايضا فيما أنزلنا إليك يا أكمل الرسل أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ مطابقا موافقا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الرقيب عليكم في كتابه الذي أنزله إليك على الوجه المنزل فيه بلا ميل وانحراف عنه وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ المضلة وَاحْذَرْهُمْ عن أَنْ يَفْتِنُوكَ ويلبسوا عليك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ بمواساتك

[سورة المائدة (5) : آية 50]

واظهار محبتك ومودتك قاصدين انحرافك وميلك الى ما تهواه أنفسهم فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عنك وعن حكمك بواسطة ثبات قدمك على جادة العدالة فَاعْلَمْ ايها الداعي للخلق الى الحق بالحق أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ المدبر الحكيم ويتعلق مشيته أَنْ يُصِيبَهُمْ ويأخذهم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وهو التولي والاعراض عنك وعن حكمك لأنهم قد خرجوا بالإعراض عن حكمك عن جميع احكام الله وحدوده وَلا تتعجب من خروجهم هذا بل إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الناسين للعهود الاصلية الناقضين للمواثيق الفطرية لَفاسِقُونَ خارجون عن مقتضى الاحكام الإلهية وحكمه المكنونة فيها بمتابعة الاهوية الباطلة أَتعرضون وتنصرفون عن حكمك فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ الناشئة من الآراء الفاسدة والأهواء الكاسدة الزائغة الحاصلة من تمويهات عقولهم القاصرة واوهامهم الباطلة كاحكام متفقهة هذا العصر خذلهم الله يَبْغُونَ ويطلبون منك يا أكمل الرسل ويعتقدون ان الحسن والحق هو ما هم عليه من تلقاء أنفسهم وَبالجملة مَنْ أَحْسَنُ واسد واحكم مِنَ اللَّهِ المتفرد بذاته المطلع على سرائر عموم الأمور وحكمها حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ توحيده وتفريده حتى يعاد اليه ويرجع نحوه في الوقائع والخطوب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم انه لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ توالونهم وتصاحبونهم مثل موالاة المؤمنين ولا تعتمدوا ولا تثقوا بمحبتهم ومودتهم إذ هم في أنفسهم بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ متظاهرون متعاونون ينتهزون الفرصة لمقتكم وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ ويعتمد عليهم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ومن زمرتهم وعدادهم عند الله إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن مقتضى الأوامر والنواهي الواردة من لدنه فكيف لا يكون المتوالون معهم منهم ومن زمرتهم فَتَرَى ايها الرائي القوم الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ اى كفر ونفاق يُسارِعُونَ ويبادرون فِيهِمْ في مودتهم ومواخاتهم بحيث يَقُولُونَ معتذرين لكم نفاقا ومداهنة نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ من دوائر الزمان كان الأمر منها لهم والدولة تتوجه نحوهم فنداريهم ونواليهم مداراة معهم خوفا منها فَعَسَى اللَّهُ المنعم المتفضل أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ والظفر على رسوله ليظهر دينه على الأديان كلها أَوْ أَمْرٍ عظيم نازل فيه مِنْ عِنْدِهِ يكفى مؤنة كفرهم ونفاقهم فَيُصْبِحُوا ويصيروا سيما أولئك المنافقون الموالون عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من بغض رسول الله وانكار رسالته وتكذيب كتابه نادِمِينَ خائبين خاسرين وَحينئذ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا وأخلصوا في ايمانهم بعضهم لبعض مستهزئين لأولئك المنافقين أَهؤُلاءِ المفسدون المنافقون الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ المنزه عن سمات النقص مطلقا جَهْدَ أَيْمانِهِمْ اى أغلظها وأوكدها إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ مؤمنين بنبيكم مظاهرين لكم في إعلاء كلمة الحق وانتشار الدين القويم كيف حَبِطَتْ واضمحلت أَعْمالُهُمْ وضاعت الى حيث لا تفيدهم أصلا فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ خسرانا عظيما مبينا في الدنيا والآخرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تحزنوا بصنيع مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ بعد عرض الايمان وقبول الإسلام ولا تبالوا بشأنهم هذا فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ المولى لأمور عباده المؤيد إياهم بنصره حسب لطفه وفضله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ الله في حضرة علمه ويوفقهم على الايمان حسب ما كتب لهم في لوح قضائه ويوصلهم الى مرتبة اليقين والعرفان وَيُحِبُّونَهُ ايضا حسب استعداداتهم وقابلياتهم الفطرية الجبلية الى حيث قد بذلوا مهجهم في سبيله طوعا ورضا إعلاء لكلمة توحيده ونصرا لدينه القويم

[سورة المائدة (5) : آية 55]

ومع ذلك أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تواضعا وإخاء أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ غلبة واستيلاء يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وطريق توحيده باذلين نفوسهم فيه طالبين رضاه وَمع ذلك لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ وملامة مفرط مليم كهؤلاء المنافقين الذين يخافون من الملامة حفظا لجاههم ورئاستهم وحماية لما في نفوسهم من الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة ذلِكَ الأوصاف المذكورة والنعوت المستحسنة فَضْلُ اللَّهِ الهادي لعباده الى قضاء توحيده يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من اهل العناية وَبالجملة اللَّهُ المتفضل المحسن لأرباب المحبة والولاء واسِعٌ في فضله وطوله عَلِيمٌ بمن يستحق الانعام والإفضال. ثم لما نهى سبحانه المؤمنين عن موالاة الكفار ومواخاتهم وبالغ فيه أراد أن ينبه على من يستحق الولاية والودادة حقيقة فقال إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ المتولى لأموركم بالولاية العامة وَرَسُولُهُ النائب عنه المستخلف منه وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله بالولاية الخاصة بمتابعته صلّى الله عليه وسلّم الا وهم الَّذِينَ يُقِيمُونَ ويديمون الصَّلاةَ اى الميل المقرب نحو الحق وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ المصفية لبواطنهم عن التوجه نحو الغير وَالحال انه هُمْ حينئذ راكِعُونَ خاضعون خاشعون في صلاتهم متذللون فيها نزلت في على كرم الله وجهه حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فرمى له خاتمه وَبالجملة مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ الحفيظ المراقب عليه ويفوض امره كله اليه ويتخذه وكيلا وَيتول ايضا رَسُولَهُ الذي قد استخلف منه سبحانه وأظهره على صورته حيث انزل في شأنه من يطع الرسول فقد أطاع الله وَيتول ايضا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وأخلصوا في ايمانهم طلبا لمرضاته فهم من حزب الله وجنوده يحفظهم في كنف حفظه وحمائه ويغلبهم مطلقا على من يصول إليهم فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ القادر المقتدر على عموم الانعام والانتقام هُمُ الْغالِبُونَ الفائزون الواصلون الى عموم مقاصدهم ومراداتهم بفضل الله وسعة جوده يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عليكم ان لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا من غاية بغضهم ونفاقهم معكم دِينَكُمْ الذي هو أقوم الأديان وأقسطها هُزُواً وَلَعِباً اى محل استهزاء وملاعبة يستهزؤن ويستسخرون به استخفافا له واستهانة لأهله سيما مِنَ القوم الَّذِينَ يدعون الدين والايمان والإطاعة والانقياد مراء وافتراء لأنهم وان أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ملتبسا بالحق الا انهم من خباثة طينتهم وركاكة فطنتهم لم يمتثلوا به ولم يعملوا بمقتضاه ولم يصدقوا الرسل الذين انزل إليهم الكتاب بل هم كانوا يكذبونهم ويقتلونهم ظلما وعنادا من كفرهم الأصلي وشركهم الجبلي وَلا سيما الْكُفَّارَ الذين أشركوا بالله المتوحد بذاته المنزه عن عموم ما ينسبونه اليه افتراء ومراء أَوْلِياءَ توالونهم وتحبونهم كموالاة بعضكم بعضا إذ هم اعداء لله المتوحد ولرسوله ولعموم المؤمنين وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المقتدر الغيور واحذروا عن موالاة أعدائه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بوحدة الله مصدقين لرسله وَكيف تتخذون منهم اولياء وهم قوم من غاية بغضهم وغيظهم معكم إِذا نادَيْتُمْ واذنتم إِلَى الصَّلاةِ المقربة نحو الحق اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ الملاعبة والاستهزاء والمجادلة والمراء مع الأمناء العرفاء بالله بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ جهلاء بمقتضى الربوبية غفلاء عن لوازم المرتبة الألوهية وبالجملة هم سفهاء في أنفسهم لا يَعْقِلُونَ ولا يصرفون العقل الجزئى المفاض لهم من الحق لمعرفة المبدأ والمعاد الى ما خلق لأجله ومع ذلك ينكرون العقلاء الشاكرين الصارفين عقولهم وعموم جوارحهم وأعضائهم الى ما جبلت لأجله

[سورة المائدة (5) : آية 59]

من الأعمال والأحوال المقربة نحو التوحيد الإلهي قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا وما تنكرون علينا وما تستهزؤن بنا وما حواكم وحملكم على الانتقام والاستهزاء إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ المتوحد المتفرد بذاته المتجلى على عموم الآفاق والأنفس بكمال الإطلاق والاستحقاق وَآمنا ايضا بجميع ما أُنْزِلَ إِلَيْنا لتبيين توحيده وَكذا قد آمنا بجميع ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ من الكتب الإلهية على الرسل الماضين لهداية طريق الحق وَايضا من جملة ما بعثكم على الانتقام علمنا بكم أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ خارجون عن منهج الايمان وجادة التوحيد والعرفان حقيقة ولا تظهرونه خشية وخوفا ولهذا تستهزؤن مع اهل الحق خفية تجاهلا وتغافلا وحفظا لجاهكم ورئاستكم قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما هَلْ أُنَبِّئُكُمْ وأخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ الذي أنتم تنقمون منه وتنكرون له مكابرة مَثُوبَةً عائدة وجزاء مرتبا عليه ثابتا عِنْدَ اللَّهِ العليم الحكيم قبحه وشرارته ديدنة مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ المنتقم الغيور وطرده من ساحة عزه وقبوله وَغَضِبَ عَلَيْهِ حيث أخرجه عن مرتبة خلافته ونيابته وَكيف لا قد جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ المنعزلة عن درك الحق ومعرفته وَجعل ايضا منهم من عَبَدَ الطَّاغُوتَ اى الاهوية الباطلة المصلة عن الاهتداء الى طريق الحق وبالجملة أُولئِكَ المطرودون المغضوبون الممسوخون عن مقتضى الانسانية شَرٌّ مَكاناً منزلة ومكانة عند الله وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ الذي هو الاعتدال الإنساني المنعكس عن الاعتدال الإلهي وَبالجملة إِذا جاؤُكُمْ ايها المؤمنون أولئك المراؤون المعاندون مدعين محبة لكم ولدينكم مداهنة ونفاقا حيث قالُوا آمَنَّا بنبيكم وبجميع ما جاء به من عند ربه لا نبالوا بهم وبايمانهم ولا تصاحبوا معهم وَالحال انه قَدْ دَخَلُوا حين دخلوا عليكم ملتبسين بِالْكُفْرِ والإصرار وَهُمْ ايضا قَدْ خَرَجُوا بِهِ كما كانوا بل ما زادوا الا إصرارا بعد صرار وعنادا فوق عناد وان أظهروا خلافه وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ من الكفر والنفاق وبغض رسول الله والذين آمنوا معه وَتَرى ايها الرائي كَثِيراً مِنْهُمْ اى من اليهود والنصارى يُسارِعُونَ ويبادرون فِي الْإِثْمِ اى الخصلة الذميمة عقلا وشرعا وَالْعُدْوانِ اى الظلم المتجاوز عن الحدود الشرعية وَلا سيما أَكْلِهِمُ السُّحْتَ اى الحرام والله لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى بئس شيأ ما يكسبونه لأنفسهم من الأمور المستجلبة لأنواع العذاب والنكال ثم قال سبحانه لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ اى هلا يمنعهم المنسوبون الى الرب العائدون له وَالْأَحْبارُ العالمون بسرائر الأمور وحكمها على زعمهم عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ افتراء على الله وعلى كتابه وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ زاعمين اباحته والله لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ اى لبئس شيأ صنيعهم هذا برأيهم الفاسد وعقلهم القاصر الكاسد وَمن غاية جهلهم بالله ونهاية غفلتهم من مقتضيات أوصافه قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ مقبوضة يقتر بالزرق وانما قالوا ذلك حين فقدوا البسطة والرخاء الذي كانوا فيه قبل تكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال سبحانه في جوابهم دعاء عليهم قد غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ عن عموم الخيرات والمبرات بضرب الذلة والمسكنة عليهم في الدنيا وفي الآخرة بالاغلال والسلاسل يسبحون نحو النار وَأعظم منها انهم قد لُعِنُوا وطردوا عن المرتبة الانسانية بِما قالُوا اى بقولهم هذا على الله الكريم مع انه لا يليق بجنابه العظيم وبشأنه الأعلى بَلْ يَداهُ اى أوصافه اللطفية والقهرية

[سورة المائدة (5) : آية 65]

مَبْسُوطَتانِ ازلا وابدا دائما يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ويتعلق ارادته لمن يشاء فضلا وجودا ويمنع عن من يشاء عدلا وقهرا وَالله لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ حقدا وحسدا ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل انعاما وإكراما لك مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً اجتراء على الله ظلما ومراء بما لا يليق بشأنه وَكُفْراً اى إصرارا وتشددا على ما هم عليه من الشرك والعناد وَبسبب طغيانهم وكفرهم أَلْقَيْنا واوقعنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بحيث لا يتفقون ولا يوافقون أصلا بل كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ مع المؤمنين وصمموا العزم والجزم أَطْفَأَهَا اللَّهُ المدبر الحكيم بإيقاع المخالفة والعدوان بينهم وَبالجملة هم في أنفسهم يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ دائما مستمرا فَساداً اى لأجل الفساد واثارة الفتن والعناد وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ المعاندين منهم المجترئين على الله وعلى رسوله مكابرة وعنادا وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بك وبكتابك وَاتَّقَوْا عما اجترءوا عليه في حق الله وحقك لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ اى محونا عن ديوان أعمالهم عموم سيئاتهم التي كانوا عليها وَلَأَدْخَلْناهُمْ تفضلا منا إياهم وامتنانا لهم جَنَّاتِ النَّعِيمِ منتزهات العلم والعين والحق ان أخلصوا في ايمانهم وَلَوْ أَنَّهُمْ اى اهل الكتاب أَقامُوا التَّوْراةَ وامتثلوا باوامرها وأظهروا ما فيها من الاحكام والعبر والتذكيرات سيما بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته وَأقاموا ايضا الْإِنْجِيلَ وأحكامه على وجهها وعملوا بمقتضاها وَكذا جميع ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لوسع عليهم سبحانه الرزق الصوري والمعنوي الى حيث لَأَكَلُوا الرزق مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ذكر الجهتين الحقيقيتين يغنى عن الجهات كلها اى كوشفوا بوحدة الله من جميع الجوانب والجهات ولا يرون غير الله في مظاهره ومجاليه مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ معتدلة لا من اهل الإفراط ولا من اهل التفريط يرجى ايمانهم وكشفهم وَان وجد كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ اى ساء عملهم في الإفراط والتفريط عن جادة الاعتدال والتوحيد يا أَيُّهَا الرَّسُولُ المبعوث لي كافة الخلق بالعدالة والرسالة العامة والدعوة الى توحيد الذات بَلِّغْ وأوصل عموم ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لتبيين طريق توحيده الذاتي على جميع من كلف به وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ولم تبلغ امهالا وخوفا فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ التي كلفك سبحانه بتبليغها وبالجملة اعتصم بالله وتوكل عليه في أدائها وَاللَّهُ المراقب لعموم احوالك يَعْصِمُكَ ويحفظك مِنْ شرور النَّاسِ القاصدين مقتك ومساءتك يكفى مؤنة شرورهم ويكف عنك إذا هم بحوله وقوته إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده ومخايلهم لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ القاصدين مقتك ولا يوصلهم الى ما يدومون بك من المضرة والمساءة قُلْ لهم يا أكمل الرسل على رؤس الاشهاد بلا مبالاة لهم ولعداوتهم يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ من امر الدين والايمان والإطاعة والانقياد حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَجميع ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وتمتثلوا باحكامها وتتصفوا بما فيها من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم المرضية عند الله وتحققوا بحقائقها ومعارفها المودعة فيها وَالله لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ حين سمعوا منك أمثال هذا ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لتأييدك ونصرك طُغْياناً وَكُفْراً من غاية غيظهم وبغضهم معك ومع من تبعك من المؤمنين وبالجملة فَلا تَأْسَ ولا تحزن أنت يا أكمل الرسل عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الساترين طريق الحق باهويتهم الباطلة وآراءهم الزائغة الفاسدة. ثم قال سبحانه

[سورة المائدة (5) : آية 70]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اى اسلموا وانقادوا وامتثلوا بعموم أوامر كتابك واجتنبوا عن نواهيه وآمنوا ايضا بجميع الكتب والرسل وجميع الأنبياء ذوى الأديان وغيرهم لتمكنهم في مقر التوحيد البحت الخالص عن شوب الكثرة وَالَّذِينَ هادُوا اى الممتثلون بجميع ما امر في التورية ونهى عنه الى ان وصلوا الى مرتبة التوحيد المسقط للاختلافات الصورية والمعنوية وَالصَّابِئُونَ الذين يتوسلون بالملائكة في عموم عباداتهم لا الصابئون الطبيعيون الذين هم يعبدون الكواكب من قصور نظرهم وكثافة حجبهم وَالنَّصارى الذين يعملون على مقتضى الإنجيل بلا فوت شيء من أوامره ونواهيه مَنْ آمَنَ منهم بِاللَّهِ المتوحد بذاته المستغنى عن الأشباه والأنداد مطلقا ووصل بمتابعة كتبه المنزلة ورسله المبينين لكتبه الى توحيده وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد للكشف والوصول وَعَمِلَ عملا صالِحاً بطريق توحيده فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في سلوكهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بعد ما وصلوا إذ كل ما جاء من عند الله انما هو بمقتضى توحيده مبين له وان كانت الطرق متعددة بتعدد الأوصاف والأسماء الإلهية لكن كل منها موصلة اليه سبحانه إذ ليس وراء الله مرمى ومنتهى لذلك قيل التوحيد إسقاط الإضافات رأسا حتى يتحقق الفناء فيه والبقاء به بل لا فناء ولا بقاء في مرتبة العماء أصلا حارت في ملكوتك عميقات مذاهب التفكر والله لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ على لسان أنبياءهم ان لا تشركوا بالله ولا تخاصموا مع أنبيائه ورسله وَبعد ما أخذنا منهم الميثاق أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا مبشرين ومنذرين وصاروا من خبث بواطنهم كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ الله بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ وبما لا ترضى به عقولهم فَرِيقاً منهم كَذَّبُوا الرسل وعموم ما جاءوا به من عندنا عنادا ومكابرة وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ الأنبياء ظلما وعدوانا وَهم من غاية عمههم واعراضهم عن الحق حَسِبُوا وظنوا بل تيقنوا أَلَّا تَكُونَ ولا تدور عليهم فِتْنَةٌ مصيبة وبلاء بواسطة التكذيب والقتل فَعَمُوا لذلك عن امارات الدين وعلامات التوحيد واليقين وَصَمُّوا عن استماع دلائل التوحيد والعرفان ثُمَّ بعد ما تنبهوا وتابوا مخلصين تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اى قد عفا عنهم وقبل توبتهم ثُمَّ بعد ما تابوا عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ مرة اخرى لخباثتهم الجبلية وَبالجملة اللَّهُ المطلع بعموم حالاتهم بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ اى بعموم أعمالهم التي عملوها بمقتضى اهويتهم الباطلة وآرائهم الفاسدة يجازيهم عليها بمقتضى علمه وخبرته والله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا من غاية جهلهم بالله وبما لا يليق بشأنه إِنَّ اللَّهَ المتجلى على عروش عموم ما كان ويكون شهادة وغيبا هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ اى متحد به محصور عليه افراطا وغلوا وَقالَ الْمَسِيحُ لهم حين سمع منهم ما قالوا في حقه وغلوا يا بَنِي إِسْرائِيلَ التائهين في تيه الجهل والضلال اعْبُدُوا اللَّهَ المنزه عن الحصر والحلول والاتحاد وعن مطلق التعينات والفضول ولا تحصروه لا في ولا في غيرى بل انقادوا رَبِّي الذي رباني بأنواع اللطف والكرم وَرَبَّكُمْ ايضا بافاضة العقل الموصل لكم الى معرفته وتوحيده واعلموا انه لا فرق بيني وبينكم في العبودية والمربوبية ولا تشركونى معه إذ انا ايضا من جملة عبيده إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ المنزه عن الشريك مطلقا غيره من مخلوقاته فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الغنى بذاته عن مطلق الشرك والايمان عَلَيْهِ الْجَنَّةَ المعدة للسعداء الموحدين بل وَمَأْواهُ وما يأوى اليه النَّارُ المعدة للأشقياء المردودين المشركين وَاعلموا ان ما لِلظَّالِمِينَ المفترين على الله ما هو بريء

[سورة المائدة (5) : آية 73]

عنه بذاته مِنْ أَنْصارٍ ينصرونهم ويشفعون لهم عند أخذ الله إياهم وبطشه والله ايضا لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا من عدم تحققهم بمقام التوحيد وعدم تنبههم بمرتبة الفناء في الله إِنَّ اللَّهَ المنزه عن التعدد بل عن العدد مطلقا ثالِثُ ثَلاثَةٍ اى واحد منها وأرادوا بالثلثة إياه سبحانه ومريم وعيسى وَالحال انه ما مِنْ إِلهٍ في الوجود والتحقق إِلَّا إِلهٌ اى وجود وموجود واحِدٌ احد صمد فرد وتر محير للعقول والأبصار ماح لظلال السوى والأغيار وَبالجملة إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا اى هؤلاء الظلمة الغالون عَمَّا يَقُولُونَ من التثليث والتعدد في الألوهية لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ اى بقوا على كفرهم بلا ايمان الى ان ماتوا عليه عَذابٌ أَلِيمٌ لا عذاب أشد منه الا وهو حرمانهم عن مرتبة التوحيد التي هي مرتبة الخلافة والنيابة أَيصرون على هذا الكفر والضلال فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ المنتقم الغيور ولا يؤمنون له وَلا يَسْتَغْفِرُونَهُ عما صدر عنهم من الجرائم العظام حتى يقبل توبتهم وايمانهم وَبالجملة اللَّهِ المنزه في ذاته عن كفرهم وايمانهم غَفُورٌ لهم ان أخلصوا في توبتهم وايمانهم رَحِيمٌ لهم يقبل توبتهم ولا يأخذهم على ما صدر عنهم بعد ما تابوا ورجعوا نادمين ثم قال سبحانه مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ من الرسل العظام قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أمثاله في العظمة والكرامة ولم ينسبهم احد الى ما نسبوه وَأُمُّهُ ايضا صِدِّيقَةٌ مقبولة عند الله قد مضت كثيرة مثلها من الصديقات ومن الصادقات المقبولات ولم ينسبها احد ما نسبوها وبالجملة كيف ينسبونهما الى الألوهية مع انهما قد كانا بشرين مركبين يَأْكُلانِ الطَّعامَ ليكون بدلا بما يتحلل والا له مطلقا منزه عن التركيب والتحليل والاكل والشرب والبنوة والأبوة والأمومة وغيرها من أوصاف البشر انْظُرْ ايها الناظر المتعجب كَيْفَ نُبَيِّنُ ونوضح لَهُمُ الْآياتِ اى الدلائل القاطعة الدالة على عدم لياقتهما بمرتبة الألوهية مع انه لكمال ظهور هذه الدعوى ووضوحها لا حاجة الى الدليل أصلا عند من له ادنى مسكة ثُمَّ انْظُرْ وازدد في تعجبك أَنَّى يُؤْفَكُونَ والى اين يصرفون وجوه عقولهم عن طريق الحق وعن سماع كلمة التوحيد قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا أَتَعْبُدُونَ وتؤمنون مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد المتفرد بالالوهية والوجود ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ اى اظلالا وتماثيل لا تملك لكم ولأنفسهم لا ضَرًّا وَلا نَفْعاً ولا وجودا ولا حيوة بل ما هي الا تماثيل موهومة وعكوس معدومة تنعكس من اشعة التجليات الإلهية ليس لها في أنفسها ذوات ولا أوصاف ولا آثار وَاللَّهُ المتجلى في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق هُوَ السَّمِيعُ في مظاهره لا غير إذ لا غير في الوجود الْعَلِيمُ هو ايضا فيها ولا عالم سواه فله الاستقلال والتصرف التام في ملكه وملكوته بلا مشاركة احد ومظاهرته قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ يعنى النصارى لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ونبيكم غَيْرَ الْحَقِّ افتراء ومراء سيما بعد ظهور المبين المؤيد المصدق وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ من اسلافكم إذ هم قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ عن طريق الحق وَمع ذلك ما اقتصروا على الضلال بل أَضَلُّوا كَثِيراً من ضعفاء العوام ايضا وَبالجملة هم قوم قد ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ بلا هداية هاد مهتد وتنبيه منبه نبيه يهديهم اليه وينبههم عليه وما لكم تضلون أنتم مع وجود المنبه النبيه والهادي المؤيد من عند الله بالهداية العامة الى صراط مستقيم موصل الى مقر التوحيد. ثم قال سبحانه لُعِنَ اى طرد

[سورة المائدة (5) : آية 79]

ورد عن مقر العز ومرتبة النيابة الانسانية القوم الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ايضا ذلِكَ الطرد واللعن عليهم بِما عَصَوْا على الله بعدم امتثال أوامره واجتناب نواهيه وَهم في أنفسهم قوم قد كانُوا يَعْتَدُونَ ويتجاوزون عن المرتبة الانسانية بالخروج عن مقتضى الحدود الإلهية الى ما تهوى أنفسهم وترضى به عقولهم ومن جملة خصالهم المذمومة انهم كانُوا من غاية غفلتهم وانهماكهم في الضلال لا يَتَناهَوْنَ ولا يمنعون أنفسهم عَنْ مُنكَرٍ مخالف للشرع فَعَلُوهُ مرة او مرارا بعد تنبههم بمخالفته بل يصرون عليه عنادا واستكبارا والله لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ لأنفسهم ذلك المنكر والإصرار الجالب لانواع العذاب والنكال ولذلك تَرى ايها المعتبر الرائي كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ اى يوادون ويوالون الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأشركوا له ويصاحبون معهم على طريق المحبة والمودة لذلك يسرى شرور شركهم وكفرهم عليهم والله لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعنى بئس شيأ ما كسبت لهم أنفسهم أَنْ سَخِطَ اللَّهُ المنتقم الغيور عَلَيْهِمْ بسببه وَبالجملة فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ دائمون بشؤم ما كسبوا وَلَوْ كانُوا يعنى أولئك المنافقين يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ المتوحد في ذاته وَالنَّبِيِّ المؤيد من عنده المبعوث الى كافة الأنام وَيؤمنون ايضا بعموم ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من الفرقان الفارق بين الحق والباطل مَا اتَّخَذُوهُمْ يعنى المشركين أَوْلِياءَ أحباء أصدقاء وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عما فيه صلاحهم وسدادهم من الحكم والاحكام المنزلة في القرآن لَتَجِدَنَّ ايها الداعي للخلق الى الحق أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا بك وبكتابك الْيَهُودَ وهم الذين قد جبلوا على النفاق والشقاق سيما معك ومع من تبعك وَكذا الَّذِينَ أَشْرَكُوا بالله بإثبات الوجود لغيره لبغضهم مع الموحدين الموقنين بتوحيد الله ووحدة ذاته القاطعين عرق الشركة عن أصله وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً واوكدهم محبة لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا للمؤمنين من محض ودادهم وصميم فؤادهم بعد ما تنبهوا لحقية الدين المصطفوى والشرع المحمدي الموصل الى التوحيد الذاتي إِنَّا نَصارى ننصركم ونقوى عضدكم ذلِكَ اى سبب ودادتكم ومحبتكم في قلوبهم بِأَنَّ مِنْهُمْ جمعا قِسِّيسِينَ اى طالبين للعلم اللدني الذي هو ثمرة عموم الشرائع والأديان المنزلة وَان منهم جمعا آخر رُهْباناً متحققين بمرتبة العين لذلك صاروا متصرفين في الأمور الدنيوية بلا تصرف منتظرين لظهور مرتبة الحق اليقين التي أنت تظهر بها يا أكمل الرسل وَأَنَّهُمْ بعد ما وجدوا في وجدانهم ما وجدوا لا يَسْتَكْبِرُونَ ولا يستنكفون عن نصرك وودادتك ايها الجامع لجميع مراتب الحق وَمن غاية تشوقهم ونهاية تعطشهم الى زلال مشرب اليقين الحقي إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ من الحكم والاحكام والتذكيرات والرموز والإشارات والعبر والأمثال المنبئ كل منها عن مرتبة اليقين الحقي تَرى ايها الرائي أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ وتسيل مِنَ الدَّمْعِ من غاية تلذذهم ونهاية تشوقهم بتلك المرتبة وذلك التلذذ والتشوق ناشئة مِمَّا عَرَفُوا بقدر وسعهم وطاقتهم مِنَ امارات مرتبة الْحَقِّ اليقين فكيف إذا تحققوا بها وتمكنوا في مقعد الصدق ولهذا يَقُولُونَ من غاية تحننهم وتشوقهم منادين مناجين قلقين حائرين خائفين راجين رَبَّنا آمَنَّا اى صدقنا وتحققنا بما وهبت لنا من مرتبتي العلم والعين وبعد ما تحققنا بتوفيقك بهما فَاكْتُبْنا بفضلك ولطفك مَعَ الشَّاهِدِينَ المتمكنين في مرتبة

[سورة المائدة (5) : آية 84]

اليقين الا وهم الذين قد حضروا ووصلوا بل اتصلوا وانقطع سيرهم وحاروا الى ان تاهوا وفنوا لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهة وَيقولون ايضا من غاية تحسرهم وتعطشهم ما لَنا لا نُؤْمِنُ اى اى شيء عرض لنا ولحق بنا ان لا نصدق ولا نذعن بِاللَّهِ المتوحد المتجلى في الأكوان المستغنى عن مطلق الدلائل والبرهان وَلا نتبع ولا نمتثل لعموم ما جاءَنا مِنَ دلائل الْحَقِّ وبيناته وَمع ذلك قالوا راجين ذلك نَطْمَعُ ونرجو أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا بلطفه في مقعد صدق عنده مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ لتلك المرتبة العليا وبعد ما توجهوا الى الله وأخلصوا فيما أظهروا فَأَثابَهُمُ اللَّهُ العليم الحكيم الجواد الكريم وأورثهم بِما قالُوا راجين مناجين متمنين متحسرين جَنَّاتٍ منتزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعنى انهار المعارف والحقائق المنتشئة من جداول السنة ارباب الكشف واليقين ليحيى بها بلدة ميتا من قلوب المحجوبين المسجونين بسلاسل التقليدات وأغلال الدلائل الواهية والتخمينات الغير الكافية خالِدِينَ فِيها دائمين مستمرين ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله وَبالجملة ذلِكَ الفوز العظيم والفضل الكريم جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الواصلين الى مرتبة حق اليقين وَالَّذِينَ كَفَرُوا بوحدة ذاتنا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة عليها المبينة لطريقها أُولئِكَ البعداء المحبوسون في مضيق الإمكان أَصْحابُ الْجَحِيمِ وملازموها لا نجاة لهم منها ولا خلاص لهم من غوائلها ثم لما بالغ النصارى في الاعراض والترهب عن حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها الى حيث يحرمون لأنفسهم ما أحل الله لهم وافرطوا فيه الى حيث لم يبق مزاجهم على الاعتدال الذي جبلوا عليه أراد سبحانه ان ينبه على المؤمنين طريقا مستقيما وسبيلا واضحا متوسطا بين طرفي الإفراط والتفريط ليلا يؤدى الى تخريب المزاج وتحريفه إذ للحق سبحانه في إيجاد الأمزجة وإظهارها حكم وصنائع عجيبة وبدائع غريبة منتشئة من محض الحكمة المتقنة الجامعة لجميع الأوصاف الذاتية الإلهية من العلم والقدرة والارادة وغيرها من أمهات الأوصاف والأسماء فقال مناديا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وصدقوا دين الإسلام وامتثلوا بجميع ما أمروا ونهوا عنه عليكم ان لا تُحَرِّمُوا لأنفسكم طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ العليم الحكيم لَكُمْ وأباحها عليكم في دينكم وَعليكم ان لا تَعْتَدُوا ولا تجاوزوا عن حدوده سبحانه ترهبا وتزهدا مفضيا الى الرياء والسمعة إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عن مقتضى تدبيره وإصلاحه وَبعد ما سمعتم ايها المؤمنون المكلفون ما سمعتم كُلُوا من طيبات مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ المتكفل لأرزاقكم حَلالًا غير مسرفين في أكلها طَيِّباً من كد يمينكم مقدار ما يقوم مزاجكم ويقويكم على اقامة أوامر الله وأحكامه وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ موقنون بوحدته مخلصون في توحيده واحذروا منه سبحانه عن مجاوزة حدوده وارتكاب محظوراته واعلموا ان خير قرينكم في دنياكم واخراكم تقواكم ورضاكم لذلك أوصاكم سبحانه ومن جملة الأمور التي تجب محافظتها عليكم في معاشكم لتكونوا من المتقين المبرورين عند الله ان لا تجترؤا على اليمين والحلف بالله في الوقائع والعقود سيما على الوجه الكذب وترويج الشيء قصدا واختيارا حتى لا تنحطوا عن مرتبة العدالة الفطرية الخلقية ولا تلحقوا بالأخسرين الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا الا ان يصدر الحلف عنكم هفوة بغتة بلا قصد على ما هو المتعارف عند العرب في أثناء اكثر الكلام لا والله بلا إغراء وتمويه فانه معفو عنكم كما قال سبحانه لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ

[سورة المائدة (5) : آية 90]

المجازى على أعمالكم بِاللَّغْوِ الصادر منكم فِي أَيْمانِكُمْ بلا قصد وتغرير وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ ويعذبكم بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ اى بالعقود التي أوثقتموها بالإيمان الكاذبة وحنثتم فيها فعليكم بعد ما حنثتم ان تجبروها بالكفارة فَكَفَّارَتُهُ المسقطة لنكاله إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ يعنى لزمكم اطعام هؤلاء مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ على أَهْلِيكُمْ أَوْ لزمكم كِسْوَتُهُمْ اى كسوة هؤلاء على الوجه المذكور ايضا أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ على تفاوت رتبكم ودرجاتكم عسرا ويسرا فَمَنْ لَمْ يَجِدْ منكم شيأ منها فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ اى لزم عليه ان يصوم ثلثة ايام متتالية زجرا للنفس وجبرا لما انكسر من المروءة الفطرية تعمدا وقصدا ذلِكَ المذكور كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ جازمين حقيته وحنثتم فيها واما إذا حلفتم كذبا وزورا تعمدا وقصدا العياذ بالله فنكاله لا يسقط عنكم الا بخلوص التوبة والندامة المؤكدة وَبالجملة احْفَظُوا ايها المؤمنون أَيْمانِكُمْ التي حلفتم بها في مواقعها عن شوب الكذب والريب بل عن شوب الظن ايضا ان أردتم ان تبروا فيها وتقسطوا عند الله كَذلِكَ اى مثل ذلك الذي قد وعظتم به يُبَيِّنُ اللَّهُ المصلح لَكُمْ ولأحوالكم آياتِهِ الدالة على توحيده لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تتحققوا في مقام الشكر وتصرفوا عموم ما وهب لكم من العطايا الى ما اقتضته حكمته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم محافظة حدود الله الموضوعة فيكم لإصلاحكم امرا ونهيا كراهة وندبا حلا وحرمة إِنَّمَا الْخَمْرُ اى مطلق ما يترتب عليه السكر وازالة العقل من اى شيء أخذتم وَالْمَيْسِرُ القمار مع اى شيء لعبتم وَالْأَنْصابُ اى الأصنام الموضوعة لتضليل العباد وَالْأَزْلامُ الموضوعة للاستعلام مما استأثر الله به من غيبه كل من المذكورات رِجْسٌ قذر نجس بواسطة وبلا واسطة إذ الكل مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ حاصل من تغريراته وتسويلاته فَاجْتَنِبُوهُ وابعدوا انفسكم عن كل منها واحفظوها منه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بما يرضى الله به عنكم ثم أشار سبحانه الى علل تحريمها ودلائلها فقال إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ المضل المغوى أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ الى حيث يفضى الى المقاتلة والمشاجرة وَيريد ايضا ان يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَلا سيما عَنِ الصَّلاةِ التي هي معراج المؤمن نحو الحق فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ منها ايها المؤمنون أم مهلكون بارتكابها إذ لا واسطة بينهما ولا عذر وَبالجملة أَطِيعُوا اللَّهَ المدبر لأموركم في عموم ما أمركم به ونهاكم عنه وَأَطِيعُوا ايضا الرَّسُولَ المبين لكم امر الله ونهيه وَاحْذَرُوا عن جميع ما حذركم الله ورسوله ان كنتم مؤمنين موقنين فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم بعد وضوح البرهان فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الظاهر والواضح وعلينا الحساب والأخذ والانتقام والعذاب والنكال. نعوذ بك منك يا ذا القوة المتين ثم قال سبحانه مرخصا لَيْسَ عَلَى المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم جُناحٌ حرج وضيق فِيما طَعِمُوا من المحرمات المذكورة قبل ورود تحريمها إِذا مَا اتَّقَوْا بعد الورود عن غضب الله وَآمَنُوا اى صدقوا تحريمها وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المرخصة المأمورة على وجهها بلا إخلال ثُمَّ اتَّقَوْا عن رخصها ايضا وَآمَنُوا اى أخلصوا بعزائمها ثُمَّ اتَّقَوْا عن عزائمها ايضا طالبين رضا الله وَأَحْسَنُوا في هذه التقوى ويعبدون الله كأنهم يرونه وَاللَّهُ المحسن المفضل لعباده يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ منهم الطالبين رضاه المتشوقين لقاءه ومن جملة الأمور المحرمة

[سورة المائدة (5) : آية 94]

عليكم في دينكم الاصطياد حال كونكم محرمين للحج يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ وليختبرنكم ويجربنكم اللَّهُ المصلح لأحوالكم بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ وقت إحرامكم والصيد يغشاكم بحيث تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ من غاية قربه لكم هل تأخذونه وتشوشونه أم تحفظون امر التحريم وتراعون حقه وما ذلك الابتلاء والاختبار الا لِيَعْلَمَ اللَّهُ العليم الحكيم وليميز ويفصل منكم مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ اى عن انتقامه واخذه في يوم الجزاء عن من لا يخافه ولا يبالى بامره وشأنه وان كان الكل عنده معلوما مميزا فَمَنِ اعْتَدى وتجاوز بَعْدَ ذلِكَ اى بعد ما سمع من الحق ما سمع فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ وعقاب مؤلم عظيم باعتدائه واجترائه ثم اردفه سبحانه بما يدل على جبره بعد انكساره رفعا للحرج عن عباده مصرحا بتحريمه ونهيه أولا فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَالحال انه أَنْتُمْ حُرُمٌ محرمون للحج وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ في اوقات إحرامه مُتَعَمِّداً قاصدا فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يعنى قد لزمه جبرا لما انكسر ذبح مثل ما قتل من النعم الأهلي في النفع والفائدة لسد جوعة الفقراء والمساكين يَحْكُمُ بِهِ اى بمماثلته ومقابلته ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ حال كون ذلك المجازى ناويا به هَدْياً اى مهدى به يذبح لله وفي سبيله طلبا لرضاه بالِغَ الْكَعْبَةِ اى عندها ويتصدق به للفقراء والمساكين أَوْ لزم عليه كَفَّارَةٌ وهي طَعامُ مَساكِينَ يعنى يشترى بثمن ذلك المثل الذي يحكم به ذوا عدل طعاما ويتصدق به للفقراء ويعطى كل واحد منهم مدا من الطعام أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً يعنى او لزمه صيام مدة مساوية لعدد الفقراء إذا اطعمتم بثمنه عليهم سر كل تلك التكاليف لِيَذُوقَ المسرف الجاني وَبالَ أَمْرِهِ اى ثقله وشدته وفظاعته ووخامة عاقبته إذ هو ابطال لصنع الحق سيما حين حماه الحق ونهى عن التعرض له وعليكم ان تحافظوا على النهى بعد الورود ولا تخافوا عما قبله إذ عَفَا اللَّهُ عنكم عَمَّا سَلَفَ منكم من الجرائم ومحا عن ديوان أعمالكم وأسقط عن الحساب ما اكتسبتم من الآثام حين كونكم تائهين في بيداء الغفلة قبل ورود النهى وَمَنْ عادَ عليها بعد ما نبه ونهى فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ العزيز المقتدر مِنْهُ ويؤاخذه عليه ويحاسبه عنه ويجازيه على مقتضى حسابه وَلا تغتروا بحلمه سبحانه وامهاله ومجاملته إذ اللَّهُ المستغنى في ذاته عن آثار جميع الشئون والنشأة عَزِيزٌ غالب غيور متكبر قهور ذُو انْتِقامٍ عظيم وبطش شديد على من تخلف عن حكمه وأصر عليه. نعوذ بفضلك من عدلك يا ذا القوة المتين أُحِلَّ لَكُمْ ايها المحرمون صَيْدُ الْبَحْرِ يعنى مائي المتولد مطلقا الا ما تستكرهه طباعكم وَطَعامُهُ اى اكله قد صار مَتاعاً لَكُمْ تتمتعون به مجانا وَكذا لِلسَّيَّارَةِ مطلقا للتجارة او الزيارة او غيرها يتزودون منه متى شاءوا وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً اى من أول مدة إحرامكم من الميقات الى أول الحل وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وتساقون ايها المؤمنون للعرض والحساب وعليكم الحذر والاتقاء عن التعرض بمصنوعاته بقهر وغلبة في عموم أحوالكم سيما في أوان الحج عند لبس الإحرام الذي هو كفن الفناء المعنوي والموت الإرادي الحقيقي عند ذوى الألباب الناظرين الى لب الاحكام وزبدتها فكما لا يبقى عند عروض الموت الصوري للقوى والأوصاف والآلات الظاهرة آثار وافعال بل قد تعطلت وانمحت وتلاشت بحيث لا يتوقع منها ذلك أصلا كذلك في الموت الإرادي الذي هو عبارة عن حج العارف بالله لا بد من إحرامه

[سورة المائدة (5) : آية 97]

وتعطيل أعضائه وجوارحه عن مقتضيات الأوصاف البشرية والقوى الحيوانية وعن جميع لوازم التعينات الجسمانية والروحانية والغيبية والشهادية والظاهرية والباطنية مطلقا وبالجملة عن عموم الإضافات والكثرات الحاجبة لصرافة الوحدة الذاتية المستهلك دونها جميع ما يتوهم من أشباح الاظلال والعكوس والأمثال لذلك صار الموت الإرادي أشد في الانمحاء وأغرق في الفناء من الموت الصوري عند العارف المكاشف المشاهد إذ منتهى الأمر في الموت الإرادي والفناء الاختياري الى العدم الصرف والفناء المحض المطلق الذي ما شم رائحة الوجود أصلا فكيف تخلل الموت والحيوة والوجود والعدم للوجود الأزلي الأبدي والبقاء السرمدي الذي لا يعرضه الموت والفوت مطلقا تاهت في بيداء صمديتك انظار العقل واراؤه واعلموا ايها الأحرار المكلفون بشعائر الحج وأركانه انما جَعَلَ وصير اللَّهِ الحكيم المستغنى بذاته عن عموم الأمكنة والجهات وعن الحلول فيها مطلقا الْكَعْبَةَ المكعبة المعينة في ارض الحجاز الْبَيْتَ الْحَرامَ اى المكان الذي يحرم فيه اكثر ما يحل في غيرها من الأمكنة بل جميعها عند العارف ليكون قِياماً لِلنَّاسِ اى محلا يقومون بها ويتيقظون بأركانها ومناسكها ويتنبهون بآدابها ومشاعرها عن منام الغفلة ورقود النسيان وَكذا قد صير سبحانه الشَّهْرَ الْحَرامَ ميقاتا واوانا لزيارتها وطوافها ليقوموا فيها بتهيئة اسباب الفناء وتخلية الضمير عن الميل الى الغير والسوى مطلقا وَايضا قد عين سبحانه فيها الْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ يعنى الذبائح والقرابين جبرا لما انكسر من رعاية نسكه وآدابه لئلا يتقاعدوا عن إتمامها ذلِكَ اى جعلها وتصييرها مرجعا لقاطبة الأنام وقبلة لهم بحيث يجب عليهم التوجه نحوها من كل مكان سحيق وفج عميق انما هو لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المحيط بذرائر الأكوان يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما فِي السَّماواتِ اى علويات الأعيان الثابتة وَما فِي الْأَرْضِ اى سفليات عالم الطبائع والأكوان وَلتعلموا ايضا أَنَّ اللَّهَ المنزه المتعالي عن ان يحاط بتجلياته ومجاليه بِكُلِّ شَيْءٍ مما استأثر الله باطلاعه إذ ما يعلم جنوده الا هو عَلِيمٌ بحيث لا يعزب عن علمه وحضوره شيء. كلت الألسن عن تفسير صفتك وانحسرت العقول عن كنه معرفتك فكيف يوصف كنه صفتك يا رب سيما بلسان عبادك وبالجملة اعْلَمُوا ايها المكلفون المتوجهون نحو الحق وزيارة بيته أَنَّ اللَّهَ المطلع باعمال عموم عباده وبنياتهم فيها شَدِيدُ الْعِقابِ صعب الانتقام اليم العذاب على من تساهل وتكاسل فيها فعليكم ان لا تغتروا بامهاله بمقتضى لطفه وجماله بل احذروا عن سطوة سلطنة قهره وجلاله وَاعلموا ايضا أَنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ ستار لذنوبهم رَحِيمٌ لهم يرحمهم بمقتضى جماله ونواله يعنى عليكم ان تكونوا مقتصدين معتدلين بين طرفي الخوف والرجا لتكونوا من زمرة عباده الشاكرين وان جادلوا معك يا أكمل الرسل وعاندوك يعنى اهل البدع والأهواء الفاسدة في هذه الإلهامات والاخبارات الإلهية المترشحة من بحر الحكمة لا تبال بهم ولا بمعاندتهم ومعاداتهم بل قل لهم قولا صادرا عن محض الحكمة ما عَلَى الرَّسُولِ الهادي للخلق الى الحق باذنه إِلَّا الْبَلاغُ والتبليغ على الوجه المأمور والأسماع والقبول مفوض الى الله والتوفيق من لدنه وَاللَّهُ المطلع لضمائركم يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ تظهرون وتعلنون من الايمان والإطاعة وَما تَكْتُمُونَ وتخفون من الكفر والبدعة قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل العظة والتذكير لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ عند الله وَلَوْ أَعْجَبَكَ ايها المعتبر المتعجب كَثْرَةُ الْخَبِيثِ إذ لا عبرة بالقلة والكثرة

[سورة المائدة (5) : آية 101]

بل العبرة انما هي بالجودة والردائة في الأعمال والأفعال والمواجيد والأحوال فَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور حق تقاته يا أُولِي الْأَلْبابِ الناظرين في لب الأمور المعرضين عن قشورها لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون من عنده فوزا عظيما بعد ما تجودون أعمالكم بالإخلاص والتقوى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَسْئَلُوا ولا تقترحوا عن رسولكم سيما عَنْ أَشْياءَ قبل ورود الوحى إِنْ تُبْدَ وتظهر لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وتغمكم وتورث فيكم حزنا وكآبة وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ وفي زمان نزول الوحى والإلهام تُبْدَ لَكُمْ وتظهر عندكم بلا سوء وحزن وبالجملة عَفَا اللَّهُ عنكم بمقتضى لطفه عما سلف عَنْها وعن أمثالها قبل ورود النهى فعليكم ان تحافظوا عليها بعد ورود النهى وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده غَفُورٌ لهم عما سبق من ذنوبهم قبل ورود الزاجر حَلِيمٌ ايضا لا يعجل العقوبة لما اكتسبوا بعدها الى ان يتوبوا واعلموا انه قَدْ سَأَلَها عنها وعن أمثالها قَوْمٌ مثلكم من الذين مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ عن أنبيائهم ثُمَّ بعد ما ظهر ما اقترحوا عنه أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ جاحدين مكذبين لأنبيائهم بعد ظهورها لعدم امتثالهم وانقيادهم بما ظهر وعدم أعمالهم بمقتضاه واعلموا ايها المؤمنون ما جَعَلَ اللَّهُ العليم الحكيم وما وضع وشرع لكم في دينكم هذا ما في الجاهلية الاولى مِنْ بَحِيرَةٍ وهي انهم إذ أنتجت ناقتهم خمسة ابطن خامسها ذكر بحروا اذنها وشقوها وخلوا سبيلها فلا تركب ولا تحمل ولا تحلب ابدا فسموها بحيرة وَلا سائِبَةٍ وهي انهم قالوا ان شفيت فناقتى سائبة اى ممنوعة عن الانتفاع بها كالبحيرة وَلا وَصِيلَةٍ وهي انهم إذا ولدت شاتهم اثنى كان لهم وإذا ولدت ذكرا كان لآلتهم وإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن واحد يتبعون الأنثى بالذكر ويتقربون بهما وسموها وصيلة وَلا حامٍ وهو انهم إذ أنتجت من صلب فحل عشرة ابطن حرموا انتفاعه بالكلية ولم يمنعوه من الماء والمرعى وقالوا قد حمى ظهره ويسمونه حاميا وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اعرضوا عن الايمان والإطاعة يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ المنزه عن عموم النقائص الْكَذِبَ يعنى ينسبون اليه أمثال هذه المزخرفات الباطلة افتراء ومراء وَبالجملة أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ الله ولا يعرفونه ولا يفهمونه أصلا ولا يعلمون حق قدره وقدر حقيته ومقتضى حكمته مطلقا وَإِذا قِيلَ لَهُمْ امحاضا للنصح تَعالَوْا هلموا إِلى امتثال ما أَنْزَلَ اللَّهُ المصلح لأحوالكم وَإِلَى متابعة الرَّسُولِ الهادي لكم المنقذ عن ورطة الضلال قالُوا من غاية انهماكهم في الغفلة حَسْبُنا ويكفينا ما قد وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وأسلافنا قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا في شأنهم إلزاما وتبكيتا أَيقلدون آباءهم ويقتفون أثرهم وَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من أنفسهم وَلا يَهْتَدُونَ ايضا طريقا واسعا مستقيما بهدى هاد نبيه وارشاد مرشد منبه مع انهم عقلاء من اهل التمييز والاختبار فالعار كل العار فاعتبروا يا اولى الأبصار يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ ان تحفظوا أَنْفُسَكُمْ وتلازموها على الطاعات وتداوموها على التوجه نحو الحق في عموم الأوقات والحالات ومالكم الاحفظ انفسكم عن ورطة الهلاك والضلال وبعد ما حفظتم أنتم انفسكم لا يَضُرُّكُمْ ضلال مَنْ ضَلَّ عن طريق الحق إِذَا اهْتَدَيْتُمْ أنتم اليه سبحانه واعلموا ايها المؤمنون إِلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في الوجود والتحقق مَرْجِعُكُمْ ومرجعهم ايضا جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ وإياهم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دنياكم من شر وخير ومعصية وطاعة ويجازيكم

[سورة المائدة (5) : آية 106]

عليها ان خيرا فخير وان شرا فشر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من جملة الأمور التي تجب محافظتها عليكم شَهادَةُ بَيْنِكُمْ اى شهادتكم واشهادكم بين بنى نوعكم سيما إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ عليكم ان تشهدوا حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ اى من رجالكم أقاربكم وعشائركم أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ اى من أجانب المسلمين او من اهل الذمة إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ وسافرتم فِي الْأَرْضِ متباعدين عن الأقارب والعشائر فَأَصابَتْكُمْ فيها مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما اى الشاهدين من الأجانب وتقفونهما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ عند الجماعة فَيُقْسِمانِ اى الشاهدان بِاللَّهِ على رؤس الاشهاد إِنِ ارْتَبْتُمْ وشككتم ايها الوارثون في شهادتهما بانا لا نَشْتَرِي بِهِ ولا نرتشى بشهادتنا هذه ثَمَناً ولا نشهد بالزور وَلا سيما لَوْ كانَ المقسم له ذا قُرْبى اى صاحب قرابه وَايضا يقسمان تغليظا وتوكيدا بانا لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ العالم بالسرائر والخفايا التي هي وديعة الله عندنا بل يؤديها على وجهها بلا تحريف وكتمان وبلا زيادة ونقصان وان كتماها وحرفناها ظلما وزورا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ المعترفين لأنفسنا إثما عظيما فَإِنْ عُثِرَ اى أشعر واطلع عَلى أَنَّهُمَا اى الشاهدين قد اسْتَحَقَّا إِثْماً بواسطة تحريفهما او كتمانهما فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما اى يقسم آخران بدل الشاهدين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ يعنى من الورثة اى المشهورين لهم بل هما الْأَوْلَيانِ الأحقان بالتحليف من الشاهدين فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ واصدق مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا وما تجاوزنا في هذه الشهادة عن الحق أصلا وان اعتدينا فيها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى العدالة الإلهية التي وضعها الحق بين عباده وبالجملة ذلِكَ التخفيف والتغليظ أَدْنى واقرب الى الاحتياط من أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ ويؤدوها عَلى وَجْهِها اى على وجه يحملونها من غير تحريف وخيانة فيها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ على المدعين بَعْدَ أَيْمانِهِمْ الكاذبة فيفتضحوا بظهور الخيانة على رؤس الملأ وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ايها الشهود واحذروا عن الكتمان والتحريف وَاسْمَعُوا عموم ما يقول المحتضر سمع تحفظ وتيقن وادوه على وجهه وَاللَّهُ المطلع بضمائر عباده لا يَهْدِي الى قضاء وحدته الذاتية الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى او امره ومنهياته واذكروا وتذكروا واعتبروا من خطاب الله وعتابه لرسله لاجلكم ايها المسرفون المفرطون يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ المستوي على عروش عموم المظاهر بالاستيلاء التام والعدالة الكاملة الرُّسُلَ في يوم العرض الأكبر فَيَقُولُ لهم على سبيل التوبيخ ماذا أُجِبْتُمْ اى باى شيء أجبتم أنتم ايها الرسل من قبل هؤلاء العصاة المتجاوزين عن حدودنا الموضوعة فيهم قالُوا اى الرسل معتذرين متذللين لا عِلْمَ لَنا يا ربنا بحالهم ولا عذر لنا نعتذر عنهم إِنَّكَ بذاتك وأسمائك واوصافك بل أَنْتَ بخصوصيتك واستقلالك إذ لا غير في الوجود معك عَلَّامُ الْغُيُوبِ التي غابت عن عقولنا وأبصارنا واسماعنا فلك الحكم والأمر في ملكك وملكوتك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك وقت إِذْ قالَ اللَّهُ المتردي برداء العظمة والكبرياء يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ امتنانا عليه اذْكُرْ نِعْمَتِي التي أنعمت عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ وأقم بشكرها وأد حقها سيما إِذْ أَيَّدْتُكَ اى قويت عضدك وخصصتك بِرُوحِ الْقُدُسِ اى بالنفس الزكية القدسية اللاهوتية المطهرة عن شوب القوى الناسوتية مطلقا لذلك أنت

[سورة المائدة (5) : آية 111]

تُكَلِّمُ النَّاسَ حال كونك صبيا محبوسا فِي الْمَهْدِ وَايضا حال كونك كَهْلًا على السوية بلا تفاوت يعنى قد جعلت لك جميع كمالاتك بالفعل في عموم اوقات وجودك بلا تفاوت بين طفولتك وكهولتك وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ اى التدابير المتعلقة لظواهر الشرع وَالْحِكْمَةَ المتعلقة لبواطنها واسرارها وَالتَّوْراةَ الجامعة بين الظاهر والباطن والحكم والاحكام وَالْإِنْجِيلَ الغالب فيه ما يتعلق بالباطن وَإِذْ تَخْلُقُ اى تصور وتقدر أنت مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي اى بمقتضى امرى وتعليمي إياك فَتَنْفُخُ فِيها من روحي الذي قد أيدتك به ونفخته فيك فَتَكُونُ طَيْراً طائرا قد طارت بِإِذْنِي وَإذ تُبْرِئُ وتبصر أنت الْأَكْمَهَ المكفوف العينين بإلقاء ريقك في عينيه وَإذ تشفى الْأَبْرَصَ ايضا بدعائك له بِإِذْنِي وَأعظم من الكل إِذْ تُخْرِجُ أنت بإعانة منا لك الْمَوْتى القديمة من قبورهم وتحييهم بتعويذك عليهم ونداءك إياهم بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ ومنعت شر بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ وقت إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحات والمعجزات الباهرات فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من خبث باطنهم إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وما هو الا ساحر عليم وَإِذْ أَوْحَيْتُ وألهمت إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي عيسى بن مريم قالُوا عن صميم فؤادهم آمَنَّا بك وبرسولك وَاشْهَدْ أنت يا ربنا بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ منقادون بدينك ونبيك نستودع عندك يا ربنا هذه الشهادة الى وقت الحاجة اذكر إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ لك حين أرادوا الترقي من مرتبة العلم الى العين يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أضافوه اليه لتحققه في مرتبة العين والحق أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً رزقا معنويا حقيقيا مِنَ السَّماءِ اى من جانب العلو الذي هو مرتبة العين والحق فلما سمع عيسى منهم ما سمع ايس منهم فقطع أمرهم واوجس في نفسه خيفة من الله العزيز الغيور لأنهم ليسوا في تلك الحالة مستعدين للكشف والشهود لذلك قالَ عيسى اتَّقُوا اللَّهَ المتعزز بكمال العظمة والكبرياء عن أمثال هذه الأسئلة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بكمال قدرته وارادته واختياره واستقلاله بالتصرف في ملكه وملكوته قالُوا معتذرين ملتجئين نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ اى نذوق ونستغذي مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وتتمكن أقدامنا في جادة توحيد ربنا وَنَعْلَمَ يقينا عينيا أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في جميع ما أرشدتنا وهديتنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ اى من اهل الشهود والحضور بلا حجاب العلم في البين فلما أحس عيسى ابتلاء الله وافتتانه إياهم بادر الى المناجاة مع الله حيث قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً فرحا وسرورا لِأَوَّلِنا اى متقدمينا وَآخِرِنا اى متأخرينا وَتكون آيَةً نازلة مِنْكَ ننكشف بها بتوحيدك زيادة انكشاف وَارْزُقْنا من لدنك حظا يخلصنا من ظلام اظلالنا وغيوم هوياتنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ على من سبقت عنايتك من عبادك قالَ اللَّهُ المطلع لاستعداداتهم إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ وان لم تكونوا قابلين لها فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ اى بعد نزولها مِنْكُمْ فَإِنِّي بعزتي وجلالي وبكمال حولي وقوتي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ اى لا أعذب مثله أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فكفروا بعد ذلك فمسخوا عن لوازم الانسانية بالمرة وردوا الى مرتبة أرذل الحيوانات واخبثها العياذ بالله من غضب الله وَاذكر إِذْ قالَ اللَّهُ المتعزز بكمال العظمة والكبرياء حين فشا غلو النصارى في حق عيسى وامه ونسبتهما الى الألوهية وقولهم بالتثليث والأقانيم والحلول والاتحاد معاتبا مخاطبا

[سورة المائدة (5) : آية 117]

يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد واعبدوني مثل عبادته أم اتخذوك أولئك المسرفون المفرطون الها من تلقاء أنفسهم قالَ عيسى منزها لله مبعدا نفسه عن أمثاله سُبْحانَكَ اى انزهك تنزيها بليغا عن ان يكون لك شريك ما يَكُونُ وكيف يصح ويليق لِي أَنْ أَقُولَ ما اى قولا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ لائق جائز ان أقول به بل ادوره في خلدي سيما بعد كمال لطفك وإحسانك الى ونهاية فضلك وامتنانك على يا رب وبالجملة إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ اى هذا القول او عزمت عليه حلية او اجلته في صدري فَقَدْ عَلِمْتَهُ البتة يا ربي إذ تَعْلَمُ أنت بعلمك الحضوري عموم ما فِي نَفْسِي وَانا لا أَعْلَمُ شيأ من ما فِي نَفْسِكَ من مقتضيات ذاتك وصفاتك وأسمائك وكمالات شئونك وتجلياتك الا ما علمتني إِنَّكَ أَنْتَ وحدك بخصوصيتك عَلَّامُ الْغُيُوبِ لا احد غيرك يعلم غيبك وانما خاطبه سبحانه بما خاطبه وعاتبه بما عاتبه مع ان الأمر كله معلوم عنده مكشوف لديه حاضر دونه ليوبخ ويقرع على الغالين المتخذين لعلهم يتنبهون بسوء صنيعهم وقبح معاملتهم مع الله المتوحد المتفرد المنزه بذاته عن الأهل والولد الصمد المقدس الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد ثم بسط عيسى عليه السّلام الكلام مع ربه تشفيا وتشوقا فقال ما قُلْتُ لَهُمْ يا ربي قولا إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ وبتبليغه وإيصاله إليهم وهو أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي هو رَبِّي قد أوجدني من كتم العدم ورباني بأنواع اللطف والكرم وَرَبَّكُمْ ايضا أوجدكم من العدم مثلي ورباكم كذلك فيكون نسبة إيجاده سبحانه وتربيته على وعليكم على السواء إذ ما ترى من تفاوت في خلقه وَقد كُنْتُ يا ربي بمقتضى أمرك ووحيك وارسالك عَلَيْهِمْ شَهِيداً حاضرا حافظا احفظهم بتوفيقك عن أمثال هذه الهذيانات الباطلة ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ورفعتني بجودك من حضيض عالم الناسوت الى ما رفعتني من حظائر عالم لاهوتك كُنْتُ بذاتك وأسمائك واوصافك كما كنت قبل ذلك أَنْتَ الرَّقِيبَ المحافظ عَلَيْهِمْ المتولى لأمورهم اصالة وتضلهم وتهديهم وترشدهم وتغويهم وَبالجملة أَنْتَ وان تنزهت وتقدست في ذاتك عن عموم الأمكنة والأكوان عَلى كُلِّ شَيْءٍ قدير من الأمور الكائنة فيها شَهِيدٌ حاضر غير مغيب إذ لا يجرى في ملكك وملكوتك الا ما تشاء حسب شئونك وتجلياتك المترتبة على أسمائك وصفاتك وبالجملة إِنْ تُعَذِّبْهُمْ عدلا منك فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ فلك ان تتصرف فيهم على اى وجه تتعلق ارادتك ومشيتك به وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فضلا وطولا فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عموم الانعام والانتقام الْحَكِيمُ المتقن في إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي ومنعه عنه بلا مشاركة ولا مظاهرة. ثم لما بث وبسط عيسى عليه السّلام مع الله الكلام وبالغ في التفويض والتسليم والرجوع اليه سبحانه في عموم الأمور سيما في امر قومه قالَ اللَّهُ المطلع لعموم ما في استعدادات عباده ولجميع ما يئول اليه عواقب أمورهم مناديا يا عيسى هذا اى يوم الجزاء المعد للعرض والحساب وتنقيد الأعمال يوم لا يكتسب فيه الخير ولا يستجلب النفع ولا يدفع الضر بل يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ اى الذين صدقوا في النشأة الاولى صِدْقُهُمْ السابق فيها لَهُمْ اى لأولئك الصادقين السابقين في هذه النشأة الاخرى التي هي نشأة الجزاء جَنَّاتٌ اى منتزهات المعارف والحقائق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مملوة بمياه العلوم اللدنية التي هي عبارة عن المكاشفات والمشاهدات المثمرة للحياة الازلية الابدية والبقاء

[سورة المائدة (5) : آية 120]

السرمدي خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يتحولون عنها أصلا وبالجملة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لتحققهم بمقام الصدق والإخلاص فيما مضى وَرَضُوا ايضا عَنْهُ سبحانه لإيصالهم الى غاية ما جبلوا لأجله بلا ترقب وانتظار ذلِكَ الوصول والتحقق هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل العميم لأهل العناية الفائزين من عنده بهذه المرتبة العلية ولا تستبعد عن الله أمثال هذه الكرامات سيما مع ارباب المحبة والولاء الباذلين مهجهم في سلوك طريق الفناء فيه إذ لِلَّهِ المستغنى عن عموم الأماكن والأكوان مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إيجادا واعداما وَما فِيهِنَّ من الكوائن والفاسدات فله التصرف فيها بالاستقلال كيف يشاء حسب ارادته واختياره وَهُوَ بذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ من عموم مراداته ومقدوراته قَدِيرٌ فله ان يوصل خلص عباده الى فضاء فنائه بافنائهم عن هوياتهم الباطلة وابقائهم بهوية الحق الحقيقية السارية في عموم الأكوان في كل يوم وآن وشأن خاتمة سورة المائدة عليك ايها المحمدي المتوجه لمرتبة الفناء المثمرة للبقاء الأبدي شكر الله سعيك وأوصلك الى غاية مبتغاك ان تجعل قرينك الرضا في جميع ما جرى عليك من مقتضيات القضاء إذ كل ما يجرى في عالم الكون والفساد انما هو على مراد الله وبمقتضى مشيئته وارادته حسب تجلياته الجمالية والجلالية واللطفية والقهرية. والعارف إذا تحقق بمقام الرضا الذي هو نهاية مراتب العبودية فقد خلص عن قيود الإضافات مطلقا ومتى ارتفعت الإضافات لا يشوشه لا السراء ولا الضراء ولا اللذة ولا العناء ولا الفقر ولا الغناء إذ كل ذلك من لوازم الإمكان وامارات البعد والخذلان. فعليك ان تصفى نفسك من جميع الأمراض الباطنة من العجب والرياء والرعونة والهوى وتلازم العزلة والاعراض عن أبناء الدنيا وعن الالتجاء إليهم والمخالطة معهم وتقلل عن حوائجك وحظوظك سوى سد جوعة وكن ولباس خشن كيف اتفق ولك ان تروض نفسك في زاوية الخمول وكهف القناعة ومنزل الفراغة وإياك إياك ان تصاحب مع اهل البدع والأهواء وتراجعهم سيما في الأمور التي تتعلق بالمعاش المستعار وبالجملة كن في ورطة الدنيا كانت غريب ليس لك ألف وموانسة مع من فيها وما فيها او كعابر سبيل يروح فيها ويغدو بلا تمكن وقرار وبالجملة عد نفسك من اصحاب القبور وافعل فيها مثل ما تشاهد منهم بالنسبة إليها بل موتك الإرادي لا بد ان يكون أعرق في قطع التعلق وترك المألوف عن الموت الصوري لان اكثر الأموات بالموت الصوري يخرجون من الدنيا متحسرين بحسرة عظيمة والعارف المتحقق بمرتبة الموت الإرادي له مسرة عظيمة ولذة دائمة بحيث لو عاد على ما عليه كان يغم غما شديدا بل قد هلك حزنا وكآبة. فلك ان تشمر ذيلك عنها وعن لذاتها بالمرة وتداوم الاستفادة والاسترشاد من كتاب الله وأحاديث رسوله صلّى الله عليه وسلّم وكذا من ملتقطات المشايخ العظام التي استنبطوها منهما بسعي بليغ وجد تام شكر الله مساعيهم وتصرف عنان عزمك عما سواها من الأباطيل الزائغة المنسوبة الى اصحاب الحجج والاستدلالات الضالين بتغريرات عقولهم القاصرة وتزويرات اوهامهم الخاسرة وخيالاتهم الباطلة عن منهج الحق ومحجة اليقين جعلنا الله ممن أيد من عنده فتأيد واطلق عنان عزمه نحو الحق ولم يتقيد بمنه وجوده

سورة الأنعام

[سورة الأنعام] فاتحة سورة الأنعام لا يخفى على المستضيئين المستنيرين من اشعة نور الوجود اللائح عن مشكوة العدم التي هي عبارة عن طلسمات التعينات وشباك الهويات الظاهرة في عالم الكون والفساد المنعكسة من آثار الأسماء والصفات ان سر ظهور كمالات الوجود من سراب العدم انما هو لغاية جلاء الوجود وصفائه الى حيث لم يدرك لو لم يكن في مقابلة مرآة مجلوة يتراءى فيها ما انعكس منه ولو لم يكن له مقابل غير العدم لذلك ما انعكس كمالاته إلا منه والمحجوب المقيد بسجن الطبيعة ما يرى الوجود والموجود الا هذه العكوس المنعكسة والاظلال المرئية المستحدثة في سراب العدم من الأمواج الحادثة في بحر الوجود حسب التجليات الحبية ولم يتفطن الى مبدئها ومنشئها ولهذا عدل عن طريق الحق وضل عن سواء السبيل ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور والمكاشف المشاهد بنور الله المستغرق بمطالعة جماله لا يرى في الوجود الا هو وكل ما ظهر في العالم من الآثار فمن تجلياته المنتشئة من أوصافه الذاتية ومن تطورات أسمائه الكمالية الجمالية والجلالية وسر التكاليف الموردة في الكتب الإلهية والآثار النبوية انما هو للتحقق والتقرب الى ما عليه الوجود الحقي من الاعتدال والاستواء الذي هو صراط الله الا قوم الا عدل لذلك الهم سبحانه خلص عباده الذين تحققوا بوحدة الوجود وانكشفوا بنوره المستقل ان يواظبوا على حمده وثنائه دائما مستمرا ليتمكنوا بمقام الشكر الذي هو أعلى مقام العارف بالله إذ الشكر انما يحصل بقدر رفع حجب التعينات رأسا ورؤية عموم ما ظهر وبطن من نعم الوجود وما يتفرع عليه من مقتضيات الكرم والجود من المنعم الحقيقي والمفضل المعنوي وذلك لا يكون الا بالفناء فيه والبقاء ببقائه ومتى فنى العارف فيه فقد تحقق بمقام الشكر وتكلم لسان حاله ومقاله بشكر منعمه وهو ايضا بحول الله وقوته ولهذا اخبر سبحانه من حمده وشكره لنفسه تعليما لعباده قائلا متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المستغنى بذاته عن عموم الأكوان الرَّحْمنِ عليها بافاضة نور الوجود من محض الجود والامتنان الرَّحِيمِ عليها باقدارها على مواظبة الحمد والثناء له أداء لحق شيء من الانعام والإحسان [الآيات] الْحَمْدُ الثناء المشعر بالاطاعة والانقياد التام المنبئ عن كمال التعظيم والتبجيل الذاتي الصادر عن السنة عموم ما ظهر من شئون الوجود وانعكس من اظلال أسمائه وصفاته ودخل في حيطة الوجود الحق واعترف بتوحيده وحمده حالا ومقالا وباستقلاله وتوحده سبحانه في ملكه وملكوته ازلا وابدا ثابت لِلَّهِ المستقل بالالوهية المتفرد في ربوبيته المستحق بأنواع العبودية ذاتا وصفات وكيف لا يستحق سبحانه بالعبودية والتعظيم إذ هو القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ وقدر السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى علويات الأسماء والصفات الفعالة وسفليات الطبائع والأركان القابلة لآثار العلويات وَجَعَلَ ايضا الظُّلُماتِ اى حجب التعينات وَالنُّورَ اى ظل الوجود المنبسط عليها ثُمَّ بعد ما ظهر اشراق نور الوجود ولمع شمس الذات على صفحات الكائنات المحجوبون الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ اى ستروا بهويتهم الباطلة هوية الحق السارية في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق ازلا وابدا يَعْدِلُونَ يميلون وينحرفون عن طريق الحق واستقلاله جهلا وعنادا وكيف يسترون هويته ويعدلون عن طريقه مع انه هُوَ الخالق الموجد الَّذِي خَلَقَكُمْ وقدر وجودكم أولا مِنْ طِينٍ جماد قريب من العدم ثُمَّ قَضى وقدر أَجَلًا لحياتكم المستعارة الظلية في النشأة الاولى

[سورة الأنعام (6) : آية 3]

وَأَجَلٌ مُسَمًّى مقدر عِنْدَهُ لفنائكم الحقيقي فيه سبحانه في النشأة الاخرى ثُمَّ أَنْتُمْ بعد ما علمتم وتحققتم منشأكم ونشأتكم الاولى الصورية تَمْتَرُونَ تشكون وترددون في النشأة الاخرى المعنوية الحقيقية جهلا وعنادا وَكيف تشكون فيها ايها الشاكون الجاهلون مع انه هُوَ اللَّهُ القادر المقتدر المتوحد المتفرد المتجلى فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ بكمال الاستقلال والاستيلاء يَعْلَمُ منكم بعلمه الحضوري سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ من خير وشر ونفع وضر في نشأتكم الاولى وَمن امارات كفرهم وسترهم وامترائهم ومرائهم ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ عظيمة دالة على توحيد الحق بلسان رسول من الرسل العظام مع انها قد كانت مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ المتوحد في الربوبية إِلَّا كانُوا من غاية كفرهم وجهلهم عَنْها مُعْرِضِينَ ومن غاية اعراضهم والحادهم عن طريق الرشد فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ المطابق للواقع الذي هو القرآن الجامع لَمَّا جاءَهُمْ بلسان من هو أعلى مرتبة ومكانة عند الله وأكمل دينا وأقوم طريقا فكذبوه واستهزؤا به فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ وسيظهر لهم في النشأة الاولى والاخرى أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ واخبار ما يفترون لأنفسهم حين نزول العذاب عليهم في الدنيا بضرب الذلة والمسكنة المستمرة والجزية والصغار المؤبد وفي الآخرة بالعذاب والنكال المخلد أَيشكون في نزول العذاب الآجل والعاجل ويترددون فيه أولئك الشاكون المترددون ولَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ من اهل القرون الماضية كعاد وثمود وغيرهما مع انا قد مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ وقررناهم فيها قادرين على امور عظام وآثار جسام ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ولم نجعل في وسعكم من السعة وطول المكث والترفه والاستيلاء التام وكمال البسطة والرخاء وَمع ذلك أَرْسَلْنَا السَّماءَ اى المطر عَلَيْهِمْ مِدْراراً مغرارا كثيرا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ دائما متجددا تتميما لترفههم وتنعمهم وبالجملة امهلناهم زمانا طويلا كذلك فَأَهْلَكْناهُمْ بعد ذلك بِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم من تكذيب الأنبياء وبعموم ما جاءوا به من لدنا وافسادهم في الأرض بأنواع الفسادات وَبعد ما استأصلناهم بالمرة قد أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ وَبالجملة لا تبال يا أكمل الرسل بتكذيباتهم واقتراحاتهم ولا ترج منهم الايمان بك وبكتابك لأنهم من غاية انهماكهم في الغي والضلال لَوْ نَزَّلْنا من مقام جودنا عَلَيْكَ كِتاباً مكتوبا فِي قِرْطاسٍ ورق فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ حين نزوله لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من خبث بواطنهم وجهلهم الجبلي إِنْ هذا اى ما هذا الذي جئت به إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ عظيم ظاهر سحريته وكذبه إذ الورق لا تنزل من السماء الا بسحر وَايضا قالُوا من شدة شقاقهم ونفاقهم معك يا أكمل الرسل ان كان هذا المدعى نبيا لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يصدق نبوته فنصدقه قل لهم في جوابهم نيابة عنا وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً على مقتضى سنتنا في الأمم الماضية لَقُضِيَ الْأَمْرُ اى لتحقق امر إهلاكهم البتة إذ ما ننزل الملك الا للاهلاك والتعذيب بمقتضى سنتنا المستمرة في الأمم الماضية ثُمَّ بعد نزول الملك لينكرون له ويكذبونه البتة وبعد ذلك لا يُنْظَرُونَ ولا يمهلون ساعة بل يعذبون كالأمم السالفة وَايضا لَوْ جَعَلْناهُ اى الرسول المنزل إليهم مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا اى على صورته إذ لا يمكن للبشر ان يرى الملك على صورته لمهابته لذلك ما جاء جبرائيل عليه السّلام على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الا على صورته دحية الكلبي رضى الله عنه وَايضا لم يمكنهم الاستفادة منه لعدم الجنسية وان أنزلنا

[سورة الأنعام (6) : آية 10]

على صورة البشر لَلَبَسْنا ولخلطنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ اى مثل ما يخلطون على أنفسهم من ان البشر لا يليق بالرسالة فلم يصدقوه ايضا وَبالجملة لا تحزن ولا تضطرب يا أكمل الرسل من إيذائهم واستهزائهم معك واصبر على أذاهم فانه لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فصبروا على ما كذبوا واستهزؤا وأوذوا فَحاقَ وأحاط من الجوانب بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ وبال ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فاهلكوا واستؤصلوا مما استهزؤا وان أنكروا قصة إهلاكهم قُلْ لهم سِيرُوا فِي الْأَرْضِ التي هي مقر الفراعنة ومنزل الاكاسرة والقياصرة ومضرب خيام الخواقين المعتبرة معتبرين ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الذين كذبوا الرسل عتوا وعنادا بحيث لم يبق من رسومهم وآثارهم واطلالهم وارباعهم أصلا مع انهم كانوا اولى قوة وذوى بأس شديد قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا تبكيتا وإلزاما لِمَنْ ما ظهر فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تصرفا وتملكا إيجادا وإظهارا اعداما وافناء قُلْ ايضا أنت يا أكمل الرسل بعد ما بهتوا وتحيروا في الجواب لِلَّهِ المتوحد المتفرد بالتجلى والظهور والتصرف مطلقا إذ قد كَتَبَ أوجب والزم سبحانه عَلى نَفْسِهِ وذاته حين كان ولم يكن معه شيء الرَّحْمَةَ العامة اى التجلي والاستيلاء بمقتضى اسمه الرّحمن العام على عروش درائر الأكوان المنعكسة من أوصافه الذاتية لَيَجْمَعَنَّكُمْ سبحانه ايها العكوس والاظلال بمقتضى اسمه الرّحيم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ التي هي الطامة الكبرى المرتفعة فيها نقوش الغير والسوى مطلقا واعلموا انه لا رَيْبَ فِيهِ اى في جمعه ورفعه عند ذوى البصائر والنهى المتأملين في سرائر الظهور والإظهار والبطون والإخفاء واما القوم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ باقتصار النظر في هذه الاظلال والتماثيل الزائغة الزائلة التي لإقرار لها ولا مدار للذاتها وشهواتها أصلا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالرجوع الى مأمن التوحيد ومقر التجريد والتفريد وأولئك هم الضالون في تيه الحرمان الباقون في ظلمة الإمكان وَكيف تنكرون جمعه وتوحيده سبحانه مع ان لَهُ ما سَكَنَ اى عموم ما بطن فِي اللَّيْلِ اى مرتبة الباطن والغيب المطلق وَكذا ما ظهر وانكشف في النَّهارِ اى مرتبة الظاهر والشهادة المطلقة وَهُوَ بذاته السَّمِيعُ بكل ما سمع الْعَلِيمُ بكل ما علم وأدرك لا يخفى عليه شيء مما ظهر وبطن قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر توحيد الحق واثبت له شريكا ومع ذلك يريد ان يرغبك الى الشرك عتوا وعنادا إلزاما له وتبكيتا أَغَيْرَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له أصلا أَتَّخِذُ وَلِيًّا مولّيا ووكيلا لا كون مشركا مثلك مع كونه سبحانه فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى موجدهما ومظهرهما من كتم العدم بالاستقلال بلا مظاهرة ومشاركة وَهُوَ يُطْعِمُ المحتاجين وَلا يُطْعَمُ لتنزهه عن الاكل والشرب خص سبحانه بعدم الاتصاف بهذه الصفة لأنها من أقوى اسباب الإمكان وأجل امارات الحدوث وأظهرها والباقي متفرع عليها قُلْ يا أكمل الرسل المرسل لعموم البرايا إِنِّي أُمِرْتُ من عند ربي أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وأطاع وانقاد واظهر التوحيد الذاتي وادعوا الناس جميعا اليه وَايضا قد نهيت انا خاصة على وجه المبالغة والتأكيد من عنده سبحانه بقوله لا تَكُونَنَّ أنت يا أكمل الرسل بحال من الأحوال وشأن من الشئون مِنَ الْمُشْرِكِينَ المثبتين الوجود لغير الحق اصالة من الاظلال والعكوس وبعد ما أمرت يا أكمل الرسل بما أمرت ونهيت ايضا عما نهيت قُلْ لمن تبعك لعلهم ينتبهون ايضا إِنِّي بعد ما تحققت بمقام

[سورة الأنعام (6) : آية 16]

الكشف والشهود أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي وخرجت عن مقتضى توحيده الذاتي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم العرض الأكبر الذي تجزى فيه كل نفس بما تسعى مَنْ يُصْرَفْ العذاب عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ الحق له وحققه بمقام الكشف والشهود وَذلِكَ التحقق والانكشاف هو الْفَوْزُ الْمُبِينُ لأهل العناية والوصول وَبعد ما تحققت أنت يا أكمل الرسل بمقام المعرفة وتقررت في مقر التوحيد إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ المدبر المراقب عليك بِضُرٍّ بلية وعناء لحكمة ومصلحة فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ إذ لا شيء سواه ولا متصرف غيره وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ عطية وغناء وبذل وعطاء فَهُوَ ايضا منه إذ هو عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الخير والشر والنفع والضر قَدِيرٌ مقتدر يحيط قدرته بعموم المقدورات والمرادات وَكيف لا يكون قديرا على كل ما أراد إذ هُوَ الْقاهِرُ العزيز الغالب فَوْقَ عِبادِهِ يتصرف فيهم كيف يشاء بالإرادة والاختيار وَهُوَ الْحَكِيمُ المتقن في تدبيراتهم الْخَبِيرُ بحوائجهم يعطيهم ما ينبغي لهم ويمنعهم عما يضرهم بالإرادة والاختيار وان جادلوك واستشهدوا منك شاهدا على نبوتك ورسالتك قُلْ لهم إلزاما وتبكيتا أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ وأتم شَهادَةً من الله قُلْ بعد ما تعين ذلك اللَّهُ المحيط بعموم مظاهره ومصنوعاته شَهِيدٌ حاضر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمن جملة شهادته وحضوره انه قد أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ الجامع لفوائد الكتب السالفة من عنده لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ايها المكلفون الموجودون حين نزوله عما يضركم ويغويكم وأبشركم به بما ينفعكم ويهديكم وَكذا مَنْ بَلَغَ له خبر وحيه ونزوله من الأسود والأحمر الى انقراض النشأة الاولى إذ انا ما أرسلت الا الى كافة البرايا بشيرا ونذيرا على مقتضى التوحيد الذاتي أَإِنَّكُمْ ايها المنهمكون في بحر الحيرة والضلال لَتَشْهَدُونَ بعد وضوح البرهان أَنَّ مَعَ اللَّهِ المتوحد بذاته المستقل بالالوهية آلِهَةً أُخْرى مشاركة له في ملكه ووجوده قُلْ لا أَشْهَدُ انا ما تشهدون به أنتم ظلما وزورا بل قُلْ بمقتضى ما كوشفت به إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ متفرد بالالوهية والربوبية ليس لغيره وجود حتى يشارك معه بل لا موجود الا هو ولا اله سواه وَبالجملة إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أنتم بالله الواحد الأحد من الاظلال الباطلة والتماثيل العاطلة ثم قال سبحانه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ من اليهود والنصارى يَعْرِفُونَهُ اى محمدا صلّى الله عليه وسلّم بحليته وأوصافه المذكورة في كتبهم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بلا شائبة شك ووهم وبالجملة الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالشرك والتحريف فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ به وبنبوته ورسالته عنادا ومكابرة وَمَنْ أَظْلَمُ عند الله وأوجب للبطش والانتقام مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وحرف كتابه عنادا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ المنزلة على رسوله المبين لطريق توحيده مكابرة بلا سند ودليل عقلي او نقلي ومع ذلك يطلبون ويتوقعون الفوز والفلاح من عنده سبحانه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى العقل والنقل التاركون ايضا متابعة من أيده الحق وأرسله الى الخلق لإشاعة توحيده وتبليغ أحكامه اللائقة بوحدة ذاته ولإزاحة الشرك وإزالته بالمرة وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ ونجمعهم جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا استهزاء وتفضيحا وتعريضا لهم على رؤس الملأ أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ انهم آلهة مستحقة للعبادة والايمان وتعتقدون انهم يشفعون لكم وينقذونكم من العذاب ائتوا بهم واحضروهم لينقذوكم من عذابنا ثُمَّ بعد ما سمعوا ما سمعوا لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ

[سورة الأنعام (6) : آية 24]

وحيلتهم للخلاص إِلَّا أَنْ قالُوا مقسمين معتذرين وَاللَّهِ رَبِّنا وبحقك يا مولانا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ لك غيرك عابدين لسواك انْظُرْ ايها المعتبر الرائي كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في مقعد الصدق ومحل اليقين وَانظر ايضا كيف ضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عن نظرهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ به على الله من الشركاء الذين يعتقدون انهم شفعاء عند الله يخلصونهم من عذاب الله وَمِنْهُمْ اى من جملة أولئك المشركين المعتذرين مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل حين تلاوتك القرآن وهم وان لم يفهموه قد أنكروا عليه واستهزؤا به عنادا ومكابرة كيف يفهمونه وَقد جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً اى اغطية واغشية كثيفة كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وصمما يمنع عن استماعه وَمن غاية انكارهم وعنادهم إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ دالة على توحيد الحق وتمجيده لا يُؤْمِنُوا بِها عنادا ومكابرة حَتَّى إِذا جاؤُكَ من افراط عتوهم وعنادهم يُجادِلُونَكَ في آيات الله بما لا يليق بشأنها حيث يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا سترا للحق وترويجا للباطل إِنْ هذا اى ما هذا الكتاب الذي اتى به محمد إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وأكاذيبهم القديمة انما سطروها لتضليل ضعفاء العوام وَهُمْ بهذا الطعن والقدح يَنْهَوْنَ عَنْهُ اى يقصدون إضلال المسلمين عن متابعة الرسول والايمان به وبكتابه وَلكن لا يعلمون انهم في أنفسهم يَنْأَوْنَ عَنْهُ اى يبعدون عنه وعن هدايته عتوا واستكبارا وَإِنْ يُهْلِكُونَ اى ما يهلكون بهذا التضليل والخداع إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ان ضرر اضلالهم وخداعهم لا يتجاوز عنهم لأنهم هم قد ختم الله العليم الحكيم على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم في الدنيا والآخرة وَلَوْ تَرى ايها الرائي إِذْ وُقِفُوا اى حين أشرفوا عَلَى النَّارِ وتحققوا الوقوع والإيقاع عنوة وعنفا لرأيت امرا فظيعا فجيعا فَقالُوا حينئذ من غاية تفزعهم وتفجعهم متمنين يا لَيْتَنا نُرَدُّ على أعقابنا التي قد كنا فيها وَلا نُكَذِّبَ يومئذ بِآياتِ رَبِّنا التي قد جاءتنا فيها فكذبناها عتوا واستكبارا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بمن جاءنا بها بَلْ بَدا وظهر لَهُمْ ومنهم حينئذ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ من حقية الكتب والرسل عنادا واستكبارا فتمنوا حين البأس واليأس ضجرا لا عزما صادقا صحيحا بحيث لو ردوا لآمنوا البتة بل وَالله لَوْ رُدُّوا اى لو فرض ردهم الى الدنيا بعد علمهم ووقوفهم على اهوال الآخرة لما آمنوا ايضا بل لَعادُوا ورجعوا البتة من خبث طينتهم لِما نُهُوا عَنْهُ يعنى الى الكفر ايضا عنادا ومكابرة وَبالجملة إِنَّهُمْ في هذا التمني ايضا لَكاذِبُونَ البتة لكون جبلتهم واصل فطرتهم على الكذب لا يزول عنهم أصلا وَكيف لا يكونون مجبولين على فطرة الكذب والعناد إذ هم قالُوا من خبث بواطنهم حين دعاهم الرسول الى الايمان بالله وباليوم الآخر إِنْ هِيَ اى ما الحيوة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا اى التي كنا عليها فيها وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ من قبورنا كما زعم هؤلاء السفهاء وَلَوْ تَرى ايها المعتبر الرائي إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ اى حين وقفوا وصفوا عند ربهم ليحاسبوا بما عملوا لرأيتهم حيارى سكارى مضطرين مضطربين قالَ لهم حينئذ سبحانه من وراء سرادقات العز والإجلال تقريعا وتوبيخا أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ ايها الحمقاء الكافرون المكذبون به قالُوا بعد ما كوشفوا وعوينوا معتذرين متفجعين مصدقين مقسمين بَلى وَرَبِّنا قد آمنا به وصدقنا قالَ سبحانه منكرا عليهم مقرعا الآن لن ينفعكم ايمانكم ايها المسرفون المفرطون فيما مضى

[سورة الأنعام (6) : آية 31]

بل فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وتكذبون به في النشأة الاولى التي هي دار الفتن والاختبار. ثم قال سبحانه توبيخا لهم وتقريعا قَدْ خَسِرَ وخاب خيبة ابدية الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ المتجلى في عموم الأنفس والآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق سيما بعد نزول الآيات الدالة عليه وارشاد الرسل والأنبياء والأولياء لهم اليه حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ المعدة للعرض والجزاء بَغْتَةً فجاءة قالُوا بعد ما انكشفوا به وتيقنوا له متحسرين خائبين خاسرين يا حَسْرَتَنا كلمة تحسر وتأسف عَلى ما فَرَّطْنا فِيها اى في النشأة الاولى من الإنكار والتكذيب وعدم الايمان وَهُمْ في تلك الحالة يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ وآثامهم اى وبالها وما يترتب عليها عَلى ظُهُورِهِمْ خائبين محرومين عن مطالعة وجه الله الكريم أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أولئك البعداء الوازرون المفرطون في الدنيا ويحرمون به في العقبى عن لقاء المولى وَبالجملة مَا الْحَياةُ الدُّنْيا التي هم يحصرون الحيوة عليها ويحرمون أنفسهم عن الحيوة الحقيقية لأجلها إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ يلعب بهم ويلهيهم ويشغلهم عن الحيوة الازلية الابدية السرمدية وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ وحياتها الحقيقية ولذّاتها المعنوية خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ عن محارم الله ومنهياته في الحيوة الصورية أَفَلا تَعْقِلُونَ ولا تميزون ايها العقلاء المميزون بين الحياتين ولا تعلمون اى اللذتين خير لكم وألذ عندكم وأدوم دونكم. ثم قال سبحانه قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ اى الشان لَيَحْزُنُكَ ويؤذيك القول الَّذِي يَقُولُونَ في حقك يا أكمل الرسل أولئك المعاندون المكابرون من انك كاذب ساحر مجنون شاعر وغيرها لا تبال بهم وبقولهم فَإِنَّهُمْ في الحقيقة لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن حدود الله المنصرفين عن مقتضى أحكامه بِآياتِ اللَّهِ المنزلة عليك من عنده سبحانه لهداية التائهين من عباده يَجْحَدُونَ ينكرون ويعاندون جحودا وعنادا على سبيل الإصرار والاستكبار وبالجملة فاصبر على أذاهم يا أكمل الرسل الى ان يحل عليهم غضب من الله المنتقم الغيور وَالله يا أكمل الرسل لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ مثل ما كذبت أنت فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا الذي قد وعدناهم ونصرناهم وانتقمنا لهم عن عدوهم فكانوا هم الغالبين المقصورين على الغلبة والنصر وَبالجملة لا تيأس من نصر الله وتأييده لك من امهال الله إياهم إذ لا مُبَدِّلَ ولا محول لِكَلِماتِ اللَّهِ المنتقم المقتدر التي قد سبقت منه سبحانه لنصر أنبيائه ورسله وَكيف تيأس أنت وتقنط لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ومن قصصهم وحكاياتهم المشهورة المعروفة ما يكفيك عن التردد فيه وَإِنْ كانَ قد كَبُرَ وشق عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ عن الايمان والانقياد لك وضاق صدرك وقل صبرك من عدم ايمانهم بك وحضورهم عندك فَإِنِ اسْتَطَعْتَ من غاية حرصك لإيمانهم وانقيادهم أَنْ تَبْتَغِيَ وتطلب أنت نَفَقاً ومنفذا فِي الْأَرْضِ وتأتى اليه أَوْ سُلَّماً ومرقاة فِي السَّماءِ لتعرج نحوها فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ يعنى حتى تأتيهم بآية دالة على الجائهم الى الايمان فافعل على مقتضاها والا فاصبر حتى يأتى الله بامره من عنده إذ الأمور مرهونة بأوقاتها ومالك الا التبليغ وَبالجملة لَوْ شاءَ اللَّهُ الحكيم العليم هدايتهم لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ أنت مِنَ الْجاهِلِينَ بان الأمور كلها بيد الله واختياره يهدى من يشاء ويضل من يشاء فلا تحرص على ايمانهم وهدايتهم ولا تجتهد فيما لا يسع فيه جهدك وطاقتك لأنك لا تهدى من أحببت هذا تأديب من الله لرسوله وتنبيه منه عليه وأمثال هذا في القرآن كثيرة

[سورة الأنعام (6) : آية 36]

فكيف تتطلب وتتوقع أنت هدايتهم ايها الرسول الداعي إِنَّما يَسْتَجِيبُ اى ما يطلب اجابة الدعوة وقبولها الا الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الدعوة عن رضى ويلقون السمع وقلوبهم حاضرة بفهمها وهم بأنفسهم يطلبون الحيوة الحقيقية وهؤلاء الهلكى ليسوا من الطالبين للحياة الحقيقية بل ما هم الا الموتى حقيقة وان كانوا في صورة الأحياء وَالْمَوْتى صورة يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ القادر المقتدر في النشأة الاخرى ويحييهم بالحيوة الحقيقية في يوم الحشر والجزاء حتى يطلعوا حينئذ على ما فاتهم في النشأة الاولى لكن ما تنفعهم تلك الحيوة والاطلاع الا الحسرة والندامة على ما فات عنهم في دار العمل والاختبار ثُمَّ بعد ما أحياهم واطلعهم سبحانه إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال يُرْجَعُونَ ويساقون لجزاء ما عملوا في الدنيا من تكذيب الآيات والرسل ومن الاستهزاء بهم وَمن غاية بغضهم وعنادهم معك يا أكمل الرسل قالُوا اى بعضهم لبعض ان كان محمد نبيا صلّى الله عليه وسلّم لَوْلا وهلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ اى آية اقترحناها منه او آية تلجئنا الى الايمان به او آية تستأصلنا بالمرة مع ان دعواه ان ربه يقوى ويقدر على جميعها قُلْ لهم يا أكمل الرسل إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء قادِرٌ بالقدرة الغالبة التامة الكاملة عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً من أية آية اقترحتموها أنتم متى تعلقت ارادته ومشيئته وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ان الله فعال لما يريد ولو أنزلها لأنزل البتة عقيبها البلاء كما انزل على الأمم الماضية وَكيف لا يقدر سبحانه على عموم المرادات والمقدورات مع انه ما مِنْ دَابَّةٍ تتحرك فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ في الجو بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ محفوظة أحوالها وأرزاقها وآجالها عندنا بحيث لا نهمل شيأ من حوائجها بل تثبت ونكتب الكل في لوحنا المحفوظ وكتابنا المبين على التفصيل بحيث ما فَرَّطْنا وأفرطنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ من حوائجهم وأحوالهم ثُمَّ بعد ما حفظوا ورزقوا زمانا حسب تعيناتهم وهوياتهم إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ويرجعون رجوع الظل الى ذي الظل وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على قدرتنا الغالبة الكاملة صُمٌّ عن استماع كلمة الحق من السنة الرسل وَبُكْمٌ عن التنطق بها مع انهم قد تيقنوا بها وبالجملة هم مغمورون فِي الظُّلُماتِ اى الحجب الكثيفة الناشئة من هوياتهم الباطلة وهياكلهم الفاسدة العاطلة وبالجملة مَنْ يَشَأِ اللَّهُ المدبر الحكيم إضلاله بمقتضى اسمه المذل المضل يُضْلِلْهُ حتما بلا تأثير هداية وارشاد أصلا وَمَنْ يَشَأْ هدايته يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيده بلا تأثير ضلال وإضلال مطلقا إذ كل ميسر لما خلق له قُلْ لهم يا أكمل الرسل امحاضا للنصح أَرَأَيْتَكُمْ اى أخبروني صريحا إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ في يوم الجزاء أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ الموعودة التي أنتم تحشرون فيها الى الله هائمين حائرين أَغَيْرَ اللَّهِ المنقذ من العذاب المنجى من الحيرة والهيمان تَدْعُونَ للانقاذ والإنجاء أم تدعونه تضرعا وتلتجئون نحوه استعاذة بينوا الى أمركم في حين اضطراركم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في الأقوال والاخبار بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ وتتضرعون إذ لا ملجأ ولا ملاذ لكم سواه فَيَكْشِفُ عنكم ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ من الضر والبلاء إِنْ شاءَ وتعلق مشيته وارادته وَلا شك انكم تَنْسَوْنَ حينئذ ما تُشْرِكُونَ له من الاظلال الباطلة والتماثيل العاطلة وقل لهم ايضا متى سمعتم مآل أمركم وغاية حالكم وشأنكم فتضرعوا الى الله في جميع أحوالكم والتجؤا نحوه ومع ذلك لم يقبلوا منك قولك ونصحك البتة لخبث

[سورة الأنعام (6) : آية 42]

باطنهم وَاعلم انا لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا من مقام جودنا ولطفنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ وايدناهم بآيات ظاهرة ومعجزات باهرة فكذبوهم فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ رجاء ان يتضرعوا إلينا ويلتجئوا نحونا فلم يتضرعوا ولم يلتجئوا فَلَوْلا وهلا إِذْ جاءَهُمْ اى لهؤلاء المصرين المعاندين بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وما هو من عدم تأثرهم من البأساء والضراء بل يتأثرون وينزعجون وَلكِنْ قد قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وغلظت غشاوتهم وَزَيَّنَ اى حبب وحسن لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عدم المبالات بآيات الله وتكذيب رسله والاعراض عن دينه فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ من البأساء والضراء ولم يتذكروا ولم يتعظوا بها فَتَحْنا عَلَيْهِمْ ابتلاء وفتنة أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ نافع لهم وخير وامهلناهم عليها زمانا حَتَّى إِذا فَرِحُوا واعجبوا بِما أُوتُوا مترفهين متنعمين بطرين مغرورين بالنعم ناسين المنعم بالمرة أَخَذْناهُمْ بأنواع البلاء بَغْتَةً فجاءة فَإِذا هُمْ حينئذ مُبْلِسُونَ متحسرون آيسون خائبون محرومون فَقُطِعَ واستؤصل هكذا دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وصاروا بترا مقطوعين العقب بحيث لم يبق من خلفهم من استخلفهم واستدبرهم وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على هلاكهم واستئصالهم الى حيث لم يبق منهم ومن شؤم كفرهم ونفاقهم على وجه الأرض شائبة قُلْ لهم يا أكمل الرسل ايضا امحاضا للنصح لعلهم ينتبهون أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ فاصمكم وَأَبْصارَكُمْ فاعماكم وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بغطاء الغفلة بحيث لا تحسون ولا تفهمون شيأ أصلا مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ الواحد الأحد القادر المقتدر يَأْتِيكُمْ ويرجعكم بِهِ اى بالمأخوذ انْظُرْ ايها الناظر المعتبر كَيْفَ نُصَرِّفُ ونكرر لهم الْآياتِ كي يتنبهوا تارة عقلا وتارة تذكيرا وعظة وتارة عبرا وأمثالا ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ اى ثم انظر كيف يعرضون عن جميعها من قساوة قلوبهم وخبث طينتهم قُلْ لهم ايضا أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ المنتقم الغيور بَغْتَةً بلا سبق مقدمة وامارة أَوْ جَهْرَةً اى بسبق المقدمات والأمارات هَلْ يُهْلَكُ اى ما يهلك بأمثال هذا العذاب الفجائى والجهرى إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى أوامر الله ونواهيه الجارية على السنة رسله المؤيدين من عنده وَكيف لا نهلك الظالمين ولا نعذبهم إذ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ لمن آمن بنا وامتثل باوامرنا واجتنب عن نواهينا وَمُنْذِرِينَ لمن لم يؤمن ولم يمتثل ولم يجتنب فَمَنْ آمَنَ منهم بعد ما سمع الدعوة من السنة الرسل وَأَصْلَحَ بالإيمان والتوبة ما أفسد من قبل من الكفر والعصيان فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين وصولهم إلينا وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من سوء المنقلب والمآب وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة على رسلنا ولم يعملوا بمقتضاها منكرين عليها يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ اى يحيطهم العذاب من جميع جوانبهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بشؤم فسقهم وخروجهم عن مقتضى الأوامر والنواهي قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة تليينا لقلوبهم القاسية لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ العليم الحكيم اى جميع مراداته ومقدوراته وَلا أَعْلَمُ انا ايضا الْغَيْبَ اى جميعه إذ هما مما استأثر الله به لا يحوم حوله احد من خلقه وَايضا لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إذ انا بشر من جنسكم بل أقول لكم إِنْ أَتَّبِعُ اى ما اتبع وما اقتدى إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ من عنده سبحانه لابلغكم وأخبركم باذنه والهداية والضلال بيد الله الكبير المتعال يهدى من يشاء ويضل من يشاء وان أنكروا لياقة البشر لوحى الله

[سورة الأنعام (6) : آية 51]

والهامه قُلْ لهم على سبيل الإلزام هَلْ يَسْتَوِي عندكم البشر الْأَعْمى عن مطالعة عجائب مصنوعات الحق وغرائب مخترعاته وَالبشر الْبَصِيرُ المطالع المشاهد لها أَتشكون في ان ما بينهما من التفاوت الفاحش فَلا تَتَفَكَّرُونَ ولا تتأملون حتى ينكشف ويتميز عندكم الحق الصريح من الباطل الزائل الزائغ وَبالجملة أَنْذِرْ بِهِ اى بما يوحى إليك يا أكمل الرسل المؤمنين الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ وهم في أنفسهم معتقدون ان لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ يولى أمرهم غيره وَلا شَفِيعٌ يشفع لهم عنده حتى ينقذهم من عذابه لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لكي يتقوا ويحسنوا العمل لرضاه وَبعد ما أرسلناك يا أكمل الرسل لترويج الحق وتقوية اهله لا تَطْرُدِ ولا تبعد من عندك الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ اى في جميع اوقات النهار وَالْعَشِيِّ اى في جميع اوقات الليل وبالجملة هم مستغرقون جميع أوقاتهم بالتوجه نحوه سبحانه ما يُرِيدُونَ وما يقصدون بتوجههم هذا غير ان يطالعوا وَجْهَهُ الكريم وبالجملة لا تطرد هؤلاء الكرام من عندك بسبب ميلك الى ايمان اهل البدع والأهواء ومصاحبتهم ومجالستهم مع انهم ليسوا من اهل الفلاح ولا قابلين له بالإرشاد والإصلاح بل ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ وايمانهم مِنْ شَيْءٍ يعود إليك نفعه وايضا وَما مِنْ حِسابِكَ وإيمانك عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ينفعهم او يضرهم بل كل منك ومنهم مجزى بما عمل مسئول محاسب عما فعل مالك فَتَطْرُدَهُمْ اى هؤلاء المؤمنين المريدين وجه الله في عموم أوقاتهم وحالاتهم سيما لأجل أولئك الحمقاء المنهمكين في الغي والضلال فَتَكُونَ أنت بواسطة طردهم وتبعيدهم مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى العقل والشرع والمروة بالمرة روى ان قريشا قالوا لو طردت يا محمد هؤلاء السفلة أرادوا عمارا وصهيبا وسلمان وغيرهم من ضعفاء الأصحاب قد جلسنا إليك وحادثنا معك فقال عليه السّلام ما انا بطارد المؤمنين قالوا فاقمهم عن مجلسنا حين جلسنا معك. قال له عمر رضى الله عنه لو فعلت حتى ننظر الى ماذا يصيرون فقبل عليه السّلام قالوا فاكتب بذلك كتابا فدعا بالصحيفة وبعلى ليكتب فنزلت اى الآية فالقى عليه السّلام الصحيفة من يد وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ اى مثل ما فتنا بعض الناس ببعض في الأمور المتعلقة بمعاش الدنيا من المال والجاه والرياسة فتناهم في امور دينهم ايضا لِيَقُولُوا من غاية استبعادهم واستحقارهم أَهؤُلاءِ الضعفاء الفقراء الأراذل قد مَنَّ اللَّهُ المنعم المفضل عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا قال سبحانه توبيخا وتقريعا لهم بل هم أولئك الفقراء الصابرون على بلاء الله الشاكرون لنعمائه أَلَيْسَ اللَّهُ العالم بضمائر عباده بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ الصابرين منهم ومنكم ايها الشرفا الكافرون لنعمه وَإِذا جاءَكَ يا أكمل الرسل اى المؤمنون الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا ويمتثلون بها بالغداة والعشى وهم يريدون وجهنا فَقُلْ لهم قبل تسليمهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ ايها المقبولون عند الله الراضون المرضيون ثم بشرهم بأنه قد كَتَبَ اى قضى وأوجب رَبُّكُمْ لاجلكم عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ والشفقة والمرحمة الى حيث أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً به يسيء نفسه عند الله مع كونه صادرا عنه تلك المساءة بِجَهالَةٍ لا عن قصد وإصرار ثُمَّ بعد ما علم وخامة عاقبته تابَ مِنْ بَعْدِهِ واستغفر ربه منيبا اليه وَأَصْلَحَ بالتوبة ما أفسد بالجهالة فَأَنَّهُ سبحانه غَفُورٌ يستر تلك المعصية عنكم رَحِيمٌ يقبل توبتكم بسبب إخلاصكم فيها وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ ونوضح الْآياتِ ليظهر طريق الحق وَلِتَسْتَبِينَ وتتميز سَبِيلُ

[سورة الأنعام (6) : آية 56]

الْمُجْرِمِينَ المنحرفين عن منهج الرشد ومسلك السداد وعن طريق اهل الحق قُلْ يا أكمل الرسل للمشركين الذين يعبدون آلهة غير الله إِنِّي نُهِيتُ وزجرت وصرفت بالدلائل القاطعة الدالة على توحيد الحق وكذا بالكشوف والمشاهدات الواردة الى من عنده سبحانه الصارفة عن الميل والتوجه الى الغير والسوى مطلقا أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ وتسمون أنتم ايها المسرفون المفرطون مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الهة باطلة باهويتكم الفاسدة قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ التي اخترعتموها أنتم من تلقاء انفسكم الهة وان اتبعت بمتابعتكم تلك التماثيل العاطلة قَدْ ضَلَلْتُ انا إِذاً مثل ما قد ضللتم أنتم وَبعد ما ضللت ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أصلا في شيء من الهداية كمثلكم قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ واضحة مِنْ معرفة رَبِّي وتوحيده وَأنتم قد كَذَّبْتُمْ بِهِ وبتوحيده وأشركتم له غيره واستوجبتم العقوبة العظيمة بشرككم ومع ذلك قد استهزأتم بي باستعجال العذاب مع انه ما عِنْدِي وليس بيدي وقبضة قدرتي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب والنكال بل إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ الحكيم العليم وما الأمر الا له وبيده وتحت قبضة قدرته ومشيته هو يَقُصُّ الْحَقَّ ويحكم فيه وهو يدمغ الباطل ويدفعه وَبالجملة هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ الحاكمين في عموم الوقائع والخطوب وجميع المصائب والملمات قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي وتحت قدرتي وبمقتضى مكنتى وطاقتي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من نزول العذاب والعقاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ اى لأهلككم اليوم بالمرة ولا رفع النزاع الواقع بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَلكن ليس لي هذه القدرة والمكنة بل اللَّهُ المطلع بسرائر عباده أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ المستوجبين للعذاب والنكال يأخذهم بظلمهم متى تعلقت ارادته وَكيف لا يعلم ولا يطلع سبحانه على سرائر الأمور ومخفياتها إذ عِنْدَهُ وتحته قدرته وارادته مَفاتِحُ مطلق الْغَيْبِ ومقاليد عموم السرائر والخفيات لا يَعْلَمُها ولا يعلم اوقات ظهورها من الغيب الى الشهادة إِلَّا هُوَ إذ هو المحيط بجميع ما كان وما يكون ازلا وابدا حيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء ثم لما كانت الافهام قاصرة عن ادراك الغيب تنزل سبحانه عن تلك المرتبة الى ما هو اقرب الى الافهام فقال وَيَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ من الكائنات والفاسدات وتنزل منها ايضا فقال وَما تَسْقُطُ وتهوى مِنْ وَرَقَةٍ من اغصان الشجر إِلَّا يَعْلَمُها كيف تنزل ومتى تنزل والى اين تنزل ولأي شيء تنزل وَلا حَبَّةٍ ساقطة فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ اى مكا منها ومطاويها الى ان تصل الى مرتبتها الاصلية التي كانت عليها قبل سقوطها وَبالجملة لا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ من الكوائن والفواسد إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو عبارة عن حضرة علمه الحضوري المتحد بعينه وذاته الظاهرة في نفسها المظهرة لنفسها بنفسها إذ لا هو الا هو ولا شيء سواه ليس مثله شيء ولا دونه حي وَكيف يخرج عن حيطة علمه شيء من الكائنات والفاسدات إذ هُوَ القادر المقتدر الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ اى يستر ويغيب استعداداتكم بِاللَّيْلِ اى في مقر البطون والغيب المطلق وَفي تلك المرتبة يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما جَرَحْتُمْ اى كسبتم واكتسبتم باستعداداتكم الجبلية وقابلياتكم الفطرية بِالنَّهارِ اى في فضاء البروز وعالم الشهادة من المعارف والحقائق المقتضية الباعثة للظهور والإظهار لو ظهرتم ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ويظهركم في فضاء الظهور وعالم الشهادة لِيُقْضى ويتم أَجَلٌ مُسَمًّى مقدر عنده لاكتسابكم

[سورة الأنعام (6) : آية 61]

واقترافكم وظهور ما في استعدادكم ثُمَّ بعد انقضاء الأجل المسمى إِلَيْهِ لا الى غيره مَرْجِعُكُمْ رجوع الظل الى ذي الظل ثُمَّ بعد رجوعكم اليه يُنَبِّئُكُمْ اى يخبركم ويجازيكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وتكسبون في نشأة ظهوركم وشهادتكم من الأعمال الصالحة للقبول والثواب والفاسدة المستوجبة للرد والعقاب وَبالجملة عليكم ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة ان لا تغفلوا عن مقتضيات توحيد الله ولا تخرجوا عن امتثال أحكامه الجارية على السنة رسله إذ هُوَ الْقاهِرُ القادر المقتدر العزيز الغالب فَوْقَ عِبادِهِ الرقيب المحافظ المراقب عليهم يحفظهم عما لا يعنيهم وَمن جملة محافظته سبحانه انه يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً من الملائكة يكتبون ويجمعون عموم ما صدر عنكم حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ اى الوقت الذي قدر الله المدبر الحكيم لانقضاء الأجل المسمى عنده تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا اى قد وفى عليه حسابه الملائكة الموكلون منا وَهُمْ اى الرسل الأمناء الموكلون لا يُفَرِّطُونَ ولا يفرطون ايضا أصلا فيما صدر عنهم ثُمَّ بعد ما وفي الرسل حسابهم على الوجه الا عدل الا قوم رُدُّوا للجزاء إِلَى اللَّهِ المجازى الذي هو مَوْلاهُمُ الْحَقِّ العدل السوى القائم بالقسط العالم بجميع احوال عباده ليجازى كلا منهم على مقتضى علمه وخبرته أَلا لَهُ الْحُكْمُ والأمر والجزاء وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ لاعمال عباده بحيث لا يغيب عن حفظه وحسابه شيء منها قُلْ لهم يا أكمل الرسل مَنْ يُنَجِّيكُمْ ويخلصكم مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ اى من شدائدها وأهوالها حين تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً متضرعين مجاهرين وَخُفْيَةً مناجين مسرين قائلين لَئِنْ أَنْجانا بلطفك يا مولانا مِنْ هذِهِ الأهوال والمخاوف لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمك الصارفين لها الى مقتضى ما امرتنا به ورضيت عنا بصرفها قُلِ اللَّهُ المصلح لعموم أحوالكم يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَكذا مِنْ كُلِّ كَرْبٍ هم وغم قد الم بكم ثُمَّ بعد ما أنجاكم الله ايها المنهمكون في بحر الضلال أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ به سبحانه ما لا وجود له من العكوس والاظلال والتماثيل العاطلة وتكفرون بنعمة العقل المفاض من عنده لتتنبهوا به الى توحيده قُلْ هُوَ الْقادِرُ المقتدر عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً نازلا مِنْ فَوْقِكُمْ مثل الرعد والبرق والصواعق الكائنة في الجو أَوْ حادثا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ مثل الزلزلة والغرق وغير ذلك أَوْ يَلْبِسَكُمْ ويخلط عليكم اهوائكم ويجعلكم شِيَعاً فرقا متخالفة متقابلة وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالقتل والسبي والاجلاء انْظُرْ ايها الرائي كَيْفَ نُصَرِّفُ نجدد ونكرر لهم الْآياتِ اى دلائل توحيدنا وشواهده لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ رجاء ان يتفطنوا الى سرائر توحيدنا وسريان هويتنا الذاتية في مظاهرنا ومع ذلك لم يتنبهوا وَمن عدم تنبههم وتفطنهم قد كَذَّبَ بِهِ اى بعموم ما جاء من عندنا إليك يا أكمل الرسل في الكتاب الجامع لفوائد جميع الكتب السالفة قَوْمُكَ يعنى قريشا خذلهم الله ونسبوا إلينا وإليك ما لا يليق بشأننا وشأنك وَالحال انه هُوَ الْحَقُّ المطابق للواقع نزوله منا إليك قُلْ لهم في مقابلة تكذيبهم لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ موكل لحفظكم حتى احفظكم عما يضركم بل ما على الا البلاغ والوقاية والحفظ بيد الله وفي قبضة قدرته واعلموا انه لِكُلِّ نَبَإٍ اى خبر وآيات نازلة من الله مُسْتَقَرٌّ مقر ومورد قرار وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ حين تقرره ونزوله في مورده في الدنيا والآخرة وَإِذا رَأَيْتَ أنت يا أكمل الرسل المسرفين الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بالطعن والتكذيب فَأَعْرِضْ

[سورة الأنعام (6) : آية 69]

عَنْهُمْ ولا تصاحبهم واخرج من بينهم حَتَّى لا تكون أنت سببا لاستهزائهم واستحقارهم وطعنهم ويَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ اى غير القدح والطعن فيه وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ الخروج من بينهم فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى والتذكر البتة مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الطاعنين على الله المنزه في ذاته عن عموم النقائص بما لا يليق بجنابه وَان اتفق مجالسة المؤمنين معهم أحيانا ما يلزم ويعود عَلَى المؤمنين الَّذِينَ يَتَّقُونَ عن محارم الله مِنْ حِسابِهِمْ الذي هم يحاسبون عليه ويعاقبون لأجله مِنْ شَيْءٍ من الخطر والذلل وَلكِنْ ان اتفق جمعهم لزمهم ذِكْرى والموعظة الحسنة الناشئة من محض الحكمة إياهم لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ويحذرون عماهم عليه من الاستهزاء والتكذيب تأثرا واستحياء وَان لم يتأثروا ولم يستحيوا ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي يدعون الهداية بسببه اى اتركهم مع دينهم يلعبون به لَعِباً وَلَهْواً ويجعلونه ملعبا وملهى ليس لهم منه تأثر أصلا بل يجرونه على اللسان ويلقونه على طرف اللثام وَكيف يتأثرون منه ولا يلعبون معه مع انهم هم قد غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بحيث عموا وصموا عن الأمور الاخروية بالمرة وَان أردت ان تذكر بالقرآن ذَكِّرْ بِهِ على من هو على خطر من الله مخافة أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ اى تسلمه وتوقعه النفس العاصية الى الهلاك الأبدي والبوار السرمدي بِما كَسَبَتْ له من العقائد الزائغة والمعاصي العائقة عن اقامة حدود الله إذ لَيْسَ لَها اى للنفس أية نفس كانت مِنْ دُونِ اللَّهِ المدبر المصلح وَلِيٌّ يولى أمرها وينقذها من العذاب وَلا شَفِيعٌ يشفع لها عند الله لتنجو من عذابه وَإِنْ تَعْدِلْ وتفد كُلَّ عَدْلٍ وكل ما يفدى به من امتعة الدنيا وزخارفها لا يُؤْخَذْ ولا يقبل شيء مِنْها اى من الفدية المفداة وبالجملة أُولئِكَ البعداء المطرودون عن روح الله هم الَّذِينَ أُبْسِلُوا وسلموا نفوسهم الى الهلاك بِما كَسَبُوا اى بشؤم ما اقترفت نفوسهم من المعاصي والآثام بحيث يعد ويهيأ لَهُمْ في الآخرة شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ يحرق بطونهم منه ومن مسرة المؤمنين فيها وَعَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم منه ومن رفعة مكانتهم عند الله كل ذلك بِما كانُوا يَكْفُرُونَ اى بسبب كفرهم وخروجهم عن حدود الله وان ادعى المشركون حقية دينهم ويدعوا المسلمين اليه قُلْ لهم يا أكمل الرسل تعليما لمن تبعك أَنَدْعُوا ونعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ الخالق الرازق الفاعل المختار بالإرادة والاختيار ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا اى شيأ لا يقدر على جلب النفع ودفع الضر لنفسه فكيف لغيره وَبعبادة هؤلاء الهياكل لهلكى نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا التي كنا عليه من الشرك والطغيان سيما بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ للطيف الحكيم بنور التوحيد والعرفان كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ اى كالشخص الذي ذهب بعقله اى قد خبلته الشَّياطِينُ والاغوال المضلة وطرحته فِي الْأَرْضِ اى المهاوى العميقة والمهامة البعيدة وصار بسبب هذا حَيْرانَ قلقا حائرا تائها هائما وقد كان لَهُ أَصْحابٌ ورفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى اى الى الطريق السالم الواضح المستقيم صائحا عليه قائلا له ائْتِنا ايها التائه الحائر حتى تهتدى الى الطريق الأقوم ونحن على الجادة المستقيمة ولم يسمع كلامهم ولم يقبل قولهم بل اقتفى اثر الغول المغوى حتى يضل ويهلك قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الهادي لعباده الى توحيده الذاتي هُوَ الْهُدى المقصور على الهداية الحقيقية الا وهو دين الإسلام المنزل على خير الأنام وَقد أُمِرْنا من عنده سبحانه حسب هدايته وإرشاده إيانا لِنُسْلِمَ

[سورة الأنعام (6) : آية 72]

ونفوض جميع أمورنا لِرَبِّ الْعالَمِينَ إذ هو المستقل بتربية عموم مظاهره بحيث لا يجرى في ملكه الا ما يشاء وَقد أمرنا ايضا من عنده سبحانه أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ واديموا الميل والتقرب نحوه وَاتَّقُوهُ واحذروا من سخطه وغضبه بارتكاب منهياته وَاعلموا انه سبحانه هُوَ الموجد المظهر الَّذِي إِلَيْهِ لا الى غيره من وسائل الاظلال والعكوس تُحْشَرُونَ وترجعون وَكيف لا هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى أوجدهما واظهرهما من كتم العدم ملتبسا بِالْحَقِّ على مقتضى الحكمة المتقنة التي ما ترى فيها من فطور وفتور وَذلك يَوْمَ يَقُولُ بعد تعلق ارادته سبحانه ومشيئته بتكوينهما كُنْ فَيَكُونُ على الفور بلا تراخ ومهلة تنفيذا لسرعة نفوذ قضائه وبالجملة قَوْلُهُ سبحانه لاعدامهما ايضا في قيام الساعة الْحَقُّ المطابق للواقع بلا تخلف وَكيف يتصور التخلف في قوله سبحانه مع انه لَهُ الْمُلْكُ والملكوت كلها اصالة وله التصرف فيها بالاستقلال إيجادا واعداما ارادة واختيارا اذكر يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ لإعدام ما في الوجود وافنائه غيبا وشهادة إظهارا للقدرة الغالبة إذ هو عالِمُ الْغَيْبِ وجميع ما جرى ويجرى فيه وَكذا عالم الشَّهادَةِ وعموم ما ظهر ويظهر عليها ازلا وابدا وَهُوَ بذاته الْحَكِيمُ المتقن في إبداء عموم مظاهره من الغيب الْخَبِيرُ بجميع ما يترتب عليها في الشهادة بعد إعادتها وَاذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين وقت إِذْ قالَ جدك إِبْراهِيمُ الخليل الجليل حين استيقظ من منام الغفلة وانتبه من نعاس النسيان لِأَبِيهِ المسمى آزَرَ العابد للأصنام أَتَتَّخِذُ وتأخذ يا أبت أَصْناماً تنحتها أنت بيدك آلِهَةً مستحقة للعبادة قادرة للإيجاد والاعدام والله إِنِّي قد تنبهت وتفطنت من ان هؤلاء الهياكل الهلكى لا تليق بالالوهية والربوبية مطلقا إذ الإله لا بد وان يكون متصفا بعموم أوصاف الكمال بلا وصمة تغير وزوال وتوهم تحول وانتقال أَراكَ يا أبت وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية عظيمة بعبادة هذه التماثيل العاطلة الباطلة واعتقادها معبودات حقة وَكَذلِكَ اى ومثل ما نوقظه من منام الغفلة في امر الأصنام نُرِي ايضا إِبْراهِيمَ الخليل الجليل مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى عجائبهما وغرائبهما المودعة فيهما ليتأمل فيهما ويتفكر في كيفية تدبيراتهما وتصريفاتهما حتى ينكشف بكمال قدرة مبدعهما وقوة مخترعهما وَلِيَكُونَ هو مِنَ الْمُوقِنِينَ المنكشفين بأمرها لا من المشطرين المترددين المتحذين بعضها آلهة كعبدة الكواكب والمجسمة وغيرها فَلَمَّا جَنَّ واظلم عَلَيْهِ اى على ابراهيم اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قد استنار بنوره وانكشف عنه الظلمة بسببه وظن ان انكشافه ذاتى مطلق دائم قالَ على مقتضى ظنه به هذا رَبِّي إذ هو نور يتجلى في الظلمة فيستحق الربوبية والعبودية فَلَمَّا أَفَلَ وغاب وانمحى قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فكيف اعبده وأخص العبادة له إذ الأفول والتغير انما هو من امارات الحدوث والحادث لا يستحق العبودية ولا يليق بالالوهية فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً مبتدأ في الطلوع منيرا له إشراقا واضاءة وانكشافا خيله انه هو سبحانه وحصره عليه لذلك قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ انمحق وانكسر قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي ولم ينكشف على امره لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ باعتقاد هذا البازغ الآفل الها واحدا أحدا فردا صمدا فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قاهرة لجميع الكواكب غالبة عليها مضيئة بنفسها مشرقة بحيث لا يتحقق انكشافها بسائر الكواكب أصلا بل وهي اى عموم

[سورة الأنعام (6) : آية 79]

الكواكب قد انمحقت بها قالَ هذا رَبِّي إذ هو أتم انكشافا وأكمل اضاءة وانارة هذا أَكْبَرُ من الجميع فهي المستحق بالالوهية والربوبية فَلَمَّا أَفَلَتْ وتغيرت وانمحقت انكشف حينئذ الى نور لا افول له ولا تغير بل هو نور على نور يهد الله لنوره من يشاء قالَ يا قَوْمِ انى بعد ما كوشفت بنور الحق وعوينت بوجهه الكريم قد تحققت بتوحيده وتمكنت بمقر تجريده إِنِّي بَرِيءٌ جميع مِمَّا تُشْرِكُونَ أنتم به سبحانه من التماثيل الباطلة والاظلال الهالكة الآفلة إِنِّي بعد ما اجتهدت في طريق التوحيد وبذلت جهدي في مسالكه وَجَّهْتُ وَجْهِيَ اى وجه قلبي الذي هو يلي الحق نحوه سبحانه بتوفيق منه وجذب من جانبه وتوجهت لِلَّذِي فَطَرَ قدر واظهر بلا مادة ومدة السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى العالم العلوي والسفلى حَنِيفاً مائلا عن عموم الأديان الباطلة والآراء الفاسدة وَبعد ما تحققت بما تحققت ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ بحال من الأحوال بإثبات الوجود لغير الحق بل الوجود مطلقا منحصر به وما سواه انما هو اظلال أوصافه وعكوس تجلياته إذ لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون رجوع الظل الى ذي الظل وَحاجَّهُ قَوْمُهُ اى قد خاصموا معه في ادعائه التوحيد وعارضوه حيث قالوا أنترك ما يعبد آباؤنا بتسويلات نفسك يا ابراهيم قالَ أَتُحاجُّونِّي وتخاصمونى فِي اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد وتجادلون أنتم معى في توحيده وتخوفوننى من هذه التماثيل الباطلة العاطلة وَالحال انه قَدْ هَدانِ الله بلطفه الى مقر توحيده ومكنني فيه وَبعد ما قد انكشفت بتوحيد الله وباستقلاله بالتصرف في عموم مظاهره لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إذ لا نفع منه ولا ضر إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً مكروها يلحقني من جهته إذ هو ايضا بمشيته وهو من جملة مظاهره وهو سبحانه اعلم به إذ قد وَسِعَ وأحاط رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وتتفكرون لتميزوا بين المظهر والظاهر والعاجز والقادر وَكَيْفَ أَخافُ انا من ما أَشْرَكْتُمْ مع انه لا ضرر يتوقع منه وَلا تَخافُونَ أنتم من غضب الله المنتقم الغيور مع أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ المتوحد بالالوهية المنزه في ذاته عن الشريك والنظير ما لَمْ يُنَزِّلْ الله بِهِ اى بشركته وألوهيته عَلَيْكُمْ سُلْطاناً اى حجة وبرهانا وبالجملة فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ اى الموحدون او المشركون أَحَقُّ بِالْأَمْنِ وأليق بالقبول بينوا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اى من ذوى العلوم والعقول. ثم قال سبحانه الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وَبعد ما آمنوا لَمْ يَلْبِسُوا ولم يخلطوا ولم يستروا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ وخروج عن مقتضى الايمان والتوحيد أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله لَهُمُ الْأَمْنُ في مأمن الوحدة وَهُمْ مُهْتَدُونَ مقصورون على الهداية والتوحيد لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وَتِلْكَ القصة التي سمعت يا أكمل الرسل حُجَّتُنا ودليل وحدتنا قد آتَيْناها إِبْراهِيمَ امتنانا له وإرشادا ليغلب بها عَلى قَوْمِهِ ومن سننا القديمة انا نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ من عبادنا في العلم والحكمة والإيقان والمعرفة إِنَّ رَبَّكَ ايها المظهر الجامع للحق حَكِيمٌ في رفع درجات بعض عباده عَلِيمٌ باستعداداتهم وقابلياتهم وَمن جملة تعظيمنا لإبراهيم عليه السّلام ورفعنا له درجته انا قد وَهَبْنا لَهُ من محض فضلنا وجودنا إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا اى هدينا كلا منهما الى توحيدنا وَكذلك نُوحاً هو جد ابراهيم قد هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ فيكون ابراهيم عليه السّلام وارثا لهداية نوح ومورثا لهداية اسحق ويعقوب وهو من أعظم النعم والهداية أكرم الكرم والعناية وَ

[سورة الأنعام (6) : آية 85]

كذا قد هدينا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ اى ذرية ابراهيم داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ اى مثل جزاء هؤلاء الأنبياء المذكورين نَجْزِي عموم الْمُحْسِنِينَ مع الله المتشوقين بشرف لقائه وَقد هدينا ايضا زَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ منهم مِنَ الصَّالِحِينَ لعناية الله وهدايته وَايضا قد هدينا من ذرية ابراهيم إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَبالجملة كلًّا من هؤلاء المذكورين قد فَضَّلْنا بالحكمة والنبوة عَلَى الْعالَمِينَ اى على عموم الناس الموجودين في زمانهم وَكذلك مِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ ممن لم يبلغ منهم مرتبة النبوة والحكمة فضلناهم بأنواع النعم وَاجْتَبَيْناهُمْ وانتخبناهم من بين الناس بأصناف الكرم وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيدنا ذلِكَ اى سبب تقرب هؤلاء الأمناء الكرام هُدَى اللَّهِ اى محض هدايته وعنايته تفضلا عليهم وامتنانا يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ارادة واختيارا وَالله لَوْ أَشْرَكُوا بالله هؤلاء المهتدون المهديون بان اثبتوا الوجود والتحقق لغيره لَحَبِطَ اى ضاع واضمحل عَنْهُمْ ثواب ما كانُوا يَعْمَلُونَ مدة اعمارهم من الخيرات والمبرات وكانوا في حبوط أعمالهم كسائر المشركين. نعتصم بك من إنزال قهرك يا ذا القوة المتين أُولئِكَ السعداء الأمناء الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ الجامع المبين لهم طريق تهذيب الظاهر والباطن وَالْحُكْمَ الفارق بين الحق والباطل في الوقائع على مقتضى الحكمة الإلهية وَالنُّبُوَّةَ المقتضية لاهتداء التائهين في بيداء الغفلة والضلال الى طريق التوحيد فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ المضلون الضالون عن طريق الحق يعنى قريشا خذلهم الله فَقَدْ وَكَّلْنا بِها وبمراعاتها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ من اهل العناية والتوفيق أُولئِكَ المذكورون من الأنبياء هم الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ الهادي إياهم الى توحيده تفضلا عليهم فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ إذ مقصد اهل التوحيد واحد وان كانت الطرق مختلفة متفاوتة قُلْ يا أكمل الرسل لعموم من بعثت اليه كلاما صادرا عن محض الحكمة إشفاقا لهم لا أَسْئَلُكُمْ ولا أطمع منكم عَلَيْهِ اى على تبيين طريق التوحيد وتبليغ أوامر الحق ونواهيه أَجْراً جعلا إِنْ هُوَ وما الغرض من التبيين والتبليغ إِلَّا ذِكْرى وموعظة لِلْعالَمِينَ كي يتنبهوا على مبدأهم ومعادهم وما جبلوا وخلقوا لأجله وَالقوم الذين أنكروا بعثتك وكذبوا موعظتك يا أكمل الرسل ما قَدَرُوا اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء حَقَّ قَدْرِهِ ولا قدر حقيته وما عرفوا ظهوره في الآفاق والأنفس واستقلاله بالتصرف فيها إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ الحكيم عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ اى التورية الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى من عند ربه ومن جعله نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ يستنيرون ويستكشفون منه ويهتدون به الى توحيد الله مع انكم تَجْعَلُونَهُ بأيديكم قَراطِيسَ وقد كانت ألواحا تُبْدُونَها وتظهرون منها ما يصلح لكم ويعين على مدعاكم وَتُخْفُونَ كَثِيراً مما لا يصلح لكم عنادا ومكابرة وَكيف تنكرون انزاله إذ عُلِّمْتُمْ منه ما لَمْ تَعْلَمُوا لا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ من الأمور المتعلقة بالظاهر والباطن قُلْ يا أكمل الرسل في الجواب بعد ما بهتوا اللَّهَ إذ هو المتعين للجواب ولا شيء غيره ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ مع أباطيلهم واراجيفهم يَلْعَبُونَ ويترددون وفي سكرتهم يعمهون فما بقي عليك شيء بعد ما بلغت رسالتك. ثم قال سبحانه وَهذا كِتابٌ جامع لعموم

[سورة الأنعام (6) : آية 93]

ما في الكتب السالفة من الفوائد على ابلغ وجه وآكده مع زيادات شريفة قد أَنْزَلْناهُ إليك يا أكمل الرسل مُبارَكٌ كثير الخير والبركة لك ولمن تبعك مُصَدِّقُ للكتاب الَّذِي أحكامه بَيْنَ يَدَيْهِ اى التورية والإنجيل وجميع الكتب والصحف النازلة من عند الله وَانما أنزلناه إليك لِتُنْذِرَ به أنت أُمَّ الْقُرى اى اهل مكة وَمَنْ حَوْلَها اى جميع اقطار الأرض وأرجائها إذ قد دحيت الأرض من تحتها على ما قيل لذلك صارت قبلة لجميع اهل الأرض وفرض حجها وطوافها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ من اهل الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ اى بالقرآن ايضا وَسبب ايمانهم به انهم هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ اى يراقبون ويداومون على الميل والتوجه نحو الحق مؤمنين بجميع شئونه وتجلياته ومن جملتها بل من أجلتها إنزال القرآن البالغ أعلى درجات اليقين في تبيين احوال النشأة الاولى والاخرى إذ هو منتخب منهما مخبر عنهما على وجه يعجز عنه عموم ارباب اللسان والبيان من البشر ومن له ادنى مسكة من ذوى العقول لا بد ان يؤمن به وبإعجازه الا من أضله الله وختم على قلبه وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بان قال بعثني الله نبيا كمسيلمة والأسود العنسي أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كعبد الله بن ابى سرح وَمَنْ قالَ من كفار قريش سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ولو نشاء لقلنا مثل هذا وَلَوْ تَرى ايها المعتبر الرائي إِذِ الظَّالِمُونَ المفترون على الله المكذبون لكتبه ورسله مغمورون فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وسكراته وأهواله وَالْمَلائِكَةُ قائمون مسلطون عليهم باسِطُوا أَيْدِيهِمْ كالمتقاضي قائلين لهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ وأرواحكم ايها المفترون الكاذبون بأيديكم حتى تخلصوا عن أيدينا واعلموا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ اى المشتمل على انواع الهوان والمذلة بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَقد كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ عتوا وعنادا وَالآن لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى عارين منفردين عما استكبرتم به من المال والجاه والثروة والرياسة كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ عارين عن جميعها وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وما تفضلنا وابتليناكم به في النشأة الاولى ليكون سبب بطركم وخيلائكم وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَايضا ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ معبوداتكم الَّذِينَ قد زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ اى في ايجادكم واظهاركم شُرَكاءُ معنا الآن لَقَدْ تَقَطَّعَ وانفصل بَيْنَكُمْ وبينهم وَضَلَّ اى قد غاب وخفى عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ انها شفعاؤكم ينقذونكم من عذاب الله قل يا أكمل الرسل للمنكرين للبعث والحشر المستبعدين المستحيلين احياء الأموات من العظام الرفات إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على عموم ما أراد وشاء فالِقُ الْحَبِّ بالنبات وَفالق النَّوى بالشجرة وبفلقه وشقه وبكمال حكمه وحكمته يُخْرِجُ الْحَيَّ اى الحيوان والنبات مِنَ الْمَيِّتِ اى الحبة والنطفة وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ اى الحبة والنطفة مِنَ الْحَيِّ اى الحيوان والنبات ذلِكُمُ اللَّهُ المحي المميت الحي القيوم المستحق للالوهية والربوبية والمعبودية فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وتصرفون عنه الى غيره من الاظلال الباطلة ايها الحمقى العمي الآفكون وكيف تصرفون عنه مع انه هو بكمال قدرته وقوته فالِقُ الْإِصْباحِ وشاق ظلام الليل يفلج الصبح لتكسبوا فيها اقواتكم ومعاشكم ايضا وَقد جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً لتستريحوا فيها من تعب الكد وهما من أقوى اسباب حياتكم وَايضا قد جعل لكم ولمعاشكم الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذواتي أدوار واطوار مختلفة وأوضاع متفاوتة شتاء وصيفا ربيعا وخريفا تتميما لأرزاقكم

[سورة الأنعام (6) : آية 97]

واقواتكم وذلِكَ التدوير والتدبير كله تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ القادر الغالب على عموم صور التداوير والتدابير الْعَلِيمِ الحكيم في وضع هذا التدوير المخصوص المتعارف النافع لمعاش عباده وَكيف تصرفون عنه سبحانه مع انه هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ولتدبير مصالحكم النُّجُومَ الزاهرات مرتكزة في السموات لِتَهْتَدُوا بِها وتوصلوا بهدايتها الى مطالبكم حين كنتم تائهين ضالين فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ اى في مفاوزه وبيادره وَالْبَحْرِ اى لججه واغواره وبالجملة قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ الدالة على توحيدنا واستقلالنا في التصرفات والتدبيرات الواردة في عالم الكون والفساد لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يستدلون وينتفعون بها ويتنبهون الى وحدة موجدها ومصرفها وَايضا كيف يصرفون عنه سبحانه مع انه هُوَ القادر المقتدر الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وأظهركم بالتجلى الحبى مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي طبيعة العدم فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ اى قد قدر لكم أطوارا مختلفة وشئونا شتى متفاوتة لبعض قرار واستقرار ولبعض استيداع واستتار تتبدلون وتتحولون من حال الى حال على مقتضى تطوراتها وتجلياتها قَدْ فَصَّلْنَا وأوضحنا الْآياتِ الدالة على ان لا وجود لغيرنا من الاظلال ولا قرار ولا مدار لها أصلا لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ يتأملون ويتدبرون لينكشفوا بكيفية سريان الهوية الإلهية في صفحات المظاهر الكونية والكيانية وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ جانب السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ اى بالماء التفت سبحانه لئلا يتوهم اسناد الإخراج الى الماء نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ يعنى ينبت كل صنف من أوصاف النباتات فَأَخْرَجْنا مِنْهُ اى من النبات خَضِراً وهو الساق نُخْرِجُ مِنْهُ اى من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً وهو السنبلة وَأخرجنا ايضا مِنَ النَّخْلِ طلعها وقد ظهر مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ عنقود دانِيَةٌ قريبة للمتناول كثيرة وافرة ملتفة بعضها ببعض وَايضا قد أخرجنا وأظهرنا بالماء جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَكذا قد أخرجنا به الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ من أشجارها مُشْتَبِهاً بعضها ببعض وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ يعنى أنواعا مختلفة وأصنافا متفاوتة انْظُرُوا ايها الناظرون إِلى ثَمَرِهِ اى ثمر كل من المذكورات إِذا أَثْمَرَ اى حين خرج أولا صغيرا بلا لذة وانتفاع وَانظروا الى يَنْعِهِ نضجه وصلاحه ونفعه وكبره يوما فيوما ثم اعتبروا يا اولى الباب منها إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ اى دلائل واضحات على وجود الفاعل المختار الحكيم المتقن في فعله بلا مشاركة احد وممانعة ضد وند العليم الخبير بتطوراتها وتبدلاتها من حال الى حال متدرجا من كمال الى أكمل المربى لكل منها بما يناسبها ويلائمها على وجه الاعتدال الى ان يعود الى ما بدا لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ويوقنون بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته وَمع عجائب صنع هذا الصانع القديم وبدائع حكم هذا العليم الحكيم قد جَعَلُوا من غاية جهلهم ونهاية غفلتهم واثبتوا لِلَّهِ المتوحد في ذاته المنزه عن الشركة مطلقا شُرَكاءَ خصوصا الْجِنَّ الشياطين فيعبدونهم كعبادة الله ويمتثلون أوامرهم كاوامر الله وَالحال انهم عالمون بان الله خَلَقَهُمْ ومعبوداتهم وَمن جملة شركهم انهم خَرَقُوا لَهُ سبحانه اى اثبتوا له خرقا لعادة الله وسنته افتراء ومراء بَنِينَ كما قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وَبَناتٍ كما قالت العرب الملائكة بنات الله كل ذلك مختلق صادر منهم بِغَيْرِ عِلْمٍ ومعرفة بذات الصمد المنزه عن الأهل والولد سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ هؤلاء الظالمون المفرطون المفرطون إذ هو سبحانه بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مبدعهما ومظهرهما

[سورة الأنعام (6) : آية 102]

من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة وزواج وازدواج بل بالتجلى عليهما ومد الظل إليهما أَنَّى من اين يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وليس غيره احد وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ والولد انما يتصور بين المتجانسين وَهو سبحانه قد خَلَقَ اى أوجد واظهر كُلَّ شَيْءٍ بامتداد اظلال أوصافه الذاتية وعكوس شئونه الغيبية وتجلياته الحبية وعكوس شئونه العينية وَهُوَ بذاته بِكُلِّ شَيْءٍ مما ظهر من تجليات صفاته عَلِيمٌ لا يخفى عليه شيء ذلِكُمُ اللَّهُ اى الظاهر المكشوف بحسب الذات الاحدية الموصوفة بالصفات الازلية الابدية السرمدية المتجلى بالتجليات اللطفية والقهرية رَبُّكُمْ موجدكم ومربيكم ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة الباطلة لا إِلهَ ولا موجود إِلَّا هُوَ بذاته الوحدانية وهو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إذ كل ما ظهر وبدا انما هو من اظلال أسمائه وعكوس صفاته فَاعْبُدُوهُ إذ هو المستحق للعبادة والرجوع اليه لا غير وفوضوا أموركم كلها اليه وَكيف لا تفوضونها اليه مع انه هُوَ بذاته وأوصافه وأسمائه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الكوائن والفواسد الحادثة في مظاهره وَكِيلٌ كفيل يوليها ويصرفها كيف يشاء حسب قدرته وارادته بالاختيار والاستقلال وان كان لا تُدْرِكُهُ من غاية ظهوره وجلائه الْأَبْصارُ القاهرة عن ابصار انواره الباهرة وَكيف تدركه الأبصار إذ هُوَ بذاته يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ويبصرها ومبصر الأبصار لا يبصره الأبصار إذ هو سبحانه من غاية لطافته عين نور العين والعين لا تدرك نورها الذي به ابصارها وَكيف يدرك ويبصر سبحانه إذ هُوَ اللَّطِيفُ الدقيق الرقيق المنزه المتعالي عن المحاذاة والمقابلة والانطباع والانتقاش والمحاكاة مطلقا الْخَبِيرُ هو بخصوصه وانفراده عن عموم الاخبار الكائنة كيف يخبر عنه وبالجملة ما يرى الله الا الله وما يخبر عنه الا هو وما يطلع عليه سواه كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون رجوع الظل الى ذي الظل قَدْ جاءَكُمْ وحصل عندكم ولاح دونكم ايها المجبولون على فطرة التوحيد بَصائِرُ كواشف وشواهد ناشئة مِنْ رَبِّكُمْ الذي أوجدكم وأظهركم عليها ورباكم بها ولها فَمَنْ أَبْصَرَ اى شهد وانكشف بها فَلِنَفْسِهِ اى عاد نفعه إليها وَمَنْ عَمِيَ واحتجب ايضا فَعَلَيْها عائد وبالها وَبالجملة ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ رقيب مصرف بل منبه مبلغ والوقاية بيد الله والتصرف تحت قدرته وارادته يهدى من يشاء ويضل من يشاء حسب اختياره. ثم قال سبحانه وَكَذلِكَ اى ومثل ذلك المذكور نُصَرِّفُ ونكرر الْآياتِ الدالة على توحيدنا مرارا ونقررها كذلك تكرارا رجاء ان يتنبهوا بها فلم يتنبه منهم الا قليل بل اقل من القليل وغاية أمرهم ونهاية قدحهم وطعنهم في كتابك يا أكمل الرسل ان يصرفوا ضعفاء العوام عنك وعن قبول كتابك وَلِيَقُولُوا لك وفي حقك عند من آمن بك انك قد دَرَسْتَ وتعلمت هذه الأساطير الكاذبة القديمة من اهل الكذب فعليك ان لا تبالي بهم وبقولهم هذا وَبالجملة ما نصرفها ونكررها الا لِنُبَيِّنَهُ ونوضحه اى التوحيد الذاتي المدلول عليه بتصريف الآيات والدلائل لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ويستدلون بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة على وحدة الصانع الحكيم القادر العليم فخروج العوام وانصرافهم لا يخل بهذا المرام وان انصرفوا عنك ولم يقبلوا منك ما جئت به من الآيات دعهم وحالهم اتَّبِعْ أنت بنفسك عموم ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ دلائل توحيد رَبِّكَ واستيقن بانه لا إِلهَ ولا موجود إِلَّا هُوَ بذاته وأسمائه وصفاته بالاستقلال والانفراد وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ واتركهم مع شركهم بعد ما تحققت وتمكنت

[سورة الأنعام (6) : آية 107]

أنت في مقر عز التوحيد وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي لعباده عدم اشراكهم ما أَشْرَكُوا وَبالجملة ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً مصرفا عنهم عموم ما لا يعنيهم بل ما جعلناك الا هاديا لهم مبلغا إياهم امارات الهداية وآيات السعادة وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ كفيل تقوم أنت بأمرهم وتشفع لهم وتتعب نفسك في إصلاحهم وصلاحهم ثم قال سبحانه وَلا تَسُبُّوا اى لا تذكروا بالمساوى والمقابح ايها المؤمنون الموحدون الَّذِينَ يَدْعُونَ ويعبدون اى المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد يعنى أصنامهم وآلهتهم إذ هم من جملة المجالى والمظاهر لله مع انكم ان تسبوهم وآلهتهم فَيَسُبُّوا اللَّهَ ايضا من غاية جهلهم وحميتهم الجاهلية فأنتم حينئذ تكونون سببا لسب الله فيكون سبكم وتسببكم هذا عَدْواً تجاوزا وعدولا عن الحق الى الباطل بِغَيْرِ عِلْمٍ بعاقبته ومآله وبالجملة كَذلِكَ اى مثل تزييننا لكم دينكم وإلهكم وعملكم ايها المؤمنون قد زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم عَمَلَهُمْ والهم سواء كان حقا او باطلا إذ كل حزب بما لديهم فرحون وكل يعمل على شاكلته ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ اى يجازيهم على مقتضى ما عملوا من خير وشر وايمان وكفر وَمن شدة نفاقهم واستهزائهم معك يا أكمل الرسل وتهكمهم بما جئت به من الآيات قد أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ اى مغلظين فيها مؤكدين لها تهكما والله لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم لَيُؤْمِنُنَّ بِها اى بالآيات كلها البتة وبك ايضا قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما خاليا من وصمة الكذب ناشئا عن محض الحكمة إِنَّمَا الْآياتُ كلها لله ونزولها وانزالها عِنْدَ اللَّهِ المتعزز برداء العظمة والكبرياء وبقبضة قدرته وليس في وسعى وطاقتي شيء منها ومن لوازمها وَما يُشْعِرُكُمْ ويظهر لكم ايها المؤمنون الطالبون لإيمان هؤلاء الكفرة مع انكم لو تأملتم أنتم في شأنهم وظاهر حالهم لتفرستم أنتم بسيماهم ومن ظاهر حالهم بنور الايمان أَنَّها إِذا جاءَتْ إياهم ونزلت جميع مقترحاتهم لا يُؤْمِنُونَ بها البتة إذ قد طبع الله على قلوبهم بالكفر والنفاق وَكيف يؤمنون بها مع انا نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ عن الميل نحو الحق مطلقا وَأَبْصارَهُمْ عن احساس شواهده وعلاماته وبالجملة هم لا يؤمنون بمطلق الآيات المقترحة النازلة أصلا كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ اى بعموم ما جاء من الحق أَوَّلَ مَرَّةٍ قبل اقتراحهم إذ لا تفاوت بين حقية الآيات سواء كانت مقترحة أم لا وَبالجملة نَذَرُهُمْ نمهلهم وندعهم فِي طُغْيانِهِمْ وعدوانهم المتجاوز عن الحد يَعْمَهُونَ يتحيرون ويترددون الى ان نأخذهم وننتقم عنهم وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ كما اقترحوا وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ببعثهم من قبورهم واوصوهم بالإيمان وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا اى جمعنا كل شيء عليهم وجعلناهم كفلاء لهم ليرشدوهم بأجمعهم الى الايمان ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا من خباثة بواطنهم وقساوة قلوبهم إذ قد ختم الله المقتدر الحكيم على قلوبهم بالكفر في سابق علمه إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ العليم الحكيم ايمانهم وقد كتبهم في لوح قضائه من المؤمنين وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ اى اكثر الناس يَجْهَلُونَ قضاء الله ومشيئته فيتمنون ايمانهم وَكَذلِكَ اى مثل ما جعلنا لك يا أكمل الرسل عدوا يعاديك قد جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ من الأنبياء الماضين عَدُوًّا كذلك يعاديهم ويخاصمهم ويريد مقتهم وهلاكهم كمثل عدوك يعنى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بالمظاهرة والمعاونة بحيث يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ اى اباطيله واراجيفه غُرُوراً وتغريرا لضعفاء الأنام حتى يقدموهم على مخاصمة الأنبياء ومعاداتهم

[سورة الأنعام (6) : آية 113]

ويظهروهم على الأنبياء بأنواع التغرير والتلبيس وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ايمانهم ما فَعَلُوهُ اى هذا الغرور يعنى ما قالوا هذا القول الزور المزخرف المموه وبالجملة فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ اى اتركهم مع كفرهم وفريتهم على الله بما لا يليق بشأنه وزخرفتهم وتلبيسهم فيه وَما ذلك الغرور والزخرفة الا لِتَصْغى تميل وتركن إِلَيْهِ اى الى غرورهم وافترائهم وتتوجه نحوه أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ اى ليرضي كل منهم أنفسهم عما يزخرفون به لذلك الغرض الفاسد لكون جبلتهم عليه وَلِيَقْتَرِفُوا ويكتسبوا بسببه ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ مكتسبون من العقائد الرائغة المورثة لهم اصناف الآثام المثمرة إياهم انواع العذاب والآلام قل لهم يا أكمل الرسل ان أرادوا ان يتحاكموا ويتصالحوا معك بعد ما ظهر لك ولاح عندك تلبيسهم وتغريرهم إنكارا عليهم وتقريعا أَفَغَيْرَ اللَّهِ المستقل بالحكم المبرم والتصرف المحكم أَبْتَغِي واطلب حَكَماً وحاكما عادلا يفصل بيني وبينكم ايها المعاندون المكابرون وَالحال انه سبحانه هُوَ العليم الحكيم الَّذِي قد أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ اى القرآن الفرقان مُفَصَّلًا مبينا واضحا مستغنيا عن التحاكم والترافع مطلقا وَبالجملة المكابرون المعاندون الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اى علمه ان أنصفوا في أنفسهم ولم يعاندوا يَعْلَمُونَ يقينا بشهادة كتبهم أَنَّهُ اى القرآن مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ السوى بلا ميل وانحراف الى الباطل أصلا فَلا تَكُونَنَّ أنت يا أكمل الرسل مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين المترددين في انهم عالمون بحقية القرآن وموافقته لكتبهم الا انهم يكابرون في تحريف كتبهم ويعاندون بادعاء تكذيب القرآن ظلما وزورا وَبالجملة تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ اى قد انتهت وتناهت وبلغت الغاية القصوى ببيان كلمة التوحيد برسالتك يا أكمل الرسل اى قد ظهرت أنت في تبيينها وكشفها بما لم يظهر به احد من الأنبياء إذ الأنبياء انما ظهروا بتوحيد الصفات والأفعال دون توحيد الذات وأنت قد ظهرت به ولهذا ورد في شأنك من يطع الرسول فقد أطاع الله وان الذين يبايعونك انما يبايعون الله وقلت أنت بمقتضى وجدك ووجدانك وكشفك وشهودك من رآني فقد رآني فان الشيطان لا يتمثل بي وايضا قلت رأيت ربي في ليلة المعراج وغير ذلك من الآثار والاخبار الدالة على التوحيد الذاتي لذلك قلت أوتيت جوامع الكلم وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق صِدْقاً وَعَدْلًا بلا كذب وعدم مطابقة في الاخبار والمواعيد وبلا ميل وانحراف في الاقصية والاحكام ومتى تمت كلمة ربك كذلك وبلغت غايتها فاعلم يا أكمل الرسل انه لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ سبحانه هذه ولا محول لها أصلا لذلك قد ختم ببعثتك ورسالتك امر النبوة والرسالة وسد باب الوحى والنزول وصرت أنت خاتم النبيين وختم المرسلين وَحينئذ ظهر انه سبحانه هُوَ السَّمِيعُ بعموم أقواله الْعَلِيمُ بجميع شئونه وتجلياته الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله وَمتى تحققت يا أكمل الرسل بمرتبة الكشف والشهود وتمكنت في المقام المحمود إِنْ تُطِعْ وتتفق أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من اهل البدع والأهواء يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ المتوحد بالذات والصفات والأسماء إِنْ يَتَّبِعُونَ يعنى هم من غاية انهماكهم في الغفلة عن الله ما يتبعون ويتفقون إِلَّا الظَّنَّ الفاسد والوهم المزخرف الكاسد ولا شك ان الظن لا يغنى من الحق شيأ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ اى ما هم في ظنونهم وجهالاتهم الكاذبة واوهامهم الباطلة وخيالاتهم العاطلة سيما في الاعتقادات والاحكام الدينية الا انهم يخلطون ويزورون ويلبسون على أنفسهم واتباعهم حسدا وعنادا وبالجملة إِنَّ رَبَّكَ

[سورة الأنعام (6) : آية 118]

يا أكمل الرسل هُوَ أَعْلَمُ بعلمه الحضوري مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ من اصحاب التخمين والتقليد وَايضا هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ من ارباب المكاشفة والشهود فلا يفيد تغريرهم واضلالهم شيأ يعتد به وإذا علمتم ايها المؤمنون ان الهداية والضلال انما هو بيد الله الكبير المتعال وبمقتضى ارادته واختياره لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا بتحريم المباح وتحليل الشبهات والحرام فَكُلُوا حسب ما قد أباح الله عليكم من الأزواج الثمانية وما يشابهها من الوحوش مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عند تذكيته وذبحه مبيحين محللين على انفسكم إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وباحكامه مصدقين موقنين وَما لَكُمْ واى شيء عرض لكم أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالحال انه قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ربكم ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ في دينكم وكتابكم هذا في قوله حرمت عليكم الميتة والدم الآية فعليكم ان لا تأكلوا من المحرمات إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ فحينئذ يباح لكم منها مقدار سد جوعة وَإِنَّ كَثِيراً من الناس لَيُضِلُّونَ بأنفسهم ويضلون غيرهم من الضعفاء بتحليل المحرمات وتحريم المباحات بلا سند شرعي بل بِأَهْوائِهِمْ الباطلة بِغَيْرِ عِلْمٍ لهم بما عند الله ولا تتبعوهم ولا تقتفوا أثرهم إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عن حدود الله بمتابعة اهوائهم الفاسدة وآرائهم الباطلة فيجازيهم الله المنتقم الغيور على مقتضى علمه وَذَرُوا ايها المؤمنون واتركوا بالإخلاص والندامة المؤكدة ظاهِرَ الْإِثْمِ اى الاقدام عليه والاتصاف به وَباطِنَهُ اى اخطاره واجراءه على القلب ايضا إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ ويميلون اليه متلذذين سَيُجْزَوْنَ في النشأة الاخرى بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ ويكسبون وبمقدار ما يتلذذون به وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ حين ذبحه وَإِنَّهُ اى أكلكم منه لَفِسْقٌ خروج عن حكم الله بمتابعة اهل البدع والأهواء الضالين عن طريق الحق بوسوسة الشياطين وَلا تغفلوا عن وسوستهم بحال من الأحوال إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ يلقون ويوسوسون دائما إِلى أَوْلِيائِهِمْ من اهل الأهواء لِيُجادِلُوكُمْ ويزوروا عليكم ايها المؤمنون حتى يضلوكم عن منهج الحق سيما في المآكل والمشارب وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ايضا لان من أطاع غير الله سيما في معصيته فقد أشرك به العياذ بالله أَوَمَنْ كانَ منكم ايها المكلفون مَيْتاً بالجهل والكفر وانواع الشرك والضلال فَأَحْيَيْناهُ بالمعرفة والايمان وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يتلألأ من جبينه يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ هاديا مهتديا كَمَنْ مَثَلُهُ شأنه ووصفه انه مغمور فِي الظُّلُماتِ المتراكمة المتزاحمة عليه إلا وهي ظلمة الجهل والكفر والفسوق والعصيان والحال انه لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ناج عنها لعدم تناهيها فهو ومن أنقذه الله من ظلمة الضلالة بنور الهداية وهداه الى صراط مستقيم بنور دين الإسلام سيان متساويان كلا وحاشا شتان ما بينهما كَذلِكَ اى مثل تزيين الايمان للمؤمن قد زُيِّنَ حبب وحسن لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر والعصيان إذ كل حزب بما لديهم فرحون وَكَذلِكَ اى كما جعلنا في مكة أكابر وصناديد يجرمون فيها جرائم عظيمة قد جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ اى صيرنا وقدرنا فيها أَكابِرَ كانوا مُجْرِمِيها ومترفيها وامهلناهم زمانا لِيَمْكُرُوا فِيها بأنواع المكر والحيل ليضلوا ضعفاء الأنام عن جادة الإسلام فيمكرون ويضلون وَهم بأجمعهم ما يَمْكُرُونَ حقيقة إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ إذ وبال مكرهم انما يعود عليهم وَهم ما يَشْعُرُونَ عوده حينئذ لشدة قساوتهم وعمههم وسيشعرون حين يؤخذون

[سورة الأنعام (6) : آية 124]

عليها في النشأة الاخرى ويعلمون حينئذ اىّ منقلب ينقلبون وَمن غاية جهلهم ونفاقهم ونهاية قسوتهم وشقاقهم إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ هادية لهم الى سبيل الرشد قالُوا من شدة بغضهم وعنادهم لَنْ نُؤْمِنَ بها ولن نصدقها ابدا حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ إذ نحن وهم سواء في البشرية بل نحن اولى منهم في الرياسة والنسب والحسب وانواع الفضائل والكمالات ومن اين يؤتى لهم ولم يؤت إلينا قل لهم يا أكمل الرسل الوحى والإيتاء بيد الله يؤتى من يشاء ما يشاء ويمنع ممن يشاء إذ اللَّهِ المدبر الحكيم أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ إذ لا عبرة عنده سبحانه بالرياسة والنسب بل قد تفضل على من تفضل من عباده بلا التفات منه سبحانه الى حسبه ونسبه بل يعطى سبحانه ما يعطى لمن يعطى حسب استعداده وقابليته المقدرة عنده سبحانه في سابق علمه ولوح قضائه وبالجملة لا تحزن يا أكمل الرسل عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ويقولون أولئك الماكرون المفرطون المسرفون واعلم انه سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا مغرورين على رئاستهم وجاههم ونسبهم ومالهم وينزل عليهم صَغارٌ مذلة وهوان عِنْدَ اللَّهِ المتعزز برداء المجد والجلال حين إحضارهم للحساب والجزاء وَبعد كشف حالهم وحسابهم لهم عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ وإذا كان الأمر بيد الله والشأن من عنده وحسب ارادته واختياره فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ المعز الهادي أَنْ يَهْدِيَهُ الى توحيده يَشْرَحْ صَدْرَهُ اى يفتحه ويوسعه لِلْإِسْلامِ اى التفويض والاستسلام وكمال الطاعة والانقياد الى حيث قد رضى لعموم ما قضى عليه المولى وبعد ما رضى بالقضاء فقد وسع الحق فيه فيستولى عليه فيفنيه عن هويته ويبقيه ببقائه السرمدي وَمَنْ يُرِدْ الله بمقتضى قهره وجلاله أَنْ يُضِلَّهُ عن فضاء توحيده وصفاء تجريده يَجْعَلْ الله صَدْرَهُ الذي من شأنه ان يسع الحق فيه ضَيِّقاً ضنكا حَرَجاً في غاية الضيق والقساوة باستيلاء لوازم الإمكان عليه بحيث قد ضاقت الأرض عليه من إلمام لوازم الإمكان فيتمنى الصعود الى عالم الأسباب من غاية اضطراره وتشتت باله واختلال حاله فصار كَأَنَّما يَصَّعَّدُ ويطلب الصعود فِي السَّماءِ من غاية اضطراره واحتياجه وهذا مثل يضرب لمن ضاق عليه طرق معاشه كَذلِكَ اى كحال من اضطر الى الصعود نحو السماء من إلمام لوازم الإمكان عليه يَجْعَلُ اللَّهُ المنتقم الغيور الرِّجْسَ اى خذلان الإمكان وخجل الحرمان في النشأة الاخرى عَلَى القوم الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بتوحيد الله وبسعة لطفه وجوده وَهذا اى ما أنزلناه إليك يا أكمل الرسل من القرآن المبين لطريق المعرفة والايمان صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً لا عوج فيه أصلا موصلا الى توحيده الذاتي قَدْ فَصَّلْنَا وأوضحنا فيما أنزلناه إليك الْآياتِ الدالة على وحدة ذاتنا لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يتعظون بها ويتذكرون منها الى مبدئهم الذي قد نشئوا منه وظهروا عنه الا وهو الوحدة الذاتية الإلهية التي هي عبارة عن الوجود المطلق الخالص عن مطلق القيود والحدود وبالجملة لَهُمْ دارُ السَّلامِ اى مقام التفويض والاستسلام عِنْدَ رَبِّهِمْ بعد ما تحققوا بتوحيده وَهُوَ سبحانه بذاته وَلِيُّهُمْ ومولى أمورهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ اى بجميع ما كانوا يعملون من الأعمال والنيات فيها وجميع الحركات والسكنات الواقعة منهم في صدورها إذ هو سبحانه قد صار سمعهم وبصرهم ويدهم ورجلهم وعموم جوارحهم التي صدرت عنها أعمالهم وأفعالهم على ما نطق به الحديث القدسي صلوات الله على قائله وَاذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ

[سورة الأنعام (6) : آية 129]

جَمِيعاً اى جميع من يتأتى منهم الإطاعة ويتوجه إليهم التكليف من الثقلين قائلين لهم منادين عليهم يا مَعْشَرَ الْجِنِّ والشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ اى استتبعتم وأضللتم كثيرا مِنَ الْإِنْسِ بايقاعهم في مواقع الفتن وتغريرهم الى المعاصي والمهالك والخروج عن مقتضيات الأوامر والنواهي واغرائهم الى مستلذات نفوسهم ومقتضيات شهواتهم وَبعد ما سمع الانس هذا النداء قالَ أَوْلِياؤُهُمْ اى اولياء الجن ومتابعوهم مِنَ الْإِنْسِ متذللين متحسرين رَبَّنَا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم فكفرنا بك بمتابعة هؤلاء الغواة فالآن ظهر الحق واضمحل الباطل نحن مقر بعموم ما جرى بيننا وبينهم إذ قد اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا منهم باغوائهم واغرائهم الى خلاف ما امرتنا أنت عليه بالسنة رسلنا يا ربنا وايضا استمتع بعضهم بِبَعْضٍ منا بالمتابعة والموالاة وَبَلَغْنا الآن أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا على ألسنة رسلك وكتبك يا مولانا فالآن قد جئناك خائبين خاسرين قالَ سبحانه من وراء سرادقات العز والحلال الآن قد انقرض دار الابتلاء ومضى زمان التدارك والاهتداء النَّارُ مَثْواكُمْ جميعا تابعا ومتبوعا ومأويكم ابدا خالِدِينَ فِيها مؤبدا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ العليم الحكيم وقتا ينقذكم منها كيلا تتعودوا بعذابها ويدخلكم باشد منها واقطع إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل حَكِيمٌ متقن في عموم أفعاله عَلِيمٌ بمقدار جزاء العصاة وَكَذلِكَ اى مثل قول اولياء الانس للجن نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ من الانس بَعْضاً منهم ايضا ليفتضحوا بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من المظالم بتغرير بعضهم بعضا. ثم قال سبحانه امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ المفتضحين على رؤس الاشهاد لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ غلب الانس على الجن إذ لم يبعث من الجن نبي بل بعث الأنبياء كلهم من الانس الى الثقلين قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ويدعونكم الى توحيد ذاتى وكمالات أوصافي وأفعالي يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا اى يوم القيمة والجزاءالُوا مضطرين معترفين هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا يا ربنا بأنواع الجرائم والعصيان اليوم بعد ما ظهر لنا الأمر وانكشف الحجاب وصرنا مستحقين بأنواع العذاب والعقاب ما ذلك الا ان قدرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بحيث لم يبالوا بعموم ما جاءهم من عند ربهم لهديهم وإصلاحهم بل كذبوه واستهزؤا به قد ادى عاقبة أمرهم في عتوهم وعنادهم الى ان هِدُوا واعترفوالى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ مستحقين بأنواع العقوبة والعذاب واعلم ان إرسال الرسل وإنزال الكتب انما هو ليتنبهوا وينبهوا اى الرسل العصاة على ما هم عليه ذلِكَ التنبيه والإرسال أَنْ لَمْ يَكُنْ اى لان لم يكن رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ اى بسبب ظلم صدر عنهم وَالحال انه أَهْلُها غافِلُونَ عن طريق الحق بلا تنبيه منبه وارشاد مرشد نبيه وَاعلم يا أكمل الرسل وعلم ايضا عموم من تبعك من المؤمنين وذكرهم ان لِكُلٍّ من اهل التكاليف دَرَجاتٌ ودركات عند الله العليم الحكيم معدة إياهم حاصلة لهم مِمَّا عَمِلُوا من الصالحات والفاسدات وبمقتضاها وَما رَبُّكَ المطلع بضمائر عموم عباده بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ بمقتضى التكاليف التي كلفهم بها وَالحال ان نفعه عائد إليهم إذ رَبُّكَ الْغَنِيُّ المستغنى بذاته عنهم وعن أعمالهم بالمرة صالحها وفاسدها الا انه سبحانه ذُو الرَّحْمَةِ والشفقة على من عمل بمقتضى التكليف امتنانا عليه وتفضلا بلا احتياج له سبحانه إليهم ولا الى عملهم بل إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ايها الناس الناسون حقوق ألوهيته وتوحيده سبحانه وعموم التكاليف الواقعة في طريقه وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ

[سورة الأنعام (6) : آية 134]

ممن يعمل على مقتضى التكاليف الإلهية كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ قرنا بعد قرن بطنا بعد بطن مع انه يترحم عليكم ويبقيكم تفضلا وامتنانا قل لهم يا أكمل الرسل إِنَّ ما تُوعَدُونَ ايها المكلفون من الحشر والنشر والجزاء لَآتٍ كائن ثابت لا محالة وبالجملة اعملوا على مقتضى التكليف الإلهي وَاعلموا انكم ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ عاجزين عن الإتيان بالمأمور حتى لا تؤاخذوا بترك التكاليف ولا تعذبوا به إذ لا تكلف نفس الا وسعها وبما في طاقتها وقدرتها قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل الترحم والتحنن وإرخاء العنان مبالغة في طريق التعريض يا قَوْمِ اعْمَلُوا من المعاصي عَلى مَكانَتِكُمْ ومقدار مكنتكم وطاقتكم إِنِّي عامِلٌ ايضا من الصالحات المأمورة بمقتضى مكنتى وطاقتي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أنتم ونحن حين ينكشف الحجب ويرتفع الغشاء مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ اى العاقبة الحسنى والمثوبة العليا التي تترتب على أعمالنا في دار الجزاء يعنى أينا يفوز بها انا او أنتم غاية ما في الباب إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن حدود الله بمقتضى اهويتهم الفاسدة ولا يفوزون بسعادة وخير أصلا وَمن جملة ما خرجوا عن مقتضى الحدود الإلهية بمتابعة اهويتهم الباطلة انهم قد جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ وبرأ وظهر مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا المعين المفروز لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا اى آلهتنا وشفعائنا فَما كانَ من أموالهم يفرز لِشُرَكائِهِمْ ان كان جيدا طيبا فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ولا يتجاوز عن شركائهم أصلا وَما كانَ لِلَّهِ ان كان جيدا فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ بأن استبدلوها بالرديء الذي كان لشركائهم وبالجملة ساءَ ما يَحْكُمُونَ هؤلاء الجاهلون إذ فعلهم واختيارهم هذا انما هو تفضيل المسترذل المفضول على الأجل الأفضل روى انهم كانوا يعينون شيأ من حرثهم ونتاجهم لله ويصرفونه الى الضيفان والمساكين وشيأ منهما لآلهتهم وينفقونه الى سدنة آلهتهم وخدامهم ويذبحون عندها ثم ان رأوا ما عينوا لله ازكى بدلوه بما لآلهتهم من الرديء وان رأوا ما لآلهتهم ازكى تركوه لها حبا لآلهتهم وترجيحا لجانبهم على جانب الله هذا مما اخترعوه من تلقاء أنفسهم وان افتروا الى كتبهم تغريرا وترويجا وَكَذلِكَ اى مثل قسمتهم في القربات والصدقات قد زَيَّنَ اى حبب وحسن لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ اى آلهتهم الذين هم يعبدونهم من دون الله من الشياطين وما ذلك التزيين والتحسين الا لِيُرْدُوهُمْ اى يهلكوهم ويضلوهم بالإضلال والإغواء عن طريق الحق وَلِيَلْبِسُوا وليخلطوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ الذي وجب عليهم الانقياد والإطاعة ليصلوا الى طريق التوحيد وَبالجملة لَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي لعباده هدايتهم ما فَعَلُوهُ اى ما قبلوا تزيينهم وتلبيسهم فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ اى اتركهم مع افترائهم الى ان نأخذهم وننتقم عنهم وَايضا من جملة ما اخترعوا من تلقاء أنفسهم ونسبوها الى الله والى كتابه ترويجا وتغريرا انهم قالُوا هذِهِ المعينة المفروزة أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ حرام لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ إطعامه يعنون سدنة الأوثان وخدمتها من الرجال دون النساء فإنها تحل عليهم وتحرم على غيرهم وما هي ايضا الا بِزَعْمِهِمْ الفاسد ورأيهم الكاسد بلا حجة عقلية او نقلية وَايضا قالوا هذه أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وأرادوا البحائر والسوائب والحوامي على ما سبق في سورة المائدة وَقالوا ايضا هذه أَنْعامٌ معدة للتجارة او الحمل والظعن لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا يعنى لا يركبونها للحج كل ذلك من مخترعاتهم التي قد اخترعوها من اهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة ويفترون افْتِراءً عَلَيْهِ سبحانه ومراء بلا سند لهم نازل

[سورة الأنعام (6) : آية 139]

من عنده سَيَجْزِيهِمْ الله المنتقم الغيور ويعذبهم بِما كانُوا يَفْتَرُونَ اى بشؤم افترائهم ومرائهم إياه سبحانه وَمن جملة مفترياتهم على كتاب الله انهم قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ اى اجنة البحائر والسوائب ان كان حيا فهي خالِصَةٌ لِذُكُورِنا مخصوصة مباحة لهم أكلها وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا لا نصيب لهن فيها وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً يعنى ان يخرج ميتة فَهُمْ اى الذكور والإناث فِيهِ شُرَكاءُ بلا تفاوت وتخصيص سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ اى يجزيهم الله أقبح الجزاء على وصفهم وتفصيلهم هذا افتراء عليه إِنَّهُ حَكِيمٌ في جزاء المفترين عَلِيمٌ بمقداره وكيفيته ثم قال سبحانه قَدْ خَسِرَ وخاب خيبة ابدية الاعراب الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً مخافة سبى او إملاق بِغَيْرِ عِلْمٍ منهم بما يئول أمرهم عليه ولا شك ان الرزاق والحافظ لعموم عباده هو الله لا هم وَايضا قد حَرَّمُوا على نفوسهم ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ واباحه عليهم من البحائر والسوائب وغيرها ونسبوا تحريمها افْتِراءً عَلَى اللَّهِ مراء وميلا الى الباطل وبالجملة قَدْ ضَلُّوا بارتكاب هذه الجرائم عن طريق الحق وَما كانُوا مُهْتَدِينَ الى توحيده ولا يرجى منهم الهداية والفلاح أصلا وَكيف تضلون عن طريق الحق ايها الجاهلون المسرفون مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لمعاشكم في النشأة الاولى جَنَّاتٍ وحدائق من الكرم مَعْرُوشاتٍ مرتفعات من الأرض وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ بل مفروشات اى ملقيات على وجه الأرض وَانشأ لكم ايضا النَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ اى أكل كل واحد منهما رطبا ويابسا وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً بعضها ببعض وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ بل مختلف في الشكل والطعم ايضا كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ اى ثمرة كل من المذكورات حيث شئتم إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ اى اخرجوا حق الله منه على الوجه المفروض المبين في علم الاحكام يَوْمَ حَصادِهِ اى وقت إدراكه وبدوّ صلاحه وَلا تُسْرِفُوا في الاكل وان كان مباحا حتى لا تقسى قلوبكم ولا يكل ادراككم إِنَّهُ سبحانه لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ولا يرضى عنهم وعن فعلهم هذا إذ الاكل انما هو لقوام البدن وتقوية الروح والقوى على فعله وإسرافه يفضى الى التعطيل والتكليل والكسل المخل للحكمة الإلهية وَإنشاء لكم ايضا مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً تحملون أثقالكم عليها يوم ظعنكم وَفَرْشاً تفرشون من أصوافها واشعارها واوبارها المنسوجة تحتكم يوم اقامتكم كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ واباحه عليكم منها وَلا تَتَّبِعُوا اثر خُطُواتِ الشَّيْطانِ ولا تسمعوا وساوسه في تحليل المحرمات وتحريم المباحات وبالجملة لا تتبعوا مقتضيات اهويتكم وأمانيكم التي هي من جنود الشياطين إِنَّهُ اى الشيطان وجنوده لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة فاجتنبوا من اغوائه واغرائه واعلموا ايها المؤمنون ان الله سبحانه قد أباح لكم من الانعام ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الكبش والنعجة وما يتولد منهما وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ التيس والعنز ايضا كذلك قُلْ يا أكمل الرسل لمن يدعى التحريم في هذين الجنسين إلزاما وتبكيتا آلذَّكَرَيْنِ الكبش والتيس حَرَّمَ منهما أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ النعجة والعنز أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ اى حرم في بطن الأنثيين من هذين الجنسين ذكرا كان او أنثى نَبِّئُونِي وأخبروني ايها المدعون تحريم شيء منها بِعِلْمٍ ثابت ومقدمة معلومة عندكم من نقل ونص دال على ان الله قد حرم شيأ من ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى التحريم وَايضا قد أباح لكم ربكم ايها المؤمنون مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ يا أكمل الرسل للمجرمين المفترين آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ

[سورة الأنعام (6) : آية 145]

من الجنسين المذكورين أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ يعنى لم يحرم ايضا شيأ منهما ولا ما في بطنهما ذكرا كان او أنثى أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أتدعون أنتم ايها المدعون انكم قد كنتم حضراء وقت إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا التحريم لأنه ما اخبر به نبي وما جاء به كتاب فبقى ان تدعوا الحضور عنده سبحانه وقت التحريم وأنتم ايها المفترون من زمرة المردودين المطرودين عن ساحة عز حضوره سبحانه فظهر أنه ما هي الا مفتريات صدرت من تسويلات نفوسكم وتلبيسات شياطين أوهامكم وخيالاتكم تفترونها على الله عدوانا وظلما فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ عن طريق الحق مع انه بِغَيْرِ عِلْمٍ وحى ونقل وارد نازل من عند الله بل من تلقاء نفسه تلبيسا وتغريرا لضعفاء العوام إِنَّ اللَّهَ المطلع بمخايل المفسدين لا يَهْدِي الى طريق توحيده الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ المفترين عليه سبحانه بأمثال هذه المفتريات الزائغة قُلْ يا أكمل الرسل بمقتضى ما أوحينا إليك انا لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ اى في القرآن الجامع لأحكام الكتب السالفة المستحضر لها مُحَرَّماً اى طعاما قد حرمه الله عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ بل أجد كل ما يطعم حلالا مباحا إذ الأصل في الأشياء الحل إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً مات حتف انفه بلا ذكاة أَوْ دَماً مَسْفُوحاً سائلا جاريا مفروزا عن اللحم أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ نجس في نفسه لا يقبل الذكاة أصلا أَوْ ما يذبح من المحللات فِسْقاً وخروجا عن مقتضى الشرع بان أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ حين ذبحه من اسماء الأصنام وغيرها وما سوى هذه المستثنيات المذكورة فهو مباح فَمَنِ اضْطُرَّ ايضا الى تناول تلك المستثنيات حال كونه غَيْرَ باغٍ خارج عن الإسلام ظلما وعدوانا وَلا عادٍ مجاوز عن سد الجوعة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ لمن تناولها ضرورة رَحِيمٌ لا يؤاخذه عليه بل ان لم يتناول في محل الاضطرار وهلك كان عاصيا البتة لأنه تخريب لبيت الله وابطال لصنعه سيما بعد ما رخص وَان سألوا عنك يا أكمل الرسل من محرمات الأمم الماضية قل لهم نيابة عنا عَلَى الَّذِينَ هادُوا ونسبوا الى دين اليهود قد حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وحافر يمكن ان يجرح معها وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ قد حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ من الشحم ظُهُورُهُما وهي الثروب وشحوم الكلى أَوِ حملته الْحَوايا يعنى الأمعاء أَوْ مَا اخْتَلَطَ من الشحوم بِعَظْمٍ كالالية ذلِكَ اى تحريم هذه الأشياء إياهم وان كان الأصل في الأشياء الحل والاباحة قد جَزَيْناهُمْ بها بِبَغْيِهِمْ اى بسبب ظلمهم وخروجهم عن مقتضيات حدودنا بلا ورود نص منا وَإِنَّا لَصادِقُونَ في عموم ما أوحينا إليك من الأقوال والاخبار والمواعيد والوعيدات فَإِنْ كَذَّبُوكَ وعاندوك فيما تلونا عليك من الآيات فَقُلْ لهم امحاضا للنصح على مقتضى مرتبة النبوة رَبُّكُمْ الذي أوجدكم من كتم العدم ورباكم بأنواع اللطف والكرم ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وشفقة كاملة وافرة يمهلكم على ما أنتم عليه ويوسع عليكم على مقتضى لطفه وجماله وَالحال انه لا يُرَدُّ بَأْسُهُ وبطشه على مقتضى غيرته وحميته وجلاله عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا على الله بالخروج عن مقتضى أحكامه النازلة على السنة رسله ثم قال سبحانه على سبيل الاخبار عما سيقع سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا على سبيل التكذيب والإنكار في عموم ما جئت به أنت يا أكمل الرسل لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أنت ترويه عنه وتدعيه بالنسبة إلينا وتعلق ارادته بتوحيدنا إياه ما أَشْرَكْنا البتة مع انه القادر المقتدر على عموم ما أراد بل وَلا أشرك ايضا آباؤُنا من قبل بل ما ظهر وما لاح شيم

[سورة الأنعام (6) : آية 149]

الكفر والشرك بين عموم العباد مطلقا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ مما أخبرت تحريمه عنه بالنسبة إلينا بل ما هي الا مخترعات تخترع أنت من عندك وتنسبها الى الله تلبيسا وترويجا كَذلِكَ اى مثل تكذيبهم لك يا أكمل الرسل بأمثال هذه الهذيانات الباطلة قد كَذَّبَ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ الأنبياء وصاروا على تكذيبهم مصرين حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا الذي قد أنزلنا عليهم واستأصلناهم بتكذيبهم وان أردت إلزامهم وتبكيتهم قُلْ لهم مستفهما هَلْ حصل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ نقل صريح وحجة واضحة موردة من عند الله فَتُخْرِجُوهُ لَنا وتظهروه عندنا حتى نقبله ونتبعه فان لم يخرجوا ولم يظهروا فقل لهم إِنْ تَتَّبِعُونَ اى ما تتبعون أنتم إِلَّا الظَّنَّ الفاسد الذي لا يغنى من الحق شيأ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ وتكذبون على الله افتراء ومراء وقل لهم هذا ثم اعرض عنهم ودع مجادلتهم ومخاطبتهم قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما الزموا وأفحموا فَلِلَّهِ الحاكم على الإطلاق الفاعل بالاختيار والاستحقاق الْحُجَّةُ الواضحة الكاملة الْبالِغَةُ حد الكمال فَلَوْ شاءَ هدايتكم لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ اى لا وضح حجته عليكم ووفقكم الى قبوله ولكن لم يتعلق مشيئته على هدايتكم لذلك أصررتم واستكبرتم وإذا لم يتنبهوا بعد إلقاء الحجة عليهم بل قد أصروا على تقليد أحبارهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ واحضروا أحباركم وعلماءكم الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ في كتابه هذا اى ما ادعيتم تحريمه فَإِنْ شَهِدُوا بعد ما حضروا افتراء على كتاب الله فَلا تَشْهَدْ أنت يا أكمل الرسل مَعَهُمْ ولا تقبل شهادتهم وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ونسبوا إليها ما هي خالية عنه ظلما وزورا فاعرض عنهم ودع مكالمتهم ومجالستهم وَاعلم يا أكمل الرسل ان الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ولا بالمجازاة والمكافاة الواقعة فيها مطلقا ولا يبالون من أمثال هذه المفتريات الباطلة وَهُمْ من غاية جهلهم بِرَبِّهِمْ الذي رباهم بأنواع اللطف والكرم يَعْدِلُونَ يشركون ويجعلون له عديلا تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا قُلْ لهم يا أكمل الرسل على مقتضى شفقة النبوة تَعالَوْا هلموا وأتوا ايها التائهون في بيداء الضلال أَتْلُ وأعد لكم ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ في نشأة الدنيا أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من مظاهره ومصنوعاته إذ هو في نفسه واحد احد صمد فرد وتر ليس لغيره وجود حتى يشاركه ويماثله وَان لا تفعلوا بِالْوالِدَيْنِ اللذين هما سببان قريبان لظهوركم الا إِحْساناً لإحسانهما إليكم في حفظكم وحضانتكم وَان لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ ظلما ناشئا مِنْ خوف إِمْلاقٍ فقر وفاقة إذ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ ونتكفل لرزقكم وَإِيَّاهُمْ ايضا وَان لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ اى كبائر القبائح التي قد نهاكم الله عنها وحرمها عليكم ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَكذا لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ لكم قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ اى برخصة شرعية كالقود وقتل المرتد ورجم الزاني المحصن وغيرها من المحارم التي قد رخص الشرع بارتكابها كقتل اهل البغي وقطاع الطريق واهل الحرب إذ ارتكابها حينئذ من جملة المرخصات والمأمورات الشرعية ذلِكُمْ المذكور مفصلا مما وَصَّاكُمْ الله بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رجاء ان تسترشدوا منه وتهتدوا الى توحيده وَ من جملة المحرمات التي حرمها الحق عليكم وكررها في كتابه مرارا ان لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ولا تتصرفوا فيه إِلَّا بِالَّتِي اى بالتصرفات التي هِيَ أَحْسَنُ لليتيم واحوط لغبطته من تنمية ماله وحفظه

[سورة الأنعام (6) : آية 153]

حَتَّى يَبْلُغَ اليتيم أَشُدَّهُ ورشده اى يسع منه التصرفات الشرعية شرعا وحينئذ يسلم اليه ماله بعد تجربته واختباره مرارا وَمن جملتها ايضا ان لا تنقصوا ولا تخسروا في الكيل والوزن بل أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ والعدل السوى ولا تنقصوا منهما وان كان الوفاء في غاية الصعوبة والعسرة فعليكم ان تبذلوا وسعكم وطاقتكم في تعديلهما وايفائهما مهما أمكن لكم وما هو خارج عن وسعكم معفو عنكم إذ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ومقدار طاقتها ومكنتها وَمن جملتها ايضا ان لا تميلوا ولا تحيفوا في الاحكام ايها الحكام بل إِذا قُلْتُمْ وحكمتم حال كونكم حاكمين بين الخصمين فَاعْدِلُوا في الحكومة وَلَوْ كانَ المحكوم عليه اوله ذا قُرْبى من ذوى قرابتكم وحميمكم فعليكم الاحتياط والمبالغة فيه وَعليكم ايها الحكام ان لا تتجاوزوا في الاحكام عما حكم الله به مطلقا بل بِعَهْدِ اللَّهِ الحكيم العليم أَوْفُوا وبمقتضى حكمه وحكمه وفوا ذلِكُمْ المذكور مما وَصَّاكُمْ الله بِهِ فاتقوا الله واحذروا من بطشه لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ رجاء ان تتذكروا وتتعظوا به ايها المتوجهون الى توحيده ثم قال سبحانه وَاعلموا ايها المائلون نحو توحيدي أَنَّ هذا المذكور في هذا الكتاب سيما في هذه السورة من الأوامر والنواهي وعموم المحرمات والمحللات والاحكام والإشارات والآداب والمعاملات صِراطِي الموصل الى توحيدي مُسْتَقِيماً سويا بلا ميل واعوجاج فَاتَّبِعُوهُ حتى تفوزوا اليه وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ المتفرقة والطرق المختلفة المنحرفة المعوجة فَتَفَرَّقَ بِكُمْ وتضلكم عَنْ سَبِيلِهِ اى سبيل توحيده الذاتي ذلِكُمْ اى الاتباع المذكور مما وَصَّاكُمْ الله بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رجاء ان تحذروا بسببه عن سبل الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة المضلة عن طريق الحق وتوحيده ثُمَّ اعلموا أنا قد آتَيْنا من مقام جودنا مُوسَى عليه السّلام الكليم الْكِتابَ اى التورية المبين لطريق التوحيد وعلمناه تَماماً كاملا عَلَى الوجه الَّذِي أَحْسَنَ بيانه وتوضيحه وَقد بينا فيه تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ من الكوائن والفواسد المتعلقة بعالم الملك والشهادة وَهُدىً من الحقائق والمعارف المتعلقة بعالم الغيب والملكوت وَرَحْمَةً من المكاشفات والمشاهدات المسقطة لعموم الإضافات مطلقا المفنية لنقوش الغير والسوى رأسا لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ رجاء ان يتحققوا بمراتب العلم والعين والحق وَهذا اى القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ متمما لمقاصد الكتب السالفة مروجا لحكمها وأحكامها مُبارَكٌ كثير الخير والبركة والنفع لمن آمن به وصدقه فَاتَّبِعُوهُ ايها المتوجهون نحو التوحيد الذاتي وامتثلوا بجميع أوامره واجتنبوا عن عموم نواهيه وَاتَّقُوا عن تكذيبه وعن القدح فيه وفي من انزل اليه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ تكشفون وتفوزون به الى فضاء التوحيد وانما أنزلنا القرآن بعد التورية والإنجيل وان كان اكثر احكام الكتب الإلهية مشتركة كراهة أَنْ تَقُولُوا ايها المؤمنون إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا اى اليهود والنصارى وعلى لسانهم ولغتهم فلا تقبلون الاحكام الإلهية معللين به قائلين وَإِنْ اى وانه قد كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ قراءتهم وتعلمهم لعدم علمنا بوضع لغتهم لَغافِلِينَ أَوْ ان تَقُولُوا متحسرين متمنين لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ كما انزل عليهم لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ لحدة أذهاننا وصفاء صدورنا ومتى علم واطلع سبحانه من استعداداتكم هذا فَقَدْ جاءَكُمْ من عنده سبحانه لهديكم وايصالكم الى مقر توحيده بَيِّنَةٌ واضحة لائحة ناشئة مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم بافاضة استعدادات

[سورة الأنعام (6) : آية 158]

التوحيد وقابلياته الدالة عليه مبينة له كاشفة إياه بالنسبة الى ذوى العلوم اليقينية والمعارف اللدنية وَهُدىً يرشدكم الى مرتبة اليقين العيني وَرَحْمَةٌ جذبة نازلة بكم من ربكم تستر هويتكم عن عيون بصائركم وتفنيكم في هوية الحق وبالجملة لو امتثلتم بمقتضاها لصار علمكم عينا وعينكم حقا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ سيما بعد ما سمع أوصافها وخواصها من الله وَصَدَفَ اى صد واعرض عَنْها عنادا واستكبارا والله سَنَجْزِي حسب اسمنا المنتقم الَّذِينَ يَصْدِفُونَ ويعرضون عَنْ آياتِنا اعراضا وتكذيبا سُوءَ الْعَذابِ اى عذابا يسوءهم ويشتد عليهم بِما كانُوا اى بشؤم ما كانوا يَصْدِفُونَ ويعرضون عنها ويستنكفون عن قبولها عتوا وعنادا بلا حجة قطعية بل ظنية ايضا وبالجملة هَلْ يَنْظُرُونَ يعنى اهل مكة وما ينتظرون وما يستوفون الايمان والإطاعة إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ اى ملائكة العذاب كما أتوا للأمم الهالكة فيلجئهم الى الايمان مع انه لا ينفعهم حينئذ ايمانهم أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ اى يطلبون إتيان ربك يا أكمل الرسل معاينة كما طلب اليهود من موسى صلوات الله عليه حيث قالوا أرنا الله جهرة أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ الدالة على انقضاء النشأة الاولى المسماة بأشراط الساعة وبالجملة يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لكونها ملجئة اليه حين اضطرارها ولا عبرة للايمان حين البأس والإلجاء إذ الايمان امر تعبدي برهاني اختياري مع ان مدة التلافي قد انقضت وهي لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ يعنى سيما النفس التي لم تكن آمنت حين الدعوة وقبل ظهور الملجئ أَوْ لم تكن كَسَبَتْ وان آمنت من قبل على طرف اللسان منتظرين فِي إِيمانِها خَيْراً عملا مقبولا عند الله مشعرا بايقانها واطمينانها فيه وبالجملة قُلِ يا أكمل الرسل للمنتظرين المسرفين استهزاء انْتَظِرُوا الى ما تخيلتم وتوهمتم لحوقه علينا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ايضا الى حلول الوقت الموعود ونزول العذاب المعهود فيه عليكم بشؤم كفركم وشرككم. ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ الذي يوصلهم الى التوحيد الإلهي بلا منازعة ولا مخالفة وَكانُوا شِيَعاً اى صاروا فرقا وأحزابا مختلفة متعصبة كما قال صلّى الله عليه وسلّم افترقت اليهود الى احدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية الا واحدة وهي الناجية وافترقت النصارى الى ثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية الا واحدة وهي الناجية وتفترق أمتي على ثلثة وسبعين فرقة كلها في الهاوية الا واحدة وبالجملة لَسْتَ أنت يا أكمل الرسل مِنْهُمْ اى من أمرهم وشأنهم وإصلاحهم فِي شَيْءٍ بل إِنَّما أَمْرُهُمْ وشأنهم مفوض إِلَى اللَّهِ المنتقم الغيور الحكيم حين عرضوا عليه وحشروا نحوه ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ ويخبرهم بِما كانُوا يَفْعَلُونَ في النشأة الاولى التي هي دار الابتلاء والاختبار وبالجملة مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فيها فَلَهُ على مقتضى الفضل الإلهي عَشْرُ أَمْثالِها في النشأة الاخرى جزاء له وامتنانا عليه وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فيها فَلا يُجْزى فيها إِلَّا مِثْلَها بمقتضى العدل الإلهي وَهُمْ في جزاء السيئة لا يُظْلَمُونَ بالزيادة مثل زيادة الحسنة بالأضعاف والآلاف إذ لا ظلم في ذلك اليوم سيما من الله القائم على جادة العدالة قُلْ يا أكمل الرسل المبعوث الى كافة البرايا إِنَّنِي مع كوني بشرا أمثالكم قد هَدانِي رَبِّي الذي رباني بأنواع اللطف والكرم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيده الذاتي ولذلك آتاني من فضله دِيناً قِيَماً قويما مستقيما مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً مائلا عن عموم الأديان الباطلة والآراء الفاسدة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

[سورة الأنعام (6) : آية 162]

في وقت من الأوقات قُلْ يا أكمل الرسل المظهر للتوحيد الذاتي مفوضا جميع أمورك وما جرى عليك وظهر منك الى ربك إِنَّ صَلاتِي وميلى بعموم أعضائي وجوارحي وَسائر نُسُكِي وعباداتى التي هي سبب تقربي وتوسلي نحو الحق وَبالجملة لوازم مَحْيايَ وَمَماتِي كلها خالصة لِلَّهِ المتوحد المتصرف في ملكه وملكوته ما يشاء بالاستقلال والاختيار رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ ينازعه ولا ضد له يكافئه ويماثله إذ لا موجود سواه ولا وجود لغيره أصلا وَبِذلِكَ التفويض والإخلاص والتسليم أُمِرْتُ من عنده سبحانه لسلوك طريق توحيده وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ الموحدين المسلمين المخلصين المظهرين الظاهرين بالتوحيد الذاتي قُلْ يا أكمل الرسل مستوبخا مستقرعا لمن عاند في طريق التوحيد الذاتي وحادل معك في اثبات الشركاء له سبحانه ومع ذلك قد توقع منك موافقتك في شركه أَغَيْرَ اللَّهِ المتوحد في ذاته المتفرد في ألوهيته أَبْغِي واطلب واتخذ رَبًّا مربيا موليا وَالحال انه هُوَ بذاته وبعموم أسمائه وصفاته رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وخالقه وموحده من كتم العدم بالاستقلال وَبعد ما قلت لهم من كلمة الحق ما قلت دعهم مع شركهم وكفرهم إذ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من الجرائم والآثام إِلَّا تحمل عَلَيْها آصارها واثقالها وَلا تَزِرُ لا تقترف ولا تحمل نفس وازِرَةٌ عاصية كافرة وِزْرَ أُخْرى بل كل منها رهينة بما كسبت ضمينة لما اقترفت ان خيرا فخير وان شرا فشر ثُمَّ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ عموما رجوع الظل الى ذي الظل فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ اى يميز لكم الحق من الباطل والهداية من الضلال وَكيف تنكرون توحيد الحق وتربيته إياكم ايها المكابرون المفرطون مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ اى خلفاء قابلين لمظهرية الحق وآثار عموم أسمائه وصفاته وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في الاتصاف بأوصافه والتخلق بأخلاقه كل ذلك لِيَبْلُوَكُمْ ويختبركم فِي ما آتاكُمْ من استعداداتكم وقابلياتكم هل تصرفونها الى ما حلقتم لأجله أم لا إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل سَرِيعُ الْعِقابِ على من ضيع استعداده الفطري فيما لا يعنيه وَإِنَّهُ ايضا لَغَفُورٌ لمن تنبه واستغفر رَحِيمٌ لمن تاب واستهدى بفضله وجوده خاتمة سورة الانعام عليك ايها المتوجه نحو الحق القاصد لسلوك طريق توحيده أنجح الله املك وأوصلك الى متبغاك ان تنتزع وتنحرف عن مقتضيات القوى النفسانية من عموم لذاتها الحسية الوهمية والخيالية وتتوجه بما فيك من مبادي القوى الروحانية الى مبدئها مقتفيا في توجهك هذا اثر ما وصل إليك من آثار النبي المختار الذي قد استخلفه الحق وأظهره على مقتضى جميع أوصافه وأسمائه واجتباه من عموم رسله وأنبيائه وأرسله مظهرا للتوحيد الذاتي وانزل عليه كتابا جامعا محتويا على عموم فوائد الكتب السالفة مع زيادات خلا عنها الجميع مبينا لطريق التوحيد على الوجه الأتم الأكمل الى حيث لم يبق بعد بعثته احتياج الى مبين آخر وهاد سواه لذلك قال سبحانه اليوم أكملت لكم دينكم الآية. وقال صلّى الله عليه وسلّم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وبعد بعثته عليه صلوات الرّحمن ونزول كتابه لم يبق للمسترشد المستهدى نحو التوحيد الذاتي الا الاتصاف والامتثال بما جاء به خاتم الرسالة صلى الله عليه وسلّم لذلك لم يكن الاجتهاد بعد بعثته الا في جزئيات الاحكام دون المعتقدات الكلية

سورة الأعراف

إذ قد ختم امر الرسالة والتشريع بإقامته صلّى الله عليه وسلّم ولا بد لك ان تربط قلبك بمحبته صلى الله عليه وسلّم وتجعلها قبلة مقصدك وتقتفى اثر ما ورد عليه وجاء به صلّى الله عليه وسلّم بحيث لا تهمل منها ولا بدان تكون في متابعته صلّى الله عليه وسلّم على وثوق تام واطمئنان كامل عار عن عموم ما يشوشك من ظلمات الشكوك والأوهام خال عن جميع الرعونات العارضة لك من وساوس شياطين الأهواء الفاسدة مثل العجب والرياء والسمعة وغيرها وبالجملة عليك ان تتوجه نحو التوحيد من طريق الفناء الاختياري والموت الإرادي بحيث لا يصدر عنك شيء من امارات الحيوة الصورية ومقتضيات القوى البشرية حتى يتيسر لك التحقق بمقام الخلة والخلافة والتخلق بأخلاق الله تعالى مع توفيق من قبل الحق وجذب من جانبه إذ كل ميسر لما خلق له من عنده ومتى صفت سرك وسريرتك عن جميع ما يشغلك عن الله ويضلك عن سبيله فقد تحققت بمقام التوحيد وفنيت عن مقتضيات امارات التخمين والتقليد وصرت على يقين كامل من ربك وكشف صريح وشهود تام ومشرب صاف لا تظمأ منه أصلا ولا تروى ابدا وحينئذ حق لك ان تقول حقا ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له آتنا ربنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا [سورة الأعراف] فاتحة سورة الأعراف لا يخفى على المستبصر الخبير والمسترشد البصير ان سر إرسال الرسل وإنزال الكتب انما هو لتبيين طريق التوحيد وهدى اصحاب الضلال والتقليد من المتوغلين في تيه الغفلة والنسيان نحو فضاء الوحدة الذاتية ولا يتيسر ذلك الا بترك مألوفاتهم وقطع تعلقاتهم التي كانوا عليها بمقتضى بشريتهم وبإرشادهم وهديهم على التدريج بوضع التكاليف الشاقة المشتملة على الإنذارات الشديدة والتخويفات الغليظة المزيحة لموانع الوصول اليه حتى تستعد نفوسهم وتتهيأ سرهم وسريرتهم الى ان ينكشف لهم سر سريان الوحدة الذاتية المتشعشعة المتجلية دائما حسب أوصافه وأسمائه الذاتية على ذرائر المظاهر كلها لذلك انزل سبحانه على حبيبه الذي أظهره جامعا لجميع مراتب أوصافه وأسمائه الذاتية الكتاب الجامع المحتوى لعموم مراتب الوجود غيبها وشهادتها أولاها وأخراها رطبها ويابسها وأورد فيه اصناف الإنذارات والوعيدات البليغة لينزجر به اهل الغفلة والهوى وانواع المواعيد والتبشيرات ليرغب نحوه اهل المحبة والولاء ليتحققوا على ما جبلوا عليه من الفطرة الاصلية التي هم فطروا عليها بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وبالجملة ليتأدبوا بآدابه حتى يتخلقوا بأخلاقه سبحانه فقال مناديا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم متيمنا متبركا بِسْمِ اللَّهِ المنزه في ذاته عن مطلق النقص والاستكمال الرَّحْمنِ لعباده بالإرشاد والتكميل لان يصلوا الى درجات القرب والوصال الرَّحِيمِ لهم بانزال القرآن الهادي الى سرادقات العز والجلال [الآيات] المص ايها الإنسان الكامل اللائق لتكميل الخلائق المكرم المؤيد من لدنا لهديهم وإرشادهم الى توحيد الذات والصفات والأفعال الصادق الصفي في نفسه عن كدورات اهل الزيغ والضلال هذه الآثار والآيات الانيقة اللطيفة اللائحة اللائقة لان يسترشد منها ويستكشف عنها ارباب الذوق والكمال المنزهة عن شوائب الشكوك وظلمات الأوهام الصافية عن تخليطات العقول وتخمينات الأحلام الصالحة لان يستبصر بها ويستشهد منها الى توحيد العليم العلام القدوس السّلام كِتابٌ جامع لجميع فوائد الكتب المنزلة وأحكامها وإشاراتها ناطق لعموم الأحوال الواقعة في النشأة الاولى والاخرى قد

[سورة الأعراف (7) : آية 3]

أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا هادي المضلين تقوية لك وترويجا لما أمرت به فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ ضيق وتعب حاصل مِنْهُ اى من نشره وتبليغه مخافة الأعداء بل انما انزل إليك لِتُنْذِرَ بِهِ اى بانذاراته وتخويفاته من ضل عن طريق الحق واعرض عنه جهلا وعنادا وَتذكر بمواعيده وتبشيراته من وفقه بتذكر الموطن الأصلي والمنزل الحقيقي إذ هو ذِكْرى وتذكرة نافعة لِلْمُؤْمِنِينَ الموقنين بوحدة الحق المتوجهين نحوه بالعزيمة الصحيحة اتَّبِعُوا ايها المؤمنون المتوجهون نحو توحيد الذات عموم ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ على لسان نبيكم وَلا تَتَّبِعُوا سيما بعد بعثته ودعوته مِنْ دُونِهِ سبحانه أَوْلِياءَ توالونهم وتراجعون إليهم في الوقائع والخطوب من الجن والانس إذ هو صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبوة فعليكم ان تتبعوه صلّى الله عليه وسلّم كافة وان كان قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ اى شر ذمة قليلة منكم تتعظون بعظته وتذكيره لميلكم الى اهوية نفوسكم من الجاه والمال والرياسة المستلزمة للتفوق على الأقران وَعليكم ان لا تغتروا بها بل تذكروا كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ اى كثيرا من اهل قرية ذوى بطر وثروة أَهْلَكْناها بانزال قهرنا إليها حين استحقوا الهلاك بسبب كفرهم وظلمهم فَجاءَها بَأْسُنا غضبنا وقهرنا عليها بَياتاً حال كونهم راقدين في مضاجعهم ليلا رقود البطر والغفلة أَوْ هُمْ قائِلُونَ مستريحون وقت الضحوة الكبرى تنعما وحضورا فَما كانَ دَعْواهُمْ اى دعاؤهم وتضرعهم حين إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا وظهر عليهم آثار قهرنا إِلَّا أَنْ قالُوا متضرعين مقرين معترفين إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ وبعد ما اعترفوا بظلمهم ملحنين لا نبالى باعترافهم وإقرارهم بل فَلَنَسْئَلَنَّ اى لنستكشفن ونظهرن في النشأة الاخرى أحوالهم التي كانوا عليها في النشأة الاولى أولا من الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ ما فعلوا برسلهم حين دعوتهم الى اطاعتنا وانقيادنا وَبعد ما ظهر منهم ما ظهر لَنَسْئَلَنَّ ثانيا عن أحوالهم من الْمُرْسَلِينَ المبلغين لهم أوامرنا ونواهينا عن قبولهم وتكذيبهم وتصديقهم وبعد ما ظهر ايضا منهم ما ظهر فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ جميع أحوالهم وأعمالهم التي صدرت عنهم على التفصيل بِعِلْمٍ لا يعزب عنه شيء من صنائعهم وَكيف يخرج عن حيطة حضرة علمنا شيء من أعمالهم إذ ما كُنَّا غائِبِينَ عنهم بحال من الأحوال بل قد كنا حاضرين معهم شاهدين بعموم أحوالهم وأعمالهم مطلعين عليها بعد الكشف والسؤال على التفصيل وَالْوَزْنُ الموضوع لانتقاد اعمال العباد يَوْمَئِذٍ اى وقت كشف السرائر وانكشاف الحجب الْحَقُّ اى الثابت المحقق لئلا يبقى للعصاة مجادلة مع الله فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بكثرة الطاعات ووفور الخيرات والمبرات فَأُولئِكَ السعداء المبرورون هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالمثوبة العظمى والمرتبة العليا وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بقلة الطاعات وكثرة المعاصي فَأُولئِكَ الأشقياء المردودون هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وما ربحوا لها في الابتلاء بِما كانُوا اى بشؤم ما كانوا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا يَظْلِمُونَ ويكذبونها ظلما وعدوانا وَمن كمال لطفنا وجودنا إياكم يا بنى آدم انا لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي مستقر الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ من الملايمات كي تعيشوا بها مترفهين متنعمين شاكرين لنعمنا صارفين عموم ما وهبنا لكم الى ما خلقناه لأجله ومع ذلك الفضل العظيم واللطف العميم قَلِيلًا ما اى في غاية القلة منكم تَشْكُرُونَ نعمنا بل تكفرون أكثرها وتصرفونها الى مقتضيات اهويتكم الفاسدة وآرائكم الباطلة وَمن عموم جودنا وكرمنا معكم لَقَدْ

[سورة الأعراف (7) : آية 12]

خَلَقْناكُمْ وقدرنا تعيناتكم وأظهرنا هوياتكم أولا من كتم العدم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ وزيناكم بمقتضيات اوصافنا وأسمائنا وخلقناكم باخلاقنا ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ المهيمين المستغرقين بمطالعة جمالنا اسْجُدُوا اى تذللوا وتواضعوا لِآدَمَ المصور على صورتنا تعظيما لأمرنا وتكريما له إذ هو مرآة مجلوة تحاكى عن عموم اوصافنا وأسمائنا وترشدكم الى وحدة ذاتنا وبعد ما شاهدوا آثار عموم اوصافنا وأسمائنا عليه فَسَجَدُوا له جميعا متذللين إِلَّا إِبْلِيسَ الذي هو رأس جواسيس النفوس الخبيثة لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ مع كونه من زمرتهم ومن عدادهم حين أمروا ثم لما امتنع إبليس عن سجود آدم قالَ سبحانه إظهارا لما تحقق في علمه وكمن في غيبه من خبث طينة إبليس ما مَنَعَكَ يا إبليس أَلَّا تَسْجُدَ لخليفتى ولا تمتثل بأمري وقت إِذْ أَمَرْتُكَ مع رفقائك قالَ إبليس في الجواب حسب هويته الباطلة واهويته الفاسدة أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وأفضل إذ قد خَلَقْتَنِي يا مولاي مِنْ نارٍ منير وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ مظلم كدر ولا يحسن تذلل الفاضل للمفضول المرذول وبعد ما امتنع إبليس عن مقتضى الأمر الوجوبي ولم يتفطن بسره الذي هو التوحيد الذاتي إذ الأمر بسجود المظهر الجامع والظل الكامل انما هو امر في الحقيقة بالتوجه نحو ذي الظل الذي هو الذات الاحدية والمعبود الحقيقي المتجلى عليه رده سبحانه وطرده عن ساحة عز حضوره حيث قالَ سبحانه مهددا إياه مبعدا فَاهْبِطْ ايها المطرود الملعون وابعد مِنْها من ساحة عز التوحيد وجنة الذات المقتضية اللائقة المستحقة للتذلل والتخشع ورفض الالتفات الى الغير والسوى مطلقا فَما يَكُونُ اى ما يصح وما يجوز لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها بادعاء التفضل والتفوق المقتضى للاضافات الناشئة من انانيتك الباطلة فَاخْرُجْ منها مطرودا مخذولا إِنَّكَ حيث كنت واين أنت مِنَ الصَّاغِرِينَ الذليلين المحرومين بل أنت بخباءتك هذه سبب صغار عموم الأذلاء وسائر الأشقياء ثم لما ايس إبليس عن القبول وحرم عليه ساحة عز الحضور بسبب إبائه عن سجود آدم وامتناعه قالَ إبليس منتقما من آدم متضرعا الى ربه أَنْظِرْنِي وأمهلني يا ربي فيما بينهم لاضلهم واغويهم إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ سبحانه إظهارا للسر الذي قد أسلفناه في سورة البقرة إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ فيما بينهم ليتميز المحق منهم عن المبطل والمهدى عن الغوى قالَ إبليس فَبِما أَغْوَيْتَنِي اى بسبب ما بعدتنى وطردتني يا رب لأجلهم لَأَقْعُدَنَّ والزمن انا البتة لَهُمْ اى لإغوائهم واضلالهم صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ اى على دينك وطريقك الذي أنت حسب حكمتك قد وضعت فيما بينهم لتوصلهم الى طريق توحيدك فاغويهم وارديهم دائما وأوسوس عليهم مستمرا بأنواع الوسوسة بعضهم بالفسق والظلم وبعضهم بالرياء والسمعة وبعضهم بالمخايل الفاسدة من اللذات الوهمية والخيالية وبالجملة اوسوسهم والبس عليهم لاخرجهم بأنواع المكر والحيل عن جادة توحيدك وصراطك المستقيم ثُمَّ بعد ما اثر وسوستي في نفوسهم وسرى الى سرهم وقلوبهم لَآتِيَنَّهُمْ من جميع جهاتهم وجوانبهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ اى لضلهم بالمعاصي الحاصلة من قدامهم وكذا بالمعاصي الحاصلة مِنْ خَلْفِهِمْ وَايضا عَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَبالجملة استسخرهم واحيط عليهم باغوائى ووسوستي الى حيث لا تَجِدُ يا معز كل ذليل ومذل كل عزيز حين رجعوا نحوك وحصلوا دونك أَكْثَرَهُمْ بعد رجوعهم إليك شاكِرِينَ صارفين ما أوليتهم من النعم الى ما امرتهم ثم لما طرده الحق وأبعده وانظره ابتلاء لعباده قالَ سبحانه اخْرُجْ ايها المردود المطرود مِنْها اى

[سورة الأعراف (7) : آية 19]

من عرصة اهل الوحدة وجنة التوحيد مَذْؤُماً حال كونك حاملا للمذمة والمذلة مَدْحُوراً مطرودا مستوجبا للعنة مستحقا بها وافعل بهم ما شئت والله لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ بعد ما أظهرتهم على صورتي وكرمتهم بكرامتي على جميع خليقتي ونفخت فيهم من روحي وتجليت عليهم بعموم أوصافي وأسمائي وأرسلت إليهم رسلي وانبيائى وأنزلت عليهم كتبي لتبيين طريق توحيدي ولا سيما قد نبهت لهم عداوتك وتضليلك إياهم ووسوستك عليهم وبالغت في تخويفهم عنك وعن اغرائك وتغريرك عليهم بما يذلهم ويغويهم ويزيلهم عن صراط توحيدي وجادة هدايتي لأطردنهم البتة عن عز حضورى واخرجنهم عن جنة سروري واعلموا يا بنى آدم انى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ البعد وسعير الخذلان مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ان اتبعتم عدوى وعدوكم إبليس فعليكم ان تجتنبوا عن غوائله وَبعد ما طرد سبحانه إبليس بشؤم ما امتنع من تكريم آدم قال سبحانه لآدم ابتلاء له واختبارا وتوصية له بحفظ مرتبته مناديا له على سبيل الترحم يا آدَمُ المكرم المسجود اسْكُنْ أَنْتَ بمتابعة عقلك الموهوب لك المفاض من العقل الكل الذي هو حضرة علمنا وَزَوْجُكَ بمتابعة نفسها الفائضة عليها من النفس الكلية التي هي حضرة قدرتنا الْجَنَّةَ التي هي مقر اهل التوحيد ومنزل ارباب الولاء والتجريد من الواصلين الفائزين بشرف القبول والوصول فَكُلا منها مِنْ حَيْثُ شِئْتُما واحظظا من لذاتها الروحانية من حقائقها ومعارفها وشهوداتها وكشوفاتها وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ التي هي من اغذية انفسكم الامارة ومن اهوية هوياتكم البهيمية التي بها بعدكم وافتراقكم عن الله تعالى وانحرافكم عن طريق توحيده فَتَكُونا بتقربها وتناولها مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الأمر والحكم الإلهي المستحقين لطرده ومقته فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ اى أوقعهما في الدغدغة بأمر الشجرة وان كان وسوسته ايضا من مقتضيات الحكمة المتقنة الإلهية بعد ما وصاهما الحق سبحانه ونهاهما عنه وليس غرضه الا نزع لباس الصيانة والتقوى عنهما لِيُبْدِيَ اى يظهر لَهُما ما وُورِيَ اى غطى وستر عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما التي هي من مقتضيات بشريتهما ومن نتائج هويتهما الباطلة وَبعد ما اشربهما الوسوسة واثرت فيهما قالَ على وجه الشفقة والنصيحة وارادة الخير ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ المباركة المزيحة عنكم لوث بشريتكم إِلَّا كراهة أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ بتناولها أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ فيها وَبعد ما نصحهما واشفقهما وسمعا منه ما سمعا قاسَمَهُما اى بادر الى القسم تأكيدا وترويجا لقوله إياهما ونصحه لهما قائلا والله إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ المشفقين المريدين خيركما وبالجملة فَدَلَّاهُما اى اسقطهما عن معالى العز الى مهاوي الذل بِغُرُورٍ قد غرهما به على وجه الانتقام فَلَمَّا سمعا قوله وقبلا غروره ذاقَا الشَّجَرَةَ مطمعين على ما اغريهما من الشرف والخلود وبعد ما ذاقا منها بَدَتْ وظهرت لَهُما سَوْآتُهُما عوراتهما إذ قد نزع عنهما لباس التقوى وثياب العصمة أولا وَبعد ما نزع لباسهما وظهر سوآتهما طَفِقا وأخذا يَخْصِفانِ يلصقان ويلزقان عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ اى أشجارها قيل هي التينة وقيل الكرمة وَبعد ما بدى منهما ما بدى ناداهُما رَبُّهُما موبخا مقرعا أَلَمْ أَنْهَكُما ايها المسرفان المفسدان عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَالم أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ المضل المغوى لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة شديد الخصومة ولا تسمعا قوله ولا تتبعا امره ثم لما سمعا من ربهما ما سمعا قالا متضرعين متذللين معترفين على زلتهما رَبَّنا يا من ربانا على فطرة الهداية والرشد قد ظَلَمْنا

[سورة الأعراف (7) : آية 24]

أَنْفُسَنا بمتابعة عدونا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا ولم تتجاوز عنا وَلم تَرْحَمْنا بفضلك وجودك لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ خسرانا عظيما ثم لما صدر منهما ما صدر بوسوسة عدوهما امر سبحانه باخراجهما عن دار السرور الى دار الابتلاء والغرور حيث قالَ سبحانه اهْبِطُوا اى انزلوا وانحطوا ايها المتجاوزون عن حدودنا أصلا وفرعا تابعا ومتبوعا عن مقر العز ومرتبة الإطلاق والتجريد الخالي عن عموم الإضافات والتقييد الى محل الكون والفساد ومنزل البغي والعناد إذ بَعْضُكُمْ في دار الدنيا التي هي نشأة الاختبار والابتلاء لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ابدا لا يرتفع الخصومة عنكم أصلا وَلَكُمْ ايها المتخاصمون فِي الْأَرْضِ التي هي مرتع الطبيعة ومحل الفتن مُسْتَقَرٌّ موضع قرار وَمَتاعٌ اى تمتع وتنعم من لذاتها وشهواتها إِلى حلول حِينٍ قدر الله سبحانه بمقتضى حكمته لانقضاء آجالكم وانقطاع آمالكم ثم لما تحيرا واضطربا في أمرهما وفساد حالهما قالَ سبحانه منبها عليهما فِيها اى في ارض الطبيعة تَحْيَوْنَ بالحيوة المستعارة الطبيعية وَفِيها ايضا تَمُوتُونَ بالموت الطبيعي وَمِنْها ايضا تُخْرَجُونَ لجزاء ما اقترفتم من خير وشر وتقرب وتبعد عن الحق في حياتكم الطبيعية التي هي دار الابتلاء ومزرعة الأجر والجزاء ان خيرا فخير وان شرا فشر. ثم قال سبحانه مناديا لكم ايها المكلفون في مقام الامتنان وتعديد النعم والإحسان لتواظبوا بشكر نعمه وتداوموا على أداء حقوق كرمه وتحافظوا على انقياده وأطاعته بعد ما صدر عنكم الكفر والكفران والخروج عن مقتضى الأوامر والنواهي يا بَنِي آدَمَ المجبولين على فطرة الخلافة والنيابة قَدْ أَنْزَلْنا من مقام فضلنا وجودنا عَلَيْكُمْ لِباساً اى عقلا مفاضا مدبرا يُوارِي ويستر بتدبيره سَوْآتِكُمْ اى عموم مقتضيات بشريتكم ولوازم بهيميتكم وَوهبنا لكم ايضا من وفور لطفنا عليكم رِيشاً اى معارف وحقائق نزينكم ونميزكم بها عن جميع المخلوقات ونستخلفكم بسببها من بين سائر البريات وَاعلموا ان أفضل اوصافكم وأكملها وأجملها لِباسُ التَّقْوى عن محارم الله والاجتناب عن عموم منهياته ومحظوراته فعليكم ان تلبسوها وتتحفظوا بها عن عموم ما لا يليق لمرتبتكم وفطرتكم وبالجملة ذلِكَ اى لباس التقوى خَيْرٌ لكم وحقيق بحالكم ورتبتكم ان أردتم ان تصلوا الى مرتبة التوحيد التي قد جبلتم لأجلها ذلِكَ اى المنزل المذكور مِنْ جملة آياتِ اللَّهِ الدالة على استقلاله سبحانه في ألوهيته وكمال استحقاقه في ربوبيته انما أنزلها عليهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ رجاء ان يتذكروا نعمه فيعرفوا المنعم وينكشفوا بتوحيده ثم ناداهم سبحانه ثانيا وأوصاهم بقوله يا بَنِي آدَمَ مقتضى خلافتكم ونيابتكم ان لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ اى لا يوقعنكم في الغي والضلال بفتنته ووسوسته كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ بالفتنة والغرور مِنَ الْجَنَّةِ التي هي دار السرور ومنزل الحضور وأهبطهما بوسوسته الى الأرض التي هي محل المحن والشرور حيث يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما اى تسبب للنزع بتغريرهما واغرائهما الى تناول المنهي عنه لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما انتقاما عنهما وتفضيحا لهما فعليكم ايها الأبناء والذراري ان تجتنبوا عن غوائله وتتعوذوا الى الله عن عموم مخايله وتتخذوه سبحانه وقاية ووكيلا حتى تتخلصوا عن وسوسة شياطين الأهواء وتسويلات القوى الامارة المائلة الى المكر والمراء وعليكم ان لا تغفلوا عنه بحال إِنَّهُ دائما يَراكُمْ ويرقبكم هُوَ اى الشيطان نفسه وَقَبِيلُهُ اى جنوده الامارة بالسوء رؤية صادرة عن محض العداوة والطغيان مِنْ حَيْثُ اى من مكان

[سورة الأعراف (7) : آية 28]

لا تَرَوْنَهُمْ أنتم إياهم إذ هم مرتكزون في نفوسكم يضلونكم ويغوونكم على صورة الهداية والإرشاد فعليكم ان تخالفوا اهوية نفوسكم مطلقا وتجانبوا عن مناها ومشتهياتها ومع ذلك تضرعوا نحونا وتعوذوا بنا من غوائلهم ومخايلهم إِنَّا جَعَلْنَا بمقتضى حكمتنا المتقنة الشَّياطِينَ اى عموم الطواغيت المضلة عن سواء السبيل أَوْلِياءَ مسلطين مستولين لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بوحدة ذاتنا واستقلال استيلائنا وبسطتنا على ذرائر عروش ملكنا وملكوتنا وَمن علامة تسليطنا إياهم انهم إِذا فَعَلُوا اى الكافرون الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية بتغرير الشياطين ووسوستهم فاحِشَةً اى فعلة ذميمة قبيحة متناهية في القبح والشناعة فنهوا عنها وأمروا بالكف والترك على لسان رسلنا وانبيائنا قالُوا في الجواب مصرين قد وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَهم يقولون اللَّهُ أَمَرَنا بِها في ما انزل علينا على لسان نبينا فيما مضى قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا إِنَّ اللَّهَ العليم الحليم الهادي لعباده الى طريق توحيده لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ المنافية للعدالة الإلهية المسقطة للمروة مطلقا أَتَقُولُونَ ايها المفترون عَلَى اللَّهِ المنزه عن شوب النقص وسمته مطلقا ما لا تَعْلَمُونَ لياقته بشأنه تعالى عما يقول الظالمون قُلْ يا أكمل الرسل قد أَمَرَ رَبِّي حسب فضله ولطفه على وعلى عموم من أمرهم ونهاهم من عباده بِالْقِسْطِ والعدل السوى في جميع مأموراته ومنهياته بلا ميل الى جانبي الإفراط والتفريط وَعليكم ايها المؤمنون ان أَقِيمُوا واستقيموا وُجُوهَكُمْ التي بها ميلكم وتوجهكم نحو الحق بلا ميل الى ما سواه سيما عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ومقام تتذللون فيه وتتوجهون نحوه وتبثونه لأجله وَبالجملة ادْعُوهُ وتوجهوا نحوه حال كونكم مستقيمين في إطاعتكم وانقيادكم مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ اى الطاعة والانقياد بلا شوب الميل الى الغير والسوى مطلقا واعلموا ايها الاظلال الزائلة والعكوس الهالكة المستهلكة في اشعة شمس الذات كَما بَدَأَكُمْ الله وأظهركم من كتم العدم بمد ظله إليكم ورش نوره عليكم تَعُودُونَ نحوه بقبض الظل وطيه فانظروا ما أنتم عليه ايها الاظلال الهلكى ومع ذلك فَرِيقاً منكم هَدى بتوفيق الله الى مبدأه ومعاده وَفَرِيقاً آخر وقد ضل وغوى لذلك حَقَّ وثبت واستقر عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ في مكمن القضاء وكيف لا يحق ولا يحيط بهم الضلال إِنَّهُمُ من غاية غفلتهم وغرورهم قد اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ وأخذوهم أَوْلِياءَ آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد المتوحد بذاته وَيَحْسَبُونَ بسبب هذا الاتخاذ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ الى طريق النجاة بل هم ضالون تائهون يا بَنِي آدَمَ المجبولين على زي التقوى ولباس السلامة خُذُوا زِينَتَكُمْ التي زينكم الله بها من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات سيما عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ومقام معد للميل والتوجه نحو الحق بوجوهكم التي تلى الحق وَمع ذلك لا تهملوا امر مراكبكم التي هي نفوسكم وهوياتكم لئلا تبطلوا صنع الله ولا تخربوا بنيانه بل كُلُوا مقدار سد الجوعة مما اباحه الله تعالى لكم وَاشْرَبُوا قدر دفع العطش من المباح وَلا تُسْرِفُوا فيهما بحيث يؤدى الى تقوية القوى البهيمية إِنَّهُ سبحانه حكيم في عموم افعال عباده عليم بمقاديرها لذلك لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ المتجاوزين عن حد الحكمة والعدالة ولا يرضى عن فعلهم هذا لاخلال اسراف الاكل والشرب على الميل المعنوي الذي هم جبلوا لأجله إذ الشبع يميت القلب وينقص الجودة الانسانية ويزيد القوى البهيمية قُلْ يا أكمل الرسل للمحجوبين من اهل الظاهر

[سورة الأعراف (7) : آية 33]

المحرومين عن الرزق المعنوي المحرمين لأنفسهم التوجه نحو التوحيد الذاتي في هذه النشأة مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ واظهر لِعِبادِهِ الخلص المخصوصين المختصين من ذرائر الكائنات بتجليات الأسماء والصفات الذاتية وَكذا من حرم الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ المعنوي والمستلذات الروحانية قُلْ لهم يا أكمل الرسل هِيَ حاصلة حاضرة مشهودة مشاهدة لِلَّذِينَ آمَنُوا بالتوحيد الإلهي فِي الْحَياةِ الدُّنْيا والنشأة الاولى ايضا لكنها مشوبة مخلوطة بالقوى البشرية والكدورات البهيمية فتصير خالِصَةً ممتازة لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بلا شوب كدورة وخلط غفلة حين انتزعوا عن جلباب الهويات الباطلة في البسة التعينات العاطلة مطلقا كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ الدالة على توحيدنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ علما يقينا ويتوجهون نحو الكشف والعيان قُلْ يا أكمل الرسل المولى لتدبير مصالح عموم العباد إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ والقبائح الصادرة عن ذوى الأحلام السخيفة والنفوس الخبيثة ما ظَهَرَ مِنْها وسرى أثرها الى الغير من الظلم وشهادة الزور ورمى المحصن والغيبة والنميمة وغيرها من القبائح التي قد صدرت من الالسنة والأيدي وتعدت آثارها الى الغير وَكذا ما بَطَنَ من القبائح التي صدرت من الفروج وما يترتب عليها ويؤدى إليها من مقدماتها وَبالجملة كل ما يوجب الْإِثْمَ المستلزم للانتقام والعقاب شرعا وَالْبَغْيَ اى الخروج على الولاة وجمهور المسلمين بِغَيْرِ الْحَقِّ اى بلا رخصة شرعية وَاعلموا ان أعظم المحرمات جرما وأشدها انتقاما عند الله أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشركة مطلقا ما اى شيأ من مصنوعاته مع انه لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً اى حجة وبرهانا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ افتراء ومراء ما لا تَعْلَمُونَ ثبوته له لا عقلا ولا نقلا وَاعلموا ان لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم العاصية الضالة أَجَلٌ مقدر من عند الله لمقتهم وهلاكهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ المقدر المبرم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ اى لا يسع لهم فيه لا طلب التأخير بمقتضى اهويتهم ولا طلب التقديم تخليصا لنفوسهم من الأذى بل امره حتم نازل في وقته وحينه بلا تخلل تقدم وتأخر لكمال قدرته سبحانه ومتانة حكمه وحكمته يا بَنِي آدَمَ المستكملين القابلين للإرشاد والتكميل المستعدين لفيضان كمال التوحيد إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ اى ان يأتينكم ويرسلن إليكم رُسُلٌ مِنْكُمْ اى من جنسكم وبنى نوعكم إذ هم ادخل لنصحكم وإرشادكم وانسب لجذب قلوبكم واشفق عليكم من الأجانب حال كونهم يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي المنزلة من عندي الدالة على وحدة ذاتى فعليكم ان تصدقوهم وتؤمنوا لهم وبعموم ما جاءوا به من عندي من الأوامر والنواهي فَمَنِ اتَّقى منكم عن محارم الله بواسطة رسله وآياته وَأَصْلَحَ اى أخلص اعماله لله بلا ترقب على الأجر والجزاء فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لا في النشأة الاولى ولا في الاخرى وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عن سوء المنقلب والمثوى وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة على رسلنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها وعن من أنزلت اليه عتوا وعنادا أُولئِكَ المكذبون المستكبرون أَصْحابُ النَّارِ المعدة لجزاء المخذولين من اهل الضلال هُمْ فِيها خالِدُونَ لا نجاة لهم منها أصلا نعوذ بك من سخطك يا ذا القوة المتين وبعد ما أرسل الرسل وانزل الكتب فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ المنزه عن عموم الفرية والمراء كَذِباً ونسب اليه سبحانه ما لم يصدر عنه افتراء أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ الصادرة عنه عنادا ومكابرة أُولئِكَ المفترون المكذبون يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ اى مما كتب في اللوح المحفوظ وثبت فيه

[سورة الأعراف (7) : آية 38]

من العذاب والنكال لذوي الجرائم والآثام حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ اى ملائكتنا الموكلون عليهم لقبض أرواحهم قالُوا لهم توبيخا وتقريعا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ وتعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ وتعتقدونهم شفعاء شركاء قالُوا متضرعين مضطرين قد ضَلُّوا عَنَّا وغابوا عن أعيننا بعد ما أضلونا عن طريق الحق وَشَهِدُوا حينئذ واعترفوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا في مدة حياتهم كافِرِينَ ضالين عن طريق الحق ساترين له قالَ سبحانه من وراء سرادقات العز والجلال بمقتضى عدله السوى ادْخُلُوا ايها الضالون المكذبون فِي زمرة أُمَمٍ عاصية كافرة قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِكُمْ على الكفر والضلال أمثالكم كائنة مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ المعدة لجزاء العصاة الغواة الكفرة وبعد صدور الأمر الوجوبي منه سبحانه صار الأمر والشان بحيث كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ في نار الخذلان وسجن الحرمان لَعَنَتْ أُخْتَها التي اضلتها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا اى تداركوا وتلاحقوا فِيها جَمِيعاً مزدحمين مجتمعين قالَتْ أُخْراهُمْ اى تابعوهم ومتأخروهم لِأُولاهُمْ لأجل متبوعيهم ومقدميهم وفي حقهم مشيرين إليهم متضرعين الى الله رَبَّنا يا من ربانا على فطرة الهداية والرشد هؤُلاءِ الضالون المضلون قد أَضَلُّونا عن طريق هدايتك وارشادك بوضع سنن الغي والضلال بيننا فاقتدينا بهم وبسننهم فضللنا فَآتِهِمْ الآن وانزل عليهم عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ اى مثلي عذابنا لأنهم ضالون مضلون قالَ سبحانه بمقتضى عدله القويم لِكُلٍّ منكم ايها الاتباع والمتبوعون ضِعْفٌ من النار اما المتبوعون فلضلالهم واضلالهم واما التابعون فاضلالهم في أنفسهم وتقليدهم بهؤلاء الغواة المضلين لا بالأنبياء الهادين وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ أنتم لا استحقاقكم ولا استحقاقهم وَبعد ما سمعت الاولى المتبوعون المضلون من الاخرى الضالين التابعين ما سمعت قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ انا وأنتم مستوون في الضلال فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ تستحقون به تخفيفا بل فَذُوقُوا الْعَذابَ أنتم بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ كما نذوقه بما نكسب ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ولم يؤمنوا بها عتوا وعنادا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ اى سماء الأسماء والصفات الإلهية والأعيان الثابتة الجبروتية حتى يفيض عليهم من الفيوضات والفتوحات اللاهوتية لينكشفوا بوحدة الذات الاحدية وَبالجملة هم لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ اى مقر الوحدة الذاتية حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ اى دخولهم في مقر الوحدة وحيطتها في الاستحالة كولوج الجمل في سم الخياط بل أشد استحالة وامتناعا منه هذا مثل يضرب في الممتنعات والمستحيلات مبالغة وَبالجملة كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ المخرجين عن ساحة عز الوحدة بجرائم اهوية هوياتهم الباطلة وبالجملة لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ اى من لوازم الإمكان مِهادٌ وفراش يحترقون عليه بنيران الامنية والآمال الطويلة وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ اى اغشية وأغطية متخذة من سعير الجاه والمال ودعوى الفضل والكمال وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن مقتضى الحدود الإلهية بمقتضيات نفوسهم المنغمسة في اللذات الحسية والوهمية والخيالية ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه من تعقيب الوعيد بالوعد وَالَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة نحوه بمقتضى استعداداتهم وقابلياتهم وبمقدار وسعهم وطاقتهم تأكيدا لإيمانهم مع انا لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ السعداء الباذلون مهجهم وجهدهم في سلوك سبيل الفناء أَصْحابُ الْجَنَّةِ المعدة لأرباب المحبة والولاء

[سورة الأعراف (7) : آية 43]

المتمكنين في مقام الرضاء بعموم ما جرى عليهم من القضاء هُمْ فِيها خالِدُونَ ما شاء الله إذ لا حول ولا قوة الا بالله وَبعد ما دخلوا جنة الوحدة نَزَعْنا اى امطنا وأخرجنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ مشعر بالاثنينية والأنانية ليتمكنوا في مقر الوحدة مطمئنين متوجهين إذ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ اى جداول المعارف المترشحة من بحر الوجود وَبعد ما كوشفوا بفناء تعيناتهم وفوزوا بالبقاء السرمدي الإلهي قالُوا بلسان استعداداتهم بإلقاء الله إياهم بعد ما تحققوا بمقام الشكر الْحَمْدُ والثناء المنبعث عن محض التسليم والرضا ثابت لِلَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي هَدانا لِهذا اى أوصلنا بمقام الرضا بالقضاء وشرف اللقاء والفوز بالبقاء وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ بأنفسنا لو بقينا في حبس هوياتنا وسجن تعيناتنا لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ المنعم المفضل بمقتضى لطفه وسعة رحمته وجوده وحين تمكنوا في مقام الكشف والشهود اقسموا بالله متبركا متيمنا لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا لإرشادنا وتكميلنا متلبسين بِالْحَقِّ المطابق للواقع وعموم ما جاءوا به وبعد ما تحققوا بمقام الشكر وَاعترفوا بما اعترفوا نُودُوا من وراء سرادقات المعظمة والجلال أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ اى الوحدة الذاتية أُورِثْتُمُوها اى قد أعطيتموها وتمكنتم فيها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بمقتضى أوامر الله ونواهيه وارشاد رسله وتذكير كتبه وَبعد ما قد تمكن اهل الجنة في الجنة واهل النار في النار نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ ليفتضحوا على رؤس الاشهاد أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا من المواعيد والتبشيرات على السنة رسله وكتبه حَقًّا صدقا يقينا بعد ما تيقناه علما ويقينا في ما مضى فَهَلْ وَجَدْتُمْ ايها المحبوسون في سجن الإمكان ونار الحرمان ما وَعَدَ رَبُّكُمْ لكم من الوعيدات الهائلة والإنذارات الشديدة الجارية على السنة الرسل والكتب حَقًّا مطابقا للواقع أم لا قالُوا متحسرين متأسفين مضطرين مضطربين عما هم عليه نَعَمْ الآن قد أصبنا ما كذبنا وحققنا ما أبطلنا وأيقنا ما أنكرنا وبعد ما جرى بينهم من المقالة ما جرى فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ اى هتف هاتف من وراء سرادقات العظمة والجلال الا أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ المنتقم الغيور وطرده وتبعيده نازل ثابت عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ ينصرفون وينحرفون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ المستقيم الموصل الى جنة الوحدة وروضة التسليم وَيَبْغُونَها اى يطلبون ان يحدثوا فيها عِوَجاً ويوقعوا فيها زيغا وضلالا وينصرفوا عنها انصرافا وانحرافا وَبالجملة هُمْ قد كانوا بِالْآخِرَةِ المعدة للجزاء وتنقيد الأعمال كافِرُونَ مكذبون لها منكرون بها وَبَيْنَهُما اى بين الموحدين المتمكنين في نعيم الجنان المشرفين بشرف لقاء الرّحمن وبين المشركين المحبوسين في سجن الإمكان المحترقين بنيران الحرمان حِجابٌ لا يدرك كنهه الا العليم العلام وَعَلَى الْأَعْرافِ اى البرزخ المعهود رِجالٌ من الأبرار يَعْرِفُونَ كُلًّا من الفريقين بِسِيماهُمْ اى بوجوههم التي يلي الحق والباطل وهم متقررون في البرزخ لا الى هؤلاء ولا الى هؤلاء وَنادَوْا اى اهل البرزخ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ هنيئا لكم ما تتنعمون فيها وتتمتعون بها مع انهم وان لَمْ يَدْخُلُوها بعد وَهُمْ يَطْمَعُونَ دخولها اتكالا على فضل الله وسعة رحمته وجوده وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ بغتة اى ابصار اهل البرزخ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا متضرعين متخشعين رَبَّنا وان صدر عنا ما صدر من التقصير لا تَجْعَلْنا حسب لطفك وجودك مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات حدودك مطلقا عنادا وإصرارا وَنادى

[سورة الأعراف (7) : آية 49]

أَصْحابُ الْأَعْرافِ على سبيل التوبيخ والتقريع رِجالًا من صناديد اصحاب النار قد كانوا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ اى بوجوههم الباطلة العاطلة المبعدة عن الحق من المال والجاه والثروة والنخوة والرياسة وغيرها قالُوا لهم متهكمين متعرضين ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ اى ما أسقط جمعكم المال وجمعيتكم بسبب الجاه والثروة شيئا من عذاب الله وما دفع عنكم من نكاله وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ اى ما يفيدكم استكباركم على خلق الله وآياته اليوم انظروا ايها الحمقى الهالكون أَهؤُلاءِ المترفهون المتنعمون في مقر العز والتمكين هم الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ أنتم في النشأة الاولى مستهزئين لهم متهكمين لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ وفضل في النشأة الاخرى ايضا كما لم ينالوا في الاولى انظروا كيف حالهم فيها وكيف قيل لهم كرامة وتكريما من قبل الحق تفضلا عليهم وامتنانا ادْخُلُوا الْجَنَّةَ التي هي دار الأمن والامان ومنزل الفرح والسرور لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ اليوم بعد ما دخلتم فيها وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ من فوت شيء وتعويقه وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ صارخين مستغيثين متمنين متحسرين أَنْ أَفِيضُوا وصبوا عَلَيْنا مِنَ رشحات الْماءِ الذي هو سبب حياتكم الحقيقية وبقائكم السرمدي أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ الجواد الكريم من الرزق الصوري والمعنوي قالُوا في جوابهم بالهام الله إياهم إِنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده قد حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي هو سبب حياتهم الحقيقية في هذه النشأة في الحيوة الدنيا والنشأة الاولى لَهْواً وَلَعِباً يلهون ويلعبون به ويكذبون من أرسل إليهم وانزل عليه الكتب لتبيينه متهكمين معه مستهزئين إياه وَما ذلك الا ان غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بمزخرفاتها من اللذات الجسمانية والشهوات النفسانية وصاروا بسبب تغريرها ناسين العهود والمواثيق التي جرت بيننا وبينهم في بدأ فطرتهم فَالْيَوْمَ اى حين انكشفت السرائر وارتفعت الحجب نَنْساهُمْ ولم نلتفت نحوهم كَما نَسُوا في النشأة الاولى لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا في النشأة الاخرى مع ورود الإنذارات والتخويفات الجارية على السنة الرسل والكتب وَما كانُوا اى وكما كانوا بِآياتِنا الدالة على أمثال هذه المثوبات والإنعامات يَجْحَدُونَ ينكرون ويصرون كذلك يخلدون في النار وينسون وَكيف لا يخلدون في النار ولا ينسون لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ مبين لجميع احوال النشأتين واحكامهما مع انا قد فَصَّلْناهُ وأوضحنا معانيه وبينا ما فيه من العقائد والاحكام مفصلا عَلى عِلْمٍ حضورى منا متعلق بتفصيله بحيث لا يشذ عن علمنا شيء أصلا وانما فصلناه وأوضحناه وجئنا به ليكون هُدىً اى هاديا ومرشدا ودليلا يرشد ويهدى الى توحيدنا وَرَحْمَةً مخلصة عن سجن الطبيعة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به وبحقيته وبعد ما آمنوا به وبما فيه من احوال النشأة الاولى والاخرى هَلْ يَنْظُرُونَ وما ينتظرون أولئك المؤمنون إِلَّا تَأْوِيلَهُ اى ما يئول اليه وما يترتب عليه بعد ما حصل لهم الإذعان بالوقوع يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ويظهر مآله يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ ونبذوه وراء ظهورهم مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ المطابق للواقع فكذبناهم نحن مكابرة وعنادا فَهَلْ لَنا اليوم مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا ليخلصونا من نكال ما أجرمنا أَوْ نُرَدُّ بشفاعتهم على أعقابنا فَنَعْمَلَ حينئذ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ في ايام الغفلة وبالجملة هم قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والشرك وعبادة الغير وَمع ذلك قد ضَلَّ اى غاب وخفى عَنْهُمْ لدى الحاجة ما كانُوا يَفْتَرُونَ لشركائهم من الشفاعة والمظاهرة وكيف لا تتنبهون ولا تنكشفون ايها العقلاء

[سورة الأعراف (7) : آية 54]

المجبولون على فطرة التوحيد بوحدة الذات المتجلية في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ اظهر وأوجد السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وما بينهما من كتم العدم بمد اظلال أوصافه وأسمائه عليها وبرش رشحات ماء الحيات المترشحة من بحر الوجود إياها فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اوقات تارات ودفعات ليشير بها الى احاطتها بالجهات كلها ثُمَّ اسْتَوى واستولى عَلَى الْعَرْشِ اى على عروش عموم المظاهر والمكونات الكائنة في الأقطار والآفاق منزها عن جميع الحدود والجهات وكذا عن الاستواء والاستقرار والتمكن مطلقا ورتب امور المكونات على حركات الأفلاك بحيث يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ اى يغطى ويستر بالليل وجه النهار مع ان النهار يَطْلُبُهُ ويعقبه حَثِيثاً سريعا وَبالجملة قد جعل الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وحكمه يتحركن حيث أمرها الحق سبحانه أَلا اى تنبهوا ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة في ذات الله الفانية المضمحلة في هويته الوحدانية انه لَهُ سبحانه وفي قبضة قدرته وتحت حكمه وارادته الْخَلْقُ اى عموم الإيجاد والإظهار وَالْأَمْرُ اى مطلق التدبير والتصرف بالاستقلال والاختيار تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ اى تعاظم وتعالى في ألوهيته عن ان يدركه العقول والافهام وفي ربوبيته عن المظاهرة والمشاركة بالأمثال والأشباه مطلقا ادْعُوا ايها المجبولون على فطرة التوحيد رَبَّكُمْ الذي قد تفرد بتربيتكم وايجادكم تَضَرُّعاً متضرعين صائحين نحوه إذ لا ملجأ لكم سواه وَخُفْيَةً مناجين معه خائفين خاشعين من صولة قهره منيبين اليه عن ظهر القلب لا متقلقلين ملقلقين على طرف اللسان عادين حاسبين وبالجملة إِنَّهُ سبحانه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين المجاهرين الملحين المقترحين في الدعاء إذ علمه بحالهم يغنيهم عن سؤالهم وَعليكم ايها المكلفون ان لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ التي هي محل الكون والفساد سيما بَعْدَ إِصْلاحِها بإرسال الرسل وإنزال الكتب وَادْعُوهُ سبحانه ان أردتم الالتجاء اليه والمناجاة معه خَوْفاً وَطَمَعاً اى خائفين من رده حسب قهره وجلاله راجين من عفوه وقبوله حسب لطفه وجماله إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ المجيب لدعوة المضطرين عناية وفضلا قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الذين يعبدون الله كأنهم يرونه ويقومون بين يديه خائفين مستحين من سطوة سلطنة قهره وجلاله راجين طامعين من فضله ونواله وَكيف لا يكون رحمته قريبة من المحسنين الموقنين مع انه هُوَ المنعم المفضل الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ ويثيرها بُشْراً نشرا ناشرات مبشرات بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ اى قدام روحه ورحمته حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ اى حملت وأثقلت وجمعت وركبت من البخارات المتراكمة سَحاباً غليظا ثِقالًا بالاجزاء المائية سُقْناهُ من كمال فضلنا وجودنا لِبَلَدٍ مَيِّتٍ جامد يابس لأجل احيائه ونضارته فَأَنْزَلْنا بِهِ اى بالبلد الميت او بالسحاب او بالسوق الْماءَ المحيي فَأَخْرَجْنا بِهِ اى بالماء مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ اى أجناسها وأنواعها المختلفة بالطعوم والروائح والألوان كَذلِكَ اى مثل اخراجنا بالماء الصوري انواع الثمرات من البلد الميت الصوري نخرج ايضا بالماء المعنوي الذي هو العلم اللدني من أراضي القابليات من استعدادات الموتى المحجوبين بالحجب الظلمانية والجهل الجبلي الهيولاني بإرسال رياح أنفاس الأنبياء والأولياء المستنشقة من النفس الرحمانى مبشرات بالكشوف المشاهدات حتى إذا اجتمعت وتراكمت وصارت سحابا شرعيا تكليفيا ثقالا بمياه الحكمة والتقوى سقناه من كمال فضلنا وجودنا الى بلاد

[سورة الأعراف (7) : آية 58]

النفوس الميتة بالجهل الجبلي اليابسة التي لا ينبت فيها نبات العلوم اللدنية مطلقا فاجرينا فيها منها انهار المعارف وجداول الحقائق المنتشئة من قلوب الأنبياء والأولياء المكملين فأخرجنا بها ثمرات اليقين العلمي والعيني والحقي نُخْرِجُ الْمَوْتى في النشأة الاخرى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعرفون قدرتنا على عموم مقدوراتنا ومراداتنا وَبعد سوقنا مياه جودنا الى أموات الْبَلَدُ الطَّيِّبُ الذي هو نجيب المنبت لطيف الطينة قابل التربية يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ اى بتوفيقه سبحانه وبمقتضى تربيته جيدا نافعا كثيرا بمقتضى استعداده الفطري وَالبلد الَّذِي خَبُثَ طينته وقلت قابليته كالحرة والسبخة لا يَخْرُجُ نباته بعد اجراء المياه اللطيفة عليه إِلَّا نَكِداً قليلا غير نافع بل ضار مؤلم كالنفوس المنهمكة في الغي والضلال الى حيث لا يؤثر فيها مياه الحكم والمعارف الجارية على السنة الرسل لخباثة طينتها وقلة قابليتها كَذلِكَ نُصَرِّفُ نردد ونكرر الْآياتِ الدالة على استقلالنا في ملكنا وملكوتنا لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ بنعمائنا ويتفكرون في آلائنا ويعتبرون بها الى ان يستغرقوا في مطالعة جمالنا ثم أشار سبحانه الى تفاوت الاستعدادات واختلاف القابليات بتفصيل الأمم الهالكة بموت الجهل والعناد وخبث طينتهم وردائة فطرتهم فقال مقسما والله لَقَدْ أَرْسَلْنا رسولنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ بعد ما انصرفوا عن جادة التوحيد وانحرفوا عن طريق الحق بالميل الى الأهواء الباطلة والآراء الفاسدة فَقالَ لهم نوح عليه السّلام امحاضا للنصح على وجه الشفقة والنصيحة يا قَوْمِ اعْبُدُوا ايها المنهمكون في الغفلة اللَّهَ المتوحد في الألوهية المتفرد بالربوبية المستحق للعبودية واعلموا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق غَيْرُهُ ينقذكم من عذابه فان لم تعبدوه ولم توحدوه إِنِّي بعد ما اوحى الى هدايتكم وتنبيهكم على توحيده أَخافُ ان لم تقبلوا منى ان ينزل عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم الطوفان في النشأة الاولى ويوم القيمة في النشأة الاخرى وبعد ما سمعوا منه مقالته قالَ الْمَلَأُ الأشراف مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر لائح تأمرنا أنت بترك عبادة الآلهة المحققة الموجودة بين أظهرنا وتدعونا الى عبادة اله واحد موهوم ابدعته من عند نفسك افتراء ومراء قالَ ايضا على مقتضى شفقة النبوة لعلهم يتنبهون يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ كما زعمتم من جهلكم وَلكِنِّي رَسُولٌ هاد لكم مرسل إليكم مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي أوجدكم ورباكم بأنواع التربية حتى تعترفوا بربوبيته وتقروا بتوحيده وانما جئت لكم أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ بآياته وتذكيراته سبحانه حتى تفوزوا من عنده بالمثوبة العظمى والمرتبة العليا بهدايتى وإرشادي وَلا تضعفونى ولا تنسبونى الى الجهل والسفه انى أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ الحكيم العليم بمقتضى توفيقه على وحيه الى ما لا تَعْلَمُونَ أنتم منه سبحانه ذلك أَكذبتموني وانكرتمونى وَعَجِبْتُمْ من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ موعظة وتذكير لإرشادكم ناش مِنْ رَبِّكُمْ عَلى لسان رَجُلٍ مؤيد من عند الله مستحدث مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ به عن الكفر وعموم المعاصي ووخامة عاقبتهما وَلِتَتَّقُوا عن محارم الله بسبب إنذاره وتخويفه وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بإتيان مأموراته وترك منهياته عناية وتفضلا فَكَذَّبُوهُ بعد ما ضعفوه ونسبوه الى الضلال والجنون فانتقمنا منهم وأخذناهم بالطوفان فَأَنْجَيْناهُ وَالمؤمنين الَّذِينَ مَعَهُ داخلين فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة على رسولنا وبالجملة إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ غير مستبصرين بآيات الله الدالة على توحيده لقساوة قلوبهم وشدة عمههم

[سورة الأعراف (7) : آية 65]

في الغفلة والضلال وَلقد أرسلنا ايضا إِلى قوم عادٍ حين خرجوا عن ربقة الايمان وعروة التقوى أَخاهُمْ هُوداً اضافه إليهم بالاخوة المنبئة عن كمال الشفقة ووفور الاعطاف والمروءة قالَ مناديا مضيفا لهم الى نفسه ليقبلوا قوله ويمتثلوا بما جاء به من ربه يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ المظهر الموجد لكم من كتم العدم ورباكم بأنواع اللطف والكرم واعتقدوا يقينا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ موجد مرب غَيْرُهُ فعليكم ان تعبدوه ايمانا به وعملا بما جاء من لدنه على أنبيائه ورسله حتى تتحققوا بمقر التوحيد وتتمكنوا في مقعد الصدق أَتنكرون وحدة الحق وتعبدون غيره من الآلهة الباطلة العاطلة فَلا تَتَّقُونَ ولا تحذرون عن بطشه واخذه ثم لما سمعوا منه ما سمعوا قالَ الْمَلَأُ الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إذ بعض الأشراف قد آمن به كمرثد بن سعد إِنَّا لَنَراكَ يا هود فِي سَفاهَةٍ عظيمة في دعوى الإرشاد والتكميل وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ في ادعاء الرسالة والنبوة مِنَ الْكاذِبِينَ قالَ يا قَوْمِ لا تسفهوني ولا تكذبوني إذ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ من الله مرسل إليكم لهدايتكم مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ انما جئتكم أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ فعليكم ان تتعظوا بعظتى وتتصفوا بعموم ما نصحت لكم بالهام الله إياي ووحيه لتكونوا من زمرة المؤمنين الموقنين أَانكرتم وكذبتم امرى وهداي وَعَجِبْتُمْ بانهماككم في الغي والضلال من أَنْ جاءَكُمْ لإصلاح حالكم وإرشادكم ذِكْرٌ اى عظة وتذكير مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ موفق مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ عما يضلكم ويغويكم تفضلا وامتنانا عليكم وَلا تستبعدوا من الله أمثال هذا ولا تنكروها بل اذْكُرُوا عظائم نعمه عليكم إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وأورثكم ارضهم وديارهم وأموالهم وَزادَكُمْ بسببها فِي بين الْخَلْقِ بَصْطَةً تفوقا واستعلاء وترفعا واستيلاء فَاذْكُرُوا ايها المترفهون بنعم الله المغمورون بموائد كرمه آلاءَ اللَّهِ الفائضة عليكم واشكروا لها لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون من عنده بشرف الرضا والتسليم ثم لما بالغ في نصحهم وإرشادهم وبلغ جهده في أداء الرسالة والتبليغ قالُوا في جوابه من غاية قسوتهم ونهاية حميتهم مستفهما مقرعا أَجِئْتَنا ايها الكذاب السفيه لِنَعْبُدَ اللَّهَ الذي قد ادعيت أنت انه وَحْدَهُ لا شريك له ولا اله سواه وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الآلهة الموروثة لنا من أسلافنا عبادتهم فاذهب يا مجنون أنت وإلهك فانا لا نؤمن بك وبه أصلا وان شئت فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب والنكال وانواع الخسار والوبال إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك ثم لما ايس هود عليه السّلام من هدايتهم وصلاحهم قالَ قَدْ وَقَعَ اى قد نزل ووجب وحق عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وعذاب شديد تضطربون به وَغَضَبٌ نازل من عنده بحيث يستأصلكم بالمرة أَتُجادِلُونَنِي ايها المغضوبون عليكم بغضب الله سيما فِي أَسْماءٍ وأشياء قد سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ آلهة من تلقاء انفسكم وتعبدونها كعبادة الله عنادا مع انه ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ اى حجة وبرهان تستدلون بها على عبادة هؤلاء التماثيل الباطلة العاطلة وبعد ما ظهر الحق فلم تقبلوه ايها المسرفون فَانْتَظِرُوا نزول العذاب إِنِّي مَعَكُمْ ايضا مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ روى انهم كانوا يعبدون الأصنام فلما بعث إليهم هود كذبوه وأصروا على ما هم عليه عتوا وعنادا بل زادوا على ما كانوا فامسك الله القطر عنهم ثلث سنين حتى جهدهم وكان من عادتهم إذا نزل عليهم البلاء توجهوا نحو البيت الحرام وتقربوا عنده وطلبوا من الله الفرج فجهزوا نحوه قيل بن عنز

[سورة الأعراف (7) : آية 72]

ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم فلبثوا عنده شهرا ثم قصدوا البيت ليدعوا الله فقال مرثد والله لا تسقون بدعائكم هذا ولكن ان أطعتم نبيكم وتبتم الى الله ورجعتم نحوه ليسقيكم فقالوا لمعاوية احبس عنا مرثدا لا يقدمنّ معنا مكة فانه قد اتبع دين هود وترك ديننا فحبسه ثم دخلوا مكة فقال قيل اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم فانشأ الله بقدرته سحابات ثلثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم نادى مناد من جانب السماء اختر يا قيل لنفسك ولقومك منها فقال اخترت السواد لأنها أكثرهن ماء فخرجت على عاد من واد المغيث فاستبشروا بها واستعجلوا لنزولها فقالوا هذا عارض ممطرنا قيل حينئذ من قبل الحق بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم فجاءتهم ريح عقيم فأهلكتهم بالمرة فَأَنْجَيْناهُ اى هودا وَالَّذِينَ مَعَهُ مؤمنين بِرَحْمَةٍ نازلة مِنَّا إياهم لإيمانهم بنا وانقيادهم لرسولنا وَقَطَعْنا دابِرَ القوم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واستأصلناهم عن آخرهم وَهم ما كانُوا مُؤْمِنِينَ بنا وبنبينا وما كانوا ايضا قابلين مستعدين للايمان وَلقد أرسلنا ايضا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ اى معجزة ظاهرة الدلالة على صدقى في دعواي نازلة مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ المنتقم الغيور قد أرسلها وأظهرها لَكُمْ آيَةً دالة على صدقى في قولي فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ من رزق الله من حيث شاءت وَعليكم ان لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ وان آذيتموها واخذتموها بسوء فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم مقطع مستأصل فعليكم ان تحفظوها وتحافظوا عليها وعلى رعايتها حتى لا ينزل عليكم العذاب وَاذْكُرُوا ايها المتنعمون نعم الله عليكم وأدوا حقوقها سيما إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ في الأرض مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ اى مكنكم ووطنكم فِي الْأَرْضِ التي هم فيها حال كونكم تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها لبنا وآجرا وتبنون قُصُوراً عاليات تسكنون فيها مترفهين وَتَنْحِتُونَ اى تشقون بالمعاول والفئوس الْجِبالَ المتحجرة وتتخذونها بُيُوتاً وأخاديد لحفظ أمتعتكم واقمشتكم من الغارة وغيرها وبالجملة فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ المترادفة المتوالية عليكم وقوموا بشكرها ليزيد عليكم سبحانه ويديم لكم وَلا تَعْثَوْا اى ولا تظهروا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بغرور الأموال والأولاد والامتعة والعقار ثم لما سمعوا منه ما سمعوا قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عن الايمان به والاتباع له مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا اى ضعفائهم وأراذلهم سيما لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بصالح عليه السّلام على سبيل التهكم والاستهزاء أَتَعْلَمُونَ يقينا ايها الحمقى المصدقون له المؤمنون به أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ الذي ادعى وحدته واستقلاله في الألوهية والربوبية قالُوا اى المؤمنون المخلصون من صفاء عقائدهم ونجابة طينتهم على سبيل التأكيد والمبالغة إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ اى بعموم ما جاء به من عند ربه مُؤْمِنُونَ مصدقون موقنون قالَ الملأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عنادا ومكابرة إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ بمتابعة هذا المدعى كافِرُونَ منكرون مكذبون ثم لما كفروا وكذبوا مصرين فَعَقَرُوا ونحروا النَّاقَةَ المقترحة التي هي آية الله عليهم ووديعة عندهم قد أوصاهم سبحانه ان لا تمسوها بسوء وهم قد أهلكوها عنادا وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ استكبارا وَقالُوا لنبيه بطرا واستهزاء ومراء يا صالِحُ الكذاب المدعى ائْتِنا بِما تَعِدُنا

[سورة الأعراف (7) : آية 78]

من العذاب إِنْ كُنْتَ صدقت انك مِنَ الْمُرْسَلِينَ ثم لما فعلوا ما فعلوا وقالوا ما قالوا استحقوا بحلول ما وعدوا وأوعدوا فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ اى الصيحة الهائلة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ اى صار كل منهم جاثما جامدا الى حيث لا يتحرك منهم احد. روى انهم كانوا في منازل عاد يعيشون فيها متنعمين مترفهين الى ان كثرهم الله واعمرهم أعمارا طوالا واقتضى طول أملهم ان ينحتوا من الجبال بيوتا وأخاديد يخزنون فيها أمتعتهم ويبنوا قصورا عاليات في السهول إذ كانوا في خصب وسعة فاغتروا وغروا على ما هم عليه وأفسدوا في الأرض بأنواع الفسادات وبالغوا في عبادة الأصنام فبعث الله إليهم صالحا عليه السّلام وهو من اشرافهم فدعاهم الى الايمان والتوحيد فسألوا منه آية فقال أية آية تريدون قالوا له اخرج معنا الى عيدنا فادع إلهك وندعوا آلهتنا فمن استجيب منا اتبع فخرج معهم صالح فدعوا أصنامهم فلم يجابوا ثم أشار سيدهم جندع ابن عمرو الى صخرة منفردة يقال لها الكاتبة وقال لصالح أخرج من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء وان أخرجت صدقناك وآمنا بك فأخذ صالح عليه السّلام عليهم المواثيق انى ان أخرجت لتؤمنون بي فعهدوا معه فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا وهم ينظرون ثم أنتجت ولدا مثلها في الكبر فآمن له جندع في جماعة ومنع الباقين ذوار بن عمرو والخباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمغر كاهنهم فمكث الناقة مع ولدها ترعى الشجر وترد الماء غبا فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفجج فيحلبون منها ما شاءوا حتى يمتلئ جميع أوانيهم ويدخرون وكانت تضيف في ظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم وتشتو في بطنه فتهرب أنعامهم الى ظهره فشق ذلك عليهم فهموا بقتلها وزينت لهم قتلها أم غنم وصدقة بنت المختار فعقروها واقتسموا لحمها فرقى وصعد ولدها جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا فقال صالح لهم أدركوا الفصيل عسى ان يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه وانفتقت اى انشقت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال صالح عليه السّلام تصبح وجوهكم غدا مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات التي اخبر بها هموا ان يقتلوه فأنجاه الله تعالى وأوصله الى ارض فلسطين ولما كانت ضحوة اليوم الرابع تكفنوا بالانطاع فاتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا فَتَوَلَّى واعرض عَنْهُمْ صالح عليه السّلام بعد ما لاح عليهم امارات العذاب وعلامات الانتقام وَقالَ متحسرا متأسفا حين تجانب عنهم يا قَوْمِ المبالغين في الاعراض عن الحق لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وبذلت جهدي في هدايتكم وَنَصَحْتُ لَكُمْ إشفاقا عليكم حتى لا يلحقكم العذاب الموعود وَلكِنْ أنتم قوم مستكبرون في انفسكم مصرون معاندون لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ فلحقكم ما أخاف عليكم بإعراضكم عما أمرتم وَلقد أرسلنا ايضا لُوطاً عليه السّلام اذكروا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ المبالغين في ارتكاب الفعلة القبيحة والديدنة الشنيعة على سبيل التوبيخ والتقريع أَتَأْتُونَ وترتكبون الْفاحِشَةَ المتناهية في الفحش والفضاحة مع انها ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ بل قد اخترعتموها أنتم من خباثة نفوسكم وسخافة أحلامكم ورداءة طباعكم إِنَّكُمْ ايها المتجاوزون عن مقتضيات الحكم والحدود الإلهية لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً اى حال كونكم متلذذين مشتهين لإتيانهم مِنْ دُونِ النِّساءِ مع ان الحكمة تقتضي لإتيانهن وما هو الا من جهلكم بقبحها وخباثتها بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ في الفساد والخروج عن مقتضى الحكمة والحدود

[سورة الأعراف (7) : آية 82]

الإلهية بمتابعة اهويتكم الباطلة وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ حين سمعوا منه ما سمعوا إِلَّا أَنْ قالُوا مستكبرين متهكمين أَخْرِجُوهُمْ اى لوطا ومن آمن له مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ويدعون التطهر عن الخبائث ويجتنبون عن الفواحش فلا يناسبهم الاقامة فينا ثم لما لم يمتنعوا عن فعلهم بقوله بل زادوا على الإصرار والعداوة أخذناهم بظلمهم وإسرافهم وإصرارهم فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ ومن آمن له مما أصابهم إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنها تسر بالكفر والجحود بذلك قد كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الهالكين بقهر الله وغضبه وَبعد ما أردنا أخذهم وقصدنا انتقامهم أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً اى مطرا هو حجارة مركومة مركبة من سجيل فاستأصلناهم به فَانْظُرْ ايها المعتبر الرائي كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ المصرين على الجرائم العظام سيما بعد إرسال الرسل الهادين لهم الى طريق النجاة الزاجرين لهم عن ما هم عليه من القبائح على ابلغ وجه وآكده وَلقد أرسلنا ايضا إِلى قوم مَدْيَنَ وهو قرية شعيب عليه السّلام أَخاهُمْ وابن عمهم شُعَيْباً عليه السّلام حين افرطوا في التطفيف والتخسير قالَ لهم مناديا على وجه الشفقة والنصيحة يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ المستوي على العدل القويم والصراط المستقيم واعلموا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يعبد بالحق انه قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم دالة على القسط والعدالة في المعاملات الصورية لتفوزوا بها الى الاعتدال المعنوي والقسط الحقيقي الإلهي فَأَوْفُوا الْكَيْلَ ووفوا حقه كما ينبغي وَاقيموا الْمِيزانَ بالقسط واستقيموا فيه وَبالجملة لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ اى لا تنقصوا من حقوقهم شيأ وَعليكم ان لا تُفْسِدُوا ولا تنشئوا الفساد ولا تخترعوه مطلقا فِي الْأَرْضِ التي قد وضعت على كمال العدالة والصلاح سيما بَعْدَ إِصْلاحِها اى بعد اصلاحنا أمرها بإرسال الرسل وإنزال الكتب ذلِكُمْ اى العدل والصلاح وامتثال عموم الأوامر الناشئة من الحكمة الإلهية خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بعدل الله وصراطه المستقيم وعليكم ان تتوجهوا نحو الحق بالعزيمة الصحيحة الخالصة وَلا تَقْعُدُوا ولا تترصدوا بِكُلِّ صِراطٍ طريق ومذهب من الطرق الباطلة حال كونكم تُوعِدُونَ وتخوفون الناس عن سلوك طريق الحق وَتَصُدُّونَ تعرضون وتصرفون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الموصل الى توحيده مَنْ آمَنَ بِهِ بإلقاء الشبه والرخص في قلوبهم وَبالجملة تَبْغُونَها عِوَجاً اى تطلبون ان تنسبوا عوجا وانحرافا الى سبيل الحق والطريق المستقيم لينصرف الناس عنه وعليكم ان تميلوا عن مخالفة امر الله ونهيه وَاذْكُرُوا نعمه عليكم سيما إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عددا وعددا فَكَثَّرَكُمْ قويكم الله وأظهركم واشكروا نعمه عليكم لتدوم وتزيد ولا تكفروها لتنقص وَبالجملة انْظُرُوا معتبرين كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ الكافرين لنعم الحق من الأمم الهالكة واعتبروا من حالهم ومآلهم وما جرى عليهم من المصيبات المستأصلة وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ من العدالة الصورية والمعنوية وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا عنادا واستكبارا فَاصْبِرُوا وتربصوا وانتظروا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ العليم الحكيم بمقتضى عدله القويم بَيْنَنا بالنصر على من آمن والقهر على من كفر واستكبر وَهُوَ سبحانه في ذاته خَيْرُ الْحاكِمِينَ وأفضل الفاصلين يحكم بمقتضى حكمته المتقنة المتفرعة على العدالة الحقيقية ثم لما سمعوا منه ما سمعوا قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ على وجه المبالغة والتأكيد وعدم

[سورة الأعراف (7) : آية 89]

المبالات به وبشأنه لَنُخْرِجَنَّكَ البتة يا شُعَيْبُ وَكذا الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ وصدقوا بهذياناتك مِنْ قَرْيَتِنا هذه ظلما وعدوانا كرها واجلاء أَوْ لَتَعُودُنَّ أنت ومن معك فِي مِلَّتِنا التي كنتم عليها من قبل قالَ شعيب عليه السّلام مستفهما مستبعدا أَوَلَوْ كُنَّا في الأيام السالفة ايضا كارِهِينَ منكرين ملتكم التي أنتم عليها فتعيدوننا إليها ايها الحمقى المسرفون وكيف نعود قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا يعنى ان عدنا وصرنا فِي مِلَّتِكُمْ سيما بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ المنجى لعباده عن ظلمة الكفر مِنْها والهمنها بطلان ما أنتم عليه فقد افترينا على الله كذبا وكنا من المكذبين أمثالكم وَبالجملة ما يَكُونُ وما يجوز وما يصح لَنا أَنْ نَعُودَ ونرجع فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ العليم الحكيم عودنا ومصيرنا إليها إذ هو رَبُّنا يربينا بلطفه بما هو خير لنا وان كان فيها خيرا يعبدنا إليها إذ قد وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً تحققا وحضورا لذلك عَلَى اللَّهِ القادر المقتدر ذي العظمة والكبرياء وذي المجد والبهاء تَوَكَّلْنا في عموم ما جرى علينا لا على عيره من الوسائل والأسباب العادية وقد اتخدناه كفيلا لجميع أمورنا رَبُّنا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم افْتَحْ اى اقض واحكم بمقتضى ما قد جرى حكمك في لوح قضائك بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ المطابق للواقع والعدل السوى الموافق لما ثبت في لوح القضاء وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ الحافظين القاضين الحاكمين بين ذوى الخصومات ومن حسن محاورة شعيب عليه السّلام مع أمته ومجاملته معهم لقب بالخطيب بين الأنبياء وَبعد ما سمعوا منه ما سمعوا قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لتابعيهم وسفلتهم ترهيبا وتهديدا على سبيل المبالغة والله لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً وآمنتم له وسمعتم قوله في ترك البخس والتطفيف إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ في بضائعكم ومعاملاتكم ثم لما بالغوا في الضلال والإضلال استحقوا الانتقام والنكال فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ اى الزلزلة الشديدة فخر عليهم سقوف بيوتهم فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ التي يستقرون فيها وصاروا جاثِمِينَ جامدين ميتين وبالجملة الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا اى استوصلوا وانقرضوا الى حيث صاروا كأن لم يسكنوا ولم يكونوا في تلك الديار أصلا بل الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ المقصورين على الخسران الأبدي في النشأة الاولى والاخرى فَتَوَلَّى واعرض عَنْهُمْ شعيب عليه السّلام بعد ما شاهد حالهم واستحقاقهم للعذاب والغضب الإلهي وَقالَ متأسفا متحزنا على مقتضى شفقته مضيفا لهم الى نفسه مناديا يا قَوْمِ المنهمكين في الغفلة المبالغين في الإصرار والاستكبار لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي حتى لا يلحق بكم ما لحق وَنَصَحْتُ لَكُمْ باذنه سبحانه وبالغت في نصحى فلم تقبلوا منى نصحى ولم تصدقوا قولي ثم كذب هواجس نفسه وأنكر عليها خوفا من غضب الله فقال فَكَيْفَ آسى واتحزن عَلى قَوْمٍ قد كانوا كافِرِينَ لنعم الحق مكذبين لأوامره مستحقين لما نزل عليهم بسوء معاملتهم مع الله سيما بعد ورود ما ورد من الوعد والوعيد من لدنه سبحانه ثم لما ذكر سبحانه نبذا من احوال الأمم الماضية الهالكة وقبح صنائعهم مع الله وتكذيبهم كتبه ورسله سجل عليهم سبحانه بان ما لحقهم انما هو من سوء صنيعهم وشؤم نفوسهم فقال وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ من القرى الهالكة مِنْ نَبِيٍّ من الأنبياء إِلَّا أَخَذْنا أولا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ ازالة لقساوتهم وتليينا لقلوبهم لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ رجاء ان يتضرعوا إلينا ويتوجهوا نحونا ثُمَّ بعد ما ضيقنا عليهم كشفنا عنهم بان بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ المضرة المؤلمة الْحَسَنَةَ النافعة

[سورة الأعراف (7) : آية 96]

المسرة حَتَّى عَفَوْا الى ان كثروا وتكاثروا عددا وعددا وَقالُوا بعد ما صاروا مترفهين في سعة ورخاء مكان الشكر واظهار المنة منا قَدْ مَسَّ ولحق آباءَنَا كما لحقنا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أحيانا ومن عادة الزمان وديدن الدهر الخوان تعاقب السراء بالضراء والجدب بالرخاء ثم لما ظهر منهم كفران النعم دائما وعدم الرجوع إلينا بالشكر وبصوالح الأعمال فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فجأة بلا سبق مقدمة وتقديم امارة وَهُمْ حينئذ من غاية عمههم وسكرتهم لا يَشْعُرُونَ بنزول العذاب وحلول الغضب وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى الهالكة العاصية آمَنُوا بالله الواحد الأحد المستقل بالالوهية وبعموم أنبيائه ورسله المبعوثين إليهم من عنده سبحانه وَاتَّقَوْا عن محارم الله بمقتضى أوامره ونواهيه التي قد جاءت بها الأنبياء لَفَتَحْنا ووسعنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ نازلة مِنَ السَّماءِ وَنابتة من الْأَرْضِ وَلكِنْ من خبث طينتهم ورداءة فطرتهم كَذَّبُوا بالله وبعموم أنبيائه ورسله وكتبه فَأَخَذْناهُمْ بعد ما أظهروا التكذيب والإنكار بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بأيديهم لأنفسهم وبالجملة ما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى من انتقامنا وبطشنا إياهم ولم يخافوا من أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا عذابنا وعقابنا إياهم بَياتاً في أثناء الليل ويحيط بهم وَهُمْ نائِمُونَ في مضاجعهم أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ولم يترقبوا من أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى في كمال اضاءة الشمس وإشراقها وَهُمْ حينئذ يَلْعَبُونَ بأمور دنياهم بمقتضى مخايلهم ومناهم وبالجملة أَفَأَمِنُوا أولئك المنهمكمون في الغفلة والضلال مَكْرَ اللَّهِ المراقب بعموم أحوالهم ولم يخافوا ولم يحزنوا من اخذه وانتقامه ولم يتفطنوا ان من أمن من مكره واخذه فقد خسر خسرانا مبينا وبالجملة فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ المنتقم المقتدر الغيور إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي والشقاوة السرمدية في اصل فطرتهم وقابليتهم أَوَلَمْ يَهْدِ الم يذكر ولم يبين احوال الأمم الهالكة وأخذنا إياهم بما صدر عنهم من تكذيب الأنبياء وتكذيب ما جاءوا به من عندنا من الأوامر والنواهي لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ وصاروا خلفاء مِنْ بَعْدِ أَهْلِها الهالكين بالجرائم المذكورة أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بمقتضى قهرنا وجلالنا الخلفاء ايضا بِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم مثل أسلافهم بل بأضعافهم وآلافهم وَمن علامات أخذنا وانتقامنا إياهم انا نَطْبَعُ ونختم أولا عَلى قُلُوبِهِمْ لكيلا يفهموا الآيات ليعتبروا منها فَهُمْ حينئذ لا يَسْمَعُونَ حتى يتعظوا بها وبالجملة تِلْكَ الْقُرى الهالكة التي نَقُصُّ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل في كتابنا هذا مِنْ بعض أَنْبائِها ومن قصصها واخبارها وجرائمها مع الله ورسله وَالله لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحة والمعجزات القاطعة الساطعة من لدنا وهم من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ اى بما كذبوه قبل إرسال الرسل عليهم بل قد أصروا على ما هم عليه ولم يؤمنوا أصلا ولم يقبلوا من الرسل عموم ما جاءوا به وبالجملة ما تأثروا من دعوة الرسل وآياتهم ومعجزاتهم قط كَذلِكَ يَطْبَعُ ويختم اللَّهُ سبحانه حسب قهره وجلاله عَلى قُلُوبِ جميع الْكافِرِينَ فلا تعجبك يا أكمل الرسل حال اهل مكة وإصرارهم ولا تحزن منهم ولاتك في ضيق من مكايدهم إذ هي من الديدنة القديمة والخصلة الذميمة المستمرة بين الكفرة وَمن جملة أخلاقهم الذميمة وخصالهم المستهجنة المستمرة ايضا نقض العهود والمواثيق لذلك ما وَجَدْنا وما صادفنا لِأَكْثَرِهِمْ

[سورة الأعراف (7) : آية 103]

مِنْ عَهْدٍ عهدوا معنا على لسان رسلنا موفين له وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ اى بل ما وجدنا وما صادفنا أكثرهم بعد ما قد عهدنا معهم عهدا وثيقا الا فاسقين ناقضين لعهودنا ومواثيقنا مطلقا ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد انقراض أولئك الغواة الطغاة الهالكين بأنواع العذاب والنكال نبينا مُوسى المختص بتشريف تكليمنا مؤيدا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا مع انا قد أيدناه بالمعجزات الباهرة إِلى فِرْعَوْنَ المبالغ في العتو والاستكبار الى حيث يدعى الألوهية والربوبية لنفسه وَمَلَائِهِ المعاونين له المصدقين لدعواه الكاذبة وبعد ما ادعى الكليم النبوة واظهر الآيات فَظَلَمُوا بِها اى أنكروا بالآيات ونسبوها الى ما لا يليق بشأنها وكذبوا موسى فَانْظُرْ ايها المعتبر الرائي كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ في ارض الله الخارجين عن مقتضيات أوامره ونواهيه وَاذكر يا أكمل الرسل إذ قالَ مُوسى حين أراد دعوتهم يا فِرْعَوْنُ المتكبر المتجبر المتجاوز عن مقتضى الحدود الإلهية المفسد بين عباده بأنواع الفسادات المفرط المفرط بدعوى الربوبية إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ قد أرسلني الله واختارني لرسالته وانا حَقِيقٌ جدير لائق عَلى أَنْ لا أَقُولَ ولا أسند عَلَى اللَّهِ القادر المقتدر المتعزز الغيور من الأقوال والاحكام إِلَّا الْحَقَّ الذي قد علمني ربي بالوحي وبعثني لأجله وتبليغه لعباده واعلموا ايها البغاة الطغاة انى قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ واضحة دالة على صدقى في دعواي صادرة مِنْ رَبِّكُمْ الذي أظهركم وأوجدكم من كتم العدم بعد ان لم تكونوا شيأ مذكورا فَأَرْسِلْ ايها الفرعون الطاغي مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ المقهورين تحت قهرك المظلومين بيدك ليذهبوا معى الى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم وفكك رقابهم عن رقك وخل سبيلهم بعد ما امر الحق به والا قد نزل عليك وعلى قومك عموم ما أوعدك الحق به من انواع العذاب والعقاب في العاجل والآجل قالَ فرعون في جوابه مستكبرا مكذبا بل منهكما على وجه التكبر والخيلاء لا افك رقابهم ولا اخلى سبيلهم بل إِنْ كُنْتَ ايها المدعى الكاذب قد جِئْتَ بِآيَةٍ من عند ربك الذي قد ادعيت رسالته فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعويك هذا ثم لما سمع موسى قوله وشاهد عتوه واستكباره فَأَلْقى بالهام الله له عَصاهُ من يده على الأرض بين أيديهم فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ بلا معالجة واستعمال اسباب وأدوات كما يفعله السحرة مُبِينٌ عظيم ظاهر بأضعاف مقدار العصا. روى انه لما ألقاها صارت ثعبانا أشقر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحاه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون فهرب وأحدث وانهزم الناس مزدحمين فمات من الناس خمسة وعشرون الفا وصاح فرعون أنشدك بالذي أرسلك يا موسى خذه وانا او من بك وأرسل معك بنى إسرائيل فأخذه فعاد عصا وَبعد ذلك نَزَعَ يَدَهُ اى ادخل يده في جيبه وكان لون بشرة موسى شديد الادمة ثم نزع فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ مشرقة مشعشعة محيرة لِلنَّاظِرِينَ مفرقة لابصارهم من كمال ضوئها وانارتها بحيث قد غلب ضوءها ضوء الشمس ثم لما شاهدوا من معجزاته وآياته ما شاهدوا قالَ الْمَلَأُ اى الأشراف مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ متعجبين من امره متشاورين مع فرعون حائرين مضطرين مضطربين خائفين من استيلائه إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ متناه في هذا العلم الى أقصى غايته لذلك ادعى الرسالة وأعجز الغير عن إتيان مثله وبالجملة يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بسحره هذا فَماذا تَأْمُرُونَ ايها المتأملون المتفكرون في ضبط المملكة وحفظ

[سورة الأعراف (7) : آية 111]

البلاد في دفع هذا العدو القوى وبعد ما تشاوروا وتأملوا كثيرا في امره ودفعه فاستقر رأيهم واتفق حكمهم الى ان قالُوا مخاطبين لفرعون أَرْجِهْ وَأَخاهُ اى أخر وسوف قتلهما لئلا يظهر عجزك عنهما ولا يختل امر ربوبيتك وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ التي قد اشتهر السحر والسحرة فيها شرطاء حاشِرِينَ جامعين من فيها من السحرة وبعد جمعهم يَأْتُوكَ ويحضروا عندك بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ماهر حاذق في هذا العلم ليتمكنوا على مغالبتها فأرسلهم فرعون فحشروا وانتخبوا من السحرة وَجاءَ السَّحَرَةُ المنتخبة فِرْعَوْنَ متظاهرين بطرين جازمين على غلبتهما لذلك سألوا أولا من الجعل حيث قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ وهم وان كانوا جازمين في أنفسهم الغلبة أتوا بان المفيدة للشك للمبالغة في طلب الجعل قالَ فرعون نَعَمْ ان لكم اجرا كثيرا وَمع ذلك إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عندي الحاضرين في مجلسي المصاحبين معى دائما انما قال ما قال تحريضا لهم وترغيبا وبعد ما تقرر عندهم وفي نفوسهم الغلبة وسمعوا منه ما سمعوا من الانعام والتقرب قالُوا اى السحرة يا مُوسى نادوه استحقارا له واستهزاء معه وتسفيها إياه كيف اقدم مع ضعفه ورثاثة حاله في مقابلتهم إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أنت أولا ما جئت به وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ما جئنا به فلك الخيار والاختيار إذ كلاهما عند ناسيان قالَ موسى بالهام الله له بل أَلْقُوا ما جئتم لإلقائه ايها الساحرون المبطلون فَلَمَّا أَلْقَوْا اى أرادوا الإلقاء سَحَرُوا أولا أَعْيُنَ النَّاسِ حتى لا يتخيلوا انها امور غير مطابقة للواقع بل اعتقدوا مطابقتها وَاسْتَرْهَبُوهُمْ اى بنى إسرائيل المنتظرين لغلبة موسى ليخلصوا من يد العدو ارهابا شديدا إذا القوا حبالهم حبالا غلاظا وخشبا طوالا وصار الكل حيات متراكمة متراكبة بعضها فوق بعض وَبالجملة قد جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ متناه فيه مبالغ أقصى غايته وَبعد ما جاءوا بسحرهم العظيم أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فألقاها فصارت ثعبانا عظيما مهيبا فَإِذا هِيَ أخذت تَلْقَفُ تبتلع وتلتقم ما يَأْفِكُونَ اى عموم ما يزورونه ويلبسونه سحرا وشعبذة وبالجملة فَوَقَعَ الْحَقُّ وتحقق الاعجاز وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من السحر والشعبذة في مقابلته فَغُلِبُوا اى فرعون وملاؤه هُنالِكَ المجلس وَانْقَلَبُوا ورجعوا منه صاغِرِينَ ذليلين محزونين بعد ما قد خرجوا متكبرين مستعلين وَبعد ما شاهد السحرة من امر موسى ما شاهدوا وانكشفوا بحقيته وصدقه بجذب رقيق من جانب الحق والهام لطيف تام من لدنه سبحانه لذلك أُلْقِيَ السَّحَرَةُ على الفور ساجِدِينَ متذللين واضعين جباههم على تراب المذلة والهوان وحين سجدوا قالُوا عن ظهر قلوبهم وكمال إخلاصهم وقبولهم قد آمَنَّا أيقنا وتحققنا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ اى اللذين هما ادعيا الرسالة من لدنه ودعوا الناس الى الايمان به والإطاعة له والتوجه نحوه. ثم لما رأى فرعون سجود السحرة وسمع ايمانهم قالَ فِرْعَوْنُ مغاضبا لهم مستفهما على سبيل الإنكار والتهديد آمَنْتُمْ بِهِ اى برب موسى وهارون قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ اى قبل ان تشاوروا معى وتعترفوا عندي بغلبته عليكم وقبل ان تستأذنوا منى بالإيمان فظهر من صنيعكم هذا إِنَّ هذا اى ما جاء وظهر به موسى وهارون وادعاؤهما الرسالة والنبوة لَمَكْرٌ حيلة وخديعة عظيمة قد مَكَرْتُمُوهُ أنتم وموسى متفقين فِي الْمَدِينَةِ اى مصر لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها يعنى القبط وتستولوا أنتم وبنو إسرائيل على ملك مصر بهذه

[سورة الأعراف (7) : آية 124]

الخديعة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة مكركم وخداعكم لَأُقَطِّعَنَّ اليوم أولا على رؤس الاشهاد أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ متبادلتين ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ زمانا كما يصلب البغاة الذين خرجوا على الولاة واولى الأمر والطاعة وبعد ما سمع السحرة تهديده قالُوا حين كوشفوا بمآل الأمر وشوهدوا بحقيقة الحال مستطيبين فرحين مستنشطين إِنَّا بعد خلاصنا من ربقة ناسوتنا وسلسلة إمكاننا إِلى رَبِّنا حسب حصة لاهوتنا وحظ وجوبنا مُنْقَلِبُونَ صائرون راجعون رجوع الظل الى ذي الظل وَما تَنْقِمُ مِنَّا أنت ايها الطاغي المتجبر المتكبر وما تنكر وتغضب علينا إِلَّا أَنْ آمَنَّا أيقنا واذعنا بِآياتِ رَبِّنا الذي قد أظهرنا من كتم العدم وربانا بأنواع اللطف والكرم لَمَّا جاءَتْنا وحين ظهرت علينا حقيتها وانكشفنا بها بتوفيق منه وجذب من جانبه ولو كوشفت أنت ايضا بما انكشفنا قد ارتفع غطاء التعامي وعشاء الغفلة عن بصر بصيرتك فتشهد أنت حينئذ بما شهدنا وشاهدت ما شاهدنا الا انه سبحانه قد ختم على قلبك وسمعك وبصرك بالغشاوة الغليظة والحجب الكثيفة لذلك استكبرت علينا واستنكرت بنا وبالجملة من لم يجعل الله له نورا فما له من نور ثم انصرفوا نحو الحق واشتغلوا بالمناجاة معه سبحانه ورفع الحاجات نحوه فقالوا متضرعين رَبِّنا يا من ربانا بلطفك وكرمك الى ان جعلتنا من زمرة شهدائك الذين بذلوا مهجهم في سبيلك طائعين راغبين أَفْرِغْ أفض واصبب عَلَيْنا صَبْراً من لدنك متواليا متتابعا حين اشتغل هذا الطاغي على إمضاء ما هددنا به بحيث لا يغيب عنا شوق لاهوتك ولا يغلب على قلوبنا الم ناسوتنا أصلا وَحين انقطع أنفاسنا عنا وخرج أرواحنا منا تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ مسلمين مستقرين متمكنين في مرتبة الرضا والتسليم ثابتين على جادة التوحيد واليقين بلا تزلزل وتلوين. ثبت أقدامنا على جادة معرفتك وتوحيدك يا خير الناصرين وَبعد ما قد فعل فرعون اللعين بالسحرة أنار الله براهينهم ما هددهم به قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ يعنى بني إسرائيل لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ سيما بعد ما انتشر في اقطار الأرض غلبة موسى عليك ويغيروا طباع الناس عنك ويوقعوا الفتن بين رعايا بلادك وَبالجملة يؤدى أمرهم وإيقاعهم الى ان يَذَرَكَ اى كل واحد منهم عبادتك وَعبادة آلِهَتَكَ التي قد وضعتها أنت بين عبادك ليعبدوا لها من الأصنام والأوثان والتماثيل لتتخذوها معبودات وتتوجهوا نحوها قالَ فرعون لا ندعهم بعد اليوم على ما قد كانوا عليه من قبل ولا نستأصلهم ايضا لئلا ينسب العجز والظلم إلينا بل نستضعفهم على التدريج سَنُقَتِّلُ بعد اليوم أَبْناءَهُمْ اى ذكور أولادهم لئلا يتكثروا وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ اى نبقى إناث أولادهم حتى نتزوجهن وينزجروا بلحوق العار وبعد ما مضى زمان على هذا انقرضوا واستوصلوا وَكيف لا نفعل معهم هذا إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ قادرون غالبون وبالجملة نفعل بهم اليوم ما فعلنا معهم في ما مضى لئلا يتوهم ان موسى هو المولود الذي قد زعم الكهنة والمنجمون ان زوال ملكنا على يده ثم لما سمع بنوا إسرائيل تهديد فرعون تفزعوا منه وتضجروا وبثوا الشكوى الى الله متضرعين قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ تسلية لهم وازالة لضجرتهم اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ لدفع مضارهم وَاصْبِرُوا على أذاهم ولا تقنطوا من نصر الله وعونه إياكم ولا تيأسوا من روح الله إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ إيجادا وتملكا وتصرفا يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَبالجملة الْعاقِبَةُ الحميدة لِلْمُتَّقِينَ منهم وهم الذين يتقون ويحذرون عن محارم الله ويصبرون على عموم ما جرى عليهم

[سورة الأعراف (7) : آية 129]

من القضاء قالُوا اى بنو إسرائيل تشكيا قد أُوذِينا من أجلك يا موسى مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة بقتل الأبناء واستحياء النساء وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا ايضا كذلك قالَ موسى لا تيأسوا من نصر الله وانجاز وعده بل عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ اى قد قرب حكم ربكم وانجاز وعده باهلاك عدوكم وَبعد إهلاكهم يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ التي هم فيها فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أنتم هل تشكرون نعمه أم تكفرونها وتعملون من الصالحات أم تفسدون فيها أمثالهم ثم أشار سبحانه الى إهلاك عدوهم وانجاز وعده إياهم على سبيل التدريج حيث قال وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ اى بعد ما تعلق ارادتنا بأخذهم وإهلاكهم أخذناهم أولا بالقحط وقلة الأقوات والغلات وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ التي هم يتفكهون بها لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ اى يتذكرون ايام الرخاء ويتضرعون نحونا لإعادتها ويصدقون رسولنا الذي أرسلنا إليهم ليدعوهم الى توحيدنا وهم من شدة عمههم وقسوتهم لا يتعظون بأمثال هذا بل فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ الخصب والرخاء وكل ما يسرهم ويفرح نفوسهم قالُوا متفألين لَنا هذِهِ اى لأجلنا ومن سعادة طالعنا ونحن مستحقون بأمثالها وَإِنْ تُصِبْهُمْ أحيانا سَيِّئَةٌ مشقة وعناء مما يشوشهم ويملهم يَطَّيَّرُوا اى يتطيروا ويتشأموا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ وآمن له وقالوا انما عرض علينا هذا البلاء بشؤم هؤلاء الأرذال الساقطين عن درجة الاعتبار أَلا اى تنبهوا ايها المتنبهون المتوجهون نحو الحق في السراء والضراء إِنَّما طائِرُهُمْ ما يتطيرون به ويتشأمون بسببه ليس الا عِنْدَ اللَّهِ وفي قبضة قدرته ومشيته إذ له التصرف بالاستقلال في ملكه وملكوته والقبض والبسط من عنده وبيده يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ فيرون الأسباب والوسائل العادية في البين ويسندون الحوادث الكائنة إليها عنادا ومكابرة وَمن شدة شكيمتهم وغلظ غيظهم ووفور قسوتهم وبغضهم قالُوا منهمكين مستهزئين مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ اى اى شيء تحضرنا أنت يا موسى لتغلب به علينا من سحرك الذي سميته آية نازلة من ربك عليك لِتَسْحَرَنا بِها أنت فأت به سريعا ان استطعت فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ اى متى تأخرت واستبطأت وتسوفت وبعد ما بالغوا في العتو والعصيان وأصروا على ما هم عليه من الطغيان والكفران فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ امدادا لموسى وانتقاما لهم الطُّوفانَ اى الماء الذي طاف حولهم ودخل بيوتهم ووصل الى تراقيهم ولم يدخل بيوت بنى إسرائيل مع انها متصلة ببيوتهم ولم يتضرروا من الماء أصلا ثم لما تضرروا واضطروا وكادوا ان يغرقوا تضرعوا الى موسى وقالوا ادع لنا ربك يا موسى ليكشف عنا فنأمن بك فدعا فكشف عنهم ونبت من الزرع والكلأ ما لم يعهد فنكثوا عهدهم ونسبوا دعاءه الى السحر وَبعد ذلك قد أرسلنا عليهم الْجَرادَ فأكلت زروعهم واثمارهم وأخذت تأكل السقوف والأبواب والثياب فتضرعوا الى موسى فدعا وانكشف حيث خرج الى الصحراء مشيرا بعصاه نحو الجراد يمنة ويسرة فتفرقت الى النواحي والأقطار فنكثوا وَأرسلنا بعدها الْقُمَّلَ هي دود أصغر من الجراد قيل انها حدثت من الجراد فأخذت ايضا تأكل ما بقي من الجراد وتقع في الأطعمة وتدخل بين أثوابهم فتمص دماءهم ففزعوا اليه فكشف عنهم بدعائه فقالوا له قد علمنا الآن انك ساحر عليم وَبعد ذلك قد أرسلنا عليهم الضَّفادِعَ بحيث لا يخلو مكان من الأمكنة منها وتثب في قدورهم وأوانيهم وأفواههم حين تكلموا ففزعوا نحوه معاهدين فخلصوا بدعائه ثم نقضوا وَبعد ذلك قد أرسلنا الدَّمَ

[سورة الأعراف (7) : آية 134]

حيث صار المياه كلها عليهم دماء حتى كان القبطي والسبطى الإسرائيلي يجتمعان على اناء واحد فيصير ما يلي القبطي دما وما يلي الإسرائيلي السبطى ماء ويمص القبطي ماء من فم السبطى فيصير دما وانما أرسلنا عليهم هذه البليات لتكون آياتٍ اى دلائل وعلامات دالة على كمال قدرتنا مُفَصَّلاتٍ مبينات موضحات مميزات بين الهداية والضلالة والحق والباطل والرشد والغي فَاسْتَكْبَرُوا عنها مع وضوحها وسطوعها واعرضوا عن مدلولاتها وأصروا على ما هم عليه وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ مستحقين بالعذاب والعقاب فلم ينفعهم الآيات والنذر لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم وَهم قد كانوا لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ وحين حل عليهم البلاء والمصيبة قالُوا متضرعين متفزعين يا مُوسَى الداعي للخلق الى الحق ادْعُ لَنا رَبَّكَ الذي رباك بأنواع الكرامات بِما عَهِدَ عِنْدَكَ من اجابة دعواتك وقبول حاجاتك والله لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ بدعائك لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ مصدقين نبوتك ورسالتك وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ بلا ممانعة ولا مماطلة فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ بدعاء رسولنا موسى وبلغ الزمان إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ اى عينوه وقدروه لإيمانهم وارسالهم ليتأملوا ويتفكروا فيها إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ اى بعد ما وصل وقت الوفاء والإيفاء بالعهود والمواثيق بادروا الى النكث والنقض ثم لما بالغوا في النكث وخالفوا أمرنا وكذبوا بنبينا فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ اى أردنا انتقامهم وأخذهم فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ اى البحر العميق لانهماكهم في بحر الغفلة والطغيان كل ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة الموصلة الى وحدتنا الذاتية وَكانُوا بسبب استغراقهم في بحر الغفلة والضلال عَنْها غافِلِينَ محجوبين لا يهتدون بهداية الرسل والأنبياء وَبعد ما أغرقناهم في يم العدم واستأصلناهم عن قضاء الوجود بالمرة أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بالقهر والغلبة سيما بقتل الأبناء واستحياء النساء مَشارِقَ الْأَرْضِ المعهودة اى مصر ومشارقها الشام ونواحيها وَمَغارِبَهَا الصعيد ونواحيها الَّتِي بارَكْنا فِيها كثرنا فيها الخير والبركة وسعة الأرزاق وطيب العيش من جميع الجهات وَبعد ما اورثناهم قد تَمَّتْ اى كملت وحقت كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى يا موسى بإنجاز الوعد والنصر وايراث الديار والأموال وغير ذلك عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا اى بسبب ما صبروا على اذياتهم المتجاوزة عن الحد وَدَمَّرْنا اى خربنا وهدمنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من الابنية الرفيعة والقصور المشيدة وَما كانُوا يَعْرِشُونَ عليها مترفهين بطرين كمسرفي زماننا هذا احسن الله أحوالهم. ثم أشار سبحانه الى قبح صنيع بنى إسرائيل وخبث طينتهم وجهلهم المركوز في جبلتهم وسخافة طبعهم وركاكة فطنتهم تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتذكيرا للمؤمنين ليحذروا عن أمثال ما اتى به هؤلاء فقال وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اى عبرناهم سالمين غانمين الْبَحْرَ الذي قد أهلك عدوهم فَأَتَوْا اى مروا في طريقهم عَلى قَوْمٍ من بقية العمالقة يَعْكُفُونَ ويعبدون عَلى أَصْنامٍ تماثيل كانت معبودات لَهُمْ من دون الله قالُوا اى بنوا إسرائيل من قساوة قلوبهم وضعف يقينهم بالله المنزه عن الأشباه والأمثال يا مُوسَى المبعوث المرسل إلينا من الله الواحد الأحد اجْعَلْ لَنا إِلهاً اى تمثالا واحدا مشابها لله نعبده ونتقرب نحوه كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها ويتقربون نحوها ونحن كيف نعبد وندعو الى اله موهوم لا نراه ولا نشاهده وكيف نتضرع اليه ونتوجه نحوه ونستحيي منه ونخاف عنه ثم لما تفرس منهم موسى

[سورة الأعراف (7) : آية 139]

ما تفرس من الحجب الكثيفة والاغشية الغليظة قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تستمرون على جهلكم الجبلي لم يؤثر فيكم الآيات الكبرى والبراهين العظمى. وبالجملة أنتم لم تتفطنوا بالوحدة الذاتية مع غاية وضوحها في ذاتها سيما بعد الإيضاح والتوضيح البليغ بالآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة إِنَّ هؤُلاءِ العاكفين الضالين مُتَبَّرٌ مهلك معدوم ما هُمْ فِيهِ من عبادة التماثيل الباطلة العاطلة الهالكة المستهلكة في أنفسها إذ لا وجود لها أصلا وَبالجملة باطِلٌ عاطل ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى أعمالهم لها ولأجلها من الإطاعة والانقياد إذ هو اشراك بالله الواحد الواجب الوجود المستقل بالالوهية ما لا وجود له أصلا ثم قالَ موسى متأسفا مقرعا أَغَيْرَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء أصلا أَبْغِيكُمْ واطلب لكم ايها الحمقى العمي الضالون في تيه الغفلة والغرور إِلهاً من مصنوعاته يعبد له بالحق ويتقرب اليه وَالحال انه هُوَ سبحانه قد فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ إذ لا مظهر له أكمل منكم فكيف تعبدون أنتم الفاضلون المكرمون المفضول المرذول وما عرض عليكم ايها الجاهلون الحمقى وما لحق بكم حتى لم تعرفوا مرتبتكم الجامعة الكاملة وَعليكم ان تعدوا نعم الله التي قد أنعمها عليكم لعلكم تتنبهون على توحيد المنعم اذكروا إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ حين يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ اى يعلمونكم به وذلك انهم يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ حتى لا تستكثروا وتستظهروا بهم وَأقبح منه انهم يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ ليلحق العار عليكم بتزويجهن بلا نكاح وَبالجملة لكم فِي ذلِكُمْ المذكور من العذاب بَلاءٌ واختبار مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ فأنجيناكم منهم لتقيموا بذكرنا وتواظبوا بشكر نعمنا وتتفطنوا بتوحيدنا واستيلائنا ومع ذلك لم تتنبهوا وَاذكروا ايضا إذ واعَدْنا مُوسى والزمنا عليه على سبيل النذر والنفل قبل إهلاكنا فرعون بان أخلص لنا ثَلاثِينَ لَيْلَةً من شهر ذي القعدة بان صام فيها وصلّى ان ظفر على فرعون بعد هلاك عدوه حتى ننزل عليه من لدنا كتابا نبين له فيه التدابير المتعلقة لأمور معاش بنى إسرائيل ومعادهم ثم لما أهلكنا العدو ذهب موسى الى ميقاتنا انجازا للموعود المنذور وقبل ما تمت المدة المذكورة قد أنكر موسى خلوف فمه فتسوك قالت الملائكة له قد كنا نشم منك ريح المسك فافسدته بالسواك وَلذلك اى لتداركه وتلافيه قد أَتْمَمْناها اى مدة ميقاتها وأمرناه تلافيا لما أفسده بِعَشْرٍ اى بعشرة ايام أخر من ذي الحجة مضمومة الى ثلثى ذي القعدة كفارة لما فوته بالسواك فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وبعد ما أتمها أنزلنا التورية المبين لهم الاحكام المتعلقة بالأمور الدنيوية والاخروية انجازا لوعدنا إياه وذلك من أعظم النعم وأجل الكرم وَاذكروا ايضا إذ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي وصر خليفتي فِي قَوْمِي وذكر لهم مما يتعلق بأمور معاشهم ومعادهم نيابة عنى وَبالجملة أَصْلِحْ بينهم واحفظهم عن زيغ اهل الضلال والإضلال وَلا تَتَّبِعْ أنت ومن معك سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون عقائد ضعفاء الأنام بالتمويهات الباطلة والتغريرات العاطلة ومع ذلك قد اتبعتم السامري من خبث طينتكم ورداءة فطنتكم وَاذكروا ايضا لَمَّا جاءَ مُوسى حين بعثنا إليكم لإصلاح حالكم لِمِيقاتِنا ليناجى معنا ويتوجه بنا وَمن كمال اللطف والجود إياه كَلَّمَهُ رَبُّهُ اى كلم معه لسان مرتبته التي قد حصل له عند الله وانكشف بها من الله إذ لكل ذرة من ذرائر المظاهر مرتبة خاصة وظن مخصوص وانكشاف مستقل بالنسبة الى الله لذلك قال

[سورة الأعراف (7) : آية 144]

سبحانه انا عند ظن عبدى بي. وأعلى المراتب وابهاها مرتبة النبوة والرسالة مع تفاوت طبقاتها ثم الأمثل ثم لما انبسط موسى مع ربه وانكشف له من ربه ما انكشف بحيث سمع كلامه من جميع الجوانب والجهات بلا وسيلة آلة وواسطة من ملك وغيرها وبلا تلفظ كلمة حاصلة من تراكيب الحروف الحاصلة من تقطيع الأصوات قد اضطرب حينئذ موسى ووله وارتعد ومن غاية ولهه وسكره تسارع الى انكشاف اجلى منه واكشف حيث قالَ بعد سماع كلام الحق لا على الوجه المتعارف المعهود وانجذابه نحوه انجذابا لا على الوجه المعتاد رَبِّ يا رب أَرِنِي ذاتك التي قد تنزهت عن المقابلة والمحاذاة والمماثلة والمحاكات كما أسمعتني كلامك المنزه عن ترتيب الكلمات وتقاطع الحروف والأصوات أَنْظُرْ إِلَيْكَ ببصرى كما سمعت كلامك بسمعي قالَ سبحانه لَنْ تَرانِي يا موسى ما دمت في جلباب تعينك وغشاوة هويتك وَلكِنِ ان أردت ان تعرف استعدادك لرؤيتى انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ حين تجليت عليها بهويتى المسقطة للهويات مطلقا فَإِنِ اسْتَقَرَّ وثبت عندك انه تمكن مَكانَهُ بعد ما اتجلى عليه بذاتى اى بقي هو على هويته التي هو فيها قبل التجلي فَسَوْفَ تَرانِي اى فيمكن لك حينئذ ان تراني بهويتك فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ حسب أوصافه القهرية الجلالية جَعَلَهُ دَكًّا مدكوكا مفتتا متلاشيا كأنه لم يكن شيأ مذكورا وبالجملة قد اضمحلت تعيناته الباطلة مطلقا ورجع الى ما كان عليه من العدم واللاشيء المحض وَبعد ما رأى من قدرة الله ما رأى خَرَّ وسقط مُوسى الكليم بعد ما نظر نحوه ولم يره صَعِقاً حائرا هائما قلقا مغشيا عليه كأنه انفصل عنه لوازم هويته مطلقا فَلَمَّا أَفاقَ موسى عن ولهه وسكره وانكشف من ربه بما انكشف من انه لا يرى الله الا الله ولا يعرف الله الا الله ولا ينظر نحوه الا عينه ولا يدرك ذاته الا ذاته قالَ مستحيا منيبا خائفا مستنزها سُبْحانَكَ انزهك تنزيها بليغا وأقدسك تقديسا متناهيا من ان يحيط بك وباسمائك وصفاتك احد من مصنوعاتك تُبْتُ ورجعت إِلَيْكَ يا ربي مما اجترأت من سؤال ما ليس في وسعى وطاقتي وَبعد ما عرفتك الآن يا ربي عرفانا أكمل وانكشفت منك انكشافا أتم بحيث لم انكشف مثله من قبل أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بعظمتك وجلالك إذ لا اعتداد لإيماني بك من قبل ثم لما استحيي موسى من الله وندم عن سؤاله بلا استيذان منه سبحانه تغمم وتحزن حزنا بليغا من اجترائه بما ليس في وسعه أزال سبحانه إشفاقا له ما عرض عليه من الندم والخجل حيث قالَ سبحانه مناديا له يا مُوسى المستخلف منى إِنِّي بمقتضى حولي وقوتي وحسب اختياري وإرادتي قد اصْطَفَيْتُكَ واخترتك من بين الناس وبعثتك عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وبحمل احكامى واوامرى وتذكيراتى حتى توصلها الى عبادي نيابة عنى وَقد خصصتك من بين الرسل بِكَلامِي اى بسماعه بلا كيف وحرف وبلا واسطة سفير وملك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ تفضلا عليك بقدر وسعك واستعدادك ولا تبادر الى سؤال ما لا طاقة لك به ولا يسع في وسعك الاستكشاف عنه وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمنا الواصلة إليك واصرفها على الوجه الذي امرناك به من المصارف ووفقناك عليه ولا تكن من الكافرين لنعمائنا المنصرفين عن أوامرنا وأحكامنا لتفوز عنا بالرضا الذي هو احسن احوال ارباب الكشف والشهود وَمن جملة اصطفائنا له وانعامنا إياه انا قد كَتَبْنا لَهُ وأثبتنا لأجل تربيته وإرشاده فِي الْأَلْواحِ اى ألواح التورية مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يتعلق بتهذيب الظاهر والباطن مَوْعِظَةً تذكرة وتبيانا

[سورة الأعراف (7) : آية 146]

يتعظ بها هو ومن تبعه وَتَفْصِيلًا توضيحا وتبيينا متعلقا لِكُلِّ شَيْءٍ اى لكل حكم من الاحكام المتعلقة بأمور معاشهم فَخُذْها اى فقلنا له خذها ايها الداعي للخلق الى الحق بِقُوَّةٍ عزيمة صادقة وجزم خالص وَأْمُرْ قَوْمَكَ ايضا يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها يعنى بعزائمها دون رخصها حتى تستعد نفوسهم لان يفيض عليها المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات التي هي عبارة عن الجنة المأوى والفردوس الأعلى والرتبة العليا عند العارف المحقق ولا يميلوا عنها وعن أحكامها حتى لا يلحقوا بزمرة الفساق المنحطين عن رتبة الخلافة الانسانية وبالجملة سَأُرِيكُمْ في النشأة الاخرى ايها المائلون عن مقتضى الاحكام الإلهية التي هي صراط الله الأقوم دارَ الْفاسِقِينَ التي هي عبارة عن جهنم الحرمان وجحيم الخذلان وسعير الخيبة والخسران أعاذنا الله وعموم عباده منها. ثم قال سبحانه سَأَصْرِفُ أميل واغفل عَنْ آياتِيَ الظاهرة في الآفاق والأنفس الدالة على توحيدي واستقلالى في عموم التصرفات الكائنة في الآفاق والتدابير الجارية فيها بالاستقلال والاستحقاق القوم الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ ويمشون خيلاء فِي الْأَرْضِ وهم يظلمون عليها بِغَيْرِ الْحَقِّ لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم وَهم من نهاية جهلهم المركوز في جبلتهم إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ دالة على الصدق والصواب لا يُؤْمِنُوا بِها عتوا وعنادا وَبالجملة إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ والهداية لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لعدم موافقة طباعهم إياه وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ والضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لميل نفوسهم نحوه بالطبع ذلِكَ اى الصرف والانحراف العارض لهم والاهوية الباطلة والآراء الفاسدة كلها بِأَنَّهُمْ من غاية انهماكهم في الضلال قد كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا المنزلة على رسلنا وَكانُوا من غاية جهلهم عَنْها وعن الامتثال بها والعمل بمقتضاها والتدبر في معناها غافِلِينَ غفلة مؤبدة لا تيقظ لهم منها أصلا. نبهنا يا الله بلطفك عن نومة الغافلين يا ذا القوة المتين وَبالجملة المسرفون المفرطون الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الظاهرة عن اوصافنا الذاتية حسب اسمنا الرّحمن في النشأة الاولى وَلِقاءِ الْآخِرَةِ اى كذبوا برجوع الكل إلينا حسب اسمنا الرّحيم في النشأة الاخرى أولئك الأشقياء البعداء المردودون المطرودون هم الذين قد حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وضاعت بضائعهم وأموالهم وهم قد خسروا فيها في الاولى والاخرى هَلْ يُجْزَوْنَ وما يجازون باحباط الأعمال إِلَّا بمقتضى ما كانُوا يَعْمَلُونَ يفترون ويكتسبون لأنفسهم من تكذيب الآيات والرسل المنبهين لها المبينين لمقتضاها ومن جملة الأسباب الموجبة لإحباط أعمالهم اتخاذهم العجل آلها وَذلك انه قد اتَّخَذَ وأخذ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد ذهابه الى الميقات عند ربه مِنْ حُلِيِّهِمْ التي قد ورثوها من القبط بتعليم السامري إياهم عِجْلًا اى صورة عجل وبعد ما اذابوا الحلي وصاغوها على الوجه الذي خيلوه القى السامري عليها ما قبض من تراب حافر فرس جبرئيل عليه السّلام فصارت جَسَداً عجلا نيئا لَهُ خُوارٌ صوت كصوت البقر فقال لهم السامري هذا إلهكم واله موسى فاتخذوه آلها مع انهم قد صاغوه بأيديهم من حليهم أَيأخذون العجل المصوغ آلها أولئك الهالكون في تيه الغفلة والنسيان ولَمْ يَرَوْا ولم يعلموا ولم يتفطنوا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ اى العجل المصوغ المصنوع بكلام دال على صلاحهم وإصلاح حالهم وَلا يَهْدِيهِمْ ولا يرشدهم سَبِيلًا الى الخير والصواب حتى يستحق ان يعبد له. والمعبود لا بدان يأمر وينهى ويرشد ويهدى بل ما

[سورة الأعراف (7) : آية 149]

اتَّخَذُوهُ الها معبودا الا ظلما وزورا وخروجا من مقتضى العقل والنقل وَبالجملة هم قد كانُوا في أنفسهم ظالِمِينَ خارجين متجاوزين عن مقتضى العقل والنقل وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ اى لما ظهر ندمهم عن فعلهم واشتد فيهم تجهيل نفوسهم وتخطئة عقولهم وبالجملة قد لاح عندهم قبح صنيعهم هذا وَرَأَوْا وعلموا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا بارتكاب هذه الفعلة القبيحة عن مقتضى العقل والنقل ضلالا بعيدا بمراحل عن الرشد والهداية قالُوا متضرعين مسترجعين خائفين خجلين لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بسعة رحمته وجوده وَلم يَغْفِرْ لَنا ما جئنا به ولم يتجاوز عنا ما فرطنا فيه لَنَكُونَنَّ البتة مِنَ الْخاسِرِينَ خسرانا عظيما في الدنيا والآخرة وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد ما قد وقع فيهم ما وقع وقد سمع ما سمع صار غَضْبانَ اى استولى عليه غضبه حمية وغيرة أَسِفاً متأسفا متحزنا لضلال قومه فلما وصل إليهم قالَ لهم مغاضبا بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي اى بئس شيأ ابتدعتم خلفي مِنْ بَعْدِي اى من بعد ذهابي الى ربي لأزيد صلاحكم وإصلاحكم ايها المسرفون المفرطون فازددتم الضلال وقد استوجبتم العذاب والنكال أَعَجِلْتُمْ ايها الحمقى أَمْرَ رَبِّكُمْ اى عذابه وعقابه عليكم وَمن شدة غضبه وطغيان حميته وغيرته أَلْقَى الْأَلْواحَ التي قد كانت في يده من التورية فانكسرت منها وضاعت ما يتعلق بتفصيل الاحكام وبقي المواعظ والتذكيرات وَمن افراط قهره وغضبه أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هارون اى من شعر رأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ اى الى نفسه زجرا عليه وتشددا معه قائلا له مملوا من الغيظ كيف لا تحفظهم ولا تنكر عليهم ولا تمنعهم عن فعلهم هذا حتى لا يضلوا ولا يكفروا باتخاذ العجل الها قالَ هارون معتذرا متحزنا يا ابْنَ أُمَّ اضافه الى الام استعطافا إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي حين أظهرت الإنكار عليهم وأردت ان نصرفهم عما هم عليه وحده وصاروا بأجمعهم أعدائي بل وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي لشدة غيظهم على وعداوتهم معى وأنت ايضا تغضب على علاوة وتجر رأسى حمية وغيرة وهم الآن تفرحون وتضحكون ببغضك على وزجرك إياي فَلا تُشْمِتْ ولا تفرح يا أخي بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي شريكا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى العقل والنقل ثم لما سمع موسى من هارون ما سمع ندم عن فعله وعن سوء الأدب مع أخيه مع انه اكبر سنا منه واسترجع الى الله حيث قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي عما صنعت مع أخي مع انه بريء مما نسبته اليه وَاغفر ايضا لِأَخِي فيما تقاعد وتقاصر في انكار هؤلاء الضالين المتخذين لك شريكا سيما من ادنى مخلوقاتك وأدون مصنوعاتك وَبالجملة أَدْخِلْنا بفضلك وجودك فِي سعة رَحْمَتِكَ وكنف حفظك وجوارك وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ المصوغ الها بمجرد الخوار الذي صدر عنه سَيَنالُهُمْ وينزل عليهم في النشأة الاخرى غَضَبٌ نازل مِنْ رَبِّهِمْ يطردهم ويبعدهم عن ساحة عز حضوره وَذِلَّةٌ صغار وهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَبالجملة كَذلِكَ في النشأة الاولى والاخرى نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ المشركين لنا غيرنا من مخلوقاتنا افتراء ومراء. ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ قصدا أو خطأ ثُمَّ تابُوا ورجعوا نحونا نادمين مِنْ بَعْدِها اى من بعد سيئاتهم وَالحال انه قد كان توبتهم مقرونة بالإيمان بان آمَنُوا بالله وملائكته وكتبه ورسله إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل مِنْ بَعْدِها اى من بعد ما جاءوا بالتوبة والندامة عن ظهر القلب لَغَفُورٌ

[سورة الأعراف (7) : آية 154]

لما صدر عنهم من الذنوب رَحِيمٌ يقبل توبتهم بعد ما قد وفقهم بها وَلَمَّا سَكَتَ اى سكن وذهب عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ الذي قد استولى عليه الى حيث القى ألواح التورية وأخذ شعر أخيه يجره أَخَذَ الْأَلْواحَ المنكسرة المتلاشئة وان انكسر وضاع عنها ما فيها تفصيل كل شيء وَقد بقي منها ما فِي نُسْخَتِها اى فيما رقم ونسخ فيها سالمة عن الكسر والانكسار هُدىً اى أوامر ونواهى توصلهم الى توحيد الحق ان امتثلوا به وقبلوا وَرَحْمَةٌ تنجيهم عن الضلال ان اتصفوا بها كل ذلك حاصل لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ اى يخافون عن الله طلبا لمرضاته لا لغرض آخر من الرياء والسمعة بل من طلب الجنة وخوف العذاب ايضا بل لا يطلبون من الله الا الله ولا يأملون منه سواه وَاذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك قصة الكليم حين اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ اى اختار وانتخب موسى باذن منا إياه من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا ومناجاتنا فانتخب من كل سبط من الأسباط الاثنى عشر ستة نفر فزاد على المبلغ اثنين فأمر موسى بتقاعدهما فتخاصموا وتشاجروا في تعيينهما الى ان قال موسى ان اجر من قعد مثل اجر من صعد بل اكثر فقعد كالب ويوشع وذهب موسى معهم فلما دخلوا شعب الجبل وأرادوا الصعود غشيه غمام مظلم كثيف فدخلوا الغمام وخروا سجدا فسمعوا يتكلم سبحانه مع موسى يأمره وينهاه وهو يناجى مع ربه فلما تم الكلام وانكشف الغمام قالوا بعد ما سمعوا كلامه سبحانه مستكشفين عن ذاته لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ظاهرة منكشفة ذاته لأبصارنا كما انكشف كلامه لأسماعنا فاخذتهم الرجفة بسبب سؤالهم هذا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ اى الصاعقة النازلة من قهر الله وغضبه لطلبهم ما ليس في وسعهم واستعدادهم قالَ موسى مشتكيا الى الله يا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ اى لو تعلقت مشيتك لإهلاكهم لم لم تهلكهم مِنْ قَبْلُ اى قبل اسماعهم كلامك وَإِيَّايَ ايضا لم لم تهلكني حتى لا ينسب الى إهلاكهم عند عوام بنى إسرائيل وهم لا يتشأمون بي ثم قال موسى من غاية اضطرابه أَتُهْلِكُنا بالصاعقة الشديدة يا رب بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا اى بسبب سؤال سئل سفهاءنا وصدر عنهم هذا هفوة بلا علم لهم بعظمتك وجلالك وحق قدرك وعزك بل إِنْ هِيَ اى هذه الفعلة المستبعدة والمسألة المستحيلة ايضا إِلَّا فِتْنَتُكَ اختبارك وابتلاؤك إياهم إذ أسمعت أنت لهم كلامك فاوقعتهم بهذه الفتنة العظيمة إذ أنت تُضِلُّ بِها اى بفتنتك مَنْ تَشاءُ من عبادك بان اجترءوا عليك بعد ما انكشفت عليهم نوع انكشاف وجذبتهم نحوك نوع انجذاب الى انكشاف أعلى منه واجلى فتضلوا وتكفروا بلا علم لهم الى مقتضيات استعداداتهم وَتَهْدِي بها ايضا مَنْ تَشاءُ بان سكتوا عن السؤال مطلقا وفوضوا أمورهم كلها إليك ولا يسألوا عنك ما لم يستأذنوا منك والكل بيدك وما صدر عموم ما صدر عمن صدر الا بتوفيقك واقدارك بل بك ومنك وبمقتضى قدرتك وارادتك وبالجملة أَنْتَ وَلِيُّنا ومولى أمورنا ومولى نعمنا فَاغْفِرْ لَنا عموم ما جرى علينا من المعاصي والآثام وَارْحَمْنا برحمتك الواسعة تفضلا علينا وامتنانا واعف عنا بفضلك وجودك وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ الساترين ذنوب عصاة المسرفين المفرطين وَاكْتُبْ لَنا يا ربنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً لا توقعنا في فتنتك وَفِي الْآخِرَةِ ايضا حسنة توصلنا الى ذروة توحيدك إِنَّا بعد ما تحققنا بعلو شانك وسمو برهانك هُدْنا اى تبنا ورجعنا إِلَيْكَ من ان نسأل منك ما ليس لنا علم به سيما بما يتعلق بذاتك قالَ سبحانه متعززا برداء العظمة والكبرياء

[سورة الأعراف (7) : آية 157]

عَذابِي ونكالي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ من عصاة عبادي وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ من المطيعين والعاصين وغيرهم فَسَأَكْتُبُها وأثبتها حتما لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويحذرون عن المحارم مطلقا طلبا لمرضاتى وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ اى يعطون مما في أيديهم من الرزق الصوري والمعنوي تمرينا على نفوسهم ملكة الكرم والجود وتطهيرا لها عن الشح المطاع الموجب للقسوة والغفلة وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا اى بجميعها يُؤْمِنُونَ يوقنون ويمتثلون بمقتضاها ألا وهم الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ المرسل بالتوحيد الذاتي النَّبِيَّ المتمم لمكارم الأخلاق الْأُمِّيَّ المتحقق المخصوص بالعلم اللدني الملقى له من ربه بلا واسطة كسب وتعليم من معلم الا وهو النبي الموعود الَّذِي يَجِدُونَهُ يعنى عموم اهل الكتب مَكْتُوباً في كتبهم بعثته ودينه واسمه وحليته وجميع أوصافه ثابتة عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ بانه إذا بعث يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ التي يحرمونها على نفوسهم وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ التي قد حللوها على أنفسهم وَبالجملة يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ اى يزيح ويزيل عنهم ثقلهم التي يترهبون ويتزهدون فيها فوق طاقتهم كقطع الأعضاء والجوارح التي يخطئون بها وقطع موضع النجاسة من الثوب وغير ذلك وَيضع ايضا الْأَغْلالَ اى التكاليف الشاقة الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ وبالجملة فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ حين ظهوره ودعوته وَعَزَّرُوهُ ووقروه حق توقيره وتعظيمه وَنَصَرُوهُ تقوية لدينه وَاتَّبَعُوا النُّورَ اى القرآن الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ من عند الله تأييدا له وتصديقا إياه أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله الموفقون من عنده باتباعه هُمُ الْمُفْلِحُونَ المقصورون من عنده على الفلاح والفوز بالنجاح قُلْ يا أكمل الرسل الهادي للكل المرسل الى كافة البرايا يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة الناسون عهد الله وميثاقه المحتاجون الى المرشد الهادي ليهديكم الى طريق الرشد إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ قد أرسلني إِلَيْكُمْ جَمِيعاً اى الى قاطبة اهل التكليف وعامة البرايا لهديكم الى توحيده الذاتي اعلموا ايها المجبولون على فطرة الوجدة انه سبحانه هو العليم القدير الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وما فيها إيجادا وتصرفا بالاستقلال والاختيار وَالْأَرْضِ وما عليها كذلك لا إِلهَ اى لا متصرف في الشهود ولا مالك في الوجود إِلَّا هُوَ المتصرف المستقل بالوجود والألوهية يُحيِي ويظهر بلطفه وجماله من يشاء من مظاهره وَكذا يُمِيتُ بقهره وجلاله من يشاء ومتى عرفتم ان الملك كله لله والتصرف بيده فَآمِنُوا بِاللَّهِ المتوحد المتفرد بالالوهية وَرَسُولِهِ المرسل من عنده ليبين لكم طريق توحيده النَّبِيِّ المخبر بأحوال النشأة الاولى والاخرى الْأُمِّيِّ المكاشف الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ اى يوقن ويذعن بتوحيد الله ويصدق بعموم كلماته المفصلة المنزلة من عنده سبحانه بتوفيق الله وتأييده من لدن نفسه القدسية بلا مدرس ومرشد هاد ومعلم منبه وَإذا كان شانه هذا ووصفه هكذا اتَّبِعُوهُ ايها الطالبون لطريق الحق القاصدون نحو توحيده لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ بمتابعته صلّى الله عليه وسلّم بعموم ما تروحون وتقصدون اليه من مراسم التوحيد الذاتي ثم قال سبحانه تنبيها على المؤمنين وحثا لهم الى الاتصاف بالقسط والعدالة المنبئة عن الصراط الأقوم الإلهي وَمِنْ قَوْمِ مُوسى اى من بنى إسرائيل أُمَّةٌ وجماعة مقتصدة يَهْدُونَ الناس الى توحيد الحق بِالْحَقِّ والصدق المطابق للواقع لنجابة فطرتهم واستقامة عقيدتهم وَبِهِ يَعْدِلُونَ اى بسبب الحق يقتصدون لا يفرطون

[سورة الأعراف (7) : آية 160]

في الاحكام أصلا ثم قال سبحانه وَقَطَّعْناهُمُ اى قد حزبنا بنى إسرائيل وصيرناهم اثْنَتَيْ عَشْرَةَ حزبا على عدد أبناء يعقوب عليهم السّلام ليكونوا أَسْباطاً لهم كل حزب سبط لواحد منهم لذلك صاروا أُمَماً مختلفة متفرقة وان كان الكل مسمى ببني إسرائيل وَمن جملة نعمنا إياه انا قد أَوْحَيْنا من مقام جودنا إِلى مُوسى وقت إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ اى حين صاروا تائهين هائمين عطاشا حائرين أَنِ اضْرِبْ يا موسى بِعَصاكَ التي قد استعنت بها في الأمور الْحَجَرَ الذي بين يديك فضرب فَانْبَجَسَتْ جرت وخرجت على الفور بلا تراخ ومهلة مِنْهُ اى من الحجر اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً جارية بضربة واحدة على عدد الأسباط والفرق بحيث قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ من كل سبط مَشْرَبَهُمْ المخصوص لهم لئلا يقع الخصومة والنزاع بينهم وَايضا من جملة نعمنا إياهم انا قد ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ اى أمرنا الغمام بان يظل عليهم في التيه لئلا يتضرروا من شدة الحر فيستريحوا وَايضا أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ الترنجبين لشربهم تبريدا لأمزجتهم وَأنزلنا لهم ايضا السَّلْوى اى السمانى لغذائهم وقلنا لهم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ لتقويم امزجتكم وتقويتها وهم مع تلك الكرامات العظام قد خرجوا عن مقتضى الأوامر والنواهي المأمورة إياهم وَبالجملة ما ظَلَمُونا أولئك الظالمون الخارجون عن مقتضيات حدودنا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى ما يظلمون الا أنفسهم بشؤم ما اقترفوا من المعاصي والآثام ويلقونها بذلك في عذاب الدنيا والآخرة وهم مع قبح صنيعهم معنا قد راعيناهم وأنعمنا عليهم وَمن جملة ما ظلموا على أنفسهم انهم إِذْ قِيلَ لَهُمُ واوصى إليهم إصلاحا لحالهم اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ اى بيت المقدس وَكُلُوا مِنْها اى من مأكولاتها المتسعة حَيْثُ شِئْتُمْ بلا مدافعة ومنع وَقُولُوا متضرعين إلينا متوجهين نحونا حِطَّةٌ اى سؤالنا منك يا مولانا حط ما صدر عنا من الآثام وعفو ما جرى علينا من المعاصي وَادْخُلُوا الْبابَ اى بيت المقدس سُجَّداً ساجدين متذللين واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان تأدبا وتعظيما نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ اى جميعها ان امتثلتم ما قد أمرناكم به بل سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ منكم بالرضوان الأكبر من لدنا وبالجملة فَبَدَّلَ واستبدل الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أنفسهم بالخروج عن مقتضى ما امرناهم قَوْلًا صادقا صوابا قد قلنا لهم لإصلاح حالهم غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ على السنة رسلنا بل قد حرفوها لفظا ومعنى كما مر بيانه في سورة البقرة فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ بسبب تبديلهم وتحريفهم هذا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ اى عذابا نازلا من جانب السماء بِما كانُوا يَظْلِمُونَ اى بشؤم خروجهم عن مقتضى أوامرنا وأحكامنا وَايضا من جملة ظلمهم على نفوسهم حيلتهم وخديعتهم في نقض العهد ان شئت ان تعرفها سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ اى اسئل خديعتهم من اهل القرية الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه قيل ايلة وقيل طبرية الشأم وقيل مدين اذكر وقت إِذْ يَعْدُونَ يتجاوزون عن حدودنا وعهودنا معهم فِي السَّبْتِ اى العهد الذي هم قد عهدوا معنا ان لا يصطادوا في يوم السبت بل اخلصوه لعبادتنا والتوجه نحونا فابتليناهم بمحافظة العهد والوفاء عليه إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ المعهود المحرم شُرَّعاً متتابعة متوالية وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ ولا يعهدون فيه لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ اى مثل سبتهم فاحتالوا بتعليم شياطينهم إياهم فحفروا أخاديد وحياضا على شاطى البحر فأرسلوا الماء عليها في يوم السبت

[سورة الأعراف (7) : آية 164]

واجتمعت الحبتان فيها فاصطادوها يوم الأحد والاثنين وبسبب خداعهم معنا واختراع الحيل لنقص عهودنا نَبْلُوهُمْ نبلاء المسخ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بسبب فسقهم وخروجهم عن مقتضى العهد وَاذكر إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ اى جماعة من صلحائهم حين قال بعض آخر من الصلحاء ايضا للمحتالين المناقضين على وجه العظة والتذكير لم تحتالون ولم تخادعون مع الله كأنكم لا تخافون من بطشه وانتقامه لِمَ تَعِظُونَ ايها المذكرون المصلحون قَوْماً منهمكين في الغفلة والضلال مع انه اللَّهُ القادر المقتدر المطلع لعموم أحوالهم مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً اى قد أراد الله إهلاكهم او تعذيبهم باشد العذاب بشؤم حيلتهم وخداعهم هذه قالُوا يعنى المذكرين المصلحين تذكيرنا ونصحنا إياهم مَعْذِرَةً ما إِلى رَبِّكُمْ الذي قد أمرنا بنهي المنكر على وجه المبالغة ولتأكيد وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ اى وأيضا ترجو من كرم الله وفضله ان ينتهوا ويحذروا بتذكيرنا إياهم عما هم عليه من الغفلة والضلال وبالجملة فَلَمَّا نَسُوا واعرضوا عن ما ذُكِّرُوا بِهِ اى من العظة والتذكير ولم يقبلوا من الواعظين المذكرين وعظهم ونصيحتهم أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ متعظين بما ذكروا به وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالإعراض عنه بِعَذابٍ بَئِيسٍ شديد فطبع بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بسبب فسقهم واعراضهم فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ والحاصل انهم ما تكبروا واستكبروا عن امتثال أوامرنا واجتناب نواهينا قُلْنا لَهُمْ على لسان نبيهم داود عليه السّلام كُونُوا ايها المتكبرون المنهمكون في الغي والضلال قِرَدَةً خاسِئِينَ صاغرين مهانين لاستكباركم عن أوامر الله وتكاليفه مع انكم انما جبلتم على تحمل التكليفات الإلهية المستتبعة لرتبة الخلافة والنيابة عنه سبحانه فلما امتنعوا عنها مسخوا عن لوازم الانسانية بالمرة والحقوا باخس الحيوانات وأرذل الأعاجم وَاذكر لمن تبعك يا أكمل الرسل واتل عليهم كي يتنبهوا وقت إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ اى قد عزم وكتب على نفسه كأنه اقسم سبحانه لَيَبْعَثَنَّ وليسلطن عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مستمرا دائما مَنْ يَسُومُهُمْ ويعلمهم سُوءَ الْعَذابِ لذلك ما ترى يهوديا في اقطار الأرض الا على مذلة وهوان إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَسَرِيعُ الْعِقابِ على من أراد عقابه وَإِنَّهُ ايضا لَغَفُورٌ لمن تاب وأخلص رَحِيمٌ بقبل توبته ويمحو معصيته وَمن غاية اذلالنا إياهم قَطَّعْناهُمْ وفرقناهم فِي الْأَرْضِ أُمَماً فرقا فرقا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ اى الطالحون الخارجون عن مقتضى الايمان وَبالجملة قد بَلَوْناهُمْ اى اختبرناهم وحرمناهم بِالْحَسَناتِ اى بالعطاء والانعام وَالسَّيِّئاتِ بالأخذ والانتقام لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ رجاء ان يتنبهوا بنا فيرجعوا إلينا وبعد ما بلوناهم بما بلوناهم فَخَلَفَ واستخلف مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد انقراضهم خلق خَلْفٌ خلفاء منهم يدعون انهم قد وَرِثُوا الْكِتابَ اى علم التورية منهم مع انهم يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى اى الدنيا مولعين بجمعها وأخذها وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا اى لن يأخذنا الله ابدا بأخذها وجمعها وَمن غاية حرصهم إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ بل أضعافه وآلافه يَأْخُذُوهُ بلا مبالاة اتكالا على مغفرة الله وعفوه مع انهم لم يستغفروا اليه أصلا أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الله المنزل في الْكِتابَ الذي ادعوا علمه ووراثته بل قد أخذ سبحانه منهم الميثاق في كتابهم على أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا القول الْحَقَّ ولا تنسبوا اليه سبحانه الا الصدق الثابت الذي

[سورة الأعراف (7) : آية 170]

قد ورد عليه الأمر الإلهي من عنده سبحانه وَكيف لم يعلموا أخذ الله إياهم مع انهم قد دَرَسُوا من معلميهم ما فِيهِ من الاحكام والمواعظ والأوامر والنواهي وَبالجملة الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويحذرون عن حطام الدنيا ويجتنبون عن آثامها أَفَلا تَعْقِلُونَ خيريتها ايها الضالون المنغمسون «2» في قاذورات الدنيا ولذاتها وشهواتها مع انها لا مدار لها ولا قرار للذاتها ومشتهياتها وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ ويتمسكون منهم بِالْكِتابِ اى بما امرناهم في التورية ونهيناهم عنه فيه وَمع ذلك قد أَقامُوا الصَّلاةَ واداموا الميل والتوجه إلينا على الوجه الذي امرناهم في كتابهم فعلينا أجرهم إِنَّا لا نُضِيعُ ولا نهمل أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ الذين يصلحون ظواهرهم بالشرائع والاحكام المنزلة من عندنا وبواطنهم بالإخلاص والتوحيد المسقط للاضافات مطلقا وَاذكر وقت إِذْ نَتَقْنَا وقلعنا الْجَبَلَ من مكانه ورفعنا فَوْقَهُمْ بحيث يظل عليهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ سقف فوق رؤسهم وَظَنُّوا من قبح صنيعهم أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ الى ان قلنا لهم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من مأمورات التورية بِقُوَّةٍ عزيمة صادقة وجزم خالص في أوامره وأحكامه وَاذْكُرُوا اى اتعظوا وتذكروا ما فِيهِ من المواعظ والتذكيرات لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تنتهون وتحذرون عن قبائح أعمالكم ورذائل أخلاقكم وَبالجملة نقض العهود ورفض المواثيق ونكثها والاعراض عن التكاليف المأمورة ليس مما يختص بهؤلاء المعرضين بل ما هي الا من الديدنة القديمة والعادة المستمرة لبنى آدم اذكر وقت إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل مِنْ بَنِي آدَمَ حين أخرجهم حسب حصة ناسوتهم مِنْ ظُهُورِهِمْ اى من ظهور آبائهم وأصلابهم على التوالد المتعارف ذُرِّيَّتَهُمْ اى أولادهم قرنا بعد قرن بطنا بعد بطن وَأَشْهَدَهُمْ اى أحضرهم واطلعهم عَلى أَنْفُسِهِمْ اى على حصة لاهوتهم وعلى أرواحهم الفائضة عليهم المنفوخة فيهم من روحه سبحانه ثم قال لهم بعد ما شهدوا واستحضروا منشأهم وعلموا أصلهم اللاهوتى والناسوتي أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ الذي أوجدكم وأظهركم من كتم العدم بنفخ من روحي فيكم وفي ناسوتكم يا بنى آدم قالُوا بالسنة استعداداتهم بَلى قد شَهِدْنا يا مولينا سيما بعد ما أشهدتنا واقررتنا أنت ربنا لا رب لنا سواك ولا مظهر لنا غيرك فأخذ سبحانه على ذلك منهم الميثاق الوثيق حينئذ وانما أخذ ما أخذ كراهة أَنْ تَقُولُوا على سبيل المجادلة والمراء حين أخذهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بجرائمهم الصادرة عنهم المقتضية لنقض العهد إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا عن ربوبيتك واستقلالك فيها غافِلِينَ غير عالمين بها ولا منبهين عليها أَوْ تَقُولُوا لو لم يأخذ سبحانه العهد الوثيق منهم جميعا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَقد كُنَّا ذُرِّيَّةً ضعافا مِنْ بَعْدِهِمْ فتقلدنا بهم أَفَتُهْلِكُنا وتأخذنا يا ربنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ اى بفعل آبائنا الذين قد أشركوا بك مع انا حينئذ لم نكن من اصحاب الرأى والتمييز وأخذنا بجرمهم ظلم علينا لذلك أخذ سبحانه الميثاق من جميع بنى آدم حتى لا يبقى لهم حجة عليه

_ (2) كما نشاهد اليوم من اعيان زماننا احسن الله أحوالهم ومشايخ عصرنا واواننا يدعون وراثة الأنبياء ويجمعون من حطام الدنيا حلالها وحرامها وهم مولعون بجمعها الى حيث يلقون أنفسهم في المهالك ويحضرونها في المعاطب لنظم فضول العيش واسباب النخوة والجاه لذلك يترددون الى باب السلاطين ويتزورون بأنواع التزويرات والتلبيسات ويأخذون من اموال الجباية ما أمكن لهم ولا يعطون المستحقين شيأ منها ومع ذلك يدعون الولاية والوراثة والترك والتجريد والإطلاق والتفريد وبالجملة ما أولئك الا حزب الشيطان الا ان حزب الشيطان هم الخاسرون أعاذنا الله وعموم عباده من غوائل الشيطان وتسويلاته وتغريراته بمنه وجوده

[سورة الأعراف (7) : آية 174]

سبحانه وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ ونبين على وجه الخصوص والعموم الْآياتِ الدالة على توحيدنا على اليهود وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ رجاء ان يتنبهوا فيرجعوا نحونا ومع ذلك لم يرجعوا ولم يتنبهوا أصلا وَبعد ما قد بالغوا في الاعراض والإنكار اتْلُ عَلَيْهِمْ اى على اليهود يا أكمل الرسل نَبَأَ اى قصة الشخص الَّذِي آتَيْناهُ علم آياتِنا العظام وأسمائنا الكرام حتى قدر وتمكن بسببها على اى شيء أراد فاعرض عنا بمتابعة الهوى كهؤلاء الغواة فَانْسَلَخَ مِنْها اى تجرد وعرى من سرائر الآيات جميعا انسلاخ لحية من جلدها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ اى قد جعله اللعين تابعا لاهوية نفسه فَكانَ بمتابعتها مِنَ الْغاوِينَ المنهمكين في الغي والضلال بحيث لا يرجى هدايته أصلا كهؤلاء اليهود وَلَوْ شِئْنا وتعلق مشيتنا لهدايته الى أقصى غاية التوحيد وأعلى مرتبته لَرَفَعْناهُ بِها اى بتلك الآيات وَلكِنَّهُ متعلق لذلك أَخْلَدَ اى انخفض ومال إِلَى الْأَرْضِ الأنزل الأرذل وَاتَّبَعَ هَواهُ ينزل عليها ومع ذلك يتمسك بها وأراد ان يتشبث بمقتضاها فَمَثَلُهُ في هذا التمسك والتشتت بعد اللتيا والتي كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ حملا موجبا للهثه واندلاع نسائه يَلْهَثْ يخرج لسانه بسببه أَوْ تَتْرُكْهُ ولم تحمل عليه ما يوجب للهثه يَلْهَثْ ايضا لرسوخ تلك الديدنة القبيحة في ذاته وبالجملة ذلِكَ اى مثل ذلك الكلب بعينه مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ يا أكمل الرسل لليهود الْقَصَصَ المعهود لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ويتأملون فيما هم عليه من الاعراض والإنكار فيتنبهون على قبح صنيعهم وسوء فعالهم مع الله قيل ذلك الشخص هو بلعام بن باعوراء وقصته معروفة وقيل امية ابن الصلت كان قد قرأ الكتب المنزلة ووحد فيها وصف النبي صلّى الله عليه وسلم ورجا ان يكون هو فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حسد وكفر جميع الكتب المنزلة وكان من الغاوين ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ اى بئس المثل مثل القوم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا واعرضوا عنها منكرين عليها وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ اى وما يظلمون بالإعراض والإنكار الا أنفسهم إذ عاد عليهم وباله ونكاله ولكن لا يشعرون لقساوة قلوبهم وخبث طينتهم وبالجملة مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بان يوفقه على سماع كلمة الحق فَهُوَ الْمُهْتَدِي الى توحيده وَمَنْ يُضْلِلْ بان يضله عن سبيله بإنكار آياته وتكذيب رسله فَأُولئِكَ البعداء الضالون هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي لا يرجى ربحهم وهدايتهم أصلا ثم قال سبحانه وَلَقَدْ ذَرَأْنا أوجدنا وأظهرنا لِجَهَنَّمَ البعد والخذلان ونيران الإمكان والخسران كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مع انه قد ثبت لَهُمْ قُلُوبٌ هي مناط التكاليف والعرفان ومحال الايمان والإيقان وهم لا يَفْقَهُونَ بِها ليحصل لهم مرتبة اليقين العلمي وَلَهُمْ أَعْيُنٌ هي سبب مشاهدة الآثار والاستدلال منها على الأوصاف الموجدة لها المترتبة على الذات الإلهي وهم لا يُبْصِرُونَ بِها ليحصل لهم مرتبة اليقين العيني وَلَهُمْ ايضا آذانٌ هي آلات لسماع كلمة الحق ووسائل الى اكتساب الفضائل والكمالات المنبهة على ما في نفوسهم من السرائر والأسرار المكنونة الإلهية وهم لا يَسْمَعُونَ بِها ليحصل لهم الترقي من مرتبة اليقين العيني الى اليقين الحقي وبالجملة أُولئِكَ الحمقى الجهلاء المتصنعون بأوصاف العقلاء العرفاء كَالْأَنْعامِ في عدم الشعور والتنبه بَلْ هُمْ بسبب تضييع استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية أَضَلُّ من الانعام بمراتب وبالجملة أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ المقصورون على الغفلة المؤبدة

[سورة الأعراف (7) : آية 180]

المتناهون فيها أقصى الغاية وَاعلموا ايها العقلاء العرفاء الموحدون ان لِلَّهِ المتوحد المتفرد لذاته الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي تترتب عليها الصفات العليا المترتبة عليها الآثار الحادثة في عالم الكون والفساد والشهادة والغيبة والنشأة الاولى والاخرى فَادْعُوهُ سبحانه ايها الموحدون بِها وأسندوا الحوادث الكائنة إليها أولا وبالذات وَذَرُوا اى دعوا واتركوا اقوال الجاحدين الملحدين الَّذِينَ يُلْحِدُونَ يميلون وينحرفون فِي أَسْمائِهِ بنسبة الحوادث الكائنة الى الأسباب والوسائل العادية أولا وبالذات واعتقدوها عللا وأسبابا حقيقية واهجروا مذاهبهم واعتزلوا عنهم وعن مجالستهم واعلموا ان كل واحد منهم ايها المكلفون سَيُجْزَوْنَ بمقتضى ما كانُوا يَعْمَلُونَ في نشأة الدنيا ان خيرا فخير وان شرا فشر ثم قال سبحانه كلاما كليا جمليا شاملا على جميع الملل والأديان وَمِمَّنْ خَلَقْنا اى اظهرناهم على صورتنا أُمَّةٌ مستخلفة عنا هم يَهْدُونَ الناس إلينا ملتبسين بِالْحَقِّ المطابق للواقع متمسكين به وَبِهِ اى بالحق لا بغيره إذ لا غير يَعْدِلُونَ يقسطون وينصفون في الوقائع والاحكام وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا المنزلة على رسلنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ اى سنستضلهم ونستذلهم قليلا قليلا الى ان نهلكهم بالمرة وندخلهم في جهنم البعد وسعير الإمكان مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ولا يفهمون كيف وقعوا فيها ومن اى طريق دخلوا وَبالجملة أُمْلِي لَهُمْ اى امهلهم في بطرهم وغفلتهم الى حيث ازدادوا على نفوسهم العتو والعناد الموجب لشدة العذاب مكرا عليهم وكيدا لهم إِنَّ كَيْدِي ومكري سيما مع العصاة الغواة الضالين عن منهج العدالة والرشد مَتِينٌ محكم بحيث لم يحسوا به وباماراته ومقدماته أصلا الى ان أخذوا بأسوإ العذاب وأشد النكال ثم أشار سبحانه الى توبيخ المسرفين المسفهين لرسول الله عنادا ومكابرة فقال أَما يستحيون من الله أولئك المسرفون المفرطون من نسبة الجنون الى من فاق على عموم العقلاء بالرشد والهداية وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ولم يتدبروا انه ما بِصاحِبِهِمْ يعنى نبيهم ورسولهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم مِنْ جِنَّةٍ خفة عقل موجب للخبط والجنون غاية ما في الباب ان هؤلاء القاصرين عن ادراك كلامه ينسبون ما لم يفهموا من كلامه الى انه قد صدر عنه هفوة لا عن قصد وشعور ويسمونه مجنونا لذلك إِنْ هُوَ اى بل ما هو صلّى الله عليه وسلّم عند التحقيق إِلَّا نَذِيرٌ ينذرهم باذن الله ووحيه ويخوفهم الله به مُبِينٌ عظيم الشان ظاهر البيان في امر الإنذار والإرشاد روى انه صلّى الله عليه وسلّم صعد الصفا يوما فدعاهم فخذا فخذا يحذرهم عن بأس الله وبطشه فقال قائلهم ان صاحبكم لمجنون فنزلت. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع لهؤلاء المسرفين الذين ينسبون ما هو خارج عن مدركات عقولهم الى الجنون ويدعون استقلال العقل في العلوم المتعلقة بالأشياء كلها أَوَلَمْ يَنْظُرُوا ولم يتدبروا كيف تقصر وتدهش عقولهم فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وكيفية نظمها ونضدها وترتيبها وتطبيقها وما فيها من كواكبها وبروجها وحركاتها وادوارها وانقلاباتها شتاء وصيفا ربيعا وخريفا وَالْأَرْضِ وما عليها من تلالها ووهادها وأنهارها وبحارها ورياضها وازهارها وغرائبها وبدائعها المكنونة المتكونة فيها بل وَفي جميع ما خَلَقَ اللَّهُ وأظهره من كتم العدم إظهارا إبداعيا مِنْ شَيْءٍ اى مما يطلق عليه اسم شيء تدهش وتتحير في ظهوره عقول فحول العقلاء بحيث لم يطلعوا ولم يفهموا كيفية ظهور ذرة حقيرة من ذرائر العالم فكيف لميتها لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم في دعائه اللهم أرنا الأشياء كما هي وقال ايضا صلّى الله عليه وسلّم

[سورة الأعراف (7) : آية 186]

رب زدني فيك تحيرا هذا في الآفاق الخارجة عنهم وَاما في نفوسهم فلم ينظروا أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ المقدر المسمى لهم وهم لا يفهمونه وان اجتمع العقلاء في تعيين أجل شخص واحد ما قدروا ومع قصور نظرهم وسخافة أحلامهم ينسبون الجنون الى المكاشفين الناظرين بنور الله المشاهدين المطالعين دائما صفاء وجهه الكريم الا وهم الذين قد انخلعوا عن لوازم البشرية مطلقا وشقوا جلباب الناسوت رأسا وخرقوا الحجب المسدولة بالكلية وصاروا ما صاروا لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه وبعد ما سقط العقل عن درجة الاعتبار واضمحلت مدركاته رأسا وخرجت عن الوثوق والاعتماد مطلقا فلا تعويل الا على الوحى والإلهام الملقى من عند العليم العلام فَبِأَيِّ حَدِيثٍ من الأحاديث الملهمة والموحى بها بَعْدَهُ اى بعد نزول القرآن يُؤْمِنُونَ ايها المؤمنون المصدقون بالوحي والإلهام وبالجملة مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ وتعلق مشيته بإضلاله وإذلاله حسب جلاله فَلا هادِيَ لَهُ يرشده فعليك ان لا تجهد يا أكمل الرسل في هدايتهم ولا تصغى ايضا الى أباطيلهم إذ أمرهم مفوض الى الله وَكيف تجتهد وتسعى في ايمانهم إذ هم قوم يَذَرُهُمْ ويتركهم الله باسمه المذل المضل فِي طُغْيانِهِمْ المتجاوز عن الحد يَعْمَهُونَ يترددون ويتحيرون الى ان يأخذهم بما يأخذهم دعهم أنت ايضا مع أباطيلهم يترددون وفي سكرتهم يعمهون يَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل عَنِ السَّاعَةِ التي تخوفهم بها ومن شدة أهوالها وافزاعها أَيَّانَ مُرْساها اى في اى آن من الآنات وزمان من الازمنة قيامها ووقوعها حتى نؤمن بها قبل قيامها قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم إِنَّما عِلْمُها وعلم قيامها عِنْدَ رَبِّي ومن جملة ما استأثر الله به سبحانه في غيبه ولم يطلع أحدا عليها وبالجملة لا يُجَلِّيها اى لا يظهرها ولا يكشف أمرها لِوَقْتِها الذي عين لها وفي ساعتها التي قدر لوقوعها إِلَّا هُوَ إذ هي من جملة الغيوب الخمسة التي قد خصها سبحانه لنفسه في قوله وعنده علم الساعة وينزل الغيث الآية وانما أخفاها وأبهم وقتها ولم يطلع أحدا عليها لان الحكمة المتقنة تقتضي ذلك إذ لو أظهرها على عباده قد ثَقُلَتْ عظمت وشقت عليهم أمرها واشتدت هولها على من فِي السَّماواتِ من الملائكة وَعلى من في الْأَرْضِ من الثقلين لذلك لا تَأْتِيكُمْ الساعة عند إتيانها إِلَّا بَغْتَةً فجاءة وعلى غفلة بحيث لا يسع لكم ترك ما كنتم فيه حينئذ من الأمور كما اخبر صلّى الله عليه وسلّم ان الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقى ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه وانما يَسْئَلُونَكَ عن الساعة وقيامها لظنهم فيك من نجابة طينتك يا أكمل الرسل كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها خبير بوقتها عليم بشأنها مذكر لها دائما مفتش عن أهوالها وأحوالها مستمرا قُلْ لهم إِنَّما عِلْمُها ووقت ظهورها عِنْدَ اللَّهِ وفي خزانة حضرة علمه ولوح قضائه وعالم أسمائه وغيب ذاته وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ انه سبحانه مختص به لا يطلع أحدا عليها قُلْ يا أكمل الرسل لمن ظن بك انك حفى عليم بسرائر الأمور والعلوم ومخفياتها خبير أنت بحقائق الموجودات وماهياتها اعترافا بالعبودية وسلبا للاختيار عن نفسك والله لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً اى جلب نفع وَلا ضَرًّا اى دفع ضر إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إيصاله الى من النفع والضر وايضا لا اعلم من الغيب الا ما اوحى الله الى وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ يعنى لو تعلق علمي بعواقب أموري لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ لنفسي وَصرت بحيث ما مَسَّنِيَ السُّوءُ

[سورة الأعراف (7) : آية 189]

ابدا وما لحقني ضر أصلا لكن إِنْ أَنَا اى ما انا إِلَّا نَذِيرٌ أنذركم باذن ربي على مقتضى وحيه والهامه إياي وَبَشِيرٌ ايضا بمقتضاه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بوحي الله والهامه وبالجملة ما انا عالم بحالي ولا بأحوالكم أصلا بل رسول من عند ربي أبلغكم ما أرسلت به وما اوحيت من لدنه وكيف لا يكون الغيب مما استأثر الله به إذ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ اى أوجدكم وأظهركم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي أبونا آدم عليه السّلام وكان جسدا لا علم له ولا ادراك ثم علمه سبحانه من انيات الأشياء والأسماء ما تعلق ارادته بتعليمه إياه ولم يعلمه حقائقها وكمياتها إذ هي من جملة المغيبات التي لم يطلع أحدا عليها وَبعد ما أظهرها جَعَلَ مِنْها اى خلق من جنسها زَوْجَها حواء وانما خلقها لِيَسْكُنَ إِلَيْها ويوانس معها فَلَمَّا تَغَشَّاها وواقعها بالهام الله إياه حَمَلَتْ وحبلت حواء حَمْلًا خَفِيفاً اى أدركت حملا خفيفا في بطنها فَمَرَّتْ بِهِ ومضت عليها مدة أدركت ثقلها وأخبرت زوجها بثقلها فالهم بانه ولد فَلَمَّا أَثْقَلَتْ الى حيث اشتد عليها حملها وظهرت عندها امارة حيوة ما في بطنها واحست حركته دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا ولدا صالِحاً سالما لموانستنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمك المواظبين على أداء حقوق كرمك فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً بعد صالح وطالحا بعد طالح بطنا بعد بطن جَعَلا وأخذا موضع الشكر لَهُ سبحانه شُرَكاءَ باغواء الشيطان إياهما فِيما آتاهُما من الأولاد فسمياهم بعبد الحارث وعبد العزى وعبد المناة بتعليم الشيطان إياهما فَتَعالَى اللَّهُ المنزه بذاته عن الشريك مطلقا سيما عَمَّا يُشْرِكُونَ له هما وغيرهما من المشركين ثم لا يكن شركهما عن قصد واختيار بل بوسوسة الشيطان واغوائه وبخ سبحانه عليهم وعيرهم لينزجروا وقال أَيُشْرِكُونَ جمعه باعتبار أولاده معنا ما لا يَخْلُقُ ويظهر شَيْئاً حقيرا قليلا بل وَهُمْ اى الأصنام والشركاء في أنفسهم يُخْلَقُونَ مخلوقون كسائر المخلوقات وَكيف يشركون الأصنام معنا في الألوهية والربوبية مع انهم لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ اى لعبدتهم نَصْراً حيث يدفعون عنهم الأذى والضرر إذ هم جمادات لا شعور لها وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ يعنى بل لا يقدرون ان ينصروا أنفسهم بدفع ما يؤذيهم ويكسرهم فكيف لغيرهم ثم قال سبحانه وَإِنْ تَدْعُوهُمْ ايها المؤمنون الموحدون المشركين المصرين على الشرك والعناد إِلَى الْهُدى الموصل لهم الى توحيد الحق لا يَتَّبِعُوكُمْ لخبث طينتهم بل سَواءٌ عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون المريدون هداية هؤلاء الغواة أَدَعَوْتُمُوهُمْ اى دعوتكم إياهم الى الإسلام أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ ساكتون عن الدعوة بل عن الالتفات إليهم مطلقا لشدة قساوتهم وغلظة غشاوتهم ثم قال سبحانه تبكيتا للمشركين إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ وتعبدون ايها الضالون المشركون مِنْ دُونِ اللَّهِ المتفرد بالالوهية المتوحد بالربوبية عِبادٌ أَمْثالُكُمْ اى هم مخلوقون أمثالكم بل أسوأ حالا منكم لكونهم جمادات لا شعور لها كيف سميتموها معبودات تعبدونها كعبادة الله وان اعتقدتم إلهيتهم وتأثيرهم فَادْعُوهُمْ بانزال العذاب على مخالفيكم فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ البتة لكونكم عبادا لهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في انهم آلهة وبالجملة كيف تعتقدون ايها الحمقى الهية هؤلاء الجمادات الهلكى التي أنتم تنحتونها من الأحجار والأخشاب والإله منزه عنها متعال عن أمثالها وايضا كيف تعتقدون تأثير هؤلاء أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها فيؤثرون بها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها والتأثير مسبوق بأمثال هذه

[سورة الأعراف (7) : آية 196]

القوى والآلات كيف وشرط التأثير الحيوة ولا حيوة لهم أصلا فكيف يؤثرون وأنتم ايها الحمقى كيف تعتقدون تأثيرهم أفلا تعقلون قُلِ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا وإلزاما ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ الذين تدعون مشاركتهم مع الله واستظهروا منهم ثُمَّ كِيدُونِ وامكرون بمظاهرتهم بحيث لا اطلع بمكركم أصلا فَلا تُنْظِرُونِ ولا تمهلوني مدة حتى اتأمل فيه واطلع عليه واشتغل لدفعه وبالجملة انا لا أبالي بكم وبمكركم وبمكر شركائكم ومعاونيكم جميعا بولاية الله وحفظه ونصره إياي إِنَّ وَلِيِّيَ وحافظي ومعينى وناصري ومتولى عموم أموري اللَّهُ القادر المقتدر القيوم المطلق الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ اى القرآن لنصرى وتأييدى وَمن غاية لطفه هُوَ سبحانه بنفسه يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ من عباده ويحفظهم عن مكر الماكرين سيما الأنبياء الذين هم في كنف جواره وحوزة حفظه يحفظهم عن جميع ما يؤذيهم وَكيف لا يحفظهم سبحانه عن تأثير هؤلاء الأصنام الهلكى الَّذِينَ تَدْعُونَ أنتم ايها الضالون مِنْ دُونِهِ سبحانه وتستنصرون منهم مع انهم لا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ اى كيف ينصرونكم وهم لا ينصرون أنفسهم لعدم استعدادهم وقابليتهم على النصرة وَمن خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم إِنْ تَدْعُوهُمْ ايها المؤمنون أولئك المشركين الضالين إِلَى الْهُدى ودين الإسلام لا يَسْمَعُوا ولا يقبلوا مع ورود هذه الدلائل الواضحة بل وَتَراهُمْ ايها المعتبر الرائي يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ويسمعون منك الادلة القاطعة وَهُمْ من خبث طينتهم وجهلهم المركوز في جبلتهم لا يُبْصِرُونَ الى ان أصنامهم جمادات ولا يتأملون ولا يتفطنون ان ما ينسبون الى هؤلاء من الشفاعة والشركة وهم زائل وخيال باطل وخروج عن مقتضى العقل الفطري بل يصرون على ما هم عليه عتوا وعنادا وإذا كان حالهم هذا وهكذا وإصرارهم بهذه الغاية خُذِ الْعَفْوَ اى اختر يا أكمل الرسل طريق العفو والملاينة واترك الغضب والخشونة بمقتضى شفقة النبوة وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ اى ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة القوم الذين قد تفرست منهم الرشد والهداية بنور النبوة والولاية وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ المصرين وان جادلوك جادلهم بالتي هي احسن وبالجملة ان ربك اعلم منك بمن ضل عن سبيله وهو اعلم ايضا بالمهتدين منهم وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ينخسنك ويشوشنك مِنَ الشَّيْطانِ المثير المهيج للقوى الغضبية والحمية الجاهلية نَزْغٌ اى وسوسة وإغراء يحملك على الغضب ويخرجك عن مقتضى ما أمرت به من الحلم والملاينة فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من غوائله وارجع نحوه سبحانه من وسوسة الشيطان ومخايله يكفيك سبحانه مؤنة شروره واغوائه إِنَّهُ سبحانه بذاته سَمِيعٌ لمناجاتك عَلِيمٌ بعموم حاجاتك. ثم قال سبحانه تذكيرا لنبيه صلّى الله عليه وسلّم وعظة إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا من عبادنا قد كانوا إِذا مَسَّهُمْ واستولى عليهم طائِفٌ خاطر يطوف ويحول حول قلوبهم مِنَ قبل الشَّيْطانِ المضل المغوى تَذَكَّرُوا ما أمروا به ونهوا عنه من عند الله فَإِذا هُمْ بتذكر المأمور او المنهي مُبْصِرُونَ مميزون موقع الخطايا فيحترزون منها ويتعوذون الى الله عما يغريهم الشيطان اليه وَالذين لم يتقوا عن محارم الله ولم يحذروا عن غوائل الشيطان بل هم إِخْوانُهُمْ اى اخوان الشياطين إذا مسهم ما مسهم لا يتأتى لهم التذكر ولم يوفقوا عليه بل يَمُدُّونَهُمْ الشياطين بالتزيين والتحسين والوسوسة والإغراء الى ان يوقعوهم فِي الغَيِّ والضلال ثُمَّ بعد الإيقاع فيه لا يُقْصِرُونَ بل

[سورة الأعراف (7) : آية 203]

يبالغون في اغوائهم واغرائهم الى حيث يردونهم بحال لا يرجى لهم الفلاح أصلا وَمن غاية انهماكهم في الغي والضلال ونهاية غراقتهم فيه إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ يا أكمل الرسل بِآيَةٍ قد اقترحوها منك عنادا قالُوا على سبيل التهكم والاستهزاء لَوْلا اجْتَبَيْتَها وهلا انتخبتها من الأقوال كسائر منشأتك أعجزت فيها فان عجزت لم لم تطلبها من ربك بمقتضى دعواك كما طلبت غيرها منه قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم ما انا منشئ مختلق بل رسول مبلغ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي الذي هو مرسلى ومبلغي مالي صنع في نظمه وتأليفه وبلاغته وفصاحته واعجازه بل هذا اى القرآن وما فيه من الرموز والإشارات بَصائِرُ للمستبصرين المستكشفين بمقتضى الودائع الفطرية التي قد اودعها الله في قلوب عباده حسب حكمته المتقنة ومتى انكشفتم بودائعكم علمتم انها مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً ايضا يوصلكم الى ما جبلتم لأجله الا وهو التوحيد والعرفان وَرَحْمَةٌ نازلة من الله توقظكم عن نومة الغفلة ونعاس النسيان كل ذلك لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ اى يتحققون بمرتبة اليقين العلمي ويطلبون الترقي منها الى العين والحق. حققنا بلطفك بحقيتك وخلصنا من هويتنا الباطلة بفضلك وجودك يا ارحم الراحمين وَبعد ما سمعتم منا من أوصاف القرآن ما سمعتم إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ عندكم او قرأتم أنتم لأنفسكم فَاسْتَمِعُوا لَهُ عن صميم قلوبكم وتأملوا في معناه حسب وسعكم وطاقتكم وَأَنْصِتُوا اى اسكتوا واعرضوا وانصرفوا عن مقتضيات سائر قواكم وآلاتكم ولا تلتفتوا إليها أصلا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ تنكشفون وتتحققون بما في نفوسكم من ودائع الله بسببه ثم خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلم لان أمثال هذه الخطابات لا تسع الا في وسعه وقابليته فقال وَاذْكُرْ رَبَّكَ اى تذكر وتحقق بمربيك الذي أظهرك على صورته فِي نَفْسِكَ إذ أنت بهويتك ظاهر ربك تَضَرُّعاً وَخِيفَةً متضرعا متحننا خائفا عن غلبة غفلة ناسوتك وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ إخفاء من المحجوبين الجاهلين الجاحدين برتبتك وغيرة عليه سبحانه بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ اى بعموم أوقاتك التي جرى عليك بمقتضى بشريتك وَبالجملة لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ بحال من حالاتك لتحققك وتمكنك في مقام الكشف والشهود وبالجملة إِنَّ السالكين الَّذِينَ قد حصلوا وتمكنوا عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ آنا ولمحة ولا يلتفتون الى ما سواه طرفة بل وَيُسَبِّحُونَهُ اى ينزهونه ويقدسونه سبحانه عن عموم ما يصور لهم ويوهمهم منه سبحانه ناسوتهم وَبالجملة لَهُ يَسْجُدُونَ دائما بمقتضى حصة لأهونهم منسلخين عن مقتضيات هوياتهم الباطلة الناسوتية مطلقا منخلعين عن لوازم اوهامهم وخيالاتهم العاطلة رأسا. ربنا اكشف عنا بفضلك حجب ناسوتنا بالمرة وحققنا بجودك بفضاء لاهوتك انك أنت الجواد الكريم خاتمة سورة الأعراف عليك ايها السالك المتوجه نحو القبلة الأحمدية والمقصد الاحدية المحمدية هداك الله نحو سواء سبيله وأوصلك الى مقر عزك من التوحيد الذاتي ان تتوجه الى فضاء قلبك وتتذكر ما فيه من ودائع ربك على وجه الخبرة والاستبصار مجتنبا عما يشوشك عن غبار الأغيار معيرا بمعيار العبرة والاعتبار بحيث لا يلهيك عنها وسوسة الشيطان المحيل المكار وتغريرات الدنيا الغرار ولا يتيسر لك هذا الا بتذكر ما في كتاب الله من المواعظ والاخبار والآثار وامتثال ما فيه من الأوامر والنواهي والتدبر

سورة الأنفال

في سرائرها واستكشاف حكمها واسرارها وعليك ان تتوسل في استرشادك من كتاب الله بأحاديث رسوله المختار إذ هي مبينة له كاشفة عن سرائره ومرموزاته موضحة لما فيه من الغوامض متكفلة لحفظ عقيدتك عن التزلزل والانحراف عن جادة الهداية موصلة لك بقدر قابليتك الى مسائل مسالك التوحيد فلك ان تواظب على الاستفادة منها ناويا في استفادتك استخلاص نفسك عن ربقة التقليد مستقبلا في سلوكك هذا الى مقر المعرفة ومقصد التوحيد مشمرا ذيلك عن جميع ما يعوقك ويمنعك عن لوازم بشريتك ملتجأ نحو الحق في عموم حالاتك مستمدا في سلوكك هذا عن ارباب الولاء الوالهين في مطالعة جمال الله والعرفاء الواصلين الى فضاء وحدته وصفاء بقائه منخلعين عن جلباب ناسوتهم بالمرة بحيث لا يلتفتون الى لوازم بشريتهم أصلا الا وهم البدلاء الحائرون الحاضرون الوالهون الواصلون الفانون الباقون المتحققون الا ان أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون رب اجعلنا بفضلك من خدامهم وتراب اقدامهم [سورة الأنفال] فاتحة سورة الأنفال لا يخفى على ذوى الألباب المستكشفين عن لب التوحيد المستنزهين عن قشوره ان من لم يترق ممن يتأتى منهم الهداية والسلوك في سبيل التوحيد عن المرتبة الحيوانية ولم يصل الى الدرجة العلية الانسانية لم يثمر شجرة هويته وظهوره ثمرة المعرفة واليقين التي قد غرست لأجلها وظهرت لحصولها وبالجملة من لم نحيى بحياة العلم اللدني الأزلي الأبدي بل بقي على الجهل الجبلي الهيولاني فهو ميت حقيقة وان كان حيا صورة وبسبب موتهم وجهلهم هذا لا يستنشقون نسمات الروح ونفحات الحيوة الطيبة من أنفاس الأنبياء المبعوثين لإحيائهم بنفخ الروح الإلهي والنفس الرحمانى المظهر لهوياتهم المحيي لهياكلهم وماهياتهم من كتم العدم ولم يؤمنوا بهم ولم يصدقوهم فيما جاءوا به من عند ربهم بل كذبوهم وقاتلوا معهم وأصروا على جهلهم واستكبروا عليهم حسب حميتهم الحيوانية الجاهلية الساقطة المسقطة الضالة المضلة لذلك قد صارت دماؤهم مباحا وأموالهم فيأ عند العارف المحقق المتحقق بتوحيد الحق وشئونه المعتدلة وبالجملة أموالهم وما ينسب إليهم من جملة أرزاق الله التي لم يضف الى احد من خلقه ولم يقسم بين عباده إذ الحكمة في ترزيق العباد انما هي كسب المعرفة والتوحيد لذلك اخبر سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلّم بكيفية تقسيم اموال الفيء والغنيمة مخاطبا له على وجه التعليم فقال سبحانه متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المقسم لأرزاق العباد على العدل القويم الرَّحْمنِ لهم بإصلاح ما ظهر بينهم من المخالفة والنزاع باغواء الشيطان الرجيم الرَّحِيمِ لهم يوفقهم على ازدياد الهداية والايمان سيما باحكام كتابه الكريم [الآيات] يَسْئَلُونَكَ اى أصحابك ايها الرسول المبعوث على الخلق العظيم عَنِ الْأَنْفالِ اى عن قسمة الغنائم عبر سبحانه عنها بالنفل وهو في اللغة عطية زائدة اشترطها الامام لمن اقتحم على محل الخطر زيادة على سهمه كأنها زائدة على سهام الغزاة المجاهدين المقاتلين في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق طلبا لمرضاته سبحانه وما يترتب عليه من اموال الدنيا انما هو بمنزلة النفل والعطية الزائدة على سهامهم التي هي المثوبة العظمى والمرتبة العليا عند الله قُلِ لهم يا أكمل الرسل الْأَنْفالِ كلها لِلَّهِ ومن مال الله وقسمتها مفوض اليه سبحانه وَالى الرَّسُولِ المستخلف منه النائب عنه سبحانه باذنه فَاتَّقُوا اللَّهَ ايها المؤمنون عن مخالفة امره وامر رسوله وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ

[سورة الأنفال (8) : آية 2]

اى العداوة والخصومة التي قد وقعت بينكم بوسوسة الشيطان واغوائه وَبالجملة أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وانقادوا أمرهما ولا تجاوزوا عن حكمهما إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موقنين بتوحيد الله وتصديق رسوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الكاملون في الايمان المتحققون بمرتبة اليقين والعرفان المصدقون بالرسول المبين لهم طريق التوحيد هم الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ الواحد الأحد المتفرد بالالوهية المتوحد بالربوبية وَجِلَتْ اى خافت وترهبت واضطربت قُلُوبُهُمْ من سطوة سلطنة عظمته وجلاله وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ الدالة على بسطته وكبريائه النازلة على رسله وأنبيائه زادَتْهُمْ تلك الآيات إِيماناً وتصديقا وإذعانا ويقينا عيانا وعرفانا وَهم من كمال يقينهم وعرفانهم عَلى رَبِّهِمْ لا على غيره من الأسباب الناقصة والرسوم العادية يَتَوَكَّلُونَ يتوسلون ويستعينون منه سبحانه في عموم الأمور بلا رؤية الوسائل في البين لتحققهم بمقام التوحيد المسقط للالتفات الى غير الحق مطلقا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويديمون الميل الى الله في جميع حالاتهم مراقبين لفيضه وجذب من جانبه وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ من كد يمينهم يُنْفِقُونَ في سبيله طلبا لمرضاته أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله هُمُ الْمُؤْمِنُونَ المتحققون لمرتبة الإذعان والإيقان حَقًّا ثابتا مستقرا بلا اضطراب وتزلزل وبالجملة لَهُمْ دَرَجاتٌ عظيمة عِنْدَ رَبِّهِمْ من درجات العلم والعين والحق وَمَغْفِرَةٌ اى ستر لأنانياتهم وتعيناتهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ معنوي بدلها يرزقون به فرحين عناية من الله لان من توجه نحو الحق ومال الى جنابه ميلا مسقطا للتوجه الى الغير مطلقا وخرج عن لوازم بقعة الإمكان الى حيث ينفق ويبذل عموم ما نسب اليه من اموال الدنيا وزخارفها معرضا عنها مخرجا محبتها عن قلبها اعطى سبحانه له بدل إخلاصه من الرزق المعنوي ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كَما اعطاك يا أكمل الرسل حين أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ وقت إذ أخبرك جبرئيل عليه السّلام من اقبال عير مكة من قبل الشأم وفيها ابو سفيان اخبارا ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع وَالحال إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ خروجك ومن كمال كراهتهم يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ الصريح الذي هو الجهاد سيما بَعْدَ ما تَبَيَّنَ وظهر لك بوحي الله إياك ووعده النصرة والظفر لك وهم من غاية رعبهم حين خروجهم كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ مثل البهائم نحو المسلخ وَهُمْ حينئذ يَنْظُرُونَ حيارى خائفين مرهوبين مع انه قد كتب لهم الظفر والغنيمة والغلبة من عند ربهم وذلك ان عير قريش أقبلت من الشأم وفيهم ابو سفيان مع أربعين من الفرسان ومعهم تجارة عظيمة فأخبر جبرئيل عليه السّلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبر الرسول للمؤمنين فخرجوا مسرعين بلا عدة استقلالا لهم وميلا الى أموالهم فلما خرجوا من المدينة بلغ خبر خروجهم الى العير فانصرفوا عن الطريق وأرسلوا خبرهم الى مكة فاستغاثوا فخرج ابو جهل مع جمع كثير فمضوا الى بدر وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوادي دقران فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام ثانيا يعده احدى الطائفين اى العدو او العير فاستشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه وان كان رأيه الى القتال فقال بعضهم هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له انا قد خرجنا للعير فقال صلّى الله عليه وسلّم ان العير قد مضت على ساحل البحر وهذا ابو جهل قد اقبل فقالوا كارهين مرعوبين يا رسول الله عليك بالعير ودع العد وفقد غضب صلّى الله عليه وسلّم فقال المقداد بن عمرو يا رسول الله امض بما أمرك الله فانا معك حيثما

[سورة الأنفال (8) : آية 7]

أحببت لا نقول لك مثل ما قال بنو إسرائيل اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون ولكن نقول اذهب أنت وربك فاننا معكما مقاتلون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا الى برك الغما وهي مدينة بأقصى الحبشة قد مضينا معك بلا تكاسل ومخالفة فدعا صلّى الله عليه وسلّم له خيرا ثم قال عليه السّلام اجتمعوا على ايها الناس يريد الأنصار القائلين له حين بايعوه على العقبة انهم برءاء من كل ذمامه حتى يصل الى ديارهم فتخوف ان لا يروا نصرته الا على عدو دهمه بالمدينة فقال له سعد بن معاذ لكأنك تريدنا يا رسول الله قال أجل قال آمنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودا ومواثيق على السمع والطاعة فامض لما أمرت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت على البحر فخضته لخضنا معك بلا تخلف أتحسب انا إذ الا قينا العدو نتكاسل ونتساهل ولعل الله يريك منا ما تقربه عينك ففرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونشطه قول سعد ثم قال سيروا على بركة الله وابشروا فان الله سبحانه قد وعدني الآن احدى الطائفتين والله لكأنى الآن انظر الى مصارع القوم وَاذكروا ايها المؤمنون وقت إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ بالوحي على رسوله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها مغلوبة مقهورة لَكُمْ وَأنتم حين سمعتم مضمون الوحى تَوَدُّونَ وتحبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ اى العير تَكُونُ لَكُمْ لان أهلها قليل ومالها كثير ولا احتياج لكم الى المقاتلة معهم لقلتهم وعدم شوكتهم وَيُرِيدُ اللَّهُ حسب قهره وقدرته أَنْ يُحِقَّ يظهر ويثبت الْحَقَّ اى التوحيد المطابق للواقع الذي هو الإسلام بِكَلِماتِهِ الملقاة من عنده سبحانه بملائكته حين أمرهم بامداد حبيبه الذي بعث لإعلاء كلمة توحيده وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ اى يستأصلهم الى حيث لم يبق منهم من يستخلفهم كل ذلك فضل من الله وامتنان منه على رسوله لِيُحِقَّ الْحَقَّ اى الإسلام المحقق المطابق لما عند الله وَيُبْطِلَ الْباطِلَ المخالف لدين الإسلام وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ المصرون على ما هم عليه قبل نزول الإسلام ما أراد الله من تحقيق الحق وتمكينه وابطال الباطل وتخذيله اذكروا ايها المؤمنون فضل الله عليكم ورحمته سيما وقت إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ حين اقتحم العدو وأنتم غزى قلائل وهم متكثرون ذووا عدد وعدد فَاسْتَجابَ لَكُمْ ربكم مغيثا عليكم قائلا لكم على لسان نبيكم أَنِّي بحولي وقوتي مُمِدُّكُمْ معينكم ومغيثكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ على عدوكم يضربونهم من وراءهم وأنتم من قدامهم وَما جَعَلَهُ اللَّهُ اى امدادكم هذا بملائكة السماء إِلَّا بُشْرى لكم بفضلكم وكرامتكم عليهم وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ في عموم ما وعدكم الله به وَاعلموا ايها المؤمنون المتحققون بمقام التوحيد مَا النَّصْرُ والغلبة والظفر إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ القادر المقتدر على كل ما أراد واختار إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والجلال عَزِيزٌ غالب على عموم مقدوراته ومراداته حَكِيمٌ متقن في جميع أحكامه ومأموراته يفعل ما يشاء ارادة واختيارا ويحكم ما يريد اذكروا ايها المؤمنون فضل الله عليكم وامتنانه إِذْ يُغَشِّيكُمُ ويغلب عليكم بلطفه سبحانه النُّعاسَ اى النوم ازالة لرعبكم حين كنتم في سهر من خوف العدو لتكون أَمَنَةً نازلة مِنْهُ لتستريحوا وتطمئن قلوبكم وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ حينئذ مِنَ السَّماءِ ماءً مع انكم قد كنتم مجنبين ليلتئذ باغواء الشيطان وعدوكم على الماء والشيطان يعيركم بجنابتكم ويوسوس عليكم بأنكم تدعون الامامة بالولاية كيف تخرجون غد اتجاه العدو وأنتم جنب ودعواكم ان القتال والجهاد من اشرف العبادات وبأمثال هذه الهذيانات

[سورة الأنفال (8) : آية 12]

يوقع بينكم الفتنة لتتقاعدوا عن القتال وأنتم ايضا مضطربون عن عروض الجنابة عليكم قد انزل الله عليكم المطر من محض لطفه لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ اى بالماء أبدانكم عن الجنابة الصورية كما طهر قلوبكم بماء العلم اللدني المترشح من بحر التوحيد عن الجنابة المعنوية والخباثة الحقيقية التي هي الكفر والنفاق وَبالجملة يُذْهِبَ عَنْكُمْ بانزال المطر رِجْزَ الشَّيْطانِ ووسوسته وإيقاعه وتخويفه من العطش وغيره وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ بانزاله انه سبحانه يعين عليكم وينصركم حين اضطراركم ليزداد وثوقكم به وبنصره سبحانه ووعده وانجاز وعده وَايضا يُثَبِّتَ بِهِ اى بهذا الربط الْأَقْدامَ اى اقدامكم على جادة التوحيد والتوكل الى الله والتفويض نحوه في جميع الأمور اذكر يا أكمل الرسل أنت وذكر بمن تبعك فضل الله عليكم وقت إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ المأمورين لعونك وامدادك حين ازداد رعب أصحابك من اقتحام القتال قائلا لهم أَنِّي بكمال حولي وقوتي مَعَكُمْ حاضر عندكم شهيد عليكم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا في مكانهم تجاه العدو حتى لا يستدبروا إذ سَأُلْقِي من كمال نصرى وعوني للمؤمنين فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا اى في قلوب العدو الرُّعْبَ من المؤمنين فاستكثروهم واستدبروا منهم ومتى استدبر العدو فَاضْرِبُوا أنتم على الفور ايها المؤمنون فَوْقَ الْأَعْناقِ اى اعالى أعناقهم وَان وضعوا جننهم وأيديهم على أعناقهم حفظا لها اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ اى جميع أصابعهم لئلا يبقى لهم استعداد القتال أصلا حتى لا يكروا عليكم ِكَ اى انهزامهم وانخذالهم أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ اى خاصموا وخالفوا مع الله ورسوله مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ القادر المقتدر على عموم ما أراد من القهر والانتقام يخاصم سُولَهُ المؤيد من عنده لتبليغ الاحكام قد استحق انواع العقوبة والنكال من عنده إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والجلال دِيدُ الْعِقابِ صعب الانتقام سريع الحساب على من خالف امره وعادى رسوله ذلِكُمْ اى انواع العقوبة والعذاب نازل على من تعدى حدود الله وكذب رسوله فَذُوقُوهُ ايها المخالفون المصرون ما أعد لكم من العذاب وَاعلموا أَنَّ لِلْكافِرِينَ المصرين المتمردين عَذابَ النَّارِ يخلدون فيها ابد الآباد. ثم قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم إعلاء كلمة الحق وانتصار دينه فعليكم إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ان تقاتلوا معهم وان كانوا زَحْفاً متكثرين بأضعافكم فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ اى لا ترجعوا منهم حين التقائكم إياهم الى إدباركم خائفين منهزمين حال كونهم بأضعافكم فكيف ان كانوا أمثالكم او اقل منكم وَمَنْ يُوَلِّهِمْ منكم يَوْمَئِذٍ اى يوم ملاقاة عدوكم دُبُرَهُ مدبرا خائفا مرعوبا إِلَّا مُتَحَرِّفاً يعنى يكون إدباره وانحرافه لِقِتالٍ على سبيل المكر والخدعة أَوْ مُتَحَيِّزاً اى قاصدا بالاستدبار والانحراف التحيز واللحوق إِلى فِئَةٍ ثابتة من المؤمنين ليستعين بهم فَقَدْ باءَ اى رجع ولحق بِغَضَبٍ نازل مِنَ اللَّهِ لمخالفة امره وحكمه وحكمته وَمَأْواهُ في النشأة الاخرى جَهَنَّمُ البعد والخذلان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مرجعه ومصيره وعليكم ايها المؤمنون ان لا تنسبوا القتل بل جميع ما صدر عنكم الى نفوسكم مفاخرة ومباهاة بل انكم وان قتلتم عدوكم صورة فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أنتم حقيقة وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ لان جميع الأمور الكائنة في الآفاق صادر من الله أولا وبالذات ومن آثار أوصافه وأسمائه وَبالجملة ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ أنت ايها النبي المأمور برمي الحصا عند هجوم الأعداء على أصحابك وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى إذ قد أوجد الرمي سبحانه بيدك التي هي يد الله حقيقة لذلك ترتب على

[سورة الأنفال (8) : آية 18]

رميك صورة انهزامهم الذي قد استبعدتم أنتم وأولئك ايضا وَانما رماهم سبحانه بما رمى لِيُبْلِيَ ويجرب الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً اى من انعام نعمة الغنيمة والظفر هل يراجعون ويواظبون على شكر نعمه أم لا إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده سَمِيعٌ يسمع مناجاتهم الصادرة منهم على وجه الإخلاص عَلِيمٌ بعموم حاجاتهم التي هم يحتاجون إليها في معاشهم ومعادهم ذلِكُمْ اى ابتلاء الله إياكم بالبلاء الحسن مختص بالمؤمنين المخلصين منكم وَاعلموا ايها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ المتولى لأموركم مُوهِنُ مضعف ومبطل كَيْدِ الْكافِرِينَ ومكرهم وحيلهم التي يقصدون بها إهلاككم واذلالكم. ثم قال سبحانه على سبيل التهكم للكافرين الذين كانوا إذا اقبل عليهم المؤمنون للقتال يطوفون حول الكعبة متشبثين بأستارها متضرعين مستفتحين من الله قائلين اللهم انصر أعلى الجندين واهدى الفئتين وأكرم الحزبين إِنْ تَسْتَفْتِحُوا منا ايها الهالكون في تيه الضلال لمقاتلة نبينا ومن تبعه من المؤمنين فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ بقتلكم وسبيكم اى غلبة المؤمنين عليكم وَإِنْ تَنْتَهُوا عن مقاتلتهم ومعاداتهم وعن الاستفتاح لها بل آمنوا كما آمن هؤلاء لنبينا عن ظهر القلب وصميم الفؤاد فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في أولئكم وأخراكم وَإِنْ تصالحوا معهم وآمنوا على وجه النفاق ثم ارتدوا بان تَعُودُوا الى مقاتلتهم ومعاداتهم نَعُدْ ايضا الى نصرهم وتأييدهم الى ان يستأصلوكم ويخرجوكم من دياركم وَبالجملة لا تغتروا ايها المسرفون بكثرة عددكم وعددكم إذ لَنْ تُغْنِيَ ولن تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ التي أنتم تستظهرون وتستعينون بها شَيْئاً من غلبة المؤمنين وظفرهم وَلَوْ كَثُرَتْ فئتكم وَكيف تغنى فئتكم شيأ منهم أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر بالقدرة الكاملة مَعَ الْمُؤْمِنِينَ المجاهدين في سبيله لإعلاء كلمة توحيده ونصر دينه ونبيه ينصرهم ويعين عليهم. ثم قال سبحانه مناديا للمؤمنين توصية وتذكيرا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم اطاعة الله واطاعة رسوله أَطِيعُوا اللَّهَ المراقب المعاون لكم في جميع أحوالكم وَأطيعوا ايضا رَسُولَهُ المبلغ لكم احكام الحق وشعائر دينه وتوحيده وَعليكم ان لا تَوَلَّوْا عَنْهُ اى لا تتولوا معرضين عن رسوله حتى لا تنحطوا عن رتبة الخلافة وكيف لا تطيعون رسوله وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ كلمة الحق منه واسمعوها سمعا وطاعة وَبالجملة لا تَكُونُوا في عدم الإطاعة والانقياد كَالَّذِينَ قالُوا كفرا ونفاقا سَمِعْنا ما تلوت علينا وَهُمْ من غاية بغضهم ونفاقهم لا يَسْمَعُونَ سمع اطاعة وتسليم فكأنهم لم يسمعوا أصلا بل لا يتأتى منهم السماع لانحطاطهم عن رتبة العقلاء بل لحقوا بالبهائم في عدم الفطنة بل أسوأ حالا منها وبالجملة إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ عن استماع كلمة الحق من السنة الرسل الْبُكْمُ عن التكلم بها سيما بعد ما فهموها ولاحت عندهم حقيقتها وبالجملة هؤلاء الحمقى التائهون في تيه الغي والضلال هم الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ اى ليسوا من زمرة العقلاء وان ظهروا على صورهم واشكالهم وَبالجملة لَوْ عَلِمَ اللَّهُ العليم الحكيم فِيهِمْ اى في استعداد هؤلاء السفهاء المنحطين عن رتبة العقلاء خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ كلمة الحق سمع قبول وطاعة وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ مع كونهم ليسوا مستعدين لها لَتَوَلَّوْا وانصرفوا البتة من خبث طينتهم عنها وَبالجملة هُمْ في اصل فطرتهم وبمقتضى جبلتهم مُعْرِضُونَ عن الحق مجبولون على الاعراض والانصراف عن اهله لا يرجى منهم الإطاعة والانقياد أصلا. ثم قال سبحانه مناديا للمؤمنين تذكيرا لهم وتعليما

[سورة الأنفال (8) : آية 25]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم اجابة الله واجابة رسوله اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ بامتثال مأموراته وأحكامه واجتناب نواهيه وَلِلرَّسُولِ بقبول سنته وآدابه وأخلاقه سيما إِذا دَعاكُمْ الرسول وحده باعتبار ان دعوة الرسول هي بعينه دعوة الحق حقيقة لِما يُحْيِيكُمْ من العلوم اللدنية والمعارف الحقيقية المثمرة لانواع المكاشفات والمشاهدات التي قد اضمحلت دونها نقوش السوى والأغيار مطلقا المورثة الموجبة للحياة الازلية الابدية والبقاء السرمدي في جنة الوحدة الذاتية التي لا يذوقون فيها الموت الا الموتة الاولى التي هي الانخلاع عن لوازم القوى البشرية ومقتضيات الآلات البهيمية المستدعية للكثرة ولا بد ان يكون اجابتكم وقبولكم على وجه الخلوص والتسليم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده يَحُولُ ويحجب ويسدل بَيْنَ الْمَرْءِ المتشخص بالهوية الشخصية المتعين بالتعين العدمي وَقَلْبِهِ الذي هو بيت الله المعظم إذ يسع فيه الحق المنزه عن سمة الإطلاق والتقييد المبرى عن وصمة الاحاطة والتحديد بالحجب الكثيرة فما دامت الحجب والأستار مسدولة بين المرء وقلبه لم يشم رائحة المحبة والولاء المؤدى الى الفناء المثمر الى البقاء والخلود في جنة الوحدة الذاتية وانفتاح أبواب المحبة والولاء انما يحصل بالإخلاص والتسليم والتفويض والتوكل والتبتل والتوحيد المسقط للاضافات مطلقا وَبالجملة أَنَّهُ اى الشان إِلَيْهِ لا الى غيره بعد رفع الاظلال الهالكة والتعينات الباطلة تُحْشَرُونَ وترجعون رجوع الظل الى ذي الظل وَاتَّقُوا ايها المؤمنون فِتْنَةً واى فتنة هي معصية مسقطة للعدالة مزيحة للمروءة مطلقا مورثة للمصيبة الشامل أثرها لعموم عباد الله مثل الطاعون والوباء المترتب على الزنا واللواطة والقحط المترتب على البخس والتطفيف والاحتكار وغيرها من طرق الربوا مع ان أثرها لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ وهم الذين قد أتوا بها خَاصَّةً بل يعم الظالمين وغيرهم بشؤمهم لان غيرهم يداهنون معهم كأنهم راضون بفعلهم لذلك قد أصابهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء شَدِيدُ الْعِقابِ صعب الانتقام سريع الحساب على من خرج عن مقتضيات أوامره ونواهيه وَاذْكُرُوا ايها المؤمنون نعمنا إياكم واعانتنا لكم وداوموا بشكرها سيما وقت إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ بحيث يستضعفكم من فِي الْأَرْضِ يعنى ارض مكة شرفها الله ومن غاية ضعفكم وقلتكم تَخافُونَ أنتم ايضا أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ ويلتقطكم النَّاسُ عن وجه الأرض بحيث يستأصلكم بالمرة من غاية ضعفكم وقلتكم فَآواكُمْ الله بحوله وقوته واعادكم إليها بعد ما أخرجكم العدو منها ظلما وعدوانا وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بان تغلبوا وتظفروا على عدوكم وتخرجوهم منها مهانين مغلوبين مستضعفين وَبعد ما أيدكم وأظفركم سبحانه قد رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ التي غنمتم منهم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تواظبوا على شكر هذه النعم العظام ثم قال سبحانه على وجه العظة والتذكير تعليما للمؤمنين مناديا لهم ليقبلوا بما أمروا به ويعرضوا عما نهوا عنه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تَخُونُوا اللَّهَ في امتثال أوامره واجتناب نواهيه وَالرَّسُولَ في سننه وأخلاقه وآدابه التي قد وضعها فيما بينكم لإصلاح حالكم وَبالجملة لا تَخُونُوا أَماناتِكُمْ التي قد ائتمنتم فيها ثقة عليكم واعتمادا وَالحال انه أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قبح الخيانة من انفسكم بلا احتياج لكم الى إنذار منذر واخبار مخبر والخيانات في الأمانات انما تنشأ من جلب المنفعة والحرص المفرط على تكثير المال لمصالح العيال وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ اختبار وابتلاء

[سورة الأنفال (8) : آية 29]

لكم من ربكم ليجربكم هل تضطربون في امر المال والعيال وتقعون لأجلها في المعارك والمهالك واباحة المحرمات وارتكاب الخيانات المسقطة لعموم المروآت والفتوات مطلقا أم تفوضون أموركم كلها الى الله وترضون بما قضى عليكم وقدر لكم سبحانه في سابق علمه ولوح قضائه «2» وَاعلموا أَنَّ اللَّهَ المطلع بجميع أحوالكم عِنْدَهُ وفي كنف حفظه وجواره أَجْرٌ عَظِيمٌ للمفوضين الذين رضوا بقسمة الله في جميع حالاتهم ووفوا بما ائتمنوا من الأمانات مجتنبين عن الخيانة فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ وتحذروا عن محارمه ومحظوراته مطلقا وتؤدوا الأمانات التي ائتمنتم بها من الأموال والاعراض والشهادات بلا خيانة فيها وتفوضوا أموركم كلها اليه مجتنبين عن الخيانة يَجْعَلْ لَكُمْ وينزل على قلوبكم تفضلا وامتنانا فُرْقاناً ينور به قلوبكم بحيث تميزون الحق من الباطل والصواب من الخطأ والإلهام الإلهي من إغواء الشيطان وتغريره وَيُكَفِّرْ ويمح به وبامتثال أوامره واجتناب نواهيه عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ اى جرائمكم اللاتي قد مضت عليكم بالمرة وَبالجملة يَغْفِرْ لَكُمْ ويستر عنكم ذنوبكم مطلقا تفضلا وامتنانا وَلا تتعجبوا من افضاله هذا ولا تستبعدوا منه سبحانه أمثاله إذ اللَّهَ المراقب لأحوال عباده ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ واللطف الجسيم على من توكل عليه والتجأ نحوه في عموم حالاته على وجه الخضوع والخشوع وَاذكر يا أكمل الرسل انجاءنا وتخليصنا إياك وقت إِذْ يَمْكُرُ ويخدع بِكَ لهلاكك ومقتك المفسدون المسرفون الَّذِينَ كَفَرُوا بك يعنى قريشا وهم قد شاوروا لأمرك في دار الندوة لِيُثْبِتُوكَ ويحبسوك في دار ليس لها منفذ إلا كوة يلقون منها طعامك أحيانا أَوْ يَقْتُلُوكَ مزدحمين بحيث لم ينسب قتلك الى معين منهم أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكة محمولا على جمل ليقتلك القطاع وَبالجملة يَمْكُرُونَ بمقتك أولئك الكفرة الماكرون وَيَمْكُرُ اللَّهُ الرقيب الحفيظ عليك لإنجائك وخلاصك من أيديهم فغلب مكره سبحانه على مكرهم واخرجك من بينهم سالما وَبالجملة اللَّهُ المطلع لجميع مخايلهم خَيْرُ الْماكِرِينَ اى أشدهم وأقواهم تأثيرا وقوة وذلك انهم حين سمعوا ايمان الأنصار شاوروا على أظهرهم في امره صلّى الله عليه وسلّم وارتفاع شانه وسطوع برهانه فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال انا من نجد سمعت اجتماعكم فاحضركم لا علم كيف تتدبرون في امر هذا الشخص الذي لو بقي زمانا على هذا يخاف عليكم من شره فقال ابو البختري رأيى ان تحبسوه في بيت وتشدوا منافذه غير كوة تلقون اليه طعامه وشرابه منها حتى يموت فقال الشيخ النجدي بئس الرأس هذا يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصونه من أيديكم فقال هشام بن عمرو رأيى ان تحملوه على جمل فتخرجوه من أرضكم ولا يلحقكم ضرر بنى هاشم فقال الشيخ يفسد قوما آخر ويقاتلكم بهم اما رأيتم طلاقة لسانه وحلاوة كلامه ووجاهة منظره فقال ابو جهل انى ارى ان تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا فيضربوه دفعة واحدة فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنوا هاشم على حرب القريش كلهم فان طلبوا العقل عقلناه فقال الشيخ

_ (2) المؤمن لا بد ان يقنع بالكفاف ويصبر على العفاف ويتصف بالانصاف ويجتنب عن الاعتساف ويرضى من الدنيا بأكل لقمة ولبس خرقة وكن حجرة ولا يطلب فضول العيش واسباب النخوة والثروة وامتعة الجاه والغفلة حتى لا يورثه املا طويلا وحزنا كثيرا فان سلسلة الإمكان متصلة وأغلال الأماني والآمال مثمرة على الدوام بلا انقطاع ولا انصرام

[سورة الأنفال (8) : آية 31]

صدق هذا الفتى واتفقوا على رأيه فأتى جبرئيل عليه السّلام وأخبره الخبر وامره بالهجرة فبيت صلى الله عليه وسلّم عليا كرم الله وجهه على مضجعه متسجيا ببردة وخرج صلّى الله عليه وسلّم مع ابى بكر رضى الله عنه ومضيا الى الغار وبات المشركون يحرسون عليا رضى الله عنه يحسبون النبي صلى الله عليه وسلّم فلما أصبحوا ساروا ليقتلوه فرأوا عليا فقالوا اين صاحبك قال ما ادرى فاتبعوا اثره فلما وصلوا الغار رأوا نسج العنكبوت على بابه فقالوا لو دخله لم يبق لنسج العنكبوت اثر فانصرفوا فمكث صلّى الله عليه وسلّم فيه ثلثة ايام ثم خرج نحو المدينة وَمن جملة ما مكرنا معهم انا قد ختمنا على قلوبهم وعلى سمعهم بختم القساوة والغفلة بحيث إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على كمال قدرتنا ووفور حكمتنا قالُوا من غلظة غشاوتهم وشدة قساوتهم قَدْ سَمِعْنا أمثال هذا من بلغائنا كثيرا بل لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا مع انهم قد عارضوا مدة ثم عجزوا مع وفور دواعيهم ثم لما عجزوا عن إتيان مثله قالوا عنادا ومكابرة إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى ما هو الا أكاذيبهم التي قد سطروها في دواوينهم لتغرير السفهاء وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالُوا من فرط عتوهم ونهاية انهماكهم في الغفلة والضلال وإصرارهم على تكذيب القرآن والرسول اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا المفترى هُوَ الْحَقَّ الثابت النازل مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا بسبب تكذيبنا إياه حِجارَةً مِنَ جانب السَّماءِ واستأصلنا بها أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم مفزع وما هذا الا مبالغة منهم في تكذيب القرآن والرسول على سبيل التهكم وَبالجملة ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وان استحقوا أشد العذاب والنكال والإهلاك الكلى بسبب تكذيبك وتكذيب كتابك يا أكمل الرسل وَأَنْتَ فِيهِمْ يعنى ما كان سبحانه معذبهم ما دمت أنت فيهم وفي ديارهم ومكانهم فان عذبهم الله فقد اصابك مما أصابهم وَان أمكن تخليصك وانقاذك من عذابهم حين تعذيبهم ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وما أراد تعذيبهم واستئصالهم وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ اى يتوقع من أنفسهم او من اخلافهم وذراريهم الايمان والاستغفار في الاستقبال بخلاف الأمم الهالكة السالفة وَبالجملة ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ المنتقم الغيور اى اى شيء يمنع تعذيب الله إياهم مع انهم مستحقون للعذاب وكيف لا يعذبون هؤلاء المستكبرون المعاندون وَهُمْ من شدة عتوهم وعنادهم يَصُدُّونَ ويصرفون المؤمنين عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ والطواف حول البيت مدعين ولايته وَالحال انهم ما كانُوا أَوْلِياءَهُ اى ليس لهم صلاحية الولاية في بيت الله لخباثة كفرهم وفسقهم وعدم لياقتهم بل إِنْ أَوْلِياؤُهُ وما يصلح لولايته وخدمته إِلَّا الْمُتَّقُونَ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ويتطهرون عن المعاصي والآثام مطلقا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ عدم ولايتهم ولياقتهم لها ومع ذلك يدعونها مكابرة واستكبارا وان كان بعضهم يعلم ولكن يعاند وَبعد ما لم يصلحوا لولاية البيت ما كانَ صَلاتُهُمْ ودعاؤهم عِنْدَ الْبَيْتِ المعد للتوجه والتقرب نحو الحق على وجه الخضوع والانكسار والتذلل والافتقار إِلَّا مُكاءً صفيرا وصداء وَتَصْدِيَةً تصفيقا وتبخترا مع انهم يدعون ولايته ورعاية حرمته وما ذلك الا من امارات الاستهانة والاستخفاف المستلزم للكفر فَذُوقُوا الْعَذابَ ايها المنهمكون في الضلال بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ في النشأة الاولى والاخرى . ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا الحق وأصروا على الباطل عنادا واستكبارا الى حيث يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ على وجه الصدقة لأهل الجيش لِيَصُدُّوا ويمنعوا اهل الحق

[سورة الأنفال (8) : آية 37]

عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إعلاء للباطل على الحق وترويجا للضلالة على الهداية وذلك يوم بدر فَسَيُنْفِقُونَها ايضا على هذه النية تتميما لغرضهم الفاسد ورأيهم الكاسد فلا يصلون الى مبتغاهم ابدا وان بالغوا في الانفاق ثُمَّ بعد ما تنبهوا بعدم إفادتها تَكُونُ عَلَيْهِمْ وتصير تلك الصدقة والانفاق المبذول منهم حَسْرَةً متمكنة راسخة في قلوبهم مورثة لحزن طويل لتضييعهم المال بلا ترتب فائدة يبغونها ثُمَّ يُغْلَبُونَ وهذا أعظم مصيبة وَبالجملة الَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن دينه ونبيه وكتابه جميعا إِلى جَهَنَّمَ البعد والخذلان وسعير الطرد والحرمان يُحْشَرُونَ ويساقون سوق البهائم نحو المسلخ وانما يفعل بهم سبحانه هذا لِيَمِيزَ اللَّهُ الناقد البصير لاعمال عباده الْخَبِيثَ المنغمس في الكفر والضلال مِنَ الطَّيِّبِ الصافي عن شوب الكدر مطلقا وَبعد فصله وتمييزه يَجْعَلَ الْخَبِيثَ جملة واحدة بان يضم بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ ويجمعه جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ ويطرحه بعد جمعه وتركيمه فِي جَهَنَّمَ الإمكان وجحيم الخذلان وبالجملة أُولئِكَ البعداء المنغمسون في خباثة الكفر والطغيان هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي المجبولون على الحرمان السرمدي ليس لهم نصيب من مستلذات الجنان وحظ من لقاء الرّحيم الرّحمن الكريم قُلْ يا أكمل الرسل لِلَّذِينَ كَفَرُوا تبشيرا لهم ووعدا لا ييأسوا من روح الله وسعة رحمته وجوده عما هم عليه من الكفر والضلال بل إِنْ يَنْتَهُوا ويعرضوا عن الكفر والإلحاد نحو الباطل الزائغ الزائل والميل الى البدع والأهواء الفاسدة الكاسدة من تكذيب الرسل والكتب بالإيمان الخالص عن ظهر القلب ورفع المنازعة والمخاصمة مع رسول الله ومع من تابعه يُغْفَرْ لَهُمْ ويعف عنهم عموم ما قَدْ سَلَفَ منهم من الجرائم والآثام مطلقا وَإِنْ يَعُودُوا على كفرهم ونزاعهم ويرتدوا بعد ايمانهم وصلحهم فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ اى سنن الأمم الهالكة الذين كفروا بالله وخرجوا على رسله فأصابهم ما أصابهم فليتوقعوا وَبعد ما خرجوا عن عهدهم ونقضوا ميثاقهم وارتدوا على ادبارهم قاتِلُوهُمْ ايها المؤمنون اى المرتدين واستأصلوهم حَتَّى لا تَكُونَ اى لا توجد ولا تبقى فِتْنَةٌ وبقية من شركهم مضلة لضعفاء الأنام وَبعد استئصالهم وانقطاع شركهم وعرقهم يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ الواحد الأحد الذي لا شريك له فَإِنِ انْتَهَوْا بالقتال عن شركهم وكفرهم وأقروا بالإيمان والإطاعة فخلوا سبيلهم فَإِنَّ اللَّهَ المطلع بضمائرهم بِما يَعْمَلُونَ في بواطنهم من الوفاق والنفاق بَصِيرٌ يجازيهم على مقتضى بصارته وخبرته وَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا ولم ينتهوا بالقتال عن كفرهم بل قد أصروا عليه وأخذوا أولياء من إخوانهم وشياطينهم واستعانوا منهم بمقاتلتكم ايها المؤمنون لا تبالوا بهم وبمعاونيهم ومظاهريهم فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على وجوه الانتقام مَوْلاكُمْ معينكم ومتولى أموركم نِعْمَ الْمَوْلى موليكم وَنِعْمَ النَّصِيرُ نصيركم وظهيركم وَبعد ما انتصرتم وظفرتم عليهم اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ منهم وأخذتم مِنْ شَيْءٍ اى مما يطلق عليه اسم الشيء حتى الخيط فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ اى فاعلموا ان خمسه مخرج لله وَيصرف من مال الله خمسه لِلرَّسُولِ المستخلف منه النائب عنه وَبعد انقراضه يصرف الى الولاة المقيمين لحدود الله وسهم آخر منه لِذِي الْقُرْبى المنتمين الى رسول الله من بنى هاشم والمطلب وَآخر حق الْيَتامى الذين لا مال لهم ولا متعهد وَآخر حق الْمَساكِينِ

[سورة الأنفال (8) : آية 42]

الذين أسكنهم الفقر والفاقة في زاوية الهوان والمذلة وَآخر حق ابْنِ السَّبِيلِ المنقطعين عن الأوطان والأموال لمصلحة شرعية فعليكم ايها الحكام ان تحافظوا على هذه القسمة ولا تتجاوزوا عنها إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ المستوي على العدل القويم وَما أَنْزَلْنا يعنى عليكم ان تؤمنوا ايضا على انزالنا بمقتضى لطفنا وجودنا من النصر والظفر على الأعداء والإمداد بالملائكة عَلى عَبْدِنا وحبيبنا يَوْمَ الْفُرْقانِ الفارق بين الحق والباطل والمحق والمبطل وذلك يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ اى وقت التقاء الصفين من الطرفين في بدر مع ضعف اهل الحق وقوة الكفار وَاللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء عَلى كُلِّ شَيْءٍ من نصر ضعفاء الأولياء وانهزام أقوياء الأعداء قَدِيرٌ اذكروا ايها المؤمنون ضعفكم ورثاثة حالكم وقت إِذْ أَنْتُمْ مترددون بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا اى على شفير الوادي الذي هو اقرب الى المدينة مع انه لا ماء فيه ورماله تسوخ ارجلكم وأنتم راجلون وَهُمْ متمكنون بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى اى على شفير الوادي الا بعد من المدينة والماء عندهم وَالرَّكْبُ اى العير التي أنتم قصدتم نحوه قد كان أَسْفَلَ وابعد مِنْكُمْ على ساحل البحر مقدار ثلثة أميال وأنتم حينئذ حيارى بين الاقدام والاحجام وَبالجملة لَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم معهم القتال في وقت معين بلا وحى من الله ووعد من جانبه لَاخْتَلَفْتُمْ أنتم البتة لضعفكم وقوتهم وشدة شوكتهم وصولتهم فِي الْمِيعادِ الذي أنتم وعدتم معهم لرعبكم ورهبتكم منهم وَلكِنْ جمع سبحانه بلطفه شملكم ومكنكم في مكانكم وأمطر عليكم في ليلتكم لِيَقْضِيَ اللَّهُ المتولى لنصركم وغلبتكم أَمْراً وحكما مبرما من نصر الأولياء وقهر الأعداء قد كانَ مَفْعُولًا عنده سبحانه مثبتا في حضرة علمه وسابق قضائه وان لم يفعل بعد وانما فعل سبحانه بكم ما فعل من النصر والظفر وبهم من القهر والقمع لِيَهْلِكَ من الكفار مَنْ هَلَكَ ومات وانخذل غيظا عَنْ بَيِّنَةٍ واضحة قد شاهدها وَيَحْيى ايضا من المسلمين مَنْ حَيَّ فرحا وسرورا عَنْ بَيِّنَةٍ واضحة لائحة قد انكشف بها وَاعلموا إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده لَسَمِيعٌ لمناجاة كلا الفريقين عَلِيمٌ بنياتهم وحاجاتهم فيها يفعل مع كل منهم على مقتضى علمه اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ اى أعداءك فِي مَنامِكَ قَلِيلًا مما كانوا عليه تشجيعا لك يا أكمل الرسل ولأصحابك وتحريضا على قتالهم وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً وعلى شوكتهم التي هم فيها لَفَشِلْتُمْ وجبنتم البتة رهبة وهيبة وَبعد ما جبنتم لَتَنازَعْتُمْ البتة فِي الْأَمْرِ اى امر القتال سيما قد عرفتم كثرتهم وشوكتهم بل تسرعون أنتم بأجمعكم على الاستدبار والانهزام وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ اى أنعم عليكم بالسلامة عن القتل والتنازع بانزال السكينة والوقار على قلوبكم بسبب ذلك التقليل وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم مآل أمركم وعاقبته لذلك لبس عليكم ليجرئكم على القتال لإعلاء كلمة توحيده ونصر دينه وَاذكر ايضا امداد الله إياكم بتلبيس الأمر عليكم إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ اى أعداءكم إِذِ الْتَقَيْتُمْ صافين من الطرفين فِي أَعْيُنِكُمْ كما في منامكم قَلِيلًا لتستقلوهم وتجترؤا عليهم وَيلبس أمركم عليهم ايضا تغريرا لهم ومكرا إذ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى لا يبالوا بكم وبجمعكم لذلك قال ابو جهل حين تراءت الفئتان ان محمدا وأصحابه اكلة جزور وانما فعل سبحانه ما فعل من التلبيس على كلا الفريقين لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ عنده مَفْعُولًا حتما وفي لوح قضائه مقضيا جزما وَبالجملة إِلَى اللَّهِ لا الى

[سورة الأنفال (8) : آية 45]

غيره من الوسائل والأسباب العادية تُرْجَعُ الْأُمُورُ اى تدابير الأمور الكائنة في عالم الكون والفساد إذ منه بدأ واليه يعود عموم ما هو مثبت وموجود يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم الاعتصام بحول الله وقوته عليكم إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً من الكفار فَاثْبُتُوا وتمكنوا تجاه العدو ولا تضطربوا ولا تستدبروا وَبعد استقراركم وثباتكم اذْكُرُوا اللَّهَ ذكرا كَثِيراً واستعينوا منه وتوكلوا عليه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بالنصر والظفر والغلبة والغنيمة ان اخلصتم النية وَبالجملة أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في جميع حالاتكم سيما عند المقابلة والمقاتلة مع العدو وَلا تَنازَعُوا بينكم باختلاف الآراء والأهواء بل فوضوا أموركم كلها الى الله ورسوله وان وقع النزاع والمخالفة بينكم فَتَفْشَلُوا وتضعفوا فيفتر عزمكم وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ اى دولتكم وهيبتكم التي قد ظهرت عليكم من نور الإسلام وَبعد ما سمعتم ما سمعتم اصْبِرُوا على مشاق الجهاد ورابطوا قلوبكم الى الله ورسوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ المرابطين المتمكنين يعين عليهم وينصرهم وَلا تَكُونُوا ايها المؤمنون القاصدون نحو الجهاد كَالَّذِينَ اى كالكفار الذين خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعنى مكة للقتال بَطَراً مفاخرين مباهين مستظهرين بعددهم وعددهم وَيقصدون بذلك الخروج رِئاءَ النَّاسِ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وَهم بمجرد هذا القصد الفاسد والنية الكاسدة يَصُدُّونَ ويصرفون عباد الله عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الموضوع على العدل القويم المسمى بالصراط المستقيم وَاللَّهُ المطلع بجميع أحوالهم بِما يَعْمَلُونَ ويأملون من المخايل الفاسدة مُحِيطٌ بعلمه الحضوري يجازيهم عليها بمقتضى علمه وخبرته وَمن جملة ما يعين عليكم ويمد لنصركم تغرير الشيطان واغراؤه على أعداءكم امدادا لهم ونصرا فيصير وبالا عليهم وخزيا لا عونا ونصرا اذكروا وقت إِذْ زَيَّنَ اى حسن وحبب لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ اى عداوتهم وقتالهم معكم وَقالَ الشيطان تحريضا لهم على القتال ملقيا في روعهم على سبيل الوسوسة حتى تخيلوا انهم لا يغلبون أصلا اعتمادا على كثرة عددهم وعددهم لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ فلكم اليد والغلبة والاستيلاء والصولة والاستعلاء وَإِنِّي جارٌ مجير لَكُمُ مغيث فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ اى تلاقيا وتلاحقا فرأى اللعين من صفوف الملائكة ما رأى نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ ورجع قهقرى وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ومن جواركم إِنِّي أَرى من جنود السماء ما لا تَرَوْنَ أنتم ينزلون منها لامداد هؤلاء باذن الله وبالجملة إِنِّي أَخافُ اللَّهَ من قهره وغضبه وَاللَّهُ القادر المقتدر على وجوه الانتقام شَدِيدُ الْعِقابِ اليم العذاب لا نجاة للعصاة الغواة من عذابه وعقابه اذكروا وقت إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ اى الذين لم يصف عن شوب الشبهة صدورهم ولم يصلوا الى مرتبة الاطمئنان في الايمان حين خرجتم نحو العدو مجترئين مع قلتكم وكثرة عدوكم قد غَرَّ هؤُلاءِ الحمقى دِينُهُمْ فالقوا أنفسهم الى التهلكة بأيديهم بخروج ثلاثمائة عزل بلا عدة الى زهاء ألف مستعدين فلا تبالوا ايها المطمئنون بالإيمان بهم وبقولهم ولا تفتروا ولا تضعفوا من هذياناتهم بل توكلوا على ربكم وفوضوا أموركم كلها اليه وَاعلموا ان مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ مخلصا فهو حسبه فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب في ذاته قادر على اعانة من استعان منه حَكِيمٌ متقن في فعله وامره يفعل ويأمر ما تستبعده العقول وتدهش فيه الأحلام وَلَوْ تَرى ايها الرائي وقت إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ

[سورة الأنفال (8) : آية 51]

اى يتوفيهم الملائكة ويقتلهم يوم بدر حال كونهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ من يأتى منهم من امامهم وَأَدْبارَهُمْ اى يضربون من خلفهم من يأتى من ورائهم وَيقولون لهم حين ضربهم وقتلهم تقريعا وتوبيخا ذُوقُوا ايها المعاندون المعادون مع الله ورسوله عَذابَ الْحَرِيقِ اى أنموذج عذاب النار حتى تصلوا الى جلها وبالجملة لو رأيت حالهم حينئذ ايها المعتبر الرائي لرأيت امرا فظيعا فجيعا ذلِكَ العذاب والنكال في النشأة الاولى والاخرى انما عرض عليكم ايها المسرفون بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وبشؤم ما اقترفتم لأنفسكم من الكفر والكفران ومعاداة الرسول وبغض عموم اهل الايمان وبمقدار ما كسبتم بلا ظلم عليكم وعدوان وَاعلموا أَنَّ اللَّهَ المستوي على العدل القويم لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اى لا يظلم على الذين ظلموا أنفسهم باقتراف المعاصي والآثام بل يجازيهم حسب جرائمهم سواء بسواء عدلا منه سبحانه وكيف لا يجازيهم سبحانه إذ دأب هؤلاء المصرين المعاندين وديدنتهم القبيحة كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ اى سنتهم وعملهم كعمل آل فرعون وسنتهم وَكذا كدأب القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد وثمود وهم قد كَفَرُوا اى أولئك البعداء الخارجون عن طريق الحق بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على رسله عتوا وعنادا كهؤلاء المصرين المستكبرين فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ المنتقم منهم بِذُنُوبِهِمْ التي قد كسبوها بأيديهم لنفوسهم كهؤلاء إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والجلال قَوِيٌّ على الانتقام شَدِيدُ الْعِقابِ على من خرج عن مقتضى امره بحيث لا يدفع عقابه شيء ذلِكَ اى حلول الغضب والنكال عليهم بِأَنَّ اللَّهَ المنعم المفضل لَمْ يَكُ مُغَيِّراً مبدلا ومحولا نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ تفضلا عليهم وامتنانا حَتَّى يُغَيِّرُوا ويبدلوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من مقتضيات العبودية والانقياد بالخروج عن حدود الله ونقض عهوده وارتكاب نواهيه ومحظوراته وبتكذيب آياته ورسله كما غيرها قريش خذلهم الله وَأَنَّ اللَّهَ المطلع لأحوال عباده سَمِيعٌ لما يقولون على الله وعلى رسوله حين بطرهم وغفلتهم عَلِيمٌ بما يخفون في نفوسهم من الأباطيل إذ دأب هؤلاء المسرفين المغيرين في ما هم عليه من الوفاق والمظاهرة والاخوة والقرابة كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ خلوا مِنْ قَبْلِهِمْ على ديدنتهم وسنتهم قد كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ كهؤلاء المشركين فَأَهْلَكْناهُمْ واستأصلناهم بِذُنُوبِهِمْ وبشؤم كفرهم وعدوانهم بأنواع العذاب بالطوفان والريح والخسف والكسف وغير ذلك من المصيبات اللاحقة إياهم وَلا سيما قد أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ المبالغين المسرفين في العتو والاستكبار في اليم لانهماكهم في بحر الغفلة والضلال وَبالجملة كُلٌّ من أولئك الطغاة وهؤلاء الغواة قد كانُوا ظالِمِينَ أنفسهم بالخرج عن ربقة العبودية ورق الإطاعة والانقياد لذلك جزيناهم بما جزيناهم وهل نجازي بأمثال هذه الاجزئة الا الكفور. ثم قال سبحانه تسجيلا عليهم بالكفر والضلال إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ العليم الحكيم المتقن في إظهارها الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبآياته ورسله وقد أصروا عليه بلا تمايل منهم الى الايمان لرسوخهم فيه فَهُمْ من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم لا يُؤْمِنُونَ اى لا يرجى منهم الايمان أصلا عبر سبحانه عن الكفرة بلفظ الدواب لانخلاعهم عن مقتضى الانسانية الذي هو الايمان والمعرفة مطلقا فلحقوا بالبهائم بل صاروا أسوأ حالا منها لذلك قال سبحانه ان شر الدواب وانما صاروا من شر الدواب لأنهم هم الَّذِينَ قد عاهَدْتَ مِنْهُمْ يا أكمل الرسل وأخذت أنت عنهم مواثيقهم الغليظة

[سورة الأنفال (8) : آية 57]

مرارا ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وما هي الا من شرارتهم وخباثة طينتهم وعدم فطنتهم لحكمة المعاهدة والمواثيق وَبالجملة هُمْ من تركب جهلهم لا يَتَّقُونَ ولا يحذرون من بطش الله تعالى ولا يتركون الغدر والنفاق مع اولياء الله ولا يوفون بالعهد والميثاق المؤكد فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ وتظفرن عليهم فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ ومزق جمعهم وشتت شملهم على الفور بحيث ينقطع عنهم مَنْ يأتى خَلْفَهُمْ من مظاهريهم ومعاونيهم لَعَلَّهُمْ بتشريدك وتفريقك إياهم عنوة وقهرا يَذَّكَّرُونَ يتعظون ويتنبهون من أمرك وشأنك وتأييدك فيؤمنون بك وبما جئت به وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ قد عاهدت معهم وأخذت الميثاق عنهم خِيانَةً ونقضا من امارات ظهرت منهم ولاحت عليهم فَانْبِذْ واطرح إِلَيْهِمْ أولا عهدهم عَلى سَواءٍ بلا غدر وخداع واظهر العداوة وارفع المعاهدة والهدنة على رؤس الملأ ثم اخرج عليهم بالقتال لئلا يؤدى الى الغدر والخيانة إِنَّ اللَّهَ المتصف بالعدل القويم لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ المخادعين الغادرين سيما من المؤمنين الموحدين وَلا يَحْسَبَنَّ يا أكمل الرسل الكفرة الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبك هم قد سَبَقُوا وانقرضوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ المؤمنين ولا يضطرونهم الى القتال بل يلزمكم جمع العدة والتهيئة وَأَعِدُّوا ايها المؤمنون لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ اى هيئوا لقتالهم من الآلات والأسباب ما تحتاجون إليها في حربهم سيما آلات الرمي وَمِنْ جملة العدة رِباطِ الْخَيْلِ اى شد الفرس وارتياضه ليوم الحرب كما يشده الرجال الابطال المتشوقون للقتال تُرْهِبُونَ بِهِ اى بالاعداد والشد عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وهم الذين في حواليكم يقاتلونكم ويخاصمون معكم جهرا وعلانية يعنى كفار مكة وَترهبون به ايضا آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ يعنى الذين ينافقون معكم ويظهرون إطاعتكم واخاءكم ظاهرا ويريدون مقتكم وهلاككم في بواطنهم وأنتم لا تَعْلَمُونَهُمُ اى عداوتهم لإخفائهم واظهارهم صداقتهم بل اللَّهِ المطلع لضمائرهم يَعْلَمُهُمْ ويعلم عداوتهم ونفاقهم ويجازيهم عليها وَبالجملة ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ للاعداد والتجهيز فِي سَبِيلِ اللَّهِ ونصر دينه وإعلاء كلمة توحيده يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه بأضعاف ما تصرفون له وآلافه وَبالجملة أَنْتُمْ في انفاقكم واعدادكم لا تُظْلَمُونَ ولا تنقصون من عوضه وجزائه ولا تخسرون بل تربحون وتفوزون بما ترضى به نفوسكم وبما لا تدرك عقولكم من الكرامة تفضلا وامتنانا وَبعد ما اعددتم عددكم وهيأتم اسباب الحرب إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ اى مال الأعداء للمصالحة والمعاهدة فَاجْنَحْ لَها أنت يا أكمل الرسل ومل إليها وارض بها ايها الداعي للخلق الى الخلق تليينا لهم وتلطيفا معهم بمقتضى مرتبة النبوة والتكميل وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في عموم أمورك وثق عليه سبحانه ولا تخف من مكرهم وخداعهم فان الله حسبك وظهيرك يحفظك من مكرهم وغدرهم إِنَّهُ سبحانه بذاته هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بأعمالهم ونياتهم فيها وَإِنْ يُرِيدُوا بعد ما صالحوا وعاهدوا أَنْ يَخْدَعُوكَ ويمكروا بك وباصحابك فلا تبالوا أنتم بهم وبغدرهم وخداعهم فَإِنَّ حَسْبَكَ اى كافيك وظهيرك ومتولى جميع أمورك اللَّهُ المراقب عليك في عموم حالاتك كيف لا يرقبك من مكرهم مع انه هُوَ الَّذِي قد أَيَّدَكَ وقواك وأظفرك على عموم من عاداك بِنَصْرِهِ بلا اعداد منك ورباط وَبعد تأييدك قد عززك ايضا بِالْمُؤْمِنِينَ بك بايمانهم واطاعتهم لك وبذل مالهم ومهجهم لتقويتك وإعلاء دينك

[سورة الأنفال (8) : آية 63]

وملتك وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بحيث قد ارتفعت غشاوة الحمية وغطاء التعصب عن ضمائرهم مطلقا وصاروا في محبتك ومودتك مستوية الاقدام متحابين لله في الله منخلعين عن لوازم البشرية مطلقا مع كونهم في جاهليتهم مصرين على التغالب والتهالك حسب الحمية الجاهلية والغيرة البشرية بحيث لَوْ أَنْفَقْتَ وصرفت ما فِي الْأَرْضِ من الزخارف جَمِيعاً لائتلافهم واجتماعهم ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لشدة بغضهم ونفاقهم وَلكِنَّ اللَّهَ المحول لأحوال عباده قد أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بمقتضى لطفه وجماله لينصروك ويقبلوا دينك كي يصلوا الى مرتبة اليقين والعرفان ويتحققوا في مقر التوحيد والايمان إِنَّهُ عَزِيزٌ غالب على عموم مراداته ومقدوراته حَكِيمٌ متقن في جميع أفعاله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد من عند الله بالنصر والظفر على الأعداء حَسْبُكَ اللَّهُ المتولى لأمورك وَايضا حسب مَنِ اتَّبَعَكَ بارادة الله تعالى ومشيته مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بتوحيد الله الموفين بعهوده الباذلين مهجهم في سبيله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المظفر المنصور بنصر الله حَرِّضِ ورغب الْمُؤْمِنِينَ الموحدين عَلَى الْقِتالِ في سبيل الله لترويج توحيده وقل لهم نيابة عنا ووعدا منا إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ايها المؤمنون عِشْرُونَ صابِرُونَ مستقرون ثابتون تجاه العدو يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ منهم بتأييد منا وعون من لدنا وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابرة راسخة متمكنة يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بامدادنا إياكم الى حيث يقاوم واحد منكم عشرة منهم وبالجملة تلك المغلوبية والانهزام انما عرض عليهم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ اى لا يصلون الى مرتبة اليقين العلمي بالله وكتبه ورسله حتى يترقوا منه الى مرتبة العين بل يبقون على المرتبة الحيوانية مهانين مغلوبين مخذولين هذا في بدأ الإسلام وضعف المسلمين وبعد ما ارتفع قدره وعلا رتبته وكثر اهله وانتشر في الآفاق هيبته قال سبحانه الْآنَ اى حين كثر عددكم وعددكم ايها المؤمنون وثقل عليكم ما أمرتم فيما مضى قد خَفَّفَ اللَّهُ الميسر لأموركم أثقالكم عَنْكُمْ وَعَلِمَ بعلمه الحضوري أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً تستثقلون بتحمل المأمور به وأمركم ثانيا بقوله فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ ثابتة يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ منهم وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ونصره وتأييده وَاللَّهُ المراقب لأحوال عباده مَعَ الصَّابِرِينَ المتحملين في متاعب امور الدين. ثم أشار سبحانه الى سر جواز أخذ الفدية والجزية للرسل والأنبياء ووقته وسببه فقال ما كانَ اى ما صح وما جاز لِنَبِيٍّ من الأنبياء أَنْ يَكُونَ لَهُ وفي يده أَسْرى من الكفار ان يفديهم على المال ويخلى سبيلهم حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ اى لا يجوز لهم أخذ الفدية الا ان يكثر القتل ويذل الكفار ويعز الدين ويغلب اهله الى حيث اضطر المخالفون لتخليص نفوسهم الى الفدية مع انه لا يتوقع منهم المنازعة والمخاصمة أصلا وصاروا مهانين مقهورين ومتى لم يصلوا الى هذه المرتبة لم يصح أخذ الفدية وإذا كان حكم الفدية هكذا كيف تُرِيدُونَ ايها المؤمنون بأخذها عَرَضَ الدُّنْيا ومتاعها وحطامها مداهنين في الأخذ وَاللَّهُ المصلح لأحوالكم المدبر لأموركم يُرِيدُ لكم الْآخِرَةَ وثوابها وما يترتب عليها من اللذات الروحانية وأنتم تقصدون ان تستلذوا بها من حطام الدنيا ومزخرفاتها مداهنة وَاللَّهُ المراقب لحالاتكم عَزِيزٌ غالب فيما أراد لاجلكم حَكِيمٌ يريد لكم ما يليق بحالكم وبالجملة لَوْلا كِتابٌ حكم وامر ثابت نازل مِنَ اللَّهِ المنتقم الغيور قد سَبَقَ في سابق علمه بان لا يؤاخذ المجتهد المخطئ بخطئه لَمَسَّكُمْ قد

[سورة الأنفال (8) : آية 69]

أصابكم ونزل عليكم فِيما أَخَذْتُمْ وافتديتم من أسارى بدر عَذابٌ عَظِيمٌ مقدار ما فوتم من حكمة الله وأبطلتم حكمه روى انه صلّى الله عليه وسلّم اتى يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العباس وعقيل بن ابى طالب فاستشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم فقال ابو بكر رضى الله عنه قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك وقال عمر رضى الله عنه اضرب أعناقهم فإنهم ائمة الكفر فان الله قد أغناك عن الفداء فمكني من فلان لنسيب له ومكن عليا وحمزة من اخويهما فلنضرب أعناقهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثلك يا أبا بكر مثل ابراهيم عليه السّلام حيث قال فمن تبعني فانه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلك يا عمر مثل نوح عليه السّلام حيث قال لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فخير أصحابه صلّى الله عليه وسلم فأخذوا الفداء فنزلت فدخل عمر رضى الله عنه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا هو وابو بكر يبكيان فقال يا رسول الله اخبرني فان أجد بكاء بكيت والا تباكيت فقال ابكى على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض على عذابهم ادنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة عنده فقال صلّى الله عليه وسلّم لو نزل العذاب لما بريء منه غير عمر وسعد بن معاذ ومتى اجتهدتم في أخذ الفدية من الأسرى فاخذتم الفدية وان كان اجتهادكم خطأ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ بعد إخراج الخمس وافتديتم من الأسرى إذ هو من جملة الغنيمة حَلالًا مستحلين مستبيحين طَيِّباً خاليا عن وصمة الشبهة لاجتهادكم وجهادكم في أخذها وَاتَّقُوا اللَّهَ عن المبادرة في الأمور واحتاطوا فيها إِنَّ اللَّهَ المدبر لأموركم غَفُورٌ لما صدر عنكم من المبادرة الى الفدية رَحِيمٌ قد أباح لكم ما أخذتم يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المبعوث لتكميل الخلائق قُلْ على سبيل العظة والتذكير بمقتضى شفقة النبوة والإرشاد لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ المطلع لضمائركم واستعداداتكم فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً ايمانا وإيقانا اطمينانا وعرفانا يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من حطام الدنيا الا وهي اللذات الروحانية والمكاشفات والمشاهدات الحقيقية والحقية التي لا مقدار للذات الجسمانية دونها وَيَغْفِرْ لَكُمْ عموم ما صدر عنكم من الكفر والعصيان وَاللَّهُ الهادي لعباده نحو توحيده غَفُورٌ لذنوبهم بعد ما وفقهم على الايمان والإطاعة رَحِيمٌ يرحمهم بعد ما رجعوا نحوه وأنابوا اليه روى انها نزلت في العباس رضى الله عنه كلفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ان يفدى نفسه وابني أخويه عقيل بن ابى طالب ونوفل بن الحارث فقال يا محمد تركتني اتكفف قريشا ما بقيت فقال صلّى الله عليه وسلّم فأين الذهب الذي دفعته الى أم الفضل وقت خروجك فقلت لها انى لا ادرى ما يصيبني في وجهى هذا فان حدث لي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل وقثم وقال العباس وما يدريك قال صلّى الله عليه وسلّم أخبرني ربي قال اشهد انك صادق وان لا اله الا الله وانك رسول الله والله لم يطلع عليه احد الا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل فقال العباس فابدلنى الله خيرا من ذلك الى الآن عشرون عبدا أدناهم ليضرب عشرين الفا وأعطاني زمزم وما أحب ان لي بها اى بمقابلتها جميع اموال اهل مكة وانا انتظر المغفرة من ربكم يعنى الموعود بقوله ويغفر لكم والله غفور رحيم وَإِنْ يُرِيدُوا أولئك الأسارى خِيانَتَكَ يا أكمل الرسل بعد ما عاهدت معهم وتلطفت بهم فلا تتعجب من خيانتهم ونقضهم فَقَدْ خانُوا اللَّهَ بالكفر والشرك في نقض العهد والخروج عن مقتضى المأمور مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ اى أمكنك ومكنك أولا عليهم حتى انتقمت مِنْهُمْ يوم بدر بالقتل والاسرفان

[سورة الأنفال (8) : آية 72]

عادوا ورجعوا بالخيانة سيمكنك ثانيا وثالثا فلا تبال بهم وبخيانتهم معينك وناصرك يعصمك من مكائدهم وَاللَّهُ المطلع لمخائلهم عَلِيمٌ بنياتهم حَكِيمٌ بمجازاتهم يجازيهم على مقتضى علمه. ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا بتوحيد الله تعالى ووجوب وجوده وَهاجَرُوا عن بقعة الإمكان طالبين الترقي الى المراتب العلية الوجوبية وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ منفقين لها ليتجردوا عنها ويطهروا نفوسهم عن الميل والمحبة إليها وَأَنْفُسِهِمْ ممسكين لها عن مقتضياتها ومشتهياتها باذلين بها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ليتحققوا بمرتبة الفناء فيه وليفوزوا ببقائه الأزلي الأبدي وَهم المهاجرون الَّذِينَ تحققوا بمرتبة التوحيد وتمكنوا فيها بحيث قد آوَوْا اى مكنوا ووطنوا يقينا من يرجع إليهم ويسترشد منهم من اهل الطلب والارادة وَبعد تمكينهم وتوطينهم نَصَرُوا وأعانوا عليهم بالتنبيهات اللائقة امدادا لهم بالواردات الغيبية والإلهامات القلبية والمكاشفات العينية أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله الوالهون في بيداء ألوهيته بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يتناصرون ويتعاونون الى ان يرتفع تعددهم وتضمحل كثرتهم وسقط الافتراق والاجتماع عنهم وانقطع السلوك والطلب منهم وفنى السالك والسلوك والمسلك وبقي ما بقي لا اله الا هو ولا شيء سواه وكل شيء هالك الا وجهه وَالأبرار الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسله وَلَمْ يُهاجِرُوا نحو الفناء فيه ما لَكُمْ ايها الوالهون الواصلون مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا ويتشمروا لسلوك مسلك الفناء وَبعد ما دخلوا باب الطلب إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ واستعانوا منكم فِي الدِّينِ اى في سلوك طريق التفويض والانقياد والمعرفة واليقين فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ اى لزم عليكم ان تنصروهم وتعينوا عليهم ليغلبوا على جنود القوى البهيمية والشياطين الشهوية والغضبية إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ من جنود النفوس اللوامة المعطلة لغوائل الامارة الخبيثة ووخامة عاقبتها وَاللَّهُ المطلع لجميع حالاتكم بِما تَعْمَلُونَ من النصر والإعانة بَصِيرٌ يجازيكم على مقتضى بصارته وخبرته وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله ولم يتفطنوا لسر سريان وحدته الذاتية السارية في جميع الأكوان ولم ينبهوا للفناء في ذاته ومع ذلك قد كذبوا الرسل المنبهين المبشرين المنذرين لهم إصلاحا وارشاد أولئك الأشقياء المردودون عن ساحة القرب بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يتعاونون ويتعاضدون في كفرهم وجهلهم مع إخوانهم بلا ولاية وودادة بينكم وبينهم إِلَّا تَفْعَلُوهُ يعنى ان لم تفعلوا ايها المؤمنون ما أمرتم به من موالاة الأولياء ونصرهم ومعاداة الأعداء والاعراض عنهم بل توالون أنتم مع الأعداء مثل موالاتكم مع الأولياء تَكُنْ فِتْنَةٌ وتحصل حينئذ بلية بينة ومصيبة عظيمة سار أثرها فِي اقطار الْأَرْضِ وَيحدث فيها بسببها فَسادٌ كَبِيرٌ الا وهو ضعف الايمان وقلة أوليائه وقوة الكفر وكثرة اودائه إذ أنتم حينئذ تحبون الكفرة وكفرهم وهم في أنفسهم يبغضونكم وايمانكم ولا فساد اكبر منه وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا اى سلكوا وسافروا عن بقعة الإمكان نحو فضاء الوجوب بعد ما تحققوا باليقين العلمي وَجاهَدُوا وارتاضوا بحيث تحققوا بالموت الإرادي وانخلعوا عن جلباب التعين فِي سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو الفناء فيه ليتحققوا باليقين العيني وَالَّذِينَ آوَوْا ووالوا اولياء الله اهل الارادة وَنَصَرُوا ارباب الطلب أُولئِكَ الواصلون المبرورون هُمُ الْمُؤْمِنُونَ المتحققون الثابتون المثبتون في مرتبة اليقين الحقي حَقًّا ثابتا لائقا بلا دغدغة استكمال ووسوسة انتظار متقررين في مقر التوحيد ومقعد الصدق عند مليك مقتدر

[سورة الأنفال (8) : آية 75]

وبالجملة لَهُمْ بعد وصولهم الى مقرهم مَغْفِرَةٌ وستر لأنانيتهم التي قد كانوا عليها بمقتضى تعيناتهم الباطلة العاطلة وَرِزْقٌ كَرِيمٌ من الكشف والشهود نزلا من عند العزيز العليم ثم بشر سبحانه بما بشر به من اقتفى اثركم ايها المكاشفون الواصلون وسلك سبيلكم من اصحاب الارادة والطلب فقال وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا مثل ما هاجرتم أنتم ايها الفانون الواصلون وَجاهَدُوا مَعَكُمْ في سبيل الله وترويج دينه وسنته بأنفسهم وأموالهم كما جاهدتم أنتم فَأُولئِكَ المجاهدون الباذلون مِنْكُمْ اى من جملتكم وعدادكم وأجرهم عند الله مثل اجركم وهم إخوانكم وأرحامكم في الدين وَأُولُوا الْأَرْحامِ وذووا المناسبات والقربات في سبيل الدين وطريق العرفان واليقين بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في الولاية والنصر والمصاحبة والمواخات فِي كِتابِ اللَّهِ تعالى اى في حضرة علمه ولوح قضائه إِنَّ اللَّهَ المتجلى على ذرائر الآفاق بِكُلِّ شَيْءٍ من رقائق المناسبات ودقائقها عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يعرب عن حضوره شيء خاتمة سورة الأنفال عليك ايها المتوجه نحو الفناء المهاجر عن ورطة الغفلة والغرور ان تقتفى في سلوكك هذا اثر اهل الهجرة والنصرة المرابطين قلوبهم لتوحيد الحق الباذلين مهجهم في تقوية من ظهر عليه صلّى الله عليه وسلّم وترويج دينه وسنته المتخلقين بأخلاقه المتعطشين بزلال مشربه المستظلين بظل لوائه المستمسكين بعروة ولائه ولا يحصل لك هذا الا بالركون الكامل والاعراض التام عن مقتضيات القوى البشرية ولوازم الطبيعة مطلقا كهؤلاء الكرام المنخلعين عن جميع ما يعوقهم ويشوشهم من لوازم هوياتهم حتى عن الأهل والأوطان لذلك قد انكشف لهم من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات ما انكشف بحيث اضمحلت عن عيون بصائرهم ما سوى الحق مطلقا وصاروا فانين في الله متحققين بمقام وبي يبصر وبي يسمع الحديث وعليك في عزيمتك هذه التشبث بكتاب الله الذي هو المرشد الحقيقي وبأحاديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبكلمات المشايخ العظام قدس الله أرواحهم ولا سيما لك ان تستمد في مطلبك هذا من قلوب البدلاء الوالهين الحائرين بمطالعة وجه الله الكريم إذ هم لاستغراقهم في بحر الشهود قد انخلعوا عن لوازم هوياتهم مطلقا وبالجملة ما لنا من حالاتهم الا الحسرة والعبرة ان كنا من ذوى الاعتبار والاستبصار ربنا اهدنا إليك باى طريق شئت انك بفضلك وجودك تهدى من تشاء من عبادك الى فضاء وحدتك وانك على عموم ما تشاء قدير بلطفك يا كريم [سورة البراءة] فاتحة سورة البراءة لا يخفى على من تمكن في مقر التوحيد وتوطن في مكمن الفناء والتجريد خالصا عن توهمات التخمين والتقليد مستويا على جادة اليقين والتحقيق معرضا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط ان من لم يترق عن المرتبة الحيوانية ولم تثمر شجرة هويته الثمرة الانسانية التي هي المعرفة والتوحيد فهو والحيوانات العجم سواء في الرتبة بل هو أسوأ حالا منها ومتى لم يطع حكم المربى ولم ينفذ لأمره لينقذه من جهله ويوصله الى ما خلق لأجله سيما إذا تعنت وتجبر واستكبر على من بعث لتربيته وامر لإرشاده وتكميله بل كذبه وأنكر عليه وطغى على امره سبحانه بل أشرك به غيره

الآيات

العياذ بالله فقد حل قتله واستباح دمه على الموحدين المتمكنين الذين يبذلون أرواحهم في ترويج كلمة التوحيد ونصرة الدين القويم والشرع المستقيم لذلك قد فرض الجهاد والغزاء على ارباب الولاء المستمسكين بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ليكون غزاتهم مع الله في عموم أحوالهم وشهداءهم احياء عند ربهم يرزقون من موائد افضاله ما لم تره عيونهم ولم تشتهيه نفوسهم ولهذا ما خلا نبي من الأنبياء من لدن آدم الى نبينا صلوات الله عليه وعليهم أجمعين من القتال والجهاد بينهم وبين مكذبيهم ومعانديهم كما فصل سبحانه بعض قصصهم وسيرهم في كتابه وأجمل البعض وقال مخاطبا لنبيه منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك والسرفى وجوب القتال للأنبياء والله اعلم ان بعثة الرسل والأنبياء انما هو لإصلاح احوال العباد وإرشادهم الى سبل الخير والصواب في معادهم ومعاشهم وذلك لا يتصور الا بعد ظهور الآراء الباطلة المتخالفة المتداعية الى انواع الاختلال وتزاحم الأهواء الفاسدة المستلزمة للضلال والإضلال وانتشار انواع البدع والجدال ورفع أمثال هذه المفاسد وقمع أهلها وقلع عرقها وأصلها انما هو باستئصال من تمسك بها وظهر عليها ولا يتيسر ذلك الا بالمقاتلة والمشاجرة لذلك قد جرت سنته سبحانه عليها وقد عدها من أفضل العبادات ثم لما كان المشركون المصرون على شركهم من أعدى الأعادي وأشدهم غيظا مع الله تعالى ورسوله وكان عهودهم ومواثيقهم غير معقول في علم الله قد تبرأ سبحانه منهم وامر رسوله ايضا بالتبري عنهم وعن عهودهم ومواثيقهم وان أكدوها وغلظوها [الآيات] فقال بَراءَةٌ اى هذه براءة ونقض عهد وإسقاط ذمة ورفع أمان قد كان بينكم ايها المؤمنون وبين المشركين نزلت إليكم مِنَ اللَّهِ المطلع على مخايل اهل الشرك اصالة وَمن رَسُولِهِ تبعا لتنبذوا أنتم وتطرحوا عهودكم ومواثيقكم إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وعليكم ان لا تبادروا ولا تفاجؤا الى المقاتلة بعد نبذ العهد بل امهلوهم وقولوا لهم فَسِيحُوا اى سيروا ايها المسرفون فِي الْأَرْضِ اى في ارضنا هذا آمنين بلا خوف أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قيل هي عشرون من ذي الحجة وتمام المحرم والصفر وربيع الاول وعشر من ربيع الآخر واستعدوا في تلك المدة وهيئوا اسباب القتال فيها وَاعْلَمُوا ايها المصرون على الشرك يقينا وان زعمتم أنتم غلبتكم علينا بمظاهرة إخوانكم واستعانة قبائلكم وعشائركم أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ اى لستم أنتم غالبين على الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بالمجد والبهاء وَاعلموا ايضا أَنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور من عصاة عباده مُخْزِي الْكافِرِينَ اى مهينهم ومذلهم وان امهلهم زمانا بطرين على تجبرهم وتكبرهم وَايضا هذه أَذانٌ اى اعلام وتشييع ونداء قد صدر مِنَ اللَّهِ وَمن رَسُولِهِ باذنه سبحانه إِلَى النَّاسِ المجتمعين من أقاصي البلاد يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وصف بالأكبر لان الوقوف بعرفة كان يوم الجمعة لذلك سمى به أَنَّ اللَّهَ اى بان الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اى من عهودهم ومواثيقهم مطلقا بحيث لا تؤمنوهم بعد عامكم هذا وَرَسُولِهِ ايضا مأمور من عنده سبحانه بالبراءة منهم ونقض العهد وإسقاط الذمة إليهم وبعد اليوم قد ارتفعت الهدنة وصار الأمر والحكم من الله اما السيف أم الإسلام فَإِنْ تُبْتُمْ ورجعتم عما أنتم عليه من الكفر والشرك الى الايمان والتوحيد فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في اولاكم وأخراكم وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عن الإسلام والايمان وأصررتم على الشرك والطغيان فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ اى لستم غالبين على جنوده سبحانه وَبالجملة بَشِّرِ يا أكمل الرسل الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأصروا عليه ولم يرجعوا عنه

[سورة التوبة (9) : آية 4]

سيما مع ورود الزواجر المؤيدة بالخوارق بِعَذابٍ أَلِيمٍ في النشأة الاولى بالقتل والسبي والاجلاء وفي الآخرة بالحرمان عن رتبة الإنسان ثم لما لم يصدر عن بعض المشركين شيء من امارات النقض والانباذ وعلامات المخالفة والمخادعة استثناهم الله سبحانه وامر المؤمنين بحفظ عهودهم الى انقضاء المدة المعلومة المعهودة فقال إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ بعد المعاهدة لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً مما عاهدوا عليه والتزموا حفظه بل داوموا على حفظها وَمع ذلك لَمْ يُظاهِرُوا ولم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم حفظا لعهودكم وميثاقكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ اى أنتم اولى بايفاء العهد وإتمام مدته إِلى انقضاء مُدَّتِهِمْ التي عاهدوا عليها إِنَّ اللَّهَ المستوي على العهد القويم يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين يواظبون على إيفاء العهود وحفظ المواثيق حذرا عن تجاوز حدود الله وعهوده فَإِذَا انْسَلَخَ وانقضى ومضى الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ المأمورة فيها السياحة والأمن فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ المصرين على الشرك الناقضين للعهد والميثاق حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في حل او حرم مستأمنين أم لا وَخُذُوهُمْ اى اسروهم واسترقوهم واستولوا عليهم وَان استحفظوا واستحصنوا احْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ ولاخذهم وقتلهم كُلَّ مَرْصَدٍ وممر من شعاب الجبال وشفا الوادي فَإِنْ تابُوا ورجعوا عن الشرك ومالوا الى الايمان وَبعد ايمانهم أَقامُوا الصَّلاةَ التي هي من أقوى اعمدة ايمانهم وتصديقهم وَآتَوُا الزَّكاةَ التي بها تطهر قلوبهم عن امارات النفاق فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ كسائر المسلمين ولا تتذكروا ولا تلتفتوا بما صدر عنهم من المخالفة والمقاتلة والشقاق فيما مضى إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ لما صدر عنهم من المعاصي والآثام رَحِيمٌ لهم يوصلهم الى دار السّلام بعد ما أخلصوا في الانابة والرجوع وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ المناقضين الذين قد أمرت بقتلهم واسرهم اسْتَجارَكَ وطلب منك يا أكمل الرسل جوارك ليأمن عما يؤذيه فَأَجِرْهُ اى فعليك يا أكمل الرسل على مقتضى شفقة النبوة والرسالة ان تجيره وتؤمنه في جوارك حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ الهادي لعباده منك ويفهم سرائر دينك وشعائر شرعك كأنه يطلع على حقيته إذ كل فرد من افراد الإنسان قد جبل على فطرة الإسلام ثُمَّ بعد حصول اليأس من إيمانه وتنبه أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ اى موضع امنه ومحل قراره تتميما للشفقة والمروءة ذلِكَ الأمن والمواساة والتليين المأمور بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ في غاية البعد عن الايمان وما يترتب عليه من المواخاة وانواع الخيرات والمبرات لا يَعْلَمُونَ اى لا يطمعون ولا يتوقعون صدورها من اهل الايمان سيما بالنسبة إليهم فمتى صدر منكم أمثال هذا عسى ان يتحابوا ويتقربوا إليكم ثم قال سبحانه كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ المصرين على الشرك والفساد والمبالغين في العتو والاستكبار عَهْدٌ مقبول عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إذ هم من غاية انهماكهم في كفرهم وضلالهم لا يلتفتون الى الله ولا الى رسوله لذلك لا يقبل منهم العهد والميثاق بل أمرهم اما السيف واما الإسلام إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ معهم عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فإنهم وان كانوا ايضا من المشركين المصرين الا ان حرمة المسجد الحرام يوجب إيفاء عهودهم ما داموا موفين بها فَمَا اسْتَقامُوا واستحفظوا لَكُمْ عهدكم فيه فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ بل أنتم اولى برعاية حرمة المسجد الحرام إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن سوء الأدب مع الله في عموم أحوالهم وأوقاتهم سيما عند بيته الحرام كَيْفَ يكون للمشركين معكم عهد ايها المؤمنون وَ

[سورة التوبة (9) : آية 9]

كيف تعتمدون أنتم على ميثاقهم وعهدهم وهم من غاية بغضهم وشدة شكيمتهم إِنْ يَظْهَرُوا ويظفروا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ اى لا يحافظوا ولا يراعوا في حقكم إِلًّا اى عهدا وميثاقا وَلا ذِمَّةً حقا لازما يلتزمون غايتها كالحقوق التي جرت بين المعاهدين بل حالهم انهم يُرْضُونَكُمْ ويعاهدون معكم بِأَفْواهِهِمْ مخادعة ومداهنة وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ عما صدر عن ألسنتهم من المعاهدة بل وَأَكْثَرُهُمْ في أنفسهم فاسِقُونَ خارجون متمردون عن العهد مطلقا لا يتفوهون به أصلا فكيف ان يعهدوا ومن غاية فسقهم وتمردهم ونهاية توغلهم في الغفلة والضلال اشْتَرَوْا واستبدلوا بِآياتِ اللَّهِ المنزلة على رسوله الدالة على توحيده مع وضوحها وسطوعها ثَمَناً قَلِيلًا اى بدلا حقيرا مبتذلا مردولا الا وهو اتباع الاهوية الباطلة والآراء الفاسدة التي قد ابتدعها المبتدعون بتسويلات شياطينهم فَصَدُّوا اى اعرضوا وانصرفوا بأنفسهم واتباعهم بسبب تلك الآراء عَنْ سَبِيلِهِ اى عن دين الله الموصل الى توحيده وبالجملة إِنَّهُمْ من غاية ضلالهم واضلالهم ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ هذا العمل ومن سوء عملهم ايضا وقبح صنيعهم انهم من غاية بغضهم مع المؤمنين لا يَرْقُبُونَ ولا يراعون فِي حق مُؤْمِنٍ اى احد من اهل الايمان وان بالغ في ودادهم وإخائهم ومحافظة عهودهم ودممهم إِلًّا وَلا ذِمَّةً أصلا لشدة شكيمتهم وقوة بغضهم وضغينتهم وَبالجملة أُولئِكَ الأشقياء البعداء المردودون المطرودون عن عز القبول وشرف الوصول هُمُ الْمُعْتَدُونَ المقصورون على التجاوز والعدول عن حدود الله وعن مقتضى المروءة اللازمة للمرتبة الانسانية بخبث طينتهم وردائة فطرتهم فَإِنْ تابُوا ورجعوا الى الايمان بعد ما بالغوا في العناد والاستكبار وَبعد رجوعهم أَقامُوا الصَّلاةَ المصفية لبواطنهم عن الميل الى غير الحق وَآتَوُا الزَّكاةَ المطهرة لظواهرهم عما يشغلهم عن الحق فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ أنتم وهم سواء في سلوك طريق الحق والرجوع نجوه وَما نُفَصِّلُ ونوضح الْآياتِ الدالة على توحيدنا الا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ويصلون الى مرتبة اليقين العلمي ويريدون الترقي منها الى اليقين العيني والحقي وَإِنْ نَكَثُوا ونقضوا أَيْمانَهُمْ ونبذوا عهودهم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وراء ظهورهم وَمع ذلك قد طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ بتصريح التكذيب والتقبيح في الاحكام والمعتقدات وعموم الطاعات والعبادات فَقاتِلُوا ايها الغزاة المرابطون قلوبكم مع الله ورسوله أَئِمَّةَ الْكُفْرِ اى صناديدهم ورؤساءهم لأنهم ضالون مضلون وان تفوهوا بالعهد والميثاق لا تبالوا بهم وبعهودهم إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أصلا لتخمر طينتهم على الشرك والشقاق لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ يفقهون ويتنبهون اى سفلتهم الضالون عما عليه رساؤهم المضلون بعد انقراضهم. ثم قال سبحانه تحريضا للمؤمنين على القتال على وجه المبالغة أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا ونقضوا أَيْمانَهُمْ وَبعد نقضهم الايمان والعهود قد هَمُّوا قصدوا واهتموا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ من مكة وَالحال انه هُمْ قوم قد بَدَؤُكُمْ بالمعاداة والمخاصمة أَوَّلَ مَرَّةٍ في بدء الإسلام حين تحدوا مع رسول الله بالمعارضة مرارا فأفحموا والتجائوا الى المقارعة والمشاجرة أَتَخْشَوْنَهُمْ منهم ايها المؤمنون في مقاتلتهم ان يلحقكم مكروه من جانبهم أم تداهنون معهم وتضعفون عنهم وان خشيتم أنتم عن لحوق المكروه وعروض المنكر من قبلهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ لأنه قادر على وجوه الانتقامات فعليكم ان تخشوا من الله ومخالفة امره وحكمه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله

[سورة التوبة (9) : آية 14]

وبأوامره ونواهيه وبالجملة قاتِلُوهُمْ حيث وجدتموهم فإنكم منصورون عليهم بنصر الله إياكم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ بأنواع العذاب من الأسر والقتل والاجلاء وَيُخْزِهِمْ اى يذلهم ويهنهم ما بقي منهم ومن ذرياتهم وَيَنْصُرْكُمْ دائما عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ بقهرهم وإذلالهم صُدُورَ قَوْمٍ غرباء مُؤْمِنِينَ حيث صارت قلوبهم مرضى من وعيدات أولئك الطغاة الغواة المتجبرين المتكبرين وَيُذْهِبْ بقتل أولئك الكفرة وقمعهم واستئصالهم غَيْظَ قُلُوبِهِمْ اى ما حدث وخدش في قلوب هؤلاء الغرباء المؤمنين الذين تركوا أوطانهم بحب دين الإسلام من استيلاء الكفار وخافوا من كثرة عددهم وعددهم وجاههم ومالهم وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ان يصرف ويرجع من الباطل بسبب قلعهم وقمعهم من في قلوبهم مرض من الأقاصي والأداني وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده عَلِيمٌ بمخايلهم وامراض قلوبهم حَكِيمٌ في علاجها ودفعها. ثم قال سبحانه على وجه التشنيع للمؤمنين تحريكا الحمية الايمان أَمْ حَسِبْتُمْ وظننتم ايها المؤمنون الكارهون للقتال المتقاعدون عن امتثال الأوامر الواقعة فيه أَنْ تُتْرَكُوا على ما أنتم عليه ولا تؤمروا بالقتال من بعد وَزعمتم ايضا زعما فاسدا لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ ولما يفصل ويميز سبحانه بعلمه الحضوري الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ في سبيله مخلصين مخلصين خالصا لرضاه وَمع ذلك لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا من دون رَسُولِهِ المستخلف منه النائب عنه وَلا من دون الْمُؤْمِنِينَ المرابطين قلوبهم مع الله ورسوله وَلِيجَةً اى بطانة ومرجعا من الكفار يوالونهم ويفشون إليهم سرائرهم بلى ان الله عليم بجميع ما صدر عنكم من علامات الإخلاص وامارات النفاق وَاللَّهُ المطلع بجميع أحوالكم خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ اى بعموم ما تتخيلون وتخطرون ببالكم من التكاسل والتواني والالتجاء الى الأعداء والرجوع إليهم في خلواتكم واسراركم وموالاتكم معهم في قلوبكم ثم قال سبحانه ما كانَ اى ما صح وما جاز لِلْمُشْرِكِينَ المصرين على الشرك والعناد أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ المعدة لأهل الايمان ليعبدوا فيها حتى يتحققوا بمقام المعرفة والتوحيد حال كونهم شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ والشرك قولا وفعلا وشركهم مناف لتعميرها إذ أُولئِكَ البعداء الهالكون في تيه الجحود والضلال قد حَبِطَتْ اى سقطت عن درجة الاعتبار أَعْمالُهُمْ الصالحة عند الله بحيث لا ينفعهم أصلا لمقارنتها بالشرك بل وَمآل أمرهم انهم داخلون فِي النَّارِ المعدة لأهل الشرك والضلال بل هُمْ خالِدُونَ فيها لا نجاة لهم منها أصلا سواء صدر عنهم الأعمال الصالحة أم لا بل إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ المعدة للعبادة والتوجه نحو الحق والمناجاة معه مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وتحقق بمرتبة اليقين العلمي في توحيده وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اى صدق باليوم الآخر الذي مصير الكل اليه وَأَقامَ الصَّلاةَ وادام الميل والرجوع نحو الحق بعموم الجوارح والأركان مستمرا دائما وَآتَى الزَّكاةَ تخفيفا وتطهيرا لنفسه عن العلائق العائقة عن التوجه الحقيقي الحقي وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ اى لم يكن في قلبه خشية من فوات شيء أصلا الا من عدم قبول الله اعماله ومن عدم رضاه سبحانه منه فَعَسى وقرب أُولئِكَ السعداء الأمناء الباذلون جهدهم في طريق التوحيد المشتاقون الى فضاء الفناء المتصفون بالأوصاف المذكورة المداومون عليها المحافظون إياها أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ المتحققين في مقام الرضا والتسليم ان وفقوا بالإخلاص من عنده سبحانه. اصنع بنا ما تحب أنت عنا وترضى يا دليل الحائرين أَجَعَلْتُمْ اى صيرتم وسويتم ايها المشركون المعاندون المكابرون سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ

[سورة التوبة (9) : آية 20]

مع كونهما صادرتين عنكم وأنتم على شرككم وضلالكم كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ اى كايمان من آمن بتوحيد الله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء الأعمال وَمع ذلك قد جاهَدَ بماله ونفسه فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه وكلمة توحيده كلا وحاشا لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ عملة السقاية وعمرة المساجد مع المؤمنين الموقنين بتوحيد الله المجاهدين في سبيل الله لنصرة دينه وَاللَّهُ الهادي لعباده الى توحيده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى أوامره ونواهيه المنزلة على رسله وأنبيائه الَّذِينَ آمَنُوا اى تحققوا بمرتبة اليقين العلمي بتوحيد الله وَهاجَرُوا عن بقعة الإمكان طالبين مرتبة أعلى منها وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وفي طريق توحيده مع جنود النفوس الامارة واهل الشقاق والخلاف ساعين فيه بِأَمْوالِهِمْ اى ببذل ما نسب إليهم من امتعة الدنيا العائقة عن الوصول الى فضاء الوحدة وَأَنْفُسِهِمْ بمنعها عن مشتهياتها ومقتضياتها طالبين افناء انانياتهم وهوياتهم الباطلة في هوية الحق أَعْظَمُ دَرَجَةً وأعلى منزلة ومرتبة عِنْدَ اللَّهِ ما داموا سالكين سائرين وَبعد وصولهم وانقطاع سلوكهم أُولئِكَ السعداء الواصلون هُمُ الْفائِزُونَ المتحققون الواصلون بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لذلك يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ إياهم اى باستعداداتهم الكامنة في عالم الأسماء والصفات بِرَحْمَةٍ وروح وراحة غير منقطعة نازلة ناشئة مِنْهُ سبحانه وَرِضْوانٍ فائض لهم من جانبه سبحانه قد كلت الألسن عن تفسيره وانحسرت العقول عن التعبير عنه وَجَنَّاتٍ متنزهات متجددات حسب تجددات التجليات الحبية لَهُمْ فِيها اى في تلك الجنات المتجددات نَعِيمٌ اى امداد عظيم من قبل الحق وفيض مُقِيمٌ دائم غير منقطع خالِدِينَ فِيها أَبَداً مؤبدا لا تأبيد أمد ولا زمان بل لا يعرف كنهه الا هو وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المتجلى على قلوب خلص عباده عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ موهوب لهم حسب استعداداتهم وقابلياتهم بعد ما انكشفوا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم الاجتناب عن اهل الغفلة والغرور حتى لا يسرى ضلالهم إليكم سيما اقرباءكم النسبية لا تَتَّخِذُوا ايها المهاجرون آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا واختاروا الْكُفْرَ والشرك عَلَى الْإِيمانِ والتوحيد وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ سيما بعد ورود النهى فَأُولئِكَ المتخذون المضلون الضالون هُمُ الظَّالِمُونَ المتجاوزون عن مقتضى حكم الله وامره ونهيه قُلْ يا أكمل الرسل للمؤمنين الذين يقصدون موالاة أنسابهم إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ اى أقاربكم وذووا أرحامكم وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها اى اكتسبتموها بأيديكم وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها بمضى وقت ربحها ونمائها وَمَساكِنُ طيبة تَرْضَوْنَها اى ترضى بها نفوسكم وتطيب بها قلوبكم أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ المحبوب في قلوب أوليائه وَرَسُولِهِ الذي هو حبيبه وخليله وهو النائب المستخلف عنه سبحانه وَكذا من جِهادٍ هو عبارة عن الاجتهاد فِي سَبِيلِهِ سبحانه للفوز بشرف الوصول والشهود والنيل الى غاية المأمول والمقصود فَتَرَبَّصُوا اى فعليكم ان تتربصوا وتنتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ المنتقم الغيور من المتخذين لغيره اولياء بِأَمْرِهِ الموجب لعذابه وَاللَّهُ الهادي لعباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى ولائه وولايته اذكروا يا ايها المؤمنون لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ الحفيظ الرقيب عليكم فِي مَواطِنَ ومواقع كَثِيرَةٍ حين لا ينفعكم أحسابكم وانسابكم شيأ لا سيما في حربكم مع هوازن وثقيف وَلا سيما يَوْمَ حُنَيْنٍ هو واد بين مكة

[سورة التوبة (9) : آية 26]

والطائف إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ من ان تكونوا مغلوبين إذ أنتم اثنا عشر الفا وعدوكم اربعة آلاف فَلَمْ تُغْنِ حينئذ كثرتكم عَنْكُمْ شَيْئاً من غلبة العدو مع قلتهم وَقد صرتم أنتم حينئذ من شدة رعبكم وخوفكم الى حيث قد ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ اى مع وسعتها فلم تجدوا فيها مقرا تتمكنون عليها من غاية رهبتكم ثُمَّ ادى أمركم وخوفكم الى ان وَلَّيْتُمْ ورجعتم أنتم مُدْبِرِينَ صائرين ظهركم على العدو منهزمين منهم ثُمَّ بعد انهزامكم وإدباركم قد أَنْزَلَ اللَّهُ المتولى لأموركم سَكِينَتَهُ اى رحمته الموجبة للقرار والوقار والطمأنينة عَلى قلب رَسُولِهِ وَعَلَى قلوب الْمُؤْمِنِينَ الذين تمكنوا معه واستقروا حوله اتكالا على الله واتفاقا مع رسوله وَبتثبيت الرسول وتمكينه وتقرير من تبعه قد أَنْزَلَ سبحانه نصرة لنبيه من الملائكة جُنُوداً مجندة لَمْ تَرَوْها باعينكم وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بنزولها عذابا شديدا من القتل والأسر والإذلال في النشأة الاولى وفي الاخرى بأضعافها وَذلِكَ اى ما لحقهم من انواع الإذلال جَزاءُ الْكافِرِينَ المحاربين مع الله ورسوله روى ان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج بعد فتح مكة نحو حنين لقتال هوازن وثقيف مع عشرة آلاف من المهاجرين وألفين من الطلقاء وكان العدو اربعة آلاف فاعجب المسلمين كثرتهم فلما التقوا قالوا لن نغلب اليوم لان العدو في غاية القلة فكره الله منهم قولهم هذا وإعجابهم فاقتتلوا قتالا عظيما فغلب العدو عليهم فولوا منهزمين فبقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع شرذمة قليلة فأراد ان يقتحم على العدو بنفسه فأخذ عمه العباس بعنانه فنزل صلّى الله عليه وسلّم وقبض قبضة من التراب ورمى نحو العدو وذلك عند نزول الملائكة فقال حينئذ انا النبي لا كذب ... انا ابن عبد المطلب الآن قد حمى الوطيس اى التنور فأمر العباس ان يصيح على الناس المنهزمين فصاح يا عباد الله يا اصحاب الشجرة يا اصحاب سورة البقرة فكروا عنقا واحدا فاستقبلوا قائلين لبيك لبيك فصفوا خلف الملائكة وازدحموا وهجموا على العدو والريح من خلفهم ومن امام عدوهم فانهزم العدو بنصر الله وتأييده ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ويوفق عَلى مَنْ يَشاءُ إيمانه من أولئك المنهزمين فأتوا رسول الله وآمنوا فاعطى صلّى الله عليه وسلّم من سبى منهم بلا فدية وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ يغفر لمن تاب وآمن رَحِيمٌ يقبل توبته ويرحم عليه ان أخلص ثم قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان تذبوا وتدفعوا اهل الشرك عن الحرم إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ المنغمسون في خباثة الشرك والضلال نَجَسٌ يجب ان يطهر بيت الله منهم فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا اى سنة حجة الوداع وَإِنْ خِفْتُمْ ايها المؤمنون بسبب إخراجهم ومنعهم عن الحرم عَيْلَةً فقرا وقلة زاد ومكسب فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وسعة رزقه إِنْ شاءَ ترفهكم واتساعكم إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده عَلِيمٌ بمصالحهم حَكِيمٌ في إتيانها عند الحاجة ومقدارها وبالجملة قاتِلُوا ايها الغزاة الحماة لدين الله المشركين الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وتوحيده وَلا يصدقون بِالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء الأعمال وان تفوهوا بالإيمان مداهنة ونفاقا لا تبالوا بايمانهم هذا وَهم ليسوا مراعين على مقتضى الايمان إذ لا يُحَرِّمُونَ من المحرمات ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ باذنه سبحانه وَبالجملة أولئك البعداء المنهمكون في بحر الغفلة والغرور لا يَدِينُونَ ولا ينقادون دِينَ الْحَقِّ المنزل على الحق ليصلوا الى مقر التوحيد وان كانوا؟؟؟

[سورة التوبة (9) : آية 30]

انهم مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى يدعون إتيانه إياهم وهم ليسوا على مقتضى الكتاب وان ادعوا وبالجملة لا تبالوا بهم وبادعائهم بل قاتلوهم الى ان تذلوهم وتصاغروهم حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ اى 2 التي يجزى او يعفى بها دينهم إياهم حماية له عَنْ يَدٍ اى حال كون اعطائهم صادرا منهم عن يد قاهرة غالبة عليهم وَهُمْ في حين العطاء والإعطاء صاغِرُونَ ذليلون مهانون بحيث يؤخذ من لحاهم ويضرب في لهازمهم وبالجملة خذوا الجزية منهم على وجه تضطروهم وتلجؤهم الى الايمان وَكيف لا يقتل هؤلاء الكفرة المشركون إذ قالَتِ الْيَهُودُ منهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ المنزه عن مطلق الزواج والازدواج والأبوة والبنوة إذ هي من لوازم البشر وَقالَتِ النَّصارى ايضا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ذلِكَ المقول المهمل قَوْلُهُمْ دائما جاريا بِأَفْواهِهِمْ وان فرض مخالفة اعتقادهم قولهم هذا فلا اقل انهم يُضاهِؤُنَ ويشابهون بقولهم هذا قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا وأشركوا مِنْ قَبْلُ بأمثال هذه المهملات حيث قالوا الملائكة بنات الله لذلك قاتَلَهُمُ اللَّهُ واهلكهم بأمثال هذه المقالات المهملة أَنَّى يُؤْفَكُونَ اى كيف يصرفون أولئك الحمقى الناكبون عن الحق الصريح الى الباطل الزائغ الرائل وبالجملة اتَّخَذُوا من فرط جهلهم وحيث طينتهم أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مستقلين في الوجود متأصلين فيه مِنْ دُونِ اللَّهِ المنزه عن الشريك مطلقا المستقل في الوجود المتفرد فيه بلا وجود لغيره أصلا الى حيث يعبدونهم كعبادة الله وَخصوصا الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَالحال انهم ما أُمِرُوا في كتبهم التي قد ادعوا العمل بمقتضاها إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً أحدا صمدا فردا وترا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا إذ لا إِلهَ ولا موجود إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ له من مصنوعاته واظلاله وبالجملة يُرِيدُونَ بأمثال هذه المفتريات الباطلة أَنْ يُطْفِؤُا اى يخمدوا ويستروا نُورَ اللَّهِ المتجلى في الآفاق المتشعشع في الكائنات بِأَفْواهِهِمْ اى بشركهم الناشئ من أفواههم بلا سند من عقل او نقل او كشف صريح وشهود ظاهر وَيَأْبَى اى يمنع اللَّهِ المنزه عن التعدد مطلقا ان يكون له شريك في الوجود إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ اى سوى ان يتجلى بجميع أوصافه وأسمائه على من استخلفه من خلقه فيتراءى منه جميع آثار أسمائه وعكوس أوصافه وأخلاقه الا وهو المظهر الكامل الجامع المحمدي الذي قد اتحد دون مرتبته صلّى الله عليه وسلّم قوس الوجوب والإمكان ودائرتا الغيب والشهادة لذلك قال صلى الله عليه وسلّم انا بعثت لأتمم مكارم الأخلاق قال ايضا انا سيد ولد آدم وقال ايضا آدم ومن دونه تحت لوائى وقال ايضا من أطاعني فقد أطاع الله ومن رآني فقد رأى الحق ونزل في شانه اليوم أكملت لكم دينكم الى غير ذلك مما دل على وحدة مرتبته واحاطتها على جميع المراتب لذلك ختم به صلّى الله عليه وسلّم امر الرسالة والتشريع وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ الساترون ظهور الحق المريدون اطفاء نور الوجود في المشكاة المحمدية وكيف يريدون اطفاء نوره اللائح اللامع من المظهر الجامع المحمدي مع انه سبحانه هُوَ القادر المقتدر والقيوم المطلق الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ الهادي بِالْهُدى العام الشامل لكافة البرايا وَدِينِ الْحَقِّ الا وهو الإسلام المنزل على خير الأنام لِيُظْهِرَهُ اى الرسول ودينه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ اى على كل الأديان وينسخ جميعها به لابتناء دينه على التوحيد الصرف الخالي عن شوب الثنوية وشين الكثرة مطلقا وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ظهوره بالهداية العامة ونسخ دينه جميع الأديان لخبث باطنهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبرسوله

[سورة التوبة (9) : آية 35]

تحققوا وتيقنوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ الموسوسين لضعفاء العوام الملبسين لهم طريق الحق بالتغريرات المبتدعة من تلقاء أنفسهم كالشيخوخة التي قد ظهرت في زماننا هذا وانما غرضهم ومعظم مأمولهم لَيَأْكُلُونَ ويأخذون أَمْوالَ النَّاسِ المنحطين عن زمرة اهل الحق والتحقيق بِالْباطِلِ اى بترويج الباطل الزائغ الذي قد ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بلا مستند لهم وَيَصُدُّونَ اى يصرفون ويضلون باباطيلهم وتلبيساتهم ضعفاء الأنام عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو الإسلام تلبيسا عليهم وتغريرا لهم ليأخذوا الرشى منهم ويكنزوها وَلم يعلموا ان الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ اى يجعلونهما مخزونين محفوظين من أية ملة كانوا وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ طلبا لمرضاته فَبَشِّرْهُمْ يا أكمل الرسل بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم مفزع اذكر لهم يَوْمَ يُحْمى اى حين توقد وتحرق عَلَيْها اى على تلك الذهب والفضة المخزونة المحفوظة نار مع انها هي موضوعة فِي نارِ جَهَنَّمَ أمدا وهذا مبالغة لشدة احمائه وبعد ما قد حميت الى ان صارت جذوة نار وأية نار فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ ليوسموا بها ويعلموا على رؤس الاشهاد جزاء ما افتخروا بها في النشأة الاولى وَجُنُوبُهُمْ ايضا ليتألموا بها أشد تألم بدل ما قد تلذذوا بها أشد تلذذ وَتكوى بها ايضا ظُهُورُهُمْ بدل ما قد كانوا يستظهرون بها ويتعاونون بسببها ويقال لهم حين الكي والتعذيب هذا ما كَنَزْتُمْ واختزنتم لِأَنْفُسِكُمْ لتنتفعوا بها وتسروا بجمعها وادخارها وهذا نفعها فَذُوقُوا اليوم وبال ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ بدل ما قد كنتم تتلذذون بها. ثم قال سبحانه تعليما للمؤمنين وتنبيها على ما قد ثبت عنده سبحانه من الأيام والشهور لتتميم مصالحهم ومعاملاتهم إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ على ما ثبت عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ اى في حضرة علمه ولوح قضائه يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى حين اظهر سبحانه عالم الكون والفساد المقدر بمكيال الأيام والليالى المنقسمتين الى الشهور والأعوام والأسبوع والساعات إذ في أزل الذات لا صباح ولا مساء ولا صيف ولا شتاء ولا فصول الفصول ولا شهرة الشهور ولا عدة السنين ولا الأيام ولا الساعات فسبحان من تنزه عن مطلق التبدل والتحول وتقدس عن الظهور والبطون مِنْها اى من تلك الشهور المثبتة في كتاب الله أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ هي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم سميت بها لان الله تعالى سبحانه قد حرم فيها لعباده بعض ما قد أباح لهم في الشهور الاخر كرامة لها واحتراما ولهذا جعل رأس السنة وأول العام منها فعليكم ايها المكلفون ان تواظبوا فيها على الطاعات وتداوموا على الخيرات والمبرات وتجتنبوا عن الآثام والجهالات وأكثروا فيها الأعمال الصالحات وتوجهوا نحو الحق في جميع الحالات سيما في تلك الشهور المعدة للتوجه نحوه سبحانه ذلِكَ اى تحريم الشهور الاربعة الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم الموروث لكم من ملة أبيكم ابراهيم وإسماعيل عليهما السّلام فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بالخروج عن مقتضى تحريمها وهتك حرمتها حتى لا تستحقوا عذاب الله ونكاله وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ فيها ان قاتلوكم ولا تبادروا ولا تسابقوا الى قتالهم فيها وفي غيرها بل ان بادروا على قتالكم قاتلوهم واقتلوهم كَافَّةً اى جميعا كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً بلا ترحم وتوقيت وَاعْلَمُوا ايها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ المستوي على العدل القويم مَعَ الْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن هتك حرمة الله قد حرمها الله لحكمة ومصلحة لم يطلعكم عليها إِنَّمَا النَّسِيءُ اى تأخير حرمة الشهر المحرم الى شهر آخر بدله من غير المحرمات زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ إذ خصوصية هذه الأشهر معتبرة في الحرمة

[سورة التوبة (9) : آية 38]

واستبدالها ازدياد في الكفر لان هتك الحرمة كفر وتبديلها كفر آخر يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا اى بسبب تبديلهم ضلالا زائدا على ضلالهم الأصلي إذ يُحِلُّونَهُ اى النسيء الذي يؤخرونه عاماً وسنة وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً آخر وسنة اخرى بلا رعاية خصوصيته في التحريم وليس غرضهم من هذا التحليل والتحريم الا لِيُواطِؤُا ويوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وهي الاربعة من غير التفات الى خصوصية فَيُحِلُّوا بفعلهم وتبديلهم هذا ما حَرَّمَ اللَّهُ بخصوصه وما ذلك الا ان زُيِّنَ اى حسن وحبب لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ اى تحليلهم وتبديلهم القبيح وَاللَّهُ الهادي لعباده الى صوب جنابه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ الخارجين عن مقتضى مأموراته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ماذا عرض ولحق لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لنصرة دينه وإعلاء كلمة توحيده اثَّاقَلْتُمْ تثاقلتم وتعاللتم وتباطئتم أنتم وقد صرتم من غاية ثقلكم وتكاسلكم كأنكم تلزقون وتلصقون إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ ايها الحمقى المستبطئون المتثاقلون بِالْحَياةِ الدُّنْيا الدنية الحقيرة ومزخرفاتها الفانية بدلا مِنَ الْآخِرَةِ ولذاتها الباقية فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا والاستمتاع بها والتلذذ بمستلذاتها ومشتهياتها فِي الْآخِرَةِ اى في جنب لذاتها ودرجاتها وحالاتها الدائمة الباقية ازلا وابدا إِلَّا قَلِيلٌ مستحقر مسترذل بل فان مطلق لا وجود لها أصلا عند من كحل الله عين بصيرته واذهب عمى قلبه إِلَّا تَنْفِرُوا وما تشتغلوا الى تهيئة اسباب النفر واعداد راده وعتاده بعد ما أمرتم به يُعَذِّبْكُمْ الله المنتقم منكم عَذاباً أَلِيماً باستيلاء عدوكم عليكم واستئصالكم بافظع الوجوه وأفزعها وَبعد إهلاككم يَسْتَبْدِلْ منكم قَوْماً غَيْرَكُمْ مطيعين لأمره منقادين لحكمه لينفروا في سبيله كأهل اليمن والفرس وَاعلموا انكم بتكاسلكم وتقاعدكم عن القتال المأمور به لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً إذ هو سبحانه منزه في ذاته عن تقويتكم واضراركم وكفركم وايمانكم وَاللَّهُ المنتقم على من خرج عن مقتضى امره عَلى كُلِّ شَيْءٍ من صور الانتقام والانعام قَدِيرٌ لا يخرج عن حيطة قدرته شيء إِلَّا تَنْصُرُوهُ أنتم اى ان لم تنصروا نبيه المؤيد من عنده فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ الرقيب عليه اذكروا نصر الله إياه وقت إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا اى اهل مكة من مكة حال كونه ثانِيَ اثْنَيْنِ اى ليس معه الأرجل واحد وهو أبو بكر رضى الله عنه فذهبا نحو الجبل فدخلا الغار واقتفى العدو اثرهما فوصلوا الغار إِذْ هُما حينئذ فِي الْغارِ فتحزن صاحبه من ادراك العدو اذكروا إِذْ يَقُولُ صلى الله عليه وسلّم في تلك الحالة لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ عن ادراكهم ولحوقهم ولا تيأس عن نصر الله وحفظه إِنَّ اللَّهَ الرقيب علينا حاضر مَعَنا غير مغيب عنا يكفينا ويكف عنا مؤنة ضررهم واضرارهم فَأَنْزَلَ اللَّهُ سبحانه بقوله صلّى الله عليه وسلّم سَكِينَتَهُ اى اطمئنانه وقراره عَلَيْهِ اى على صاحبه وَبالجملة أَيَّدَهُ سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بِجُنُودٍ اى ملائكة حافظين حارسين له صلّى الله عليه وسلّم بحيث لَمْ تَرَوْها بعيونكم ايها النظار مثل أولئك الجنود وَبالجملة قد جَعَلَ سبحانه بنصره وتأييده إياه صلّى الله عليه وسلّم كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا اى ما يدعون ويخاصمون معه صلّى الله عليه وسلّم لأجله وترويجه من الأصنام والأوثان السُّفْلى الدنيا النزلى لا يؤبه ولا يبالى بها أصلا وَكَلِمَةُ اللَّهِ اى كلمة توحيده التي قد ظهر بها حبيبه صلّى الله عليه وسلّم هِيَ الْعُلْيا إذ الحق يعلو ولا يعلى عليه وَاللَّهُ القادر المقتدر على عموم ما يشاء عَزِيزٌ غالب في نصر أوليائه

[سورة التوبة (9) : آية 41]

وقهر أعدائه حَكِيمٌ في عموم أفعاله وتدابيره انْفِرُوا ايها الغزاة المجاهدون في سبيل الله خِفافاً نشطين فرحين مشتاقين منبسطين لمرتبة الشهادة وَثِقالًا قاصدين لاخذ الغنيمة ونيل الأحمال والأثقال من عدوكم او المعنى مشاة وركبانا وَبالجملة جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ لتهيئة الأسباب واعداد السفر وَأَنْفُسِكُمْ بتحمل المشاق والمتاعب فِي سَبِيلِ اللَّهِ لتفوزوا من عنده سبحانه بالمثوبة العظمى والمرتبة العليا التي لا درجة أعلى منها ذلِكُمْ اى ما أمرتم به من عند ربكم خَيْرٌ لَكُمْ في اولاكم واخراكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير وتميزونه من الشر ثم قال سبحانه في حق المتخلفين عن القتال المأمور به المستأدنين عن رسول الله المعتذرين له بالأعذار الكاذبة تعريضا وتوبيخا لهم وتقريعا لَوْ كانَ ما تدعوهم اليه وتهديهم نحوه يا أكمل الرسل عَرَضاً متاعا دنيويا مما يشتهيه نفوسهم قَرِيباً سهلة الحصول وَمع ذلك كان السعى في حصوله سَفَراً قاصِداً متوسطا مساويا نفعه لمشقة تحصيله لَاتَّبَعُوكَ البتة طائعين طامعين لما يتأملونه من جلب النفع ولا يتبعونك لغرض ديني ونفع اخروى وان كان نفعه بأضعافه وآلافه وَلكِنْ قد بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ المسافة واشتدت الشُّقَّةُ والمشقة فيه مع جزمهم بعدم الفائدة فيه بزعمهم الفاسد واعتقادهم الكاسد وَمع ذلك سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ معتذرين متمنين بلا مواطأة قلوبهم بألسنتهم بعد ما رجعت من غزوة تبوك والله لَوِ اسْتَطَعْنا بالخروج استطاعة مالية او بدنية لَخَرَجْنا مَعَكُمْ البتة مع انهم قادرون مستطيعون تينك الاستطاعتين معا وهم من خباثة بواطنهم يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بهذا الحلف الكاذب ويعرضونها على عذاب الله ظلما وعدوانا وَاللَّهُ المطلع لمخايل عموم المنافقين يَعْلَمُ بعلمه الحضوري إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم وعذرهم هذا عَفَا اللَّهُ عَنْكَ فيما قد جئت به يا أكمل الرسل من ترك الاولى لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حين استأذنوك بالقعود اى لهؤلاء المنافقين المتخلفين المعتذرين بالأعذار الكاذبة حَتَّى يَتَبَيَّنَ ويظهر لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في الاعتذار والاعتلال وَتَعْلَمَ وتميز الْكاذِبِينَ فيه من الصادقين على مقتضى نفاقهم الكامنة في نفوسهم وبالجملة لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اى ليس من عادة المؤمنين الاستيذان منك الى الخروج نحو القتال مطلقا بل هم منتظرون دائما مهيئون أسبابهم مترصدون الى أَنْ يُجاهِدُوا في سبيل الله بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وينتهزوا الفرصة بالمسابقة حين أمروا فكيف ان يستأذنوا بالقعود وعدم الخروج، والمعذورون منهم متألمون متحسرون يبكون في زوايا الخمول والحرمان محزونين ملهوفين متأسفين لذلك وعدلهم سبحانه من فضله درجة عظيمة وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن مخالفة امر الله وامر رسوله بلا عذر شرعي بل إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ بالقعود والتخلف المنافقون الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وبتوحيده وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لجزاء الأعمال وَمع ذلك قد ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ لعدم اطمئنانها ورسوخها بالإيمان والتوحيد فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ المركوز في جبلتهم يَتَرَدَّدُونَ يتحيرون ويتذبذبون لا إلى هؤلاء ولا الى هؤلاء وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ وقصدوا الوفاق والانفاق مع المؤمنين كما أظهروا لَأَعَدُّوا وهيئوا لَهُ عُدَّةً اهبة وأسبابا بوجه حسن طلق بشاش بسام وَلكِنْ لخبث بواطنهم وانهماكهم في الغفلة والضلال قد كَرِهَ اللَّهُ المطلع على قساوة قلوبهم انْبِعاثَهُمْ اهتزازهم وتحركهم نحو القتال فَثَبَّطَهُمْ لذلك وحبسهم بل اقعدهم في مكانهم بإلقاء الرعب والكسل

[سورة التوبة (9) : آية 47]

في قلوبهم وَكأنه قد قِيلَ لأسماعهم من قبل الحق تضليلا لهم وتغريرا حسب اسمه المضل المذل اقْعُدُوا ايها المنهمكون في الغفلة مَعَ الْقاعِدِينَ من النساء والصبيان والمرضى والزمنى وانما ثبطهم سبحانه وكره نهوضهم وانبعاثهم إذ قد علم سبحانه منهم انهم لَوْ خَرَجُوا معكم وكانوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا فسادا وإفسادا بالغيبة والتميمة وإيقاع الفتنة بينكم وَلَأَوْضَعُوا اسرعوا وادخلوا ركائبهم خِلالَكُمْ ليخللوا بينكم ويفرقوا جمعكم حتى يشتغلوا بالنميمة وإذا ازدحم العدو هزموكم بتفريق جمعكم وتشتيت شملكم وبالجملة هم انما يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ويوقعونكم فيها باى وجه أمكن وَالحال انه فِيكُمْ ومن جمعكم وبين أظهركم قوم سَمَّاعُونَ لَهُمْ اى ضعفة يسمعون قولهم ويقبلون نصحهم ويرغبون إليهم ويطيعون أمرهم وَاللَّهُ المطلع لأحوال عباده عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى أوامره سرا وعلانية والله لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ يعنى ليس هذا أول ابتغائهم وإيقاعهم بل هم قد أوقعوا الفتنة مِنْ قَبْلُ وأرجفوا بهلاكك وشتتوا شمل أصحابك وَقَلَّبُوا لَكَ ولأصحابك الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ اى النصر والتأييد الموعود لك يا أكمل الرسل المقرر دونه سبحانه من نصر دينك وإظهاره على عموم الأديان ونسخه إياها وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ ونفذ حكمه وقضيت حكمته وعلت كلمته وَهُمْ من خبث بواطنهم كارِهُونَ ظهور دينك وارتفاع شأنك وسمو برهانك وَمِنْهُمْ من المستأذنين المتخلفين مَنْ يَقُولُ لك حين استأذن منك يا أكمل الرسل بالقعود ائْذَنْ لِي بالقعود إذ ليس لي قوة الخروج وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة والمعصية بالخروج انى أخاف على نفسي من انواع الفتن والمعاصي لو خرجت قل لهم يا أكمل الرسل توبيخا وتقريعا أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا يعنى تنبهوا ايها المؤمنون المتنبهون انهم قد وقعوا في فتنة التخلف واظهار النفاق والشقاق باستيذانهم هذا وقولهم هكذا واستحقوا سوء العذاب وأشد النكال وَبالجملة إِنَّ جَهَنَّمَ البعد والخذلان لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ في الدنيا والآخرة ومن شدة شكيمتهم وغيظ قلوبهم معك يا أكمل الرسل إِنْ تُصِبْكَ في بعض أسفارك وغزواتك حَسَنَةٌ ظفر وغنيمة تَسُؤْهُمْ وتزيد غيظهم ونفاقهم وَإِنْ تُصِبْكَ أحيانا مُصِيبَةٌ كسر وهزيمة يَقُولُوا تصحيحا وتحسينا لرأيهم الفاسد قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا وقد أصبنا فيه مِنْ قَبْلُ اى حين تعوقنا وتخلفنا عن هؤلاء المستجسنين أمرهم وشأنهم وَيَتَوَلَّوْا عن مجمعهم الذي يشامتون فيه بحال المؤمنين تبحبحا وَهُمْ في رجوعهم وانصرافهم عند تفرقهم فَرِحُونَ مسرورون قُلْ يا أكمل الرسل للمشامتين المنافقين بمقتضى كشفك وشهودك بربك لَنْ يُصِيبَنا من الحوادث والمصيبات الكائنة في علم الله ولوح قضائه إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ المقدر للآجال والأرزاق وجميع الأحوال والأفعال وعموم الحوادث والملمات الجارية في عالمي الغيب والشهادة لَنا وخصصنا به في حضرة علمه ولوح قضائه إذ هُوَ بذاته وبمقتضيات أسمائه الكاملة وأوصافه الشاملة مَوْلانا ومتولى عموم أمورنا يصنع بنا بمقتضى ما قد ثبت في حضرة علمه بلا تبديل ولا تغيير وَبالجملة مالنا الا الرضا بعموم ما جرى علينا من القضاء لذلك عَلَى اللَّهِ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية إذ مرجع الكل اليه كما ان مبدأه منه أولا وبالذات فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بتوحيد الذات وسريان سر الوحدة الذاتية الإلهية المتجلية على صفحات الكائنات وصحائف المكونات قُلْ لهم ايضا هَلْ تَرَبَّصُونَ

[سورة التوبة (9) : آية 53]

وما تترقبون وتنتظرون أنتم بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ اى الا احدى العاقبتين الحميدتين اللتين كل منهما محض خير لنا ومنحة عظيمة وعطية كريمة كثيرة بالنسبة إلينا من ربنا وهما النصرة على الأعداء والشهادة في سبيل الله بيد أعدائه إذ قد وعدنا الله ايضا من فضله بأحدهما وَنَحْنُ ايضا نَتَرَبَّصُ بِكُمْ بمقتضى وحى الله والهامه أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ المنتقم الغيور بِعَذابٍ نازل مِنْ عِنْدِهِ سبحانه بلا صنع منا ودخل من قبلنا من كسف او خسف او زلزلة او طاعون او غيرها أَوْ بِأَيْدِينا اى بعذاب صادر منا واقع عليكم من القتل والأسر والاجلاء والإذلال وبالجملة فَتَرَبَّصُوا وانتظروا لما وعد لنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ منتظرون لما اوعدتم به حتى ننظر نحن وأنتم كيف يجرى حكم الله وامره بنا وبكم قُلْ يا أكمل الرسل للمنافقين المتخلفين الذين يريدون اعانتك بالمال بدل الخروج الى الجهاد لن ينفعكم اليوم انفاقكم عند الله سواء أَنْفِقُوا طَوْعاً طائعين فيه أَوْ كَرْهاً كارهين له لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إذ الانفاق انما يقبل عنده سبحانه من المؤمنين الموقنين المصلحين المخلصين إِنَّكُمْ بسبب كفركم ونفاقكم مع الله ورسوله قد كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الحدود الإلهية مطلقا لا يقبل منكم الصدقات مطلقا لعدم مقارنتها بالإيمان والتوحيد وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ اى ليس عدم قبول نفقاتهم وصدقاتهم عند الله إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ المتوحد بذاته وأشركوا له ما هو من مصنوعاته وَبِرَسُولِهِ بتكذيبه وعدم أطاعته وانقياده وَعلامة كفرهم ونفاقهم انهم لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ الفارقة بين الكفر والايمان إِلَّا يأتونها مداهنة وَهُمْ في إتيانها كُسالى مبطؤن مؤخرون عن أوقاتها بلا انبعاث قلبي وداعية شوقية وَايضا لا يُنْفِقُونَ عموم ما ينفقون إِلَّا وَهُمْ في إنفاقه كارِهُونَ كراهة قلبية إذ لا يعتقدون ترتب الثواب عليه لعدم ايمانهم بيوم الجزاء ودار الثواب والعقاب وبعد ما قد تحقق كفرهم ونفاقهم فَلا تُعْجِبْكَ يا أكمل الرسل أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ اى كثرتها وتفاخرهم بها إذ هي من الأسباب الجالبة لانواع العذاب والنكال عليهم وبالجملة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ المنتقم الغيور لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بجمعها وحفظها ونمائها وارتكاب الشدائد والمحن في تحصيلها وَمن كثرة محبتهم لها وحرصهم عليها تَزْهَقَ وتزول أَنْفُسُهُمْ وقت حلول الأجل عليهم وَهُمْ كافِرُونَ محجوبون عن توحيد الله والايمان به مائلون محرومون عنهما وَمن جملة نفاقهم انهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ بالحلف الكاذب إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ اى من جملتكم وزمرتكم نفرح بفرحكم ونسر بسروركم ونتغمم بحزنكم ومصيبتكم وَالحال انه ما هُمْ مِنْكُمْ لشركهم وكفرهم المركوز في جبلتهم وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يخافون ان تفعلوا أنتم بهم فعلكم مع المشركين فاضطروا الى المداهنة والنفاق فأظهروا الإسلام حفظا لدمائهم وأموالهم وهم مضطرون على اظهار الايمان ومن غاية تذللهم واضطرارهم لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً منيعا من الحصون والقلاع أَوْ مَغاراتٍ في شعاب الجبال أَوْ مُدَّخَلًا جحرا يمكنهم الانجحار والاستتار فيه لَوَلَّوْا وانصرفوا البتة إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ويسرعون في الانصراف والانجحار اليه كالفرس الجموح وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ يعيبك ويغمزك فِي الصَّدَقاتِ اى في قسمة الغنائم ويتردد حولك حين القسمة طامعا فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها سهما او شيأ يعتد به رَضُوا منك واثنوا عليك شكرا لاعطائك وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها لعدم استحقاقهم وبسبب تخلفهم ونفاقهم إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ

[سورة التوبة (9) : آية 59]

ويفاجئون بالغيظ والسخط إظهارا لما في قلوبهم من الأكنة وَلَوْ أَنَّهُمْ كانوا مؤمنين كما ادعوا قد رَضُوا في تقاسيم الغنائم وغيرها على ما آتاهُمُ اللَّهُ واعطاهم من فضله إذ هو الحكيم في قسمة أرزاق عباده على تفاوت درجاتهم وَرَسُولُهُ المستخلف له الملهم من عنده وَقالُوا من كمال إخلاصهم وتفويضهم كسائر المؤمنين حَسْبُنَا اللَّهُ المدبر الكافي لأمورنا يكفينا علمه بنا سَيُؤْتِينَا اللَّهُ المتكفل لأرزاقنا مِنْ فَضْلِهِ وسعة لطفه وجوده ما يكفينا وَسيعطينا رَسُولُهُ النائب عنه باذنه من الغنائم والصدقات ما يشبعنا ويغنينا إِنَّا بعد ما قد آمنا بالله وتحققنا بتوحيده بإرشاد رسوله إِلَى اللَّهِ الباقي بالبقاء الأزلي السرمدي لا الى غيره من الاظلال والعكوس والأموال والمزخرفات الفانية راغِبُونَ ليرزقنا من موائد رزقه المعنوي وفوائد توحيده الذاتي اى هم لو رضوا كما رضى المؤمنون الموقنون واعترفوا كما اعترفوا لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وتقريرا في قلوبهم ثم بين سبحانه مصارف الصدقات فقال إِنَّمَا الصَّدَقاتُ والزكوات تصرف لِلْفُقَراءِ وهم الذين لا مال لهم ولا مكسب من الحرف وغيرها كأنه يكسر فقار ظهرهم الفاقة والافتقار وَالْمَساكِينِ وهم الذين لهم مكسب وصنعة لكن لا تفي لعيالهم كأن احتياجهم قد أسكنهم في زاوية المسكنة والهوان وَالْعامِلِينَ عَلَيْها اى الساعين لتحصيلها وجمعها وإيصالها الى مصارفها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم الذين قرب عهد إسلامهم يجب على المسلمين موانستهم ومواساتهم ليتقرروا على الايمان ويترسخوا في جادة الإسلام وَتصرف منها ايضا على من فِي الرِّقابِ اى فك رقبة من الرق وتحريرها وهو من أهم مهمات الإسلام وَالْغارِمِينَ الذين استغرق أموالهم في ديونهم ولم تف لأدائها تصرف إليهم منها ليؤدوها وَايضا تصرف منها سهم فِي سَبِيلِ اللَّهِ لتجهيز جيوش اهل الجهاد وتهيئة أسبابهم وعددهم إذ هي من أهم مهمات الدين وَابْنِ السَّبِيلِ وهو الذي انقطع وبعد عن الأهل والمال لمصلحة شرعية وبالجملة انما جرى هذه القسمة لهؤلاء المستحقين فَرِيضَةً صادرة مِنَ اللَّهِ مقدرة من عنده ليحافظ المؤمنون عليها وَاللَّهُ المدبر لأمور عباده عَلِيمٌ بمصارف الصدقات حَكِيمٌ في صرفها إياهم تقوية لهم وامدادا وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ويسيئون الأدب معه صلّى الله عليه وسلّم وَيَقُولُونَ في حقة افتراء واستهانة هُوَ أُذُنٌ اى سمع كله ليس له درية ودراية وتعمق في المعارف والحقائق بل يسمع منا ويجرى على ما سمع بلا تفتيش وتدبر قُلْ لهم يا أكمل الرسل مبلغا منا ناقلا عنا هو اذن لا اذن شر وفتنة بل أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ان صدر عنكم ما يتعلق بأمور دينكم موافقا لما امر الله به هو ايضا يقبله منكم لأنه صلّى الله عليه وسلّم يُؤْمِنُ بِاللَّهِ اى يقر ويصدق بوحدانيته وَيُؤْمِنُ ايضا لِلْمُؤْمِنِينَ المخلصين فيما أتوا به من الأعمال والأقوال الصادرة عن محض الإخلاص والطواعية وَكيف لا يكون الرسول اذن خير إذ هو كله رَحْمَةٌ اى شفقة وعطف لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وأخلصوا في ايمانهم وَبالجملة الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ باى وجه كان لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في النشأة الاخرى جزاء لما أتوا به من إيذاء رسوله في النشأة الاولى ومن جملة نفاق المنافقين وشقاقهم انهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ اى لتسليتكم وتلبيسكم ايها المؤمنون على ما صدر عنهم من التخلف والتقول على سبيل العذر لِيُرْضُوكُمْ اى لترضوا أنتم عنهم وتقبلوا عذرهم وَاللَّهُ المطلع لضمائرهم وَرَسُولُهُ الملهم من لدنه سبحانه بمخايلهم وأباطيلهم أَحَقُّ وأليق أَنْ يُرْضُوهُ اى رسوله أحق بالإرضاء والمراضاة

[سورة التوبة (9) : آية 63]

وجد الضمير لان إرضاء الرسول مستلزم لإرضاء الله بل هو عين ارضائه ورضاه سبحانه عند من رفع سبل التعدد عن عينيه وغشاوة الكثرة عن بصره مطلقا إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ بالله وبحقية رسوله أَلَمْ يَعْلَمُوا ولم يفهموا أولئك المتخلفون المؤذون لله ولرسوله أَنَّهُ اى الشان مَنْ يُحادِدِ ويشاقق اللَّهَ وَرَسُولَهُ ويتعد حدود الله ويخالف امر رسوله فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ جزاء لما اقترف من المعاداة فيكون خالِداً فِيها لا ينجو منها أصلا ذلِكَ اى الخلود في جهنم الحرمان الْخِزْيُ الْعَظِيمُ والهلاك الدائم الأليم ابدا دائما ومن شدة نفاقهم وشقاقهم يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ المصرون على الكفر الكامن في قلوبهم المظهرون للايمان استهزاء ومداهنة أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ اى على المؤمنين سُورَةٌ طائفة من الكلام تُنَبِّئُهُمْ وتخبرهم بِما فِي قُلُوبِهِمْ من الكفر والنفاق فحينئذ فعلوا بهم ما فعلوا بالمشركين المجاهرين قُلِ لهم تهديدا وتقريعا اسْتَهْزِؤُا بالمؤمنين وامضوا على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق إِنَّ اللَّهَ المنتقم منكم مُخْرِجٌ ومظهر ما كنتم تَحْذَرُونَ منه وهو إنزال السورة لإفشاء حالكم انتقاما لكم وَكيف لا ينتقم الله عنهم لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ اى لئن سألتهم واخذتهم حين استهزؤا بك وباصحابك وقت مرورهم عليك في غزوة تبوك قائلين انظروا الى هذا الرجل يريد ان يفتح قصور الشأم وحصونه هيهات هيهات فألهمت به أنت يا أكمل الرسل فدعوتهم وقلت لهم لم قلتم كذا وكذا فقالوا لا والله ما كنا في شأنك وشأن أصحابك في شيء بل إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ بالأراجيف مزاحا ليهون السفر علينا قُلْ لهم بمقتضى علمك إياهم بوحي الله والهامه توبيخا وتقريعا أَبِاللَّهِ المنزه ذاته عن ان يستهزئ به وَآياتِهِ البريئة عن النقص مطلقا وَرَسُولِهِ المطهر عن شوب الكذب كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ايها الحمقى فتربصوا وانتظروا حتى يستهزئ الله بكم فانا منتظرون وبالجملة لا تَعْتَذِرُوا ايها المنافقون المخالفون لدين الله المعاندون لرسوله بالأعذار الفاسدة ولا تحلفوا بالحلف الكاذب انكم قَدْ كَفَرْتُمْ وأظهرتم الكفر بإيذاء الرسول وطعن دينه وقدح كتابه مدة اعماركم سيما بَعْدَ إِيمانِكُمْ اى بعد ما أظهرتم الايمان فارتفع الآن الامان عنا وعنكم بفعلكم هذا فلحقتم بالمشركين المجاهرين فنفعل بكم نحن بعد اليوم ما نفعل بهم إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ بعد ما تابوا عما صدر عنهم ورجعوا الى الله نادمين خاضعين عن ظهر القلب نُعَذِّبْ بالقتل والأسر والاجلاء والإذلال طائِفَةٍ اخرى منكم بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ مصرين على ما هم عليه من الكفر والنفاق وإيذاء الرسول والتخلف عن امره بلا توبة وندامة فعليكم ايها المؤمنون ان تعذبوهم حتما ذكرا وأنثى إذ الْمُنافِقُونَ المصرون على النفاق اصالة وَالْمُنافِقاتُ المصرات عليه تبعا بَعْضُهُمْ ناش مِنْ بَعْضٍ يتظاهرون ويتعاونون في نفاقهم حيث يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ على عكس المؤمنين وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن عموم الخيرات والمبرات كلها وما ذلك الا انهم قد نَسُوا اللَّهَ المظهر الموجد لهم بالإعراض عن حكمه وإيذاء رسوله المبين لأحكامه فَنَسِيَهُمْ الله ايضا ولم ينظر إليهم بنظر الرحمة إِنَّ الْمُنافِقِينَ المصرين على النفاق المتمردين عن الوفاق هُمُ الْفاسِقُونَ المقصورون على الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية لذلك وَعَدَ اللَّهُ المنتقم المقتدر على انواع الانتقام الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ المجاهرين بلا تفاوت نارَ جَهَنَّمَ منزلا لا نجاة لهم منها أصلا بل صاروا خالِدِينَ فِيها ابدا هِيَ

[سورة التوبة (9) : آية 69]

حَسْبُهُمْ اى النار محسبهم وقرينهم وَمع ذلك قد لَعَنَهُمُ اللَّهُ اى طردهم وابعدهم عن سعة رحمته وَلَهُمْ بسبب طرد الله إياهم ولعنه عليهم عَذابٌ عظيم فوق عذاب جهنم مُقِيمٌ دائم غير منقطع يتأملون طرد الله إياهم ويتعذبون بها ولا عذاب أعظم من حرمان الوصول الى جنة الحضور نعوذ بك منك لا ملجأ لنا غيرك يا ذا القوة المتين وبالجملة مثلكم ايها المتمردون المنهمكون في الكفر والضلال المصرون على النفاق والعناد المعادون مع الله ورسوله كَالَّذِينَ اى كمثل الكفرة الذين مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ بطرين مفتخرين بما عندهم من حطام الدنيا ومزخرفاتها بل هم قد كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وقدرة وَأَكْثَرَ منكم أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ اى مع نصيبهم وحظهم مما قدر لهم من لذات الدنيا وشهواتها واستكبروا على من أرسل إليهم لتكميلهم وإرشادهم فَاسْتَمْتَعْتُمْ أنتم ايضا بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ اى أخذتم وشرعتم أنتم في الأباطيل وتكذيب الرسول والمعاداة معه وقصد إيذائه وقتله وقتل من آمن له كَالَّذِي خاضُوا اى كالمسرفين الذين خاضوا وشرعوا في حق أنبيائهم ورسلهم بما لا يليق بشأنهم انظروا الى وخامة عاقبتهم كيف استوصلوا فانتظروا أنتم لمثله بل باشد منها وبالجملة أُولئِكَ البعداء المردودون عن منهج الرشد والسداد قد حَبِطَتْ اى هلكت واضمحلت وبطلت أَعْمالُهُمْ التي قد عملوها لتفيدهم وتنفعهم فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فلم تنفعهم أصلا لا في الاولى ولا في الاخرى لعدم مقارنتها بالإيمان وتصديق الرسل وَأُولئِكَ الضالون عن طريق الحق هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي المقضيون بالحرمان والخذلان السرمدي وبالجملة مثلكم ايها المنافقون كمثلهم بل أنتم أسوأ حالا منهم إذ نبيكم الذي أنتم قد كذبتم به أعلى رتبة من عموم الأنبياء أَيصر المنافقون على النفاق والشقاق ولَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ خبر إهلاك القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ كيف اهلكهم الله تعالى بظلمهم وذنوبهم مثل قَوْمِ نُوحٍ عليه السّلام كيف استوصلوا بالطوفان وَعادٍ بالريح وَثَمُودَ بالرجفة وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ عليه السّلام بالبعوض وَأَصْحابِ مَدْيَنَ اى قوم شعيب عليه السّلام قد اهلكوا بالنار النازلة عليهم من جانب السماء يوم الظلة وَالْمُؤْتَفِكاتِ قرى قوم لوط قد هلكوا بالزلزلة وامطار الأحجار عليهم بحيث يجعل عاليها سافلها كل من أولئك الهالكين قد أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحة الدالة على صدقهم في دعويهم فكذبوهم عنادا ومكابرة فلحقهم ما لحقهم بشؤم تكذيبهم فَما كانَ اللَّهُ المصلح لأحوال عباده لِيَظْلِمَهُمْ اى لم يكن من سنته سبحانه الانحراف عن القسط الى حيث يؤدى الى الظلم المتباعد عن ساحة ذاته سبحانه بمراحل إذ هو سبحانه مستو دائما على العدل القويم والصراط المستقيم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالخروج عن مقتضى العدل الإلهي الموضوع فيهم من قبل الحق بنيابة رسله ثم لما ذكر سبحانه احوال المنافقين ومظاهرتهم ومعاونتهم عقب أحوالهم بأحوال المؤمنين جريا على سنته المستمرة فقال وَالْمُؤْمِنُونَ الموقنون بتوحيد الله المصدقون لرسله وَالْمُؤْمِناتُ الملحقات بهم المتفرعات عليهم بَعْضُهُمْ في الأمور الدينية أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالمظاهرة والموالاة وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ بمقتضى ما وصل إليهم من رسلهم وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ المفروضة المصفية لبواطنهم عن الميل والانحراف الى غير الحق وَايضا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ المطهرة لظواهرهم عن الاشتغال بما سواه سبحانه وَبالجملة

[سورة التوبة (9) : آية 72]

يُطِيعُونَ اللَّهَ في جميع حالاتهم اطاعة تفويض وتسليم وَينقادون رَسُولَهُ في عموم ما جاء به ودعا اليه أُولئِكَ السعداء المفوضون أمورهم الى الله المنقادون لرسوله سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ الرقيب عليهم من فضله ولطفه إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده عَزِيزٌ غالب مقتدر على عموم ما أراد بهم حَكِيمٌ متقن في جزائهم حسب أعمالهم واستعدادهم لذلك وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والمكاشفات المتجددات حسب تجددات التجليات الإلهية خالِدِينَ فِيها ابدا لا يتحولون منها أصلا وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ اى مقرا ومستقرا معدا لهم في مقام التوحيد خاليا عن وصمة الكثرة طاهرا عن لوث السوى والأغيار مطلقا وَبالجملة رِضْوانٌ وقبول مِنَ اللَّهِ المستوي على العدل القويم بحيث لا يسخط لهم أصلا لتحققهم بمقام التخلق بأخلاقه سبحانه بحيث لا يبقى لهم شائبة انحراف عن صراطه المستقيم الذي هو صراط الله الأقوم الأعدل أَكْبَرُ وأكرم وارفع وأعلى من جميع ما ذكر من قبل من الدرجات العلية والمقامات السنية ذلِكَ الرضا من الله والقبول من جانبه هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واللطف الجسيم لأرباب الولاء الواصلين الى مرتبة الفناء فيه سبحانه والبقاء ببقائه لذلك وعدوا من عنده بما لا يمكن التعبير عن كنهه الا لمن كوشف به وشوهد يا أَيُّهَا النَّبِيُّ الهادي لعباد الله الى تلك المرتبة باذن الله جاهِدِ الْكُفَّارَ المتمردين عن الإطاعة والانقياد بإرشادك وتكميلك وَالْمُنافِقِينَ الذين يحيلون ويخدعون معك في اظهار الايمان وهم في سرهم ونجويهم على شركهم وكفرهم الأصلي متقررون ثابتون وَبعد ما أصروا على نفاقهم وشقاقهم اغْلُظْ عَلَيْهِمْ حسب إصرارهم واعراضهم وَلا تبال بهم إذ مَأْواهُمْ ومنقلبهم جَهَنَّمُ البعد والخذلان في الدنيا والآخرة وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصير أولئك المحرومين المطرودين عن ساحة عز القبول ومن جملة نفاقهم وكفرهم انهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ كذبا ومينا انهم ما قالُوا ما قالوا من الطعن في كتاب الله وتكذيب رسوله وَالحال انهم لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ اى كلمة الطعن والتكذيب المستلزم للكفر فحلفوا على عدم القول كذبا وَهم في أنفسهم قد كَفَرُوا بالحق واعرضوا عنه سيما بَعْدَ إِسْلامِهِمْ اى انقيادهم وتسليمهم اى اختاروا الكفر بعد ما أظهروا الإسلام مرتدين وَمع ذلك ما اقتصروا على اظهار الكفر فقط بل هَمُّوا وقصدوا بِما لَمْ يَنالُوا ولم يصلوا بما أملوا من قتل الرسول والاقتحام عليه بغتة في الليل بلا علم من أصحابه او هموا بإخراجه وبإخراج من معه من أصحابه من المدينة وَبالجملة ما نَقَمُوا وما قصدوا إهلاك رسول الله او إخراجه إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ اى اهل المدينة بسبب رسول الله وأصحابه إذ فتح سبحانه أبواب الرزق والمكاسب عليهم مذ دخلوا المدينة وَرَسُولُهُ ايضا بإعطائه الغنائم إياهم كل ذلك مِنْ فَضْلِهِ سبحانه وهم في مقام الشكر واظهار المنة ينكرون له ويكفرون نعمه وبعد ما وقع ما وقع فَإِنْ يَتُوبُوا عما صدر عنهم توبة صادرة عن محض الندم والإخلاص يَكُ خَيْراً لَهُمْ عند الله يغفر لهم ويعف عن زلاتهم وَإِنْ يَتَوَلَّوْا ويعرضوا عن التوبة ويصروا على ما هم عليه من الكفر والنفاق يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ المنتقم منهم عَذاباً أَلِيماً مؤلما فجيعا فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي والاجلاء والإذلال وانواع العقوبات وَفي الْآخِرَةِ بأضعاف ما في الدنيا وآلافها لانحطاطهم عن الرتبة الانسانية وقبول التكليفات الإلهية المقتضية لإظهار الحكمة والكرامة المودعة

[سورة التوبة (9) : آية 75]

في هياكلهم وَان استظهروا واستنصروا من أوليائهم ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ بعد انتشار دين الإسلام في أقطارها مِنْ وَلِيٍّ يعينهم ويتولى أمرهم وَلا نَصِيرٍ ينصرهم من بأس الله وعذابه وَمِنْهُمْ اى من المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ مالا وأعطانا رزقا كثيرا لَنَصَّدَّقَنَّ منها للفقراء المستحقين وَلَنَكُونَنَّ بالبذل والانفاق وأداء الشكر مِنَ الصَّالِحِينَ الشاكرين المنفقين طلبا لمرضاة الله فَلَمَّا آتاهُمْ الله مِنْ فَضْلِهِ ما طلبوا منه بَخِلُوا بِهِ ومنعوا حق الله منه وَتَوَلَّوْا عن امتثال امر الله وانصرفوا عن اطاعة رسوله وَبالجملة هُمْ قوم مُعْرِضُونَ عادتهم الاعراض عن اطاعة الله ورسوله بخبث طينتهم فَأَعْقَبَهُمْ الله بسبب فعلهم هذا نِفاقاً راسخا متمكنا فِي قُلُوبِهِمْ مستمرا إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ اى الله سبحانه في يوم الجزاء فيجازيهم حسب نفاقهم وشقاقهم أسوأ الجزاء ذلك بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ من الصدق والصلاح والشكر والفلاح ونقضوا عهده وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ اى بكذبهم حين العهد والميثاق بلا موافقة من قبلهم أَلَمْ يَعْلَمُوا حين هموا الى القول الكذب مع الله أَنَّ اللَّهَ المطلع لضمائرهم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري سِرَّهُمْ اى اخلافهم الوعد عند حصول مطلوبهم وَنَجْواهُمْ اى مناجاتهم معه لا عن اخلاص ناش من محض المعرفة والايمان بالله والإقرار بربوبيته لرسوخ الكفر والشرك في جبلتهم وَلم يعلموا ايضا أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في الأرض ولا في السماء فمن آمن بتوحيده واحاطة علمه وقدرته كيف يخرج عن مقتضى امره وأطاعته ومن المنافقين المصرين على النفاق والشقاق مع المؤمنين هم الَّذِينَ يَلْمِزُونَ ويستهزؤن الْمُطَّوِّعِينَ المتطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي إعطاء الصَّدَقاتِ وَخصوصا المؤمنين الَّذِينَ لا يَجِدُونَ من الصدقة إِلَّا جُهْدَهُمْ اى يبذلون مقدار طاقتهم طلبا لمرضاة الله فَيَسْخَرُونَ أولئك اللامزون المستهزءون مِنْهُمْ اى من الذين بذلوا جهدهم في امر الصدقة قد سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ في الآخرة مجازاة عن سخريتهم هذه وَلَهُمْ فيها عَذابٌ أَلِيمٌ بدل ما تلذذوا بسخريتهم. وذلك انه صلّى الله عليه وسلّم حث المؤمنين يوما على الصدقة فجاء عبد الرّحمن بن عوف باربعة آلاف دينار وقال لي ثمانية آلاف فاقرضت ربي اربعة وأمسكت لعيالي اربعة فقال صلّى الله عليه وسلّم بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت. واتى عاصم بن عدى بمائة اوسق من تمر وجاء عقيل الأنصاري بصاع تمر فقال بت ليلتي اجرّ بالجرير على صاعين وتركت صاعا لعيالي وأتيت بها فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ان ينثر على الصدقات تبركا فلمزهم المنافقون فقالوا ما اعطى عبد الرّحمن وعاصم الارياء وسمعة ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع عقيل ولكنه أحب ان يعد نفسه من المتصدقين فنزلت اسْتَغْفِرْ لَهُمْ يا أكمل الرسل لهؤلاء اللامزين المستهزئين المستسخرين من المؤمنين بانقاذهم من العذاب او تخفيفه أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سواء عند الله في انتقامهم وعذابهم بل إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لا مرة ولا مرتين بل سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ البتة لعظم جرمهم وفسقهم ذلِكَ اى عدم غفرانهم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وأشركوا معه غيره في الألوهية مع انه منزه عن الشريك مطلقا وَرَسُولِهِ اى كذبوا برسوله وبعموم ما جاء به من عند ربه واستهزؤا بالمؤمنين المصدقين له المتصدقين في سبيل الله وَاللَّهُ الهادي لعباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى أوامر الله ونواهيه المسيئين الأدب مع الله ورسوله ومع المؤمنين. ثم قال سبحانه

[سورة التوبة (9) : آية 82]

فَرِحَ المنافقون الْمُخَلَّفُونَ عن رسول الله المتخلفون لأمره المتمكنون بِمَقْعَدِهِمْ ومكان قعودهم خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ حين خرج الى غزوة تبوك وَما ذلك اى قعودهم واستقرارهم بعد رسول الله في مكانهم الا انهم قد كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لخبث بواطنهم وقساوة قلوبهم وَقالُوا ايضا للمؤمنين تغريرا وتكسيلا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ اى لا تجاهدوا ولا تقاتلوا في الصيف حتى لا تضعفوا أنتم ومواشيكم قُلْ لهم يا أكمل الرسل نارُ جَهَنَّمَ البعد والخذلان التي قد استوجبتم بها بتخلفكم وقعودكم عن الجهاد أَشَدُّ حَرًّا وابلغ احراقا وايلاما لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ ويفهمون ما هي وكيف هي لم يختاروها على حر الدنيا وبالجملة فَلْيَضْحَكُوا أولئك المتخلفون الهالكون في العذاب المؤبد والوبال المخلد قَلِيلًا في الدنيا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً فيها لما لحقهم بعد خروجهم منها من انواع العذاب والنكال جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ فيها من الجرائم العظام والمعاصي والآثام فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ وردك عن غزوتك هذه اى غزوة تبوك إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ اى من المتخلفين المستأذنين وهم الذين قعدوا في المدينة بلا عذر وبعد ما قصدت غزوة اخرى فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ تلافيا لما مضى فَقُلْ لهم لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ الى الجهاد أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا أصلا إِنَّكُمْ قوم قد رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ والتخلف أَوَّلَ مَرَّةٍ بلا عذر بل عن خديعة وغدر فَاقْعُدُوا أنتم دائما مَعَ الْخالِفِينَ المعذورين من النساء والصبيان والزمنى والمرضى وَمتى ظهر لك حال أولئك الغواة الطغاة الهالكين في النقض والنفاق لا تُصَلِّ ولا تدع عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً اى بعد ورود النهى أصلا وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ لتستغفر له إِنَّهُمْ من خبث بواطنهم قوم قد كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ في حال حياتهم وَماتُوا على الكفر ايضا وَهُمْ فاسِقُونَ مجبولون على الفسق في اصل فطرتهم وَبعد ما تحقق عندك يا أكمل الرسل كفرهم وظهر فسقهم وخروجهم عن مقتضى الحدود الإلهية لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ التي هي وبال عليهم إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ المضل المذل لعصاة عباده أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا بأنواع الحوادث والمصيبات وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ اى يخرج أرواحهم عن اجسادهم وصار ميلهم ومحبتهم منوطة بها وَبالجملة هُمْ كافِرُونَ بالله غير معترفين بألوهيته وربوبيته وَمن شدة نفاقهم وبغضهم مع الله ورسوله إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن ناطقة أَنْ آمِنُوا ايها المكلفون بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ في سبيله اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ والسعة مِنْهُمْ اى صناديدهم وعظماؤهم خوفا من أموالهم وأنفسهم وَقالُوا ذَرْنا ودعنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ المعذورين الغير القادرين وبالجملة قد رَضُوا أولئك الغواة مع قوتهم وسعتهم بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ اى الضعفاء الفاقدين للقوة والسعة وَما ذلك الا ان طُبِعَ وختم عَلى قُلُوبِهِمْ بالكفر والضلال فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ قبح ما جاءوا به من المخالفة والقعود مع أولئك المعذورين ولذلك لم يأتوا بالمأمور ولم يمتثلوا به لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وامتثلوا لأمر الله وانقادوا لحكمه سمعا وطاعة قد جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سبيله ابتغاء لمرضاته وتثبيتا في دينه وَأُولئِكَ المؤمنون المجاهدون لَهُمُ الْخَيْراتُ والمثوبات العظمى والدرجات العليا عند الله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون عنده سبحانه بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وبالجملة قد أَعَدَّ اللَّهُ

[سورة التوبة (9) : آية 90]

المجازى لخلص عباده لَهُمْ اى لهؤلاء المجاهدين المرابطين قلوبهم مع الله ورسوله الباذلين مهجهم في سبيله جَنَّاتٍ متنزهات علمية وغيبية وحقية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الكشوف والشهود والواردات الغيبية والإلهامات القدسية لا دفعة ولا دفعات بل خالِدِينَ فِيها ابدا مستمرا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واللطف العميم لهؤلاء المخلصين المختصين بالعناية الازلية والسعادة السرمدية وَمتى جاءت ونزلت سورة ناطقة بالقتال والجهاد جاءَ الْمُعَذِّرُونَ بالأعذار الكاذبة ومن في قلوبهم مرض مِنَ الْأَعْرابِ الذين لا اطمئنان لهم في الايمان لِيُؤْذَنَ لَهُمْ بالقعود وعدم الخروج الى الجهاد وَقَعَدَ المصرون الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ من غير مبالاة بأمر الله واطاعة رسوله لا تبال بهم وبمخالفتهم وكذبهم إذ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ بعد افتضاحهم وظهور نفاقهم عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا والآخرة بحيث لا نجاة لهم من العذاب أصلا ثم قال سبحانه لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ الفاقدين استطاعة الحرب ولو كانوا أصحاء كالنسوان والصبيان والشيوخ وَلا عَلَى الْمَرْضى الفاقدين الاستطاعة بعروض العوارض كالعمى والعرج والزمانة وغيرها وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ للزاد والسلاح والمركب وغيرها حَرَجٌ اى اثم ومعصية في قعودهم وتخلفهم إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ اى أخلصوا في الايمان والإطاعة بالله ورسوله بلا مرض مكنون في قلوبهم ودعوا دائما للمجاهدين والغزاة خيرا وأحسنوا مع اهل بيتهم وأطفالهم وفعلوا معهم خيرا ان استطاعوا وبالجملة ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ القاعدين المعذورين المخلصين مع الله ورسوله والمؤمنين مِنْ سَبِيلٍ في المعاتبة والحرج الدنيوي فضلا عن العقاب والعتاب الأخروي بل هم من جملة المجاهدين وزمرتهم فيها وَاللَّهُ المطلع لضمائرهم غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ لهم يجازيهم على قعودهم هذا خيرا لكونهم معذورين فيه وَلا حرج ولا عقاب ايضا عَلَى المؤمنين المخلصين الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ حين هممت أنت يا أكمل الرسل وعزمت الى الخروج لِتَحْمِلَهُمْ على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وغيرهم حتى يبلغوا مكان العدو قُلْتَ لهم لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وانصرفوا من عندك آيسين وَأَعْيُنُهُمْ حين توليهم وانصرافهم تَفِيضُ وتسيل مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً وأسفا أَلَّا يَجِدُوا اى لئلا يجدوا ما يُنْفِقُونَ حتى يبلغوا المعركة ويحضروا الوغاء فهؤلاء ايضا لا عتاب لهم ولا عقاب بل يرجى لهم الأجر الجزيل من الله لإخلاصهم واسفهم بل إِنَّمَا السَّبِيلُ بالمعاتبة والمعاقبة وانواع العذاب عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ بالقعود معتذرين وَالحال انه هُمْ أَغْنِياءُ مستطيعون قادرون بالجسد والمال الا انهم قد رَضُوا من خبث بواطنهم ومرض قلوبهم بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ المعذورين الغير المستطيعين وَما ذلك الا ان طَبَعَ اللَّهُ المذل المضل لأهل الغفلة والعناد عَلى قُلُوبِهِمْ بالجهل والضلال فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ جهلهم وضلالهم حتى يتسببوا لازاحتهما وازالتهما ومع ذلك يَعْتَذِرُونَ أولئك المستأذنون المستطيعون إِلَيْكُمْ ايها المؤمنون إِذا رَجَعْتُمْ من غزوتكم هذه إِلَيْهِمْ بان يكونوا معكم في عموم غزواتكم ويأتون بالأعذار الكاذبة الغير المطابقة للواقع تسلية لكم وتغريرا وتتميما لنفاقهم قُلْ يا أكمل الرسل تعليما للمؤمنين في مقابلة اعذارهم لا تَعْتَذِرُوا منا مراء ومداهنة انا لَنْ نُؤْمِنَ ولن نصدق لَكُمْ سيما قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ المطلع لضمائركم وبما يجرى في صدوركم بالوحي على رسوله مِنْ أَخْبارِكُمْ التي

[سورة التوبة (9) : آية 95]

تكتمونها أنتم في نفوسكم من الشر والفساد بالنسبة إلينا والى نبينا وَكيف تعتذرون أنتم عن جرائمكم وتلبسونها مع انه سَيَرَى اللَّهُ الناقد البصير عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ فتفتضحون حينئذ على رؤس الاشهاد ثُمَّ تُرَدُّونَ في النشأة الاخرى إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وتحاسبون عنده عليه فَيُنَبِّئُكُمْ ويظهر عليكم مفصلا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في النشأة الاولى فيجازيكم على مقتضى علمه وخبرته ومن جملة نفاقهم وتلبيسهم انهم سَيَحْلِفُونَ ويقسمون بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ ورجعتم مشتكين معاتبين إِلَيْهِمْ عن قعودهم وتخلفهم انما غرضهم من الحلف الكاذب تغريركم وتلبيسكم لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ وعن عتابهم ولا تسألوا عن مخالفتهم وقعودهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ وعن عتابهم قبل حلفهم وتلبيسهم ولا تلتفتوا إليهم إِنَّهُمْ في أنفسهم رِجْسٌ اى جبلتهم مجبولة على الخباثة والنجاسة لا تقبل التطهير بالتأديب أصلا وَمَأْواهُمْ اى مرجعهم ومنقلبهم في النشأة الاخرى جَهَنَّمُ الطرد والخذلان جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ في النشأة الاولى من الكفر والنفاق والإصرار على الشرك والشقاق وانما يَحْلِفُونَ لَكُمْ حين عتابكم وشكواكم لِتَرْضَوْا أنتم عَنْهُمْ وتقبلوا إخلاصهم ومودتهم وتكونوا معهم كما كنتم فَإِنْ تَرْضَوْا أنتم عَنْهُمْ بمجرد حلفهم الكاذب وتغريرهم الفاسد لا يغنى ولا يدفع رضاكم عنهم شيأ من غضب الله عليهم فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لما في ضمائرهم من الأكنة المكنونة والنفاق المدفون لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى الأوامر والنواهي الواردة لتطهير النفوس الخبيثة عن أرجاس الطبيعة وتصفيتها عن ادناس الأخلاق الذميمة العائقة عن الوصول الى مقر التوحيد. ثم قال سبحانه الْأَعْرابُ اى اهل الوبر المترددون في البوادي المنهمكون في الغي والضلال والعتو والعناد أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من اهل المدر المستأنسين مع العقلاء المستفيدين منهم وَلشدة شكيمة أولئك الاعراب وفرط جهلهم وعدم قابليتهم أَجْدَرُ اى أحق وأليق أَلَّا يَعْلَمُوا اى بان لا يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده عَلى رَسُولِهِ النائب عنه المتكفل لإرشاد عباده بوحيه والهامه بإقامة حدوده المنزلة من الأوامر والنواهي المستلزمة لتأديبهم في معاشهم ومعادهم إذ هم في غاية البعد عن الهداية والصلاح وتحمل التكاليف الإلهية مطلقا وَاللَّهُ المطلع لسرائر عباده عَلِيمٌ باستعداداتهم الكامنة فيهم حَكِيمٌ في الزام التكليف عليهم وَمِنَ منافقي الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ اى يعد ويحسب ما يُنْفِقُ بأمر الله في سبيله مَغْرَماً ويتخيله غرامة وخسرانا لعدم إيمانه واعتقاده بترتب الثواب عليه بل انما ينفق ما ينفق رياء وسمعة وتقية وَمن خباثة باطنه يَتَرَبَّصُ اى يترقب وينتظر بِكُمُ الدَّوائِرَ اى نوائب الزمان الدائرة عليكم لينقلب الأمر ويتحول الحال ويخلص من الانفاق بالنفاق بل يدور عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ على عكس مرامهم دائما متجددا مستمرا وَاللَّهُ المراقب عليهم سَمِيعٌ لمناجاتهم عَلِيمٌ بنياتهم وحاجاتهم يدبر عليهم ويعيد إليهم ما يتربصون بكم من الدوائر وَمِنَ مخلصى الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ اى يوقن ويذعن بتوحيده وَالْيَوْمِ الْآخِرِ اى يصدق باليوم الآخر المعد لجزاء الأعمال وترتب المثوبات بالقربات والصدقات وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ في سبيل الله قُرُباتٍ ونيل مثوبات ورفع درجات عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ اى سبب استغفاره صلّى الله عليه وسلّم ودعائه له أَلا إِنَّها اى تنبهوا ان ما يتصدقون به أولئك المؤمنون المخلصون المتقربون قُرْبَةٌ لَهُمْ وسبب

[سورة التوبة (9) : آية 100]

وصولهم اليه سبحانه سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ الموفق لهم الرقيب عليهم فِي سعة رَحْمَتِهِ وجوده بعد انقضاء النشأة الاولى إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالهم غَفُورٌ لما صدر عنهم من المعاصي قبل ايمانهم رَحِيمٌ لهم يقبل بعد ايمانهم وإخلاصهم ما يتقربون به طلبا لمرضاته وَالسَّابِقُونَ في الايمان المبادرون الى التصديق وقبول الاحكام الْأَوَّلُونَ الأقدمون بمتابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم مِنَ الْمُهاجِرِينَ الذين قد هاجروا من مألوفات نفوسهم ومشتهيات طباعهم الى الفناء في الله وَالْأَنْصارِ الأبرار الذين سلكوا نحو الحق بالرياضات والمجاهدات الشاقة المزيحة لدرن التعلقات ورين الإضافات المانعة من التوجه الحقيقي وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ واقتفوا أثرهم من اهل الطلب والارادة بِإِحْسانٍ اى بلا تمايل الى الرياء والسمعة والعجب والنخوة أولئك المبرورون المقبولون قد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لتحققهم بمرتبة الإخلاص والتسليم وَايضا هم قد رَضُوا عَنْهُ سبحانه لإيصالهم الى مقر التوحيد وفضاء الفناء المثمر للبقاء الأبدي والحيوة السرمدية وَأَعَدَّ لَهُمْ سبحانه في حوزة حمايته وروضة بقائه جَنَّاتٍ متنزهات تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ مملوة من مياه العلوم اللدنية والمعارف الحقيقية الحقية خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يتحولون عنها أصلا ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واللطيف الجسيم لأهل العناية من ارباب المحبة والولاء المنخلعين عن جلباب ناسوتهم بالكلية وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ ايها المؤمنون مِنَ الْأَعْرابِ الذين يسكنون في البوادي قوم هم مُنافِقُونَ معكم وان أظهروا المودة والإخاء والايمان على طرف اللسان لا تبالوا بايمانهم ولا تغفلوا عن مكرهم وخداعهم وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ايضا قوم قد مَرَدُوا رسخوا وثبتوا عَلَى النِّفاقِ ومن شدة نفاقهم وتمرنهم عليه صاروا بحيث لا تَعْلَمُهُمْ ايها المتصف بالفراسة الكاملة من نهاية تلبيسهم واخفائهم بل نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ونعلم ما في ضمائرهم من الخيالات الفاسدة سَنُعَذِّبُهُمْ في الدنيا مَرَّتَيْنِ مرة بتفضيحهم واظهار ما في قلوبهم من الأكنة والشقاق والشقاوة ومرة بقتلهم وسبيهم واجلائهم ثُمَّ يُرَدُّونَ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو حرمانهم وانحطاطهم عن المرتبة الكاملة الانسانية التي هي مرتبة الخلافة والنيابة الجامعة لعموم المراتب الكونية والكيانية وَمن اهل المدينة ايضا قوم آخَرُونَ ليسوا من المصرين على النفاق المتمرنين فيه بل قد اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم من المخالفة والبغض والطعن والاستخفاف والغيبة حين خلوا مع المنافقين المتمرنين على النفاق وهم وان صدر عنهم الايمان والإخلاص ولكن هم قد خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً من الإخلاص والرضا والتسليم وَعملا آخَرَ سَيِّئاً وهو اتفاقهم مع المنافقين في خوضهم وطعنهم وبذلك قد انحطوا عن رتبة المؤمنين المخلصين في عموم أحوالهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ويوفقهم على التوبة والندامة ويقبل منهم توبتهم بعد ما أخلصوا فيها إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ لمن تاب وندم عن ظهر القلب رَحِيمٌ يقبل توبتهم وان افرطوا خُذْ يا أكمل الرسل مِنْ أَمْوالِهِمْ اى من اموال هؤلاء المذنبين التائبين النادمين عما صدر عنهم من المخالفة حين أذنوا لك ان تخرج أنت منها صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ عن ادناس الطبيعة المولعة لحب المال والحرص في جمعها ونمائها وَتُزَكِّيهِمْ بِها اى تصفى بواطنهم عن الشواغل العائقة عن اللذات الروحانية وَصَلِّ عَلَيْهِمْ واستغفر لذنوبهم وادع لهم بالدعاء الخير

[سورة التوبة (9) : آية 104]

إِنَّ صَلاتَكَ إياهم والتفاتك بحالهم سَكَنٌ لَهُمْ وسكينة لقلوبهم ووقار وطمأنينة لنفوسهم وسبب لتقررهم وتثبتهم على جادة التوحيد والايمان وَاللَّهُ المراقب عليهم في عموم حالاتهم سَمِيعٌ لإخلاصهم ومناجاتهم عَلِيمٌ بنياتهم وحاجاتهم أَلَمْ يَعْلَمُوا أولئك التائبون النادمون المخلصون المتضرعون المسترجعون نحو الحق على عفو زلاتهم وتقصيراتهم أَنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالهم هُوَ سبحانه بلطفه وفضله يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ خلص عِبادِهِ بعد ما وفقهم عليها ويتجاوز عن سيئاتهم وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ من أموالهم اى يقبلها منهم تطهيرا لقلوبهم عما يشوشهم من رذائل هوياتهم وأثقال تعيناتهم ليشمروا نحو الحق محقين وَلم يعملوا أَنَّ اللَّهَ المتفضل لعباده هُوَ التَّوَّابُ الرجاع لهم من مقتضيات نفوسهم نحو جنابه الرَّحِيمُ عليهم يوصلهم الى بابه ان أخلصوا في سلوكهم وتوجههم وَقُلِ يا أكمل الرسل للمتخلفين من الاعراب اعْمَلُوا ما شئتم من الكفر والنفاق فَسَيَرَى اللَّهُ الرقيب عليكم عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ايضا بوحيه سبحانه والهامه وَالْمُؤْمِنُونَ ايضا بتبليغه صلى الله عليه وسلّم وَاعلموا ايها الغواة الطغاة المحرومون سَتُرَدُّونَ للحساب والجزاء إِلى عالِمِ الْغَيْبِ اى السرائر والخفايا التي أنتم تسرونها من الكفر والمعاصي وانواع الضلالات والجهالات وَالشَّهادَةِ اى التي أنتم تعلنون بها فَيُنَبِّئُكُمْ ويخبركم سبحانه على التفصيل الذي صدر عنكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من طغيان نفوسكم ويجازيكم عليها وَآخَرُونَ من المتخلفين بعد ما تنبهوا بقبح صنيعهم مُرْجَوْنَ مؤخرون منتظرون لِأَمْرِ اللَّهِ وحكمه وصاروا مترددين بين الخوف والرجاء في ما فعل الله معهم إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ أخذا على ما قد صدر عنهم بمقتضى عدله وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ويوفقهم على التوبة حسب فضله وسعة رحمته وَاللَّهُ المطلع لخفيات صدورهم عَلِيمٌ باخلاصهم ونياتهم حَكِيمٌ في فعله بهم بعد علمه بحالهم وَمن أشد الاعراب كفرا ونفاقا وأغلظهم بغضا وشقاقا هم الَّذِينَ اتَّخَذُوا تلبيسا وتغريرا مَسْجِداً قاصدين في بنائه ضِراراً مضرة وسوأ لرسول الله وللمؤمنين وَكُفْراً اى اشتدادا وزيادة فيه إذ هم قد قصدوا ببنائه وإنشائه قتل رسول الله ومن معه من المؤمنين فيه وَقصدوا ايضا تَفْرِيقاً وتشتيتا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ المجتمعين في مسجد قباء وَبالجملة انما يبنونه إِرْصاداً اى ترقبا وانتظارا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهو ابو عامر الراهب الذي حارب مع المؤمنين مِنْ قَبْلُ يوم حنين فانهزم فهرب الى الشأم ليذهب الى قيصر فيأتى بجنود وهم منتظرون مجيئه وَبعد ما قد ظهر نفاقهم وخداعهم بوحي الله والهامه على رسوله لَيَحْلِفُنَّ وليقسمن بالإيمان الغليظة إِنْ أَرَدْنا وما قصدنا ببنائه إِلَّا الْحُسْنى والخير والصلاة المقربة لنا نحو الحق والذكر والتسبيح والتوسعة على المؤمنين وازدياد شعائر الإسلام ومعالم الدين القويم وَاللَّهُ المطلع لضمائرهم ومخايلهم يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم وايمانهم هذه وإذا عرفت يا أكمل الرسل حالهم وحلفهم وسوء قصدهم وفعالهم لا تَقُمْ فِيهِ اى في المسجد الضرار أَبَداً للتوجه والصلاة إذ هو مبنى على الخداع والتزوير والله لَمَسْجِدٌ مبارك قد أُسِّسَ وبنى عَلَى التَّقْوى عن مطلق المحارم خالصا لرضاه سبحانه مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ بنى وهو مسجد قباء أَحَقُّ أليق واولى أَنْ تَقُومَ أنت يا أكمل الرسل فِيهِ للصلاة والميل نحو الحق والمناجاة معه سبحانه مع انه فِيهِ وفي حواليه رِجالٌ مؤمنون مخلصون كاملون في الايمان بحيث يُحِبُّونَ دائما مستمرا

[سورة التوبة (9) : آية 109]

أَنْ يَتَطَهَّرُوا عن المعاصي والآثام ويتوجهوا نحو الحق برفض الشواغل ونفض العوائق والعلائق وَاللَّهُ المطلع بنياتهم يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ القاصدين تطهير ذواتهم عن التوجه الى ما سوى الحق المطلق بل عن هوياتهم وتعيناتهم الباطلة مطلقا أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ ووضع بناءه عَلى تَقْوى الا وهي قاعدة محكمة وركن شديد وحصن منيع وسبب تحفظ وتحصن مِنَ غضب اللَّهِ وسخطه وَايضا على طلب رِضْوانٍ ومثوبة عظيمة ومنزلة رفيعة منه سبحانه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ اى على طرف واد قد جوفه السيول والأمطار فسقط البعض واشرف الباقي على السقوط والانهدام فوضع عليه بناءه فَانْهارَ بِهِ وسقط معه من بناه واقامه فِي نارِ جَهَنَّمَ اى الوادي الغائر الهائر المملو من نيران الحرمان والخذلان وَاللَّهُ الهادي لخلص عباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى أوامره ونواهيه ومن شدة غيظهم وخبث باطنهم لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا يورث ويزيد رِيبَةً شكا وريبا متزايدا فِي قُلُوبِهِمْ مترشحا فيها إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ بنيران الحسرة وتفتتت وتلاشت بهجوم اهوال العذاب الهائل عليها الى حيث لا يتأتى منها الإدراك وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمخايلهم الكامنة في صدورهم حَكِيمٌ في جزائها وانتقامها ثم قال سبحانه تبشيرا للمؤمنين الباذلين مهجهم في سبيل الله إِنَّ اللَّهَ المتفضل بالفضل العظيم قد اشْتَرى واستبدل مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين الموقنين أَنْفُسَهُمْ وهوياتهم الفانية الباطلة الهالكة في حد ذاتها المبذولة في سبيله سبحانه في النشأة الاولى وَأَمْوالَهُمْ المصروفة فيها ايضا بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ الباقية واللذة المستمرة الدائمة بدلها لذلك يُقاتِلُونَ أولئك الممتثلون لأمر الله المصدقون لوعده فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ أعداءه ويستحقون المثوبة التي قد وعد من لدنه سبحانه للغزاة المجاهدين وَيُقْتَلُونَ ايضا يصلون الى درجة الشهداء الذين هم احياء عند الله يرزقون من موائد افضاله فرحون بما وعدوا من عنده سبحانه وَعْداً عَلَيْهِ بلا خلف فيه حَقًّا ثابتا مثبتا مكتوبا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ المنزلة من لدنه سبحانه وَبالجملة مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ ووفى المعهود فقد استحق مِنَ اللَّهِ الوعد الموعود فَاسْتَبْشِرُوا وافرحوا واربحوا ايها المؤمنون بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ مع ربكم حيث استبدلتم الفاني الزائل بالباقي المستمر الدائم وَبالجملة ذلِكَ الموعود الذي قد وعد لكم هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل الكريم المعد لأرباب العناية والقبول الا وهم التَّائِبُونَ النادمون على ما جرى عليهم من المعاصي والآثام المحافظون عليها بلا مراجعة أصلا الْعابِدُونَ بالعزائم الصحيحة الخالصة الصافية عن مطلق الكدورات والإخلاص التام في نيات الطاعات الْحامِدُونَ الشاكرون الصارفون عموم ما اعطاهم الحق من النعم والقوى والآلات الى ما خلق لأجله السَّائِحُونَ السائرون السالكون في سبيل الهداية والرشد لازدياد المعارف والحقائق الرَّاكِعُونَ المتواضعون المنكسرون المتذللون عند عموم مظاهر الحق تكريما له سبحانه وتعظيما لشأنه السَّاجِدُونَ المتذللون الواضعون جباههم على تراب المذلة والهوان خضوعا وانقيادا ميلا ودعاء الى الله في عموم حالاتهم الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ المستحسن عقلا وشرعا بالقلب واللسان وعموم الجوارح والأركان وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ المستقبح عقلا وشرعا على الوجه الذي ورد الشرع به وَبالجملة هم الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ الموضوعة بين ارباب التكاليف قابلين لسلوك مسالك التوحيد

[سورة التوبة (9) : آية 113]

والتحقيق مطلقا وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل الْمُؤْمِنِينَ الموصوفين بهذه الصفات الجميلة باللذات التي لا يمكن وصفها بلسان التعبير من لدن حكيم خبير. ثم قال سبحانه على طريق النهى عموما ما كانَ اى ما صح وما جاز لِلنَّبِيِّ الأمي الهاشمي المبعوث الى كافة البرايا بالهداية العامة والإرشاد الكامل الشامل وَالَّذِينَ آمَنُوا معه وأخلصوا فيه أَنْ يَسْتَغْفِرُوا ويشفعوا لِلْمُشْرِكِينَ المصرين على الكفر والعناد لا بتخفيف العذاب عنهم ولا بدخول الجنة وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى من النسب إذ لا عبرة لقرابة النسب بل القرابة المعتبرة عند الله هي قرابة الدين والايمان سيما مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ موت اقربائهم على الكفر والجاهلية وظهر عندهم أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ اى ملازموها وملاصقوها لا نجاة لهم منها لاصرارهم على موجباتها وَلا يرد على هذا استغفار ابراهيم عليه السّلام لأبيه إذ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ آزر على سبيل الشفقة والشفاعة والعطف الموجب لها بل ما هو إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وعهد قد وَعَدَها إِيَّاهُ حين أراد ان يخرجه من الكفر والشرك بان يستغفر له ما تقدم من ذنبه ان آمن فاستغفر قبل الايمان انجازا لوعده ليلين قلبه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ وظهر عنده أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ مصر على كفره مطبوع على قلبه مختوم بختام الجهل والغفلة تَبَرَّأَ مِنْهُ واسترجع الى الله الخليل الجليل منيبا عن اجترائه واستغفاره في حق أبيه الكافر مع عدم علمه باستعداده وبتوفيق الله إياه وبالجملة إِنَّ إِبْراهِيمَ مع كونه متحققا بمقام الخلة مع الله لَأَوَّاهٌ كثير التأوه والتحزن عن أمثال هذه الجرأة حَلِيمٌ كثير الشفقة والمرحمة على اهل الغفلة لظهوره على مقتضى اللطف والجمال وَاعلموا ايها المؤمنون ما كانَ اللَّهُ المصلح لأحوال عباده لِيُضِلَّ قَوْماً ويسميهم ضلالا وفساقا بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ على الايمان والإسلام حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ وينبه عليهم ما يَتَّقُونَ ويحذرون من المحارم والمعاصي لامتناع تكليف الغافل ثم بعد ارتكاب المحذر به يسميهم ما يسميهم ويأخذهم بما يأخذهم منتقما عليهم إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده بِكُلِّ شَيْءٍ مما يتعلق بصلاحهم وإصلاحهم عَلِيمٌ لا يعزب عن علمه شيء فعليكم ايها المؤمنون ان تفوضوا أموركم كلها الى الله إذ الأمر كله لله إِنَّ اللَّهَ المستقل بالالوهية والوجود لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وما فيها من النجوم والبروج والجنود التي لا اطلاع لنا عليها وَكذا ملك الْأَرْضِ وما عليها وكذا ملك ما بينهما من الكائنات والفاسدات يُحْيِي ويظهر بلطفه متى تعلق ارادته وَيُمِيتُ ويعدم ويخفى بقهره متى جرت مشيئته وَما لَكُمْ ايها المؤمنون الموقنون بتوحيد الله مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس معه شيء ولا دونه حي مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم وَلا نَصِيرٍ ينصركم عليها وبالجملة لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ ووفقه على التوبة والندامة بعد ما صدر عنه صلّى الله عليه وسلّم اذن المخالفين المستأذنين المعتذرين بالأعذار الكاذبة تغريرا له وتلبيسا عليه مع عدم علمه بحالهم وَقد تاب ايضا على الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ نحو تبوك حين خرج إليها فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ وايام القحط إذ ليس لهم في تلك السفر لا زاد ولا راحلة ولا ماء حيث تعاقب عشرة على بعير وقسم تمر بين اثنين في يوم وشرب الفظ والفرث من شدة العطش لذلك قد تمايل على المخالفة والمراجعة كثير من الناس مِنْ بَعْدِ ما كادَ وقرب يَزِيغُ ويميل عن المتابعة قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ من قلة التصبر وكثرة المقاسات والأحزان ثُمَّ تابَ الله عَلَيْهِمْ ووفقهم على التوبة مما اخطروا

[سورة التوبة (9) : آية 118]

ببالهم وتخيلوا في خيالهم وكيف لا يوفقهم سبحانه على التوبة إِنَّهُ بِهِمْ عليم باستعداداتهم وقابلياتهم رَؤُفٌ عطوف عليهم يعفو عنهم عموم زلاتهم التي صدرت عنهم وقت الاضطرار رَحِيمٌ يقبل منهم عموم ما جاءوا به من الانابة والاستغفار وَايضا قد تاب سبحانه ووفق عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا عن غزوة تبوك بلا عذر لهم وهم كعب بن مالك وهلال بن امية ومرارة بن ربيع وهم قد صاروا مضطرين مضطربين من عدم التفات رسول الله والمؤمنين إليهم سيما بعد امر الرسول على المؤمنين ان لا يتكلموا معهم خمسين ليلة حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ اى مع فسحتها ووسعتها بل وَقد صاروا من هجوم الأغراض النفسانية الى ان ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ واشتد عليهم الأمر وانسد دونهم أبواب التدابير مطلقا فاضطروا في أمرهم وشأنهم هذا والتجأوا نحو الحق مخلصين وَظَنُّوا لا بل كشفوا أَنْ لا مَلْجَأَ ولا مفر مِنَ اللَّهِ اى من غضبه وسخطه إِلَّا إِلَيْهِ إذ ليس لغيره وجود حتى يرجع اليه ويلتجأ نحوه لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم في أمثال هذه المضائق أعوذ بك منك ثُمَّ بعد ما أخلصوا في الانابة والرجوع وفوضوا أمورهم اليه سبحانه قد تابَ الله عَلَيْهِمُ اى أقدرهم ووفقهم على التوبة بل أمرهم في سرهم لِيَتُوبُوا ويرجعوا نحو الحق نادمين عما صدر عنهم من المخالفة فيغفر لهم ويعفو عن زلاتهم إِنَّ اللَّهَ المصلح الموفق لعباده هُوَ التَّوَّابُ الرجاع لعباده نحو جنابه حين صدر عنهم المعاصي الرَّحِيمُ لهم يرحمهم ويقبل توبتهم حين رجوعهم نحوه متضرعين مخلصين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم التقوى عن محارم الله اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور عن مخالفة امره وحكمه وَكُونُوا في السراء والضراء مَعَ الصَّادِقِينَ المصدقين لرسوله المتابعين له في عموم أموره واعلموا انه ما كانَ وما صح وما جاز لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ يسكن فيما حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ المترددين في بواديها أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ حين خرج الى القتال واقتحم على الأعادي وَايضا لا يصح لهم ان يَرْغَبُوا ويميلوا بِأَنْفُسِهِمْ اى بحفظها وصيانتها عَنْ نَفْسِهِ صلى الله عليه وسلّم بل يجب عليهم ان يفدوا نفوسهم ويبذلوا مهجهم وأموالهم وأولادهم وعموم ما يضاف إليهم وينسب نحوهم لصيانته وحفظه صلّى الله عليه وسلّم وحيث اقتحم صلّى الله عليه وسلّم فلهم المبادرة والمسابقة ذلِكَ اى ما وجب عليهم من تحمل المشاق والمتاعب والاسراع والاقتحام والاقدام عليها بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم متى خرج صلّى الله عليه وسلّم معهم وفي أظهرهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ عطش وَلا نَصَبٌ الم عناء من انواع الآلام وَلا مَخْمَصَةٌ ومجاعة فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه وكلمة توحيده وَكذا لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً موضعا ولا يدوسون ولا يقطعون مسافة بحيث يَغِيظُ الْكُفَّارَ مرورهم عنها وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا من القتل والأسر والغلبة والنهب والغارة إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عند الله عَمَلٌ صالِحٌ موجب للمثوبة العظمى والدرجة العليا وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المحسن المتفضل لخواص عباده لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله ويعبدونه كأنهم يرونه ومع رسوله المستخلف منه النائب عنه سبحانه وَهؤلاء المحسنون المخلصون لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً لا قليلة ولا كثيرة في سبيل الله طلبا لمرضاته وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً تجاه العدو حين أمرهم الله ورسوله إِلَّا وقد كُتِبَ لَهُمْ في صحف حسناتهم لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى

[سورة التوبة (9) : آية 122]

جزاء احسن بمراتب عن أعمالهم الحسنة التي قد أتوا بها. ثم قال سبحانه وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ اى ما صح لهم وما ينبغي لشأنهم وما يليق بحالهم لِيَنْفِرُوا عن بلدانهم وأماكنهم كَافَّةً بحيث تخلو بلادهم عن الحفظة والحراس مطلقا فَلَوْلا وهلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ الى الرسول لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وليتعلموا شعائره وما يتعلق به من الآداب وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ بذلك إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ويقيموا لهم ما يتعلمون ويتفقهون من شعائر الإسلام ومعالم الدين القويم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ من منهيات الدين القويم ويتصفون بمأموراته ويصلحون عقائدهم بها فيؤمنون ويوقنون بالله ويتدينون بدينه. ومن معظم شعائر الإسلام القتال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ ويقرب منكم في حواليكم وحواشيكم مِنَ الْكُفَّارِ وَلتضيقوا ولتشددوا عليهم لْيَجِدُوا ويشاهدوا فِيكُمْ غِلْظَةً تشددا وتصبرا على القتال وجرأة وتهورا عليه فيخافوا منكم ويتركوا عنادهم وإصرارهم ولا تبالوا بكثرة عددهم وعددهم واجترءوا عليهم بلا مبالاة لهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر بالقدرة التامة الكاملة مَعَ الْمُتَّقِينَ الذين يحفظون حدود ما انزل الله عليهم فتوكلوا عليه وامتثلوا بمأموراته ان كنتم موقنين وَكيف لا تقاتلون ولا تشددون ايها المؤمنون على الغواة الطغاة المستهزئين الذين إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من عندنا مشتملة على تكميل دينكم وزيادة ايمانكم ويقينكم فَمِنْهُمْ اى من المنافقين مَنْ يَقُولُ لأصحابه ورفقائه من خبث باطنه وركاكة فطنته استهزاء وسخرية أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ استحقارا لها واستهانة إياها إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبعموم ما نزل من عنده لإصلاح احوال عباده فَزادَتْهُمْ بعد ما تأملوا فيها وتدبروا في مرموزاتها إِيماناً يقينا واطمئنانا وَهُمْ بعد ما اطلعوا على مطلعها يَسْتَبْشِرُونَ بنزولها وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الا وهو التعامي عن آيات الله وعن مقتضى إشاراتها ورموزها فَزادَتْهُمْ هذه رِجْساً كفرا وشركا منضما إِلَى رِجْسِهِمْ الأصلي وكفرهم الجبلي بحيث صاروا منغمسين منهمكين بالكفر والضلال وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ مصرون على كفرهم وشركهم فلحقوا بشياطينهم الذين مضوا قبلهم. خسر الدنيا والآخرة. الا ذلك هو الخسران المبين أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ من خباثة بواطنهم ورجاسة نفوسهم يُفْتَنُونَ ويقتلون ويصابون فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً بلية ومصيبة واحدة أَوْ مَرَّتَيْنِ بليتين كرتين لتلين قلوبهم بها ويتنبهوا فيتوبوا ثُمَّ لا يَتُوبُونَ الى الله من كفرهم ولا يرجعون نحوه بالإيمان والتوبة ليقبل عنهم بل يصرون على ما هم عليه وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ بها ولا يتذكرون ولا يتعظون منها بل يكابرون ويعاندون وَمن جملة إصرارهم وعنادهم انهم إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مفضحة لهم مفصحة مصرحة بما هم عليه من النفاق والشقاق ونقض العهد والميثاق نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يتغامزون بعيونهم ويقولون استهزاء وتهكما هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من هؤلاء المؤمنين ثُمَّ انْصَرَفُوا من عنده مريدين النفاق والشقاق بأضعاف ما كانوا عليه بسبب تفضيحهم بهذه السورة لذلك صَرَفَ اللَّهُ المصرف المضل قُلُوبَهُمْ عن الايمان وجادة التوحيد والعرفان وما ذلك الا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ولا يفهمون لذة الايمان ولا يتخلقون على فطرة التوحيد وفطنة العرفان مثل المؤمنين الموحدين ولذلك لَقَدْ جاءَكُمْ ايها الاعراب المجبولون على الكفر والكفران والشرك والطغيان رَسُولٌ مؤيد بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة منتشئ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ومن جنسكم

[سورة التوبة (9) : آية 129]

وبنى صنفكم ومن غاية شفقته ومرحمته لكم عَزِيزٌ شاق شديد عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم عموم ما عَنِتُّمْ اى عنتكم وهلاككم والقاؤكم انفسكم بالتهلكة والتقاؤكم بالمكروه مطلقا واتصافكم به إذ هي من امارات الكفر وعلامات الشرك وعدم الإطاعة والانقياد بأوامر الله ونواهيه مع انه صلّى الله عليه وسلّم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ اى على ايمانكم وإسلامكم وإصلاح حالكم إذ هو صلّى الله عليه وسلّم بِالْمُؤْمِنِينَ الموحدين المخلصين رَؤُفٌ عطوف مشفق رَحِيمٌ يرحمهم ويرضى عنهم بخروجهم عن ظلمة الكفر بنور الايمان وبالجملة كن أنت يا أكمل الرسل كما قد كنت عليه بمقتضى شفقة النبوة والمروءة والفتوة فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عنك وانصرفوا عن الايمان بك وبدينك فَقُلْ في نفسك ملتجأ الى ربك مستظهرا منه سبحانه حَسْبِيَ اللَّهُ المراقب علىّ الكافي لعموم مهامى يكفى بي ويكف مؤنة خصومتهم عنى إذ لا إِلهَ يرجع اليه في الوقائع ويلجأ نحوه في الخطوب إِلَّا هُوَ سبحانه عَلَيْهِ لا على غيره إذ لا غير معه في الوجود تَوَكَّلْتُ فلا أرجو ولا أخاف الا منه سبحانه وَكيف لا أتوكل عليه ولا ارجع نحوه إذ هُوَ سبحانه بذاته وبعموم أسمائه وصفاته رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ اى مربى عروش ذرائر الأكوان الكائنة في برزخ الإمكان وهو المستوي عليها بالاستقلال والاحاطة والاستيلاء التام إذ لا شيء سواه. وكل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون خاتمة سورة البراءة عليك ايها الطالب المشمر لسلوك مسلك الفناء كي تصل الى فضاء البقاء شكر الله سعيك وهديك الى غاية مبتغاك ان تقتفى في تشمرك هذا اثر من نبهك عليها وهديك إليها الا وهو النبي الذي اختاره الله لرسالته واصطفاه من بين خليقته لتكميل بريته وأظهره على صورته وخلقه بعموم أخلاقه لذلك اتخذه حبيبا وجعله على سائر الأنبياء اماما ونقيبا وتشبث بأذيال لطفه فعلا وقولا وشيما وخلقا صارفا عنان عزمك الى سرائر ما جاء صلّى الله عليه وسلّم به من عند ربه لإرشاد عباده وكذا ما سمح وجاد صلّى الله عليه وسلّم به من تلقاء نفسه من الرموز والإشارات التي قد استنبطها صلّى الله عليه وسلّم من كلام الله وفاض عليه بوحي الله والهامه لصفاء استعداده الفطري الذي قد صار صلّى الله عليه وسلّم به مرآة لتجليات الحق وشئونه وتطوراته وخليفة لله في ارضه وسمائه وكذا ما التقط واستنبط من فحاوي كلماته وإشاراته صلّى الله عليه وسلّم الأولياء الوارثون منه مقتفون اثره قدس الله أسرارهم وأرواحهم وكذا ما ورد عليهم وخطر في خواطرهم النقاوة وجرى على قرائحهم الوقادة على تفاوت طبقاتهم في طريق التوحيد من المواجيد والملهمات الغيبية المنتشئة من النفحات الإلهية والنفسات الرحمانية الناشئة من التجليات الجمالية والجلالية المتفرعة على الشئون والتطورات الكمالية الذاتية وبالجملة لا بدلك ان تفرغ همك عما سوى الحق مطلقا ولا يتيسر لك هذا الا بمتابعة المحققين المتحققين بمقام الكشف والشهود الواصلين الى مقام المراقبة والحضور مع الله وبالاستفادة منهم ومن ملتقطاتهم ووارداتهم حتى يمكن لك التمكن في مكمن الفناء والتقرر في مقر البقاء وحينئذ يصح لك ان تقول بلسان حالك ومقالك حسبي الله لا اله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم جعلنا الله من عباده المفوضين المتوكلين الذين يتخذون الله وقاية ووكيلا ويعتقدونه حسيبا وكفيلا

سورة يونس عليه السلام

[سورة يونس عليه السّلام] فاتحة سورة يونس عليه السّلام لا يخفى على المنجذبين نحو التوحيد الإلهي من طريق السلوك والمجاهدة ورفض الشواغل وقطع العلائق ونفى الخواطر ودفع الوساوس وإسقاط الأوهام والخيالات المستندة الى الهويات الباطلة الجزئية المستلزمة للغيرية والامتياز والاستقلال في الوجود وما يترتب عليه من الآثار والإضافات ان السلوك من هذا الطريق لا يتم الا بالاستمداد والاسترشاد من اهل الخبرة والاستبصار وارباب الكشف والاعتبار الواصلين الى مقر التوحيد من جادة المجاهدة ومحجة الفناء المقتضية للموت الإرادي عن لوازم الهوية البشرية مطلقا وبالجملة ان الكاملين المكملين العارفين بأمارات الطريق وموانعه عرفوا ان قضية الحكمة وامر المناسبة الإلهية الواقعة بين الأوصاف الذاتية تقتضي ان تكون بين المفيد والمستفيد علاقة ورابطة إذ لا يمكن الاستفادة والاسترشاد من اى شخص كان بل لا بد من المناسبة والعلاقة المصححة للافادة والاستفادة في هذه الطرق الا من جذبه الحق بنفسه عن نفسه واخلع عنه جلباب ناسوته مطلقا او كساء خلعة لاهوته دفعة فصار هو هو بل قد ارتفعت الهوية واضمحلت الموضوعية والمحمولية ايضا عن بصر بصيرته وشهوده فهم تحت قباب العزة ولواء العظمة والكبرياء وسرادقات المجد والبهاء بحيث لم يبق عندهم سلوك وسالك ومسلك وقصد ومقصد وطلب ومطلب بل مطلوب ومقصود ايضا وبالجملة هم لا يعرفون سوى الحق وكذا لا يعرفهم الا هو كما نطق به الحديث القدسي لذلك ما يروا هؤلاء الا به وفيه واما اهل الطلب والارادة المتدرجون في سلوك طريق الفناء المتعطشون بزلال التوحيد والبقاء فلا بد لهم ان يتوسلوا ويتشبثوا بذيل من أيده الحق لتكميل العباد وإرشادهم الى مبدأهم ومعادهم الا وهم الأنبياء الذين قد جبلوا على النفوس القدسية المطهرة عن الكدورات الانسية والعلائق البشرية العائقة عن الفناء في هوية الحق ثم الأولياء الوارثون منهم الواصلون بمتابعتهم الى مرتبة التوحيد والعرفان التي هي عبارة عن الفناء في ذاته سبحانه. والمحجوبون المجبولون على الغفلة المنهمكون في الغي والضلال يتعجبون عن ارشاد الأنبياء والأولياء عباد الله الى فضاء توحيده وينكرون لياقتهم للنبوة والرسالة انما هو لجهلهم بدقائق المناسبات ورقائق الارتباطات الواقعة بين الحق والإنسان الكامل ويقيسون احوال الأنبياء والأولياء الى احوال آحاد الناس ولم يتفطنوا ان أفضل البشر أفضل من أفضل الملائكة لتحققهم في مرتبة الخلافة والنيابة الإلهية بجمعيتهم دونهم لعدم جمعيتهم لذلك رد الله سبحانه على هؤلاء الجهلة بما هم عليه من التعجب والإنكار ووبخهم بما وبخهم ليتنبه المؤمنون على ما هو الحق فقال متيمنا باسمه العظيم ومخاطبا على رسوله الكريم بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على ما ظهر بمقتضى أوصافه وأسمائه الكامنة في وحدة ذاته فتتراءى متكثرة بكثرة أسمائه وصفاته الرَّحْمنِ على عموم مظاهره بالامداد الدائم المتجدد حسب تجلياته الذاتية الحبية الرَّحِيمِ على خلاصة مظاهره وزبدة مكوناته التي هي الإنسان الجامع لجميع مراتب المظاهر بالنبوة العامة والولاية التامة الشاملة لكلتى مرتبتي الاول والآخر والظاهر والباطن في المبدأ والمعاد باعتبار النشأتين [الآيات] الر ايها الإنسان اللبيب الرشيد اللائق للرسالة العامة والرياسة الكلية الكاملة الشاملة على كافة البرية تِلْكَ الآيات المنزلة عليك في هذه السورة آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ اى بعض آيات الكتاب الإلهي الذي هو حضرة علمه المحيط ولوح قضائه المحفوظ ناطقة بالصدق والصواب على مقتضى

[سورة يونس (10) : آية 2]

الحكمة المتقنة الإلهية نازلة من عنده لتصديقك وتأييدك يا أكمل الرسل في عموم تبشيراتك وانذاراتك وفي جميع لوازم نبوتك ورسالتك وارشادك لأهل الغي والضلال أَكانَ لِلنَّاسِ الناسين بطلان هوياتهم الباطلة عَجَباً اى سبب تعجب واستغراب أَنْ أَوْحَيْنا بان ألهمنا من محض فضلنا وجودنا إِلى رَجُلٍ فاش مِنْهُمْ ظاهر من جنسهم وبنى نوعهم أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ المنهمكين في الغي والضلال بمقتضى اهوية هوياتهم الباطلة وماهياتهم العاطلة تعجبا ناشئا واستغرابا منتشأ عن محض الغفلة والنسيان والاعراض عن الحق والانحراف عن طريق التوحيد وجادة الإسلام وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل منهم ارباب المحبة والولاء الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا برسالتك وارشادك نحو وحدة ذات الحق واستقلاله في الوجود وما يتفرع عليه من الأسماء والصفات والآثار المترتبة عليها والشئون المتجددة بها أَنَّ لَهُمْ اى بان لهم قَدَمَ صِدْقٍ اى اقداما صادقا وقدما راسخا ثابتا في جادة التوحيد وارادة خالصة مقبولة عِنْدَ رَبِّهِمْ وهم معدودون عنده سبحانه من زمرة السابقين المقربين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ثم لما ظهر شأن الرسول وعلا قدره وشاع دينه وكثر اتباعه قالَ الْكافِرُونَ المصرون على الشرك والعناد من خبث طينتهم وشدة بغضهم وشكيمتهم بعد ما أبصروا منه خوارق عجزوا عنها سيما القرآن الكامل في الاعجاز البالغ على مراتب البلاغة إِنَّ هذا المدعى للرسالة والنبوة لَساحِرٌ مُبِينٌ ماهر ظاهر متفرد في فن السحر وحيد في عصره فيه. ومن قرأ لسحر أراد به القرآن المعجز لجمهور البلغاء مع توفر دواعيهم في معارضته وصاروا من عجزهم بحيث لم يقدروا على إتيان اقصر آية منه وكيف يعارضون مع رسوله ومع الكتاب المنزل من عنده سبحانه اليه إِنَّ رَبَّكُمُ ايها المؤمنون اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد القيوم المطلق الَّذِي خَلَقَ وقدر ببسط عكوس أسمائه ومد اظلال أوصافه ورش رشحات نوره السَّماواتِ اى العلويات التي هي عبارة عن الأعيان الثابتة وَالْأَرْضَ اى عالم الطبيعة القابلة للانعكاس منها فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اى في الجهات الست كلها إذ يتوهم الامتداد والابعاد والأقطار فيهما وفي ما بينهما وبالقياس إليهما ثُمَّ اسْتَوى واستولى بلا توهم التراخي والزمان والمهلة على ما يقتضيه لفظة ثم بل بلا اين وكيف وكم عَلَى الْعَرْشِ المفروش المبسوط القابل لانعكاس اشعة أسمائه وأوصافه مطلقا يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى شئون الحوادث الكائنة بالاستقلال ما مِنْ شَفِيعٍ من المظاهر والمصنوعات يشفع لاحد عنده سبحانه إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وإمضاء مشيئته ونفاذ قضائه ذلِكُمُ اللَّهُ اى الموصوف المتفرد المتوحد في ذاته بالالوهية المستقل في آثاره وتدابيره بالربوبية رَبَّكُمُ اى مربيكم وموجدكم ايها الاظلال الهلكى فَاعْبُدُوهُ حق عبادته حتى تعرفوه حق معرفته أَفَلا تَذَكَّرُونَ وتتفكرون وحدة ذاته وعظمة أسمائه وصفاته ايها العقلاء المجبولون على التفكر والتذكر في آلاء الله وجلائل نعمائه وكيف لا تتفكرون آلاء الله ايها الغافلون مع انه إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا غير معه في الوجود مَرْجِعُكُمْ ورجوعكم جَمِيعاً كما قال سبحانه ثم إلينا مرجعكم. وإلينا ترجعون. الى غير ذلك من الآيات واعلموا ايها المكلفون ان وَعْدَ اللَّهِ العليم الحكيم الذي لا يخلف ميعاده أصلا حَقًّا محققا ثابتا لازما حتما بلا تغيير ولا تبديل وكيف لا يكون وعده سبحانه حقا إذ هو سبحانه قادر على عموم المقدورات والمرادات المثبتة في حضرة علمه ولوح قضائه ومن كمال قدرته إِنَّهُ بذاته وحسب أسمائه وصفاته

[سورة يونس (10) : آية 5]

يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ويظهره من كتم العدم إظهارا إبداعيا بلا سبق مادة ومدة ثم يعدمه إظهارا لقدرته الغالبة ثُمَّ يُعِيدُهُ في النشأة الاخرى لإظهار سرائر تكاليفه التي قد كلف بها عباده في النشأة الاولى لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بوحدته وصدقوا رسله فيما مضى وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم من لدنه سبحانه بالسنة كتبه ورسله جزاء حسنا مقرونا بِالْقِسْطِ والعدل القويم ويتفضل على من تفضل عناية منه وامتنانا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأشركوا له سبحانه شيأ من مظاهره بل قد شاركوه معه في أخص أوصافه واشرف أسمائه لَهُمْ في يوم العرض والجزاء بعد ما يحاسبون شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ بدل ما كانوا يتلذذون بالاشربة المحرمة في النشأة الاولى وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بالله ويكذبون رسله عنادا وإصرارا وكيف يكفرون بالله أولئك الحمقى العمى الهالكون في تيه الغفلة والضلال وظلمة الجهل وسوء الفعال مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً محضا ليكون دليلا على كمال ظهوره واشراقه وشدة جلاء وجوده وانجلائه وَجعل الْقَمَرَ نُوراً يعنى صير القمر مرآة مظلمة في نفسها مستنيرة من ضوء الشمس في ظلمات الليل ليكون دليلا على إضاءته سبحانه في مشكاة التعينات وظلمات الهويات وَقَدَّرَهُ اى للقمر مَنازِلَ متعددة تسهيلا لكم وتدبيرا لأموركم لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ التي تحتاجون إليها في معاملاتكم وتجاراتكم وحراثتكم كما قدر منازل نور النبوة والولاية في مشكاة الأنبياء والأولياء الوارثين منهم لتقتبسوا أنتم أنوار الايمان المزيحة لظلم الكفر والعصيان من مصابيح أولئك الأمناء الكرام وتتوسلوا بها الى ان تستضيئوا بضياء الشمس الحقيقية الحقية التي لا افول لها أصلا. ثم قال سبحانه ترغيبا لعباده وتنبيها لهم على اصل فطرتهم ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ اى ما اظهر وأوجد ما أوجد في عالمي الغيب والشهادة حسب أسمائه وأوصافه الا ملتبسا بالحق الثابت الصريح بلا احتياج فيه الى الدلائل والشواهد إذ لا شيء اظهر من ذاته سبحانه حتى يجعل دليلا عليها كما قال سبحانه يُفَصِّلُ ويوضح الْآياتِ المنبهة عليها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يتحققون بمرتبة اليقين العلمي ليترقوا منها الى اليقين العيني والحقي. واما المحجوبون فهم من عداد البهائم والانعام لا يرجى منهم الفلاح لكثافة حجبهم وغلظ غشاوتهم وبالجملة إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وإيلاجه في النهار وَالنَّهارِ وإيلاجه في الليل وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي أوضاع السَّماواتِ من الأمور المقتضية لاختلافهما وَالْأَرْضِ من المكنونات الكائنة فيها على مقتضى تربية العلويات وتدبيراتها لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات دالة على قدرة القادر الحكيم المتقن في امره وفعله لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ ويحذرون عن قهر الله ويلتجئون اليه سبحانه عن غضبه وسخطه ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والوعيد إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لإنكارهم اعادتنا إياهم في يوم الجزاء لنجزيهم وفق ما عملوا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا المستعارة بلا التفات منهم الى دار القرار وَاطْمَأَنُّوا بِها اى وطنوا ومكنوا أنفسهم بلذاتها وَبالجملة أولئك الحمقى الجاهلون هم الَّذِينَ هُمْ من شدة قساوة قلوبهم وغباوة فطنتهم عَنْ آياتِنا غافِلُونَ ذاهلون مع غاية وضوحها وظهورها غفلة لا يرجى انتباهم منها أصلا وبالجملة أُولئِكَ البعداء المعزولون عن مقتضى العقل الفطري المستفاد من العقل الكل الذي هو عبارة عن حضرة العلم المحيط الإلهي مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والعصيان ومخالفة العقل المفاض ومتابعة الوهم والخيال. ثم قال سبحانه على مقتضى

[سورة يونس (10) : آية 10]

سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد وبالعكس إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وأيقنوا بتوحيده وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة من عنده لإصلاح أحوالهم يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ الى فضاء وحدته بِإِيمانِهِمْ وبسبب يقينهم العلمي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ اى جداول المعارف والحقائق المنتشئة من بحر الوحدة الذاتية منصبغة باليقين العيني والحقي فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ يعنى هم متمكنون مخلدون في مستلذاتهم الروحانية ابد الآباد دَعْواهُمْ ومناجاتهم مع ربهم وحاجاتهم معه فِيها بعد ما انقطعوا عن السلوك والتكميل سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ يا مولانا انما حسب ما علمتنا بمقتضى فضلك وجودك ننزهك تنزيها بليغا ونقدسك تقديسا كاملا عن عموم ما لا يليق بجناب قدسك وَتَحِيَّتُهُمْ اى ترحيب بعض ارباب الدرجات على بعض مع تفاوت مقاماتهم ومراتبهم فِيها سَلامٌ وتسليم لتحققهم بمقام الرضا ومقعد الصدق والتسليم وَآخِرُ دَعْواهُمْ بعد وصولهم الى غاية مأمولهم الذي هم جبلوا لأجله أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ والمنة والثناء لله المنعم المتفضل رَبِّ الْعالَمِينَ الذي رباهم بأنواع اللطف والكرم تفضلا منه سبحانه وامتنانا. ثم قال سبحانه حثا لعباده الى الرجوع والتوجه نحوه وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ المدبر لأمور عباده لِلنَّاسِ الشَّرَّ حين استعجلوه منه سبحانه لغرض من الأغراض او استحقوا له بعمل من الأعمال اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ كاستعجال الخير لهم حين طلبوا ودعوا لأجله او اعطاهم تفضلا منه إياهم لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ يعنى قد انقرض مدة حياتهم البتة بحلول أجلهم المقدر المعهود حين دعائهم واستحقاقهم ولكن قد امهلناهم رجاء ان يستغفر منهم من يستغفر وبالجملة فَنَذَرُ ونترك المصرين الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ورضوا بالحياة الدنيا واقتصروا عليها وأنكروا يوم البعث والجزاء فِي طُغْيانِهِمْ المتجاوز عن الحد يَعْمَهُونَ ويترددون زمانا امهالا وتهويلا لعذابهم وَمن شدة عمههم وطغيانهم إِذا مَسَّ وعرض الْإِنْسانَ الضُّرُّ اى ما يضره من مضر مؤلم ومصيبة مفجعة مفزعة دَعانا مشتكيا إلينا مقترحا ملحا باثا شكواه عندنا ملقيا لِجَنْبِهِ ان لم يقدر على غيره من الأوضاع أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ان قدر متضرعا متفجعا مستكشفا فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ وعجلنا له مراده مَرَّ وتجاوز عنا وتباعد من أمرنا ولم يلتفت الى حكمنا أصلا بل صار من شدة عمهه وغفلته كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا قط إِلى كشف ضُرٍّ قد مَسَّهُ وبالجملة كَذلِكَ اى مثل ما سمعت يا أكمل الرسل قد زُيِّنَ اى حبب وحسن لِلْمُسْرِفِينَ المنهمكين في الغي والضلال ما كانُوا يَعْمَلُونَ من مخالفة امر الله ومخاصمة رسوله والمؤمنين المتابعين له والإصرار على ما هم عليه من العتو والعناد. ثم قال سبحانه مهددا مقسما وَالله يا اهل مكة لَقَدْ أَهْلَكْنَا حسب قهرنا وجلالنا الْقُرُونَ الماضية مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا اى حين ظلموا مثل ظلمكم وخرجوا عن طاعة الله واقامة حدوده مثل خروجكم وَهم ايضا أمثالكم إذ قد جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ اى بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة الدالة على صدقهم انما جاءوهم ليمتنعوا عماهم عليه من الظلم والعناد وَهم ما كانُوا اى أولئك الأمم لِيُؤْمِنُوا لرسلهم وأنبيائهم وما يصدقوهم فيما جاءوا به أمثالكم بل قد كذبوهم أمثالكم وأصروا على ما هم عليه بل زادوا عليه عنادا ومكابرة فأخذناهم بظلمهم وأهلكناهم بإصرارهم بعد ما نبهنا عليهم فلم ينتبهوا وبالجملة كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ المصرين على الجرائم مع ورود الزواجر والروادع ثُمَّ بعد إهلاكهم واستئصالهم قد

[سورة يونس (10) : آية 15]

جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ منهم وصيرناكم خلفاء عنهم فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ واختبرناكم بما اختبرناكم وابتليناكم أمثالهم لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أنتم ايضا أتعملون الخير فنجازيكم خيرا أم تعملون الشر فنجازيكم شرا مثل ما جزيناهم وَهم قد كانوا من شدة انهماكهم في الغفلة والغرور والغي والضلال أمثالكم إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على كمال عظمتنا ووفور قدرتنا على وجوه الانعام والانتقام مع كونها بَيِّناتٍ واضحات مبينات لأحوال النشأة الاخرى وأهوالها وانكالها قالَ الكافرون المسرفون الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا أمثالكم بل ينكرون الحشر والنشر والثواب والعقاب وعموم ما يترتب على النشأة الاخرى فكيف لقاءنا فيها ائْتِ ايها المدعى من عند ربكم بِقُرْآنٍ وكتاب غَيْرِ هذا القرآن والكتاب إذا أردت ان نؤمن لك أَوْ بَدِّلْهُ وغيره بعض آياته المشتملة على الإنذارات البليغة والتخويفات الشديدة فانا لا طاقة لنا بها وانما قصدهم وغرضهم بقولهم استهزاء وسخرية برسل الله واستخفاف بكتاب الله أمثال هؤلاء القائلين المسرفين المستهزئين بك وبكتابك يا أكمل الرسل قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم كما قال أولئك الرسل الكرام في جواب أممهم بمقتضى وحينا والهامنا ما يَكُونُ اى ما يصح وما يجوز لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ واحرفه مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي بمقتضى اهويتهم الفاسدة بل إِنْ أَتَّبِعُ اى ما اتبع وانتظر انا إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وليس في وسعى وطاقتي سوى الاتباع والانتظار وكيف أتصرف فيه إِنِّي أَخافُ بمجرد ان اسمع منكم قولكم هذا العصيان على نفسي فكيف إِنْ عَصَيْتُ بقصد التبديل والتغيير رَبِّي وقد استوجبت حينئذ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ كما استوجبتم أنتم بسؤالكم هذا على سبيل الإلحاح والاقتراح قُلْ يا أكمل الرسل ايضا إلزاما لهم وتبكيتا لَوْ شاءَ اللَّهُ اى لو تعلق مشيئته بغير هذا المتلو ما تَلَوْتُهُ انا عَلَيْكُمْ هذا وما أوحاه سبحانه على وما أجراه على لساني وَلا أَدْراكُمْ بِهِ اى ما أعلمكم بهذا وما أسمعكم من لساني ايضا ولكن قد تعلق مشيئته بهذا فاوحاه وأجراه وامر باسماعه فأسمعكم والا فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مدة أربعين سنة مِنْ قَبْلِهِ اى قبل وحى القرآن بلا تلاوة وادراء واعلام أَفَلا تَعْقِلُونَ وتستعملون عقولكم في هذا الأمر ولا تدبرون ولا تدربون فيه مع انكم من اهل الدرية والدراية متدربون بأساليب الكلام بالغون فيه أقصى الغاية حتى ينكشف لكم ان امر القرآن ليس منى بل هو خارج عن حيطة حولي وقدرتي مطلقا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ونسب اليه ما لم يصدر عنه افتراء ومراء أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ التي قد صدرت عنه ونزلت على رسله وأنبيائه لإصلاح احوال عباده وإرشادهم الى مبدئهم ومعادهم وبالجملة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ المفترون عليه بالأباطيل الزائغة المكذبون كلامه المنزل من عنده على رسله وَكيف يفلحون ويفوزون أولئك المسرفون بالفلاح وهم من شدة ضلالهم يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد بذاته المستقل بألوهيته ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ إذ هم ليسوا من ذوى القدرة والارادة بل من جملة الجمادات المعطلة التي لا شعور لها أصلا وَيَقُولُونَ من كمال غفلتهم وضلالتهم هؤُلاءِ الأصنام والتماثيل العاطلة شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ ينقذوننا من بأس الله وبطشه ان تحقق وقوعه قُلْ لهم يا أكمل الرسل تسفيها وتحميقا أَتُنَبِّئُونَ وتخبرون بقولكم هذا اللَّهِ العالم بالسرائر والخفايا بِما لا يَعْلَمُ من الأمور الكائنة فِي السَّماواتِ وَكذا بما لا يعلم ايضا فِي الْأَرْضِ من الكوائن فيها مع انه سبحانه في ذاته وحسب أسمائه وصفاته لا يعزب ولا يغيب

[سورة يونس (10) : آية 19]

عن حيطة حضرة علمه المحيط شيء من الأشياء لا في الأرض ولا في السماء سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ من الأوثان والتماثيل التي لا شعور لها أصلا مع انها من أدون المظاهر واخس المخلوقات وبالجملة ما قدروا الله أولئك الحمقى حق قدره لذلك نسبوه اليه ما هو منزه عنه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وَما كانَ النَّاسُ المجبولون على مظهرية الحق المنعكسون من اظلال أسمائه الحسنى وصفاته العليا إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً ملتجئة الى الله مقتبسة من أنوار تجلياته منعكسة منها فَاخْتَلَفُوا اى الاظلال الهالكة باختلاف صور الأسماء المتقابلة والأوصاف المتضادة المتخالفة حسب شئون التجليات المتجددة في الكمالات المترتبة عليها وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل لتسويتهم وتعديلهم في النشأة الاخرى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالعدالة والقسط فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ في هذه النشأة بلا تأخير الى اخرى لكن الحكمة المتقنة الإلهية تقتضي تأخيرها لذلك أخر أمرهم وحسابهم وعذابهم لئلا يبطل سر التكاليف وحكم الأوامر والنواهي ومطلق الاحكام الواردة من عنده سبحانه وَمن خبث طينتهم وشدة شكيمتهم يَقُولُونَ بعد ما اقترحوا عنه صلّى الله عليه وسلّم بالآيات ولم تنزل لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ من الآيات المقترحة مع ان دعواه ان ربه قادر مقتدر على عموم المقدورات والمرادات بحيث لا يخرج عن حيطة قدرته شيء فَقُلْ في جوابهم بلى ان الله قادر على جميع المقدورات ومن جملتها مقترحاتكم الا ان في عدم انزالها وإنجاحها حكمة غيبية ومصلحة خفية إلهية لا يعلمها الا هو إِنَّمَا الْغَيْبُ كله لِلَّهِ وفي حيطة حضرة علمه فَانْتَظِرُوا بتعلق ارادته بمقترحاتكم إِنِّي مَعَكُمْ ايضا بلا تفاوت بيني وبينكم في عدم الاطلاع على غيبه مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للمسرفين وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً خلاصا ونجاة مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ واضطرتهم الى الرجوع والتوجه نحونا إِذا لَهُمْ مَكْرٌ اى قد فاجؤا بعد نزول الكشف والرحمة نحو المكر والخديعة مع نبينا والطعن والقدح فِي آياتِنا قُلِ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا اللَّهُ المطلع على ما في ضمائركم ومخايلكم أَسْرَعُ مَكْراً وأشد تدبيرا وانتقاما على مكركم وخداعكم قد أعد واثبت لكم سبحانه في حضرة علمه ولوح قضائه عذاب مكركم واشهد عليكم ملائكته كما قال إِنَّ رُسُلَنا الموكلين عليكم المراقبين لأحوالكم يَكْتُبُونَ في صحائف أعمالكم ما تَمْكُرُونَ وتحيلون مع الله ورسوله وكيف لا يراقبكم ويحافظ عليكم مع انه سبحانه هُوَ القادر المقتدر الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ اى يمكنكم على السير والسياحة فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ليجرب إخلاصكم وتقويكم ورسوخكم على الايمان حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ اى السفينة والجوار وَجَرَيْنَ الجواري بِهِمْ اى بمن فيها بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ معتدلة موافقة لسيرها وَفَرِحُوا بِها وبجريها على مرادهم جاءَتْها بغتة رِيحٌ عاصِفٌ شديد الهبوب مزلزل لها محرك إياها وَمن شدة هبوبها وتحريكها البحر قد جاءَهُمُ الْمَوْجُ الهائل مثل الجبال الرواسي مِنْ كُلِّ مَكانٍ اى جانب وجهة وَظَنُّوا من غاية ارتفاع الأمواج المتوالية المتتالية أَنَّهُمْ قد أُحِيطَ بِهِمْ بأسباب الهلاك فتقع عليهم وتستأصلهم وحينئذ دَعَوُا اللَّهَ ملتجئين متضرعين مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مقتصرين الإطاعة والانقياد له سبحانه إذ لا تعارض حينئذ للأهواء الفاسدة والآراء الباطلة قائلين مقسمين والله لَئِنْ أَنْجَيْتَنا يا ربنا بفضلك وجودك مِنْ هذِهِ البلية الهائلة المحيطة بنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمك المتذكرين دائما بحقوق جودك وكرمك فَلَمَّا أَنْجاهُمْ اجابة لدعائهم وكشفا لضرهم وبلائهم

[سورة يونس (10) : آية 24]

إِذا هُمْ يفاجئون الى الكفران ويسارعون نحو الطغيان بحيث يَبْغُونَ ويطلبون الفساد فِي الْأَرْضِ المعدة للعبادة والصلاح بِغَيْرِ الْحَقِّ اى بلا رخصة شرعية بل عن بغى وعناد. التفت سبحانه من الخطاب الى الغيبة تنبيها على غاية بعدهم وطردهم عن ساحة عز الحضور والقبول لذلك ابعدهم بالغيبة بعد ما قربهم بالخطاب. ثم قال سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ الناسون نعمة الإنجاء والتخليص عن ورطة الهلاك إِنَّما بَغْيُكُمْ وكفرانكم الذي قد فاجأتم به بدل الشكر والإطاعة في النشأة الاولى وبال عائد عَلى أَنْفُسِكُمْ في النشأة الاخرى إذ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا والتمتع بلذاتها وشهواتها والركون الى مزخرفاتها قليل حقير نزر يسير لا ينبغي للعاقل ان يترك الباقي لأجل الفاني واللذة الروحانية الدائمة المستمرة للذة الجسمانية المتناهية القصيرة ثُمَّ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلَيْنا لا الى غيرنا إذ لا غير في الوجود معنا مَرْجِعُكُمْ ومصيركم رجوع الاظلال الى ذي الظل والأضواء الى الشمس فَنُنَبِّئُكُمْ اى نخبركم ونعمل بكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بمقتضى عملكم ان خيرا فخير وان شرا فشر وبالجملة إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا اى شئونها الغريبة وحالاتها العجيبة التي كنتم تغترون بها وتميلون إليها وتفتخرون بمزخرفاتها ومموهاتها وأمتعتها وأبنيتها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ وامتزج بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ اى ترابها المنبتة للنبات وحصل مِنَ اختلاطهما وامتزاجهماما يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ من انواع البقول والحشائش حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وشرعت القوة النامية لتربيتها وَازَّيَّنَتْ اى تزينت بأنواع البهجة والتزيينات وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ متمكنون عَلَيْها وعلى جمعها وحصادها وأخذ قطوفها وغلاتها أَتاها أَمْرُنا وحكمنا بغتة بإهلاكها واستئصالها لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً محصودا قبل بدو صلاحها بل مقطوعا عن أصلها الى حيث كَأَنْ لَمْ تَغْنَ ولم تنبت فيها منها شيء بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ نوضح ونمثل الآيات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويستعملون عقولهم بإدراك الممثل والممثل به وبعد تعقلهم وتفكرهم يتنبهون ان الدنيا وحياتها ما هي الا سراب غدار وغرار وبرق بلا قرار من اغتر بغرورها هلك عطش الأكباد ومن استنار بنورها فقد ضل عن سبيل الرشد والسداد وَبالجملة اللَّهُ الهادي لعموم عباده يَدْعُوا جميعهم إذ اصل جبلتهم وفطرتهم مجبولة على التوحيد والإسلام إِلى دارِ السَّلامِ اى الى مقر التوحيد الذي من تمكن فيه سلم عن جميع الآثام وسار عموم أموره الى العليم العلام القدوس السّلام وَبعد دعوته سبحانه عموم الأنام الى دار السّلام يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ويوفق من يشاء من خلص عباده إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيده الا وهو دين الإسلام المنزل على خير الأنام تتميما لحكمة التكاليف المنزلة من عنده وتمييزا بين اهل الهداية والضلال من عباده واصحاب الجنة والنار على تفاوت طبقاتهم لذلك قال سبحانه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الأدب في هذه النشأة مع الله ورسله وامتثلوا بعموم ما جاءوا من عنده سبحانه في كتبه المنزلة على رسله تعبدا وانقيادا ايمانا واحتسابا الْحُسْنى اى المثوبة العظمى والدرجة العليا بدل إحسانهم في الدنيا عدلا من الله وَزِيادَةٌ عليها الا وهي رضوان الله عنهم عناية وتفضلا وَصاروا من صفاء عقائدهم وإحسانهم مع الله بحيث لا يَرْهَقُ ولا يلحق وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ اى غبار الغفلة والندامة وَلا ذِلَّةٌ صغار وهوان من التواني والتكاسل في احتمال التكاليف الإلهية وبالجملة أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله أَصْحابُ الْجَنَّةِ المعدة لأرباب الفضل والعناية هُمْ فِيها خالِدُونَ جزاء بما كانوا يعملون من الخيرات والمبرات وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ

[سورة يونس (10) : آية 28]

من طغيان نفوسهم ولم يلتفتوا الى ما أمرهم الحق وهديهم اليه رسله يجزون بمقتضى ما اقترفوا جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها عدلا منه سبحانه وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ اى تغطاهم غبار المذلة والخذلان بدل ما اكتسبوا من البغي والعدوان ما لَهُمْ حينئذ مِنَ اللَّهِ اى من عذابه وعقابه مِنْ عاصِمٍ حافظ يحفظهم او شفيع يشفع لهم ويخفف عنهم بل صاروا من ظلمة كفرهم وفسقهم كَأَنَّما أُغْشِيَتْ سترت وأحيطت وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً في غاية الظلمة لعدم استنارتهم بنور الايمان والعمل الصالح وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء البعداء الهالكون في تيه الغي والضلال أَصْحابُ النَّارِ المعدة لأهل الغفلة والأهواء هُمْ فِيها خالِدُونَ جزاء بما كانوا يكسبون من الكفر والمعاصي وانواع الجرائم والآثام وَاذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ اى كلا الفريقين جَمِيعاً مجتمعين في يوم العرض والجزاء ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بنا غيرنا من التماثيل والأصنام الزموا مَكانَكُمْ واستقروا عليه أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ حتى تسألوا عما اجرمتم فَزَيَّلْنا اى فرقنا وفصلنا بَيْنَهُمْ بان رفعنا رابطة العابدية والمعبودية وعلاقة العبادة التي بها وصلتهم وارتباطهم وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ باقدار الله إياهم حينئذ مخاطبين لهم مشافهة براءة لنفوسهم وتنزيها ما كُنْتُمْ ايها الضالون المنهمكون في الغي والضلال إِيَّانا تَعْبُدُونَ بعلمنا وبمقتضى أمرنا إذ لسناح من ذوى العلم واولى الأمر بل تعبدون أنتم أهواءكم وشياطينكم الكامنة في نفوسكم قد افتريتم علينا ونسبتم وانتسبتم بنا عنادا ومكابرة فَكَفى بِاللَّهِ اليوم فيما مضى شَهِيداً شاهدا حاضرا على ما قد جرى بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ هو اعلم بعلمه القديم إِنْ كُنَّا اى انا كنا عَنْ عِبادَتِكُمْ وعن توجهكم ورجوعكم إلينا لَغافِلِينَ إذ لم نخلق من ذوى الشعور والإدراك في نشأة الاختبار حتى نضلكم ونستعبدكم وبالجملة هُنالِكَ اى حين احضروا للسؤال والجواب والجزاء والحساب تَبْلُوا اى تختبر وتتفطن كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما أَسْلَفَتْ وكسبت فيما سبق وَبعد تفطنهم وتنبههم رُدُّوا جميعا إِلَى اللَّهِ المتوحد المتفرد للجزاء إذ هو سبحانه مَوْلاهُمُ متولى نعمهم ومتولى أمورهم الْحَقِّ وَما سواه من الآلهة الكاذبة هي الباطلة مع بطلانها قد ضَلَّ غاب وضاع عَنْهُمْ عموم ما كانُوا يَفْتَرُونَ ظلما وزورا وسموهم آلهة وشفعاء افتراء ومراء ولم يبق حينئذ في الوجود والشهود الا الله الواحد القهار ولو كشفوا بسريان وحدة الحق في عموم المظاهر والأكوان الكائنة في جميع الاحياز والأحيان لتحققوا بتوحيده دائما بلا توقف الى يوم القيمة الا انهم لانهماكهم في الغفلة والضلال لم يتنبهوا في النشأة الاولى قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر توحيد الحق واستقلاله في الآثار والتدبيرات الواقعة في الأقطار إلزاما لهم وتبكيتا مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بامطار الأمطار وتصعيد البخار وَالْأَرْضِ بالإنبات والإخراج أَمَّنْ يَمْلِكُ ويستطيع ان يخلق لكم السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ اللتين هما من أعظم اسباب حفظكم وحضانتكم انفسكم بهما وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ الحيوان السوى القوى مِنَ الْمَيِّتِ اى من النطفة الضعيفة وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ اى النطفة الجامدة من الحيوان وَبالجملة مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ في عالم الأسباب والمسببات فَسَيَقُولُونَ اضطرارا من غاية ظهوره ووضوحه بحيث لا يمكنهم ان يكابروا اللَّهُ المدبر لجميع الأمور الكائنة في الآفاق والأنفس وبالجملة هم من غاية ظهوره وجلائه لم يمكنهم ان يعاندوا او يكابروا فَقُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اعترفوا بالله المدبر لعموم الكوائن

[سورة يونس (10) : آية 32]

والفواسد توبيخا وتقريعا أَفَلا تَتَّقُونَ ولا تحذرون من بطشه وانتقامه فلم تشركون له ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى من الحق شيئا وبالجملة فَذلِكُمُ الذي قد اعترفتم به هو اللَّهُ المتوحد المستحق للالوهية والمعبودية إذ هو رَبُّكُمُ مربيكم ومدبر أموركم وهو لا غيره الْحَقُّ الثابت المتحقق الحقيق بالحقية فَماذا بَعْدَ ثبوت الْحَقُّ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن التعدد والتكثر مطلقا مما اتخذتم آلهة ظلما وزورا إِلَّا الضَّلالُ الباطل العاطل فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ايها الحمقى المسرفون المفرطون وكيف تنصرفون وترجعون الى غيره من الاظلال الهالكة المستهلكة وتنسبونها الى الألوهية والربوبية ظلما وعدوانا كَذلِكَ اى مثل ما سمعت من ثبوت الألوهية والربوبية له سبحانه حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ اى قد ثبتت وتمت صدقا وعدلا بحيث لا تبديل لكلماته أصلا عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا وخرجوا عن عبادة الله ظلما وعدوانا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ولا يوقنون بالله ولا يصلون الى التوحيد أصلا لا علما ولا عينا قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ اى في وسعهم وقدرتهم مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ اى يوجده ثم يعدمه ثُمَّ يُعِيدُهُ في النشأة الاخرى كما هو شأن الإله المتفرد بالالوهية قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بهتوا اللَّهُ القادر المقتدر على عموم المقدورات يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وكيف تشكون والى اين تصرفون وتنصرفون عن جادة التوحيد بالميل الى هؤلاء التماثيل الزائغة العاطلة المعطلة قُلْ يا أكمل الرسل لهم ايضا تبكيتا وإلزاما هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى طريق الْحَقِّ وصراطه المستقيم الموصل الى توحيده سبحانه فان بهتوا قُلِ اللَّهُ الهادي لعباده يَهْدِي لِلْحَقِّ وطريق توحيده من يشاء من عباده ويوصله الى مرتبة حق اليقين أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ اى الى اليقين الحقي أَحَقُّ أليل وأحرى أَنْ يُتَّبَعَ اى يطاع وينقاد له أَمَّنْ لا يَهِدِّي ولا يهتدى بنفسه الى شيء أصلا إِلَّا أَنْ يُهْدى فاهتدى ان كان من اهل الاستعداد كبعض آلهتكم مثل عزيز وعيسى وبالجملة فَما عرض وأي شيء لحق لَكُمْ ايها الغفلاء المعزولون عن مقتضى العقل كَيْفَ تَحْكُمُونَ بالوهيتهم وشركتهم مع الله مع ان بديهة العقل تأبى عن ذلك وَبالجملة ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر المشركين في اشراك هؤلاء المنحطين عن درجة الاعتبار مع الله المنزه عن الشريك مطلقا إِلَّا ظَنًّا وتخمينا ناشئا عن تخيلات فاسدة وتوهمات كاسدة من اسناد الآثار الظاهرة الى ظواهر الأسباب مع الغفلة عن المسبب الموجد لها وبالجملة إِنَّ الظَّنَّ والتخمين الذي قد تمسكوا وتشبثوا به لا يُغْنِي ولا يفيد مِنَ الْحَقِّ الصريح الذي هو مناط الايمان والاعتقاد شَيْئاً من الإغناء إِنَّ اللَّهَ المطلع بجميع مخائلهم عَلِيمٌ خبير بصير بِما يَفْعَلُونَ بمقتضى ظنونهم وخيالاتهم واوهامهم فيجازيهم على مقتضى علمه وخبرته وبعد ما نبه سبحانه على بطلان اعتقاداتهم وظنونهم وجهالاتهم أراد ان ينبه ان مستند اهل الايمان الذي هو القرآن الموضح لهم طريق التوحيد والعرفان ليس كذلك فقال وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ المنزل على خير الأنام المبين لهم قواعد دين الإسلام أَنْ يُفْتَرى ويخيل انه قد صدر مِنْ دُونِ اللَّهِ العليم الحكيم وكيف يصدر هذا من غير الله إذ هو في أعلى مراتب البلاغة ونهاية درجات الاعجاز لصدوره عن الحكمة المتقنة الإلهية التي كلت الافهام دونها وعجزت عموم المدارك والآلات عن دركها فلا يتوهم صدوره عن غير الله أصلا وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ

[سورة يونس (10) : آية 38]

مطابق لما نزل من عنده من الكتب السالفة بل هو أعلى حكمة وأتم فائدة منها وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ الذي هو عبارة عن حضرة علمه ولوح قضائه وبالجملة لا رَيْبَ فِيهِ انه نازل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وليس في وسع بشران يأتى بمثله أيشكون نزوله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم أَمْ انزاله من لدنه سبحانه حيث قال يَقُولُونَ افْتَراهُ واخترعه من عنده ونسبه الى الله ترويجا وتعظيما قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما شككتم انه من عند الله بل قد جزمتم بانه من عند غيره مفترى عليه سبحانه فَأْتُوا بِسُورَةٍ قصيرة من مِثْلِهِ في الفصاحة والبلاغة ورعاية المقتضيات والحكم والمطابقات ووجوه الدلالات والتمثيلات والتشبيهات وانواع المجازات والكنايات وَان عجزتم أنتم ادْعُوا واستظهروا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ واستوثقتم مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم بانه من كلام البشر مفترى على الله وبعد ما أفحموا عن الإتيان وعجزوا عن المعارضة ومع ذلك لم ينصفوا ولم يقروا بانه معجز ليس من كلام البشر بَلْ كَذَّبُوا وبادروا الى الرد والتكذيب بِما اى بشيء لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولم يعلموا ولم يفهموا ما فيه بقرائحهم وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ من معلم وملهم بل قد كابروا في تكذيبه بلا سند عقلي او نقلي وبالجملة كَذلِكَ اى مثل تكذيبهم هذا قد كَذَّبَ الأمم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم وكتبهم التي قد جاءوا بها من عند الله فَانْظُرْ ايها المعتبر الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الأوامر المبادرين الى تكذيب الله وتكذيب رسله واعتبر مما جرى عليهم من المصيبات الهائلة فانتظر يا أكمل الرسل وترقب لهؤلاء المكذبين المكابرين أمثالها وَمِنْهُمْ اى من المكذبين المكابرين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ اى بالقرآن ويصدق بإعجازه في نفسه ويصر على التكذيب ظاهرا عنادا ومكابرة وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ مطلقا لغلظ غشاوته وشدة قساوته وشكيمته وَبالجملة رَبُّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل بأنواع الهداية والصلاح أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ المكذبين المعاندين الذين يفسدون في الأرض بأنواع الفسادات وَإِنْ كَذَّبُوكَ وأصروا على تكذيبك مع وضوح دلائل صدقك فَقُلْ يا أكمل الرسل على سبيل التبري والتنزه والمجاراة لِي عَمَلِي وانا اجزى به وبمقتضاه وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ تجزون أنتم ايضا بأعمالكم وبمقتضاها وبالجملة أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ منكرون له وَأَنَا ايضا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ بأضعاف برائتكم وآلافها فانتظروا أنتم بجزاء أعمالكم وانا ايضا انتظر بجزاء عملي حتى يأتى وقت الجزاء ويوم العرض والحساب وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ استهزاء وأنت تلتفت الى اسماعهم ارادة ايمانهم وتبالغ فيه مهما أمكنك ليتعظوا وهم لا يسمعون ولا يفقهون لاكنة قلوبهم وصمم اسماعهم أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وتجتهد في اسماعهم واصغائهم وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ولا يفهمون كلامك لجهلهم المركوز في جبلتهم وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ويعاين دلائل نبوتك ويشاهد اماراتها ومع ذلك ينكر بك وبنبوتك حسدا وبغيا أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وتقدر على تبصيره وَلَوْ كانُوا مجبولين بأنهم لا يُبْصِرُونَ لتعامي بصائرهم وأبصارهم وقساوة قلوبهم إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء لا يَظْلِمُ النَّاسَ المستوجبين للعذاب والنكال شَيْئاً مما لحقهم منه وَلكِنَّ النَّاسَ الناسين صرف ما أنعم الله لهم الى ما خلق لأجله أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى هم يظلمون أنفسهم بصرفه الى خلاف ما حكم الله وأظهره له لذلك استحقوا المقت والانتقام وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ

[سورة يونس (10) : آية 46]

الى أهواله المتطاولة وشدائده المترادفة المتوالية الى حيث يصور عندهم مدة حياتهم في الدنيا لطول ذلك اليوم وشدة أهواله كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ وهم حينئذ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ اى يعرف بعضهم بعضا هذا في أول النشر ثم يشتد عليهم الأمر ويرتفع التعارف والالتفات وتصير كل نفس رهينة بما كسبت وبالجملة قَدْ خَسِرَ وخاب خيبة عظيمة المسرفون الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ في الآخرة وأصروا على ما هم عليه من اقتراف المعاصي ولم يلتفتوا الى الأنبياء والكتب التي قد جاءوا بها من عنده سبحانه لإصلاح أحوالهم في مبدئهم ومعادهم وَما كانُوا ايضا مُهْتَدِينَ بطريق الصلاح والصواب من تلقاء نفوسهم بلا ارشاد مرشد لقصورهم عن الرشد والهداية سيما بلا مرشد هاد وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ اى ان تحقق اراءتنا إياك يا أكمل الرسل بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ بالهداية والإرشاد والسلوك في سبيل الصواب والسداد أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل إيصالهم الى فنائك ليسترشدوا منك وليستهدوا من زلال هدايتك وليسترشحوا من رشحات فيضك وجودك ويصفوا من كدر هوياتهم ورين انانياتهم فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ يعنى فاعلم يا أكرم الرسل إلينا مرجعهم جميعا ضالا ومضلا هاديا ومهديا رجوع الاظلال الى ذي الظل والأضواء الى الشمس ثُمَّ بعد رجوعهم اللَّهُ المظهر لهم من كتم العدم لمصلحة العبودية والعرفان شَهِيدٌ مطلع حاضر عالم بعلمه الحضوري عَلى عموم ما يَفْعَلُونَ من المعرفة والايمان والضلال والطغيان يجازيهم بمقتضى علمه وخبرته وَاعلموا انه لِكُلِّ أُمَّةٍ اى فرقة وطائفة رَسُولٌ معين في علم الله مثبت في لوح قضائه مرسل من عنده إياهم على مقتضى حكمه وحكمته ليهديهم الى توحيده فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ والعدل الموضوع من عند الله بمقتضى الحكمة البالغة لإصلاح احوال عباده وَبالجملة هُمْ لا يُظْلَمُونَ في يوم الجزاء ولا ينقصون من أجور أعمالهم بل يجازون حسب ما اقترفوا من المعاصي وَمن خبث بواطنهم يَقُولُونَ لك يا أكمل الرسل مستنكرين عليك مستكبرين مستهزئين معك مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي أوتيت أنت إتيان العذاب علينا فيه عين لنا وقته إِنْ كُنْتُمْ ايها المدعون تابعا ومتبوعا صادِقِينَ في هذه الدعوى مصدقين لمن يدعى الصدق فيه يعنون الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين قُلْ يا أكمل الرسل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ولا اقدر ان اكتسب عليها ولا لها ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وقدره في سابق قضائه ومتى لم اقدر على افعال نفسي وأحوالها فانى يكون لي قدرة وقوة على استعجال ما في مشيئة الله وما في غيبه وتعيين وقته مع انه لم يأذن لي ولم يوح الى من عنده سبحانه سوى انه لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم بل لكل شخص من الأشخاص سواء كانوا محقين او مبطلين أَجَلٌ معين ووقت مقدر في علم الله إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ الذي قد عينه الحق لإهلاكهم فيه لا يمكن التخلف فيه لا استعجال ولا استئخار فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ اى لا يمكنهم طلب التأخير لمحة وطرفة إذ الساعة مصروفة الى مطلق الزمان المتناول للآن والطرفة واللمحة ليدفعوا الضرر ولا يمكنهم ايضا طلب التقديم ليجلبوا النفع بل الأمر حتم في وقته والحكم مبرم في زمانه لا يتجاوز عنه أصلا فانتظروا فسيجيء اجلكم ووقتكم وينجز وعدكم ومتى كان الأجل مبهما ولم يكن لأحد أن يعين وقته قُلْ لهم توبيخا وتقريعا أَرَأَيْتُمْ اى أخبروني ايها المجرمون المستعجلون للعذاب والنكال إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً اى حال كونكم بائتين في الليل أَوْ نَهاراً حال كونكم

[سورة يونس (10) : آية 51]

مترددين فيه وعلى اى شأن وفي كل حال يصعب عليكم امره إذ هو يفزعكم ويفجعكم البتة وإذا كان حالكم عند حلول هذا وشأنكم هكذا ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ سبحانه حلوله الْمُجْرِمُونَ المستحقون لانواع العقوبة والعذاب مع انه مكروه كله سيما بالنسبة إليهم أَتنكرون وتكذبون وتصرون على ما أنتم عليه من الكفر والشرك الى وقت حلول العذاب ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ ونزل آمَنْتُمْ بِهِ والحال ما ينفعكم الايمان حينئذ إذ قيل لكم في تلك الحالة من وراء سرادقات العز والجلال آلْآنَ ايها الضالون المكذبون آمنتم به وَالحال انه قَدْ كُنْتُمْ من شدة انكاركم وإصراركم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ استهزاء وسخرية ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بالله بالخروج عن مقتضى أوامره وحدوده سبحانه ذُوقُوا بدل ذوقكم واستلذاذكم بتكذيب الرسل والاستهزاء بهم عَذابَ الْخُلْدِ المستمر الدائم الذي لا ينقطع ابد الآباد وبالجملة هَلْ تُجْزَوْنَ وما تعاقبون أنتم إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ في النشأة الاولى من الجرائم العظام والمعاصي والآثام وَبعد تبليغك إليهم يا أكمل الرسل مآل أمرهم وعاقبة حالهم انهم يَسْتَنْبِئُونَكَ ويستخبرونك على مقتضى أكنتهم المستكنة في قلوبهم أَحَقٌّ هُوَ اى ما أخبرت به من الوعيدات الهائلة يعنى أجدّ هو أم هزل وتخويف قُلْ يا أكمل الرسل مبالغا في تحقيقه وتقريره إِي وَرَبِّي اى اقسم بحق ربي الذي رباني على الصدق والعدالة وانواع الامانة والكرامة إِنَّهُ لَحَقٌّ اى عموم ما أخبرت به بوحي الله والهامه ثابت محقق مطابق للواقع بلا شبهة وتردد في وقوعه وثبوته وَما أَنْتُمْ ولستم في وسعكم وطاقتكم سيما بأمثال هذه الشبهات الواهية والظنون والجهالات الناشئة من الأوهام والخيالات بِمُعْجِزِينَ مسقطين العذاب النازل عليكم وَكيف تسقطون عذاب الله عنكم ايها الجاحدون الجاهلون مع انه لَوْ فرض وقدر أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ وخرجت عن مقتضى أوامر الله ونواهيه تملكا وتصرفا عموم ما فِي الْأَرْضِ من الخزائن والدفائن جميعا لَافْتَدَتْ بِهِ البتة بل بأضعافه وآلافه ان قبلت الفدية منها فافتدت وَبعد افتدائهم وافدائهم هذه قد أَسَرُّوا النَّدامَةَ واضمروا اليأس والحرمان في نجواهم لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ اى حين عاينوا به وبأهواله وافزاعه وهم حينئذ قد ندموا عما افتدوا بمقابلته وقنطوا عنها مطلقا مستقلين بما افتدوا وافدوا وَبالجملة لم تنفعهم الفدية ولم يفدهم الافتداء أصلا بل قُضِيَ بَيْنَهُمْ وحكم عليهم بِالْقِسْطِ والعدل السوى الإلهي وبمقتضى حكمته وحكومته وَبالجملة هُمْ لا يُظْلَمُونَ في جزاء ظلمهم وكفرهم وكيف يتصور الظلم والجور من لدنه سبحانه مع ان الكل من انجلال أسمائه وعكوس أوصافه أَلا إِنَّ لِلَّهِ وفي حيطة حضرة علمه وقدرته عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ وَكذا عموم ما ظهر في الْأَرْضِ من الكائنات والفاسدات يعذب من يشاء عدلا منه ويرحم على من يشاء فضلا أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الذي قد وعد لعباده من الثواب والعقاب حَقٌّ محقق ثابت لا محالة إذ لا يجرى الخلف في وعده أصلا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لقصور فهمهم وقلة تدبرهم في أحكامه المبرمة وحكمته المتقنة لا يَعْلَمُونَ حقية وعده ولا يؤمنون بها جهلا وعنادا وكيف يشكون ويترددون أولئك المصرون المعاندون في سعة حوله وقوته وكمال قدرته وتستبعدون منه سبحانه انجاز وعده ووعيده إذ هُوَ يُحيِي اى يظهر ويوجد بالتجلى الحبى الجمالي أولا هياكلهم وأشباحهم مع انهم لم يكونوا شيأ مذكورا وَبعد ما احيي واظهر عموم ما اظهر يُمِيتُ يعدم بالتجلى القهرى الجلالي

[سورة يونس (10) : آية 57]

عموم ما ظهر على ما هو عليه من العدم وَكيف لا يقدر سبحانه على اعادتهم احياء بعد اماتتهم للحساب والجزاء وتعديد الأعمال والأحوال مع انهم بعموم أحوالهم وأعمالهم وذواتهم وصفاتهم إِلَيْهِ سبحانه لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية تُرْجَعُونَ رجوع عموم الأضواء والاظلال الى الشمس وذي الظل يا أَيُّهَا النَّاسُ الناسون المنشأ الأصلي والموطن الحقيقي قَدْ جاءَتْكُمْ لإيقاظكم وانتباهكم مَوْعِظَةٌ وتذكرة ناشئة مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم على فطرة الهداية والدراية وَاعلموا ايها المكلفون ان تذكرتكم هذه شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ يعنى تشفى هذه التذكرة عليكم وتزيل عطش غليلكم وأكنتكم المستكنة في صدوركم وَايضا هي هُدىً يهدى ارباب العناية والقبول الى مقر الوحدة ومنزل الوصول وَبالجملة هي رَحْمَةٌ عامة شاملة لِلْمُؤْمِنِينَ اى لعموم ارباب البر والقبول الموفقين على الانابة والرجوع من لدنه سبحانه فعليكم ايها الأحرار ان تتعظوا وتتذكروا بحكمه وأحكامه وتتأملوا في رموزه وإشاراته وتدربوا في مفاتحه ومطالعه حتى تنكشفوا منه بقدر وسعكم وطاقتكم بما تنكشفون والله هو الهادي الى جنابه من يشاء من عباده وهو العزيز الحكيم قُلْ يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين إرشادا لهم وتذكيرا بِفَضْلِ اللَّهِ المحسن المتفضل وبحسن قبوله وبشرف عز حضوره وَكذا بِرَحْمَتِهِ اى بمقتضى سعة رحمته الواسعة المتسعة لعموم مظاهره ومصنوعاته فليبسطوا وليتشرفوا فَبِذلِكَ التلذذ والحضور الحقيقي فَلْيَفْرَحُوا بدل ما لم يتلذذوا ولم يفرحوا بالمستلذات الجسمانية الفانية المتناهية وبالجملة هُوَ اى سروركم وفرحكم الروحاني خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من اهوية نفوسكم ومقتضيات هوياتكم ان كنتم موقنين مخلصين قُلْ أَرَأَيْتُمْ اى أخبروني كيف كفرتم وتصرفتم في ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر لأموركم لَكُمْ لمعاشكم وتقوية امزجتكم مِنْ رِزْقٍ مسوق نحوكم محصل بأسباب سماوية مباح لكم فَجَعَلْتُمْ أنتم من تلقاء انفسكم مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا يعنى قد حرمتم أنتم على انفسكم بعضه وحللتم بعضا آخر بلا ورود وحى وشرع ونزول الهام وكتاب قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل المبالغة والإلزام والافحام آللَّهُ أَذِنَ لكم بهذه التفرقة والقسمة ايها المسرفون المفسدون أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ أنتم بنسبتها اليه وَما ظَنُّ اى اىّ شيء هو زعم أولئك المسرفين المفترين الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بأنهم لم يحاسبوا ولم يؤاخذوا ولم يجازوا يَوْمَ الْقِيامَةِ والجزاء على افترائهم على الله ما لم يصدر عنه ولم يوح منه بلى انهم مؤاخذون على اجترائهم على الله وافترائهم إياه سبحانه سيما بعد ورود انواع الزواجر والروادع من الآيات البينات والمعجزات الباهرات الظاهرات الدالة على امتناع هؤلاء الغواة الطغاة من غوايتهم وطغيانهم فلم يمتنعوا وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المدبر المصلح لأحوال عباده لَذُو فَضْلٍ عظيم ولطف عميم عَلَى النَّاسِ بانزال الكتب وإرسال الرسل المنبهين عليهم بما هو الأصلح لهم وأليق بحالهم وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لفرط جهلهم وخبث طينتهم لا يَشْكُرُونَ نعمه بل ينكرون عليها ويكفرون بها عنادا ومكابرة وَكيف ينكرون رسالتك من الله والوحى النازل إليك يا أكمل الرسل من لدنه سبحانه تأييدا لك وتعظيما لشأنك مع انك ما تَكُونُ أنت يا أكمل الرسل فِي شَأْنٍ ولست أنت في امر من ادعاء الرسالة من الله ودعوى التشريع من لدنه سبحانه بلا اذن منه وبلا وحى والهام نازل من عنده وَايضا ما أنت تَتْلُوا مِنْهُ اى من كلامه

[سورة يونس (10) : آية 62]

سبحانه مِنْ قُرْآنٍ قراءة وتلاوة مدعيا نزوله من عنده سبحانه وَلا تَعْمَلُونَ أنتم ايها المعاندون المكابرون مِنْ عَمَلٍ صالح او طالح خيرا او شرا إِلَّا قد كُنَّا بذاتنا وبجميع أسمائنا واوصافنا عَلَيْكُمْ ايها المكلفون شُهُوداً حضراء رقباء مطلعين على عموم ما قد جئتم وعملتم به بل نحن مطلعونه قبل إِذْ تُفِيضُونَ اى تخوضون وتقصدون الشيوع والشروع فِيهِ او الذب والانصراف عنه وكيف لا نطلع عليه ولا يحيط علمنا به وشهودنا إياه وَما يَعْزُبُ ولا يغيب ولا يفوت عَنْ رَبِّكَ ومربيك ايها المظهر الأكمل للاسم الأعظم الجامع لجميع المراتب الكلية والجزئية الكونية والكيانية المتخلق الكامل بعموم الأخلاق الإلهية مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ كائنة فِي اقطار الْأَرْضِ وأرجائها وَلا كائنة فِي السَّماءِ وفضائها وَكيف يعزب ويغيب عن حيطة حضرة علمه شيء مع انه لا شيء أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ المقدار المذكور وَلا شيء ايضا أَكْبَرَ منه إِلَّا هو مثبت مرقوم فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو حضرة العلم الإلهي ولوح محفوظ القضاء والأعيان الثابتة على اختلاف العبارات وهو ظاهر الابانة والظهور بالنسبة الى ارباب الولاء الباذلين مهجهم في طريق الفناء المستغرقين في بحر الوحدة فانين عن هوياتهم بالمرة أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ المنخلعين عن لوازم بشريتهم بالكلية المنسلخين عن مقتضيات اهوية نفوسهم رأسا لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ إذ الخوف والحزن انما هو من لوازم الطبيعة ومقتضياتها وبعد ما انسلخوا عنها وتجردوا عن لوازمها قد فنوا في هوية الحق وصاروا ما صاروا بحيث لم يبق فيهم مبدأ الخوف والحزن والأمن والسرور إذ لا يتصف المعدوم الفاني والموجود الحقيقي الباقي بأمثال هذه الأوصاف الاضداد. والأولياء هم الَّذِينَ آمَنُوا بالله في بداية سلوكهم وتحققوا بمقام اليقين العلمي وَبعد تمكنهم وتقررهم فيه كانُوا يَتَّقُونَ ويحذرون من سطوة سلطنة صفاته الجلالية لانغماسهم بشواغل اهوية الهويات وانهماكهم بعلائق التعينات ثم لما استخلصوا منها بالإخلاص التام والإخبات الصادق ُمُ الْبُشْرى من الله بالفوز العظيم الا وهو تحققهم بمقام الفناء والفناء عن الفناء ايضاي الْحَياةِ الدُّنْيا ما داموا فيها فِي الْآخِرَةِ بأضعافها وآلافها إذ هم قد تحققوا بمقام العبودية وتقرروا في مقر التوحيد ووصلوا الى ما اظهر هم الحق لأجله الا وهو المعرفة والشهود والحضور مع الخلاق الودود فنعم المقام المحمود ونعم الحوض المورود ونعم الشاهد المشهود وبالجملة تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ التامات الناطقة بأنواع البشارات والكرامات لِكَ التبشير الشامل حكمه للنشأتين والباقي اثره حسب المنزلتين وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل الجسيم لأهل العناية من ارباب القبول وَبعد ما تحققت أنت يا أكمل الرسل بولاية الله واتصفت بولائه ومحبته وفزت بما فزت لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ الفاسد الباطل بالكفر والشرك والتكذيب والاستهزاء ولا تغتم بتهديدهم إياك ولا تبال بمفاخرتهم وخيلائهم ومباهاتهم بالمال والجاه عليك إِنَّ الْعِزَّةَ المعتبرة العظيمة لِلَّهِ المتعزز برداء العظمة والجلال المتوحد بنعوت الكمال والجمال جَمِيعاً بحيث لا يعتد بعزة هؤلاء الغواة العصاة وسيخذلهم الله عن قريب بالقهر والانتقام وينصرك عليهم بالغلبة والاستيلاء إذ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الكاذبة الباطلة الْعَلِيمُ بنياتهم الفاسدة فيها فيجازيهم بمقتضى علمه وينتقم عنهم وفق خبرته. قل يا ايها النبي الهادي لمن يدعى ربوبية الاظلال الهالكة والوهية التماثيل الباطلة تنبيها عليهم وايقاظا لهم عن منام غفلتهم كيف تدعون ايها الحمقى شركة المصنوع المرذول مع الصانع

[سورة يونس (10) : آية 66]

القديم العليم الحكيم أَلا إِنَّ لِلَّهِ اى تنبهوا ايها المسرفون الجاهلون بقدرة الله المتوحد المنفرد بذاته المتجلى في الآفاق حسب أسمائه وصفاته مظاهر مَنْ فِي السَّماواتِ اى العلويات من الأسماء والصفات الموسومات بالملائكة وَكذا مظاهر مَنْ فِي الْأَرْضِ من الثقلين وهم مع كمال فضلهم وشرفهم وعلو شأنهم لا يستحقون بالالوهية والربوبية فكيف تستحق هؤلاء الجمادات الساقطة عن درجة الاعتبار وَظاهران ما يَتَّبِعُ المشركون الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ في ألوهيته مستحقين للعبادة كعبادته الا الزور الباطل والزيغ الزائل بل إِنْ يَتَّبِعُونَ وما يقتدون هؤلاء الضالون المشركون المفرطون إِلَّا الظَّنَّ والتخمين الناشئ من جهلهم وغفلتهم عن سرسريان هوية الحق المطلق والثابت في المظاهر كلها لذلك حصروها في مظهر دون مظهر وَبالجملة إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ اى ما هم في ادعائهم وحصرهم هذا الا كاذبون كذبا مبينا آفكون إفكا عظيما تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا كيف تغفلون عن الله ايها الجاهلون وكيف تشركون معه غيره ايها الجاحدون المحجوبون مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ بكمال قدرته وحكمته لباسا لكم لِتَسْكُنُوا فِيهِ وتستريحوا من المتاعب وَكذا قد جعل لكم النَّهارَ مُبْصِراً لتهتدوا الى مطالبكم في امور معاشكم إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل والتقدير لَآياتٍ عظاما ودلائل جساما دالة على كمال قدرته ومتانة حكمه وحكمته وتوحده في ألوهيته وتفرده في ربوبيته واستقلاله في التصرف مطلقا بلا مظاهرة احد ومشاركة ضد وند لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سمع تدبر وتدرب واستكشاف تام بعزيمة صادقة صافية عن شوب الغفلة والذهول وهم من كثافة حجبهم وغشاوة قلوبهم واسماعهم وأبصارهم ما قدروا الله حق قدره لذلك نسبوا اليه ما هو منزه عنه سبحانه حيث قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ وتعالى عما يقول الظالمون في شأنه علوا كبيرا كيف يكون له سبحانه ولد مع انه هُوَ الْغَنِيُّ بذاته عن التعدد مطلقا وليس لغيره وجود أصلا بل لَهُ سبحانه مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ اى العلويات والسفليات حيث ظهر سبحانه حسب أسمائه الحسنى وصفاته العليا بمقتضى التجلي الحبى الشوقى اللطفى بلا انصباغ له بالكون بل بالتمثل والانعكاس وبامتداد الظل ورش النور إِنْ عِنْدَكُمْ وما معكم وليس دونكم ايها الجاهلون الجاحدون بمعرفة الله وحق قدره مِنْ سُلْطانٍ اى حجة وبرهان بِهذا الادعاء الكاذب والقول الباطل بل ما تتكلمون به الا افتراء ومراء أَتَقُولُونَ وتفترون عَلَى اللَّهِ المنزه المقدس ما لا تَعْلَمُونَ ولا تدركون لياقته بجنابه ايها المفترون المبطلون قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا للمكذبين المفترين كلاما ناشئا عن محض حكمته إِنَّ المسرفين المفرطين الَّذِينَ يَفْتَرُونَ وينسبون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ولا يفوزون في النشأة الاخرى بمرتبة التوحيد التي هي معراج اهل الكمال بل ما يحصل لهم بافترائهم هذا وان حصل الا مَتاعٌ اى تمتع قليل فِي الدُّنْيا من الرياسة والجاه ثُمَّ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ في النشأة الاخرى ثُمَّ بعد تيقنهم وكشفهم فيها نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بدل ما قد تلذذوا بالمحرمات والمكروهات في النشأة الاولى بِما كانُوا يَكْفُرُونَ اى بشؤم كفرهم وشركهم وَاتْلُ يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ تذكيرا وتعريضا نَبَأَ نُوحٍ اى قصته مع قومه وقت إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ حين استعظموا امره وقصدوا إهلاكه عنادا ومكابرة يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه بمقتضى شفقة النبوة إِنْ كانَ كَبُرَ اى قد

[سورة يونس (10) : آية 72]

شق وعظم عَلَيْكُمْ مَقامِي فيكم وحياتي بينكم وَتَذْكِيرِي إياكم بِآياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده واستقلاله في ألوهيته وربوبيته فَعَلَى اللَّهِ لا على غيره إذ لا غير معه ولا شيء سواه تَوَكَّلْتُ اى وثقت به وفوضت امرى اليه فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ اى فعليكم ان تجمعوا عموم تدابيركم في قتلى وإهلاكي وَمع ذلك ادعوا شُرَكاءَكُمْ واستظهروا منهم لدفعى ثُمَّ بعد تدبيركم في انفسكم واستظهاركم بهم أظهروا بحيث لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ وشأنكم ولم يبق فيه عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثلمة وسترة أنتم تغتمون بها وتحزنون بسببها بل رتبوا أموركم وأسبابكم كلها على الوجه الذي تقتضيه نفوسكم وترتضيه عقولكم ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وامضوا واصرفوا نحوي جميع ما اعددتم وهيأتم من الأسباب الموجبة لهلاكى ومقتى وَلا تُنْظِرُونِ ولا تمهلون طرفة بل امضوا على دفعة ما أنتم عليه من قتلى ومقتى فاعلموا انى لا أبالي بكم ولا بتدابيركم وظهراءكم إذ الله حسبي وعليه توكلي وبه اعتمادي واعتصامي اذكر لكم باذنه وأعظكم بوحيه على الوجه الذي أمرني واوحانى فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ اى أعرضتم أنتم وانصرفتم عن تذكيري بلا سبب وما هو الا من جهلكم وضلالكم فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ حتى يكون سبب توليكم وأعراضكم سؤالى منكم الجعل ويشق عليكم إعطاؤه فانصرفتم وأعرضتم بل إِنْ أَجْرِيَ اى ما اجرى وما جعلى إِلَّا عَلَى اللَّهِ الذي قد أمرني به وَكيف لا قد أُمِرْتُ انا من عنده أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المسلمين الأمور كلها اليه المنقادين لحكمه وقضائه إذ الكل منه بدأ واليه يعود ومع ذلك النصح والشفقة والتليين التام المنبعث عن محض الحكمة وكذا مع انواع الحجج والبراهين الدالة على صدقه في دعواه فَكَذَّبُوهُ عنادا ومكابرة وأصروا على تكذيبه عتوا واستكبارا فأخذناهم بالطوفان لانهماكهم في الغي والطغيان فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ اى نجينا نوحا ومن آمن به من الغرق محفوظين فِي الْفُلْكِ التي قد نحتها نوح عليه السّلام بيده بوحي الله إياه وتعليمه وهم قد استهزؤا معه حين اشتغل بنحتها وترتيبها وَجَعَلْناهُمْ اى اصحاب السفينة خَلائِفَ من الهالكين وهم ثمانون مؤمنون بالله مصدقون لرسوله وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ ايها المعتبر الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ المكذبين لنذيرهم ومنذرهم والى اين ادى انكارهم واستكبارهم فاعتبروا يا اولى الأبصار ثُمَّ لما ازداد أولئك الخلفاء الناجون وتشعبوا الى ان صاروا امما وأحزابا ودار عليهم الأدوار والأكوار وصاروا منصرفين عن طريق الحق مائلين منحرفين عن سبيل الرشد والسداد بَعَثْنا لإصلاح أحوالهم مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد نوح رُسُلًا منهم كل واحد من الرسل إِلى قَوْمِهِمْ وأمتهم فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحة والمعجزات الساطعة القاطعة المثبتة لدعواهم من لدنا فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا اى ما تيسر لهم وما صح عندهم وما ثبت لديهم ان يؤمنوا ويصدقوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ اى قبل بعثة الرسل بل قد أصروا على ما هم عليه واعتادوا له بلا تغيير ولا تبديل لتركب جهلهم المركوز في جبلتهم وخباثة طينتهم وبالجملة كَذلِكَ نَطْبَعُ ونختم بختام الغفلة والنسيان عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عن حدود الله الراسخين على التجاوز والعدوان حسب فطرتهم ثُمَّ لما عتوا عن الأمم الماضية من عتوا وأخذنا منهم من أخذنا بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد هؤلاء الرسل الماضين مُوسى وَهارُونَ الذي هو اخوه وظهيره إِلى فِرْعَوْنَ المبالغ في العتو والعناد الى حيث ادعى الربوبية لنفسه من شدة بطره وخيلائه حيث تفوه بكلمة انا ربكم الأعلى وَالى

[سورة يونس (10) : آية 76]

مَلَائِهِ المؤمنين به المعاونين بشأنه الكافرين بالله مؤيدين بِآياتِنا الدالة على استقلالنا في الآثار وتفردنا في الألوهية والربوبية وعلى صدق رسولنا في عموم ما جاء به من لدنا فَاسْتَكْبَرُوا عن الانقياد واستقبلوا بالتكذيب والعناد وَبالجملة هم في سابق علمنا ولوح قضائنا قد كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ مجبولين بأعظم الجرائم مستحقين باشد العذاب لذلك أظهروا ما هو كامن مكنون في استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ الحقيق بالاتباع والانقياد مِنْ عِنْدِنا سيما بعد ما قد عارضوا معه مرارا قابلوا بمعجزاته ما قابلوا من السحر والشعبذة تكرارا قالُوا من فرط عتوهم وعنادهم بدل ما صدقوه وآمنوا له بعد ظهور امره وشأنه بالبراهين القاطعة والمعجزات الساطعة إِنَّ هذا الذي جاء به هذا الساحر الكذاب لَسِحْرٌ مُبِينٌ عظيم ظاهر فائق على سحر عموم السحرة قالَ مُوسى بعد ما سمع منهم هذا آيسا عن ايمانهم قنوطا عنهم متحسرا متحزنا بمقتضى شفقة النبوة موبخا لهم على وجه العظة والتذكير أَتَقُولُونَ ايها الحمقى لِلْحَقِّ الصريح الثابت الصحيح لَمَّا جاءَكُمْ وحين أتاكم لإصلاح حالكم ليورث في قلوبكم تصديقا بوحدانية ربكم ويؤثر فيها انه سحر باطل وزور أَما تستحيون من الله ولا تنصفون وما تخافون من بطشه تقولون سِحْرٌ هذا وَالحال انه لا يُفْلِحُ ولا يفوز بالخير ابدا السَّاحِرُونَ المزورون المبطلون وهذا خير كله عاجلا وآجلا وفوز بالفلاح والنجاح ظاهرا وباطنا قالُوا على سبيل المكابرة والعناد بعد ما سمعوا من موسى قوله ونصحه أَجِئْتَنا ايها الساحر الكاذب لِتَلْفِتَنا وتصرفنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وأسلافنا وَاشتهيت أنت يا موسى اصالة وأخوك تبعا لك ان تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ والعظمة فِي الْأَرْضِ التي كنا مستقرين عليها ساكنين فيها مرفهين وَبالجملة اذهبا الى حيث شئتما ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ مصدقين منقادين وَبعد ما أفحموا عن براهينهما وحجتهما وعجزوا عن معجزاتهما صمموا العزم لمعارضتهما حيث قالَ فِرْعَوْنُ امرا لأعوانه وانصاره ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ماهر كامل فيه فأرسلوا شرطا لجميع اهل السحر فجمعوا واحضروا على فناء فرعون مجتمعين ثم عينوا الوقت والموعد فخرجوا اليه ليعارضوا معهما فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ الموعد الموعود وحضروا في الميقات المعهود قالوا لموسى تحقيرا له وتهوينا لأمره الق يا موسى ما جئت به من السحر قالَ لَهُمْ مُوسى مستعينا بالله معتصما عليه ملهما من عنده متوكلا عليه أَلْقُوا أنتم ايها المفترون المكذبون أولا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا عموم ما جاءوا به من انواع السحر واستحسنوا من فرعون وملائه واستأملوا منه الجعل الكثير وجزموا على الغلبة قالَ لهم مُوسى بعد ما رأى جميع ما القوا ما جِئْتُمْ بِهِ ايها المفسدون المعاندون هو السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ المطلع بعموم مخايلكم سَيُبْطِلُهُ عن قريب ثم القى موسى عصاه بالهام الله إياه فإذا هي تلقف وتلتقم عموم ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فانقلبوا هنالك وصاروا صاغرين وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ منهم لانهماكهم في الإفساد والإسراف المصرين على العتو والعناد وَبالجملة يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ الثابت عنده ويقرره في مكانه بِكَلِماتِهِ التامات اى بأوامره ونواهيه وآياته ومعجزاته وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ المحرومون عن نور الايمان والتوحيد ذلك التثبيت والتقرير ثم لما ظهر امر موسى وشاع غلبته بين الأنام وفاق معجزاته على عموم ما جاءوا به من السحر

[سورة يونس (10) : آية 83]

والشعبذة فَما آمَنَ لِمُوسى منهم مع ظهور صدقه بين أظهرهم إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ شبان قَوْمِهِ اى بنى إسرائيل وسبب توقف شيوخهم بعد الدعوة انهم عَلى خَوْفٍ وخطر عظيم مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الذين يجتمعون حولهم من القبط أَنْ يَفْتِنَهُمْ ويصول عليهم ليقتلهم وَكيف لا يخافون أولئك المظلومون إِنَّ فِرْعَوْنَ المتناهي في العتو والاستكبار لَعالٍ فِي الْأَرْضِ غالب قاهر على عموم من فيها وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ في الاستيلاء والبسطة والكبرياء حيث تفوه من كمال كبره بانا ربكم الأعلى وَبعد ما قد رأى موسى توقف قومه في امر الايمان سيما بعد وضوح البرهان قالَ لهم مُوسى على سبيل العظة والتذكير وتعليم التوكل والتفويض الذي هو من أقوى شعائر الايمان مناديا لهم ليقبلوه عن ظهر القلب يا قَوْمِ أراد به بنى إسرائيل إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ الرقيب الحسيب لعباده فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا في عموم أموركم وحالاتكم إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مسلمين أموركم اليه سبحانه منقادين لحكمه وما جرى عليكم من قضائه ثم لما سمعوا مقالة موسى تأثروا منها وتذكروا فَقالُوا عَلَى اللَّهِ المتولى لأمورنا تَوَكَّلْنا رَبَّنا يا من ربانا بلطفك وهدانا الى توحيدك لا تَجْعَلْنا بحولك وقوتك فِتْنَةً اى محل فتنة ومصيبة لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين قصدوا ان يتسلطوا علينا ويفتنوا بنا وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ التي وسعت كل شيء مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ القاصدين ستر الحق باباطيلهم الزائغة الكائدين الماكرين المخادعين مع من توجه نحوك ورجع إليك وَبعد ما بثوا شكواهم إلينا وأخلصوا في تضرعهم وتوجههم نحونا قد أَوْحَيْنا إِلى مُوسى اصالة وَالى أَخِيهِ تبعا أَنْ تَبَوَّءا اى اتخذا مباءة ومسكنا ومبيتا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ وأموالهم ان يبنوا بُيُوتاً فيها وَبعد ما بنيتم بيوتا اجْعَلُوا اى كل واحد منكما ومنهم بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ومسجدا تتوجهون فيها الى الله وتتقربون نحوه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فيها واديموا الميل والتوجه نحو الحق مخبتين خاشعين مخلصين وَبعد ما قد واظبوا على ما أمروا واستقاموا عليه مخلصين بَشِّرِ يا موسى الداعي لهم الى طريق الحق الْمُؤْمِنِينَ المتوجهين نحوه سبحانه بالنصرة على الأعداء في الدنيا وبالكرامة العظيمة في النشأة الاخرى الا وهي الفوز بالوصول الى فناء المولى وشرف لقائه وَقالَ مُوسى بعد ما تفرس الاجابة والقبول داعيا على الأعداء رَبَّنا إِنَّكَ بفضلك وجودك قد آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً هم يتزينون بها وَأَمْوالًا يميلون إليها ويفتخرون بها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ولم يشكروا لنعمك بل يكفرون بهايا رَبَّنا وانما افتخروا وباهوا بحطامهم لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ضعفاء المؤمنين المتلونين الذين لم يتمكنوا في مقر اليقين ولم يتوطنوا في موطن التمكين رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ اى امحها وأتلفها لئلا يتمكنوا على تضليل عبادك بها وَاشْدُدْ ختمك وطبعك عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا ولا ينكشفوا بالإذعان والقبول حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ المعد لهم بكفرهم وإصرارهم الْأَلِيمَ المؤلم في غاية الإيلام حين رأوا المؤمنين في سرور دائم ولذة مستمرة وجنة النعيم قالَ سبحانه مبشرا لموسى وأخيه قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما ووقع مناجاتكما في محل القبول ثنى الضمير لان هارون يؤمن حين دعا موسى فَاسْتَقِيما على ما أنتما عليه من الدعوة والزام الحجة ولا تفتروا في شأنكما هذا والزما الصبر والاصطبار إذ الأمور مرهونة بأوقاتها وَلا تَتَّبِعانِّ في الاستسراع والاستعجال سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ولا يحسنون الأدب مع الله في الحاحهم واقتراحهم في طلب الحاجات

[سورة يونس (10) : آية 90]

وبعد ما تمرنوا بالصبر واستقاموا على ما أمروا مخبتين فازوا بما ناجوا وطلبوا مؤملين وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إذ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ اى عبرناهم من البحر سالمين وذلك حين هم فرعون وملاؤه ان يكبوا على بنى إسرائيل ويستأصلوهم بالمرة فأوحينا الى موسى ان أسر بعبادي ليلا فاسرى بهم فأخبروا فخرجوا على أثرهم على الفور فادركوهم على شاطئ البحر فأوحينا الى موسى بضرب البحر بالعصا فضرب فانفلق البحر وافترق فرقا فعبروا سالمين فلما ابصر فرعون وملاؤه انفلاق البحر وعبورهم منه سالمين فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ واقتحموا في البحر مغرورين بلا مبالاة وتأمل بَغْياً وَعَدْواً ظلما وزورا عتوا واستكبارا فاجتمع البحر بعد اقتحامهم وعاد على ما كان عليه فغرقوا حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ اى فرعون وايس عن حياته وجزم ان لا نجاة له أصلا قالَ في حالة الاضطرار مصرخا صائحا باكيا راجيا الخلاص بمجرد الإقرار آمَنْتُ واعترفت أَنَّهُ اى بانه لا إِلهَ يعبد بالحق إِلَّا الا له الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لما جاء به رسوله موسى وحين تفوه بها فرعون قد هتف هاتف من وراء سرادقات العز والجلال قائلا آلْآنَ ايها الطاغي الباغي الغاوي آمنت حين انقرض وقت الايمان وانقضى زمانه وَقد أخذت على ما قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ في مدة حياتك وَقد كُنْتَ في زمان طغيانك وعصيانك الذي هو زمان الايمان والعرفان مِنَ الْمُفْسِدِينَ بأنواع الفسادات لا من المؤمنين فَالْيَوْمَ والآن لا ينفعك إيمانك بل نُنَجِّيكَ ونخرجك من البحر بِبَدَنِكَ بلا روح ونسقطك على الساحل عريانا لِتَكُونَ أنت لِمَنْ خَلْفَكَ من المتجبرين المتكبرين آيَةً زاجرة وعبرة رادعة لهم عن العتو والعناد صارفة لهم عن الجور والفساد وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ الناسين عهودنا ومواثيقنا التي قد عهدنا مع استعداداتهم في حضرة علمنا ولوح قضائنا عَنْ آياتِنا الدالة على شدة أخذنا وانتقامنا لَغافِلُونَ مثلك ايها الطاغي وَبعد ما أهلكنا فرعون وملائه بالغرق لَقَدْ بَوَّأْنا مكنا واسكنا حسب ما وعدنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ اى مقعد صدق وموضع ثبوت واستقرار وتمكين على ما تقتضيه نفوسهم وترتضيه عقولهم وَبعد تمكينهم وتوطينهم قد رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اى من أطايب الاغذية والأشربة والفواكه ولذائذها فَمَا اخْتَلَفُوا في امر دينهم قبل نزول الكتاب عليهم بل هم متفقون مجتمعون على ما بلغهم رسولهم وهداهم اليه حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ وانزل عليهم الكتاب فما اختلفوا فيه وتفرقوا فرقا وتحزبوا أحزابا وانحرفوا عن طريق الحق وحرفوا كتابه سيما نعتك وحليتك واوصافك يا أكمل الرسل إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ ويحكم عليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اى يفصل بينهم ويميز محقهم عن مبطلهم بالاثابة والعقاب فَإِنْ كُنْتَ يا أكمل الرسل فِي شَكٍّ وريب مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ في كتابك من قصصهم واخبارهم فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ وارجع إليهم لازالة شكك وحل شبهتك وتفحص عنهم حتى تنكشف لك وتحقق عندك وبالجملة لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ الصريح الصحيح الثابت المطابق للواقع بلا شوب ريب عليك مِنْ عند رَبِّكَ يا أكمل الرسل فَلا تَكُونَنَّ أنت فيه مِنَ المُمْتَرِينَ إذ ليس هذا محلا للشك والارتياب إذ لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من حكيم حميد عليم وَبعد ما سمعت ما سمعت يا أكمل الرسل لا تَكُونَنَّ

[سورة يونس (10) : آية 96]

البتة مِنَ المسرفين المفرطين الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ الدالة على كمال قدرته ومتانة علمه وحكمته فَتَكُونَ أنت حينئذ مع علو شأنك وسمو برهانك مِنَ الْخاسِرِينَ الساقطين عن مرتبة الخلافة النازلين عن درجة ارباب المعرفة والتوحيد وأمثال هذه الخطابات من الله العليم الحكيم لحبيبه الذي قد ظهر على الخلق العظيم وتمكن على الصراط المستقيم انما هي حث وترغيب للمؤمنين على ملازمة كتاب الله ومحافظة أوامره ونواهيه وتثبيت لهم في ايمانهم وتصديقهم إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ اى ثبتت وجرت عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ يا أكمل الرسل في سابق علمه ولوح قضائه بكفرهم وشركهم لا يُؤْمِنُونَ بدعوتك وتبليغك إليهم الآيات الرادعة الزاجرة والبراهين الساطعة القاطعة بل وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ مقترحة لهم منك لم يؤمنوا بك لشدة شكيمتهم معك وكثافة غشاوتهم حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المعد لهم من عند الله العزيز العليم فاعرض عنهم يا أكمل الرسل ودعهم وأمرهم فانا ننتقم منهم فَلَوْلا وهلا كانَتْ قَرْيَةٌ من القرى الهالكة التي قد أخذوا بظلمهم آمَنَتْ حين حلول العذاب عليهم ولاح اماراته دونهم مثل ما آمن فرعون حين غشيه اليم فَنَفَعَها في تلك الحالة الملجئة إِيمانُها ونجى به عن العذاب إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا حين عاينوا بحلول العذاب وظهر عليهم علامات الغضب الإلهي وأخلصوا لله مخبتين خاضعين خاشعين قد كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ الذي هم يفتضحون بسببه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا لو لم نكشف وَبعد ما كشفنا العذاب عنهم قد مَتَّعْناهُمْ بأنواع التمتع وصيرناهم مترفهين إِلى حِينٍ حلول آجالهم المقدرة وذلك انه لما بعث يونس عليه السّلام الى نينوى هي قرية من قرى الموصل كذبوه واستهزؤا به فوعدهم بالعذاب بعد ثلثين او أربعين فلما قرب الوعد الموعود خرج من الأفق سحاب غليظ وغيم اسود ودخان مظلم شديد فغشى قريتهم فهابوا هيبة عظيمة فطلبوا يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقه وهموا الى الانابة والتضرع فلبسوا المسوح وخرجوا نحو الصحارى بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرقوا بين والدة وولدها وحن بعضها الى بعض فصاحوا وصرخوا وتضرعوا الى حيث قد علت الأصوات واختلطت الضجيج وأظهروا الندامة وأخلصوا التوبة والانابة فرحمهم الله وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة ولا تستبعد يا أكمل الرسل مثل هذه الألطاف من الله الغفور الرّحيم وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ وتعلقت ارادته بإيمان من على الأرض لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ بحيث لم يبق على وجه الأرض كافر أصلا بل يؤمنون جَمِيعاً مجتمعين بلا اختلاف وتفرقة لكن قضية الحكمة تقتضي الخلاف والاختلاف والكفر والايمان والحق والباطل والهداية والضلال ليظهر سرائر التكاليف والتحميلات الواردة من الله على السنة رسله وكتبه وكذا سر المجازاة في النشأة الاخرى وحكمة خلق الجنة والنار وجميع الأمور الاخروية والمعتقدات الدينية ومتى جرت حكمة الله على هذا أَفَأَنْتَ يا أكمل الرسل من حرصك على تكثير المؤمنين تُكْرِهُ النَّاسَ وتلجئهم الى الايمان حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ جميعا مع ان بعضهم مجبولون على كفرهم ولم يتعلق ارادة الله ومشيئته بايمانهم وَبالجملة ما كانَ لِنَفْسٍ اى ما تيسر لها وما وسع في وسعها وطاقتها أَنْ تُؤْمِنَ بالله باختيارها إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وتوفيقه واقداره إذ لا حول ولا قوة الا بالله. وافعال العباد كلها مستندة الى الله ناشئة من مشيئته اصالة ومادام لم تتعلق مشيئته لم يحدث حادث من الحوادث الكائنة فعليك يا أكمل الرسل ان لا تتعب نفسك في هداية من أراد الله إضلاله وضلاله وبالجملة انك لا تهدى من أحببت فكيف سعيت واجتهدت

[سورة يونس (10) : آية 101]

وأتعبت نفسك ولكن الله يهدى من يشاء وهو العزيز الحكيم وَمن جملة حكمته سبحانه انه يَجْعَلُ الرِّجْسَ اى الخذلان والحرمان ابدا عَلَى الكافرين الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ ولا يستعملون عقولهم التي هي مناط التكاليف الإلهية الى ما خلقوا لأجله ولا يتفكرون ولا يتأملون في الآثار الصادرة من القادر المختار حتى ينكشفوا بتوحيده قُلِ لهم يا أكمل الرسل على مقتضى رتبة النبوة تهييجا لهم وتحريكا على ما في استعداداتهم وقابلياتهم انْظُرُوا ايها المجبولون على النظر والتأمل ماذا اى اى شيء وذات عظيمة وسلطنة غالبة قاهرة قد ظهر بحسب أسمائه وصفاته فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مظاهر العلويات والسفليات والغيوب والشهادات وَان كان ما تُغْنِي ولا تكفى الْآياتُ الدالة على وحدة الذات المتجلية في عموم الكوائن والجهات وَلا تكفى ايضا النُّذُرُ المبينون المنبهون على مدلولاتها عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ لم يتعلق ارادة الله بايمانهم وتوحيدهم فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ وما يترصدون أولئك المتمردون عن الايمان إِلَّا مِثْلَ ما قد وقع ونزل على أمثالهم في الجرائم والآثام من الخسف والكسف والغرق وغير ذلك من المصائب التي قد أصابت على المشركين المسرفين في أَيَّامِ المفسدين الَّذِينَ خَلَوْا ومضوا مِنْ قَبْلِهِمْ اى قبل هؤلاء المسرفين فان عارضوا معك يا أكمل الرسل مثل ما قد عارض أسلافهم مع أنبيائهم ورسلهم قُلْ لهم تبكيتا وإلزاما مثل ما قالوا اخوانك من الأنبياء الماضين فَانْتَظِرُوا لمقتي وهلاكي إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لمقتكم وهلاككم فالامر بيد الله والحكم في قبضة قدرته ومشيئته ثُمَّ بعد ما أهلكنا الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل وإصرارهم على الكفر والشرك نُنَجِّي مما أصابهم رُسُلَنا الذين قد أرسلناهم إليهم وَايضا ننجي الَّذِينَ آمَنُوا بنا وصدقوا رسلنا وانقادوا بعموم ما جاء به رسلهم كَذلِكَ اى مثل انجائنا إياهم حَقًّا عَلَيْنا تفضلا منا وامتنانا على عبادنا نُنَجِّي عموم الْمُؤْمِنِينَ المنقادين لرسلنا المتدينين بديننا وعلى ذلك جرت سنتنا ومضت حكمتنا قُلْ يا أكمل الرسل للمترددين في أمرك ودينك المتمردين عن اطاعتك وانقيادك يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ وريب مِنْ دِينِي الذي هو اسد الأديان وأصحها وأشملها واشرف الملل وأكملها إذ هو مرجع عموم الأديان كما هو مبدؤه لابتنائه على التوحيد الذاتي الذي قد اضمحلت دونه عموم الكثرات وسقطت عنده جميع الإضافات ومع ظهور فضله وكماله ووضوح حجته وبرهانه وعلو شأنه أنتم تشكون فيه فانا أحق ان أشك فيما أنتم عليه وعبدتم اليه فَلا أَعْبُدُ وأتوجه انا الأشباح والتماثيل الَّذِينَ تَعْبُدُونَ أنتم مِنْ دُونِ اللَّهِ لقصورهم عن المعبودية وعدم استحقاقهم للالوهية والربوبية مطلقا وَلكِنْ انا أَعْبُدُ اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ اى يعدمكم ومعبوداتكم بعد ما أظهركم وإياهم من العدم وَأُمِرْتُ من عنده أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين لتوحيده المنقادين لعموم أحكامه وَايضا أمرت من عنده أَنْ أَقِمْ واستقم وَجْهَكَ اى توجه بوجهك الذي هو يلي الحق لِلدِّينِ الذي قد أنزله إليك لإصلاح حالك حال كونك حَنِيفاً مائلا عن عموم الأديان الباطلة والآراء الفاسدة وَبالجملة لا تَكُونَنَّ أنت بحال من الأحوال وشأن من الشئون سيما بعد ما ظهر عليك ولاح عندك حقية دينك وملتك مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يدعون الوجود لغير الله ويشركون معه سبحانه

[سورة يونس (10) : آية 106]

غيره عنادا وعدوانا وَمتى عرفت أنت حقيقة الحال وحقيتها وظهر عندك جلية المقال لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الواجب الوجود ما لا يَنْفَعُكَ من الموجودات الباطلة والاظلال الزائلة وَلا يَضُرُّكَ ايضا إذ لا اثر لها من ذواتها ولا وجود لها في أنفسها فَإِنْ فَعَلْتَ أنت وادعيت وجود غير الحق واعتقدت له أثرا فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ الذين يظلمون على الله بادعاء الوجود والأثر لغيره وَكيف تدعى وتثبت أنت لغيره وجودا وأثرا مع انه إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ الرقيب عليك ويصبك بِضُرٍّ يسوءك ويحزنك فَلا كاشِفَ لَهُ ولا يرفع ولا يدفع عنك ضرره إِلَّا هُوَ إذ لا شيء سواه ولا اله الا هو وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ يسترك تفضلا عليك وامتنانا لك فَلا رَادَّ ولا دافع لِفَضْلِهِ عنك غيره بل يُصِيبُ بِهِ اى بالفضل والحسنى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلا يمنع فضله سبحانه جرائمهم وعصيانهم إذ هُوَ الْغَفُورُ لذنوبهم بعد استغفارهم ورجوعهم الرَّحِيمُ عليهم يقبل توبتهم ويتجاوز عن سيئاتهم ان أخلصوا فيها قُلْ يا من بعث لكافة البرايا وأرسل إليهم بالتوحيد الذاتي الذي قد ختم به امر التشريع والإرسال والإنزال وبلغ إليهم عموم ما جئت به من ربك مناديا عليهم ليقبلوا بقبوله يا أَيُّهَا النَّاسُ المكلفون بالعبادة والعرفان قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ الصريح مِنْ رَبِّكُمْ الا وهو الإسلام المبين لشعائر الايمان والعرفان فَمَنِ اهْتَدى بمعالم الإسلام الى التوحيد الذاتي فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وما يكتب الهداية الا لها ولتكميلها ونال ثوابها عليها وَمَنْ ضَلَّ ولم يهتد بنور الإسلام فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وما يقترف الضلالة الا إليها فعاد وبالها عليها وَقل لهم ايضا يا أكمل الرسل ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ حفيظ كفيل لأموركم ضمين لها بل ما انا الا نذير وبشير أبلغكم ما أرسلت به فلكم الخيار وعليكم الاختيار وَبالجملة اتَّبِعْ أنت يا أكمل الرسل بنفسك عموم ما يُوحى إِلَيْكَ من ربك وامض عليه وبلغ الى الناس على وجه أمرت به وَلا تبال باعراضهم عنك وتكذيبهم بك بل اصْبِرْ على أذاهم وتحمل بمكروهاتهم ولا تفتز عن دعوتك إياهم حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ المتولى لأمورك بنصرك وغلبتك عليهم بالقتال وبنسخ دينك عموم الأديان وبنشره في جميع الأنحاء والأقطار وَبالجملة هُوَ سبحانه خَيْرُ الْحاكِمِينَ وأفضل الفاضلين إذ هو سبحانه مطلع على سرائر الأمور وخفاياها قادر على عموم الانتقام لمن أراد مقتك واعرض عنك وانصرف عن دينك رب احكم بالخير والحسنى ووفقنا على متابعة سيد الورى خاتمة سورة يونس عليه السّلام عليك ايها الطالب لتحقيق الحق العازم الحازم على سلوك سبيل التوحيد والعرفان المستكشف عن اهل الكشف وارباب المحبة والولاء أنجح الله آمالك ويسر لك مآلك ويصونك عما عليك ان تحافظ على شعائر دين الإسلام الذي هو الحق الصريح المنزل من الحكيم العلام على خير الأنام بالعزيمة الصحيحة الخالصة عن شوب الرياء والسمعة الصافية عن كدر الهوى والغفلة وتلازم الاستفادة والاسترشاد من كتاب الله ومن أحاديث رسوله صلّى الله عليه وسلّم وكذا ممن سمحت به أكابر الصحابة سيما الحضرة الرضوية المرتضوية وأولاده الكرام وأحفاده العظام سلام الله عليهم وكرم وجوههم والتابعين لهم بإحسان رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وكذا مما جاد به المشايخ العظام والا ماجد الكرام

سورة هود عليه السلام

أنار الله براهينهم وقدس الله أسرارهم وكن في عزمك هذا متوجها الى قبلة الوحدة وكعبة الذات مائلا عن الأديان الباطلة والآراء الفاسدة مصفيا قلبك عن امارات الكثرة والتعدد بحيث ارتفع عنك الالتفات الى نفسك وشأنك ايضا حتى تحل عليك الحيرة المفنية هويتك في هوية الحق المسقطة لتعيناتك رأسا ولا يتيسر لك هذا الا بالركون عن لوازم الطبيعة والخروج عنها وعن ما يترتب عليها من اللذات الوهمية والمشتهيات البهيمية التي هي مقتضيات التعينات العدمية والتشخصات الهيولانية ومتى صفا سرك وسريرتك عن أمثال هذه المزخرفات العائقة عن الاستغراق في بحر الذات قد فزت بما فزت وصرت بما صرت وحكم الله عليك بالخير والحسنى وأسكنك عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى وليس وراء الله مرمى لا حول ولا قوة الا بالله وهو يقول الحق وهو يهدى السبيل [سورة هود عليه السّلام] فاتحة سورة هود عليه السّلام لا يخفى على ذوى العبرة والاستبصار واولى الخبرة والاعتبار من المنقطعين نحو الحق المتأملين في كشف غوامض اسرار توحيده بقدر الاستطاعة والاقتدار بتوفيق من عند العليم القدير المجبولين على الحكمة والتدبير من لدن حكيم خبير. ان مبنى الأمر ومناط هذا الشأن العظيم الذي هو التوحيد والعرفان انما هو على العبودية المحضة والتذلل التام والانكسار المفرط المفضى الى افناء الهويات الباطلة في هوية الحق الحقيق بالحقية وفناء التعينات العدمية فيها وذلك لا يحصل الا بمتابعة الرسول البشير النذير المؤيد من لدن عليم قدير ليرشدهم ويهديهم بالتوجه والتبتل الى اللطيف الخبير إذ مرجع الكل اليه كما ان مبدأه من عنده ومصدره لديه ومعاده اليه كما قال سبحانه. وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين. لذلك اخبر سبحانه لرسوله المبعوث على كافة الخلق المبين لهم طريق الرشد في كتابه المنزل عليه بعد احكام آياته وتفصيلها تأييدا له وتقوية لأمره ليهدى به التائهين عن جادة التوحيد المنصرفين عنها بمتابعة الشيطان المريد فقال متيمنا باسمه العظيم مخاطبا على رسوله الكريم بِسْمِ اللَّهِ الذي احكم آيات كتابه الدالة على توحيده لتكون موصلة الى وحدة ذاته لمن تمسك بها الرَّحْمنِ على عباده بتفصيل تلك الآيات تسهيلا عليهم وتوضيحا لهم الرَّحِيمِ لهم بأمرهم بالعبادة والتذلل ليتحققوا بمرتبة حق اليقين الذي هو الصراط المستقيم [الآيات] الر ايها الإنسان الأحق الأليق لإعلاء لواء لوامع أنوار الألوهية وارتفاع رايات رموز اسرار الربوبية بين الأنام بالبيان والتبيان هذا كِتابٌ انزل إليك لتأييدك في أمرك وشأنك ومصدق لعموم ما في الكتب السالفة جامع لأحكامها وحكمها قد أُحْكِمَتْ ضممت ونظمت آياتُهُ أشد تنظيم وتضميم وابلغ احكام وإتقان بحيث لا يعرضه خلل واختلال أصلا لا في معناه ولا في لفظه لذلك عجزت عن معارضته عموم ارباب اللسان والبيان مع وفور دواعيهم ثُمَّ بعد أحكامه لفظا ومعنى قد فُصِّلَتْ وأوضحت فيه المعارف والحقائق والاحكام المتعلقة بالعقائد والعلوم اليقينية والقصص المشيرة الى العبر والمواعظ والأمثال المشعرة الى الرموز والإشارات الصادرة مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ متقن في أفعاله خَبِيرٍ تصدر منه الأفعال على وجه الخبرة والاعتبار ومن اجلة ما حكم فيه واحكم أَلَّا تَعْبُدُوا ايها الاظلال المجبولون على العبادة حسب الفطرة الاصلية إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي قد أوجدكم وأظهركم من كتم العدم بمقتضى جوده باستقلاله إيجادا إبداعيا بمد ظله عليكم ورش نوره إليكم وقل لهم يا أكمل

[سورة هود (11) : آية 3]

الرسل تبشيرا وتنبيها إِنَّنِي مع كوني من حملتكم وبنى نوعكم لَكُمْ مِنْهُ اى من الله المتوحد بذاته حسب امره ووحيه نَذِيرٌ أنذركم عما يبعدكم عن الحق حتى لا تستحقوا عذابه وعقابه وَبَشِيرٌ ايضا من لدنه سبحانه أبشركم بما بقربكم نحو جنابه حتى تستحقوا الفوز العظيم من عنده سبحانه وَايضا قد حكم فيه أَنِ اسْتَغْفِرُوا واسترجعوا في فرطاتكم رَبَّكُمْ الذي رباكم على فطرة المعرفة والتوحيد ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ وترجعوا نحوه وتوصلوا به سبحانه بعد رفع حجب الانابة عن البين وكشف سدل التعينات الوهمية عن العين يُمَتِّعْكُمْ بعد اضمحلال رسومكم وتلاشى هوياتكم في هويته بالرزق المعنوي والغداء الحقيقي من عنده مَتاعاً حَسَناً بمقتضى نشئات أوصافه وأسمائه وتطورات تجلياته الجمالية والجلالية إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو عبارة عن الطامات الكبرى التي قد انقهرت دونها توهمات الاظلال وتحيلات السوى والاعيار وَبعد تسييركم وتنزيلكم من عالم الغيب متنازلين الى عالم الشهادة لاقتراف المعارف والحقائق وترجيعكم منها اليه متصاعدين اظهار لقدرته وسلطته وكمال حكمته ومصلحته التي لا تنكشف الا له ولا تكتنه الا عنده يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ اى يؤتى ويعطى كلا من ذوى العناية الموفقين على الهداية التي قد خلقوا لأجلها فَضْلَهُ اى حقه وحراءه اى قبل منهم ما اكتسبوا من الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات واقرهم في النهاية على مقر قد نزلوا عنه في البداية وَقل لهم يا أكمل الرسل امحاضا للنصح إِنْ تَوَلَّوْا وتعرضوا وتنصرفوا عن مقتضى إنذاري وتبشيرى فَإِنِّي من غاية اشفاقى لكم وتحننى نحوكم أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ اى من نزول العذاب عليكم سيما يوم العرض الأكبر الذي قد أشرقت فيه شمس الذات الى حيث اضمحلت دونها نقوش الاظلال والعكوس مطلقا وفنى في شروقها السوى والأغيار رأسا ونودي حينئذ من وراء سرادقات العز والحلال عند ارتفاع تراحم الاظلال والأغيار لمن الملك اليوم وأجيب ايضا من وراءها إذ لا مجيب غيره لله الواحد القهار وبالجملة اعلموا ايها الاظلال المقهورة والعكوس المستهلكة إِلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المتجلى في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق مَرْجِعُكُمْ ورجوعكم جميعا رجوع الظل الى ذي الظل والعكوس الى ما انعكس هي منه وَبالجملة هُوَ سبحانه في ذاته مع انه قاهر فوق عباده عَلى كُلِّ شَيْءٍ من صور العذاب والانتقام قَدِيرٌ لا يخرج عن حبطة قدرته مقدور ولا يعزب عن حضرة علمه معلوم مما جرى عليهم من الأحوال أَلا إِنَّهُمْ اى المحجوبين الغافلين من غاية جهلهم وغفلتهم عن الله يَثْنُونَ ويعطفون ويحرفون صُدُورَهُمْ عن الميل الى الحق وعن التوجه نحوه طالبين لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ اى يستروا ويخفوا من الله ما تكن صدورهم من الاعراض عن الحق والمخالفة بأوامره ورسله أَلا انهم لم يعلموا ولم يتفطنوا ان الله المطلع بجميع ما جرى ويجرى في ملكه وملكوته يعلم منهم عموم ما جرى عليهم ولاح منهم حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ ويطلبون التدثر والتغطى بها وقت رقودهم في مضاجعهم بل يَعْلَمُ منهم جميع ما يُسِرُّونَ في ضمائرهم وَما يُعْلِنُونَ بأفواههم ومشاعرهم وكيف لا يعلم سبحانه إِنَّهُ بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته عَلِيمٌ بعلمه الحضوري بِذاتِ الصُّدُورِ وبما هو مكنون فيها من السرائر والضمائر وَكيف يستبعد أمثال هذا من حيطة حضرة علمه المحيط إذ ما مِنْ دَابَّةٍ تتحرك فِي الْأَرْضِ مثلا إِلَّا عَلَى اللَّهِ المتكفل لأرزاق مظاهره ومصنوعاته مطلقا رِزْقُها

[سورة هود (11) : آية 7]

اى ما تعيش وتتقوم به وَمع ذلك يَعْلَمُ منشأها ومصدرها في عالم الغيب ويعلم ايضا مُسْتَقَرَّها اى محل قرارها وبقائها في عالم الشهادة ومقدار ثباتها واستقرارها فيها وَيعلم ايضا مُسْتَوْدَعَها ومرجعها في عالم الغيب بعد انقضاء النشأة الاولى وبالجملة كُلٌّ من الأحوال والأطوار والنشأة الطارية عليها بحيث لا يشذ شيء منها مثبت مسطور يعلم تقديره ومحفوظ فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو حضرة علمه ولوح قضائه وَكيف تنكرون ايها المنكرون احاطة علمه وتستخفون منه سبحانه شيأ من مخايلكم وانى يعزب ويغيب عن علمه شيء مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي خَلَقَ اى أبدع واظهر السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى العلويات والسفليات اللتين هما بمثابة الآباء والأمهات والفواعل والقوابل لنشأتكم وظهوركم فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لتحيطوا بالجهات كلها وَقد كانَ عَرْشُهُ اى مجلاه ومحل بروزه وتشعشع تجلياته قبل ظهور هذه المظاهر والمجالى الكائنة مستويا عَلَى الْماءِ اى على الحيوة المحضة الحقيقية والقيومية المطلقة والديمومية المستمرة الثابتة ازلا وابدا الخالية عن مطلق التغيرات والانقلابات المتوهمة من نقوش التعينات العدمية والتشخصات الهيولانية المترتبة على آثار الأسماء والصفات الإلهية وانما أظهرها سبحانه على هذا التمثال وابدعها على هذا المنوال لِيَبْلُوَكُمْ ويختبركم ايها العكوس والاظلال أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وقبولا وأتم توجها ورجوعا وأكمل تحققا ووصولا في يوم الجزاء وَبعد ما قد نبههم الحق على ما هو الا حق وأوجدهم على فطرة الفطنة والذكاء بمبدئهم ومنشأهم الأصلي لَئِنْ قُلْتَ يا أكمل الرسل تذكيرا لهم وإصلاحا لأحوالهم إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ للحساب والجزاء وتنقيد الأعمال فعليكم اليوم ان تتهيؤا لها وتدخروا لأجلها حتى لا تؤاخذوا ولا تعاقبوا لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا منهم من فرط غفلتهم وقسوتهم بعد ما سمعوا منك قولك هذا إِنْ هذا وما الذي تقول وتفوه هذا الرجل ان وقع وتحقق إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته عظيم امره لو وقع إذ احياء الموتى من العظام الرفات لا يتصور الا بالسحر الخارق للعادات فان وقع فهو في غاية الندارة ونهاية الغرابة وَبعد ما استوجبوا لا سوء العذاب واستحقوا باشد العقاب بكفرهم هذا وانكارهم يوم الجزاء لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ المعد لهم اى إتيانه لحكمة ومصلحة قد استأثرنا بها إِلى أُمَّةٍ اى الى ازمنة وساعات من الأوقات والأحيان مَعْدُودَةٍ قلائل لَيَقُولُنَّ مستهزئين مستسخرين من غاية جهلهم وجحودهم ما يَحْبِسُهُ واى شيء يعوقه ويمنعه عن إتيان ما يدعيه من العذاب ووقوع ما يعد به من الأخذ والبطش أَلا تنبهوا ايها المؤمنون وتذكروا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ العذاب الموعود عليهم لا يخفف عنهم مطلقا بل لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ساقطا عن ذمتهم أصلا بل حل عليهم حتما وَحاقَ وأحاط بِهِمْ جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب الموعود وقت ما انذرهم الرسول. ثم قال سبحانه وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ اى من غاية لطفنا وجودنا الى الإنسان المجبول على الكفران والنسيان ونهاية إحساننا معه وتفقدنا لحاله لئن أعطيناه وفضلنا عليه مِنَّا رَحْمَةً ونعمة تسره وتفرج همه ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ ومنعناها عنه لحكمة اظهار قدرتنا الغالبة وبسطتنا الكاملة إِنَّهُ من قلة تصبره وغاية ضعفه وتكسره لَيَؤُسٌ قنوط من فضلنا ورحمتنا كَفُورٌ لما وصل اليه من نعمتنا وَلَئِنْ أَذَقْناهُ وأنعمنا عليه نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أعجزته وأزعجته لَيَقُولَنَّ مفتخرا مباهيا بطرا قد ذَهَبَ السَّيِّئاتُ المؤلمة المحزنة عَنِّي إِنَّهُ من غاية غفلته عن المنعم

[سورة هود (11) : آية 11]

لَفَرِحٌ فَخُورٌ بطر فرحان مغرور مفتخر بما في يده من النعم مشغول بها عن المنعم وعن شكرها وأداء حقها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على ما أصابهم من السيئات المملة المؤلمة واسترجعوا الى الله لكشفها وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وواظبوا على الخيرات والحسنات وداوموا على الإيثار والصدقات شكرا لما أنعمنا عليهم أُولئِكَ السعداء الصابرون على البلاء الشاكرون على الآلاء والنعماء لَهُمْ مَغْفِرَةٌ اى ستر ومحو لذنوبهم التي قد مضت عليهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ منا إياهم الا وهو الرضاء منهم تفضلا عليهم وامتنانا فَلَعَلَّكَ يا أكمل الرسل من غاية ودادك ايمانهم ونهاية محبتك بمتابعتهم لك تارِكٌ أنت بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ من لدنا مشتملا على توبيخهم وتقريعهم وزجرهم وتشنيعهم كراهة ان يركنوا عنك وينصرفوا عن متابعتك وَضائِقٌ بِهِ اى بسبب ما يوحى إليك صَدْرُكَ مخافة أَنْ يَقُولُوا لو أظهرت عليهم بما اوحيت به لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ بدل هذه التوبيخات والوعيدات من عند ربه ليتابع الناس له أَوْ هلا جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ مصدق لنبوته ورسالته ليطيعوا ويؤمنوا له طوعا بلا كلفة لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبهذياناتهم هذه ولا تخطر ببالك أمثال هذا إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ بلغ عموم ما انزل إليك من الإنذار والتخويف ولا تلتفت الى ردهم وقبولهم وتوكل على ربك وثق به واعتمد عليه فانه يكفى ويكف عنك مؤنة ضررهم وشرورهم وَبالجملة اللَّهُ المراقب عليهم عَلى كُلِّ شَيْءٍ صدر عنهم وَكِيلٌ حفيظ عليهم يعلم منهم ما هو مستوجب للعقوبة والعذاب وما هو موجب للنوال والثواب يجازيهم بمقتضى علمه وخبرته او لم يكف بتصديق نبوتك ورسالتك وصدقك في دعوى الهداية والرشد القرآن المعجز لعموم ارباب اللسن والبيان مع تشددهم في المعارضة والمقابلة أَمْ يَقُولُونَ مكابرة وعنادا افْتَراهُ واختلقه من تلقاء نفسه في نسبته الى الوحى والإلهام تغريرا وترويجا قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما نسبوك الى الافتراء والاختلاق فَأْتُوا ايها المكابرون المعاندون بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ اى مثل اقصر سورة من سور القرآن مُفْتَرَياتٍ مختلقات كما زعمتم مع انكم أنتم أحق باختلاقها لكثرة تمرنكم وتزاولكم في الإنشادات والانشاءات وتتبع كلام البلغاء والتعود بمدارسة القصص والقصائد وان عجزتم أنتم عن اختلاقها بأنفسكم فاستظهروا بإخوانكم ومعاونيكم وَبالجملة ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ واستمدوا منهم واتفقوا معهم في اختلاقها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ظنكم هذا فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ايها المؤمنون ولم يأتوا بما تحديتم إياهم فَاعْلَمُوا ايها المؤمنون واطمئنوا وتيقنوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وبكمال قدرته وارادته لا يمكن لاحد من مظاهره ومصنوعاته ان يأتى بمثله ويعارض معه وكيف يعارض معه سبحانه إذ لا شيء سواه وَأَنْ لا إِلهَ في الوجود إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ منقادون لحكمه مسلمون أموركم كلها اليه مخلصون مطمئنون متمكنون في جادة توحيده بل أنتم بحمد الله ايها الموحدون المحمديون هكذا. ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير مَنْ كانَ بارتكاب الأعمال الشاقة واحتمال شدائدها ومتاعبها يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها المزخرفة التي تترتب عليها من الأموال والأولاد نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها لأجلها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ اى لا ينقص شيء من أجور أعمالهم في النشأة الاولى ان كان غرضهم مقصورا عليها محصورا بها واما في النشأة الاخرى أُولئِكَ القاصرون المقصرون هم الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ

[سورة هود (11) : آية 17]

اى لم يبق لهم مما يترتب على أعمالهم فيها إِلَّا النَّارُ إذ حسناتهم قد وفيت في النشأة الاولى ولم يبق لهم سوى توفية السيئات وليس توفية السيئات الا بالنار وما يترتب عليها من انواع العذاب والآلام وَبالجملة قد حَبِطَ اى ضاع واضمحل عموم ما صَنَعُوا فِيها اى في النشأة الاولى من الخيرات والمبرات بإرادتهم مزخرفات الدنيا الدنية لأجلها وَبعدم إخلاصهم وانعكاس مرادهم باطِلٌ فاسد ضائع جميع ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الصالحات فيها بل قد صارت أعمالهم الصالحة طالحة من خساسة نيتهم وخباثة طويتهم أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ يعنى أتظنون وتحسبون ان من انكشف له برهان واضح وكشف صريح وشهود محقق من قبل ربه وتحقق بمقام التوحيد واطلع على سرسريان الوحدة الذاتية في جميع الكوائن والفواسد وَمع ذلك يَتْلُوهُ ويطرء عليه ويجرى على لسانه شاهِدٌ ناطق بتصديقه نازل مِنْهُ اى من عند ربه امتنانا له وتفضلا عليه يريد ويقصد من أفعاله واعماله الصادرة عنه ظاهرا مثل ما أراد أولئك المحجوبون المستورون عن الحق واحاطته وشموله واستقلاله في الآثار الظاهرة في الآفاق كلا وحاشا هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وبالجملة ما يتذكر منه الا أولوا الألباب وَكيف ينكرون شهادة القرآن على تصديق خير الأنام إذ قد جاء مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن كِتابُ مُوسى من قبل ربه مصدقا له في دعواه وقد صار كتابه بكمال اشتماله على الحكم والاحكام إِماماً وقدوة لقاطبة الأنام وَرَحْمَةً شاملة للخواص والعوام ليهديهم الى دار السّلام وبالجملة أُولئِكَ اى عموم اهل التورية وهم الذين يؤمنون بها ويمتثلون بما فيها يُؤْمِنُونَ بِهِ اى بحقية القرآن لكونه مذكورا في كتابهم المنزل عليهم وَبالجملة مَنْ يَكْفُرْ بِهِ اى بالقرآن وينكر بحقيته مِنَ الْأَحْزابِ المتحزبين مع المحرفين للتورية المنحرفين عن جادة العدالة والايمان فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ لا بد وان يرد عليها بمقتضى العدل الإلهي فَلا تَكُ أنت يا أكمل الرسل فِي مِرْيَةٍ شك وارتياب مِنْهُ اى من ورودهم عليها انجازا لوعده سبحانه إِنَّهُ الْحَقُّ الثابت النازل مِنْ رَبِّكَ لا بد ان يتحقق وقوعه حتما وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لانهماكهم في الغفلة وغلظ حجبهم عن الله لا يُؤْمِنُونَ بحقيته سبحانه وحقية وعده وإنجازه الموعود لذلك حرفوا ما جاء من عند الله في كتابه وزادوا عليه ما لم يجيء من لدنه سبحانه ظلما وعدوانا وَمَنْ أَظْلَمُ على الله مِمَّنِ افْتَرى وقد نسب عَلَى اللَّهِ كَذِباً عمدا وحرف كتابه بتنقيص شيء منه او زيادة عليه قصدا أُولئِكَ الأشقياء المحرفون المجترؤون على الله بتبديل آياته يُعْرَضُونَ في يوم العرض الأكبر عَلى رَبِّهِمْ ويسألون عما فعلوا بكتاب الله فينكرون ويستنزهون أنفسهم عنه وَيومئذ يَقُولُ الْأَشْهادُ ويشهد عليهم الشهود العدول من أعضائهم وجوارحهم إلزاما لهم بانه هؤُلاءِ المسرفون المعاندون الَّذِينَ قد كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ وحرفوا كتابه افتراء ومراء ظلما وزورا وبعد إشهاد هؤلاء الاشهاد نودي من وراء سرادقات العز والجلال تفضيحا لهم وتخذيلا على رؤس الملأ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ وطرده وابعاده عن سعة رحمته نازلة عَلَى الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن مقتضى حكمه وحكمته عنادا ومكابرة وهم الَّذِينَ يَصُدُّونَ ويصرفون عباد الله عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو الشرع المتين المبين المنزل من عنده على أنبيائه ورسله بالعدالة والتقويم وَيَبْغُونَها عِوَجاً اى يريدون ان يحدثوا فيها عوجا وانحرافا ليصرفوا عنها ويرتدوا منها أهلها سيما بعد ايمانهم بها وانقيادهم لها

[سورة هود (11) : آية 20]

فاستحقوا العذاب والنكال الأخروي وَالحال انه هُمْ بِالْآخِرَةِ المعدة للجزاء والانتقام هُمْ كافِرُونَ منكرون لخبث طينتهم وردائه فطنتهم وفطرتهم أُولئِكَ البعداء المسرفون المفترون على الله المفرطون في تحريف كتابه لَمْ يَكُونُوا من اهل الغلبة والاعجاز حتى صاروا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ كل من يتحدى معهم ويعارضهم وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ حتى ينصروهم ويحفظوهم من عذاب الله إياهم ان تعلق ارادته بتعذيبهم في الدنيا وانما امهلهم وأخر عذابهم الى يوم الجزاء ليقترفوا من موجباته وأسبابه اكثر مما كانوا عليه حتى يدوم وبالهم ونكالهم لأجلها بل يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ أضعافا وآلافا لأنهم بسبب اعراضهم عن الحق ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ إذ في آذانهم واسماعهم وقر وصمم وَما كانُوا يُبْصِرُونَ لتعاميهم عن ابصار آثاره ودلائله وبالجملة أُولئِكَ المعزولون عن استماع كلمة الحق وابصار علاماته هم الَّذِينَ قد خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالافتراء على الله بما لا يليق بجنابه باشراك مصنوعاته معه في استحقاق العبادة وَمع ذلك قد ضَلَ وغاب عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الآلهة الباطلة ولم يبق لهم سوى الندامة والخسران لذلك لا جَرَمَ وحق عليهم أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ المقصورون على الخسران والحرمان الأبدي الا ذلك هو الخسران المبين أعاذنا الله منه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وفوضوا أمورهم كلها اليه سبحانه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى جنابه وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ وتضرعوا له مطمئنين خاشعين أُولئِكَ السعداء المقبولون الصالحون المصلحون الخاشعون المخبتون أَصْحابُ الْجَنَّةِ التي هي دار السعداء هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون مطمئنون متمكنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وبالجملة مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ اى المؤمن والكافر في السعادة والشقاوة والهداية والضلال كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ كل واحدة مع نقيضها هَلْ يَسْتَوِيانِ كل من النقيضين مَثَلًا ايها العقلاء أَفَلا تَذَكَّرُونَ التفاوت والتفاضل وهل تتنبهون وتتفطنون وَمن عدم تذكر الإنسان ووفور توغله في الغفلة والنسيان لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً الناجي عما سوى الحق المنجى للهالكين في تيه الضلال إِلى قَوْمِهِ حين ظهر عليهم امارات الكفر والعصيان ولاح منهم علامات الظلم والطغيان قائلا لهم على وجه العظة والنصيحة إِنِّي من غاية اشفاقى وعطفي لَكُمْ نَذِيرٌ من قبل الحق أنذركم من حلول عذابه ونزول غضبه وسخطه بسبب ظلمكم وكفركم مُبِينٌ مظهر مبين لكم ما يوجب تعذيبكم من أفعالكم وأعمالكم الدالة على كفركم وشرككم فعليكم ايها المسرفون المفرطون أَنْ لا تَعْبُدُوا ولا تتوجهوا إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الذي لا شريك له ولا شيء سواه ولا تشركوا به غيره إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ لو أشركتم بالله وكفرتم به عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم مفزع كأن الم العذاب يسرى في زمانه ايضا لفظاعة شأنه وشدة أهواله واحزانه ثم لما سمعوا قوله وفهموا مراده استكبروا عليه واستبعدوا امره فَقالَ الْمَلَأُ اى الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مستكبرين عليه مستهزأين له ما نَراكَ يا نوح إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا كيف تدعى الرسالة والنيابة عن الله والوحى من جانبه وَمع ذلك لا شوكة لك ولا استيلاء ولا حول ولا قوة بسبب المال والأعوان والأنصار حتى تدّعى الرسالة علينا بل ما نَراكَ اتَّبَعَكَ منا إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا اى اسافلنا وادانينا عقلا وجاها سعة ومالا بادِيَ الرَّأْيِ اى يلوح رذالتهم للناظرين في بادى النظر بلا احتياج الى تأمل وتعمق

[سورة هود (11) : آية 28]

وَبالجملة ما نَرى لَكُمْ ايها السفلة الأراذل تابعا ومتبوعا عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ زيادة في العقل والمال والجاه والثروة والرياسة حتى نتبعكم ونقبل منكم قولكم بَلْ ما نَظُنُّكُمْ ونعتقدكم الا كاذِبِينَ في دعويكم مفترين فيها طالبين الرياسة والثروة بسببها بلا اظهار معجزة وبينة واضحة قالَ نوح متحسرا آيسا منهم قنوطا عن ايمانهم بعد ما سمع منهم ما سمع يا قَوْمِ أضافهم مع غاية يأسه بمقتضى شفقة النبوة أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ قد جئت لكم عَلى بَيِّنَةٍ واضحة دالة على صدقى في دعواي نازلة على مِنْ رَبِّي لتأييدى وتصديقى وَمع ذلك قد آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ سبحانه تفضلا وامتنانا مشعرة بنجابتى وطهارتى وصدقى في قولي وتذكيري فَعُمِّيَتْ فخفيت واشتبهت عَلَيْكُمْ الدلائل والشواهد مع وضوحها وسطوعها أَنُلْزِمُكُمُوها بها وَالحال انه أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ تكرهون لها غير ملتفتين إليها ولا متأملين فيها ولا في إشاراتها ورموزاتها وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغى وإرشادي إياكم وهدايتي لكم مالًا جعلا واجرا بل إِنْ أَجرِيَ وما جعلى إِلَّا عَلَى اللَّهِ الذي قد أمرني به وبعثني لتبليغه وَان أردتم ان اطرد من معى من المؤمنين فاعلموا انى ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا وليس في وسعى وطاقتي ان اطردهم وكيف اطردهم إِنَّهُمْ من كمال سعادتهم وصلاحهم مُلاقُوا رَبِّهِمْ الذي قد وفقهم على الايمان والهداية فيخاصم سبحانه مع طاردهم البتة وينتقم عنه لأجلهم وَلكِنِّي أَراكُمْ من خباثة بواطنكم وقساوة قلوبكم قَوْماً تَجْهَلُونَ وتنكرون لقاء الله ولا تعتقدون بحوله وقوته واعانته للمظلوم وانتقامه على الظالم الطارد وَيا قَوْمِ المكابرين المعاندين في طلب طرد المؤمنين مَنْ يَنْصُرُنِي ويدفع عنى مَنْ حلول عذاب اللَّهِ وبطشه وانتقامه على إِنْ طَرَدْتُهُمْ ابتغاء مرضاتكم ومواساة لكم بلا وحى وارد من قبل الحق واذن نازل من عنده أَفَلا تَذَكَّرُونَ ايها المجبولون على العقل المفاض المستلزم للتوحيد والعرفان لينكشف عندكم وتعرفوا عاقبة التماسكم طرد المؤمنين وتوفيقكم عليه وَيا قوم لا أَقُولُ لَكُمْ مدعيا بعدم طردهم وابعادهم عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فاغنيهم بها لذلك لم اطردهم وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ اى انا لا ادعى الاطلاع على غيوب أحوالهم في عواقبهم ومآلهم حتى يكون سبب ودادي لهم وَايضا لا أَقُولُ لكم مباهاة ومفاخرة إِنِّي مَلَكٌ حتى تقولوا ما أنت الا بشر مثلنا وَلا أَقُولُ ايضا لِلَّذِينَ اى للمؤمنين الذين تَزْدَرِي وتستحقرهم أَعْيُنُكُمْ يعنى قد استرذلتموهم وتقولون في حقهم ما نريك اتبعك الا الذين هم أراذلنا بادى الرأى لَنْ يُؤْتِيَهُمُ ولن يعطيهم اللَّهُ خَيْراً ابدا لا في الدنيا ولا في الآخرة إذ حالهم ومآلهم وعواقب أمورهم من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها ولم يطلعني عليها بل اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من الإخلاص والرضاء وبالجملة مالي علم بأحوالهم الا بوحي الله والهامه ولم يوح الى شيء منها وان تفوهت عنهم وعن أحوالهم بلا وحى إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ المجترئين على الله في ادعاء الاطلاع على غيبه رجما به وتخمينا وبعد ما سمعوا من نوح عليه السّلام ما سمعوا قالُوا من فرط عتوهم وعنادهم يا نُوحُ نادوه استهانة واستحقارا قَدْ جادَلْتَنا وخاصمت معنا بالمقدمات الكاذبة الواهية الوهمية فَأَكْثَرْتَ علينا جِدالَنا وبالغت فيها وتماديت فَأْتِنا ايها المكثر المفرط بِما تَعِدُنا من العذاب فانا لن نؤمن بك ابدا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك وبعد ما سمع

[سورة هود (11) : آية 33]

منهم ما سمع قالَ نوح عليه السّلام متأسفا متحزنا مأيوسا قنوطا من ايمانهم يا قوم لست انابآت بموعدى حتى تعجزونى وتضطرونى وتستهزءوا بي بل إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اى بالعذاب الموعود اللَّهُ المنتقم منكم المقتدر على اخذكم وقهركم إِنْ شاءَ انتقامكم وتعلق ارادته لمقتكم وهلاككم وَبالجملة ما أَنْتُمْ حين حلول غضب الله عليكم بِمُعْجِزِينَ الله في فعله واخذه إذ هو القاهر فوق عباده بل أنتم حينئذ عاجزون مضطرون مقهورون وَبالجملة لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي اليوم حتى يلحقكم ما سيلحقكم من العذاب الموعود إِنْ أَرَدْتُ وأحببت أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ لأحفظكم إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ يعنى لا ينفعكم نصيحتي ان تعلق مشيئة الحق في حضرة علمه وسابق قضائه باغوائكم واضلالكم إذ هُوَ سبحانه رَبُّكُمْ ومتولى أموركم وَإِلَيْهِ لا الى غيره من وسائل العكوس والاظلال تُرْجَعُونَ في عموم أموركم وحالاتكم أتريد يا نوح نصحهم وإشفاقهم وهم لا يقبلون منك أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بل هم يقولون قد اختلقه من عنده ونسبه الى الوحى ترويجا وتغريرا قُلْ لهم حين قالوا لك هذا مجاراة عليهم ومماراة لهم إِنِ افْتَرَيْتُهُ واختلقت ما جئت به فَعَلَيَّ إِجْرامِي اى وبال امرى ونكاله عائد على وجزاؤه آئل الى وَالحال أَنَا بَرِيءٌ في نفسي مِمَّا تُجْرِمُونَ وتنسبون أنتم الىّ من الجرائم وَبعد ما بالغوا في العتو والعناد والإصرار على ما هم عليه من الجور والفساد وحان حين أخذهم وانتقامهم أُوحِيَ والهم إِلى نُوحٍ حين ظهر عليهم امارات الإنكار ولاح منهم علامات الاستخفاف والاستكبار أَنَّهُ اى الشان لَنْ يُؤْمِنَ لك ابدا بعد هذا احد مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ لك قبل هذا فاقنط عن ايمانهم ولا تجتهد في هدايتهم وإرشادهم فَلا تَبْتَئِسْ ولا تحزن ولا تغتم من إهلاكنا إياهم وإنزال العذاب عليهم واعلم جزما انهم مهلكون بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من الاعراض والإنكار والعتو والاستكبار وَبعد ما حصل لك اليأس والقنوط عن ايمانهم اصْنَعِ الْفُلْكَ والسفينة لحفظك وحفظ من آمن معك من الغرق بِأَعْيُنِنا اى بكنفنا وجوارنا وحفظنا وحصارنا وَوَحْيِنا لك كيف تصنعها وتشيدها وَبعد ما صنعت لا تُخاطِبْنِي ولا تناج يا نوح معى فِي إنجاء القوم الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالمكابرة والعناد ونبذوا وراء ظهورهم ما جئت به من لدنا من الهداية والرشد إِنَّهُمْ بسبب انهماكهم في الغفلة والغرور مُغْرَقُونَ مهلكون حتما جزما لا نجاة لهم أصلا وَبعد ما أوحاه الحق وامره شرع يَصْنَعُ الْفُلْكَ بتعليم جبرائيل عليه السّلام إياه باذن الله وَقد كان حينئذ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ وطائفة مِنْ قَوْمِهِ حين اشتغاله بصنع الفلك قد سَخِرُوا مِنْهُ واستهزؤا معه لكونه في بادية لا ماء فيها وقالوا له على سبيل التهكم قد صرت نجارا بعد ما كنت نبيا مختارا قالَ لهم نوح المنكشف بما امره الحق له إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا الآن لجهلكم بسر صنيعنا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ ايضا حين كنا على الفلك وأنتم غرقى كَما تَسْخَرُونَ اليوم منا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وتدركون وبال ما أنتم عليه من الاستهزاء والسخرية الزموا مكانكم لتعلموا مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ويرديه منا ومنكم وَمن يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم مستمر وبالجملة هم قد صاروا مصرين على إصرارهم حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وحان حلول أجلنا الذي قد أجلنا وقدرنا لمقتهم وهلاكهم في حضرة علمنا ولوح قضائنا وَفارَ اى نبع وعلا حينئذ التَّنُّورُ المعهود في حضرة علمنا ولوح قضائنا نبع

[سورة هود (11) : آية 41]

ماء الطوفان منه وبعد فوران التنور المعهود وغليانه واطلعت عليه امرأته فأخبرته قُلْنَا له تفضلا عليه وامتنانا احْمِلْ فِيها اى في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ من الحيوانات التي تعيش في البر وفي الهواء اثْنَيْنِ ذكرا وأنثى وَاحمل ايضا عليها أَهْلَكَ اى جميع اهل بيتك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ والحكم منا في سابق قضائنا بانه قد كان من الكافرين المغرقين وَاحمل ايضا فيها جميع مَنْ آمَنَ لك من قومك وَالحال انه ما آمَنَ مَعَهُ من قومه إِلَّا قَلِيلٌ قيل كانوا تسعة وسبعين زوجته المسلمة وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث ونسائهم واثنان وسبعون رجلا من غيرهم والكل مع نوح عليه السّلام. روى انه عليه السّلام قد أتم السفينة وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين وسمكها ثلثين وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحوش وفي أوسطها الانس وفي أعلاها الطير وَبعد ما نبع التنور وانتشر الماء وانبسط على الأرض قالَ نوح بوحي الله إياه والهامه ارْكَبُوا فِيها اى صيروا في جوفها متمكنين واستقروا عليها قائلين متيمنين بِسْمِ اللَّهِ إذ هو سبحانه بحوله وقوته مَجْراها وَمُرْساها حيث أراد إجرائها وارساءها اى إقامتها إِنَّ رَبِّي الذي رباني بلطفه واوحانى بصنعها ونحتها لَغَفُورٌ لمن استغفر له رَحِيمٌ يقبل توبته ويمحو ذلته وينجى عن عذابه فركبوا مسميين متيمنين على الوجه المأمور وَهِيَ اى السفينة تَجْرِي بِهِمْ فِي خلال مَوْجٍ وهو ما ارتفع من الماء من تهييج الرياح عال كَالْجِبالِ الشامخ وَحينئذ نادى نُوحٌ ابْنَهُ المسمى بكنعان وَكانَ فِي مَعْزِلٍ قد اعتزل عنه وانصرف عن دينه فرآه بين الماء فتحرك عطف الأبوة فصاح عليه يا بُنَيَّ صغره واضافه لشدة شفقته وترحمه ارْكَبْ مَعَنا لتنجو من الغرق وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ المغرقين وبعد ما سمع ابنه صيحة أبيه قالَ مستنكرا عليه سَآوِي والتجئ إِلى جَبَلٍ عال يَعْصِمُنِي مِنَ إغراق الْماءِ بشموخه وارتفاعه قالَ يا بنى لا عاصِمَ ولا منجى الْيَوْمَ لاحد مِنْ أَمْرِ اللَّهِ المبرم وحكمه المحكم إِلَّا مَنْ رَحِمَ الحق إياه وأنجاه إذ لا منجى ولا عاصم في الوجود غيره وَحينئذ قد حالَ بَيْنَهُمَا اى بين نوح وابنه كنعان الْمَوْجُ العظيم الهائل فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وصار ابنه من زمرة الغرقى الهالكين وَبعد ما انبسط الماء على وجه الأرض وعلا على اعالى الجبال وإقلال الرواسي وهلك من عليها قِيلَ من وراء سرادقات العز والجلال مناديا آمرا على الأرض والسماء مثل نداء ذوى العقول المكلفين المبادرين الى امتثال الأوامر المأمورة لهم يا أَرْضُ النابعة للماء المخرجة له ابْلَعِي ماءَكِ اى انشفى واقبضى ما نبع عنك من الماء وَيا سَماءُ الماطرة الهامرة أَقْلِعِي وأمسكي ماءك ولا تمطرى 2 إذ يمطر الماء مثل ما نبع من الأرض وَبعد ورود الأمر الوجوبي الإلهي غِيضَ الْماءُ ونقص من نشف الأرض وأقلعت السماء وَقُضِيَ الْأَمْرُ الموعود الذي هو إهلاك الكفار وإنجاء المؤمنين وَبعد انقضاء المأمور المعهود وانجاز الوعد الموعود قد اسْتَوَتْ السفينة واستقرت عَلَى الْجُودِيِّ هو جبل بالموصل وقيل بآمد. روى انه عليه السّلام قد ركب على السفينة عاشر رجب ونزل عنها عاشر المحرم فصام ذلك اليوم فصار صومه سنة سنية منه على من بعده وهو صوم يوم عاشوراء وَبعد إهلاك أولئك الكفرة العصاة الغواة قِيلَ من قبل الحق بُعْداً اى قد بعد بعدا وطرد طردا مقتا وهلاكا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين

[سورة هود (11) : آية 45]

عن مقتضى الوحى الإلهي المكذبين لرسله ابعادا لهم عن ساحة عز الحضور بحيث لا يرجى قربهم وقبولهم أصلا وَبعد ما وقع ما وقع نادى وناجى نُوحٌ رَبَّهُ باثّا له الشكوى في حق ابنه كنعان فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي ايضا مِنْ أَهْلِي وأنت بفضلك وجودك قد وعدتني بنجاة أهلي وَإِنَّ وَعْدَكَ الذي وعدتني به الْحَقُّ الصدق والصريح الذي لا خلف فيه وَبالجملة أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ واقسطهم وأعدلهم بل احكام جميع الحكام راجع الى حكمك يا رب قالَ سبحانه مجيبا له مزيلا لشكويه يا نُوحُ إِنَّهُ اى ابنك بسبب اعتزاله عنك وعن دينك لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إذ لا قرابة ولا الفة بين المؤمن والكافر وكيف يكون من أهلك إِنَّهُ من غاية فسقه وفساده كأنه عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ يعنى هو مسمى به لكونه مغمورا فيه مجسما منه بحيث لا يرجى صلاحه وإصلاحه مطلقا فَلا تَسْئَلْنِ متعرضا معترضا على ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ بوروده على إِنِّي أَعِظُكَ واذكر لك قبيل هذا مخافة أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ اى كذلك منهم بذهولك وغفلتك عما نبهت عليك بالاستثناء السابق يعنى قوله الا من سبق عليه القول وبعد ما سمع نوح من ربه ما سمع قالَ معتذرا الى ربه مستحييا رَبِّ إِنِّي بعد ظهور خطائى وزلتى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ بعد هذا ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا اى وان لم تَغْفِرْ لِي زلتى وسوء ادبى وَلم تَرْحَمْنِي بفضلك وجودك أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ خسرانا مبينا قِيلَ من قبل الله بعد ما غاض الماء واستوت وانكشفت الأرض ويبست يا نُوحُ اهْبِطْ وانزل أنت من السفينة ومن معك مقرونا بِسَلامٍ وسلامة ونجاة وأمن ناش مِنَّا عليك تفضلا وامتنانا وَبَرَكاتٍ وخيرات كثيرة نازلة من لدنا عَلَيْكَ اصالة وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ تبعك تبعا سماهم امما باعتبار العاقبة والمآل وَمن ذرية من معك أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ونربيهم في النشأة الاولى بأنواع النعم ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا في النشأة الاخرى بسبب كفرهم وفسقهم عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم بدل ما تلذذوا بنعم الدنيا وكفروا بها تِلْكَ اى قصة نبينا نوح عليه السّلام مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ اى من بعض اخباره نُوحِيها إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تعليما لك وتذكيرا لأمتك إذ ما كُنْتَ تَعْلَمُها لا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ لا بالدراسة ولا بالتعليم مِنْ قَبْلِ هذا الوحى والإنزال وان طعن المشركون لك ونسبوك الى الكذب والافتراء فَاصْبِرْ على اذياتهم وكن في تبليغك وارشادك على عزيمة خالصة صحيحة إِنَّ الْعاقِبَةَ الحميدة والأجر الجزيل في النشأة الاخرى لِلْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن الميل الى البدع والأهواء ويصبرون على عموم المكاره والأذى حتى يتحققوا بمقام الرضاء ويفوزوا بشرف اللقاء وَبعد ما تناسل قوم نوح وتكاثرت امم منهم فاستكبروا عن طريق التوحيد واتخذوا الأوثان والأصنام آلهة قد أرسلنا إِلى قوم عادٍ العادين عن طريق الحق المتجاوزين عن صراط التوحيد ظلما وعدوانا أَخاهُمْ هُوداً ليهديهم الى طريق الحق والصراط المستقيم قالَ بعد ما أوحينا اليه وإذنا له بتذكير قومه يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه تحننا وإشفاقا على ما هو مقتضى الإرشاد اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا اله الا هو واعتقدوا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق ويرجع اليه في الخطوب غَيْرُهُ إذ لا موجود سواه ولا اله الا هو إِنْ أَنْتُمْ اى ما أنتم بعد ما ظهر الحق باتخاذ الأوثان والأصنام آلهة غيره إِلَّا مُفْتَرُونَ مبطلون في اتخاذها افتراء ومراء يا قَوْمِ اسمعوا قولي واتعظوا به

[سورة هود (11) : آية 52]

وامضوا بمقتضاه واقبلوا نصحى إذ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ولا اطلب منكم عوضا بل انا مأمور بالتبليغ والتذكير من عند العليم الخبير إِنْ أَجْرِيَ وما جعلى إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي وجبلنى على جبلة الهداية والإرشاد أَتشكون في امرى وتترددون في شأنى وتذكيري ونصحى فَلا تَعْقِلُونَ ولا تستعملون عقولكم في أفعالكم القبيحة وأعمالكم الفاسدة الناكبة عن طريق العدالة التي هي صراط الله الأعدل الا قوم وَبعد ما ازدادوا الإصرار والاستكبار وأخذهم الله أولا بعقم الأرحام والأمطار فاضطروا قال هود عليه السّلام يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من فرطاتكم وهفواتكم واطلبوا المغفرة والنجاة منه سبحانه ثُمَّ تُوبُوا واسترجعوا إِلَيْهِ نادمين مخلصين يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ بأمر الله وبمقتضى ارادته مِدْراراً مغزارا وامطارا كثيرة على سبيل التتابع والإدرار تفضلا عليكم وامتنانا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ اى يضاعف أولادكم التي هي قوة ظهوركم وَعليكم ان لا تَتَوَلَّوْا ولا تتعرضوا على الله حال كونكم مُجْرِمِينَ معرضين عنه وعن رسله مصرين على ما أنتم عليه قالُوا بعد ما سمعوا منه ما سمعوا يا هُودُ نادوه باسمه استحقارا له واستكبارا عليه ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ واضحة مثبتة لدعواك حتى نقبل منك قولك وبعد ما لم تجئ إلينا بالبينة الملجئة ما كنا نعتقدك صدوقا صادقا ثقة معتمدا حتى نقبل منك قولك بلا بينة اترك ما أنت عليه من الدعوى الكاذبة وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا التي قد وجدنا آباءنا وأسلافنا لها عاكفين عَنْ قَوْلِكَ وعن مجرد دعواك بلا بينة ودليل وَبالجملة ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ مصدقين بلا شاهد وبينة بل إِنْ نَقُولُ وما نتفوه في شأنك إِلَّا اعْتَراكَ اى سوى هذا القول وهوانك قد أصابك ورماك بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ من جنون وخفة عقل وخبط واختلال حال وقد كنت أنت تسئ الأدب معهم وتذكرهم وتهجوهم بما لا يليق بشأنهم لذلك اصابوك واستخفوا عقلك وبعد ما سمع منهم هود ما سمع ايس من ايمانهم وهدايتهم حيث قالَ أولا مبرئا نفسه من الشرك امحاضا للنصح إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ العالم بسرى واعلانى وخفيات أسراري وَاشْهَدُوا أنتم ايضا ايها الهالكون في تيه الغفلة والغرور على أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أنتم الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس له شريك في الوجود أصلا سيما من العكوس والاظلال الهالكة المستهلكة في أنفسها والتماثيل الباطلة العاطلة المتخذة مِنْ دُونِهِ آلهة سواه سبحانه فَكِيدُونِي اى فعليكم ايها الحمقى المنحطون عن زمرة العقلاء بعد ما سمعتم قولي وحققتم برائتى ان تمكرونى وتصيبونى أنتم وشركاؤكم جَمِيعاً ثُمَّ بعد اليوم لا تُنْظِرُونِ اى لا تمهلوني في امرى ولا تضعفوا ولا تفتروا في مكري إِنِّي قد تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ لا أبالي بكم وشركائكم ولا اتحزن لمكركم ومكرهم بعد ما أتمكن بمقر التوحيد إذ ما مِنْ دَابَّةٍ تتحرك على الأرض إِلَّا هُوَ سبحانه بذاته وبيد قدرته آخِذٌ بِناصِيَتِها اى بوجوهها التي تلى الحق يقودها نحوه ويتصرف فيها كيف يشاء حسب ارادته اختيارا وبالجملة إِنَّ رَبِّي في جميع شئونه وتطوراته عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا اعوجاج له أصلا فَإِنْ تَوَلَّوْا اى ان تتولوا وتعرضوا أنتم عما جئت به من ربي فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ واجتهدت في تبليغه وبذلت وسعى فيه فاعلموا انه لا أبالي انا ولا يبالى الله ايضا بإعراضكم وإصراركم بل ان شاء يستأصلكم وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ ليتعظوا بكم ويعتبروا منكم ومما جرى عليكم وَأنتم بإعراضكم وانصرافكم عنه سبحانه لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً من الإضرار لا بالله ولأبي بل

[سورة هود (11) : آية 58]

إِنَّ رَبِّي من كمال جوده وسعة رحمته عَلى كُلِّ شَيْءٍ كائن في حيطة جوده ووجوده حَفِيظٌ رقيب وَلَمَّا تمادوا في الغفلة والاعراض وبالغوا في الإصرار والاستكبار قد جاءَ أَمْرُنا وجرى حكمنا بالريح فعصفت عليهم السموم وكانت تدخل من أنوفهم أجوافهم فقطعت أمعاءهم فهلكوا ولما أخذناهم بما أخذناهم نَجَّيْنا من مقام جودنا هُوداً الداعي لهم الى سبيل الحق وَايضا قد نجينا الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ ناشئة مِنَّا تفضلا عليهم وامتنانا وَما اقتصرنا على انجاءهم من عذاب الدنيا بل قد نَجَّيْناهُمْ ايضا كرامة منا إياهم مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ معد لأولئك الكفرة في النشئة الاخرى وَتِلْكَ العصاة الغواة المقهورون بقهر الله وغضبه عادٌ المبالغون في العتو والعناد قد جَحَدُوا من غاية غفلتهم وغرورهم بِآياتِ رَبِّهِمْ المنزلة على السنة رسله وَعَصَوْا رُسُلَهُ ايضا بالتكذيب والاستحقار إذ يستلزم تكذيب الواحد تكذيب الجميع وَاتَّبَعُوا من غاية جهلهم ونهاية بغضهم مع الله ورسله أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ مبالغ في التجبر والتكبر عَنِيدٍ متناه في المكابرة والعناد فتركوا متابعة الداعي لهم الى سبيل الرشد وَلذلك أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ايضا وبالجملة قد صاروا متبوعين لأصحاب الطرد والتخذيل في النشأة الاولى والاخرى أَلا تنبهوا يا اولى الأبصار وذوى الاعتبار إِنَّ عاداً المعاندين المكابرين قد كَفَرُوا رَبَّهُمْ نعمه وجحدوا توحيده أَلا بُعْداً طردا وتخذيلا وتبعيدا عن ساحة عز الحضور لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ اردفه بعطف البيان ليتميز من عاد ارم وَبعد ما انقرضوا وانقهروا بما انقهروا قد أرسلنا إِلى ثَمُودَ حين ظهروا بالكفر والشقاق والانصراف عن منهج الرشد باتخاذ الأوثان والأصنام آلهة أَخاهُمْ صالِحاً لأنه اولى وأليق بإرشادهم وهدايتهم قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لم يكن له كفوا احد ولا تشركوا به شيأ إذ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ موجد مظهر لكم من كتم العدم غَيْرُهُ بل هُوَ سبحانه بذاته وبمقتضى أسمائه وأوصافه الذاتية والفعلية قد أَنْشَأَكُمْ وأظهركم مِنَ الْأَرْضِ بامتداد اظلال أسمائه ورش رشحات انواره الذاتية التابعة لتجلياته الجلالية والجمالية وبعد ما أظهركم منها وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها وابقاكم عليها زمانا وربيكم بأنواع اللطف والكرم وبالجملة فَاسْتَغْفِرُوهُ واسترجعوا اليه على ما فرطتم في حقه ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ مخلصين نادمين عسى ان يقبل منكم ويعفو عن زلاتكم إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ لكم يعلم منكم توبتكم وإخلاصكم فيها مُجِيبٌ يجيب دعوتكم ويعفو عن زلتكم قالُوا بعد ما سمعوا منه دعوته وتذكيره يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ أنت فِينا مَرْجُوًّا مستشارا مؤتمنا وقد اعتقدناك سيدا سندا ذا رشد وامانة قَبْلَ هذا الزمان فالآن قد صرت أخرق اخرف ذا خلل ظاهر وخبط متناه أَتَنْهانا أنت وتمنعنا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا ونهيتنا عن عبادة معبوداتنا ومعبودات آبائنا وأسلافنا القديمة وَالحال انه إِنَّنا لَفِي شَكٍّ وتردد عظيم مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من وحدة الا له المعبود بالحق وكذا من بطلان آلهتنا القديمة التي قد وجدنا آباءنا لها عابدون مُرِيبٍ ذي ريبة منتهية الى كمال الإنكار مع انك ايضا لم تأت ببينة معجزة تلجئنا الى تصديقك قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ قد جئت لكم مقرونا عَلى بَيِّنَةٍ واضحة موضحة دالة على صدق ما ادعيت نازلة مِنْ عند رَبِّي لتصديقي وتأييدى وَ

[سورة هود (11) : آية 64]

الحال انه قد آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً نبوة ورسالة تامة مؤيدة بأنواع المعجزات فَمَنْ يَنْصُرُنِي يكفيني ويمنعني مِنْ عذاب اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ سيما في تبليغ رسالته واظهار ما أمرني بإظهاره وأوصاني بنشره وبالجملة فَما تَزِيدُونَنِي حين ابتلائى وأخذ الله إياي بعصيانى غَيْرَ تَخْسِيرٍ على تخسير وتخذيل فوق تخذيل وَبعد ما ايس عن ايمانهم قال يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً دالة على صدقى في دعواي وتأييد الله إياي فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ مسلمة بلا منع وإباء وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ لأجل الماء والكلأ فَيَأْخُذَكُمْ ويلحقكم ان أصبتموها بسوء عَذابٌ قَرِيبٌ اجله وحلوله وبعد ما قد ظهرت الناقة من الصخرة الصماء بين أظهرهم وأكلت كلأهم وشربت ماءهم فتضرروا منها وشاوروا في أمرها وتقرر رأيهم الى قتلها فَعَقَرُوها وأهلكوها ظلما وعدوانا بغيا وطغيانا فَقالَ لهم صالح بعد ما وقع الواقعة الهائلة تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ وعيشوا بعد ما خالفتم حكم الله وقد أتيتم بما قد نهيتم عنه ثَلاثَةَ أَيَّامٍ الأربعاء والخميس والجمعة فوادعوا فيها وتوادعوا واعلموا ان ذلِكَ وَعْدٌ قد اوحى الى من ربي ووعد ربي غَيْرُ مَكْذُوبٍ ولا منسوب الى كذب قط بل صادق مصدوق متيقن مجزوم به لا تشكوا فيه فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بالعذاب المهلك بعد انقضاء الأيام الثلاثة التي قد ظهرت فيها علاماته من اصفرار وجوههم في اليوم الاول واحمرارها في الثاني واسودادها في الثالث نَجَّيْنا من فضلنا وجودنا صالِحاً الذي قد أصلح نفسه وأراد إصلاح نفوسهم فلم يقبلوا إصلاحها بل أفسدوها بأنفسهم وَنجينا ايضا الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وصلحوا باصلاحه بِرَحْمَةٍ نازلة مِنَّا على قلوبهم حتى وفقوا بها على قبول دعوته واظهار الايمان به وبسبب ايمانهم قد نجوا من خزي النشأة الاخرى وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ ايضا إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل الموفق لهم على الايمان والإذعان هُوَ الْقَوِيُّ المحصور على القوة والقدرة إذ لا حول ولا قوة الا به وهو الْعَزِيزُ الغالب على إمضائه وإنفاذه حيث أراد وشاء وَبعد ما أنجاهم الله بلطفه أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالعتو والعناد الصَّيْحَةُ الهائلة المهولة التي قد وعدها الله لإهلاكهم فَأَصْبَحُوا بعد ما سمعوا الصيحة في أثناء الليل فِي دِيارِهِمْ التي قد كانوا متمتعين فيها جاثِمِينَ جامدين ميتين بحيث كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا ولم يسكنوا فِيها أصلا وعند وقوع تلك الواقعة الهائلة قد صاح اصحاب العبرة والاعتبار وأولو الخبرة والاستبصار أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ بكفران نعمه وتكذيب رسله أَلا بُعْداً لِثَمُودَ عن سعة رحمة الحق في النشأة الاولى والاخرى وَبعد ما انقرض أولئك الهالكون في تيه الغفلة والغرور حدث بعدهم قوم لوط المبالغون في الغفلة القبيحة والديدنة الشنيعة عقلا ونقلا ومروة المصرون عليها زمانا الى ان أخذناهم بما أخذناهم وحين أردنا أخذهم لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا اى الملائكة المأمورون لإهلاك قوم لوط إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى والبشارة بالولد بعد ما ايس هو وزوجته عن التوالد والتناسل قالُوا له حين لا قوة سَلاماً اى نسلم سلاما عليك ترحيبا منا إليك وتعظيما قالَ سَلامٌ عليكم دائما مستمرا ايها المستحقون للتحية والترحيب فَما لَبِثَ وما جلس بعد نزولهم الى أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ مشوى ضيافة لهم ونزلا لقدومهم ووضع بين أيديهم فانصرفوا عنه ولم يمدوا أيديهم نحوه فَلَمَّا رَأى ابراهيم أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ ولا يتناولون منه كما هو عادة المسافرين نَكِرَهُمْ اى أنكر منهم عدم أكلهم لان

[سورة هود (11) : آية 71]

الامتناع من الطعام دليل على قصد المكروه لصاحبه وَأَوْجَسَ واهمز مِنْهُمْ خِيفَةً خوفا ورعبا حتى أحسوا منه الخوف وعلامات الرعب قالُوا تسلية له وازالة لرعبه لا تَخَفْ منا إِنَّا وان كنا من اهل الإنذار والإهلاك قد أُرْسِلْنا إِلى إهلاك قَوْمِ لُوطٍ مالنا معك شغل وَحين قالوا له ما قالوا امْرَأَتُهُ اى سارة حاضرة قائِمَةٌ لخدمة الأضياف فَضَحِكَتْ بعد ما سمعت قولهم فرحا وسرورا لأنها كانت تقول اضمم إليك لوطا فانى اعلم ان البلاء ينزل على هؤلاء المسرفين فَبَشَّرْناها اى سارة تفضلا وامتنانا بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ ولده يَعْقُوبَ أب الأنبياء قالَتْ سارة بعد ما سمعت منهم التبشير مستحية مستغربة يا وَيْلَتى ويا هلكتي وفضيحتي أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ قد مضت علىّ تسع وتسعون سنة وَهذا بَعْلِي شَيْخاً فانيا ابن مائة وعشرين سنة وبالجملة إِنَّ هذا التوالد بيننا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ غريب خارق للعادة ان وقع قالُوا ازالة لشكها وتعجبها أَتَعْجَبِينَ وتستبعدين مِنْ أَمْرِ اللَّهِ القادر المقتدر بالقدرة الكاملة وحكمه وحكمته أمثال هذا اى التوالد بينكما تفضلا وامتنانا وما هذا الا رَحْمَتُ اللَّهِ اى انواع فضله وجوده وَبَرَكاتُهُ اى خيراته الكثيرة النازلة عَلَيْكُمْ يا أَهْلَ الْبَيْتِ يعنى اهل بيت الخلة والنبوة إِنَّهُ سبحانه في ذاته حَمِيدٌ يفعل دائما ما يوجب الحمد له مَجِيدٌ محسن كثير الإحسان والانعام المستجلب لانواع المحامد والاثنية فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ اى الخوف والرعب بتسلية الرسل إياه وَجاءَتْهُ الْبُشْرى بما لا ترقب له فيه أخذ يُجادِلُنا اى يجادل مع رسلنا ويناجى معنا فِي حق قَوْمِ لُوطٍ وأخذنا إياهم وما حمله على المجادلة والمناجاة إلا فرط اشفاقه ورقة قلبه إِنَّ إِبْراهِيمَ في نفسه لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام كظيم الغيظ والغضب صبور على عموم المصيبات أَوَّاهٌ كثير التأوه والتأسف من الذنب الصادر عنه مُنِيبٌ رجاع الى الله في جميع حالاته فقاس حالهم على نفسه فأخذ يجادل في حقهم مؤملا انابتهم ورجوعهم قال الرسل له بوحي الله إياهم يا إِبْراهِيمُ المتحقق بمقام الخلة أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال وانصرف عن مدافعة حكم الله المبرم المحكم إِنَّهُ اى الشان قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وثبت منه الحكم بهلاكهم ولا تنفعهم مجادلتكم وممانعتكم وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عن قريب عَذابٌ حتم جزم غَيْرُ مَرْدُودٍ بتقويك وحمايتك وَاذكر يا أكمل الرسل لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً على اشكال مرد ملاح صباح متناسبة الأعضاء وهم ما رأوا طول عمرهم أمثال هؤلاء في الصباحة واللطافة وكمال الرشاقة سِيءَ بِهِمْ اى ساء مجيئهم على هذه الأشكال لوطا ومن آمن معه وَضاقَ مجيئهم على هذه الصور البديعة بِهِمْ ذَرْعاً قد شق واشتد على لوط والمؤمنين امر حفظهم وحضانتهم لأنهم عالمون بقبح صنيع قومهم لو علموا مجيئهم لقصدوا بهم ولهم ايضا مكروها واشتد عليهم ايضا مدافعتهم وإخراجهم إذ هم قد نزلوا ضيفا فاضطر لوط في أمرهم وشأنهم وتحير وَقالَ متأوها متضجرا متأسفا هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ شديد مظلم في غاية الشدة والظلمة وَبعد ما انتشر خبر نزولهم جاءَهُ قَوْمُهُ متجسسين يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ويطوفون حول بيته سريعا ويطلبون فرصة الدخول عليهم ويحتالون لدفع لوط والمؤمنين وَهم قوم خبيث مِنْ قَبْلُ قد كانُوا من غاية خباثتهم يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الخارجة عن مقتضى العقل والنقل والمروة وحين اضطر لوط من تبخترهم وترددهم ولم ير في نفسه مدافعتهم ومقاومتهم

[سورة هود (11) : آية 79]

قالَ لقومه من غاية غيرته وحميته في حق أضيافه يا قَوْمِ هؤُلاءِ الإناث بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ان أردتم الوقاع فَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور وَلا تُخْزُونِ ولا تخجلوني فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ ايها المجبولون على فطرة الإدراك رَجُلٌ رَشِيدٌ ذو مروءة وعقل كامل قالُوا في جوابه مبالغين مقسمين والله لَقَدْ عَلِمْتَ يقينا ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ اى ميل وحظ بل انما عرضت بناتك علينا لنترك اضيافك وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ يقينا ما نُرِيدُ ثم لما اضطر لوط عليه السّلام من مسارعتهم ومماراتهم قالَ مشتكيا الى الله مناجيا نحوه لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ادفع بها خزيي وخزي أضيافي لا دفعكم بتوفيق الله واقداره أَوْ آوِي وارجع حين ظهور عدم مقاومتى ومدافعتي معكم إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ هو حفظ الله وكنف وقايته وجواره وحصين حضانته وحصاره ثم لما رأى الرسل اضطرار لوط واضطرابه إذ هو غلق على أضيافه باب بيته فيجادل مع قومه ويتكلم معهم عند الباب وبعد ما امتدت مجادلته معهم قصدوا ان يثقبوا الجدار فاشتغلوا بالثقب والنقب قالُوا اى الرسل بعد ما بلغ الم لوط غايته يا لُوطُ لا تغم ولا تضطرب في أمرنا ولا تهلك نفسك غيرة وغيظا إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ابدا ولن ينالوا باضرارنا حتى اضطررت من أجلنا ذرنا معهم واخرج أنت من بيننا فخرج لوط عليه السّلام مفتحا باب بيته فدخلوا على الرسل بالفور فضرب جبرئيل بجناحه على وجوههم فأعماهم فانقلبوا خارجين صائحين النجاء النجاء فان في بيت لوط سحرة وبعد ما خرجوا فاقدين أبصارهم قال الرسل امر اللوط فَأَسْرِ اى سر ليلا بِأَهْلِكَ وبمن آمن معك بِقِطْعٍ اى بعد مضى طائقة مِنَ اللَّيْلِ وَبعد ما خرجتم لا يَلْتَفِتْ ولا ينظر مِنْكُمْ ايها الخارجون أَحَدٌ خلفه حين سمع حنينهم وأنينهم وتشدد العذاب عليهم إِلَّا امْرَأَتَكَ فإنها تلتفت البتة حين سمعت الصيحة فخرجوا على الوجه المأمور فنزل عليهم العذاب بعد خروجهم بالفور فصاحوا صيحة عظيمة ولم يلتفت احد من الخارجين الا مرأته فلما سمعت التفتت وصاحت وا قوماه فاصيبت هي ايضا بلا تراخ ومهلة إِنَّهُ اى الأمر والشان في علمنا مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ فلما سمع لوط من الرسل ما سمع واستسرع الى مقتهم من شدة ضجرته منهم قالوا له إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ اى موعد هلاكهم صبح هذه الليلة أَلَيْسَ الصُّبْحُ ايها المستعجل بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا على رسلنا باهلاكهم جَعَلْنا اى جعل الرسل باقدارنا وتمكيننا إياهم قريتهم عالِيَها سافِلَها اى يقلبون عليهم بيوتهم وَمع ذلك قد أَمْطَرْنا من جانب السماء عَلَيْها اى على أماكنهم وقراهم حِجارَةً تتحجر مِنْ سِجِّيلٍ وهو معرب سنك وكل مَنْضُودٍ ممتزج منضد بعضها على بعض مُسَوَّمَةً معلمة مقدرة عِنْدَ رَبِّكَ وحضرة علمه ولوح قضائه لإهلاك هؤلاء البغاة الغواة الهالكين في تيه الغفلة والغرور بها وَبالجملة ما هِيَ اى أمثال هذه البليات والمصيبات مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن حدود الله وعن مقتضيات أوامره ونواهيه بِبَعِيدٍ غريب حتى يستغرب في حقهم وَاذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين المعتبرين من ذوى الاستبصار والاعتبار وقت إذ أرسلنا إِلى مَدْيَنَ حين بالغوا التطفيف والتخسير في المكيلات والموزونات أَخاهُمْ ومن شيعتهم شُعَيْباً المتشعب منهم ليكون ادخل في نصحهم واجهد في هدايتهم وإرشادهم قالَ موصيا لهم متحننا على وجه الشفقة والنصيحة يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد

[سورة هود (11) : آية 85]

الصمد الفرد الذي ليس له شريك في الوجود والألوهية والربوبية وتيقنوا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ مظهر لكم وكذا لعموم ما ظهر وما بطن غيبا وشهادة غَيْرُهُ بل الألوهية محصورة عليه مقصورة له منحصرة بذاته إذ لا شيء سواه ولا يستحق للعبادة الا هو وَعليكم ايها المأمورون من عنده بالاعتدال والاقتصاد في جميع الأخلاق والأفعال والأحوال ان لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ لبنى نوعكم إِنِّي أَراكُمْ وأخبركم بِخَيْرٍ اى سعة ورفاهية فائضة من الله عناية لكم وتفضلا عليكم فعليكم ان تزيدوها وتديموها بالشكر والإنصاف والانتصاف على مقتضى ما أمرتم به من عند ربكم وَان لم تسمعوا منى نصحى ولم تقبلوا قولي إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ من غيرة الله ومن كمال قهره وسطوة جلاله عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ فيه عذابه على عموم اهل الزيغ والضلال المنحرفين عن جادة الاعتدال وَبعد ما قدم المنهي للعناية والاهتمام بشأنه اردفه بالمأمور للتأكيد والمبالغة وزيادة التقرير والاحكام كأنه قد استدل عليه لمزيد اشفاقه بهم وكمال مرحمته إياهم فقال يا قَوْمِ ان أردتم خير الدارين ونفع النشأتين أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ على عباد الله لا تزيدوا عليهما ولا تنقصوا منهما إذ كلا الطرفين مذمومان بلا وفيهما فاوفوهما بِالْقِسْطِ والعدل السوى وَعليكم ان لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ في حال من الأحوال وَبالجملة لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ولا تظهروا عليها بالمكر والخداع والحيف والبخس والتطفيف وبالجملة بَقِيَّتُ اللَّهِ التي قد قدرها لعباده في حضرة علمه خَيْرٌ لَكُمْ ومزيد لأموالكم من تطفيفكم وتنقيصكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله وبكمال تدبيراته وتقديراته وَاعلموا يا قوم ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ احفظكم عن جميع ما لا يعنيكم بل ما انا الا مبلغ ما أرسلت به إليكم فلكم الامتثال والتوفيق من الله الكبير المتعال ثم لما سمعوا منه ما سمعوا قالُوا له مستهزئين متهكمين يا شُعَيْبُ المدعى دعوة الخلق الى الحق أَصَلاتُكَ الكثيرة التي تصليها في خلواتك تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام والأوثان أَوْ أَنْ نَفْعَلَ ونتصرف فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا يعنى أتأمرك صلاتك ان نترك أفعالنا التي قد كنا عملنا بها في ازدياد أموالنا وبضائعنا حسب ارادتنا واختيارنا إِنَّكَ ايها الداعي للخلق الى الحق لَأَنْتَ الْحَلِيمُ ذو الحلم والكرم لا تعجل في الانتقام الرَّشِيدُ العاقل الكامل الكافل لا تتكدر بأمثال هذه الأوهام وبالجملة ما قالوا له أمثال هذا الا استهزاء وسخرية قالَ شعيب عليه السّلام بعد ما تفرس بنور النبوة استهزاءهم يا قَوْمِ الساعين للباطل المصرين عليه أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ قد جئت لكم ملتبسا عَلى بَيِّنَةٍ مصدقة لي ناشئة مِنْ قبل رَبِّي معجزة لعموم من يقابلني ويعارضني وَمع ذلك قد رَزَقَنِي مِنْهُ اى من عنده سبحانه رِزْقاً حَسَناً معنويا وصوريا وروحانيا وجسمانيا فهو لا يليق بمثلي ان يفترى عليه سبحانه وينسب اليه امر ما لم يوح اليه من عنده كذبا او بهتانا وَاعلموا ايضا انى ما أُرِيدُ بنهي لكم عن التطفيف والتبخيس أَنْ أُخالِفَكُمْ فيما أنتم عليه وارجع انا بنفسي إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ لاستبد واتخصص به وبالجملة ما هذا الا إفساد وميل عن جادة الحق وصراط الله الا قوم فكيف يميل سيما الموحد المؤيد من عند الله بأنواع اللطف والكرم واصناف المعجزات الخارقة للعادات الى أمثال هذا بل إِنْ أُرِيدُ وما اقصد إِلَّا الْإِصْلاحَ مقدار مَا اسْتَطَعْتُ وَما انا متكفل للإصلاح ايضا ومدّع للاستقلال به إذ ما تَوْفِيقِي وليس اقتدارى وتمكينى وما حولي وقوتي

[سورة هود (11) : آية 89]

إِلَّا بِاللَّهِ إذ لا حول ولا قوة بالأصالة الا بالله لذلك عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وثقت والتجأت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ارجع وأتوقع في عموم ما رجوت إذ هو مولاي ومتولى أموري وعليه اعتمادي واعتضادى وَبعد ما تفرس منهم العصبية والمراء قال على مقتضى المحبة والشفقة وإرخاء العنان يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي اى لا يحملنكم بغضي وعداوتي المركوزة في قلوبكم على الجرائم المستجلبة لانواع العذاب والنكال إياكم وبالجملة انى أخاف عليكم أَنْ يُصِيبَكُمْ بسبب جرائمكم وعصيانكم مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ مثل ما أصاب قَوْمَ هُودٍ أَوْ مثل ما أصاب قَوْمَ صالِحٍ وَبالجملة ما قَوْمُ لُوطٍ وقصة استئصالهم وإهلاكهم وتقليب أماكنهم عليهم مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ متماد في البعد بحيث يحصل لكم الذهول عنه لقرب عهدهم وَيا قوم اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ الذي قد أظهركم من كتم العدم من جميع فرطاتكم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ وأخلصوا في انابتكم ورجوعكم نحوه ولا تغتموا بعد اخلاص التوبة بما جرى عليكم من الجرائم إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ يقبل توبتكم ويعفو زلتكم الصادرة عنكم فيما مضى وَدُودٌ يحبكم حينئذ ويرحمكم ويتفضل عليكم وبعد ما قد بالغ عليه السّلام في نصحهم وإرشادهم قالُوا له تسفيها وتخويفا يا شُعَيْبُ نادوه باسمه على سبيل الاستهزاء والاستحقار ما نَفْقَهُ ونعقل كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ اى بعض هذياناتك التي قد تكلفت أنت بها وَإِنَّا وان لم نفهم بعض كلماتك لابتنائها على الخبل والخرق لَنَراكَ في بادى الرأى فِينا ضَعِيفاً في غاية الضعف والحقارة وَبالجملة لَوْلا رَهْطُكَ اى عشائرك واقوامك لَرَجَمْناكَ بالحجارة البتة بسبب هذياناتك هذه وذكرك آلهتنا بالسوء ودخلك على أفعالنا وتصرفاتنا فيها وَاعلم يقينا انك بنفسك ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ بل عزتك عندنا بسبب رهطك لكونهم إخواننا في الدين فلا نريد إذا هم بقتلك والافتتان بك ورجمك وبعد ما ايس شعيب عليه السّلام عن ايمانهم قالَ يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه هنا تهكما بخلاف ما مضى إذ قد قنط عن صلاحهم بالمرة أَرَهْطِي واقوامى أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ الذي أوجدكم من كتم العدم فعززتموهم وراعيتم جانبهم وَاتَّخَذْتُمُوهُ اى الله سبحانه وأوامره ونواهيه واطاعة رسوله وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا مطروحا منبوذا وراء ظهوركم بل قد رجحتم جانب المصنوع المرجوح على صانعه الراجح وبالجملة إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ من المفاسد مُحِيطٌ بعلمه احاطة حضور بحيث لا يغيب عنه شيء فيفصلها عليكم ويجازيكم بها وَيا قَوْمِ الناكبين عن طريق الحق المصرين على الباطل اعْمَلُوا ما شئتم عَلى مَكانَتِكُمْ وعلى مقتضى مرتبتكم وشأنكم اىّ عمل شئتم إِنِّي ايضا عامِلٌ على شأنى سَوْفَ تَعْلَمُونَ أنتم وانا ايضا مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ ويرديه وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ منا بالله بسر ربوبيته وتوحيده وَارْتَقِبُوا وانتظروا وترقبوا أنتم بالعذاب والنكال إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ متربص منتظر وَلَمَّا جاءَ ونفذ أَمْرُنا باهلاكهم نَجَّيْنا وأخرجنا أولا من بينهم شُعَيْباً الناجي وَكذا الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وامتثلوا بما أمروا به من عنده بِرَحْمَةٍ نازلة مِنَّا إياهم تفضلا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم حين صاروا في فراشهم بائتين الصَّيْحَةُ الهائلة فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ التي كانوا مترفهين فيها جاثِمِينَ جامدين جثمانهم وأجسامهم بلا روح وصاروا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا ولم يسكنوا فِيها فصاح عليهم من صاح من ارباب الفطنة والعبرة أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ وَبعد ما انقرض أولئك الطغاة الغواة المهلكون في الغي والضلال

[سورة هود (11) : آية 97]

المفسدون في الأرض بأنواع الإفساد والإضلال لَقَدْ أَرْسَلْنا حين حدث على الأرض أمثال ما حدث في ازمنة أولئك الهالكين بل هؤلاء أسوأ منهم حالا وأقبح شيمة منهم وخصالا وأشد منهم بغضا وشكيمة على الحق واهله عبدنا مُوسى اى المختص من لدنا بتكليمنا بِآياتِنا الدالة على توحيدنا واستقلالنا في ملكنا وملكوتنا وَسُلْطانٍ اى قد أيدناه من لدنا بحجة واضحة وبرهان قاطع مُبِينٍ ظاهر الدلالة على صدقه في دعواه عند من له ادنى مسكة إِلى فِرْعَوْنَ الذي هو رأس اهل الضلال ورئيسهم حيث يتفوه بالالوهية من غاية عتوه واستكباره وَمَلَائِهِ المعاونين له في امره وشأنه ثم لما أمهلنا زمانا على غروره ورفعنا قدره في هذه الدنيا وصيرنا مسرورا تغريرا عليه مكرا وتلبيسا الى حيث فَاتَّبَعُوا من على الأرض أَمْرَ فِرْعَوْنَ وامتثلوا بمقتضاه وَالحال انه ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ وما حكمه وشأنه بِرَشِيدٍ هاد الى الحق موصل الى مقصد التوحيد بل هو غار موصل الى تيه الضلال والتقليد المستلزم للدخول الى نار الخذلان وسعير الحرمان إذ هو بنفسه يَقْدُمُ قَوْمَهُ ويتقدم عليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ التي قد انكشفت فيها السرائر واضمحلت الأوهام والضمائر فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ مثل إيرادهم على ماء نيل في دار الدنيا شبه حالهم في النشأة الاخرى بحالهم في النشأة الاولى لذلك عبر عنه بالإيراد وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ نار الخذلان وجحيم الحرمان وَهم من غاية خبثهم وفسادهم أُتْبِعُوا فِي هذِهِ النشأة لَعْنَةً دائمة مستمرة وَيلعنون ايضا يَوْمَ الْقِيامَةِ بأضعاف هذه اللعنة وآلافها إيفاء لها وزيادة عليها وبالجملة بِئْسَ الرِّفْدُ والعون والعطاء الْمَرْفُودُ المعان المعطى رفدهم وعونهم الذي هو عبارة عن طردهم ولعنهم في الدارين وحسب النشأتين ذلِكَ المذكور مِنْ أَنْباءِ الْقُرى واخبارهم وما جرى عليهم نَقُصُّهُ عَلَيْكَ بالوحي يا أكمل الرسل ليكون عبرة لك ولمن تبعك مشاهدة وتذكيرا إذ مِنْها اى من تلك القرى ما هو قائِمٌ جدرانها بلا سقوف وَمنها ما هو حَصِيدٌ مدروس مندك كالزرع المحصود قد عفت آثاره واندرست اطلاله وَبالجملة ما ظَلَمْناهُمْ باهلاكهم وتخريب ديارهم وَلكِنْ هم قد ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ باتخاذ مصنوعاتنا آلهة أمثالنا مستحقة للعبادة ظنا منهم ان آلهتهم تنفعهم لدى الحاجة وتشفعهم وقت الشفاعة فَما أَغْنَتْ وما كفت وما دفعت عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ظلما وزورا مِنْ شَيْءٍ اى شيأ قليلا من القضاء لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وحين نزل عذابه وحل عقابه إياهم بل وَما زادُوهُمْ آلهتهم حين حلول العذاب عليهم غَيْرَ تَتْبِيبٍ اى هلاك وتخسير فوق هلاك وتخسير إذ هم بسبب عبادة هؤلاء قد صاروا مطرودين عن سعة رحمة الله وجوده وَكَذلِكَ اى ومثل ما سمعت يا أكمل الرسل أَخْذُ رَبِّكَ وانتقامه وبطشه وقت إِذا أَخَذَ الْقُرى وحين انتقم من أهلها بظلمهم وعصيانهم وَالحال انه هِيَ ظالِمَةٌ خارجة أهلها عن مقتضى الأمر الإلهي ونهيه وبالجملة إِنَّ أَخْذَهُ للمسرفين الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية أَلِيمٌ مؤم شَدِيدٌ في غاية الشدة والإيلام لكونهم مبالغين في الإصرار والاستكبار إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من قصص الأمم الهالكة لَآيَةً عظة وتذكيرا عظيما وعبرة كاملة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ وحساب الله إياه فيها على رؤس الملأ والاشهاد إذ ذلِكَ اليوم يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ اى يجمع ويحشر الناس فيه لأجل الحساب والجزاء وَايضا ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ يشهد فيه الجميع للجميع بل الجوارح والآلات على صاحبها

[سورة هود (11) : آية 104]

وَما نُؤَخِّرُهُ ونسوقه الى يوم الموعود والعذاب المعهود فيه إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ اى الى انقضاء مدة قصيرة اذكر يا أكمل الرسل عظة وتذكيرا لمن تبعك يَوْمَ يَأْتِ ذلك اليوم الموعود الهائل لا تَكَلَّمُ فيه نَفْسٌ ولا تشفع شافع لشدة هوله وفزعه إِلَّا بِإِذْنِهِ اى باذن الله واقداره إياها فَمِنْهُمْ اى من الموقنين في المحشر يوم العرض الأكبر شَقِيٌّ قد خرج من الدنيا على الشقاوة ووخامة العاقبة وَمنهم سَعِيدٌ قد خرج منها على السعادة وحسن العاقبة فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا في الدنيا وخرجوا منها على الشقاوة فَفِي النَّارِ اى هم في النشأة الاخرى داخلون في النار مضطرون مضطربون فيها إذ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ اى إخراج نفس من شدة الحرارة وَشَهِيقٌ اى رده يعنى حالهم فيها كحال من استولت الحرارة على قلبه وضاق الأمر عليه فيردد نفسه كما في سكرة الموت وما ذلك الا من شدة كربهم والمهم ولكونهم متناهيين في الشقاوة والقساوة في دار الدنيا لا ينقطع عذابهم فيها أصلا بل صاروا خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ اى ما تحقق الجهتان الحقيقيتان اى الفوق والتحت إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وتعلق ارادته ومشيته بإخراج البعض منها كفساق المؤمنين وبالجملة إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وله الاختيار التام في عموم مراداته ومقدوراته ومن جملتها إخراج بعض العصاة عن نيران الإمكان وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا في الدنيا وخرجوا على السعادة منها فَفِي الْجَنَّةِ اى هم في النشأة الاخرى في الجنة التي أعدت للسعداء الآمنين الفانين الفائزين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ متنعمين فيها مترفهين بأنواع النعم الجسام إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وتعلق ارادته ان يرفعهم بأعلى منها الا وهو الانكشاف الذاتي والتجلي الشهودى كل ذلك لمن يعطى عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ متناه مقطوع إذ لا انقطاع للتجليات الذاتية ولا للذاتها المترتبة عليها بالنسبة الى الفائزين بها جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم وبعد ما تبين حال السعداء المقبولين والأشقياء المردودين فَلا تَكُ أنت يا أكمل الرسل فِي مِرْيَةٍ شك وتردد مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ المشركون ان يستجلب عليهم العذاب والنكال كما استجلب على أسلافهم إذ هم ما يَعْبُدُونَ لأوثانهم وأصنامهم إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ وأسلافهم إياها مِنْ قَبْلُ فيلحقهم مثل ما لحقهم لان اشتراك الأسباب يوجب اشتراك المسببات بالضرورة وَإِنَّا وان امهلناهم زمانا في الدنيا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ وحظهم من العذاب في الآخرة مثلهم غَيْرَ مَنْقُوصٍ عن عذابهم عدلا منا إياهم وَكيف لا نوفى العذاب على المشركين لَقَدْ آتَيْنا من عظيم جودنا مُوسَى الْكِتابَ اى التورية حين نشأ الجدال والمراء والكفر والفسوق بين بنى إسرائيل واضمحلت العدالة بالكلية فَاخْتُلِفَ فِيهِ مثل اختلافهم في كتاب الذي هو أفضل الكتب علما واحاطة واجمعها حكما وأشملها معرفة وأكملها حقيقة وكشفا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في انظار هؤلاء الكفرة وإمهالهم الى يوم القيمة لَقُضِيَ حكم وفصل بَيْنَهُمْ الآن بحيث يتميز المحق من المبطل فيلحق المبطلين وبال ما صنعوا فهلكوا كما هلكوا وَإِنَّهُمْ اى كفار قومك يا أكمل الرسل من غاية انهماكهم في الغفلة وتماديهم في العناد والاستكبار لَفِي شَكٍّ مِنْهُ اى من امر القرآن مع انهم قد عارضوا معه مرارا فأفحموا مُرِيبٍ موقع في الريب والشك سيما بالنسبة الى الخرق المنحطين عن التأمل في مرموزاته والتدرب في إشاراته ثم قال سبحانه وَإِنَّ كُلًّا اى ما كلا

[سورة هود (11) : آية 112]

من المؤمنين المحقين والكافرين المبطلين لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ويوفون عليهم حين يحشرون ويعرضون على الله للحساب والجزاء بلا زيادة ولا تنقيص إظهارا للقدرة الغالبة الكاملة والعدالة التامة الشاملة رَبُّكَ الذي أظهرهم من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة أَعْمالَهُمْ اى اجورها وجزاءها ان خيرا فخير وان شرا فشر وكيف لا يوفيهم ولا يوفر عليهم سبحانه أجورهم إِنَّهُ سبحانه بذاته وأوصافه وأسمائه بِما يَعْمَلُونَ من الخير والشر والصلاح والفساد والعبادة وتركها خَبِيرٌ على وجه الحضور بحيث لا تغيب عن حضوره غائبة ولا تخفى عليه خافية ومتى تفطنت يا أكمل الرسل بخبرة الحق وحضوره تفطنا شوقيا وتنبهت تنبها وجدانيا حضوريا وانكشفت بها انكشافا عينيا شهوديا فَاسْتَقِمْ واعتدل في اوصافك وافعالك وأقوالك كَما أُمِرْتَ من قبل ربك وبموجب وحيه والهامه عليك وَامر ايضا بالعدالة والاستقامة مَنْ تابَ مَعَكَ وآمن لك واتبعك وَبالجملة لا تَطْغَوْا ولا تميلوا ولا تخرجوا ايها المتحققون بحقية التوحيد واستقامة صراطه ولا تنحرفوا عن سبيل السلامة التي هي جادة الشريعة المصطفوية أصلا إِنَّهُ سبحانه بذاته بِما تَعْمَلُونَ من عموم الأعمال الموجبة للعدالة او الانحراف بَصِيرٌ لا يخفى عليه شيء ولصعوبة الامتثال بهذه الآية الكريمة قال صلّى الله عليه وسلّم شيبتني سورة هود وقال ايضا صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية قصمت ظهور أنبياء الله وأوليائه وَبالجملة لا تَرْكَنُوا ولا تميلوا ميلة يسيرة ولا تلتفتوا التفاتا قليلا ايها المستوون على صراط الحق المستقيمون في جادة عرفانه وتوحيده إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وخرجوا عن حدود الله الموضوعة لإصلاح احوال عباده فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بادنى الميلة والالتفات وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ينقذونكم من النار لو توالونهم وتداومون الميل إليهم ثُمَّ اعلموا انكم لو اخترتم موالاة الظلمة واتخذتموهم إخوانا كسائر المؤمنين لا تُنْصَرُونَ أنتم ولا تنقذون من النار بولايتهم ونصرهم ايضا فعليكم ان لا تتخذوا الكفار اولياء من دون المؤمنين وَأَقِمِ الصَّلاةَ وداوم يا أكمل الرسل على الميل والركون الى الله بجميع الأعضاء والجوارح في عموم الأوقات والحالات سيما طَرَفَيِ النَّهارِ اى قبل الطلوع وقبل الغروب فإنهما وقتان محفوظان عن وسوسة الأوهام خاليان عن الشواغل غالبا وَعليك ان تختلس الفرصة لتوجهك زُلَفاً في آنات وساعات مِنَ أواخر اللَّيْلِ قريبة بالنهار فان مجرد اقدامك عليها وإقامتك لها حسنات سيما في تلك الساعات الخالية عن وساوس الشواغل والخيالات إِنَّ الْحَسَناتِ الخالية عن شوب الرياء والرعونات يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وتصفى صاحبها عن كدر الغفلات ذلِكَ اى الأمر بالاستقامة على المتذكرين الذين يذكرون الله في السراء والضراء ويتعظون بجميع ما جرى عليهم من الخصب والرخاء انما هو ذِكْرى وعظة كافية وتذكرة وافية لِلذَّاكِرِينَ الله في عموم أحوالهم وحالاتهم وَبالجملة اصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل على أذاهم واكظم غيظك فان الصبر على المصيبات من أعظم الحسنات والمثوبات فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ سيما على من أساء إليهم فَلَوْلا وهلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ الذين قد خلوا مِنْ قَبْلِكُمْ فيهم أُولُوا بَقِيَّةٍ وتقية وذووا رأى ونهية وفضل وتدبير يَنْهَوْنَ برأيهم الصائب وتدبيرهم المتين عَنِ الْفَسادِ الواقع فِي الْأَرْضِ لكن اليوم ما بقي منهم عليها احد إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ اى من عقلائهم ليتبع لهم العوام فينجوا من الآثام وَمع ذلك لم يتبعوا حتى ينجوا بل اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا

[سورة هود (11) : آية 117]

أنفسهم بالعرض على عذاب الله وبالخروج عن مقتضى حدوده في ما أُتْرِفُوا فِيهِ اى المترفهون المتنعمون من ذوى اللذات والشهوات فاهتموا بتحصيل اسبابها وَكانُوا بميلهم الى مقتضيات الهوى واللذات الجسمانية مُجْرِمِينَ مستحقين لانواع العقوبات وَما كانَ رَبُّكَ وليس من سنته وجرى عادته لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ اى بسبب شرك وكفر صدر عنهم وَأَهْلُها والحال ان أهلها مُصْلِحُونَ على الأرض لا مفسدون عليها يعنى لا يأخذهم سبحانه بمجرد حق الله بلا انضمام حقوق العباد اليه بل انما أخذهم الله حين فشا الفسوق والمراء وظهر الفساد والجدال بين العباد كيف وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ من غاية لطفه لعباده بمقتضى جماله لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً متفقة على التوحيد بلا مخالفة منهم وَلكن قد اظهر وأوجد البعض بمقتضى الجمال والبعض الآخر بمقتضى القهر والجلال لذلك لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الهداية والضلالة والسعادة والشقاوة إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وجعل فطرته على صرافة الوحدة وَلِذلِكَ التوحيد والعرفان قد خَلَقَهُمْ وأظهرهم سبحانه وَبالجملة قد تَمَّتْ وجرت كَلِمَةُ رَبِّكَ بوضع الاختلاف بين استعدادات عباده حسب شئونه وتجلياته بمقتضى أوصافه المتضادة وأسمائه المتقابلة بحسب الكمال لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ التي قد أعدت للأشقياء المردودين المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية والقسط الحقيقي مِنَ الْجِنَّةِ اى الشياطين وَالنَّاسِ التابعين لهم والمقتفين أثرهم أَجْمَعِينَ من جنسهما جميعا وَكُلًّا اى كل قصة نَقُصُّ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ العظام من جملة ما نُثَبِّتُ بِهِ ونقرر على مقر التوحيد فُؤادَكَ إذ بكل قصة من القصص المذكورة ينشرح صدرك لقبول التوحيد ونزول الوحدة الذاتية وَقد جاءَكَ وحصل لك فِي هذِهِ القصص الْحَقُّ اى الشهود الكامل والانكشاف التام المطابق للواقع خاصة وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ الذين يصدقونك ويقتفون اثرك وَقُلْ يا أكمل الرسل لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بك وبدينك وكتابك مماراة لهم ومباهلة اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ اى عمل شئتم إِنَّا عامِلُونَ ايضا على مكانتنا وشأننا بتوفيق الله إيانا وَانْتَظِرُوا باى شيء انتظرتم إِنَّا ايضا مُنْتَظِرُونَ بالعواقب وَالغايات عند الله العالم بالسرائر والخفيات إذ لِلَّهِ خاصة لا لغيره من الوسائل والأسباب العادية غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والاطلاع عليهما وعلى مكنوناتهما وَإِلَيْهِ لا الى غير يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ إذ لا مرجع سواه ولا آمر الا هو فَاعْبُدْهُ يا أكمل الرسل حق عبادته وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ حق التوكل والتفويض وَما رَبُّكَ يا أكمل الرسل المحيط حضرة علمه بعموم ذرائر الأكوان احاطة حضور بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ من العبادة والإخلاص والتبتل والتوكل والرضا والتسليم وكذا من نقائضها خاتمة سورة هود عليه السّلام عليك ايها الموحد المحمدي المأمور بتهذيب الأخلاق من الرذائل والأوصاف من الذمائم والأفعال من القبائح والأقوال من الكواذب وعموم الأطوار من المخالفات المنافية لصرافة الوحدة ان تستقيم وتعتدل حسب عزائمك في هذه الأمور على الوجه المأمور لنبيك الذي هو قبلة جميع مقاصدك بقوله تعالى فاستقم كما أمرت واعتدل بجميع ما صدر عنك فلك ان تقتفى اثره صلّى الله عليه وسلّم

سورة يوسف عليه السلام

في عموم احوالك من امتثال الأوامر واجتناب النواهي وتهذيب الأخلاق والأطوار إذ هو صلّى الله عليه وسلّم زبدة ارباب التوحيد الواصلين بمقعد الصدق ومقام التفريد. والسابقون واللاحقون كلهم مقتبسون من مشكاة انواره ومصابيح اسراره صلّى الله عليه وسلّم فعليك ايها المستفيد المسترشد من الكلام المجيد ان تضبط عموم احوالك على الاستقامة والاعتدال وتجتنب عن كلا طرفي الإفراط والتفريط وتستعيذ بالله عن مداخلة الرياء والسمعة المنافيين للإخلاص واعلم ان خير قرينك في طريقك هذا الرضا والتسليم والتوكل والتفويض الى العزيز العليم ولك اختيار العزلة والفرار عن الخلطة والاجتناب عن الانخراط في سلك اهل الثروة واصحاب الغفلة ودوام القناعة بالكفاف والعزوبة بالعفاف سيما في زمانك هذا وإياك إياك ان تفرق همك وتشغل خاطرك في امور دنياك ولو لحظة حتى لا تورثك هما كثيرا وحزنا طويلا إذ المسافر في منزله لا يتصرف الا بمقدار مقيله اما تسمع قول النبي الأديب الأريب. كن في الدنيا كأنك غريب. واشدد حيازيمك للموت والرحيل. كأنك عابر سبيل. وبالجملة لا تغتر بحياتك في دار الغرور. وعدّ نفسك من اصحاب القبور. فهذا دأب اهل السرور. وديدنة ارباب الحضور. جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم [سورة يوسف عليه السّلام] فاتحة سورة يوسف عليه السّلام لا يخفى على من تأمل في صور الرؤيا وتدبر في كيفية ظهورها وانمحائها سريعا وترتب الآثار الغريبة على تعبيراتها ان الوجود الخيالى الطف الموجودات وأرقها وأصفاها عن كدر الهيولى وأشبهها بالتجليات الإلهية المتجددة المتشعشعة دائما الا ان الآثار الغيبية التي هي منتزعة عنها مأخوذة منها ستوجد البتة لذلك وجب العبور عنها والتعبير لها ولهذا صار الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزء من أجزاء النبوة الا ان المطلعين عليها والمتأملين فيها لا يكونون الا ممن خصه الله بالنفوس القدسية والمرتبة الحدسية المتفرعة على التمرن والرسوخ في كشف سرسريان الوحدة الذاتية المتجلية على ذرائر المكونات وكذا في كيفية رقائق المناسبات والارتباطات الواقعة بين أجزاء المظاهر وجزئياتها والمتصف المتحقق بهذه المرتبة العلية في غاية الندرة إذ بواسطة ذلك الاتصاف قد صارت كمالاتهم اللائقة لنشأتهم كلها بالفعل وصاروا بذلك مستحقين للخلافة والنيابة الإلهية ومنهم يوسف الصديق صلوات الله عليه وسلامه قد أحاط بمقتضيات حضرة الخيال الى حيث لم يشذ عن تعبيره صورة من صور الرؤيا كما اخبر عنه الحق سبحانه في هذه السورة ويفصح عنه التواريخ والآثار المروية عن النبي المختار صلّى الله عليه وسلّم ثم لما أراد سبحانه ان يشير الى مرتبته صلّى الله عليه وسلّم وينبه على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بعلو شأنه وسمو رتبته ذكر قصته في كتابه تتميما لسعة دائرة كمال حبيبه صلى الله عليه وسلّم والمقتفين اثره صلّى الله عليه وسلّم من خلص اولياء الله لينال كل منهم الى ما قدر الله لهم من لطفه وحظوظ المراتب العلية فقال متيمنا باسمه الكريم بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بكمالاته على حضرة الخيال الرَّحْمنِ لعباده بالعبور عنها الى صور الهياكل العينية والتمثال الرَّحِيمِ لهم أوصلهم الى كيفية ظهوره بالتفصيل والإجمال [الآيات] الر ايها الإنسان الأكمل اللائق الرشيد لرفع لواء سرائر الربوبية ورموز التوحيد وتمييز أجل لباب الرؤيا والروايات الواردة البينة عن قشورها تِلْكَ العبر والأمثال والقصص والآثار المذكورة لك فيما يتلى عليك يا أكمل الرسل لتأييدك وارتفاع شأنك آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الذي هو عبارة عن حضرة علمنا المحيط المشتمل

[سورة يوسف (12) : آية 2]

على عموم مراداتنا ومقدوراتنا إِنَّا من مقام عظيم لطفنا وجودنا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً منظما على صور الألفاظ والعبارات مترجما عما عليه الأمر في حضرة علمنا الحضوري عَرَبِيًّا أسلوبه عناية منا إليكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ معناها وتطلعون على مرموزاتها وإشاراتها وتطرحون عقولكم المموهة لكم لكشف سرائرها وخفياتها نَحْنُ من كمال لطفنا معك يا أكمل الرسل نَقُصُّ عَلَيْكَ تأييدا لأمرك تعظيما لشأنك أَحْسَنَ الْقَصَصِ سماعا واستماعا وأكملها انتفاعا وأشملها عبرة وأتمها فائدة وأعمها عائدة إذ الفطن اللبيب قد استفاد منها من العبر والتذكيرات والرموز والإشارات ما يكفى مؤنة سلوكه في امر دينه لو كان من ذوى الرشد واهل الخبرة والبصيرة وانما علمنا هالك ونبهنا عليك ملتبسا بِما أَوْحَيْنا وبمقتضى ايحائنا وانزالنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ المخبر عن المغيبات المكنونة المخزونة في حضرة علمنا ولوح قضائنا وَإِنْ كُنْتَ أنت في نفسك مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل وحينا والهامنا إياك لَمِنَ الْغافِلِينَ اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ حين بلغ الحلم وترقى من الطفولية يا أَبَتِ ناداه تحننا اليه إِنِّي رَأَيْتُ في المنام أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً من الكواكب العظام وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ايضا معهن رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ جميعا واضعين جباههم على تراب المذلة والهوان عندي تعظيما وتكريما جمعها جمع العقلاء باعتبار ما يئول اليه ويأول به ثم لما تفرس أبوه من رؤياه ما تفرس بادر الى نهيه ومنعه عن الانتشار والإفشاء لإخوته حيث قالَ له أبوه قبل ان يشتغل بتأويلها وتعبيرها يا بُنَيَّ صغره تلطفا عليه وإشفاقا وتخوفا من كيد اخوته معه لا تَقْصُصْ ولا تذكر رُؤْياكَ التي قد رأيتها عَلى إِخْوَتِكَ لئلا يحسدوا لك من ارتفاع شأنك فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً باغواء الشيطان إياهم ويحتالوا لمقتك وهلاكك حسدا ومكرا عليك وبالجملة إِنَّ الشَّيْطانَ المغوى المضل لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة محيل عظيم يعاديهم في لباس الصداقة ويفسدهم في صورة الإصلاح ثم لما سارع يعقوب عليه السّلام بالنهى عن الإفشاء تحذيرا وتخويفا له من كيد اخوته اشتغل بتأويل رؤياه فقال وَكَذلِكَ اى ومثل اراءتك هذه الرؤيا وتخصيصك بها يَجْتَبِيكَ وينتخبك رَبُّكَ من بين الناس ويخصك بالرياسة العظمى والمرتبة العليا إلا وهي النبوة والنيابة الإلهية وَبعد ما يصطفيك ويجتبيك يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ اى يخصصك بعلم الرؤيا وتعبيرها بحيث قد انكشف لك حضرة الخيال انكشافا تاما وَبالجملة يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَبوسيلتك عَلى آلِ يَعْقُوبَ وبنيه وأحفاده ومن ينتمى اليه من ذرياته وان سفل كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ وجديك مِنْ قَبْلُ في سالف الزمان يعنى إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ قد أعطاهما من الانعام والإفضال ما لم يعط أحدا من الخلة والإنجاء والانقاذ والفدية والخلاص وغير ذلك من النعم الجسام إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك بأنواع اللطف والكرم عَلِيمٌ بعلمه الحضوري باستعدادات عباده على مقتضى ما ثبت في لوح قضائه اجمالا حَكِيمٌ في صور تفاصيله وفق الإجمال بحيث لا يشذ عن حيطة علمه شيء واعلم يا أكمل الرسل انه لَقَدْ كانَ فِي قصة يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وما جرى بينهم من الحيل والمخادعات وإسقاط المروءة وانواع الخيانات والجنايات الناشئة من القوى الطبيعية التي هي من مقتضيات الهيولى ولوازم الأركان والإمكان ومن الانابة والرجوع منها الى الله في الخلوات واظهار الندم والاستحياء من الله ومن يوسف وأبيه آياتٌ دلائل واضحات وشواهد لائحات دالة على سرائر التوحيد واسرار العرفان

[سورة يوسف (12) : آية 8]

لِلسَّائِلِينَ عن دقائق المعارف والحقائق ورقائق الايمان والعرفان لو تأملوا في رموزها وإشاراتها واعتبروا منها اذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالُوا اى اخوة يوسف حين بثوا الشكوى من أبيهم في خلواتهم حاسدين على يوسف وأخيه والله لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ بنيامين أضافوه اليه لكونه من امه وهم ليسوا كذلك أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا يؤانس بهما ويتحنن نحوهما وَنَحْنُ عُصْبَةٌ فرقة ذووا قوة وكفاية نحن نستحق وننبغى ان يحننا ويلتفت إلينا وبالجملة إِنَّ أَبانا في تفضيل المفضول وترجيح المرجوح لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر المخالفة بالعقل والعرف فعليكم ايها الاخوان ان تتأملوا في امر أبيكم وتحتالوا لمقت يوسف وهلاكه حتى لا يلحق العار عليكم ولا يمحقكم الحقد والحسد وبالجملة اقْتُلُوا يُوسُفَ حتى ييأس أبوكم منه ويقبل نحوكم بالمرة أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً بعيدة عن العمران غاية البعد حتى ينساه أبوه وحينئذ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ اى يخص ويخلص لكم مواجهة أبيكم خاليا عن اغياركم ويقتصر حينئذ التفاته وتحننه نحوكم وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ اى بعد فقد يوسف عن نظر أبيكم وغيبته من عنده قَوْماً صالِحِينَ لخدمته وصحبته وموانسته او المعنى بان تتوبوا بعد ما قد صدر عنكم هذه الجريمة وتكونوا من بعده قوما صالحين تائبين نادمين وبعد ما شاوروا في مقت يوسف وطرحه وطرده قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ وهو يهودا وكان أحسنهم رأيا لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ إذ نحن عترة الأنبياء لا يليق بنا قتله بلا رخصة شرعية وَان أردتم ان تدفعوه عن عند أبيكم أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ الذي على متن الطريق يَلْتَقِطْهُ ويذهب به بَعْضُ السَّيَّارَةِ اى بعض السائرين في اقطار الأرض الواردين على الماء فلا طريق لكم لطرده وتبعيده سوى هذا إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قاصدين جازمين ان تفعلوا معه ما يبعده عن وجه أبيه وبعد ما سمعوا من يهودا ما سمعوا فقد استقر رأيهم على ما رأى فأخذوا يحتالون ويمكرون لينالوا ما قصدوا به فاجتمعوا يوما عند أبيهم تحننا عليه وتواضعا قالُوا له على سبيل الشكوى واظهار الحزن يا أَبانا نحن بنوك وعبيدك ويوسف أخونا وقرة أعيننا وقوة ظهرنا ما لَكَ واى شيء منا وصل إليك وحصل دونك لا تَأْمَنَّا ولا تجعلنا أمينا مشفقا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا في أنفسنا لَهُ لَناصِحُونَ مشفقون حافظون حارسون مريدون الخير له ثم لما تفرسوا بان كلامهم قد اثر في أبيهم ولاح منه امارات الرضا والتسليم أخذوا في المكر حيث قالوا متضرعين اليه متحننين نحوه أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً نخرج الى الصحراء مستنشقين يَرْتَعْ ويتفكه من انواع الفواكه وَيَلْعَبْ بأنواع اللعب من الاستباق والانتضال تفريجا وتفريحا وَلا تخف من ان يلحقه مكروه إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ بجمعنا من عموم المكاره وبعد ما قد الحوا بما الحوا بالغوا بما بالغوا قالَ أبوهم إِنِّي من شدة محبتي وشوقي اليه وتحننى وعطفي نحوه لَيَحْزُنُنِي مفارقته وأَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَمع ذلك أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لان ارضنا هذه مذئبة وَأَنْتُمْ من شدة شغلكم على الرتع واللعب عَنْهُ غافِلُونَ حينئذ ذاهلون عن حصانته وحفظه وبعد ما سمعوا منه كلامه قالُوا على وجه الاستبعاد والإنكار مقسمين تغريرا وتأكيدا لمكرهم وخداعهم والله لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَكيف اكله إذ نَحْنُ عُصْبَةٌ وجماعة أقوياء وذوو عدة وعدة وقدرة وقوة إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ ضعفاء ذليلون مغبونون انما قالوا ذلك على سبيل التشدد واظهار الجرأة والشجاعة كأنهم يستدلون على عدم وقوع المحذر به فَلَمَّا احتالوا وبالغوا في المكر والحيلة الى ان ذَهَبُوا بِهِ اى

[سورة يوسف (12) : آية 16]

بيوسف الى الصحراء فاشتغلوا أولا بضربه وشتمه والقهر عليه وانواع العذاب والعقاب وكادوا ان يقتلوه ظلما وعدوانا قال لهم يهودا أنتم قد عهدتم ان لا تقتلوه فما هذه المبالغة والاشتداد في زجره ايها الجاهلون المفرطون اما تستحيون من الله وَبعد ما قال لهم يهودا هذا أَجْمَعُوا واتفقوا على أَنْ يَجْعَلُوهُ ويطرحوه فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وهو جب مشهور بجب يوسف على ثلثة أميال من صفد يعقوب قريب بجسر يقال له جسر يعقوب بفرسخ تقريبا فقربوه على الجب وعزموا على القائه فيها فتعلق يوسف بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا منه قميصه ليلطخوا بالدم الكذب فالقوه مربوطة اليدين على الماء وكان فيها صخرة عظيمة فجلس عليها عريانا قلقا حائرا حزينا مضطربا مستوحشا وَبعد ما القوه وقضوا الوطر عنه قد أزلنا وحشته وكربه عنه عناية منا إياه بان أَوْحَيْنا وألهمنا من مقام لطفنا وجودنا إِلَيْهِ لا تغتم ايها الصديق الصدوق من صنيع هؤلاء الغواة الهالكين في تيه الحسد والعناد انا بمقتضى كرمنا وإحساننا لنفضلنك عليهم ونمكننك على انتقامهم بحيث لَتُنَبِّئَنَّهُمْ وتحدثنهم أنت معاتبا عليهم منتقما منهم بِأَمْرِهِمْ هذا معك وحيلتهم ومكرهم مع أبيك وَهُمْ في تلك الحالة لا يَشْعُرُونَ انك يوسف لعلو شانك وارتفاع قدرك وسلطانك اصبر ايها الصديق على أذاهم في الحال فان لك السطوة والسلطنة عليهم في المآل وَبعد ما فعلوا بيوسف ما فعلوا قد جاؤُ أَباهُمْ ملتبسين محتالين عِشاءً في آخر اليوم يَبْكُونَ صائحين صارخين فزعين فجعين تغريرا على أبيهم وتزويرا فلما سمع يعقوب صياحهم واضطرابهم فقال ما لكم واين يوسف قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ ونتسابق بالعدو والرمي واستمر تسابقنا زمانا وَقد تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا لحفظها فغفلنا عنه بغرور السباق فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وكنت قد تطيرت من أول الأمر فوقع وَقد كنا نعلم منك يا أبانا ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ مصدق لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ فيما أخبرنا لك لسوء ظنك بنا وفرط محبتك بيوسف وَبعد ما تفرسوا منه الإنكار والاستبعاد جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ اى معه بِدَمٍ كَذِبٍ يعنى جاءوا حال كونهم مثبتين لدعواهم بدم كذب ملطخ بقميصه مفترين بالذئب بانه قد اكله وبعد ما جاءوا بالقميص الملطخ طلبه منهم أبوهم فألقاه على وجهه فبكى بكاء فظيعا فجيعا وتمادى في البكاء زمانا طويلا حتى احمر وجهه من الدم الملطوخ به ثم كشف القميص فرآه لم يمزق فقال ما رأيت ذئبا احلم من هذا الذئب قد أكل ابني ولم يمزق قميصه ثم قالَ متوجها إليهم ما جئتم به معتذرين على ليس بمطابق للواقع بَلْ قد سَوَّلَتْ زينت وسهلت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً بإلقاء الشيطان وتعليمه إياكم لتعتذروا به على فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أجمل على فيما ابتليت به وما امرى وشأنى سوى هذا وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى احتمال ما تَصِفُونَ بألسنتكم ايها المسرفون المفسدون المفرطون إذ لا طاقة لي بحمله الا بعون الله واقداره وَبعد ما مضى ثلثة ايام على الإلقاء جاءَتْ سَيَّارَةٌ رفقة وقفل عظيم يسيرون من مدين الى مصر فنزلوا قريب الجب فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ الذي قد كان يرد الماء للاستقاء وهو مالك بن ذعر الخزاعىّ فَأَدْلى دَلْوَهُ وألقاها لإخراج الماء فتدلى بها يوسف فأخرجها فرآه قالَ مستبشرا فرحانا يا بُشْرى تعالى فهذا أوانك إذ هذا الذي قد خرج في الدلو بدل الماء غُلامٌ صبيح مليح في كمال الصباحة والملاحة وَبعد ما أخرجه هو ومن معه من رفقائه أَسَرُّوهُ واخفوا امره ليكون بِضاعَةً لهم وقت

[سورة يوسف (12) : آية 20]

وصولهم الى مصر ليشتروه ويقسموا ثمنه وَاللَّهُ المطلع مخايل عباده عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ ويأملون وهم يسرونه في نفوسهم ولما اطلع اخوة يوسف على قدوم السيارة ونزولهم حول الجب تسارعوا نحوهم ليبيعوه لهم حتى يخلصوا منه بالمرة فوصلوا الجب ولم يجدوه فبادروا نحو القفل وتجسسوا فوجدوه عندهم فقالوا لهم هذا عبدنا قد ابق منا ان اشتريتم نبيعه على ما رضيتم وأقر يوسف ايضا على الرقية خوفا من القتل ولم ينكر عليهم وَبالجملة شَرَوْهُ بعد اعترافه بالرقية وباعوه بِثَمَنٍ بَخْسٍ مبخوس منقوص دَراهِمَ لا دنانير مَعْدُودَةٍ قليلة وَانما شروه بها إذ هم قد كانُوا فِيهِ اى في شأن يوسف وفي حقه مِنَ الزَّاهِدِينَ الراغبين المعرضين عنه لذلك باعوه بها وبعد ما اشتراه مالك بن ذعر من اخوته بما اشتراه ذهب به الى مصر بضاعة فلما أوصله الى مصر وأراد ان يبيعه فسلمه الى النخاس فباعه وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ وهو العزيز الذي قد كان على خزائن ملك مصر واسمه قطفير او اطفير حين ذهب به الى بيته لِامْرَأَتِهِ زليخا أو راعيل أَكْرِمِي مَثْواهُ وأحسني حاله ومعاشه وتلطفى معه بأنواع اللطف والشفقة انى أتفرس منه الرشد والنجابة عَسى أَنْ يَنْفَعَنا بعقله ورشده وكفايته وتدبيره أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً يستخلف منا لأنه كان عقيما فأراد ان يتبناه وَكَذلِكَ اى مثل ما عطفنا قلب العزيز عليه بعد قهر اخوته وفرقة أبيه وأخيه وغربته من وطنه في صغر سنه ووحشته في غيابت الجب وذلة رقيته قد مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وجعلناه متصرفا عليها ذا قدرة واختبار تام ورشد كامل ليتصرف فيها كيف يشاء وَلِنُعَلِّمَهُ وننبه عليه مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ الواقعة في عالم الكون والفساد وطريق الرشد والعدالة ليصل بها الى العدالة الحقيقية الحقية التي هي عبارة عن النبوة والنيابة الإلهية وَبالجملة اللَّهُ المدبر لأمور عباده غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ المراد له المتعلق لمصالح عموم عباده وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ غلبته سبحانه واستقلاله في امره وتصرفه في ملكه لذلك اشتغلوا بخلاف مراده والسعى في ابطال مشيته كاخوة يوسف فلم يصلوا الى ما قصدوا وَلَمَّا بَلَغَ يوسف أَشُدَّهُ وكمال عقله وقوته وأوانه في الغالب ما بين الثلثين والأربعين قد آتَيْناهُ انجازا لما وعدنا عليه في سابق علمنا وقضائنا حُكْماً حكومة بين الناس مقارفة بالقسط والعدل السوى وَعِلْماً بسرائر الأمور ورقائق المناسبات ومن جملتها تعبير الرؤيا وَكَذلِكَ اى مثل ايتائنا إياه من الفضائل والفواضل المقدرة له في لوح القضاء نَجْزِي عموم الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب معنا في عموم حالاتهم اتقاء منا وتوجها إلينا وَاذكر يا أكمل الرسل اتقاء يوسف الصديق من الله سيما وقت اشتغال نار الشهوة في عنفوان الشباب وحين راوَدَتْهُ وخادعته والحت عليه بالوقاع الامرأة الَّتِي هُوَ اى يوسف فِي بَيْتِها والحال انه هي سيدة له حاكمة عليه وهي زليخا امرأة العزيز وقد احتالت عليه بأنواع الحيل حتى تخرجه عَنْ نزاهة نَفْسِهِ ونحبة فطرته الا وهي العصمة والعفاف وتوقعه الى ما تهواه نفسها وهو الوقاع والسفاح وَبالغت في ذلك المكر والاحتيال الى ان غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ السبعة يوما عليه وخلت معه في بيت وَقالَتْ متحننة عليه معرضة نفسها اليه هَيْتَ لَكَ يعنى بادريا يوسف الى التعانق والجمع معى قالَ يوسف حينئذ بمقتضى نجابة النبوة وطهارة الفطرة والفطنة بالهام الله إياه مع سورة شهوته ووفور ميله اتقاء من محارم الله ورعاية لحق من احسن اليه مَعاذَ اللَّهِ اى أعوذ بالله معاذا والوذ نحوه سبحانه ان يعصمني عن أمثال هذه الفعلة الذميمة

[سورة يوسف (12) : آية 24]

والديدنة القبيحة سيما مع من يربيني ويحسن الى فكيف إِنَّهُ اى الشان هذا رَبِّي يربيني بأنواع اللطف والكرم سيما قد أَحْسَنَ مَثْوايَ وأوصلني بإحسانه فكيف اسئ في مقابلة احسان محسنى ومتولى امرى ومتولى نعمى وبالجملة إِنَّهُ اى الشان لا يُفْلِحُ ولا يفوز الظَّالِمُونَ بالخير والحسنى لو خرجوا عن مقتضى الأمر الإلهي سيما بالإساءة في مقابلة الإحسان وَبعد ما قد رد يوسف عليها أمرها وبالغت هي فيه ولم تفد بل هي لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ اى قصدت وتعلقت زليخا به ارادة واختيارا وَهَمَّ يوسف ايضا بِها بمقتضى بشريته مع انه لا ارادة له بمرادها ولا اختيار إذ الكف عن المنهي لا بد وان يكون عند القدرة عليه والا لم يكن ممدوحا ولا مستوجبا للمثوبة والقربة لَوْلا أَنْ اى ان يوسف رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ودليله الواضح الدال على قبح الزنا واساءة المحسن بإلقاء الله إياه والهامه في قلبه لهلك البتة بطغيان نيران القوة الشهوية لكن قد رآه باراءة الله إياه فأبى وامتنع وبالجملة كَذلِكَ فعلنا معه وألهمنا عليه لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ في مقابلة الإحسان وَالْفَحْشاءَ بدل العصمة والعفاف إِنَّهُ اى يوسف الصديق مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ الخالصين عن رين البشرية وشين شهويتها وغضبيتها المنزهين عن مقتضيات القوى البهيمية مطلقا وبعد ما قد غلب على يوسف الاتقاء عن محارم الله بمقتضى البرهان الذي قد رآه باراءة الله إياه بادر نحو الفرار منها وقصد ان يخرج من البيت وقصدت ايضا ان تمنعه عن الخروج وَاسْتَبَقَا الْبابَ وتسابقا نحوه فسبقها يوسف فأخذت ذيل قميصه وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ وشقت ذيله مِنْ دُبُرٍ إذ هي في عقبه ففتح يوسف الباب فخرجا متعاقبين مضطرين وَأَلْفَيا سَيِّدَها وصادفا زوجها لَدَى الْبابِ وعنده قالَتْ مسرعة باكية على سبيل الشكاية ما جَزاءُ واى شيء مكافاة مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً وقصد الزنا معها مكرها إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ غير ان يقيد ويدخل في السجن أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم أشد من السجن وانما فعلت كذلك وبادرت الى الشكوى متباكية لتظهر براءتها وعفتها عند زوجها وتحمل الخطأ على يوسف لتنتقم عنه او تلينه وترضيه وتضطره الى إنجاح مرادها منه مع انها قد شغفها حبا بحيث لم تصبر عنه لخطة قالَ يوسف حينئذ مستحييا من ربه يا سدى مالي في ذلك خطأ بل هِيَ بنفسها قد راوَدَتْنِي وخادعتنى عَنْ نَفْسِي مرارا وأمرت على بالفعل الشنيع تكرارا فلم اقبله منها ولم ارض به وَبعد ما تعارضا عند السيد قد شَهِدَ شاهِدٌ هو صبي في المهد شهد في غير أوانه إذ هو رضيع لم يتكلم بعد بإنطاق الله إياه واقداره عليه وأبهم في الشهادة وأجمل إذ هو مِنْ أَهْلِها وابن عمها او ابن خالها فقال الشاهد الرضيع إِنْ كانَ قَمِيصُهُ اى قميص يوسف قُدَّ وشق مِنْ قُبُلٍ ومن قدامه فَصَدَقَتْ زليخا وَهُوَ اى يوسف مِنَ الْكاذِبِينَ في دعوى البراءة والتنزه وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ وخلف فَكَذَبَتْ هي في دعوى العصمة والبراءة وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيما ادعى من البراءة والعفة فَلَمَّا رَأى اى السيد قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ تفرس الى براءته وطهارة ذيله مع ان الشاهد ايضا ليس من ارباب الولاية إذ هو صبي رضيع في المهد لم يتكلم الا بهذا فكوشف من نجابته وعفته ما كوشف وتوجه نحو زوجتها وقالَ مقرعا عليها معرضا إياها إِنَّهُ وما وقع من أمثال هذا الأمر والشان مِنْ كَيْدِكُنَّ ومكركن أيتها المحتالات إِنَّ كَيْدَكُنَّ وحيلتكن أيتها الماكرات المفسدات عَظِيمٌ من كيد الشيطان ومكره إذ الشيطان قد يستعين

[سورة يوسف (12) : آية 29]

ويستمد منكن وقت اضطراره ثم لما انكشف الأمر عند العزيز وجزم بطهارة ذيل يوسف ونجابة طينته بادر الى ستره واخفائه خوفا من الفضيحة فقال مناديا ليوسف أولا لصدقه وطهارته يا يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا التكلم واسكت منه واكتمه في سرك فقد ظهر على صدقك وبراءتك وَاسْتَغْفِرِي أنت ايضا يا زليخا لِذَنْبِكِ إِنَّكِ في هذا الأمر قد كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ المتعمدين القاصدين على الجريمة القبيحة والديدنة الشنيعة جمعه جمع المذكر للتغليب وَبعد ما شاع أمرهما وانتشر قصتهما بين الأنام قالَ نِسْوَةٌ جماعة من صناديد النسوان فِي الْمَدِينَةِ على سبيل التشنيع والتقريع امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ وتخادع فَتاها عَنْ نَفْسِهِ طلبا لمواقعته إياها ومجامعته معها إذ قَدْ شَغَفَها حُبًّا يعنى قد دخل حبه في جميع شغاف قلبها وشقوقه فصار قلبها مملوا بمحبته وعشقه لذلك راودته ما اشنعها وافضحها وبالجملة إِنَّا لَنَراها بقبح فعلها وسوء صنيعها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ من لحوق العار عليها وعلى زوجها وفشو الفضيحة سيما مع الرقيق وكسر عرض العزيز بين الأنام فَلَمَّا سَمِعَتْ راعيل بِمَكْرِهِنَّ وغيبتهن وتخطئتهن إياها خفية أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ قواصد ليدعوهن على سبيل الضيافة وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ وهيأت لكل واحدة منهن في بيتها مُتَّكَأً على حدة ليتكأن عليه على ما هو عادة بلدتهم ووضعت عند كل متكأ طبقا من الفواكه مثل الرمان والتفاح والكمثرى وغيرها وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ وبعدد رؤسهن سِكِّيناً شديد الحدة والمضأ وبعد تهيئة أماكنهن على الوجه المذكور قد جئن وجلسن عليها واشتغلن بأكل الفواكه وتنقية قشورها بالسكين وَبعد ذلك قالَتِ زليخا ليوسف اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فخرج فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وكبرن جميعا لله برؤية جماله وكمال حسنه البديع وبهائه وغاية نضارته وصفائه إذ يتشعشع ويلمع ضوء وجهه على الجدار مثل الشمس والقمر. وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم انه قال رأيت أخي يوسف الصديق عليه السّلام ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر ومن شدة حيرتهن بحسنه وجماله بهتن بأجمعهن وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ اى كل منهن وَبعد ما افقن قُلْنَ مستبعدات مستغربات حاشَ لِلَّهِ وتنزه ذاته من ان يعجز عن خلق مثله غير انه ما هذا الهيكل المرئي بَشَراً إذ لا نرى البشر قط على هذه الصورة إِنْ هذا ما هذا المشاهد المحسوس إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ نجيب مصور من الروح لا من الطين وبعد ما قد تفرست زليخا منهن ما تفرست من كمال الحيرة والحسرة والوله والهيمان برؤيته قالَتْ فَذلِكُنَّ وهذا ذلك العبد الكنعانى الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وفي مراودته والافتنان به وبمحبته ولما رأت راعيل منهن ما رأت من نفسها بل أشد منه أقرت عندهن ما فعلت معه لتستعين منهن ويحتلن هن وهي بأجمعهن في تليين قلبه فقالت متحسرة مقسمة وَالله لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ مرارا كثيرة فَاسْتَعْصَمَ وابى عن القبول من كمال عفته وعصمته ومن نجابة فطرته وطينته وَالله لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ ولم ينجح ما انا آمرة به طالبة إياه ولم يقبل قولي ولم يقض حاجتي لَيُسْجَنَنَّ وليحصرن في السجن مدة وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ الذليلين المهانين الباقين في السجن مدة مديدة فلما قالت راعيل ما قالت وأقسمت بما أقسمت التفتت النسوة بأجمعهن على اعانتها واتفقن على إنجاح مرادها والحن واقترحن على يوسف بقبول قولها والإتيان بمطلوبها إلحاحا بليغا بل قد اضمرن في انفسهن كل منهن إتيانه عليهن بمقتضى شهوات النساء وبعد ما رأى يوسف منهن اتفاقهن واجتماعهن على منكر ناجى ربه من شرهن وتعوذ نحوه سبحانه

[سورة يوسف (12) : آية 33]

من فتنتهن حيث قالَ رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم والعصمة والعفاف السِّجْنُ الذي قد اوعدتنى به هذه المرأة أَحَبُّ إِلَيَّ وآثر عندي مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ هؤلاء الطغيات البغيات الغويات وَإِلَّا تَصْرِفْ بفضلك وعصمتك يا ربي عَنِّي كَيْدَهُنَّ ولم تحفظني من مكرهن بإلقاء البرهان العقلي والكشفى في سرى أَصْبُ امل انا إِلَيْهِنَّ واتحنن نحوهن بمقتضى القوى البهيمية وَحينئذ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ المتابعين لشيطان الشهوة الخارجين عن مقتضى العقل المفاض من المبدأ الفياض وبعد ما أخلص في مناجاته وأبر في رجوعه وعرض حاجاته فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ ما ناجاه فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ وحفظه عن مكرهن إِنَّهُ لذاته وبمقتضى أوصافه وأسمائه هُوَ السَّمِيعُ لمناجات عباده الْعَلِيمُ بحاجاتهم منها ونياتهم فيها ثُمَّ بَدا ولاح لَهُمْ اى للعزيز وأصحابه مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ اى بعد رؤيتهم علامات الصدق وامارات العصمة والعفاف سيما بشهادة الطفل الرضيح بطهارته وصدقه مع انه لم يعهد من أمثاله هذه فتشاوروا في امره وتأملوا في شأنه فاستقر رأيهم لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ لئلا يلحق العار على راعيل ولا ينتشر بين الأنام صدقه وعصمته وقبح صنيعها وفاحشة فعلها بل يحسبونه مجرما وراعيل غير متهمة لذلك حملوا الجرم عليه وراموه افتراء فأدخلوه في السجن انتقاما ومراء وَدَخَلَ مَعَهُ اى مع يوسف السِّجْنَ في تلك المدة فَتَيانِ من أعوان الملك شرابيه وخبازه بتهمة قد اتهما بها وهي معروفة فلما تفرسا منه الرشد والنجابة وصفاء الصورة والأخلاق قالَ أَحَدُهُما وهو الشرابي مستعبرا عنه حاكيا عما مضى إِنِّي أَرانِي في المنام أَعْصِرُ ماء العنب لاتخذ منه خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ وهو الخباز إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً مع طبق تَأْكُلُ وتنهش الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ وأخبرنا عما يئول اليه ويئول به رؤيانا إِنَّا نَراكَ في بادى الرأى مِنَ الْمُحْسِنِينَ الصالحين المصلحين لمفاسد الأنام وتفصيل ما يشكل عليهم ومن جملته تعبير الرؤيا ثم لما تفرس يوسف منهم الإخلاص وحسن الظن بالنسبة اليه بادر قبل الاشتغال بالتعبير الى تمهيد مقدمة دالة على التوحيد والايمان والمعرفة والإيقان منبهة على استقلال الحق الحقيق بالحقية في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وجميع آثاره الحادثة في الكائنات والفاسدات وعلى نبوته وعلو رتبته وتشرفه بخلعة الخلة والخلافة من عنده سبحانه حيث قالَ أولا لا يَأْتِيكُما في المستقل طَعامٌ تُرْزَقانِهِ لسد الجوعة وتقويم المزاج إِلَّا نَبَّأْتُكُما وأخبرتكما انا أولا بِتَأْوِيلِهِ وتبيين ماهيته وكيفية تأثيره وتوليده من الأخلاط وتقويته للمزاج كيف هو وعلى اى وجه قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما وقبل ان يظهر عندكما بمدة ذلِكُما اى تعبير رؤيا كما وتأويل طعامكما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي من جملة الأمور التي قد علمني ربي من لدنه حيث اطلعنى على رقائق المناسبات ودقائق الارتباطات والازدواجات الواقعة بين أجزاء العالم وجريانها على التفصيل المشروح المثبت في الأعيان الثابتة في عالم الأسماء والصفات المنبسطة على ظواهر الأكوان إِنِّي بعد ما انكشف الغطاء عن بصرى وارتفعت الحجب عن بصيرتي قد تَرَكْتُ بتوفيق الله إياي مِلَّةَ قَوْمٍ ذوى حجب لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وبتوحيده واستقلاله في الوجود وكذا في التصرفات والآثار الصادرة الظاهرة على صفحات الكائنات بمقتضى الجود وَمع ذلك هُمْ بِالْآخِرَةِ اى النشأة المعدة لجزاء ما جرى عليهم في هذه النشأة هُمْ كافِرُونَ منكرون جاحدون وَبالجملة قد اتَّبَعْتُ انا في سلوك طريق التوحيد مِلَّةَ آبائِي

[سورة يوسف (12) : آية 39]

وأجدادي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا وما صح وما جاز لنا معاشر الأنبياء والرسل أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ المتوحد بذاته وأوصافه وأسمائه المستقل في وجوده وحقيقته مِنْ شَيْءٍ لا وجود له أصلا سوى العكسية والظلية وبالجملة ذلِكَ الشهود والانكشاف مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ الذين قد أرسلنا إليهم وبعثنا بينهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ الناسين حقوق نعم الله لا يَشْكُرُونَ نعمة الإرسال وبعثة الرسل ولا يواظبون على أداء شكرها ثم لما مهد يوسف عليه السّلام لصاحبيه طريق التوحيد ونبه عليهما السلوك عليه والتوجه نحوه اشارة الى دعوتهما اليه على سبيل التدريج كما هو دأب الأنبياء فقال مناديا لهما ليقبلا على قبول مقوله يا صاحِبَيِ السِّجْنِ الساكنين فيه المصاحبين معى أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ متكثرون في العدد متماثلون في عدم القدرة والاختيار خَيْرٌ عندكم وأحق بعبادتكم وانقيادكم أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الأحد المتوحد في ذاته المستقل في ألوهيته وربوبيته المستغنى عن المظاهر مطلقا الْقَهَّارُ الغالب على جميع السوى والأغيار واعلموا ايها الاخوان ان ما تَعْبُدُونَ أنتما ومن على دينكما في مصر من عبدة الالهة الباطلة مِنْ دُونِهِ اى من دون الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في الوجود أصلا ما هو إِلَّا أَسْماءً مطلقة على اظلال معدومة وعكوس موهومة قد سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ من تلقاء انفسكم آلهة ومعبودات مع انه ما أَنْزَلَ اللَّهُ المنزل للكتب المرسل للرسل بِها مِنْ سُلْطانٍ اى بشأن آلهتكم من حجة وبرهان عقلي او نقلي حتى تكون تمسكا لكم في اتخاذكم هؤلاء التماثيل آلهة مستحقة للعبادة والإطاعة إِنِ الْحُكْمُ وما الأمر المطلق والاستحقاق التام للاطاعة والانقياد وعبادة العباد إِلَّا لِلَّهِ المتردي برداء العظمة والكبرياء المتفرد بالجلال والبقاء المتوحد في البسطة والاستيلاء إذ هو المستحق بالعبادة وهو المستقل بالربوبية والألوهية وهو في ذاته هو ولا شيء سواه ولا اله الا هو مع انه قد أَمَرَ في عموم ما انزل على أنبيائه ورسله من الكتب والصحف أَلَّا تَعْبُدُوا ولا ترجعوا ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة الباطلة إِلَّا إِيَّاهُ إذ به وبمد اظلال أوصافه وأسمائه قد ظهرت أشباحكم ولاحت تماثيلكم وأرواحكم فلا رجوع لكم الا اليه ذلِكَ اى طريق التوحيد الذاتي هو الدِّينُ الْقَيِّمُ الأقوم الأعدل الذي لا عوج فيه أصلا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لكثافة حجبهم وغلظ اغطيتهم واغشيتهم لا يَعْلَمُونَ ولا يفهمون سرّ سريان الوحدة في الكثرة لذلك حجبوا بالمظاهر المتكثرة عن الوحدة الظاهرة فانصرفوا عن طريق الحق الى الباطل الزاهق الزائل ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ثم لما دعاهما يوسف عليه السّلام الى الايمان والتوحيد ونبه عليهما طريقه اشتغل بتعبير الرؤيا فقال مناديا لهما ايضا يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما وهو الشرابي فَيَسْقِي رَبَّهُ سيده خَمْراً على ما كان عليه بلا احتياج الى تأويل وَأَمَّا الْآخَرُ وهو الخباز فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ هذا ما ظهر لي في تأويل رؤياه بتوفيق الله إياي وبعد ما سمعا منه التأويل والتعبير قالا له قد كذبنا فيما قلنا لك واستعبرنا منك قال يوسف عليه السّلام قد قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ وحكم حكما مبرما على الوجه الذي ذكر في حضرة علم الله ولوح قضائه إذ الأمر الذي جرى على السنة الرسل والأنبياء لا بد وان يقع إذ لا جريان للكذب وعدم المطابق للواقع في ألسنتهم وَحينئذ قالَ يوسف الصديق لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا وهو الشرابي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ واذكر حالي وقصتي للملك

[سورة يوسف (12) : آية 43]

عند ملاقاتك وقل ان رجلا قد سجن بلا جرم صدر عنه أوصاه به رجاء ان يستخلصه ويستكشف عن امره ولم يستثن مع ان المناسب بحاله ورتبته العلية الاتكال على الله والتبتل والتفويض والتسليم بلا التفات الى الغير أصلا والرضاء بما جرى عليه من القضاء والتصبر على هجوم البلاء وتزاحم العناء فضلا عن ان يستمد بلا استثناء وذلك في صغر سنه وعنفوان شبابه وقبل نزول الوحى عليه وقبل عروجه الى معراج استعداده وقابليته وبالجملة فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ للناجى ذِكْرَ رَبِّهِ اى ذكر يوسف وحكاية حاله عند الملك حين جلس في مجلسه وسقى له خمرا فَلَبِثَ وبقي يوسف عليه السّلام بسبب ترك الاستثناء وطمع الإعانة والاستخلاص من المصنوع الأرذل الأنزل وطلب الاستعانة منه فِي السِّجْنِ بعد ما قد لبث فيه خمسا بِضْعَ سِنِينَ اى سبعا بعد الخمس مجازاة عليه وانتقاما عنه كما قال نبينا صلّى الله عليه وسلّم رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك لما لبث في السجن سبعا بعد الخمس وَبعد ما لبث في السجن بضعا قد هيأ سبحانه لخلاصه سببا بعد ما ادّبه بترك الاستثناء بان قالَ الْمَلِكُ وهو ريان بن الوليد لأصحابه يوما من الأيام إِنِّي أَرى في المنام سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَايضا أرى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَسبعا أُخَرَ يابِساتٍ قد التففن وتعلقن على السبع الخضر فغلبن عليها فجمع من في ملكه من اهل التنجيم والتكهين وجميع العلماء والصلحاء وعرضها عليهم وقال يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ وعبروها لي واوّلوها على إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ اى ان كنتم من اهل التعبير والعبور والعبرة والاعتبار فلما سمعوا قوله وتأملوا في رؤياه قالُوا بأجمعهم متفقين ما هذه الا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وأباطيل قد صورتها القوة المتخيلة وخلطتها تخليطا بحيث لا تقبل التعبير والتأويل أصلا وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ الباطلة بِعالِمِينَ معبرين مأولين وَبعد ما عجز الملأ عن تعبير رؤيا الملك واجمعوا على انها أضغاث احلام قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما اى من صاحبي السجن وهو الشرابي الموصى له بالذكر فنسي وَادَّكَرَ تذكر بهذا التعبير وما اوصى له يوسف عليه السّلام لكن بَعْدَ أُمَّةٍ ومدة مديدة من الزمان أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ الى السجن فأرسله الملك ودخل عليه فقال يا يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ الصدوق الصادق سيما في تأويل الرؤيا أَفْتِنا وعبر لنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ ملتفة الى سبع أخر وَأُخَرَ يابِساتٍ عبر لي هذه الرؤيا لَعَلِّي أَرْجِعُ بتأويلها إِلَى النَّاسِ الذين هم قد عجزوا عن تعبيرها وصيروها من الأباطيل والتخليطات الساقطة عن التعبير والتأويل لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تأويله ويفحمون عما يقولون ان هذه الرؤيا للملك وهم قد جعلوها من قبيل الأضغاث وأنت إذا عبرتها أرجو ان تتخلص من هذا السجن قالَ يوسف مأولا للرؤيا مدبرا فيه طريق المعاش لئلا يضطروا في تدبيره أنتم تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً على ما هو دأبكم وعادتكم فَما حَصَدْتُمْ وحصلتم منها في تلك المدة فَذَرُوهُ واتركوه فِي سُنْبُلِهِ يعنى عليكم ان تدخروا ما حصدتم في سنى الخصب بان تتركوه في سنبله ولا تفرقوه منه ولا تدوسوه لئلا يقع فيه السوس إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ في تلك المدة ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى بعد انقراض سنى الخصب والرخاء سَبْعٌ شِدادٌ وذوات جدب وعناء بحيث لا ينبت فيها الزرع وتلك المدد يَأْكُلْنَ اى أهلها من ما قَدَّمْتُمْ وادخرتم لَهُنَّ في سنى الخصب إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ اى تحرزونه وتحفظونه للبذر والزرع

[سورة يوسف (12) : آية 49]

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى بعد انقضاء السبع الشداد عامٌ ذو بركة ورخاء فِيهِ يُغاثُ ويمطر النَّاسُ بعد ما منعوا من القطر والمطر مدة مديدة وَصار الناس من كمال الخصب والرخاء وكثرة الفواكه فِيهِ يَعْصِرُونَ الأدم من العنب والخرنوب وانواع الحبوب وبالجملة كل ما جاء به يوسف عليه السّلام من التأويل والتدبير انما هو مستند الى الوحى والإلهام والعلم برقائق المناسبات الواقعة بين ذرائر الأكوان ولما سمع الشرابي من يوسف ما سمع تسارع نحو الملك وأخبره ما سمع من التعبير وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فأرسل من يحضره فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ليخرجه من السجن قالَ يوسف لا اخرج من السجن ما لم يظهر براءتي وعصمتي وطهارة ذيلي وكمال عفتي مما يرموننى ويسجنوننى بسببه ارْجِعْ ايها الرسول إِلى رَبِّكَ سيدك فَسْئَلْهُ ان يكشف عن امرى وما جرى على من أولئك المفترين سيما ليسئل ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وما امرهن وشأنهن معى إِنَّ رَبِّي الذي رباني بكمال العصمة والعفة بِكَيْدِهِنَّ ومكرهن الذي قد قصدن معى عَلِيمٌ على التفصيل الذي يخفين في نفوسهن يجازيهن في يوم الجزاء بمقتضى علمه ثم لما رجع الرسول الى الملك واخبر عن حاله ومقاله بادر الملك الى إحضار تلك النسوان فحضرن قالَ الملك لهن مستفهما عنهن مفتشا عما جرى بينهن وبين يوسف ما خَطْبُكُنَّ وشأنكن أيتها الماكرات المحتالات إِذْ راوَدْتُنَّ وخادعتن بأنواع الحيل والخداع يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ واى شيء ظهر منه من امارات الفساد وعلامات الفسوق حتى تجترئن أنتن بمراودته قُلْنَ بأجمعهن بعد ما سمعن كلام الملك واستفساره على وجه الانتقام حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وفعلة ذميمة وديدنة قبيحة باعثة لنا الى مراودته سوى انا قد رأيناه على صورة عجيبة وحسن بهى بديع وقد ملنا اليه وأردنا مخالطته فاستعصم من كمال عفته ونجابة طينته ثم قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ عند الملك بعد ما بدا ما اخفت وفشا ما سترت مقرة مقررة معترفة بطهارة ذيله الْآنَ قد حَصْحَصَ اى لاح وظهر الْحَقُّ وارتفع عنه الحجب وانكشف الأستار أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ بعد ما قد شغفنى حبه وازعجنى ميله وَإِنَّهُ في نفسه وعموم أقواله وأفعاله لَمِنَ الصَّادِقِينَ المبرئين المنزهين عما افترينا عليه ورمينا به ثم لما انكشف امره عند الملك وثبت براءته لديه أرسل الرسول اليه ثانيا ليخرجه من السجن قال يوسف حينئذ بمقتضى الحكمة الصادرة من السنة الأنبياء توطينا لنفس العزيز وتسلية له ليجزم انه ما أساء الأدب في السر والعلانية ذلِكَ الكشف والتفتيش انما هو لِيَعْلَمَ العزيز يقينا أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ حين انغلاق الأبواب السبعة على وانا مع زوجته فكيف مع غيرها وَليعلم العزيز ايضا أَنَّ اللَّهَ المطلع بعموم ما جرى على عباده لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ولا يوصل اهل الخيانة مطلقا الى ما يقصدونه اليه بكيدهم وحيلهم بل يفضحونهم بها على رؤس الاشهاد في الاولى والاخرى ثم قال هضما لنفسه وكسرا لها وَما أُبَرِّئُ وانزه نَفْسِي عن مطلق الفرطات والغفلات وعن عموم الخواطر القبيحة والديدنة الشنيعة بمقتضى القوى الشهوية واللذة البهيمية وكيف ابرئ وانزه إِنَّ النَّفْسَ المركوزة في الجبلة الانسانية لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ مائلة بالطبع الى الفساد متوجهة نحوه ان خليت وطبعها إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي وحفظها من كمال رحمته وشفقته من طغيانها ومن وسوسة الشيطان المضل المغوى إليها إِنَّ رَبِّي الذي رباني بالعصمة والعفاف غَفُورٌ لما صدر عنى من الخواطر النفسانية رَحِيمٌ يرحمني

[سورة يوسف (12) : آية 54]

بفضله ويعصمني بلطفه عما يبعدنى من كنف حفظه وجواره وَبعد ما فتش الملك عن أحواله وما جرى عليه وثبت وتحقق عنده أمانته وديانته ورعايته حقوق سيده وحفظ الغيب معه ورشده في الأمور سيما في التعبيرات والتأويلات وصدقه في جميع الأقوال الصادرة عنه قالَ الْمَلِكُ متحننا عليه متشوقا الى لقائه ائْتُونِي بِهِ سريعا أَسْتَخْلِصْهُ واجعله خالصا لِنَفْسِي ليكون أنيسي وجليسي ومولى أموري وظهيري في عموم تدبيرى فاحضروه عنده وسلّم على الملك ترحيبا وتعظيما فَلَمَّا كَلَّمَهُ وأخذ بحمد الملك وثنائه ودعائه باللغة العبرية قالَ الملك ما هذا اللسان قال هذا لسان آبائي وأجدادي وكان الملك يتكلم على سبعين لغة فكلم معه بجميعها فأجاب بجميعها واحسن فيها فتعجب الملك منه وقال أريد ان اسمع تأويل رؤيائي من فيك فحكاه وبين وجوه المناسبات بين البقرات والسنوات المجدبة والمخصبة وكيفية الانتقالات والتعبيرات على مقدار فهم الملك وتأويلات السنابل الخضرة واليابسة على الوجه الذي الهم واوحى فازداد الملك محبة ومودة لذلك قال إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ ذو مكانة ومرتبة علية ومنزلة رفيعة أَمِينٌ مؤتمن على عموم أمورنا فلك اليد والتصرف في ملكنا كيف تشاء وبعد ما تفرس يوسف عليه السّلام ان لا محيص له عنه ولا بد له من ارتكاب امر من امور الملك قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ اى ارض مصر إِنِّي بإقامة هذه الخدمة حَفِيظٌ بوجوه محافظة اى جنس من الأجناس عَلِيمٌ بطرق تدابيرها والتصرف فيها قيل قد اتفق وفات قطفير هو سيد يوسف عليه السّلام في تلك الليالى وقد كان هذا المنصب له لذلك طلبه وتزوج زوجته التي قد شغفها حبا فوجدها عذراء وولد ليوسف افرائيم وميشا وَكَذلِكَ ومثل ما سمعت من القصة قد مَكَّنَّا واقدرنا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ اى في ارض مصر بعد ما أدخلناه فيها رقيقا مهانا وصيرناه محبوسا مسجونا مدة متطاولة ورفعنا مكانته فيها الى حيث يَتَبَوَّأُ يتنعم ويترفه مِنْها اى من نواحيها وبلادها حَيْثُ يَشاءُ وتهوى نفسه ويميل إليها طبعه إذ من سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة انا نُصِيبُ ونوفى بِرَحْمَتِنا التي قد وسعت كل شيء مَنْ نَشاءُ من خلص عبادنا المجبولين على فطرة توحيدنا السالكين سبيل الانابة والرجوع الى فضاء فنائنا وَبالجملة نا لا نُضِيعُ ولا نهمل ولا ننقص أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله في عموم أحوالهم وشئونهم ولا يغفلون عنه سبحانه طرفة ولا يلتفتون الى غيره لمحة ولا يخطر ببالهم سواه خطرة هذا مآلهم في النشأة الاولى وَالله لَأَجْرُ النشأة الْآخِرَةِ المعد لهم فيها خَيْرٌ منها بأضعاف وآلاف كل ذلك لِلَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله عن ظهر القلب وصميم الفؤاد وَكانُوا يَتَّقُونَ عن محارم الله طلبا لمرضاته وقياما بحسن آدابه ورجاء من ثوابه وخوفا من عقابه وَحين استوزر الملك يوسف عليه السّلام واقام لضبط الممالك وقيام امور الناس من التدبيرات المتعلقة بأمور معاشهم من تكثير الغلات والزراعات وتحصيل الأرزاق والأقوات حتى دخلت السنون المجدبة وقد كانت البيوتات والمغلات المتعلقة للملك مملوة بأنواع الأقوات واصناف الحبوبات وبعد ما أحاط الجدب والقحط جميع بلاد المصر والشام وعمم البلوى في عموم الأماكن والجهات اضطر الناس من الأقاصي والأداني الى ان يلتجئوا الى باب العزيز ليستغلوا منه ويسدوا رمقهم بها لذلك قد جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ من الكنعان ليستغلوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِ بأجمعهم فَعَرَفَهُمْ في الفور وسألهم عن الوطن والمصلحة فقالوا نحن أولاد يعقوب عليه السّلام

[سورة يوسف (12) : آية 59]

نبي الله ابن اسحق ذبيح الله بن ابراهيم خليل الله قد جدبنا الآن واضطررنا الى ان جئنا لنستقوت من جاه العزيز ثم قال لهم يوسف أنتم بأجمعكم أبناء رجل واحد قالوا نعم ان لأبينا اثنى عشر ابنا عشرة من زوجة واثنان من زوجة اخرى ونحن تلك العشرة وواحد من الاثنين قد هلك في الصحراء والآخر عند أبينا يوانس معه ويدفع به وحشة أخيه إذ هو محبوب له مرغوب عنده وَهُمْ مع طول صحبتهم معه ومجالستهم عنده لَهُ مُنْكِرُونَ بحيث لا يتفطنون ولا يتنبهون فكيف يعرفونه وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ الخدام باذن العزيز بِجَهازِهِمْ وهيئوا رحالهم وأحمالهم وأرادوا ان يشدوا فدخلوا على العزيز للتوديع قالَ لهم العزيز ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ليدل على صدقكم ونجابة أصلكم أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وأتمه لكم وأوفره عليكم وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ واحسن المضيفين إياكم فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ اى بأخيكم فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي بعد اليوم وَلا تَقْرَبُونِ ولا تدخلوا دارى وأنتم حينئذ قوم كاذبون وبعد ما سمعوا منه كلاما موحشا تفرسوا انهم لو لم يأتوا بأخيهم لما كال لهم العزيز ولم ينزلهم فكيف ان يحسن إليهم ويضيفهم قالُوا له معتذرين ان له أبا شيخا كبيرا ضريرا اسيفا ضعيفا محزونا يتسلى به وبالجملة سَنُراوِدُ ونجتهد مقدار وسعنا وطاقتنا عَنْهُ أَباهُ ونخادع بأنواع الحيل والخداع حتى نأتى به وَإِنَّا لَفاعِلُونَ البتة وجوها من الخدعة لإتيانه ان قبل أبونا وَبعد ما هيئوا للسفر وأرادوا ان يرحلوا قالَ يوسف عليه السّلام لِفِتْيانِهِ أعوانه وخدامه اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ التي قد أتوا بها وهي الأدم والنعال فِي رِحالِهِمْ على وجه لا يشعرون لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها وقت إِذَا انْقَلَبُوا ورجعوا إِلى أَهْلِهِمْ وبعد رؤيتهم البضاعة ايسوا لَعَلَّهُمْ بعد ذلك يَرْجِعُونَ بأخيهم لو رجعوا فَلَمَّا رَجَعُوا من مصر إِلى أَبِيهِمْ وحكوا عنده جميع ما قد جرى بينهم وبين العزيز من الحكايات التي مضت ثم طلبه منهم من يصدقهم ويشهد لهم واضطرارهم من الشاهد وأمرهم العزيز بإحضار أخيهم بنيامين ليكون مصدقا لهم ثم بعد ما بسطوا الكلام عند أبيهم قالُوا متفقين يا أَبانا قد مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ بعد اليوم لو لم ترسل معنا بنيامين فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا ليكون مصدقا لنا عند العزيز وبعد تصديقه إيانا نَكْتَلْ لجميعنا وَلم لم ترسل معنا أخانا يا أبانا إِنَّا بجميعنا لَهُ لَحافِظُونَ من لحوق المكروه عليه إذ نحن عصبة ذوو قدرة وقوة قالَ لهم أبوهم متأسفا متحزنا هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ وأجعلكم وقاية له وكفيلا لحفظه إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ يوسف مِنْ قَبْلُ وبالجملة فَاللَّهُ المراقب على عباده في عموم أحوالهم خَيْرٌ لهم حافِظاً اى من جهة الحصانة والحفظ وَهُوَ في ذاته أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ إذ رحم كل راحم راجع اليه إذ هو رحيم بالذات ورحم غيره؟؟؟ يتشعب من رحمه وبعد ما قد الحوا مع أبيهم واقترحوا له بإرسال أخيهم وتفرسوا منه انه لم يرض بإرساله خرجوا من عنده محزونين وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ التي قد جاءوا بها وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ التي قد اشتروا بها الكيل رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ندموا وتحزنوا ثم رجعوا الى أبيهم شاكين مشتكين قالُوا يا أَبانا انا نجزم بمنع الكيل لو نكر ما نَبْغِي واى شيء نعمل وندبر هذِهِ بِضاعَتُنا قد رُدَّتْ إِلَيْنا على وجه لا نطلع عليها الا الآن وبالجملة قد جزمنا ان لا كيل لنا ان عدنا اليه مرة اخرى بلا إتيان أخينا بل نكون عند العزيز من الكاذبين الصاغرين المهانين وَبالجملة قد نسأل منك يا أبانا من كمال كرمك وجاهك ان ترسل معنا أخانا ليصدقنا عند العزيز

[سورة يوسف (12) : آية 66]

وبعد تصديقه إيانا نَمِيرُ ونحمل العطايا العظام من عنده أَهْلَنا ولأجلهم وَنَحْفَظُ في الذهاب والإياب أَخانا وَنَزْدادُ بسببه كَيْلَ بَعِيرٍ وحمله إذ من سنة العزيز ان يحمل لكل منا بعيرا ذلِكَ الكيل الذي قد جئنا به كَيْلٌ يَسِيرٌ نزر قليل لا يفي لمعاشنا الى وقت الخصب ما لم نزده ثم لما بالغوا في سؤالهم واقترحوا الاسعاف بما طلبوا قالَ لهم أبوهم معاتبا عليهم لَنْ أُرْسِلَهُ اى بنيامين مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ اى يمينا وقسما عظيما أثق به واعتمد عليه لَتَأْتُنَّنِي بِهِ البتة بلا خلاف إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ نوع من البلاء من إلمام العدو وغيره فَلَمَّا اضطروا الى ما طلبه أبوهم منهم آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ فرضي أبوهم بإرسال أخيهم معهم ضرورة قالَ أبوهم تأكيدا لهم وتغليظا وتفويضا لأمره الى ربه اللَّهِ المطلع لعموم احوال عباده عَلى ما نَقُولُ ويجرى بيننا وَكِيلٌ رقيب كفيل حفيظ يفعل بنا بمقتضى علمه وخبرته ما فعل ثم لما رضى يعقوب عليه السّلام بإرسال ابنه بنيامين معهم فشدوا الرحال وأرادوا ان يخرجوا وصى يعقوب عليه السّلام لبنيه ان يتفرقوا عند الدخول الى مصر ولا يدخلوها كوكبة واحدة خوفا منهم ان يعانوا إذ هم ذو جمال وبهاء كان الناس يتعجبون منهم حيث انصرفوا مجتمعين قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا على البلدة مِنْ بابٍ واحِدٍ مجتمعين بل وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ فرادى فرادى حتى لا يلحقكم ضرر العيون اللامة وَاعلموا انى ما أُغْنِي وادفع بقولي لكم هذا عَنْكُمْ مِنَ قضاء اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ بل إِنِ الْحُكْمُ وما الأمر والشان إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ لا على غيره من العكوس والاظلال تَوَكَّلْتُ في كل الأمور والأحوال وَعَلَيْهِ سبحانه في عموم الخطوب والملمات فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ إذ لا رجوع للكل الا اليه وَبالجملة لَمَّا دَخَلُوا مصر مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ وعلى الوجه الذي أوصاهم متفرقين من أبواب متعددة مع انه ما كانَ يُغْنِي ويدفع عَنْهُمْ تدبير أبيهم مِنْ قضاء اللَّهِ المقدر لهم في حضرة علمه ولوح قضائه إذ لا معقب لحكمه ولا مرد لقضائه مِنْ شَيْءٍ قليل إِلَّا حاجَةً يعنى سوى انه قد كانت حاجة اى هذه الوصية تختلج فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها واوصى بها لابنائه تفألا وتفريجا وَإِنَّهُ اى يعقوب عليه السّلام في نفسه لَذُو عِلْمٍ كامل ومعرفة تامة فائضة له من لدنا متعلقة بما لا مرد لقضائنا ولا مبدل لقولنا ولا معقب لحكمنا لذلك قال وما اغنى عنكم من الله من شيء وذلك لِما عَلَّمْناهُ بطريق الوحى والإلهام إياه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على الجهل والنسيان لا يَعْلَمُونَ ان قضاءنا لا يرد وان الحذر لا يغنى عن القدر وان الكائن مقدر وان المقدر لا يدفع بالحذر وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ مع بنيامين أضافهم واجلس كل اثنين منهم على سماط فبقى بنيامين وحيدا فبكى وتأوه متحسرا وقال لو كان أخي يوسف حيا لما بقيت وحيدا ولما رأى يوسف حينئذ بكائه آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ورجع نحوه وضمه الى نفسه وأجلسه على سماطه ثم امر يوسف ان ينزلوا كل اثنين منهم بمنزل واحد فبقى بنيامين لا ثانى له فاغتم حينئذ أشد اغتمام فذهب به يوسف عليه السّلام الى منزله فقال له أتحب ان أكون انا أخاك بدل أخيك الهالك قال فمن يجد مثلك أخا ايها العزيز غير انك لم يلدك يعقوب ولا راحيل ثم لما تفرس يوسف منه ازدياد الحزن والكربة والكآبة وشدة التأسف والتغمم قالَ لا تحزن ولا تغتم يا أخي بنيامين إِنِّي بشخصى أَنَا أَخُوكَ يوسف ابن يعقوب وراحيل قد احتال على إخوتك وخادعونى بأنواع الحيل والخداع الى ان فرقوا بيني

[سورة يوسف (12) : آية 70]

وبين ابى بمدة مديدة ضنا وحسدا فأنقذني الله عن مكرهم وكيدهم واخلصنى عن قيد الرقية والسجن وانواع المحن وقد رفع الآن قدري ومكانتى وشرفني بلقياك يا أخي وأعطاني من الكرامات ما لا يعد ولا يحصى فَلا تَبْتَئِسْ ولا تحزن يا أخي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ معى ومعك من انواع الصغار والهوان واصناف الأذيات ثم لما أقر عينا بنيامين بوجه يوسف وسر قلبه بلقياه سيما بعد ما ايس وقنط يأسا كليا قال يا أخي انا لا أفارقك ابدا قال له يوسف لا يتيسر لنا هذا الا بعد ان اتهمك بتهمة فآخذك لأجلها ان رضيت قال رضيت انا باية تهمة اتهمتنى أنت بها فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ على الوجه المعهود وشدوا رحالهم جَعَلَ السِّقايَةَ اى امر يوسف للخدمة ان يجعلوا السقاية التي بها يكال الأقوات وهي من الفضة وقيل من الذهب فِي رَحْلِ أَخِيهِ بنيامين وبعد ما شدوا الرحال ودعوا مع العزيز جميعا فخرجوا ثُمَّ بعد ما خرجوا من البلدة أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ وصاح عليهم صائح من شرطة العزيز أَيَّتُهَا الْعِيرُ والقفل الزموا مكانكم الى اين تمشون إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ قالُوا مدبرين وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ اى على الصائحين مضطربين خائفين ماذا تَفْقِدُونَ ايها الفاقدون المتفقدون قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ اى الظرف الذي يصاع ويكال به وَبالجملة لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من الكيل وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ضمين اتكفل ان أتفحص من رحله قالُوا مضطربين مقسمين مستبعدين تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ايها الخدمة والعزيز ايضا انا ما جِئْنا عندكم وفي أرضكم لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ سيما السرقة فإنها من اكبر الفسادات في دين أبينا وَبالجملة ما كُنَّا سارِقِينَ أصلا إذ نحن أولاد الأنبياء ولا يليق بنا أمثال هذه قالُوا اى الشرطة والخدام فَما جَزاؤُهُ واى شيء جزاء السارق منكم إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في دعوى البراءة والنزاهة قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ نفسه وشخصه جَزاؤُهُ اى جزاء سرقته بان يسترق سنة وقد كان جزاء السارق في دين يعقوب استرقاق سنة وبالجملة كَذلِكَ ومثل ما قلنا نَجْزِي الظَّالِمِينَ السارقين في دين أبينا يعقوب عليه السّلام ثم لما أفتوا بما أفتوا أخذوا بالكشف والتفتيش فَبَدَأَ الزاعم بِأَوْعِيَتِهِمْ وتفتيشها وتفحصها قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين ثُمَّ بعد ما استقصى الكل واستقرأه تفتيشا اسْتَخْرَجَها اى السقاية مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ لئلا يظن انهم يدسونها في رحله كَذلِكَ اى مثل كيد يوسف لاخذ أخيه بنيامين قد كِدْنا لِيُوسُفَ في اخذه من يد إخوتهم وخلاصه من الرق والسجن وكدنا له ايضا في أخذ أخيه من اخوته بفتواهم ايضا إذ ما كانَ وما صح وما جاز له لِيَأْخُذَ أَخاهُ بجرم السرقة فِي دِينِ الْمَلِكِ اى ملك مصر إذ في دينه الضرب وأخذ ضعف ما سرق منه إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هذا الحكم المخصوص في دين الملك وألهمه يوسف بنفاذه او يحكم يوسف عليه السّلام في هذه المسألة على دين آبائه او كان الملك قد اسلم بيده ودخل بدين آبائه على ما نقل إذ نَرْفَعُ ونعلو دَرَجاتٍ ومراتب ومنازل مَنْ نَشاءُ من عبادنا بازدياد انواع الفضائل والكمالات والحقائق والمعارف وَلا يبعد منا أمثال هذا إذ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أعلى واعلم منه لا الى نهاية إذ لا انقطاع لتجددات التجليات أصلا لذلك قال سبحانه الا طال شوق الأبرار الى لقائي ومن وراء شئوني وتجلياتى ثم لما شاهد الاخوة استخراج الوعاء من رحل بنيامين اضطربوا اضطرابا شديدا وتحزنوا حزنا بليغا قالُوا مغاضبين عليه مريدين مقته إِنْ يَسْرِقْ هذا اللئيم فلا تتعجبوا منه إذ هي من ديدنة أخيه قد سرت عليه فَقَدْ

[سورة يوسف (12) : آية 78]

سَرَقَ مثله أَخٌ لَهُ اكبر منه مِنْ قَبْلُ في أوان طفوليته يريدون منه يوسف عليه السّلام قيل ورثت عمة يوسف عليه السّلام من أبيها منطقة ابراهيم عليه السّلام وكانت تحضن يوسف عليه السّلام وتحبه فلما شب يوسف أراد يعقوب انتزاعه من عندها فلم ترض العمة فشدت المنطقة على وسطه ثم أظهرت ضياعها فتفحصت عنها فوجدتها مشدودة في وسطه فتحا كما فصارت أحق به في دينهم فلما سمع يوسف منهم ما سمع فَأَسَرَّها وكتمها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ ولم يظهر الإنكار عليهم بل أضمر حيث قالَ في نجواه وسره أَنْتُمْ ايها المسرفون المفرطون شَرٌّ مَكاناً وخصلة ومنزلة وشأنا وَاللَّهُ المطلع لأحوال عباده أَعْلَمُ منكم بِما تَصِفُونَ وتشرحون بألسنتكم افتراء ومراء ثم لما جزم العزيز بأخذ أخيه على جريمة السرقة واسترقاقه الى سنة قالُوا متضرعين متذللين منادين له على وجه الخضوع راجين منه قبوله يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أدام الله عزك وجاهك إِنَّ لَهُ اى لهذا المفسد السارق أَباً شَيْخاً كَبِيراً في السن والمرتبة إذ هو نبي من الأنبياء وقد صار ضريرا من فراق ابنه الهالك يتسلى قلبه ويزول وحشته وكربه بمؤانسة هذا المفسد المسرف مع انا قد حلفنا معه وآتيناه موثقا عظيما ان نرجع به فَخُذْ من جاهك وإحسانك أَحَدَنا مَكانَهُ وبدّله بواحد منا ليخدم في بابك وأطلقه لنذهب به الى أبيه الضرير الضعيف لئلا يستوحش هو ولا نحنث نحن في حلفنا وبالجملة احسن إلينا كما احسن الله إليك إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ المتعودين للإحسان المتمرنين فيه فتمم علينا إحسانك وامتنانك سيما على الشيخ الضعيف الضرير قالَ يوسف مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ يعنى نعوذ بالله ان نأخذ غير السارق بدله ظلما لمصلحتكم إِنَّا ان فعلنا مثل ما طلبتم منا قد كنا إِذاً لَظالِمُونَ خارجون عن حدود الله بلا اذن شرعي فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ومن تبديله خَلَصُوا وخرجوا من عنده نَجِيًّا مناجين في نفوسهم بان ما عليه العزيز هو الحق لان أخذ البرئ بدل المجرم ظلم صريح ثم لما صمموا العزم الى الرجوع وايسوا من أخذ بنيامين قالَ كَبِيرُهُمْ رأيا او سنا وهو رؤبيل او شمعون أَلَمْ تَعْلَمُوا ايها المسرفون أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً عظيما وعهدا وثيقا مِنَ اللَّهِ القادر المقتدر على وجوه الغضب والانتقام بان ترجعوا به وَايضا لم تستحيوا من الله ولم تتذكروا قبيح صنيعكم مِنْ قَبْلُ في سالف الزمان اما تستحضرون ما فَرَّطْتُمْ فِي حق يُوسُفَ وشأنه من الإذلال والزجر التام والألم المفرط والإلقاء في الجب وبيعه بالدراهم المعدودة واسترقاقه وغير ذلك من انواع الأذيات معه ومع أبيه وأخيه بفراقه وأنتم ايها المفرطون ما استحييتم من الله تدّعون وراثة الأنبياء وتنسبون انفسكم إليهم وصنيعكم هذا وبعد اللتيا والتي قد فعلتم بأخيه هذا وبالجملة فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ انا ولن أزول عن ارض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ارْجِعُوا أنتم إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا بسرقته وإسرافه إِلَّا بِما عَلِمْنا يقينا انه سارق وما علمنا سرقته الا بالمشاهدة والاحساس بان اخرج صاع الملك من رحله وَانا وان كنا حفيظا له رقيبا عليه لكن ما كُنَّا لِلْغَيْبِ المخفي المستتر عنا حافِظِينَ إذ لا اطلاع لنا على سره وضميره وَان لم تقبل يا أبانا منا قولنا سْئَلِ الْقَرْيَةَ اى من أهلها الَّتِي كُنَّا فِيها لرعى الحوامل وتهيئة الأسباب وَأسهل من ذلك اسئل الْعِيرَ والقفل الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها

[سورة يوسف (12) : آية 83]

إذ هم رفقاؤنا معنا حين سرق ابنك وأخذوه مع انا قد اجتهدنا كثيرا ان يأخذوا أحدا منا بدله لم يقبلوا منا وقالوا لا نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده وان مضينا وقضينا بمقتضى مقترحكم نكون إذا من الظالمين بأخذ البرئ بدل الجاني مع ان أخانا يهودا اوروبيل قد تخلف عنا خوفا من الحنث واستحياء منك وَالله يا أبانا إِنَّا لَصادِقُونَ فيما حكينا لك عما جرى علينا ثم لما رجعوا الى أبيهم وقالوا له ما قالوا على التفصيل المذكور وسمع منهم يعقوب عليه السّلام ما سمع تأسف وتأوّه وبكى كثيرا ثم قالَ من اين يعرف العزيز ان السارق يؤخذ بسرقته بَلْ سَوَّلَتْ زينت وحسنت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ان تفرقوا ابني عنى ظلما وعدوانا كما قد فرقتم أخاه فيما مضى فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وما امرى وشأنى في هذا ايضا الا صبر جميل إذ الصبر الجميل أجمل منى فيما فرطتم فيّ وفي ابنىّ ايها المفسدون المسرفون المفرطون عَسَى اللَّهُ الكريم الرّحيم المطلع بحالي وحزنى وبشدة كآبتى وكربتي أَنْ يَأْتِيَنِي بمقتضى لطفه وسعة جوده ورحمته بِهِمْ اى بيوسف وأخيه وبكبيركم المتخلف عنكم جَمِيعاً مجتمعين إِنَّهُ سبحانه بذاته هُوَ الْعَلِيمُ بمناجاة عباده وميلهم الى حاجاتهم الْحَكِيمُ في أفعاله على مقتضى مصالح عباده وَبعد ما سمع منهم أبوهم ما سمع قد تَوَلَّى اعرض وانصرف عَنْهُمْ مغاضبا عليهم مشتكيا الى ربه من سوء فعالهم وَقالَ من شدة حزنه وكآبته ونهاية ضجرته على مفارقة ابنيه يا أَسَفى ويا حزنى وشدة بلائي ويا حسرتى وحرقة كبدي وبالجملة يا هلكتي تعالى إذ لم يبق بيني وبينك ما يبعّدك عنى ويبعّدني عنك سيما عَلى يُوسُفَ خصه بالذكر إذ هو عمدة محبته وزبدة مودته مع انه متردد في حياته وجازم بحياة الآخرين وَبالجملة لما تجاوز عن الحد ألمه وتطاول حزنه وأسفه قد ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ كثرة الْحُزْنِ والكآبة قبل فقدان هذين الاثنين فكيف بعد فقدانهما وبالجملة فَهُوَ في نفسه كَظِيمٌ مملو من الغيظ والأسف والحزن والبلاء كأنه مجسم منها متجرع انواع الغصص والألم من بنيه ثم لما رأى الناس منه ما رأوا من قلة الاكل والشرب وذوبان البدن ونقصان القوى البشرية والسهر المفرط واستمرار الحزن والأسف ودوام التأوه والتلهف قالُوا متعجبين من حاله مقسمين على هلاكه تَاللَّهِ تَفْتَؤُا لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ على هذا المنوال حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مريضا مهزولا مدقوقا مشرفا على الهلاك أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ولما بالغوا في منعه عما عليه من الكآبة والحزن وكثرة التأوه والبكاءالَ في جوابهم مستنكرا عليهم نَّما أَشْكُوا بَثِّي وما أبث وابسط شكواي حُزْنِي المفرط الخارج من حد التصبر الالَى اللَّهِ المطلع لما في قلبي من الحرقة والا لم المفرط رجاء ان يزيل عنى ما يؤذيني ويوصلني بلطفه وجوده الى ما يسرني ويفرج همي عنى اعلموا ايها اللائمون المبالغون في منعى انى بالهام الله إياي ووحيه الى عْلَمُ مِنَ كرم لَّهِ ومن سعة رحمته وجوده وفضله الا تَعْلَمُونَ أنتم ايها اللائمون المبالغون بل انما حملني الله وازعجنى على بث الشكوى ونشر النجوى معه واظهار التذلل والخشوع والتضرع والخضوع نحوه حتى لا اقنط من ملاقاة يوسف ولا اترك المناجاة مع الله لأجله وان تطاولت المدة وتمادى الزمان ثم لما استروح يعقوب عليه السّلام من روح الله واستنشق من نسمات رحمته نادى بنيه نداء مرحمة واشفاق ليقبلوا اليه بعد ما ايسوا عنه وقنطوا من عطفه إذ هم قد بالغوا في سوء الأدب معه وإيقاعه بأنواع المحن والشدائد فقال يا بَنِيَّ اذْهَبُوا الى مصر كرة اخرى فَتَحَسَّسُوا تفحصوا وتطلبوا اصالة مِنْ

[سورة يوسف (12) : آية 88]

يُوسُفَ وَأَخِيهِ بنيامين تبعا وَلا تَيْأَسُوا ولا تقنطوا يا بنى مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وتنفيسه وتقريحه الهم إذ نحن معاشر الأنبياء لا يليق بنا اليأس والقنوط سيما عن كرم الله وجوده في حال من الأحوال إِنَّهُ لا يَيْأَسُ ولا يقنط مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ومن كمال قدرته وسعة جوده ورحمته إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ الساترون بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق السارية المتجلية في الأنفس والآفاق والفائضة عليهم سجال الفضل والكرم على مقدار قابلياتهم واستعداداتهم فعليكم ان لا تقنطوا من الله بحال من الأحوال بل اعتقدوا ان له التصرف والقدرة الكاملة والارادة التامة المتعلقة بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم لما صمموا العزم بالخروج الى مصر كرة اخرى باذن أبيهم فخرجوا من عنده وساروا الى ان وصلوا مصر فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ اى على يوسف قالُوا أولا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ قد مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ والجدب وشدة الجوع وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ قليلة ردية فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وتممه لنا من جاهك وإحسانك وَقالوا ثانيا تَصَدَّقْ عَلَيْنا برد أخينا لنرده الى أبيه المحزون فانه قد اشرف على الهلاك من شدة الحزن والأسف إِنَّ اللَّهَ المجازى على اعمال عباده يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ المحسنين منهم جزاء حسنا لا جزاء احسن منه ثم لما سمع يوسف من أسف أبيه وشدة كربه وكآبته وابيضاض عينيه وهزال جسمه ونحوله واشرافه على الانهدام والانخرام شرع يظهر امره عليهم حيث قالَ تفضيحا لهم وتقريعا هَلْ عَلِمْتُمْ ايها المسرفون المفرطون قبح ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ من الزجر والإذلال والضرب والشتم وانواع المكروهات والمذمومات سيما قد اشتريتم بثمن بخس دراهم معدودة لتبعدوه عن وجه أبيه وتطردوه عن ساحة عز حضوره إِذْ أَنْتُمْ قوم جاهِلُونَ بان لا مرد لقضاء الله ولا معقب لحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فاجتهدتم لهدم بناء الله وتغيير مراده ورد قضائه مبارزة عليه وخروجا بين يديه وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا قالُوا مخبتين خاضعين متذللين بعد ما عرفوه مستفهمين على سبيل التقرير والتثبيت أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ايها العزيز قالَ أَنَا يُوسُفُ بن يعقوب الذي قد فعلتم به ما فعلتم وَهذا أَخِي بنيامين من ابى وأمي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بأنواع الكرم والإحسان ووقانا عما قصدتم علينا من السوء والعدوان وانواع الظلم والطغيان وبالجملة إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ عن محارم الله وعما لا يرضى به الله وَيَصْبِرْ على ما جرى عليهم من قضاء الله فَإِنَّ اللَّهَ الرقيب المطلع لأحوال عباده لا يُضِيعُ ولا يهمل ولا ينقص أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله ويعبدونه كأنهم يرونه ثم لما ظهر عليهم ما ظهر من الفضيحة والشناعة وانواع الندامة والكآبة قالُوا متضرعين مستحين متذللين مقسمين على سبيل التثبيت والتقرير تَاللَّهِ يا أخانا لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ واصطفاك عَلَيْنا وأراك في المنام ما أراك من سجود الشمس والقمر والكواكب المعتبرة وكفاك هذا دليلا على نجابتك واختيارك علينا مع ان أبانا قد علم منك ما علم من الرشد وكمال العلم والفضل لذلك آثرك علينا محبة وعطفا وَبالجملة إِنْ كُنَّا اى انا كنا لَخاطِئِينَ في إذلالك وارادة مقتك وإهلاكك وضربك وايذائك وبالجملة قد كنا ساعين في ابطال ارادة الله ومشيته وكمال حكمته وقدرته لا سيما في إيذاء أبينا بمفارقتك عنه وإيقاعه بأنواع البليات والنكبات الى حيث قد ابيضت كريمتاه من فراقك فالآن الحكم لك والأمر بيدك وانا مجرمون مقرون معترفون بأنواع الجرائم فلك الاختيار وعلينا الحسرة والندامة وانواع الكآبة

[سورة يوسف (12) : آية 92]

والسآمة ثم لما رأى يوسف منهم ما رأى من الندامة المفرطة والخجل الغير المتناهي والخذلان المتجاوز عن الحد وانواع الخيبة والخسران قالَ لهم تسلية عليهم وتزكية لنفسه بمقتضى نجابة طينته وكرامة فطرته لا تَثْرِيبَ اى لا لوم ولا تقريع عَلَيْكُمُ منى في حال من الأحوال سيما الْيَوْمَ الذي أنتم تعتذرون فيه وتستعفون عنى فاعلموا انى قد عفوت لكم مالي من الحقوق عليكم وقد ابرأت ذمتكم عنها جميعا بل يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ بعد ما استغفرتم اليه مخلصين وَهُوَ سبحانه في ذاته أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ إذ رحم عموم الرحماء انما هو منه ومن ظل رحمته التي وسعت كل شيء وبعد تسليتهم وعفوهم وأخلاء الرعب عن خواطرهم أمرهم بالذهاب سريعا نحو أبيهم المحزون المغبون ليخلص عما عليه من الحزن المفرط والكآبة الغير المتناهية فقال اذْهَبُوا يا إخوتي بِقَمِيصِي هذا وهو عليه فأخرجه ولفه بلا تنقية وغسل فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ يرجع ويصر بَصِيراً قريرا بعد ما كان مكفوفا ضريرا فاقد العينين وَبعد ما صار بصيرا صحيحا سالما سويا أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ وبجميع ما ينسب إليكم من النسوان والذراري والخدم والحشم أَجْمَعِينَ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ وخرجت الركب والقفل من عمران مصر نحو كنعان قالَ أَبُوهُمْ لمن في صحبته من المؤمنين له إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ وتسفهوني ايها الحضار وتنسبونى الى نقصان العقل والخرف لصدقتمونى قالُوا اى المؤمنون الحاضرون عنده تَاللَّهِ إِنَّكَ بتذكير يوسف ومن كثرة تخطيره ببالك لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ اى في ضلالك الذي قد كنت عليه زمانا مستمرا وهو وان سفهه القوم ومنعوه بتزايد شوقه ووجده زمانا فزمانا يترقى اشفاقه ونوحه ساعة فساعة فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ وهو يهودا مع القميص أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ على الوجه المأمور به فَارْتَدَّ رد وعاد فجأة بَصِيراً كما كان في سالف الزمان فشكر الله وحمده وسجد له سبحانه سجدة شكر على وجه الخضوع والخشوع وكمال التذلل والتفويض. ثم لما رفع رأسه من سجوده قالَ لبنيه ولحضار مجلسه أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ يا قوم حين لمتمونى بالاسف والحزن المفرط وكثرة المناجاة مع الله ورفع الحاجات اليه سبحانه لملاقاة يوسف إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ كرم اللَّهِ ومن سعة رحمته وجوده ما لا تَعْلَمُونَ أنتم ايها اللائمون ثم لما سر يعقوب عليه السّلام وخلص من المحن والشدائد وقر عيناه قالُوا اى بنوه منادين له متضرعين اليه متحننين نحوه يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا التي قد كنا نعمل معك ومع من أحببته واخترته علينا إِنَّا فيما فعلنا من الجرائم العظام وانواع المعاصي والآثام قد كُنَّا خاطِئِينَ جاهلين عن عواقبها وما تؤل اليه إذ هي من جملة ما قد قضى الله إيانا وحكم علينا لا مرد لقضاء الله ولا معقب لحكمه ثم لما تفرس يعقوب عليه السّلام منهم الإخلاص والانابة الصادقة والندامة الخالصة والرجوع عن ظهر القلب قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ في ذاته هُوَ الْغَفُورُ لذنوب عباده لا غافر لهم سواه سبحانه سيما لمن قد أخلصوا في رجوعهم وتوجههم نادمين الرَّحِيمُ لهم يقبل توبتهم وما سوف عليه السّلام امر استغفارهم الا الى ملاقاة يوسف عليه السّلام والمشورة معه ويدل عليه ما روى ان يعقوب عليه السّلام استقبل القبلة قائما يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفه اذلة خاشعين حتى نزل جبريل عليه السّلام فقال ان الله قد أجاب دعوتك في حق ابنائك وقد عقد سبحانه مواثيقهم بعدك على النبوة ثم لما صمموا عزم الرحيل الى مصر وشدوا ركائبهم وساروا حتى وصلوا الى قربها فسمع يوسف بقدومهم وخرج الى استقبالهم

[سورة يوسف (12) : آية 99]

مع الملك وجنوده وجميع اهل مصر فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ ووصلوا اليه آوى إِلَيْهِ وحنن نحوه أَبَوَيْهِ فضمهما يوسف الى نفسه وواسى معهما وآنس بهما وزال وحشته ووحشتهما وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ عن نكبات الجدب والقحط واذيات الرحيل وَبعد ما دخلوا على بيته رَفَعَ أَبَوَيْهِ تعظيما لهما وتوقيرا عَلَى الْعَرْشِ الذي يجلس هو عليه وهو بنفسه يقوم بين يديهما وَبعد ما تمكن ابواه على عرشه خَرُّوا لَهُ وبنوهما سُجَّداً لله شكرا للقياه وشرف حضوره سجود شكر وخضوع ولما رأى يوسف سجود هؤلاء تذكر ما رأى في المنام في أوان الصبا وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ في سالف الزمان قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا صدقا محققا مطابقا للواقع وَقَدْ أَحْسَنَ بِي بأنواع الإحسانات إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ بعد ما كنت فيه مدة مديدة وَأعظم منه انه قد جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ والبادية البعيدة سيما مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ وأوقع الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي بأنواع الإيقاعات والوساوس وبالجملة إِنَّ رَبِّي الذي رباني بأنواع اللطف والكرم لَطِيفٌ مدبر كامل وموفق كافل لِما يَشاءُ من الأمور ويريد إصلاحه إِنَّهُ بذاته هُوَ الْعَلِيمُ بعلمه الحضوري بمصالح عباده الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله على مقتضى ما تعلق به علمه وارادته ثم دعا يوسف عليه السّلام لنفسه وناجى ربه مناجاة صادرة عن محض الحكمة والزكاء والفطنة بقوله رَبِّ يا من رباني بلطفك وفضلك بأنواع التربية واصناف النعم والكرامة بحيث قَدْ آتَيْتَنِي وأعطيتني مِنَ الْمُلْكِ الظاهر اى الحكومة المتعلقة بعالم الشهادة وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ والعبور من صور الحوادث الكائنة في عالم الشهادة والخيال الى ما في عالم الغيب من الصور المقتضية إياها يا فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى عالم الأسماء والصفات التي قد انعكست منها هذه الاظلال الهالكة الشهادية أَنْتَ بذاتك بعد ما قد تحققت بتوحيدك وانكشفت به وارتفعت الحجب بيني وبينك وَلِيِّي ومتولى امرى وحامل أسراري فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ اى في النشأة الاولى والاخرى تَوَفَّنِي واقبضنى يا ربي نحوك مُسْلِماً مسلما مفوضا عموم أموري إليك وَأَلْحِقْنِي بمقتضى فضلك ولطفك بِالصَّالِحِينَ الذين أصلحوا نفوسهم في النشأة الاولى والاخرى حتى يفوزوا من عندك بشرك اللقيا ذلِكَ المذكور من قصة يوسف وما جرى بينه وبين اخوته وبين امرأة العزيز وغير ذلك من الوقائع الهائلة الواقعة على يوسف وعلى أبيه وأخيه من حسد اخوتهما مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ ومن الاخبارات التي قد سترت عنك وعن قومك يا أكمل الرسل نُوحِيهِ إِلَيْكَ ونعلمك نحن بالوحي والإلهام وَبالجملة ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ ودونهم وفي جمعهم وقت إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ويقصدون المكر والخداع مع يوسف وأبيه بعد ما شاوروا كثيرا في إهلاك يوسف وابعاده من عند أبيه واستقرار رأيهم بعد تكرر المشاورة على ما فعلوا به واتفقوا عليه وما أنت ايضا من اهل الإملاء والنسخ حتى تضبط قصصهم من التواريخ ولا من اهل التعلم لتستفيد من الغير بل ما هي الا مجرد وحى يوحى إليك من عندنا وَما أَكْثَرُ النَّاسِ الذين يترددون بين يديك ودونك وَلَوْ حَرَصْتَ أنت بايمانهم وإذعانهم بِمُؤْمِنِينَ لك مصدقين بما جئت به من عند ربك وَما عرض لهم ولحق لنفوسهم من الغفلة لم يقبلوا منك ما قلت لهم إذ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغ ما قد جئت به من عند الله مِنْ أَجْرٍ جعل ومال من حطام الدنيا كما يفعله حملة الاخبار

[سورة يوسف (12) : آية 105]

ومتفقهة الزمان والمتشيخة من اهل التلبيس المقتفين اثر إبليس بل إِنْ هُوَ اى ما هذا القرآن وما فيه من العبر والاحكام والقصص المستلزمة لانواع المواعظ والتذكيرات إِلَّا ذِكْرٌ عام وفائدة جليلة شاملة لِلْعالَمِينَ وَكَأَيِّنْ كثير مِنْ آيَةٍ دالة على وجود الصانع وتوحيده واستقلاله في التصرف والآثار كائنة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى العلويات والسفليات او عالم الأسماء والصفات وعالم الطبيعة المنعكسة منها يَمُرُّونَ عَلَيْها مرور غفلة وذهول وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ حيث لا يعتبرون منها ولا يتأملون فيها وفي رموزها وإشاراتها وما ذلك الا من غاية توغلهم في الكثافة الطبيعية والحجب الظلمانية ونهاية تدنسهم بادناس الطبيعة الهيولانية وَلذلك ما يُؤْمِنُ ويوقن أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ المستغنى في ذاته عن عموم المظاهر والمجالى المستقل بوجوده بحيث لا وجود لغيره أصلا إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ مشتركون له سبحانه من مصنوعاته في استحقاق العبادة ما لا وجود له في نفسه أصلا أَيغفلون أولئك المسرفون عن مكر الله فَأَمِنُوا عن كمال قدرته على الانتقام ولم يخافوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ وترسل عليهم غاشِيَةٌ وعقوبة هائلة نازلة عليهم محيطة بهم مِنْ عَذابِ اللَّهِ في هذه النشأة حيث تغشيهم وتحيط بهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ الموعودة بَغْتَةً فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ اماراتها وعلاماتها وان أصروا على كفرهم واشراكهم بالله وعدم الالتفات بك وبقولك قُلْ لهم يا أكمل الرسل مجاراة عليهم هذِهِ سَبِيلِي اى الدعوة الى التوحيد الذاتي واعداد الزاد ليوم المعاد طريقي وانا انما بعثت لأجلها وتبيينها أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ والى توحيده باذنه كافة عباده عَلى بَصِيرَةٍ تامة فائضة علىّ من عنده سبحانه أَنَا اى ادعو انا بمقتضى الوحى والإلهام وَمَنِ اتَّبَعَنِي من خيار أمتي بوسيلة إرشادي وهدايتي إليهم وَسُبْحانَ اللَّهِ وانزهه تنزيها تاما عن معتقدات اهل الزيغ والضلال في حقه سبحانه وَبالجملة ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ابرئ نفسي عماهم عليه من الشرك المنافى للتوحيد مطلقا. ثم قال سبحانه وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ايها المبعوث الى الكل إِلَّا رِجالًا مثلك من جنس البشر نُوحِي إِلَيْهِمْ ونخصهم بالوحي والإلهام مثل ما خصصناك لنجابة طينتهم في اصل خلقتهم مع انهم مِنْ أَهْلِ الْقُرى اى من جملة ما يسكنون فيها أَيصرون هؤلاء المصرون المعاندون على تكذيبك معللين بقولهم الباطل لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ قد كذبوا الرسل المبعوثين إليهم من جنسهم وبنى نوعهم مثل تكذيبهم إياك حتى يعتبروا منها وَالله لَدارُ الْآخِرَةِ المعدة للفوز والفلاح خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا اى للمؤمنين الذين يحفظون نفوسهم عن عموم ما حذرهم الله عنه أَفَلا تَعْقِلُونَ ايها المسرفون المكذبون بها خيريتها مع انكم مجبولون من زمرة العقلاء وهم ايضا أمثالكم ايها المسرفون المكابرون وتمادوا في الغفلة والإصرار على التكذيب مدة مديدة حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ وقنط الرُّسُلُ المبعوثون إليهم بل وَظَنُّوا من طول الامهال وعدم الأخذ والبطش أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا يقينا وصاروا كأنهم قد اخلف عنهم الوعد الذي وعدوا به من جانب الحق وبعد ما ازداد يأسهم وقنوطهم قد جاءَهُمْ نَصْرُنا الذي وعدناهم وعذابنا الذي قد اوعدنا به أممهم وبعد ما جاء أخذنا إياهم فَنُجِّيَ نوفق ونخلص مَنْ نَشاءُ إيمانه بنا وبرسلنا وانقياده إيانا وإياهم وَبالجملة لا يُرَدُّ بَأْسُنا الذي قد وعدنا به عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الذين قد أجرموا علينا بتكذيب رسلنا وكتبنا وان

[سورة يوسف (12) : آية 111]

طالت مدة الامهال. ثم قال سبحانه تنبيها وحثا لعباده على ما في كتابه من الإشارات لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ اى في قصص الأنبياء المذكورين في القرآن سيما قصة يوسف عليه السّلام عِبْرَةٌ واعتبار واستبصار لِأُولِي الْأَلْبابِ الذين يتأملون ويتعمقون في لب الكلام ويعرضون عن قشوره وبالجملة ما كانَ القرآن وما ذكر فيه من القصص والاحكام حَدِيثاً مموّها مختلقا يُفْتَرى به الى الله افتراء ومراء وَلكِنْ وحى قد نزل من عند الله ليكون تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب الإلهية اى مصدقا عموم أحكامها وآثارها وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ احتيج اليه في الدين والدنيا من الأمور المتعلقة لتهذيب الظاهر والباطن وَهُدىً مرشدا هاديا قائدا لمن تمسك به وعمل بما فيه قد أمن من الضلال ووصل الى فضاء الوصال وَرَحْمَةً عامة تامة شاملة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به ويصدقون بما فيه ويعملون بمقتضاه خاتمة سورة يوسف عليه السّلام عليك ايها المستبصر الخبير والمسترشد البصير بصرك الله بعيوب نفسك وجنبك عن غوائلها ان تعتبر عن القصة التي ذكرت في هذه السورة وتحترز عن مطلق المكائد المذكورة فيها والمخادعات المصرحة بها والمرموزة إليها وتصفى امارة نفسك عن مباديها وتبرئها حسب طاقتك وقدر وسعك وقوتك عما يئول إليها ويؤدّى نحوها وتشمر ذيل همتك لتهذيب ظاهرك وباطنك عما يعوقك عن سلوك طريق التوحيد المفضى الى اضمحلال الرسوم وانقهار التعينات العدمية والاظلال الهالكة المؤدّية الى الكثرة والثنوية الحاجبة عن صرافة الوحدة الذاتية بالنسبة الى ذوى الحجب الكثيفة والغشاوة الغليظة وعليك ان تتوجه بوجه قلبك الى افناء لوازم تعيناتك الباطلة واهويتك العاطلة التي هي شياطين طريقك نحو الحق المنزه عن مطلق التغير والتبدل المقدس عن عموم الانقلابات وعن مطلق التحول والتحويل إذ لا يشغله شأن عن شأن ولا يفتره كر الدهور ومر الأعوام والأزمان بل هو كل يوم وآن في شأن لا كشأن وكل من عليها فان وبالجملة بعد ما قد فنيت أنت عن وجوه تعيناتك رأسا يبقى وجه ربك الذي لا انقلاب له أصلا ذو الجلال الذاتي الأزلي والإكرام الأبدي السرمدي جعلنا الله ممن أيده الحق لسلوك طريق الفناء ووفقهم على افناء ما يعوقهم عن شرف اللقاء ودوام البقاء انه سميع مجيب [سورة الرعد] فاتحة سورة الرعد لا يخفى على من ترقى من مرتبتي العلم والعين بلا تلوين وتحقق واستعلى على مرتبة حق اليقين مع تثبيت وتمكين ان الآثار الغريبة والتدابير العجيبة الكائنة في عالم الكون والفساد انما تصدر عن ذات متصفة بجميع أوصاف الكمال منزهة عن نقص الحدوث والزوال مستقلة في مطلق تصرفاتها بلا مزاحمة ضد وند ومظاهرة معاون وممد إذ لا وجود لغيرها ولا ثبوت لسواها أصلا الا بها ومنها فدلت الأفعال المتقنة والآثار المحكمة والنظام المحسوس المشاهد على هذا النمط البديع على وحدة فاعلها عند من تشبث بأذيال العقل المستدل واما اهل الكشف والشهود المستغرقون في مطالعة جمال الله وجلاله لا يرون في الوجود الا هو ولذلك لا يسندون الآثار والأفعال والحركات والسكنات والحوادث الكائنة مطلقا الا لله أولا وبالذات بلا رؤية الأسباب والوسائل في البين بل

الآيات

انما لا يرون الكل وما يعتقدونه الا من لوائح تجلياته واشعة شئونه الذاتية وتطوراته لذلك نبه سبحانه في كتابه على عباده مخاطبا لحبيبه منبها عليه بان التدابير الكائنة انما تستند اليه تعالى وتصدر عنه بالاستقلال بلا مظاهر ومعين فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المتجلى على ظواهر الكائنات بأنواع التدبيرات الرَّحْمنِ لعموم عباده في النشأة الاولى بوفور العطيات الرَّحِيمِ لهم في النشأة الاخرى بأعظم المثوبات وارفع الدرجات [الآيات] المر ايها الإنسان الكامل اللبيب اللائق لملاحظة رموز آثار الوحدة الذاتية الإلهية اللائح من غرته الغراء مقتضيات لوامع الرشد والرضاء بعموم ما جرى عليه من القضاء تِلْكَ السورة المنزلة إليك يا أكمل الرسل آياتُ الْكِتابِ الجامع لفوائد الكتب المنزلة وأحكامها اى من جملة آياته وبعض منها وَايضا الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ قبل نزول هذه السورة مِنْ رَبِّكَ من الآيات الدالة على تهذيب الظاهر والباطن كلها هو الْحَقُّ المطابق للواقع النازل من عند الحكيم العليم وبالجملة عموم ما انزل إليك في كتابك هذا منجما حق مطابق للواقع بلا شك وارتياب في نزوله من لدنه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لانهماكهم في الغفلة والنسيان لا يُؤْمِنُونَ به ولا يصدقون بما فيه ولا يعتقدون بحقيته وحقية منزله وكيف لا يعتقدون حقيته أولئك الحمقى المعاندون إذ هو اللَّهُ الواحد الأحد المبدئ الرفيع البديع الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ اى العلويات معلقا بِغَيْرِ عَمَدٍ وأساطين يعتمدن عليها ظاهرة كما تَرَوْنَها في بادى النظر لتكون أسبابا ووسائل للسفليات ثُمَّ لما رفعها وصورها على ابلغ النظام وابدعه اسْتَوى واستولى باسمه الرّحمن عَلَى الْعَرْشِ اى على عروش ذرائر الكائنات بالإظهار والإبراز وانواع التدبيرات المتعلقة لحفظها وإبقاء نظامها وانتظامها وَكذلك سَخَّرَ من بينها الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لتتميم التدبير كُلٌّ منهما يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى اى يدور دورة مقدرة شتاء وصيفا ربيعا وخريفا تكميلا لإصلاح ما يتعلق لمعاشهم وحفظهم وبالجملة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى امر معاشكم على ما ينبغي ويليق بلا فتور وقصور يُفَصِّلُ لكم الْآياتِ ويوضح لكم الدلائل والشواهد الدالة على توحيده هكذا لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ رجاء ان تتفطنوا وتتيقنوا بوحدة موجدكم ومربيكم من الدلائل الواضحة والشواهد اللائحة وَكيف لا تتفطنون ايها المجبولون على فطرة الفطنة والذكاء بموجدكم ومربيكم مع انه هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وفرشها مبسوطة وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالا شامخات لتكون أوتادا لها وَاجرى عنها وفي خلالها ووهادها أَنْهاراً منتشئة منها جارية على وجه الأرض لا نبات ما تقتاتون وتتفكهون به عليها وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ قد جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ 4 ليكون سببا لدوامها وبقائها ولانضاجها وإصلاحها يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ اى يلبس الليل بالنهار لتسكين البرودة والنهار بالليل لتسكين الحرارة ليحصل الاعتدال في طبيعة الهوا المنضج وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الحكم والتدابير العجيبة لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويتأملون في حكم الصانع الحكيم المدبر العليم وَايضا من بدائع قدرته وغرائب حكمته انه قد حصل وظهر فِي الْأَرْضِ حسب تدبيره البديع قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ متماثلات في الطبيعة والمزاج وَحدثت ايضا فيها جَنَّاتٌ وبساتين مملوة مِنْ أَعْنابٍ في بعض أطرافها وَفي بعض زَرْعٌ وَفي البعض الآخر نَخِيلٌ مختلفة أنواعها بعضها صِنْوانٌ اى نخلات متكثرة وأصلها

[سورة الرعد (13) : آية 5]

واحد وَغَيْرُ صِنْوانٍ اى متفرقات الأصول مع ان الكل يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَمع وحدة طبيعة الأرض والماء نُفَضِّلُ حسب حكمتنا المتقنة بَعْضَها اى بعض الثمرات عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إذ بعضها ضار لبعض وبعضها نافع وكذا بعضها حلو وبعضها حامض الى غير ذلك من التفاوت والاختلافات الواقعة في الفواكه والثمرات وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الاختلافات مع وحدة طبيعة القابل لَآياتٍ عظاما ودلائل جساما دالة على حكمة الفاعل العليم الحكيم ومتانة فعله وصنعته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في التفكر بمصنوعات الحق والتدبر بمبدعاته ومخترعاته وَإِنْ تَعْجَبْ أنت يا أكمل الرسل انكار الكفار حشر الأجساد مع وضوح دلائله وسطوح براهينه فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ اى فعليك ان تتعجب من قولهم هذا إذ قولهم هذا محل العجب مع شهودهم بالشواهد والآثار التي ذكرت آنفا يقولون هكذا حال كونهم مستفهمين مستبعدين على سبيل التعجب أَإِذا كُنَّا تُراباً وعظاما ورفاتا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ كلا وحاشا ان نعود ونصير إنسانا بعد ما قد صرنا كذلك وبالجملة أُولئِكَ البعداء المعزولون من منهج الرشد هم الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ الذي أوجدهم وأظهرهم من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة ورباهم بأنواع التربية مع ان اعادتهم أيسر من ابدائهم وابداعهم وَبالجملة أُولئِكَ الضالون المقيدون بسلاسل الطبيعة في النشأة الاولى قد صارت الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ في النشأة الاخرى دائما مستمرا وَبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ابد الآباد وَمن قبح صنيعهم ونهاية غفلتهم عن الله 4 وشدة غيرة الحق وانتقامه إياهم يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ المهدد بها والموعد عليها اى يطلبون منك يا أكمل الرسل استعجال إتيانها استهزاء وتهكما قَبْلَ الْحَسَنَةِ الموعودة لهم على تقدير ايمانهم وَالحال انه قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِمُ على أمثالهم من الأمم الهالكة الْمَثُلاتُ اى انواع القصاصات والعقوبات التي قد صارت أمثالا متداولة بين الناس يضرب بها وحال أولئك الغواة الطغاة الهالكين السالفين يكفى لهم ويكف مؤنة استعجالهم واستهزائهم لو تأملوا وتدبروا وَبالجملة هم من غاية إصرارهم وكفرهم وان استحقوا على ما يستعجلون بل على اضعافها وآلافها على أقبح الوجوه لكن قد امهلهم الله العليم الحكيم زمانا حسب حلمه وحكمته إِنَّ رَبَّكَ الحليم الحكيم العليم لَذُو مَغْفِرَةٍ ستر وعفو لِلنَّاسِ المنهمكين في بحر الغفلة والنسيان عَلى ظُلْمِهِمْ اى مع ظلمهم على أنفسهم باستجلاب عذاب الله إياها وَإِنَّ رَبَّكَ ايضا على مقتضى عدله وقهره لَشَدِيدُ الْعِقابِ سريع الحساب على من خرج عن ربقة أطاعته استكبارا واستنكافا وَمن شدة شكيمتهم وغيظهم معك يا أكمل الرسل يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبدينك وكتابك لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ قد اقترحناه بها مِنْ رَبِّهِ ان كان نبيا مثل سائر الأنبياء الماضين لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبكفرهم وقولهم هذا إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ مخبر بما جئت به من عند ربك لا هاد مصلح ما عليك الا البلاغ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ هو الله سبحانه ان تعلق ارادته بهدايتهم يهديهم إذ هو عالم بسرائرهم وضمائرهم وبعموم ما جرى عليهم وما يئول اليه أمرهم إذ اللَّهُ يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى من النطفة المصبوبة المدفوقة وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وتنقصها منها دفعا لفضلاتها وَما تَزْدادُ عليها لتنميتها وتصويرها وَبالجملة كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ اى حصول كل كائن مقدور ومقدر عنده انما هو بمقدار مخصوص من مادة

[سورة الرعد (13) : آية 9]

معينة في مدة مقررة لا ينقص منها ولا يزيد عليها والاطلاع عليها وعلى كيفياتها وكمياتها مما قد استأثر الله به في غيبه إذ هو بذاته عالِمُ الْغَيْبِ اى مطلق الأمور التي قد خفى علينا وغاب عنا انيته ولميته وَالشَّهادَةِ اى الأمور التي قد ظهر لنا انيته دون لميته وكيف لا يعلم الغيب والشهادة سبحانه إذ هو الْكَبِيرُ في ذاته الْمُتَعالِ المنزه المستغنى بصفاته الكاملة عن الاتصاف بصفات كلا العالمين ولوازمهما وان كان كل منهما ايضا من اظلال أوصافه الذاتية وأسمائه الحسنى واعلموا ايها الاظلال الهالكة ان كل ما صدر عنكم وجرى عليكم سَواءٌ عنده سبحانه بالنسبة الى حيطة حضرت علمه المحيط المتعلق بأحوال المكونات مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وأخفاه وأضمره في نفسه وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وأظهره وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ اى مستتر متغط بِاللَّيْلِ وَكذا من هو سارِبٌ بارز ظاهر بِالنَّهارِ إذ لا يشغله شأن عن شأن ولا يحجب عليه الأستار والسدول ولا يعين عليه البروز والظهور إذ لا يخفى عليه شيء لا في الأرض ولا في السماء بل لَهُ سبحانه بالنسبة الى كل شيء من الأشياء حتى الذرة والنملة والخطفة والطرفة مُعَقِّباتٌ من الأوصاف الإلهية مسميات بالملائكة يعقبن عليه متواليا دائما متتاليا محيطات إياه حافظات له مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ عما لا يعنيه وينافره ويؤذيه وما هو الا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إياهم وتعلق ارادته ومشيته بحصانته وحفظه على مقتضى لطفه وجماله إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده المصلح لأحوالهم لا يُغَيِّرُ ولا يبدل ما بِقَوْمٍ من النعمة والعافية والرفاهية والفرح والسرور حَتَّى يُغَيِّرُوا ويبدلوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من محاسن الأخلاق ومحامد الأوصاف الى المقابح والمذام بترك أوامر الله وارتكاب نواهيه وَبالجملة إِذا أَرادَ اللَّهُ المطلع بسرائر عباده واستعداداتهم بِقَوْمٍ سُوْءاً ناشئا من خباثة طينتهم ورداءة فطرتهم فَلا مَرَدَّ لَهُ اى لا يمكن لاحد من خلقه ان يرد ارادته وَكيف يرد مراده سبحانه مع انه ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ سبحانه مِنْ والٍ يتولى أمورهم ويرجعون نحوه في الوقائع والخطوب وكيف يرجعون الى غير الله ويستردون مراده سبحانه منه مع انه هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ بغتة ويورث منه فيكم خَوْفاً من ان يصابوا به وَطَمَعاً بما هو مستتبع له من المطر وَايضا يُنْشِئُ من الابخرة المتصاعدة السَّحابَ المتراكم من الابخرة الثِّقالَ بالمياه المتكثرة وَحين اراءة البروق وإنشاء السحب يُسَبِّحُ الرَّعْدُ المتكون من اصطكاك الابخرة والادخنة المحتبسة بين السحب المتراكمة بِحَمْدِهِ اى بحمد الله بإلقاء الملائكة الموكلين عليه المعاقبين الممدين له إياه وَالْمَلائِكَةُ ايضا يسبحون حينئذ بحمده مِنْ خِيفَتِهِ وخشيته سبحانه ومن سطوة سلطنة قهره وجلاله وَايضا يُرْسِلُ سبحانه الصَّواعِقَ الكائنة من الابخرة والاجنة المحترقة بالاجزاء النارية فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ إهلاكه وقتله زجرا له وانتقاما عليه وَبالجملة هُمْ مع غاية ضعفهم وعدم قدرتهم وقوتهم يُجادِلُونَ ويكابرون فِي توحيد اللَّهِ وفي عموم ما جاءت به رسله من عنده من الأوامر والنواهي المتعلقة بالنشأة الاولى والاخرى وَالحال انه لكمال قدرته وبسطته وسلطنته القاهرة وجلاله الغالب هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ صعب المكابدة شديد الانتقام سيما لمن جادل معه وكذب رسله بالباطل لكن لَهُ سبحانه دَعْوَةُ الْحَقِّ المطابق للواقع الصادرة من الرأى المحق المتحقق بمرتبة التوحيد اى قبولها وإجابتها وإنجاحها لمن دعا بها مخلصا في دعائه وتوجهه بها نحو الحق

[سورة الرعد (13) : آية 15]

وَالأصنام والأوثان الَّذِينَ يَدْعُونَ المشركون المسرفون المكابرون إياهم مِنْ دُونِهِ اى من دون الله لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ قليل مما يطلبونه فكيف بالكثير بل ما مثلهم في دعوة الأصنام ودعائهم إياهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ اى كمثل عطشان قد بسط كفيه الى الماء يدعوه لِيَبْلُغَ فاهُ ويرويه والحال انه غائر عميق وهو جماد لا شعور له ليجيب دعوته وَما هُوَ بِبالِغِهِ وبسبب ذلك قد زاد عطشه وحرقة قلبه وزفرة صدره كذلك المشركون يدعون أصنامهم ليشفعوا لهم ويصلوا الى مرامهم بواسطتهم والحال انه هم جمادات لا يقدرن على الإيصال والقبول أصلا وَبالجملة ما دُعاءُ الْكافِرِينَ الساترين باباطيلهم الكاذبة وأوثانهم الباطلة العاطلة نور الحق الحقيق بالحقية الوحيد في الألوهية الفريد بالمعبودية إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع وخسران وحرمان وخذلان وبطلان وَكيف يتوجه ويدعى لغير الحق مع انه لا اله الا هو ولا شيء سواه لذلك لِلَّهِ المتأصل في الوجود المتصف بالقيومية لا لغيره من الاظلال الهالكة في أنفسها يَسْجُدُ ويتذلل ويتضرع عموم مَنْ فِي السَّماواتِ اى في عالم الأسماء والصفات المسماة بالأعيان الثابتات وَكذا عموم من في الْأَرْضِ اى عالم الطبائع والأركان من الصور والهياكل المتكونة المنعكسة من الأسماء والصفات طَوْعاً طائعين راغبين عن خبرة واستبصار وَكَرْهاً كارهين عن حيرة وضلال وَايضا يسجد له سبحانه ظِلالُهُمْ اى لوازم هوياتهم وما يترتب عليها دائما بِالْغُدُوِّ اى في أول الظهور والبروز وَالْآصالِ اى في وقت الانمحاء والزوال قُلْ يا أكمل الرسل لمن عاند الحق وجادل مع اهله مكابرة مستفهما على سبيل التبكيت والإسكات مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وموجدهما ومظهرهما من كتم العدم ومربيهما بأنواع التربية والكرم قُلْ أنت ايضا في جواب سؤالك إذ هم معزولون عن التنطق بكلمة الحق وكيف لا وقد ختم الله على قلوبهم وأفواههم اللَّهُ اى الموجد المربى هو الله المستقل بالالوهية والربوبية لا اله سواه ولأمر بي الا هو. ثم بعد ما ظهر الحق قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع أَفَاتَّخَذْتُمْ وأخذتم ايها الجاهلون بحق الله وحق قدره مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ معبودات من جنس مصنوعاته سيما من أدونها وهي الجمادات التي لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ لا نَفْعاً وَلا ضَرًّا فضلا لغيرهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل توبيخا وتقريعا ايها الجاهلون المعزولون عن مقتضى العقل الفطري هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى الفاقد البصر وَالْبَصِيرُ الواجد لها أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ اى الاعدام الهالكة في أنفسها وَالنُّورُ «4» اى الوجود المتشعشع اللامع في ذاته ازلا وابدا أَمْ جَعَلُوا أولئك الحمقى العمى الهلكى في تيه الغفلة والضلال لِلَّهِ المنزه عن مطلق المثل والمثال شُرَكاءَ مثله وهم ايضا قد خَلَقُوا واوجدوا كَخَلْقِهِ وإيجاده فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ يعنى بحيث قد اشتبه عليهم وتشابه عندهم خلق شركائهم بخلقه سبحانه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا قُلْ يا أكمل الرسل إرشادا وتكميلا اللَّهُ المستجمع لصفات الكمال بأسرها والمربى لعموم الكائنات برمتها خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ومظهرها وموجدها بالاستقلال والانفراد بلا مظاهرة ولا مشاركة أصلا وَهُوَ بذاته الْواحِدُ الأحد المستقل في الوجود الْقَهَّارُ لعموم الأغيار الهالكة في أنفسها المنعكسة من اظلال أسمائه الحسنى وأوصافه العليا الباقية في صرافة عدميتها الاصلية ومن كمال اشفاقه سبحانه وشمول مرحمته على عباده قد أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ اى من فضاء عالم اللاهوت

_ (4) جمع الظلمات وافراد النور باعتبار تعددات التعينات العدمية ووحدة شمس الذات [.....]

[سورة الرعد (13) : آية 18]

ماءً الا وهو ماء الايمان والعرفان المحيي لأموات العكوس والاظلال فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها اى قد امتلأت النفوس القدسية القابلة للمعارف والحقائق بقدر ما يسع في استعداداتها منها فسالت بعد ما امتلأت فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً اى دفع وأماط مياه المعارف والحقائق المترشحة من بحر الوحدة الذاتية السائلة من قلوب الكمل زبد التقليدات الحاصلة من رسوب القوى البشرية وغش الطبيعة لتسقطها على أطراف بحر الوجود وتصفيه عن الكدورات مطلقا وَمثل ذلك الزبد الباطل يحصل مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ اى من الأشياء التي يطرح في النار ويوقد عليها لتصفيها من الكدر من الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها حين أرادوا ان يصفوها من الغش والكدر ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ اى طلب اتخاذها منها أَوْ مَتاعٍ آخر من الأواني وآلات الحرب زَبَدٌ فاسد باطل في نفسه مِثْلُهُ اى مثل الزبد الاول وبالجملة كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ المصلح لأحوال عباده الْحَقَّ وَالْباطِلَ لهم كي يتنبهوا ويتفطنوا فيتبعوا الحق ويجتنبوا عن الباطل ثم بين لهم سبحانه مآلهما توضيحا وتقريرا بقوله فَأَمَّا الزَّبَدُ المرتفع على الماء فَيَذْهَبُ جُفاءً ويضمحل ويتلاشى بالجفاف كما ان زبد التقليدات يسقط ويضمحل باشراق نور اليقين وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ من مياه المعارف والحقائق فَيَمْكُثُ ويستقر فِي الْأَرْضِ اى الطبيعة القابلة لانعكاس اشعة الأسماء والصفات الإلهية لينبت فيها منها شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ فطلبوا منه الْحُسْنى اى المثوبة الحسنى العظمى والمرتبة العليا معتقدين افاضتها واعطاءها إياهم وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ مثل ما استجاب اهل الحق ولم يعتقدوا مثل ما اعتقد أولئك المحقون لذلك لم ينالوا نصيبهم وحظهم منها مثل ما نالوا بحيث لَوْ فرض أَنَّ لَهُمْ وثبت في تصرفهم ملك ما فِي الْأَرْضِ من الزخارف والأموال جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ بل أمثاله وأضعافه معه لَافْتَدَوْا بِهِ جميعا لينالوا بما نال أولئك السعداء المقبولون لكن لم ينالوا البتة بل أُولئِكَ الأشقياء المردودون عن ساحة عز القبول لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ يحاسبون على عموم ما صدر عنهم من النقير والقطمير ويؤاخذون عليه وَفي الآخرة مَأْواهُمْ ومثواهم جَهَنَّمُ الخذلان وسعير الطرد والحرمان وَبالجملة بِئْسَ الْمِهادُ مهد أولئك الضالين عن منهج الرشد والسداد أَيعتقد المشرك المتمرد عن متابعك وقبول دينك فَمَنْ يَعْلَمُ ويصدق أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لتأييدك من الكتاب الجامع لما في الكتب السالفة من الأوامر والنواهي والعبر والأمثال والرموز والإشارات هو الْحَقُّ المطابق للواقع بلا شك وارتياب فيه كَمَنْ هُوَ أَعْمى يعنى ايعتقدون ان هذا المؤمن المصدق مثل من هو أعمى عن ابصار ما يرى في الآفاق من المبصرات بل هو أشد عمى لأنه فاقد البصيرة إذ لا يمكن ادراك الأمور الدينية والمعارف اليقينية إلا بها وبالجملة إِنَّما يَتَذَكَّرُ ويتفطن بسرائر كتاب الله أُولُوا الْأَلْبابِ المستكشفون عن لب الأمور المعرضون عن قشورها ولا يحصل ذلك الا بالبصيرة الا وهم المؤمنون الموقنون الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ الذي عهدوا معه حين رش ورشح سبحانه من رشحات نور الوجود على أراضي استعداداتهم وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ الوثيق بل يحفظونه ويواظبون على حفظه دائما حسب ما وفقهم الحق وَكذا هم الَّذِينَ يَصِلُونَ ويتصفون بعموم ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من المأمورات والمرضيات الإلهية والمعارف والحقائق والخصال الجميلة والأخلاق الحميدة وَ

[سورة الرعد (13) : آية 22]

مع ذلك يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ عن ارتكاب المنهيات والمحظورات وكذا عن مطلق الذمائم من الأخلاق والأطوار وَبالجملة هم يَخافُونَ من الله وعن مخالفة امره ونهيه سُوءَ الْحِسابِ ورداءة المنقلب والمآب وَأيضا هم الَّذِينَ صَبَرُوا إذا اصابتهم مصيبة واحاطتهم بلية ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ اى ما سبب صبرهم الا طلب مرضات ربهم مسترجعين اليه سبحانه متضرعين نحوه وَأَقامُوا الصَّلاةَ واداموا الميل والتوجه نحوه في عموم الأحوال والأزمان وَمع ذلك أَنْفَقُوا للفقراء المستحقين مِمَّا رَزَقْناهُمْ ووفقناهم عليه واقدرناهم لكسبه وجمعه سِرًّا اى على وجه لا يشعر الفقير بالمنفق ولا يعرفه أصلا لئلا يتأذى بتوهم المن والأذى وَعَلانِيَةً على وجه يشعر به لكن يبالغ المنفق في التذلل والانكسار بحيث لا يتوهم المنة أصلا وَايضا هم الذين يَدْرَؤُنَ اى يدفعون ويسقطون بِالْحَسَنَةِ الخصلة الحميدة والخلق المرضى السَّيِّئَةَ الذميمة القبيحة من الخصائل والأخلاق وبالجملة أُولئِكَ السعداء الأولياء ذووا العهد والوفاء وأولوا الخوف والرجاء الصابرون على عموم البلاء الراضون بما جرى عليهم من سوء القضاء المتوجهون الى المولى في السراء والضراء المنفقون مما عندهم لرضاه سبحانه على الفقراء وبالجملة قوم سعداء قد حصل لَهُمْ حين كانوا في النشأة الاولى عُقْبَى الدَّارِ الاخرى وما يحصل فيها من اللذات والمثوبات ورفع الدرجات ونيل المرادات بلا انتظار لهم الى النشأة الاخرى والطامة الكبرى ومن جملتها جَنَّاتُ عَدْنٍ ودار اقامة وخلود ومنزل كشف وشهودهم يَدْخُلُونَها اصالة واستحقاقا وَيدخل ايضا بشفاعتهم وتبعيتهم مَنْ صَلَحَ لصحبتهم ورفاقتهم مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وممن ينتمى إليهم وكذا من استرشد منهم واهتدى بهدايتهم من اهل الطلب والارادة وَحين استقروا وتمكنوا فيها يزورهم الْمَلائِكَةُ ويطوفون حولهم ترحيبا وتعظيما بحيث يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب الجنة قائلين سَلامٌ عَلَيْكُمْ ايها الفائزون بالفلاح والنجاح بِما صَبَرْتُمْ في دار الابتلاء بأنواع المحن والبلاء فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ منزلكم ومنقلبكم في دار القرار وعواقب أموركم فيها من الفرح الدائم وسرور المستمر ثم بين سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب حسن عواقب الأبرار بقبح احوال الأشرار وبوخامة عواقبهم بقوله وَالمسرفون المفرطون الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ الذي عهدوا معه في بدء الوجود واصل الفطرة سيما مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ الوثيق وأحكامه المحكم البليغ وَمع ذلك يَقْطَعُونَ ويتركون عموم ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ويحافظ عليه وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بأنواع الفسادات من الظلم والزور والافتراء والمراء وانواع المكابرة والمعاداة مع الأنبياء والأولياء وسوء الظن مع ارباب المحبة والولاء أُولئِكَ البعداء المعزولون عن ساحة عز القبول لَهُمُ اللَّعْنَةُ والطرد والحرمان والرد والخذلان في النشأة الاولى وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ورداءة المرجع والمآب في النشأة الاخرى ثم لما افتخر اهل مكة بما عندهم من الامتعة والزخارف وباهوائها واستحقروا فقراء المؤمنين وشنعوا عليهم رد الله عليهم هذياناتهم هذه بكلام ناش عن محض الحكمة فقال اللَّهُ المطلع على استعدادات عباده يَبْسُطُ يكثر ويوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ من عباده في النشأة الاولى وَيَقْدِرُ يقبض وينقص على من يشاء ارادة واختيارا حكمة منه وتدبيرا وَهم في أنفسهم وحسب مفاخرتهم ومباهاتهم بحطام الدنيا قد فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا المستعارة التي لإقرار لها ولا ثبات لنعيمها

[سورة الرعد (13) : آية 27]

وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا وما يترتب عليها من اللذات الفانية والمشتهيات الغير الباقية فِي جنب حيوة الْآخِرَةِ وما يترتب عليها من اللذات الدائمة والمثوبات الباقية إِلَّا مَتاعٌ قليل لا يؤبه به ولا يلتفت اليه عند من كان له ادنى مسكة وَمن خبث طينتهم ورداءة فطرتهم يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبكتابك ودينك لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ملجئة لنا بالإيمان مِنْ رَبِّهِ مع انه يدعى التأييد من لدنه ومع شدة شغفه وحرصه لان نؤمن له قُلْ لهم يا أكمل الرسل ما علىّ الا البلاغ إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بمقتضى علمه وعدله لمن أراد إضلاله وانتقامه وَيَهْدِي إِلَيْهِ على مقتضى جوده مَنْ أَنابَ اليه عن ظهر القلب إذ كل ميسر لما خلق له وبالجملة الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا بتوحيد الحق وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ اى تسكن وتستقر عن دغدغة التقليد الباطل والتخمين المضمحل الزائل بِذِكْرِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في الوجود بلا اضطراب وتردد فقد اضمحلت وتلاشت عن صحائف خواطرهم نقوش الأغيار والسوى مطلقا أَلا تنبهوا ايها الاظلال الطالبون للوصول الى مرتبة الكشف والشهود بِذِكْرِ اللَّهِ المسقط لعموم الإضافات تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وتتمكن في مقام الحضور وتستريح عن تشويشات الأوهام وبالجملة الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا في أوائل سلوكهم وطلبهم حتى يتحققوا في مرتبة اليقين العلمي وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى مطلوبهم ليصلوا الى مرتبة اليقين العيني طُوبى لَهُمْ الفوز بالفلاح والنجاح وَحُسْنُ مَآبٍ وقت تحققهم بمقام الكشف والشهود الذي هو مرتبة اليقين الحقي وكَذلِكَ اى مثل ما أرسلنا الرسل على الأمم المنحرفة الماضية بمقتضى سنتنا السنية القديمة أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل فِي أُمَّةٍ منحرفة عن طريق الحق وليس ارسالك عليهم ببدع مستحدث بل قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أمثالهم مائلون عن طريق الحق وسواء السبيل وكما قد أرسلنا إليهم الرسل وايدناهم بالكتب والصحف وكانوا يتلون على أممهم لينجذبوا نحو الحق كذلك قد أرسلناك الى أمتك لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ وتبلغهم الكتاب الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من المعارف والحقائق القدسية والآداب السنية والأخلاق المرضية المقبولة في جنابنا المودعة في استعدادات عبادنا ليفوزوا بها سعة رحمتنا وجودنا وَهُمْ لانهماكهم في الغفلات والشهوات يَكْفُرُونَ وينكرون بِالرَّحْمنِ الذي قد وسع كل شيء رحمة وعلما قُلْ يا أكمل الرسل للمنكرين الغافلين تنبيها عليهم وتبليغا وان كانوا من الحمقى الهالكين في تيه الغفلة والنسيان هُوَ الله المستجمع لعموم أوصاف الكمال رَبِّي وربكم ومتولى أموري وأموركم لا إِلهَ في الوجود يعبد له ويرجع اليه في الوقائع والخطوب إِلَّا هُوَ الله الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لا شريك له وبالجملة عَلَيْهِ لا على غيره من الوسائل والاظلال تَوَكَّلْتُ في عموم أموري وَإِلَيْهِ لا الى غيره من الأسباب العادية مَتابِ مرجعي ومعادي وَبالجملة لَوْ أَنَّ قُرْآناً بمثابة ومكانة لو تلى وقرئ قد سُيِّرَتْ وتحركت بِهِ الْجِبالُ عن مكانها الأصلي واندكت وقلعت أَوْ قُطِّعَتْ انصدعت وانشقت بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى عند قراءته عليهم وإسماعه لهم بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ والحكم والقدرة الكاملة والحول التام والقوة الغالبة في الأمور المذكورة جَمِيعاً له سبحانه ان تعلق ارادته ومشيته لكان الكل مقضيا البتة ومع ذلك هم لم يؤمنوا به ولم يقبلوه منك لشدة شكيمتهم وغاية

[سورة الرعد (13) : آية 32]

قسوتهم ثم قال سبحانه أَفَلَمْ يَيْأَسِ ولم يقنط الَّذِينَ آمَنُوا عن ايمان أولئك المدبرين المعاندين مع ظهور امارات الكفر عليهم وعلامات الإنكار عنهم سيما بعد ما سمعوا في حقهم من الله ما سمعوا ولم يعلم هؤلاء المؤمنون أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ وتعلق ارادته بهداية الكل لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً فلم يهدهم لعدم تعلق ارادته بهداية البعض وَبالجملة لا تقنطوا ايها المؤمنون عن نصر الله إياكم على أعدائكم ولا تيأسوا عن روحه إذ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا وأصروا على الكفر عنادا واستكبارا تُصِيبُهُمْ وتدور عليهم بِما صَنَعُوا اى بقبح صنيعهم وإصرارهم عليه قارِعَةٌ داهية هائلة تقرع اسماعهم ويضطربون بها اضطرابا شديدا أَوْ تَحُلُّ وتنزل الداهية العظيمة في حواليهم قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ ومساكنهم لتدور عليهم حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ الذي قد وعده لنبيه بان ينتقم عنهم ويعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة في الدنيا بالفتح والظفر عليهم وفي الآخرة بأنواع العقاب والعذاب إِنَّ اللَّهَ المؤيد لأنبيائه المنجز لما وعدهم من إهلاك أعدائهم لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ثم لا تحزن أنت يا أكمل الرسل من استهزائهم وسخريتهم بك ولا تبال بعمههم وسكرتهم وبطرهم وثروتهم واشتهارهم بمالهم وجاههم وَالله لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ أشد من استهزاء هؤلاء بك فَأَمْلَيْتُ وأمهلت لِلَّذِينَ كَفَرُوا اى للمستهزئين الذين كفروا حتى انهمكوا في الغفلة وتوغلوا فيها بطرين فرحين ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فجاءة واستأصلتهم بغتة فَكَيْفَ كانَ عِقابِ مع أولئك ومع هؤلاء أشد من ذلك. ثم قال سبحانه أَينسى الحساب ويترك العقاب فَمَنْ هُوَ قائِمٌ مطلع محاسب ومراقب محافظ عَلى كُلِّ نَفْسٍ من النفوس الخيرة والشريرة ليحيط بِما كَسَبَتْ فيجازيها ان خيرا فخير وان شرا فشر وَلا سيما مراقبة اهل الشرك الذين قد جَعَلُوا لِلَّهِ الواحد الأحد المنزه عن الشريك والولد شُرَكاءَ فوق واحدة من اظلاله ومصنوعاته مع انه سبحانه قد تنزه وتعالى عن مطلق التعدد علوا كبيرا قُلْ لهم يا أكمل الرسل تبكيتا عليهم وإلزاما سَمُّوهُمْ اى أولئك الشركاء بأسماء وصفوهم بصفات يستحقون بها الألوهية والربوبية أَمْ تُنَبِّئُونَهُ وتخبرونه بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ 4 اى بأسماء وصفات لا يعلمها من في الأرض بل انما يعلمها من في السماء أَمْ سموهم بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ مجازا بلا اعتبار المعنى الحقيقي فيهم وبالجملة هم عاجزون عن الكل ساكتون عنه بَلْ انما زُيِّنَ وحسن لِلَّذِينَ كَفَرُوا وأشركوا مَكْرُهُمْ اى تمويههم وتلبيسهم الصادر من تلقاء أنفسهم بلا مستند عقلي او نقلي بل مع علمهم ببطلانها ايضا وَمع ذلك قد صُدُّوا واعرضوا بواسطة هؤلاء الأسامي المجردة الباطلة عَنِ سواء السَّبِيلِ وقصدوا ايضا أعراض ضعفاء المؤمنين عن طريق الحق وما هو الا من غيهم وضلالهم في اصل فطرتهم وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ وأراد ضلاله فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديهم ويوفقهم الى سبيل الرشد بل لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بغفلتهم عن معرفة الله وعن اللذات الروحانية مطلقا مع عدم شعورهم بها قطعا وَالله لَعَذابُ الْآخِرَةِ حين انكشف الحال وارتفع الحجب أَشَقُ وأصعب وَكيف لا يكون عذاب الآخرة أشق إذ ما لَهُمْ فيها مِنَ اللَّهِ من عذابه وانتقامه مِنْ واقٍ حافظ شفيع يشفعهم ليخفف عنهم او يحفظهم من عذابه. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته من تعقيب الوعيد بالوعد مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ المتحفظون نفوسهم عن ارتكاب المعاصي والآثام مطلقا الممتثلون بعموم ما أمروا ونهوا من العقائد والاحكام تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

[سورة الرعد (13) : آية 36]

الْأَنْهارُ لاجرائهم انهار المعارف والحقائق على أراضي استعداداتهم لا نبات ثمرات الكشوف والشهود أُكُلُها من الرزق المعنوي والاغذية الروحانية دائِمٌ غير منقطع وَكذا ظِلُّها الذي يستريحون فيه دائم غير زائل بحيث لا انقطاع له أصلا كاظلال الدنيا تِلْكَ الجنة التي قد وصفت بما وصفت عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا اى عاقبة امر المؤمنين الذين اتقوا عن محارم الله وَعُقْبَى الْكافِرِينَ المصرين على ارتكاب المعاصي والشهوات البهيمية النَّارُ المعدة لهم بدل لذاتهم وشهواتهم الحسية. ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ واتبعناهم النبي المبين لهم ما فيه من الأوامر والنواهي يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ اى بكتابك الجامع لما في كتبهم لأنهم يجدونه موافقا مطابقا لكتبهم وَمِنَ الْأَحْزابِ اى من هؤلاء المتحزبين في امر القرآن مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ اى الآيات الناسخة لبعض احكام كتبهم قُلْ لهم انما نسخ ما نسخ من الاحكام الجزئية بمقتضى سنة الله في نسخ بعض الاحكام الجزئية الثابتة في الكتب السابقة باحكام الكتب اللاحقة وليس هذا منا ببدع واما العقائد الكلية المصونة عن طريان النسخ والتبديل فهي المتفق عليها بين جميع الكتب السماوية المنزلة على جماهير الأنبياء لذلك إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الفرد الحقيق بالحقية المستقل في الألوهية والربوبية وَلا أُشْرِكَ بِهِ شيأ من اظلاله ومصنوعاته بمقتضى امره وحكمه سبحانه إِلَيْهِ لا الى غيره من الاظلال الهالكة في اشراق شمس ذاته أَدْعُوا دعاء مؤمل متضرع خاضع خاشع وَكيف لا ادعوه واتحنن نحوه وإِلَيْهِ مَآبِ منقلبي ومرجعي رجوع الظل الى ذي الظل وَكَذلِكَ اى مثل انزالنا للأمم الماضية كتابا بعد كتاب ناسخا لبعض ما فيه على مقتضى الأزمان والأقوام كذلك أَنْزَلْناهُ اى القرآن إليك يا أكمل الرسل حُكْماً مبينا للقضايا بمقتضى الحكمة المتقنة عَرَبِيًّا مناسبا بلسانك ولسان قومك ليسهل لهم الاسترشاد والاستهداء به ناسخا لبعض ما في الكتب السالفة وَالله لَئِنِ اتَّبَعْتَ أنت بنفسك أَهْواءَهُمْ وان كانت قبل النسخ هدى سيما بَعْدَ ما جاءَكَ في كتابك مِنَ الْعِلْمِ المتعلق بنسخها وبصيرورتها بعد النسخ هوى ما لَكَ مِنَ اللَّهِ اى من غضبه وانتقامه عنك مِنْ وَلِيٍّ يتولى أمرك بالاستخلاص والاستشفاع وَلا واقٍ حافظ يحفظك ويمنعك من مقته. ثم قال سبحانه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مثلك مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً مثل أولادك وأزواجك فلا تقدح في نبوتهم أزواجهم وأولادهم فكيف تقدح في نبوتك مع انك أفضل منهم وَايضا قد أرسلنا رسلا من قبلك ما كانَ وما صح وما جاز لِرَسُولٍ منهم أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ مقترحة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ووحيه إذ لِكُلِّ أَجَلٍ ووقت يسع فيه امر من الأمور الكائنة والفاسدة كِتابٌ نازل من عنده سبحانه ناطق بوقوع عموم ما كان ويكون فيه وبالجملة يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وينسخه بمقتضى حكمته وارادته وَيُثْبِتُ ما أراد إثباته وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ اى حضرة العلم المحيط ولوح محفوظ القضاء وحضرة القدر المتوالية المتتالية على مقتضى الأوصاف الذاتية الإلهية والتجليات اللطفية والقهرية والجلالية والجمالية وَبالجملة لا تفرح يا أكمل الرسل إِنْ ما نُرِيَنَّكَ اى ان تحقق اراءتنا إياك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من الإهلاك والاجلاء والقهر والغلبة أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ يعنى لا تغتم ايضا ان تحقق توفينا لك قبل رؤيتك بما نعدهم من العذاب والنكال فَإِنَّما عَلَيْكَ وليس في وسعك وطاقتك الا الْبَلاغُ بما أمرت بتبليغه وَعَلَيْنَا الْحِسابُ والجزاء

[سورة الرعد (13) : آية 41]

بمقتضاه عاجلا وآجلا أَينكرون حسابنا إياهم وانتقامنا عنهم وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ التي قد شاع فيها كفرهم كيف نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وأرجائها حتى ضاقت عليهم بإظهار دين الإسلام وكثرة اهله وَاللَّهُ المدبر بمقتضى الحكمة يَحْكُمُ بحكم مبرم لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ أصلا ليبدله ويغيره وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ صعب الانتقام على من أراد تغيير حكمه وتبديله وَقَدْ مَكَرَ القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مع أنبيائهم المبعوثين إليهم مثل مكر هؤلاء الماكرين معك يا أكمل الرسل فلحقهم ما لحقهم وهم غافلون عن مكر الله فَلِلَّهِ المطلع لعواقب الأمور الْمَكْرُ اى جنس المكر المعتد به جَمِيعاً إذ هو يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ من خير وشر ونفع وضر فينتقم عنها بمقتضى علمه وَهم وان غفلوا عن مكر الله وما يترتب عليه من الوبال سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ المصرون على الكفر والضلال لِمَنْ من الفريقين عُقْبَى الدَّارِ والعاقبة الحميدة في النشأة الاخرى وَمن شدة شكيمتهم وغيظهم معك يا أكمل الرسل يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا بدينك وكتابك اى رؤساؤهم وصناديدهم لَسْتَ أنت مُرْسَلًا من عند الله مثل سائر الرسل لذلك ما نتبعك وما نؤمن بك وبكتابك قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ اى كفى الله بي شاهدا لإثبات رسالتي وادّعائى النبوة إذ أيدني بالمعجزات القاطعة والبراهين الساطعة وَكذا كفى بي شاهدا ايضا مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ اى من كان من اهل الكتب السالفة وله علم بها وعلم رسالتي منصوص مصرح فيها جزما او المعنى من كان له علم الكتاب من اصحاب الألسن والفصاحة وارباب الفطنة والذكاء المتأملين في رموزات الكتاب المتعمقين في استكشاف سرائره لو تأملوا فيه حق تأمل وتدبر لم يبق لهم شائبة شك وتردد في انه ما هو من جنس كلام البشر بل ما هو الا وحى يوحى الىّ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور خاتمة سورة الرعد عليك ايها الطالب القاصد لاستكشاف سرائر المرتبة الجامعة المحمدية التي قد اتحد عندها قوسا الوجوب والإمكان واتصل دونها الغيب والشهادة ان تتأمل في القرآن المنزل عليه من عند ربه حسب نشأته وكمال استعداده وعزة شأنه وتتدبر حق التدبر في مرموزاته حسب وسعك وطاقتك وان كان الاطلاع على غوره من المستحيلات سيما بالنسبة الى ذوى الاستعدادات الضعيفة حتى يشهد له ذوقك ووجدانك وتصدق أنت من نفسك رسالته ونبوته وهدايته الى توحيد ربه وإرشاده الى سبيل الحق ولا يتيسر لك هذا الا بعد تصفية ظاهرك عن الشواغل الحسية والعلائق الدنياوية الدنية مطلقا وباطنك عن مطلق التقليدات والتخمينات المورثة لدرن الجهالات ورين الأوهام والخيالات الموقعة لانواع الشبهات والترددات وبالجملة لا يحصل لك هذا الا بعد تحققك بمرتبة الموت الإرادي وخروجك عن مقتضيات هويتك الناسوتية مطلقا جعلنا الله ممن أيده الحق لسلوك طريق توحيده ووفقه على سواء سبيله وهداه الى زلال مشرب تفريده بمنه وجوده [سورة ابراهيم عليه السّلام] فاتحة سورة ابراهيم عليه السّلام لا يخفى على اولى البصائر والاستبصار وذوى الفهم والاعتبار من المستكشفين المستنيرين بلوا مع

الآيات

نور الوجود المتشعشعة المتجلية على صفائح المكونات الغيبية والشهادية ان حكمة إرسال الرسل وإنزال الكتب انما هو لإخراج اصحاب الجهالات والغفلات عن ظلمات الضلالات ومهاوي التقليدات والتخمينات الى نور اليقين وفضاء العرفان ليتنبهوا على شأنهم في منشأهم ومآلهم في مبدئهم ومعادهم ويتفطنوا بسرائر إيجادهم واظهارهم وحكمه وبعد تنبههم وتفطنهم يتيسر لهم سلوك طريق التوحيد المنجى عن غياهب الشكوك وظلمات الأوهام ويحصل لهم الترقي من المنزل الأنزل الأدنى الى المقام الأرفع الأعلى لذلك خاطب سبحانه حبيبه بما خاطب وانزل عليه ما انزل تأييد اله وتتميما لإرشاد عباده الى توحيده فقال متيمنا باسمه الكريم بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بالكمالات اللائقة على صدور أنبيائه لتكميل من آمن لهم من عباده وهدايتهم الى طريق توحيده الرَّحْمنِ لهم بإرسال من هو من جنسهم ليسهل بهم الاستفادة والاسترشاد منه بلا كلفة الرَّحِيمِ لهم بانزال الكتاب الجامع لجميع شعائر سلوكهم في مبدئهم ومعادهم ليدوم هدايته وإرشاده فيهم [الآيات] الر ايها الإنسان الكامل الأحق الأليق لقبول لوامع لوائح رقائق رموز الربوبية بان تنزل على قلبك بطريق الوحى والإلهام فنذيعه أنت بين الأنام على سبيل الإرشاد والتكميل هذا كِتابٌ جامع لجميع آثار لوامع رقائق الربوبية واسرار لوائح رموز الألوهية مناسب مطابق لمرتبتك الجامعة قد أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تأييدا لك في أمرك لِتُخْرِجَ النَّاسَ الناسين المقام الأصلي والمنزل الحقيقي مِنَ الظُّلُماتِ الامكانية الطبيعية الهيولانية إِلَى النُّورِ البحت الخالص عن شوب المادة والمدة وليس اخراجك يا أكمل الرسل إياهم الا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ الذي رباهم في اصل استعدادهم وفطرتهم بأنواع اللطف والكرم ووفقهم على قبول ما قد جئت به من عنده ليوصلهم إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الغالب في امره بمقتضى قدرته وارادته على الوجه الأقوم الأعدل الْحَمِيدِ في فعله لخلوه عن كلا طرفي الإفراط والتفريط وكيف لا يكون صراطه مستقيما وفعله معتدلا مقتصدا إذ هو اللَّهِ المستجمع لجميع الكمالات القادر المقتدر الَّذِي لَهُ وفي قبضة قدرته تكوين عموم ما فِي السَّماواتِ من الكواكب السيارات والثابتات على النمط البديع والنظم العجيب وَكذا ما فِي الْأَرْضِ من العناصر والمركبات على أقوم الأمزجة وأعدلها وَوَيْلٌ اى طرد وتبعيد عن مرتبة التوحيد لِلْكافِرِينَ الساترين شمس الحق الظاهر في الآفاق بالعدالة التامة وكمال الاستحقاق بغيوم الاظلال الباطلة والعكوس المستهلكة العاطلة مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ هو مسخهم وتبديلهم عن كمال مظهرية الحق وخلافته الى مرتبة الحيوانات العجم بل الى مرتبة الجمادات التي هي انزل المراتب وبالجملة أولئك البعداء الضالون عن منهج الحق كالأنعام في عدم الشعور والإدراك بل هم أضل الا وهم الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا المستعارة التي لا مدار لها ولا قرار إذ هي اظلال باطلة وعكوس عاطلة زائلة عَلَى الْآخِرَةِ اى على الحيوة الاخروية التي هي بقاء سرمدي وحيوة ازلية ابدية لا انقضاء لها أصلا وَهم مع اختيارهم وترجيحهم الحيوة الفانية على الباقية يَصُدُّونَ ويصرفون ايضا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو الايمان بالله وبرسوله وكتابه وَيَبْغُونَها عِوَجاً اى يطلبون ان يحدثوا فيها مع استقامتها عوجا وانحرافا أُولئِكَ الأشقياء المردودون عن طريق الحق الساعون في الباطل مكابرة وعنادا فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الهداية بمراحل بحيث لا يرجى هدايتهم أصلا لأنهم هم المجبولون على الغواية والضلال في اصل فطرتهم وَبالجملة ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ

[سورة إبراهيم (14) : آية 5]

من الرسل على امة من الأمم إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ اى ما أرسلناه الا بلغة موافقة بلغة قومه ليفقهوا منه حديثه ويفهموا لسانه ولِيُبَيِّنَ لَهُمْ طريق التوحيد ويجنبهم عن خلافه وما عليه وليس في وسعه الا البلاغ فَيُضِلُّ اللَّهُ المضل المذل لعباده مَنْ يَشاءُ إضلاله واذلاله حسب قهره وجلاله وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته بمقتضى لطفه وجماله وَهُوَ في ذاته الْعَزِيزُ الغالب على عموم ما أراد وشاء ارادة واختيارا الْحَكِيمُ المتقن في فعله على مقتضى ارادته ثم ذكر سبحانه قصة إرسال موسى الى قومه حين فشا الجدال والمراء بينهم وانحرفوا عن طريق الحق ليتعظ بها المؤمنون ويعتبروا فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنا من مقام فضلنا وجودنا مُوسى المؤيد بِآياتِنا الباهرة مثل العصى واليد البيضاء وسائر المعجزات الظاهرة على يده وقلنا له أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ الضالين عن سواء السبيل بمتابعة الاهوية الفاسدة مِنَ انواع الظُّلُماتِ الطارئة عليهم من الكفر والفسوق والعصيان والتقليدات والتخمينات الناشئة من الأوهام والخيالات المنبعثة عن الكثرة المستدعية للانانية التي هي الظلمة الحقيقة إِلَى النُّورِ الحقيقي الذي هو صرافة التوحيد والوحدة الذاتية المسقطة لعموم الإضافات والكثرات وَذَكِّرْهُمْ ايضا بِأَيَّامِ اللَّهِ التي قد مضت على الأمم الهالكة من أمثال هذه الأفعال المورثة لانواع الظلمات لعلهم يعتبرون عن سماعها وينصرفون عماهم عليه من القبائح والذمائم إِنَّ فِي ذلِكَ اى في ذكر تلك الوقائع الهائلة والبليات العظيمة لَآياتٍ دلائل واضحة وعبرا ظاهرة لِكُلِّ مؤمن معتبر من أمثالها خائف عن بطش الله صَبَّارٍ على عموم ما جرى عليه من قضائه شَكُورٍ مبالغ في أداء الشكر على ما قد وصل اليه من آلائه ونعمائه وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ حين أراد تعديد نعم الله عليهم وإحسانه إليهم ليستحيوا عن مخالفة امره وترك طاعته وعبادته اذْكُرُوا ايها المغمورون بنعم الله نِعْمَةَ اللَّهِ الفائضة عَلَيْكُمْ من لدنه وواظبوا لأداء حق شيء منها سيما إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ حين يَسُومُونَكُمْ ويقصدون لكم سُوءَ الْعَذابِ وأسوأ العقاب وافضحه واقبحه وَهو انه يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ قمعا وقلعا لعرقكم وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ توبيخا وتقريعا عليكم وَبالجملة فِي ذلِكُمْ العذاب بَلاءٌ واختبار لكم نازل مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ إذ هو باقدار الله إياهم وتمكينه ولا بلاء أعظم منه والإنجاء عن أمثال هذه البليات من أعظم النعماء وأجل الآلاء فعليكم ان تواظبوا لشكره وَاذكروا ايضا إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ وأعلمكم اعلاما بليغا وأوصاكم وصية عظيمة تتميما لتربيتكم لَئِنْ شَكَرْتُمْ على ما أعطيتم من النعم العظام وقمتم لأداء حقها لَأَزِيدَنَّكُمْ واضاعفنكم بأمثالها واضعافها وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ في مقابلة الإحسان والعطاء لا يلحق علىّ اثر كفرانكم بل إِنَّ عَذابِي ونكالي على من انصرف عن امرى وخرج عن إطاعتي وانقيادي لَشَدِيدٌ مبرم محكم لا يندفع أصلا فعليكم ان تلازموا الشكر وتجانبوا عن الكفران وَبعد ما فرغ عن التعديد والتذكير قالَ لهم مُوسى قولا ناشئا عن محض الحكمة والرزانة بمقتضى نور النبوة والولاية إِنْ تَكْفُرُوا ايها الغافلون عن كمال استغناء الله وعلو شانه وسمو سلطانه وبرهانه أَنْتُمْ بأجمعكم وَعموم مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فان ذلك لا يزن في جنب استغنائه سبحانه مقدار جناح بعوضة فَإِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء لَغَنِيٌّ في ذاته هما سواه من اظلاله مطلقا حَمِيدٌ بمقتضيات أوصافه وأسمائه أَلَمْ يَأْتِكُمْ ايها التائهون في تيه الغفلة

[سورة إبراهيم (14) : آية 10]

والغرور نَبَؤُا الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ مثل قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ من الأمم الهالكة لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ المطلع لعموم ما كان ويكون بحيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه مثقال ذرة لا في الأرض ولا في السماء حين جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ المبعوثون إليهم بِالْبَيِّناتِ الواضحات والمعجزات الباهرات المثبتة لرسالاتهم فدعوهم الى الايمان والتوحيد فامروهم بالمعروفات ونهوهم عن المنكرات فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ مشيرين إليها من غاية انكارهم واستهزائهم وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا وقد اعترفنا بالكفر بأفواهنا هذه. قد أخبروا عن كفرهم وكفرانهم بالجملة الماضويه تحقيقا وتقريرا لما هم عليه من الكفر والطغيان بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وبعموم ما قد جئتم به من عند ربكم وَكيف نؤمن لكم إِنَّا لَفِي شَكٍّ عظيم وارتياب تام مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الإله الواحد الأحد الفرد الصمد المتصف بجميع صفات الكمال الموجد المظهر للكائنات مُرِيبٍ موقع للريب القوى المؤدى الى الإنكار العظيم إذ المتصف بهذه الصفات لا بد ان يكون اظهر من الشمس مع انه أخفى من كل شيء بل لا وجود له أصلا قالَتْ لهم رُسُلُهُمْ على سبيل التوبيخ والتقريع أَفِي اللَّهِ الظاهر المتجلى في الأنفس والآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق شَكٌّ وتردد مع كونه فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وموجدهما ومظهرهما من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة انما يَدْعُوكُمْ سبحانه الى توحيده بإرسال الرسل وإنزال الكتب لِيَغْفِرَ لَكُمْ بعضا مِنْ ذُنُوبِكُمْ وهو ما بينكم وبينه سبحانه إذ حق الغير لم يسقط ما لم يعف صاحب الحق عنه وَبعد دعوتكم يُؤَخِّرَكُمْ ويمهلكم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى مقدر من عنده وهو يوم الجزاء ليهيئ كل منكم زاد يومه هذا على الوجه المأمور المبين في الكتب المنزلة على الرسل وبعد ما سمعوا من الرسل ما سمعوا قالُوا مستكبرين عليهم مستهزئين لهم إِنْ أَنْتُمْ ولستم في انفسكم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تأكلون وتشربون وتفعلون أنتم جميع ما نفعل نحن تُرِيدُونَ أنتم بأمثال هذه الحيل والتزويرات الباطلة أَنْ تَصُدُّونا وتنصرفونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا وأسلافنا من الآلهة والأصنام وان صدقتم في دعواكم هذه فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ وبحجة واضحة لائحة نقترحها نحن منكم قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ مسلمين منهم المشاركة في الجنس إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ نشارك لكم في عموم احوال البشر وأوصافه ولوازمه على الوجه الذي قررتم أنتم وَلكِنَّ اللَّهَ المنعم المفضل يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بمقتضى جوده وإحسانه بفضائل مخصوصة وكرائم غير شاملة حسب تفاوت مراتبهم واستعداداتهم المثبتة في علم الله ولوح قضائه وَاما امر مقترحاتكم فانه ما كانَ وما صح وما جاز لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ وبرهان أنتم تقترحون به إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وبتوفيقه ووحيه واقداره وتمكينه ان تعلق ارادته بصدوره منا وَعَلَى اللَّهِ لا على غيره من الأسباب والوسائل العادية فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ الموحدون المفوضون أمورهم كلها الى الله أولا وبالذات بحيث لا يعتقدون الحول والقوة الا بالله المستقل في ذاته وأوصافه وأفعاله وَبعد ما ايسوا عنهم وعن صلاحهم اشتغلوا الى تزكية نفوسهم وتصفية قلوبهم حيث قالوا من كمال شوقهم وودادتهم ما لَنا واى عذر قد عرض لنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ المصلح لأحوالنا ولم لم نتخذه وكيلنا وكفيلنا وَالحال انه سبحانه بمقتضى لطفه وجماله قَدْ هَدانا وأوضح لنا سُبُلَنا لنسلك بها نحو توحيده وعرفانه مع ان عموم ما جرى علينا من المنافع والمضار انما

[سورة إبراهيم (14) : آية 13]

هو من عنده سبحانه وبمقتضى مشيته وارادته وَالله بعد ما تحققنا بمقام التوحيد وتمكنا في مقر التجريد والتفريد لَنَصْبِرَنَّ عَلى عموم ما آذَيْتُمُونا بالرد والإنكار والتكذيب والاستكبار وغير ذلك من الاستهزاء وسوء الأدب وكيف لا نصبر إذ الكل بيده سبحانه وبحيطة حضرة قدرته وارادته وانما وصل إلينا عموم ما وصل من المنح والمحن انما هو ابتلاء منه سبحانه إيانا واختبار لنا وَبعد ما قد تحقق وثبت ان الكل من عنده عَلَى اللَّهِ المستقل في عموم التصرفات الجارية في ملكه وملكوته لا على غيره من الأسباب والوسائل العادية فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ الموحدون المفوضون أمورهم كلها اليه وليبذلوا مهجهم في ترويج دينه وطريق توحيده وإعلاء كلمته وَبالجملة قد ادّى امر استكبارهم واستنكارهم وتكذيبهم الى ان قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ حين بالغوا في دعوتهم وهدايتهم لَنُخْرِجَنَّكُمْ ايها المزورون الملبسون مِنْ أَرْضِنا اجلاء وإخراجا على وجه الاهانة والإذلال التام أَوْ لَتَعُودُنَّ أنتم كما كنتم منصفين ملجئين فِي مِلَّتِنا التي هي ملة آبائكم واسلافكم فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ حين اشتد الأمر عليهم واضطروا من ظلمهم وطغيانهم قائلا لهم على سبيل الوعد والتبشير لا تبالوا ايها الرسل المبلغون كلمة الحق إليهم عن تهديداتهم وتشنيعاتهم هذه ولا تخافوا عن شوكتهم وصولتهم إذ نحن أقوى منهم لَنُهْلِكَنَّ بمقتضى قهرنا وجلالنا ونستأصلن الظَّالِمِينَ الخارجين عن ربقة إطاعتكم وانقيادكم وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ نورثنكم ونقررنكم الْأَرْضَ التي هم يريدون إخراجكم منها مهانين صاغرين مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد إهلاكهم واستئصالهم ذلِكَ اى إهلاك العدو وايراث الأرض والديار لِمَنْ خافَ مَقامِي اى للمؤمنين الموحدين الخائفين عن قيامي وحفظي واطلاعى بعموم احوال عبادي وبسبب خوفهم هذا لا يخرجون عن مقتضى امرى ونهي وَمع ذلك قد خافَ وَعِيدِ وعن بطشى وانتقامي في يوم الجزاء بأنواع العذاب والنكال ومن غاية خوفهم ورعبهم عن الوعيدات الاخروية قد استعدوا لها وهيئوا اسباب النجاة عنها جعلنا الله ممن وفق لتهيئة اسباب أخراه في أولاه وَكيف لا ينصرهم الحق ولا يهلك عدوهم إذ هم قد اسْتَفْتَحُوا واستنصروا من الله وطلبوا الفتح والنصرة على أعدائهم مفوضين أمورهم كلها اليه مسلمين أبدانهم وأرواحهم على قضائه سبحانه لذلك قد فتح عليهم ونصرهم سبحانه على عدوهم وَقد خابَ خيبة ابدية وخسر خسرانا سرمديا كُلُّ جَبَّارٍ متكبر متجبر على الله وعلى عباده عَنِيدٍ مبالغ في العتو والعناد مع أنبيائه ورسله ومع ذلك لا يقتصر عليهم بالعذاب العاجل بل مِنْ وَرائِهِ اى في وراء العذاب العاجل الدنيوي جَهَنَّمُ البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان الأخروي وَيُسْقى فيها حين اشتداد زفرتهم مِنْ ماءٍ اى مايع كالماء صَدِيدٍ قيح سائل من جراحات أجساد اهل النار المنهمكين في النشأة الاولى بأكل السحت واموال الأيتام والرشى في الاحكام وخبيث بشيع في غاية البشاعة بحيث يَتَجَرَّعُهُ بتكلف شديد واضطراب بليغ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ ولا يقرب ان يجرى على حلقه وينحدر منه للزوجته وحرارته وشدة التصاقه وَلعدم اساغته وجوازه وغاية بشاعته يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ ويتوجه نحوه ويحيط به اسباب الموت والهلاك من كل عضو من أعضائه لوصول اثر اشتداده ورداءته وبشاعته كل جزء جزء من أجزاء بدنه حتى اصول شعره فتقشعر من هوله كما يشاهد بمثله عند شرب الأدوية الردية الكريهة الرائحة واللذة مثل السقمونيا والحنظل وغير ذلك وَمع إتيان اسباب الموت من

[سورة إبراهيم (14) : آية 18]

جميع الأعضاء ما هُوَ بِمَيِّتٍ حتى يخلص عن العذاب وَمِنْ وَرائِهِ وعقيب سقيه على هذا الوجه يأتيه عَذابٌ غَلِيظٌ من انواع العقاب. ثم قال سبحانه كلاما جمليا شاملا لعموم اصحاب الضلال مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ الذي رباهم بأنواع النعم فكفروا النعم والمنعم جميعا ولم يصلوا الى مرتبة توحيده وعرفانه ولم يؤمنوا به حتى يصلوا بالسلوك والمجاهدة اليه لذلك صار مثلهم وشأنهم العجيب وحالهم الغريب في ما يتلى عليكم هذا أَعْمالُهُمْ الحسنة من الصدقة والعتق والصلة وغير ذلك من الأعمال المقربة نحو الحق ان كانت مقرونة بالإيمان والمعرفة كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ذي رياح شديدة عاصفة فطار بها الرماد الى حيث لم يبق في مكانه اثر منه اى مثلهم وشأنهم في كون أعمالهم وحسناتهم ضايعة حبطة يوم القيمة كمثل ذلك الرماد بحيث لا يَقْدِرُونَ لدى الحاجة مِمَّا كَسَبُوا واقترفوا من الأعمال المنجية المخلصة عَلى شَيْءٍ قليل حقير فكيف بالعظيم الكثير منها ذلِكَ الإحباط وعدم النفع هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ بمراحل عن الهداية والفوز بالفلاح وما ذلك الا لعدم مقارنتها بالإيمان والعرفان ولتكذيب الرسل المبينين لهم طريق التوحيد والإيقان أَلَمْ تَرَ ايها الرائي المستبعد لإحباط اعمال أولئك الكفرة المعاندين مع الله ورسله أَنَّ اللَّهَ تعالى القادر المقتدر بالقدرة التامة الكاملة بحيث لا ينتهى قدرته دون مقدور أصلا قد خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وأوجدهما من كتم العدم على سبيل الإبداع والاختراع خلقا ملتبسا بِالْحَقِّ الثابت المطابق للواقع الموافق للحكمة المتقنة البالغة الكاملة بحيث ما ترى فيها من فطور وفتور ليشاهد اهل البصائر والاعتبار هذا النمط البديع والنظام العجيب فينكشفوا منها الى مبدأها ومنشأها ومع ذلك إِنْ يَشَأْ سبحانه يُذْهِبْكُمْ ايها المائلون عن طريق الحق الناكبون عن مقتضى حكمته بمتابعة اهوية نفوسكم ومقتضيات هوياتكم الباطلة وَيَأْتِ بدلكم بِخَلْقٍ آخر جَدِيدٍ مستبدع مستحدث ليواظبوا على طاعته ويداوموا على مقتضيات حكمته وَلا تستبعدوا من الله أمثال هذا إذ ما ذلِكَ وأمثاله عَلَى اللَّهِ المتعزز بالمجد والبهاء والعظمة والكبرياء والبسطة والاستيلاء بِعَزِيزٍ متعذر او متعسر إذ لا يتعسر عند قدرته الكاملة الغالبة مقدور ولا يتعذر دونه شيء من الأمور وَكيف يتعسر او يتعذر عليه شيء من الأمور مع ان الكل منكم ومن غيركم قد بَرَزُوا وظهروا في النشأة الاولى ورجعوا وانصرفوا في النشأة الاخرى لِلَّهِ المظهر المبرز لعموم ما ظهر وبرز من كتم العدم جَمِيعاً مجتمعين إذ لا يخرج عن حيطته شيء فَقالَ الضُّعَفاءُ من ذوى الاستعدادات القاصرة حين أخذوا بجرائمهم لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عليهم في النشأة الاولى بالرياسة والمال والجاه والعقل التام وادعاء الفضل والكمال الى حيث جعلوا نفوسهم متبوعين لهم مضطربين مضطرين إِنَّا كُنَّا لَكُمْ ايها الأشراف تَبَعاً في دار الدنيا وأنتم ناصحون لنا آمرون إيانا بتكذيب الرسل وبارتكاب انواع الفواحش والقبائح الممنوع عنها بألسنة الرسل والكتب فَهَلْ أَنْتُمْ اليوم حين أخذنا على ما أمرتمونا مُغْنُونَ دافعون مانعون عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ المنتقم منا مِنْ شَيْءٍ اى بعض من عذابنا ونكالنا قالُوا اى الأشراف المستكبرون المتبوعون بعد ما عاتبهم الضعفاء لَوْ هَدانَا اللَّهُ الهادي لعباده لَهَدَيْناكُمْ نحوه البتة ولكن قد أضلنا حسب اسمه المضل فاضللناكم نحن فالآن نحن وأنتم ضالون مضلون ظالمون مؤاخذون سَواءٌ عَلَيْنا وعليكم

[سورة إبراهيم (14) : آية 22]

أَجَزِعْنا عن شدة العذاب والنكال أَمْ صَبَرْنا على مقاساة الأحزان ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ مخلص ومناص وَقالَ الشَّيْطانُ اى الاهوية الفاسدة المفسدة لهم في نشأتهم الاولى مصورة على صورة الشيطان المضل المغوى لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ اى بعد استقرار اهل الجنة في الجنة واهل النار في النار إِنَّ اللَّهَ المصلح المدبر لأحوال عباده قد وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ بهذا اليوم الذي أنتم تؤاخذون فيه وَوَعَدْتُكُمْ انا اضلالا وإغواء لكم بخلافه وبالجملة فَأَخْلَفْتُكُمْ انا عموم ما وعدتكم به بخلاف ما وعد به ربكم فان إنجازه مقطوع به بلا شك فيه أصلا واتبعتم أنتم بمقتضى طباعكم قولي مع انه ما هو الا غرور وإضلال لا يرجى إنجازه منى وَالحال انه ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ حجة مرجحة وادلة ملجئة إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ وسوى ان اغريتكم بمقتضى اهويتكم وامنيتكم التي تقتضيها هويتكم وماهيتكم ومع ذلك فَاسْتَجَبْتُمْ لِي وصدقتم قولي وقبلتم تغريري بلا تردد ومماطلة طوعا ورغبة فَلا تَلُومُونِي اليوم بل وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ الباعثة الداعية على متابعتي مع جزمكم بمكرى وعداوتي وبالجملة ما أَنَا اليوم بِمُصْرِخِكُمْ مغيثكم ومعينكم وان ادعيت فيما مضى ذلك تغريرا وتلبيسا وَما أَنْتُمْ ايضا بِمُصْرِخِيَّ إذ قد انكشفت الحال وانقطعت علقة المحبة ورابطة المودة بيننا وصارت كل نفس رهينة بما كسبت إِنِّي اليوم بعد انكشاف السرائر والضمائر قد كَفَرْتُ أنكرت وتبرأت بِما أَشْرَكْتُمُونِ اى باشتراككم معى في الشرك بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له أصلا مِنْ قَبْلُ في دار التلبيس والتزوير والإغواء والتغرير وبالجملة إِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات أوامر الله ونواهيه عدوانا وظلما في ما مضى لَهُمْ اليوم عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم أشد إيلام. ثم بين سبحانه على مقتضى سننه المستمرة بعد ما بين وخامة احوال الهالكين المنهمكين في تيه العتو والعناد وفظاعة أمرهم في يوم الجزاء حال المؤمنين عن تغريرات الدنيا الدنية وتسويلات الشياطين الغوية فيها فقال وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله وصدقوا كتبه ورسله وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ التي هي نتائج الايمان وثمرات اليقين والعرفان جَنَّاتٍ متنزهات من العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة بمياه العلوم اللدنية لتنبت في أراضي استعداداتهم ومزارع قابلياتهم مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من المكاشفات والمشاهدات الخارجة عن طوق البشر وطور العقل ومع ذلك صاروا خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ اى برضاه وتوفيقه وتيسيره تَحِيَّتُهُمْ من قبل الحق بالسنة الملائكة حين وصولهم ونزولهم فِيها سَلامٌ لأنهم مسلمون منقادون مسلمون أمورهم كلها الى الله في النشأة الاولى أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر المنصف الخبير البصير كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ الهادي لعباده الى توحيده مَثَلًا ليتنبهوا منه حيث شبه كَلِمَةً طَيِّبَةً هي كلمة التوحيد القائلة المفصحة المعربة بان لا وجود لسوى الحق كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ هي النخلة التي أَصْلُها وعروقها ثابِتٌ في الأرض بحيث لا يقلعها ولا يشوشها الرياح أصلا وَفَرْعُها اى أفنانها وأغصانها مرتفعة فِي السَّماءِ وجانبها تُؤْتِي أُكُلَها وثمارها كُلَّ حِينٍ من الأحيان المعينة للاثمار بِإِذْنِ رَبِّها وبمقتضى ارادته ومشيته يعنى كما ان النخلة تنمو وتثمر بسبب أصلها الثابت في الأرض وفرعها المرتفع نحو السماء ويحصل منها الثمر وقت حصولها كذلك شجرة الكلمة الطيبة التوحيدية المستقر أصلها في أراضي الاستعدادات الفطرية المرتفعة أغصانها وأفنانها نحو سماء العالم الروحاني المثمرة لثمرات المكاشفات والمشاهدات القالعة لعرق مطلق التقليدات

[سورة إبراهيم (14) : آية 26]

والتخمينات القامعة لاشواك عموم الكثرات الناشئة من النسب والإضافات العدمية وَلا حاجة لأولى البصائر والألباب المنكشفين بصرافة الوحدة الذاتية وبإطلاق الوجود الإلهي البحت الخالص عن مطلق القيود والحدود الى أمثال هذه التنبيهات بل ما يَضْرِبُ اللَّهُ المطلع لسرائر استعدادات عباده الْأَمْثالَ المذكورة الا لِلنَّاسِ الناسين عهودهم ومواثيقهم مع الله بالمرة بحجب تعيناتهم المستتبعة لعموم الإضافات والكثرات لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ رجاء ان يتذكروا ما نسوا من أمثال هذه الأمثال والتنبيهات وَايضا مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهي كلمة الكفر المستتبعة لانواع الفسوق والعصيان المخالفة لجادة التوحيد النافية لصرافة الوحدة الذاتية كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ هي الحنظلة التي اجْتُثَّتْ اى أخذت تنمو جثتها مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ بلا استحكام عرقها وأصلها في الأرض وتعمقها فيها لذلك ما لَها مِنْ قَرارٍ وثبات إذ ادنى الرياح يقلبها كيف يشاء يعنى كما ان الشجرة الخبيثة الغير المستقرة يقلبها الرياح كيف يشاء كذلك اعتقادات الكفرة والفسقة المقلدة يقلبها ادنى رياح الشكوك والشبهات ويوقعها في مهاوي الأوهام واغوار الخيالات وبالجملة يُثَبِّتُ اللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده اقدام المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ اى بالإقرار المطابق للاعتقاد والواقع فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الى حيث قد بذلوا أرواحهم من كمال تثبتهم وتمكنهم ورسوخهم في الايمان والتوحيد ونهاية حرصهم وتشددهم لإعلاء كلمة الحق ونصرة الدين القويم بحيث لا ينصرفون عنها أصلا وَفِي الْآخِرَةِ ايضا بحيث لا يتلعثمون ولا يضطربون يوم العرض الأكبر بل في البرزخ ايضا عند سؤال المنكر والنكير وَكما يثبت ويقرر الله المعز الهادي اقدام المؤمنين على الايمان كذلك يُضِلُّ اللَّهُ المذل المضل الظَّالِمِينَ الخارجين عن ربقة العبودية عنادا واستكبارا ويثبت اقدامهم على الضلالة بحيث لا يفوزون بالفلاح والنجاح أصلا بل صاروا خالدين في النار ابد الآباد وَبالجملة يَفْعَلُ اللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء ما يَشاءُ من الهداية والإضلال والإعزاز والإذلال أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي إِلَى الظالمين المسرفين الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ الفائضة عليهم من محض فضله وعطائه ليشكروا له ويواظبوا على أداء حقوقه كُفْراً وزادوا بها كفرانا وطغيانا حيث صرفوها الى نشر البغي والعدوان على الله وعلى خلص عباده مع ان المناسب صرفها الى إعلاء كلمة الله ونصر دينه ونبيه وَبذلك قد أَحَلُّوا وادخلوا قَوْمَهُمْ وأنفسهم دارَ الْبَوارِ ومنزل الهلاك والخسار يعنى جَهَنَّمَ التي يَصْلَوْنَها ويدخلون فيها اذلّاء مهانين صاغرين مقهورين لا نجاة لهم منها أصلا وَبالجملة بِئْسَ الْقَرارُ والمقر مقرهم ومحل قرارهم الذي هو جهنم الطرد والخذلان وَمن خبث بواطنهم وشدة شكيمتهم قد جَعَلُوا لِلَّهِ المتوحد في ذاته أَنْداداً واشباها شركاء له من اظلاله ومصنوعاته لِيُضِلُّوا بإثباتها ضعفاء الأنام عَنْ سَبِيلِهِ الذي هو دين الإسلام المنزل على خير الأنام الموصل الى توحيد الله العليم العلام وقُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع تَمَتَّعُوا ايها المسرفون بما أنتم عليه من الكفر والعناد فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ ومآل أمركم إِلَى النَّارِ المعدة لتخذيلكم وجزائكم قُلْ يا أكمل الرسل لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا بجميع ما قد جئت به إليهم من امور الدين سيما الصلاة المصفية لبواطنهم والزكاة المزكية لظواهرهم عليهم ان يُقِيمُوا الصَّلاةَ ويديموها في الأوقات المقدرة المحفوظة وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ على المستحقين سِرًّا بلا سبق سؤال وَعَلانِيَةً بعد السؤال وبالجملة استعدوا ايها الطالبون

[سورة إبراهيم (14) : آية 32]

للنجاة لأخريكم في أولئكم واعدوا زاد عقباكم في دنياكم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ يتدارك ويتلافى المقصر بالإنفاق والصدقة بعض تقصيراته وَايضا لا يقبل فيه خِلالٌ وشفاعة من خليل شفيع وصديق حميم يشفع للجرائم والتقصيرات وكيف لا تستعدون ايها المكلفون بعد ما أمركم الله باعداده وسهل أسبابه عليكم إذ اللَّهُ الموفق على عباده اسباب معادهم هو الخالق المدبر المصلح الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ اى العلويات المعدة للافاضة والإحسان من الأسماء والصفات وَالْأَرْضَ اى السفليات القابلة للفيض والقبول من الطبائع والأركان وَأَنْزَلَ وأفاض مِنَ جانب السَّماءِ ماءً وعلما لدنيا فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ انواع الثَّمَراتِ الصورية والمعارف والمكاشفات والمشاهدات التي هي عبارة عن الثمرات المعنوية لتكون رِزْقاً لَكُمْ مقوما لأمزجتكم مبقيا لحياتكم الصورية والمعنوية لتواظبوا على طاعة الله واعداد زاد يوم الميعاد وَمع ذلك قد سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ والسفن الجارية التي هي أبدانكم واجسامكم لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ اى بحر الوجود بِأَمْرِهِ وبمقتضى مشيئته وارادته لتسيروا معها الى حيث شئتم وتتجروا بها وتربحوا من المعارف والحقائق وَايضا قد سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ الجارية والقوى الروحانية المملوة بمياه العلوم اليقينية السارية السائرة على بسيط الأرض وفضاء القوابل من السنة الأنبياء والأولياء ليسهل لكم إخراج الجداول منها للحراثة والزراعة الصورية والمعنوية وَسَخَّرَ لَكُمُ ايضا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وقد صيرهما دائِبَيْنِ دائرين مختلفين في سيرهما شتاء وضيفا خريفا وربيعا لإنضاج ما تحرثونه وتزرعونه وايضا قد وضع بينكم مرتبتي النبوة والولاية وادارهما بينكم على تفاوت طبقاتكم أبرارا وشطارا اقطابا وابدالا لتنجذبوا نحو الحق وتتصلوا ببحر الوحدة وَايضا قد سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ والعدم والوجود لسباتكم ومعاشكم وسيركم وسلوككم نحو وحدة الذات وَبالجملة قد آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ بلسان استعداداتكم وقابلياتكم من متممات نفوسكم ومكملات ادراككم وَبالجملة قد بلغ انعامه وإحسانه سبحانه إياكم في الكثرة الى حيث إِنْ تَعُدُّوا وتحصوا نِعْمَتَ اللَّهِ الفائضة عليكم لتربيتكم وتقويتكم لا تُحْصُوها ولا يسع لكم احصاؤها من نهاية كثرتها ووفورها فعليكم ان تواظبوا على شكرها وأداء شيء من حقها وان كانت القوة لا تفي بأدائها بل بأداء شيء منها على وجهها لكن قليل منكم تشكرون نعمه إِنَّ الْإِنْسانَ المجبول على الغفلة والنسيان في اصل فطرته باعتبار قوى بشريته وبهيميته لَظَلُومٌ مظلوم محزون عند لحوق الشدة وهجوم البلاء كَفَّارٌ مبالغ في الكفران والنسيان وقت الفرح والسرور وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ جدك إِبْراهِيمُ الخليل الجليل صلوات الله عليه حين ناجى مع الله بعد ما قد عمر مكة شرفها الله رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ الذي تأمرنى بتعميره آمِناً ذا أمن وأمان من تخريب العدو وتغييره وَاجْنُبْنِي وبعدنى وَبَنِيَّ ايضا عن أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ بتسويلات الاهوية الفاسدة وتغريرات الشياطين المضلة المغوية رَبِّ إِنَّهُنَّ اى الأوثان والأصنام بإظهارك بعض الخوارق عليها ابتلاء منك وفتنة لعبادك قد أَضْلَلْنَ وصرفن كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عن جادة توحيدك فَمَنْ تَبِعَنِي منهم بعد دعوتي إياهم الى توحيدك فَإِنَّهُ مِنِّي وعلى ملتي وديني وَمَنْ عَصانِي ولم يقبل قولي وأصر على ما هو عليه فَإِنَّكَ بمقتضى فضلك وجودك غَفُورٌ قادر على العفو

[سورة إبراهيم (14) : آية 37]

المغفرة من عموم المعاصي الصادرة عنهم رَحِيمٌ يرحمهم حسب سعة رحمتك وحلمك رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ ومكنت بإذنك مِنْ ذُرِّيَّتِي اى بعضا منهم وهو إسماعيل وبنوه بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ إذ هي حجرية لا زرع فيها ولا حرث عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ سمى به إذ قد حرمت فيه المقاتلة والصيد والتعرض والتهاون مطلقا حفظا لحرمته لذلك لا يزال معظما مكرما يهابه الجبارة وانما اسكنتهم عنده ليكنسوا بيتك من الأقذار ويصفوه من الاكدار رَبَّنا ما أسكنت وأقمت ذريتي عند بيتك الا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ويديموا الميل المقرب نحو جنابك وفناء بابك فَاجْعَلْ حسب فضلك وجودك أَفْئِدَةً ووفدا كثيرا وقفلا عظيما مِنَ النَّاسِ تَهْوِي تميل وتتوجه إِلَيْهِمْ من الجوانب وَارْزُقْهُمْ مِنَ انواع الثَّمَراتِ الروحانية والنفسانية المهداة إليهم من البلاد البعيدة يأتى بها الزوار والتجار لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ نعمك ويواظبون على طاعتك وخدمة بيتك عن فراغ القلب وخلاء الخاطر رَبَّنا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي من حوائجنا وَما نُعْلِنُ منها ومالنا علم به إذ أنت اعلم بحوائجنا منا إذ علمك بنا وبعموم مظاهرك ومصنوعاتك حضورى ذاتى ولا علم لنا بذاتنا كذلك بل ما نحن الا عاجزون قاصرون عن ادراك أنفسنا كعجزنا عن ادراك ذاتك يا مولينا لذلك قال اصدق القائلين صلّى الله عليه وسلّم في مقام العجز والقصور من عرف نفسه فقد عرف ربه وَكيف تخفى عليك حوائجنا إذ ما يَخْفى وليس شيء يستر ويغيب عَلَى اللَّهِ المحيط بعموم الأشياء لا مِنْ شَيْءٍ ظاهر ولا باطن لا فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وكيف خفى عليه شيء إذ هو عالم بها مظهر لهما محيط بهما بحيث لا يعزب عنه شيء منهما وبالجملة الْحَمْدُ الكامل والمنة التامة لِلَّهِ المنعم المفضل الَّذِي وَهَبَ لِي من يخلفني ويحيي اسمى حين أيست إذ قد بلغ سنى عَلَى غاية الْكِبَرِ والهرم يعنى إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ روى انه قد ولد له إسماعيل لتسع وتسعين سنة واسحق لمائة وثنتى عشرة سنة وبالجملة إِنَّ رَبِّي الذي رباني بأنواع الكرم وشرفني بخلعة الخلة وكمال الحلم والكرم لَسَمِيعُ الدُّعاءِ الذي قد صدر عن لسان استعدادي وقابليتي باذنه واقداره سبحانه ومجيبه وهو طلب من يخلفني ويقوم مقامي رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ومديم الميل والتوجه نحوك على وجه الخضوع والخشوع وكمال التبتل والإخلاص وَاجعل مِنْ ذُرِّيَّتِي ايضا من يقيمها ويديمها على الوجه المذكور رَبَّنا استجب منى وَتَقَبَّلْ دُعاءِ في حقي وفي حق أولادي واحفادى رَبَّنَا اغْفِرْ لِي بفضلك إذ لا املك لنفسي نفعا ولا ضرا وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ جميعا واعف حسب جودك عن زلتى وزلاتهم يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ وينشر الكتاب ويحاسب على كل نفس ما كسبت من الخير والإحسان والشر والعصيان وَبالجملة لا تَحْسَبَنَّ يا أكمل الرسل اللَّهَ المطلع على سرائر الأمور وخفياتها غافِلًا ناسيا ذاهلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن حدود الله بإمهالهم زمانا بل إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ ويسوف عذابهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ وتتحير فِيهِ الْأَبْصارُ وصاروا من شدة الهول والمهابة بحيث لا يقدرون على ان يطرفوا عيونهم بل تبقى ابدا مفتوحة حائرة كعيون الموتى كأنهم قد انقطعت أرواحهم عن اجسادهم من شدة الهول والهيبة وهم مع هذه الحيرة والدهشة مُهْطِعِينَ مسرعين نحو المحشر حيارى سكارى مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ اى رافعيها نحو السماء مترقبين لنزول البلاء مدهوشين هائمين حائرين بحيث لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لشدة ولههم وهيمانهم وَفي تلك الحالة

[سورة إبراهيم (14) : آية 44]

أَفْئِدَتُهُمْ وقلوبهم التي هي محل الأماني والخيالات الفاسدة هَواءٌ خالية عارية لا يخطر ببالهم شيء مطلقا وان كانت لا تخلو عن الانخطار والخيال أصلا وَمتى سمعت يا أكمل الرسل اهوال يوم القيمة واحوال الأنام فيه أَنْذِرِ النَّاسَ الناسين عهود الحق ومواثيقه التي قد عهدوا معه سبحانه في بدء فطرتهم وقل لهم اى شيء يفعلون يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ المعهود في اليوم الموعود وحينئذ قد انقطعت سلسلة اسباب النجاة وتدبيرات الخلاص ولا يسع لهم التدارك والتلافي أصلا فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بتكذيب الله وتكذيب رسله حين رأوا العذاب مناجين متضرعين متمنين رَبَّنا أَخِّرْنا وأعدنا وارجعنا الى الدنيا وأمهلنا فيها إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وايام قلائل نُجِبْ دَعْوَتَكَ فيها ونقبلها عن السنة رسلك وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ونصدقهم بعموم ما جاءوا به من عندك فيقال لهم حينئذ على سبيل التهكم والتقريع أَوَلَمْ تَكُونُوا ايها الظالمون المسرفون أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا بطرين مغرورين ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ اى مالنا وبال ولا لأموالنا زوال ومالنا عن اماكننا وأوطاننا انتقال وارتحال وَمع قولكم هذا ويمينكم عليه قد سَكَنْتُمْ وتمكنتم حينئذ ايها المسرفون المفرطون فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ قبلكم أمثالكم مثل عاد وثمود وَهم ايضا مقسمين بما أقسمتم كذلك وهلم جرا وقد تَبَيَّنَ لَكُمْ وظهر عندكم ولاح دونكم كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وكيف انتقمنا عنهم واستأصلناهم وَكيف لا قد صار امر إهلاكهم من الفظاعة الى ان قد ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ بالسنة انبيائنا ورسلنا مرارا وصرفناها تكرارا لتعتبروا أنتم عما جرى عليهم وتتركوا فعالكم وخصالكم لئلا تنتقموا أمثالهم ومع ذلك لم تعتبروا ولم تتركوا فالآن تؤاخذون وتصابون باشد مما أصيبوا وأخذوا وَلا يفيدكم اليوم المكر والحيلة كما لا يفيد لهم مكرهم حين أخذهم إذ قَدْ مَكَرُوا حينئذ مَكْرَهُمْ الذي قد خيلوه دلائل قاطعة وظنوه براهين ساطعة وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ ولم يفهموا ان عند الله سبحانه ما يزيل مكرهم وحيلهم وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ في المتانة والقوة لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ إذ لا يعارض فعله ولا ينازع حكمه بل له الغلبة والاستيلاء والتعزز والكبرياء وإذا كان الأمر كذلك فَلا تَحْسَبَنَّ يا أكمل الرسل اللَّهَ القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء مُخْلِفَ وَعْدِهِ الذي قد وعد به رُسُلَهُ من إهلاك عدوهم وتعذيبهم باشد العذاب إِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء عَزِيزٌ غالب قادر على عموم مراداته ومقدوراته ذُو انتِقامٍ شديد على من أراد انتقامه وبطشه من أعدائه نصرة على أوليائه قل لهم يا أكمل الرسل لا تغتروا بامهال الله إياكم ايها المسرفون المفرطون في دنياكم ان لا يهلككم الله ولا ينتقم عنكم اذكر يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ وتغير تغييرا كليا بان قد دكت الجبال دكا دكا وصارت مسواة لا عوج فيها ولا امتا بل وقد صارت الأرض غَيْرَ الْأَرْضِ التي قد كانت قبل هذا وَايضا قد طويت السَّماواتُ المحسوسة وانتثرت الكواكب المركوزة عنها وكورت الشمس والقمر بحيث قد صارت السموات ايضا غير تلك السموات وبالجملة قد تضعضعت اركان العالم وتغيرت أوضاعها وأشكالها واضمحلت آثارها وتلاشت اجزاؤها وتداخلت ارجاؤها وانحاؤها وانحل نظامها وانفضح انتظامها وَبَرَزُوا ظهروا وخرجوا اى أموات بقعة الإمكان عن أجداث اجسادهم بعد نزع تعيناتهم وجلباب هوياتهم لِلَّهِ المظهر لهم الظاهر فيهم الْواحِدِ الأحد في ذاته وفي عموم أوصافه وأسمائه وأفعاله وجميع شئونه وتجلياته المستقل

[سورة إبراهيم (14) : آية 49]

في وجوده الْقَهَّارِ لعموم الأغيار والسوى مطلقا وَبالجملة تَرَى ايها المعتبر الرائي الْمُجْرِمِينَ الذين قد أجرموا بالله بإثبات الوجود لغير الله واسناد الحوادث الى اسبابها العادية يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ مقيدين فِي الْأَصْفادِ اى سلاسل التقليدات والتقييدات وأغلال التعينات والتخمينات بحيث قد صارت سَرابِيلُهُمْ يعنى قمائص تعيناتهم وسربالات تشخصاتهم وهوياتهم يومئذ مِنْ قَطِرانٍ اى من غرابيب الظلمة العدمية البعيدة بمراحل عن نور الوجود وهو في اللغة دهن الأبهل والعرعر اسود كالزفت في غاية الاسوداد منتن نتنه في غاية الكراهة وَبالجملة تَغْشى وتستر وُجُوهَهُمُ التي تلى الحق النَّارُ اى نيران الإمكان وجهنم البعد والحرمان وسعير الخذلان والخسران وما ذلك الأخذ والانتقام الا لِيَجْزِيَ اللَّهُ العليم الحكيم المتقن في عموم أفعاله ومأموراته ومنهياته وفي جميع تدبيراته كُلَّ نَفْسٍ متعينة بتعين مخصوص جزاء ما كَسَبَتْ واقترفت وامتثلت بما أمرت به ونهيت عنه او أعرضت وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المراقب على عموم عباده المطلع بجميع ما صدر عنهم سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسبهم ويجازيهم على مقتضى حسابه عدلا منه هذا اى ما ذكر من أوصاف يوم القيمة وأهوالها وافزاعها ما هو الا بَلاغٌ اى تذكرة كافية وموعظة وافية لِلنَّاسِ الذين نسوا طريق التوحيد واعرضوا عنه بعروض الغفلة لهم وليتعظوا وَلِيُنْذَرُوا بِهِ عن المعاصي والاجرام حتى لا يؤاخذوا عليها وليجتنبوا عن الشرك ولا يركنوا اليه وَلِيَعْلَمُوا اى عموم العباد علما يقينيا ايمانا وإذعانا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ يعبد بالحق ويرجع نحوه في الخطوب الى ان ينكشفوا بحقيقة حقيته عيانا وحقا وَلِيَذَّكَّرَ ويتعظ خصوصا أُولُوا الْأَلْبابِ الناظرون بنور الله الى لب الأمور الفانون فيه الباقون ببقائه جعلنا الله ممن ذكر له الحق فتذكر وتحقق في مقر التوحيد وتقرر خاتمة سورة ابراهيم عليه السّلام عليك ايها اللبيب الأريب المتذكر لمرتبة الاحدية التي هي ينبوع بحر الوجود ان تتذكر وتتعظ بمواعظ الكتاب الإلهي وتذكيراته من مواعيده ووعيداته وانذاراته وتبشيراته وحكمه واسراره ورموزه وإشاراته لتتفطن بتطورات الحق وشئونه وتجلياته في مراتب تنزلاته حتى يسهل لك التيقظ من المنامات العارضة والغفلات الطارئة عليك من الإضافات الحاصلة بين آثار الشئون والتجليات الإلهية المبعدة عن صرافة الوحدة الذاتية ويتيسر لك الوصول الى منبع عموم الأسماء والصفات المستتبعة لانواع الكثرات ومرجع جميع الكائنات والفاسدات المترتبة عليها. فاعلم ايها الطالب القاصد لسلوك طريق الهداية الموصلة الى صفاء الوحدة الذاتية ان التوجه إليها والوقوف على اماراتها لا يتيسر الا بعد تنبيه منبه نبيه وارشاد مرشد رشيد كامل مكمل خبير بصير لذلك قد جرت عادة الله واستمرت سنته السنية على إرسال الرسل والأنبياء المؤيدين بالكتب والصحف ليتيسر لهم ارشاد الناقصين المنحطين عن درجة التدبر والتدرب في غوامض طرق العرفان ومغاليق مسالك التوحيد ومع ذلك لا يتيسر لهم الا البلاغ والتبليغ والتوفيق انما هو من عند العزيز العليم وأكمل الرسل نبينا صلّى الله عليه وسلّم وأفضل الكتب القرآن الفرقان الجامع المنزل عليه الناسخ لعموم ما نزل قبله من الكتب لذلك قال سبحانه على سبيل العموم هذا اى القرآن بلاغ للناس اى كامل في التبليغ والإرشاد لقاطبة الأنام الى توحيد الملك العلام القدوس السّلام فلك ان تتأمل فيه وتتذكر به على الوجه المأمور لتتمكن في مقعد الصدق عند الملك الغفور

سورة الحجر

[سورة الحجر] فاتحة سورة الحجر لا يخفى على ذوى التمكن والاطمئنان من ارباب التوحيد والعرفان الواصلين الى مرتبة التحقيق والإيقان ان اصحاب التقليد والتلوين المترددين في مضيق الحسبان والتخمين متى ظهر عندهم ولاح عليهم امارات تسليم ارباب التوحيد المفوضين أمورهم كلها الى الله وشاهدوا من ظواهر أحوالهم واوصافهم وأفعالهم امارات الاعتدال وعلامات الرضا والتسليم تمنوا ان يكونوا أمثالهم وعلى اوصافهم وأخلاقهم وأحبوا ان يتدينوا باديانهم ويتخلقوا بأخلاقهم لعدم رسوخهم فيما هم فيه من التقليدات الباطلة والتخمينات العاطلة الموروثة لهم من آبائهم وأسلافهم ويتفطنوا من أنفسهم التزلزل والتذبذب في ظنونهم وجهالاتهم الا انهم من شدة شكيمتهم وضغينتهم وخبث طينتهم لم يقدموا على قبول الايمان والتدين بدين الإسلام مع نزول الآيات الظاهرة الدالة المثبتة لحقيته وورود المعجزات الباهرة المبينة لصدقه ومطابقته للواقع لذلك خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التنبيه بما يدل على تأييده وتعضيده في امره وأوصاه بترك مكالمتهم ودعوتهم وبشره باهلاكهم وانتقامهم فقال متيمنا باسمه العظيم بِسْمِ اللَّهِ الموفق لعباده بمقتضى مشيته ومراده الرَّحْمنِ لهم بتبيين دلائل دينه وبراهين توحيده حسب استعداداتهم وقابلياتهم الرَّحِيمِ لهم يوفقهم على الاتصاف به وبقبوله [الآيات] الر ايها الإنسان الأفضل الأكمل الأليق لان يفيض سبحانه عليك لطائف رموز اسرار ربوبيته ولوائح رقائق سرائر ألوهيته اللامعة اللائحة من مقر رحمته العامة الواسعة وكرامته الكاملة الشاملة تِلْكَ الآيات المذكورة في هذه السورة آياتُ الْكِتابِ اى بعض آيات الكتاب الجامع الناسخ للكتب السالفة وَبعض آيات قُرْآنٍ فرقان فارق بين الهداية والضلالة والرشد والغي مُبِينٍ ظاهر البيان والتبيان لأولى البصائر المتأملين في حكم إيجاد الموجودات سيما الإنسان الكامل المميز الممتاز بأنواع الفضائل والكرامات ولا سيما بالعقل المفاض له المنشعب من العقل الكل الذي هو عبارة عن حضرة العلم المحيط الإلهي ليتوجه به نحو موجده ويتدبر به امر مبدأه ومعاده ومن لم يصرفه الى ما خلق لأجله وجبل لمصلحته فقد كفر وضل ضلالا بعيدا بمراحل عن المرتبة الانسانية وذلك من غاية انهماكهم في الغفلة وعمههم وسكرتهم بمزخرفات الدنيا الدنية وحين أفاقوا عن سكرتهم وعمههم أحيانا رُبَما يَوَدُّ وقلما يحب ويستحسن على وجه التمني المسرفون المفرطون الَّذِينَ كَفَرُوا اى ستروا الحق ولم يصرفوا عقولهم الى كشفه لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ مصرفين عقولهم الى معرفة الله مفوضين أمورهم كلها اليه متوكلين على الله في عموم أحوالهم لكن من شدة طغيانهم ونهاية غوايتهم وخسرانهم لم يقبلوا منك دعوتك ولم يؤمنوا بك وبكتابك يا أكمل الرسل عنادا واستكبارا حتى ينجوا من خذلان الدنيا وخسران الآخرة وبالجملة ذَرْهُمْ يا أكمل الرسل وشغلهم في دنياهم يَأْكُلُوا من مأكولاتها المورثة لانواع المرض في قلوبهم وَيَتَمَتَّعُوا بمزخرفاتها الفانية ولذاتها الوهمية البهيمية وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ويشغلهم عن الاشتغال بالطاعات ويحرمهم عن اللذات الاخروية مطلقا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ قبح صنيعهم وسوء فعالهم حين انكشف الأمر وتبلى السرائر فحينئذ يتنبهون على ما فوتوا لأنفسهم من اللذات الروحانية باعراضهم عن الله وكتابه ونبيه وَمن سنتنا القديمة انا ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ يعنى ما أردنا إهلاك قرية من القرى

[سورة الحجر (15) : آية 5]

الهالكة الا وقد كتبنا أولا في لوح القضاء وحضرة العلم لإهلاكها أجلا معلوما ووقتا معينا بحيث ما تَسْبِقُ وما تتقدم مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها الذي قد عين لإهلاكها وَما يَسْتَأْخِرُونَ عنه بل متى وصلوا اليه هلكوا حتما بحيث لا يسع لهم التقديم والتأخير أصلا ولا يجرى فيه التقدم والتأخر مطلقا وَكيف لا نهلكنهم ولا نعذبنهم باشد العذاب ولا ننتقم عنهم إذ هم قالُوا حين دعوتك إياهم والقائك إليهم شعائر الايمان والإسلام منادين لك مستهزئين معك متهكمين يا أَيُّهَا النبي الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ من عند ربه الذِّكْرُ والكتاب المبين له أمثال هذه الكلمات التي نسمع منك إِنَّكَ في دعوتك هذه وادعائك النبوة والكتاب لَمَجْنُونٌ مخبط مختل العقل يخبطك الجن ويعلمك أمثال هذه الكلمات والحكايات فتخيلت أنت انهم ملائكة ينزلون إليك بها وبأمثالها وان اطلعت أنت على الملائكة وصاحبت معهم مع انك بشر مثلنا لَوْ ما وهلا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ المنزلين إليك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك هذه حتى نريهم ونسمع منهم قولهم مثل رؤيتك إياهم وسماعك منهم قل يا أكمل الرسل نيابة عنا ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ لكل احد من البشر بل لمن نؤتى الحكمة له في اصل فطرته واستعداده وهم الأنبياء والرسل المأمورون بالإرشاد والتكميل وما ننزلهم إِلَّا تنزيلا ملتبسا بِالْحَقِّ اى بالدين الثابت الجازم المطابق للواقع ليتدين بدينهم من يتبعهم ويؤمن لهم اطاعة وانقيادا ولو اطلع الكل على نزولهم ورأوا صورهم لبطل حكمة الإرسال والإطاعة والتكميل إذ الكل في الرشد والهداية على السواء حينئذ وَايضا ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ منتظرين الى يوم الجزاء إذ الكل ح ناجون مهديون في النشأة الاولى وبالجملة إِنَّا نَحْنُ حسب حكمتنا المتقنة قد نَزَّلْنَا الذِّكْرَ اى الكتب والصحف على الأنبياء والرسل على وجه يعجز البشر عن إتيان مثله لكون ألفاظه ومعانيه ومعلوماته ونظمه واتساقه خارجة عن مقتضيات مداركهم وعقولهم لذلك ينسبون اكثر الأنبياء والرسل الى الجنون والخبط والاختلال وَمع ذلك إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ عن تحريف اهل الزيغ والضلال المنحرفين عن جادة التوحيد والاعتدال وَبالجملة لا تحزن يا أكمل الرسل من استهزائهم بك وتكذيبهم فانه من الديدنة القبيحة القديمة بين اصحاب الضلال فانا لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رسلا وقت شيوع الفسوق والعصيان فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ فرقهم وفئتهم وَهم من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ بأنواع الاستهزاء من نسبة الكذب والجنون واصناف العيوب وبالجملة كَذلِكَ نَسْلُكُهُ وندخله نحن بمقتضى حكمتنا فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ الذين قد تعلقت ارادتنا وجرت مشيتنا باهلاكهم وتعذيبهم بمقتضى اوصافنا القهرية الجلالية لذلك لا يُؤْمِنُونَ بِهِ اى بالرسول المرسل والكتاب المنزل إليهم وكيف يؤمن بك يا أكمل الرسل هؤلاء الكفرة وَقَدْ خَلَتْ ومضت سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ اى سنة الله في الكفرة الماضين او سنة كل فرقة من أسلافهم وهم ايضا على أثرهم وطبقهم تقليدا لهم وَمن خبث طينتهم ونهاية قسوتهم وغفلتهم لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ اى على هؤلاء المستهزئين المنهمكين في الغي والعناد باباً مِنَ السَّماءِ على خلاف العادة المستمرة ليؤمنوا بك وبدينك وكتابك فَظَلُّوا فِيهِ وصاروا يَعْرُجُونَ ويصعدون منه نحو السماء بحيث يستوضحون ما فيها لَقالُوا البتة من شدة غيهم وضلالهم ونهاية جهلهم وانكارهم المركوز في فطرتهم إِنَّما سُكِّرَتْ وتحيرت أَبْصارُنا بسحر محمد وتلبيسه انما فعل بنا هذا لنؤمن له ونصدق قوله وكتابه

[سورة الحجر (15) : آية 16]

ونقبل دينه بَلْ الأمر كذلك وشأنه هكذا بلا شك وتردد وبالجملة ما نَحْنُ بمشاهدة هذا الفتح والعروج الغير المعهود الا قَوْمٌ مَسْحُورُونَ مخبوطون مخبطون البتة قد لبس علينا الأمر هذا الشخص بالسحر والشعبذة. ثم قال سبحانه امتنانا لعباده بتهيئة اسباب معاشهم وَلَقَدْ جَعَلْنا وقدرنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً اثنى عشر تدور وتبدل فيها الشمس في كل سنة شتاء وصيفا ربيعا وخريفا والقمر في كل شهر تتميما لأسباب معاشكم وتنضيجا لأقواتكم واثماركم وَمع ذلك زَيَّنَّاها وحسنا نظمها وترتيبها وهيئاتها وأشكالها لِلنَّاظِرِينَ المتأملين في كيفية حركتها ودوراتها وانقلاباتها ليستدلوا بها على قدرة مبدعها ومتانة حكمة صانعها وحكم مخترعها الى ان ينكشفوا بوحدة المظهر الموجد ورجوع الكل اليه وَمع ذلك قد حَفِظْناها مِنْ اطلاع كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ على ما فيها من السرائر والحكم المودعة إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ واختلس من الشياطين السَّمْعَ والاستطلاع من سكان السموات وتكلف في الصعود والرقى نحوها فَأَتْبَعَهُ من قهر الله إياه شِهابٌ جذوتنا على مثال كوكب مُبِينٌ بين ظاهر عند اولى الأبصار زجرا له ومنعا عن الاستطلاع بالسرائر وَالْأَرْضَ ايضا قد مَدَدْناها مهدناها وبسطناها وَقد أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ شامخات لتقريرها وتثبيتها ولتكون مقرا للمياه والعيون ومعدنا للجواهر والفلزات وَبالجملة قد أَنْبَتْنا فِيها اى في الأرض مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ مطبوع ملائم تستحسنه الطباع وتستلذ به وَانما جَعَلْنا وخلقنا كل ذلك اى العلويات والسفليات ليحصل لَكُمْ فِيها مَعايِشَ تعيشون بها وتقومون امزجتكم منها لتتمكنوا على سلوك طريق التوحيد والعرفان الذي هو سبب ايجادكم والباعث على اظهاركم إذ ما خلقتم وما جبلتم الا لأجله وَايضا قد جعلنا فيها معايش مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ لذرياتكم من اخلافكم وأولادكم وان كنتم تظنون انكم رازقون لهم ظنا كاذبا بل رزقكم ورزقهم وكذا رزق عموم من في حيطة الوجود علينا وَكيف لا يكون رزق الكل علينا إِنْ مِنْ شَيْءٍ وما من رطب ويابس ولا نقير ولا قطمير مما يطلق عليه اسم الشيء إِلَّا عِنْدَنا وفي حيطة قدرتنا وحوزة مشيتنا خَزائِنُهُ اى مخزونات كل شيء ومخازنه عندنا وفي قبضة قدرتنا وتحت ضبطنا وارادتنا بحيث لا ينتهى قدرتنا دون مقدور ولا تفتر عنه بل لنا القدرة الغالبة بإيجاد الخزائن من كل شيء وَلكن قد اقتضت حكمتنا المتقنة انا ما نُنَزِّلُهُ وما نظهره إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ عندنا مخزون في حيطة حصرة علمنا المحيط ولوح قضائنا المحفوظ وأجل مقدر معين لدينا لا اطلاع لاحد عليه وَمن بدائع حكمتنا وعجائب صنعتنا انا قد أَرْسَلْنَا من مقام فضلنا وجودنا الرِّياحَ الهابة في فصل الربيع وجعلناها لَواقِحَ ملقحات يعنى يجعل الأشجار حوامل بالأثمار فَأَنْزَلْنا بعد صيرورتها حوامل مِنَ السَّماءِ ماءً مدرارا مغزارا تتميما لتربيتها وتنميتها فَأَسْقَيْناكُمُوهُ والحوامل به الى وقت الصلاح والحصاد وَبالجملة ما أَنْتُمْ لَهُ اى للماء بِخازِنِينَ حافظين حارسين وليس في وسعكم وطاقتكم حرزه وحفظه في الغدائر والحياض وكذا القاح الأشجار وإنباتها وإصلاحها وجميع ما يحتاج اليه إذ ليس عندكم خزائن كل شيء وَايضا عن غرائب مبدعاتنا إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي ونظهر بمقتضى اوصافنا اللطفية البسيطة وَنُمِيتُ ونعدم حسب اوصافنا القهرية القبضية وَبالجملة نَحْنُ الْوارِثُونَ الدائمون الباقون بعد انقهار عموم المظاهر وفنائها

[سورة الحجر (15) : آية 24]

بالطامة الكبرى وَمن كمال علمنا وخبرتنا انا لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ المتقدمين في الوجود مِنْكُمْ ومن اسلافكم بل من شئونكم ونشأتكم التي في أصلاب آبائكم وأرحام أمهاتكم بل قد علمنا استعداداتكم اللاتي في ذرائر العناصر بل حصصكم من الروح الأعظم والغوث المعظم وَبالجملة لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ المتأخرين ايضا منكم في الوجود على الوجه المذكور ازلا وابدا وَبالجملة إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل هُوَ المطلع بسرائر الماضي والحال والمستقبل بل الازمنة كلها ساقطة مطوية منطوية عند حضوره وشهوده يَحْشُرُهُمْ في المحشر وموعد القيمة للحساب والجزاء حسب حكمته المتقنة وكيف لا إِنَّهُ في ذاته وأوصافه وأفعاله حَكِيمٌ متقن الفعل متين الصنع والعمل عَلِيمٌ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء. ثم قال سبحانه امتنانا لكم وتنبيها على دناءة منشأكم ثم على شرف مكانتكم وعلو شأنكم ايها المكلفون من الثقلين القابلون لفيضان الايمان والمعارف وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وأظهرنا جنسه وقدرنا جسمه مِنْ صَلْصالٍ طين يابس مصوت من غاية يبسه وبقائه على حر الشمس متخذ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ من طين اسود منتن كريه الرائحة يستكره ريحه عموم الحيوانات وَالْجَانَّ اى جنسه ايضا قد خَلَقْناهُ وأظهرناه مِنْ قَبْلُ اى قبل إيجاد الإنسان وإظهاره من مادة دنية ايضا إذ هو متخذ مِنْ نارِ السَّمُومِ اى شديدة الحرارة المتناهية فيها انظروا أولا ايها المكلفون المعتبرون الى منشأكم ومادتكم وَاذكروا تشريف ربكم إياكم كيف عدلكم وسويكم واسدكم وقويكم وكرمكم واجتباكم وكيف هديكم واصطفاكم الى حيث اخلفكم عن نفسه وانابكم مناب قدس ذاته اذكر وقت إِذْ قالَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل. خصه سبحانه صلّى الله عليه وسلّم بالخطاب للياقته وكمال استحقاقه من ان يكون مخاطبا لله كأنه لجميعه مرتبته عموم مراتب بنى نوعه عبارة عن جميعهم لِلْمَلائِكَةِ على سبيل الاخبار والتعليم إِنِّي لمطالعة جمالي وجلالي وعموم أوصاف كمالي على التفصيل خالِقٌ مقدر موجد بَشَراً تمثالا وهيكلا متخذا مِنْ صَلْصالٍ متخذ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ بعيد بمراحل عن مقاربتى ومقارنتي إذ هو اخس الأشياء وأدونها فَإِذا سَوَّيْتُهُ وعدلته وكملت شكله وأتممت هيكله وَقد نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ورششت عليه من رشحات نور وجودى ومن رشاشات حياتي حسب لطفي وجودي ليكون حيا بحياتي فيصير مرآة لي اطالع فيها عموم أسمائي وصفاتي فَقَعُوا لَهُ وخروا عنده يا ملائكتي حينئذ ساجِدِينَ واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان تعظيما لأمرنا وتكريما له. ثم لما خلق سبحانه ما خلق على الوجه الذي خلق وامر ما امر على سبيل الوجوب والقطع فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ بلا طلب مرجح ودليل راجح كُلُّهُمْ بلا خروج واحد منهم أَجْمَعُونَ مجتمعون معا بلا تقدم وتأخر وتردد وتسويف إِلَّا إِبْلِيسَ الذي هو منهم تبعا لا اصالة قد أَبى عن السجود وامتنع عن أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ثم لما تخلف اللعين وركن عن امر الله قالَ له سبحانه يا إِبْلِيسُ ناداه توبيخا وتقريعا ما لَكَ واى شيء عرض عليك ولحق بك ايها المزور أَلَّا تَكُونَ أنت مَعَ السَّاجِدِينَ الخاضعين الواضعين جباههم على تراب المذلة عند مرآتنا المجلوة المجبولة لمصلحة الخلة والخلافة امتثالا للأمر الوجوبي الصادر منا قالَ إبليس محتجا على الله طالبا للرجحان والمزية على سبيل الإنكار والتعريض لَمْ أَكُنْ ولم يصح منى ولم يحسن عنى ولم يلق على رتبتي ومكانتى لِأَسْجُدَ

[سورة الحجر (15) : آية 34]

لِبَشَرٍ جسمانى ظلماني دنى كثيف قد خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ اكثف واظلم منه وقد أخذت الصلصال مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ لا شيء اظلم منه وابعد عن ساحة عز قبولك يا ربي وبالجملة التمثال المشتمل على هذه الظلمات المتراكمة لا يليق ان يخضع ويسجد له الروحاني النورانى قالَ سبحانه بعد ما سمع منه الترفع والحجة المذكورة طردا له وتبعيدا حسب قهره وجلاله فَاخْرُجْ ايها اللعين المردود المطرود مِنْها اى من حيطة الملائكة وحوزتهم ولا تعد نفسك بعد اليوم من زمرتهم ومن عدادهم فَإِنَّكَ بتخلفك عن مقتضى أمرنا الوجوبي رَجِيمٌ مرجوم مبعد مطرود مردود عن كنف رحمتنا وكرامتنا وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ الطرد والتخذيل نازلة مستمرة ابدا إِلى يَوْمِ الدِّينِ واعلم ان مقرك ومنقلبك النار التي قد افتخرت بها وتكبرت بسببها المعدة لك ولمن تبعك من عصاة العباد وغواتهم أجمعين ثم لما ايس إبليس عن القبول وقنط عن رحمة الله قالَ مشتكيا الى الله متحسرا متأسفا رَبِّ يا من رباني بأنواع النعم والكرم فكفرت نعمك بمخالفة أمرك وحكمك فَأَنْظِرْنِي وأمهلني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ويحشرون لأضل بنى آدم وانتقم عنهم قال سبحانه بمقتضى حكمته المتقنة فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ فيما بينهم لتكون أنت عبرة للعالمين وعظة لهم إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ اى الى وقت لا يمكن فيه تلافى التقصير وتداركه ولا كسب الزاد للمعاد ولا تهيئة الأسباب ليوم الميعاد قيل هو وقت النفخة الاولى لحشر الأموات قالَ إبليس مقسما مبالغا رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي وبحق قدرتك التي قد أغويتني وأضللتني بها وحططتنى عن رفعة منزلتي ومكانتى بمقتضاها وأخرجتني بها من بين أحبتي وإخوتي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ أعمالهم الفاسدة واحسنن عليهم أفعالهم القبيحة فِي الْأَرْضِ واغرينهم الى ارتكاب انواع المفاسد والمقابح والى اتصاف اصناف الجرائم والآثام المائلة إليها طباعهم ونفوسهم طبعا وَبالجملة لَأُغْوِيَنَّهُمْ ولأضلنهم أَجْمَعِينَ بحيث لا يشذ عنهم احد من ذوى النفوس الامارة إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ المخلصين رقابهم عن ربقة رق الامارة وعن عروة العبودية لها المطمئنين المتمكنين في مقام الرضاء والتسليم ثم قالَ سبحانه بمقتضى اشفاقه ورحمته على عباده هذا اى اخلاص المخلصين المطمئنين الراضين بما جرى عليهم من قضائي صِراطٌ عَلَيَّ وطريق مُسْتَقِيمٌ موصل الى والى وحدة ذاتى واستقلالى في عموم آثار أسمائي وصفاتي بحيث لا عوج ولا انحراف فيه أصلا. من توجه الى عن هذا الطريق قد فاز ونجا بحيث لا يعرض الضلال والانحراف أصلا وكيف يعرضه إذ هو حينئذ من خلص عبادي إِنَّ عِبادِي الذين هم تحت قبابى لَيْسَ لَكَ ايها المضل المغوى عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ استيلاء وغلبة إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ منهم ايها المضل المغوى فيكون حينئذ مِنَ الْغاوِينَ الضالين باغوائك عن منهج الحق ومحجة اليقين وهم وان كانوا من جنسهم صورة ليسوا منهم حقيقة ومعنى وَإِنَّ جَهَنَّمَ البعد والخذلان لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ تابعا ومتبوعا لَها اى لجهنم سَبْعَةُ أَبْوابٍ على عدد مداخلها من الشهوات السبعة المقتضية إياها المذكورة في كريمة زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين الآية لِكُلِّ بابٍ من الأبواب السبعة الجهنمية مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ اى طائفة مفروزة وفرقة ممتازة منهم بالدخول من كل باب وان كان الكل شريكا في الكل بعد ما دخلوا. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية في كتابه إِنَّ الْمُتَّقِينَ المخلصين المخلصين نفوسهم عن وسوسة الشياطين متمكنون فِي جَنَّاتٍ منتزهات العلم والحق وَعُيُونٍ جاريات من زلال الحقائق والمعارف المترشحة من بحر الوجود

[سورة الحجر (15) : آية 46]

صافيات عن كدر الرياء ودرن التقليدات وشين السمعة وشوب التخمينات ويقول لهم الملائكة حين وجدوهم متصفين بحلية التقوى ادْخُلُوها بِسَلامٍ سالمين عن شدائد الحساب آمِنِينَ عن شوائب العذاب والعقاب وَكيف لا يكونون سالمين آمنين إذ قد نَزَعْنا وأخرجنا بنور الايمان والتوحيد عموم ما فِي صُدُورِهِمْ وضمائرهم مِنْ غِلٍّ حقد وحسد متمكن في نفوسهم متعلق ببني نوعهم حتى صاروا جميعا إِخْواناً أصدقاء أخلاء متكئين عَلى سُرُرٍ متساوية من الصداقة مُتَقابِلِينَ متناظرين مطالعين كل منهم محامد أخلاقه ومحاسن شيمه وأطواره في مرآة أخيه وصديقه وكلهم فيها أصحاء سالمون معتدلون بحيث لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ محنة وعناء حتى يشوشوا بها وَبالجملة ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أصلا حتى يخافوا من ان يعودوا بل هم فيها خالدون مخلدون دائمون مستمرون ما شاء الله ثم قال سبحانه تسلية لعموم عباده وتبشيرا لهم بسعة فضله ورحمته نَبِّئْ اخبر وأعلم يا أكمل الرسل المبعوث على كافة الأمم عموم عِبادِي مؤمنهم وكافرهم مطيعهم وعاصيهم أَنِّي من كمال اشفاقى ومن رحمتي إياهم أَنَا الْغَفُورُ المبالغ في الستر والعفو لكل من استرجع الى واستغفر منى واستعفى عن ظهر القلب وأناب عن محض الندم والإخلاص الرَّحِيمُ لهم ارحمهم واقبل منهم توبتهم وأعفو عنهم زلتهم وَايضا نبئهم أَنَّ عَذابِي وبطشى وانتقامي على من أصر على عناده واستمر على ترك طاعتي وانقيادي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ المؤلم المستمر المقصور عليه الذي لا نجاة لاحد منه وَان أنكروا على انعامى وانتقامي نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ تبيينا وتوضيحا لهم واذكرهم وقت إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ وهم جرد مرد صباح ملاح فَقالُوا ترحيبا له وتكريما سَلاماً اى نسلم عليك سلاما ثم لما تفرس ابراهيم عليه السّلام منهم بنور النبوة انهم ملائكة قد جاءوا بأمر خطير قالَ على سبيل الرعب والمخافة إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ خائفون إذ هم قد جاءوا بغتة ودخلوا عليه هفوة بلا اذن واستيذان على عادة المسافرين ومع ذلك لا يظهر عليهم اثر السفر أصلا قالُوا تأمينا له وتسكينا لخوفه واضطرابه لا تَوْجَلْ منا ولا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ من عند ربك بِغُلامٍ عَلِيمٍ قابل للنبوة والرسالة والحكمة الكاملة قالَ ابراهيم عليه السّلام بعد ما سمع منهم ما سمع متأوها آيسا مستفهما على سبيل الاستبعاد أَبَشَّرْتُمُونِي بالولد ايها المبشرون في زمان قد انقطع الرجاء فيه عادة بناء عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ المانع من الإيلاد والأمناء العادي إذ هو في سن قد انقطعت الشهوة عنه وعن زوجته ايضا إذ كلاهما في سن الهرم والكهولة وبعد ما كان حالي وحال زوجتي هكذا فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قالُوا قد بَشَّرْناكَ ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع باذن الحق وبمقتضى قدرته الكاملة بإيجاد شيء وابداعه بلا سبق سبب عادى له وبالجملة فَلا تَكُنْ أنت ايها النبي المتمكن في مقام الخلافة والخلة مع الله المستمسك بحبل الرضا والتسليم المسند المفوض عموم الحوادث الكائنة في عالم الكون والفساد الى الفاعل المختار بلا اعتبار الوسائل والأسباب العادية مِنَ الْقانِطِينَ الجازمين بفقدان الشيء عند فقدان أسبابه العادية مع ان القنوط لا يليق برتبتك قالَ الخليل الجليل بعد ما سمع منهم ما سمع مستبعدا مستوحشا مستنزها نفسه عن أمثاله وَمَنْ يَقْنَطُ وييأس مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ التي قد وسعت كل شيء بمقتضى جوده تفضلا وإحسانا بلا سبق استحقاق واعداد اسباب إِلَّا القوم الضَّالُّونَ المقيدون بسلاسل الأسباب الطبيعية وأغلال الوسائل الهيولانية ونحن معاشر الأنبياء لا نقول بأمثال هذه الأباطيل الزائغة ثم لما جرى بينهم ما جرى

[سورة الحجر (15) : آية 58]

قالَ ابراهيم عليه السّلام حسب تفرسه منهم فَما خَطْبُكُمْ وأمركم العظيم الذي قد جئتم لأجله أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ المهيبون المنكرون قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى إهلاك قَوْمٍ مُجْرِمِينَ خارجين عن مقتضى العقل والشرع والطبع والمروءة إذ فعلتهم الشنيعة الفاحشة مما يستقبحه ويستكرهه العقل والطبع مطلقا فكيف الشرع والمروءة فنهلكهم اليوم بالمرة بمقتضى امر الله وقهره إِلَّا آلَ لُوطٍ واهل بيته ومن آمن له إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ لكونهم معصومين مطيعين مؤمنين إِلَّا امْرَأَتَهُ المجرمة العاصية قد قَدَّرْنا بإعلام الله إيانا واذنه علينا إِنَّها ايضا لَمِنَ الْغابِرِينَ الباقين مع الكفرة الهالكين لكونها باقية على اعتقادهم الفاسد وعنادهم المستمر بلا اقرار ولا ايمان فَلَمَّا جاءَ ودخل على عادة المسافرين السياحين آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ المرد الصباح الملاح قالَ لهم لوط إِنَّكُمْ ايها المسافرون قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قد أخاف عليكم من قومي ومن سوء فعالهم وقبح ديدنتهم وخصالهم مع انى أخاف ايضا من جيئتكم على هذا الوجه حيث لا ارى عليكم امارات البشر وعلامات الإنسان قالُوا بعد ما تفرسوا منه الرعب لا تخف لا علينا ولا منا إذ نحن ما جئناك لنخوفك ونوحشك بَلْ قد جِئْناكَ لنسرك ونؤيدك وننصرك على أعدائك بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ اى بإثبات ما يشكون فيه ويترددون بل يكذبونك فيه مراء الا وهو العذاب الذي قد ادعيت أنت نزوله عليهم بشؤم فعالهم وقبح خصالهم وهم يشكون فيه بل ينكرونه وَنحن رسل الله قد أَتَيْناكَ تأييدا لك ونصرا عليك ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما قلنا لك والآن قد حان وقت انجاز ما وعد الله لك من إنزال العذاب عليهم فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ واذهب أنت معهم بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وطائفة من آناته وساعاته فقدمهم امامك وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وأثرهم والعذاب ينزل على قومك عقيب خروجك من بينهم بلا تراخ ومهلة وان كانوا خلفك قد اصابتهم منه وَبعد ما خرجتم من بينهم لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ خلفه ولا ينظر الى ما وراءه حتى لا يصيبه ما أصابهم ولا يهوله ولا يفزعه وَبالجملة امْضُوا واذهبوا ايها المأمورون حَيْثُ تُؤْمَرُونَ بالجملة قد وَقَضَيْنا إِلَيْهِ وحكمنا على لوط بالوحي والإلهام ذلِكَ الْأَمْرَ الفظيع الهائل وهو أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ يعنى ان عواقب هؤلاء المسرفين المفرطين مقطوعة مستأصلة بالمرة حال كونهم مُصْبِحِينَ اى حين دخولهم في الصبح وظهوره عليهم وَبعد ما قد بلغ الرسل الى لوط عليه السّلام سبب ما جاءوا به من قبل الحق قد جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وهي سدوم يَسْتَبْشِرُونَ باضياف لوط ويستحسنونهم طامعين وقاعهم مهرعين مسرعين حول بيته قالَ لهم لوط بمقتضى شفقة النبوة وان كان الأمر عنده مقضيا حتما بلا تردد إِنَّ هؤُلاءِ المسافرين ضَيْفِي قد نزلوا في بيتي فَلا تَفْضَحُونِ باساءتهم لان إساءتهم وتفضيحهم عين إساءتي وتفضيحى وَاتَّقُوا اللَّهَ عن ارتكاب محظوراته والركون الى محرماته وَلا تُخْزُونِ ولا تخجلوني منهم إذ فعلتكم هذه معهم مسقطة للمروءة بالمرة قالُوا في جوابه أَتنهانا اليوم أنت كما نهيتنا عن أمثالهم فيما مضى وَلَمْ نَنْهَكَ من قبل ان تمنعنا أنت يا لوط عَنِ الْعالَمِينَ وكن أنت في نفسك زكيا صفيا مهذبا طاهرا مالك معنا وخبثنا اتركنا مع خبثنا وانصرف عنا والزم على طهارتك ثم لما بالغوا في الإصرار والعناد قالَ لهم لوط هؤُلاءِ النسوان بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ فهن اولى بكم واطهر لقضاء وطركم لَعَمْرُكَ يا أكمل الرسل

[سورة الحجر (15) : آية 73]

إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ المنبعثة عن شهوتهم المفرطة المحيرة المدهشة لعقولهم يَعْمَهُونَ ويهيمون الى حيث لا يسمعون نصحه فكيف يقبلونه ويفهمون وبالجملة لما لم يتركوا الفضيحة ولم يقبلوا النصيحة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الهائلة المهلكة وقت الصبيحة بعد ما خرج لوط من بينهم مع اتباعه حال كونهم مُشْرِقِينَ داخلين وقت شروق الشمس فَجَعَلْنا بالزلزلة الشديدة عالِيَها اى عالى المدينة سافِلَها وسافلها عاليها يعنى قد قلبنا دورهم عليهم وَمع ذلك قد أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً منعقدة منضمة مركبة مِنْ سِجِّيلٍ وهو معرب سنك وكل وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك والتقليب والأمطار لَآياتٍ علامات وعبر لِلْمُتَوَسِّمِينَ المتأملين المتفرسين المتعمقين في انية الأشياء الكائنة حتى ينكشف عليهم أمرها ولميتها وسمتها وَبالجملة لا تترددوا ولا تشكوا ايها السامعون المعتبرون في انقلاب تلك المدينة وتخريبها إِنَّها اى المدينة المذكورة لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ وجادة ثابتة يطرقها الناس ويرون منها آثارها واطلالها إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من قصة إهلاك أولئك الطغاة الهالكين في تيه الغفلة والشهوات لَآيَةً اى عبرة وعظة لِلْمُؤْمِنِينَ الخاشعين الخائفين من قهر الله وغضبه الراجين من عفوه ورحمته وَاذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين المعتبرين ايضا قصة قوم شعيب عليه السّلام إِنْ كانَ اى انه قد كان أَصْحابُ الْأَيْكَةِ والغيضة وهم يسكنون فيها لَظالِمِينَ خارجين عن حدود الله الموضوعة للعدالة بين عباده ببخس المكيال والميزان ونقصهما وبعد ما بالغوا فيه بعثنا إليهم شعيبا عليه السّلام فكذبوه واستهزؤا به وقصدوا مقته فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ مثل ما انتقمنا من قوم لوط وَإِنَّهُما اى اصحاب السدوم والايكة لَبِإِمامٍ مُبِينٍ اى ملتبسين ملتصقين بسبيل واضح وطريق مستقيم مستبين ظاهر لائح قد جاء نبي لكل منهما فكذبوه عتوا وعنادا فأخذوا بما أخذوا وَلَقَدْ كَذَّبَ ايضا مثل تكذيبهما أَصْحابُ الْحِجْرِ وهو واد بين المدينة والشأم يسكن فيه ثمود الْمُرْسَلِينَ يعنى صالحا القائم مقام جميع الأنبياء باعتبار اتحاد المرسل والمرسل به الا وهو الدعوة الى توحيد الحق وَذلك حين بعثنا إليهم بعد ما خرجوا عن حدود الله وانحرفوا عن جادة توحيده وأيدنا امره بان قد آتَيْناهُمْ معه آياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا فَكانُوا من نهاية عتوهم وعنادهم عَنْها مُعْرِضِينَ بحيث لا يقبلونها أصلا وَمن عادتهم المستمرة بينهم انهم قد كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً يسكنون فيها آمِنِينَ من اللص وانواع المؤذيات والحشرات ولما لم يبالوا بالآيات والرسول وتمادوا على غيهم وضلالهم الذي قد كانوا عليه انتقمنا منهم فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الشديدة الهائلة وهم كانوا حينئذ مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح كقوم لوط فاهلكوا بالمرة فَما أَغْنى وادفع عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الأموال والامتعة والعدد الكثيرة والحصون المنيعة والابنية الوثيقة المشيدة شيأ من عذاب الله ونكاله. ثم قال سبحانه قولا دالا على كمال قدرته ومشيته ولطفه وقهره وانعامه وانتقامه تنبيها على ذوى البصائر واولى الاعتبار المتفكرين في خلق الله وإيجاده واعدامه واستقلاله في تصرفاته في ملكه وملكوته وَبالجملة ما خَلَقْنَا وما قدرنا السَّماواتِ وما فيها من الآثار والمؤثرات العلوية وَالْأَرْضَ وما عليها من المتأثرات السفلية وَما بَيْنَهُما من الكائنات والفاسدات الحادثة في الجو باطلا عبثا بلا طائل لا عبرة لها ولا اعتبار لإظهارها وظهورها أصلا بل ما خلقنا عموم

[سورة الحجر (15) : آية 86]

ما خلقنا إِلَّا ملتبسا بِالْحَقِّ المثبت لأصحاب الدلائل والبراهين توحيد الحق الثابت المحقق ازلا وابدا عند ارباب الكشف واليقين وَاعلموا ايها العقلاء المكلفون المعتبرون إِنَّ السَّاعَةَ الموعودة لانقهار التعينات مطلقا واضمحلال التشكلات رأسا لَآتِيَةٌ جزما بلا تردد وشبهة فيجازى فيها كل على مقتضى ما كسب في عالم التعينات والتطورات وإذا كان الكل مجازون مجزيين بأعمالهم مسئولين عنها فَاصْفَحِ أنت يا أكمل الرسل واعرض عن انتقام من يؤذيك ويرديك الصَّفْحَ الْجَمِيلَ والاعراض المستحسن عند الطباع السليمة واحلم معهم والطف عليهم إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك بأنواع اللطف والكرم واصطفاك من بينهم بأصناف الفضائل والكمالات هُوَ الْخَلَّاقُ لهم ولاعمالهم الْعَلِيمُ المميز المبالغ في التمييز بين صالحها وفاسدها يجازيهم بمقتضى علمه وخبرته وَبالجملة لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبما عندهم من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية ولا تحزن على أذاهم فانا من مقام فضلنا وجودنا لَقَدْ آتَيْناكَ وأعطيناك تتميما لتكريمك وتعظيمك سَبْعاً اى سبع آيات مِنَ الْمَثانِي اى الفاتحة التي قد ثنى نزولها تارة بمكة وتارة بالمدينة على عدد الصفات السبع الإلهية ليكون لك حظ كامل من جميعها والسبع الطباق الفلكية والكواكب السبعة التي فيها والأقاليم السبعة الارضية والمشتهيات السبعة الدنياوية المذكورة في كريمة زين للناس حب الشهوات الآية لتكون عوضا عنها والأودية السبعة الجهنمية لتكون منجية لك منها فيكون الفاتحة حينئذ أعظم واولى من الدنيا وما فيها وَمع ذلك لا نقتصر انعامنا عليك بل قد آتيناك الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الجامع لفوائد جميع ما في الكتب السالفة الناسخ لها المعجز لعموم من اتى بمعارضته ومقابلته فعليك بعد ما اصطفيناك يا أكمل الرسل من بين سائر الأنبياء بأمثال هذه الكرامات ان لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ نحوهم لا تنظرن إليهم نظر متحسر راغب بل نظر معتبر كاره إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ من الزخارف أَزْواجاً مِنْهُمْ وأصنافا من الامتعة معطاة للكفرة ابتلاء لهم بحيث قد صاروا بها مفتخرين بطرين بين الناس وَلا تَحْزَنْ ايضا عَلَيْهِمْ بعدم اتباعهم لك وايمانهم بك إذ هذه المزخرفات الدنية الدنياوية تحجبهم عن الايمان وتعوقهم عن العرفان وهم دائما مفتنون بها وَبالجملة اخْفِضْ جَناحَكَ وابسطها كل البسط لِلْمُؤْمِنِينَ الذين يتبعونك عن خلاء القلب وصفاء القريحة بلا شوب الرياء والسمعة وشين الاهوية الفاسدة وَقُلْ للمعاندين المنكرين إِنِّي باذن ربي ووحيه على أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ والمنذر المبين أنذركم ببيان واضح وبرهان لائح نازل على من ربي ان العذاب والعقاب سينزل على من لم يؤمن بالله وبوحدة ذاته وصفات كماله كَما أَنْزَلْنا اى مثل العذاب الذي قد أنزلناه من قبل عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وهم الرهط الذين قد تقاسموا ان يبيتوا صالحا عليه السّلام والمقتسمون اليوم هم الَّذِينَ قد جَعَلُوا الْقُرْآنَ المعجز لفظا ومعنى نصا ودلالة اقتضاء حدا ومطلعا عِضِينَ اى ذي أجزاء مختلفة بعضها حق لأنه مطابق للكتب السالفة وبعضها باطل إذ هو مخالف لها وبعضها شعر وبعضها كهانة مع ان الكل هداية لإضلال فيها أصلا تعالى شأنه وكتابه عما يقول الظالمون علوا كبيرا فَوَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وبعزته وجلاله لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ وعن جميعهم على التفصيل عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ يقدحون ويطعنون في القرآن وينسبون اليه من المفترات التي هو بريء منها بعيد عنها بمراحل وإذا كان نزول القرآن للهداية العامة والإرشاد الشامل الكامل فَاصْدَعْ أنت واظهر بِما تُؤْمَرُ واجهر به

[سورة الحجر (15) : آية 95]

يا أكمل الرسل وافرق بين الحق والباطل على الوجه المأمور فيه وبين الهداية والضلال وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ واتركهم وأنفسهم ولا تلتفت إليهم ولا تتعرض لدفعهم ومنعهم ان استهزؤا بك إِنَّا كَفَيْناكَ أذى الْمُسْتَهْزِئِينَ عنك وانتقمنا لأجلك منهم بأضعاف ما قصدوا بك من الاستهانة والاستهزاء وكيف لا ننتقم عنهم إذ هم المشركون المسرفون المفرطون الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد المتوحد في ذاته وأوصافه وأفعاله إِلهاً آخَرَ مستحقا للعبادة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عند انكشاف الحجب والأستار قبح ما يفترون وينسبون الى الله مراء وافتراء وَبالجملة لَقَدْ نَعْلَمُ منك يا أكمل الرسل أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ من كظم غيظك ويقل صبرك على تحمل إذا هم سيما بِما يَقُولُونَ مما لا يليق بجنابنا من القدح والطعن في كلامنا ومن اثبات الشركاء لنا مع وحدة ذاتنا وبجنابك من استهزائهم بك وبمن تبعك من المؤمنين فعليك ان لا تلتفت إليهم ولا تسمع هذياناتهم هذه مطلقا وانما عليك الصبر والعظة منهم وتنزيهنا وتقديسنا عن مقالاتهم وهذياناتهم المفرطة فَسَبِّحْ أنت بِحَمْدِ رَبِّكَ إذ تسبيحك وتحميدك إيانا خير لك من استماع ما قد تفوهوا به مراء وافتراء وَبالجملة كُنْ أنت في نفسك في عموم أوقاتك وحالاتك مِنَ السَّاجِدِينَ الواضعين جباهم على تراب المذلة والهوان تعظيما لنا وتكريما إيانا وَاعْبُدْ رَبَّكَ واجتهد في سلوك طريق المعرفة حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ويحصل لك مرتبة الكشف والشهود ويرتفع عن بصرك وبصيرتك حجب الأنانية والوجود جعلنا الله من الموقنين المنكشفين بمنه وجوده خاتمة سورة الحجر عليك ايها السالك القاصد لسلوك طريق التوحيد انحج الله آمالك ان تبتدئ أولا بعد ما هذبت ظاهرك بالشرائع النبوية وباطنك بالخلاء عن الموانع بذكر الله الواحد الأحد الفرد الصمد المتصف بجميع أوصاف الكمال الى ان يؤدى ذكرك الى الفكر المورث للمجاهدة والانزعاج والشوق والابتهاج أحيانا وواظب عليه الى ان يستوعب عموم أوقاتك وحالاتك وحينئذ قد ظهرت ولاحت على قلبك مقدمات المحبة والمودة والعشق المزعج المفنى وصرت عليها زمانا الى ان اشتاق وتعطش قلبك الى فنائك وانقهارك واضمحلالك في محبوبك وفي تلك الحالة قد عرضت عليك الحيرة والحسرة والوحشة والقلق والاضطراب والخوف والرجاء واللذة والألم وصرت حينئذ بين بين واين اين وكيف كيف وبالجملة قد كنت حينئذ في تلوين وتكوين واطلاق وتقييد وما هي الا سكراتك عند موتك الإرادي واضطراباتك دونه وحينئذ لا يسع لك الا الرضاء والتسليم والتوكل والتفويض الى ان جذبك الحق منك نفسك وافناك عنك ووفقك بالتمكين والتسكين وأطلقك عن التقييد والتعيين وبالجملة افناك عنك وابقاك بذاته وفزت بما فزت وتكون حينئذ من الساجدين فحينئذ قد أتيك اليقين والتمكين وأخلصك عن التردد والتلوين هب لنا من لدنك رحمة توصلنا الى مرتبة حق اليقين [سورة النحل] فاتحة سورة النحل لا يخفى على ذوى التمكين والتوطين من ارباب المحبة والولاء الواصلين الى مقر التوحيد الناجين

الآيات

المخلصين عن ربقة التلوين والتقليد باستيلاء سلطان الإطلاق المفنى للاغيار مطلقا ان الأمور الإلهية الجارية على حسب الأوصاف الذاتية مرهونة بأوقات مقدرة وآجال معينة مخصوصة من عنده سبحانه بحيث لا تتقدم عليها ولا تتأخر عنها بل إذا وصل وقتها فقد وقعت فيه حتما حكما مبرما جزما لا تتخلف عنها أصلا الا إذا علق تقديمها او تأخيرها ووقتها في حضرة علمه القديم على امر من الأمور لذلك امر عباده بالدعاء والمناجاة معه ربما اتفق عليه ووافق له فالاستخبار والاستعجال انما هو من شيم اهل الزيغ والضلال المقيدين بسلاسل الأسباب وأغلال الوسائل واما ارباب الإطلاق المتحيرون في بيداء الألوهية الوالهون في فضاء الربوبية لا يستقدمون ولا يستأخرون في عموم الأمور الحادثة بل جريان الأمور كلها عندهم على سبيل التجدد الابداعى وعلقة الأسباب والوسائل العادية والروابط الرسمية ما هي عندهم الا توهمات باطلة وتخيلات عاطلة تنشأ من الإضافات العدمية والاعتبارات الوهمية الحاصلة من توهم الزمان والمكان المتفرعين عن الجهات العدمية بالنسبة الى المحبوسين في مضيق الأزل والأبد والاول والآخر والمبدأ والمنتهى لذلك اخبر سبحانه عباده بجريان امره على مقتضى مراده حسب تجلياته وتطوراته وقت تعلق ارادته ومشيته بإظهاره وإيجاده فقال متيمنا باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي قد تجلى بأسمائه الحسنى وأوصافه العليا على عموم ما تجلى من مظاهره ومصنوعاته بلا سبق زمان ومكان الرَّحْمنِ الذي قد دبر امور عباده على مقتضى مراده بأحسن التدبير في مبدأهم ومعادهم بلا مشاركة ظهير ومشير الرَّحِيمِ الذي قد هداهم الى سبيل توحيده بالإنذار والتبشير وأرسل إليهم الأنبياء ليبينوا لهم طريق الرشد ويجنبوهم عن سبيل الغي والضلال وانزل عليهم الكتب المبينة الفارقة بين الحق والباطل والحرام والحلال وأخبرهم فيها عن يوم الحشر والعرض الموعود للجزاء والسؤال عما جرى عليهم في النشأة الاولى من الأحوال فلهم ان يصدقوه ويؤمنوا له ولا يسئلوا عن وقت قيامه بل يهيئوا الزاد لأجله ويشمروا الذيل لوقوعه تعبدا وانقيادا لذلك اخبر سبحانه عن إتيانه ووقوعه بالجملة الفعلية الماضوية تنبيها على تحقق وقوعه [الآيات] فقال قد أَتى أَمْرُ اللَّهِ وقام يومه الموعود الذي قد انكشفت فيه السدول ولاحت الأسرار وارتفعت فيه حجب التعينات وعموم الأستار واضمحلت دونه مطلق السوى والأغيار ونودي من وراء سرادقات العز والجلال بعد انقهار الكل لمن الملك اليوم وأجيب ايضا من ورائها لله الواحد القهار وبالجملة فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ولا تطلبوا وقوعه بالفور ايها المترددون الشاكون في امره ولا تشركوا به شيأ ولا تشاركوه في حكمه سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ له من الآلهة الباطلة ويدعون شفاعتها لهم عند الله لدى الحاجة بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ المقربين عنده بِالرُّوحِ اى بالوحي النازل الناشئ مِنْ أَمْرِهِ توفيقا وتأييدا عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ خلص عِبادِهِ الا وهم الأنبياء والمرسلون المأمورون عليهم أَنْ أَنْذِرُوا وخوفوا عباد الله المنحرفين عن استقامة صراطه وجادة توحيده من بطشه وانتقامه إياهم وقولوا لهم نيابة عن الله أَنَّهُ لا إِلهَ يعبد بالحق إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ عن مخالفة امرى وحكمى وكيف تشركون ايها المشركون ما لا يقدر على خلق احقر شيء من الأشياء وأضعفها للقادر القاهر المقتدر الحكيم العليم الذي قد خَلَقَ وأوجد السَّماواتِ مع كمال عظمتها ورفعتها وَالْأَرْضَ بكمال بسطتها وبالجملة ما خلق عموم ما خلق واظهر جميع ما اظهر الا ملتبسا بِالْحَقِّ بانبساط نور وجوده الكائن الثابت في نفسه

[سورة النحل (16) : آية 4]

ازلا وابدا وبامتداد اظلال أوصافه وأسمائه عليهما ورش رشحات نور وجوده إياهما مع انه سبحانه باق على صرافة وحدته الذاتية وهما على عدميتهما الاصلية تَعالى وتقدس عَمَّا يُشْرِكُونَ له شيأ لا وجود له ولا تحقق سوى الظلية والعكسية وكيف يشركون ويثبتون أولئك الحمقى الضالون الجاهلون شريكا للقادر الحكيم العليم الذي قد خَلَقَ وقدر الْإِنْسانَ خاصة وأوجده على احسن صورة واعدل تقويم مِنْ نُطْفَةٍ دنية مهينة لا تمييز لها أصلا ولا شعور ورباها الى ان صار ذا رشد تام وتمييز كامل وكمال ادراك ودراية وبعد ما تم تسويته وتعديله فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مجادل مبالغ في تمييز الحق من الباطل والهداية من الضلال مُبِينٌ ظاهر البيان بإقامة الدلائل والبراهين القاطعة وما هي الا من تربية مبدعه وخالقه القادر المقتدر بالإرادة والاختيار وَالْأَنْعامَ ايضا قد خَلَقَها وأوجدها طفيلا لَكُمْ ايها المجبولون على الكرامة الفطرية فِيها اى في الانعام دِفْءٌ لكم تستدفئون به من الألبسة والاكسية والاغطية المتخذة من أصوافها واشعارها واوبارها لدفع الحر والبرد وَمَنافِعُ غير ذلك من الخباء والعباء والكساء وغيرها وَايضا مِنْها تَأْكُلُونَ لتقويم امزجتكم وتعديلها من لحومها وشحومها وألبانها وَايضا قد يسر لَكُمْ فِيها جَمالٌ جلال وعظمة وجاه وزينة بين أظهركم وذلك حِينَ تُرِيحُونَ وتجمعونها في المراح من المرعى وقت الرواح مملوة الضروع والبطون وَحِينَ تَسْرَحُونَ وترسلونها نحو المرعى وقت الصباح وَمن معظم فوائدها انها تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ واحمالكم التي أنتم تستثقلونها إِلى بَلَدٍ بعيد لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ ولم يحصل بلوغكم اليه وابلاغكم إياها لولاها إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ اى بالمشقة التامة والعسر المفرط فخلقها سبحانه تيسيرا لكم وتسهيلا لشأنكم تتميما لتربيتكم وتكرمتكم وبالجملة إِنَّ رَبَّكُمْ الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم لَرَؤُفٌ عطوف مشفق لكم يسهل عليكم كل عسير رَحِيمٌ لكم يوفقكم ويهيئ أسبابكم لتواظبوا على أداء ما افترض عليكم من الطاعات والعبادات وتلازموا على تحصيل ما قدر لكم من اقتراف المعارف والحقائق الرافعة لكم الى ارفع المنازل وأعلى المراتب. ثم أشار سبحانه ايضا الى ما يعزكم ويدفع اذاكم ويرفع جاهكم ومكانتكم تتميما لتعظيمكم وتربيتكم فقال وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ انما خلقها وأظهرها سبحانه لِتَرْكَبُوها وَتجعلوها زِينَةً وحلية لأنفسكم بين بنى نوعكم وَبالجملة يَخْلُقُ لكم ربكم بمقتضى علمه بحوائجكم ومزيناتكم ما لا تَعْلَمُونَ ولا تأملون أنتم لأنفسكم مما يعنيكم ويعينكم في النشأة الاولى والاخرى وَكما يدبر سبحانه امور معاش عباده على الوجه الأحسن الأليق بحالهم كذلك له سبحانه ان يدبر لهم امور معادهم بل هي اولى بالتدبير لذلك عَلَى اللَّهِ المصلح لأحوال عباده قَصْدُ السَّبِيلِ اى إرشادهم وهدايتهم الى طريق مستقيم موصل الى توحيده ليصلوا اليه ويفوزوا بما وعدوا من عنده وَكيف لا يرشدهم سبحانه الى سواء السبيل إذ مِنْها اى بعض من السبيل جائِرٌ مائل منصرف منحرف عن طريق الحق وسبيل توحيده بمقتضى غلبة أوصافه الجلالية المذلة المضلة تتميما للقدرة الكاملة الغالبة والسلطنة العامة الشاملة لكلا طرفي اللطف والقهر والجمال والجلال وَلَوْ شاءَ وأراد سبحانه هدايتكم جميعا لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ على مقتضى تجليات الأوصاف اللطفية الجمالية المثمرة للذة الدائمة والسرور المستمر الغير المنقطع لكن قد اقتضى حكمته المتقنة البالغة ان يكون جنابه رفيعا

[سورة النحل (16) : آية 10]

وبابه منيعا متعاليا عن ان يطلع عليه واحد بعد واحد ويرد حول حمى قدسه وارد غب وارد لذلك قد تجلى على بعض المظاهر حسب الأوصاف القهرية الجلالية المورثة للحزن الدائم والألم المخلد وكيف لا يدبر سبحانه امور عباده مع انه هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ وأفاض مِنَ السَّماءِ ماءً محييا موات الأرض مثل احياء الروح وراضى الأجساد ليحصل لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ تشربون منه او تعصرون من القصب والفواكه الحاصلة به أنواعا من الأشربة وَايضا يحصل مِنْهُ شَجَرٌ وانواع النباتات الخارجة من الأرض لرعى مواشيكم إذ فِيهِ تُسِيمُونَ وتسرحون دوابكم للرعي الى ان يسمن فيؤكل وايضا يُنْبِتُ لَكُمْ لتقويتكم وتقويم امزجتكم وتقويتها بِهِ الزَّرْعَ بأنواعه واصنافه لتتخذوا منه اخبازا واقراصا وَالزَّيْتُونَ للادام وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ للتفكه والتقوت ايضا وَبالجملة يخرج لكم به مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ تتميما لأمور معاشكم وتقويما لأمزجتكم كل ذلك لتتفكروا في آلائه ونعمائه وتتذكروا ذاته كي تفوزوا بمعرفته وتوحيده إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من انعام هذه النعم العظام لَآيَةً عظيمة وبينة واضحة موضحة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويستعملون عقولهم في تفكر آلاء الله ونعمائه ليواظبوا على أداء شكرها وَمن جملة آياته سبحانه المتعلقة لتدبير أحوالكم انه قد سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ لتسكنوا فيه وتستريحوا وَالنَّهارَ لتعيشوا فيه وتكسبوا وَايضا قد سخر لكم الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لإنضاج ما تتقوتون وإصلاح ما تتفكهون وَقد سخر لكم النُّجُومُ ايضا لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر حال كون كل منها مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ تابعات لحكمه وتقديره على تقدير قراءة النصب او مع ان الكل مسخرات في قبضة قضائه يصرفها حسب ارادته ومشيته على تقدير الرفع إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير والتسهيل المذكور لَآياتٍ اى في كل منها دليل واضح وبرهان لائح قاطع لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويستدلون من الآثار الى المؤثر ومن المصنوعات الى الصانع القديم الفرد وَايضا قد سخر لكم ما ذَرَأَ وبرأ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ واشكاله وطبعه وذوقه بمقتضى اهويتكم وامزجتكم من الحوائج المتعلقة لحظوظكم وترفهكم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ يتعظون ويتفطنون منها الى كرامة الإنسان من بين سائر الأكوان والى خلافته ونيابته عن الله وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ لكم الْبَحْرَ من كمال لطفه وتكريمه إياكم لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وهو السمك وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً وزينة من الجواهر النفيسة تَلْبَسُونَها وتتزينون بها ترفها وتنعما وَتَرَى ايها الرائي الْفُلْكَ السفن مَواخِرَ فِيهِ جواري في خلاله مشققات للبحر مسيرات لمن فيها على الماء وَما كل ذلك الا لِتَبْتَغُوا وتطلبوا مِنْ فَضْلِهِ وجوده ما يعنيكم ويليق بكم من الحوائج والأرباح وغيرها وَانما سخر لكم سبحانه ما سخر لكم من البر والبحر لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تواظبوا وتداوموا على شكر نعمه وتصرفوها الى ما خلق لأجله طلبا لمرضاته وَمن كمال لطفه ورحمته ايضا انه قد أَلْقى فِي الْأَرْضِ التي هي مستقركم ومنشأكم رَواسِيَ شامخات مخافة أَنْ تَمِيدَ وتتحرك بِكُمْ ولا يمكن استقراركم عليها لاضطرابها وتزلزلها إذ هي في طبعها كرة حقيقية ملقاة على الماء محفوفة به مغمورة فيه وانما القى سبحانه عناية منه رواسى ثقالا عليها حتى صارت متفاوتة الأطراف في الثقل فاستقرت حينئذ وثبتت وَايضا قد اجرى لكم سبحانه عليها أَنْهاراً ليمكنكم الاستقاء منها لدى الحاجة وَكذا قد عين وسهل لكم بين الجبال سُبُلًا نافذات

[سورة النحل (16) : آية 16]

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الى ما ترومون من البلاد البعيدة وَقد نصب لكم ايضا عَلاماتٍ دالة على مطالبكم ومقاصدكم في البوادي والبراري بالتلال والوهاد وَفي البحار بِالنَّجْمِ اى بالنجوم المتعارفة عند البحارين إذ هُمْ يَهْتَدُونَ بها حين وقوعهم في لجج البحار. وبالجملة كل ذلك من الدلائل الدالة على وحدة الفاعل المختار المتصف بعموم أوصاف الكمال المنزه عن مشاركة الاضداد والأمثال مبدع المكونات من كتم العدم بلا سبق مادة وزمان ومخترع عموم الموجودات بلا علل وأغراض على سبيل الفضل والإحسان أَتشركون مع الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شيء في الوجود سواه ولا اله الا هو يخلق ما يشاء بمقتضى رحمته وجوده من لا يخلق شيأ بل هو في نفسه من أدون المخلوقات فَمَنْ يَخْلُقُ ايها الحمقى العمى كَمَنْ لا يَخْلُقُ في المرتبة والمكانة واستحقاق العبادة ما عرض لكم ولحق بكم ايها المجبولون على فطرة الدراية والشهود لم تتفطنوا بالفرق الظاهر بينهما مع كمال جلائه وظهوره مع انكم من زمرة العقلاء المميزين أَفَلا تَذَكَّرُونَ فطرتكم المجبولة على العلم والتمييز وَكيف تشركون مع الله المنعم المفضل عليكم بأنواع النعم واصناف الكرم مع انكم إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ الفائضة عليكم وآلاءه الواصلة إليكم لا تُحْصُوها من غاية كثرتها ووفورها ومع ذلك قد أشركتم معه غيره وكفرتم بنعمه مع ان المناسب لكم الرجوع اليه والانابة نحوه إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده لَغَفُورٌ لمن تاب وآمن وعمل عملا صالحا رَحِيمٌ يقبل توبتهم ويتجاوز عن سيئاتهم لو أخلصوا وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده يَعْلَمُ منكم ما تُسِرُّونَ في قلوبكم بلا موافقة ألسنتكم وَما تُعْلِنُونَ بألسنتكم بلا مطابقة قلوبكم فعليكم ايها المؤمنون المنيبون ان تنيبوا وتتوجهوا نحو الحق سرا وعلانية حتى لا تكونوا من زمرة المنافقين المخادعين مع الله وَاعلموا ايها المشركون المكابرون ان الشركاء الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المعبود بالحق الآلهة وتعبدونها إفكا كعبادته سبحانه مع انهم في أنفسهم تماثيل عاطلة لا يستحقون الألوهية إذ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً حقيرا وَكيف بالعظيم والكبير بل هُمْ يُخْلَقُونَ مخلوقون بل هم من أدون المخلوقات إذ هم أَمْواتٌ جمادات لا شعور لها أصلا وهم غَيْرُ أَحْياءٍ ولا ذوو حس وحركة ارادية وَلذلك ما يَشْعُرُونَ شعور الحيوانات أَيَّانَ يُبْعَثُونَ والى اين يحشرون ويساقون من المرعى وبالجملة هم في أنفسهم ادنى واخس من الحيوانات العجم فكيف يتأتى منهم الألوهية المستلزمة للاطلاع على عموم المغيبات الجارية في العوالم كلها اطلاع حضور وشهود بل إِلهُكُمْ الذي أوجدكم من كتم العدم وأظهركم في فضاء الوجود ما هو الا إِلهٌ واحِدٌ احد فرد صمد لم يكن له كفو ولا شريك ليس كمثله شيء وليس هو مثل شيء وما يظهر وما ينكشف توحيده سبحانه الا لأولى العزائم والنهى من ارباب المحبة والولاء في النشأة الاولى والاخرى فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ المعدة لشرف اللقاء قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ بها وبلقاء الله فيها وَهُمْ من شدة شكيمتهم وكثافة حجبهم سيما مع إنزال الكتب المبينة لأحوالها وأهوالها وإرسال الرسل المنبهين لهم عليها مُسْتَكْبِرُونَ متمردون عتوا وعنادا لذلك لا جَرَمَ وحقا قد ثبت على الله حتما ان يعذبهم جزما مع أَنَّ اللَّهَ المطلع لسرائرهم وضمائرهم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ من الكفر والضلال فيجازيهم حسب علمه بحالهم ولا يحسن سبحانه إليهم بدل إساءتهم إذ هم مستكبرون إِنَّهُ سبحانه لا يُحِبُّ

[سورة النحل (16) : آية 24]

الْمُسْتَكْبِرِينَ لاشتراكهم معه سبحانه في أخص أوصافه إذ الكبرياء مخصوصة به سبحانه لا يسع لاحد ان يشارك معه فيه وَمن غاية عتوهم واستكبارهم إِذا قِيلَ لَهُمْ على طريقة الاستفسار ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على نبيكم قالُوا متهكمين مستهزئين ليس ما انزل له ربه الا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى الأكاذيب الأراجيف التي قد سطرها الأولون فيما مضى من تلقاء نفوسهم. وبالجملة انما قالوا ذلك وأذاعوه بين الأنام لِيَحْمِلُوا ويقترفوا أَوْزارَهُمْ وآثامهم كامِلَةً بلا تخفيف شيء منها ولا نقصانه ليؤاخذوا عليها يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيحملوا ايضا مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ من ضعفاء الناس بقولهم هذا لهم والقائهم إليهم مع انهم هم خالوا الأذهان بِغَيْرِ عِلْمٍ يتعلق منهم بالقرآن واعجازه ومع ذلك لا يعذرون لعدم التفاتهم الى التأمل والتدبر حتى يظهر عندهم حقيته وبطلان قولهم أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ويعملون المضلون باضلالهم والضالون بضلالهم وعدم تأملهم وتدبرهم مع انهم مجبولون على التأمل والتدبر. وبالجملة ليس هذا التكذيب والإضلال والتهكم والاستهزاء من الأمور الحادثة بين أولئك الهالكين في تيه الشرك والطغيان بل هي من سنة الكفرة السالفة ومن ديدنتهم القديمة وعادتهم المستمرة إذ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ واحتالوا لإضلال العوام الى حيث قد بنوا ابنية رفعية للصعود الى السماء والمقاتلة مع سكانها والهها ثم لما تم بنيانهم وقصورهم فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ اى قد اتى امره سبحانه باهلاكهم وتعذيبهم بهدم بنيانهم مِنَ الْقَواعِدِ والأعمدة والأساس التي قد بنى عليها البناء فتضعضعت وتحركت الدعائم فَخَرَّ وسقط عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وهم تحته متمكنون مترفهون فهلكوا وَبالجملة قد أَتاهُمُ الْعَذابُ بغتة مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ اماراتها قبل نزوله ثُمَّ بعد تعذيبهم في النشأة الاولى يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ الله ويرديهم ويخذلهم بتكذيبهم كلام الله وكلام رسوله وَيَقُولُ لهم سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ ايها الضالون المضلون المنهمكون في الغي والضلال تُشَاقُّونَ وتعادون فِيهِمْ وفي حقهم وشأنهم المؤمنين وتعارضون معهم بادعاء الألوهية لأولئك التماثيل العاطلة الباطلة ادعوهم لينجوكم ويخلصوكم عن عذابي وبطشى قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من الأنبياء والرسل وخلفائهم الذين دعوهم الى الايمان فلم يؤمنوا بل يكذبونهم وينكرون عليهم وعلى دينهم ونبيهم حين أبصروا أخذ الله إياهم شامتين لهم متهكمين عليهم إِنَّ الْخِزْيَ اى الذلة والصغار الْيَوْمَ وَالسُّوءَ المفرط المجاوز عن الحد واقع نازل عَلَى الْكافِرِينَ المستكبرين الذين كذبوا الرسل وأنكروا الكتب واستهزؤا بهم مكابرة وعنادا وهم الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الموكلون عليهم حين معارضتهم بالقرآن وتكذيبهم إياه وبمن انزل اليه مع كونهم ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ومعرضيها على العذاب الأبدي ثم لما عاينوا في النشأة الاخرى بحقيته وصدقه ومطابقته للواقع فَأَلْقَوُا السَّلَمَ اى الانقياد والتسلم اليه مبرئين نفوسهم عن التكذيب والإساءة مع القرآن قائلين ما كُنَّا في النشأة الاولى نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وما نريد وما نقصد الإساءة في حقه فيقول الملائكة لهم على سبيل التهكم بَلى قد كنتم أنتم لا تسيئون الأدب مع الرسول والقرآن إِنَّ اللَّهَ المطلع بجميع ما كان وما يكون عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الرد والإنكار والتكذيب والإصرار فيجازيكم على مقتضى علمه ثم قيل لهم زجرا وقهرا فَادْخُلُوا ايها المشركون المستكبرون المعاندون المعادون المكابرون مع الله ورسوله أَبْوابَ

[سورة النحل (16) : آية 30]

جَهَنَّمَ كل فرقة منكم من باب منها على تفاوت طبقاتكم في موجباتها واسبابها وادخلوا انواع عذابها ونكالها حال كونكم خالِدِينَ فِيها مخلدين مؤبدين فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ جهنم البعد والخذلان التي هي مطرح اصحاب الطرد والحرمان وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عن محارم الله وحفظوا نفوسهم عن العرض على المهالك الموجبة لسخط الله وغضبه ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على نبيكم لتربية دينكم وتصفية مشربكم عن إكدار التقليدات والتخمينات قالُوا فرحين مسرورين قد انزل ربنا على رسولنا خَيْراً محضا في النشأة الاولى والاخرى اما في الاولى ف لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اى للمؤمنين الممتثلين بأوامر القرآن والمجتنبين عن نواهيه فِي هذِهِ الدُّنْيا وعملوا الصالحات المقربة الى الله المؤكدة لإيمانهم وإحسانهم حَسَنَةٌ كاملة من العلوم اللدنية والمعارف المثمرة للمكاشفات والمشاهدات وَاما في الاخرى ف لَدارُ الْآخِرَةِ المعدة للفوز بشرف اللقيا والوصول الى سدرة المنتهى خَيْرٌ لهم من جميع الكمالات القصوى والدرجات العليا وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ المتحفظين نفوسهم عن الالتفات الى ما سوى الحق دار الآخرة التي هي جَنَّاتُ عَدْنٍ متنزهات وحدة لاهوتية ومستقرات وجوب مصونة عن امارات الكثرة الامكانية المشعرة للاثنينية مطلقا يَدْخُلُونَها مجردين عن جلباب التعينات العدمية الناسوتية تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة من العلوم اللدنية المترشحة من بحر الجود المنتشئ من التجليات المترتبة على الأوصاف الذاتية الإلهية وبالجملة لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من مقتضيات الأوصاف اللطفية الحبية الجمالية كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ ذو الفضل والقوة المتين عموم الْمُتَّقِينَ المائلين عن غير الله المعرضين عما سواه مطلقا الباذلين مهجهم في سبيله طوعا المنخلعين عن مقتضيات أوصاف بشريتهم رغبة وارادة واختيارا الصابرين على عموم ما جرى عليهم من القضاء تسليما ورضا وهم الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الموكلون عليهم في نشأتهم الاولى حال كونهم طَيِّبِينَ طاهرين عن خبائث الإمكان ورذائل الخذلان والخسران الناشئة من ظلمات الطبائع والأركان يَقُولُونَ اى الملائكة المأمورون لقبض أرواحهم عند قبضها سَلامٌ عَلَيْكُمْ ايها الصابرون في البلوى السائرون الى المولى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ التي هي خير المنقلب والمثوى وفوزوا بشرف اللقيا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في النشأة الاولى من الاعراض عن مقتضيات الهوى ومن الرضا بالقضاء ومن الصبر على العناء والشوق الى الفناء والفوز بشرف البقاء واللقاء. ثم قال سبحانه توبيخا وتقريعا على المشركين لْ يَنْظُرُونَ وما ينتظرون أولئك التائهون في تيه الغفلة والغرورلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ المأمورون لقبض أرواحهم الخبيثةوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ يا أكمل الرسل اى يوم القيمة المعد لتعذيبهم وانتقامهم ذلِكَ اى مثل إهمال هؤلاء الهالكين في امر الايمان قدعَلَ الَّذِينَ مضوانْ قَبْلِهِمْ في زمن الأنبياء الماضين بالجملةا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ المجازى لهم على مقتضى إساءتهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى يظلمون أنفسهم بعرضها على المهالك الموجبة لانواع العذاب والعقاب من تكذيب الرسل وانكار الكتب وترك المأمورات وارتكاب المنهيات فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا عتوا وعنادا وَحاقَ وأحاط بِهِمْ جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ استكبارا واستنكارا وَكيف لا قد قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا من غاية انهماكهم في الغي والضلال وشدة انكارهم وشكيمتهم متهكمين على وجه الاحتجاج لَوْ شاءَ اللَّهُ الواحد الأحد المستقل في عموم الأفعال بالإرادة والاختيار على زعمكم عدم عبادتنا

[سورة النحل (16) : آية 36]

لآلهتنا وأصنامنا ما عَبَدْنا البتة مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ لا نَحْنُ وَلا آباؤُنا إذ مراده مقضي حتما وحكمه مبرم جزما وَايضا لا حَرَّمْنا نحن ولا آباؤنا من البحائر وغيرها مِنْ دُونِهِ وبلا رضاه وبدون اذنه ومشيته مِنْ شَيْءٍ إذ لا يعارض فعله وحكمه هذا صورة احتجاجهم واستدلالهم على سبيل التهكم والاستهزاء والمراء كَذلِكَ اى مثل استدلال هؤلاء الطغاة الغواة الهالكين في تيه الغفلة والعناد قد فَعَلَ الَّذِينَ خلوا مِنْ قَبْلِهِمْ هكذا متهكمين مستهزئين فأرسل الله عليهم رسلا فكذبوهم وأنكروا عليهم فاخذهم الله بذنوبهم فاهلكهم بأنواع العذاب والعقاب لان ارادة الله لم يتعلق بايمانهم وهدايتهم فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ وما عليهم وليس لهم إِلَّا الْبَلاغُ وتبليغ ما أرسلوا به الْمُبِينُ على وجه الوضوح والتبيين لئلا يبقى لهم شك وتردد في سماعه واما قبولهم واتصافهم به وهدايتهم بسببه فأمر قد استأثر الله به ليس لهم ان يخوضوا فيه إذ هو خارج عن وسعهم متعال عن طاقتهم ثم فصل سبحانه ما أجمل بقوله وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الهالكة السالفة حين اختل امور دينهم رَسُولًا منهم قائلا لهم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ المتصف بالوحدانية والفردانية المستقل بالوجود والآثار المترتبة عليه المنزه عن الشريك والأشباه والأمثال مطلقا وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ اى الالهة المضلة التي أنتم تتخذونها من تلقاء انفسكم ظلما وزورا وتعبدونها كعبادة الله عنادا واستكبارا ثم لما بلغهم الرسول جميع ما جاء به من عندنا فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ بان أراد هدايته فهداه وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ قد استمرت وثبتت عَلَيْهِ الضَّلالَةُ وتمرنت بقلبه لتعلق مشية الله بغوايته وضلاله وان ترددتم فيه فَسِيرُوا ايها الشاكون المترددون فِي الْأَرْضِ التي هي مساكنهم ومنازلهم فَانْظُرُوا واعتبروا من آثارهم واطلالهم وتفرسوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ المستهزئين للرسل والكتب إِنْ تَحْرِصْ يا أكمل الرسل أنت عَلى هُداهُمْ وتريد هدايتهم مبالغة مع انك لا تهدى من أحببت فَإِنَّ اللَّهَ الهادي الحكيم لعباده بمقتضى علمه باستعداداتهم لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ اى لا يريد هداية من أراد ضلاله في سابق علمه ولوح قضائه وَما لَهُمْ بعد ما أراد الله ضلالهم مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم على الهداية ويشفعون لهم حتى ينقذوهم عن الضلال فأنت ايضا يا أكمل الرسل لا تتعب نفسك عليهم حسرات وَمن خبث طينتهم وشدة بغضهم وضغينتهم قد أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ واغلظوا فيها قائلين مؤكدين مغلظين لا يَبْعَثُ اللَّهُ ولا يحيي مرة اخرى مَنْ يَمُوتُ ويزول الروح الحيواني عنهم. ثم قال سبحانه ردا لهم وتخطئة على ابلغ وجه وآكده ايضا بَلى يبعثون إذ قد وعد الله البعث والحشر وَعْداً صدقا لازما عَلَيْهِ سبحانه انجاز عموم ما وعد حَقًّا حتما جزما ووفاء لوعده وإيفاء لحكمه مع انه القادر المقتدر بالقدرة الكاملة على كل ما دخل تحت حيطة ارادته ومشيته وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ حق قدره سبحانه وقدر قدرته وسطوته وبسطته وانما ينجز سبحانه الوعد الموعود لِيُبَيِّنَ ويوضح لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ بل يستبعدونه ويستحيلونه وَايضا لِيَعْلَمَ وليميز المفسدون المسرفون الَّذِينَ كَفَرُوا له وأنكروا عليه عنادا ومكابرة أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في إصرار عدم وقوعه وتكذيبه وكيف تستبعدون ايها المنكرون أمثال هذا عن كمال قدرتنا ووفور علمنا وارادتنا مع انا إِنَّما قَوْلُنا وحكمنا حين تعلق ارادتنا لِشَيْءٍ اى لإظهار شيء من الأشياء

[سورة النحل (16) : آية 41]

المثبتة في الأعيان الثابتة والمسطورة المرقومة في لوح قضائنا وحضرة علمنا اى شيء كان عظيما او حقيرا إِذا أَرَدْناهُ ان يوجد ويتحقق في عالم الشهادة أَنْ نَقُولَ لَهُ بمقتضى صفتنا القديمة التي هي الكلام الحامل لحكمنا المؤدى النافذ لأمرنا فارضين مقدرين وجوده وتحققه إذ هو عدم صرف في نفسه ولا شيء محض في حد ذاته كُنْ كالمكونات الاخر فَيَكُونُ بلا تراخ ومهلة وبلا امتداد ساعة ولحظة وآن وطرفة بل التلفظ بحرف التعقيب بين الأمر الوجوبي الإلهي وحصول المأمور المراد له سبحانه انما هو من ضيق العطن وضرورة التعبير والا فلا ترتب بينهما الا وهما إذا الترتب انما يحصل من توهم الزمان والآن وعنده سبحانه لا زمان ولا آن ولا شأن لا يسع في زمان ومكان. ثم أشار سبحانه الى علو درجات المؤمنين وارتفاع شأنهم ورفعة قدرهم ومكانهم فقال وَالَّذِينَ هاجَرُوا عن بقعة الإمكان حال كونهم سائرين فِي اللَّهِ بعد ما حصل لهم مرتبة التمكن والاطمئنان سيما مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بتسلط الامارة عليهم زمانا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ولنمكننهم فِي الدُّنْيا اى في نشأتهم الاولى حَسَنَةً اى حصة كاملة وحظا وافرا من المعارف والحقائق بحيث انخلعوا عن لوازم البشرية بالمرة وماتوا عن الأوصاف البهيمية مطلقا ارادة واختيارا وَمع ذلك لَأَجْرُ الْآخِرَةِ المعدة لرفع الحجب وكشف الغطاء والسدل أَكْبَرُ قدرا وأعظم شأنا وأتم لذة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ويفهمون ويذوقون لذته بالذوق والوجدان لمالوا اليه البتة زيادة ميل واجتهدوا نحوه زيادة اجتهاد رزقنا الله الوصول اليه والحصول دونه واذاقنا حلاوة لذته وبالجملة هم الَّذِينَ صَبَرُوا على ما اصبهم من المصيبات والبليات راجعين مسترجعين الى الله في جميع الحالات وَعَلى رَبِّهِمْ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية يَتَوَكَّلُونَ في عموم شئونهم وتطوراتهم وَكيف يستبعدون رسالتك يا أكمل الرسل أولئك المشركون المعاندون إذ ما أَرْسَلْنا للرسالة العامة رسلا مِنْ قَبْلِكَ مبشرين ومنذرين إِلَّا رِجالًا امثالك نُوحِي إِلَيْهِمْ شعائر الدين والايمان وننزل عليهم الكتب المبينة لأحكامها فان لم يقبلوا منك هذا ولم يعتقدوا صدقك فيه فقل لهم فَسْئَلُوا ايها المكابرون المعاندون الجاهلون بحال من مضى من الأنبياء أَهْلَ الذِّكْرِ والعلم منكم وهم الأحبار والقسيسون إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ صدقه ومطابقته للواقع وكما أيدنا الرسل والأنبياء الماضين بِالْبَيِّناتِ الواضحة وَالزُّبُرِ اللائحة ترويجا لما جاءوا به وأرسلوا معه ليبينوا ويوضحوا بها احكام اديانهم وَمثل ذلك ايضا قد أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل الذِّكْرَ اى الكتاب المعجز المشتمل على شعائر الإسلام وأحكامه لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ المتوغلين في الغفلة والنسيان عموم ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ من عند ربهم على مقتضى أزمانهم وأطوارهم من الأوامر والنواهي والآداب والأخلاق وَلَعَلَّهُمْ بعد تبليغك إياهم وتبيينك لهم يَتَفَكَّرُونَ في آياته وأحكامه ويتأملون في حكمه ومرموزاته كي يتفطنوا الى معارفه وحقائقه وكشوفاته وشهوداته المودعة فيه ثم قال سبحانه تهديدا على اهل الزيغ والضلال المنحرفين عن طريق الحق عتوا وعنادا أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ واحتالوا لإهلاك الأنبياء سيما معك يا أكمل الرسل ولم يخافوا أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ القادر الغالب على وجوه الانتقام بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسفها على قارون أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ بغتة حال كونهم بائتين في مراقدهم مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ اماراته ومقدماته أصلا أَوْ يَأْخُذَهُمْ العذاب وهم فِي تَقَلُّبِهِمْ وتحركهم جائلين دائرين مترددين

[سورة النحل (16) : آية 47]

فَما هُمْ حين اخذه وبطشه بِمُعْجِزِينَ مقاومين قادرين على دفع قهر الله وعذابه أَوْ يَأْخُذَهُمْ العذاب عَلى تَخَوُّفٍ وتنقص من أموالهم وأولادهم على سبيل التدريج الى ان يستأصلهم بالمرة فَإِنَّ رَبَّكُمْ ايها المجترئون على الله ورسوله المسيئون الأدب معهما لَرَؤُفٌ عطوف مشفق لا يعاجلكم بالعذاب رَحِيمٌ يمهلكم ويؤخر انتقامكم رجاء ان تتذكروا وتتعظوا أَيصرون ويستمرون أولئك المشركون المسرفون على الشرك والنفاق وَلَمْ يَرَوْا ولم ينظروا نظر عبرة واستبصار إِلى انقياد جميع ما خَلَقَ اللَّهُ وأظهره من كتم العدم إظهارا إبداعيا لحكمه وامره مِنْ شَيْءٍ من الأشياء يَتَفَيَّؤُا يميل وينقلب ظِلالُهُ بانقلاب الشمس وحركتها عَنِ الْيَمِينِ مرة وَالشَّمائِلِ اخرى على مقتضى اختلاف أوضاع الشمس حال كونهم سُجَّداً ساجدين متذللين واضعين جباحهم على تراب المذلة اطاعة وانقيادا لِلَّهِ الواحد الأحد المستقل بالالوهية والربوبية وَهُمْ في جميع حالاتهم وتقلباتهم داخِرُونَ صاغرون ذليلون خائفون من جلال الله وكبريائه مستوحشون عن سطوة قهره وبلائه وصولة استيلائه وَكيف يستكبرون أولئك المشركون المسرفون عن انقياد الله وأطاعته إذ لِلَّهِ لا لغيره من الاظلال الهالكة والتماثيل الباطلة يَسْجُدُ ويتذلل طوعا وطبعا عموم ما فِي السَّماواتِ وَكذا عموم ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ تتحرك وتخرج من العدم نحو الوجود بامتداد اظلال الأوصاف الإلهية وبرش رشحات زلال جود وجوده عليها وَلا سيما الْمَلائِكَةُ المهيمون المستغرقون في مطالعة جمال الله وجلاله وَهُمْ مع غاية قربهم وتنزههم عن العلائق المبعدة عن الله ونهاية تجردهم عن أوصاف الإمكان مطلقا لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادة الله وعن التذلل نحوه فكيف أنتم ايها الهلكى الغرقى المنغمسون في بحر الغفلة والضلال وانما يسجدون أولئك الساجدون المتذللون لأنهم يَخافُونَ رَبَّهُمْ القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام من ان يرسل عليهم عذابا مِنْ فَوْقِهِمْ إذ هم مقهورون تحت قبضة قدرته وَلذلك يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ويجتنبون عما ينهون وَكيف لا تمتنعون عن اثبات الشركاء لله الواحد الأحد الفرد الصمد ايها المشركون المعاندون سيما بعد ما قالَ اللَّهُ عز شأنه وجل برهانه لا تَتَّخِذُوا ايها المكلفون بالإيمان والعرفان إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ مستحقين للعبادة والانقياد فكيف الزيادة بل إِنَّما هُوَ اى ليس في الوجود والشهود الا إِلهٌ واحِدٌ يعبد بالحق ويرجع نحوه في مطلق الوقائع والخطوب ويفوض اليه الأمور كلها وما هو الا انا المتصف بعموم أوصاف الكمال ونعوت الجلال والجمال فَإِيَّايَ لا الى غيرى من مخلوقاتي ومصنوعاتى الحاصلة من اظلال أسمائي وصفاتي فَارْهَبُونِ وخصوني بالخوف والرجاء وارجعوا نحوي عند هجوم البلاء وحلول القضاء إذ لا راد لقضائي الا فضلي وعطائي وَكيف لا يرجع اليه سبحانه ولا يستغاث منه مع ان لَهُ ملكا وتصرفا ومنه إبداء وإنشاء عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات التي هي فواعل العلويات المفيضات المؤثرات وَكذا عموم ما في الْأَرْضِ اى عالم الطبيعة من الاستعدادات التي هي قوابل السفليات المتأثرات من العلويات وَايضا لَهُ لا لغيره من الأسباب والوسائل العادية الدِّينُ اى الإطاعة والانقياد والتوجه والرجوع واصِباً دائما حتما لازما جزما أَفَغَيْرَ اللَّهِ المحيط للكل احاطة شهود وحضور تَتَّقُونَ وتحذرون ايها الجاهلون بحق قدره مع انه لا ضار سواه ولا نافع غيره وَ

[سورة النحل (16) : آية 54]

اعلموا ايها المجبولون على فطرة التكليف ان ما بِكُمْ وما وهب لكم ونسب إليكم مِنْ نِعْمَةٍ واصلة لكم نافعة لنفوسكم مسرة لقلوبكم فَمِنَ اللَّهِ المصلح لأحوالكم قد وصلت إليكم امتنانا عليكم وتفضلا إذ لا نافع الا هو ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ المشوش لنفوسكم القاسي لقلوبكم فَإِلَيْهِ ايضا لا الى غيره من الوسائل العادية تَجْئَرُونَ تتضرعون وتستغيثون ليدفع عنكم أذاكم إذ لا ضار ايضا الا هو ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ بعد استغاثتكم واستعانتكم ورجوعكم نحوه مع انه لا كاشف سواه إِذا فَرِيقٌ اى فاجاءت طائفة مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ الذي يدفع أذاهم ويكشف ضرهم يُشْرِكُونَ له غيره سيما من الأصنام والتماثيل العاطلة التي لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف لغيرهم وانما فعلوا ذلك وأشركوا لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعم ولم يقوموا بشكرها عنادا ومكابرة بل أسندوها الى ما لا شعور له أصلا ظلما وزورا وبالجملة فَتَمَتَّعُوا ايها المشركون بنا الكافرون لنعمنا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ما تكسبون لأنفسكم من العذاب المخلد والعقاب المؤبد والعجب كل العجب ينكرون بنا مع انا متصفون بجميع أوصاف الكمال منعمون عليهم بالنعم الجليلة الجزيلة وَيَجْعَلُونَ ويسندون نعمنا وانعامنا لِما لا يَعْلَمُونَ أولئك الحمقى اى لآلتهم العاطلة التي لا يعلمون ولا يفهمون منها حصول الفائدة لهم وجلب النفع إليهم أصلا إذ هي جمادات قد نحتوها بأيديهم نَصِيباً اى حظا كاملا مِمَّا رَزَقْناهُمْ وسقنا نحوهم جهلا وعنادا ومع ذلك خيلوا انهم لا يسألون عنه ولا يؤاخذون عليه بل يثابون به على زعمهم الفاسد ورأيهم الكاسد تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ ايها المسرفون المفسدون عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ علينا بإثبات الشركاء إيانا واسناد نعمنا إليهم افتراء ومراء وَمن جملة مفترياتهم بالله المنزه عن الأشباه والأولاد انهم يَجْعَلُونَ ويثبتون لِلَّهِ الْبَناتِ حيث يقولون الملائكة بنات الله مع انهم يكرهونها لأنفسهم هذه سُبْحانَهُ قد تنزه ذاته وتعالى شأنه عما يقولون علوا كبيرا وَلَهُمْ اى يثبتون لأنفسهم ما يَشْتَهُونَ من البنين وَالحال انهم إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى وبولادتها له قد ظَلَّ صار وَجْهُهُ مُسْوَدًّا اى اسود فاحما من غاية الحزن والكراهة وَهُوَ حينئذ كَظِيمٌ مملو من الغيظ والبغض على الزوجة والوليدة بل على الله ايضا وصار من شدة الغم والهمّ بحيث يَتَوارى ويستتر مِنَ الْقَوْمِ استحياء مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ اى بالوليدة المبشر بها ويتردد في أمرها أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ اى هوان ومذلة أَمْ يَدُسُّهُ ويخفيه فِي التُّرابِ غيرة وحمية أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ لأنفسهم ما يشتهون ولله المنزه عن الولد ما يكرهون ثم قال سبحانه لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ المعدة لعرض الأعمال على الله والجزاء منه على مقتضاها مَثَلُ السَّوْءِ في حق الله المنزه عن الأهل والولد سيما نسبتهم اليه ما يستقبحه نفوسهم من اثبات البنات له تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا بل وَلِلَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية المتفرد بالوجود القيومية الْمَثَلُ الْأَعْلى الذي هو الغنى عن العالم وما فيه فكيف الزواج والإيلاد اللذين هما من أقوى اسباب الإمكان المنافى للوجوب الذاتي الذي هو من لوازم الألوهية والربوبية كيف وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب المتفرد المنيع ساحة عزه عن الاحتياج الى غيره مطلقا فكيف الى الزوجة والولد الْحَكِيمُ المتصف بكمال الحكمة المتقنة البالغة كيف يختار لذاته ما لا يخلو عن وصمة النقصان. ثم قال سبحانه وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ الحكيم المتقن في أفعاله النَّاسَ الناسين عهود العبودية بمقتضى

[سورة النحل (16) : آية 62]

عدله وانتقامه بِظُلْمِهِمْ ومعاصيهم الصادرة عنهم دائما ما تَرَكَ عَلَيْها اى على وجه الأرض مِنْ دَابَّةٍ ذي حركة تتحرك عليها إذ ما من متحرك الا وينحرف عن جادة العدالة كثيرا وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ ويمهلهم على مقتضى فضله ولطفه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قد سماه الله اى قدره وعينه في حضرة علمه لموتهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ المسمى المبرم المقضى به لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ اى لا يسع لهم الاستقدام والاستئخار بل لا بدّ وان يموتوا فيه حتما مقضيا وَايضا من خبث بواطنهم وقسوة قلوبهم يَجْعَلُونَ وينسبون لِلَّهِ المنزه عن الأنداد والأولاد ما يَكْرَهُونَ ويستقبحون لنفوسهم وهو اثبات البنات له سبحانه وَمع ذلك تَصِفُ وتقول أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ تصريحا وتنصيصا أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى اى بان لهم المثوبة العظمى والدرجة العليا عند الله بل لا جَرَمَ اى حقا عليهم جزما حتما من أَنَّ لَهُمُ النَّارَ اى جزاءهم مقصور على النار وهم مخلدون فيها ابدا وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ في العذاب مقدمون على عموم العصاة الطغاة الداخلين في النار المجزيين بها لاستكبارهم على الله ورسله تَاللَّهِ يا أكمل الرسل لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا إِلى أُمَمٍ قد مضوا مِنْ قَبْلِكَ حين نشأ الجدال والمراء بينهم فانحرفوا عن جادة الاعتدال وقد أيدنا الرسل بالكتب المبينة لطريق العدالة والاستقامة فبينوا لهم على ابلغ وجه فَزَيَّنَ وحسن لَهُمُ الشَّيْطانُ المضل المغوى أَعْمالَهُمْ التي قد كانوا عليها فاصروا على أعمالهم فلم يقبلوا قول الأنبياء فكذبوهم وأنكروا عليهم لذلك نزل عليهم من العذاب ما نزل في الدنيا وسينزل في الآخرة بأضعافه وآلافه فَهُوَ اى الشيطان وَلِيُّهُمُ ومتولى أمورهم اى لهؤلاء المستخلفين عنه الْيَوْمَ لذلك لم يقبلوا قولك ولم يسمعوا بيانك بل قد أصروا واستمروا على ما عليه أسلافهم من الغواية والضلال وَلَهُمْ ايضا مثل أسلافهم بل أشد منهم عَذابٌ في النشأة الاولى والاخرى أَلِيمٌ مؤلم أشد إيلام إذ أنت أفضل من الأنبياء الماضين وبيانك وتبليغك أكمل من بيان سائر الأنبياء وتبليغهم وَما أَنْزَلْنا من مقام فضلنا وجودنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل الْكِتابَ الجامع لما في الكتب السالفة مع زيادات قد خلت عنها تلك الكتب إِلَّا لِتُبَيِّنَ وتوضح لَهُمُ اى للناس الأمر الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ألا وهو التوحيد الذاتي واحوال النشأة الاخرى والمكاشفات والمشاهدات الواقعة فيها وَقد أنزلناه ايضا هُدىً هاديا يهديهم الى التوحيد ببيان براهينه وحججه الموصلة اليه بالنسبة الى ارباب المعاملات والمجاهدات من الأبرار السائرين الى الله بارتكاب الرياضات القالعة لدرك الإمكان ورين التعلقات وَرَحْمَةً اى كشفا وشهودا بالنسبة الى المجذوبين المنجذبين نحو الحق المنخلعين عن جلباب ناسوتهم بغتة بلا صنع صدر عنهم وامر ظهر منهم بل قد جذبهم الحق عن بشريتهم وبدلهم تبديلا كل ذلك لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ويوقنون بتوحيد الله وبصفاته الذاتية ويتأملون في آثاره ومصنوعاته تأملا صادقا ويعتبرون منها اعتبارا حقا الى ان ينكشفوا ويفوزوا بما يفوزوا وينالوا بما ينالوا وليس وراء الله مرمى ومنتهى وَاللَّهُ الهادي لعباده الى زلال وحدته قد أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ اى من عالم الأوصاف والأسماء ماءً اى معارف وحقائق وعلوما لدنية فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ اى الطبيعة الهيولانية بَعْدَ مَوْتِها اى بعد كونها عدما صرفا ولا شيأ محضا فاتصفت هي أولا بالعلوم والإدراكات الجزئية وترقت منها متدرجة الى ان وصلت الى مرتبة التوحيد المسقط للاضافات مطلقا إِنَّ فِي ذلِكَ التبيين والتذكير لَآيَةً دلائل وشواهد

[سورة النحل (16) : آية 66]

قاطعة دالة على توحيد الحق لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سمع قبول وتأمل وتدبر وَإِنَّ لَكُمْ ايضا ايها المتأملون المتدبرون فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً واعتبارا لو تعتبرون بها وتتفكرون فيها حق التفكر والتدبر لانكشفتم بعجائب صنعتنا وكمال قدرتنا ومتانة حكمتنا وحيطة علمنا وارادتنا إذ نُسْقِيكُمْ ونشربكم مِمَّا فِي بُطُونِهِ اى في بطون بعض الانعام مستخرجا مستحدثا مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ اى اخلاط وفضلات متكونة في كرشها وَدَمٍ نجس سار سائل في الشرايين والعروق لَبَناً طاهرا خالِصاً صافيا عن كدورات كلا الطرفين بحيث لا يشوبه شيء منهما لا من لون الدم ولا من ريح الفرث سائِغاً سهل المرور والانحدار هنيئا مريئا لِلشَّارِبِينَ بلا تعسر لهم في شربه وبلا كلفة في سوغه وانحداره وَنسقيكم ايضا ايها المعتبرون مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ بحيث تَتَّخِذُونَ مِنْهُ اى من عصير كل منهما سَكَراً خمرا يترتب على شربه السكر وهو وان كان حراما شرعا الا انه تدل على عجائب صنع الله وغرائب مبدعاته ومخترعاته وَايضا تتخذون من كل منهما رِزْقاً حَسَناً كالتمر والزبيب والدبس والخل وانواع الأدم إِنَّ فِي ذلِكَ الاتخاذ لَآيَةً دالة على كمال قدرة الله وحكمته لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم بالنظر والتفكر في عجائب آلاء الله وغرائب نعمائه كي يتفطنوا الى وحدة ذاته وَمن جملة المبدعات والمخترعات التي تجب العبرة والاعتبار عنها انه قد أَوْحى والهم رَبُّكَ يا أكمل الرسل إِلَى النَّحْلِ الضعيف المنحول المستحقر إظهارا لكمال قدرته وحكمته أَنِ اتَّخِذِي اى بان اتخذى. أنثها باعتبار المعنى وان كان لفظ النحل مذكرا مِنَ شقوق الْجِبالِ بُيُوتاً تأوين إليها وَكذا مِنَ شقوق الشَّجَرِ في الآجام وَكذا مِمَّا يَعْرِشُونَ ويبنون لك من الابنية والأماكن واصنعي فيها بالهام الله إياك بيوتات من الشمعة المتخذة من انواع الأزاهير والنباتات التي لا علم لاحد بتعديدها وإحصائها ونضدها ونظمها وتأليفها واجزائها الا لعلام الغيوب كلها مسدسات متساويات الأضلاع والزوايا بحيث لا تفاوت بين أضلاعها وزواياها أصلا فأخذها ورتبها ترتيبا انيقا بحيث قد عجز عن تصويرها حذاق المهندسين فكيف عن لميتها وكنهها ثُمَّ بعد ما تم بناؤك كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ التي قد الهمناك بأكلها فَاسْلُكِي في اتخاذ العسل منها سُبُلَ رَبِّكِ اى السبل التي قد ألهمك وعلمك ربك بسلوكها على وجهها بلا انحراف واعوجاج ذُلُلًا حال كونك مسخرة في حكمه بلا تصرف صدر عنك ثم لما عملت بمقتضى ما اوحيت وألهمت يَخْرُجُ لكم ايها المكلفون بالإيمان والعرفان مِنْ بُطُونِها اى من بطون تلك البيوتات المسدسة شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ابيض واسود واخضر واصفر فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ عن الأمراض البلغمية بالأصالة وعن غيرها بالتبعية إِنَّ فِي ذلِكَ الإلهام والوحى والخطاب على النحل المنحول الضعيف بأوامر قد عجزت عنها فحول العقلاء الكاملين في القوة النظرية والعملية وامتثالها وصنعها على الوجه المأمور بلا فوت شيء منها لَآيَةً اى دليلا واضحا وبرهانا قاطعا لائحا على قدرة القادر العليم والصانع الحكيم الذي قد ألهمها ما ألهمها وأوحاها ما أوحاها لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويتدبرون في الأمور ويتعمقون فيها متدبرين في إنيتها كي تصلوا الى لميتها. ثم قال سبحانه وَاللَّهُ القادر المقتدر للإحياء والاماتة خَلَقَكُمْ وأظهركم من كتم العدم حسب لطفه وجماله إظهارا إبداعيا وإيجادا اختراعيا مقدرا مدة معينة لبقائكم في النشأة الاولى ثُمَّ بعد

[سورة النحل (16) : آية 71]

انقضاء المدة المقدرة يَتَوَفَّاكُمْ يميتكم ويفنيكم حسب قهره وجلاله وَمِنْكُمْ مَنْ يقدر لبقائه في هذه النشأة مدة متطاولة بحيث يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وأسوئه واخسه ويصل الى مرتبة الخرف لِكَيْ لا يَعْلَمَ ويفهم سيما بَعْدَ تعلق عِلْمٍ منه بمعلوم مخصوص معين شَيْئاً من احوال ذلك المعلوم المعين يعنى يرجع الى رتبة الطفولية بعد كمال العقل وانما رده سبحانه الى تلك الحالة إظهارا للقدرة الكاملة وتذكيرا وعظة وعبرة للناس وتخويفا لهم لئلا يطلبوا من الله طول الاعمار وبعد الآجال ومع ذلك يطلبون ويقترحون وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده عَلِيمٌ بمصالحهم ومفاسدهم قَدِيرٌ مقتدر مقدر للاصلح لهم تفضلا عليهم وامتنانا وَاللَّهُ المقدر لمصالحكم ايها المكلفون قد فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ بان قدر للبعض غنى وللبعض فقرا وللبعض كفاية حسب تفاوت مراتبهم واستعداداتهم في علم الله ولوح قضائه ومن موائد كرمه ايضا قدر البعض مالكا للبعض والبعض مملوكا له فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بسعة الرزق والبسطة من الموالي والملاك بِرَادِّي رِزْقِهِمْ اى بعض ما رزقهم الله عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من المماليك بحيث لا يقدر للمماليك في قسمة الله رزقهم بل فَهُمْ اى المماليك والموالي فِيهِ اى في تقدير الرزق وقسمته سَواءٌ اى كما قدر سبحانه للملاك قدر للمماليك ايضا غاية ما في الباب ان الرزق المقدر للمماليك انما يصل إليهم من يد الموالي والملاك وبإقامتهم واخلافهم أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ينكرون ويكفرون باسناد أرزاق المماليك الى الموالي لا الى الله الرازق لجميع العباد وَاللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده قد جَعَلَ لَكُمْ تفضلا عليكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ اى من جنسكم وبنى نوعكم أَزْواجاً نساء تستأنسون بهن وتستنسلون منهن وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ ليخلفوا منكم ويحيوا اساميكم وَايضا جعل لكم من أبناءكم وبناتكم حَفَدَةً يسرعون الى خدمتكم وطاعتكم وَبالجملة قد رَزَقَكُمْ الله تفضلا عليكم وامتنانا مِنَ الطَّيِّباتِ المقوية المقومة لأمزجتكم وأبنيتكم لتواظبوا على طاعة الله وتداوموا الميل الى جنابه وتلازموا حول بابه شاكرين على نعمه أَتتركون متابعة الحق الحقيق بالتبعية الا وهو القرآن المعجز والرسول المبين له فَبِالْباطِلِ الذي هو الأصنام والأوثان يُؤْمِنُونَ يصدقون ويعبدون وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ المنعم المكرم بأنواع النعم والكرم هُمْ يَكْفُرُونَ حيث صرفوها الى خلاف ما أمروا بصرفها إذ إعطاء النعم إياهم انما هو لتقوية طاعة الله وكسب معارفه وحقائقه لا لعبادة الأصنام والأوثان الباطلة وَهم من خباثة بواطنهم وكفرانهم نعم الله يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المالك لازمة الأمور الجارية في خلال الأزمان والدهور ما اى أصناما وأوثانا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً لا معنويا روحانيا فائضا مِنَ السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات بمقتضى الجود الإلهي وَلا رزقا صوريا جسمانيا مقويا مقوما لاكتساب المعارف الروحانية مستخرجا من الْأَرْضِ اى عالم الهيولى والطبيعة شَيْئاً وَكيف هم لا يَسْتَطِيعُونَ ولا يملكون لأنفسهم شيئا فكيف لغيرهم فَلا تَضْرِبُوا ايها الجاهلون بقدر الله وعلو شأنه لِلَّهِ المنزه عن الأنداد والأشباه مطلقا الْأَمْثالَ إذ لا مثل له يماثله ولا شبه له يشابهه ولا كفو له يكافي معه فكيف يشاركون له دونه إِنَّ اللَّهَ المطلع لعموم الكوائن والفواسد يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع أحوالكم واحوال معبوداتكم وعموم ما جرى عليكم وعليهم وَأَنْتُمْ

[سورة النحل (16) : آية 75]

ايها الغافلون الجاهلون بحق قدره لا تَعْلَمُونَ منه شيأ فكيف تضربون له مثلا بل قد ضَرَبَ اللَّهُ العالم بعموم السرائر والخفايا مَثَلًا لنفسه ولمن اثبت المشركون له سبحانه شريكا من الأصنام والأوثان حيث مثل سبحانه شركاءهم عَبْداً مَمْلُوكاً رقيقا لا مكاتبا بحيث لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من التصرف في مكاسبه بغير اذن مولاه وَمثل نفسه سبحانه مَنْ رَزَقْناهُ اى بمن قد رزقناه مِنَّا يعنى بالاحرار المحسنين لأرقائهم من أموالهم التي وهبها الله لهم تفضلا وإحسانا رِزْقاً حَسَناً حلالا وافرا فَهُوَ يُنْفِقُ ويتصرف مِنْهُ اى من رزقه وكسبه سِرًّا بحيث لا يطلع لإنفاقه احد حتى الفقراء المعطون المستحقون وَجَهْراً على رؤس الملأ هَلْ يَسْتَوُونَ هؤلاء الأحرار المتصرفون في أموالهم بالاستقلال والاختيار وأولئك العبيد المعزولون عن التصرف رأسا الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أعطانا عقلا نجزم به عدم المساواة بين الفريقين ونميز به الحق عن الباطل والهداية عن الضلال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لانهماكهم في الغي والضلال لا يَعْلَمُونَ الفرق بين كلا الفريقين لعدم صرفهم نعمة العقل المفاض لهم الى ما خلق لأجله الا وهو العلم بالامتياز المذكور وَضَرَبَ اللَّهُ ايضا مَثَلًا لنفسه ولتلك المعبودات الباطلة فقال مثلنا ومثلهم مثل رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ اخرس وأصم في اصل الخلقة بحيث لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من التفهم والتفهيم لا لنفسه ولا لغيره وَكيف يقدر على النفع للغير إذ هُوَ في نفسه كَلٌّ ثقل وعيال عَلى مَوْلاهُ حافظه ومتولى أموره ساقط عن خدمته معطل عن المعاونة والمظاهرة مطلقا بحيث أَيْنَما يُوَجِّهْهُ يصرفه ويرسله لطلب المهام لا يَأْتِ بِخَيْرٍ نجح ونيل وهذا مثل الأصنام العاطلة الكليلة التي لا خير فيها أصلا وبالجملة هَلْ يَسْتَوِي ايها العقلاء المميزون هُوَ اى هذا الموصوف بالأوصاف المذكورة وَمَنْ هو منطيق فصيح معرب يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وينال بالخير والحسنى أينما توجه بنفسه او يوجهه الآخر وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مائل عن كلا طرفي الإفراط والتفريط المذمومين وهذا مثل لله الواحد الأحد الفرد الصمد المتصرف المطلق المستقل في ملكه بالإرادة والاختيار. ثم أشار سبحانه الى علو شأنه وسمو برهانه وتخصصه باطلاع المغيبات التي لا اطلاع لاحد من عباده عليها الا باطلاعه فقال وَلِلَّهِ خاصة واستقلالا غَيْبُ السَّماواتِ وما فيها من جنود الحق ومصنوعاته وَكذا غيب الْأَرْضِ وما عليها ايضا من جنود لا اطلاع لاحد منا عليها وَاعلموا ايها المكلفون المترددون في قيام الساعة ما أَمْرُ السَّاعَةِ الموعودة وما قصة وقوعها وقيامها بالنسبة الى قبضة قدرته الغالبة إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ اى مثل رجع الطرف من أعلى الحدقة الى أسفلها في الدنوّ والقرب أَوْ هُوَ أَقْرَبُ بل هو ادنى واقرب من رجع الطرف إذ فيه الآن متحقق وفي سرعة نفوذ القضاء الإلهي بعد تعلق ارادته الآن موهوم مخيل إذ لا تراخى بين الأمر الإلهي ووقوع المأمور المراد له الا وهما كما مر في تفسير قوله كن فيكون وبالجملة لا تستبعدوا عن الله أمثال هذا إِنَّ اللَّهَ المتصف بجميع أوصاف الكمال عَلى كُلِّ شَيْءٍ داخل في حيطة حضرة علمه وقدرته قَدِيرٌ لا ينتهى قدرته دون مقدور أصلا وَكيف ينتهى قدرته سبحانه عن مقدوره إذ اللَّهُ المبدئ المبدع قد أَخْرَجَكُمْ وأظهركم أولا مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ وأنتم حينئذ خالون عن مطلق الإدراك بحيث لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً من المعلومات أصلا وَجَعَلَ وهيأ لشعوركم ودرككم أسبابا وأدوات تعلمون بها أنواعا من العلوم حيث هيأ لَكُمُ السَّمْعَ

[سورة النحل (16) : آية 79]

لإدراك المسموعات الجزئية وَالْأَبْصارَ لإدراك المبصرات الجزئية وَالْأَفْئِدَةَ لإدراك الكليات والجزئيات والمناسبات والمباينات الواقعة بين العلوم والإدراكات كل ذلك قد صدر عنه سبحانه بمقتضى القدرة والارادة الإلهية لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تشكروا وتعدوا نعم منعمكم عليكم في شئونكم وتطوراتكم وتواظبوا على شكرها كي تعرفوا ذاته سبحانه وتتوجهوا نحوه أَلَمْ يَرَوْا وينظروا إِلَى جنس الطَّيْرِ كيف صارت مُسَخَّراتٍ مذللات للطيران والسيران بريشات واجنحة منتشرة فِي جَوِّ السَّماءِ في الهواء المتباعد عن الأرض ما يُمْسِكُهُنَّ بلا علاقة ودعامة إِلَّا اللَّهُ المتفرد بالقدرة التامة الكاملة الباعثة عن صدور أمثال هذه المقدورات وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الإمساك العجيب والشأن الغريب لَآياتٍ ودلائل قاطعات على كمال علم الله ومتانة قدرته وارادته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بوحدة الحق ويعتقدون اتصافه بعموم أوصاف الكمال وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ اى من جملة مقدوراته المتعلقة بأمور معاشكم انه قد جعل لكم مِنْ بُيُوتِكُمْ التي أنتم قد بنيتم بأيديكم باقدار الله وتمكينه وتعليمه إياكم سَكَناً ومسكنا تسكنون أنتم فيه كالبيوت المتخذة من الحجر والمدر والآجر والخشب وَجَعَلَ لَكُمْ ايضا مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها تحملونها وتنقلونها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ سفركم وترحالكم من مكان الى مكان وَكذا يَوْمَ إِقامَتِكُمْ وحضركم وَقد جعل لكم ايضا مِنْ أَصْوافِها هي للضأن والغنم وَأَوْبارِها هي للإبل وَأَشْعارِها هي للمعز أَثاثاً اى ما يلبس ويفرش وَصار ذلك مَتاعاً وتمتيعا لكم تتمتعون به إِلى حِينٍ ومدة متطاولة من الزمان وَاللَّهُ قد جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من الابنية والأشجار ظِلالًا تتفيئون وتستظلون بها من حر الشمس وَجَعَلَ لَكُمْ ايضا مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً كهوفا وثقوبا تسكنون أنتم فيها لدفع البرد والحر وَقد جَعَلَ لَكُمْ ايضا سَرابِيلَ أثوابا واكسية متخذة من الصوف والقطن والكتان والحرير وغيرها تَقِيكُمُ الْحَرَّ اى تحفظكم من شدة الحرارة وَسَرابِيلَ اى الدروع والجواشن والسربالات تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ عند الحرب والقتال كَذلِكَ اى مثل ما ذكر من انواع النعم يُتِمُّ نِعْمَتَهُ الفائضة عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ تنقادون وتطيعون وتسلمون أموركم كلها اليه سبحانه وتتخذونه وكيلا كفيلا فَإِنْ تَوَلَّوْا انصرفوا واعرضوا عن حكم الله بعد ما قد تلوت عليهم يا أكمل الرسل ما تلوت من أوامر الله وحكمه وأحكامه ولم تقبلوا منك كلمة الحق لا تبال بهم وباعراضهم فَإِنَّما عَلَيْكَ وما أمرك وليس في وسعك وطاقتك الا الْبَلاغُ الْمُبِينُ والتبليغ الواضح فقد بلغت وأوضحت وعلينا الحساب والجزاء بالعذاب والعقاب وكيف لا يحاسبون ولا يعاقبون أولئك المشركون المكابرون إذ هم يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ التي قد عددها وهيأها لهم ثُمَّ يُنْكِرُونَها من خبث بواطنهم بحيث أسندوها الى شركائهم وشفعائهم وَبالجملة أَكْثَرُهُمُ اى عرفاؤهم وعقلاؤهم الذين يعرفون النعمة والمنعم ثم ينكرون انعامه ويسندونها الى شركائهم وكذا اتباعهم وضعفاؤهم في العقل والتمييز كلهم أصلا وفرعا تابعا ومتبوعا هم الْكافِرُونَ الجاحدون المنكرون الله وانعامه المقصورون على الكفر والشقاق يجازون على مقتضى جحودهم وانكارهم وَاذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً الا وهو نبيهم القائم بأمرهم المشرف الناظر بحالهم من قبل الحق ليشهد لهم او عليهم بالإيمان او الكفر يوم العرض والجزاء

[سورة النحل (16) : آية 85]

ثُمَّ اى بعد شهادة شهدائهم لهم او عليهم لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعنى لا يمهلون يومئذ لاعتذار ولا يقبل منهم الاعذار ان اعتذروا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ من العتبى وهي الرضا بالعتاب ليبثوا به ويبسطوه يعنى لا يسمع منهم الاعتذار مطلقا ولا يرضى منهم بالاعتاب «1» أصلا بل يعذبون حتما وَاذكر يا أكمل الرسل إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالعرض على المهالك بالخروج عن حدود الله الموضوعة فيهم الْعَذابَ الموعود لهم بالسنة الرسل والكتب فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ يعنى تيقنوا وتحققوا حينئذ ان لا مخلص لهم منه ولا يخفف عنهم ايضا بشفاعة احد وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ويمهلون ليتداركوا ما فوتوا من الايمان والإطاعة مع انقضاء زمان التدارك والتلافي وَاذكر يا أكمل الرسل ايضا وقت إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ حين أيسوا وقنطوا من شفاعتهم ومعاونتهم وقد عاينوا انهم هلكى أمثالهم قالُوا حينئذ متضرعين الى الله نادمين رَبَّنا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم فكفرنا بك وبنعمك وأنكرنا بأوامرك ونواهيك الجارية على السنة كتبك ورسلك هؤُلاءِ الهلكى الغاوون شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ عنادا ومكابرة وبواسطة هؤلاء الضلال الحمقى قد رددنا قول أنبيائك ورسلك وكتبك ثم لما سمع شركاؤهم منهم قولهم هذا فَأَلْقَوْا وأجابوا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ما تدعون وما تعبدون ايها الضالون الظالمون المغرورون الا اهويتكم وأمانيكم إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ مقصورون على الكذب والزور في دعوى اطاعتنا وعبادتنا وَحين اضطر أولئك المشركون الضالون أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ اى أظهروا الاستسلام والانقياد وما ينفعهم حينئذ انقيادهم وتسليمهم سيما بعد تعنتهم واستكبارهم في النشأة الاولى والحال انه قد انقضى وقت التدارك والتلافي وَضَلَّ عَنْهُمْ وخفى عليهم واضمحل عن قلوبهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ لشركائهم من الشفاعة لدى الحاجة حين تبرؤا منهم وكذبوهم. ثم قال سبحانه الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عن الحق بأنفسهم وَمع ذلك قد صَدُّوا ومنعوا ضعفاء الأنام عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الموصل الى توحيده ألا وهو الشرع الضريف المصطفى لذلك زِدْناهُمْ في النشأة الاخرى بسبب ضلالهم واضلالهم عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ في أنفسهم ويأمرون غيرهم ايضا بالفساد وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وبنى نوعهم وهو نبيهم ورسولهم الذي أرسل إليهم من لدنا وَجِئْنا بِكَ يا أكمل الرسل حينئذ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ الغواة البغاة الطغاة المنهمكين في بحر الاعراض والإضلال وَالحال انا قد نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ المشتمل لفوائد جميع الملل والأديان والكتب والصحف وجعلناه تِبْياناً موضحا مفصلا لِكُلِّ شَيْءٍ يحتاج اليه في امور الدين من الشعائر والأركان والاحكام والآداب والأخلاق والمندوبات والمحظورات والمواعظ والتذكيرات والقصص التي يعتبر منها المعتبرون المسترشدون هذا بالنسبة الى عوام المؤمنين وَقد جعلناه ايضا هُدىً هاديا الى معارف وحقائق يهديهم الى طريق التوحيد المنجى عن غياهب التقليدات والتخمينات بالنسبة الى خواصهم وَقد جعلناه ايضا رَحْمَةً اى كشفا وشهودا مترتبا على الجذبة والخطفة والخطرة بالنسبة الى خواص الخواص وَبالجملة ما هو في نفسه الا بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ المنقادين لله بسرائرهم وظواهرهم مفوضين أمورهم كلها اليه بلا تلعثم وتذبذب وكيف لا يسلمون ولا يفوضون إِنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح عباده يَأْمُرُ عباده أولا بِالْعَدْلِ اى بالقسط والاعتدال في عموم الأفعال والأقوال

_ (1) الاستعتاب طلب العتبى وهو اسم بمعنى الاعتاب الذي هو ازالة العتب ولا هم يستعتبون معناه لا يطلب منهم الاعتاب «شيخزاده»

[سورة النحل (16) : آية 91]

والشئون والأطوار وَالْإِحْسانِ ثانيا لأنهم ما لم يعتدلوا ولم يستقيموا لم يتأت لهم التخلق بأخلاق الله التي هي كمال الإحسان والعرفان وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ثالثا اى إيصال ما حصل لهم من المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات الى مستحقيهم من ذوى القربى من جهة الدين المتوجهين نحو الحق عن ظهر القلب الراغبين اليه بمحض المحبة والوداد المتعطشين الى زلال توحيده لأنهم ما لم يتمكنوا ولم يتقرروا في مرتبة الإحسان لم يتأت منهم الاستكمال والاسترشاد وكما يرغب سبحانه عباده بموجبات الايمان والتوحيد ومعظمات أصوله وأركانه ينفرهم ايضا عن غوائله ومهلكاته ومغوياته فقال وَيَنْهى أولا عَنِ الْفَحْشاءِ اى افراط القوة الشهوية الموجبة لرذالة النفس وسقوطها عن جادة المروءة والعدالة المقتضية للتخلق بالأخلاق المرضية الإلهية وخروجها عن الحدود الشرعية الموضوعة لحفظ حكمة الزواج والتناسل بمتابعة القوى البهيمية الناشئة من طغيان الطبيعة الهيولانية الناسوتية المنافية لصفاء القوى الروحانية اللاهوتية وَعن الْمُنْكَرِ ثانيا إذ كل من ركب على جموح القوة الغضبية وأخذ سيف الهذيانات المثيرة لانواع الفتن والبليات بيده وعمل بمقتضاها ونبذ الحلم والترحم وراء ظهره فهو بمراحل عن رتبة الإحسان بل لا يرجى منه سوى الخذلان والخسران وَعن الْبَغْيِ ثالثا إذ كل من تمكن وتمادى بمقتضى كلتا القوتين الشهوية والغضبية فقد سقط عنه المروة والعدالة اللتين هما من أقوى اسباب الكمال المستلزم للإرشاد والتكميل وبعد ما سقطتا عنه فقد استكبر على خلق الله وتجبر وبغى وظلم فقد استحق اللعن والطرد الا لعنة الله على الظالمين وبالجملة انما يَعِظُكُمْ الله المصلح لأحوالكم بما يعظكم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ رجاء ان تتعظوا وتمتثلوا بما أمرتم وتجتنبوا عما نهيتم كي تصلوا الى صفاء مشرب التوحيد المسقط لعموم المنافرات المترتبة على مطلق الإضافات وَمن علامة اتعاظكم وتذكركم الوفاء بالعهود والمواثيق أَوْفُوا ايها المجبولون على فطرة العدالة بِعَهْدِ اللَّهِ وميثاقه الذي قد عهدتم مع الله بالسنة استعداداتكم في مبدأ فطرتكم وايضا بمطلق العهود والمواثيق إِذا عاهَدْتُمْ مع إخوانكم وبنى نوعكم وَكذا لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ الجارية على السنتكم في الوقائع والخطوب سيما بَعْدَ تَوْكِيدِها وتغليظها وَكيف تنقضونها إذ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ المراقب عَلَيْكُمْ كَفِيلًا وكيلا ضمينا لتلك البيعة والعهد بذكر اسمه فيها إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائركم ومخايلكم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما تَفْعَلُونَ من نقض الايمان والمواثيق واماراتها الدالة على نقضها وَبعد ما قد علم الله منكم جميع ما فعلتم ونقضتم من الايمان والعهود عليكم ان لا تَكُونُوا في النقض وعدم الوثوق كَالَّتِي اى كالمراة التي قد نَقَضَتْ وفتت غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ اى بعد ما غزلتها وفتلتها قوية محكمة ثم نقضتها أَنْكاثاً وفتتها تفتيتا بلا غرض يترتب على نقضها سوى الجنون والخرق فأنتم كذلك في نقضكم الايمان الوثيقة بذكر الله بلا غرض يتعلق بنقضها سوى انكم تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ ونقضها دَخَلًا خديعة ومكيدة واقعة بَيْنَكُمْ محفوظة عندكم الى أَنْ تَكُونَ وتقع أُمَّةٌ قوية هِيَ أَرْبى أقوى وأزيد عدد او عددا مِنْ أُمَّةٍ اخرى ضعيفة أنتم تحلفون معهم فتنقضون حلف الامة الضعيفة وتتبعون القوية بعد نقض العهد واليمين وما هذا الا مكر وخديعة مع الله ومع عباده وبالجملة إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ ويختبركم بِهِ اى بازدياد الامة القوية كي يظهر أتمسكون ايمانكم أم تنفضونها وَلَيُبَيِّنَنَّ ويوضحن لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيثيبكم الله يومئذ بالوفاء والإيفاء او يفضحكم ويعاقبكم بالنقض وَبالجملة لَوْ شاءَ اللَّهُ الحكيم العليم القدير على عموم المقدورات

[سورة النحل (16) : آية 94]

والمرادات هدايتكم جميعا لَجَعَلَكُمْ وخلقكم أُمَّةً واحِدَةً مقتصدة متفقة على الهداية والرشد وَلكِنْ حكمته تعالى تقتضي خلاف ذلك ولهذا يُضِلُّ عن جادة هدايته مَنْ يَشاءُ من عباده بمقتضى قهره وجلاله وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ منهم حسب لطفه وجماله وَبالجملة لَتُسْئَلُنَّ أنتم ولتحاسبن كل منكم يوم العرض والجزاء عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى عن عموم أعمالكم خيرا كان او شرا وَبعد ما أشار سبحانه الى قبح المكر والخديعة سيما بعد التوكيد باليمين والحلف ترويجا لما في أنفسهم من الظلم والعدوان صرح بالنهى تأكيدا ومبالغة ليحترز المؤمنون عن أمثاله فقال لا تَتَّخِذُوا ايها المؤمنون أَيْمانَكُمْ ومواثيقكم دَخَلًا مفسدة مبطنة مخفية بَيْنَكُمْ ترويجا لكذبكم فَتَزِلَّ قَدَمٌ اى ان فعلتم كذلك واتصفتم بهذه الخصلة المذمومة قد تزل وتزلق قدم كل منكم عن شعائر الدين وجادة الايمان والتوحيد سيما بَعْدَ ثُبُوتِها واستقرارها فيها وَتَذُوقُوا السُّوءَ والعذاب في النشأة الاولى بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ اى بسبب ميلكم وانحرافكم عن طريق الحق الذي هو الوفاء بالعهود والمواثيق وَلَكُمْ بسبب ارتكاب هذا المنهي عَذابٌ عَظِيمٌ في النشأة الاخرى بأضعاف ما في الاولى وآلافه وَايضا لا تَشْتَرُوا ولا تستبدلوا ولا تأخذوا ايها المؤمنون بِعَهْدِ اللَّهِ اى بنقض عهده والارتداد عن دينه ثَمَناً قَلِيلًا من حطام الدنيا على سبيل الرشى إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ لوفائكم بعهده وثباتكم على دينه من اجر عظيم اخروى هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وانفع لبقائه وعدم زواله ودوام لذته إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ خيريته لاخترتموه البتة وكيف لا يكون ما عند الله خيرا لكم إذ ما عِنْدَكُمْ من حطام الدنيا ومزخرفاتها يَنْفَدُ يزول ويضمحل وَما عِنْدَ اللَّهِ من اللذات الاخروية والمعارف اليقينية باقٍ لا يزال بقاء ابديا سرمديا الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله. ثم قال سبحانه وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا على ما فوتوا من الامتعة الفانية والاعراض الدنية الدنياوية بسبب ثباتهم وتقررهم على الأمور الأخروية ولم ينقضوا العهود والمواثيق المتعلقة بالدين القويم وبالجملة لم يستبدلوا الأعلى الباقي بالأدنى الفاني والآجل الدائم بالعاجل الزائل الزائغ وقد لحقهم بسبب ذلك ما لحقهم من المحن والشدائد العاجلة وضاع عنهم ما ضاع من لذاتها وشهواتها فصبروا على جميعها ولأعطيناهم أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعنى لنجزينهم ونثيبنهم بجزاء احسن وأوفر من مقتضى عملهم لوفائهم على عهودنا ومواثيقنا وجريهم بمقتضى أمرنا ونهينا وبالجملة مَنْ عَمِلَ منكم عملا صالِحاً لقبولنا ناشئا مِنْ ذَكَرٍ منكم أَوْ أُنْثى وَالحال انه هُوَ في حين العمل مُؤْمِنٌ موحد بالله مصدق للرسل والكتب المنزلة إليهم ممتثل بجميع ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم طالب للترقي من العلم الى العين ثم الى الحق فَلَنُحْيِيَنَّهُ بعد فنائه عن لوازم بشريته بموته الإرادي وبانخلاعه طوعا عن مقتضيات أوصاف بهيميته بإرادته واختياره حَياةً طَيِّبَةً معنوية خالصة عن وصمة الموت والفوت مطلقا خالية عن شوب الزوال والانقضاء صافية عن مطلق الكدورات المتعلقة للحياة الصورية وَبالجملة لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ اى اجر عملهم وصبرهم عن مقتضيات القوى البشرية والحيوة الصورية بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ اى احسن وأوفر من جزاء عملهم الذي قد جاءوا به حين كانوا سائرين إلينا طالبين الوصول الى صفاء توحيدنا ومن جملة الأعمال الصالحة المثمرة للحياة الطيبة المعنوية بل من أجلتها قراءة القرآن المشتمل على جميع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات المترتبة على سلوك طريق التوحيد والعرفان فَإِذا

[سورة النحل (16) : آية 99]

قَرَأْتَ الْقُرْآنَ قصدت قراءته ايها القارئ الطالب لاستكشاف غوامض مرموزاته ومعضلات إشاراته فَاسْتَعِذْ والتجئ أولا بِاللَّهِ المتجلى بصفة الكلام المعجز لقاطبة الأنام الحفيظ لخلص عباده من عموم ما لا يعنيهم من المعاصي والآثام مِنَ وساوس الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ المطرود المبعد عن ساحة عز الحضور برجوم آثار الأوصاف القهرية الإلهية ومن غوائله وتسويلاته التي هي عبارة عن جنود الهوى والغفلات والتخيلات الباطلة والتوهمات المثيرة لانواع الأماني والشهوات إِنَّهُ اى الأمر والشأن لَيْسَ لَهُ اى للشيطان وجنوده سُلْطانٌ اى استيلاء وغلبة عَلَى الموقنين الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله وأيقنوا لحقية كتبه ورسله وباليوم الموعود وعموم ما فيه من العرض والجزاء وَمع ذلك هم عَلى رَبِّهِمْ ومربيهم لا على غيره من الأسباب والوسائل العادية يَتَوَكَّلُونَ يسلمون ويسندون عموم أمورهم اليه اصالة وكيف يكون للشيطان استيلاء على المؤمنين الموقنين إذ هم يعادونه عداوة شديدة ويخاصمون معه خصومة مستمرة ازلية ابدية إِنَّما سُلْطانُهُ واستيلاؤه عَلَى المبطلين المدبرين الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ويحبونه ويقبلون منه قوله ويستمعون إغواءه ويطيعون امره واغراءه وَكذا على الَّذِينَ هُمْ بِهِ اى بسبب اغوائه واغرائه ووسوسته مُشْرِكُونَ بالله الواحد الأحد المنزه عن الشريك والولد مطلقا. ثم قال سبحانه وَمن كمال قدرتنا ووفور حكمتنا نسخ بعض آياتنا وتبديله بالآيات الاخر بالنسبة الى بعض الأعصار والأزمان فانا إِذا بَدَّلْنا آيَةً ناسخة مَكانَ آيَةٍ منسوخة لحكمة ظهرت علينا ومصلحة لاحت لدينا حسب ما جرى في حضرة علمنا وثبت في لوح قضائنا فلا بد ان لا نسأل عن نسخنا وتبديلنا بل عن عموم أفعالنا مطلقا ولا يسند فعلنا الى غيرنا وَكيف يسند فعله سبحانه لغيره إذ اللَّهُ المطلع لعموم ما كان ويكون اطلاع حضور وشهود أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ حسب الأوقات والأزمان فله نسخ ما ثبت واثبات ما نسخ بالإرادة والاختيار ولهذا قالُوا اى المشركون المعاندون حين ظهر في القرآن نسخ بعض الآيات المثبتة فيه واثبات بعض المنسوخات القديمة متهكمين طاعنين إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ اى ما أنت ايها المدعى للرسالة والوحى الا مفتر كذاب قد قلت بقول من تلقاء نفسك ثم ظهر لك ما فيه من السماجة بدلته بأخرى بمقتضى اهويتك وأمانيك ونسبته الى ربك افتراء ومراء مع انك قد أخبرت ان ربك يقول ما يبدل القول لدى وبالجملة كل ذلك اى النسخ والتبديل والإنزال والإرسال من عندنا لحكمة ظهرت علينا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حكمة النسخ والتبديل في الاحكام لذلك ينكرونه قُلْ لهم يا أكمل الرسل ما انا مفتر في هذا النسخ والتبديل بل قد نَزَّلَهُ اى القرآن رُوحُ الْقُدُسِ يعنى جبرائيل عليه السّلام على هكذا وهو منزه عن جميع النقائص فكيف عن الافتراء وأوصاني انه منزل مِنْ رَبِّكَ الذي رباك بأنواع التربية إليك وقد ايدك بهذا الكلام المعجز ملتبسا بِالْحَقِّ وبالصدق المطابق للواقع بلا شائبة شك وتردد فيه وانما أنزله سبحانه لِيُثَبِّتَ ويقرر بامتثال ما فيه من الحكم والاحكام قلوب الَّذِينَ آمَنُوا تثبيتا شديدا وتقريرا بليغا في مرتبة اليقين العلمي وَليكون ايضا هُدىً اى هداية ورشدا للعارفين المتحققين المتمكنين في مرتبة اليقين العيني وَليكون ايضا بُشْرى اى بشارة وتمكينا وتشريفا وتوطينا لأرباب الكشف والشهود في مرتبة اليقين الحقي كل ذلك لِلْمُسْلِمِينَ المسلمين أمورهم كلها الى الله طوعا ورغبة ثم اخبر سبحانه عن مطاعن المشركين في حق القرآن والرسول فقال وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ

[سورة النحل (16) : آية 104]

لا يسلمون نزول القرآن منا وحيا وإلهاما بل يكذبونك يا أكمل الرسل في نسبتك انزاله إلينا تكذيبا شديدا بل يَقُولُونَ لك ما هو الا مفتر بل إِنَّما يُعَلِّمُهُ هذا بَشَرٌ اى عبد رومي او رجل آخر من العجم او رجال أخر على ما قالوا وكيف يقولون وينسبون أولئك المعاندون المكابرون هذا إليك والى كتابك مع ان الشأن والأمر لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ اى يميلون وينسبون إِلَيْهِ هكذا عنادا ومكابرة أَعْجَمِيٌّ مغلق غير بين وأنت عرب لا تفهم لغتهم قط وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ فصيح مُبِينٌ ظاهر واضح بليغ في أعلى مراتب البلاغة بحيث قد عجزت عن معارضته مصاقع الخطباء مع وفور معارضتهم وتحديهم ومع ظهور اعجازه واعتراف الكل بانه معجز لم يقبلوا حقيته ولم يصدقوا انه كلام الله وبالجملة إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على وحدة ذاته وكمالات أوصافه وأسمائه قد طبع الله على قلوبهم وختمها بحيث لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ المضل المذل الى حقية كتابه ورسوله الذي انزل اليه بل وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في النشأة الاولى والاخرى ثم قلب سبحانه ما افتروا برسول الله وإعادة عليهم فقال إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ على الله بنسبة كلامه الى غيره الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ولا يصدقون بِآياتِ اللَّهِ الدالة على كمال توحيده وَأُولئِكَ المفترون المسرفون هُمُ الْكاذِبُونَ المقصورون على الكذب والافتراء وكمال المراء من شدة قساوتهم وخباثة بواطنهم وبالجملة مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ المستحق للايمان والعبودية سيما قد ارتد مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ اى من بعد ما قد آمن له العياذ بالله فقد استحق المقت والغضب الإلهي إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على الكفر وهدد بالقتل وانواع العقوبات حين العجز فأجرى كلمة الكفر على لسانه وَلكن قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ متمكن فيه راسخ في الاتصال غير متزلزل بلا مطابقة ولا موافقة بلسانه فهو باق على إيمانه فلا غضب عليه ولا عذاب بل له الأجر الجزيل والجزاء الجميل إذ العبرة في الايمان والكفر انما هي بالقلب إذ هما فعلان له اصالة وَلكِنْ من المغضوبين الملعونين مَنْ شَرَحَ وملأ بِالْكُفْرِ صَدْراً اعتقادا ورضا مستحسنا له مستطيبا إياه فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وقهر نازل مِنَ اللَّهِ المنتقم الغيور وَلَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم جرمهم الذي هو ارتدادهم العياذ بالله وما ذلِكَ اى تحسينهم الكفر واستطابتهم به الا بِأَنَّهُمُ قد اسْتَحَبُّوا واستطابوا الْحَياةَ الدُّنْيا اى الحيوة الصورية المستعارة الزائلة عَلَى حيوة الْآخِرَةِ التي هي الحيوة المعنوية الحقيقية السرمدية التي لا زوال لها أصلا وَايضا بسبب أَنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده لا يَهْدِي الى الايمان والتوحيد ولا يوفق على جادة المعرفة واليقين الْقَوْمَ الْكافِرِينَ المجبولين على الكفر والعناد بحسب اصل فطرتهم واستعدادهم وبالجملة أُولئِكَ المجبولون على الكفر والعناد هم الَّذِينَ قد طَبَعَ اللَّهُ المنتقم الغيور وختم عَلى قُلُوبِهِمْ بحيث لا يفهمون ولا يتفطنون بسرائر الايمان والتوحيد أصلا ولا يتلذذون بلذاتها مطلقا لغلظ حجبهم وكثافتها وَقد طبع ايضا على سَمْعِهِمْ الى حيث لا يسمعون ولا يقبلون دلائل التوحيد واماراتها من ارباب الكشف واليقين وَعلى أَبْصارِهِمْ ايضا الى حيث لا ينظرون نظر عبرة وبصارة نحو المظاهر والآثار المترتبة على الأوصاف الذاتية الإلهية وَبالجملة أُولئِكَ البعداء المطرودون عن ساحة عز الحضور هُمُ الْغافِلُونَ المقصورون على الغفلة المؤبدة والنسيان التائهون في تيه الضلال والطغيان لا جَرَمَ أَنَّهُمْ بسبب طردهم

[سورة النحل (16) : آية 110]

وخذلانهم فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي والحرمان السرمدي ثُمَّ بعد ما سمعت احوال أولئك المقهورين المطرودين إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل بأنواع الكرامات وأوصلك الى أعلى المقامات يجزى خير الجزاء تفضلا وإحسانا لِلَّذِينَ هاجَرُوا عن بقعة الإمكان سيما بعد ما كوشفوا بما فيها من الخذلان والخسران وانواع الرذائل والحرمان وذلك مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا بأنواع الفتن والمحن باستيلاء جنود الامارة عليهم ثُمَّ جاهَدُوا معها بترك مألوفاتها وقطع تعلقاتها وبصرفها عن مشتهياتها ومستلذاتها وَصَبَرُوا على متاعب الرياضات ومشاق المجاهدات الى ان صارت امارتهم مطمئنة راضية مرضية وبعد قطع مسالك السلوك ومنازل التزلزل والتلوين إِنَّ رَبَّكَ المفضل المحسن إليك يا أكمل الرسل والى من تبعك من خيار المؤمنين مِنْ بَعْدِها اى بعد ارتكاب المجاهدات والرياضات لَغَفُورٌ لهم يستر انانيتهم ويفنيهم عن هوياتهم مطلقا رَحِيمٌ لهم يمكنهم في مقام الرضا والتسليم مطمئنين مرضيين هب لنا من لدنك رحمة تنجينا عن التلوين وتوصلنا الى مكان التمكين بحولك وقوتك يا ذا القوة المتين. واذكر يا أكمل الرسل المبعوث الى كافة الأنام يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ عاصية ومطيعة تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وذاتها وتهتم بشأنها بلا التفات منها الى شفاعة غيرها إذ هي يومئذ رهينة بما كسبت من خير وشر وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما عَمِلَتْ طاعة او معصية وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ في جزائهم وأجورهم لا زيادة ولا نقصانا بمقتضى العدل الإلهي وَبعد ما أراد سبحانه ان ينبه على اهل النعمة وارباب الرخاء والرفاهية ان لا يبطروا ولا يباهوا بما في أيديهم من النعم بل يقيموا ويديموا على شكرها وأداء حقها خوفا من زوالها وفنائها وانقلابها شدة ونقمة ضَرَبَ اللَّهُ المدبر لأمورهم مَثَلًا يعتبرون منه ويتعظون به قَرْيَةً هي مكة اوايلة قد كانَتْ نفوس أهلها آمِنَةً عن الخوف من العدو والجوع من نقصان الغلات والأثمار مُطْمَئِنَّةً بما عندهم من الحوائج بلا تردد ومشقة إذ يَأْتِيها رِزْقُها على الترادف والتوالي رَغَداً واسعا وافرا مِنْ كُلِّ مَكانٍ من البلاد التي في حواليها ونواحيها وهم صاروا مترفهين متنعمين فيها الى ان بطروا وباهوا فَكَفَرَتْ أهلها بِأَنْعُمِ اللَّهِ الواصلة إليهم وأسندوها الى غير الله عنادا ومكابرة وخرجوا على رسول الله وطعنوا بكتاب الله المنزل عليه ونسبوه الى ما لا يليق بشأنه مكابرة فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بعد نزع خلعة الأمن والاطمئنان يعنى قد سار اثر الجوع والخوف في سائر أعضائهم وجوارحهم سريان اثر المذوقات في جميع أجزاء الجسد استعير لها اللبس لإحاطتها وشمولها والذوق لسريانها ونفوذها بحيث لا يخلو عن اثرهما جزء من أجزاء البدن كل ذلك بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بشؤم ما صنعوا من الكفر والكفران والتكذيب والطعن والعناد والاستكبار على العباد وَكيف لا يأخذهم ولا يذيقهم لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ أفضل وأكمل من جميع الرسل الماضين مصحوبا مع كتاب كامل شامل أكمل واشمل من سائر الكتب السالفة فَكَذَّبُوهُ أشد تكذيب وأنكروا له افحش انكار فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ العاجل وهو الجدب الواقع بينهم او وقعة بدر وَالحال انه في تلك الحالة هُمْ ظالِمُونَ خارجون عن مقتضيات الحدود الإلهية منكرون مكذبون على الله وعلى رسوله وعلى العذاب الآجل مطلقا وسيأخذهم ويلحقهم في النشأة الاخرى بأضعاف ما في النشأة الاولى وآلافه وإذا سمعتم ايها المؤمنون المعتبرون نبذا من أوصاف أولئك الأشقياء المغمورين

[سورة النحل (16) : آية 114]

في بحر الغفلة والغرور البطرين بما معهم من اللذة والشرور وسمعتم ايضا أحوالهم واهوالهم عاجلا وآجلا بسبب كفرانهم وطغيانهم فَكُلُوا أنتم مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ المصلح لأحوالكم حَلالًا مباحا بحسب الشرع طَيِّباً مما كسبتم بيمينكم على مقتضى سنة الله وحكمته وجرى عادته من خلق الأيدي والأرجل للمكاسب او مما اتجرتم وربحتم وهو ايضا معدود من الكسب وَبالجملة اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ الذي قد أقدركم ومكنكم على الكسب إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ اى تطيعون وتقصدون عبادته برفع الوسائل والأسباب العادية عن البين إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ اى اعلموا ان ربكم ما حرم عليكم في دينكم هذا الا الميتة المائتة حتف انفه بلا تذكية وتسمية وَايضا قد حرم الدَّمَ المسفوح السائل من الحيوانات وَقد حرم ايضا لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَكذا ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وسمى عليه حين الذبح من اسماء الأصنام والأوثان وسائر المعبودات الباطلة فَمَنِ اضْطُرَّ منكم ايها المؤمنون الى أكل هذه المحرمات حال كونه غَيْرَ باغٍ خارج على السلطان العادل المقيم المقوم لأصول الشرائع ومعالم الدين وَلا عادٍ مجاوز عن الحدود الشرعية لغرض فاسد من انواع المعاصي وقطع الطريق والإباق وغيرها فَإِنَّ اللَّهَ المطلع على سرائر عباده وضمائرهم غَفُورٌ يستر عليهم زلتهم الاضطرارية رَحِيمٌ يقبل توبتهم عنها ثم نهاهم سبحانه عن التقاول بالأقوال الفاسدة من تلقاء أنفسهم ومقتضى اهوائهم كما يقوله المشركون المسرفون فقال وَلا تَقُولُوا ايها المتدينون بدين الإسلام المنزل على خير الأنام لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ اى لشيء تصف السنتكم إياه الوصف الكذب يعنى قد ظهر انه كاذب بلا ورود وحى واذن شرع بل من تلقاء انفسكم افتراء ومراء بان تقولوا هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ وتنسبوه الى الله لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ تزيينا لقولكم الباطل وترويجا له كما قالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا الآية إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ وينسبون عَلَى اللَّهِ المنزه عن مطلق الأباطيل الْكَذِبَ ظلما وزورا لا يُفْلِحُونَ ولا يفوزون بخير الدارين إذ نفعهم فيما يفترون ويكذبون مَتاعٌ قَلِيلٌ ومنفعة حقيرة لا اعتداد بها وَلَهُمْ بسبب ذلك في النشأة الاخرى عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم مؤبد لا نجاة لهم منه أصلا وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا قد حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل مِنْ قَبْلُ في سورة الانعام حيث قلنا وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآية وَبالجملة ما ظَلَمْناهُمْ في تحريم ما حرمنا عليهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى هم ما يظلمون الا أنفسهم بارتكاب المعاصي والمناهي وترك المأمورات ورفض المندوبات لذلك عوقبوا وأخذوا بما أخذوا ثُمَّ بشر سبحانه على عموم اصحاب المعاصي والآثام بالعفو والمغفرة والشفقة عليهم بعد ما تابوا وأنابوا الى الله وندموا عماهم عليه مخلصين فقال مخاطبا لحبيبه إِنَّ رَبَّكَ الذي بعثك يا أكمل الرسل الى كافة البرايا بشيرا ونذيرا يحسن ويرحم لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ والفعلة القبيحة والديدنة الشنيعة المذمومة في الشرع مع كونهم في حين ارتكابها ملتبسين متصفين بِجَهالَةٍ ناشئة من عدم التدبر والتأمل بوخامة عواقبها شرعا مع تدينهم وقبولهم احكام الشريعة او كانوا ممن لا يؤمن ولا يقبل ما ورد به الشرع ثُمَّ تابُوا وندموا مِنْ بَعْدِ ما ارتكبوا ذلِكَ السوء وَأَصْلَحُوا حينئذ بالتوبة والاستغفار ما أفسدوا على نفوسهم بالفسق والإصرار إِنَّ رَبَّكَ المحسن المفضل على التائب المخلص مِنْ بَعْدِها اى بعد التوبة

[سورة النحل (16) : آية 120]

والندم لَغَفُورٌ يستر عنهم زلتهم رَحِيمٌ يقبل منهم توبتهم ثم أشار سبحانه الى فضائل خليله صلوات الرّحمن عليه وسلامه وكمال كرامته ونجابة فطرته وطهارة أصله وطينته وعلو شانه ورتبته وارتفاع قدره ومنزلته فقال إِنَّ جدك يا أكمل الرسل إِبْراهِيمَ الخليل الجليل الذي اختاره سبحانه لخلته واصطفاه لرسالته قد كانَ أُمَّةً قدوة واماما مقتدى به حقيقا لائقا للاقتداء به في الأمور الدينية إذ كان قانِتاً مطيعا لِلَّهِ راغبا الى امتثال مأموراته طوعا مجتنبا عن منهياته رغبة حَنِيفاً مائلا عن الأديان الباطلة والآراء الفاسدة مطلقا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في حال من الأحوال بل هو رأس الموحدين ورئيس ارباب التحقيق واليقين شاكِراً لِأَنْعُمِهِ سبحانه صارفا لها الى ما قد جبلها الحق لأجله على الوجه الأعدل الا قوم المأمور من عنده سبحانه بلا تبذير ولا تقتير طالبا في صرفه وإنفاقه رضا الله بلا شوب شائبة من الرياء والسمعة لذلك قد اجْتَباهُ واختاره ربه لخلته واصطفاه لرسالته وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى زلال وحدته بلا عوج وانحراف وَمن كمال خلتنا ومحبتنا إياه قد آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا من لدنا تفضلا عليه وإحسانا حَسَنَةً صورية بحيث لا ينقطع ولا ينفد آثار كرمه وجوده الى يوم القيمة وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لقبولنا الواصلين الى صفاء وحدتنا ثُمَّ بعد ما ذكرنا لك يا أكمل الرسل نبذا من كمال استحقاقه ولياقته للمتابعة والاقتداء به قد أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تعظيما لشأنك ولشأنه عليه السّلام أَنِ اتَّبِعْ في إيصال الدعوة وتبليغ الرسالة واظهار الدين والاحكام وكذا في الرفق والتليين مع الأنام والحلم والتواضع معهم على ابلغ وجه ونظام مِلَّةَ إِبْراهِيمَ اى خصلة جدك الخليل الجليل عليك وعليه الصلاة والسّلام إذ قد كان هو في نفسه وملته ايضا بحسب حَنِيفاً مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط في عموم الأطوار والأخلاق والأفعال والأقوال وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ المستكبرين لا في خلق من الأخلاق ولا في وصف من الأوصاف بل قد كان دائما مستويا على جادة التوحيد وعدالة اليقين والتحقيق لذلك صار اماما للأنام وقدوة لهم الى يوم القيام. ثم قال سبحانه تعييرا على المشركين وتقريعا إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ اى ما قدر وفرض لحوق وبال يوم السبت وانواع العقوبات والمسخ عن لوازم الانسانية الا عَلَى المشركين الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وجادلوا مع نبيهم في تعيينه واختياره إذ قد أمرهم موسى عليه السّلام بتعظيم يوم الجمعة واتخاذها عيدا فأبوا معللين ان الله قد فرغ من خلق السموات والأرض في يوم السبت فنحن نوافقه ونتخذه عيدا فألزمهم الله تعظيم السبت وتحريم الصيد فيه فاحتالوا للاصطياد فيه فاصطادوا بالمكر فمسخهم الله ولحقهم من الوبال ما لحقهم في النشأة الاولى وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ويجادلون مع الرسل فيجازيهم ويعاقبهم على مقتضى ما صدر عنهم من الجرائم والآثام ثم أشار سبحانه الى تتميم تكريم حبيبه وتعظيم رتبته وتهذيب أخلاقه وتكميل حكمته في رسالته وتعميم رأفته ورحمته الى عموم البرية وكافة الخليقة إذ هو مبعوث على الكل بالرحمة العامة وهو خاتم الرسالة والنبوة ومكمل امر التشريع والتكميل إذ العلة الغائية والمصلحة العلية في عموم الشرائع والأديان وفي مطلق الإنزال والإرسال ما هي الا ظهور مرتبته ومكانته التي هي الدعوة الى التوحيد الذاتي ومتى ظهرت فقد كملت وتمت لذلك نزل في شأنه عليه السّلام كريمة اليوم أكملت لكم دينكم الآية وهي آخر آية نزلت من القرآن وقال ايضا صلّى الله عليه وسلّم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فقال

[سورة النحل (16) : آية 125]

سبحانه مخاطبا له عليه السّلام خطاب تمكين وتكريم إرشادا له وتعليما ادْعُ يا أكمل الرسل إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ اى الى طريق توحيد مربيك الذي قد أرشدك الى معارج عنايته وهداك الى كمال كرامته كافة البرايا وعامة العباد بِالْحِكْمَةِ المتقنة البالغة الملينة لقلوبهم عن صلابة التقليدات الراسخة الموروثة لهم عن آبائهم وأسلافهم المصفية لنفوسهم عن الحمية الجاهلية المتمكنة فيها الخالية عن توهم السطوة والصولة والاستيلاء المثيرة لانواع الاعراض النفسانية المترتبة على القوى البشرية المزيلة لانواع الشبه والتخيلات الناشئة من الوسائل والأسباب العادية المقنعة لنفوسهم الى ان أخذوها دلائل مشيرة الى شواهد وتنبيهات متناسبة ملائمة للفطرة الاصلية التي فطر الناس عليها رجاء ان يتفطنوا ويتنبهوا بمقتضى جبلتهم وحسب فطرتهم الاصلية وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ المورثة لهم يقظة وانتباها من سنة الغفلة ورقود النسيان المحصلة لهم شوقا وسرورا الى مبدئهم ومنشئهم المرغبة لهم الى اللذات الروحانية الدائمة الباقية المستمرة ازلا وابدا بلا ورود زوال وانقضاء المنفرة عماهم عليه من العوائق والعلائق الناسوتية العائقة من اللذات الوهمية المقتضية المنقطعة المورثة لانواع المحن والأحزان وَان افتقرت يا أكمل الرسل في دعوتهم الى المجادلة معهم ومكالمتهم أحيانا جادِلْهُمْ بِالَّتِي اى بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ الطرق وأسلمها واعدلها من المقدمات المعتدلة الدالة على المساواة من كلا الجانبين برفق تام وتليين كامل ومسكنة وإرخاء عنان خال عن السطوة والتهور والغضب والتكبر والتجبر وعن الضحك والتمسخر والاستهزاء والتجهيل والتسفيه والتشنيع الشنيع كما يفعله عوام العلماء في مباحثاتهم ومحاوراتهم إذ هي بعيدة عن الحكمة بمراحل مثيرة لانواع الفتن والخصومات واصناف الأغراض النفسانية والأمراض الهيولانية ولك ايضا ان لا تبالغ في هدايتهم وايمانهم ولا تتشوش من ضلالهم وطغيانهم إذ ما عليك الا تبليغ ما أرسلت به واما حصول الهداية او الضلالة فيهم فأمر خارج عن وسعك وطاقتك إِنَّ رَبَّكَ المطلع على استعدادات عباده وقابلياتهم هُوَ أَعْلَمُ منك بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الموصل الى وحدة ذاته وَهُوَ أَعْلَمُ ايضا بِالْمُهْتَدِينَ منهم إذ قد قدر في سابق قضائه وحضرة علمه هدايتهم وضلالهم وكذا جميع ما جرى وسيجرى عليهم من شئونهم وتطوراتهم على التفصيل بحيث لا يشذ عن حيطة حضرة علمه شيء منها وبعد ما امر سبحانه حبيبه بما امر من آداب الدعوة واخلاق الرسالة والنبوة ومراعاة حقوق الأنام والمداراة معهم أشار الى المجاراة والمجازاة والقصاص والعقوبات الواقعة في امر الرسالة ووضع التشريع والتبليغ إذ هي مبنى على الأمر بترك المألوفات ورفض العادات والاعتقادات وترك التقليدات والتخمينات لذلك لا يخلو عن المنازعات والمخاصمات المؤدية الى انواع الجنايات فقال سبحانه مخاطبا له ولمن تبعه من المؤمنين وَإِنْ عاقَبْتُمْ ايها المؤمنون منتقمين عنهم فَعاقِبُوا اى فعليكم ان تعاقبوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ لا أزيد منه إذ الزيادة منافية لاعتدال الايمان والتوحيد وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ ايها المؤمنون على ما أصابكم من العقوبات وأعرضتم عن الانتقام صفحا وكظمتم الغيظ كظما لَهُوَ اى العفو والكظم خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ الذين صبروا على ما أصابهم من المكاره المسترجعين الى الله مسندين انزاله اليه سبحانه بلا رؤية الوسائل في البين بل هم يعدون العناء عطاء والترح فرحا والنقمة نعمة والمحنة منحة لصدور الكل من الله سبحانه بلا رؤية الأسباب العادية في البين وبعد ما قد خاطب واوصى سبحانه للمؤمنين بالصبر والعفو على وجه العموم وترك الانتقام خص رسوله صلّى الله عليه وسلّم من بينهم بهذا الخطاب

[سورة النحل (16) : آية 127]

المستطاب لكونه أحق واولى بامتثال أمثاله إذ هو جامع جميع مراتب الكمال بالاستحقاق والاستقلال فقال وَاصْبِرْ ايها المتحقق المتمكن في مقر التوحيد المسقط لجميع الإضافات على عموم ما جرى عليك من الأذيات المترتبة على بشريتك وناسوتك وَاعلم يقينا انه ما صَبْرُكَ وكظمك بعد فنائك عن لوازم بشريتك إِلَّا بِاللَّهِ المتجلى عليك بكمال الإطلاق الى ان قد اخلع عنك لوازم ناسوتك بالمرة وما بقيت فيك الا لوازم لاهوتك وظاهر انه لا يجرى فيها المنكر والمكروه والجناية والقصاص والخطاب والعتاب وَايضا لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ اى مما جرى على المؤمنين من الأمور المشوشة لهم والمنافرة وَبالجملة لا تَكُ بعد انشراح صدرك بالتوحيد الذاتي فِي ضَيْقٍ اى ضيق صدر وكآبة وحزن مِمَّا يَمْكُرُونَ أولئك المحجوبون الماكرون المعاندون المكابرون معك ومع من تبعك من المؤمنين إِنَّ اللَّهَ المختبر لرسله وأنبيائه وأوليائه وخواص عباده بأنواع الأذى والمحن الجسمانية مَعَ الصابرين الَّذِينَ اتَّقَوْا وحفظوا أنفسهم عن المبادرة الى المعاداة وحذروها عن مطلق الانتقام سيما وقت القدرة طلبا لمرضاة الله وجريا على مقتضى توحيده وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ سيما على من أساء إليهم رفقا لهم وتلطفا معهم ابتغاء لمرضاة الله وتثبيتا في طريق توحيده. أذقنا حلاوة توحيدك وصبرنا على عموم ما جرى علينا من المحن والعناء طلبا لمرضاتك انك على ما تشاء قدير خاتمة سورة النحل عليك ايها المسترشد البصير والمستبصر الخبير أرشدك الله الى امتثال ما سمعت في هذه السورة من الأخلاق والمواعظ سيما في الكريمة المذكورة آنفا ورزقك الاتصاف بما فيها من الحكم والآداب والأخلاق المرضية والسجايا الفاضلة ان تتأمل وتتعمق فيها حق التأمل والتعمق حال كونك خاليا عن مطلق الكدورات العارضة لك من طغيان القوى البهيمية والحمية الجاهلية تاركا عموم ما غرض عليك من الاعراض النفسانية المترتبة على الأمور العادية المستلزمة لانواع الضلال والفساد من التفوق على الأقران والترفع على الاخوان والتكبر على ضعفاء الأنام والتلذذ بالسمعة والريا المثيرة لأصناف الأهواء الفاسدة والآراء الباطلة التي لا يمكن قلعها وقمعها أصلا سيما قد تمرنت ورسخت فلك ان تراجع وجدانك لتتنبه وتتذكر باى شيء أردت الترفع وقصدت التفوق والتفضل اما ترى ايها الأحمق ان منشأك ماذا اما استحييت التفوه من ذا وهذا واما قصة كرامتك وخلافتك التي هي من المواهب الإلهية والعطايا الغيبية فإنما هي مبنية على محض التذلل والتواضع والخضوع والانكسار مع كل ذرة من ذرائر الكائنات إذ مبناه على الحكمة المتقنة المنشعبة من اسرار الرسالة والنبوة وهي عبارة عن اعتدال جميع الأوصاف والأطوار وتزكية النفس عن عموم الرذائل والأخلاق الرديئة بل هي مبنية على افناء مقتضيات الأوصاف البشرية رأسا والانخلاع عن البسة الناسوت مطلقا ارادة واختيارا وبالجملة من أنصف على نفسه أدرك ان جميع ما في نفسه سوى التذلل والانكسار والمسكنة والافتقار حال كونه خاليا عن شوب الريا والسمعة والعجب والجربزة ما هي إلا رعونات صدرت عن طغيان القوى البهيمية المؤيدة بالعقل المستعار المموه بتمويهات الأوهام الباطلة وتزيينات الخيالات الكاذبة العاطلة هب لنا من لدنك جذبة تنجينا عن ظلمة انانيتنا ولذة تلجئنا الى سلوك طريق الفناء الموصل الى شرف البقاء واللقاء انك أنت الوهاب

سورة الإسراء

[سورة الإسراء] فاتحة سورة الإسراء لا يخفى على من سلك نحو توحيد الحق سلوكا تدريجيا طالبا الترقي من مرتبة الى مرتبة أعلى منها وارفع رتبة ومكانة ان لكل واحد من ارباب الولاء الطالبين للعروج الى معارج التوحيد معراجا مخصوصا ومقصدا معينا ومشربا خاصا مقدرا عند الله مثبتا في لوح قضائه وحضرة علمه وان كان مقصدا لكل بحسب الذات واحدا الا انه قد وقع التفاضل والتفاوت في المعارج لحكم ومصالح لا يعلمها الا هو فلا بد للسالك المسترشد ان يستكمل ويسترشد الى ان يصل الى معراجه المعين المقدر له من عنده سبحانه فإذا وصل اليه وحصل دونه فقد أدرك معراجه ونال مقره ومقصده من التوحيد وعند ذلك انقطع سيره وتم سلوكه وبعد ذلك سار وسلك فيه لا به واليه الى ان حار وفنى وليس وراء الله مرمى ومنتهى واشرف المعارج وأكملها وأتم المراقي وأعلاها وأشملها معراج نبينا صلّى الله عليه وسلّم إذ قد انكشف له التوحيد الذاتي الى حيث قد شهد الحق شهودا عينيا حقيا وتكلم معه كلاما تفصيليا بلا كيف واين وبلا وضع وجهة لا مقابلة ولا مقارنة ولا قرب ولا بعد بل حضور وسرور وحصول ووصول لا يفهمها الا ذوو الأذواق الصحيحة والمشارب الصافية من ارباب العناية الفائزين بالفوز العظيم بمتابعته صلّى الله عليه وسلّم وذلك بعد انخلاعه عن جلباب ناسوته وتشرفه بخلعته اللاهوتية لذلك أسند سبحانه اسراءه صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج الى نفسه تفضلا عليه وتكريما فقال متيمنا باسمه العظيم بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى لحبيبه بمقتضى ذاته المستجمع لجميع أوصافه لذلك قد صارت مرتبته جامعة لجميع المراتب وغاية لعموم شئون الحق وتطوراته الرَّحْمنِ له يوصله الى ذروة معارج عنايته ظاهرا الرَّحِيمِ له يخرجه عن بقعة الإمكان ويهديه الى فضاء الوجوب باطنا [الآيات] سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى نزه سبحانه ذاته مما يجب تنزهه عنه في حضرة علمه وأبهم اسمه حسب تعاليه وترفعه في ذاته عن افهام عباده وأوصله بالاسراء الحقيقي الذي هو عبارة عن إخراج العبد من ظلمة الإمكان الذي هو الليل الحقيقي الى نور الوجوب الذي هو النهار الحقيقي بِعَبْدِهِ يعنى حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بعد ما قد اخلع عنه كسوة ناسوته بالمرة والبسه خلعة من خلع لاهوته بحيث قد تجرد عن مقتضيات بشريته مطلقا وارتفعت عنه حجب تعيناته جملة وانكشفت دونه سدول الغفلات وأستار الغشاوات عن بصر بصيرته رأسا وحينئذ قد انطوت المسافات مطلقا لَيْلًا اى في قطعة منه صرح به وان كان الإسراء في اللغة عبارة عن السير في الليل ليعلم ان ابتداءه وانتهاءه كان فيه مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الذي قد حرم عنده ما أبيح في الأماكن الاخر من الصيد وغيره الا وهو عبارة عن قلب الإنسان الكامل الذي هو بيت الله الأعظم حقيقة وقد حرم فيه التوجه الى الغير والسوى مطلقا وان كان مبنيا في بقعة جسدانية امكانية إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ وكثرنا الخير والبركة على زوارها وساكنيها الا وهو البيت المعمور الأبدي الأزلي الذي هو الوجود المطلق المفيض المنبسط على كافة المظاهر وحوله اى حواليه كناية عن مقتضيات الأوصاف والأسماء الإلهية وزوارها عبارة عن استعدادات المظاهر وقابلياتها المستفيدة منها الناشئة عن اظلال أوصافها وانما اسريناه هكذا لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا الدالة على كمال قدرتنا وحكمتنا ووفور جودنا وكرامتنا إِنَّهُ اى الشأن انه صلّى الله عليه وسلّم بعد تجرده عن جلباب تعينه وهويته الناسوتية هُوَ السَّمِيعُ بسمعنا فيسمع بنا منا الْبَصِيرُ ببصرنا

[سورة الإسراء (17) : آية 2]

فيبصر ببصرنا عجائب صنعنا وغرائب مبدعاتنا وَكما أيدنا حبيبنا بما أيدناه من الإسراء به واراءة عجائب صنعتنا وقدرتنا إياه بان سيرناه من مكة في ساعة وآن الى البيت المقدس ثم منها الى فوق السموات السبع وقد مثلنا له فيها أرواح الأنبياء والأولياء فتكلم معهم ثم منها الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله وقد اخبر عنه سبحانه وعن قربه وصوله صلّى الله عليه وسلّم اليه بقوله دنى فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى فسمع كلاما بلا كيف لا من جنس الأصوات والحروف كذلك قد آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تأييدا له وتنفيذا لأمرنا إياه الى ان خصصناه بتكلمنا معه بلا كيف وكرمناه بأنواع الكرامات وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ هاديا لهم يهديهم الى توحيدنا وتقديس ذاتنا عن الأشباه والأنداد مطلقا وامرناهم فيه أَلَّا تَتَّخِذُوا ايها المتحيرون في الخطوب والوقائع مِنْ دُونِي وَكِيلًا وشريكا لي وكفوا تتكلون اليه في أموركم غيرى إذ ليس في الوجود سواي فعليكم ان تتخذونى وكيلا وتفوضوا أموركم كلها الى وتأخذونى كفيلا إذ لا معبود لكم غيرى ولا مرجع لكم سواي يا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا بمقتضى جودنا مَعَ نُوحٍ حين استولى الطوفان على وجه الأرض فهلك كل من عليها الا من آمن لنوح وحملناهم معه في السفينة فأنجيناه اصالة ومن معه تبعا له من المؤمنين إِنَّهُ يعنى نوحا قد كانَ عَبْداً شَكُوراً مبالغا في أداء الشكر مواظبا عليه على وجه الخضوع والخشوع فلكم ان تقتفوا اثر اسلافكم الذين هم اصحاب سفينة نوح عليه السّلام وهم مؤمنون مصدقون له فلكم ان تؤمنوا بمن أرسل إليكم لإصلاح أحوالكم وتصدقوا كتابه وَاعلموا انا قد قَضَيْنا وأوحينا مقسما إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ المنزل عليهم على وجه الإيذان والأعلام تنبيها وتذكيرا والله لَتُفْسِدُنَّ أنتم فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ مرة بمخالفة احكام التورية وقتل شعيا ومرة بقتل يحيى وزكريا وبقصد قتل عيسى عليهم السّلام كل ذلك من أعظم الجرائم عند الله وَمع ذلك لَتَعْلُنَّ ولتستكبرن عتوا وعنادا على الأنبياء استيهانة واستخفافا وسخرية واستهزاء عُلُوًّا كَبِيراً بحيث لا تبالون لهم ولا تعدونهم من العقلاء بل تسفهونهم تارة وتكذبونهم اخرى فاعلموا ايها المسرفون انا ننتقم منكم في النشأة الاولى لكل جريمة صدرت عنكم من الجريمتين العظيمتين فَإِذا جاءَ وَعْدُ انتقام أُولاهُما اى اولى الجريمتين بَعَثْنا وسلطنا عَلَيْكُمْ حين أردنا الانتقام منكم والأخذ عليها عِباداً لَنا منتقمين عنكم من قبلنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وشوكة عظيمة وصولة قوية قاهرة وهم إذا دخلوا عليكم فَجاسُوا اى تجسسوا وترددوا لطلبكم خِلالَ الدِّيارِ ووسطها للقتل والاستئصال وَقد كانَ ما ذكر من الانتقام وَعْداً من الله مَفْعُولًا حقا عليه سبحانه إنجازه وإيقاعه وذلك حين استولى بختنصر عليهم فقتل كبارهم وسبى صغارهم ونهب أموالهم وخرب بلدانهم وخرق التورية وخرب الأقصى ثُمَّ بعد ما ضعفناكم واخذناكم قد رَدَدْنا وأعددنا لَكُمُ الْكَرَّةَ اى الدولة والصولة والغلبة عَلَيْهِمْ اى على أعدائكم وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ عظام وَبَنِينَ معاونين ناصرين وَجَعَلْناكُمْ في الكرة الثانية أَكْثَرَ نَفِيراً من الكرة الاولى واكثر عسكرا وجنودا منها وبالجملة إِنْ أَحْسَنْتُمْ لبنى نوعكم خالصا لوجه الله وآمنتم بالله لتزكية نفوسكم أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ إذ فوائد الايمان والإحسان انما هي عائدة إليكم وَإِنْ أَسَأْتُمْ لهؤلاء وكفرتم بالله ورسله فَلَها اى وبال اساءتكم ايضا عائد عليها إذ الله في ذاته غنى عن احسان المحسن واساءة

[سورة الإسراء (17) : آية 8]

المسيء مطلقا فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ اى وقت انتقام الجريمة الاخيرة بعثنا عليكم ايضا عبادا لنا اولى بأس شديد وبسطة قوية وبطش محكم متناه في الصولة والسطوة هو ططوس الرومي وقيل ملك الفرس اسمه جودرز وقيل حردوس وانما بعثناهم عليكم لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ اى ليسؤا معكم بحيث قد ظهرت آثار أساءتهم وإذلالهم إياكم من وجوهكم وَلِيَدْخُلُوا هؤلاء ايضا الْمَسْجِدَ الأقصى وخربوه كَما دَخَلُوهُ وخربوه أَوَّلَ مَرَّةٍ في استيلاء بختنصر واحرق هؤلاء الكتب ايضا كما احرقوا وَلِيُتَبِّرُوا وليهلكوا ما عَلَوْا وما قدروا عليه وغلبوا تَتْبِيراً هلاكا كليا بحيث لا ينجو منهم احد قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلى فسألهم عنه فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال ما هو الا كذب فقتل منهم الوفا عليه ثم قال ان لم تصدقوني ولم تبينونى دم من هو هذا ما تركت منكم أحدا فلما اضطروا قالوا انه دم يحيى النبي عليه السّلام قد قتلناه ظلما فقال لمثل هذا ينتقم الله المنتقم الغيور عنكم ثم قال ملتفتا الى الدم يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاسكن من الغلى قبل ان لا أبقى أحدا منهم فسكن ولم يقتل بعد هذا. ثم قال سبحانه عَسى رَبُّكُمْ يا بنى إسرائيل وقرب أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرة الثانية ان تبتم عن جرائمكم ومعاصيكم وَإِنْ عُدْتُمْ إليها ثالثا عُدْنا الى الانتقام والعذاب ثالثا وهكذا رابعا وخامسا وقد عادوا في النوبة الثالثة بتكذيب محمد صلّى الله عليه وسلّم وقصدوا قتله فأعاد الله عليهم الخزي بان سلط المسلمين عليهم فقتلوهم واسروهم وضربوا الجزية على ما بقي منهم وبالجملة قد صاروا مهانين أذلاء صاغرين الى قيام الساعة هذا في النشأة الاولى وَفي النشأة الاخرى جَعَلْنا جَهَنَّمَ البعد والخذلان وسعير الطرد والحرمان لِلْكافِرِينَ حَصِيراً محبسا ومضيقا بحيث لا ينجون منها ابد الآباد ومن أراد نجاة الدارين وخير النشأتين فعليه الامتثال والانقياد بعموم الاحكام الموردة في القرآن المنزل على خير الأنام إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ الفارق بين الهداية والضلال والحق والباطل والحرام والحلال يَهْدِي ويرشد لِلَّتِي للطريقة التي هِيَ أَقْوَمُ الطرق واعدلها وأوضح السبل وأبينها الى التوحيد المنجى عن ظلمات النشأتين وَيُبَشِّرُ ايضا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ المأمورة فيه المقربة الى التوحيد الذاتي أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً الا وهو الفوز بشرف اللقاء والتحقق عند سدرة المنتهى وَيخبر القرآن ايضا أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ولم يصدقوا ما فيها من الحساب والعقاب والصراط والسؤال وجميع ما فيها قد أَعْتَدْنا وهيأنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما مخزنا لرؤيتهم المؤمنين مترفين متنعمين في الجنة مترفهين وهم في النار مهانون صاغرون وَمن جملة الأخلاق المذمومة والديدنة القبيحة المستهجنة يَدْعُ الْإِنْسانُ مسرعا مستعجلا بِالشَّرِّ الملحق له من غير علم بشريته ووخامة عاقبته دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ اى مثل دعائه بالخير في السرعة والاستعجال وَبالجملة قد كانَ الْإِنْسانُ خلق في جبلته واصل فطرته عَجُولًا مسرعا مستعجلا على كل ما يميل اليه وان كان مضر اله وَمن كمال رحمتنا واشفاقنا لعموم عبادنا قد جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ دالتين على قدرة القادر العليم الحكيم بتواليهما على نسق واحد مع إمكان غيره فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ باشراق النهار وإضاءته وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ذا نور واضاءة لِتَبْتَغُوا وتطلبوا فَضْلًا وعطايا ناشئة مِنْ رَبِّكُمْ لتعيشوا بها وتقوموا امزجتكم منها وَلِتَعْلَمُوا بتجدد الملوين وتكرر الجديدين عَدَدَ السِّنِينَ

[سورة الإسراء (17) : آية 13]

وَالْحِسابَ المتداولة بينكم في معاملاتكم وحراثتكم وتجاراتكم وَبالجملة كُلَّ شَيْءٍ تحتاجون اليه في امور معاشكم ومعادكم قد فَصَّلْناهُ بيناه وأوضحناه لكم وعلمنا طريق وصولكم ونيلكم اليه تَفْصِيلًا وتبيينا واضحا لائحا فعليكم ان تتخذونى وكيلا في عموم حوائجكم الدنيوية والاخروية وَاعلموا ان كُلَّ إِنسانٍ يعنى كل فرد فرد من نوع الإنسان قد أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ يعنى بعد ما رتبنا امور معاش الإنسان ومعاده على ما ينبغي ويليق بحاله كتبنا جميع ما صدر عنه من الأعمال الصالحة والفاسدة في مكتوب جامع لها محيط بها وعلقناه في عنقه تعليقا لازما شبه الأعمال بالطائر لان الإنسان يطير ويميل نحو السعادة والشقاوة بما صدر عنه من الأعمال كأن الأعمال جناح له وَبعد انقضاء النشأة الاولى المعدة للاختبار والاعتبار نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً حاويا لعموم ما صدر عنه في دار الابتلاء يَلْقاهُ وينال اليه مَنْشُوراً على رؤس الملأ والاشهاد تعظيما وتكريما او تفضيحا وتقريعا وحين لقياه بكتابه يقال له اقْرَأْ ايها المكلف في دار الابتلاء بأنواع التكاليف والمأمور فيها بامتثال الأوامر وترك المناهي كِتابَكَ هذا اى صحيفتك المشتملة على عموم ما صدر عنك إذ قد كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ اى كفى نفسك اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً محاسبا كافيا وشهيدا شاهدا بلا احتياج لك الى محاسب آخر سواك وبالجملة مَنِ اهْتَدى في النشأة الاولى بمتابعة ما امر ونهى فَإِنَّما يَهْتَدِي وما يفيد الا لِنَفْسِهِ إذ نفع الهداية انما هو الوصول الى مرتبة الخلافة والنيابة الإلهية التي قد جبل الإنسان عليها وهذا عائد الى نفس الموحد بلا سراية الى غيره الا على وجه الإرشاد والتنبيه وَكذا مَنْ ضَلَّ عن طريق الحق وانحرف عن مسلك التوحيد بترك المأمورات وارتكاب المنهيات فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها اى ما يعود وما يرجع وبال ضلالها الا على نفسها بلا سراية الى غيرها الا تسببا واضلالا وَبالجملة لا تَزِرُ ولا تحمل نفس وازِرَةٌ عاصية آثمة وِزْرَ نفس أُخْرى مثلها بل كل نفس رهينة بما كسبت سواء كان خيرا او شرا وبعد ما قد قرر سبحانه ان الهداية والضلال لا تسرى الى الغير أراد ان يبين سبحانه ان الأخذ والانتقام على الضلال انما هو بعد الإرشاد والتنبيه فقال وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ لأهل الغفلة والضلال حَتَّى نَبْعَثَ ونرسل إليهم رَسُولًا منهم حين ظهر عنهم ولاح عليهم علامات الفسوق والعصيان وامارات الضلال والطغيان ليبين لهم أولا طريق الهداية ويرغبهم نحوها ويجنبهم عن الضلال وينفرهم عنه وبعد ما بعثنا عليهم وأرسلنا إليهم رسلا ان لم يقبلوا قول الرسل ولم يمتثلو بما أمروا على ألسنتهم ونهوا قد أصروا على ما هم عليه من الضلال أخذوا وعذبوا وَ بذلك قد جرت سنتنا المستمرة انا إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ ونستأصل قَرْيَةً مستحقة للاهلاك والاستئصال أَمَرْنا أولا مُتْرَفِيها ومتنعميها بالاطاعة والانقياد لنبي أرسل إليهم من لدنا فَفَسَقُوا فِيها وخرجوا عن مقتضى ما أمروا ونهوا على لسان نبيهم ولم يبالوا به فَحَقَ فقد ثبت واستقر عَلَيْهَا الْقَوْلُ اى على اهل القرية العذاب الموعود المعهود حقا حتما واستحقوا بحلوله جزما فَدَمَّرْناها وأهلكنا أهلها بسبب فسقهم وخروجهم عن الإطاعة والامتثال بالمأمور تَدْمِيراً اى إهلاكا كليا واستئصالا حقيقيا الى حيث لم يبق منهم ومن عمرانهم ودورهم ومنازلهم واطلالهم شيء وَليس أمثال هذا الإهلاك ببدع منا بل كَمْ اى كثيرا قد أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ الماضية مِنْ بَعْدِ إهلاك قوم نُوحٍ كعاد

[سورة الإسراء (17) : آية 18]

وثمود لعتوهم وعنادهم مع رسل الله وَلا يحتاج في اثبات ضلال أولئك الضالين المضلين الى شاهد ومبين بل كَفى بِرَبِّكَ اى كفى ربك يا أكمل الرسل بِذُنُوبِ عِبادِهِ وخروجهم عن أطاعته وانقياده خَبِيراً إذ هو سبحانه عالم بعموم ما في سرائر عباده وبما في ضمائرهم بل بما في استعداداتهم وقابلياتهم بَصِيراً بما في علنهم وظواهرهم وبالجملة مَنْ كانَ منهم يُرِيدُ اللذات الْعاجِلَةَ والشهوات الفانية الزائلة عَجَّلْنا وأعطينا لَهُ فِيها اى في النشأة الاولى ابتلاء له واختبارا وتلبيسا عليه واغترارا ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ لأنا مطلعون على ما في سره وضميره ثُمَّ جَعَلْنا وهيأنا في النشأة الاخرى لَهُ جَهَنَّمَ منزل الطرد والحرمان حال كونه يَصْلاها ويطرح فيها مَذْمُوماً مشؤما محروما مَدْحُوراً مطرودا مقهورا وَمَنْ أَرادَ منهم بامتثال الأوامر المتعلقة بمصالح الدين وباجتناب نواهيه المخلة له الْآخِرَةَ اى اللذات الاخروية الابدية وَسَعى لَها سَعْيَها واجتهد فيها بمقتضى الأمر الإلهي وَالحال انه هُوَ في حال السعى والاجتهاد مُؤْمِنٌ موقن مصدق بوحدانية الله وبعموم ما نزل من عنده على رسله بلا شوب تزلزل وتردد فَأُولئِكَ السعداء المقبولون قد كانَ سَعْيُهُمْ واجتهادهم في امتثال الأوامر واجتناب النواهي مَشْكُوراً مقبولا مستحسنا وعملهم مبرورا وجزاؤهم موفورا وهم كانوا في دار الجزاء مغفورين مسرورين كُلًّا نُمِدُّ اى كل واحد من الفريقين المطيع والعاصي نيسر ونوفق له بمقتضى ما يهوى ويريد هؤُلاءِ المؤمنين المطيعين نوفقهم على الطاعات ونجنبهم عن المعاصي وَهَؤُلاءِ الكافرين العاصين نيسر لهم ما يميل اليه نفوسهم من الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة إذ كل ميسر لما خلق له وبالجملة كل ذلك مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ يا أكمل الرسل الذي رباك وعموم عباده بأنواع اللطف والكرم وَكيف لا ييسرهم سبحانه ولا يوفقهم الى ما يعنيه نفوسهم إذ لا رازق لهم سواه ولا معطى لهم غيره لذلك ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ممنوعا عن الكافر لكفره وعصيانه موفورا على المؤمنين لإيمانه بل لا يعلل فعله بالإعراض والأعواض مطلقا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ارادة واختيارا والتفاوت الجاري بين عباده انما هو لحكمة ومصلحة قد استأثر الله به في غيبه لا اطلاع لاحد عليه لذلك قال سبحانه انْظُرْ ايها الناظر المعتبر كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ في النشأة الاولى بالمال والجاه والثروة والرياسة عَلى بَعْضٍ مبتلى بالفقر والمسكنة وانواع المذلة والهوان وَلَلْآخِرَةُ المعدة للذات الروحانية ولانواع الحقائق والمعارف والمكاشفات والمشاهدات أَكْبَرُ دَرَجاتٍ لبقاء لذاتها ابد الآباد وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا من الفضل المستعار الفاني الزائل بسرعة ومتى اعتبرت ايها المعتبر وتأملت ما فيه من العبر لا تَجْعَلْ ولا تتخذ مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المتعزز برداء الفردانية إِلهاً آخَرَ كفوا له يعبد بالحق مثله وكيف تجعل وتأخذ ربا سواه والحال انه ليس في الوجود الا هو مع انك ان جعلت معه وأخذت الها سواه فَتَقْعُدَ أنت بعد جعلك واتخاذك ظلما وزورا خائبا خاسرا بل مَذْمُوماً عند الملائكة وعموم المؤمنين مَخْذُولًا عند الله يوم العرض الأكبر وَكيف يتخذ ويثبت اله سواه مع انه قد قَضى رَبُّكَ يا أكمل الرسل وحكم حكما محكما مقطوعا مبرما أَلَّا تَعْبُدُوا اى بان لا تعبدوا ايها البالغون حد التكليف القابلون للعبادة والانقياد إِلَّا إِيَّاهُ إذ لا مستحق للعبادة والانقياد سواه وكيف لا هو المستقل بايجادكم واظهاركم بلا

[سورة الإسراء (17) : آية 24]

مشاركة ولا مظاهرة فعليكم ان تعظموه وتوقروه وانقادوا له وتذللوا عنده غاية التذلل والخضوع وَبأن تحسنوا بِالْوالِدَيْنِ اللذين هما السببان الظاهريان لتربيتكم وظهوركم إِحْساناً سلسا طلقا فرحانا ضحكا على وجوههم بلا شوب المن والأذى سيما إِمَّا يَبْلُغَنَّ اى ان يبلغن عِنْدَكَ ايها الولد الْكِبَرَ اى سن الكهولة بحيث يعجز عن خدمة نفسه أَحَدُهُما اى احد الوالدين أَوْ كِلاهُما معا وبالجملة فَلا تَقُلْ لَهُما في عموم الأحوال سيما عند الكبر والكهولة أُفٍّ اى صوتا شديدا دالا على زجرهما وضجرهما وردعهما وَان خرجا عن مقتضى العقل وفعلا فعلا يجب لك صرفهما عنه لا تَنْهَرْهُما ولا تقهرهما كذلك زجرا عليهما بل وَقُلْ لَهُما ولصرفهما عما كانا عليه وذبهما عنه قَوْلًا كَرِيماً هينا لينا بلا غلظة وتشدد وَبالجملة اخْفِضْ وابسط لَهُما جَناحَ الذُّلِّ والمسكنة والتواضع الناشئة مِنَ كمال الرَّحْمَةِ والشفقة عليهما وَلا تقتصر على الخفض والشفقة الدنياوية بل قُلْ لهما ولأجلهما مناجيا مع الله رَبِّ ارْحَمْهُما بمقتضى رحمتك الواسعة وجودك الشامل كَما رَبَّيانِي صَغِيراً اى ارحمهما حسب فضلك ورحمتك مثل رحمتهما وتربيتهما إياي في وقت صغرى وطفوليتى فعليكم ايها المكلفون ان تكونوا في دعائهما على العزيمة الصحيحة والمحبة الخالصة بحيث يكون بواطنكم موافقة لظواهركم مثل تربيتهما إياكم حالة صغركم ولا تتمنوا موتهما في قلوبكم إذ رَبُّكُمْ المطلع على سرائركم أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من ابتغائكم موتهما او برهما وتكريمهما فالله سبحانه يعفو عنكم ويقبل توبتكم إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ مصلحين ما فوتم وأفسدتم على نفوسكم من حق تعظيمهما وتوقيرهما فَإِنَّهُ سبحانه من كمال فضله وجوده قد كانَ لِلْأَوَّابِينَ الرجاعين نحوه سبحانه النادمين عما صدر عنهم من المعاصي سيما بما يتعلق بعقوق الوالدين غَفُوراً يغفرهم ويتجاوز عنهم وَلا تقتصر ايها الولد على تعظيم والديك فقط بل عليك تعظيم كل ما ينتمى إليك من قبلهما لذلك آتِ وأعط ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ اى حق تواضعهم وتوقيرهم ان كانوا اغنياء وأنفق عليهم ان كانوا فقراء وَآت ايضا من زكوات أموالك ومن فواضل صدقاتك الْمِسْكِينَ من الأجانب وهو الذي لا يقدر على قوته وقوت عياله وَابْنَ السَّبِيلِ ايضا الذي قد بعد بلده وليس معه مؤنة معاشه وكن في عموم انفاقك مقتصدا معتدلا وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إسرافا مفرطا خارجا عن حد الاعتدال سيما فيما لا يعنى ولا ينبغي إذ التبذير والتقتير كلاهما مذمومان عقلا وشرعا لذلك قال سبحانه إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ المسرفين أموالهم رياء وسمعة كبرا وخيلاء قد كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أشباههم واتباعهم في صرف الأموال الموهوبة من الله غير المصرف وغير المستحق من المصارف بل قد صرفوها الى المحظورات والمكروهات باغواء الشياطين واغرائهم وَكانَ الشَّيْطانُ الغاوي الطاغي لِرَبِّهِ كَفُوراً لنعم الله فيغرى اتباعه الى الكفران ايضا. ثم قال سبحانه وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اى ان تحقق اعراضك ومنعك عن هؤلاء المستحقين المذكورين سيما بعد ما سألوا عنك العطاء ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ اى طلب رحمة ومغفرة مرجوة مِنْ رَبِّكَ حال كونك تَرْجُوها اى الرحمة لهم لعلمك منهم بأنهم قد صرفوها الى المعاصي والقبائح فعليك ان تمنعهم وتردهم هينا لينا بلا غلظة وتشدد فَقُلْ لَهُمْ حين دفعهم ومنعهم قَوْلًا مَيْسُوراً سهلا سلسا بحيث لا ييأسوا ولا يحزنوا مثل ان تقول سهل الله علينا وعليكم ويسر لنا ولكم من فضله وجوده

[سورة الإسراء (17) : آية 29]

وبعد ما نهى سبحانه عن التبذير صريحا والاعراض عمن صرف النعمة الى المعصية نهى سبحانه عن مطلق البخل والتبذير المذمومين تأكيدا ومبالغة فقال وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً معقودة إِلى عُنُقِكَ بحيث لا يسع لك إعطاء شيء مما رزق الله لك على مستحقيه شحا وبخلا إذ هو افراط وتقتير وَايضا لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ بحيث لا ثبات ولا قرار عندك وفي يدك للأموال والأرزاق المسوقة نحوك لمصلحة الخيرات وبناء الخانات والرباطات وسائر مصالح العباد أصلا فهذا تفريط وتبذير وكلاهما مذمومان شرعا وعقلا فعليك بالاقتصاد الذي هو عبارة عن الكرم والجود والسماحة الممدوحة عند ارباب المروة والفتوة ألا وهو صراط الله الأعدل الأقوم فَتَقْعُدَ بعد اتصافك بالبخل والتقتير مَلُوماً عند الله وعند الملائكة والناس أجمعين وان اتصفت بالإسراف والتبذير تقعد مَحْسُوراً نادما متحسرا قلقا حائرا في نظم معاشك إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ الصوري والمعنوي ويوسعه لِمَنْ يَشاءُ من عباده بمقتضى علمه بحالهم وسعة استعدادهم وقابلية حوصلتهم وَيَقْدِرُ اى يقبض ويضيق على من يشاء منهم بمقتضى علمه بضيق صدورهم وقلة تمكنهم ووقارهم وحكمتهم واعتدالهم إذ الله العليم الحكيم المتقن في أفعاله لا يتجاوز عن مقتضى حكمته وكيف يتجاوز إِنَّهُ سبحانه قد كانَ بِعِبادِهِ عليما خَبِيراً عن بواطنهم وضمائرهم وما يئول اليه أمورهم بَصِيراً بظواهر أحوالهم وتقلباتهم في شئونهم وتطوراتهم وَلا تَقْتُلُوا ايها البالغون لرتبة التكليف الإلهي أَوْلادَكُمْ الحاصلة لكم من أصلابكم سواء كانوا بنين او بنات بلا رخصة شرعية سيما خَشْيَةَ إِمْلاقٍ اى من خوف فقر وفاقة إذ نَحْنُ من سعة جودنا ووفور رحمتنا نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إذ لا رازق لكم ولهم سوانا وبالجملة إِنَّ قَتْلَهُمْ ان صدر عنكم كانَ خِطْأً كَبِيراً وذنبا عظيما عند الله وَعليكم ايها المؤمنون المتدرجون في مسالك التحقيق ان لا تَقْرَبُوا الزِّنى بترتيب مقدمات تترتب عليها تلك العفلة القبيحة فكيف الإتيان بها العياذ بالله إِنَّهُ اى الزنا قد كانَ فاحِشَةً مسقطة للعدالة مزيلة للمروءة مبطلة لحكمة التناسل التي هي المعرفة الإلهية إذ ولد الزنا لا يبلغ مرتبة الولاية ودرجة العرفان أصلا وَساءَ سَبِيلًا الزنا لقضاء الشهوة المعدة لسر الظهور والإظهار من لدن حكيم عليم وَعليكم ايضا ايها الموحدون القاصدون الى معارج التوحيد ان لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها إذ هي بيت الله وتخريب بيته من أعظم الكبائر إِلَّا بِالْحَقِّ اى برخصة شرعية من قصاص وحد وردة الى غير ذلك من الرخص التي قد عينها الشرع وَبالجملة مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً بلا رخصة شرعية فَقَدْ جَعَلْنا بمقتضى عدلنا لِوَلِيِّهِ اى لمن يلي امر المقتول بعده سُلْطاناً سطوة وغلبة على القاتل الظالم مع معاونة الحكام له فَلا يُسْرِفْ اى الولي المنتقم فِي الْقَتْلِ لقصاص المقتول المظلوم بان يقتل غير القائل بدله او يقتله مع غيره وكيف لا يقتل القائل الظالم بدل المقتول المظلوم إِنَّهُ قد كانَ اى المظلوم مَنْصُوراً مرحوما عند الله وعند عموم الخلائق وَعليكم ايضا ايها المتوجهون نحو الحق بالعزيمة الصحيحة والقصد الخالص ان لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ الذي لا متعهد له من الأبوين إِلَّا بِالَّتِي اى بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ الطرق بحالهم من ازدياد أموالهم وتنميتها وحفظها وتعميرها على وجه العدالة والمروة حَتَّى يَبْلُغَ اليتيم أَشُدَّهُ اى رشده وإذا بلغ الى سن التمييز والتصرف فلكم ايها الأوصياء المتعهدون لأموال اليتامى ردها حينئذ إليهم بعد اختبارهم وامتحان

[سورة الإسراء (17) : آية 35]

رشدهم وكفايتهم مرارا وَلكم ايها المؤمنون الموحدون الإيفاء والوفاء بمطلق العهود والمواثيق مطلقا سواء كانت مما بينكم وبين الله او بين عباده أَوْفُوا بِالْعَهْدِ والميثاق مطلقا إِنَّ الْعَهْدَ والميثاق قد كانَ مَسْؤُلًا في النشأة الاخرى وناقضه مؤاخذا وموفيه مأجورا وَايضا أَوْفُوا الْكَيْلَ اى عليكم إيفاء الكيل إِذا كِلْتُمْ لغيركم وَزِنُوا ايضا إذا وزنتم بِالْقِسْطاسِ اى الميزان وهو لفظ سرياني الْمُسْتَقِيمِ الذي لا ميل له الى جانب بل قد صار كفتاه على السوية بلا ميل ذلِكَ اى ايفاؤكم ووفاؤكم واستقامتكم في المكيال والميزان خَيْرٌ جالب لانواع الخيرات في الدنيا وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا اى عاقبة ومآلا في العقبى وَلا تَقْفُ اى لا تتبع ايها المؤمن الموقن الموفق الطالب للوصول الى مرتبة التوحيد ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ اى ما لم يتعلق علمك به تقليدا او تخمينا إذ أنت في يوم الجزاء مسئول عما رمته بلا علم وقصدت نحوه وأقدمت عليه باى عضو وجارحة وكذا عما قلته بلسانك رجما بالغيب بلا فكر وروية إِنَّ السَّمْعَ قدمه إذ قد نسبت اليه اكثر الكواذب والمفتريات وَالْبَصَرَ لان النفس تقع في اكثر الفتن والمهالك برؤية البصر وَالْفُؤادَ الذي هو اصل في إنشاء الكواذب والمزورات كُلُّ أُولئِكَ اى كل واحد واحد من القوى الثلاثة قد كانَ يوم القيمة عَنْهُ مَسْؤُلًا فتقر وتشهد تلك القوى بعد ما سئل عنها عن جميع ما صدر منها من المعاصي فيفتضح صاحبها على رؤس الاشهاد وَبالجملة لا تَمْشِ ايها الطالب لعدالة التوحيد والعرفان فِي الْأَرْضِ التي قد أعدت للتذلل والانكسار والتواضع والخشوع مَرَحاً ذا كبر وخيلاء وكيف تختال وتتكبر عليها ايها المهان المخلوق من المهين إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ بشدة قوتك ووطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ باستعلائك واستكبارك طُولًا اى من جهة الطول والعلو ولن تبقى مرة متطاولة عليها حتى تستعلى أنت بها على من دونك وبالجملة لا تتكبر ولا تتجبر ايها العاجز الضعيف مع ضعفك وقصر عمرك ودناءة مادتك وبالجملة كُلُّ ذلِكَ من النواهي المذكورة من قوله لا تجعل مع الله الها آخر الى هنا قد كانَ سَيِّئُهُ اى ثبت وتحقق كون كل واحدة منها سيئة وإثما عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل لذلك قد كان مَكْرُوهاً منهيا عنه مبغوضا عليه من لدنه سبحانه ذلِكَ المذكور من الاحكام المتقدمة من أول السورة الى هنا مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل تربية لك وتأييدا لأمرك مِنَ الْحِكْمَةِ المتقنة التي يجب الامتثال والاتصاف بها على من أراد سلوك سبيل التوحيد المبنى على عدالة الأخلاق والأطوار والشئون وَاعلموا ان معظم المنهيات والمحظورات الشرك بالله العياذ به منه لذلك كرره سبحانه تأكيدا ومبالغة وبالغ في الاحتراز عنه حيث قال لا تَجْعَلْ ولا تتخذ مَعَ اللَّهِ المتوحد المتفرد في ذاته المعبود بالحق والاستحقاق إِلهاً آخَرَ يعبد له كعبادته وان اتخذت الها سواه فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ البعد والخذلان حال كونك مَلُوماً تلوم أنت نفسك بأنواع الملامات بما ضاع عنك من التوحيد المنجى عن عموم المضايقة والمهالك مَدْحُوراً مبعدا عن رحمة الله وسعة فضله وإحسانه أَتزعمون ايها المشركون المستكبرون ان الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء قد فضلكم على نفسه فَأَصْفاكُمْ واصطفاكم على ذاته بحيث قد خصصكم واجتباكم رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ الذين هم أكرم الأولاد وأشرفها وَاتَّخَذَ وأخذ لنفسه اولادا مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً نواقص عقلا ودينا إِنَّكُمْ ايها المسرفون باقدامكم واجترائكم على الله وعلى ملائكته الذين هم اشرف

[سورة الإسراء (17) : آية 41]

مخلوقاته بأمثال هذه الهذيانات الباطلة لَتَقُولُونَ في حق الله وفي حق أولئك الأصفياء الأمناء قَوْلًا عَظِيماً بهتانا وزورا تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا إذ نسبة الأولاد الى الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن مطلق الأشباه والأنداد في نهاية الشناعة والفساد واشنع منه نسبة الإناث اليه ثم نسبة الملائكة الذين هم من أفضل عباد الله وأشرفهم الى الأنوثة المستحقرة المذمومة شرعا وعقلا هذا مع غاية الإفراط في حق الله والتفريط في حق خلص عباده لذلك وصف سبحانه هذا القول الشنيع بالعظمة ثم قال سبحانه توبيخا لهم وتقريعا واشارة الى تناهيهم في الضلال والطغيان وَلَقَدْ صَرَّفْنا وكررنا مرارا شناعة هذا القول اى نسبة الولد الى الله الصمد المنزه في ذاته عن الأهل والولد وكذا أمثاله وأضرابه من الهذيانات التي لا يليق بجنابه فِي هذَا الْقُرْآنِ المنزل لهداية اهل الغي والضلال لِيَذَّكَّرُوا اى ليتذكروا ويتعظوا ويتفطنوا الى وخامة عواقبه ومآله ومع ذلك لم يتذكروا ولم يتفطنوا بل وَما يَزِيدُهُمْ ذلك التكرار والمبالغة إِلَّا نُفُوراً اعراضا عن الحق وإصرارا على ما هم عليه من الباطل قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا لَوْ كانَ مَعَهُ سبحانه آلِهَةٌ أمثاله كَما يَقُولُونَ وتدعون أنتم ايها المشركون المدعون المعاندون انهم معبودون بالحق مستحقون للعبادة كما زعمتم إِذاً لَابْتَغَوْا ولطلبوا تلك الالهة البتة إِلى معاداة ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ليغلبوا عليه ويستولوا على ملكه كما يتخيل الولاة بعضهم بالنسبة الى بعض وإذا عجزوا عن مماراته ومقابلته لم يكونوا مثله فلم يستحقوا للعبادة المطلقة مثله سُبْحانَهُ اى نزه سبحانه ذاته تنزيها بليغا وقدسه تقديسا متناهيا في القدس والنزاهة وَتَعالى اى ترفع وتعاظم عَمَّا يَقُولُونَ هؤلاء الظالمون المسرفون المفرطون في شانه من اثبات الشريك المماثل له والكفو المتكافئ معه عُلُوًّا كَبِيراً اى تعاليا وتباعدا في غاية البعد والاستحالة والامتناع إذ لا موجود سواه ولا اله غيره وكيف تغفلون وتذهلون عن دلائل توحيد الحق وشواهد استقلاله ايها الضالون المضلون مع انكم أنتم مجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد مخلوقون على جبلة اليقين والعرفان ومع ان عموم المظاهر ينزهون ذاته عن مطلق النقائص حالا ومقالا إذ تُسَبِّحُ لَهُ وتقدس ذاته عن الشريك والولد والكفو والنظير السَّماواتُ السَّبْعُ المطبقة المعلقة المنضدة المنظومة على ابلغ النظام وأعجبه مع ما فيها من الكواكب المختلفة الألوان والأشكال والمنازل والحركات والآثار المترتبة عليها ومع ما فيها من عجائب المخلوقات وغرائب المبدعات والمخترعات التي لا علم لنا الا بانياتها دون لمياتها كل ذلك يدل على وحدة مظهرها وبارئها وتفرد موجدها وَالْأَرْضُ وما عليها من انواع النباتات والمعادن والحيوانات التي قد عجزت عن عدها وإحصائها ألسنة اولى البصائر والنهى المعتبرين المتأملين في مصنوعات الحق وعجائب مخترعاته وَكذا مَنْ فِيهِنَّ من الملائكة والثقلين المجبولين على عبادة الحق وعرفانه وَبالجملة إِنْ مِنْ شَيْءٍ وما من ذرة يطلق عليه اسم الشيء ويمتد عليه ظل الوجود إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ اى يقدس ذاته وينزهه عن شوب الحدوث والإمكان بعضه بلسان الحال وبعضه بلسان القال سيما عن أقوى امارات الإمكان التي هي الإيلاد والاستيلاد وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ ولا تفهمون أنتم ايها المنهمكون في الغي والضلال تَسْبِيحَهُمْ لعدم التفاتكم واشتغالكم بالتدبر والتأمل في مصنوعات الحق والتفكر في آياته بل تنكرونها وتصرون على القدح فيها عنادا ومكابرة وتشركون بالله العياذ به منه أندادا وبذلك قد استوجبتم أشد العذاب وأسوأ النكال فامهلكم الله إِنَّهُ كانَ حَلِيماً

[سورة الإسراء (17) : آية 45]

لا يعجل بالانتقام والعقوبة رجاء ان تتفطنوا وترجعوا نحوه بالتوبة والندم على الإخلاص فيغفر زلتكم كلها انه كان غَفُوراً للأوابين الرجاعين نحوه بكمال الندم والإخلاص وان عظمت زلتهم وكبرت معصيتهم وَمن كمال لطفنا معك يا أكمل الرسل وغاية حفظنا وحراستنا إياك إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ واستغرقت في لجج رموزه وإشاراته وخضت في تيار بحره الزخار لطلب فرائد فوائده وصرت من غاية استغراقك وتلذذك به وبما فيه الى ان غبت عن محافظة نفسك ومراقبة حالك إذ قد جَعَلْنا حسب حفظنا وحضانتنا لك بَيْنَكَ وَبَيْنَ القوم الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ولا يوقنون بالأمور المترتبة عليها فيها حِجاباً غليظا وغشاء كثيفا مَسْتُوراً نسترك به عن أعين أعدائك القاصدين لك سوء مع انهم لا يرون الحجب ايضا روى سعيد بن جبير رضى الله عنه انه لما نزلت تبت يد ابى لهب السورة جاءت امرأة ابى لهب بحجر لترضح به رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس مع ابى بكر رضى الله عنه فسألته اين صاحبك لقد بلغني انه هجانى فقال ابو بكر ما نطق صاحبي بالشعر قط ثم قال أبو بكر ما رأتك يا رسول الله فقال عليه السّلام لم يزل ملك بيني وبين أعدائي انا أراهم وهم لا يرونني وَكيف لا يكون الكافر محجوبا مستورا عن سرائر القرآن ومرموزاته إذ قد جَعَلْنا وغطينا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً واغطية كثيفة تمنعهم عن أَنْ يَفْقَهُوهُ ويفهموا معناه وَايضا قد جعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً صمما وثقلا يمنعهم عن استماع ألفاظه حتى لا يتأملوا ولا يتدبروا في معناه وَمن غلظ غشاوتهم وكثافة حجبهم وأكنتهم إِذا ذَكَرْتَ أنت رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ منفردا بلا ذكر آلهتهم الباطلة وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ وانصرفوا من حولك معرضين كارهين نُفُوراً متنفرين ساخطين عليك ولا تبال يا أكمل الرسل بهم وبسماعهم واستماعهم وعدمه ولا تلتفت أنت نحوهم قط إذ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ اى بغرضهم المتعلق باستماعهم الذي هو الاستهزاء والسخرية وقت إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَكيف لا يكونون مستهزئين مستسخرين إِذْ هُمْ حين استماعهم كلامك نَجْوى اى ذو ومناجاة يضمرون في نفوسهم مقتك وهلاكك واقله الاستهزاء معك اذكر إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ منهم على سبيل العناد والمكابرة لأهل العدل والتوحيد إِنْ تَتَّبِعُونَ وما تقتفون أنتم ايها الضالون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً قد سحر به فجن فاختلط كلامه وذهب عقله وتكلم من تلقاء نفسه كلاما لا يشبه كلام العقلاء انْظُرْ ايها الناظر بنور الله المؤيد من عنده كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ الحشوة البتراء من غاية اضطرابهم وتهالكهم مرة يقولون انك شاعر ومرة ساحر ومرة كاهن ومرة مجنون وبالجملة فَضَلُّوا عن طريق الحق في عموم ما نسبوا إليك والى ما جئت به من الكلام المعجز في أعلى مراتب الاعجاز فَلا يَسْتَطِيعُونَ الى مقتك وقدح كتابك سَبِيلًا واضحا موجها سوى هذه الهذيانات الباطلة بل قد خبطوا في جميعها خبط عشواء فضلوا عن السبيل السواء وَمن غاية انهماكهم في الغي والضلال ونهاية انكارهم بحقية القرآن وبما فيه من احوال يوم القيمة وأهوالها وافزاعها قالُوا مستبعدين متعجبين على سبيل التهكم والاستهزاء أَإِذا كُنَّا عِظاماً يعنى انبعث ونحيي بعد ما قد صرنا عظاما بالية رميمة وَرُفاتاً غبارا مرفوتا مشتوتا تذروه الرياح أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ محشورون من قبورنا خَلْقاً آخر جَدِيداً معادا للخلق الاول لا مثلا له بل عينا بلا مغايرة له أصلا كلا وحاشا من اين يتأتى لنا

[سورة الإسراء (17) : آية 50]

هذا قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم إلزاما لهم وتبكيتا لا تستبعدوا ايها الضالون المعاندون أمثال هذا البعث والأحياء عن قدرة الله في الأشياء التي قد عهد حياتها من قبل إذ لا بعد ولا غرابة فيها بل كُونُوا حِجارَةً هي ابعد بمراحل عن قبول الحيوة أَوْ حَدِيداً هو أشد بعدا منها أَوْ خَلْقاً آخر مثلا هو ايضا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ويستحيل في نفوسكم اتصافه بالحيوة فالله القادر المقتدر بالقدرة الغالبة الكاملة والقوة الشاملة قادر على احيائه وإيجاده ان تعلقت ارادته ومضت مشيته ونفذت حكمه وقضاؤه على تكوينه وإظهاره وبعد ما أفحموا عن سماع الحجة القوية وانحسرت عقولهم عن المقابلة معها فَسَيَقُولُونَ مستفهمين عن تعيين الحق المبدئ المعيد على سبيل الإنكار مَنْ يُعِيدُنا بعد موتنا وبعد صيرورتنا عظاما ورفاتا قُلِ يا أكمل الرسل يعيدكم الَّذِي فَطَرَكُمْ وأظهركم من كتم العدم أَوَّلَ مَرَّةٍ إظهارا إبداعيا وإيجادا اختراعيا بلا سبق مادة ومدة فاعادتكم أهون عليه من ابدائكم وابداعكم وبعد ما سمعوا منك قولك فَسَيُنْغِضُونَ ويحركون إِلَيْكَ ايها المؤيد من عند الله لإلزام أولئك الغواة الطغاة الهالكين في تيه المكابرة والعناد رُؤُسَهُمْ على وجه الاستهزاء والاستبعاد وَيَقُولُونَ حينئذ مستسخرين مَتى هُوَ مع ان الأنبياء الماضين يدعون مثلك قيامها ووقوعها فلم تقع بعد وأنت ايضا تدعى فلا تقع وبالجملة ما هي الا مجرد الدعوى منك ومنهم بلا وقوع ولا ورود قُلِ لهم يا أكمل الرسل عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً يعنى بعد ما قد ختم امر الرسالة والتشريع وكمل بناء الدين وشيد أركانه وبنيانه فقد قرب وقوعها فانتظروا ايها المؤمنون المصدقون ليوم الحشر والنشر مترصدين مترقبين يَوْمَ يَدْعُوكُمْ الله للبعث والحشر فَتَسْتَجِيبُونَ له أنتم طائعين راغبين ملتبسين بِحَمْدِهِ معترفين بكمال قدرته ووفور حوله وقوته وَتذكروا من طول ذلك اليوم وشدة أهواله وافزاعه على الكافرين ومن داوم عيشه وحضوره عليكم قد تَظُنُّونَ أنتم وتعتقدون فيه حين حضوركم إِنْ لَبِثْتُمْ وما أقمتم وما سكنتم في النشأة الاولى إِلَّا قَلِيلًا يعنى تستقلون وتستقصرون مدة لبثكم في الدنيا يعنى مع كثرة شدائد يوم القيمة وأهوالها على الكفرة ودوام عيشها على المطيعين وَقُلْ يا أكمل الرسل على سبيل العظة والتذكير وتهذيب الأخلاق وتصفية الباطن لِعِبادِي يعنى المؤمنين الموقنين بشئونى وظهوري حسب تجلياتى في الاولى والاخرى الكاملين المكملين الراشدين المرشدين إذا أرادوا هداية التائهين في بحر الغفلة والضلال يَقُولُوا كل منهم وقت تذكيرهم وتنبيههم رفقا لهم وتليينا لقلوبهم بالكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الكلمات وألينها وأتمها نفعا وأقربها للقبول لا بالتي هي أخشن واغلظ لتكون مدخلا للشيطان مثيرة للفتن والطغيان إِنَّ الشَّيْطانَ المضل المغوى يَنْزَغُ ويوقع الفتنة بَيْنَهُمْ اى بين المرشد والمسترشد ويهيجها ويثيرها الى ان ادى الأمر الى المشاجرة والمقاتلة وانواع الخصومات المخلة للحكمة المقصودة من امر النبوة والرسالة والكلمة الغليظة كثيرا ما تفضى إليها فيفوت الغرض الأصلي منها وبالجملة إِنَّ الشَّيْطانَ قد كانَ في اصل فطرته وجبلته خلق لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة مستمر الفتنة بحيث لا يرجى رفع عداوته أصلا فلكم ايها الهادون الناصحون ان لا تغلظوا ولا تخشنوا في دعوة الناس الى طريق الحق ولا تبالغوا ايضا في إرشادهم وهدايتهم إذ ما عليكم الا تبليغ ما أمرتم بتبليغه وليس في وسعكم وطاقتكم رشدهم وهدايتهم البتة إذ هو مبنى على العلم باستعداداتهم وقابلياتهم ولا علم

[سورة الإسراء (17) : آية 54]

لكم ايها الناصحون عليها بل رَبُّكُمْ الذي رباكم أَعْلَمُ بِكُمْ ايها المجبولون على فطرة المعرفة والايمان إِنْ يَشَأْ هدايتكم يَرْحَمْكُمْ بمقتضى جوده ويوفقكم على قبول الايمان وحصول العرفان عناية منه وفضلا أَوْ إِنْ يَشَأْ غوايتكم يُعَذِّبْكُمْ ويبقكم في تيه الحرمان والخذلان خاسرين خائبين بمتابعة الشيطان وَبالجملة ما أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل وأفضل البرايا مع انك لولاك لما خلقنا الأفلاك إذ كل ما في العالم من المظاهر مربوط منوط بمرتبتك المحيطة الجامعة للكل ومع ذلك ما جعلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ليكون أمورهم كلها موكولا إليك بحيث إذا أردت أنت هداية بعض وضلال آخرين فيقع مرادك بلا خلف بل ما أرسلناك الا مبلغا بشيرا ونذيرا وما عليك الا البلاغ وعلينا الإصلاح او الإفساد إذ نحن بكمال استغنائنا عن مطلق مظاهرنا ومصنوعاتنا مستقلون في تدبيرات امور ملكنا وملكوتنا وشهادتنا وغيبنا وجبروتنا وناسوتنا ولاهوتنا وَبالجملة رَبُّكَ يا أكمل الرسل أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى باستعدادات الملائكة السماويين والارضيين وقابليات الثقلين السفليين وَلعلمنا باستعدادات عموم عبادنا لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بسنة سنية وخصلة حميدة مثل تفضيلنا ابراهيم بالخلة وكمال الحلم ولوقار ونهاية الخشية والطمأنينة وموسى بالتكليم وسائر المعجزات وعيسى بأنواع الارهاصات والكرامات والمعجزات من الارتقاء نحو السماء والتكلم في غير أوانه ووجوده بلا أب وسليمان بالملك العظيم وقد فضلناك يا أكمل الرسل بخصائص ما أعطينا الأنبياء الماضين ولا أحدا من العالمين من شق القمر والمعراج الصوري والمعنوي وغير ذلك من الكمالات العلية والكرامات السنية التي لا تكاد تحصى وَمن جملة تفضيلنا إياهم ايضا انا قد آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً مشتملا على انواع الحكم وفصل الخطاب سيما على القاب خاتم الرسالة ومتمم مكارم الأخلاق صلّى الله عليه وسلّم وعلى نسخ دينه عموم الأديان وكتابه جميع الكتب وكون أمته اشرف الأمم ودينه أكمل الأديان قُلِ يا أكمل الرسل للمشركين الذين يدعون آلهة غير الله ويعبدونهم كعبادته على سبيل التعجيز والتقريع ادْعُوا عند نزول البلاء وهجوم المحن والعناء عليكم شركاءكم الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنتم آلهة مِنْ دُونِهِ اى من دون الله سبحانه حتى ينقذوكم من الشدة والبأس وأنتم وان بالغتم في الدعاء والتوجه نحوهم والالتجاء إليهم فَلا يَمْلِكُونَ اى فهم لا يملكون ولا يقدرون يعنى آلهتكم كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ فكيف عنكم بل عن أنفسهم وَلا تَحْوِيلًا دفعا وترديدا منكم الى غيركم إذ أُولئِكَ الفقراء الضعفاء الَّذِينَ يَدْعُونَ إليهم ويدعونهم آلهة كالملائكة وعيسى وعزير عليهم السّلام يَبْتَغُونَ ويطلبون من شدة احتياجهم إِلى رَبِّهِمُ الذي أوجدهم وأظهرهم من كتم العدم الْوَسِيلَةَ المقربة لهم اليه سبحانه من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية المقبولة عند الله ليظهر لهم أَيُّهُمْ أَقْرَبُ اليه واقبل عنده وَمع ذلك يَرْجُونَ في مناجاتهم وكذا خلال خلواتهم وصلواتهم مع ربهم رَحْمَتَهُ بمقتضى فضله ولطفه وَيَخافُونَ عَذابَهُ بمقتضى قهره وعدله إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل قد كانَ مَحْذُوراً واجب الحذر لكل من دخل تحت حيطة التكليف الإلهي سواء كان نبيا او وليا. ثم قال سبحانه وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ اى ما من قرية من القرى الهالكة إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها بالخسف او الكسف او الزلزلة او الطاعون او غير ذلك قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كالقتل والنهب والأسر وانواع البلايا والمصيبات قد كانَ ذلِكَ الإهلاك

[سورة الإسراء (17) : آية 59]

والتعذيب فِي الْكِتابِ الذي هو عبارة عن حضرة علمنا ولوح قضائنا مَسْطُوراً على التفصيل الذي وقع ويقع بلا مخالفة أصلا وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ما صرفنا عن إرسال الآيات المقترحة عنك يا أكمل الرسل وعن الإتيان بها إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا وبأمثالها الْأَوَّلُونَ اى الأمم الماضون بعد إتيان ما اقترحوا عتوا وعنادا فاستأصلناهم بتكذيبهم وعنادهم إذ من سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة استئصال المقترحين المكذبين على انبيائنا سيما بعد إتياننا إياهم بمقترحاتهم فلو حصل مقترحات هؤلاء المقترحين ايضا ليكذبونك البتة فلزم حينئذ إهلاكهم واستئصالهم على مقتضى سنتنا المستمرة لكن قد مضى حكمنا على ان لا ننتقم من مكذبيك في النشأة الاولى لان منهم من يؤمن ومنهم من يولد مؤمنا لذلك ما جئنا بمقترحاتهم وَاذكر لهم يا أكمل الرسل ان كانوا شاكين مترددين فيما ذكرنا بعض قصص الأمم الماضية المشهورة في الآفاق وذكرهم كيف آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ المقترحة حين اقترحوا على نبينا صالح عليه السّلام بإخراجها من الحجر المعين فأخرجها منه باذن الله وبكمال قدرته حال كون أعينهم مُبْصِرَةً خروجها منه ومع ذلك فَظَلَمُوا بِها اى بالناقة بعد ما أمرهم سبحانه بمحافظتها ورعايتها على لسان صالح عليه السّلام فكذبوه فعقروها واستأصلناهم لأجلها وبالجملة أمثالهم من الأمم الهالكة بتكذيبهم بعد إتيان ما اقترحوا اكثر من ان تحصى وَبالجملة ما نُرْسِلُ وما نأتى بِالْآياتِ المقترحة حين نأتى بها إِلَّا تَخْوِيفاً من نزول العذاب المهلك المستأصل على المقترحين وَاذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين وقت إِذْ قُلْنا موحيا لَكَ مسليا عليك لا تحزن من كثرة عدد عدوك وعددهم ولا تخف من شوكتهم وصولتهم إِنَّ رَبَّكَ الذي اصطفاك من بين البرية للرسالة العامة قد أَحاطَ بِالنَّاسِ احاطة ذوات الظل بأظلالها وذوات الصورة بعكوسها فهم مقهورون تحت قبضة قدرته يفعل بهم حسب ارادته ومشيئته فامض أنت يا أكمل الرسل على ما أمرت بلا خوف وتردد فلك الاستيلاء والغلبة عليهم وَايضا ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي قد أَرَيْناكَ حين نزولك ماء بدر وأصبحت تقول مشيرا بإصبعك هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان فأخبرت قريش بقولك واشارتك الى مصارعهم فاستهزءوا بك واستبعد بعض المؤمنين ايضا ذلك إِلَّا فِتْنَةً واختبارا لِلنَّاسِ هل يؤمنون بك ويصدقون قولك أم يكذبونك ينكرون بك ثم لما وقع الأمر على الوجه الذي اريتك في منامك اطمأن المؤمنون وازدادوا يقينا وإخلاصا وجحد الكافرون وازدادوا شقاقا ونفاقا ونسبوا أمرك هذا بعد ما وقع جزما الى السحر والكهانة والرجم بالغيب عنادا ومكابرة وَايضا ما جعلنا الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ المكروهة التي يلعنها كل من يذوقها ويطعمها الا وهي الزقوم المنبت على شفير الجحيم لذلك قد لعنت فِي الْقُرْآنِ حتى يحترز المؤمنون عن الأعمال المقربة إليها الموجبة لاكلها الا فتنة للناس وابتلاء لذلك لما سمعت قريش بشجرة الزقوم جعلوها منشأ الهزل والسخرية مع الرسول عليه السّلام حتى قال ابو جهل ان محمدا يخوفنا عن نار تحرق الحجارة ويزعم انها تنبت الشجرة وقد علمتم ان النار تحرق الشجر وما هي الا فرية بلا مرية. ثم اعلم ان الأمور الدينية سيما المعتقدات الاخروية كلها تعبدية فلو ظهر لها وجه عقلي فبها ولو لم يظهر لزم الإطاعة والانقياد بها على سبيل التعبد والتسليم من الصادق الصدوق مع ان نبت الشجر في النار مما لا يمتنع عقلا ايضا إذ وجود الحيوان في النار ابعد من وجود النبات فيها وحكاية الدويبة المعروفة التي يقال لها سمندر وعيشها في النار كالسمك في الماء متى خرج منها مات واتخاذ الناس من شعرها

[سورة الإسراء (17) : آية 61]

منديلا متى اتسخت وتكدرت طرحت على النار فاحترقت اوساخها وأخرجت سالمة نظيفة منها مشهور معروف لا شك في وقوعها واعجب من ذلك ابتلاع النعامة الجمر والجذوة والحديد المحماة المحمرة بالنار ولا تضرها أصلا وَمن قساوة قلوب أولئك الغواة وغلظ حجبهم نُخَوِّفُهُمْ بأنواع المخاوف الدنيوية والاخروية فَما يَزِيدُهُمْ تلك التخويفات الهائلة إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً متجاوزا عن الحد غاية التجاوز لشدة عمههم وعتوهم وَليس طغيانهم وإصرارهم عليه الا بتسويلات الشياطين وتغريراتهم بمقتضى العداوة القديمة والخصومة المستمرة بين الشيطان وبنى آدم اذكر وقت إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ بأجمعهم بعد ما جاءوا بما جاءوا من الحجج والدلائل الدالة على عدم لياقة آدم بالخلافة والنيابة الى ان أفحموا والزموا اسْجُدُوا لِآدَمَ وتذللوا عنده ولا تجادلوا في حقه انا قد اخترناه لخلافتنا ونيابتنا فَسَجَدُوا سجود تواضع وتكريم امتثالا للأمر الوجوبي بعد ما تمادوا في إيراد الحجج والمناقضات استحياء منه سبحانه ورهبة من سطوة قهره بالإعراض عن امره وما خالف امر الله منهم إِلَّا إِبْلِيسَ فانه أصر على الإنكار ولم يرغب بامتثال المأمور بل قد زاد على الجدال والنزاع حيث قالَ مستبعدا مستنكرا أَأَسْجُدُ وأتذلل مع نجابة أصلي وشرف عنصري لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً اى لمن انشأته وصورته من طين منتن مذموم مرذول لا شرف له ولا نجابة وبالجملة ما هي الا تفضيل المفضول وتكريم المهان المرذول ثم لما طرده الحق عن ساحة عز الحضور وأخرجه من بين الملائكة ولعنه لعنة مؤبدة الى ان ايس عن القبول مطلقا قالَ إبليس معترضا على الله مسيأ الأدب معه سبحانه مستفهما على سبيل الاستبعاد والاستنكار أَرَأَيْتَكَ اى أخبرني يا مولاي عن وجه كرامة هذَا القالب المستحقر المسترذل الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ وأمرتني بسجوده وطردتني لأجله طردا مخلدا بناء على انه يعبدك ويعرفك ويوحدك حق توحيدك ويقدسك حق تقديسك وتنزيهك وبالجملة هو يتفطن على حق قدرك وقدر حقيتك والله بحق عظمتك وجلالك لَئِنْ أَخَّرْتَنِ وأبقيتني فيما بينهم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ المعدة لتنقيد الأعمال وعرضها على جنابك لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ولأضلنهم ولأغوينهم بأنواع الإغواء والإغراء بحيث امحون أسماءهم عن دفتر المؤمنين فكيف عن زمرة العارفين المكاشفين المشاهدين لان تركيبهم وبنيتهم هذه تقتضي انواع الفسادات واصناف العصيان والضلالات ولى فيهم مداخل كثيرة اوسوسهم واغريهم الى حيث أضلهم واغويهم عن منهج الرشد ومسلك السداد إِلَّا قَلِيلًا منهم فإنهم قد ثبتوا على ما جبلوا له بلا قدرة منى على اغوائهم لكونهم مؤيدين من عندك موفقين من لدنك ثم لما سمع سبحانه منه ما سمع قالَ سبحانه ساخطا عليه مغاضبا طاردا له أشد طرد وتبعيد اذْهَبْ يا ملعون فقد امهلناك فيما بينهم الى قيام الساعة فلك ان تفعل بهم ما تفعل فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ بعد ما قد جبلناهم على فطرة التوحيد والمعرفة ومع ذلك قد أرسلنا عليهم الرسل المنبهين المرشدين لهم طريق الهداية والرشد وأنزلنا عليهم من لدنا الكتب المبينة لهم احوال المبدأ والمعاد ومع ذلك يتركون متابعة الكتب والرسل ويتبعون لك ويقتفون اثرك فهم حينئذ خارجون عن زمرة عبادنا الصالحين لاحقون بك مستحقون بما استحققت به أنت وأعوانك من الجزاء فَإِنَّ جَهَنَّمَ الطرد والحرمان وانواع المذلة والخذلان حينئذ جَزاؤُكُمْ تابعا ومتبوعا ضالا ومضلا جَزاءً مَوْفُوراً مستوفى وافرا وافيا لا مزيد عليه مؤبدا مخلدا لا نجاة لكم منها وَبعد ما قد سمعت

[سورة الإسراء (17) : آية 65]

جزاءك وجزاء من تبعك منهم اسْتَفْزِزْ ايها المطرود الملعون وحرك عن مواضع الثبوت والقرار وزلزل عن جادة التوحيد والمعرفة مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ وتمكنت على اضلالهم عن طريق الحق بِصَوْتِكَ اى بمجرد ان تصوت عليهم فتنحرفوا من غاية ضعفهم في الايمان وَان لم تقدر ولم تظفر عليهم بمجرد صوتك لرسوخهم وتمكنهم في الجملة أَجْلِبْ اى صح وصوّت عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ اى بركبان أعوانك وجنودك وَرَجِلِكَ اى بمشاتهم ورجالهم وَبالجملة تمم وأوفر جميع حيلك ومكرك مهما أمكنك حتى تستفزهم وتضعضعهم من مقر الايمان والعرفان وان شئت اتحادهم واخاءهم شارِكْهُمْ فِي جميع الْأَمْوالِ اى علمهم السرقة والغصب وقطع الطريق والربوا والحيل المشهورة المعروفة في هذا الزمان بالحيل الشرعية التي قد وضعها المتفقهة المتفسقة خذلهم الله من تلقاء أنفسهم الخبيثة الدنية ونسبوها الى الشريعة البيضاء المصطفية والملة الزهراء الزكية الخليلية وَشاركهم ايضا في الْأَوْلادِ اى علمهم طريق الاباحة والاستباحة وتحليل المحرمات المؤدية الى تخليط الأنساب وامتزاج المياه كما ابتدعها اهل التلبيس والتدليس من المتشيخة الذين هم من جنودك يا ملعون اهلكهم الله وقهر عليهم مثل ما لعنك وقهر عليك وَان شئت عِدْهُمْ بالمواعيد الكاذبة التي قد مالت إليها نفوسهم واقتضت شهواتهم من ترك التكاليف والأعمال الشاقة من الفرائض والسنن والآداب الشرعية والنوافل المقربة نحو الحق والإنكار على النشأة الآخرة وما يترتب عليها من الأمور المسئولة عنها والمؤاخذة عليها وكذا بإنكار الجنة والنار وغيرها وَبالجملة ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ المضل المغوى وما يزين ويحسن لهم إِلَّا غُرُوراً تزيينا وتحسينا للباطل بصورة الحق وادعاء الحقية والحقيقة له ليغريهم بها ويضلهم بسببها عن طريق الحق وبالجملة افعل بهم ايها الحريص على اضلالهم ما شئت من المكر والحيل وانواع الخداع وهم ان كانوا من زمرة ارباب الإيقان والاطمئنان المقررين في مقر التوحيد والعرفان الموفقين عليه من لدنا لا يتبعونك البتة ولا يقبلون منك وسوستك وهذياناتك وبالجملة ليس لك عليهم سلطان أصلا وان كانوا من المطبوعين المختومين من عندنا المجبولين على الضلالة والغواية من لدنا فيتبعونك ويقتفون اثرك فلحقهم ما لحق بك وهم من جنودك واتباعك فلا نبالى بهم وبخروجهم عن زمرة عبادنا المخلصين وبالجملة من لم يجعل الله له نورا فماله من نور. ثم قال سبحانه إِنَّ خلص عِبادِي أضافهم سبحانه الى نفسه لكمال إخلاصهم واختصاصهم لَيْسَ لَكَ ايها المضل المغوى عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ اى حجة واستيلاء تغلبهم بها عليهم سيما الذين اتخذوني خليلا وأخذوني حسيبا وكفيلا وَبالجملة كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا يعنى كفى ربك كفيلا حفيظا يتوكلون عليه مخلصين ويستعيذون نحوه من اغوائك واغرائك ايها الطاغي ملتجئين اليه وكيف لا يحفظكم ولا يعيذكم ايها المؤمنون المخلصون عما يؤذيكم ويقصد مقتكم رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي اى يسرى ويجرى لَكُمُ الْفُلْكَ الجارية فِي الْبَحْرِ بتيسيره وتسهيله عناية منه إياكم لِتَبْتَغُوا وتطلبوا مِنْ فَضْلِهِ ما يوسع لكم طريق المعاش من انواع التجارات والأرباح واستخراج اصناف الجواهر منه وغير ذلك إِنَّهُ سبحانه من كمال جوده وسعة رحمته كانَ بِكُمْ رَحِيماً مشفقا عطوفا سيما بعد اتكالكم عليه سبحانه على وجه الإخلاص وَمما ارتكز في نفوسكم ورسخ في قلوبكم انكم إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ بان عرض لمركبكم ما يوجب كسرها وغرقها وصرتم فيها حيارى سكارى بحيث ضَلَّ وغاب عنكم

[سورة الإسراء (17) : آية 68]

جميع مَنْ تَدْعُونَ وتستغيثون منه لو كنتم في البر وما بقي معكم من الامتعة والبضاعات التي تتوسلون بها لإنقاذكم حال كونكم في البر إِلَّا استعانتكم واستغاثتكم إِيَّاهُ سبحانه فانه بذاته لا يغيب عنكم ولا يفارقكم بحال من الأحوال إذ هو اقرب إليكم من حبل وريدكم فما تستغيثون ولا تستعينون إلا منه إذ لا مغيث لكم سواه حينئذ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ وخلصكم سبحانه عن تلك المضايق الهائلة وأوصلكم إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عنه سبحانه وصرتم متعلقين بما معكم من الامتعة والاعراض وَبالجملة قد كانَ الْإِنْسانُ في اصل فطرته خلق كَفُوراً لأنعم الله هلوعا إذ امسه الشر جزوعا نحو الحق وإذ امسه الخير كفورا منوعا معرضا عنه منكرا له أَأعرضتم عنه سبحانه سيما بعد انجائه وإنقاذه إياكم فَأَمِنْتُمْ عن قهره وسخطه حين وصلتم الى البر مع انه سبحانه قادر على إهلاككم في البر ايضا اما تخافون أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ اى يقلب عليكم الأرض كما خسفها على قارون أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ ريحا شديدا حاصِباً فيها حصباء نرميكم ونرجمكم بها كما رجمنا قوم لوط ثُمَّ بعد ما اخذناكم في البر بأمثال هذه البليات لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا حفيظا يحفظكم عن أمثال هذه المصيبات او يشفع لكم بتخفيفها وكشفها سوى الله الواحد الأحد القادر المقتدر القيوم المطلق أَمْ أَمِنْتُمْ ايها القاصرون عن ادراك قدر الله وكمال قدرته عن أَنْ يُعِيدَكُمْ ويلجئكم الى الرجوع فِيهِ اى في البحر تارَةً أُخْرى بأسباب ووسائل لا تخطر ببالكم فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ في الكرة الاخرى لاخذكم وانتقامكم قاصِفاً كاسرا مِنَ الرِّيحِ لتكسر مركبكم فَيُغْرِقَكُمْ فيه بِما كَفَرْتُمْ عند النجاة عن مثله في الكرة الاولى ثُمَّ بعد ارجاعنا الى البحر واغراقنا فيه على نحو انعامنا وانجائنا من قبل لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً اى لا تجدوا ناصرا ومعينا لكم يظهر علينا ويجترئ باخذنا إياكم وانتقامنا عنكم ويطالب عنا قصاص ما فعلنا بكم إذ لا راد لفعلنا ولا معقب لحكمنا ولا معين ولا مستعان لكم سوانا نفعل ما نشاء ونحكم ما نريد. ثم قال سبحانه على سبيل الانعام والامتنان وَلَقَدْ كَرَّمْنا وفضلنا بَنِي آدَمَ بأنواع الكرامة والتفضيل على سائر المخلوقات من حسن الصورة والسيرة واعتدال المزاج واستواء القامة والعقل المفاض المنشعب من العقل الكل الذي هو حضرة العلم الحضوري الإلهي وكذا بالقدرة والارادة وسائر الصفات المترتبة على الصفات الذاتية الإلهية ليشعر بخلافته ونيابته وَمع ذلك قد حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ بركوب النجائب من الخيل والبغال والبعير وغير ذلك وَفي الْبَحْرِ بركوب الجواري والسفن وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اى الأطائب التي يكسبونها بأيديهم بمقتضى اقدارنا إياهم واعدادنا لهم اسباب مكاسبهم وابحنا لهم ما تستلذ به نفوسهم وتشتهي قلوبهم على وفق ما نطق به السنة رسلهم وكتبهم وَبالجملة قد فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا والقليل المستثنى هم الملائكة المقربون المهيمون المستغرقون بمطالعة جمال الله وجلاله وان كان الوالهون الهائمون من افراد الإنسان في ولاء الله ومحبته المكاشفون بسر الخلافة والنيابة التي اخبر بها الحق الواصلون الى مرتبة الفناء الذاتي بالموت الإرادي أفضل منهم ايضا وارفع رتبة ومكانة وانما كرمناهم وفضلناهم بما فضلناهم لحكم ومصالح تقتضيها ذاتنا وهي انا أردنا ان نطالع ذاتنا المتصفة بعموم أوصاف الكمال ونعوت الجمال والجلال في مظهر تام كامل لائق لمرآتيتنا وخلافتنا فاظهرناهم وكرمناهم لأجل هذه الحكمة العزيزة والمصلحة الشريفة فمن لم يبلغ منهم الى هذه المرتبة العلية والدرجة السنية بسلوكه الذي قد ارشدناه اليه

[سورة الإسراء (17) : آية 71]

وعلمناه بإرسال الرسل وإنزال الكتب إياه فهو نازل كل التنازل عن درجة الاعتبار ساقط عن رتبة ذوى الألباب والأبصار بل أولئك البعداء الضالون عن منهج الرشد كالأنعام بلا شعور الى ما جبلوا لأجله بل أضل سبيلا منها وأسوأ حالا ومآلا ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور اذكر يا أكمل الرسل للمفضلين المكرمين على سائر المخلوقات يَوْمَ نَدْعُوا ونحشر كُلَّ أُناسٍ منهم لنسألهم ونطلب عنهم ما كسبوا وما حصلوا من المعارف والحقائق والأعمال المقربة إلينا باقتدائهم بِإِمامِهِمْ الذي قد أرسل إليهم وانزل عليهم من الرسل والكتب لإرشادهم وهدايتهم مع انا قد كتبنا خيرهم وشرهم اللذين قد جاء كل منهم بهما في صحيفة ونعطيهم اليوم صحائف أعمالهم بأيديهم فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ منهم بِيَمِينِهِ فهو دليل خيرية اعماله وطيب أحواله فَأُولئِكَ السعداء المقبولون اصحاب اليمين يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ فرحين بما فيه مسرورين فيجازون بمقتضى ما كتب بل بأضعافها وآلافها عناية منا وفضلا وَهم لا يُظْلَمُونَ ولا ينقصون من أجور أعمالهم فَتِيلًا مقدار ما في ظهر النواة من الخط الأسود او بين الأصابع من الوسخ المفتولة وَمن اوتى كتابه بشماله فهو علامة شرية اعماله ووخامة أحواله ومآله فأولئك الأشقياء المردودون اصحاب الشمال والشآمة ينظرون الى كتابهم فيجدون ما فيه من انواع المعاصي والآثام فيغمضون عيونهم عن قراءتها آيسين محزونين فيجازون بمقتضى ما كتب مثلا بمثل عدلا منه سبحانه إذ مَنْ كانَ فِي هذِهِ النشأة أَعْمى عن مطالعة آثار الأوصاف الذاتية الإلهية وملاحظة عجائب صنعه وغرائب حكمته وبدائع تجلياته وتطوراته المتجددة آنا فآنا لحظة فلحظة فَهُوَ فِي النشأة الْآخِرَةِ ايضا أَعْمى إذ النشأة الاولى مزرعة لعموم الخيرات والاخرى وقت الحصاد فمن لم يزرع فيها فهو في وقت الحصاد مغبون أعمى عن وجدان الخيرات وَأَضَلُّ سَبِيلًا لفوات اسباب التدارك والتلافي عنه فيبقى متحيرا مدهوشا قلقا حائرا ضالا مستوحشا. ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم على وجه التأديب والتنبيه بعد ما ظهر عليه مخايل الميل والركون عن الحق بمخادعة اهل الكفر والنفاق وَإِنْ كادُوا اى ان الشأن ان الكفرة الضالين المسرفين قد قاربوا لَيَفْتِنُونَكَ يا أكمل الرسل ويوقعونك في الفتنة الشديدة بالميل والانصراف عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وأنزلنا في كتابك من الأوامر والنواهي والاحكام المتعلقة بتهذيب الظاهر والباطن ويرغبونك لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ اى غير ما أوحينا إليك وَإِذاً اى حين افترائك وانتسابك إلينا غير ما أوحينا لك من الأمور التي تشتهيها أنفسهم وترتضيها قلوبهم لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وآمنوا بك بواسطة انتسابك هذا إلينا واتفاقك معهم في ذلك الافتراء والمراء نزلت في ثقيف حين قالوا لا نؤمن بك حتى تخصنا بخصال نفتخر ونباهى بها على سائر العرب لا نعشر ولا نحشر ولا نجبى في صلاتنا وكل ربوا لنا فهو لنا وكل ربوا علينا فهو موضوع عنا وان تمتعنا باللات سنة وان تحرم وادينا كما حرمت مكة فان قالت العرب لم فعلت معهم هذا ولم خصصتهم بتلك الكرامات فقل ان الله قد أمرني وأوصاني بها وانتظر ان تنزل آية فيها فان فعلت بنا هذه نؤمن بك ونصدقك ونتخذك خليلا فتردد صلّى الله عليه وسلّم وقرب ان يميل ويركن لشدة ميله الى ايمانهم واتباعهم فجاءه جبريل عليه السّلام ومنعه عن هذا الرأى لذلك قال سبحانه وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ اى ولولا اثباتنا وثثبيتنا إياك يا أكمل الرسل في مقر صدقك وتمكينك لَقَدْ كِدْتَ وقاربت أنت تَرْكَنُ وتميل إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا اى قد صرت في صدد

[سورة الإسراء (17) : آية 75]

الميل والركون الى انجاز ما أرادوا وإنجاح ما قصدوا وبالجملة إِذاً اى حين انجاحك مسئولهم ومأمولهم وفعلت معهم ما طلبوا منك لَأَذَقْناكَ في نشأتك هذه ضِعْفَ الْحَياةِ اى ضعف عذاب من جاء بمثله في النشأة الاولى وَكذا ضِعْفَ الْمَماتِ اى قد أذقناك ايضا ضعف عذاب من جاء به في النشأة الاخرى يعنى نعذبك في الدنيا والآخرة بضعف عذاب من جاء به من سائر الناس لان جزاء الأبرار لو أتوا بالمعاصي والآثام ضعف جزاء الأشرار بل اكثر إذ لا يتوقع منهم الانحراف عن منهج الرشد أصلا ولو انصرفوا أخذوا بضعف من يتوقع منهم الانحراف والانصراف ثُمَّ بعد أخذنا إياك وانتقامنا عنك بكذا لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً اى لا تجد أنت لك نصيرا يظهر علينا بنصرتك ويطالبنا بانقاذك عن عذابنا وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ اى وان قاربوا ليحركونك ويضطرونك بالنقل والجلاء مِنَ الْأَرْضِ التي قد استقررت أنت عليها وتمكنت فيها يعنى مكة لِيُخْرِجُوكَ مِنْها معللين بان الأنبياء والرسل انما بعثوا في ارض الشأم والأرض المقدسة خصوصا أجدادك ابراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب وأولادهم واسباطهم صلوات الله عليهم كلهم قد بعثوا فيها فلك ان تخرج إليها حتى نؤمن لك ونصدق برسالتك وما ذلك الا حيلة وخديعة معك قصدوا ليخرجوك بها من مكة حتى تبقى الرياسة لهم وَلا تغتم يا أكمل الرسل ولا تحزن بالخروج منها فإنك إِذاً لو خرجت أنت منها وهم ايضا لا يَلْبَثُونَ ولا يقيمون اى أولئك الضالون المفسدون المسرفون فيها خِلافَكَ وبعد خروجك إِلَّا زمانا قَلِيلًا وقد جرى الأمر على مقتضى وعد الله سبحانه إياه صلّى الله عليه وسلّم فإنهم بعد ما هاجر عليه السّلام قتلوا ببدر بعد مدة يسيرة وليس اخراجك يا أكمل الرسل عن مكة وإهلاكهم بعد خروجك منها ببدع منا مستحدث بل من سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة إهلاك الأمم الذين اخرجوا نبيهم المبعوث إليهم من بين أظهرهم عنادا بل قد صار ذلك سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا المبعوثين الى الأمم الماضية اى من سنتنا القديمة الموضوعة فيهم بالنسبة الى اقوامهم فكذلك حالك مع هؤلاء المعاندين المكذبين وَبعد ما قد استمرت منا هذه السنة السنية لا تَجِدُ أنت ولا غيرك ايضا لِسُنَّتِنا المنبعثة من كمال حكمتنا تَحْوِيلًا تغييرا وتبديلا أذلنا فيها حكم ومصالح مخفية قد استأثرنا بها لا اطلاع لك عليها وانما عليك التوجه والتقرب إلينا في عموم أوقاتك وحالاتك سيما في الأوقات المكتوبة المحفوظة أَقِمِ الصَّلاةَ وأدم الميل والتوجه نحونا لِدُلُوكِ الشَّمْسِ اى حين زوالها من الاستواء إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ اى ظلمته بغروبها الى حيث لم يبق من بقية آثار ضوءها شيء أصلا فيسع في المحدود المذكور الظهر والعصر والمغرب والعشاء على ما عين الشرع لكل منها وقتا معينا وَطول قُرْآنَ صلاة الْفَجْرِ وأطل القيام فيها مع القراءة إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ الذي هو وقت الانكشاف وأوان الانجلاء الصوري المنبئ عن الانكشاف المعنوي والانجلاء الحقيقي الذي هو عبارة عن اشراق نور الوجود واضمحلال الاظلال والعكوس المشعرة بالكثرة والغيرية لذلك قد كانَ قراءة القرآن المبين لسرائر الوحدة الذاتية وكيفية سريانها على صفائح المكونات فيه مَشْهُوداً لخواص عباد الله من الملائكة والثقلين بل لجميع الحيوانات من الوحوش والطيور إذ الكل في وقت الفجر متوجهون نحو الحق مسبحون مهللون حالا ومقالا وَان شئت ازدياد القرب والثواب قم واستيقظ من منامك في قطعة مِنَ اللَّيْلِ واترك النوم فيها طلبا لمرضاة الله فَتَهَجَّدْ بِهِ وصل فيها صلاة التهجد

[سورة الإسراء (17) : آية 80]

بتطويل القراءة لتكون نافِلَةً زائدة لَكَ على فرائضك مزيدة لقربك وكرامتك عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ ويقيمك رَبُّكَ بسعيك واجتهادك في تهجدك مَقاماً مَحْمُوداً اى مقاما من مقامات القرب ودرجات الوصال مسمى بالمقام المحمود لان كل من وصل اليه يحمد له سبحانه ويثنى عليه بإعطاء تلك الكرامة العظيمة إياه إذ لا مقام ارفع منه وأعلى رتبة ومكانة وَبعد ما وصلت ايها السالك الناسك اليه لم يبق لك درجة الاستكمال والاسترشاد بل قد صرت كاملا رشيدا وان ألهمت وأذنت من عنده سبحانه بعد ما تحققت في تلك المرتبة للإرشاد والتكميل صرت مرشدا مكملا لأهل النقص والاستكمال شفيعا لهم عند الله باذنه لتنفذهم من لوازم الإمكان المفضى الى دركات النيران وتوصلهم الى قضاء الجنان بتوفيق الله إياك وإياهم وبعد وصولك بسعيك وجهدك وانواع تهجدك وإقامتك في خلال الليالى بتوفيق الله وتيسيره على ما وصلت من المقامات العلية والمراتب السنية قُلْ مناجيا الى ربك ملتجئا نحوه طالبا التمكن والتقرر في المقام الذي وصلت اليه بتوفيقه وتأييده رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم أَدْخِلْنِي حسب فضلك وجودك مُدْخَلَ صِدْقٍ ومنزل قرار وتمكين الا وهو مقر التوحيد المسقط لعموم الإضافات والكثرات وخلدنى فيه بلا تذبذب وتلوين وَأَخْرِجْنِي عن مقتضيات انانيتى وهويتى الى فضاء الفناء الموصل الى شرف البقاء واللقاء مُخْرَجَ صِدْقٍ بلا تلعثم وتزلزل وَاجْعَلْ لِي حين معارضة انانيتى معى واستيلاء جنود امارتى على مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً اى برهانا قاطعا وكشفا صريحا وشهودا تاما ليكون نَصِيراً لي ينصرني على أعدائي ويخلصني من أيديهم حين هجومهم على وَقُلْ بعد ما تحققت وتمكنت في مقام الكشف والشهود قد جاءَ الْحَقُّ الصريح الثابت ولاحت شمس الذات وَزَهَقَ اى تلاشى واضمحل الْباطِلُ اى العكوس والاظلال الهالكة الباقية في عدمياتها الاصلية إِنَّ العدم الْباطِلُ الزاهق الزائل الظاهر على صورة الحق قد كانَ زَهُوقاً في نفسه مضمحلا في حد ذاته باقيا على عدمه وان أوهم وخيل انها موجودات متأصلات في الوجود الا انها ما شمت رائحة منه سوى ان اشعة التجليات الوجودية الإلهية قد لاحت عليها وانبسطت إياها فيتراءى ما يتراءى فظن المحجوب انها موجودات متأصلات وبالجملة من لم يجعل الله له نورا فما له من نور وَمتى تحققت بالمقام المحمود وفزت بما فزت من الحوض المورود الذي هو عبارة عن حضرة الوجود نُنَزِّلُ عليك تعظيما لشأنك وتأييدا لأمرك مِنَ الْقُرْآنِ المبين الموضح للمراتب العلية من التوحيد ما هُوَ شِفاءٌ لمرضى القلوب بسموم الإمكان في مضيق الحدثان ومجلس الملوان من الموفقين بشرف متابعتك وَرَحْمَةٌ نازلة لِلْمُؤْمِنِينَ بك المصدقين بدينك وكتابك ليسترشدوا ويستكشفوا بما فيه من الرموز والإشارات قدر قابلياتهم واستعدادتهم كي يتفطنوا ويتنبهوا بما فيه من السرائر المودعة المتعلقة بسلوك مسالك التوحيد والعرفان وَلا يَزِيدُ تربيتك وتعظيمك يا أكمل الرسل الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى حدوده وأحكامه سبحانه استنكارا واستكبارا إِلَّا خَساراً وبوارا لا خسار أعظم منه وهو إبطالهم الحكمة التي قد جبلهم الحق لأجلها الا وهي المعرفة والتوحيد وما ينتمى إليها من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية المقبولة عند الله. ثم اخبر سبحانه عن تمايل الإنسان وتلوينه وعدم رسوخه وتمكنه بحال من الأحوال وعدم فطنته وذكائه بذاته وكيفية افتقاره واحتياجه الى الحق وعدم تأمله في مبدئه ومعاده وفي كيفية ارتباطه بالحق في النشأة الاولى والاخرى فقال وَإِذا أَنْعَمْنا وأعطينا من كمال فضلنا وجودنا عَلَى الْإِنْسانِ المجبول

[سورة الإسراء (17) : آية 84]

على الكفران والنسيان ووسعنا له طرق معاشه أَعْرَضَ عنا وانصرف عن شكر نعمنا وعن الالتجاء والارتجاء بنا عنادا واستكبارا وَصار من افراط عتوه الى حيث نَأى وتباعد بِجانِبِهِ عنا اى طوى كشحه ولوى عنقه وعطفه منا كأنه مستغن في ذاته مستقل في امره بحيث لا يخطر بباله احتياجه إلينا ولهذا تجبر واستعلى وبالغ في الجدال والمراء الى ان قال انا ربكم الأعلى وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ وأزعجه البلاء وهجم عليه الشدة والعناء وترادفت عليه الوقائع والمصيبات قد كانَ من قلة تصبره وضعف يقينه وتدبره يَؤُساً عن روح الله شديد القنوط عن سعة لطفه ورحمته والطرفان اى افراط الاستغناء والاستكبار وتفريط اليأس والقنوط كلاهما مذمومان محظوران عقلا وشرعا قُلْ يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة منبئا عن الاستقامة والعدالة مبنيا عليهما كُلٌّ من المحق والمبطل والهادي والضال يَعْمَلُ ويقتدى عَلى شاكِلَتِهِ وطريقته التي تشاكل وتشابه حاله ووقته إياها إذ كل ميسر موفق من لدنا لما خلق له سواء كان من رشد أو غي او ضلالة او هداية ولا علم لكم يا بنى آدم على حقيقة الأمر والحال فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بعلمه الحضوري بِمَنْ هُوَ أَهْدى منكم وأقوم سَبِيلًا وأوضح منهجا واسد طريقا فيوفقه على جهته ووجهته ومن هو على خلافه فعلى خلافه. ثم قال سبحانه تأييدا لحبيبه صلّى الله عليه وسلم وتعليما وَيَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل فرق النصارى واليهود وجميع اهل الزيغ والضلال عَنِ الرُّوحِ المتعلق بالأجساد المحيي لها ومحركها بالإرادة والاختيار وإذا انفصل وافترق عنها ماتت ولم تتحرك وانقطع الشعور والإدراك عنها اى يسئلونك عن كميته وكيفية تعلقه وارتباطه بالأجسام وكيفية انفصاله عنها قُلِ الرُّوحُ نفسه وحقيقته وكيفية تعلقه بالأجسام وكيفية انفصاله عنها كلها صادرة ناشئة مِنْ أَمْرِ رَبِّي اى من جملة ما حصل بامره الدال على تكوين المكونات وإيجاد الموجودات وهو قول كن الدال على سرعة نفوذ قضائه سبحانه واما كمية المقضى وكيفية حصوله وانفصاله فأمر قد استأثر الله به في غيبه ولم يطلع أحدا عليه لذلك قال وَما أُوتِيتُمْ يا ابن آدم مِنَ الْعِلْمِ المتعلق بالروح إِلَّا قَلِيلًا الا وهو انيته وتحققه دون كميته وحقيقته لان اطلاع الإنسان انما هو بقدر قابليته واستعداده وليس في وسعه وطاقته ان يعلم حقيقة الخردلة وكيفية حصوله وتكونه فكيف حقيقة الروح وكيفية تعلقه بالبدن غاية ما في الباب ان المكاشفين من ارباب الأذواق ينكشفون بكيفية سريان الهوية الذاتية الإلهية التي هي منبع الروح على صفائح المكونات سريان الروح في البدن وسريان نور الشمس على مطلق الأضواء ويتفطنون منها ان ظهور الأشياء وحياتها ومنبع نشأها ونماءها انما هي تلك السراية هذا نهاية ما يمكن التكلم والتفوه عنه واما الاطلاع على كنهها فأمر لا يسعه مقدرة البشر. ثم قال سبحانه وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ اى والله ان شئنا وأردنا اذهاب القرآن المرشد لقاطبة الأنام لحككناه من المصاحف ومحوناه من الصدور والخواطر ايضا ثُمَّ بعد اذهابنا ومحونا لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا اى لا تجد ظهيرا معينا لك يطالبنا بمجيئه إِلَّا رَحْمَةً ناشئة مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل نازلة إليك ان سألت منه سبحانه رده يرده إليك تلطفا وعطفا إِنَّ فَضْلَهُ سبحانه قد كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً كثيرا مثل اصطفائك من بين البرية وارسالك الى كافة الخليقة وتأييدك في عموم الأوقات ونصرك على جميع الأعادي وغير ذلك ثم لما قال بعض المعاندين من الكفار الطاعنين في القرآن القاد حين به وبشأنه لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن الذي أنت جئت به يا محمد

[سورة الإسراء (17) : آية 88]

ونسبته الى الله افتراء بانه نزل من عنده قُلْ لهم يا أكمل الرسل في جوابهم مقسما مؤكدا والله لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ واتفقوا معاونين متعاضدين عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ الجامع لأحوال النشأتين الواقع في أعلى مرتبة البلاغة والفصاحة لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولما حصل لهم الإتيان به مطلقا وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً اى ولو كانوا متظاهرين متعاضدين في إتيانه لم يتأت منهم الإتيان لكونه خارجا عن طوق البشر وَالله لَقَدْ صَرَّفْنا وكررنا لِلنَّاسِ فِي حق هذَا الْقُرْآنِ المعجز لفظا ومعنى مِنْ كُلِّ مَثَلٍ موضح لهم اعجازه وخروجه عن معرض معارضة البشر معه وارتفاع شانه عن القدح والطعن فيه فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ وامتنعوا عن قبوله ولم يتفطنوا لاعجازه وبالجملة ما يزيدوا في حقه مع ظهور الدلائل والشواهد المكررة إِلَّا كُفُوراً جحودا وإنكارا بدل القبول واليقين بحقيته وَمع ظهور هذا المعجز المشتمل لما في العالم غيبا وشهادة اجمالا وتفصيلا قالُوا تعنتا واقتراحا ومبالغة وإلحاحا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ولن نصدق بكتابك ودينك حَتَّى تَفْجُرَ وتشقق أنت لَنا مِنَ الْأَرْضِ اى ارض مكة شرفها الله يَنْبُوعاً اى عينا جارية نشرب منها ونزرع بها ونغرس على وجه العموم أَوْ تَكُونَ لَكَ عليها على وجه الخصوص جَنَّةٌ وبستان مغروسة مملوة مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ سهل السقي فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها وأوسطها تَفْجِيراً سهلا يسيرا بحيث لا تكلف في سقيها ولا عسر أصلا أَوْ تأتى بآية ملجئة لنا الى الايمان بان تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ ونسبت الى ربك بقوله ان نشأ نخسف بهم الأرض او نسقط عليهم كسفا من السماء عَلَيْنا كِسَفاً اى قطعة بعد قطعة حتى نؤمن لك أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ الذي ادعيت الرسالة والنبوة من عنده جهرة ظاهرة تعالى عن ذلك وَالْمَلائِكَةِ اى تأتى بالملائكة الذين ادعيت أنت وساطتهم ورسالتهم بينك وبين ربك قَبِيلًا اى تأتى بهم مقابلا عيانا مشاهدا محسوسا لنا بحيث نريهم صورهم وأشباحهم أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ متخذ مِنْ زُخْرُفٍ اى ذهب وفضة مكللة بجواهر نفيسة أَوْ تَرْقى وتصعد أنت بنفسك على رؤس الاشهاد فِي السَّماءِ بلا اسباب ووسائل وَبعد صعودك وعروجك إليها لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ اى لن نؤمن ونصدق بك بمجرد رقيك وعروجك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً مكتوبا من عند ربك مشتملا على اسامينا وعلى دعوتك إيانا الى الايمان وتصديقنا بك بحيث نَقْرَؤُهُ بين أظهرنا ونؤمن بك بأجمعنا قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما سمعت منهم هذه المقترحات التي ليس في وسعك وطاقتك متعجبا منزها مستبعدا سُبْحانَ رَبِّي وتعالى شأنه من ان يشارك في قدرته فان أمثال هذه المقترحات انما تصدر عنه سبحانه اصالة او أظهرها سبحانه بدعاء بعض عباده ان تعلق ارادته ومشيته ولم يظهر سبحانه على أمثال هذا بل هَلْ كُنْتُ وما صرت إِلَّا بَشَراً ضعيفا كسائر الناس غاية ما في الباب انى بوحي الله الى والهامه على قد كنت رَسُولًا من لدنه كسائر الرسل وقد كانوا ايضا لا يتأتى منهم كل ما اقترح عنهم اقوامهم بل ما يصدر عنهم الا ما يسر الله لهم ومكنهم عليه ومالي ايضا الا ما يسر الله لي وقدره على. ثم قال سبحانه وَما مَنَعَ وصرف النَّاسَ عن أَنْ يُؤْمِنُوا ويهتدوا وقت إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى اى الرسول الهادي المرشد الرشيد إياهم ليرشدهم الى طريق التوحيد والعرفان إِلَّا أَنْ قالُوا اى الا قولهم هذا على سبيل الاستبعاد والاستنكار أَبَعَثَ اللَّهُ العليم الحكيم المتقن في أفعاله بَشَراً

[سورة الإسراء (17) : آية 95]

متصفا بأنواع الجهالات منغمسا بأصناف الكدورات رَسُولًا الى بشر مثله ليهديهم الى الكمال ويهذبهم عن النقصان كلا وحاشا بل ان أرسل الله رسولا الى هداية عباده فالمناسب إرسال الملك لكونه صافيا عن الكدورات الجسمانية مطلقا قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا لا بد بين المفيد والمستفيد من المناسبة والملائمة المصححة لأمر الإفادة والاستفادة لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ سماويون نازلون منها إليها لمصلحة وهم يَمْشُونَ عليها مُطْمَئِنِّينَ متمكنين لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ حين احتياجهم الى الإرشاد والتكميل مِنَ السَّماءِ مَلَكاً كذلك مجانسا لهم رَسُولًا إليهم يرشدهم ويهديهم حسب مجانستهم ومناسبتهم قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما ايست عن ايمانهم وصلاحهم كَفى بِاللَّهِ اى كفى الله شَهِيداً مثبتا لرسالتي عليكم بإظهار انواع المعجزات على يدي قاطعا للنزاع الواقع بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ سبحانه بذاته وبحضرة علمه قد كانَ بِعِبادِهِ وبجميع ما صدر عنهم من الأعمال على التفصيل خَبِيراً بَصِيراً ذا خبرة وبصارة كاملة شاملة بحيث لا يشذ من أحوالهم شيء من علمه وخبرته فيجازيهم بكمال قدرته حسب علمه بهم وَبعد ما ثبت ان أمرهم موكول الى الله وحالهم محفوظ عنده مَنْ يَهْدِ اللَّهُ الهادي وتعلق ارادته بهدايته فَهُوَ الْمُهْتَدِ اى هو مقصور على الهداية لا يتعداها أصلا وَمَنْ يُضْلِلْ الله وتعلق مشيته بضلاله فَلَنْ تَجِدَ يا أكمل الرسل لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ اى من دون الله يوالونهم ويظاهرون عليهم وينقذونهم من بأس الله وبطشه بعد ما اخذتهم العزة باثمهم وَلذلك نَحْشُرُهُمْ ونبعثهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بعد تنقيد أعمالهم ونجزهم نحو النار مكبين عَلى وُجُوهِهِمْ منكوسين تنفيذا لأحكامنا يعنى يسحبون ويجرون نحو جهنم البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان عُمْياً لكونهم في النشأة الاولى أعمى عن رؤية الحق في اعيان المظاهر وصفحات المجالى وَبُكْماً لكونهم صامتين ساكتين عما ظهر لهم من دلائل التوحيد عنادا ومكابرة وَصُمًّا لكونهم أصمين عن استماع كلمة الحق عن السنة الرسل ووراثهم اى العلماء لذلك صار مَأْواهُمْ ومنزلهم جَهَنَّمُ الطرد والحرمان المسعر بنيران الخسران والخذلان وقد صارت من شدة تسعرها الى حيث كُلَّما خَبَتْ وسكنت لهب نارها بعد ما أكلت جلودهم ولحومهم زِدْناهُمْ جلودا ولحوما مثل جلودهم ولحومهم بل عينها يعنى كلما اضمحلت جلودهم ولحومهم نعيدهم على ما كانوا عليه لتصير سَعِيراً ذا شرر والتهاب مفرط بعد ما جدد ما تأكل والسبب في تكرارها وإعادتها كذلك انكارهم للحشر واعادة المعدوم بعينه ذلِكَ الذي سمعت من العذاب جَزاؤُهُمْ اى جزاء المنكرين الكافرين وانما عذبناهم بها بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم قد كَفَرُوا بِآياتِنا الدالة على الحشر الجسماني وَقالُوا منكرين مستبعدين أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَصرنا رُفاتاً هباء غبارا منبثا مثارا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً اى مخلوقا موجودا جَدِيداً مثل المخلوق الاول كلا وحاشا أَينكرون الحشر واعادة المعدوم بعينه ويصرون على الإنكار أولئك المعاندون وَلَمْ يَرَوْا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ خلقا إبداعيا اختراعيا بلا سبق مادة وزمان قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بعد موتهم واعدامهم مع ان الإعادة أسهل وأيسر من الإنشاء والإبداء وَلم يعلموا كيف جَعَلَ اى صير وقدر سبحانه لَهُمْ أَجَلًا معينا لا رَيْبَ فِيهِ حتى وصلوا اليه ماتوا بحيث لا يسع لهم طلب التقديم والتأخير أصلا ومع وضوح هذه الدلائل

[سورة الإسراء (17) : آية 100]

والشواهد فَأَبَى وامتنع الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى العقل والنقل عن قبول الحق المطابق للواقع وبالجملة ما يزيدهم وروده ووضوحه إِلَّا كُفُوراً جحودا وإنكارا للحق لخبث طينتهم ورداءة فطرتهم متوهمين نفاد قدرة الله عند مراده وانقضاء تمكنه واقتداره لدى المقدور قُلْ للمنكرين المتوهمين نفاد قدرة الله وانصرام حوله وقوته عن مراده لا تقيسوا الغائب على الشاهد ولا تتوهموا الشح والبخل والعجز والاضطرار في حق الله بل الكل انما هو من اوصافكم وخواصكم إذ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي مع سعتها وفسحتها وعدم نفادها وتناهيها أصلا إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ وبخلتم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ ومحافة النفاد بالإنفاق سيما بلا وضع شيء بدل ما ينفق وَبالجملة قد كانَ الْإِنْسانُ خلق في اصل فطرته قَتُوراً ممسكا لازدحام لوازم الإمكان واسباب الافتقار فيه إذ هو أحوج المظاهر وابعدهم عن الوحدة الذاتية إذ الإنسان آخر نقطة قوس الإمكان وهي نهاية الكثرة ويصير هو ايضا بعينه أول نقطة قوس الوجوب ان انخلع عن ملابس الإمكان وتجرد عنها بالمرة وترقى الى مدارج معارجه بلا شوب شين ونقصان وَمن جملة كفورية الإنسان وقتوريته انا لَقَدْ آتَيْنا من سعة رحمتنا وكمال حولنا وقدرتنا مُوسى المؤيد من عندنا تِسْعَ آياتٍ ومعجزات بَيِّناتٍ واضحات دالة على صدقه في رسالته وحقيته في نبوته ألا وهي العصا واليد البيضاء والجراد والقمل والضفادع والدم وانفجار الماء من الحجر وانفلاق البحر ونتق الجبل فوقهم وان شئت يا أكمل الرسل زيادة إيضاح والزام لمشركي اليهود فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ اى بقية أحبارهم ليخبروك وقت إِذْ جاءَهُمْ موسى من قبل مدعيا النبوة ومظهرا المعجزات المذكورة يعنى سلهم عما مضى بينه وبين فرعون وبينه وبين قومه ايضا فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ بعد ما رأى منه ما رأى من الخوارق بدل الايمان والإطاعة إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى بعد ما جئت بسحر عظيم وكيد كبير وهو وان كان من كمال العقل والدراية الكاملة انا اعتقدك مَسْحُوراً مجنونا مخبطا مختل العقل والرأى بادعائك الرسالة والنبوة من خالق السماء وبنزول الملك والصحف إليك من لدنه مع انسداد الطرق وانعدام السبل ثم لما سمع موسى من فرعون ما سمع ايس من إيمانه وقنط وحينئذ قالَ موبخا عليه مقرعا والله لَقَدْ عَلِمْتَ يقينا ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات القاهرة الباهرة الى إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إذ هي خارجة عن وسع غيره مطلقا وعلمت ايضا انه ما أنزلها الا بَصائِرَ اى بينات وشواهد دالة على صدقى في دعواي لأبصرك وأوقظك عن منام غفلتك وتتفطن أنت بها لأصل فطرتك وجبلتك وَإِنِّي بعد ما قد بالغت في تبليغ ما جئت به من الهداية والإرشاد فلم تصدقني ولم تقبل منى ولم تؤمن على لَأَظُنُّكَ واعتقدك يا فِرْعَوْنُ المتناهي في الغفلة والغرور مَثْبُوراً مصروفا عن الخير كله مطرودا عن ساحة عز الحضور مجبولا على الشر ودواعيه مطلقا وبعد ما رأى فرعون من موسى ما رأى من المعجزات الواضحة خاف ان يميل اليه قومه ويؤمنوا له فَأَرادَ وقصد فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ اى بنى إسرائيل ويستأصلهم بان يحركهم أولا مِنَ الْأَرْضِ اى ارض مصر ويفرقهم بحيث لا يتأتى منهم المقاومة معه أصلا ثم يأمر بقتل كل فرقة فرقة منهم مكرا منه وكيدا فمكرنا له قبل مكره إياهم فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ كانوا متفقين مَعَهُ في مكره وكيده جَمِيعاً حين أمرنا موسى ومن معه بالفرار ليلا فأخبر هو واتبع اثره فلقى موسى البحر وهو على عقبه فامرتا موسى حينئذ بضرب البحر بالعصا فضربه

[سورة الإسراء (17) : آية 104]

فانفلق البحر وافترق فرقا وتشعب شعبا كثيرة فمر موسى وأصحابه سالمين فلقى فرعون على الفور فرآى البحر مفترقا فاقتحموا مغرورين فأغرقناهم أجمعين بعد ما قد أمرنا البحر بالخلط والاجتماع على ما كان عليه وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ اى بعد انقراض فرعون وانقضائه لِبَنِي إِسْرائِيلَ على سبيل التوصية والتذكير في كتابنا المنزل عليهم وهو التوراة اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد فرعون ان يستفزكم منها بالقهر والغلبة آمنين مؤمنين صالحين مصلحين عموم مفاسدكم بما أرسل إليكم وانزل عليكم عاملين حسب أوامرنا ونواهينا المنزلة إليكم في كتابكم فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ وقيام الساعة قد جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ملتفين مختلطين سعداءكم مع أشقيائكم فنميز بينكم وندخلكم منزل الشقاوة والسعادة المعد لكلا الفريقين. ثم قال سبحانه في حق القرآن ونزوله وعظم قدر من انزل اليه وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ اى ما أنزلنا القرآن الا ملتبسا بالحق المطابق للواقع بلا عروض الباطل عليه أصلا وَكذا بِالْحَقِّ نَزَلَ اى عموم ما نزل فيه من الاحكام والأوامر والنواهي والعبر والأمثال والرموز والإشارات والمعارف والحقائق كلها قد نزل بالحق الصريح الثابت الخالص عن توهم الباطل مطلقا وَايضا ما أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل على كافة البرايا وعامة الأمم إِلَّا مُبَشِّراً بالحق للمؤمن المطيع بأنواع الخيرات واللذات الروحانية المعنوية وَنَذِيراً ايضا بالحق للكافر الجاحد عن انواع العذاب والعقاب الجسمانية والروحانية وَبالجملة ما أرسلناك عليهم الا لتكون داعيا لهم الى التوحيد والعرفان تاليا لهم قارئا عليهم قُرْآناً فرقانا بين الحق والباطل والهداية والضلال لذلك فَرَقْناهُ اى قد فرقنا انزاله عليك حيث أنزلناه إليك مفرقا منجما لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ لدى الحاجة عَلى مُكْثٍ مهل وتؤدة فإنها أسهل وأيسر للحفظ والفهم من سائر الكتب الإلهية وَايضا قد نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا تدريجيا على حسب الوقائع ومقتضى الازمنة والموارد في عرض عشرين سنة قُلْ يا أكمل الرسل للطاعنين في القرآن المائلين عن حقيته وصدقه جهلا وعنادا على سبيل التهديد والتوبيخ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا اى سواء منكم الايمان بالقرآن وعدم الايمان به لأنكم جهلاء عما فيه من الحقائق والمعارف غفلاء عن الرموز والإشارات المودعة فيه فتصديقكم وتكذيبكم إياه لا يجدي له نفعا ولا يورث ضرا وانما العبرة لذوي الخبرة إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من لدن حكيم عليم بحقية القرآن وبحقية ما فيه وكذا بما في عموم الكتب الإلهية ألا وهم الأنبياء والأولياء المجبولون على فطرة التوحيد والعرفان قد كانوا يؤمنون ويصدقون به مِنْ قَبْلِهِ اى قبل نزوله وبعد نزوله لذلك إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ ويقرأ عندهم يَخِرُّونَ ويسقطون لِلْأَذْقانِ سُجَّداً متذللين واضعين جباههم وأذقانهم على تراب المذلة والهوان تعظيما لأمر الله وشكرا له لإنجاز وعده وَيَقُولُونَ في حين سجوده منزهين مسبحين سُبْحانَ رَبِّنا وتعالى من ان يأتى منه الخلف فيما عهد علينا او عن ان يعجز عن إتيان ما وعدنا واوعدنا به إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا اى انه قد كان وعد ربنا الذي وعدنا به في الكتب السالفة من إرسال رسول متصف بأوصاف مخصوصة معه كتاب جامع لما في الكتب السالفة ناسخ لها خاتم للرسالة العامة والتشريع الشامل لذلك صار دينه ناسخا لجميع الأديان فقد أنجز سبحانه وعده بإرسال هذا النبي الأمي الموعود وَيَخِرُّونَ ايضا العالمون العارفون بحقانية القرآن بعد تأملهم وتوغلهم في حكمه وأحكامه وحقائقه ومعارفه لِلْأَذْقانِ حال كونهم يَبْكُونَ من خشية الله وَبالجملة ما

[سورة الإسراء (17) : آية 110]

يَزِيدُهُمْ التأمل والتدبر فيه على وجه التدقيق والتعمق مرارا وتكرارا الا خُشُوعاً وخضوعا لاطلاعهم منه في كل مرة على سرائر قد شهدت بها اذواقهم وذاق حلاوتها وجدانهم ومذاقهم قُلِ يا أكمل الرسل للمحجوبين الغافلين عن سرسريان الوحدة الذاتية الإلهية في المظاهر كلها والمجالى برمتها ادْعُوا اللَّهَ اى سموا الذات الاحدية التي هي ينبوع بحر الوجود ومنشأ عموم المظاهر والموجود باسم الله المستجمع لجميع الأسماء والصفات اجمالا أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ اى سموه باسم الصفات التي قد اتصفت بها الذات الاحدية تفصيلا أَيًّا ما تَدْعُوا وتسموا من اسماء الذات والصفات فَلَهُ اى لله المنزه عن سمة الكثرة والحدوث مطلقا المقدس عن وصمة الشركة والتعدد رأسا الْأَسْماءُ الْحُسْنى الكاملة الدالة على احدية ذاته غاية ما في الباب انها باعتبار شئونه وتجلياته قد يتعدد أسماؤه وصفاته وبالجملة الاسم والمسمى كلاهما متحدان عند سقوط الإضافات ورفع التعينات واطراح الاعتبارات إذ لا يتصور التعدد دون جنابه الا وهما واعتبارا وَإذا كان الكل من الأسماء والمسميات راجعا الى الذات الاحدية بعد رفع التعينات وسقوط الإضافات لا تَجْهَرْ أنت ايها العارف المتمكن في مقام التوحيد الراسخ فيه بلا تلوين وتقليد ولا تعلن بِصَلاتِكَ وميلك نحو الحق بوحا وشطحا ولا تقل في حال صحوك وافاقتك كلام ارباب السكر والحيرة وَلا تُخافِتْ بِها ايضا ضنا وشحا على ذوى الاستعداد والاسترشاد وَابْتَغِ واختر يا صاحب التمكن والتمكين بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا مقتصدا معتدلا مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط إذ الخير في كل الأمور أوسطها إذ هو اعدلها وَقُلِ بعد ما تحققت وتمكنت في مقر التوحيد شكرا لما أنعمك الحق الوصول اليه وأمكنك التحقق دونه والورود عليه الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قد توحد بذاته وتقدس بأسمائه وصفاته وتفرد بألوهيته واستقل بوجوب وجوده وربوبيته بحيث لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً يخلف عنه لكونه صمدا قيوما أزليا ابديا سرمديا بحيث لا يعرضه الفناء مطلقا ولا يعتريه الانصرام والانقضاء ابدا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ والملكوت يظاهره او يزاحمه ويخاصمه إذ لا شيء في الوجود سواه وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ يواليه ويتولى امره ويعين عليه حين ما لحقه مِنَ الذُّلِّ المسقط لعزه الأصلي وعظمه الحقيقي الأزلي إذ لا تغير ولا تبدل في ذاته ولا تحول ولا انتقال في شأنه أصلا وَبالجملة كَبِّرْهُ تَكْبِيراً ذاتيا حقيقيا وعظمه تعظيما صوريا ومعنويا وكيف لا إذ لا وجود للغير معه حتى يتصور هناك النسبة والاضافة بل هو أجل واكبر لذاته بلا توهم الاضافة فبه اهدنا بفضلك سواء سبيلك الى توحيدك واجعلنا من زمرة ارباب تكبيرك وتمجيدك خاتمة سورة الإسراء عليك ايها الموحد المتحقق بمقام تمجيد الحق وتحميده مكنك الله بما أوصلك اليه وقررك دونه ان تعظم الحق غاية التعظيم وتكبره كمال التكبير والتكريم واعلم ان تعظيم الحق انما هو بتعظيم مظاهره ومجاليه إذ ما من ذرة من ذرائر الكائنات الا وقد ظهر الحق فيه وتجلى عليه بأسمائه الحسنى وأوصافه العليا فلك ان تتواضع وتتذلل عند كل ذرة من ذرائر المظاهر طوعا ورغبة ولا تتكبر عليها ولا تتعظم دونها إذ التكبر والتفوق على ذرة حقيرة من اى جنس وصنف كانت من امارات عدم الوصول الى مرتبة اليقين الحقي ومقر التوحيد الحقيقي وذلك انما يحصل لك بعد رفع مقتضيات

سورة الكهف

اوصافك البشرية بموتك الإرادي الاختياري وهو انما يحصل بالرياضات الشاقة القالعة لدرن الهوى والغفلات وبترك الرسوم والعادات الراسخة في نفوس اصحاب الجهالات وبالركون الى العزلة والخمول والخلوات والانقطاع عن رسوم اصحاب التخمينات والتقليدات والتبتل نحو الحق في عموم الأوقات والحالات. وفقنا الله وإياكم بسلوك طريق التوحيد ورزقنا الوصول الى منزل التجريد والتفريد وجعلنا من زمرة اهل المحبة والولاء الوالهين في مقام التمجيد والتحميد انه سبحانه قريب مجيب حميد مجيد [سورة الكهف] فاتحة سورة الكهف لا يخفى على المحققين المحمديين المتحققين بمقام المعرفة والتوحيد بمتابعته صلّى الله عليه وسلّم المسترشدين من القرآن المجيد المنزل عليه المفصل لمرتبته صلّى الله عليه وسلّم الموضح لشأنه في المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات المبين لعروجه الى معارج العنايات الإلهية وسلوكه في مسالك توحيده على الاستقامة والاعتدال بلا عوج وانحراف ان من وفق من عند الله على سلوك طريق التوحيد من ارباب العناية قد ظهر عليه ولاح دونه استقامة القرآن المنزل على العدالة والقسط الإلهي وبراءته عن العوج والانحراف وكذا اعتدال اخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم ومقابلته ومطابقته إياه في الاستقامة والاستواء إذ هو منزل من عنده سبحانه بمقتضى استعداده صلّى الله عليه وسلّم على وفق مرتبته الجامعة لجميع مراتب الأنبياء والرسل الهادين المهديين إذ هي مبدأ جميع المراتب ومنتهاها ايضا لذلك كمل ببعثته وإرساله صلّى الله عليه وسلّم امر الدين وختم بإقامته صلّى الله عليه وسلم باب الرسالة والتشريع وقد سد بانزال القرآن عليه باب التنزيل والتبيين مطلقا لذلك قد وجبت له صلّى الله عليه وسلّم ولجميع من آمن له واقتفى اثره مواظبة حمد الله والاقامة بأداء شكره على انعام هذه النعمة الجليلة التي هي نعمة القرآن الفارق بين ارباب اليقين والعرفان وبين اصحاب الزيغ والطغيان لذلك اخبر سبحانه بالحمد على نفسه تعليما له صلّى الله عليه وسلّم وإرشادا لامته فقال سبحانه متيمنا باسمه العلى العظيم بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى بذاته باعتبار اتصافه بعموم أوصاف الكمال لعبده الذي قد انتخبه واصطفاه من بين عباده بمقتضى الكرم والإفضال الرَّحْمنِ على عموم عباده بإرسال هذا العبد رسولا إليهم هاديا لهم الى درجات الكمال الرَّحِيمِ لهم يوصلهم بإرشاد حبيبه عليه الصلاة والسّلام الى زلال الوصال [الآيات] الْحَمْدُ المشتمل المتضمن على عموم الاثنية والتوصيف بالأوصاف الجميلة والنعوت الجليلة مطلقا حقيق لائق لِلَّهِ اى للذات المستجمع لجميع أوصاف الكمال المستحق لعموم المحامد استحقاقا ذاتيا ووصفيا الجميل الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ المستجمع لجميع مراتب الكمال المستظل بظل الألوهية المستحق لرتبة الخلافة والنيابة عنه سبحانه بالأصالة يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلّم الْكِتابَ الجامع لجميع أوصاف الكمال اجمالا وتفصيلا المشتمل على عموم الاحكام والأخلاق المتعلقة لها المترتبة عليها في النشأة الاولى والأخرى مع كونه محتويا على عموم ما في الكتب السالفة من الأوامر والنواهي مع زيادات قد خلت عنها تلك الكتب من الرموز والإشارات المتعلقة بالتوحيد الذاتي المسقط لعرق الإضافات والكثرات مطلقا وَبين لهم فيه طريق التوحيد الذاتي على الوجه الأعدل الأبلغ الأتم الأقوم بحيث لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً وانحرافا في تبيينه بل قد جعله قَيِّماً مستقيما معتدلا بين طرفي

[سورة الكهف (18) : آية 3]

الإفراط والتفريط المذمومين عقلا وشرعا وانما أنزله على عبده وحبيبه صلّى الله عليه وسلّم لِيُنْذِرَ هو صلّى الله عليه وسلّم بانذاراته الكافرين الذين كفروا بالله وجحدوا في توحيده وعملوا السيئات المبعدة لهم عن طريق النجاة بَأْساً شَدِيداً وعذابا أليما عظيما صادرا مِنْ لَدُنْهُ اى من عند الله العزيز المنتقم بطشا لهم وانتقاما منهم وَيُبَشِّرَ ايضا بتبشيراته الْمُؤْمِنِينَ الموحدين الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى مرتبة التوحيد الصادرة عنهم بمقتضى يقينهم وعرفانهم أَنَّ لَهُمْ اى بان لهم أَجْراً حَسَناً هو التحقق بشرف اللقاء والفوز بمطالعة جمال الله والاستغراق عند وجهه الكريم ماكِثِينَ فِيهِ اى في الأجر الحسن دائمين أَبَداً مؤبدا مخلدا بلا تبديل وتغيير مزيدين المحبة واللذة والشوق والارادة متعطشين الى زلال التفريد بلا رواء أصلا كما اخبر سبحانه عن حال أولئك الوالهين بقوله إلا طال شوق الأبرار الى لقائي وَيُنْذِرَ ايضا أشد إنذار بأسوء عذاب ووبال الَّذِينَ قالُوا من فرط إسرافهم في الشرك والجحود وهم اليهود والنصارى قد اتَّخَذَ اللَّهُ الواحد الأحد الصمد المنزه عن الأهل والولد وَلَداً حيث قالت اليهود عزير ابن الله والنصارى المسيح ابن الله مع انه ما لَهُمْ بِهِ بالله وباتخاذه ولدا مِنْ عِلْمٍ يقين او ظن متعلق منهم به وبمعناه وبما يترتب عليه من النقص المنافى لوجوب وجوده إذ اتخاذه انما هو للاخلاف او المظاهرة والتزين وكلاهما محالان على الله لا يليقان بجنابه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وَلا لِآبائِهِمْ يعنى وان ادعوا اثبات الولد لله تقليدا للاباء والاسلاف فليس لهم ايضا علم بنقصه وعدم لياقته بجناب الحق المنزه المقدس في ذاته عن امارات النقصان وعلامات الإمكان مطلقا وبالجملة قد كَبُرَتْ اى جلت وعظمت في الكفر والجحود وسوء الأدب مع الله كَلِمَةً اى مقالتهم هذه مع انها تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ هفوة بلا علم وتأمل بل إِنْ يَقُولُونَ وما يقصدون بقولهم هذا إِلَّا كَذِباً مينا وافتراء يفترونه على الله وينسبونه الى كتابهم ظلما وزورا وبعد ما كان حالهم في الافتراء والمراء على هذا المنوال وشدة غيظهم وشكيمتهم مع الله على هذا المثال فَلَعَلَّكَ يا أكمل الرسل بمجرد محبتك إياهم وبميلك الى ايمانهم وبرجائك وتحننك الى متابعتهم وبيعتهم معك باخِعٌ نَفْسَكَ اى قاتلها ومهلكها عَلى آثارِهِمْ بعد ما انصرفوا عنك وذهبوا من عندك إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا اى انهم لم يؤمنوا ولم يصدقوا بِهذَا الْحَدِيثِ اى القرآن أَسَفاً يعنى أهلكت نفسك بكثرة التأسف والتحزن على ذهابهم وانصرافهم عنك وعدم ايمانهم وانقيادهم بك وان حداك وبعثك الى ايمانهم واتباعهم غناؤهم ورئاستهم وترفههم وجاههم وثروتهم وسيادتهم بين الناس فاعلم انها لا اعتداد لها ولا اعتبار لما يترتب عليها إِنَّا ما قد جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الأصول الثلاثة التي هي الحيوان والنبات والمعدن وما يتفرع عليها ويتخذ منها من انواع اللذات والشهوات الجسمانية الوهمية وما أظهرناها الا زِينَةً لَها وزخرفة عليها لِنَبْلُوَهُمْ ونختبرهم اى ارباب التكاليف والتدابير المجبولين على فطرة المعرفة والتوحيد أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وأتم رشدا وعقلا في الاعراض عنها وعدم الالتفات إليها والاجتناب عن لذاتها الوهمية التي هي دائرة على التقضي والانصرام وشهواتها المورثة لانواع الحزن والآلام وأمانيها المستلزمة لأصناف الجرائم والآثام مع ان الضروري منها في نفس الأمر ما هو الاكن حجرة ولبس خرقة وسد جوعة وباقيها حطام ليس لها دوام مورث لاسقام وآلام وَمتى علمت ان ما على

[سورة الكهف (18) : آية 9]

الأرض ليس الا زينة وزخرفة ستفنى وتفوت عن قريب بل هي زائلة حين ثقاتها فانية وقت وجودها وبقائها فاعلم يقينا إِنَّا بشدة حولنا وقوتنا وكمال قدرتنا لَجاعِلُونَ مصيرون مبدلون جميع ما عَلَيْها من الزخارف والذخائر صَعِيداً ترابا مرتفعة أملس جُرُزاً خالية منقطعة عن النبات بحيث لا تنبت أصلا أعجبت واستبعدت عن كمال قوتنا وقدرتنا بجعل ما على الأرض صعيدا جرزا لذلك أَمْ حَسِبْتَ وشككت أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ اى قصتهم وشانهم والكهف هو الغار الواسع في الجبل وَالرَّقِيمِ هو اسم الجبل الذي فيه الغار او اسم الوادي الذي فيه الكهف او اسم قريتهم او كلبهم او لوح رصاصى او حجري قد رقم فيه أسماؤهم وجعل على باب الكهف او اصحاب الرقيم هم قوم آخرون على اختلاف الأقوال والروايات وبالجملة قد كانُوا مِنْ آياتِنا الدالة على كمال قوتنا وقدرتنا عَجَباً اى آية يتعجب منها الناس ويستبعدون وقوعها مع انه لا شك في وقوعها إذ قد بلغت من التواتر حدا لا يتوهم فيها الكذب قطعا إذ أمثال هذا في جنب قدرتنا الكاملة سهل يسير ولو رفعت ايها المعتبر المتأمل الالف والعادة عن البين وطرحت تكرر المشاهدة والمؤانسة عن العين لكان ظهور كل ذرة من ذرائر العالم في التعجب والاستبعاد وكمال الغرابة والبداعة مثل هذا بل اغرب واعجب من هذا فلك ان تراجع وجدانك وتتأمل أمرك وشانك حتى تجد في نفسك عجائب وغرائب يدهش منها عقلك وينحسر حسك وفهمك وتكل ادراكاتك وآلاتك وبالجملة قد تحيرت وصرت مستغرقا في بحر الحيرة والدهشة من نفسك فكيف من غيرك. أذقنا بلطفك حلاوة مطالعة مبدعاتك ومشاهدة مخترعاتك بنظر العبرة والحضور اذكر يا أكمل الرسل قصة اصحاب الكهف وقت إِذْ أَوَى اى التجأ ورجع الْفِتْيَةُ الخمسة او السبعة او الثمانية من اشراف الروم ورؤسائهم حين دعاهم ملكهم دقيانوس الى الشرك وهم موحدون في أنفسهم فأبوا منه وهربوا إِلَى الْكَهْفِ ملتجئين إلينا فَقالُوا مناجين مستغيثين من الله رَبَّنا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم ووفقنا بشرف توحيدك وتقديسك آتِنا بفضلك وجودك مِنْ لَدُنْكَ لا بسبب أعمالنا ومقتضياتها رَحْمَةً تنجينا عن يد عدونا وعذابه وعن وبال ما دعانا اليه من الكفر والعصيان وَهَيِّئْ لَنا اسباب معاشنا حين كنا فارين من العدو ملتجئين إليك مستعيذين بكنفك وجوارك ووفق علينا مِنْ أَمْرِنا الذي نعمل لمرضاتك ولوجهك الكريم رَشَداً وهداية توصلنا الى زلال توحيدك آمنين فائزين بلا خوف وخطر فاستجبنا لهم وأجبنا مناجاتهم وأعطينا حاجاتهم وبعد ما دخلوا الكهف ملتجئين بنا متضرعين إلينا فَضَرَبْنا وختمنا عَلَى آذانِهِمْ حين كانوا راقدين فِي الْكَهْفِ حجابا غليظا يمنعهم سماع الأصوات مطلقا وأنمناهم على هذا الوجه سِنِينَ عَدَداً بلا طعام ولا شراب وبلا شيء من اسباب المعاش وبالجملة هم احياء في صور الأموات منقطعين عن لوازم الحياة الصورية مطلقا سوى ان أنفاسهم تجئ وتذهب ثُمَّ بَعَثْناهُمْ وأيقظناهم من منامهم بعث الموتى للحشر لِنَعْلَمَ اى نجرب ونميز أَيُّ الْحِزْبَيْنِ المختلفين بعد ما اختلفوا في مدة لبثهم أَحْصى اى اضبط واحفظ لِما لَبِثُوا من المدة أَمَداً يعنى أيهم احفظ ضبطا لمدة رقودهم في الكهف فكلا الفريقين اى اليهود والنصارى لا يعلمان مدة لبثهم حقا مطابقا للواقع بل نَحْنُ نَقُصُّ من مقام فضلنا وجودنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل نَبَأَهُمْ اى خبر مدة لبثهم ملتبسا بِالْحَقِّ الثابت الصحيح المطابق للواقع إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ اى شبان من ارباب الفتوة والمروة وفقوا من عند الله

[سورة الكهف (18) : آية 14]

بالعقل الكامل والرشد التام الى ان آمَنُوا وأذعنوا بِرَبِّهِمْ اى بوحدة مربيهم باستعمالهم عقولهم الموهوبة لهم الى دلائل توحيده وَزِدْناهُمْ من لدنا بعد ما أخذوا بالتأمل والتدبر في آياتنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا هُدىً وزيادة رشد تفضلا وامتنانا وَاثبتناهم في جادة الهداية والتوفيق بان رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ محبة الايمان والعرفان اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قامُوا بين يدي دقيانوس الظالم الطاغي حين دعاهم الى الشرك والكفر على رؤس الملأ وهم بعد ما سمعوا منه دعوته قاموا من مجلسه منكرين فَقالُوا بلا مبالاة له ولسطوته وشوكته رَبُّنا اى الذي أظهرنا من كتم العدم وأوجدنا في فضاء الوجود ألا وهو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى هو مربى العلويات والسفليات والغيوب والشهادات والظاهر والباطن قد أوجد الكل بوحدته واستقلاله في التصرف والاستيلاء بلا مشاركة مشير ومظاهرة ظهير ووزير وهو المستحق للالوهية والربوبية لَنْ نَدْعُوَا ولن نعبد مِنْ دُونِهِ سبحانه إِلهاً باطلا إذ لا مستحق للعبادة الا هو والله لئن دعونا وعبدنا الها سواه لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً اى قولا باطلا بعيدا عن الحق والتحقيق بمراحل وصرنا حينئذ مغمورين في الشرك والكفر وانواع الضلال والطغيان عصمنا الله منها ثم قالوا على سبيل التعريض والتسفيه هؤُلاءِ الضالون من منهج الرشد ومسلك السداد قَوْمُنَا اتَّخَذُوا من شدة غوايتهم وضلالهم مِنْ دُونِهِ سبحانه آلِهَةً باطلة اى أصناما وأوثانا يعبدونها كعبادة الله لَوْلا وهلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ اى بحجة واضحة وبينة لائحة معجزة صادقة باهرة صادرة من قبلهم دالة على لياقتهم الألوهية والربوبية فان لم يأتوا فما هم الا مفترون على الله بإثبات الشريك له فَمَنْ أَظْلَمُ واطغى وأضل واغوى مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الواحد الأحد المستقل بالالوهية باتخاذ الشريك سيما أمثال هذه التماثيل العاطلة كَذِباً مخالفا للواقع غير مطابق له بلا مستند عقلي او نقلي بل ظلما وزورا وبعد ما قد جرى بينهم وبين دقيانوس ما جرى قال بعض الفتية لبعضهم قد وجب اليوم علينا الاعتزال منهم وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ايها الموحدون وهجرتموهم وَكذا ما يَعْبُدُونَ اى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان التي هم يعتقدونها آلهة شركاء مع الله يعبدونها كعبادته وما تعبدون أنتم حينئذ إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الحق الحقيق بالعبادة وتخلصون العبادة له سبحانه بلا خوف منهم ودهشة من مكرهم ومكائدهم وان فعلتم هكذا لكان اولى وأليق بحالكم وبالجملة اتفقوا على الاعتزال واختيار الغربة والفرار من بينهم فاعتزلوا منهم واخرجوا من أظهرهم فارين فَأْوُوا وانصرفوا إِلَى الْكَهْفِ المعهود ملتجئين الى ربكم من خوف عدوكم متوكلين عليه في رزقكم ومعاشكم وان انصرفتم ورجعتم كذلك يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ بعد ما اخلصتم العمل إياه وفررتم نحوه موائد إحسانه ويبسط عليكم مِنْ سعة رَحْمَتِهِ وجوده ما تعيشون به وتبقون بسببه ان تعلق مشيته سبحانه لإبقائكم وَبعد ما التجأتم الى الله وتوكلتم عليه مفوضين أموركم كلها اليه يُهَيِّئْ لَكُمْ البتة ويسهل عليكم مِنْ أَمْرِكُمْ الذي اخترتم لرضاء الله ورعاية جانبه مِرفَقاً اى ما ترتفقون وتنتفعون به من اللذات الروحانية بدل ما فوتم لأنفسكم من اللذات الجسمانية وَمن كمال رفق الله إياهم ورأفته معهم تَرَى الشَّمْسَ ايها الرائي إِذا طَلَعَتْ من مشرقها في مدة الصيف حين ازدياد حرارتها تَتَزاوَرُ اى تتقلب وتميل عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ اى جانب يمين الغار لئلا تؤذيهم بشعاعها وحرارتها وَإِذا غَرَبَتْ

[سورة الكهف (18) : آية 18]

اى زالت ومالت عن الاستواء نحو المغرب تَقْرِضُهُمْ وتقطعهم وتنصرف عنهم ذاتَ الشِّمالِ اى جانب يسار الغار لحفظهم وحضانتهم عن حرها وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ اى والحال انه هم في متسع الغار ووسطه لا في زواياه بحيث لو لم يكن رعاية الله وحفظه إياهم وصرف شعاع الشمس عنهم لكانت متشعشعة عليهم الى وقت الغروب ذلِكَ اى نشر الرحمة وتهيئة الرفق والرأفة وصرف أذى الشمس وكذا صرف جميع المؤذيات عنهم مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على قبوله سبحانه إياهم ورضاه عنهم لكونهم مهتدين الى زلال توحيده موفقين من عنده مبتغين لرضاه متوكلين عليه في جميع الأمور راضين بقضائه في كل الأحوال مخلصين له في عموم الأعمال مَنْ يَهْدِ اللَّهُ وأراد هدايته في سابق علمه وقضائه ومضى عليه حكمه ورضاؤه فَهُوَ الْمُهْتَدِ الموفق على الهداية والفوز بالفلاح المقصور عليها وان لم يصدر ولم يسبق منه الأعمال الصالحة تفضلا من الله إياه وامتنانا له من لدنه وَمَنْ يُضْلِلْ الله وتعلق مشيته بضلاله في سابق قضائه فهو الضال المقصور على الضلالة وان صدرت عنه الأعمال الصالحة لا يتبدل ضلالها أصلا وبعد ما أراد الحق ضلاله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا يتولى امره بالشفاعة لينقذه من الضلال الفطري ويخرجه عن الوبال الجبلي مُرْشِداً يهديه ويرشده الى طريق الرشد ومنهج السداد وَمن كمال لطف الله إياهم ووفور رأفته معهم لو رأيتهم ايها الرائي في مضاجعهم ومراقدهم تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً متيقظين لانفتاح عيونهم وورود أنفاسهم وعدم نتنهم وانفساخهم وَهُمْ في أنفسهم رُقُودٌ نائمون مستريحون وَنُقَلِّبُهُمْ عناية منا إياهم وقت احتياجهم الى التقلب ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ كي لا تؤثر الأرض باضلاعهم وجوانبهم وَكَلْبُهُمْ هو كلب قد مروا عليه حين اوائهم ورجوعهم نحو الغار معتزلين فلحقهم فطردوه مرارا فلم يطرد فانطقه الله تعالى فقال انا أحب اولياء الله وأحباءه دعوني اقتفى اثركم فتركوه فتبعهم وقيل هو كلب راع قد مضوا عليه فأطعمهم وحكوا عليه حالهم فتبعهم وتبعه كلبه وقراءة من قرأ وكالبهم يؤيد هذا باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ اى بالباب او العتبة او الفناء وبالجملة لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ ايها الرائي ورأيت هيئة رقودهم في تلك الغار المهيب لَوَلَّيْتَ اى استدبرت ورجعت قهقرى هربا وهولا مِنْهُمْ فِراراً من هيبتهم وهيئتهم وَلَمُلِئْتَ واملأت صدرك مِنْهُمْ رُعْباً خوفا ومهابة من رقودهم منفتحة العيون عظيمة الأجسام في غار مهيب في خلال جبال عوال طوال بعيد عن العمران وَكما ارقدناهم وأنمناهم على هذا الوجه العجيب والطرز الغريب كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ وأيقظناهم لِيَتَسائَلُوا ويتقاولوا بَيْنَهُمْ حتى يستشعروا عن مدة رقودهم ولبثهم في الغار ليطلعوا على كمال قدرة الله ووفور جوده ورحمته عليهم ليزدادوا ايمانا يقينا واطمئنانا واعتمادا ووثوقا على كرم الله وفضله وغاية لطفه وبعد ما قاموا من هجعتهم قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ راقدين في هذا الغار قالُوا على سبيل الظن والتخمين إذ النائم لاطلاع له على مدة نومه لَبِثْنا يَوْماً تاما أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنهم قد دخلوا الغار غدوة وانتبهوا في الظهيرة فظنوا انهم في يومهم او الذي بعده ثم لما شاهدوا طول اظفارهم واشعارهم قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ إذ هو قائم حاضر في كل حال بلا تبدل واختلال ونحن قد كنا نائمين لا شعور لنا بمدة رقودنا ايضا ولا يهم لنا تعيينها بل أهم أمورنا الآن الطعام إذ نحن جيعان فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ نحو المدينة مصحوبا بِوَرِقِكُمْ اى بعينكم ونقدكم المضروبة المسكوكة والورق في اللغة الفضة سواء كانت مضروبة أم لا والمراد هنا المضروبة هذِهِ

[سورة الكهف (18) : آية 20]

اشارة الى ما في يد القائل من النقد إِلَى الْمَدِينَةِ وهي طرسوس التي فروا منها من دقيانوس فَلْيَنْظُرْ الذاهب المرسل منا وليتأمل أَيُّها اى اى طبيخة طباخ أَزْكى أنظف وألذ طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ حتى نطعم ونحن جيعان وَلْيَتَلَطَّفْ الذاهب مع اهل السوق وليجامل معهم في المعاملة وَليخرج منها سريعا حتى لا يُشْعِرَنَّ ولا يطلعن القاصد بِكُمْ اى بحالكم ومكانكم أَحَداً من اهل البلد إِنَّهُمْ بعد اطلاعهم وشعورهم إِنْ يَظْهَرُوا ويغلبوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ويقتلوكم بضرب الأحجار البتة أَوْ يُعِيدُوكُمْ ويرجعوكم مرتدين فِي مِلَّتِهِمْ التي قد كنتم عليها قبل انكشافكم بالتوحيد وَلَنْ تُفْلِحُوا ولن تفوزوا بالفلاح والصلاح إِذاً اى حين عودكم وارتدادكم إليها أَبَداً اى لا يرجى فلاحكم بعد ارتدادكم أصلا ثم لما أرسلوا واحدا منهم الى البلدة فدخل على السوق ودار حول الطباخين واختار طبيخة زكية واخرج الدرهم ليشتري الطعام وكان عليه اسم دقيانوس فاتهموه بانه وجد كنزا فذهبوا به الى الملك وكان الملك نصرانيا موحدا فقص عليه القصة عن آخرها فقال بعض الحضار ان أبانا قد أخبرونا ان فتية قد فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء فانطلق الملك وجميع اهل المدينة مؤمنهم وكافرهم فابصروهم وكلموا معهم ثم قالت الفتية للملك نستودعك الله ونعيذك من شر الجن والانس ثم رجعوا الى مضاجعهم وباتوا فماتوا فدفنهم الملك وبنى عليهم مسجدا وَكما أنمناهم نوما طويلا شبيها بالموت ورحمناهم حيث نقلبهم من جانب الى جانب وحفظناهم من حر الشمس وانواع المؤذيات وبعثناهم من نومهم بعث الموتى للحشر ليزدادوا ثقة وبصيرة على الله كَذلِكَ أَعْثَرْنا واطلعنا عَلَيْهِمْ وعلى من شاهد حالهم وسمع قصتهم من المؤمنين لِيَعْلَمُوا ويتيقنوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ القادر المقتدر بالقدرة التامة الكاملة لكل ما أراد وشاء حَقٌّ ثابت لائق له ان ينجزه بلا خلفه وَيتيقنوا خصوصا أَنَّ السَّاعَةَ اى الموعودة التي قد وعدها الحق بألسنة جميع الأنبياء ورسله آتية لا رَيْبَ فِيها وارتفع نزاع الناس فيها ببعثة هؤلاء الفتية بعد ثلاثمائة وتسع سنين اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ المتعلق بدينهم في الحشر والمعاد الجسماني إذ القادر على حفظهم ورعايتهم في المدة المذكورة وبعثهم بعدها قادر على احياء جميع الموتى من قبورهم واعادة الروح الى أجسامهم إذ أمثال هذا أسهل يسير في جنب قدرة الله وارادته وبعد ما بعثناهم من مراقدهم واطلعنا الناس عليهم فمضوا وتكلموا معهم وحكوا ما حكوا واخبر القوم لهم بمدة رقودهم واستودعوا مع القوم ورجعوا نحو المراقد وباتوا فماتوا وانقرضوا فاختلف الناس في أمرهم وشأنهم فقال المسلمون هم منا لأنهم موحدون وقال الكافرون لا بل هم منا إذ هم أولاد الكفار وبالجملة فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً قال المسلمون نحن نبنى عليهم مسجدا وقال الكافرون نحن نبنى عليهم كنيسة وكلا الفريقين ليسوا عالمين لا بكفرهم ولا بايمانهم بل رَبُّهُمْ الذي رباهم بأنواع التربية ورحمهم بأنواع الرحمة أَعْلَمُ بِهِمْ وبحالهم فأمرهم موكول الى الله مفوض اليه سبحانه ثم لما تمادى النزاع بينهم وتطاول جدالهم قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ بالقوة والحجة وهم الموحدون المسلمون لَنَتَّخِذَنَّ ولنبنين عَلَيْهِمْ مَسْجِداً نتوجه فيه لله ونتبرك بهم ونجعله محل الحاجات وقضاء المناجاة فاتخذوا مسجدا وجعلوه مرجعا يرجع نحوه الأقاصي والأداني ثم لما اختلف الخائضون في قصتهم في عددهم ذكر سبحانه أقوالهم أولا ثم بين ما هو اولى وأحق وأوفق للواقع فقال سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ اى مصيرهم اربعة كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ

[سورة الكهف (18) : آية 23]

اى مصيرهم ستة كَلْبُهُمْ كلا القولين الاول قول اليهود والثاني قول النصارى قد صدر عنهم رَجْماً ورميا بِالْغَيْبِ إذ لا مستند لهم لا من التواريخ ولا من اقوال الرسل والكتب وَيَقُولُونَ هم سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ اى مصيرهم ثمانية كَلْبُهُمْ والواو وان كان مقحما أفاد توكيد لصوق الصفة بالموصوف وشدة اتصاله به ليدل على صدقه ومطابقته للواقع ومثله في القرآن كثير منه قوله تعالى وما أهلكنا من قرية الا ولها كتاب معلوم وغير ذلك وهي مثل الواو في قولهم جاءني زيد ومعه ثوب هذا قول المؤمنين قد أخذوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو من جبرائيل عليه السّلام وجبرائيل من الله العزيز العليم فان شكوا فيه ايضا ونسبوه الى الرمي والتخمين قُلْ لهم يا أكمل الرسل رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ إذ لا يعزب عن علمه شيء من أحوالهم من أول أمرهم الى آخره إذ علمه سبحانه بعموم معلوماته حضورى لا يعزب عن حضوره شيء أصلا وهم ما يَعْلَمُهُمْ عن أحوالهم إِلَّا قَلِيلٌ بالاخبار والتواريخ وأكثرها غير مطابق للواقع ولما كان قولهم وعلمهم راجعا الى الرجم والرمي بلا مستند فَلا تُمارِ ولا تجادل يا أكمل الرسل فِيهِمْ اى في حق الفتية إِلَّا مِراءً ظاهِراً اى جدالا خفيفا مقتصرا على ما قد أوحينا إليك لا متعمقا غليظا بان تجهلهم وتسفههم وتضحك أنت من قولهم وتنسبهم الى الخرافة والخرق وَلا تَسْتَفْتِ ايضا ولا تسأل فِيهِمْ اى في حق الفتية وشأنهم مِنْهُمْ اى من اهل الكتاب أَحَداً ايدا يعنى لا تستفت أنت يا أكمل الرسل أحدا منهم عن قصتهم وشأنهم بعد ما قد ظهر عندك أمرهم بالوحي والإلهام الإلهي إذ استفتاؤك بعد الوحى اما سؤال تعنت وامتحان فهو لا يليق برتبة النبوة والرسالة بعيد بمراحل عن مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم اللازمة لمرتبة البنوة واما سؤال استعلام واسترشاد فهم قاصرون عاجزون عنها مع انه لا معنى للسؤال بعد الوحى ثم لما امر اليهود للقريش ان يسألوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سؤال تعنت وامتحان عن الروح وذي القرنين واصحاب الكهف فسألوا فقال صلّى الله عليه وسلم ائتوني غدا أخبركم عنها قاله هكذا بلا استثناء وتعليق بمشية الله تعالى تبركا اى لم يقل ان شاء الله فانسد عليه صلّى الله عليه وسلّم باب الوحى بضعة عشر يوما فشق الأمر عليه صلّى الله عليه وسلم وكذبته القريش فتحزن حزنا شديدا فنهاه سبحانه نهيا مؤكدا وأدبه تأديبا بليغا لئلا يترك الاستثناء في مطلق الأمور أصلا فقال وَلا تَقُولَنَّ أنت يا أكمل الرسل البتة لِشَيْءٍ قد عزمت عليه وأردت ان تفعله إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً على سبيل البت والمبالغة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ اى الا ان تذكر وتجئ بالاستثناء بعد عزمك بقولك ان شاء الله وَبالجملة اذْكُرْ رَبَّكَ يا أكمل الرسل إِذا نَسِيتَ وتركت ذكر الاستثناء والتعليق على مشية الله في خلال الأمور حين القصد والعزيمة والقول بالاصدار بعد ما تذكرت نسيانك تلافيا لما نسيت وتداركا لما تركت ولو بعد حين بل سنة فقل ان شاء الله متذكرا الأمر الذي قد تركت التعليق فيه قضاء لما فات وَقُلْ بعد ما قد كشفنا عليك جوابهم هذا شكرا له وابتهاجا عليه وطلبا للمزيد منه سبحانه عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي وأرجو من فضله وجوده ان يرشدني ويدلني لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً اى لأمر هو اقرب دلالة من امر اصحاب الكهف وقصتهم الى الهداية والرشد وأوضح إيصالا الى مسلك الصواب والسداد تأييدا لنبوتي وتشييدا لرسالتي وقد هداه وأرشده بأعظم من ذلك كالاخبار عن بعض الغيوب وقصص الأنبياء المتباعد عهدهم وزمانهم

[سورة الكهف (18) : آية 25]

وامارات الساعة وأشراطها وإنزال القرآن المشتمل على الرطب واليابس الحادثين في العالمين الجاريين في النشأتين وَكما اختلف اهل الكتاب في عدد الفتية اختلفوا ايضا في مدة لبثهم في النار راقدين نائمين قال بعضهم قد لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ بالسنة الشمسية على ما هو المشهور وَبعضهم قد ازْدَادُوا عليها تِسْعاً من تلك السنة ايضا وان كان المراد بالسنة الاولى شمسية والثانية قمرية كان كلا القولين واحدا موافقا لان التفاوت بينهما في كل مائة سنة ثلاث سنين فيكون الزيادة في ثلاث مائة تسع سنين قمرية قُلِ يا أكمل الرسل بعد ما لم يوجد شيء يوثق به ويعتمد عليه في تعيين مدة لبثهم في الغار سوى التخمين والحسبان اللَّهُ المطلع لجميع السرائر والخفايا أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا اى بمدة لبثهم في كهفهم راقدين إذ لَهُ سبحانه لا لغيره من مظاهره واظلاله غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى الاطلاع على المغيبات الواقعة في العلويات والسفليات اطلاعا حضوريا شهوديا بحيث لا يجرى في مبصراته ومسموعاته سبحانه من كمال انكشافه وانجلائه عنده ان يقال له أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ كما يجرى في مبصراتنا ومسموعاتنا لاستغنائه وتنزهه سبحانه عن الالتفات والإصغاء بل عموم المغيبات والمحسوسات في جنب حضوره وحضرة علمه على السواء بلا تفاوت أصلا. ثم قال سبحانه ما لَهُمْ اى لأهل السموات والأرض مِنْ دُونِهِ اى من دون الله المراقب مِنْ وَلِيٍّ يتوليهم ويلي أمورهم إذ هو سبحانه مستقل بالوجود والتصرف في ملكه وملكوته بلا مظاهرة احد ومعاونته وَلا يُشْرِكُ بمقتضى تعززه وكبريائه وسطوته واستيلائه فِي حُكْمِهِ السابق في قضائه اجمالا واللاحق في قدره تفصيلا أَحَداً من مظاهره ومصنوعاته بل له الإيجاد والاعدام والأحياء والاماتة والتخليق والترزيق وجميع ما ظهر من الآثار المترتبة على الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية وكذا جميع ما حدث من الحوادث الجارية الكائنة في الأنفس والآفاق كلها مستندة اليه تعالى أولا وبالذات بلا تخلل الوسائل والوسائط العادية الناشئة من الأوهام والخيالات الباطلة بالنسبة الى اولى الأحلام السخيفة وذوى الحجب الكثيفة المنافية لرؤية الحق وانجلائه في المظاهر كلها واما ارباب الوصول والشهود وهم الذين قد رتقوا حجب الخيالات وسدل الأوهام والعادات فلا يرون في الوجود سواه ولا اله عندهم في الشهود الا هو لذلك لم يسندوا شيأ من الحوادث الكائنة بمقتضى التجليات والشئون الإلهية الا له سبحانه إذ ليس وراء الله عندهم مرمى ومنتهى وَإذا كان مفاتيح جميع المغيبات ومقاليد عموم العلوم والإدراكات وكذا جميع ما في العالم من المحسوسات والمشاهدات كلها مستندة اليه سبحانه اصالة ناشئة من لدنه حقيقة اتْلُ يا أكمل الرسل على من تبعك من المؤمنين ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ على الوجه الذي انزل إليك بلا تبديل ولا تحريف إذ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ولا متصرف في كلامه سواه ولا تسمع قول المشركين ائت بقرآن غير هذا او بدله إذ لا يسع لاحد ان يبدله ويحرفه وَان هممت أنت الى تبديله من تلقاء نفسك لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ سبحانه مُلْتَحَداً ملاذا وملجأ تلتجئ اليه عند نزول عذاب الله وحلول غضبه وانتقامه على تبديلك وتغييرك كلامه ثم لما طلب صناديد القريش من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابعاد فقراء المؤمنين وطردهم عن مجلسه مثل ابن أم مكتوم وابى ذر وسائر فقراء أصحابه لرثاثة حالهم وشمول الفاقة عليهم ليصاحبوه صلّى الله عليه وسلّم ويجالسوا معه فهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على إنجاح ما أرادوا حيث امر صلّى الله عليه وسلّم بالفقراء ان لا يحضروا

[سورة الكهف (18) : آية 28]

معهم في مجلسه رد الله سبحانه على رسوله ردا بليغا ونهاه عنه نهيا شديدا حيث قال سبحانه مؤدبا له صلّى الله عليه وسلّم بل مقرعا عليه وَاصْبِرْ نَفْسَكَ اى ان التمست القريش منك ابعاد الفقراء وبالغوا في طردهم وذبهم عن صحبتك لا تجبهم أنت ولا تنجح مطلوبهم بل اصبر ووطن نفسك المائلة الى غناهم وصفاء زيهم ولباسهم مَعَ الفقراء الَّذِينَ شأنهم انهم يَدْعُونَ ويعبدون رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ اى طرفي النهار وما بينهما يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ويتوجهون نحوه مخلصين بلا ميل عنهم الى الهوى ومزخرفات الدنيا مع غاية فقرهم وفاقتهم وَلا تَعْدُ اى لا تمل ولا تصرف عَيْناكَ عَنْهُمْ لرثاثة حالهم وخلق ثيابهم الى الأغنياء وزيهم البهي حال كونك تُرِيدُ وتقصد زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا بالالتفات إليهم والميل الى مصاحبتهم ومجالستهم والركون الى جاههم وثروتهم وَلا تُطِعْ ولا تتفق معهم في طرد الفقراء والاعراض عنهم بمجرد ميلك الى ايمان أولئك الأغنياء البعداء عن روح الله ورحمته ولا تلتفت التفات متحنن متشوق الى مَنْ قد أَغْفَلْنا قَلْبَهُ وختمنا عليه بالإعراض عَنْ ذِكْرِنا ختما لا يرتفع عنه أصلا وَلذا قد صار من العتو والعناد الى ان اتَّبَعَ هَواهُ واتخذه الها واجتنب عن مولاه ونبذه وراءه وَبالجملة قد كانَ أَمْرُهُ وشأنه في هذا الاتباع والاتخاذ فُرُطاً ميلا وتقدما نحو الباطل افراطا وتفريطا اعراضا عن الحق ونبذا له وراءه ظهريا وَقُلِ على سبيل الإرشاد والتبليغ بلا مراعاة ومداهنة الْحَقُّ الصريح الثابت ما قد نزل ونشأ مِنْ رَبِّكُمْ الذي قد انشأكم وأظهركم من كتم العدم وأصلح أحوالكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبلغ جميع ما اوحى إليك إياهم بلا تبديل ولا تغيير إذ ما عليك الا البلاغ والتبليغ فَمَنْ شاءَ منهم الفوز والفلاح فَلْيُؤْمِنْ بالله وكتبه ورسله حسب ما بلغت وَمَنْ شاءَ منهم الوبال والنكال في الدارين فَلْيَكْفُرْ واعلم انه سبحانه لا يبالى بكفرهم ولا بايمانهم إذ هو منزه بذاته عن ايمان عباده وكفرهم. ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والتنبيه إِنَّا من مقام عدلنا وقهرنا سيما على من اعرض عنا من عبادنا وانصرف عن مقتضى أوامرنا ونواهينا أَعْتَدْنا وهيأنا سيما لِلظَّالِمِينَ منهم الخارجين عن مقتضيات حدودنا وأحكامنا الموضوعة فيما بينهم لإصلاحهم ناراً ذات التهاب ومهيب واشتعال عال بحيث قد أَحاطَ اى احتوى واشتمل بِهِمْ سُرادِقُها اى لهبها التي هي كالفسطاط في الاحاطة والشمول والفسطاط البيت المتخذ من الشعر وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من شدة العطش ونهاية حرقة الكبد والزفرة المفرطة يُغاثُوا ويجابوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ في اللون وهو الحديد المذاب وفي الحرارة الى حيث يَشْوِي الْوُجُوهَ ويحرقها وقت تقريبه الى الفم للشرب وبالجملة بِئْسَ الشَّرابُ شراب المهل وَساءَتْ جهنم وأوديتها المملوة بنيران الحرمان والخذلان مُرْتَفَقاً منزلا ومسكنا يسكنون فيها ابدا مخلدا ثم اتبع سبحانه الوعيد بالوعد بمقتضى سنته السنية المستمرة في كتابه هذا فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة ذاتنا وبكمالات اوصافنا وأسمائنا وصدقوا إرسال الرسل وإنزال الكتب المبينة الموضحة لأحكامنا الصادرة منا على مقتضى الأزمان والأدوار وَمع الايمان والإذعان قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم في الكتب والسنة الرسل واجتنبوا ايضا عما نهيناهم عنها فجزاؤهم علينا نجازيهم ونضاعف لهم بأضعاف ما يستحقون بأعمالهم الحسنة وإخلاصهم فيها إِنَّا من مقام عظيم فضلنا وجودنا لا نُضِيعُ ولا نهمل أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا وأخلص نية وأتم قصدا

[سورة الكهف (18) : آية 31]

وأكمل عزيمة أُولئِكَ السعداء المحسنون المخلصون لَهُمْ في النشأة الاخرى جَنَّاتُ عَدْنٍ اى متنزهات اقامة وخلود من مراتب العلم والعين والحق ومع ذلك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المتجددة بتجددات التجليات الإلهية والنفسات الرحمانية المترشحة من رشحات رشاشات بحر الذات الازلية الابدية ومع ذلك يُحَلَّوْنَ ويزينون فِيها مِنْ أَساوِرَ وخلاخل متخذة مِنْ ذَهَبٍ جزاء ما قد هذبوا أخلاقهم وجوارحهم بمقتضى الأوامر الإلهية في النشأة الاولى وَيَلْبَسُونَ فيها ثِياباً خُضْراً مصنوعة مِنْ سُنْدُسٍ وهو ما رق من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ هو ما غلظ منه جزاء ما اتصفوا في النشأة الاولى بزي التقوى ولباس الصلاح ومن كمال تنعمهم وترفههم يكونون مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ والسرر متمكنين عليها جزاء ما قد حملوا من المتاعب والمشاق في مواظبة الطاعات وملازمة العبادات وبالجملة نِعْمَ الثَّوابُ ونعم الجزاء جزاء اهل الجنة وثوابهم وَحَسُنَتْ المتنزهات الثلاث مُرْتَفَقاً لهم يرتفقون وينتفعون فيها مع اهل الكشف والشهود بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ثم امر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بضرب المثل لتوضيح حال المؤمن والكافر ومآل أمرهما وشأنهما فقال وَاضْرِبْ لَهُمْ يا أكمل الرسل مَثَلًا مبينا موضحا وهو ان رَجُلَيْنِ من بنى إسرائيل كانا أخوين أحدهما مؤمن موحد والآخر كافر مشرك مات أبوهما وورثا منه أموالا عظاما فاقتسما فصرف المؤمن ماله في سبيل الله وأنفق للفقراء واليتامى والمساكين وابن السبيل واشترى الكافر مكاسب ومزارع وكثر ماله الى ان جَعَلْنا لِأَحَدِهِما اى للكافر ابتلاء له واختبارا جَنَّتَيْنِ بستانين مملوين مِنْ أَعْنابٍ وكروم وَحَفَفْناهُما اى احطنا كلا منهما بِنَخْلٍ لتزيدا حسنا وبهاء وَجَعَلْنا بَيْنَهُما اى بين الجنتين زَرْعاً مزرعة ومحرثة للحبوب والأقوات من الحنطة والشعير وغيرهما كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ قد تمتا وكملتا الى ان آتَتْ واثمرت كل منهما أُكُلَها وثمرتها كاملة وافرة في كل سنة وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً اى لم تنقص من ثمرتهما وحاصلهما شيأ من النقصان كما هو المعهود في سائر البساتين فان ثمرها يتوفر في عام وينقص في اخرى وَمع ذلك قد فَجَّرْنا وأجرينا خِلالَهُما اى في اوساط الجنتين المذكورتين نَهَراً ليدوم سقيهما وَمع تينك الجنتين واثمارهما قد كانَ لَهُ ثَمَرٌ اى اموال عظام وامتعة كثيرة من انواع الأجناس والنقود والجواهر والعبيد وغير ذلك فَقالَ الأخ الكافر يوما على سبيل البطر والمباهاة لِصاحِبِهِ اى للأخ المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ ويخاطبه مفتخرا مباهيا بعرض الأموال والزخارف عليه ويشنعه ويعيره ضمنا ويقرعه تقريعا خفيا الى ان قال بطرا أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وبالأموال تقتنص عموم الأماني والآمال وتنال بجميع اللذائذ والشهوات وَأَعَزُّ نَفَراً أبناء وعشائر واحشاما وخدمة يظاهرون ويعاونون على لدى الحاجة ويصاحبون معى في الحضر والسفر وَمن شدة بطره وخيلائه دَخَلَ يوما جَنَّتَهُ التي ذكر وصفها وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بعرضها على عذاب الله وانواع عقابه بكفره بالله وجحوده بأوصافه وأسمائه وبطره بحطام الدنيا وإعجابه على نفسه اتكالا على ثروته وجاهه وكثرة أعوانه وانصاره قالَ من طول أمله وحرصه وشدة غروره وغفلته ما أَظُنُّ بل ما اشكّ وأوهم أَنْ تَبِيدَ اى تنهدم وتنعدم هذِهِ الجنة أَبَداً بل هي على هذا القرار والنضارة والنزاهة دائما وَايضا ما أَظُنُّ واعتقد السَّاعَةَ

[سورة الكهف (18) : آية 37]

الموعودة التي اخبر بها اصحاب الدعاوى من الأنبياء والرسل قائِمَةً آتية كائنة البتة بلا تردد وشك حتى تنهدم وتنعدم هذه بانعدام العالم وانقراضها وَلَئِنْ رُدِدْتُ يعنى ان فرض وقدر قيام الساعة وانقضاء النشأة الدنياوية على ما زعموا وبعثت من قبري على الوجه الذي ادعوا ورددت إِلى رَبِّي للحساب والجزاء وعرض الأعمال وتنقيدها لَأَجِدَنَّ البتة جنة في العقبى خَيْراً مِنْها اى من هذه الجنة الدنياوية فأخذها واختارها يومئذ مُنْقَلَباً مرجعا ومنزلا كما أخذت هذه في الدنيا وانما يقول ذلك على سبيل الاستهزاء والاستخفاف وبالجملة انى حقيق حرى بذلك في الدنيا والآخرة ايضا ان فرض وجودها ثم لما تمادى في المباهاة والمفاخرة وتطاول كلامه في الغفلة والغرور والإنكار على الله وعلى كمال قدرته وقوته وسرعة نفوذ قضائه وحكمه المبرم متى تعلقت ارادته قالَ لَهُ صاحِبُهُ اى المؤمن وَهُوَ يُحاوِرُهُ على سبيل العظة والتذكير وانواع التسفيه والتعيير أَكَفَرْتَ وأنكرت ايها المفسد الطاغي بِالَّذِي خَلَقَكَ اى بالخالق الذي قد قدر أولا مادتك مِنْ تُرابٍ خسيس مرذول الى ان قد صارت من كثرة التبدلات والتغيرات عليها نطفة مهينة ثُمَّ قدرها ثانيا مِنْ نُطْفَةٍ دنية يستحقرها بل يستخبثها جميع الطباع لخروجها من مجرى البول ثُمَّ سَوَّاكَ منها وعدلك شخصا سويا سالما ورباك بأنواع اللطف والكرم الى ان صرت رَجُلًا رشيدا عاقلا بالغا كافلا للأمور والوقائع كافيا لإحداث الغرائب والبدائع وافيا في جميع المضار والمنافع ثم كلفك بالإيمان والمعرفة والإتيان بالأعمال الصالحة والإذعان بالنشأة الاخرى وما يترتب عليها من العرض والحساب والسؤال والجزاء وجميع المعتقدات الاخروية التي هي علة ايجادك ومصلحة إظهارك ووجودك فاستكبرت أنت جهلا واستنكرت الى ان قد كفرت عنادا ومكابرة فستعرف حالك فيها ايها الطاغي الباغي المستحق لانواع العذاب والعقاب لكِنَّا اى لكن انا لا اكفر ولا أنكر مثلك ربي الذي أظهرني من كتم العدم ولم أك شيأ مذكورا وقدر مادتي من التراب الأدنى الأرذل ثم من المنى الاخبث الأنزل ثم عدلنى وسوانى رجلا رشيدا كاملا في العقل والرشد لأعرف ذاته فاعبده واشكر نعمه وأؤدي حقوق كرمه على وأتوجه نحوه وأتضرع اليه واصدق رسله وكتبه وجميع ما فيها من الأوامر والنواهي وعموم المعتقدات التي قد وجب الاعتقاد بها من الأمور المتعلقة بالنشأة الاولى والاخرى فكيف أنكره واكفر نعمه وانسى حقوق لطفه وكرمه إذ هُوَ اللَّهُ رَبِّي ورب جميع من في حيطة الوجود من الاظلال والعكوس وهو المستقل في الوجود والألوهية والربوبية وهو المتوحد المتفرد بالقيومية والديمومية وَبالجملة لا أُشْرِكُ بِرَبِّي الذي رباني بأنواع اللطف والكرم أَحَداً سواه إذ لا شيء في الوجود الا هو وَلَوْلا وهلا وقت إِذْ دَخَلْتَ ايها المدبر الغافل جَنَّتَكَ التي افتخرت بها قُلْتَ بدل قولك ما أظن ان تبيد ما شاءَ اللَّهُ اى ما شاء وأراد دوامها وثباتها يتأبد وما لم يشأ لم يتأبد إذ لا قُوَّةَ ولا قدرة للتأبيد والتخريب إِلَّا بِاللَّهِ اصالة وحقيقة وأنت ايها الكافر المفرط المسرف المنكر إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فعيرتنى وعرضت على أولادك وضياعك وزخارفك بطرا وبوحا مع انى اكثر منك ايمانا وعرفانا وثقة على الله واتكالا عليه فَعَسى رَبِّي وأرجو من كمال فضله وجوده أَنْ يُؤْتِيَنِ ويعطيني في الدنيا والعقبى جنة خَيْراً ى أزيد حسنا وبهاء ونضارة وصفاء مِنْ جَنَّتِكَ التي أنت تتفوق وتتفضل بها على إذ هو القادر على كل ما أراد وشاء وَايضا عسى ان يُرْسِلَ

[سورة الكهف (18) : آية 41]

بغتة عَلَيْها اى على جنتك هذه حُسْباناً اى صواعق نازلة ليلا مِنَ السَّماءِ فحرقتها وخربتها واستأصلتها فَتُصْبِحَ أنت وترى صَعِيداً ترابا زَلَقاً ملساء لا تثبت فيها قدم ولا تنبت فيها نبات أَوْ يُصْبِحَ ويصير ماؤُها الجاري في خلالها غَوْراً غائرا عميقا بحيث لا يمكن سقيها منه أصلا لبعد غوره وعمقه فَلَنْ تَسْتَطِيعَ أنت ولن تقدر لَهُ طَلَباً بالحفر والحيل وانواع التدابير وقد اعطى سبحانه من فضله وسعة جوده الأخ المؤمن ما أمله تفضلا عليه وامتنانا وَأرسل على بستان الأخ الكافر صواعق نازلة من السماء كثيرة الى حيث أُحِيطَ بِثَمَرِهِ وعمت جميع ما فيها من الثمار فلم يبق الانتفاع بها أصلا وبالجملة قد غار ماؤها وذهب رواؤها واضمحلت نضارتها ولم يبق صفاؤها فَأَصْبَحَ الكافر يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظهرا وبطنا تلهفا وتحزنا عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وفي انشائها وتعميرها من الأموال العظام وَالحال انه هِيَ اى الجنة خاوِيَةٌ ساقطة عَلى عُرُوشِها اى عروشها قد سقطت على الأرض والكروم عليها محرقا جميعها وَيَقُولُ الكافر حينئذ بعد ما أفاق عن سكر الغرور والغفلة وتفطن على منشأ تلك الصدمة والصولة الإلهية نادما متحسرا متمنيا يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً تعنتا واستكبارا حتى لا يلحق على ما لحقني من البوار والخسار وَبالجملة لَمْ تَكُنْ لَهُ حينئذ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ حسب مباهاته ومفاخرته بالأعوان والأنصار من بأس الله واخذه بل لا ناصر له مِنْ دُونِ اللَّهِ ولا مغيث له سواه وبالجملة ان استنصر منه سبحانه واستغفر له نادما عما صدر عنه من الجرءة والجرائم فقد نصره سبحانه وعفا عنه وان عظمت زلته وَما كانَ ايضا بنفسه على مقتضى استبداده وثروته مُنْتَصِراً مخلصا منجيا نفسه عن أمثال هذه النكبات بل هُنالِكَ وفي أمثال تلك الحالة والواقعة الْوَلايَةُ والنصرة والغلبة والاستعلاء والاستيلاء والعظمة والكبرياء والتعزز والاستغناء ليست الا لِلَّهِ الْحَقِّ الثابت القيوم المطلق الحقيق بالحقية والقيومية الجدير بالبسطة والديمومية ابدا ولذلك هُوَ سبحانه بذاته وبمقتضى ألوهيته وربوبيته خَيْرٌ ثَواباً في النشأة الاخرى لأوليائه وهو أكرم عطاء لأحبائه وامنائه فيها وَخَيْرٌ عُقْباً لانتقام أعدائه انتصارا لأوليائه وَاضْرِبْ لَهُمْ اى اذكر يا أكمل الرسل للمائلين الى الدنيا ومزخرفاتها ومستلذاتها الفانية الغير القارة المستتبعة المستعقبة لانواع الآثام والعصيان المستلزمة المستجلبة لغضب الله وسخطه ومثل لهم مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا وانقضائها وفنائها سريعا كَماءٍ اى مثلها مثل ماء قد أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ إظهارا لكمال قدرتنا وعجائب صنعتنا وبدائع حكمتنا فَاخْتَلَطَ بِهِ اى بالماء الاجزاء الارضية بحيث تكاثف وغلظ بسببها فنبت منه نَباتُ الْأَرْضِ وصار في كمال الطراوة والنضارة والحسن والبهاء الى حيث تعجب منها ابصار اولى الألباب والاعتبار ثم يبس من حر الشمس وبرد الهواء فَأَصْبَحَ هَشِيماً وصار مهشوما متفرق الأوراق متفتت الاجزاء بحيث تَذْرُوهُ اى تثيره وتطيره الرِّياحُ كيف تشاء وَكانَ اللَّهُ العزيز الغالب عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته مُقْتَدِراً كاملا بحيث لا ينتهى قدرته لدى المراد بل له التصرف فيه الى ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله ومتى سمعت وعلمت حال حيوة الدنيا ومآل أمرها وعاقبتها وانكشفت بعدم ثباتها وقرارها فاعلم ان معظم ما يتفرع عليها الْمالُ وَالْبَنُونَ إذ هما زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا الفانية حاصلان منها عارضان عليها ومتى لم يكن للمعروض دوام وبقاء فللعارض بالطريق الاولى وَالْباقِياتُ التي

[سورة الكهف (18) : آية 47]

تبقى معك في أولاك وأخراك الأعمال الصَّالِحاتُ المقربة لك الى الله المقبولة عنده المترتبة عليها النجاة من العذاب والنيل الى الفوز والفلاح وهي خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً اجرا وجزاء حسنا من اللذات الروحانية الموعودة لأرباب القبول والقلوب وَخَيْرٌ أَمَلًا اى عاقبة ومآلا إذ بها ينال المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات الموعودة لأرباب العناية والقبول من اصحاب القلوب الصافية المؤملين في عموم أوقاتهم وحالاتهم شرف لقاء الله والفوز بمطالعة وجهه الكريم وَاذكر يا أكمل الرسل للناس الناسين عهود الله ومواثيقه الوثيقة يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ ونحركها بالقدرة الكاملة والسطوة الهائلة الغالبة تحريكا شديدا بحيث نفتت اجزاءها ونحلل تراكيبها ونشتتها الى ان صارت دكاء وَتَرَى ايها المعتبر الرائي يومئذ الْأَرْضَ المملوة بالجبال الرواسي الحاجبة عما وراءها بارِزَةً ظاهرة ملساء مسوى بحيث لا ارتفاع لبعض اجزائها على بعض مظهرة لما فيها من الدفائن والخزائن والأموات المقبورة فيها وَبعد ظهورهم منها وبروزهم عليها قد حَشَرْناهُمْ وجمعناهم بأجمعهم حفاة عراة نحو الموقف والموعد المعد للعرض والجزاء فَلَمْ نُغادِرْ يومئذ ولم نترك مِنْهُمْ أَحَداً لا نسوقه الى المحشر بعد جمعهم واجتماعهم في المحشر جميعارِضُوا عَلى رَبِّكَ يا أكمل الرسل عرض العسكر على السلطان الصوري فًّا صافين على الاستواء بحيث لا يحجب احد أحدا بل كل واحد واحد بمرائى ومشاهد بلا سترة وحجاب ثم يقال لهم من قبل الحق على سبيل السطوة والاستيلاء واظهار الهيبة القاهرة والسلطنة الغالبةقَدْ جِئْتُمُونا اليوم حفاة وعراةما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ كذلك اى في بدء وجودكم وظهوركم لْ قد كنتم عَمْتُمْ وظننتم فيما مضى من شدة بطركم وغفلتكم لَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً اى انا لن نقدر على انجاز ما وعدناكم بالسنة رسلنا من البعث والحشر والعرض والجزاء بل قد كذبتم الرسل وانكرتم الوعد والموعود جميعا فالآن قد ظهر الحق الذي كنتم تمترون فيه وَبعد ما عرضوا صافين على الوجه المذكور وُضِعَ الْكِتابُ المشتمل على تفاصيل أعمالهم وجميع أحوالهم وأطوارهم من بدء فطرتهم الى انقراضهم من النشأة الاولى المعدة لكسب الزاد للنشأة الاخرى بين يدي الله على رؤس الاشهاد فَتَرَى ايها الرائي الْمُجْرِمِينَ حينئذ مُشْفِقِينَ خائفين مرعوبين مِمَّا فِيهِ اى في الكتاب قبل القراءة عليهم وَبعد ما قرئ عليهم وسمعوا جميع ما صدر عنهم كائنة مكتوبة فيه على التفصيل الذي صدر عنهم بلا فوت شيء يَقُولُونَ متحسرين متمنين الموت مناجين في نفوسهم منادين يا وَيْلَتَنا وهلكتنا ادركينا فهذا وقت حلولك ونزولك مالِ هذَا الْكِتابِ العجيب الشان الجامع لجميع فضائحنا وقبائحنا بحيث لا يُغادِرُ ولا يترك فضيحة صَغِيرَةً صادرة منا وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها فصلها وعدها بلا فوت خصلة منها. روى عن ابن مسعود رضى الله عنه الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة وَبالجملة قد وَجَدُوا عموم ما عَمِلُوا من الخير والشر والحميدة والذميمة حاضِراً فيه ثابتا مكتوبا على وجهها بلا نقصان شيء منها ولا زيادة عليها وَكيف لا يكون كذلك إذ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ يا أكمل الرسل أَحَداً من عباده لا بالزيادة ولا بالنقصان ولو قدر نقير ثم لما كان منشأ جميع الشرور والغرور وانواع عموم الفتن والغفلات واصناف الشرك والكفر والضلالات إبليس عليه اللعنة كرر سبحانه في كتابه قصة استكباره واستنكاره مرارا وأورده تكرارا تذكيرا للمتعظين المتيقظين وتنبيها على الغافلين المغرورين ليكونوا على ذكر منه ومن غوائله

[سورة الكهف (18) : آية 50]

وتسويلاته ليتيسر لهم الحذر عن وساوس أعوانه وانصاره الذين هم جنود الأوهام والخيالات الباطلة والأماني الكاذبة الناشئة من صولة الامارة المكارة الامكانية المستولية على القوى الوجوبية الروحانية فقال وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اى اذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إذ قلنا للملائكة المعترضين لنا على اصطفائنا آدم للخلافة والنيابة بعد افحامنا والزامنا إياهم بما الزمناهم اسْجُدُوا تواضعوا وتذللوا على وجه الخضوع والانكسار تكريما وتعظيما لِآدَمَ النائب المستخلف عنا بعد ما ظهر عندكم وعليكم فضله وشرفه واستحقاقه ورجحانه لأمر الخلافة فَسَجَدُوا بعد ما سمعوا متذللين امتثالا للأمر الوجوبي إِلَّا إِبْلِيسَ منهم قد ابى واستكبر ولم يسجد له بل قد علل بأنواع العلل العاطلة وجادل بأصناف المجادلات الباطلة الناشئة من خباثة فطرته وفطنته على ما سمعت غير مرة وانما امتنع وابى لأنه قد كانَ مِنَ الْجِنِّ في اصل خلقته فلحق بالملائكة لحكمة سابقة فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ حسب خلقته الاصلية وجبلته الفطرية أَفَتَتَّخِذُونَهُ وتأخذونه ايها المغرورون بتغريراته والمائلون الى تلبيساته وتزويراته سيما بعد ظهور هذه العداوة الظاهرة وَتتخذون ايضا ذُرِّيَّتَهُ المختلطة معكم المرتكزة في نفوسكم وقواكم اللاتي هي أعدى أعاديكم يترددون بين جنوبكم ويحومون حول قلوبكم أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي حيث تفوضون أموركم إليهم ليوالوا لكم وَالحال انه هُمْ أصلهم وفرعهم لَكُمْ عَدُوٌّ قديم مستمر وبالجملة بِئْسَ الشيطان وذريته وايضا بئس ولايتهما لِلظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى أوامرنا ونواهينا بَدَلًا عنا وعن ولايتنا إياهم. عن يحيى بن معاذ رضى الله عنه لا يكون من اولياء الله ولا يبلغ مقام الولاية من نظر الى شيء دونه واعتمد على سواه ولم يميز بين معاديه ومواليه ولم يعلم حال إقباله من حال إدباره انتهى فكيف تتخذون ايها الحمقى المسرفون إبليس وذريته أولياء من دوني مع انى ما أَشْهَدْتُهُمْ واحضرتهم اى إبليس وجنوده خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى وقت خلقهما وايجادهما ليعاونوا ويظاهروا على حتى تتخذوهم اولياء غيرى شركاء معى سيما في استحقاق العبادة وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ايضا اى لا احضر بعضهم عند خلق بعض منهم وَبالجملة انا مستقل بالخلق والإيجاد بل في الوجود ولذلك ما كُنْتُ في خلق الأشياء وإيجادها وإظهارها محتاجا الى المعين والظهير أصلا فكيف قد كنت مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ الضالين عن ساحة عز الحضور عَضُداً أعوانا وأنصارا اعتضد وانتصر بهم حتى تشاركوهم أنتم بي سيما في استحقاق العبادة والإطاعة بل ترجحونهم على بالمحبة والولاية وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يَقُولُ الله على سبيل التعبير والتقريع للكفار والمشركين نادُوا وادعوا ايها المنهمكون في الغي والضلال شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ انهم شفعاؤكم اليوم لذلك قد عبدتم لهم مثل عبادتي بل احسن منها حتى ينقذوكم من عذابي ويشفعوا لكم عندي فَدَعَوْهُمْ حينئذ صارخين مستغيثين فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ولم يجيبوا عنهم إذ هم حينئذ مشغولون بحالهم عنهم مأخوذون بوبالهم وَمع ذلك قد جَعَلْنا بَيْنَهُمْ اى بين العابدين ومعبوديهم مَوْبِقاً مهلكا عظيما واديا هائلا غائرا عميقا من اودية جهنم مملوة بالنار بحيث لا يمكن وصولهم أصلا وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ يعنى بعد ما عرضوا وحوسبوا وسيقوا نحو جهنم ليعذب فيها كل بمقتضى ما كسب من المعاصي والآثام الموجبة للاخذ والانتقام فَظَنُّوا بل تيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ملاصقوها وداخلوها البتة وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً معدلا ومنصرفا سواها لينصرفوا

[سورة الكهف (18) : آية 54]

اليه مع ان الموكلين يسوقونهم ويدخلونهم فيها زجرا وقهرا وَكيف يجدون مصرفا سواها ومن اين يتأتى لهم الانصراف اليوم إذ هم قد فوتوا على أنفسهم المنصرف وسبب الانصراف في النشأة الاولى مع انا لَقَدْ صَرَّفْنا وكررنا فِي هذَا الْقُرْآنِ المرشد الى الهداية الصارف عن مطلق الضلال والغواية لِلنَّاسِ المنهمكين في الغفلة والنسيان مِنْ كُلِّ مَثَلٍ اى من كل شيء مثلا موضحا ينبههم الى الهدى ويجنبهم عن الغفلة والهوى فلم يتنبهوا ولم يتفطنوا بل قابلوا الباطل بالحق معارضين وجادلوا مع اهل الحق معاندين مكابرين وَبالجملة كانَ الْإِنْسانُ المجبول على الكفران والنسيان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا اى جداله ومكابرته اكثر من جدال سائر المخلوقات وان كان رشده وإيمانه ايضا اكثر منها. ثم قال سبحانه وَما مَنَعَ النَّاسَ عن قبول الايمان وما صرفهم عن أَنْ يُؤْمِنُوا يوقنوا ويصدقوا بالمعتقدات الدينية سيما إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى اى النبي الهادي المؤيد بالكتاب المعجز المرشد وَما صرفهم ايضا عن ان يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ويتوبوا نحوه عن ظهر القلب عقيب كل معصية صادرة عنهم نادمين عنها بلا إصرار وإدمان ليسقط عنهم الأخذ والانتقام الأخروي إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ وتحيط بهم سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وما جرى عليهم من الإهلاك والاستئصال بغتة أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا اى أنواعا وأصنافا منه مترادفة متوالية كالكسف والخسف والمسخ وغير ذلك فيهلكهم على سبيل التدريج وَبالجملة ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ بأنواع الفتوحات والفيوضات الروحانية والكشوفات والشهودات اللدنية النورانية وَمُنْذِرِينَ عن انواع العذاب والعقاب والنكبات والبليات المورثة لانواع الخذلان والخسران والطرد والحرمان والخلود في النيران وبالجملة ما نرسلهم الا إصلاحا لأحوال الأنام وإرشادا لهم الى سبل السّلام وحثا لهم الى سلوك طريق التوحيد المنجى عن ظلمات الشكوك والأوهام وَمع ذلك يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله مع رسل الله ويخاصمون معهم متشبثين بِالْباطِلِ الزائغ الزائل لِيُدْحِضُوا ويزيلوا بِهِ ويزلقوا بتمويهاتهم وأباطيلهم الْحَقَّ الحقيق الثابت المستقر المطابق للواقع عن مقره وَكذلك قد اتَّخَذُوا وأخذوا آياتِي الدالة على عظمة ذاتى ووفور حكمتى وكمال قدرتي وقوتي وَكذا عموم ما أُنْذِرُوا اى قد اتخذوا جميع ما اشتملت عليه الآيات من الإنذارات والتخويفات وانواع الوعيدات هُزُواً اى موضع استهزاء وسخرية ومحل هزل وضحك لذلك قد نسبوها الى ما لا يليق بشأنها من الشعر والسحر والأساطير الكاذبة وغير ذلك من الهذيانات الباطلة والأباطيل الزائغة افتراء ومراء وَمَنْ أَظْلَمُ على الله وأسوأ أدبا بالنسبة اليه سبحانه مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ليتعظ بها ويصلح بسببها فَأَعْرَضَ عَنْها وانصرف عن سماعها فكيف عن قبولها وامتثالها استنكارا واستكبارا وَمع ذلك قد نَسِيَ ما قَدَّمَتْ اقترفت وكسبت يَداهُ من الجرائم والآثام وانواع الكفر والشرك والطغيان ولو اتعظوا بها وعملوا بمقتضاها لذهبت سيئاتهم وتضاعفت حسناتهم عناية من الله إياهم وكيف يتذكرون بها ولا يمكنهم التذكر إِنَّا بمقتضى قهرنا وسخطنا عليهم قد جَعَلْنا طبعنا وختمنا عَلى قُلُوبِهِمْ التي هي وعاء التذكر والقبول أَكِنَّةً حجبا غليظة كثيفة مانعة عن أَنْ يَفْقَهُوهُ اى القرآن ويفهموا معانيه ومقاصده فكيف غوامض رموزه وإشاراته وَقد طبعنا ايضا فِي آذانِهِمْ وَقْراً ثقلا وصمما يمنعهم عن الاستماع والإصغاء اليه فكيف عن فهمه والعمل به والامتثال بما فيه من الأوامر والنواهي وَ

[سورة الكهف (18) : آية 58]

من غلظ غشاوتهم وشدد ضممهم وقساوتهم إِنْ تَدْعُهُمْ يا أكمل الرسل إِلَى الْهُدى وترشدهم الى الفوز بالفلاح والنجاح فَلَنْ يَهْتَدُوا ولن يفوزوا إِذاً أَبَداً في حال من الأحوال وحين من الأحيان لقساوة قلوبهم وصمم صماخهم بختمنا وطبعنا إذ لا يبدل قولنا ولا يعارض فعلنا الا باذن منا وتوفيق من لدنا وَان كان تكذيبهم الرسل والكتب وإصرارهم على الشرك والجحود يستدعى نزول العذاب عليهم فجاءة لاستحقاقهم بحلوله الا انه يمهلهم رَبُّكَ الْغَفُورُ المبالغ في ستر ذنوب عباده وعفو عيوبهم يا أكمل الرسل إذ هو سبحانه ذُو الرَّحْمَةِ الواسعة والحكمة الكاملة لعلهم يتنبهون بقبح صنيعهم ويتأملون في وخامة عواقبهم فينصرفون عماهم عليه نادمين إذ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ سبحانه بِما كَسَبُوا وبشؤم عموم ما اقترفوا من الجرائم والآثام لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ على الفور حسب عدله وقهره لكن قد امهلهم بمقتضى رحمته وحكمته زمانا لا دواما رجاء ان يتوبوا ويرجعوا نحوه تائبين آئبين بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ ولهلاكهم وقت لا يسع فيه التلافي ولا ينفع التوبة والندم قط الا وهو يوم الحشر والجزاء وقيل يوم بدر بحيث لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ اى من دون ذلك الموعد مَوْئِلًا منجى ومخلصا بل يعذبون ويهلكون فيه حتما جزما بحيث لا يسع لهم التقدم والتأخر أصلا وَبالجملة تِلْكَ الْقُرى التي في مرآك اطلالها وآثار منازلهم ومزارعهم قد أَهْلَكْناهُمْ واستأصلنا أهلها لَمَّا ظَلَمُوا وحين خرجوا واستنكفوا عن مقتضيات أوامرنا ونواهينا المنزلة في كتبنا لرسلنا وكذبوهم وأنكروا عليهم فأخذناهم واستأصلناهم كذلك وَمن سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة انا متى أردنا إهلاك اهل قرية من المستوجبين للمقت والهلاك قد جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ ولهلاكهم وإهلاكهم مَوْعِداً وقتا معينا وحينا محفوظا متى وصلوا اليه وحصلوا دونه هلكوا فيه حتما مقضيا إذ لا مرد لقضائنا المبرم ولا معقب لحكمنا المحكم وَاذكر يا أكمل الرسل قصة أخيك موسى الكليم عليه السّلام وقصة إعجابه لنفسه حين خطب على المنبر بعد هلاك القبط ودخوله ملك مصر خطبة عجيبة بليغة الى حيث قد رقت القلوب وذرفت العيون فقيل له حينئذ من في الأرض اعلم منك يا نبي الله قال لا فعتب عليه سبحانه لإعجابه فقال سبحانه ان لنا عبدا في مجمع البحرين هو اعلم منك فقال موسى عليه السّلام دلني عليه يا ربي لأخدمه وأتعلم منه واستفيد من فتوحات أنفاسه الشريفة فقال له سبحانه خذ حوتا مملوحا ليكون لك زادا واطلبه فحيث فقدت الحوت وجدته ثمة فأخذ ومضى على الوجه المأمور اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ وهو يوشع بن نون وكان خادمه لا أَبْرَحُ ولا استريح واقعد من السفر حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ اى ملتقى بحرى فارس والروم وأجد عنده عبدا قد دلني الله عليه أَوْ أَمْضِيَ وأسير حُقُباً زمانا طويلا ومدة مديدة ان لم أجده هناك حتى أجده واستفيد منه فرمى الحوت المشوى المملوح في مكتل وحمله يوشع فذهبا واوصى موسى لفتاه متى فقدت الحوت أخبرني فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما اى بين البحرين نَسِيا عند المجمع حُوتَهُما يعنى قد نسى موسى التفقد والاستخبار من يوشع عنه ونسى يوشع ايضا ان يذكر لموسى ما رأى من امر الحوت وحياته ووقوعه في الماء وذلك انه قد عزم يوشع على التوضئ عند المجمع وكان على شاطئ البحر صخرة فتمكن يوشع عليها للتوضؤ فانتضح الماء على مكتله فترشح على الحوت فوثب من المكتل فرمى نفسه في البحر فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً اى صار الماء كالطاق يسرى الحوت تحته

[سورة الكهف (18) : آية 62]

بسهولة فتعجب يوشع من حياتها ووثبتها في الماء وسلوكها فيه كسائر الحيتان فارتحلا متجاوزين من البحر تلك الليلة والغد الى الظهر فنسي يوشع ذكر ما رأى لموسى فَلَمَّا جاوَزا من الصخرة يوما وليلة عييا وجاعا قالَ موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا اى الذي سرنا بعد ما جاوزنا من الصخرة نَصَباً عناء وتعبا ما كنا قبل ذلك كذلك قالَ يوشع متذكرا متعجبا أَرَأَيْتَ يا سيدي وقت إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ ورقدت عندها للاستراحة وانا أهم لا توضأ وأتمكن عليها للتوضؤ فانتضح الماء الى المكتل فوثب الحوت نحو البحر فاتخذ سبيله سربا فَإِنِّي بعد تيقظك من منامك نَسِيتُ الْحُوتَ وقصته مع كمال غرابتها وندرتها وكونها خارقة للعادة وَبالجملة ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ اى اذكر قصته البديعة عندك وَكيف اتَّخَذَ سَبِيلَهُ حين رمى نفسه فِي الْبَحْرِ عَجَباً على وجه يتعجب من جريه الرائي ولما سمع موسى من يوشع ما سمع من فقد الحوت على هذا الوجه سر وفرح قالَ على سبيل الفرح والسرور ذلِكَ الأمر الذي قد وقع ما كُنَّا نَبْغِ ونطلب من سفرنا هذا إذ هو علامة وجدان المطلوب وامارة حصول الارب فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما على الفور فأخذا يقصان قَصَصاً لازالة شدة السفر فمضيا الى ان وصلا الصخرة المعهودة فَوَجَدا عندها عَبْداً كاملا في العبودية والعرفان إذ هو مِنْ خلص عِبادِنا وخيارهم لأنا من وفور جودنا وانعامنا عليه قد آتَيْناهُ وأعطيناه رَحْمَةً كشفا وشهودا تاما موهوبا له مِنْ عِنْدِنا تفضلا وإحسانا بلا عمل له في مقابلتها يقتضى ذلك وَمع ذلك قد عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا بلا وسائل الكسب والتعلم والطلب والاستفادة بل بمجرد توفيقنا وفضلنا إياه امتنانا له وإحسانا عِلْماً متعلقا بالغيوب حيث اخبر ويخبر بما وقع وسيقع فلما وصلا اليه وتشرفا بشرف حضوره وصحبته قالَ لَهُ مُوسى على وجه الاستجازة والاسترشاد وحسن الأدب هَلْ أَتَّبِعُكَ ايها المؤيد الكامل المتحقق بمراتب اليقين بتمامها الواصل الى بحر الوحدة الخائض في لججها عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ وتفيد لي مِمَّا عُلِّمْتَ وألهمت من سرائر المغيبات سوابقها ولواحقها رُشْداً ترشدني نحوها مقدار استعدادي وقدر قابليتي وطاقتي قال يا موسى كفى بالتورية علما وببني إسرائيل شغلا قال موسى في جوابه ان الله قد أمرني بالاستفادة والاسترشاد منك فلا تمنعني وبعد ما قد ألح موسى واقترح قالَ إِنَّكَ يا موسى مع كمال حذاقتك في ظواهر العلوم المتعلقة بوضع القواعد الدينية ونصب المعالم الشرعية وانتصاف الظالم من المظلوم وانتقامه لأجله الى غير ذلك من الأمور المتعلقة بسياسة البلد وتدبير المدن والمنزل لَنْ تَسْتَطِيعَ ولن تقدر مَعِيَ صَبْراً بل لا بد لك متى اطلعت على امر وشيء يخالف الشرعية والوضع المخصوص الذي أنت جئت به من عند ربك ونزلت التورية على مقتضاه لزم عليك ان تمنعه وتعترض عليه بمقتضى نبوتك ورسالتك على سبيل الوجوب والذي انا عليه من العلوم المتعلقة بالسرائر والغيوب قد يخالف أصلك وقواعدك فلن تستطيع حينئذ معى صبرا ثم اعتذر وبسط العذر معللا حيث قال وَكَيْفَ تَصْبِرُ أنت يا موسى عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً اطلاعا على سره ومآله ومع ذلك لم ينزل عليك وحى من عند ربك متعلق بأمثاله قالَ موسى ملحا عليه مقترحا مبالغا سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ وتعلقت ارادته بصبري صابِراً على عموم ما قد جئت به من المغيبات الخارقة للعادات التي لم افز بسرائرها وهي مخالفة لظواهر الشرائع والاحكام وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً اى في امر من الأمور

[سورة الكهف (18) : آية 70]

وشيء من الأشياء وبعد ما اضطره موسى على القبول قالَ له الخضر عليه السّلام على سبيل التوصية والتوطئة فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي بعد ما بالغت فَلا تَسْئَلْنِي يعنى عليك ان لا تفاتحنى بالسؤال عَنْ شَيْءٍ قد أنكرته منى ووجدته مخالفا لظاهر الشرع حَتَّى أُحْدِثَ وأبين لَكَ مِنْهُ ذِكْراً بيانا واضحا كاشفا عن إشكالك ودغدغتك بلا سبق سؤال منك ثم لما تعاهدا على هذا فَانْطَلَقا يمشيان على ساحل البحر لطلب السفينة فمرا على سفينة فاستحملا من أهلها فقبلوا ان يحملوهما فقربوها الى الساحل فحملوهما بلا نول حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ على شاطئ البحر فجرت فلما بلغت اللجة خَرَقَها الخضر عليه السّلام بان أخذ فأسا فقلع منها لوحا او لوحين فلما رأى موسى منه ما رأى أخذ يشد خرقها بثيابه قالَ له حينئذ على سبيل نهى المنكر أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ بخرقها أَهْلَها وساكنيها إذ من خرقها قد يدخل الماء فيها فيغرقها وأهلها والله لَقَدْ جِئْتَ بفعلك هذا شَيْئاً إِمْراً اى منكرا عظيما هو قصد إهلاك جماعة بلا موجب شرعي قالَ له الحضر على سبيل التذكير والتشنيع أَلَمْ أَقُلْ لك يا موسى من أول الأمر إِنَّكَ باعتبارك بظواهر العلوم لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ موسى معتذرا متذكرا لعهده لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ اى نسياني وغفلتي عن وصيتك وعهدي معك وَلا تُرْهِقْنِي اى لا تغشني ولا تحجبني مِنْ أَمْرِي الذي قد بعثني على متابعتك وهو الاطلاع على سرائر الأمور ومغيباتها عُسْراً اى لا تحجبني عن مطلوبي بالمؤاخذة على النسيان عسرا يلجئنى الى ترك متابعتك فيفوت غرضي منك ومطلوبي من متابعتك وبعد ما قد ألح موسى واقترح معتذرا قبل الحضر عليه السّلام عذره بالضرورة ثم لما نزلا من السفينة فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً صبيا صبيحا لم يبلغ الحلم يلعب مع الصبيان فَقَتَلَهُ الخضر عليه السّلام على الفور بلا صدور ذنب منه وجريمة حيث أخذ رأسه وضربه الى الجدار حتى مات فاشتد الأمر على موسى فامتلأ من الغيظ ولم يقدر على كظمها وهضمها قالَ موبخا مقرعا أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً معصومة برية عن جميع الآثام بِغَيْرِ إهلاك نَفْسٍ صدر منه قصدا ليكون قتله قصاصا عنه شرعا مع انه لا ولاية لك حينئذ على قتله وان صدر عنه القتل عمدا والله لَقَدْ جِئْتَ باتيانك هذا شَيْئاً نُكْراً منكرا مكروها في غاية النكارة والكراهة إذ قتل النفس من أعظم الكبائر سيما النفس المعصومة المنزهة عن عموم المعاصي سيما لم تكن لك ولاية قتله شرعا بلا جريمة أصلا وبعد ما سمع الخضر منه إنكاره قالَ له على وجه التشدد والغلظة أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ ولن تطيق ابدا مَعِيَ صَبْراً إذ لا مناسبة بيني وبينك ولا موافقة لعلمي مع علمك فخلني على حالي ولا تشوشنى وانصرف عنى وامض حيث شئت فقد بلغت الطاقة ثم لما رأى منه موسى ما رأى من الغيظ والغلظة والحرارة المفرطة أخذ بالرفق والمداراة واظهار المسكنة والاستحياء حيث قالَ معتذرا مستحييا لا تحرمني عن صحبتك بما صدر عنى من نقض العهد وسوء الأدب ولا تودعنى يا سيدي عن صحبتك زجرا وقهرا وبالجملة إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي ولا تجعلني رفيقك وصاحبك لأنك قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي ومن قبلي عُذْراً فلا اعتذر لك بعد هذا بل أفارق ان وقع عنى ما يشوشك. عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انه قال رحم الله أخي موسى قد استحى فقال ذلك ولو لبث مع صاحبه لا بصر اعجب الأعاجيب وبعد ما تقاولا في امر الغلام ما تقاولا فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ هي انطاكية اوايلة اسْتَطْعَما أَهْلَها من شدة جوعهما واحتياجهما الى الطعام فَأَبَوْا وامتنعوا أَنْ يُضَيِّفُوهُما

[سورة الكهف (18) : آية 78]

ويطعموهما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ اى يميل ويشرف أَنْ يَنْقَضَّ اى يسقط وينهدم فَأَقامَهُ الخضر عليه السّلام وعدله وسواه بالعموم او اسقطه واحكم بنيانه وبناه جديدا ثم لما رأى موسى منه امرا مستغربا مستبدعا وهو انهما على جناح السفر ولم يكن بهما شغل وغرض متعلق بتعمير الجدار وإقامته قالَ على سبيل التعريض لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وأخذت جعلا واكتسبت للتقوت والتزود بعد ما أبوا عن الضيافة ثم لما سمع الخضر من موسى ما سمع قالَ هذا اى سؤالك وتعريضك فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ويوجب مفارقتي عنك لكن لا أفارقك في الحال بل سَأُنَبِّئُكَ وأخبرك بِتَأْوِيلِ ما اى الأمور التي قد أنكرت عليها واعترضت مفتتحا مستعجلا بحيث لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً حتى أحدثك وابينك سرائرها مع انى أوصيتك ببيانها لك أولا ثم فصلها فقال أَمَّا السَّفِينَةُ التي قد خرقتها بالهام الله إياي والقائه على قلبي فَكانَتْ لِمَساكِينَ وضعفاء لا مكسب لهم سواها يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ بها ويعيشون من نولها فَأَرَدْتُ باذن الله ووحيه أَنْ أَعِيبَها واجعلها ذات عيب وَقد كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ ظالم مستمر عليه وهو يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صحيحة غير معيبة غَصْباً ظلما وزورا بلا فدية فجعلتها ذات عيب حتى تبقى لهم وذلك باذن الله عناية منه سبحانه لضعفاء عباده ورعاية لحالهم في مصلحتهم وَأَمَّا الْغُلامُ الذي قد قتلته على الفور فهو غلام قد جبله الحق على الكفر والعصيان وانواع الشرك والطغيان فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ موحدين فَخَشِينا عليهما من سوء فعاله وقبح حاله وخصاله أَنْ يُرْهِقَهُما ان يغشيهما وينطيهما طُغْياناً وَكُفْراً من غاية حبهما له وتحننهما إياه فَأَرَدْنا واحببنا بقتله وهلاكه أَنْ يُبْدِلَهُما ويهب لهما بدله رَبُّهُما الذي رباهما بنعمة التوحيد والايمان وكرامة العصمة والعفاف ولدا خَيْراً مِنْهُ زَكاةً يعنى طاهرا مطهرا عن خبائث الكفر والآثام متصفا بحلية الايمان والإسلام وَأَقْرَبَ رُحْماً مرحمة وعطفا وبرا على الوالدين ولطفا. قيل قد ولدت لهما جارية بدل الغلام فتزوجها نبي من أنبياء الله فولدت نبيا قد هدى الله به امة من الأمم وَأَمَّا الْجِدارُ الذي قد أردت إقامته وقصدت تعميره بالهام الله إياي ووحيه فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ولم يبلغا الحلم وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما مدفون مخزون من ذهب وفضة قد دفن لهما أبوهما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً موحدا مسلما متوجها نحو الحق دائما فَأَرادَ رَبُّكَ يا موسى من كمال لطفه وعطفه لليتيمين ورعايته للأب الصالح أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما ويدخلا رشدهما ويخرجا عن يتمهما إذ لا يتم بعد البلوغ ويصيرا ذوى رأى رزين وفكر متين وَيَسْتَخْرِجا بعد ذلك كَنزَهُما وانما أمرني الله سبحانه بإقامة الجدار واحكام المخزن رَحْمَةً عطفا ومرحمة ناشئة مِنْ رَبِّكَ يا موسى شاملة عليهما تتميما لتربيتهما وتقويتهما وَبالجملة ما فَعَلْتُهُ انا وما أنكرت أنت عليه وما اعترضت وتعرضت فيه وبه يا موسى ليس صادرا عَنْ أَمْرِي ورأيى ناشئا عن تدبير عقلي وفكرى بل مما الهمنى الله به وجرأني عليه وأمرني بفعله فانا مأمور بل مجبور والمأمور معذور ذلِكَ المذكور على التفصيل تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ أنت ولم تطق عَلَيْهِ صَبْراً حتى ظهر لك سره ومما جرى بينهما صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما يتفطن العارف اللبيب والطالب الأديب ان شرط الاستفادة والاسترشاد ومناط الاستكمال وطلب الرشد هو ان يميت المريد المسترشد نفسه عن المرشد الكامل المكمل بالموت الإرادي بحيث لا يتأتى منه المعارضة والمقابلة أصلا فكيف

[سورة الكهف (18) : آية 83]

الممانعة والمماراة وان جزم ان فعل مرشده خارج عن مقتضى العقل والشرع على زعمه بل حمل عموم أفعاله على المحمل الأحسن الأصوب وسكت عن مطلق المراء والمجادلة إذ المريد بعد ما فوض أموره كلها الى مرشده واتخذه وكيلا واخذه ضمينا وكفيلا فقد فنى فيه وبقي ببقائه فلم يبق له التصرف أصلا بمقتضيات قواه وجوارحه ومداركه. هب لنا ربنا من لدنك رحمة تنجينا بها من تسويلات نفوسنا. ثم قال سبحانه على وجه التنبيه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم وَيَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل اى اليهود المردودون والنصارى المنحوسون المطرودون سؤال اقتراح وامتحان مثل سؤال اصحاب الكهف والروح عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وأطواره وكيفية سيره وطوافه حول العالم قُلْ سَأَتْلُوا واقرأ واذكر ان شاء الله عَلَيْكُمْ مِنْهُ اى من ذي القرنين وقصته ذِكْراً قد أخبرني به سبحانه بالوحي في كتابه المعجز. وذو القرنين هو الإسكندر الأكبر الرومي بن فيلقوس الرومي سمى بذي القرنين لأنه طاف قرني الدنيا اى المشرق والمغرب قد اختلف في ولايته ونبوته اخبر عنه سبحانه بقوله إِنَّا من مقام عظيم جودنا وفضلنا قد مَكَّنَّا وقدرنا لَهُ فِي الْأَرْضِ تمكنا تاما وقدرة كاملة وَذلك انا قد آتَيْناهُ أعطيناه تأييدا له وتعضيدا إياه مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً موصلا له الى مبتغاه وجميع ما أمله يعنى قد وفقناه على اسباب الوصول الى كل مطلوب قصده وأراد الوصول اليه فَأَتْبَعَ سَبَباً متى ارتكب امرا لوثوقه واتكاله علينا وبانجاحنا إياه الى مبتغاه ثم لما أراد ان يسير نحو المشرق فاتبع سببه وسار حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ اى موضعا تغيب فيه يعنى بلغ نهاية العمارة من جانب المغرب وَجَدَها اى الشمس تَغْرُبُ وتغيب فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ اى ذات حمأة وهي الطين والماء وقرئ حامية اى حارة ويجوز ان يكون عينا ذات حمأة وحرارة وبالجملة غروبها في رأى العين على عين صفتها هذه والا فلا تسع الشمس في جميع كرة الأرض فكيف بجزء منها إذ نسبة كرة الأرض الى عظم جرم الشمس عند اهل الرصد كنسبة جزء من مائة وست وستين جزأ على التقريب فكيف تغيب وتستتر هي بجزء منها وَوَجَدَ عِنْدَها اى عند العين الموصوفة قَوْماً كفارا نافيا للصانع الحكيم لباسهم جلود الوحوش وطعامهم ما لفظ البحر بالموج من انواع الحيوانات المائية فلما وصل ذو القرنين إليهم ووجدهم كفارا خيرناه في أمرهم عناية منا إياه بان قُلْنا له وألهمنا عليه مناديا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ لك الخيار في شأن هؤلاء الكفار إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ اى تهلكهم وتستأصلهم بكفرهم بحيث لا يبقى منهم احد وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ وتصنع فِيهِمْ حُسْناً شرعا ودينا كما في سائر المؤمنين ثم لما خير ذو القرنين في أمرهم وفوض أمرهم اليه قالَ على مقتضى العدل والإنصاف الذي قد جبله الحق عليه ادعوهم أولا الى الايمان والقن عليهم كلمة التوحيد والعرفان أَمَّا مَنْ ظَلَمَ وتولى وابى وأصر على ما عليه من الكفر والهوى فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ او نقتله حدا بعد عرض الإسلام ولم يقبل في دار الدنيا ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في يوم الجزاء فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً شديدا مجهولا غير متعارف بين اهل الدنيا شدته وفظاعته وَأَمَّا مَنْ آمَنَ منهم وَعَمِلَ على مقتضى الايمان عملا صالِحاً فنصلح حاله ونراعيه في الدنيا فَلَهُ في يوم الجزاء ووقت العطاء جَزاءً الْحُسْنى والمثوبة العظمى والدرجة العليا والمقام الأسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا الذي قد أمرناه بالتخيير في امر أولئك الهالكين في تيه الغواية يُسْراً سهلا معتدلا بين افراط القتل والاستئصال وتفريط الإبقاء على الكفر والضلال مداهنة ثُمَّ بعد ما قد وضع الشرع بالأمر الإلهي بين اهل المغرب

[سورة الكهف (18) : آية 90]

أَتْبَعَ سَبَباً آخر يوصله الى المشرق وسار حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وموضع شروقه وإضاءته على العالم قد وَجَدَها تَطْلُعُ وتستضئ أولا عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً يعنى لم تجعل لهم حائلا كثيفا وحجابا غليظا ليكون ساترا لهم حر الشمس وقت طلوعها من الجبل والشجر وغيرهما بل كلهم غرل عراة لا لباس لهم أصلا بل هم يحفرون الأرض ويتخذون سردابا وأخاديد يدل الايتية لان ارضهم لا تمسك البناء كَذلِكَ اى وهم ايضا كفار مثل اهل المغرب وهم أشد الناس في الحروب وأشجعهم في المعارك واجرأهم على القتال والاقتحام في الوغاء ولهم آلات واسلحة عجيبة وعدد بديعة لا كمثل سائر آلات الناس وعددهم وأيضا هم اكثر الناس عددا وَمع كثرة عددهم ووفور مكرهم وخديعتهم قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً يعنى أعلمنا اسكندر وبمن عنده من الجنود والخدمة علما بحال أعدائهم وبدفع مكرهم وحيلهم وجرأناهم على المقابلة والمقاتلة مع قلتهم وكثرة عدوهم فقاتلوا معهم وغلبوا عليهم وبعد ما قد غلب عليهم وضع بينهم ايضا شعائر الشرع ومعالم الدين كما وضع لأهل المغرب ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً آخر وسار على الأرض بين المشرق والمغرب حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ اى بين الجبلين اللذين سد بينهما ذو القرنين سدا منيعا حصينا وهما جبلا إرمينية وآذربيجان وقيل جبلان في أواخر الشمال في منقطع ارض الترك من ورائهما يأجوج ومأجوج وَجَدَ مِنْ دُونِهِما وعندهما قَوْماً أعجميا لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ ويفهمون قَوْلًا لغة من اللغات المتداولة قالُوا بلسان الواسطة والترجمان يا ذَا الْقَرْنَيْنِ نحن أناس ضعفاء مظلومون نحتاج الى اعانتك واغاثتك لتنقذنا من أيادي الظلمة إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هما علمان للقبيلتين من الترك مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ اى في ارضنا هذه بأنواع الفسادات قيل قد كانوا يخرجون في الربيع فلا يتركون اخضر رطبا الا أكلوه ولا يابسا الا حملوه وقيل كانوا يأكلون الناس ايضا فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً جعلا نوزع حتى يبلغ مبلغا وافيا عَلى أَنْ تَجْعَلَ بسلطنتك وسطوتك بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا منيعا محكما بحيث لا يمكنهم الخروج علينا فنأمن من شرورهم بجاهك يا مولانا قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ اى ما خصنى وما جعلني ربي بفضله وجوده مكينا فيه من المال والملك خير مما تجمعون أنتم بتوزيعكم وتحريجكم واكثر منه ولا حاجة لنا الى أموالكم بل الى اعانتكم وسعيكم أجراء فَأَعِينُونِي في وضع هذا السد بِقُوَّةٍ عملة وصناع يأخذون منى الأجر ويعملون أَجْعَلْ بفضل الله وسعة رحمته وجوده بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً سدا حاجزا حصينا منيعا وثيقا بحيث لا يقبل التخريب الى انقراض الدنيا ان تعلق به مشيئته سبحانه وبالجملة آتُونِي واحضروا عندي أولا زُبَرَ الْحَدِيدِ اى قطعها الكبيرة فأتوا بها فأمرهم بحفر الأرض الى ان وصل الماء فوضع الأساس من الصخر والنحاس المذاب حتى وصل الى وجه الأرض أمرهم بتنضيد قطع الحديد بأن وضعوا بين كل قطعتي الحديد فحما وحطبا وأمرهم برفعه هكذا حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ اى بين جانبي الجبلين وصار ما بينهما مساويا للطرفين في الرفعة أمرهم بوضع المنافخ العظام من كلا طرفي السد ثم قالَ لهم انْفُخُوا فنفخوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً اى جعل المنفوخ فيه مثل النار في اللون والحرارة فأحرق الفحم والحطب وذابت واتصلت الزبر وبقيت فرج صغار يعنى لم يصل الى حد الملامسة والتسوية ثم قالَ آتُونِي شيئا مايعا مذابا أُفْرِغْ عَلَيْهِ ليصير ملسا مسوى لا فرج فيها ولا يرى اوصالها أصلا وبالجملة أتونى

[سورة الكهف (18) : آية 97]

قِطْراً نحاسا مذابا فأتوه فصب عليه فاستوى فصار أملس لا فرج لها أصلا فَمَا اسْطاعُوا وما قدر يأجوج ومأجوج أَنْ يَظْهَرُوهُ ويصعدوا عليه ويعلوا لارتفاعه وملاسته وَمَا اسْتَطاعُوا ايضا ان يحفروا لَهُ نَقْباً لعمقه وغلظ تحصنه ثم لما انسد واستوى على الوجه الذي قصد قالَ ذو القرنين مسترجعا الى الله شاكرا لنعمه هذا اى إتمام هذا السد المحكم على الوجه الأسد الأحكم رَحْمَةٌ نازلة على مِنْ رَبِّي إذ لولا توفيقه واقداره لما صدر عنى وبقدرتي أمثال هذا فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي وقرب قيام الساعة وظهر اماراتها وأشراطها ومن جملة اماراتها خروج يأجوج من ورائه جَعَلَهُ سبحانه هذا السد الرفيع المنيع دَكَّاءَ اى مدكوكا مسوى مفتتا اجزاؤه بحيث لم يبق له ارتفاع أصلا وهم حينئذ يخرجون على الناس وَبالجملة قد كانَ وَعْدُ رَبِّي بقيام الساعة واستواء ظهر الأرض وكونها دكاء بحيث لا عوج لها ولا امتا حَقًّا ثابتا محققا لا شبهة فيه ولا في إتيانه ووقوعه. ثم قال سبحانه وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ يعنى بعد ما قد جعلنا الأرض مبسوطا مدكوكا حسب قهرنا وجلالنا وجعلنا السد الأسد السديد الرفيع المنيع مسوى قد أخرجنا يأجوج ومأجوج باقدارنا إياهم بالخروج وتركنا حينئذ بعض الناس يموج ويزدحم ويدخل من صولتهم واستيلائهم بعضا آخر مضطربين مضطرين يعنى بعض الناس يهرب منهم ويزدحم في اماكن البعض الآخر فيضيق عليهم الأمكنة والأطعمة فاضطرب الكل من تلك التموج والازدحام وَهم في تلك الاضطراب والتشتت من استيلاء أولئك الظلمة القهارين القتالين نُفِخَ فِي الصُّورِ للحشر والجمع الى المحشر والمجمع وقامت الطامة الكبرى فَجَمَعْناهُمْ حينئذ اى جميع الخلائق للعرض والحساب جَمْعاً مجتمعين في الحشر وَبعد جمعنا إياهم قد عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ اى يوم الحشر لِلْكافِرِينَ المعرضين المكذبين للرسل والكتب المنكرين ليوم العرض والجزاء عَرْضاً على سبيل الإلزام والتبكيت سيما للقوم الَّذِينَ قد كانَتْ أَعْيُنُهُمْ في النشأة الاولى فِي غِطاءٍ وغشاوة كثيفة عَنْ ذِكْرِي اى عن آياتي الدالة على ذكرى المؤدية الى التفكر والتدبر في آلائي ونعمائي المؤدية الى ملاحظة ذاتى المنتهية الى المكاشفة والمشاهدة للموفقين المؤيدين من عندي المنجذبين الى وَهم قد كانُوا ايضا لا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون سَمْعاً اى إصغاء والتفاتا الى استماع كلمة الحق لتعطيلهم وكفرانهم حسب خباثة فطرتهم وطينتهم نعمة الحق الموهوبة لهم لاستماع كلمة الحق وإصغاء دلائل التوحيد عن مقتضاها. ثم قال سبحانه على سبيل التقريع والتوبيخ أَللكفرة المشركين المتخذين آلهة سوى الله من مصنوعاته ومخلوقاته فَحَسِبَ وظن القوم الَّذِينَ كَفَرُوا وأشركوا بسبب أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي واعتقدوهم مثل عزير وعيسى وعموم الأوثان والأصنام مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ آلهة سواي يعبدونهم كعبادتهم إياي أنا لا نأخذهم ولا ننتقم عنهم في يوم الجزاء كلا وحاشا وكيف لا نأخذهم ولا ننتقم عنهم إِنَّا من كمال قهرنا وغضبنا على من أشرك بنا غيرنا واثبت آلها سوانا قد أَعْتَدْنا وهيئنا جَهَنَّمَ البعد والخذلان المملوة الممتلئة بنيران الحرمان لِلْكافِرِينَ المعرضين عن مقتضيات آياتنا وكتبنا ورسلنا نُزُلًا ومنزلا معدا ينزلون فيها يوم الجزاء نزول المؤمنين في جنة الوصال ومقر الآمال قُلْ يا أكمل الرسل للمشركين المتخذين أربابا من دون الله من مصنوعاته يعبدونهم مثل عبادته وينكرون توحيده ويكذبون كتبه ورسله المبينين لأحوال النشأتين عنادا ومكابرة هَلْ نُنَبِّئُكُمْ

[سورة الكهف (18) : آية 104]

نخبركم ونرشدكم ايها المنهمكون في الخسران والطغيان بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا اى العاملين الذين خسروا من جهة أعمالهم مع انهم قد زعموا الربح فيها وهم الَّذِينَ ضَلَّ اى قد ضاع سَعْيُهُمْ الذي قد سعوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بإتيان الأعمال الصالحة والانفاق وبناء بقاع الخير وغير ذلك كالرهابنة والقسيسين وكذا عموم اهل العجب والرياء أية امة كانت وَهُمْ في النشأة الاولى يَحْسَبُونَ ويظنون أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ينفعهم عند الله ويتوقعون المثوبة العظمى والدرجة العليا لأجلها مع انهم هم قد خسروا خسرانا مبينا لفقدهم ما هو مبنى للأعمال ومناط العبادات والأحوال الا وهو الايمان بتوحيد الله والتصديق بكتبه ورسله أُولئِكَ البعداء الأشقياء المجبولون على الكفر والشقاق هم الَّذِينَ كَفَرُوا وكذبوا بِآياتِ رَبِّهِمْ الدالة على توحيده وتصديق رسله وكتبه وَلِقائِهِ الموعود لعباده عند انجلاء حجبهم وارتفاع استارهم فَحَبِطَتْ اى قد ضاعت واضمحلت وضلت في النشأة الاخرى عنهم أَعْمالُهُمْ التي جاءوا بها في النشأة الاولى لطلب الربح والنفع فَلا نُقِيمُ ولا نضع لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد لجزاء الأعمال وتنقيدها وَزْناً مقدارا ينتفع ويعتد بها لانحباطها وسقوطها عن درجة الاعتبار لدى الملك الجبار بل ذلِكَ الأمر والشان المترتب على الكفر والشرك هذا وهكذا وبالجملة جَزاؤُهُمْ ونفعهم العائد لهم لأجل أعمالهم هذه في يوم الجزاء جَهَنَّمُ البعد والحرمان وسعير الطرد والخسران وما ذلك الا بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي الدالة على وحدة ذاتى وعظمة صفاتي واستقلالى في شئوني وأفعالي وعموم تطوراتى وَكذلك قد اتخذوا عموم رُسُلِي المؤيدين بآياتى المبعوثين على تبيين دلائل توحيدي بين عبادي هُزُواً محل استهزاء يستهزؤن بهما وينكرون عليهما عتوا وعنادا. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا بتوحيد الذات والصفات والأفعال وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى التوحيد الذاتي الملايمة المناسبة لشعائره ومناسكه كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ وهو وسط الجنة المشرف على أطرافها لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم إذا سئلتم الله فاسئلوا الفردوس فانه وسط الجنة وهي بستان الغيب ومهبط الفتوحات الغيبية الا وهي أعلى مراتب ارباب التوحيد وأسناها وعند ذلك انتهى السير والسلوك وبعد ذلك السلوك فيه لا به واليه نُزُلًا ومنزلا ينزلون اليه ويتمكنون فيه خالِدِينَ فِيها ولكمال صفائها ونضارتها ودوام لذاتها الروحانية لا يَبْغُونَ ولا يطلبون بالطبع والارادة عَنْها حِوَلًا اى انتقالا وتحولا لكونها مقر فطرتهم الاصلية ومنزل استعداداتهم الحقيقية إذ فوق عرش الرّحمن المفيض لجميع القوابل والاستعدادات مقتضياتها ثم لما طعنت اليهود في القرآن وأرادوا ان يثبتوا التناقض في بعض آياته مع بعض حيث قالوا أنتم تقرءون في كتابكم تارة ومن يؤت الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا وتارة تقرءون وما أوتيتم من العلم الا قليلا وما هي الا تناقض صريح امر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بقوله قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلا ما يسقط شبهتهم ان أنصفوا نحن لا ندعى ان من اوتى الحكمة فقد اوتى بجميع معلومات الله وعلومه وكيف ندعى هذا وهو محال في غاية الاستحالة والامتناع إذ لَوْ كانَ الْبَحْرُ اى جنس البحر وهو عبارة عن جميع كرة الماء مِداداً اى ما يمد به القلم للرقم والكتابة لِكَلِماتِ رَبِّي وثبتها وكتبها لَنَفِدَ الْبَحْرُ البتة وانتهى لتناهيه وكونه محدودا قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي لكونها غير محدودة وغير متناهية وَكيف لا لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ

[سورة الكهف (18) : آية 110]

اى بمثل جنس البحر بأضعاف أمثاله وآلافه مَدَداً لنفد وتناهى البتة إذ لا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي وان فرض أضعافا وآلافا قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بلغت لهم كثرة كلمات الله الغير المحصورة كلاما خاليا عن وصمة التفوق والتفضل المفضى الى الرعونة ناشئا عن محض الحكمة والفطنة إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ قابل للعلوم والإدراكات مثلكم بمقتضى البشرية لا فرق بيني وبينكم بحسب الفطرة غاية ما في الأمر انه يُوحى إِلَيَّ ويفاض على افاضة علم وعين وحق أَنَّما إِلهُكُمْ ومعبودكم ومظهركم إِلهٌ واحِدٌ احد صمد فرد وتر ليس له شريك ولا نظير ولا وزير بل هو مستقل في الوجود والإيجاد والإظهار يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد استقلالا ارادة واختيارا وليس امتيازى عنكم الا بهذا فَمَنْ كانَ منكم يَرْجُوا رجاء مؤمل بصير لِقاءَ رَبِّهِ مكاشفة ومشاهدة فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً قالعا لأصل انانيته وعرق هويته قامعا لمقتضيات أوصاف بشريته وبهيميته مزيلا لذمائم أخلاقه وأطواره وَمع ذلك لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً من خلقه يعنى لا يقصد من عمله وعبادته الرياء والسمعة والعجب والنخوة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء وقال تعالى انا اغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيرى فانا منه برئ وهو للذي عمله لأجله وبالجملة يعمل على وجه يسقط الكثرة والاثنينية لا على وجه يزيدها ويكثرها بل العامل العارف لا يطلب بعمله الجزاء ايضا بل انما يعمل امتثالا لأمره سبحانه وطلبا لمرضاته ولا يخطر بباله شيء سواه جعلنا الله ممن حققه الحق بمقام التوحيد وامنه عن توهم الرياء والتقليد وحفظه من كل شيطان مريد خاتمة سورة الكهف عليك ايها الموحد القاصد المتحقق في مقام التمكن من التوحيد قررك الله في مقعد صدقك ويقينك في مقر ثبتك وتمكينك ان تحفظ أعمالك التي قد جئت بها متقربا للوصول الى محل القبول عن مداخل الرياء والسمعة والعجب وانواع الرعونات إذ هي كلها شباك الشيطان وعقاله يقيد بها خواص عباد الله ويلهيهم بها عماهم عليه من الرضا والتسليم ويوقعهم في فتنة عظيمة ومعصية كبيرة مستلزمة للشرك بالله العياذ بالله من غوائل الشيطان وتسويلاته وتخلصها لمحض وجهه الكريم فلك ان تلازم العزلة وتداوم الخلوة حتى لا يلحقك من الخلطة أمثال هذه الأمراض العضال وايضا لك ان تجلى خاطرك وتصفى ضميرك عن عموم هواجسك المتعلقة بأمور معاشك بين بنى نوعك فان اكثر عروض هذه الأمراض انما يحصل من الأماني واخطار اللذات الوهمية من الجاه والثروة والتفوق على الأقران وغير ذلك وان شئت ان يسهل عليك الأمر فاشغل جوارحك لكسب ضروريات معاشك في بعض الأحيان واقنع باقل المعيشة وسد الرمق واحذر عن فضول العيش فان اكثر فحول الرجال قد استرق بفضول الأماني والآمال وبالجملة نعم القرين العزلة والفرار عن تغيرات الدنيا الغدار الغرار الخداع المكار والخمول في زوايا الكهوف والاغوار والفرار عن اختلاط اصحاب الخسار والبوار فاعتبروا يا اولى الأبصار ووفقنا بفضلك وجودك بما تحب عنا وترضى

سورة مريم عليها السلام

[سورة مريم عليها السّلام] فاتحة سورة مريم عليها السّلام لا يخفى على من انكشف بوحدة الوجود وتحقق دونه امتداده وسريانه على جميع الموجودات حسب اقتضاء الصفات الذاتية الإلهية فان اقتضاء بعض المظاهر الإلهية شيأ من الكمالات اللائقة له واستدعائه إياه انما هو باعتبار صفة من الصفات الإلهية المندمجة فيه باطنا سيما إذا صدر من النفوس الزكية المقدسة عن الكدورات البشرية المنزهة عن العلائق الناسوتية المتخلقة بالأخلاق الملكية المنتخبة لتحمل أعباء الرسالة المستخلفة عن الذات الإلهية النائبة عنها فيما يتعلق بالمظاهر الارضية ولا شك ان زكريا صلاة الرّحمن على نبينا وعليه من جملة المنتخبين للخلافة والنيابة المنزهين عن غوائل الشيطان وتسويلاته الغالبة في نشأة زكريا عليه السّلام وبالجملة ما حداه وما بعثه وهداه الى طلب الولد الا الصفة الإلهية التي تقتضي الظهور والنزول عن الغيب الذاتي الى عالم الشهادة ولما كان ظهوره موقوفا على طلب زكريا وتحننه لحكمة ومصلحة قد استأثر الله بها لا يطلع عليها الا من خصه بالاطلاع لذلك ناجى زكريا بوحي من الله اليه به وناداه نداء مؤمل صريع على وجه قد انكشف به تحقق مأموله وإنجاح مسئوله حين جذبه الحق عن نفسه وأخرجه عن قيود تعلقاته مطلقا مع انه كان في نفسه قنوطا عن حصول الولد منه ومن امرأته لانقضاء أوانه منها وعقرها الأصلي ثم لما كان صلى الله عليه وسلّم مبدأ جميع مراتب الأنبياء ومجمعها اخبر سبحانه له ما ناجى معه عبده زكريا من استدعاء الولد الذي يخلفه ويحيي به اسمه مع انه من غرائب صنع الله وبدائع مخترعاته التي قد صدر عنه على سبيل خرق العادة إذ لا استعداد لزكريا ولا قابلية لزوجته بحصول الولد منها لانقضاء أوان التوالد من كلا الجانبين فقال سبحانه متيمنا باسمه العلى مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم بِسْمِ اللَّهِ الذي قد تجلى على أنبيائه ورسله ببدائع الكمالات الخارقة للعادات الرَّحْمنِ لهم ان يفتح عليهم أبواب المرادات بأسباب السعادات الرَّحِيمِ لهم حيث يوصلهم الى أقصى المقامات وأعلى الدرجات بأنواع الكرامات [الآيات] كهيعص يا كافى مهمات مهام عموم الأنام وهاديهم الى دار السّلام بيمن العزيمة العلية وبصدق الهمة الصادقة الصافية عن الكدورات البشرية الصادرة عنك نيابة عنا هذه السورة ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ الذي رباك كافيا هاديا للمضلين ينبوعا للعلوم الصحيحة الصافية اللدنية الجارية من قلبك على لسانك بمقتضى الوحى الإلهي والهاماته الغيبية عَبْدَهُ زَكَرِيَّا المتوجه نحوه في السراء والضراء المسترجع اليه عند هجوم عموم البلاء وحلول اصناف العناء اذكر يا أكرم الرسل وقت إِذْ نادى رَبَّهُ نداء مؤمل صريع وناجى معه مناجاة مأيوس فجيع نِداءً خَفِيًّا متمنيا متحسرا مسرا مخفيا في ندائه ليأسه وقنوطه لانقضاء مدة الحمل ووقت حصول الولد ولئلا يلام عند الناس بطلبه هذا وقت الهرم من كلا الجانبين حيث قالَ مشتكيا الى الله باثا شكواه عنده سبحانه في فحواه رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم إِنِّي من غاية ضعفى ونهاية هزالي ونحولى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وقد ضعف دعائم جسمي وقوائم بدني وأشرفت على الانهدام والانصرام وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً اى اشتعل شيب رأسى وذهب سواده بالكلية وانقلب الى البياض المشعر بالانقضاء والزوال مثل ابيضاض النباتات وقت الخريف وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ اى لم أكن انا بدعائى إياك في كل حال يا رَبِّ شَقِيًّا خائبا خاسرا مردودا بل قد عودتني أنت بفضلك وجودك بالاجابة والإنجاح وهذا الدعاء وان كان ابعد

[سورة مريم (19) : آية 5]

بحسب العادة من الاجابة الا انه بالنسبة الى قدرتك وجودك اقرب وبجنب حولك وقوتك أسهل وأيسر سيما أنت ألهمتني ووفقتني على إظهاره وبالجملة وَإِنِّي يا ربي قد خِفْتُ الْمَوالِيَ من أبناء اعمامى وهم الذين يترصدون الولاية والحبورة مِنْ وَرائِي ومن بعد انقراضى وانقضائى ان يغيروها ويضيعوها ويحرفوا معالم الدين وشعائر الإسلام بين المسلمين إذ لا يرجى منهم الرشد والفلاح والخير والصلاح وأنت اعلم بهم منى يا ربي وليس لي ولد صالح لهذا الأمر يخلفني بعدي ولم يبق لي قوة الإيلاد لهرمى وضعفى وَمع ذلك قد كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً عقيما اصليا لم تلد قط فلا مرجع لي في امرى هذا سوى بدائع صنعك وغرائب قدرتك فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ بمقتضى فضلك وجودك لا على طريق جرى العادة ومقتضى الأسباب الصورية ولدا وَلِيًّا عنى يتولى امر ديني بين أمتي بحيث يَرِثُنِي وينوب عنى به في نبوتي وحبورتى وولايتي وجميع ما أنزلت علىّ خاصة من مقتضيات إحسانك الىّ وإنعامك بي يا ربي وَيَرِثُ ايضا مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وما بقي منهم من شعائر الدين ومراسم الهدى واليقين قيل كان زكريا أخا يعقوب بن اسحق وَبالجملة اجْعَلْهُ رَبِّ حسب كرمك وجودك رَضِيًّا راضيا عنك بجميع ما جرى عليه من قضائك صابرا على نزول عموم بلائك شاكرا على جميع نعمائك مرضيا عندك وعند عموم عبادك ثم لما اشتكى عليه السّلام عنده سبحانه بما اشتكى ودعا بما دعا أجاب سبحانه دعاءه واسرع اجابته مناديا له على سبيل الترحم والتفضل يا زَكَرِيَّا المتضرع المناجى إلينا المستدعى منا خلفا يخلفك ويحيي اسمك إِنَّا من مقام عظيم جودنا إليك نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ يلد منك ومن زوجتك العجوز العقيمة العاقرة اسْمُهُ يَحْيى ليحيى مراسم شرعك ودينك وحبورتك مع انه لَمْ نَجْعَلْ لَهُ ولم نخلق مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا بهذا الاسم بل هو أول من سمى به ثم لما سمع زكريا البشارة من قبل الحق قالَ على طريق الفرح وبسط الكلام معه سبحانه وان كان عموم أحواله حاصلا عنده سبحانه على التفصيل حاضرا لديه مستبعدا مستغربا يا رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ومن اين يحصل لي سيما في سنى هذا وضعفى ونحولى هذا وَقد كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً جبليا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ والهرم وفرط الكهولة عِتِيًّا يابسا جافا بحيث لا يبقى على رطوبة أصلا لا في مفاصلي ولا في اركان بدني وقوائم جسمي قالَ سبحانه يا زكريا لا تستبعد من قدرتنا أمثال هذا المقدور بل كَذلِكَ ومثل ذلك قد قدرنا لك ابنا بان تكون أنت باقيا على كبرك وهرمك وزوجتك ايضا باقية على عقرها وهرمها نوجد منكما الولد إظهارا لقدرتنا الغالبة الكاملة وأمثال هذا وان عسر عادة الا انه في جنب قدرتنا سهل يسير وبالجملة كذلك قالَ رَبُّكَ يا زكريا هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ اى إخراج الولد منك ومن زوجتك على سهل يسير وفي جنب حولي وقوتي امر حقير وَكيف لا يكون هذا سهلا بالنسبة الى حولي وقوتي وكمال قدرتي انى قَدْ خَلَقْتُكَ وقدرت وجودك مِنْ قَبْلُ فيما مضى وَلَمْ تَكُ أنت بنفسك شَيْئاً ولا مسبوقا بشيء بل أوجدتك إيجادا إبداعيا وأظهرتك من كتم العدم إظهارا اختراعيا بلا سبق مادة ومدة وسبب عادى وبالجملة هذا هين بالنسبة الى ذلك ثم لما تفطن زكريا بإنجاح مطلوبه أخذ يسئل الامارة والعلامة لحمل امرأته وحبلها حيث قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي بفضلك آيَةً وعلامة تدل على حمل امرأتى قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ولا تقدر أنت على المقاولة والمكالمة ثَلاثَ لَيالٍ مع

[سورة مريم (19) : آية 11]

نهارها لا عن عروض عارضة ولحوق مرض وخرس بل قد كنت ح سَوِيًّا صحيحا سالما عن جميع الأسقام غير ان اشتغالك بالحق قد شغلك عن الخلق بحيث لا تطيق التكلم معهم في المدة المذكورة الا رمزا اشارة وإيماء ثم لما دنى وقت الحمل لاحت إمارته فَخَرَجَ صبيحة يوم عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ اى الحجرة التي هو فيها من خلوته للصلاة على عادته المستمرة وقد كان من عادته انه يأمرهم في كل صبيحة خرج عليهم بالصلوة والدعاء والتوجه والخشوع فَأَوْحى اومأ وأشار إِلَيْهِمْ بلا نطق وتكلم أَنْ سَبِّحُوا ربكم ونزهوه عما لا يليق بشأنه بُكْرَةً وَعَشِيًّا اى في الصبيحة التي أنتم فيها والبكرة التي ستجيء الى العشى الآتي والى الصبيحة الآتية بعده أوصاهم كل يوم بذلك على الدوام وفي تلك المدة ما قدر على التكلم معهم لذلك أشار ثم لما سوينا خلقة يحيي وأخرجناه من بطن امه صحيحا سويا قلنا له تربية وتكريما يا يَحْيى الموهوب من لدنا المؤيد من عندنا خُذِ الْكِتابَ اى التوراة واشرع في ضبطها وحفظها بِقُوَّةٍ اى بنية خالصة وعزيمة صحيحة صادقة وَانما أمرناه بحفظها وضبطها إذ قد آتَيْناهُ الْحُكْمَ يعنى الحكمة المندرجة فيها وأعطيناه فهمها واستنباط الاحكام منها حال كونه صَبِيًّا لم يبلغ الحلم وَانما آتيناه وأعطيناه في حال صغره فهم التورية ليكون حَناناً ترحما وتعطفا مِنْ لَدُنَّا إياه تكريما له ولأبيه وَزَكاةً طهارة له عن مطلق الخبائث والآثام وَلهذا قد كانَ في مدة حياته من أوان صباه الى موته تَقِيًّا حذرا من عموم المناهي والمنكرات خائفا عن جملة المعاصي والمحظورات وَ لنجابة طينته قد ألقينا في قلبه بَرًّا وإحسانا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ في وقت من أوقاته وحالاته جَبَّاراً عاقا لهما مستنكفا عن أمرهما عَصِيًّا تاركا أمرهما وحكمهما وَ لسلامته عن عموم الآثام وطهارته عن جميع الخبائث والمعاصي سَلامٌ حفظ وتسليم وتكريم نازل منا عَلَيْهِ على الدوام يَوْمَ وُلِدَ قد كنا نحفظه من شر الشيطان وَيَوْمَ يَمُوتُ نحفظه من زوال الايمان وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا نصونه عن الخيبة والخسران وعن لحوق الحسرة والخذلان وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل فِي الْكِتابِ اى القرآن المنزل إليك سيدة النساء مَرْيَمَ عليها السّلام اى قصتها العجيبة الشان التي هي اعجب واغرب من قصة ولد زكريا عليه السّلام اذكر وقت إِذِ انْتَبَذَتْ اى اعتزلت وتباعدت مِنْ أَهْلِها حين حاضت وطهرت وأرادت الاغتسال حسب طهارتها الفطرية ونجابتها الجبلية فاختارت للخلوة والستر مَكاناً شَرْقِيًّا اى مشرق بيت المقدس ومع كونه مكانا بعيدا خاليا عن الناس فَاتَّخَذَتْ وأسدلت لغاية الاحتياط في التحفظ والتستر مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً يسترها ويحفظها عن أعين الناس ان وصلوا بغتة ثم لما تجردت عن لباسها واشتغلت لان تغتسل فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا وحامل وحينا وهو جبريل عليه السّلام إظهارا لكمال قدرتنا وحكمتنا وانفاذا لحكمنا الذي قد حكمنا به في سابق علمنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا شابا صبيحا امرد قططا مجعد الشعر لئلا تستوحش ومع ذلك قد استوحشت وارتهبت رهبة شديدة ومن شدة خوفها منه واضطرابها قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ والوذ بِالرَّحْمنِ الذي كفى لحفظ عباده من مطلق الشرور سيما مِنْكَ اى من شرك ومن شر امثالك فادفع أنت بنفسك عنى إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا خائفا من الله حذرا عن بطشه وانتقامه ثم لما رأى جبرائيل عليه السّلام من كمال عفتها وعصمتها ما رأى قالَ مستحييا معتذرا من جنس الملك إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ قد أرسلني إليك يا سيدة النساء

[سورة مريم (19) : آية 20]

لِأَهَبَ لَكِ انا باذن الله إياي غُلاماً زَكِيًّا طاهرا من عموم الرذائل والآثام مرتقيا في فنون الفضائل والكمالات الى أقصى الغايات مظهرا لانواع المعجزات والكرامات واصناف الارهاصات الخارقة للعادات ثم لما سمعت عليها السّلام مقالته وتفطنت بنور الولاية انه امر الهى نازل من قبل الله قالَتْ متعجبة مشتكية أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ ومن اين يحصل لي ولد وَلم يجر على أسبابه إذ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قط بالنكاح مساس مواقعة موجبة للحمل والحبل وَلَمْ أَكُ انا في مدة حياتي عاصية لله فاسقة خارجة عن مقتضى حدوده لأكون بَغِيًّا فاحشة زانية يولد منى ولد الزنا قالَ جبرائيل عليه السّلام كَذلِكِ قد جرى حكم ربك وقد امضى عليه في سابق قضائه لا تستبعدى ولا تستعسرى إذ قد قالَ رَبُّكِ الذي رباك على العصمة والعفاف هُوَ اى إيجاد الولد لك بلا مساس البشر وسبق الأسباب العادية عَلَيَّ هَيِّنٌ سهل يسير إذ لا يعسر علينا شيء ولا يعجز قدرتنا عن مقدور بل إذا أردنا شيأ نقول له كن فيكون بلا سبق سبب وعلة وَانما نظهره ونوجده لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ دالة على كمال قدرتنا وبدائع صنعتنا وحكمتنا وَرَحْمَةً نازلة مِنَّا على كافة عبادنا سيما عليك يا مريم وَبالجملة قد كانَ خلق عيسى وظهوره بلا أب في العالم وعروجه الى السماء أَمْراً مَقْضِيًّا محكوما به كائنا مثبتا في لوح القضاء وحضرة العلم الإلهي ثم لما سمعت مريم ما سمعت قد نفخ جبرائيل عليه السّلام نفخة في درعها فوصلت أثرها الى جوفها فحبلت فَحَمَلَتْهُ وصارت حاملة بعيسى فجاءة وكبر الولد في بطنها في تلك الساعة وبعد ما ظهر عليها من امارات الطلق ما ظهر فَانْتَبَذَتْ بِهِ اعتزلت لسبب حدوث هذا الأمر وتباعدت منفردة واختارت مَكاناً قَصِيًّا بعيدا عن العمران استحياء من أهلها ومن لوم الناس إياها وتعييرهم عليها بولادتها بلا زوج فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ وظهر امارات الولادة فالجأتها لان تشبث إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ اليابسة لتعتمد عليها عند الولادة وتستتر بها عن الناس قالَتْ حينئذ من شدة حزنها وكأبتها ووفور ضجرتها من ألم الملامة والفضاحة متمنية موتها يا لَيْتَنِي مِتُّ وعدمت قَبْلَ هذا اللوم والفضيحة وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا متروكا معدوما بحيث لا التفات لاحد الى أصلا ثم لما وضعت حملها واشتدت الآلام عليها فَناداها اى نادى الوليد امه مِنْ تَحْتِها بالهام الله إياه تسلية لامه وتنشيطا لها عليك أَلَّا تَحْزَنِي يا أمي ولا يشتد عليك الأمر بسبب ولادتي وظهوري بلا أب واعلمي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ ولدا سَرِيًّا سيدا مطيعا لله تقيا سجيا سخيا ذا إرهاصات كثيرة وكرامات كبيرة ومعجزات باهرة ظاهرة من جملتها انه قد ظهر لك من تحت رجلك نهر جار لدفع عطشك ولتطهير الفضلات عن بدنك وثيابك وَلدفع جوعتك هُزِّي إِلَيْكِ حركي على نفسك بِجِذْعِ النَّخْلَةِ التي أخذت أنت بيدك تُساقِطْ اى تتساقط منها ثمارها عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا بالغا في النضج والصلاح غايته وحان وقت اجتنائه قيل قد كانت تلك النخلة يابسة لا رأس لها والوقت وقت الشتاء فتغصنت في تلك الحالة واثمرت ونضجت ثمارها كرامة لعيسى وإرهاصا لامه صلوات الرّحمن عليهما فَكُلِي يا أمي من النخلة وَاشْرَبِي من النهر وَقَرِّي عَيْناً اى نوري عينيك بولدك وطيبي نفسك به فَإِمَّا تَرَيِنَّ وان رأيت مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً يسألك عن حالك وولدك فَقُولِي في جوابه يعنى اشيرى اليه وافهميه إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً سكوتا وصمتا عن التكلم مدة فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا اى إنسانا والحكمة في الهام الله إياها بالصمت والسكوت

[سورة مريم (19) : آية 27]

حتى لا تجادل مع سفهاء الأنام ولان ولدها يكفى مؤنة جوابها ثم لما ظهر امر ولادتها وشاع بين الأنام قصتها فمكثت مدة نفاسها في غار كان هناك وبعد ما انقضت وطهرت فَأَتَتْ بِهِ اى بولدها قَوْمَها تَحْمِلُهُ اى ولدها على صدرها فلما رأوها معها أخذوا في لومها وتقريعها حيث قالُوا معيرين عليها منادين لها على سبيل التوبيخ والتلويم يا مَرْيَمُ الصالحة العفيفة المشهورة بالعصمة في بيت المقدس لَقَدْ جِئْتِ بالآخرة شَيْئاً فَرِيًّا منكرا بديعا شنيعا من غاية الشناعة والفضاحة يا أُخْتَ هارُونَ هو رجل صالح او طالح نسبوها اليه تهكما وقيل هي من أولاد هارون أخ موسى نسبوها اليه وان تطاولت المدة بينهما ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ منسوب الى الفواحش والزنا والخروج عن الحدود وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا زانية فاجرة بل كلاهما من أصلح القوم وأزكاهم عن الفواحش والفسوق فكيف أنت ومن اين اكتسبت هذا وبعد ما تمادى تعييرهم وتشنيعهم فَأَشارَتْ مريم إِلَيْهِ اى الى ولدها بان قل لهم في جوابهم ما يفحمون به ويسكنون بل يتحيرون ويبهتون ولما رأوا اشارتها اليه وتفويضها الجواب نحوه قالُوا على سبيل الاستهزاء كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا رضيعا لم يعهد من مثله التكلم قد خجلت أنت واستحييت أنت تدفعيننا بهذا الرضيع مع انه معصوم لا ذنب له ثم لما رأى عيسى اشتداد اللائمين على امه بالتقريع والتشنيع واضطرار أمه واضطرابها من لومهم أخذ في الجواب بالهام الله إياه حيث قالَ مفصحا معربا على وجه الفصاحة والبلاغة الكاملة قولا مشتملا على الحكمة البالغة لا تعيروا ايها الجاهلون عن امرى وعلو شأني أمي العفيفة الكاملة المتناهية في العصمة والعفة ولا ترموها بما لا يليق بشأنها وبجلالة قدرها ومكانها عند الله إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ الحكيم المتقن في أفعاله المستقل في حكمه وآثاره قد خصنى بفضله بالنبوة والرسالة وأيدني بأنواع الكرامات والمعجزات الخارقة للعادات وابدعنى من محض جوده من روحه وأرسلني نحو عباده بالهداية والإرشاد الى توحيده لذلك آتانِيَ الْكِتابَ اى الإنجيل النازل من عنده على لترويج رسالتي وإرشادي وتتميم تكميلى وهدايتي وَبالجملة قد جَعَلَنِي نَبِيًّا مثل سائر الأنبياء وَايضا جَعَلَنِي مُبارَكاً نفاعا كثير الخير والبركة لأهل الصلاح من البرية أَيْنَ ما كُنْتُ وحيثما توطنت وجلست معهم يصل خيرى ونفعي إليهم وَمن كمال تربية الله وتزكيته إياي قد أَوْصانِي وأمرني بِالصَّلاةِ والميل التام والتوجه الكامل نحوه بعموم الجوارح والأركان وَالزَّكاةِ اى التخلية والتطهير عن جميع الرذائل والخبائث المتعلقة للنفوس البشرية المنغمسة بالعلائق الدنيوية المبعدة عن صفاء الوحدة الذاتية ما دُمْتُ حَيًّا بروح الله الذي قد ابدعنى منه خالصا صافيا عن جميع الكدورات وأوصاني بما أوصاني عناية منه لأكون باقيا على صفائى وطهارة لاهوتي بلا كدر من خبائث الناسوت وَقد جعلني ايضا بَرًّا بارا محسنا بِوالِدَتِي ممتثلا بأمرها قائما بخدمتها خافضا جناح الذل من الرحمة إياها والحمد لوليه الذي رباني سعيدا على الطهارة الكاملة والصلاح التام وانواع الكرامة والفلاح والتذلل والتواضع مع عموم عباده وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً متكبرا متجبرا على الناس شَقِيًّا بعيدا عن روح الله مستجلبا لعذابه وَمتى سلمني الله وطهرني عن جميع ما يعوقنى عن مقتضى صرافة الوحدة الذاتية الإلهية المعبرة عنها بروح الله قد عاد ورجع السَّلامُ عَلَيَّ اى سلام الله وحفظه دائما على من لدنه يَوْمَ وُلِدْتُ عن أمي بان حفظت عن مس الشيطان بي وَيَوْمَ أَمُوتُ سيحفظنى من شره ووسته ايضا وَيَوْمَ أُبْعَثُ للحشر

[سورة مريم (19) : آية 34]

أكون حَيًّا بحياة الله وروحه كما كنت قبل هذا ثم لما سمعوا من عيسى عليه السّلام ما سمعوا تاهوا وتحيروا في امره وصاروا حيارى متعجبين من علو شأنه وشأن والدته وجلالة قدرهما فاختلفوا حينئذ وتفرقوا فرقا وأحزابا فرقة منهم قالت بألوهيته وفرقة قالت بابنيته لله وفرقة قالت بالأقانيم ومنهم من رماه وامه بما لا يليق بشأنهما لذلك اخبر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما هو الواقع في الواقع والحق الصريح فقال ذلِكَ اى القائل بهذه الكلمات والموصوف بهذه الصفات المذكورة هو عبدنا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لا ما قالته غلاة النصارى ولا ما قالته طغاة اليهود بل قَوْلَ الْحَقِّ هذا الَّذِي ذكرنا لك يا أكمل الرسل وهم فِيهِ يَمْتَرُونَ ويترددون مع انه لا ريب فيه لا ما قالته النصارى بانه ابن الله إذ ما كانَ اى ما صح وما جاز لِلَّهِ ولا يليق بعلو شأنه سبحانه أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ وهو منزه في ذاته عن الأهل والولد إذ لا تليق بذاته المعاونة والاستظهار بهما تعالى عن ذلك بل من حكمه وشأنه انه سبحانه إِذا قَضى وأراد أَمْراً من الأمور الكائنة في عالم الأمر فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ حين تعلقت ارادته بتكوينه كُنْ بلا ترتب في السمع بتقديم الكاف على النون إذ كلامه القائم بنفسه سبحانه نفسي ذاتى لا يتوهم فيه الحروف والأصوات ومقاطعها ليتصور الترتيب بالتقدم والتأخر كما يتوهم في الألفاظ الصادرة عنا بل يخلق سبحانه بقدرته الكاملة في لساننا لفظا معجزا لا من جنس الفاظنا ليسع لنا التعبير حكاية عن كلامه النفسي وقت ارادة نفوذ قضائه وهو لفظة كن وعن حصول المقضى بلفظ فَيَكُونُ ايضا بلا تراخ وتعقيب يفهم من الفاء ومن كان شأنه هكذا من اين يكون له حاجة الى الأهل والولد واحبال المرأة ووقاعها تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا بل هو سبحانه واحد احد فرد وتر صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا هذا اى من قوله ذلك عيسى ابن مريم الى هنا كلام قد وقع في البين. ثم قال سبحانه حكاية عن عيسى من جملة ما اوصى اليه وَبعد ما بالغ عيسى في بيان طهارته وعصمة امه وتكلمه في غير أوان التكلم بكلام عجيب غريب قد علم بنور النبوة ونجابة الفطرة والفطنة ان بعضهم قد يغلون في شأنه وشأن امه ويتخذونهما الهين أورد كلاما نافيا لظنونهم وجهالاتهم دافعا لها رادعا إياها فقال إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر الذي قد أوجدني وابدعنى بلا أب هو رَبِّي الذي رباني وأمي بأنواع الكرامة وأظهرني من كتم العدم بمقتضى قدرته وَهو سبحانه رَبُّكُمْ ايضا قد أوجدكم وأظهركم مثلي إيجادا إبداعيا فَاعْبُدُوهُ ووحدوه ولا تشركوا معه شيأ من مخلوقاته وتوجهوا نحوه بالتذلل التام والانكسار المفرط إذ هو المستحق للعبادة لا معبود سواه ولا اله الا هو هذا الذي قد بينت لكم صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وطريق واضح سوى موصل الى معرفة الحق وتوحيده فاتبعوه ان كنتم مؤمنين موقنين بتوحيده وبعد ما نبههم صلوات الرّحمن عليه بالطريق الأبين الأوضح فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ اى فرق النصارى واليهود في شأنه وشأن امه اختلافا ناشئا مِنْ بَيْنِهِمْ بلا سند شرعي او عقلي فأفرطت النصارى باتخاذه الها او ابن اله وأفرطت اليهود بنسبته وامه الى ما لا يليق بشأنهما وبالجملة فاستحق كلا الفريقين باشد العذاب وأسوء العقاب فَوَيْلٌ عظيم وعذاب شديد اليم لِلَّذِينَ كَفَرُوا ستروا ما هو الحق في شأنه وعدلوا عنه الى الباطل بلا حجة وبرهان مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ اى من شهود يوم القيمة وظهوره وحضوره وهم يسحبون فيه على وجوههم نحو النار ويكبون عليها صاغرين مضطرين أَسْمِعْ ايها المسمع بِهِمْ اى بأنينهم وحنينهم في النار

[سورة مريم (19) : آية 39]

وَأَبْصِرْ ايها المبصر باغلالهم وسلاسلهم يَوْمَ يَأْتُونَنا للعرض والحساب مضطرين مسحوبين لكِنِ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى أوامرنا ونواهينا الْيَوْمَ اى في النشأة الاولى فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وجهل عظيم من اهوال يوم القيمة وافزاعه وَأَنْذِرْهُمْ يا أكمل الرسل من عندك يَوْمَ الْحَسْرَةِ المعدة للجزاء بحيث لا يمكن فيها التلافي والتدارك على ما فات سوى الحسرة والندامة الغير المفيدة إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ ونزل العذاب وقد مضى زمان امتثال المأمور به وَالحال انه هُمْ فِي غَفْلَةٍ وغرور عن مضيه وَبالجملة هُمْ لا يُؤْمِنُونَ ولا يصدقون بإتيان هذا اليوم الموعود على ألسنة الرسل والكتب كيف لا يصدقون هذا اليوم أولئك الكاذبون المكذبون المستغرقون في بحر الغفلة والضلال التائهون في تيه الغرور إِنَّا من مقام قهرنا وجلالنا نَحْنُ بانفرادنا ووحدتنا نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها بعد انقهارها واضمحلال اجزائها وتشتت أركانها بمقتضى القدرة الغالبة بحيث قد صار كل من عليها فانيا ولم يبق سوى وجهنا الكريم وصفاتنا القديمة فانقلبت تجلياتنا المتشعشعة المتجددة عن هذا النمط البديع الى نمط أبدع منه وأكمل إذ نحن في كل يوم وآن في شأن ولا يشغلنا شأن عن شأن وَكيف لا نرث من على ارض الوجود وفضاء الشهود إذ الكل إِلَيْنا يُرْجَعُونَ رجوع الظل الى ذي الظل والأمواج الى البحر والأضواء والاظلال الى الشمس وبعد رجوع الكل إلينا أنادي من وراء سرادقات عزنا وجلالنا لمن الملك اليوم وأجيب ايضا من ورائها إذ لا مجيب في الوجود سوانا لله الواحد القهار للاظلال والأغيار وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل فِي الْكِتابِ المتلو عليك المنزل إليك جدك إِبْراهِيمَ ومحامد أخلاقه ومحاسن شيمه وأطواره لتنتفع بها أنت ومن تبعك من المؤمنين وتمتثل بأخلاقه أنت وهم إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً صدوقا مبالغا في الصدق والصداقة وتصديق الحق وتوحيده نَبِيًّا من خلص الأنبياء اذكر أوان انكشافه وايقاظه من منام الغفلة التي هي عبادة الأوثان والأصنام وقت إِذْ قالَ لِأَبِيهِ مستنكرا عليه متعجبا من امره مناديا له رجاء ان يتفطن ويتنبه بما تنبه به هو يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ وتطيع ما لا يَسْمَعُ اى شيأ لا يقدر على السمع وَلا يُبْصِرُ وايضا لا يقدر على الأبصار والمعبود لا بد من ان يرى ويسمع احوال عباده ويعلم حاجاتهم ومناجاتهم وَإذا لم يسمع ولم يبصر لا يُغْنِي ولا يدفع عَنْكَ شَيْئاً من مكروهاتك ولا يعينك فلا يصلح إذ للالوهية والربوبية فلم عبدت وأطعت له مع انك قد نحته بيدك وأظهرت أنت هيكله وشكله والعجب منك كل العجب انه مصنوعك وقد أخذته الها صانعا لك معبودا مستحقا للعبادة مع انك قد كنت من ذوى الرشد والعلم وهو جماد فلا شعور له أصلا يا أَبَتِ إِنِّي وان كنت ابنك أصغر منك لكن قَدْ جاءَنِي ونزل على مِنَ الْعِلْمِ من قبل الحق مع صغر سنى ما لَمْ يَأْتِكَ مع كبرك إذ الفضل بيد الله وبمقتضى ارادته يؤتيه من يشاء فَاتَّبِعْنِي اى اتبع أنت بما نزل على من قبل ربي من خلوص الاعتقاد أَهْدِكَ انا بتوفيق الله وإرشاده صِراطاً سَوِيًّا موصلا الى المعبود بالحق وتوحيده يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ بعبادة هذه التماثيل الباطلة والهياكل العاطلة إذ ما هي الا باغوائه وتضليله إذ هو عدو لك ولأبينا من قبلك عداوة مستمرة إِنَّ الشَّيْطانَ المغوى المضل عن طريق الحق قد كانَ من الأزل الى الأبد لِلرَّحْمنِ المفيض لأصناف الخيرات وانواع السعادات سيما الايمان والعرفان المنجى من انواع الحرمان والخذلان عند لقاء الحنان المنان عَصِيًّا قد عصى هو بنفسه وانتظر لعصيان غيره وسعى بإضلاله وتسويلاته

[سورة مريم (19) : آية 45]

ليضل به عموم اهل الحق عن طريقه يا أَبَتِ إِنِّي من كمال اشفاقى وعطفي أَخافُ عليك أَنْ يَمَسَّكَ وينزل عليك عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ المنتقم لأصحاب الضلال والطغيان بدل الثواب والغفران فَتَكُونَ حينئذ بشقاوتك وطغيانك لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا صديقا وللرحمن عدوا ببغيك وعصيانك له سبحانه ومتابعتك لعدوه ثم لما تمادى مكالمة ابراهيم مع أبيه ومحاورته على سبيل النصح والتذكير قالَ له أبوه مقرعا عليه مهددا له مضللا إياه أَراغِبٌ معرض برئ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي ومعبوداتى مع ان عبادتهم اولى وأليق بحالك يا إِبْراهِيمُ ان خير الأولادان يتسع إياه في الدين سيما قد سلف أجدادك على هذا وأنت قد استنكفت عن عبادة آلهتنا انته عن اعتقادك هذا والله لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ ولم تمتنع عن اعتقادك لَأَرْجُمَنَّكَ واقتلنك بالأحجار على رءوس الاشهاد فمع من عندي وَاهْجُرْنِي واتركني مَلِيًّا زمانا طويلا بلا ابن وولد فان عدمك خير من وجودك بهذا الاعتقاد فان ندمت عن اعتقادك هذا ورجعت الى ما كنا عليه من قبل يعنى عبادة الأصنام فارجع إلي تائبا من هذياناتك والا فاذهب لا علاقة بيني وبينك فانا برئ منك ثم لما رأى ابراهيم عليه السّلام شدة عبه وضلاله ورسوخ جهله وطغيانه قالَ مسترجعا الى الله مودعا عليه مسلما سَلامٌ عَلَيْكَ اى سلامى عليك يا ابى اهجرك باجازتك بي الا انى سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ينقدك من أوزار الشرك ويوصلك الى مرتبة توحيده شكرا لابوتك لي ورعاية لحضانتك على والتجئ نحو الحق والود به من الشرك الذي قد هددتنى به إِنَّهُ سبحانه قد كانَ بِي حَفِيًّا مشفقا رحيما يحفظني من شرّك ومن شر عموم من عاداني وَمتى لم يفد لك نصحى ولم ينفع لك تذكيري ووعظي أَعْتَزِلُكُمْ اترككم على ما أنتم عليه وَايضا اترك ما تَدْعُونَ وتعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ اتبرأ منهم وَأَدْعُوا رَبِّي الذي رباني بفضله بالإيمان وأوصلني بلطفه الى فضاء التوحيد والعرفان واعبد إياه وأطيعه في عموم الأوقات والأحيان عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي والتوجه نحوه والتحنن اليه شَقِيًّا خائبا خاسرا عن رحمته ذا شقاوة جالبة لسخط الله وغضبه فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وبعد عنهم واختار الغربة والفرار من بينهم وَترك عبادة ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأوثان والأصنام وَهَبْنا لَهُ من مقام جودنا وفضلنا إياه إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ليؤانس بهما ويدفع كربة الغربة بصحبتهما وَلنجابة طينتهما وكرامة فطرتهما كُلًّا منهما قد جَعَلْنا نَبِيًّا مهبطا للوحى والإلهام من لدنا مثل أبيهما وسائر الأنبياء وَبالجملة قد وَهَبْنا لَهُمْ اى لإبراهيم وولديه مِنْ سعة رَحْمَتِنا ووفور جودنا للأموال والأولاد والجاه والثروة الى ان صاروا مرجع الأنام وحاكميهم في عموم الاحكام الى يوم القيمة وَايضا قد جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ اى جعلنا ثناءهم ومدحهم العائد إليهم عن ألسنة عموم البرايا ثناء صدق وتحقيق لا مجرد خطابة وتحنن كثناء سائر الملوك والجبابرة لذلك قد صار ثناؤهم عَلِيًّا مظهرا لعلو مرتبتهم وشأنهم الى انقراض النشأة الاولى كل ذلك ببركة دعاء أبيهم ابراهيم عليه السّلام وباجابة الحق له حيث قال في مناجاته مع ربه واجعل لي لسان صدق في الآخرين وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل فِي الْكِتابِ المنزل عليك مُوسى الكليم وقصة انكشافه من الشجرة المباركة إِنَّهُ من كمال انكشافه وشهوده بوحدة الحق إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً قد خلص حسب لاهوته للتوحيد وصفا عن إكدار ناسوته مطلقا وَبالجملة قد كانَ رَسُولًا مرسلا الى بنى إسرائيل للإرشاد والتكميل مؤيدا بالكتاب وانواع المعجزات نَبِيًّا ايضا

[سورة مريم (19) : آية 52]

بالوحي والإلهام والرؤيا وَلكمال إخلاصه ومزيد اختصاصه بنا نادَيْناهُ بعد المجاهدة الكثيرة والرياضات البليغة مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ ذي اليمن والبركة وانواع السعادة والكرامة وَبعد ما انكشف بالنداء بما انكشف وشهد ما شهد قد قَرَّبْناهُ بنا الى ان صار نَجِيًّا مناجيا إلينا متكلما معنا إذ قد كنا حينئذ سمعه وبصره وجميع قواه فبنا يسمع وبنا يبصر وبنا يبطش وبنا يتكلم وَمع ذلك قد وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا وفضلنا إياه تأييدا له وتعضيدا أَخاهُ هارُونَ ليؤيده ويقويه في تنفيذ احكام النبوة والرسالة وجعلناه نَبِيًّا ايضا ليكون على عزيمة صادقة وقصد خالص في اجراء الاحكام الإلهية وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ ايضا جدك إِسْماعِيلَ ذبيح الله الراضي من الله بجميع القضاء المرضى عنده إِنَّهُ من كمال وثوقه واعتماده على الله وتفويضه الأمور كلها اليه سبحانه قد كانَ صادِقَ الْوَعْدِ والعهد عند الله وافيا لميثاقه صابرا على مصائبه وبلائه شاكرا لآلائه ونعمائه وَقد كانَ ايضا كابيه واخوته رَسُولًا نَبِيًّا وان لم ينزل عليه الشرع المخصوص إذ بعض أولاد ابراهيم صلوات الرّحمن على نبينا وعليه وعليهم قد كانوا أنبياء مرسلين مع انهم كانوا جارين على ملة أبيه وشرعه وَمن خصائله الجميلة انه قد كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ أولا لأنهم اولى بالإرشاد والتكميل وأحق من غيرهم بِالصَّلاةِ التي هي عبارة عن التوجه نحو الحق بعموم الجوارح والأركان والتقرب اليه عن ظهر القلب ومحض الجنان وَالزَّكاةِ التي هي عبارة عن تصفية النية وتخلية الطوية عن الميل الى مزخرفات الدنيا الدنية وحطامها الزائلة الذاهبة وَقد كانَ من كمال تنزهه عن العلائق والعوائق العائقة عن التوجه الخالص نحو الحق عِنْدَ رَبِّهِ الذي رباه على كمال الرضاء والتسليم مَرْضِيًّا لوفائه الوعد واستقامته، فيه وصبره على عموم ما جرى عليه من البلوى وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل فِي الْكِتابِ ايضا إِدْرِيسَ صاحب دراسة التوحيد والعرفان وقالع اهوية النفس وأمانيها بارتكاب شدائد الرياضات والمجاهدات في مسالك التصديق والإيقان من كمال رشده وحكمته إِنَّهُ قد كانَ صِدِّيقاً مبالغا في الصدق والتصديق والتحقيق نَبِيًّا مبعوثا الى الناس كسائر الأنبياء للهداية والتكميل وَلعلو شأنه وسمو برهانه وكمال تصفيته وتزكيته عن لوازم البشرية قد رَفَعْناهُ تلطفا معه وتفضلا عليه مَكاناً عَلِيًّا وهو أعلى درجات المعارف واليقين وقيل الى السماء الرابعة او السادسة وبالجملة أُولئِكَ المذكورون من زكريا الى إدريس كلهم أنبياء الله وامناؤه في ارضه إذ هم بأجمعهم هم الَّذِينَ قد أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بأنواع النعم الظاهرة والباطنة واصطفاهم من بينهم للهداية والتكميل وهم مِنَ النَّبِيِّينَ المنتشئين مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ في السفينة حين ظهر الطوفان على وجه الأرض وَبعضهم مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَابنه يعقوب الملقب من عند الله إِسْرائِيلَ وَقد كان كل منهم مِمَّنْ هَدَيْنا الى توحيدنا وَاجْتَبَيْنا من بين البرايا للتكميل والتشريع ووضع الاحكام بين الأنام وكلهم من كمال يقينهم وعرفانهم وتمكنهم في مقر التوحيد قد صاروا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ ودلائل توحيده وتجريده قد خَرُّوا خرور تواضع ورهبة سُجَّداً متذللين واضعين جباهم على تراب المذلة والهوان وراجين من سعة رحمته بمقتضى لطفه وجماله وَبُكِيًّا باكين خائفين من خشيته وجلاله فان المؤمن لا بد ان يكون في عموم أحواله بين الخوف والرجاء ثم لما ظهر على الأرض التي هي محل الشرور والفتن وانواع الفسادات ما ظهر من انواع المكروهات والمنكرات وهم قد كانوا عند ظهورها واشتهارها

[سورة مريم (19) : آية 59]

قد بذلوا غاية جهدهم في تنفيذ الاحكام الشرعية المنزلة على مقتضى زمان كل منهم فكملوا وارشدوا مقدار جهدهم وطاقتهم فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ واستعقبهم خَلْفٌ مخالف سوء بالسكون لا خلف جيد صدق بالحركة كلهم قد أَضاعُوا وأبطلوا الصَّلاةَ المقربة نحو الحق مع انها من أقوى اسباب الايمان وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ النفسانية المبعدة عنه سبحانه الجالبة لانواع العذاب والنكال وقد اباحوها لنفوسهم وأصروا على اباحتها فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ في النشأة الاخرى غَيًّا شرا وخسرانا عذابا ونيرانا يترتب على شهواتهم ولذاتهم الفانية إِلَّا مَنْ تابَ ورجع عنها نادما ولم يرجع إليها أصلا وَآمَنَ وصدق حرمتها وَبعد التوبة والرجوع قد عَمِلَ عملا صالِحاً ليصلح ما أفسده بمتابعة الهوى فَأُولئِكَ التائبون الآئبون النادمون عن عموم ما صدر عنهم من متابعة الهوى باغواء الشيطان واغرائه يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مثل سائر المؤمنين المطيعين وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً اى لا ينقصون شيأ من درجات المؤمنين الغير العاصين ومثوباتهم، ان كانت توبتهم على وجه الإخلاص والندامة الكاملة بل لهم كسائر عباد الله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي قد وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ تفضلا عليهم وجزاء لاعمالهم وايمانهم بِالْغَيْبِ وبلوح القضاء وحضرة العلم المحيط الإلهي يصلون إليها ويتمكنون فيها إِنَّهُ سبحانه من كمال عطفه ورحمته لعباده قد كانَ وَعْدُهُ إياهم مَأْتِيًّا حاصلا بلا ريب وتردد ومتى دخلوا في دار السلامة والسّلام لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وفضولا من الكلام إِلَّا قولا سَلاماً سلاما من كل جانب تحية وتكريما وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ الصوري والمعنوي معدا مهيئا فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا مستوعبا لجميع الأوقات إذ أكلها دائم وبالجملة تِلْكَ الْجَنَّةُ الموصوفة الموعودة الَّتِي نُورِثُ نوطن ونمكن مِنْ عِبادِنا فيها مِنْ منهم كانَ تَقِيًّا متصفا بالتقوى محترزا عن الهوى مائلا نحو المولى وَبعد ما قد ابطأ الوحى على رسول الله حين سئله المشركون عن قصة اصحاب الكهف وعن الروح وقصة ذي القرنين وقد وعد لهم الجواب صلّى الله عليه وسلّم ولم يستثن وانقطع الوحى خمسة عشر يوما وقيل أربعين عيروه واستهزؤا به حيث قالوا قد ودعه ربه وقلاه ثم لما نزل جبريل عليه السّلام واستبطأ صلّى الله عليه وسلّم نزوله قال جبريل عليه السّلام في جوابه نحن معاشر الملائكة وسدنة حضرة اللاهوت ما نَتَنَزَّلُ ونوحي الى احد إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وبانزاله وإرساله إذ لَهُ الحكم والتصرف في ما بَيْنَ أَيْدِينا اى عندنا وفي علتنا وَما خَلْفَنا وفي سرائرنا واستعداداتنا وعموم ما غاب عنا وخفى علينا وَكذا ما بَيْنَ ذلِكَ الطرفين المذكورين وبالجملة هو سبحانه مستوعب بنا محيط بعموم أحوالنا بلا فوت شيء وغيبته عنه بل الكل حاضر عنده غير غائب عنه مطلقا وَبالجملة ما كانَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل نَسِيًّا تعالى شأنه عن ذلك حتى ينسب إبطاء الوحى الى نسيانه وكيف يتصور منه سبحانه هذا إذ هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما محيط بالكل شهيد عليه حاضر عنده بحيث لا يعزب عن حضرة علمه الحضوري شيء منها لمحة وإذا تحققت ما تلونا عليك يا أكمل الرسل وتأملت في معناه حق التأمل والتدبر فَاعْبُدْهُ راجيا منه العناية والتوفيق على العبادة وجزاء الخير وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ وتحمل متاعبها واثبت عليها ولا تعجل بوحي ما قصدت وأحببت نزوله ولا تقنط ايضا إذ الكل موكول اليه سبحانه مرهون بوقته موقوف على تعلق مشيئته سبحانه وبالجملة لا تعجل بالوحي

[سورة مريم (19) : آية 66]

ولا تضطرب من استهزاء الكفرة وسخريتهم وكيف لا تصطبر ولا تصبر هَلْ تَعْلَمُ وتسمع لَهُ سَمِيًّا باسم الإله مسمى به مثلا له مستحقا للعبودية والتوجه لإنجاح المطلوب سواه سبحانه حتى ترجع أنت نحوه عند توجه الخطوب وإلمام الملمات عليك وبالجملة ما عليك الا العبادة والاصطبار وترك الاضطراب والاستعجال وتفويض عموم الأمور الى الكبير المتعال وَمن غاية الجهل ونهاية الغفلة عن ربوبيته سبحانه يَقُولُ الْإِنْسانُ المجبول على الكفران والنسيان بنعم الله وبإنكار قدرته على اعادة المعدوم وحشر الأموات أَإِذا ما مِتُّ وقد صرت عظاما ورفاتا لَسَوْفَ أُخْرَجُ من الأرض حَيًّا سويا معادا كلا وحاشا ما هذا الا محال باطل وضلال ظاهر أَينكر المنكر على قدرتنا ويصر على الإنكار وَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ المكابر المعاند أَنَّا قد خَلَقْناهُ واوجدناه إيجادا إبداعيا مِنْ قَبْلُ وَالحال انه لَمْ يَكُ شَيْئاً مما يطلق عليه اسم الشيء إذ هو معدوم صرف وعدم محض والمعدوم ليس بشيء ولا مسبوق بشيء فقدرنا على إيجاده وإظهاره من العدم الصرف ولم لم نقدر على إعادته سيما بعد سبق اجزائه وان كان الإعادة والإبداء عندنا وفي جنب قدرتنا على السواء الا ان الإعادة بالنسبة الى فهمهم أسهل وأيسر من الإبداء والإبداع عن لا شيء فَوَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل الذي هو أعظم أسمائه وأشملها وبعزته وجلاله لَنَحْشُرَنَّهُمْ أولئك الضالين وَالشَّياطِينَ المضلين لهم معهم منخرطين في سلسلتهم ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ مقيدين مغلولين حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا باركين على الركب قائمين على أطراف الأصابع بلا تمكن لهم واطمئنان مثل الجاني الخائف عند الحاكم القاهر القادر على انواع الانتقام ثُمَّ بعد حشرهم وإحضارهم حول النار كذلك لَنَنْزِعَنَّ ننتخبن ونخرجن مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ فئة وفرقة قد شاعت منهم موجبات العذاب والنكال ونميزن منهم ايضا أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ المفيض لهم انواع الخيرات والبركات عِتِيًّا جرأة على العصيان له وعلى ترك أوامره وارتكاب نواهيه حتى يطرح أولا على قعر النار ثم الا مثل فالأمثل الى ان يطرح الكل فيها على تفاوت طبقاتهم ودرجاتهم في افتراق موجباتها قوة وضعفا ثُمَّ بعد ما انتزعنا وانتخبنا لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى وأحق بِها اى بدخول النار صِلِيًّا اى دخولا وطرحا أوليا سابقا على الكل ألا وهم الرؤساء الضالون المضلون إذ يضاعف عذابهم بضلالهم واضلالهم. ثم قال سبحانه مخاطبا لبنى آدم بأجمعهم لا تغتروا بدنياكم وبلذاتها وشهواتها فإنها توقعكم في النار وَإِنْ مِنْكُمْ ايها المتلذذون بزخرفة الدنيا المائلون الى أمتعتها وما احد من المتمتعين بها إِلَّا وارِدُها اى وارد النار وواقعها قد ذاق كل منكم مقدار ما تلذذ بحطام الدنيا اما المؤمنون المطيعون المتقون الذين يقنعون من الدنيا ومن أمتعتها بسد جوعة ولبس خرقة وكن ضرورة فيمرون عنها ويردون عليها وهي حينئذ خامدة منطفية وانما يردون ويوردون عليها عبرة لهم منها واعتبارا وشكرا لنعمة النجاة عنها واما المؤمنون العاصون التائبون فيذوقون من عذابها مقدار تلذذهم بالمعاصي ثم يخرجون بمقتضى عدله سبحانه واما اصحاب الكبائر من المؤمنين المصرين عليها الخارجين من الدنيا وهم عليها بلا توبة وكذا. عموم الكفرة والمشركين فهم هم الواردون المقصورون على الورود فيها الا ان المؤمنين تلحقهم الشفاعة واما الكفرة فهم الخالدون المخلدون لا نجاة لهم منها أصلا وبالجملة لا تترددوا ايها السامعون ولا تشكوا فيما ذكر من الورود المذكور إذ قد كانَ هذا من جملة الاحكام المحكمة المبرمة الإلهية التي قد وجبت عَلى رَبِّكَ يا أكمل الرسل بإيجابه على نفسه وجوبا حَتْماً مَقْضِيًّا محققا بلا

[سورة مريم (19) : آية 72]

شبهة وتخلف إذ قد أوجبها سبحانه على نفسه لحكمة ومصالح خص بها سبحانه ولم يفش سرها على احد ثُمَّ بعد الورود والوصول نُنَجِّي ونخلص الَّذِينَ اتَّقَوْا عن محارمنا في النشأة الاولى اتقاء من سخطنا وطلبا لمرضاتنا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات أوامرنا ونواهينا خالدين فِيها جِثِيًّا لا يمكنهم الخروج والتجاوز عنها أصلا بل صاروا مزدحمين فيها مضيقين معذبين بأنواع العذاب ابد الآباد وَكيف لا يخلدون في النار أولئك الهالكون وهم قد كانوا من غاية غيهم وضلالهم ونهاية غفلتهم وقسوتهم إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ في نشأة الاختبار آياتُنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمال قدرتنا على الانعام والانتقام مع كونها بَيِّناتٍ واضحات في الاعجاز بلا ريب وتردد قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بعد ما عجزوا عن معارضتها وأفحموا عن المقابلة معها لِلَّذِينَ آمَنُوا متشبثين بما عندهم من المال والجاه والثروة والرياسة مفتخرين بها قائلين على سبيل التهكم أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أنحن الأغنياء المتلذذون بأنواع الذات المتمكنون بعموم الآمال والمرادات أم أنتم ايها الفقراء المحتاجون بما تقتاتون في يومكم هذا خَيْرٌ مَقاماً واشرف مرتبة وأعلى مكانا عند الله وَأَحْسَنُ نَدِيًّا مجلسا ومنزلا عنده ولولا انا أفضل وأخير منكم عند الله لما أعطانا ولما منع عنكم ثم لما افتخروا وتفضلوا على المؤمنين بما عندهم من حطام الدنيا وزخرفتها رد عليهم سبحانه وهددهم على الوجه الأبلغ الأتم فقال على سبيل العبرة وَكَمْ اى كثيرا أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ اهل قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ واكثر من هؤلاء المفتخرين المعاندين أَثاثاً امتعة دنياوية وما يترتب عليها من الجاه والثروة والكبر والخيلاء وَاحسن رِءْياً زينة وبهاء ثم لما لم يتذكروا بالآيات والنذر ولم يتفطنوا منها الى توحيد الحق وصفاته ولم يشكروا نعمه بل قد أصروا واستكبروا بما عندهم من المزخرفات الفانية فهلكوا واستؤصلوا قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا كلاما ناشئا عن محض الحكمة المتقنة مَنْ كانَ منكم منغمسا منهمكا فِي الضَّلالَةِ مجبولا عليها فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ وليمهله مَدًّا مهلا طويلا وليمتعهم تمتيعا كثيرا رغدا وسيما حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ على ألسنة الرسل والكتب إِمَّا الْعَذابَ العاجل لهم في النشأة الاولى بان قد غلب المسلمون عليهم فقتلوهم واسروهم وضربوا الجزية عليهم مهانين صاغرين وَإِمَّا السَّاعَةَ بان تأتيهم بغتة فَسَيَعْلَمُونَ إذا بالعيان والمشاهدة مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً درجة ومقاما عند الله وَأَضْعَفُ جُنْداً واقل ناصرا ومعينا وَبعد ما صار مآل الكفار وبالا عليهم ومنا لهم نكالا لهم يَزِيدُ اللَّهُ الهادي لعباده المؤمنين الَّذِينَ اهْتَدَوْا الى زلال عرفانه وتوحيده هُدىً هداية ورشدا باقيا ازلا وابدا بدل ما نقص عنهم من حطام الدنيا الفانية ومتاعها الزائلة الذاهبة وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ المقربة الى الله المستتبعة لانواع الفضل والثواب خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل ثَواباً عائدة وَفائدة خَيْرٌ مَرَدًّا اى منقلبا ومآبا إذ مآل المال والجاه والثروة والسيادة الى الحسرة والخسران وانواع الخيبة والخذلان. ومآل العبادة الى الجنة والغفران والرحمة والرضوان. ثم قال سبحانه وتعالى على سبيل التوبيخ والتقريع للكافر المستكبر أَفَرَأَيْتَ ايها المعتبر الرائي الطاغي الَّذِي كَفَرَ أنكر واعرض واستكبر بِآياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وَقالَ مقسما مبالغا على سبيل الاستهزاء والسخرية والله لَأُوتَيَنَّ أعطين في النشأة الاخرى ايضا ان فرض وجودها مالًا وَوَلَداً مثل ما أعطيت في هذه النشأة هذا من

[سورة مريم (19) : آية 78]

غاية اغتراره وذهوله ونهاية غفلته وغروره واعتقاده كبرا وخيلاء انه حقيق بهذه المرتبة حيثما كان فرد الله سبحانه عليه على ابلغ الوجوه وآكدها بقوله أَطَّلَعَ الْغَيْبَ اى أيدعي هذا الطاغي التائه في تيه الجهل والغفلة علم الغيب واطلاع السرائر والخفايا أَمِ اتَّخَذَ وأخذ عِنْدَ الرَّحْمنِ اى من عنده على لسان نبي من أنبيائه او ملك من ملائكته عَهْداً ليعطيه في الآخرة مالا وولدا إذ لا معنى للجزم بهذه الدعوى سيما ان يؤكد بالحلف الا بأحد هذين الطريقين كَلَّا وحاشا ليس لهذا الجاهل الكذاب لا هذا ولا ذاك بل سَنَكْتُبُ نأمر الحفظة ان يكتبوا ما يَقُولُ هذا المسرف المغرور اغترارا بماله وجاهه وَنَمُدُّ لَهُ نزيد عليه يوم الجزاء مِنَ الْعَذابِ مَدًّا اى عذابا فوق العذاب أضعافا وآلافا بكفره وإصراره واغتراره على كفره وعتوه على اهل الايمان واستهزائه بهم وَبعد ما نهلكه ونميته نَرِثُهُ ما يَقُولُ ويفتخر به من الأموال والأولاد وغيرها ونرث وننزعها عنه ونجرده منها بحيث لا يبقى معه شيء منها وَبالجملة يَأْتِينا يوم العرض والجزاء فَرْداً صفرا خاليا بلا اهل ولا مال ولا ايمان ولا عمل وَمن غاية جهلهم بالله ونهاية غفلتهم عن حق قدره وقدر وحدته واستيلائه واستقلاله قد اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً من تلقاء أنفسهم وعلى مقتضى اهويتهم الفاسدة لِيَكُونُوا اى آلهتهم لَهُمْ عِزًّا اى سببا لعزهم وتوقيرهم عند الله يشفعون لهم او يخففون عنهم عذابهم كَلَّا ردع لهم عما اعتقدوا من الفوائد العائدة لهم من عبادة الأوثان والأصنام من الوصلة والوسيلة والشفاعة والتسبب للنجاة بل سَيَكْفُرُونَ وينكرون أولئك المعبودون يومئذ بِعِبادَتِهِمْ اى بعبادة الكفرة المشركين إياهم وَكيف يشفعون لهم حينئذ بل يَكُونُونَ اى معبوداتهم عَلَيْهِمْ ضِدًّا يضادون معهم يعادون بل يريدون مقتهم وازدياد عذابهم ثم لما تعجب صلّى الله عليه وسلّم من قسوة قلوب الكفرة وشدة عمههم وسكرتهم في الغفلة ومن عدم تفطنهم وتنبههم بحقيقة آيات التوحيد مع وضوحها وسطوعها مع انهم من زمرة العقلاء المجبولين على فطرة المعرفة والإيقان سيما بعد ظهور الحق وعلو شأنه وارتفاع قدره برسالته صلّى الله عليه وسلّم ونزول القرآن له واختتام امر البعثة والتشريع بظهوره وهم بعد منكرون مكابرون معاندون أشار سبحانه الى سبب غيهم وضلالهم وتماديهم فيه على وجه يزيح تعجبه صلّى الله عليه وسلّم فقال سبحانه مخاطبا له أَلَمْ تَرَ يا أكمل الرسل ولم تتفطن أَنَّا بمقتضى اسمنا المضل المذل قد أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ المضلين عَلَى الْكافِرِينَ الذين أردنا اضلالهم وإذلالهم في سابق علمنا ولوح قضائنا وسلطناهم عليهم بحيث تَؤُزُّهُمْ تهزهم وتحركهم وتغريهم بتسويلاتهم نحو المعاصي والآثام وتوقعهم بأنواع الفتن والاجرام وتحبب عليهم الشهوات واللذات النفسانية المستلزمة المستجلبة لانواع العقوبات المبعدة عن مطلق المثوبات وعن الفوز بعموم المرادات الاخروية أَزًّا تحريكا دائما بحيث صار قلوبهم المعدة بحسب الفطرة الاصلية للمعرفة والتوحيد مطبوعة بغشاوة عظيمة وغطاء كثيف لا يرجى انجلاؤها وصفاؤها أصلا لذلك لم يتفطنوا بظهور الحق بلوائح آياته ولوامع علاماته مع كمال وضوحها وانجلائها وشعشعتها وبالجملة فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ يا أكمل الرسل بعد ما علمت حالهم بإهلاكنا إياهم وانتقامنا عنهم ولا تيأس من امهالنا وتأخيرنا إهلاكهم ان نمهل أخذهم وانتقامهم بل إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ بامهالنا إياهم أيام اجالهم وأوقاتها عَدًّا متى وصل وقتها وحل أخذناهم واستأصلناهم

[سورة مريم (19) : آية 85]

بحيث قد أمنت أنت ومن معك من شرورهم وفسادهم اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ الحسرة والضجرة للكافرين وقت إذ نَحْشُرُ ونجمع فيه الْمُتَّقِينَ اى المؤمنين الذين يحفظون نفوسهم عن مطلق المناهي والمحظورات الموردة في الكتب الإلهية المنزلة على الرسل المبينين لها إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وافدين فرقة بعد فرقة ليجازوا بالرحمة والمغفرة ويستغرقوا بها جزاء ايمانهم وتقويهم ويتفضلوا بالرضوان تفضلا عليهم وزيادة كرامة لهم وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ يومئذ سوق البهائم المجرمة الجانية نحو المحبس والسجن بالقهر والغضب التام والزجر المفرط إِلى جَهَنَّمَ التي هي أسوأ الأماكن واظلمها وأعمقها وِرْداً ورود البهائم الى المحابس والأودية والاغوار بزجر تام من الضرب المؤلم والتصويت الشديد وغيرها وهم في تلك الحالة حيارى مضطرين مضطربين لا ينفعهم لا أعمالهم ولا معبوداتهم الباطلة ولا يشفعون لهم ولا ينقذونهم من النار كما زعموا وكيف يشفعون لهم إذ هم يومئذ لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ لأنفسهم ليخففوا العذاب عنها متى أرادوا بل لا شفاعة لهم مطلقا إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ وحصل له عِنْدَ الرَّحْمنِ اى من عنده عَهْداً إذنا بالشفاعة لمن أراد سبحانه إنقاذه بشفاعة ذلك الشفيع كشفاعة بعض الأنبياء لعصاة أممهم ان اذن لهم الرّحمن المستعان وَكيف يحصل لهؤلاء الهالكين النجاة من نيران الحرمان والخلاص من سعير الخذلان والخسران مع جرمهم الذي هو أعظم الجرائم عند الله وأفحشها قالُوا مفرطين مفرطين في حق الله من غاية انهماكهم في الغفلة عنه وعن قدره ورتبته قد اتَّخَذَ الرَّحْمنُ المنزه عن وصمة الكثرة وشين النقصان المقدس عن سمة الحدوث والإمكان وَلَداً مع انه هو من أقوى امارات الإمكان وعلامات الاستكمال والنقصان والله ايها المفترون على الله لَقَدْ جِئْتُمْ بإثبات الولد له سبحانه شَيْئاً إِدًّا منكرا عظيما جدا ومفترى شنيعا فظيعا الى حيث تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ ويتشققن مع متانة قوائمها وشدة التيامها مِنْهُ اى من سماع قولكم هذا ونسبتكم هذه هولا ورهبة من صولة قهر الله وسطوة غضبه وحلول عذابه وَكذا تَنْشَقُّ الْأَرْضُ خوفا ورهبة وَكذا تَخِرُّ وتسقط الْجِبالُ خرور خشية وهول هَدًّا خرورا وسقوطا وأصلا الى حد التفتت والتشتت والاندكاك التام بالمرة بحيث اضمحلت رسومها مطلقا كل ذلك من خوف سطوة صفاته الجلالية ومقتضيات أسمائه القهرية المنبعثة من الغيرة الإلهية الناشئة منه سبحانه وما ذلك الا بواسطة أَنْ دَعَوْا واثبتوا لِلرَّحْمنِ المقدس المبرى ذاته عن لوازم الحدوث والإمكان وَلَداً وَما يَنْبَغِي وما يحق ولا يليق لِلرَّحْمنِ المتجلى في كل آن وشأن ولا يشغله شأن عن شأن أَنْ يَتَّخِذَ زوجة ويتسبب بها ليظهر وَلَداً يستخلفه او يستظهر به ويستعين تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا بل إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وما كل من الملائكة السماويين المهيمين المستغرقين بمطالعة جمال الله المستوحشين عن سطوة قهره وجلاله وَالْأَرْضِ اى ما كل من في عالم الطبيعة والهيولى من النفوس المتوجهة نحو مبدعها طوعا إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ الممهد الممد عليهم اظلال أسمائه وأوصافه العظمى المفيض عليهم من رشحات بحر وجوده بمقتضى فضله وجوده عَبْداً متذللا مقهورا تحت تصرفه مصروفا حسب قدرته وارادته محاطا تحت حيطة حضرة علمه ولوح قضائه الى حيث لَقَدْ أَحْصاهُمْ وفصلهم لا يشذ شيء من أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم وجميع حالاتهم حتى اللمحة واللحظة والطرفة والخطرة من حيطة حضرة علمه وقبضة قدرته واختياره بل وَعَدَّهُمْ عَدًّا فردا

[سورة مريم (19) : آية 95]

فردا وشخصا شخصا مع جميع العوارض المتعلقة بكل فرد وشخص ما داموا في هذه النشأة وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً منفردا مفروزا عن عموم الأعوان والأنصار وجميع الأصحاب والخلان. ثم قال سبحانه إِنَّ المؤمنين المنتخبين الَّذِينَ آمَنُوا بالله وأيقنوا بوحدة ذاته واطاعوا لرسله المؤيدين من عنده وامتثلوا بعموم ما جاءوا به من الأوامر والنواهي المبينة في الكتب الإلهية المنزلة عليهم وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الفرائض والنوافل المقربة نحو الحق طلبا لمرضاته وابتغاء لوجهه الكريم سَيَجْعَلُ ويحدث لَهُمُ الرَّحْمنُ المتكفل لجزائهم واثابتهم حسب سعة رحمته وجوده ووفور لطفه ومرحمته وُدًّا مودة ومحبة في قلوب عموم المؤمنين حتى يحبوهم ويتخنوا نحوهم بلا سبق الوسائل والأسباب العادية الموجبة لمودة البعض للبعض من الانعام والإحسان وانواع العطية والإكرام مثل محبة عموم عباد الله للبدلاء المنسلخين عن مقتضيات اللوازم البشرية مطلقا جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم. ثم قال سبحانه امتنانا على حبيبه صلى الله عليه وسلّم واشارة الى عظم رتبة القرآن الجامع لجميع المعارف والاحكام بعد ما بين في هذه السورة من معظمات مهام الدين من العبر والتذكيرات والأخلاق والآداب فَإِنَّما يَسَّرْناهُ اى القرآن بِلِسانِكَ يا أكمل الرسل وسهلناه لك وأنزلناه على لغتك لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم. عن مخالفة ما أمروا ونهوا عنه بشارة عظيمة عناية من الله إياهم وفضلا الا وهي تحققهم بمقام الرضاء والفوز بشرف اللقاء وَتُنْذِرَ بِهِ اى بوعيداته وبأنواع العذاب المذكورة فيه على العصاة المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية قَوْماً لُدًّا لدودا لجوجا مفرطين في اللداد والعناد مصرين على ما هم عليه من الفسق والفساد وَلا تبال يا أكرم الرسل بتماديهم في لددهم وعنادهم ولا تحزن من عتوهم وفسادهم إذ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ اى قد أهلكنا كثيرا من الأقوام الماضية قد كانوا متمادين أمثالهم في الغي والضلال مصرين على المراء والجدال وبالجملة تأمل يا أكرم الرسل والتفت هَلْ تُحِسُّ وتشعر مِنْهُمْ اى من الأمم الهالكة مِنْ أَحَدٍ قد نجا وبقي سالما عن قبضة قدرتنا وسطوة قهرنا وغضبنا أَوْ هل تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً صوتا خفيا منهم تسمع أنت عن قبورهم ومدافنهم بل كلهم كأن لم يكونوا أصلا وبالجملة ما ذلك وأمثاله علينا بعزيز رب اختم عواقب أمورنا بالحسنى خاتمة سورة مريم عليها السّلام عليك ايها السالك المدبر المتأمل في الأسماء الحسنى الإلهية والمستكشف عن رموز صفاته الثبوتية والسلبية والجمالية والجلالية واللطفية والقهرية وجميع الأوصاف المتقابلة والمتماثلة الإلهية ان تتعمق وتتأمل في معنى اسم الرّحمن الذي قد كرره سبحانه في هذه السورة مرارا كثيرة وتتدبر فيه كي تصل وتنكشف الى ان مبدء عموم ما ظهر وما بطن وكان ويكون انما هو هذا الاسم المشير الى سعة رحمة الله ووفور فضله وجوده على مظاهره ومصنوعاته إذ به استوى سبحانه على عروش عموم الكوائن والفواسد وبه ظهر الجميع من كتم العدم وبالجملة ما من موجود محقق محسوس او مقدر مخطور الا وهو في حيطة هذا الاسم وتحت تربيته وتصرفه بحيث لو انقطع إمداده عن العالم طرفة عين لم يبق للعالم ظهور ووجود أصلا ومتى تحققت معنى هذا الاسم العظيم وتيقنت بشموله واحاطته بجميع المظاهر شمول عطف ولطف فزت بحقيقة قوله سبحانه ان كل من في السموات والأرض

سورة طه

الا آتى الرّحمن عبدا وذقت حلاوته وحقيقته جعلنا الله ممن تحقق بمعاني أسمائه الحسنى واستكشف عن سرائر أوصافه الأسنى بفضله وسعة رحمته وجوده [سورة طه] فاتحة سورة طه لا يخفى على ذوى البصائر المستكشفين عن مراتب الوجود بفيضان الكشف والشهود بلا ملاحظة الرسوم والحدود مثل اصحاب القيود ان للوجود البحت الخالص عن جميع الاعتبارات باعتبار ظهوره في مظاهر الاعداد مراتب كثيرة يقبل بسببها الإضافات الغير المحصورة فله باعتبار ظهوره في كل مرتبة من المراتب الكلية والجزئية اسماء كلية وجزئية يظهر في كل منها بواسطة اسم خاص من الأسماء. وأعلى المراتب التي هو مصدر جميعها ومال الكل اليه ومصيره المرتبة التي طويت دونها المراتب وقصرت عن دركها العقول وكلت عن وصفها الألسن وارتجت دونها طرق الوصول واضمحلت هناك السمات والعلامات وبطلت العبارات والاعتبارات وارتفعت الجهات والإشارات وتلك المرتبة هي المرتبة الاحدية الصمدية التي لا يمكن فيها توهم الكثرة لان الكثرة انما تنشأ من الاضافة والاضافة انما تتصور بين الاثنين فصاعدا ولا اثنينية هناك أصلا وهذه هي المرتبة الجامعة المحمدية التي قد انتهت إليها المراتب كلها عروجا كما ظهرت هي منها نزولا في بدأ الأمر لذلك أشار سبحانه في أول هذه السورة الى مرتبته صلّى الله عليه وسلّم إرشادا لعباده وامتنانا لهم ليكون قبلة لكل طالب سالك الى جنابه وراغب ناسك نحو بابه وفي آخرها ايضا يشعر بان مرتبته صلّى الله عليه وسلّم بداية عموم المراتب ونهايتها إذ هناك قد اتحد قوسا الوجوب والإمكان والغيب والشهادة ولما كانت مرتبته صلّى الله عليه وسلّم مبدأ الكل ومنتهاه كان بمقتضى الرحمة العامة طالبا لهداية الكل ورجوعه إليها لذلك ناداه سبحانه على وجه يشعر بطلب هدايتهم الى مرتبته حيث قال عز وجل مخاطبا له صلّى الله عليه وسلّم بعد ما تيمن باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بعموم أسمائه وصفاته المترتب عليها جميع مراتب الوجود في مرتبته الجامعة المحمدية التي منها ظهور الكل وإليها رجوعه الرَّحْمنِ بإظهار الكل منها في النشأة الاولى الرَّحِيمِ بإعادتها إليها في النشأة الاخرى [الآيات] طه يا طالب الهداية العامة على كافة البرايا ما أَنْزَلْنا من مقام إرشادنا وتكميلنا عَلَيْكَ ايها المتوجه للسعادة الابدية المعرض عن الشقاوة مطلقا الْقُرْآنَ الفرقان بين الهداية والضلالة والسعادة والشقاوة المنافية لها لِتَشْقى اى ما أنزلناه لتكون أنت شقيا بنزوله بعد ما كنت سعيدا قبله كما توهم الكفار بل ما أنزلناه إِلَّا تَذْكِرَةً للسعادة العظمى لك ولمن تبعك لا لكل احد منهم بل لِمَنْ يَخْشى من انذاراته وتخويفاته وامتثل بأوامره وأحكامه واجتنب عن مناهيه ومحظوراته إذ انزل القرآن عليك يا أكمل الرسل من عموم رحمتنا على كافة الخلق لذلك قد نزلناه تَنْزِيلًا مِمَّنْ اى من اسمنا الذي به خَلَقَ الْأَرْضَ وأوجد العالم السفلى وَكذا أوجد به السَّماواتِ الْعُلى اى العالم العلوي وذلك الاسم هو الرَّحْمنُ الذي قد ظهر واستقر بالرحمة العامة عَلَى الْعَرْشِ اى على عروش عموم الذرائر بحيث لا يخرج عن حيطته ذرة منها بل قد اسْتَوى على جميعها واستولى إذ لَهُ الاستيلاء والاحاطة التامة على عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الكائنات والفاسدات وَكذا على عموم ما ظهر بَيْنَهُما من الممتزجات الكائنة فيما بين السموات والأرض وَ

[سورة طه (20) : آية 7]

كذا على عموم ما هو كائن وسيكون تَحْتَ الثَّرى هذا باعتبار ظهوره واستيلائه على الآفاق الخارجة عنك وَظهوره واستيلاؤه على نفسك فانه يستولى على ذاتك وافعالك وعموم احوالك واطوارك بحيث إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ القول بالجهر منك الذي تعلمه أنت ايضا وغيرك بل يعلم السِّرَّ الذي لا يعلمه غيرك وَأَخْفى من السر الذي لا تعلمه أنت ايضا من مقتضيات استعداداتك قبل ان تخطر ببالك بل قبل ان تتعين أنت بشخصك وهذيتك هذه وإذا كان الحق محيطا مستوليا مستويا على عروش ما ظهر وما بطن فلا يكون الموجود الثابت المحقق في الوجود الا اللَّهُ اى المسمى بهذا الاسم الجامع جميع مراتب العالم بحيث لا يخرج عن حيطته شيء أصلا إذ لا إِلهَ ولا موجود إِلَّا هُوَ اى هذا المسمى الوحدانى الذي لا تعدد فيه أصلا فيكون أحدا صمدا فردا وترا ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا غاية ما في الباب انه لَهُ اى لهذا المسمى الْأَسْماءُ الْحُسْنى الكلية التي جزئياتها لا تعد ولا تحصى وباختلاف الأسماء حسب الشئون والنشأة الإلهية قد اختلفت الظهورات والتجليات عن المسمى الوحدانى وكما نبهناك يا أكمل الرسل على ظهوراتنا في الكائنات مجملا قد نبهناك عليها ايضا مفصلا وَذلك انه هَلْ أَتاكَ وقد ثبت وتحقق عندك حَدِيثُ أخيك مُوسى الكليم وقصة انكشافه من النار التي احتاج إليها هو واهله في الليلة الشاتية المظلمة اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ رَأى موسى ناراً مطلوبة له لدفع المودة ولوجدان الطريق في الظلمة فَقالَ لِأَهْلِهِ المحتاجين إليها في تلك الليلة امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي أو انس عندها مع انسان استخبره عن الطريق وحين رجوعي نحوكم آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ جذوة نار تصطلون بها أَوْ اتخذ منها سراجا أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً اى مع السراج المسرجة هدى طريقا موصلا الى مطلوبنا فَلَمَّا أَتاها اى النار موسى مسرعا ليرجع إليهم دفعة نُودِيَ من جانب الشجرة الموقدة عليها النار ليقبل إليها وينكشف منها السر يا مُوسى المتحير في بيداء الطلب اطلبنى من هذه الشجرة الموقدة ولا تستبعد ظهوري فيها حتى انكشف لك منها إِنِّي وان ظهرت على هذه الصورة المطلوبة لك ظاهرا أَنَا رَبُّكَ ومطلوبك الحقيقي حقيقة الذي قد ربيتك بأنواع اللطف والكرم وابتليتك بأنواع البلاء في طريق المجاهدة لتوجه الى فتعرفنى فالآن قد ارتفعت الحجب والقيود وتحققت بمقام الكشف والشهود فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ واسترح عن الطلب بعد وجدان الارب وتمكن في مقعد الصدق إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ عن رذائل الأغيار مطلقا طُوىً اى طويت عنك التوجه الى الغير وَلم يبق لك احتياج الى الاستكمال والاستهداء وبعد وصولك الى مقام الكشف والشهود أَنَا اخْتَرْتُكَ واصطفيتك من بين المكاشفين للتكميل والرسالة على الناس الناسين التوجه الى بحر الحقيقة فعليك التوجه الى الاهتداء والتجنب عن الميل الى مطلق الهوى فَاسْتَمِعْ واقتصر في ارشادك ورسالتك لِما يُوحى إليك من مقام جودنا ولا تلتفت الى الأهواء الفاسدة حتى لا تضل أنت بنفسك ولا تضلهم عن السبيل فبلغ الى الناس نيابة عنى وحكاية منى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المحيط بجميع مراتب الأسماء لا إِلهَ ولا جامع لجميع المراتب إِلَّا أَنَا بجميعها المحيط بكلها المستحق للاطاعة والانقياد فَاعْبُدْنِي أنت حق عبادتي فأحسن الأدب معى وتخلق باخلاقى وَأَقِمِ الصَّلاةَ وداوم بجميع الأعضاء والجوارح لِذِكْرِي اى توجه نحوي بعموم اعضائك وجوارحك لتذكرني بها وتشكرني

[سورة طه (20) : آية 15]

بجميعها حتى انكشف لك من كل منها بحيث كنت سمعك وبصرك ويدك ورجلك الى غير ذلك من سائر جوارحك وآلاتك حتى قامت قيامتك الكبرى وقمت بين يدي المولى وتمكنت في جنة المأوى عند سدرة المنتهى التي ينتهى ويرتقى إليها عروجك في الصعود والارتفاع. ثم قال سبحانه تعليما لعباده وحثا لهم على طلب الانكشاف التام إِنَّ السَّاعَةَ اى ساعة الانكشاف التام الذي لم يبق معه ودونه الطلب مثل انكشافك يا موسى آتِيَةٌ حاصلة حاضرة لكل احد من الناس دائما في كل آن لكن أَكادُ أُخْفِيها اى اقرب حسب حكمتى ان أخفى ظهورها لهم واطلاعهم عليها لِتُجْزى وتتمكن كُلُّ نَفْسٍ بمرتبة من المراتب الإلهية بِما تَسْعى اى بحسب ما تجتهد فيه وتكتسب من امتثال الأوامر واجتناب النواهي الجارية على السنة الرسل لئلا يبطل سرائر التكاليف واحكام الشرائع وإذا كان الأمر كذلك فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها ولا يصرفنك عن الأمر بالانكشاف التام أعراض مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها تقليدا حتى يطلبها تحقيقا بل قد أنكرها واعرض عنها وَاتَّبَعَ هَواهُ المضل إياه في تيه البعد والحرمان فَتَرْدى أنت وتهلك بمتابعته في بيداء الجهل والخذلان وَإذا اخترناك للرسالة العامة وهبنا لك شاهدي صدق على دعواك الرسالة لذلك قد سألناك أولا بقولنا لك ما تِلْكَ الخشبة التي حملتها بِيَمِينِكَ يا مُوسى المستكشف عن حقائق الأشياء يعنى هل تعرف فوائدها وعوائدها التي تترتبت عليها أم لا قالَ موسى بمقتضى علمه بها هِيَ هذه الخشبة عَصايَ استعمالها في بعض الأمور وفي بعض الأحيان وبالجملة إذا عييت وتعبت أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَمتى احتجت لهش الورق واسقاطه من الشجر لرعى الغنم أَهُشُّ وأسقط بِها الورق من الشجر ليكون علفا عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها غير ذلك مَآرِبُ أُخْرى بحسب المحال من الاستظلال ودفع الهوام ومقاتلة العدو وغير ذلك قالَ سبحانه أَلْقِها من يدك يا مُوسى حتى تشهد آياتنا الكبرى فَأَلْقاها امتثالا للأمر الوجوبي الإلهي فَإِذا هِيَ اى العصا حَيَّةٌ تَسْعى تمشى على بطنها مثل سائر الحيات فخاف موسى منها وضاق صدره من قلة رسوخه وعدم تمرنه بابتلاء الله واختباراته إذ قد كان هذا في أوائل حاله قالَ سبحانه بعد ما ظهر امارات الوجل منه آمرا له خُذْها هي عصاك يا موسى المتحير الخائف وَلا تَخَفْ من صورتها الحادثة فانا من كمال قدرتنا سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا وصورتها الْأُولى التي هي في يدك قد استعنت بها في بعض أمورك وانما بدلنا صورتها لتنبه أنت على ان لنا القدرة التامة على احياء الجمادات التي هي ابعد بمراحل عن هداية الضالين من الأحياء وَاضْمُمْ يَدَكَ ايضا إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ ذات شعاع محير للعقول والأبصار مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مرض وحجاب يسترها وينقص من نورها لتكون لك آيَةً أُخْرى اجلى وأجل من الآية السابقة وانما أريناك من الآيات قبل ارسالك الى من أردنا ارسالك إليهم لِنُرِيَكَ أولا مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى فيطمئن بها قلبك ويقوى ظهرك اذْهَبْ ايها الهادي بهدايتنا وتوفيقنا نيابة عنا إِلى فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي المضل المغوى المستغرق في بحر العتو والعناد إِنَّهُ طَغى وظهر علينا مستكبرا بقوله لضعفة عبادنا انا ربكم الأعلى فبلغ عنا انذاراتنا وتخويفاتنا وزد عليها من الدلائل العقلية والكشفية لعله يتنبه بها وينزجر بسببها عما عليه من العتو والعناد وبعد ما سمع موسى خطاب الله إياه قالَ مشمرا الذيل الى الذهاب طالبا التوفيق من رب الأرباب رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم وأعطاني الآيتين العظيمتين لتكونا شاهدين

[سورة طه (20) : آية 26]

على صدقى في دعواي اشْرَحْ لِي صَدْرِي ووسع لي قلبي بحيث لا اخطر ببالي خوفا من العدو أصلا وَمع ذلك يَسِّرْ وسهل لِي أَمْرِي هذا بحيث لا اضطرب في التبليغ ولا استوحش من جاه فرعون وشوكته وَمتى شرعت لأداء الرسالة احْلُلْ وارفع عُقْدَةً مِنْ لِسانِي لكنة عارضة من مهابة العدو سيما هذا الطاغي المتجبر مع ان اللكنة خلقية لي يَفْقَهُوا قَوْلِي وغرضي منه وَبعد ما وفقتني لأداء رسالتك يا ربي اجْعَلْ لِي وَزِيراً ظهيرا يصدقني في امرى ويعينني عليه ولا تجعل ظهيري من الأجانب لقلة شفقتهم وعطفهم على بل اجعل ظهيري يا ربي مِنْ أَهْلِي وأقربهم بي واولى بمعاونتى هو هارُونَ إذ هو أَخِي الأكبر بمنزلة ابى في الشفقة ومتى جعلت أخي هارون ظهيري ووزيري اشْدُدْ بِهِ وقوّ بسببه واحكم بإقامته يا معينى أَزْرِي ظهري وَلا يتحقق تقويته على حقيقة الا بعد اشتراكه معى في امر الرسالة أَشْرِكْهُ بلطفك يا ربي فِي أَمْرِي ورسالتي بان تكشف أنت بلطفك عليه حقيقة الأمر والتوحيد كما كشفت لي ليكون هو ايضا من المكاشفين الموقنين بوحدانيتك ومن الممتثلين بأوامرك المجتنبين عن نواهيك وانما سألتك يا ربي الإعانة بأخي كَيْ نُسَبِّحَكَ ونقدس ذاتك عما لا يليق بشأنك تقديسا كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ ونناجى معك بذكر أسمائك الحسنى وصفاتك العظمى ذكرا كَثِيراً وكيف لا نسبحك ونذكرك إِنَّكَ بذاتك وأسمائك واوصافك قد كُنْتَ محيطا بِنا بَصِيراً لعموم أحوالنا وبعد ما ناجى موسى مع ربه ما ناجى قالَ تعالى رفقا له وامتنانا عليه لرجوعه نحوه بالكلية قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ونعطيك عموم مسئولك وقد حصل لك جميع مطالبك لتوجهك علينا ورجوعك إلينا يا مُوسى كيف وَلَقَدْ أنعمنا عليك من قبل حين لا ترقب لك ولا شعور بان مَنَنَّا عَلَيْكَ من وفور رحمتنا وشفقتنا لك مَرَّةً أُخْرى وقت إِذْ أَوْحَيْنا وألقينا إِلى قلب أُمِّكَ ما يُوحى وما يلهم عند نزول البلاء على قلوب الأحباء ليتخلصوا عن ورطة الهلاك وذلك حين احاطة شرطة فرعون المأمورين من عنده لعنه الله بقتل أبناء بنى إسرائيل على بيت أمك ليقتلوك ظلما فاضطربت أمك وأيست من حياتك فالهمناها حينئذ أَنِ اقْذِفِيهِ واطرحيه فِي التَّابُوتِ المصنوع من الخشب فاتخذت تابوتا ووضعتك فيه ثم ألهمناها ثانيا إذا وضعت فيه توكلي على خالقه وحافظه وفوضى امره اليه فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ يعنى النيل ولا تخافي من غرقه فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ البتة إذ من عادة الماء إلقاء ما فيه الى جانبه فإذا قرب من الساحل ورآه الناس يَأْخُذْهُ يأمر بأخذه عَدُوٌّ لِي يعنى فرعون المفرط بدعوى الألوهية لنفسه وَعَدُوٌّ لَهُ يعنى الوليد إذ هو من أبناء بنى إسرائيل وهو عدو لهم بل هو سبب عداوة جميعهم في الحقيقة وَبعد ما امر عدوك بأخذك والتقاطك من البحر يا موسى قد أَلْقَيْتُ من كمال قدرتي ووفور حولي وقوتي في نفس فرعون لعنه الله وزوجته آسية رضى الله عنها وجميع اهل بيته عَلَيْكَ على حفظك وحضانتك يا موسى مَحَبَّةً عظيمة في قلوبهم مع شدة عداوتهم معك وقد كانت تلك المحبة صادرة مِنِّي بارزة من هوياتهم منشعبة من محبتي إياك حفظا لك وإظهارا لكمال قدرتي بان أربيك في يد عدوك فتكون أنت سببا لهلاكه وَانما ألقيت في قلوبهم المحبة الصادرة الناشئة منى لِتُصْنَعَ ولتربى أنت وان كنت بيد العدو ظاهرا عَلى عَيْنِي اى اعيان أوصافي وأسمائي إذ الكل بعد ما انخلعوا عن اكسية هوياتهم الباطلة وتجردوا عن جلباب ناسوتهم العاطلة

[سورة طه (20) : آية 40]

بالمرة مظاهر أوصافي وأسمائي ومع إلقاء كمال المحبة والمودة الناشئة منى في قلوبهم لحفظك وحضانتك قد راعيت ايضا جانب أمك إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ مريم حين طلبوا لك مرضعة بعد ما أخرجوك من البحر فَتَقُولُ لهم مريم على سبيل الوساطة والدلالة هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ وترضعه مع انهم قد احضروا كثيرا من مراضع البلد عندك وأنت لم تمص ثديهن يا موسى إذ قد حرمنا عليك المراضع انجازا لما وعدنا على أمك بقولنا انا رادوه إليك فقبلوا منها قولها فطلبوا أمك فارضعتك فاستطابوها وآجروها لإرضاعك وبالجملة فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ امتنانا لك بان تحفظك أمك ولامك ايضا كَيْ تَقَرَّ وتنور عَيْنُها برؤيتك ومشاهدتك بعد ما ذهب نور عينها بمفارقتك وَبالجملة لا تَحْزَنَ يا موسى بحال من الأحوال فانا رقيبك ارقبك من جميع ما يضرك ويؤذيك وناصرك ومعينك على عموم ما امرتك به وَاذكر ايضا امتناننا عليك إذ قَتَلْتَ نَفْساً شخصا من آل فرعون فهموا بقتلك قصاصا وخفت أنت منهم ومن العقوبة الاخروية ايضا لأنك قد قتلته بلا رخصة شرعية وتحزنت من شنعة فعلك وخوف عدوك حزنا شديدا فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وأزلنا عنك حزنك الأخروي بقبول توبتك ورجوعك عن فعلك نادما مخلصا والدنيوي بإخراجك عن ديارهم وابعادك عنهم وَبالجملة قد فَتَنَّاكَ وابتليناك ايضا بعد ما اخرجناك من بينهم فُتُوناً فنونا كثيرة من الابتلاء والاختبار من الجموع والعطش وضلال الطريق ووحشة الغربة وكربة الوحدة وضيق الصدر والكآبة المفرطة وتحمل المشاق ومتاعب السفر والحضر حتى تستعد لقبول الإرشاد والتكميل ثم بعد ما اختبرناك بأمثال هذه الشواهد هديناك الى مدين للإرشاد والاسترشاد والاستكمال فَلَبِثْتَ سِنِينَ ثمانية وعشرين سنة فِي أَهْلِ مَدْيَنَ عند نبينا وخليفتنا الكامل المكمل ألا وهو شعيب النبي عليه السّلام وتستكمل من شرف صحبته وتتخلق بأخلاقه ثُمَّ بعد لبثك فيهم مدة واستكمالك من المرشد الكامل قد جِئْتَ عَلى وطنك المألوف على قَدَرٍ أى مع مقدار عظيم من العلوم اللدنية من المعارف والحقائق والكشف والشهود فوق ما يحصل ويكتسب بالتحصيل والكسب والاجتهاد بل من لدنا يا مُوسى تفضلا وإحسانا عليك وكيف لا يكون كذلك وَقد اصْطَنَعْتُكَ وانتخبتك من بين المكاشفين واجتبيتك لِنَفْسِي لتكون أنت خليفتي ونائبى ومتولى أموري بين عبادي وحامل وحيي وأسراري وإذا اخترناك للرسالة اذْهَبْ أَنْتَ اصالة وَأَخُوكَ تبعا لك مصحوبا بِآياتِي ومعجزاتي الدالة على تصديقى لكما وتقويتى لرسالتكما وَلا تَنِيا ولا تفترا ولا تضعفا فِي تبليغ ذِكْرِي ووحيي المشتمل على انواع الأوامر والنواهي اغترارا او خوفا او مداهنة بل اذْهَبا بأمرنا مسرعين إِلى فِرْعَوْنَ المبالغ في التجبر والتكبر من غير مبالاة والتفات بعظمته وشوكته إِنَّهُ طَغى علينا ولا عبرة لعظمة الطغاة وشوكتهم ومتى تذهبا اليه وتصاحبا فَقُولا لَهُ او لا تلطفا ورفقا كما هو دأب الرسل الهادين قَوْلًا لَيِّناً رجاء ان يلين قلبه عن صلابة العناد وبعد الأداء على وجه التلطيف والتليين لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ الفطرة الاصلية التي فطر الناس عليها فيصدقها ويؤمن بدينكما أَوْ يَخْشى عنكما من نزول العذاب بدعائكما قالا خوفا من فرعون بمقتضى بشريتهما ملتجئين إلينا رَبَّنا وان ربيتنا بحولك وقوتك وأيدتنا بآياتك ومعجزاتك إِنَّنا حسب ضعفنا وبشريتنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا بالعقوبة والقتل أَوْ أَنْ يَطْغى لك بما لا يليق بشأنك قالَ سبحانك

[سورة طه (20) : آية 47]

تسلية لهما وتأييدا لا تَخافا من افراطه وطغيانه إِنَّنِي مَعَكُما وقت ادائكما الرسالة بحيث أَسْمَعُ أقواله وَأَرى أفعاله فمتى أفرط عليكما انا اقدر على منعه وزجره فَأْتِياهُ مجترئين عليه من غير مبالاة بعظمته ومهابته فَقُولا له صريحا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ الذي رباك بأنواع العزة والكرامة وابقاك بها زمانا امهالا لك الى ان تتكبر عليه باستكبارك على عباده فإذا ظهر كبرك وخيلاؤك الآن فقد أرسلنا الله إليك ايها المتكبر المتجبر لترسل معنا خواص عباده الذين عندك وتحت قهرك وغلبتك إنجاء لهم عن استكبارك وطغيانك عليهم ومتى سمعت ما بلغناك باذن الله ووحيه فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ المستوحشين عنك من غاية ظلمك وقهرك عليهم واطلقهم من رقك لينجوا من استيلائك واستعلائك عليهم وَبعد ما قد أرسلنا الله لإنجائهم وتخليصهم من عذابك لا تُعَذِّبْهُمْ بعد اليوم سيما بعد ما أدينا الرسالة على وجهها عليك وبلغناها إليك ولا تكذبنا في رسالتنا هذه انا قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ ساطعة قاطعة ومعجزة باهرة ظاهرة دالة على انها مِنْ رَبِّكَ الذي هو رب العالمين ان تأملت فيها حق التأمل والتدبر لتركت العتو والعناد وأمنت بتوحيده البتة وَبالجملة السَّلامُ اى الأمن والسلامة والتوفيق من الله عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى وتأمل في الآيات الكبرى وترك اتباع الهوى ومن اتبع الهوى فقد ضل وغوى واستحق بعذاب الآخرة والاولى واعلموا ايها الهالكون في تيه الغفلة والضلال إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا من عند ربنا أَنَّ الْعَذابَ الإلهي نازل عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى اى كذب بالحق واعرض عن أوامره ونواهيه ثم لما أتيا فرعون واديا الرسالة على الوجه الذي علمهما ربهما مجترئين بلا تقصير ولا تحريف ورأى فرعون جرأتهما وسمع منهما قولهما قالَ لهما متهكما مستهزأ فَمَنْ رَبُّكُما الذي رباكما وأرسلكما لإنجاء بنى إسرائيل من عذابي مع انى لم اعرف لك ربا رباك سواي يا مُوسى المفترى في امر هذه الرسالة المزورة قالَ له موسى على سبيل التنبيه رجاء ان يتنبه رَبُّنَا الَّذِي اظهر الأشياء من كتم العدم وبعد ما أظهرها أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ اى مرتبته ومكانته في النشأة الاولى ثُمَّ هَدى الكل بالرجوع اليه والانقياد له في النشأة الاخرى إذ منه الابتداء واليه الانتهاء قالَ فرعون إذا كان الكل من عند ربك فلا شك انه قد علمك أحواله فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى ما احوال الأمم الماضية هل هم مهتدون بمتابعة مثلك أم هم ضالون بمتابعة الهوى مثلي على زعمكم قالَ موسى انا لا اعرف حالهم من الهداية والضلالة إذ عِلْمُها حاضر مخزون عِنْدَ رَبِّي لم يوح الى من أحوالهم شيء بل أحوالهم كلها ثابتة عنده سبحانه فِي كِتابٍ الا وهو حضرة علمه المحيط الأزلي على التفصيل بحيث لا يَضِلُّ رَبِّي اى لا يغيب عن أحوالهم شيء من علمه سبحانه وَلا يَنْسى هو سبحانه شيأ من معلوماته إذ علمه بالنسبة الى عموم معلوماته حضورى والعلم الحضوري لا يجرى فيه غيبة ونسيان ثم قال موسى دفعا للاثنينية الناشئة من الاضافة ربنا هو رب الكل إذ هو القادر المقتدر الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً مكانا تستقرون فيها وتستريحون عليها وَسَلَكَ قدر لَكُمْ فِيها سُبُلًا مختلفة بعضها جبل أنتم ترتحلون اليه في الصيف وبعضها سهل ترجعون نحوه في الشتاء لتكمل استراحتكم فيها وَمع ذلك قد أَنْزَلَ لكم ايضا لتكميل استراحتكم مِنَ السَّماءِ من جانب عالم الأسباب ماءً محييا للأرض الميتة فَأَخْرَجْنا بِهِ اى انشأنا بنزول الماء فيها أَزْواجاً أصنافا مِنْ نَباتٍ شَتَّى. مختلفة

[سورة طه (20) : آية 54]

متلونة ليكون مفرجا لغمومكم ومقويا لنفوسكم ومتى احتجتم الى الغذاء كُلُوا منها حيث شئتم رغدا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ التي أنتم تستريحون بها وتنتفعون منها من أكلها وحملها وركوبها وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل والإنزال والإخراج لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على قدرة الصانع الحكيم العليم واختياره لِأُولِي النُّهى الناهي عقولهم عن اسناد الأمور الى الوسائل والأسباب العادية بل تسندها الى مسببها أولا وبالذات وإذا تأملتم في بدائع مصنوعاتنا وغرائب مخترعاتنا في وجه الأرض قد جزمتم جزما يقينا انا مِنْها اى من الأرض خَلَقْناكُمْ وأوجدنا أجسادكم وأشباحكم بقدرتنا واختيارنا إيجاد النبات عنها وقت الربيع وَفِيها ايضا نُعِيدُكُمْ بالآجال المقدرة من لدنا لانقضاء حياتكم الدنيا افناء النبات في ايام الخريف وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ ايضا للحشر والعرض في يوم الجزاء تارَةً أُخْرى وَمع أمرنا لموسى وأخيه المرسلين من لدنا اليه بتليين القول والتنبيه عليه بدلائل الآفاق والأنفس لَقَدْ أَرَيْناهُ تحقيقا وتأكيدا لئلا يبقى معنا جداله وقت أخذنا بظلمه في يوم الجزاء مع علمنا بانه من زمرة الهالكين في تيه البعد والعناد آياتِنا الدالة على صدق موسى المرسل من لدنا كُلَّها متعاقبة مترادفة ألا وهي العصا واليد البيضاء وغيرهما فَكَذَّبَ بجميعها وَأَبى وامتنع عن تصديق شيء منها فكيف بجميعها بل قد نسب الكل الى السحر والشعبذة ثم قالَ اغترارا بعلوا شأنه ورفعة مكانه مهددا مستفهما على سبيل التهكم والإنكار أَجِئْتَنا متمنيا لرئاستنا مع غاية ضعفك وحقارتك لِتُخْرِجَنا مع كمال قدرتنا مِنْ أَرْضِنا التي قد استقررنا عليها زمانا طويلا بِسِحْرِكَ الذي قد تعلمت من شياطين الامة في بلاد الغربة يا مُوسى المتمنى محالا ولولا خشيتي من اشتهار عجزي من اباطيلك لأقتلنك البتة جدا جدا فالزم مكانك فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ من انواع السحر كامل من سحرك لا من نوع أخر بل من مِثْلِهِ اى من مثل سحرك لكن أكمل منه قم من عندي وتأمل في أمرك ان شئت تب من هذياناتك وفضولك وارجع نحوي بالإنابة والاستغفار حتى أعفو عنك واغفر زلتك يا موسى وان شئت فَاجْعَلْ فعين وقتا من الأوقات ليكون بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ لا نَحْنُ وَلا أَنْتَ ثم عين ايضا مَكاناً سُوىً مستوى لا حائل فيه بحيث يرى كل احد ما يجرى بيننا حتى تفتضح على رؤس الاشهاد قالَ موسى ان معى ربي سيقوينى لا أخاف من معارضتك معى بالسحر وتعيين الوقت بل مَوْعِدُكُمْ للمعارضة يَوْمُ الزِّينَةِ اى يوم العيد إذ يجتمع فيه الأقاصي والأداني وَلا يكون وقت تفرقهم نحو بيوتهم بل وقت أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى اى وقت الضحوة المعدة لعرض الزينة إذ يظهر كل منهم حينئذ زينته على صاحبه ليكون اعجازى لك ابعد من ان يرتاب فيه احد فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ وانصرف عن مكالمة موسى استكبارا فَجَمَعَ كَيْدَهُ اى امر بجمع سحرة مملكته ليرى القاصرين ان ما جاء به موسى من جنس السحر ثُمَّ أَتى الموعد المعين في الوقت المعين مع ملائه وسحرته وبعد ما حضروا الموعد قالَ لَهُمْ اى للسحرة مُوسى على مقتضى شفقة النبوة او بإلقاء الله إياه بطريق الإلهام كلاما خاليا عن الميل نحو الخصومة امحاضا للنصح وَيْلَكُمْ اى ويل عظيم وهلاك شديد لكم ايها العقلاء التاركون طريق العقل بمتابعة هذا الطاغي لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بان أفعاله مما يعارض بالسحر والشعبذة إذ ما جئت من الآيات مما أتانى الله من فضله وان افتريتم على الله فَيُسْحِتَكُمْ اى يهلككم ويستأصلكم بِعَذابٍ نازل من قهره

[سورة طه (20) : آية 62]

وَبالجملة قد تحقق عند عموم العقلاء انه قَدْ خابَ خيبة ابدية مَنِ افْتَرى على الله بما لا يليق بشأنه من ابطال قدرته او دعوى المعارضة معها وبعد ما سمع السحرة من موسى قوله هذا وتأملوا فيه تأملا صادقا قد وجدوه صادرا عن محض الحكمة والفطنة لذلك قد تأثروا من قوله تأثرا عظيما فَتَنازَعُوا وتشاوروا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ بان أمثال هذا الكلام لا تصدر الا من المؤيد من عند الله المستظهر به سبحانه وما يشبه كلام السحرة المعارضين فمال كل منهم في نفسه الى تصديقه وَأَسَرُّوا النَّجْوى اى اخفوا مناجاتهم في أنفسهم من فرعون وملائه وبالجملة قد تمكن فرعون وملاؤه في معرض المعارضة وقابلوا السحرة لممانعتهما قالُوا اى فرعون واشرافهم للسحرة تقوية لهم في أمرهم وتأييدا لهم إِنْ هذانِ الرجلان الحقيران لَساحِرانِ يدعيان الرسالة من ربهما الموهوم ترويجا لسحرهما المزور وبعد ذلك يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ المألوفة بِسِحْرِهِما اى بمجرد سحرهما لا من امر سماوي كما زعما وبعد اخراجنا من ارضنا يريدان ويتمنيان الاستقرار والاستيلاء على مملكة العمالقة وَيَذْهَبا بعد التقرر والتمكن بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى اى بعادتكم العظمى ومرتبتكم العليا وبالجملة يريدان ان يجعلا أمرنا وامر بنى إسرائيل بالعكس ليكون لهم الكبرياء ولنا المذلة والهوان بعكس ما قد كنا عليه من سالف الزمان ومتى سمعتم نبذا من مقاصدهما فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ اى هيئوا عموم اسباب سحركم بحيث لا تحتاجون لدى الحاجة الى شيء من أدواته ثُمَّ ائْتُوا عليهما صَفًّا صافين مجتمعين بمقابلتهما إذ هو ادخل في المهابة والإلزام وَاعلموا انه قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ اى فاز ووصل بأنواع المواهب والعطاء مَنِ اسْتَعْلى وغلب عليهما ثم لما أتى السحرة صافين مستعدين نحو الموعد على الوجه الذي أمروا قالُوا من فرط عتوهم واستيلائهم يا مُوسى نادوه على سبيل الاستحقار والاستذلال إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أنت أولا ما تلقيت وجئت به في مقابلتنا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ما تلقينا في مقابلتك فالامران عندنا سيان إذ نحن عصبة ومعنا جميع هذه الخلائق وضيعها وشريفها وأنت ضعيف ليس معك سوى أخيك قالَ موسى لا تضعفونى ايها الحمقى ولا تبالغوا في حقارتى وإهانتي اتكاء بهؤلاء الطغاة البغاة الهالكين في تيه العتو والعناد واعلموا ان معى ربي سيقوينى ان شاء الله ويغلبني وحدي على جميع من في الأرض بَلْ أَلْقُوا أنتم أولا ايها المفترون ما أنتم ملقون فالقوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ التي سحروا بها يُخَيَّلُ إِلَيْهِ الى موسى مِنْ أجل سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى بذواتها كعصا موسى وبعد ما رأى فَأَوْجَسَ وأضمر فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى اى اخطر بباله وأضمر في نفسه خوفا من ان يغلبوه ثم لما علمنا من موسى خوفه قُلْنا له تشريحا لصدره وازالة لرعبه لا تَخَفْ ايها المرسل من عندنا من تماثيلهم الباطلة الغير المطابقة للواقع إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى الغالب عليهم المقصور على الغلبة والعلو بعد القائك العصا وَبعد ما اطمأن قلبك بوحينا لك هذا أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ يعنى العصا بالجرأة التامة والقدرة الغالبة بلا جبن وتزلزل وبلا مبالات بهم وبتمثيلاتهم تَلْقَفْ تبتلع وتلتقم ما صَنَعُوا لمعارضتك إِنَّما التماثيل التي قد صَنَعُوا لا اعتبار لها بل ما هي الا كَيْدُ ساحِرٍ وحيلة مخادع ماكر وَبالجملة لا يُفْلِحُ ولا يفوز ولا يغلب السَّاحِرُ بحيلته وسحره حَيْثُ أَتى وفي اى مكان جاء به سواء كان عند معاونيه او في مكان آخر فالقى موسى عصاه امتثالا لأمر ربه فصارت ثعبانا مهيبا فابتلع على الفور تماثيلهم

[سورة طه (20) : آية 70]

وحبائلهم جميعا فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ على الفور مفاجئين مجتمعين سُجَّداً متذللين نادمين عن معارضته بعد ما رأوا ما رأوا من عجائب صنع الله وغرائب معجزاته ثم قالُوا بلسانهم موافقا لقلوبهم بلا تردد وتراخ قد آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى بان له القدرة والاختيار لا يعارض فعله أصلا بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وبعد ما وقع ما وقع قالَ لهم فرعون على سبيل التقريع والتوبيخ وبعد ما سمع منهم الايمان ورأى تذللهم عند موسى بلا مبالاة له وبملأه قد آمَنْتُمْ لَهُ وسلمتم سحره بلا استيذان منى بل قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ بتسليمه فقد ظهر عندي إِنَّهُ اى موسى لَكَبِيرُكُمُ معلمكم ومقتداكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ في خلوتكم معه وبالجملة قد اتفقتم أنتم بأجمعكم ايها السحرة المكارون ان تخرجونى عن ملكي فو عزتي وجلالي وعظم شأنى ووفور مكنتى لانتقم منكم انتقاما شديدا فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ أولا مِنْ خِلافٍ متبادلتين وَبعد ذلك لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أياما فِي جُذُوعِ النَّخْلِ حتى يعتبر منكم كل من كان في قلبه بغضي وعداوتي وَان آمنتم بربه خوفا من شدة عذابه ودوام عقابه لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى وأدوم عقابا انا أم رب موسى قالُوا بعد ما كوشفوا بما كوشفوا لَنْ نُؤْثِرَكَ ونرجحك ولن نختارك ابدا يا فرعون الطاغي عَلى ما جاءَنا وانكشف علينا من الحق الصريح سيما بعد ظهور المرجحات مِنَ الْبَيِّناتِ الواضحات الدالة على إيثاره وترجيحه مع انه لا بينة لك سوى ما جئتنا به من السحر من قبلك فقد أبطله فجاءة وَبالجملة قد كوشفنا الآن بانه سبحانه هو القادر الخالق الَّذِي فَطَرَنا وأوجدنا من كتم العدم بكمال الاستقلال والاختيار فله التصرف فينا ولا نبالى بتخويفك. وتهديدك إيانا يا فرعون الطاغي وبالجملة فَاقْضِ وامض علينا ما أَنْتَ به قاضٍ راض من القطع والصلب وغير ذلك إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا اى وما تقضى وما تحكم أنت اى حكم شئت او حكمت ما هو الا في هذه الحيوة الدنيا الفانية المستعارة إذ حكومتك مقصورة عليها او فيها ولا شك ان الدنيا وعذابها فانية حقيرة والآخرة وعقابها باقية عظيمة وبالجملة إِنَّا قد آمَنَّا بِرَبِّنا الذي ربانا بأنواع النعم فكفرنا له ظلما وعدوانا واشركناك ايها الطاغي معه جهلا وطغيانا مع تعاليه عن الشريك والنظير فالآن قد ظهر الحق وارتفع الحجب فرجعنا اليه واستغفرنا منه لذنوبنا راجين مخلصين خائفين مستحيين طامعين منه لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَلا سيما ما أَكْرَهْتَنا أنت ايها الظالم الطاغي عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ المهان المرذول بمعارضة المعجزة العزيزة وَبعد رجوعنا اليه سبحانه بتوفيقه قد تحقق عندنا انه اى اللَّهُ خَيْرٌ منك ومن عموم ما سواه وَأَبْقى بعد فناء الكل وزوال السوى والأغيار مطلقا وقد تحقق عندنا ايضا إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ القادر على انواع الانتقام والانعام مُجْرِماً مشركا طاغيا باغيا فَإِنَّ لَهُ اى قد حق وثبت له جَهَنَّمَ التي هي دار البعد والخذلان ابدا لا يَمُوتُ فِيها حتى يستريح وَلا يَحْيى حياة يستفيد بها وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً موقنا بذات الله وبكمالات صفاته وأفعاله ومع ذلك قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ بمقتضى أوامره سبحانه واجتنب عن المنهيات حسب نواهيه فَأُولئِكَ المؤمنون الصالحون لَهُمُ لا لغيرهم من العصاة الضالين الدَّرَجاتُ الْعُلى القريبة الى الدرجة العليا التي قد انتهت إليها جميع الدرجات الا وهي جَنَّاتُ عَدْنٍ ومنتزهات علم وعين وحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق لذوي البصائر والأبصار الناظرين بعيون الاعتبار المستغرقين بمطالعة جمال الله بلا مزاجمة الأغيار خالِدِينَ فِيها

[سورة طه (20) : آية 77]

بلا ملاحظة زمان ومقدار وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى وتطهر عن ذمائم الأخلاق ورذائل الأطوار وَكيف لا يكون للتزكية هذه الآثار لَقَدْ أَوْحَيْنا من عظيم جودنا إِلى مُوسى المختار بعد ما هذبنا ظاهره عن ذمائم الأخلاق ورذائل الأطوار وحلينا وملأنا باطنه بأنواع المكاشفات والأسرار نجاة له ولقومه من أيدي الكفار سيما قد قصد عليهم فرعون الغدار أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي اى سر ليلا معهم على سبيل الفرار فمتى أخبروا باسرائك وفرارك اتبعوا اثرك حسب الاغترار ومتى اردفك العدو وكادوا ان يدركوك ومنعك البحر من العبور قلنا لك حينئذ فَاضْرِبْ بعصاك المعينة لك في معظمات الأمور البحر ليكون لك معجزة وظهر لَهُمْ اى لقومك طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً جافا لا وحل فيها لئلا يخافوا من الغرق وادراك العدو وأنت ايضا لا تَخافُ دَرَكاً عن ان يدركك فرعون وَلا تَخْشى أنت ايضا عن ان يغرقك البحر فضرب البحر بأمر ربه بعد ما اسرى موسى ساريا باذنه سبحانه ليلا وفلق اى البحر من ضربه فسلك فيه وسلك قومه ايضا خلفه فعبروا جميعا سالمين فوصل فرعون وملاؤه البحر فرأى عبورهم من الطريق اليابس فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ على الفور بلا تراخ فدخلوا مقتحمين مزدحمين اغترارا لعبورهم بيبسه فَغَشِيَهُمْ اى قد غطاهم وسترهم مِنَ الْيَمِّ اى البحر ما غَشِيَهُمْ اى غشاوة عظيمة بحيث يكون البحر كما كان بل اكثر هولا وأشد مهابة وبتوفيقنا قد هدى موسى قومه وبالجملة فأنجيناهم امتنانا منا عليه وعليهم وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ باتباعهم ببني إسرائيل على الفور وَما هَدى وما ارشد لهم طريق المخلص فأغرقناهم متبوعا وتابعا زجرا عليه وعليهم ثم بعد انجائنا بنى إسرائيل من عدوهم وإهلاك أعدائهم بالمرة وايراثهم ارضهم وديارهم وأموالهم قد نبهنا عليهم التوجه والرجوع إلينا بتعديد نعمنا التي قد انعمناهم ليواظبوا على شكرها أداء لحق شيء منها حتى يكونوا من زمرة الشاكرين المستزيدين لنعمنا إياهم لذلك ناديناهم ليقبلوا إلينا ويعلموا ان الكل من عندنا يا بَنِي إِسْرائِيلَ المنظورين منا بنظر الرحمة والشفقة قَدْ أَنْجَيْناكُمْ أولا بقدرتنا مِنْ عَدُوِّكُمْ الغالب القاهر عليكم وَقد أنجيناكم ايضا ثانيا من جرائم تقصيراتكم في امتثال أوامرنا الوجوبية إذ قد واعَدْناكُمْ بنزول التورية عليكم وقت صعودكم جانِبَ الطُّورِ لا جميع جوانبه بل جانبه الْأَيْمَنَ ذا اليمين والكرامة ليشعر الى العفو عن التقصير وَقد أنجيناكم ثالثا من شدائد التيه وعن المحن العارضة فيها من الجوع والعطش والحر والبرد المفرطات وغير ذلك بان نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ الترنجبين وَالسَّلْوى السمانى وأمرناكم بالأكل منها مباحا حيث قلنا لكم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ بعد تحملكم شدائد الابتلاء واشكروا لنعمنا لنزيدكم وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ولا تضلوا باسناد نعمنا الى نفوسكم لا إلينا مثل فرعون وقومه وبالجملة ان كنتم مثلهم في الكفران فَيَحِلَّ فينزل عَلَيْكُمْ غَضَبِي البتة مثل حلوله عليهم وَاعلموا انه مَنْ يَحْلِلْ وينزل عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى وسقط عن درجة الاعتبار والتقرب الى وَإذا ابتليتم بحلول غضبى لا تيأسوا عن نزول روحي ورحمتي عليكم بعد ما تبتم ورجعتم الى إِنِّي بعد رجوعكم الى بالإخلاص والعزيمة الصادقة لَغَفَّارٌ ستار لِمَنْ تابَ عما جرى عليه من العصيان توبة مقرونة بالندامة المؤبدة وَآمَنَ ايضا بعد التوبة تجديدا وتأكيدا لإيمانه السابق وَعَمِلَ عملا صالِحاً بعد ذلك خالصا مخلصا نادما على ما مضى من طغيان العصيان ثُمَّ اهْتَدى بالإخلاص والعمل الصالح الى درجات القرب واليقين ثم لما كان

[سورة طه (20) : آية 83]

موسى حريصا على هداية قومه لكمال شفقته عليهم تسارع الى تصفيتهم واختار منهم باذن الله سبحانه سبعين رجلا من خيارهم حتى يذهبوا معه الى الطور ليأخذوا التورية فساروا معه فتسارع موسى في الصعود شوقا الى لقاء ربه وأمرهم ان يتبعوه في الارتقاء الى الجبل فوصل موسى الموعد قبل وصولهم فقال له ربه تنبيها على اضطرابه واستعجاله في امره وَما أَعْجَلَكَ واى شيء أسبقك عَنْ قَوْمِكَ المستكملين برفاقتك يا مُوسى المبعوث المرسل لتكميلهم بل الأليق بحالهم ان تجئ أنت معهم مجتمعين قالَ موسى هُمْ من غاية قربهم أُولاءِ المشار إليهم التابعون عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ يا رَبِّ لِتَرْضى عنى ويزداد تقربي إليك قالَ تبارك وتعالى بعد ما فارقتهم وتركتهم مع أخيك قد صرت أنت سببا تاما لوقوعهم في البلاء العظيم فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا وابتلينا قَوْمَكَ وهم الذين قد ابقيتهم مع أخيك مِنْ بَعْدِكَ من بعد خروجك من بينهم بعبادة غيرنا فأشركوا بنا وَما أَضَلَّهُمُ الا السَّامِرِيُّ المفرط بسبب صوغه صورة العجل من حلى القبط ورميه عليه التراب الذي قد اخذه من حافر فرس جبرائيل عليه السّلام وخوار العجل بعد رمى التراب عليه وقوله بعد ما خار العجل هذا إلهكم واله موسى وبعد ما سمع موسى من ربه ما سمع فَرَجَعَ مُوسى من ساحة عز حضور ربه ومقام السرور معه مسرعا إِلى قَوْمِهِ المتخلفين عن امره المشركين بربه قد استولى عليه الغضب غيرة على ربه وحمية لهم فصار غَضْبانَ من فعلهم أَسِفاً متأسفا متحزنا متفكرا هل يمكن التدارك أم لا فلما وصل إليهم قالَ يا قَوْمِ المضيعين سعي في إرشادكم وتكميلكم اما تستحيون من ربكم الذي رباكم بأنواع النعم وأنجاكم من اصناف البلاء سيما عند وعد الزيادة لكم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً يحسن أحوالكم ويوصلكم الى مقام القرب بانزال التورية عليكم لتكملوا بها أخلاقكم أَتنكرون انجاز وعده أم فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ المدة والزمان بان صار أربعين بعد ما كان ثلثين أَمْ أَرَدْتُمْ وقصدتم بالإنكار والإصرار أَنْ يَحِلَّ وينزل عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ لذلك مَوْعِدِي الذي قد وعدتكم من متابعتي لاخذ التورية قالُوا يا موسى ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا اى بقدرتنا واختيارنا من غير ظهور دليل يشغلنا عن موعدك بل وَلكِنَّا قد كنا على ما وعدتنا ولا تصدر عنا مخالفتك غير انا قد حُمِّلْنا أَوْزاراً وأحمالا وأثاثا مستعارا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ اى من حلى القبط ولم يمكننا الرد إليهم لاستئصالهم ولا يمكننا ايضا حملها وحفظها دائما لذلك اضطررنا فحفرنا حفرة وصيرناها مملوة من النار فَقَذَفْناها اى فقذف كل منا ما في يده من الحلي فيها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فيها ما في يده من الحلي بعد ما قذفنا بلا صنع زائد منا وبعد ما قذف الكل حليهم فيها ادخل السامري يده فيها فَأَخْرَجَ لَهُمْ منها عِجْلًا اى صورة عجل قد أوجده الله تعالى من تلك الحلي المقذوفة ولم يكن من ذوى الحس والحركة بل كان جَسَداً وهيكلا لَهُ خُوارٌ يصوت صوت البقر فَقالُوا السامري اصالة والباقي تبعا هذا الجسد الذي خار خورة إِلهُكُمْ الذي أوجدكم من العدم وَإِلهُ مُوسى المتردد في بيداء الطلب هو هذا قد أنزله موسى في هذه الحفرة من قبل فَنَسِيَ منزله وسعى في طلبه سعيا بليغا فرقى الطور ايضا لطلب هذا أَهم قد خرجوا عن طور العقل باعتقاد الوهية الجماد بل عن الحس ايضا فَلا يَرَوْنَ ولا يتفكرون في شأن هذا الجماد أَلَّا يَرْجِعُ اى انه لا يرجع اى انه لا يرد إِلَيْهِمْ قَوْلًا جوابا عن سؤالهم وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا لو لم يؤمنوا

[سورة طه (20) : آية 90]

له وَلا نَفْعاً لو آمنوا وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ اى قبل رجوع موسى إليهم نيابة عنه إصلاحا لحالهم بعد ما أفسدوا على أنفسهم ما أمرهم موسى وأوصاه إياه من الأصلح بحالهم يا قَوْمِ المائلين عن طريق الحق بسبب هذه الصورة إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ اى ما هذا الا ابتلاء لكم من ربكم ليختبر سبحانه رسوخكم وتمكنكم على التوحيد اعرضوا عن الشرك بالله وتوجهوا الى توحيده وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ لكم بإرسال أخي إليكم رسولا وأنجاكم من عدوكم وانا نائب عن أخي قد استخلفني عليكم فَاتَّبِعُونِي لتتبعوا الحق ولا تميلوا الى الباطل وَأَطِيعُوا أَمْرِي هذا واقبلوا قولي وإرشادي لكم حتى يصلح حالكم قالُوا له انك وان كنت نائبا عن أخيك لا تعرف أنت ربه ولا تكلمت معه بل يعرفه ويتكلم معه موسى لَنْ نَبْرَحَ ونزال عَلَيْهِ اى على عبادة الجسد عاكِفِينَ مقيمين حوله متوجهين اليه متضرعين عنده حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى فرآه وتكلم معه ثم لما رجع موسى من ميقاته ومناجاته مع ربه بعد ما اخبر له الحق حال قومه ووجدهم ضالين منحرفين عن مسلك السداد صار غضبان عليهم أسفا بضلالهم حيث قالَ من شدة غيظه لأخيه مناديا باسمه على الاستحقار مع انه اكبر منه سنا يا هارُونُ ما مَنَعَكَ واى شيء صرفك عن قتالهم وقت إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا عن طريق الحق وتوحيده بعبارة العجل وما لحقك أَلَّا تَتَّبِعَنِ في مقاتلة المشركين بعد ما أوصيتك به مرارا وقد اقمتك فيهم لإصلاح حالهم فافسدتهم أَكفرت وضللت أنت ايضا فَعَصَيْتَ أَمْرِي فأخذ من شدة غيظه وغضبه بشعر أخيه ولحيته يجره لَ له حينئذ هارون قولا يحرك مقتضى الاخوة وينبه على قبول العذرا بْنَ أُمَ نسبه الى الام استعطافا احذر عن الغضب المفرط وتوجه الى واسمع عذري تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي ما لم تسمع عذري لم اترك القتال معهم الانِّي وان كنت لا اقدر على قتالهم لكثرتهم قدشِيتُ ان قاتلت معهم نْ تَقُولَ أنت معاتبا على قدرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وجعلتهم فرقا متخالفة متقاتلة لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ولم تحفظ ما أقول لك اخلفني في قومي وأصلح بينهم حتى ارجع فلما سمع موسى عذره ندم على فعله فرجع الى معاتية من يضلهم حيث قالَ فَما خَطْبُكَ واى شيء هو أعظم مقاصدك ومطالبك من هذه التفرقة والإضلال يا سامِرِيُّ المضل قالَ السامري ليس مقصودي الا الرياسة والزيادة عليهم بشيء يميزنى عنهم من الخوارق إذ قد بَصُرْتُ بِما اى بشيء لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أصلا وذلك انى رأيت جبرائيل راكبا على فرس الحيوة ما وضع قدمه على شيء الا حي فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ اى من تراب قد وطئه حافر فرس الرسول الذي هو جبرائيل وقد كنت احفظها الى ان اذابوا حليهم فَنَبَذْتُها فيها فسرت الحيوة الدنيا منها الى الصورة المتخذة من الحلي فخار فأمرتهم باتخاذها الها وَبالجملة كَذلِكَ سَوَّلَتْ وزينت لِي نَفْسِي حتى أكون متبوعا لهم مقتدى به بينهم قالَ له موسى فَاذْهَبْ من عندي وتنح عن مرأى فَإِنَّ لَكَ اى قد حق وثبت لك فِي الْحَياةِ اى في حين حسك وحياتك أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ لك ولا احساس ولا ادراك يعنى انك في حياتك من جملة الأموات الفاقدين للحواس وادراك عموم المشاعر والمدارك لاعتقادك بحياة هذا الجماد وأخذك هذا الها حيا قيوما متصفا بصفات الكمال وأضللت بسبب هذا جمعا عظيما من الناس وَإِنَّ لَكَ في النشأة الاخرى مَوْعِداً من الجحيم لَنْ تُخْلَفَهُ أنت ابدا ولن تنتقل عنه أصلا إذ لا توبة لك منها حتى تقبل منك

[سورة طه (20) : آية 98]

توبتك ويتجاوز عنك بسببها فتعيّن ان تكون فيه ابد الآباد وَمتى عرفت حالك في دنياك وأخراك انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ وصرت عَلَيْهِ وعلى عبادته عاكِفاً مقيما عازما جازما لَنُحَرِّقَنَّهُ ولو كان هذا الها لم تحرقه النار ثُمَّ بعد الإحراق وبعد صيرورته رمادا لَنَنْسِفَنَّهُ وننشرنه فِي الْيَمِّ نَسْفاً نشرا ونثرا بحيث لم يبق من اجزائه في البر شيء وبالجملة قد أحرقها موسى عليه السّلام ونسفها ثم توجه الى بنى إسرائيل فقال إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ المستجمع لجميع أوصاف الكمال وهو الحي القيوم الَّذِي لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ وما سواه اعدام باطلة ولو تعقل سواه فلا يخرج ايضا عن حيطة حضرة علمه المحيط إذ هو سبحانه قد وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ في الذهن والخارج عِلْماً كَذلِكَ اى مثل ما أوحينا الى موسى لهداية قومه وإهلاك عدوه قد أوحينا إليك يا أكمل الرسل من قصص السابقين ليعتبر من هلاك عدوهم من عاداك ويفرح من اهتداء صديقهم من صدقك وآمن بك إذ نَقُصُّ عَلَيْكَ قصصهم مع كونك خالي الذهن مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سلف وسَبَقَ بمدة مديدة وازمنة متطاولة وَبالجملة قَدْ آتَيْناكَ امتنانا لك مِنْ لَدُنَّا بلا واسطة معلم مرشد ذِكْراً كلاما جامعا بذكر جميع ما في الكتب السالفة من الحقائق والمعارف والاحكام والقصص على الوجه الأتم الأبلغ وبالجملة مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ اى عن القرآن بعد نزوله وتشبث بغيره من الكتب المنسوخة فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً إثما ثقيلا وجرما عظيما لأخذه المنسوخة وتركه الناسخ بحيث يكونون خالِدِينَ فِيهِ وفيما يترتب عليه في يوم الجزاء من العذاب المؤبد وَبالجملة قد ساءَ لَهُمْ لحامليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ المخففة لحمل ارباب العناية حِمْلًا ثقيلا لهم يوقعهم في النار اذكر يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ لإخراج ما بالقوة الى الفعل وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ المشركين يَوْمَئِذٍ زُرْقاً زرق العيون سود الوجوه وهما كنايتان عن الحسد والنفاق للذين هم عليهما في دار الدنيا ونظهر لهم يومئذ قبائحهم الكامنة فيهم في الدنيا يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ ويتكلمون خفية هكذا هذه القبائح التي قد ظهرت علينا الآن انما هي من اوصافنا التي كنا عليها في دار الدنيا زمانا قليلا فبعضهم حينئذ يقول للبعض مستقصرا مستقلا إِنْ لَبِثْتُمْ وما مكثتم في دار الدنيا إِلَّا عَشْراً من الليال وبعضهم يقلل من ذلك وبعضهم يقلل من تقليله ايضا وهم في أنفسهم يخفون أحوالهم لئلا يطلع عليها احد وكيف يخفون عنا إذ نَحْنُ أَعْلَمُ حسب علمنا الحضوري ب عموم ما يقولون من الأقوال المتعارضة ولا نذكر في كتابنا هذا الا ما هو اقرب الى الصواب إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً اى اميلهم الى الصدق وأقربهم الى الصواب إِنْ لَبِثْتُمْ وما مكثتم وتمكنتم فيها إِلَّا يَوْماً واستقصارهم مدة مكثهم في الدنيا انما هي من طول يوم الجزاء وهوله وَيَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل عَنِ الْجِبالِ في ذلك اليوم أهي على قرارها وقوامها حتى يؤوى ويلتجأ إليها أم لا فَقُلْ لهم يا أكمل الرسل يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً ويسحقها سحقا كليا كأنه قد اخرج من المناخل الدقيقة فَيَذَرُها ويترك الأرض بعد نسف الجبال قاعاً مسطحا مستويا صَفْصَفاً ملساء بحيث لا تَرى ايها الرائي فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ولا نتوا ولا ربوة لاستواء سطحها يَوْمَئِذٍ اى وقت نفخ الصور لاجتماع الناس في المحشر يَتَّبِعُونَ يعنى عموم الأنام السامعين الدَّاعِيَ الذي هو اسرافيل ويجتمعون عنده كل واحد منهم بطريق لا عِوَجَ لَهُ لاستواء الأرض وعدم المانع من العقبات والاغوار وَفي ذلك اليوم قد

[سورة طه (20) : آية 109]

خَشَعَتِ الْأَصْواتُ اى خضعت وخفيت أصواتهم وقت النداء والدعاء لِلرَّحْمنِ من شدة اهوال ذلك اليوم بحيث إذا أصغيت الى سماع أقوالهم فَلا تَسْمَعُ منها السامع أنت إِلَّا هَمْساً ذكرا خفيا وصوتا ضعيفا يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ اى شفاعة كل احد من الناجين لكل احد من العاصين إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ بشفاعة بعض الناجين لبعض العصاة من ارباب العناية في ذلك اليوم وَمع انه سبحانه قد رَضِيَ لَهُ قَوْلًا اى تعلق رضاه سبحانه ايضا بقول الشفيع وقت الشفاعة وانما اذن ورضى سبحانه بالشفاعة للبعض لأنه يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ اى يحيط علمه الحضوري بعموم أحوالهم من العصيان والطاعة وبان اى عصيان يزول بالشفاعة واى عاص يستحق العفو وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً بدقائق معلوماته ورقائق أفعاله سبحانه وآثاره مطلقا وَبالجملة قد عَنَتِ الْوُجُوهُ اى هلكت وجوه الأشياء وخفيت ظهورها في ذلك اليوم وبقي الوجه الباقي الذي هو لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ المنزه عن الظهور والبطون المقدس من الحركة والسكون وَبالجملة قَدْ خابَ وخسر خسرانا مبينا في ذلك اليوم مَنْ حَمَلَ ظُلْماً عظيما حيث اثبت شريكا لله الواحد القهار وَبالجملة مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ في الدنيا وَالحال انه هُوَ مُؤْمِنٌ موقن بوحدانية الله فَلا يَخافُ يومئذ لا ظُلْماً بان يحبط اعماله الصالحة بالكلية محانا ولم يجز بها أصلا وَلا هَضْماً بان ينقص من جزاء عمله الصالح وَكَذلِكَ اى مثل احاطة علمنا بعموم الأشياء قد أَنْزَلْناهُ اى هذا الكتاب الجامع المحيط بجميع ما في العالم إذ لا رطب ولا يابس الا وهو فيه مثبت قُرْآناً عَرَبِيًّا اى كلاما عربي الأسلوب والنظم وَقد صَرَّفْنا كررنا وكثرنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ وانواع الإنذارات والتخويفات لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ رجاء ان يحفظوا عهودنا ويتوجهوا الى توحيدنا ويتجنبوا عن شركنا أَوْ يُحْدِثُ ويجدد وعيدات القرآن وقصصه لَهُمْ ذِكْراً عظة وعبرة من احوال الماضين وعذاب الله عليهم من الغرق والمسخ والخسف والكسف لعلهم يتقون ويتذكرون به ومع ذلك لم يتقوا ولم يتذكروا وان قالوا على سبيل المكابرة عتوا وعنادا لربك حاجة واحتياج الى أيماننا وتقوانا والا لم يرجو منا أيماننا وتقوانا قل لهم يا أكمل الرسل فَتَعالَى اللَّهُ اى تنزه وتقدس الْمَلِكُ المستولى المطلق القيوم المحقق الْحَقُّ الثابت الدائم المستمر ازلا وابدا عما يقول الظالمون المشركون في شأنه من اثبات الاحتياج له بمجرد الرجاء العائد نفعه إليهم ايضا وَإذا كان ظنهم هذا لا تَعْجَلْ أنت يا أكمل الرسل بِالْقُرْآنِ بادائه وتبليغه إياهم وقراءته عليهم مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ يعنى لا تعجل بإرشادهم وتكميلهم بالقرآن من قبل ان يفرغ جبرائيل عليه السّلام من وحيه وتبليغه إليك بل اصبر حتى يفرغ من أداء الوحى على وجهه ثم تأمل في رموزاته وإشاراته الخفية حسب استعدادك وَمع ذلك قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً بما فيه من نفائس المعلومات وعجائب المعارف والحقائق ثم بعد ذلك اتل عليهم ونبههم بقدر عقولهم واستعدادهم وَبالجملة لا تنس يا أكمل الرسل نهينا لك عن الاستعجال بأداء القرآن من قبل ان يقضى إليك وحيه بل في مطلق الأمور إذ العجلة انما هي من إغواء الشيطان ولا تكن ناسيا نهينا مثل نسيان أبيك آدم عهده معنا فانا لَقَدْ عَهِدْنا إِلى أبيك آدَمَ مِنْ قَبْلُ بقولنا نهيا له ولزوجته لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فَنَسِيَ عهدنا هذا بتغرير الشيطان له مع ان نفعه عائد اليه سيما وقد اكدناه بالمواثيق الوثيقة وَبالجملة لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً صادقا ورأيا صائبا في محافظة العهود والمواثيق

[سورة طه (20) : آية 116]

لذلك لم يوطن نفسه على مقتضى النهى وَاذكر يا أكمل الرسل نبذا من عهودنا معه وقت إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وتذللوا عنده تعظيما له وتكريما إذ هو أفضل منكم واجمع لتجليات اوصافنا وأسمائنا فَسَجَدُوا ووقعوا عنده على تراب المذلة تعظيما له وامتثالا لأمرنا إِلَّا إِبْلِيسَ من بينهم قد أَبى وامتنع عن سجوده لاستكباره وعتوه وبعد ما استكبر إبليس عن تعظيمه نبهنا عليه عداوته فَقُلْنا يا آدَمُ المكرم المسجود له إِنَّ هذا اى إبليس المتخلف عن سجودك عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فاحذر أنت اصالة وهي ايضا تبعا لك عن مصاحبته وتغريره وبالجملة لا تتكلما معه ولا تقبلا منه وسوسته فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ التي هي محل الحضور والسرور الى دار الابتلاء والغرور فَتَشْقى أنت يا آدم على الخصوص وتتعب وتعيى بسبب المعيشة إذ معيشتك صارت عن كد يمينك ولا تعب لك في الجنة وكيف لا إِنَّ لَكَ اى قد حق وثبت لشأنك أَلَّا تَجُوعَ فِيها اى في الجنة إذا كلها دائم غير منقطع وَلا تَعْرى إذا لبستها متجددة دائمة غير بالية وحللها غير منقطعة وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها إذ العطش انما يحصل من فرط الحرارة ولا حرارة فيها وَلا تَضْحى أنت ايضا إذ لا برودة فيها بل هي معتدلة دائما لا افراط للحرارة والبرودة فيها ثم لما عاش آدم فيها زمانا مستريحا بلا تعب ولا عناء اظهر إبليس عداوته وأخذ يوسوس له ولزوجته ليخرجهما منها إذ هما ماداما في الجنة لم يقدر على اضلالهما لجريان حالهما فيها على مقتضى العدالة الفطرية التي هما جبلا عليها فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ والقى وسوسته في نفسه حيث قالَ يا آدَمُ على وجه النصيحة والتغرير هنيئا لك عيشك في الجنة بلا تعب ومحنة هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وأهديك إليها ان أكلته منها فقد أخلدت نفسك بل خلدت أنت وزوجتك فيها ابدا وَبالجملة أهديك على مُلْكٍ لا يَبْلى ولا يخلق ولا يفنى بل يتجدد دائما بتجدد الأمثال بلا انتقال وزوال ثم لما وسوس إليهما سمعا منه قوله وقبلا وسوسته الى ان قد نسيا عهد ربهما مطلقا فَأَكَلا مِنْها اى من الشجرة المنهية حتى يشبعا وأرادا ان يتبرزا ويتغوطا وبعد ما ارتكبا المنهي عنه وظهر منهما ما هو مناف لنظافة الجنة وطهارتها وبالجملة قد خرجا عن مقتضى العدالة الفطرية امر سبحانه باخراجهما منها بعد نزع لباسهما عنهما وبعد ما نزع لباسهما اى لباس الطهارة والنجابة والتقوى الجبلية الموهوبة لهما بمقتضى العدالة الإلهية فَبَدَتْ وظهرت لَهُما سَوْآتُهُما عوراتهما فاضطرا على التستر والتغطى وَطَفِقا أخذا وشرعا يَخْصِفانِ يلزقان ويلصقان عَلَيْهِما اى على عوراتهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ اى من أوراق بعض أشجارها قيل هي ورق التين وَبعد ما صار حالهما كذلك قالت الملائكة صائحين صارخين بعد انتهاز الفرصة قد عَصى آدَمُ المكرم المسجود له رَبَّهُ الذي رباه بتناول ما يصلحه ونهاه عن تناول ما يضره ويفسده بان اعرض عن النهى الإلهي وبادر الى ارتكاب المنهي عنه بغرور الشيطان الغوى المضل فَغَوى باغواء إبليس وضل عن مراده الأصلي بتغرير العدو لان العدو انما يلقى عدوه عكس مطلوبه ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ بعد ما ألهمه سبحانه الانابة والرجوع اليه فاعترف بذنبه نادما ورجع الى ربه تائبا بقوله ربنا ظلمنا أنفسنا الآية فَتابَ عَلَيْهِ سبحانه وقبل توبته وَهَدى اى هداه نحو مقصده الأصلي وقبلته الحقيقية الا انه سبحانه لا يبطل حكمة حكمه السابق المترتب على النهى وهو قوله تعالى فتكونا من الظالمين الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية والعدالة الفطرية لذلك قالَ اهْبِطا مِنْها وانزلا واخرجا من الجنة التي هي دار الأمن والسرور الى الدنيا التي هي دار التفرقة

[سورة طه (20) : آية 124]

والغرور جَمِيعاً أصلا وفرعا صديقا وعدوا وبعد هبوطكم إليها بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ في امور معاشكم والشيطان عدو لكم يعوقكم ويغويكم عن امر المعاد فتبقى هذه العداوة بينكم ما دمتم فيها ومع أمرنا لكم بالهبوط والخروج منها إليها لا نترككم هناك يا بنى آدم ضالين محرومين مطرودين فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً بواسطة الرسل والكتب المنزلة عليكم فاتبعوا هداي فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ عزيمة صادقة وقصدا صحيحا خالصا فاهتدى البتة فَلا يَضِلُّ لا في النشأة الاولى وان كان فيها لاتصافه بصفاتنا الفاضلة وتخلقه باخلاقنا الكاملة وَلا يَشْقى ايضا في النشأة الاخرى لفنائه فينا وبقائه ببقائنا وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي وانصرف عن مقتضى اوامرى المذكورة في كتبي المنزلة على رسلي الهادين له عن الضلال فَإِنَّ لَهُ اى قد حق وثبت له ما دام في دار الدنيا مَعِيشَةً ضَنْكاً ضيقا يضيق قلبه وصدره بحيث لا يسع فيه غير التفكر والتدبر في امر المعاش وَإذا خرج منها نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ الكبرى أَعْمى اى يصور اعراضه عن الحق في الدنيا وإقباله عليها على صورة العمى في الاخرى حيث قالَ متحسرا ومتحزنا من غاية الضجرة والكآبة يا رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى ضريرا في النشأة الاخرى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قريرا في النشأة الاولى قالَ سبحانه توبيخا عليه وتقريعا كَذلِكَ اى مثل ذلك قد فعلت أنت بنا ايها المغتر المسرف حين أَتَتْكَ بالسنة الأنبياء آياتُنا لهدايتك وإصلاح حالك فَنَسِيتَها أنت ونبذتها وراء ظهرك بحيث كانت نسبتك إليها كنسبة الأعمى الى عموم الأشياء المحسوسة وَكَذلِكَ اى مثل المنبوذ وراء الظهر الْيَوْمَ تُنْسى أنت في جهنم البعد والحرمان وجحيم الطرد والخذلان وَكَذلِكَ اى مثل نسيان من اعرض عنا في العذاب المؤبد نَجْزِي ونترك منسيا في جهنم البعد والخذلان مَنْ أَسْرَفَ وأفرط في الاعراض عن الله ورسله سيما بمتابعة العقل الفضول المشوب بالوهم المرذول وبمقتضى اعتباراته ومضى عليها كذلك زمانا وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ النازلة على أنبيائه ورسله ولم يتنبه بمرموزاتها ومكنوناتها ولم يتفطن بما فيها من المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات وَالله وان احتمل الشدائد وارتكب المتاعب في تحصيل تلك الاعتبارات والاعتباريات لَعَذابُ الْآخِرَةِ في شأنه لاشتغاله بغير الله واعراضه عن آياته أَشَدُّ من شدائد ذلك التحصيل وَأَبْقى وأدوم وباله من النخوة المترتبة عليها الجالبة لغضب الله أَتنكر القريش بآياتنا ونصر على إنكارها ولم تذكر عذابنا لمنكري آياتنا فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ولم يرشدهم ويذكرهم إهلاكنا الأمم السالفة بسبب انكار الآيات وتكذيب الرسل ولم يذكروا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ اى من اهل القرون الماضية حين يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أمثال هؤلاء أصحاء سالمين فجاءهم بأسنا بياتا او نهارا فجعلناهم هالكين فانين كأن لم يكونوا موجودين أصلا لاعراضهم عنا وتكذيبهم آياتنا ورسلنا وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك والاستئصال لَآياتٍ دلائل ظاهرة على قدرتنا بالانتقام على المعرضين المكذبين لكتبنا ورسلنا لكن لا يحصل تلك الدلائل والمدلولات الا لِأُولِي النُّهى اى لأصحاب العقول المنتهية من مقتضيات عقولهم الى الكشف والشهود وَبالجملة لَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل في حق أمتك بدعائك لهم بارتفاع العذاب عنهم في دار الدنيا مثل المسخ والخسف والكسف وغير ذلك مما أهلكنا بها الأمم الماضية لَكانَ عذاب المنافقين من أمتك اليوم لِزاماً حتما مقضيا لازما مبرما محكما لظهور أسبابه وصدورها منهم وَ

[سورة طه (20) : آية 130]

لكن قد قدر لهم أَجَلٌ مُسَمًّى وهو يوم الجزاء فَاصْبِرْ يا أكمل الرسل عَلى ما يَقُولُونَ الى حلول الأجل المسمى ولا تضيق صدرك من قولهم هذا انك لا تقدر على إتيان العذاب حسب دعواك ومناك لذلك تخوفنا بالقيمة الموهومة فلو كنت أنت رسولا كسائر الرسل لفعلت بنا ما فعلوا باممهم ومتى سمعت منهم يا أكمل الرسل أقوالهم الخشنة اعرض عنهم ولا تلتفت إليهم ولا تشتغل الى معارضتهم ومجادلتهم بل انصرف عنهم ودعهم وَسَبِّحْ نزه ربك عما يقولون وعما ينكرون قدرتنا على إتيان يوم الجزاء تسبيحا مقرونا بِحَمْدِ رَبِّكَ شكرا لآلائه ونعمائه الواصلة إليك وداوم عليه قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بعد انتباهك عن مقام غفلتك وقبل اشتغالك في امور معاشك وَقَبْلَ غُرُوبِها ايضا بعد فراغك عن كسب المعاش وقبل استراحتك في المنام وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ المعد للاستراحة ان أيقظت فيها فَسَبِّحْ وَسبح ايضا أَطْرافَ النَّهارِ إذا فرغت عن الاشتغال لَعَلَّكَ تَرْضى أنت عن الله في عموم الأوقات ويرضى الله عنك فيها وَعليك الاعتزال عن أبناء الدنيا وعدم الالتفات الى لذاتهم بمتاعها ومزخرفاتها بحيث لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ يا أكمل الرسل حال كونك متحسرا متمنيا إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ المشركين والمنافقين أَزْواجاً أصنافا من كل شيء إذ من أعطينا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا اى زينتها وزخرفها انما أعطيناهم لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ اى نجربهم ونختبرهم كيف يعيشون بوجودها في الدنيا هل يتكبرون ويفتخرون بسببها على الفقراء ويمشون على الأرض على وجه الخيلاء أم لا وَبعد ما قد نهيناك يا أكمل الرسل عن الالتفات الى متاع الدنيا ومزخرفاتها استرزق عنا عما في خزائننا من المكاشفات والمشاهدات الباقية الصافية بدل تلك اللذات الفانية المكدرة إذ رِزْقُ رَبِّكَ الذي قد رزقك بها لتكون لك الكشف والشهود والتمكن في المقام المحمود خَيْرٌ لك من مزخرفات الدنيا ومموهاتها لأنها فانية زائلة لا ثبات لها وَهو أَبْقى لبقائه مع استعدادك الى ما شاء الله وَمتى رزقت تفضلا من ربك وإحسانا عليك فعليك ان تأمر من يلازمك ويوانسك من اهل الطلب بالميل الى ما رزق الله لك ليكون لهم ايضا نصيب مما قد تفضل الله به عليك من الرزق المعنوي لذلك قد امرناك بقولنا أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ والميل الشاغل جميع قواهم وآلاتهم عن التوجه الى غيرنا لتكون أنت منبها لهم على ما في استعداداتهم وقابلياتهم الفطرية وَاصْطَبِرْ عَلَيْها وتحمل على متاعب تبليغها إياهم ولا تقصر خوفا من انتقاصك من رزقك إذ لا نَسْئَلُكَ لأجلهم منك رِزْقاً حتى ترزقهم بل نَحْنُ نَرْزُقُكَ وإياهم ايضا حسب استعدادك واستعدادهم من مقام جودنا وافضالنا من غير ان ينقص من خزائن كرمنا ونعمنا شيء وايضا نبههم على العواقب الحميدة المترتبة على الصلاة وحذرهم عن الشواغل العائقة عنها وَقل لهم الْعاقِبَةُ الحميدة لِلتَّقْوى اى للمتصفين بالتقوى الحافظين نفوسهم عن متابعة الهوى الراضين عن الله بعموم ما يرضى لهم وبأمرهم المجتنبين عما لا يرضى سبحانه منه ثم لما سمع الكفار بكمالاتك سيما كشفك وشهودك ورزقك المعنوي الحقيقي الأوفى من عند ربك وارشادك على من آمن بك وصدقك أصروا على إنكارك وتكذيبك وَقالُوا لَوْلا وهلا يَأْتِينا هذا المدعى الكشف والشهود بِآيَةٍ مقترحة مِنْ رَبِّهِ حتى نصدقه ونقر برسالته قل لهم يا أكمل الرسل أَينكرون إتيان الآيات المقترحة على الأمم الماضية وَلَمْ تَأْتِهِمْ في هذا الكتاب المعجز المذكر لهم بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى والكتب الكبرى السالفة من إتيان الآيات المقترحة على

[سورة طه (20) : آية 134]

الأنبياء الماضين ومع ذلك لم تؤمن بهم أممهم بل قد كذبوهم وأصروا على ما هم عليه من الكفر والضلال فهؤلاء ايضا أمثالهم لم يؤمنوا بك بعد إتيان مقترحاتهم ايضا وَقل لهم يا أكمل الرسل ايضا قولنا هذا نيابة عنا لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ نازل من عندنا لاصرارهم وعنادهم مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل ارسالك إليهم لَقالُوا البتة حين نزول العذاب عليهم كما قالت تلك الأمم الهالكة عند نزوله رَبَّنا لَوْلا وهلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا من عندك مصحوبا بالآيات البينات فَنَتَّبِعَ آياتِكَ الدالة على وحدة ذاتك حينئذ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بهذا الإذلال وَنَخْزى بهذا الخزي والوبال وان عاندوا معك يا أكمل الرسل سيما بعد سماع هذه الدلائل الواضحة والبينات اللائحة اعرض عنهم وعن مكالمتهم ومناصحتهم وقُلْ لهم كلاما يشعر باليأس عن ايمانهم وإصلاحهم وصلاحهم كُلٌّ منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ منتظر لهلاك الآخر بسبب الشقاوة والاعراض عن الحق فَتَرَبَّصُوا وانتظروا أنتم لهلاكنا بشقاوتنا على زعمكم فنحن منتظرون ايضا بمقتضى زعمنا بهلاككم بشرككم وكفركم وإذا كشف الغطاء وقامت الطامة الكبرى وظهر يوم العرض والجزاء فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ المستقيم المعتدل الغير المعوج ومن المتلون والمتمكن عليه أنحن أم أنتم وَمَنِ اهْتَدى منا من تيه الضلال الى فضاء القرب والوصال خاتمة سورة طه عليك ايها المحمدي الطالب بسلوك طريق الحق بالاستقامة التامة والتثبت عليه بلا اعوجاج وتزلزل لتهتدى بسلوكه الى زلال الوحدة الذاتية هي ينبوع بحر الوجود ومنشأ عموم الموجود ان تقتفى اثر نبيك صلّى الله عليه وسلّم في جميع أفعاله واعماله وتتخلق بعموم أخلاقه وأوصافه حسب ما أمكنك وقدر ما يسر لك ولا تهمل دقيقة من دقائق الشرع الشريف المصطفى بل لك ان تتبع به صلّى الله عليه وسلّم في عموم ما جاء به من قبل ربه وانشأه من عند نفسه بلا تفحص وتفتيش عن حكمه وسرائره حتى ينكشف لك بعد الوصول الى مرتبتك التي قد كلفك الحق إليها وجبلك لأجلها وبعد العروج الى معراجك الذي قد عين لك الحق في حضرة علمه المحيط احسب استعدادك الفطري وقابليتك الجبلية فح قد ظهر لك سرائر ما أوصاك به نبيك صلّى الله عليه وسلّم ورمز اليه وصرت حينئذ من اهل المعرفة والإيقان ان شاء ربك ووفقك عليه وفقنا يا ربنا بفضلك وجودك الى معارج عنايتك ومقر توحيدك يا ذا الجود العظيم [سورة الأنبياء عليهم السّلام] فاتحة سورة الأنبياء عليهم السّلام لا يخفى على المتمكنين في مقر التوحيد الواصلين الى مرتبة الفناء في الوحدة الذاتية ان سر الهبوطات والتنزلات المنتشئة من وحدة الذات حسب اقتضاء الأسماء والصفات الإلهية انما هو لاكتساب المعارف والحقائق والاتصاف بالكمالات اللائقة ليحصل لهم الترقي والتدرج متصاعدين الى ما منه البداية واليه النهاية فلا بد في النشأة الاخرى من انتقاد ما حصل في النشأة الاولى ليعود كل من المكلفين الى مبدأه على الوجه الذي بدأ منه لذلك وضع سبحانه يوم العرض والجزاء لانتقاد اعمال عموم عباده على تفاوت طبقاتهم ودرجاتهم فيها وقد وضع ايضا لهذه الحكمة المتقنة جميع ما وضع في يوم الجزاء من العرض والحساب والصراط والميزان وكذا صحف الأعمال ومنازل الجنة والنار وغيرها

الآيات

حتى يتحقق كل من المكلفين بمقتضى ما اكتسب من الجزاء على مقتضى العدل الإلهي والقسط الحقيقي الذي هو صراطه الأقوم ثم لما كان كثير من المنهمكين في الغفلة والضلال منكرين عليها مكذبين لها انزل سبحانه هذه الصورة على حبيبه تبشيرا ووعدا للمؤمنين الموقنين وتهديدا ووعيدا للمنافقين المكذبين على الأنبياء المذكورين فيها فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر في النشأة الاولى والاخرى على العدل التقويم الرَّحْمنِ لعموم عباده بالدعوة الى دار السّلام وجنة النعيم الرَّحِيمِ لخواصهم بالفوز الى شرف اللقاء وانواع التعظيم والتكريم [الآيات] قد اقْتَرَبَ ودنا وقرب لِلنَّاسِ الناسين عهود ربهم التي عهدوا بها معه سبحانه في مبدأ فطرتهم الاصلية من حمل امانة العبودية المشتملة على انواع المعارف والحقائق وقبول أعباء الايمان والتوحيد ومشاق الأعمال ومتاعب التكاليف المقربة اليه حِسابُهُمْ اى قد قرب وقت حسابهم وانتقاد أفعالهم وأعمالهم الصالحة المقبولة عند ربهم وامتيازها من الفاسدة المردودة دونه سبحانه وَهُمْ بعد مغمورون مستغرقون فِي غَفْلَةٍ عن ربهم وعن حسابه إياهم بل أكثرهم مُعْرِضُونَ عنه بحيث لا يلتفتون نحوه أصلا بل ينكرون وجوده فكيف حسابه وعذابه لذلك ما يَأْتِيهِمْ وينزل عليهم مِنْ ذِكْرٍ وعظة حتى ينبههم عن سنة الغفلة ويوقظهم عن رقدة النسيان صادر مِنْ رَبِّهِمْ بوحي مُحْدَثٍ مجدد حسب تجددات البواعث والدواعي الموجبة للانزال بمقتضى الأزمان والأعصار: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ اى الذكر المحدث وَهُمْ حين استماعه من غاية عمههم وسكرتهم يَلْعَبُونَ به ويستهزؤن بمن انزل اليه حال كونهم لاهِيَةً نفوسهم ذاهلة قُلُوبُهُمْ عن التأمل فيه والتفكر في معناه والتدرب في رموزه وإشاراته وَهم وان اغفلوا نفوسهم وقلوبهم عنه لفرط عتوهم واستكبارهم لكن قد تفطنوا بحقيته من كمال اعجازه ومتانته لكونهم من ارباب اللسن والفصاحة واصحاب الزكاء والفطنة لكنهم قد أَسَرُّوا النَّجْوَى وبالغوا في إخفاء ما تناجوا في نفوسهم من حقية القرآن واعجازه وبالجملة هم الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بارتكاب الكفر والمعاصي وانواع الفساد والضلال عنادا ومكابرة ومع ذلك قد قصدوا ايضا اختلال ضعفاء الأنام حيث قالوا لهم على وجه الإنكار تغريرا هَلْ هذا اى ما هذا الشخص الحقير الذي قد ادعى الرسالة والنبوة والوحى والإنزال إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وهو من بنى نوعكم لا مزية له عليكم والرسول المرسل من جانب السماء لا يكون الا ملكا أَتميلون ايها العقلاء المتحيرون نحوه وتزعمونه صادقا بواسطة خوارق صدرت عنه على سبيل السحر والشعبذة مدعيا انه معجز مع انه ليس كذلك فَتَأْتُونَ تقبلون وتحضرون السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ آلاته وأدواته وتعلمون عيانا انه سحر مفترى هل تصدقونه أم لا وهذا تسجيل وتنصيص منهم على كذب الرسول على زعمهم واغرار وتضليل منهم على ضعفاء الأنام وحث لهم على تكذيبه وانكار ما اتى به قالَ يا أكمل الرسول في جوابهم والرد عليهم رَبِّي الذي رباني بأنواع الكرامات والمعجزات يَعْلَمُ الْقَوْلَ اى جنس الأقوال والأفعال والأحوال الكائنة فِي السَّماءِ في عالم الأرواح وَالْأَرْضِ في عالم الطبيعة والأشباح وَكيف لا يعلم مع انه لا يعزب عن علمه شيء إذ هُوَ السَّمِيعُ المقصور على السمع بحيث لا سميع سواه الْعَلِيمُ المستقل بالعلم لا عالم الا هو ثم اعرضوا وانصرفوا عن قولهم بسحرية القرآن لاشتماله على البلاغة والمتانة وانواع الخواص والمزايا الفاضلة الممدوحة عندهم الى ما هو الأدنى والأنزل منه بَلْ قالُوا على سبيل الإضراب ما هو الا أَضْغاثُ أَحْلامٍ اى من تخليطات

[سورة الأنبياء (21) : آية 6]

القوة المتخيلة تمويهاتها التي رآها في المنام ثم سطرها وسماها كلاما نازلا من السماء موحى اليه من عند الله بَلِ افْتَراهُ واختلقه واخترعه من تلقاء نفسه ونسبه الى الوحى ترويجا له بلا رؤية في المنام بَلْ هُوَ شاعِرٌ فصيح بل قد تكلم بكلام كاذب مخيل نظمه على وجه يعجب الأسماع وبالجملة ما هو نبي وليس كلامه الذي قد اتى به معجزا ووحيا نازلا من الله كما ادعاه مثل كلام سائر الرسل والا فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ مقترحة او غيرها تلجئنا الى تصديقه والايمان به كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ اى مثل ما أرسل بها سائر الأنبياء الماضون كالعصا واليد البيضاء وإبراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى وغير ذلك من الآيات الواقعة من الرسل الماضين ثم لما تقاولوا بما تقاولوا واهتم بل اغتم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ان لا ينزل عليه مثل ما انزل على أولئك الرسل نزلت ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ لرسلنا الذين جاءوا بالآيات المقترحة مِنْ قَرْيَةٍ اى أهلها من القرى التي أرسلوا إليهم لذلك أَهْلَكْناها واستأصلناها ولو تأتى أنت بمقترحاتهم جميعا لما آمنوا لك يا أكمل الرسل مثل ما لم يؤمنوا لهم أَتزعم أنت يا أكمل الرسل انهم لو أتيت لهم عموم ما اقترحوا فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بك كلا وحاشا انهم من شدة شكيمتهم معك وغلظ حجبهم وشدة قسوتهم وشقاقهم بالنسبة إليك لا يؤمنون بك أصلا غاية ما في الأمر انه لو أتيت أنت إياهم بمقترحهم لم يقبلوا منك ايضا البتة ولم يؤمنوا لك فاستحقوا الهلاك والاستئصال حينئذ وقد مضى أمرنا ونفذ حكمنا على ان لا نستأصل قومك ولا نعذبهم في النشأة الاولى لذلك لم ينزل عليك جميع ما اقترحوا منك وَأنكروا رسالتك يا أكمل الرسل معللين بانك بشر مثلهم والبشر لا يكون رسولا الى البشر قل لهم نيابة عنا ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ رسولا على امة من الأمم الماضية إِلَّا قد أرسلناهم رِجالًا منهم متناهيين كاملين في الرجولية والعقل بالغين نهاية الرشد والتكميل نُوحِي إِلَيْهِمْ مثل ما أوحينا إليك ليرشدوا الناس الى ديننا وتوحيدنا ويوقظوهم من منام الغفلة ويهدوهم الى الصلاح والفوز بالفلاح وان أنكروا هذا قل لهم فَسْئَلُوا ايها المنكرون أَهْلَ الذِّكْرِ اى العلم والخبرة من أحباركم وقسيسيكم من المشتغلين بحفظ التورية والإنجيل وسائر الكتب الإلهية إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ايها الجاهلون المكابرون وَان أنكروا رسالتك معللين بانك تأكل وتشرب مثلهم والرسول لا بد ان لا يأكل ولا يشرب مثل سائر الناس قل لهم ايضا نيابة عنا ما جَعَلْناهُمْ ما صيرناهم اى الرسل الماضين جَسَداً اى اجراما وأجساما لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ بدل ما يتحلل من اجزائهم ولا يشربون الشراب المحلل لغذائهم إذ هم أجسام ممكنة محدثة مفتقرة الى التغذي قابلة للنمو والذبول مشرفة الى الفناء والانهدام مثل سائر أجسام الأنام وَما كانُوا خالِدِينَ دائمين مستمرين ابدا بلا ورود موت عليهم وبلا تحليل تراكيبهم بل هم هلكى في قبضة قدرتنا وجنب وجودنا وحياتنا مثل سائر الهالكين ثُمَّ بعد ما كذبهم المكذبون المنكرون صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ واوفينا لهم الموعود الذي قد وعدناهم من إهلاك عدوهم وانجائهم من بينهم سالمين فَأَنْجَيْناهُمْ على الوجه الذي عهدنا معهم العهود وَمَنْ نَشاءُ من اتباعهم الذين قد سبقت رحمتنا عليهم في حضرة علمنا وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ المصرين على البغي والعناد المنهمكين في الجور والفساد. ثم قال سبحانه لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا معشر قريش كِتاباً جامعا لما في الكتب السالفة مع انه قد ذكر فِيهِ ذِكْرُكُمْ وشرفكم ونجابة عرقكم وطينتكم وكمال دينكم ونبيكم وظهوره على الأديان كلها أَفَلا تَعْقِلُونَ وتستعملون عقولكم بما فيه

[سورة الأنبياء (21) : آية 11]

فتدركون مزية كتابكم ورسولكم على سائر الكتب والرسل وشرف دينكم على عموم الأديان وبالجملة لا تبالوا ايها المترفون والمسرفون بترفهكم وتنعمكم ولا تغتروا بامهالنا إياكم ولا تأمنوا عن مكرنا معكم وحول عذابنا ونكالنا عليكم وَاعلموا انا كَمْ قَصَمْنا وكثيرا مِنْ اهل قَرْيَةٍ قد قهرنا عليهم وكسرنا ظهورهم وبعدناهم عن أماكنهم التي هم يترفهون فيها بطرين لأنها قد كانَتْ ظالِمَةً خارجة أهلها عن مقتضى الأوامر والنواهي المنزلة منا على رسلنا أمثالكم وَبعد ما أخرجناها وأهلكناها قد أَنْشَأْنا بَعْدَها وبدلنا أهلها قَوْماً آخَرِينَ منقادين لحكمنا مطيعين لأمرنا فَلَمَّا أَحَسُّوا وأدركوا بَأْسَنا بعد تعلق ارادتنا بانتقامهم ورأوا مقدمات عذابنا وبطشنا إِذا هُمْ مع شدة شكيمتهم ووفور قوتهم وقدرتهم مِنْها اى من قراهم وأماكنهم يَرْكُضُونَ ويهربون سريعا ركض الخيل من الأسد ثم قيل لهم حينئذ على سبيل التهكم والاستهزاء لا تَرْكُضُوا ولا تهربوا ولا تعدوا ايها المترفهون المتنعمون البطرون الى اين تمشون عن متنزهاتكم وَارْجِعُوا إِلى ما اى الى أوطانكم وقراكم التي قد أُتْرِفْتُمْ ومتعتم فِيهِ وَاسكنوا في مَساكِنِكُمْ التي قد تمكنتم فيها طول دهركم لم تتركونها وتخرجون عنها لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ عن سبب الخروج والجلاء منها ما تجاوبونه ايها الهاربون ثم لما ضاقت عليهم انواع العذاب ولحقت بهم وأدركتهم ولم ينفعهم الفرار والتحرز قالُوا متأسفين متحسرين يا وَيْلَنا وهلاكنا تعال تعال إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ متجاوزين خارجين عن مقتضى العدل الإلهي لذلك قد لحقنا ما لحقنا فَما زالَتْ تِلْكَ الكلمة المذكورة يعنى يا ويلنا انا كنا ظالمين دَعْواهُمْ دعاءهم ونداءهم جارية على ألسنتهم على وجه الخضوع والتذلل التام والانكسار المفرط إذ هم قد قصدوا بها النجاة والخلاص مع انهم قد اعترفوا بذنوبهم في ضمنها وندموا عن عموم ما فعلوا بتكرارها ومع هذا لم ينفعهم ذلك لمضى وقت التوبة والندامة وفوات زمان التدارك والتلافي وبالجملة قد أخذناهم حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ اى صارت أجسامهم مثل المحصود الخامد من النبات كأنها ما شمت رائحة من الحيوة في وقت من الأوقات وَكيف لا نأخذهم بظلمهم ولا نجعلهم محصودين خامدين جامدين إذ ما خَلَقْنَا السَّماءَ المزينة بزينة الكواكب كل منها معد مقدر لأمور لا يعرف تعديدها واحصاءها غيرنا وَايضا قد خلقنا الْأَرْضَ المزينة بزينة المعادن والنبات والحيوان والأشجار والأنهار وانواع الفواكه والأثمار كل منها مشتمل على حكم ومصالح لا يفصلها الا حضرة علمنا المحيط وَما يحصل بَيْنَهُما من امتزاج آثارهما وافعالهما من الغرائب التي تدهش منها العقول وتكل في وصفها الالسنة وانحسرت الصدور لاعِبِينَ عابثين اى ما جعلناهما وما بينهما وما امتزج منهما عبثا باطلا بلا طائل وبلا سرائر اودعنا فيهما وبدائع اضمرنا في خلقهما وظهورهما إذ الحكيم المتقن لا يفعل فعلا الا وقد أودع فيه من الحكم والمصالح ما لا يعد ولا يحصى فكيف يليق بجنابنا وينبغي بشأننا اتصاف أفعالنا المتقنة وآثارنا المحكمة باللهو واللعب وتدبيراتنا بالعبث الخالي عن الحكمة والمصلحة مع انا لَوْ أَرَدْنا اى فرضنا وقدرنا ما استحال علينا وبشأننا وهو أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً ولعبا باطلا خاليا عن الفائدة مخلا لكمال عزتنا وحكمتنا وعلو شأننا وعظمتنا لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا اى من قبلنا ومن جملة أفعالنا وآثارنا الصادرة عن قدرتنا الكاملة وارادتنا الخالصة كلا وحاشا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ وما كنا مرتكبين العبث الخالي عن الفائدة سيما مع كمال قدرتنا ووفور علمنا على انواع الحكم

[سورة الأنبياء (21) : آية 18]

والمصالح في كل لعل بَلْ نحن نَقْذِفُ بل اللائق المستحسن بنا المناسب بعلو شاننا ان نمحو ونبطل بِالْحَقِّ الذي هو شمس وجودنا ولمعات آثار فضلنا وجودنا ونسلطه عَلَى الْباطِلِ الذي هو الظل النابغ الآفل والعدم العاطل الزائغ الزائل الذي هو عبارة عن اظلال العالم وعن اغيار العكوس والسوى فَيَدْمَغُهُ اى يمحق الحق الباطل ويزهقه ويسقط عنه اسم الوجود المستعار ويلحقه الى ما هو عليه من العدم بلا عبرة واعتبار ليظهر عند المعتبر العارف ما ان هذه الحيوة الدنيا الا لهو ولعب وان الآخرة هي دار القرار فاعتبروا يا اولى الأبصار وكيف لا يمحقه ولا يلحقه بالعدم فَإِذا هُوَ اى الباطل في نفسه وفي حد ذاته زاهِقٌ هالك زائغ زائل ما شم رائحة من الوجود قط وَبالجملة اللائق لَكُمُ الْوَيْلُ والهلك وأنتم مستحقون له ايها الواصفون الجاهلون بقدر الله وبقدر حقيته مِمَّا تَصِفُونَ ذاته به من الأمور التي لا تليق بجنابه من ارتكاب العبث واسناد اللهو واللعب بذاته تعالى واشراك هذه الاظلال الهالكة والتماثيل الباطلة معه في الوجود تعالى عن ذلك علوا كبيرا وَكيف تشركون ايها المشركون معه اظلاله وعبيده إذ لَهُ تعالى لا لغيره من العكوس والاظلال إيجادا وابداعا ملكا وتصرفا عموم مَنْ فِي السَّماواتِ اى عالم الأرواح المجردة عن الأبدان وَكذا عموم من في الْأَرْضِ من الأرواح المتعلقة بها وَكذا عموم مَنْ عِنْدَهُ سبحانه من الأرواح التي لا نزول لها ولا عروج كل من هؤلاء المذكورين متذللون عنده خاضعون خاشعون لديه سبحانه بحيث لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وأطاعته ساعة وَلا يَسْتَحْسِرُونَ اى لا يفترون ولا يضعفون عن إقامتها وإتيانها طرفة بل هم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وينزهون الله في عموم الأوقات والحالات عما لا يليق بشأنه بحيث لا يَفْتُرُونَ ولا يظهرون الضعف والعناء بحال بل قد أقاموها وواظبوا عليها طائعين متذللين خاشعين خاضعين وكيف لا يعبدون الله ولا يسبحونه وهم موحدون مخلصون لا المشركون المعاندون الذين قد اتخذوا آلهة من السماء كعبدة الكواكب أَمِ اتَّخَذُوا بل قد أخذوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هو افحش من ذلك كعبدة الأوثان والأصنام قد اتخذوها آلهة وعبدوا لها كعبادة الله وادعوا ضمنا ان آلهتهم التي قد نحتوها بأيديهم او صاغوها من حليهم هُمْ يُنْشِرُونَ اى يخرجون الموتى من قبورهم إذ هم قد سموها آلهة وعبدوها كعبادة الله والا له لا بد وان يقدر على عموم المقدورات والمرادات ومن جملتها البعث والنشر بل من أجلها فلا بد لهم ان ينشروا فكيف يثبتون أولئك المشركون تعدد الآلهة مع انه لَوْ كانَ فِيهِما اى في السماء والأرض آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ اى غير الله الواحد القهار للاغيار مطلقا لَفَسَدَتا واختل نظامهما ولم تبقيا على الهيئات المخصوصة المشاهدة البتة إذ المفهوم من الا له هو المستقل بالتصرف في الآثار بالإرادة والاختيار فكل من الآلهة المتعددة لا بدان تكون متصفة بجميع أوصاف الألوهية بالاستقلال فلا يمكنهم الاتفاق على امر من الأمور فَسُبْحانَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في الألوهية والربوبية بلا شريك له في الملك بل في الوجود والتحقق رَبِّ الْعَرْشِ اى عروش عموم المظاهر المستوي عليها بالاستيلاء التام إذ لا ظهور لها الا منه سبحانه عَمَّا يَصِفُونَ من اتخاذ الولد والشريك والصاحبة والنظير ولتوحده في الوجود واستقلاله في التصرف لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ إذ لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه وَهُمْ اى الشركاء الباطلة يُسْئَلُونَ عما صدر عنهم فكيف تليق بهم الألوهية والشركة معه سبحانه تعالى شأنه عما يصفه الواصفون

[سورة الأنبياء (21) : آية 24]

وجل جلال قدسه عما نسب اليه الملحدون الجاحدون المكابرون المعاندون ومع علو شأنه عما يصفونه سبحانه ووضوح برهانه وظهور وحدة ذاته واستقلاله في ألوهيته وربوبيته قد ترددوا فيها وفي توحيده أَمِ اتَّخَذُوا بل قد أخذوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً شركاء له سبحانه لا واحدا بل متعددا وعبدوها كعبادته سبحانه ظلما وزورا جهلا وعنادا قُلْ يا أكمل الرسل إلزاما لهم وتبكيتا هاتُوا ايها المشركون المثبتون لله الواحد الأحد الفرد الصمد شريكا بُرْهانَكُمْ على وجود آلهة سواه سبحانه عقلا او نقلا ان كنتم من ذوى الألباب ومن اهل العقل والرشد وبالجملة لا سبيل الى الدليل العقلي إذ برهان التمانع قد قطع عرق الشركة بالمرة ولا الى النقلى ايضا إذ جميع الكتب والصحف الإلهية متطابقة في توحيد الحق ونفى الشركة عنه سبحانه قطعا إذ هذا الكتاب الجامع لجميع ما في الكتب السالفة المنزل على ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ اى عظة وتذكير يذكر من معى من المؤمنين من أصحابي وَكذا هو ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي من امم الأنبياء الماضين لو صدقوه وقبلوا ما فيه لموافقة ما فيه بعموم ما في كتبهم وصحفهم لكنهم لا يصدقون عنادا حتى يهديهم الى الحق بَلْ أَكْثَرُهُمْ جاهلون لا يَعْلَمُونَ ولا يعرفون الْحَقَّ الصريح الظاهر في الآفاق بلا سترة وحجاب بل فَهُمْ لغلظ حجبهم وكثافة غشاوتهم مُعْرِضُونَ عن الحق منكرون له وبالجملة من لم يجعل الله له نورا فماله من نور. ثم قال سبحانه كلاما جمليا مثبتا للتوحيد خاليا عن سمة التقليد مطلقا وَما أَرْسَلْنا من مقام جودنا وفضلنا مِنْ قَبْلِكَ يا أكمل الرسل مِنْ رَسُولٍ من الرسل الماضين إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أولا أَنَّهُ لا إِلهَ يعبد بالحق ويستحق للعبادة والإطاعة إِلَّا أَنَا المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بكمال الجلال ودوام البقاء فَاعْبُدُونِ ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة الباطلة وتذللوا نحوي خاضعين خاشعين إذ لا مرجع لكم غيرى وان ادعوا الشركة وَقالُوا مستدلين عليها نحن نجد في التورية والإنجيل انه قد اتَّخَذَ الرَّحْمنُ الملائكة وعزيرا وعيسى وَلَداً والولد شريك لأبيه في فعله إذ هو سره وثمرته سُبْحانَهُ وتعالى عن أمثال هذه الهذيانات الباطلة بَلْ هم عِبادٌ مُكْرَمُونَ عنده محبوبون لديه لذلك لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ اى لا يبادرون الى القول قبل قوله سبحانه ولا يبدلون ولا يغيرون قوله وحكمه كما هو دأب العبيد مع المولى وَكيف يسبقونه بالقول قبل قوله سبحانه وحكمه هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ جميع ما عملوا من خير وشر والمأمور المجبور لا يكون شريكا للآمر الجابر القادر القاهر وكيف لا يعملون بامره سبحانه إذ هو يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وما هو حاضر عندهم معلوم لديه من أحوالهم وأفعالهم وَكذا ما خَلْفَهُمْ وما هو غائب عنهم ومجهول لهم وَان خرجوا عن مقتضى امر سبحانه لا يَشْفَعُونَ ولا يقبل شفاعتهم إذ لا يشفع لهم عند الله بعد ما خرجوا عن مقتضى حكمه إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى سبحانه ورضى بشفاعة من يشفع لهم واذن وَكيف يشفع عنده سبحانه بغير اذنه ورضاه إذ هُمْ اى الشفعاء مِنْ كمال خَشْيَتِهِ سبحانه ومن غاية سطوته وهيبته وقهره مُشْفِقُونَ خائفون مرعوبون وجلون وَمتى كان حال الشفعاء وخشيتهم على هذا المنوال مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مستحق للعبادة مستقل في الألوهية مِنْ دُونِهِ سبحانه فَذلِكَ اى بمجرى قولهم هذا وان كان غير مطابق لاعتقادهم نَجْزِيهِ ونصليه جَهَنَّمَ البعد والحرمان ونيران الخيبة والخسران كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الخارجين عن

[سورة الأنبياء (21) : آية 30]

مقتضى توحيدنا المسيئين الأدب معنا أَينكرون وحدتنا ويثبتون لنا شريكا من مصنوعاتنا وينسبون بنا ولدا ظلما وزورا وَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا بنا بأمثال هذه الخرافات الباطلة ولم يعلموا كمال قدرتنا أَنَّ السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات وَالْأَرْضَ اى عالم الطبيعة والعكوس والاظلال قد كانَتا رَتْقاً اى كان كل منهما مرتقا متضمما بلا تعدد وتكثر اما الأسماء والصفات فمندمجة مندرجة في الذات بلا هبوط وتنزل وظهور اثر واما الطبيعة العدمية قد كانت ساكنة في زاوية العدم بلا امتداد ظل الوجود عليها فَفَتَقْناهُما بالتجليات الحبية المنتشئة من الأسماء الذاتية والصفات الكمالية الفعلية المقتضية للظهور والانجلاء لحكم ومصالح قد استأثرنا بها وبالقبول والتأثر من اشعة التجليات وَان أردتم ان تنكشف لكم كيفية انتشاء الأشياء الكثيرة من الذات الواحدة المتصفة بالصفات والأسماء المتماثلة والمتقابلة فانظروا كيف جَعَلْنا مِنَ الْماءِ الواحد بالذات المشتمل على الأوصاف الكثيرة المندمجة فيه المنتشئة عنه بحسب الآثار والعكوس والاظلال الصادرة منه كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ إذ قد خلقنا وصيرنا كل شيء له احساس وتغذية وتنمية وازدياد وانتقاص من الماء خصه سبحانه بالذكر من بين العناصر إذ هو أقوى اسباب التبدلات والتشكلات واقبل الى قبول التصرفات والامتزاجات أَفَلا يُؤْمِنُونَ ويصدقون بهذا مع انه من اجلى البديهيات واظهر المحسوسات. ثم أخذ سبحانه في تعداد نعمه على خلص عباده امتنانا عليهم وتنبيها لهم كي يتفطنوا منها بوحدة ذاته وكمال قدرته وبسطته فقال وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ التي هي الكرة الحقيقية المائلة بالطبع الى التدور والانقلاب رَواسِيَ شاخت مخافة أَنْ تَمِيدَ تتحرك وتضطرب وتضر بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها اى في تلك الرواسي فِجاجاً شقوقا واودية لتكون سُبُلًا ومسالك متسعة وطرقا واسعة عناية منا إياهم لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ من تلك الطرق الى ما يرومون من الأماكن البعيدة والبلدان النائية فيتجرون ويتبعون منها مطالبهم ومصالحهم وَايضا قد جَعَلْنَا السَّماءَ المرفوع فوقهم سَقْفاً مَحْفُوظاً لهم فيها اوقات مزارعهم ومتاجرهم وسائر مصالحهم في البر والبحر إذ هي من أقوى اسباب معاشهم وَهُمْ عَنْ آياتِها الدالة على وحدة مبدعها وكمال قدرة مخترعها وموجدها مُعْرِضُونَ منصرفون منكرون لا يتفكرون فيها كي تصلوا الى زلال توحيدنا والى كمال قدرتنا وارادتنا وَكيف لا يتفكرون في خلق السموات ولا يتدبرون في الآيات الدالة على وحدة صانعها وبالجملة كيف ينكرون أولئك المنكرون المسرفون وجود موجدها مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي خَلَقَ وقدر لهم اللَّيْلَ سببا ووقتا لاستراحتهم ورقودهم وَالنَّهارَ لمعاشهم واكتسابهم وَجعل الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ سببين لإنضاج ما يتقوتون ويتفكهون وكُلٌّ من الشمس والقمر وسائر السيارات فِي فَلَكٍ من الأفلاك السبعة يَسْبَحُونَ يدورون ويسيرون بسرعة تامة دائما بلا قرار ولا سكون كل ذلك انما هي لتدبير مصالحهم وإصلاح معايشهم وهم لا يعلمون ولا يشكرون. ثم قال سبحانه وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ يعنى ان النصارى قد ادعوا خلود عيسى وبقاءه بلا طريان موت عليه دائما كما كان الآن وكذا ادعوا خلود جميع من لحق بالملائكة من البشر رد الله عليهم على ابلغ وجه وآكده حيث قال ما جعلنا وقدرنا لبشر من نوعك يا أكمل الرسل الخلد والبقاء السرمدي لا من الذين مضونا قبلك ولا من الذين يأتون بعدك إذ الكل بشر محدث مركب وكل مركب لا بد ان ينهدم امتزاجه وينحل اجزاؤه ومزاجه ولو كان فرد من افراد البشر

[سورة الأنبياء (21) : آية 35]

المحدث قديما لكنت يا أكمل الرسل البتة أَتزعم وتردد يا أكمل الرسل فَإِنْ مِتَّ وعدمت عن الدنيا فَهُمُ الذين ادعى الجاهلون بقاءهم هم الْخالِدُونَ المقصورون على الخلود فيها بلا لحوق عدم عليهم كلا وحاشا لا يكون الأمر كذلك بل كُلُّ نَفْسٍ ذات أجزاء وتركيب خيرة كانت او شريرة طويلة مدة عمرها او قصيرة باقية في اهل الأرض او ملحقة بالملإ الأعلى ذائِقَةُ كأس الْمَوْتِ مدركة مرارته محتملة اهوال السكرات وافزاعها وبالجملة لا ينجو من الموت احد وان علت رتبته وارتفعت مكانته بل كلكم هلكى في وقت ظهوركم ووجودكم المستعار وَانما نَبْلُوكُمْ ونختبركم في وجودكم هذا وفي نشأتكم هذه بِالشَّرِّ الغير المرضى عندنا وَالْخَيْرِ المرضى ليكون ابتلاؤنا إياكم فِتْنَةً لكم واختبارا منا إياكم لحكم ومصالح لنا فيها وَبعد ما اختبرناكم وابتليناكم في النشأة الاولى إِلَيْنا لا الى غيرنا إذ لا غير في الوجود تُرْجَعُونَ في النشأة الاخرى رجوع الظل الى ذي الظل والعكوس الى ذي الصور فنجازيكم فيها ونعامل بكم بمقتضى اختبارنا وابتلائنا إياكم في النشأة الاولى. ثم قال سبحانه امتنانا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا حين اشتغالك بتلاوة القرآن او بتذكير الأصحاب وعظة اولى الباب المشمرين نحو الحق أذيال هممهم المستفيدين المسترشدين منك قصارى مقاصدهم التي هي التوحيد الإلهي إِنْ يَتَّخِذُونَكَ وما يأخذونك حين التفاتهم نحوك إِلَّا هُزُواً اى محل استهزاء وسخرية قائلا حينئذ بعضهم لبعض مستحقرين لشأنك أَهذَا الرجل الحقير الفقير الملحق بالأراذل والضعفاء الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ بالسوء وينكر على شفعائكم ويسئ الأدب معهم مع غاية حقارته وضعفه ورثاثة حاله وَبالجملة هُمْ مع شدة عمههم وسكرتهم ونهاية غيهم وغفلتهم بِذِكْرِ الرَّحْمنِ المنزه عن شوب الشك وريب التردد هُمْ كافِرُونَ منكرون وجوده وتحققه مع كمال ظهوره واستحقاقه بالالوهية والربوبية بالأصالة بخلاف معبوداتهم الباطلة الزائغة إذ هم مقهورون تحت قدرته تعالى مجبورون جنب ارادته واختياره لا قدرة لهم من أنفسهم أصلا فهم بالاستهزاء أحق وبالاستهانة والسخرية اولى وأليق ثم لما استعجل المنهمكون في بحر الضلال والإنكار التائهون في تيه العتو والاستكبار نزول العذاب وقيام الساعة وكذا جميع الوعيدات الواردة فيها على سبيل الاستهزاء والتهكم رد الله عليهم انكارهم واستعجالهم بأبلغ وجه وآكده فقال خُلِقَ الْإِنْسانُ اى هذا النوع من الحيوان مِنْ عَجَلٍ يعنى من غاية استعجاله بالخير والشر كأنه متخذ مصنوع منه قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا الى متى تستعجلون ايها المسرفون المغرورون سَأُرِيكُمْ عن قريب في هذه النشأة آياتِي اى بعضا من نقماتى التي هي من مقدمات عذاب الآخرة قيل هي وقعة بدر والمستعجلون هم القريش وسيأتى الساعة وعذابها بعد فَلا تَسْتَعْجِلُونِ ايها الضالون المسرفون المفسدون وَبعد ما سمعوا من الرسول وأصحابه ما سمعوا يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ الموعود والوقت المعهود وعينوا لنا وقت حلول العذاب وقيام الساعة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم هذه. ثم قال سبحانه تفظيعا لهم وتهويلا عليهم لَوْ يَعْلَمُ ويطلع الَّذِينَ كَفَرُوا كيفية ما استعجلوا من العذاب وكميته حِينَ لا يَكُفُّونَ اى حين قد نزل عليهم حتما ولا يمكنهم حينئذ ان يدفعوا لا عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ لأنهم محاطون بها مغمورون فيها بحيث لا يسع لهم دفعها لا بأنفسهم وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ من الغير إذ كل نفس يومئذ رهينة بما

[سورة الأنبياء (21) : آية 40]

كسبت وبالجملة لو علموا هولها وفظاعتها لما استعجلوا لكنهم لا يعلمون لذلك استعجلوا اغترارا واستكبارا بَلْ تَأْتِيهِمْ العذاب والساعة حين تأتيهم بَغْتَةً فجاءة ودفعة فَتَبْهَتُهُمْ اى تحيرهم وتدهشهم وقت ظهورها فصاروا حينئذ حيارى سكارى مدهوشين فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها إذ لا رد لقضاء الله ولا معقب لحكمه سيما بعد نزوله وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ويمهلون حينئذ ان استمهلوا وَبالجملة لا تبال بهم يا أكمل الرسل ولا تحزن على استهزائهم وسخريتهم إذ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ كثيرين قد مضوا مِنْ قَبْلِكَ قد استهزئت بهم أممهم مثل ما استهزئت بك قريش فَحاقَ وأحاط بالآخرة بِالَّذِينَ اى بالمستهزئين الذين سَخِرُوا مِنْهُمْ اى من الرسل وبال ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ويستسخرون وأضعاف ما لحق لأولئك المستهزئين الهالكين الماضين ستلحق لهؤلاء المعاندين المكابرين فلا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يستهزؤن وان أنكروا إتمام العذاب وانزاله عليه م قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا مَنْ يَكْلَؤُكُمْ ويحفظكم بِاللَّيْلِ وقت فراغكم ومنامكم وَالنَّهارِ وقت شغلكم وترددكم مَنْ نزول عذاب الرَّحْمنِ القادر على انواع القهر والانتقام بمقتضى جلاله لو لم يرحم عليكم حسب لطفه وجماله لكن يرحم عليكم فلم يعذبكم رجاء ان تنبهوا وتواظبوا على شكر نعمه وأداء حقوق كرمه بَلْ هُمْ من شدة غفلتهم وسكرتهم عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ الذي يحفظهم عن انواع المكروهات والمؤذيات مُعْرِضُونَ بحيث لا يتوجهون نحوه ولا ملازمون عبادته ولا يداومون شكره أيزعمون أولئك المصرون المسرفون ان يدفعوا عذابنا النازل عليهم بقوة نفوسهم أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ اى تمنع عنهم العذاب مع انهم مِنْ دُونِنا بل شركاء لنا في الألوهية والربوبية كما زعموا او يشفعوا لهم عندنا كلا وحاشا ان يسع لآلهتهم هذا إذ لا يَسْتَطِيعُونَ أولئك التماثيل الهلكى نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ ولا يقدرون لدفع ما لحقهم ونزل عليهم من المكروهات عنهم فكيف عن غيرهم وَلا هُمْ اى آلهتهم مِنَّا يُصْحَبُونَ ويقربون إلينا حتى يشفعوا لهم او يدفعوا عذابنا عنهم بواسطة قربتهم وصحبتهم معنا وان تخيلوا ان امهالنا إياهم وآباءهم متنعمين مترفهين طول اعمارهم امارة على عدم أخذنا إياهم وعدم انتقامنا عنهم فما هو الا خيال باطل ووهم زائل زائغ مما قد سولت لهم أنفسهم بتغرير إبليس عليهم وتزويره بَلْ نحن قد مَتَّعْنا هؤُلاءِ المسرفين المعاندين وَآباءَهُمْ الضالين المستكبرين حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فارتكبوا بأنواع المعاصي والآثام مدة حياتهم فظنوا انهم مصونون عن الأخذ والانتقام ونزول العذاب أَيتوهمون من امهالنا إياهم هذا الموهوم فَلا يَرَوْنَ أَنَّا من مقام قهرنا وانتقامنا إياهم نَأْتِي الْأَرْضَ اى نبعث ونجلب جنود المسلمين على ارض الكفرة بحيث نَنْقُصُها ونخربها مبتدئين مِنْ أَطْرافِها الى ان وصل الى أدانيها وأقاصيها أَيزعمون ويتوهمون بعد ما أخذنا في تخريب أطراف بلادهم وتنقيصها فَهُمُ الْغالِبُونَ علينا وعلى جنودنا وجنود انبيائنا ورسلنا وما هو إلا زعم فاسد وتوهم باطل زائغ زائل فان ادعوا انا وآباؤنا دائما في كنف حفظ الله وجوار صونه مدة أعمارنا فمن اين تخوفنا وتنذرنا أنت من إنزال الله العذاب علينا بغتة مع انه لم يعهد لا لنا ولا لآبائنا منه تعالى أمثال هذا قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم إِنَّما أُنْذِرُكُمْ وما أخوفكم انا من تلقاء نفسي بل بِالْوَحْيِ المنزل على من عند الله المشتمل على انذاركم وتخويفكم ثم قال سبحانه توبيخا عليهم وتقريعا وَكيف يرشدكم ويهديكم الرسول المرسل

[سورة الأنبياء (21) : آية 46]

إليكم المؤيد بالآيات والمعجزات وينذركم بالوعيدات الهائلة ايها المقصورون على الصم الحقيقي والاعراض الفطري الجبلي إذ لا يَسْمَعُ المرشد الهادي ولا يسع في وسعه وان بالغ في الإرشاد والهداية الصُّمُّ الدُّعاءَ والذكر المتضمن لانواع الهداية والإرشاد ولا يسع له اسماعهم إِذا ما يُنْذَرُونَ الا وقت قابليتهم والتفاتهم الى الإنذار والتخويف وأنتم ايها الحمقى من شدة صممكم وقسوتكم خارجون عن قابلية الإنذار والإرشاد والوعد والوعيد وَالله يا أكمل الرسل لَئِنْ مَسَّتْهُمْ وظهرت عليهم نَفْحَةٌ واحدة ورائحة قليلة مِنْ عَذابِ رَبِّكَ نازلة على سبيل المقدمة والأنموذج لَيَقُولُنَّ صارخين صائحين متضرعين معترفين بذنوبهم قائلين يا وَيْلَنا وهلكنا تعال إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ خارجين عن حدود الله مستوجبين للمقت والهلاك أدركنا فقد حان حينك وقرب أوانك وَبمجرد اعترافهم بظلمهم لا نأخذهم ولا نعذبهم حينئذ بل نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ العدل السوى المستقيم بحيث لا عوج والانحراف لها الى جانب أصلا المعدة لِيَوْمِ الْقِيامَةِ لنوزن بها فيها اعمال العباد صالحها وفاسدها ثم نجازيهم على مقتضى ما ظهر منها فَلا تُظْلَمُ ولا تنقص نَفْسٌ شَيْئاً من جزائها ولا تزاد عليها ايضا سواء كان خيرا او شرا ثوابا او اعقابا بمقتضى عدلنا القويم وصراطنا المستقيم وَإِنْ كانَ العمل او الظلم وزنه مِثْقالَ حَبَّةٍ كائنة مِنْ خَرْدَلٍ قد أَتَيْنا بِها مع انها لا اعتداد لها عرفا وجازينا صاحبها عليها تتميما لعدلنا القويم وتوفية لحقوق عبادنا وَكَفى بِنا حاسِبِينَ اى حسابنا لحفظ حقوق عبادنا إذ لا يعزب عن حيطة حضرة علمنا المحيط شيء منها وان قل وخفى. ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير وَلَقَدْ آتَيْنا من مقام فضلنا وجودنا مُوسى الكليم وَأخاه هارُونَ الْفُرْقانَ اى التورية الفارق بين الحق والباطل وَلكمال فرقه وفصله صار ضِياءً يستضئ به عموم المؤمنين الموحدين من المليين التائهين في ظلمات الغفلات والجهالات وانواع الضلالات وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ منهم المتذكرين الوقوف بين يدي الله يوم العرض الأكبر وهم الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ اى بضمائرهم وسرائرهم كما يخشون منه سبحانه بظواهرهم وعلنهم وَمع ذلك الخوف المستوعب لجوانحهم وجوارحهم هُمْ مِنَ السَّاعَةِ الموعود إتيانها المحقق وقوعها وقيامها حقا حتما محققا مُشْفِقُونَ خائفون مرعوبون كأنها واقعة آتية عليهم اليوم وَهذا القرآن الفرقان الجامع ايضا ذِكْرٌ وتذكير لعموم المؤمنين الموحدين من امة محمد عليه السّلام مُبارَكٌ كثير الخير والبركة للموقنين المخلصين منهم الواصلين الى مرتبة الفناء في الله قد أَنْزَلْناهُ من كمال فضلنا ولطفنا الى محمد خاتم الرسالة ومتمم مكارم الأخلاق ومكمل دائرة النبوة عليه من الصلوات والتحيات ما هو الاولى والأحرى أَفَأَنْتُمْ لَهُ ولكاتبه مُنْكِرُونَ ايها المسرفون المستكبرون وَلَقَدْ آتَيْنا أعطينا ايضا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ اى كمال عقله ورشده الى حيث أيقظنا من سنة الغفلة فأخذ لطلب المعارف والحقائق وسلوك طريق التوحيد والتوجه نحو الحق مِنْ قَبْلُ اى قبل موسى وهارون وَقد كُنَّا بِهِ وبكمال استعداده وقابليته لحمل أعباء الرسالة والنبوة وانكشافه بسرائر التوحيد عالِمِينَ بحضرة علمنا المحيط مثبتين في لوح قضائنا المحفوظ اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ جدك ابراهيم الخليل الجليل لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ حين جذبه الحق نحو جنابه وهداه الى بابه مستفهما على سبيل الإنكار والتقريع

[سورة الأنبياء (21) : آية 53]

ما هذِهِ التَّماثِيلُ الباطلة والهياكل الزائغة الزائلة الَّتِي أَنْتُمْ مع كونكم من زمرة العقلاء المجبولين لمصلحة التوحيد والعرفان لَها عاكِفُونَ عابدون متذللون مع انها ما هي الا جمادات لا شعور لها ولا حركة فكيف المعرفة واليقين وعبادة الفاضل للمفضول المرذول في غاية السقوط عند ذوى النهى واولى الباب ثم لما تفرسوا منه الرشد التام ووجدوا قوله معقولا محكما قالُوا في جوابه ما نعرف نحن استحقاق هؤلاء التماثيل للعبادة والألوهية ولانكشف سرائرها غير انا قد وَجَدْنا آباءَنا وأسلافنا لَها عابِدِينَ فنعبدها كما عبدوها مع انهم قد كانوا من ذوى الفطنة والرشد فنعتقد نحن انهم قد انكشفوا باسرارها وبالجملة ما لنا شغلة باستكشافها سوى ان نعبد بما عبد أولئك الاسلاف الراشدون المهديون قالَ ابراهيم بعد ما انكشف بالحق الصريح وظهر عنده ضلالهم وضلال آبائهم لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ ايها الحمقى المنهمكون في بحر الغفلة والغرور وَآباؤُكُمْ ايضا اى تابعكم ومتبوعكم وأصلكم وفرعكم متوغلين فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغفلة عظيمة من الهداية وسلوك طريق الحق ثم لما سمعوا منه ما سمعوا من التضليل والتجهيل قالُوا له أَجِئْتَنا ايها المدعى بِالْحَقِّ اى بالجد الصريح والنص الواضح المبين أَمْ أَنْتَ في تضليلك وتجهيلك إيانا مِنَ اللَّاعِبِينَ بنا المستهزئين بنا قالَ ابراهيم لا لعب ولا سخرية في امور الدين سيما في معرفة الألوهية والربوبية وبالجملة ما هذه التماثيل العاطلة أربابكم الذين قد اوجدوكم واظهروكم من كتم العدم بَلْ رَبُّكُمْ وموجدكم هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى موجد العلويات والسفليات ومربيهما واحد احد صمد فرد وتر لا تعدد له ولا اثنينية فيه متصرف بالاستقلال في ملكه وملكوته إذ هو الَّذِي فَطَرَهُنَّ وابدعهن باختياره وانفراده بلا سبق مادة ومدة وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ اى على الأمور التي قد بينت لكم واوضحتها عندكم مِنَ الشَّاهِدِينَ اى من ارباب الشهادة المتحققين بمرتبة الكشف واليقين الحقي لا من اصحاب التقليد والتخمين وَبعد ما جرى بينه وبينهم ما جرى سفهوه واستهزؤا به ونسبوه الى الخبط والجنون وانصرفوا عنه وعن قوله متعجبين فذهبوا الى مجامعهم ومعابدهم ومعايدهم التي قد كانوا يجتمعون فيها يوم العيد لعبادة الأصنام قال ابراهيم عليه السّلام في نفسه مقسما مؤكدا مبالغا تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ اى لاحتالن انا وامكرن لان اكسر أَصْنامَكُمْ ومعبوداتكم ايها الجاهلون لتفتضحوا أنتم وهؤلاء الأباطيل الزائغة بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا وتنصرفوا مُدْبِرِينَ عن مجمعكم ومعبدكم ثم لما ذهبوا الى معيدهم دخل ابراهيم كنيستهم ومعبدهم التي فيها أصنامهم وأوثانهم فَجَعَلَهُمْ وصير أصنامهم كلها جُذاذاً قطعا منكسرة وأجزاء متلاشية إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ اى لم يكسر الصنم الكبير من الأصنام فقط ليكون سببا لإلزامهم وافحامهم لدى الحاجة لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ اى الصنم الكبير يَرْجِعُونَ يراجعون له ويستفسرون منه عن كسر الأصنام إذ هم قد اعتقدوه أعظم الآلهة والا له لا بد ان يجيب لهم جميع حوائجهم وحاجاتهم ثم لما رجعوا من معيدهم ودخلوا الى معبدهم وكنيستهم للعبادة والتقرب نحو الآلهة وجدوها مجذوذة منكسرة متفرقة الاجزاء قالُوا من فرط حزنهم واسفهم مستبعدين مستحسرين مَنْ فَعَلَ هذا الفعل الفظيع والأمر الشنيع الفجيع بِآلِهَتِنا ومعبوداتنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين من شعائر ديننا الجاحدين لآلهتنا قالُوا اى السامعون منهم للسائلين قد سَمِعْنا فَتًى نكروه تحقيرا له واهانة عليه قد كان يَذْكُرُهُمْ اى الآلهة بالسوء دائما ويصيب عليهم وينكرهم

[سورة الأنبياء (21) : آية 61]

يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ ثم لما انتشر الخبر واجتمعوا في المعبد مزدحمين متشاورين في انتقامه واستقر رأيهم بعد ما تمادى مشورتهم الى ان قالُوا متفقين فَأْتُوا بِهِ اى بإبراهيم عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ ورؤس الملأ والاشهاد لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ يحضرون ويجتمعون يعنى جميع العبدة لقتله وإهلاكه لينال كل منهم نصيبه من نصر الالهة ثم لما حضر نمرود واجتمع معه اشراف مملكته وازدحم العوام والخواص واحضروه لينتقموا عنه قالُوا له أولا على سبيل التعيير والتقريع أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا الفعل الشنيع والأمر الفظيع الفجيع بِآلِهَتِنا ومعبوداتنا يا إِبْراهِيمُ المرذول المجهول قالَ في جوابهم بمقتضى اعتقادهم وزعمهم انا عبد مألوه مربوب وهم آلهة معبودون كيف أقدر أن افعل بهم هذا بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا أشار الى الصنم الكبير الغير المنكسر قد فعل هذا معهم هكذا لئلا يشاركوا معه في المعبودية والألوهية وان شككتم انه هل فعل هذا أم انا فَسْئَلُوهُمْ اى الآلهة إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ يعنى ان اعتقدتم نطقهم وتكليمهم مع انهم آلهة ومن لوازم الألوهية التكلم والتنطق بل أنتم تعتقدون ان هؤلاء خلقوا عموم اهل التكلم واللسان فهم اولى وأحق بجواب سؤالكم هذا ثم لما سمعوا منه ما سمعوا فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ متأملين اى رجع كل منهم الى وجدانه ونفسه متفكرا متدبرا في قوله وكلامه فَقالُوا اى كل منهم في سره ونجواه إِنَّكُمْ ايها الجاهلون الغافلون عن قدر الألوهية والربوبية أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ المقصورون على الخروج عن مقتضى العقل الفطري والرشد الجبلي ما هذا الا تماثيل مصنوعة لكم منحوتة بأيديكم من اين يوجدكم ويحقكم بل أنتم موجدو هؤلاء ومخترعوهم ثُمَّ لما تفرسوا بخطئهم وتفطنوا بحقية ابراهيم وصدقه في مقاله قد أزعجتهم الغيرة البشرية والحمية الجاهلية الى المراء والمجادلة معه لذلك نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ يعنى بعد ما عملوا أعلى الأمر وأسفله وفرقوا بين الحق والباطل فرقا ظاهرا أرادوا ان ينقلبوا الأمر وعكسوه عنادا ومكابرة حيث قالوا لَقَدْ عَلِمْتَ ايها المجادل المفتون ما هؤُلاءِ الآلهة يَنْطِقُونَ إذ هم جمادات لاحس لهم ولا شعور كيف يتيسر لهم التكلم والتنطق وبعد ما اعترفوا بجمادية آلهتهم وعدم قابليتهم للنطق والتكلم قالَ ابراهيم موبخا عليهم ومقرعا أَما تستحيون وما تخجلون ايها الضالون المكابرون فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد المتوحد بالالوهية والربوبية المستقل بعموم التصرفات الواقعة في عالم الغيب والشهادة ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ اى أصناما وأوثانا لا يرجى منهم النفع ولا الضر ثم قال على سبيل الضجرة والاستكراه عن أمرهم والتأسف على ضيعة عقلهم المفاض لهم من ربهم لمصلحة المعرفة والايمان أُفٍّ لَكُمْ اى قبحا لكم ايها المطرودون المردودون عن زمرة العقلاء وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المستقل للنفع والضرر وجلب انواع الخيرات ودفع اصناف المضار أَفَلا تَعْقِلُونَ ايها المتخذون لله شركاء ولا تستعملون عقولكم الموهوبة لكم لكسب المعارف والحقائق لتتفطنوا الى سرائر التوحيد الخالي عن شوب التخمين وشين التقليد ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ثم لما سمعوا منه التعيير والتشنيع الشنيع قد ثارت نار حميتهم واشتد غيظ غيرتهم حيث قالُوا بعد ما شاوروا كثيرا في كيفية إهلاكه وانتقامه حَرِّقُوهُ إذ لا عذاب اهول وأفزع منه وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بتحريق هذا الظالم ولما كان تعذيبهم إياه لأجل آلهتهم لذلك اختاروا تعذيبه بالنار لان التعذيب بالنار مخصوص بالإله. كما قال صلّى الله عليه وسلّم لا يعذب بالنار غير خالقها وفعلوا معه كذلك إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ

[سورة الأنبياء (21) : آية 69]

ناصرين آلهتكم بأخذ انتقامهم عنه ثم لما حفروا البئر وبنوا الحظيرة وجمعوا الحطب واوقدوا النار علقوا المنجنيق ووضعوه فيها ورموه إليها قُلْنا حينئذ مخاطبين للنار منادين لها لحفظ خليلنا يا نارُ المجبولة المطبوعة بالإحراق والإهلاك كُونِي بَرْداً واتركي طبع الحرق والحرارة وَلا تضرى لخليلنا بالبرودة المفرطة ايضا بل صيرى سَلاماً معتدلة ذات سلام وسلامة عَلى إِبْراهِيمَ ولا تضرى له وَبعد ما علموا وشاهدوا ان النار لا يضره بل قد صارت له بردا وسلاما روحا وريحانا أفحموا والزموا وكيف لا يفحمون وقد أَرادُوا بِهِ كَيْداً ومكرا لينتقموا عنه ويبطلوا دعواه التوحيد فعاد عليهم الإلزام والوبال والابطال فغلبوا هنالك فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ فيما قصدوا له وانقلبوا من مجمعهم خاسرين خائبين خسرانا مبينا وخيبة عظيمة وَبعد ما فعلوا مع خليلنا ابراهيم ما فعلوا قد نَجَّيْناهُ من مقام جودنا ولطفنا إياه وَصاحبناه مع ابن أخيه لُوطاً وبعثناهما عناية منا إياهما إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها حيث صيرناها كثير الخير والبركة وذات الأمن واليمن والامان والايمان لِلْعالَمِينَ اى لعموم من ينزل ويئول إليها من اهل الدين والدنيا الا وهي الشأم التي هي منازل الأنبياء والأولياء ومقر السعداء والصلحاء ومهبط الوحى الإلهي لذلك ما بعث بنى الا فيها او في حواليها وما دفن الا فيها او في أطرافها وجوانبها قيل نزل ابراهيم عليه السّلام بعد ما جلا من وطنه بفلسطين من الشأم ولوط بالسدوم وبينهما مسيرة يوم وليلة وَبعد ما قد مكناه في الأرض المقدسة وَهَبْنا لَهُ من رحمتنا تفريحا لقبه من كربة الغربة وتشريحا لصدره من حزنها وكآبتها وتقرير العينية ولديه إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً ليزيل حزنه وكربة غربته بهما قد وهبنا له اسحق اجابة لدعائه بقوله رب هب لي من الصالحين وانما أعطيناه يعقوب نافلة منا إياه وزيادة فضل وعطية تكريما له وامتنانا عليه وَبالجملة كُلًّا منه ومن ولديه قد جَعَلْنا صالِحِينَ للنبوة والرسالة وقبول سرائر التوحيد واسرار الألوهية والربوبية بقلوبهم وَلصلاحهم واستعدادهم لقبول عموم الخيرات قد جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً وقدوة هادين مهديين يَهْدُونَ الناس بِأَمْرِنا ووحينا الى دوال توحيدنا وَبعد ما جعلناهم قدوة هادين أَوْحَيْنا وألهمنا تتميما لهدايتهم وإرشادهم إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ والإتيان باعمال الصالحات وعموم الطاعات والعبادات لتكون وسيلة مقربة لهم الى وحدة ذاتنا وَاوحيناهم خاصة إِقامَ الصَّلاةِ المتضمنة لتوجهم نحو الحق لجميع القوى والحركات والأركان والجوارح وعموم الآلات وَإِيتاءَ الزَّكاةِ المصفية لقلوبهم عما سوى الحق وَهم بمقتضى أمرنا ووحينا إياهم قد كانُوا لَنا خاصة بلا رؤيتهم الوسائل والأسباب العادية في البين عابِدِينَ متذللين متواضعين مخلصين بظواهرهم وبواطنهم وبعموم أفعالهم وحركاتهم وَلُوطاً آتَيْناهُ من كمال فضلنا وجودنا معه حُكْماً قطعا للخصومات وفصلا للخطوب والمهمات وَعِلْماً لدنيا متعلقا بسرائر الأمور ورموزها وإشاراتها الدالة على وحدة الصانع الحكيم وَعلى سرسريان هويته الذاتية على صفائح عموم ما ظهر وبطن ومن كمال فضلنا إياه قد نَجَّيْناهُ مِنَ فتنة الْقَرْيَةِ الَّتِي قد كانَتْ أهلها تَعْمَلُ الْخَبائِثَ والفعال الشنيعة والخصال الخسيسة الخبيثة المذمومة عقلا وشرعا عرفا وعادة المسقطة للمروءة بالمرة الا وهي التعري بين اظهر الناس واللواط والضراط على الملأ وبالجملة إِنَّهُمْ من غاية قسوتهم وغفلتهم كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ مغمورين بين انواع الفسوق منغمسين بأصناف المعاصي والآثام وَبعد ما انتقمنا عنهم

[سورة الأنبياء (21) : آية 76]

وأهلكناهم باشد العذاب قد أَدْخَلْناهُ ومن معه ممن سبقت لهم منا الحسنى فِي حوزة رَحْمَتِنا وكنف حفظنا وجوارنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ لعبادتنا المقبولين في حضرتنا وَقد نجينا ايضا من كمال لطفنا وجودنا نُوحاً وقت إِذْ نادى ودعا متوجها إلينا متضرعا نحونا مِنْ قَبْلُ حين كذبه قومه واستهزؤا معه وضربوه ضربا مؤلما بقوله رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه وانجحنا مطلوبه فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الذي هو الطوفان وَحين اضطروا وأشرفوا على الهلاك ناجانا فزعا فجيعا بقوله يا رب انى مغلوب فانتصر لذلك قد نَصَرْناهُ وجعلناه منتصرا ولقبناه نجيا ناجيا مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وذلك انه حين دعاهم الى الايمان والتوحيد وهداهم الى صراط مستقيم وهم قد امتنعوا عن القبول وبالجملة إِنَّهُمْ من شدة شكيمتهم وغلظ غيظهم مع اهل الحق قد كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ كأنهم مغمورون فيه متخذون منه فَأَغْرَقْناهُمْ لذلك أَجْمَعِينَ تطهيرا للأرض من فسادهم وقلعا لعرق غيهم وعنادهم عنها وَاذكر يا أكمل الرسل في كتابك قصة داوُدَ وَابنه سُلَيْمانَ وقت إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ وزرع القوم إِذْ قد نَفَشَتْ ودخلت فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ الآخر ليلا فأكلته فتنازعا ورفعا الأمر إليهما واستحكما منهما فحكم داود بالغنم على صاحب الزرع بناء على ان صاحب الغنم لا بد له ان يضبط غنمه لئلا يخسر وَقد كُنَّا لِحُكْمِهِمْ اى لحكم داود إياهم اى لأصحاب الزرع بالغنم شاهِدِينَ مطلعين اطلاع شهود وحضور وبعد ما حكم ما حكم وكان ابنه سليمان عليه السّلام حاضرا عنده سامعا حكمه فَفَهَّمْناها اى قد ألهمنا الحكومة الحقة والفتوى المحكمة في هذه القضية سُلَيْمانَ وهو يومئذ ابن احدى عشر سنة فقال الأرفق ان يدفع الغنم الى اصحاب الحرث لينتفعوا من ألبانها وأصوافها والحرث الى اصحاب الغنم ليقوموا بسقيها وحفظها ورعايتها حتى يعود الى الذي كان ثم يترادان ويتدافعان فقال داود سليمان القضاء ما قضيت فرجع عن حكمه وحكم بحكم ابنه وَان كنا كُلًّا منهما قد آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً اى رشدا صوريا ومعنويا حسب قابليتهما واستعدادهما وَكيف لا قد سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ تفضلا منا إياه وتكريما الْجِبالَ الى حيث يُسَبِّحْنَ معه ويقدس الله عما لا يليق بجنابه حين اشتغل داود بتسبيح الله وتقديسه ازديادا لثوابه ورفعا لدرجته وَايضا قد سخرنا له الطَّيْرَ اى الطيور كلها يتفق معه حين اشتغاله بتسبيح الله وتنزيهه وَبالجملة قد كُنَّا به وبأمثاله فاعِلِينَ لخلص عبادنا من الأنبياء والأولياء وكذا لعموم من توجه إلينا من عبادنا فلا تتعجبوا منا أمثال هذا ولا تستبعدوا عن قدرتنا إبداعها واختراعها وَايضا قد عَلَّمْناهُ من مقام جودنا إياه صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ اى الدروع وما يلبس لدفع الضرر حين الحرب والقتال وقد كانت الدروع حينئذ صفائح فحلقها داود وسردها بالهام الله إياه وتعليمه انما علمناه حلقها وسردها لِتُحْصِنَكُمْ وتحفظكم مِنْ بَأْسِكُمْ من جراحات السهام والسنان إذ هو ادفع من الصفائح وأخف منها فَهَلْ أَنْتُمْ ايها المنعمون المتنعمون شاكِرُونَ لوفور نعمنا إياكم وَكذا قد سخرنا من كمال فضلنا ولطفنا لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ مع كونها عاصِفَةً سريعة السير والحركة آبية عن التسخير قد سخرناها له بحيث تَجْرِي بِأَمْرِهِ وحكمه سريعة إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا وكثرنا الخير فِيها لساكنيها وكذا لجميع من يأوى إليها الا وهي

[سورة الأنبياء (21) : آية 82]

ارض الشأم فكان يسير مع جنوده متمكنين على بساط قد كان فرسخا في فرسخ منسوج من الإبريسم قد عملت الجن له حيث شاء ثم يعود من يومه الى منزله وَلا تستبعدوا منا أمثال هذا إذ قد كُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ تعلقت ارادتنا بإيجاده عالِمِينَ بأسباب وجوده وظهوره فنوجده على الوجه الذي نريده ونجريه بمقتضى حكمتنا وقدرتنا وَقد سخرنا لسليمان ايضا مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ البحار ويخرجون منها نفائس اللئالئ والجواهر تتميما لعظمته وتوفيرا لخزانته وَيَعْمَلُونَ له ايضا عَمَلًا دُونَ ذلِكَ الغوص من بناء الابنية الرفيعة والقصور المنيعة واختراع الصنائع الغريبة والهياكل البديعة والتشكيلات العجيبة المبتدعة وَكُنَّا لَهُمْ من قبل سليمان حافِظِينَ مشغلين مشرفين إياهم لا يمكنهم ان يفسدوا في أعمالهم وأشغالهم ويزيغوها بمقتضى اهويتهم وطباعهم وَاذكر يا أكمل الرسل في كتابك هذا أخاك أَيُّوبَ الذي ابتلاه الله بأنواع المحن والبلايا فصبر عليها وازداد ألمه واشتد الأمر عليه فاضطر الى التضرع والتفزع وبث الشكوى الى الله وقت إِذْ نادى رَبَّهُ مشتكيا اليه مناجيا له متضرعا إياه قائلا أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ يا ربي وتنحت عنى أقاربي وذوو أرحامي وجميع رحمائي وَأَنْتَ تبقى على رحيما مشفقا لأنك أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأدركني بلطفك إذ لا طاقة لي ولا صبر بعد اليوم وقد بلغ الجهد غايته فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه فَكَشَفْنا عنه ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ مؤلم مزعج وَبعد ما قد شفيناه وأزلنا عنه مرضه وعموما ما يؤذيه قد آتَيْناهُ أَهْلَهُ وأحيينا الذين هلكوا بسقوط البيت عليهم من أولاده وأعطينا له بدل أمواله التي قد تلفت بالحوادث والنوائب وَقد زدنا عليه تفضلا وامتنانا مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا إياه وزيادة العام واحسان منا عليه وَليكون ما فعلنا به وأعطينا إياه ذِكْرى تذكرة وحنا لِلْعابِدِينَ الذين صبروا على مشاق التكاليف ومتاعب الطاعات والعبادات ليفوزوا بأفضل المثوبات وأكرم الكرامات وَاذكر يا أكمل الرسل في كتابك الجامع جدك إِسْماعِيلَ ذا الصبر والرضاء بعموم ما جرى عليه من القضاء وَاذكر ايضا إِدْرِيسَ صاحب دراسة الحكمة المتقنة وانواع المعارف والحقائق وَاذكر ذَا الْكِفْلِ المتكفل بعبادة الله في عموم أوقاته وحالاته بحيث لا يشغله شاغل مطلقا عن توجهه ورجوعه نحو الحق قيل هو الياس وقيل يوشع بن نون وقيل نبي آخر مسمى به لأنه كان يتكفل صيام ايام حياته وبالجملة قد كان كُلٌّ من هؤلاء السعداء المقبولين المذكورين مِنَ الصَّابِرِينَ بقضاء الله ونزول بلائه كما انهم كانوا شاكرين لآلائه ونعمائه وَلذلك قد أَدْخَلْناهُمْ فِي سعة رَحْمَتِنا امتنانا عليهم إِنَّهُمْ في أنفسهم مِنَ الصَّالِحِينَ لنبوتنا وخلافتنا المصلحين أعمالهم وأقوالهم وعقائدهم وأحوالهم ومن الواصلين الى درجات القرب واليقين وَاذكر يا أكمل الرسل أخاك ذَا النُّونِ صاحب الحوت وهو يونس بن متى عليه السّلام وقت إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً على قومه مراغما لهم حين وعظهم فلم يتعظوا فشق عليه الأمر فغضب عليهم فلم يكظم غيظه فدعا بنزول العذاب عليهم وبعد ما ظهر اماراته خرج من بينهم تفريجا لغضبه وتوسيعا لصدره فَظَنَّ بخروجه من بينهم أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وعلى تضييقه وتغميمه ولا يمكننا حبسه في مكان آخر فهرب من بينهم ولقى البحر فركب على السفينة فسكنت الريح فقال البحارون ان فيها عبدا آبقا فاقترعوا فخرجت القرعة باسمه فالقى نفسه في البحر فالتقمه الحوت على الفور فَنادى وناجى صريخا صريعا ضريعا فجيعا مغمورا فِي الظُّلُماتِ التي قد تراكمت عليه إذ هو في بطن

[سورة الأنبياء (21) : آية 88]

الحوت والحوت في الماء وكان الليل مظلما أَنْ اى انه لا إِلهَ يعبد بالحق ويستحق للعبادة استحقاقا ذاتيا ووصفيا إِلَّا أَنْتَ يا من خضعت لك الرقاب وانتكست دون سرادقات جلالك أعناق ذوى النهى والألباب سُبْحانَكَ ربي انزهك عن جميع ما لا يليق بشأنك ولا ينبغي بجنابك إِنِّي بواسطة خروجي من بين قومي بغير اذنك ووحيك الى مع انك قد أرسلتني إليهم وبعثتني أنت بفضلك بين أظهرهم نبيا ذا دعوة وهداية قد كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى حكمك وأمرك لذلك ضيقت الأمر على يا ربي وحبستني في محبس مضيق وسجن عميق ولا مخلص لي عن هذا المضيق سوى عفوك وكرمك يا ربي وبعد ما تاب إلينا قادما ورجع نحونا مخلصا متضرعا واستخلص منا مضطربا مضطرا فَاسْتَجَبْنا لَهُ وأجبنا دعاءه فاخرجناه من بطن الحوت وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ العظيم والكرب الكبير وَكَذلِكَ نُنْجِي عموم الْمُؤْمِنِينَ المخلصين الذين قد أخلصوا في انابتهم ورجوعهم نحونا من عموم كروبهم واحزانهم وَاذكر ايضا يا أكمل الرسل أخاك زَكَرِيَّا الذي قد بلغ من الكبر والهرم الى حيث قد ايس عن من استخلفه من نطفته وقنط عن من يقوم مقامه من نسله فشكى الى الله وقت إِذْ نادى رَبَّهُ متمنيا متحسرا مفاجعا آيسا رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم الى ان كبرت وأشرفت اركان جسمي الى الانهدام وأجزاء جسدي الى الانحلال والانخرام لا تَذَرْنِي فَرْداً مقطوع الفرع منسى الذكر بلا ولد يخلفني ويرث عنى ويحيى اسمى من بعدي وَان جرى حكمك على هذا ومضى قضاؤك على ذا هكذا فلا أبالي به إذ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ وأكرم المستخلفين وبعد ما تضرع وتمنى ما تمنى وتضرع فَاسْتَجَبْنا لَهُ عناية منا إياه وفضلا وَوَهَبْنا لَهُ من كمال جودنا يَحْيى المحيي لاسمه وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ بل نفسه بعد ما افسدهما الدهر وأخرجهما من قابلية الولادة والإيلاد وصيرنا زوجته شابة ولودا بعد ما قد كانت عجوزا عقيما إظهارا لكمال قدرتنا ووفور حولنا وقوتنا وانما فعلنا بالأنبياء المذكورين بما فعلنا بهم من كمال اللطف والكرم ومحض الفضل والإحسان إِنَّهُمْ من كمال توجههم وتحننهم نحونا قد كانُوا في عموم أوقاتهم وحالاتهم يُسارِعُونَ ويبادرون فِي الْخَيْراتِ ويسابقون الى الطاعات المقبولة عندنا وَمع ذلك يَدْعُونَنا في مناجاتهم بنا وفي خلواتهم معنا رَغَباً وَرَهَباً راغبين إلينا راجين منا عفونا وغفراننا راهبين عنا خائفين من صولة سطوة قهرنا وغضبنا وَبالجملة هم في عموم أحوالهم قد كانُوا لَنا خاشِعِينَ متذللين مخبتين ولذا نالوا ما نالوا بسبب خصائلهم هذه من جزيل العطاء والفوز بشرف اللقاء والبقاء بعد الفناء وَاذكر في كتابك يا أكمل الرسل أختك العفيفة مريم عليها السّلام الَّتِي قد أَحْصَنَتْ وحفظت فَرْجَها من الحلال والحرام وصبرت على مشقة العزوبة بلا ميل منها ولا داعية الى الشهوة تقربا الى الله مع تحمل انواع المتاعب والمشاق في طريق توحيده وبعد ما قد بالغت في الحصن والمحافظة وبلغت في العفة غايتها فَنَفَخْنا فِيها أمرنا حامل روحنا يعنى جبرائيل عليه السّلام بان ينفخ في جيبها مِنْ رُوحِنا فنفخ فسرى الى جوفها فحبلت بعيسى عليه السّلام وَبعد ما وضعت حملها قد جَعَلْناها اى مريم وَابْنَها عيسى آيَةً عجيبة غريبة دالة على كمال قدرتنا وحكمتنا خارقة للعادة وهي إيجاد الولد بلا أب وايلاد المرأة بلا لمس فحل فصار هذا كرامة وإرهاصا لمريم ومعجزة لعيسى عليهما السّلام وعبرة لِلْعالَمِينَ من حسن حالهما ورفعة رتبتهما وعلو شأنهما قال سبحانه مخاطبا

[سورة الأنبياء (21) : آية 93]

لجماهير الأنبياء والرسل وأممهم إِنَّ هذِهِ الملة التي هي ملة الإسلام وطريق التوحيد والعرفان أُمَّتُكُمْ اى قدوتكم وقبلتكم وقصارى أمركم والحكمة في جبلتكم وخلقكم ما كانت الا أُمَّةً واحِدَةً بحيث لا تعدد فيها أصلا وَأَنَا رَبُّكُمْ الواحد الأحد الفرد الصمد فَاعْبُدُونِ ايها الاظلال المنعكسة من أسمائي وأوصافي وتوجهوا نحوي بغاية التذلل والخضوع ونهاية الانكسار والخشوع وَبعد ما قد كانوا اى العكوس والاظلال في اصل فطرتهم امة واحدة منتشئة من شئون الوجود وتطوراته الغير المحدودة بلا اختلاف فيهم أصلا تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ اى امر دينهم قطعا قطعا وتحزبوا أحزابا وفرقا متفاوتة حسب تفاوت استعداداتهم المترتبة على الأسماء الذاتية المتقابلة والشئون المتفاوتة والتجليات المتخالفة الإلهية فوقع النزاع بَيْنَهُمْ فاختلفوا اختلافا كثيرا على سبيل المراء والمجادلة وبالجملة لا تبال بهم وباختلافهم وتحزبهم إذ كُلٌّ منهم إِلَيْنا راجِعُونَ رجوع الأمواج الى البحر والاظلال الى الأضواء وبعد ما اختلفوا وتعددوا فَمَنْ يَعْمَلْ منهم مِنَ الصَّالِحاتِ المرضية لنا المقبولة عندنا وَهُوَ مُؤْمِنٌ موقن بتوحيدنا مصدق لرسلنا وكتبنا فَلا كُفْرانَ ولا تضييع منا لِسَعْيِهِ الذي قد سعى في طريقنا طلبا لمرضاتنا بل وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ حافظون حارسون عموم ما صدر عنه من الخيرات الموجبة للمثوبات ورفع الدرجات فنعطيه ما استحق له من الثواب بلا فوت شيء منها وَاعلموا ان حفظنا وحراستنا حَرامٌ ممنوع منا محرم من عندنا عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها اى أهلها قهرا منا وغضبا إياهم بسبب أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ولا يتوجهون إلينا ولا يؤمنون بتوحيدنا ولا يصدقون بكتبنا ورسلنا بل يكذبون الكل وينكرون له وهكذا يتمادى حرمتنا ومنعنا إياهم الى ان قد ظهرت اشراط الساعة ولاحت إماراتها حَتَّى إِذا فُتِحَتْ وفتقت يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ اى سدهما الذي قد سد بينهما وبين سائر الناس وَهُمْ بعد فتح السد ورفع المانع من شدة عداوتهم مع الناس وحرصهم على تخريب البلاد مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وتلال وجبال يَنْسِلُونَ ويسرعون الى الناس كالذباب الجوع وَبعد ما اقْتَرَبَ ودنا الْوَعْدُ الْحَقُّ والموعود المحقق الذي هو فتح السد وخروجهما من جملة أشراطه وعلاماته وقامت القيمة فَإِذا هِيَ اى الحالة والقصة حينئذ انها شاخِصَةٌ حائرة مدهوشة مضطربة أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا في النشأة الاولى بالله وكذبوا هذا اليوم الموعود لهم فيقولون يومئذ متمنين متحسرين خائبين يا وَيْلَنا وهلاكنا تعال فالآن وقت حلولك قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ عظيمة مِنْ مجيء هذا اليوم في نشأتنا الاولى بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ خارجين عن مقتضى الحكم الإلهي منكرين لهذا اليوم سيما بعد اخبار الرسل وإنزال الكتب ثم خاطب سبحانه الكافرين الذين قد أشركوا بالله مع انه سبحانه لم ينزل عليهم سلطانا خطابا عاما شاملا للعابدين ومعبوداتهم فقال إِنَّكُمْ ايها المشركون الجاهلون بقدر الله وعلو شأنه وَعموم ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الاظلال والتماثيل التي قد اتخذتموهم آلهة وادعيتم استحقاقهم للعبادة والإطاعة أنتم وآلهتكم كلكم جميعا حَصَبُ جَهَنَّمَ وحطبها ووقودها أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ ورود الانعام في الأودية والاغوار بزجر تام وعنف مفرط لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً كما زعمتم واعتقدتم ايها الحمقى العمى الظالمون ما وَرَدُوها لا أنتم إذ آلهتكم ينقذونكم منها البتة ولا هم أنفسهم لأنهم آلهة والإله لا يدخل النار لكن تردون أنتم وهم جميعا عابدا ومعبودا تابعا ومتبوعا فظهر انهم ما كانوا آلهة بل عبادا أمثالكم

[سورة الأنبياء (21) : آية 100]

وَكُلٌّ منكم ومنهم بشؤم ما اقترفتم فِيها خالِدُونَ مخلدون معذبون دائما لَهُمْ فِيها اى لأهل النار في النار زَفِيرٌ تنفيس شديد وأنين طويل وَهُمْ فِيها من شدة الأهوال والافزاع لا يَسْمَعُونَ اى لا يسمع كل منهم أنين الآخر وحنينه من شدة فزعه وهوله. ثم لما نزل هذه الآية اعترض ابن الزبعرى بان عزيرا وعيسى والملائكة من المعبودين فهم ايضا في النار مع انهم من الأنبياء والملك وهم محفوظون منها على زعمكم نزل بعده إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ عناية مِنَّا الخصلة الْحُسْنى والمنزلة السنيا والدرجة العليا والجنة المأوى أُولئِكَ السعداء المخصوصون بمزيد لطفنا وجودنا عَنْها اى عن النار مُبْعَدُونَ لسبق رحمتنا إياهم وعفونا عنهم بحيث لا يَسْمَعُونَ من غاية البعد منها حَسِيسَها اى صوتها الخفى كدوي النحل مع ان أهلها يصرخون فيها ويفزعون في غاية الشدة ولا يصل إليهم لغاية بعدهم عنها وَهُمْ كيف يسمعون حسيس النار مع انهم مترفون متنعمون في الجنة فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من اللذات الروحانية والمشتهيات النفسانية عناية من الله إياهم خالِدُونَ دائمون مستمرون فيها بلا طريان ضد وعروض منافر وكيف يسمعون ويحزنون أولئك الآمنون من حسيس النار مع انهم من فرط فرحهم وسرورهم بحيث لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وهو وقت النفخة الاخيرة في الصور مع انها في نهاية الهول وغاية الفظاعة وإذا لم يشوشهم تلك الهائلة الفظيعة العامة فكيف الحسيس وَبعد دخولهم في الجنة الموعودة لهم تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ مسلمين مرحبين مهنئين إياهم قائلين لهم هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي قد كُنْتُمْ تُوعَدُونَ به في نشأتكم الاولى ايها المؤمنون الآمنون الفائزون فأنتم فيها قد كنتم تؤمنون بها فالآن قد نلتم بما آمنتم وفزتم بما أرسلتم اذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ نَطْوِي ونلف السَّماءَ المبسوطة المنشورة كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ اى طيا مثل طي الصحيفة الحافظة الحارسة للمكتوب فيها يعنى نلفها لفا بعد ما قد نشرناها نشرا بحيث لا يبقى لها اسم ولا رسم إذ طي الكتاب كناية عن نسيان الشيء واعدامه وعدم تذكره بالمرة وبالجملة كَما بَدَأْنا وأبدعنا العالم أَوَّلَ خَلْقٍ وإيجاد من العدم بلا سبق مادة ومدة نُعِيدُهُ عليه كذلك بحيث صار كان لم يكن موجودا أصلا وقد كان اعدامه كذلك وَعْداً صادرا منا لازما عَلَيْنا إنجازه إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ذلك الموعود المعهود من لدنا البتة انجازا وإيفاء وَكيف لا نفنيه ولا نعدمه مع انا لَقَدْ كَتَبْنا وأثبتنا فِي الزَّبُورِ اى في عموم الزبر والكتب المنزلة من لدنا مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ اى بعد الحضور والثبوت في حضرة علمنا المحيط ولوح قضائنا المبرم أَنَّ الْأَرْضَ اى ارض الجنة المعدة لأهل المحبة والولاء ومستقر ارباب العناية والبقاء. اعلم ان لكل نفس من النفوس البشرية ارض معدة في فضاء الجنة انما وصلوا إليها بالإيمان والأعمال الصالحة المقربة لهم في الحق فمتى لم يتصفوا بالإيمان والمعارف والتوحيد لم يصلوا إليها وإذا لم يصلوا إليها بسبب كفرهم وظلمهم يَرِثُها من الكفار أماكنهم المعدة لهم فيها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ المقبولون عندنا المتصفون بشعائر التوحيد والايمان العارفون بمعالم الدين ومسالك العرفان المرضيون الراضون بعموم ما جرى عليهم من قضائنا مزيدا على حصصهم التي قد كانت لهم فيها إِنَّ فِي هذا اى ما ذكر في القرآن من المواعظ والتذكيرات والرموز والإشارات لَبَلاغاً وتبليغا بليغا الى أقصى مراتب التوحيد لِقَوْمٍ عابِدِينَ عارفين بمسالك اليقين واماراته وَلما كان هذا الكتاب هاديا لعموم البرايا الى أعلى مدارج التوحيد لذلك ما أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل

[سورة الأنبياء (21) : آية 108]

المستخلف عنا المتخلق باخلاقنا المظهر للتوحيد الذاتي إِلَّا رَحْمَةً اى ذا رحمة شاملة وعطف عام لِلْعالَمِينَ اى لعموم من في العالم الى انقراض الدنيا إذ لا بعث بعدك ولا دين بعد دينك بل أنت مكمل دائرة النبوة والرسالة ومتمم مكارم الأخلاق ودينك ناسخ لعموم الأديان فلا بد لجميع اهل الملل والنحل ان يتدينوا بدينك كي يصلوا الى ما قد جبلهم الحق لأجله الا وهو التوحيد والمعرفة وبعد ما قد صرت خاتم النبوة والرسالة وصار دينك ناسخا لعموم الأديان قُلْ لقاطبة الأنام على سبيل الدعوة العامة والتبليغ التام إِنَّما يُوحى إِلَيَّ من ربي بعد ما جعلني مبعوثا الى عموم عباده أَنَّما إِلهُكُمْ ايها الواصلون الى مرتبة التكليف إِلهٌ واحِدٌ احد صمد فرد وتر لا يقبل التعدد مطلقا ولا يعرضه نقصان أصلا ولا يشغله شأن عن شأن بل كل يوم وآن هو في شأن من شئون الكمال لا كشأن سابق ولا لاحق فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ منقادون له مسلمون وحدته مخلصون في أطاعته وانقياده ايها العابدون فَإِنْ تَوَلَّوْا واعرضوا عن التوحيد بعد تبليغك إياهم قصارى أمرهم في دينهم فَقُلْ لهم يا أكمل الرسل قد آذَنْتُكُمْ وأعلمتكم باذن الله وهديتكم حسب وحيه سبحانه عَلى سَواءٍ اى على طريق سوى وصراط مستقيم موصل الى توحيد الحق ومعرفته وان انحرفتم عن جادة التوحيد وانصرفتم بما اقترفتم عن مسالكه فقد استوجبتم المقت والعذاب البتة وَإِنْ أَدْرِي وما اعلمه انا وما أدرك أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ نزول ما تُوعَدُونَ من العذاب والنكال وبعد ما تحقق نزوله وتقرر وقوعه باخبار الله والهامه على لا تغتروا بامهاله إياكم ولا تظنوه عن غفلته عنكم تعالى عن ذلك كيف يعرض له سبحانه الغفلة والذهول إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ منكم اى الذين يجهرون ويعلنون به مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ايضا منكم ما تَكْتُمُونَ وتخفون في نفوسكم من خواطركم واسراركم وَإِنْ أَدْرِي وما اعلم ايضا لَعَلَّهُ اى لعل امهاله سبحانه إياكم وتأخيره العذاب عنكم فِتْنَةٌ منه سبحانه واختبار لَكُمْ هل تتفطنون الى توحيده أم لا سيما بعد ورود اصناف المنبهات وانواع الروادع والزواجر البليغة عما ينافيه ويخالفه وَما ادرى ايضا لعل امهاله إياكم مَتاعٌ وتمتيع لكم إِلى حِينٍ لتزدادوا فيه إثما كبيرا ومعصية كثيرة تستجلبوا بها أعظم العقوبات وتستحقوا بسببها أشد العذاب والنكبات. ثم لما تمادى النزاع بين اهل مكة والرسول صلّى الله عليه وسلّم وتكثرت الوقائع والحادثات امر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالاستعانة منه والتفويض اليه بقوله قالَ يا أكمل الرسل بعد ما قد أصروا على إنكارك ملتجأ إلينا مناجيا معنا دعاء عليهم رَبِّ يا من رباني بكرامة الرسالة والتبليغ والإرشاد والتشريع احْكُمْ بِالْحَقِّ الصريح الصحيح المقرر الواقع عندك بيني وبين هؤلاء المعاندين معى وأنت تعلم انهم لا ينزجرون الا بنزول العذاب الموعود عليهم انزل بمقتضى قهرك وجلالك عليهم ما ينزجرون به من العذاب وَبالجملة رَبُّنَا وان كان هو الرَّحْمنُ الذي قد وسعت رحمته كل شيء حتى الكافر الشقي النافى له سبحانه لكنه هو الْمُسْتَعانُ والمعين المنان والناصر الديان لأهل المعرفة والايمان القادر المقتدر عَلى ازالة ما تَصِفُونَ الله به ايها المعاندون المفرطون مما لا يليق بشأنه ولا ينبغي بجنابه وبالجملة أولئك المشركون هم الهالكون في تيه الجحود والعدوان المنهمكون في بحر الضلال والكفران

خاتمة سورة الأنبياء عليهم السلام

خاتمة سورة الأنبياء عليهم السّلام عليك ايها الطالب القاصد لاقتصاد الأحوال واعتدال الأفعال والأقوال ان تستعين بالله في كل ما صدر عنك وجرى عليك وتسنده الى الله سبحانه بلا رؤية الوسائل في البين وتتخذه وكيلا وتفوض عموم أمورك في جميع شئونك واطوارك اليه سبحانه إذ هي له اصالة وان صدر عنك صورة إذ لا وجود لك في ذلك فكيف ما يترتب عليه من الأفعال والآثار وبالجملة فلك ان تميت نفسك عن عموم ما عداك وبعثك اليه امارة نفسك وشيطان وهمك وخيالك إذ هي مضلتك ومغويتك تبعدك عما يعينك وتغريك الى ما لا يعنيك وترديك فلك ان تميز بين تسويلات الهوى وأماني النفس الملهية عن المولى وبين آيات الهدى وعلامات التقى الموصلة الى الدرجات العلى والفوز بشرف اللقاء وان شئت ان تخلص نفسك من جنود الهوى وعساكر الغفلات من الأوهام والخيالات فاعتزل عن اظهر الناس وابعد عن ملأهم واحذر عن مخالطتهم ومصاحبتهم واتخذ لنفسك خلوة تنجيك عن عموم ما يغويك ويؤذيك إذ المرء ما يذوق حلاوة الوحدة ولذة التوحيد الا في الوحدة والعزلة والفرار عن الخلطة سيما في هذا الزمان الذي قد غلب فيه النفاق وكثر الخلاف والشقاق. ربنا هب لنا من لدنك جذبة تنجينا من لذات الدنيا ومشتهياتها وانسابك يخلصنا عن موانسة غيرك انك على عموم ما تشاء قدير وإنجاح آمال المؤملين جدير [سورة الحج] فاتحة سورة الحج لا يخفى على الموحدين المشمرين أذيال هممهم للتوجه الى كعبة الذات والوقوف عند عرفات الأسماء والصفات والطواف حول البيت الحرام المشتمل على جميع الأركان والمقامات الجامعة لجميع الابعاد والجهات ان الحج الحقيقي والطواف المعنوي الأصلي انما هو بالانخلاع عن لوازم الصور الجسمانية وكذا عن مقتضيات الهياكل الهيولانية بالموت الإرادي والفناء الاختياري المنبعث عن الشوق المفرط نحو الحق المنزه عن تراكم الإضافات المؤدية الى التعدد والكثرات ولهذا قد وضع سبحانه للسالكين القاصدين نحو قبلة الذات مقصدا مخصوصا وعين لهم وجهة معينة وأمرهم بالتوجه إليها والوقوف عندها والطواف حولها من كل فج عميق ومرمى سحيق الا وهي اودية الإمكان وبوادي التعينات واغوار اللذات والشهوات الوهمية البهيمية متزودين زاد التقوى راكبين على مطايا التوفيق متقربين الى الله بذبح كبائش انانياتهم وأنفسهم متكفئين محرمين لابسين. لباس الموت الاضطراري منسلخين عن لوازم الحيوة المستعارة الصورية المبطلين عموم القوى والآلات عن مقتضياتها محرمين على نفوسهم جميع المشتهيات النفسانية الناشئة من الشهوية والغضبية بحيث لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ثم أمرهم بوقوف عرفات المعرفة لهم سرائر الأسماء والصفات ليتأتى لهم الطواف حول كعبة الذات إذ لا سبيل إليها الا من طرق الأسماء والصفات التي هي العرفات والمعرفات حقيقة ثم لما كان الطواف الحقيقي والحج المعنوي مسبوقا برفع جميع التعينات ونفى مطلق الإضافات والكثرات ولا يتم هذا على الوجه الأتم الأكمل الا في النشأة الاخرى والطامة الكبرى حذرهم سبحانه عنها أولا ليتهيأوا لها ويتزودوا بزاد يناسبها فقال مناديا لهم على سبيل التذكير متيمنا باسمه العلى الكبير بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور عباده بأحسن التدبير الرَّحْمنِ عليهم بحفظهم

الآيات

عن الخطر ويعطيهم الخير الكثير الرَّحِيمِ لهم يسهل عليهم كل عسير [الآيات] يا أَيُّهَا النَّاسُ الناسبون للعهود والمواثيق الإلهية اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذي رباكم بأنواع الكرامات وبجلائل النعم واصناف اللذات والشهوات واجتنبوا عما نهاكم سبحانه عنه من المكاره والمعاصي وعموم المنكرات ولا تغتروا بامهاله إياكم في نشأتكم هذه واحذروا عن بطشه في النشأة الاخرى عند قيام الساعة إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ المعدة لانقهار النظام المشاهد وانحلال أجزاء العالم المحسوس شَيْءٌ عَظِيمٌ وامر فظيع هائل فجيع بحيث تضعضعت السموات من هيبتها واندكت الأرضون من شدة صولتها اذكر ايها المعتبر الرائي نبذا من أهوالها وافزاعها يَوْمَ تَرَوْنَها اى تلك الزلزلة الشديدة المهيبة بحيث تَذْهَلُ اى تدهش وتغفل من غاية دهشتها وحيرتها كُلُّ مُرْضِعَةٍ مشفقة متحننة عَمَّا أَرْضَعَتْ اى ولدها الرضيع مع كمال محبتها ومودتها إياه وَايضا تَضَعُ عند حدوثها من شدة فزعها وهولها كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ وحبل حَمْلَها وجنينها وَبالجملة تَرَى ايها الرائي النَّاسَ اى عموم الأنام عند حدوثها سُكارى حيارى مدهوشين زائلة عقولهم من شدة الهول وَما هُمْ بِسُكارى حقيقة وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ النازل إياهم في تلك الحالة شَدِيدٌ مدهش محير لعقولهم وأبصارهم وجميع قواهم ومشاعرهم وَكيف لا يكون لله المنتقم القهار الجبار ذي القدرة الكاملة والغيرة التامة العذاب والنكال في النشأة الاخرى سيما على من يسئ الأدب معه وينسب اليه سبحانه ما لا يليق بشأنه وينكر يوم البعث والجزاء مع ورود الآيات العظام من لدنه سبحانه في شأنه إذ مِنَ النَّاسِ المجبولين على المراء والجدال مَنْ يُجادِلُ يمارى ويخاصم داعي الله ورسوله سيما فِي حق اللَّهِ ويبالغ فيه حيث ينفى ذاته سبحانه وعموم صفاته الذاتية الكاملة مع ان نفيه قد صدر عنه جهلا بِغَيْرِ عِلْمٍ دليل عقلي يتشبث به او نقلي يستند اليه بل انما هو ناش من جهل وعناد وَغاية مستنده ومتشبثه انه يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مضل مغو مَرِيدٍ غال مستمر في الشرارة والفساد بين العباد لذلك كُتِبَ ونص عَلَيْهِ اى على الشيطان الطريد المريد المردود المطرود من لدنه سبحانه أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ اى الشيطان واتخذه وليا من دون الله واقتدى له واقتفى اثره فَأَنَّهُ اى الشيطان باغوائه واغرائه إياه يُضِلُّهُ ويصرفه عن سواء السبيل الذي هو طريق الايمان والتوحيد وَيَهْدِيهِ بمقتضى تلبيسه وتغريره إِلى عَذابِ السَّعِيرِ والله لبئس المولى ولبئس النصير يا أَيُّهَا النَّاسُ المنهمكون في الغفلة والنسيان المنغمسون بلوازم الحدوث والإمكان المفضية الى انواع العصيان والطغيان إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ شك وتردد مِنَ امر الْبَعْثِ وإمكان وقوعه ومن قدرتنا على اعادة المعدوم فارجعوا الى وجدانكم وتأملوا في ابداعنا نفوسكم من كتم العدم أولا بلا سبق الهيولى والزمان حتى يزول ريبكم ويرتفع شككم فَإِنَّا قد خَلَقْناكُمْ وقدرنا وجودكم مِنْ تُرابٍ جماد ولا مناسبة بينكم وبينه أصلا إذ هو اصل النطفة ومادة المنى إذ المنى انما يحصل من الاغذية المتكونة من التراب ثُمَّ قدرناكم ثانيا مِنْ نُطْفَةٍ مصبوبة في الأرحام حاصلة من أجزاء الاغذية ثُمَّ صورناكم مِنْ عَلَقَةٍ اى دم منعقد من المنى المصبوب في الرحم ثُمَّ عينا اركان اجسامكم مِنْ مُضْغَةٍ اى لحم متكون من الدم المنعقد مُخَلَّقَةٍ كاملة الخلقة سوية الاجزاء بلا عيب ولا نقصان قابلة الفطرة للمعرفة والهداية والرشد التام وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ناقصة الخلقة معيبة الاجزاء والأركان منحطة عن درجة

[سورة الحج (22) : آية 6]

الكمال كل تلك التبديلات والتغييرات منا دليل على كمال قدرتنا وارادتنا ووثوق حكمتنا وتدبيراتنا واختيارنا فيها انما أظهرناها لِنُبَيِّنَ ونظهر لَكُمْ كمال قدرتنا المتعلقة على جميع المقدورات المحققة والمقدرة على السوية بلا فتور وقصور وَبالجملة نُقِرُّ ونثبت فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ من الولد على اى وجه نريد ثبوته ذكرا او أنثى مبدلين ومغيرين من صورة الى اخرى مرارا كثيرة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقت معين قد سميناه وعيناه في حضرة علمنا المحيط لتسويته وتعديله وبعد ما سوينا وعدلنا اركان جسمه على الوجه الذي تقتضيه حكمتنا قد نفخنا فيه من روحنا اى نفخنا الروح فيه علة غائية متقدمة على إيجاده وإظهاره وان كانت متأخرة وجودا وصورة ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ اى كلا منكم من بطون أمهاتكم طِفْلًا محتاجا الى الرضاعة والحضانة وانواع المحافظة ثُمَّ نربيكم بأنواع التربية والتغذية ونقوى امزجتكم ومشاعركم على التدريج كل ذلك لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ اى كمال رشدكم وقوتكم الجسمانية وتثمروا من المعارف والحقائق ما قد جبلتم لأجلها ان وفقتم من لدنا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى بعد ما بلغ أشده ورشده او قبل بلوغه وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وهو سن الكهولة والهرم المستلزم للخرافة ونقصان العقل وضعف القوى والآلات لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ متعلق منه بمعلوم مخصوص شَيْئاً من امارات ذلك المعلوم بل قد صار ذلك المعلوم عنده كأن لم يلتفت اليه قط لغلبة الغفلة والنسيان عليه وسقوط الحفظ والإدراك عنه كل ذلك انما هو لإظهار قدرتنا الكاملة وارادتنا التامة الشاملة واختيارنا الغالب وَلا تعجب من كمال قدرتنا ومتانة صنعتنا وحكمتنا أمثال هذا تَرَى ايها الرائي الْأَرْضَ الممهدة المبسوطة كيف كانت هامِدَةً يابسة ميتة جامدة خامدة بعيدة عن الرطوبة والخضرة مطلقا كالرماد فَإِذا أَنْزَلْنا وقت تعلق قدرتنا وارادتنا باحيائها ونضارتها عَلَيْهَا الْماءَ المشتمل على خاصية الحيوة اهْتَزَّتْ وتحركت اهتزازا شوقيا وتحركا حبيا حضوريا وَرَبَتْ وارتفعت من حضيض الخمود وغورا لجمود طالبا الخروج الى ذروة فضاء الهوى والوصال والعروج الى غاية ما قد اعدله من أوج الكمال وَبعد حركتها وارتفاعها متشوقة أَنْبَتَتْ وأظهرت باقدارنا إياها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ نوع وصنف مما يخرج من الأرض بَهِيجٍ رائق عجيب بديع وهذا من أوضح الدلائل وأوثق البراهين عند ذوى النهى واليقين على وقوع البعث واعادة المعدوم وجميع المعتقدات الاخروية ذلِكَ اى المذكورات من إيجاد المقدورات التي تستبعدها العقول السخيفة والأحلام الردية الضعيفة بِأَنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء هُوَ الْحَقُّ الثابت المحقق المقصور على الحقية والثبوت لا متحقق في الوجود سواه ولا معبود يعبد بالحق الا هو وَأَنَّهُ سبحانه بخصوصه حسب انفراده واستقلاله هو الحي القيوم المحيي يُحْيِ الْمَوْتى بالإرادة والاختيار وَأَنَّهُ بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته هو القادر المقتدر بكمال الاستقلال والاستحقاق عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل تحت قدرته وحيطة حضرة علمه المحيط وارادته الشاملة قَدِيرٌ بلا فتور ولا قصور ولا تزلزل ولا عثور وَأَنَّ السَّاعَةَ الموعودة من عنده سبحانه آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها إذ هي من جملة المقدورات الإلهية التي قد قدر سبحانه وجودها وأثبتها في لوح قضائه وحضرة علمه المحيط وَأَنَّ اللَّهَ المتصرف بالاستقلال والاختيار يَبْعَثُ وينشر يوم الحشر عموم مَنْ فِي الْقُبُورِ من النفوس الخيرة والشريرة ثم يحاسبهم ويجازيهم على مقتضى حسابه إياهم ان خيرا فخير وان شرا فشر وَمِنَ النَّاسِ

[سورة الحج (22) : آية 9]

المجبولين على الكفران والنسيان مَنْ يُجادِلُ ويكابر فِي أوامر اللَّهِ وينكر مقدوراته الماضية والآتية مع انه قد صدر عنه هذا الإنكار بِغَيْرِ عِلْمٍ اى دليل عقلي مسبوق بترتيب المعلومات اليقينية او الظنية وَلا هُدىً اى حدس وكشف ملهم من عند الله ملقى في روعه وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ دليل نقلي منسوب الى الوحى والإلهام بحيث ينور ويضئ قلوب من صدق به وأخذ بما فيه وامتثل بمقتضاه ايمانا واحتسابا ومع انه ليس له سند لا عقلي ولا كشفى ولا شهودي هو معرض عن مطلق الدلائل والشواهد اللائحة مع وضوحها وظهورها صارف عنان فكره وعزمه عن التأمل فيها وبالجملة يجادل في الله حال كونه ثانِيَ عِطْفِهِ يعنى لاويا عنقه موليا جنبيه طاويا كشحه عنها كبرا وخيلاء على اصحاب الدلائل والبراهين وارباب الكشف والشهود وعتوا واستكبارا وانما فعل ما فعل من عدم الالتفات والتوجه نحو اهل الحق لِيُضِلَّ بفعله هذا ضعفاء الأنام عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي قد بينه الأنبياء العظام وأوضحه الرسل الكرام عليهم التحية والسّلام بوحي الله والهامه إليهم وبانزال الكتب والصحف عليهم وبالجملة لَهُ اى لهذا المستكبر العاتي بسبب ضلاله وإضلاله فِي الدُّنْيا خِزْيٌ هوان وهون وطرد ولعن وأسر ونهب وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ بعد انقراض النشأة الاولى عَذابَ الْحَرِيقِ المحرق الذي هو النار لا عذاب أشد منها وحين تعذيب الموكلين عليه بالنار قد أمرنا لهم ان يقولوا له على سبيل التقريع والتوبيخ زجرا عليه ذلِكَ الذي قد لحقك الآن ونزل عليك من العذاب المخلد بِما قَدَّمَتْ وكسبت يَداكَ في النشأة الاولى وعلى مقدار ما اقترفته من المعاصي والآثام بلا زيادة عليها عدلا منا إياك وَاعلم ايها المسرف المبالغ في اقتراف الجرائم المستوجبة للعذاب أَنَّ اللَّهَ المتصف بالعدل القويم لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ يعنى ليس بمبالغ في جزاء الانتقام عن مقدار الجرائم والآثام مثل مبالغته في جزاء الانعام والإحسان تفضلا وامتنانا وَمِنَ النَّاسِ المجبولين على نسيان المنعم وكفران نعمه مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ المنزه المستغنى عن إيمانه وسعادته وعن كفره وشقاوته عَلى حَرْفٍ اى شاكا مترددا منتظرا على حرف منصرفا منحرفا بلا جزم منه فيه وطمأنينة كالذي يتمكن يوم الوغاء على طرف الجيش مترددا منتظرا ان أحس الظفر قر في مكانه وتمكن وإلا فر كذلك حال هذا المؤمن المتزلزل المتذبذب فَإِنْ أَصابَهُ بعد ما آمن واسلم خَيْرٌ اى شيء يسره ويفرحه اطْمَأَنَّ بِهِ وتمكن لأجله متفئلا بالإسلام والايمان وَإِنْ أَصابَتْهُ بعد اختياره الايمان والإسلام فِتْنَةٌ اى بلية ومصيبة تمله وتورثه حزنا قد انْقَلَبَ ورجع عَلى وَجْهِهِ اى وجهته التي تركها من الكفر متطيرا متشأما بالإيمان والإسلام وبالجملة قد خَسِرَ ذلك المتزلزل المتذبذب في الدُّنْيا بأنواع المصيبات والبليات وَفي الْآخِرَةَ بالحرمان من درجات الجنات والخلود في دركات النيران بأنواع الخسران وبالجملة ذلِكَ الخسران المستوعب له في النشأتين هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ والحرمان العظيم لا خسران أعظم منه وافحش وكيف لا يخسر ذلك المطرود المردود هو يَدْعُوا ويعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ المتصف بعموم أوصاف الكمال المستحق للعبادة والإطاعة استحقاقا ذاتيا ووصفيا ما لا يَضُرُّهُ اى شيأ خسيسا دنيا ان عصاه ولم يؤمن به ولم يعبده لا يتأتى منه الضرر والانتقام وَما لا يَنْفَعُهُ ان أطاعه وعبده حق عبادته وأطاعته لا يتأتى منه ان يثيبه ويغفر له ذنوبه ويحسن اليه ذلِكَ اى الإطاعة والانقياد لشيء لا يرجى منه النفع والضر هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ

[سورة الحج (22) : آية 13]

عن الهداية والتوحيد بمراحل خارجا عن الحصر والتعديد بل يَدْعُوا ذلك الضال الغوى لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ اليه بسبب اتخاذه شريكا لله في استحقاق العبادة جهلا وعنادا مع انه سبحانه هو الواحد الأحد الصمد الفرد المستقل بالالوهية والربوبية ودخول المشرك المجترئ على الله بإثبات الشريك في النار محقق مقطوع به فيكون ضره بالنسبة اليه اقرب مِنْ نَفْعِهِ الذي توهمه ان يشفع لأجله عند الله مع ان الشفاعة عنده سبحانه انما هي باذنه سبحانه ايضا فثبت ان لا نفع له مطلقا والله لَبِئْسَ الْمَوْلى المعين الناصر الشفيع الأصنام والأوثان الخسيسة وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ العبيد المشركون الذين يعبدونهم ويوالونهم ويتخذونهم أربابا ويطمعون منهم الشفاعة عند الله مع ترك المحقق المجزوم وأخذ المعدوم الموهوم بدله ما هو إلا كفر باطل وزيغ زائل عاطل اللهم اهدنا بفضلك الى سواء السبيل ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية المستمرة في كتابه من تعقيب الوعيد بالوعد إِنَّ اللَّهَ الهادي الى دار السّلام يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وهم الذين سبقوا بالإيمان بالله وبتصديق رسله وكتبه وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الأعمال التي قد أمرهم سبحانه في كتبه وأجرهم على السنة رسله بالإتيان والامتثال به واجتنبوا ايضا عن مطلق النواهي التي قد نهاهم سبحانه عنها جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق الجزئية المتجددة بتجددات الأمثال الا وهي الرموز والإشارات التي يتفطن بها العارف المتعرج من ظواهر المظاهر المرتبطة بالشؤون والتجليات الإلهية وبالجملة إِنَّ اللَّهَ الموفق لخواص عباده يَفْعَلُ معهم من الإحسان ما يُرِيدُ لهم من انواع الصلاح والفوز بالنجاح والتحقق بمقام الرضاء وشرف اللقاء ثم لما اعتقد المشركون ومن في قلبه عداوة راسخة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشكيمة شديدة وغيظ مفرط ان لا نصر ولا اعانة له من عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة كما زعمه رد الله عليهم نصرا له وترويجا لقوله فقال مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ اى انه لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ ولن يعين رسوله صلّى الله عليه وسلّم ابدا لا فِي الدُّنْيا وَلا في الْآخِرَةِ بل اعتقاده في حقه صلّى الله عليه وسلّم ان ما ادعاه من نصر الله إياه في الدنيا والآخرة انما هو لإثبات دعواه وترويج مدعاه والا فلا نصر له ولا ناصر له يقال لذلك المنكر ان شئت ازالة غيظك وحسدك عنه صلّى الله عليه وسلّم فَلْيَمْدُدْ وليتشبث ذلك الظان المنكر بِسَبَبٍ اى بحبل ممدود من الأرض إِلَى السَّماءِ اى نحوها وليرتفع ممسكا متعلقا بالحبل الممدود الى ان يتباعد من الأرض مسافة بعيدة بحيث لو سقط منها لا يرجى حياته أصلا ثُمَّ يقال له بعد ما ارتفع من الأرض جدا لْيَقْطَعْ الحبل ولينفصل عنه فقطع فوقع فَلْيَنْظُرْ بعد ما وقع على الأرض هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مكره هذا وحيلته هكذا ما يَغِيظُ اى غيظه برسول الله صلّى الله عليه وسلم والله يذهب هذا وأمثاله غيظه البتة وبالجملة ما يزول انكار المنكرين وغيظ المشركين المغتاظين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الا بهذه الحيلة والكيد يعنى بالموت والقتل وَكَذلِكَ اى مثل ما قد نصرناه صلّى الله عليه وسلّم في وقائع كثيرة قد أَنْزَلْناهُ ايضا لتأييده ونصره آياتٍ اى دلائل بَيِّناتٍ واضحات دالة على صدقه في دعواه النبوة والرسالة والتشريع العام والإرشاد التام وَأنزلناه ايضا على سبيل العظة والتعليم أَنَّ اللَّهَ الهادي للعباد الموفق لهم الى سبيل الرشد يَهْدِي بعد ما بلغت لهم طريق الهداية والسداد بوحي الله إياك يا أكمل الرسل مَنْ يُرِيدُ يعنى من يتعلق ارادته ومشيئته سبحانه لهدايته ورشده يهديه ومن يتعلق بضلاله يضله وبالجملة ما

[سورة الحج (22) : آية 17]

عليك يا أكمل الرسل الا البلاغ وعلى الله الهداية والرشد فلا تتعب نفسك في هداية من أحببت بل امر الهداية والضلال انما هو مفوض الى الكبير المتعال لذلك قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الهادي لعموم الأنام الى توحيد الذات والصفات والأفعال جميعا وَالَّذِينَ هادُوا وهم الذين قد آمنوا بموسى الكليم عليه السّلام الهادي لامته الى توحيد الصفات وَالصَّابِئِينَ الذين يدعون الاطلاع على سرائر الكواكب والاجرام العلوية وَالنَّصارى وهم الذين آمنوا بعيسى عليه السّلام الهادي لامته الى توحيد الأفعال وَالْمَجُوسَ الذين يدعون التمييز بين فاعل الخير وفاعل الشر وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا بالله واثبتوا له شريكا مع تنزهه عن الشركة مطلقا وبالجملة كل من هؤلاء المذكورين يدعى حقية نفسه وبطلان غيره إِنَّ اللَّهَ المطلع بسرائر عموم عباده وضمائرهم يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ اى بين من هو المحق منهم من المبطل يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد للفصل والقطع وكيف لا يميز ولا يفصل سبحانه إِنَّ اللَّهَ المتجلى في الأنفس والآفاق عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ اى حاضر مع كل شيء رقيب عليه غير مغيب عنه أصلا أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي ولم تعلم أَنَّ اللَّهَ المظهر لعموم المظاهر يَسْجُدُ يتذلل ويخضع لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ من العلويات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من السفليات خصوصا معظمات الاجرام العلوية وَهي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وكذا معظمات الأجسام من السفليات وَهي الْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ اى مطلق الحيوانات وَيسجد له ايضا طوعا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ المجبولين على فطرة التوحيد المخلوقين على استعداد الايمان وقابلية المعرفة والإيقان وَكَثِيرٌ منهم لانحرافهم عن الفطرة الاصلية بتقليد آبائهم ومعلميهم الذين يضلونهم عن سواء السبيل لذلك قد حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وثبت له العقاب في لوح القضاء وحضرة العلم المحيط الإلهي وَبالجملة مَنْ يُهِنِ اللَّهُ ويسقط رتبته ويحط درجته فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ معل رافع أَنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده وقابلياتهم يَفْعَلُ معهم ما يَشاءُ بمقتضى علمه وخبرته ويحكم لهم وعليهم ما يريد حسب قدرته وارادته ثم لما تطاول نزاع اليهود مع المؤمنين وتمادى جدالهم وخصومتهم حيث قالت اليهود نحن أحق بالله منكم لتقدم ديننا وشرف نبينا وفضل كتابنا وقال المؤمنون نحن أحق منكم لان ديننا ناسخ عموم الأديان ونبينا خاتم دائرة النبوة والرسالة ومتمم مكارم الأخلاق وكتابنا الجامع لما في الكتب السالفة الناسخ لبعض أحكامها أفضل من سائر الكتب ونحن لا ننكر نبيا من الأنبياء وكتابا من الكتب وأنتم قد انكرتم بعيسى عليه السّلام وبدينه وبكتابه وكذا بديننا ونبينا وكتابنا مع انه مسلم عند نبيكم مذكور في كتابكم وأنتم تعلمون حقيته وتنكرونه عنادا او رد سبحانه في كتابه قصتهما وحكم بينهما فقال هذانِ الفوجان والفرقتان يعنى المؤمنين واليهود خَصْمانِ قد اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ مع وجدة ذاته وشمول ألوهيته وربوبيته لعموم البرايا فَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله المتوحد بذاته واثبتوا شريكا وفرقوا بين كتبه ورسله بالإقرار والإنكار وبالتصديق والتكذيب قُطِّعَتْ اى أعدت وهيئت لَهُمْ ثِيابٌ وملابس متخذة مِنْ نارٍ شبهها بالثياب لإحاطتها وشمولها ومع ذلك يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ الماء الحار البالغ نهاية الحرارة بحيث يُصْهَرُ ويذاب بِهِ اى بالماء الحار ما فِي بُطُونِهِمْ من الشحوم وغيرها وَكذا يذاب به الْجُلُودُ وَلَهُمْ اى لردهم وزجرهم قهرا وزجرا مَقامِعُ سياط متخذة مِنْ حَدِيدٍ يعنى بيد كل من وكل عليهم من الزبانية سوط من نار وهم

[سورة الحج (22) : آية 22]

من شدة كربهم كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها اى من النار مِنْ غَمٍّ مفرط وشدتهم وكآبة قد عرض لهم من شدة العذاب فطلبوا ان يخرجوا منها حين ألقتهم اللهب الى الطرف الأعلى منها تفريجا وتخفيفا أُعِيدُوا فِيها زجرا وتعنيفا ضاربين عليهم بالمقامع المذكورة وَحينئذ يقول لهم الزبانية الموكلون ذُوقُوا ايها المصرون على الكفر والعناد المسرفون المفسدون بأنواع الفجور والفساد عَذابَ الْحَرِيقِ المحرق أكبادكم بدل ما قد كنتم تبردونها بالسحت والرشى في نشأة الدنيا. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة إِنَّ اللَّهَ المتجلى على اهل الايمان بالتجليات الحبية الجمالية يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة ذاته سبحانه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقبولة عنده سبحانه المقربة نحوه تأكيدا لإيمانهم جَنَّاتٍ وحدائق ذات بهجة ونضارة وصفاء ترويحا لهم وتفريحا وانشراحا لصدورهم وتفريجا لغمومهم حيث تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة بمياه المعارف والحقائق المذهبة للهموم الفارجة للكروب والغموم يُحَلَّوْنَ فِيها تهذيبا وتزيينا لظواهرهم من عكوس بواطنهم مِنْ أَساوِرَ متخذة مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً بها يرصع اساورهم وَلِباسُهُمْ دائما فِيها حَرِيرٌ تليينا لبشرتهم وتكميلا لترفههم وتنعمهم بدل ما كانوا يلبسون الصوف والخشن في دار الابتلاء والاختبار وَلا يقتصر لهم فيها على تزيين الظاهر وتفريح الباطن فقط بل هُدُوا وارشدوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ليتصفوا بالصدق والتصديق ويداوموا على مواظبة شكر الله دائما بقولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده الحمد لله الذي هدانا لهذا وَبعد ما اتصفوا بالصدق والعدالة في الأقوال والأفعال هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ الذي هو التوحيد المسقط لعموم الإضافات مطلقا وقد اتصف به سبحانه لاستحقاقه بالحمد لذاته. ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن شعائر دينه وَمع ذلك يَصُدُّونَ ويصرفون الناس ايضا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وعن سلوك معالم الهدى ومسالك اليقين لا في وقت دون وقت بل دائما مستمرا وَلا سيما يصدونهم عن الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الذي قد حرم الله عنه الصد والمنع مطلقا مؤبدا لأنه الَّذِي قد جَعَلْناهُ قبلة لِلنَّاسِ كافة وقد فرضنا عليهم الطواف حولها عامة من استطاع أنهم اليه سبيلا ولهذا ما صار مكة شرفها الله وما حولها ملكا لاحد بل نسبة الكل اليه سَواءً الْعاكِفُ المقيم فِيهِ وَالْبادِ المسافر الوارد عليه وَمَنْ يُرِدْ ويقصد سوء بالنسبة اليه من صدود وغيره مع انه مقيم فِيهِ او في حواليه وصدر عنه ذلك السوء بِإِلْحادٍ ميل مقرون بِظُلْمٍ يعنى عن قصد وتعمد لا عن سهو وجهل نُذِقْهُ بمجرد قصده وان لم يأته من الفعل والصدود مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم فجيع وَكيف لا نذيقه من عذابنا الأليم إذ بناء بيتنا هذا انما هو على الطهارة الكاملة عن جميع الآثام والزكاء التام عن مطلق المعاصي والاجرام لذلك سمى بالمسجد الحرام اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ بَوَّأْنا بينا وعينا لِإِبْراهِيمَ حين شرفناه بخلعة الخلافة والنيابة وأمرنا له ببناء بيتنا هذا مَكانَ الْبَيْتِ اى قد عينا له موضع الكعبة بعد ما اندرست وسقطت بالطوفان وصارت مسواة لا علامة لها أصلا وأعلمنا له مكانه بريح قد أرسلناها مع ابراهيم حين سافر لهذا القصد من فلسطين ووصل الى بطحاء فكنست الريح حولها وأظهرت اصول بنيانها التي قد بنى عليها آدم صلوات الله عليه فبناه على بنائه وحينئذ قد أوحينا لإبراهيم تربية وتعليما أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً من مظاهري واظلالى في الوجود معى وَبعد ما

[سورة الحج (22) : آية 27]

نزهت ذاتى عن شوب الشركة مطلقا طَهِّرْ بَيْتِيَ هذا الممثل من بيتي الذي قد بنيته انا بكمال قدرتي وحكمتى في صدرك الا وهو قلبك الذي هو بيت الله الأعظم الحقيقي عن عموم المعاصي والآثام وعن انواع المؤذيات والخبائث والقاذورات وعموم المكروهات إذ قد جعلنا بيتنا هذا قدوة وقبلة لِلطَّائِفِينَ والقاصدين بطوافهم حول البيت المتحقق عند كعبة الذات والوقوف على عرفات الأسماء والصفات وَالْقائِمِينَ المواظبين بالتوجه الدائمى والميل الشرفى الحقيقي الحبى بجميع الأركان والجوارح نحو الذات الاحدية المنقطعين عن عموم العلائق والإضافات وَالرُّكَّعِ اى الراكعين الذين قد قصمت ظهور هوياتهم عن حمل أعباء العبودية وامانة المعرفة واليقين السُّجُودِ اى الساجدين المتذللين الخاضعين الواضعين جباه انانياتهم على تراب المذلة والانكسار لدى الملك الجبار القهار بسلب عموم السوى والأغيار وَبعد ما قد أوصينا خليلنا ما أوصينا قلنا له امرا إياه على سبيل الوجوب أَذِّنْ اذانا تاما واعلم اعلاما عاما فِي النَّاسِ وبشرهم بِالْحَجِّ اى اعلم الداني منهم والقاصي بوجوب الحج عليهم وقد لزمهم بالزامنا وإيجابنا إياهم ان يَأْتُوكَ ويزوروا بيتك ويطوفوا حوله حال كونهم رِجالًا مشاة ان كانوا من الأداني وَركبانا راكبين عَلى كُلِّ ضامِرٍ بعير مهزول قد أهزله وأتعبه بعد المسافة إذ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ طريق عَمِيقٍ غائر بعيد ان كانوا من الأقاصي وانما امرناهم بالحج وفرضناه عليهم لِيَشْهَدُوا وليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ اى امكنة ينفعهم الحضور فيها والوقوف بها منافع النشأة الاخرى ويسهل عليهم طريق التوحيد بالفناء والافناء والانقطاع من حطام الدنيا والتعري عن لباس البأس والعناء والتخلص عن مقتضيات القوى والهوى والتحلي بلباس التزهد والتقوى عن امتعة الدنيا والتشمر نحو جانب المولى والتجرد عن موانع الوصول الى دار البقاء من الأموال والأولاد وعموم حظوظ الدنيا وَيَذْكُرُوا فيها اسْمَ اللَّهِ المشتمل لجميع الأوصاف والأسماء المحيط لعموم الأشياء احاطة الشمس على عموم الاظلال والأضواء واحاطة الروح على جميع الجوارح والأعضاء بلا تركب وانقسام الى ابعاض وأجزاء سيما فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ محفوظات قد عينها الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء للتوجه والدعاء وهي عشر ذي الحجة الحرام وقيل النحر فلهم ان يذكروا اسم الله ويهللوا به عَلى تذكية ما رَزَقَهُمْ الله وأباح لهم مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ مما ملكت ايمانهم حال كونهم متقربين بها الى الله هدية او اضحية فَكُلُوا بعد ما ذبحتم وذكيتم ايها الزائرون المتقربون مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ اى الذي قد شمله بؤس الفقر وأحاطت عليه شدة الفاقة ثُمَّ بعد ذبح الهدايا والضحايا لْيَقْضُوا وليزيلوا تَفَثَهُمْ وأوساخهم العارضة لهم من رين الإمكان وشين الهويات ومقتضيات الأنانيات وَبعد تطهير أوساخ الإمكان وإكدار الهيولا والأركان لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ التي قد نذروها في قطع بوادي تعيناتهم ومهاوي هوياتهم وماهياتهم من ذبح بقرة امارتهم المضلة عن سواء السبيل وَبعد ما تطهروا من الأوساخ وأوفوا بالعهود والنذور لْيَطَّوَّفُوا منخلعين عن خلعة ناسوتهم متجردين عن ثياب بشريتهم وجلباب هويتهم بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ والركن الوثيق الذي هو عبارة عن قلب العارف المحقق المتحقق بمقام الفناء الذاتي والبقاء الأزلي الأبدي الذي لا يلحقه انصرام ولا يعرضه انقراض وانخرام فالامر ذلِكَ لمن أراد السلوك لطريق الفناء والحج الحقيقي والطواف المعنوي وَبالجملة مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ

[سورة الحج (22) : آية 31]

ويحافظ على حرمة ما قد حرمه الله في اوقات الحج ولم يهتك حرمتها ليجبرها بدم فَهُوَ اى الحفظ بلا هتك خَيْرٌ لَهُ مقبول عِنْدَ رَبِّهِ من هتكها وجبرها بدم وَاعلموا ايها المؤمنون قد أُحِلَّتْ لَكُمُ في دينكم الْأَنْعامُ كلها بأنواعها وأصنافها أكل لحومها وشرب ألبانها والانتفاع بأشعارها واوبارها والتقرب بها الى الله في اوقات الحج إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في كتابكم تحريمه بقوله تعالى حرمت عليكم الميتة الآية وبعد ما عرفتم ما أحل الله لكم فَاجْتَنِبُوا ايها الموحدون الرِّجْسَ والقذر الذي هو حاصل مِنَ الْأَوْثانِ اى من قبلها ومن أجلها إذ هي شرك مناف للتوحيد والشرك من أخبث الخبائث وَاجْتَنِبُوا ايضا قَوْلَ الزُّورِ والبهتان إذ هو ظلم قرين الكفر والشرك معدود من عداده مسقط للمروءة والعدالة اللازمة لأهل الايمان والتوحيد يعنى اجتنبوا عن الشرك وكذا عن مطلق المعاصي المنافية للتوحيد وكونوا حُنَفاءَ لِلَّهِ مخلصين له غير ملحدين منصرفين عما يليق بدينه غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ شيأ من مظاهره ومصنوعاته مطلقا وَاعلموا ايها العقلاء المكلفون المجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد ان مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشريك مطلقا سواء كان شركه خفيا او جليا فَكَأَنَّما خَرَّ وسقط مِنَ السَّماءِ اى أوج الايمان وأعلى درجات التوحيد والعرفان فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ إذا سقط أخذته الطير فجاءة في الهواء فترميه في حضيض غائر عميق بعيد عن العمران أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ حين سقوطه منها فتطرحه فِي مَكانٍ سَحِيقٍ بعيد وواد غائر عميق وبالجملة من أشرك بالله العياذ بالله منه فقد وقع في هاوية الضلال وزاوية الوهم والخيال اللذين هما من أوحش اغوار الإمكان واظلم بوادي الخذلان والخسران بحيث لا يرجى نجاته منها أصلا وبالجملة الحكم والأمر ذلِكَ لمن أشرك بالله وساء الأدب معه ولم يعرف حق قدره وقدر حقيته وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ المأمورة له في أداء الحج ويوقر حق توقيرها وتعظيمها فَإِنَّها اى شأن تعظيمها وتحسينها عن من صدر انما هو صادر ناشئ مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ الناظرة الى الله بنور الله في جميع أوقاتها وعموم حالاتها لَكُمْ اى في ملككم وتحت تصرفكم ايها المؤمنون المعظمون شعائر الله الناسكون بمناسك الحج فِيها اى في الهدايا والضحايا التي أنتم تتقربون بها الى الله مَنافِعُ كثير درها وصوفها وشعرها وظهرها ونسلها ما لم تصل إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اى الى حلول وقت قد سمى سبحانه لذبحها ثُمَّ بعد ما قرب وقتها وحان حينها مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ اى محل ذبحها عند البيت اى جميع الحرم وحواليه وَاعلموا ايها الموحدون المحمديون ان لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية والآتية ايضا قد جَعَلْنا مَنْسَكاً ومذبحا معينا قد كانوا يتقربون فيه إلينا ويهدون نحونا بهدايا وقرابين وانما عيناهم ذلك لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عند التذكية والذبح عَلى ما رَزَقَهُمْ مما ملكت ايمانهم مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ قيدنا لهم لان الخيل والحمير لا يليق بالقربان والهدى وبعد ما علمتم ان لكل امة من الأمم مذبحا معينا ومنسكا مخصوصا يتقربون فيه إلينا فَإِلهُكُمْ اى فاعلموا ان اله الكل إِلهٌ واحِدٌ احد صمد فرد وتر لا تعدد فيه مطلقا ولا شركة له أصلا فَلَهُ أَسْلِمُوا وتوجهوا ان كنتم مسلمين مسلمين مفوضين اليه أموركم وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل من بين المسلمين بالمثوبة العظمى والدرجة العليا والفوز بشرف اللقاء الْمُخْبِتِينَ المطيعين الخاضعين الخاشعين المتواضعين الَّذِينَ قد خبت وخمدت نيران شهواتهم من بأس الله وخشيته يعنى الذين إِذا ذُكِرَ اللَّهُ القادر المقتدر بالانعام والانتقام قد

[سورة الحج (22) : آية 36]

وَجِلَتْ وخشيت قُلُوبُهُمْ خوفا من قهره وغضبه ومن حول صفات جلاله وسطوة سلطنته وكبريائه وَايضا الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من المصيبات والبليات التي قد جرى حكم الله عليها في سابق قضائه وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ المفروضة بأوقاتها المحفوظة مع شرائطها وأركانها المخصوصة وآدابها المسنونة تقربا اليه وتوجها نحوه بكمال الخضوع والخشوع والتذلل والانكسار وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ واستخلفناهم عليه ونسبناه إليهم يُنْفِقُونَ على الوجه الذي قد امرناهم به وعلى المصارف المذكورة المأمورة لهم في قوله سبحانه انما الصدقات للفقراء الآية متقربين بها الى الله ناوين الوصول الى جنة وحدته وَاعلموا ايها المؤمنون المتقربون إلينا سيما في اوقات الحج انا قد جعلنا خير الهدايا وأكرم الضحايا الْبُدْنَ بادن كبذل وباذل وهي الإبل خاصة سميت بها لعظم بدنها وجسامتها وغلاء ثمنها وعظم وقعها في نفوس الناس لذلك قد جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ واعلام دينه ومعالم بيته واعلموا انه لَكُمْ فِيها خَيْرٌ كثير واجر جزيل وثواب عظيم عند الله ان تقربتم بها وان أردتم ذبحها فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها عند تذكيتها قائلين الله اكبر الله اكبر لا اله الا الله والله اكبر اللهم منك وإليك ومالنا الا الامتثال ما امرتنا به والسر عندك ولديك والحكمة دونك ومنتهى الكل إليك وعليكم ايها القاصدون المتقربون ان تذبحوها صَوافَّ صافة قوائمها مشدودة محكمة ثم تطعنون في لباتها فَإِذا وَجَبَتْ وسقطت جُنُوبُها على الأرض وخرجت روحها من جسدها فَكُلُوا مِنْها ان شئتم وَأَطْعِمُوا ايضا الْقانِعَ وهو الفقير الذي يقنع بما يعطى ولا يبادر الى السؤال والإلحاح وَأطعموا منها ايضا الْمُعْتَرَّ وهو الذي يبادر الى السؤال قبل الإعطاء ويبالغ فيه ويلح كَذلِكَ اى على الوجه الذي امر وذكر قد سَخَّرْناها اى البدن وذللناها لَكُمْ ايها المؤمنون المتقربون بها إلينا مع انها في كمال القوة والجسامة وأنتم في غاية الضعف والنحافة وانما سخرناها وذللناها لكم كي تتفطنوا من تسخيرها وتذليلها الى تذليل امارتكم المسلطة عليكم فتذبحوها في طريق الحق متقربين بها اليه سبحانه مشدودة قوائم قواها عن مقتضاها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة الأقدار والتوفيق عليها وتعطون بدلها من لدنه سبحانه مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واعلموا ايها المتقربون الى الله بالهدايا والضحايا لَنْ يَنالَ اللَّهَ ولن يصيب ويصل اليه سبحانه لُحُومُها المتصدق بها إذ هو سبحانه منزه عنها وعن الانتفاع بها وَلا يصل ايضا اليه سبحانه دِماؤُها المهراقة وَلكِنْ ما يَنالُهُ وما يصل منها اليه سبحانه الا التَّقْوى اى التحرز والاجتناب الصادر مِنْكُمْ عن محارم الله ومنهياته والامتثال بأوامره والإتيان بمأموراته ومرضياته وبالجملة ما يقربكم اليه سبحانه الا امتثال الأوامر واجتناب النواهي لا اللحوم المطعمة ولا الدماء المهراقة ثم كرر سبحانه تأكيدا ومبالغة بقوله كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ اى الهدايا والضحايا لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ المتعزز بالعظمة والكبرياء المستقل بالمجد والبهاء حق تكبيره وتعظموه حق تعظيمه وتوقيره عَلى ما هَداكُمْ وأرشدكم الى الايمان والتوحيد وَبَشِّرِ يا أكمل الرسل الْمُحْسِنِينَ منهم وهم الذين يعبدون الله كأنهم يرونه ويحسنون الأدب معه كأنهم ينظرون اليه ثم لما خشي المؤمنون عن معاداة المشركين وخافوا عن مخاصمتهم وغيظهم وعن ذبهم وصدهم لو خرجوا نحو مكة للزيارة والطواف قاتلوا معهم وأكبوا عليهم غيبة وعلى أموالهم وأسروا أولادهم أزال الله سبحانه عنهم الرعب وأسقط عنهم الخشية بقوله إِنَّ اللَّهَ المتكفل لأمور عباده الحفيظ عليهم

[سورة الحج (22) : آية 39]

عما يؤذيهم يُدافِعُ كيد الكفرة العداة البغاة الطغاة عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وصدقوا بشعائر دينه وقصدوا إقامتها على مقتضى امره ووحيه وكيف لا يدفع سبحانه مع كمال قدرته وقوته خيانة من خان باحبائه واصدقائه إِنَّ اللَّهَ المنتقم لاعدائه لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ مبالغ في الخيانة سيما مع أوليائه كَفُورٍ مبالغ في كفران نعمه غايته إذ قد صرفها في غير محله مثل هدى الكفرة وذبحهم لأصنامهم وأوثانهم ولما اشتد إضرار الكفرة على المسلمين وامتد إذا هم عليهم ظلما وعدوانا أراد المؤمنون ان يقاتلوا ويشاجروا معهم فمنعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن القتال والحرب باذن الله ووحيه اليه صلّى الله عليه وسلّم سبعين مرة حتى نزلت سبعون آية في المنع وقال صلّى الله عليه وسلم في كل مرة اصبروا حتى يأتى الله ثم لما شق على المسلمين ظلمهم وضرهم وصاروا مهانين أذلاء صاغرين مع قدرتهم على مقاتلتهم ومدافعتهم أُذِنَ ورخص من جانب الحق على لسان رسوله صلى الله عليه وسلّم لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ ويريدون القتال معهم بعد ما تحملوا كثيرا من أذاهم وظلمهم فنزلت هذه الآية للرخصة بعد ما نزلت سبعون للمنع ولذلك قيل قد نسخت هذه الآية نيفا وسبعين آية وانما رخصهم سبحانه بها بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا اى بسبب انهم قد صاروا مظلومين صاغرين من أذى الكفار والمشركين وَإِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر عَلى نَصْرِهِمْ اى نصر الأولياء على الأعداء لَقَدِيرٌ ينصرهم ويغلبهم عليهم وان كانوا اكثر منهم وكيف لا ينتقم سبحانه على أعدائه لأجل أوليائه إذ هم الَّذِينَ قد أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ظلما وعدوانا بِغَيْرِ حَقٍّ وبلا رخصة شرعية موجبة للإخراج والاجلاء إِلَّا أَنْ يَقُولُوا يعنى لا موجب لإخراجهم سوى قولهم هذا رَبُّنَا اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشريك والولد وَكيف لا يدفع سبحانه شر الكفرة عن أوليائه الموحدين ولا ينصرهم على أعدائهم إذ لَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بتسليط اهل الايمان على المشركين المعاندين لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ لقد خربت وانهدمت البتة باستيلاء الأعداء على الأولياء صوامع اسم لمعابد الرهابنة وَبِيَعٌ للنصارى وَصَلَواتٌ هي كنائس اليهود وَمَساجِدُ للمسلمين وبالجملة انما أعد وهيئ كل واحد منها في الأديان المذكورة يُذْكَرُ فِيهَا اى ليذكر في كل واحدة منها اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً اى ذكرا كثيرا وحينا كثيرا وَالله لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ المتكفل لعباده مَنْ يَنْصُرُهُ ومن يعين دينه ونبيه ويصدق كتابه إِنَّ اللَّهَ المطلع لما في صدور عباده من الإخلاص لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ غالب قادر على وجوه الانعام والانتقام لأوليائه وأعدائه كما سلط ضعفاء اهل الايمان على صناديد العرب والعجم من الاكاسرة والقياصرة وأشاع دينهم بين الأنام الى يوم القيمة وكيف لا ينصرهم سبحانه إذ هم الموحدون الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ وقدرناهم وجعلنا لهم التصرف والاستيلاء فِي الْأَرْضِ وأقطارها المعدة للطاعات والعبادات أَقامُوا واداموا الصَّلاةَ والميل إلينا البتة بجميع جوارحهم واركانهم ميلا مقرونا بأنواع الخضوع والخشوع واصناف الاستكانة والانكسار تطهيرا لنفوسهم عن العتو والاستكبار وتقريبا لأنفسهم إلينا على وجه المذلة والافتقار وَمع ذلك قد آتَوُا الزَّكاةَ مصفية لبواطنهم عن زخرفة الدنيا الغدار وَقد أَمَرُوا ايضا على من دونهم بِالْمَعْرُوفِ المستحسن شرعا وعقلا وَكذلك نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ المستقبح شرعا وطبعا على الوجه المبين لهم من السنة رسلهم وكتبهم المنزلة عليهم من الله وَبالجملة لِلَّهِ المدبر المصلح لأحوال عباده عاقِبَةُ الْأُمُورِ اى عواقب عموم الأمور ومآلها اليه سبحانه حقيقة وان صدرت

[سورة الحج (22) : آية 42]

عنهم صورة ثم لما تغمم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم وتحزن من تكذيب قومه إياه صلّى الله عليه وسلّم وعن نسبتهم اليه ما لا يليق بشأنه أراد سبحانه ان يسلى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ويزيل عنه همه فقال وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ قومك يا أكمل الرسل لا تبال بهم وبتكذيبهم فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ اى قبل أمتك قَوْمُ نُوحٍ أخاك نوحا عليه السّلام وَكذا قد كذبت عادٌ أخاك هودا عليه السّلام وَايضا قد كذبت ثَمُودُ أخاك صالحا عليه السّلام وَكذا قد كذبت قَوْمُ إِبْراهِيمَ جدك خليل الله الجليل أبا الأنبياء عليه وعليهم التحية والسّلام وَكذا قَوْمُ لُوطٍ قد كذبوا أخاك لوطا عليه السّلام وَكذا أَصْحابُ مَدْيَنَ أخاك شعيبا عليه السّلام وَلا سيما قد كُذِّبَ أخوك مُوسى الكليم وقد كذبه بنو إسرائيل مرارا متعددة مع ان آياته ومعجزاته من اظهر الآيات وابهر المعجزات وبالجملة قد وقع ما وقع فَأَمْلَيْتُ وأمهلت لِلْكافِرِينَ وجميع المكذبين المعاندين المستكبرين في جميع الصور المذكورة ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ على التفصيل بأنواع العذاب والنكال الى ان أهلكتهم واستأصلتهم بل بالمرة فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إياهم وإنكاري عليهم بعد إمهالي لهم بان بدلنا النعمة عليهم نقمة والمنحة محنة واللذة ألما والفرح ترحا والقصور قبورا ولا تستبعد يا أكمل الرسل من كمال قدرتنا أمثال هذا فَكَأَيِّنْ يعنى كثيرا مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها واستأصلنا أهلها بأنواع العذاب والعقاب وَالحال انه هِيَ ظالِمَةٌ وأهلها خارجة عن مقتضى لحدود الإلهية فَهِيَ الآن ايضا من ظلم أهلها خاوِيَةٌ ساقطة عَلى عُرُوشِها يعنى جدرانها ساقطة على سقوفها من غاية انهدامها وانتكاسها وتقلبها وانطماسها وَكم بِئْرٍ معينة مُعَطَّلَةٍ لا يستقى منها لهلاك أهلها وَكم قَصْرٍ عال مَشِيدٍ محكم أركانه وبنيانه مجصص أساسه وجدرانه خال عن ساكنيه غير مسكون فيه ولا مأنوس في حواليه أَينكرون أولئك المنكرون هذه المذكورات جميعا فَلَمْ يَسِيرُوا ولم يسافروا فِي الْأَرْضِ المعدة للعبرة والاستبصار فَتَكُونَ تثبت وتحصل لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ ويعبرون بِها من الوقائع الواقعة فيها للأمم أَوْ يحصل لهم آذانٌ وقوة سماع واستماع يَسْمَعُونَ بِها اخبارهم وآثارهم وكيفية إهلاكهم واستئصالهم فَإِنَّها اى شأن قصصهم ووقائعهم لا تَعْمَى الْأَبْصارُ منها إذ الأبصار تشاهد آثارهم واطلالهم وَلكِنْ تَعْمَى منها الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ يعنى تعمى منها عيون بصائرهم وضمائرهم إذ لم يعتبروا منها ولم يستبصروا ولم ينظروا نحوها نظر المعتبر المتأمل والمستبصر الخبير وبالجملة من لم يعتبر مما جرى على الأمم الهالكة ومن الوقائع الهائلة الجارية عليهم الظاهرة من آثارهم واطلالهم فهم هم عمى القلوب وفاقدوا البصيرة التي هي سبب شهود الغيوب واطلاع عموم العيوب وان كانت عيونهم وحواسهم صحيحة وبعد ما قد استبطأ الكفار نزول العذاب الموعود وقالوا متى هذا لوعد نزل وَيَسْتَعْجِلُونَكَ يا أكمل الرسل بِالْعَذابِ الموعود على لسانك وَالحال انه لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ الصادق الصدوق وَعْدَهُ الذي وعده لعباده وان كان بعد حين سينزل عليهم البتة وَإِنَّ يَوْماً من ايام العذاب عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ في الدنيا امتدادا وطولا واما في الشدة والعناء فلا يكتنه ولا يحصى فلم يستعجلون أولئك الحمقى وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ اى كثيرا من أهلها قد أَمْلَيْتُ وأمهلت لَها وأخرت عنها عذابها وَالحال انها هِيَ ظالِمَةٌ أهلها مستحقة للعذاب

[سورة الحج (22) : آية 49]

أمثالها ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب الشديد بعد ما ازداد أهلها موجباته وسنأخذ ايضا هؤلاء الحمقى عن قريب وَبالجملة لا مخلص لهم منه إذ إِلَيَّ الْمَصِيرُ اى مرجع الكل الى ومنقلبهم عندي ولا مقصد بهم غيرى وان لم يعرفوا قُلْ يا أكمل الرسل كلاما خاليا عن وصمة الكذب صادرا عن محض الحكمة يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مرسل من عند الله مُبِينٌ مظهر لكم موانعكم وعوائقكم عن طريق الحق وصراط مستقيم فَالَّذِينَ آمَنُوا منكم بالله وصدقوا رسله وكتبه وَمع الايمان والتصديق قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم على السنة رسلهم وكتبهم المقبولة المرضية عند ربهم لَهُمْ بواسطة ايمانهم وعملهم مَغْفِرَةٌ ستر وعفو لما مضى عليهم من الذنوب والمعاصي وَرِزْقٌ كَرِيمٌ من الصوري والمعنوي في الجنة جزاء لإيمانهم وصوالح أعمالهم وَالَّذِينَ سَعَوْا وبذلوا وسعهم وجهدهم فِي ابطال آياتِنا وردها وتكذيبها ومع ذلك صاروا مُعاجِزِينَ قاصدين مسابقين ساعين مبادرين الى رد الممتثلين المصدقين بها وانكارهم لها وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون هم أَصْحابُ الْجَحِيمِ وملازموها لا نجاة لهم منها أصلا ثم لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إصرار قومه على الكفر وشدة عنادهم وشكيمتهم عليه وعلى دينه وعلى كتابه تمنى عليه السّلام ان يأتيه وينزل عليه من الله ما يقاربهم ويحببهم معه ويزيل غيظه عن قلوبهم ويلينها لقبول الإسلام فانزل الله سبحانه سورة النجم فقرأها صلّى الله عليه وسلّم عليهم فرحا مسرورا كي يسمعوا ويميلوا على طريق الحق ثم لما وصل الى قوله تعالى أفرأيتم اللات والعزى ومنات الثالثة الاخرى وتوجهت القريش نحوه صلّى الله عليه وسلّم جميعا حيث سمعوا اسماء أصنامهم منه صلّى الله عليه وسلّم في خلال الآيات والتفتوا اليه عليه السّلام وعلى وجه أشعر منهم التلقي والقبول فالهى تلقيهم الرسول صلى الله عليه وسلّم فغفل صلّى الله عليه وسلّم حينئذ عن قلبه واشتغل بهم تحننا إليهم القى الشيطان على لسانه في أثناء كلامه بعد ما انتهز اللعين الفرصة على مقتضى مناه ومتمناه واسمع لهم الآية هكذا تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ففرح بذلك قريش فلم يعلم صلّى الله عليه وسلّم ماذا صدر عنه لاستغراقه في أمنيته إذ قد وجدهم مائلين نحوه محسنين له وازداد تحسينهم ومحبتهم حينئذ له وكمال تلقيهم اليه وبالغوا في الإقبال عليه صلّى الله عليه وسلّم الى ان سجد المؤمنون والمشركون جميعا في آخر السورة فسر من هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسرت القريش ايضا مما سمعوا منه صلّى الله عليه وسلّم حيث، قالوا ان محمدا قد ذكر شفعاءنا فجاءه جبرائيل مؤدبا معاتبا فأخبر بما صدر عنه من تخليطه بغير الوحى فاغتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشد اغتمام وخاف خوفا شديدا من غيرة الله وصولة قهره فانزل الله سبحانه تسلية لرسول الله وازالة لخوفه وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا أكمل الرسل مِنْ رَسُولٍ ذي وحى وشرع وكتاب وَلا نَبِيٍّ ذي وحى او منام او الهام له شرع وكتاب او بعث لترويج شرع غيره من الأنبياء والرسل وكتبهم إِلَّا إِذا تَمَنَّى وطلب شيأ قد أحب وقوعه من تلقاء نفسه واهتم بشأنه بلا ورود وحى عليه ومع ذلك قد تمنى من الله مثل تمنيك هذا ان ينزل سبحانه عليه من الآيات مناسبا لما أمله وأحبه أَلْقَى الشَّيْطانُ من تسويلاته وتغريراته فِي أُمْنِيَّتِهِ ومبتغاه كما القى في لسانك يا أكمل الرسل فالهاه عن نفسه الى حيث خلط اللعين بالوحي الإلهي من تسويلاته ثم بعد ما تنبه وتذكر النبي المتمنى ما وقع من نزغ الشيطان استعلى من غوائل اللعين ورجع الى الله متندما تائبا آئبا فَيَنْسَخُ اللَّهُ المؤيد لأنبيائه المراقب في عموم أحوالهم عليهم اى يسقط ويزيل ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ

[سورة الحج (22) : آية 53]

بعد ما أزال سبحانه ونسخ ما خلطه الشيطان وادخله في خلال الوحى من تلبيساته يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ المنزلة من عنده ويميزها ويفصلها احكاما تاما واتقانا محكما وتمييزا تماما وفضلا كاملا وَبالجملة اللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده المطلع على استعداداتهم عَلِيمٌ بما انزل عليهم مما يناسب استعداداتهم حَكِيمٌ في انزاله وتدبيره حسب مصالحهم وان توهم ان الله قادر على محافظة أنبيائه ورسله سيما نبينا صلّى الله عليه وسلّم عن إلقاء الشيطان وتغريره وتخليطه إياهم أول مرة فلم لم يحفظهم من القائه حتى لا يصدر عنهم أمثال ما صدر حتى أصبح الى نسخه وإزالته بالآخرة قيل انما لم يحفظهم سبحانه أول مرة لِيَجْعَلَ سبحانه ما يُلْقِي الشَّيْطانُ في أثناء الوحى فِتْنَةً ابتلاء واختبارا لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الحاد وميل عن الحق وانحراف عن طريقه هل يعرفون ويميزون كلام الحق من تسويلات الشياطين أم لا وَلا سيما المرضى الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ عن ان يسع فيها كلام الله وآياته ألا وهم المشركون الذين قد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة عظيمة وغطاء غليظ تمنعهم عن استماع آيات الله وادراك مقاصده وَبالجملة إِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين المتجاوزين عن مقتضى العقل والشرع باتخاذهم الجمادات التي قد نحتوها بأيديهم شركاء شفعاء عنده لَفِي شِقاقٍ خلاف وجدال بَعِيدٍ عن الحق بمراحل فمن لم يجعل الله له نورا فما له من نور وَايضا لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اللدني من عند الله ووفقوا من لدنه لقبول أحكامه أَنَّهُ اى القرآن وآياته المشتملة على الأوامر والنواهي والحكم والاحكام والمعارف والحقائق او اقداره سبحانه الشيطان بالإلقاء والتخليط المذكور افتتانا منه سبحانه وابتلاء لعباده الْحَقُّ الثابت المحقق النازل الصادر مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل فَيُؤْمِنُوا بِهِ اى بالله بانزاله القرآن او باقداره الشيطان ان يلقى اختبارا لعباده فكيف بالسنة آحاد عباده وعلى قلوبهم فَتُخْبِتَ وتطمئن لَهُ قُلُوبُهُمْ ويزداد وثوقهم وصاروا على خطر عظيم واحتياط بليغ عن غوائل الشيطان وتغريراته ومن افتتان الله إياهم وَبالجملة إِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا وأخلصوا لله في عموم ما جاءوا به من الأعمال والأحوال والمواجيد والأفعال بلا شوب شك وتردد إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيده بلا عوج وانحراف وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وانصرفوا عن مقتضيات آياته الكبرى لمرض صدورهم وقسوة قلوبهم فِي مِرْيَةٍ شك وارتياب مِنْهُ اى من القرآن او من ابتلاء الله إياهم بإلقاء الشيطان حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ اى أشراطها واماراتها بَغْتَةً فجاءة وهم حينئذ في ريبهم وغفلتهم يترددون أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ هو عذاب يوم القيمة وصفه بالعقم إذ لا يقبل فيه توبة ولا ايمان ولا شفاعة كأنه عقيم لا يد لهم خيرا ولا يثمر فيه أعمالهم ثوابا وتوبتهم قبولا وكيف يقبل فيه توبة واستغفار وينفعهم فيه الايمان إذ الْمُلْكُ المطلق والتصرف التام والاستيلاء الكامل يَوْمَئِذٍ بعد انقضاء نشأة الابتلاء والاختبار لِلَّهِ المستقل بالالوهية والربوبية وعموم التصرف مطلقا وان كان في النشأة الاولى ايضا كذلك إذ لا يجرى في ملكه الا ما يشاء ازلا وابدا دنيا وعقبى الا انه سبحانه قد أقدرهم على الإطاعة والانقياد في النشأة الاولى صورة كما أقدرهم على الإنكار والعناد فيها لحكم ومصالح قد استأثر بها سبحانه في غيبه بلا اطلاع احد عليه إذ هي هذه نشأة الافتتان والاختبار وبعد انقضائها لا يقبل منهم جبر ما فوتوا على نفوسهم في تلك النشأة الآتية التي هي نشأة الجزاء

[سورة الحج (22) : آية 57]

بل يَحْكُمُ سبحانه يومئذ بحكمه المبرم بَيْنَهُمْ بمقتضى ما قد علم منهم وصدر عنهم وجرى عليهم وحاسبهم به ان خيرا فخير وان شرا فشر فَالَّذِينَ آمَنُوا على وجه الإخلاص والإخبات وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المترتبة على الايمان واليقين هم في النشأة الاخرى متمكنون فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دائمون فيها مقيمون لا يتحولون الى ما هو ادنى بل يترقون الى الأعلى حتى يفوزوا بشرف اللقيا واللقاء والبقاء وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله في النشأة الاولى وَكَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة على رسلنا لبيان توحيدنا فَأُولئِكَ الأشقياء المكذبون المردودون لَهُمْ في الآخرة عَذابٌ مُهِينٌ لإهانتهم أنبياء الله ورسله وما نزل عليهم من الآيات البينات والمعجزات القاطعات الساطعات. ثم قال سبحانه وَالموحدون المخلصون الَّذِينَ هاجَرُوا وتركوا مضيق بقعة الإمكان سالكين فِي سَبِيلِ اللَّهِ طالبين الوصول الى فضاء الوجوب والفناء فيه ثُمَّ قُتِلُوا بأيدي الغفلة الكفرة الجهلة عن معرفة الله ووحدة ذاته واستقلاله في عموم التصرفات بل في الوجود ولوازم الحيوة مطلقا أَوْ ماتُوا بالموت الاضطراري حتف أنوفهم بعد ما قد خرجوا من الحيوة الصورية بالموت الإرادي والفناء المعنوىّ الحقيقي لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ المنعم المفضل عليهم رِزْقاً حَسَناً حقيقيا من لدنه تفضلا عليهم وامتنانا وكيف لا يرزقهم سبحانه مع انهم أولياؤه وهو سبحانه رازق لعموم أعدائه فكيف باوليائه وَبالجملة إِنَّ اللَّهَ المتجلى في الآفاق المتكفل بارزاق من عليها وما عليها لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ اى من عموم من ينسب إليهم الرزق صورة ومجازا إذ مرجع الكل اليه ومبدؤه منه وتوفيقهم بيده واقدارهم منه وتمكينهم عليه وهم ظله وفي حيطة حضرة علمه وحوزة قدرته وحومة اختياره وارادته وفعلهم حقيقة منسوب اليه مسند به لا فاعل له ولهم سواه وبعد ما قد رزقهم الله بالرزق المعنوي بدل ما جاهدوا في سبيله من تحمل الأذى والمشاق والمتاعب في القطع والانقطاع عن مألوفات بقعة الإمكان ومشتهيات نفوسهم وهوياتهم فيها سيما من اللذات البهية والشهوات الشهية البهيمية لَيُدْخِلَنَّهُمْ سبحانه حسب فضله وسعة جوده مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ اى مسكنا ومقاما ترضى به ومنه نفوسهم بدل ما يتركون من البقاع العلية والديار المزينة البهية والقصور المشيدة المرتفعة الا وهي المكاشفات العلية والمشاهدات الواردة عليهم دائما من الاطلاع على سرائر الأسماء والصفات الإلهية والواردات الغيبية الفائضة عليهم من فضاء عالم اللاهوت حسب جود حضرة الرحموت وَإِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده لَعَلِيمٌ بمصالحهم وما يستدعيه استعداداتهم حَلِيمٌ يفعل بهم ما يرضى به قلوبهم ونفوسهم ويسع في قابلياتهم ومشاعرهم ذلِكَ الأمر والشأن المذكور لمن هاجر الى الله طالبا لقياه مخلصا خالصا لوجهه الكريم ثم قال سبحانه على سبيل الوصاية والتنبيه وَمَنْ عاقَبَ ظالمه بعد ما غلب عليه وأراد ان ينتقم عنه بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ اى بمقدار ظلمه بلا زيادة عليه ونقصان ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ اى غلب الظالم على المظلوم المنتقم كرة اخرى ومرة بعد اولى وأراد أن يظلم عليه ثانيا لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ العزيز الغالب المنتقم للمظلوم في الكرة الثانية ايضا ما لم يتجاوز عن حد الانتقام ولا ينظر سبحانه حسب عدله الى اجترائه الى الانتقام وتركه ما هو الاولى حسب فضله الا وهو العفو عند المقدرة وكظم الغيظ لدى الفرصة إِنَّ اللَّهَ المطلع لمقتضيات استعدادات عباده لَعَفُوٌّ غَفُورٌ لما صدر عنهم من المبادرة الى الانتقام لدى القدرة ذلِكَ النصر على من ظلم بِأَنَّ اللَّهَ اى بسبب ان الله المستوي على القسط القويم يُولِجُ ويدخل اللَّيْلَ المظلم اى اجزاءه فِي النَّهارِ

[سورة الحج (22) : آية 62]

المضيء وَيُولِجُ النَّهارَ المضيء ايضا فِي اللَّيْلِ المظلم على التدريج ليعتدلا ويعتدل من ظهر من كرهما وتجددهما وَأَنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح مظاهره بالحكمة المتقنة سَمِيعٌ يسمع ما هو من قبيل المسموعات من الوقائع التي أدركها السمع بَصِيرٌ يبصر ما هو من قبيل المبصرات من الحوادث المدركة بالبصر ذلِكَ اى سمعه سبحانه للمسموعات مطلقا وابصاره للمبصرات رأسا بِأَنَّ اللَّهَ المتجلى في الآفاق والأنفس هُوَ الْحَقُّ المقصور على التحقق والثبوت بالاستحقاق لا غيره من الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة الواجب وجوده بلا ارتياب الممتنع نظيره على الإطلاق وَأَنَّ ما يَدْعُونَ ايها المشركون مِنْ دُونِهِ من الآلهة الباطلة هُوَ الْباطِلُ المقصور على العدم والبطلان كسائر المظاهر والمجالى التي لا وجود لها فكيف الألوهية والإله لا بد وان يكون واجب الوجود دائم التحقق والثبوت ازلا وابدا حيا قيوما سرمدا ثم جامعا ما يترتب على الوجود من الأوصاف والأسماء الإلهية الفائتة للحصر والإحصاء وهم في أنفسهم معزولون عن الوجود فكيف عن لوازمها ولواحقها وَاعلموا أَنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء المتعزز المتأزر بإزار المجد والبهاء المتوحد المتفرد بالقيومية والبقاء الأزلي الأبدي هُوَ الْعَلِيُّ بذاته المتعالي عن ان تصفه السنة العقلاء وتعرب عنه افهام العرفاء الْكَبِيرُ المستكبر في شأنه جل جلاله عن ان يحيط به وبأوصافه وأسمائه مشاعر شيء من مظاهره ومصنوعاته أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي أَنَّ اللَّهَ المتخصص بالآثار البديعة والمتجلى بالصنائع العجيبة الغريبة قد أَنْزَلَ بعد تصعيد الابخرة والادخنة وتركيبها وتركيمها مِنَ السَّماءِ اى من جانبها ماءً مصفى على الأرض اليابسة الميتة فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ وتصير مُخْضَرَّةً بعد ما كانت هامدة يابسة أَنَّ اللَّهَ المدبر بالتدابير الباهرة لَطِيفٌ دقيق رقيق علمه متعلق برقائق المعلومات ودقائقها خَبِيرٌ ذو خبرة كاملة بحيث لا يعزب عن خبرته شيء ممارق وغلظ وكيف يعزب عن حيطة علمه شيء من المعلومات إذ لَهُ ملكا وتصرفا إظهارا وخلقا مظاهر ما فِي السَّماواتِ اى عموم ما في العلويات من الكوائن والفواسد وَكذا مظاهر ما فِي الْأَرْضِ من السفليات مثلها وَإِنَّ اللَّهَ المتجلى على عموم ما ظهر وما بطن غيبا وشهادة لَهُوَ الْغَنِيُّ بذاته عن جميع مظاهره واظلاله الْحَمِيدُ بآثار أوصافه وأسمائه الكاملة أَلَمْ تَرَ ايها الرائي ولم تعلم أَنَّ اللَّهَ المتكفل لأمور عباده سَخَّرَ لَكُمْ ولتربيتكم وترتيب معاشكم ما فِي الْأَرْضِ من الحيوانات التي تأكلون منها وتزرعون بها وتركبون عليها وتحملون هذا في البر وَسخر لكم الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وعلى مقتضى مشيئته وارادته حيثما سعيتموها واجريتموها أنتم حسب مقاصدكم ومرماكم تتميما لأمور معاشكم من كمال علمه وحكمته وبقوة قدرته وارادته وَيُمْسِكُ السَّماءَ معلقة بلا عمد وأساطين كراهة أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فيختل امور معاشكم بوقوعها وان كان لا يضركم إذ هي اجرام في غاية الخفة واللطافة بل انسد وبطل من وقوعها على الأرض إنزال المطر على الوجه المعهود المقوى لا نبات الأقوات وبالجملة من شأنها الوقوع لولا إمساكه سبحانه إياها إِلَّا ان تقع عليها بِإِذْنِهِ سبحانه وعند تعلق ارادته ومشيئته بوقوعها وذلك في يوم القيمة وعند الطامة الكبرى أَنَّ اللَّهَ المدبر لمصالح العباد بِالنَّاسِ المجبولين على الكفران والنسيان لَرَؤُفٌ مشفق عطوف رَحِيمٌ بهم يعفو زلتهم ويرزقهم من حيث لا يحتسبون وَكيف لا يرحمكم ولا يرأف عليكم مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ في النشأة الاولى

[سورة الحج (22) : آية 67]

وأظهركم من كتم العدم بحوله وقوته بلا سبق مادة ومدة ثُمَّ يُمِيتُكُمْ اظهار لقدرته وبسطته ومقتضيات جلاله وقهره ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في النشأة الاخرى لتوفية الجزاء على ما أمركم به في النشأة الاولى وبالجملة إِنَّ الْإِنْسانَ مركب من السهو والنسيان لَكَفُورٌ مبالغ في الكفران لنعم الله ناس لحوق كرمه ومن جملة انعامنا عليه انا لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم قد جَعَلْنا وعينا لهم مَنْسَكاً معينا ومقصدا مخصوصا هُمْ ناسِكُوهُ اى ينسكونه ويسلكون نحوه ويتقربون فيه بالقرابين والهدايا فَلا يُنازِعُنَّكَ يعنى من حقهم واللائق بحالهم ان لا ينازعنك ولا يخاصمنك يا أكمل الرسل فِي الْأَمْرِ الذي كنت عليه من الذبح وغيره من الشعائر المتعلقة بأمور الدين ومعالم الهدى واليقين وَادْعُ أنت يا أكمل الرسل إِلى توحيد رَبِّكَ عموم الأنام حيث ما أمرت إِنَّكَ في دعوتك هذه لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ اى طريق واضح سوى موصل الى التوحيد الذاتي بلا عوج وانحراف وَإِنْ جادَلُوكَ في أمرك هذا ودعوتك هذه وخاصموا معك عنادا ومكابرة فلا تلتفت أنت يا أكمل الرسل إليهم ولا تقابل معهم على سبيل المعارضة والممانعة فَقُلِ لهم ولدفعهم اللَّهُ المطلع لخفيات الأمور واسرارها أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ بمقتضى اهوية نفوسكم فيجازيكم على مقتضى علمه وخبرته بكم وبأعمالكم وان الجأتمونى الى الخصومة والحكومة ف اللَّهُ المحيط المطلع بضمائر كلا الفريقين يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وبيني يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ معى من شعائر ديني وملتي وامارات يقيني وهدايتي أَتنكر ايها المنكر المجبول على الإدراك والشعور احاطة علم الله بعموم المعلومات ولَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ المتجلى بجميع ما ظهر وبطن يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ من الأمور الكائنة والفاسدة فيهما بحيث لا يعزب عن حيطة خبرته وعلمه شيء وكيف لا يعلمها سبحانه إِنَّ ذلِكَ جميعا مثبت مسطور فِي كِتابٍ هو لوح قضائه وحضرة علمه المحيط ولا تستبعد أمثال هذا عن جنابه سبحانه إِنَّ ذلِكَ الاطلاع على الوجه المذكور عَلَى اللَّهِ المتصف بجميع أوصاف الكمال يَسِيرٌ وبجنب قدرته وارادته سهل حقير وَهم في غاية غفلتهم عن الله وانكارهم احاطة علمه يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المستحق للعبادة بالاستحقاق ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً اى أصناما وأوثانا لم ينزل سبحانه على استحقاقهم للعبادة برهانا وتبيانا ليكون حجة دالة على مدعاهم وَبالجملة هم يعبدون ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ لا دليل عقلي ولا نقلي دال على لياقتهم واستحقاقهم للعبادة والانقياد بل ما يعبدون الا ظلما وزورا بلا سند عقلي او نقلي وَبالجملة ما لِلظَّالِمِينَ المتجاوزين عن مقتضى العقل والنقل حين بطش الله إياهم وانتقامه عنهم مِنْ نَصِيرٍ ينصرهم او يستدفع عنهم العذاب ويستشفع لهم عنده سبحانه بتخفيفه وَمن غاية ظلمهم وخروجهم عن مقتضى الحدود الإلهية إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا مع كونها بَيِّناتٍ واضحة الدلالات عليها تَعْرِفُ وتبصر أنت ايها الرائي فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بها الْمُنْكَرَ اى علامات الإنكار وامارات العتو والاستكبار بحيث ترونهم من شدة شكيمتهم وغيظهم المفرط يَكادُونَ ويقربون يَسْطُونَ يبطشون ويأخذون بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا يعنى النبي وأصحابه غيظا عليهم وعلى ما جرى من ألسنتهم بل على من انزل عليهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع أَتغيظون وتضجرون من استماع هذه الآيات العظام وتتشاءمون من سماعها فَأُنَبِّئُكُمْ وأخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ الآيات وهو أشد غيظا واكثر ضجرة وكآبة منها يعنى النَّارُ المسعرة

[سورة الحج (22) : آية 73]

الموعودة التي قد وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى لهم ولأجلهم بسبب كفرهم وضلالهم وَبالجملة بِئْسَ الْمَصِيرُ والمنقلب النار المسعرة المعدة لأصحاب الإنكار والضلال يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان والجهل عن عظمة الله وحق قدره لذلك قد أثبتم له أمثالا واشباها مع تعاليه وتنزهه عن الشركة مطلقا اسمعوا ايها المشركون المبطلون قد ضُرِبَ مَثَلٌ في حق شركائكم ومعبوداتكم الباطلة فَاسْتَمِعُوا لَهُ سمع تدبر وتأمل ثم أنصفوا واعدلوا بلا مكابرة وعناد إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ وتعبدون أنتم ايها المدعون المكابرون مِنْ دُونِ اللَّهِ القادر المقتدر بعموم المقدورات بالعلم المحيط والارادة الكاملة والحكمة المتقنة البالغة لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً بل لن يقدروا على خلق احقر منه واخس لا كل واحد منهم فرادى بل وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ اى لخلق الذباب وتظاهروا لإيجاده مجتمعين لن يقدروا ايضا البتة وَكيف خلق الذباب وإظهاره من العدم بل إِنْ يَسْلُبْهُمُ ويأخذ منهم الذُّبابُ الحقير الضعيف الذي لا شيء احقر منه وأضعف شَيْئاً من الالهة الباطلة اى من حليهم وزينتهم لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ولا يقدروا على ان يخرجوا من يده لعجزهم وعدم قدرتهم وبالجملة كيف تعبدون ايها الحمقى العابدون لأولئك الهلكى والعاجزين الساقطين ومن انى تطيعون بهم وتقيمون بعبادتهم فقد ظهر ولاح من هذا المثل للمتأمل المتدبر أنه قد ضَعُفَ وحط وسقط عن زمرة العقلاء ورتبتهم الطَّالِبُ العابد الجاهل وَالْمَطْلُوبُ المعبود المجهول المنحط عن رتبة احقر الأشياء وأخسها فكيف عن أعلاها وأقواها فكيف عن خالق الأشياء وموجدها ومظهرها من كتم العدم على سبيل الإبداع والاختراع تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وبالجملة ما صدر عنهم كل ما صدر من الهذيانات الباطلة العاطلة ومن المزخرفات الزاهقة الزائلة الا بواسطة انهم ما قَدَرُوا اللَّهَ القادر المقتدر على عموم المقدورات والمرادات وما عرفوا لوازم ألوهيته وما علموا حَقَّ قَدْرِهِ وقدر حقيته كما هو اللائق بشأنه لذلك ما وصفوه حق وصفه وما نسبوا اليه ما يليق بجنابه جهلا وعنادا بحيث اثبتوا له شركاء عاجزين من أضعف الأشياء وأحقرها إِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء لَقَوِيٌّ في ذاته لا حول ولا قوة الا به عَزِيزٌ غالب في امره وحكمه متصرف مستقل في ملكه وملكوته يفعل كل ما يفعل بالإرادة والاختيار ويحكم كل ما يريد بكمال الاستيلاء والاستقلال لا راد لفعله ولا معقب لحكمه الا وهو الكبير المتعال ومن علو شأنه سبحانه وسمو برهانه وكمال عزته وكبريائه وغاية سطوته وسلطانه يتوسل اليه ويتوصل نحوه بوسائل ووسائط قد اختارهم سبحانه لرسالته واجتباهم من خليقته لهداية التائهين في بيداء ألوهيته الى زلال وحدته وهداهم بمقتضى سنته وجرى عادته وحكمته انقياد دينه وملته كما أشار اليه سبحانه في كتابه حيث قال اللَّهُ العلى المتعالي ساحة عز ذاته عن ان يكون شرعة كل وارد او يطلع على سرائر أسمائه وصفاته واحدا بعد واحد بل يَصْطَفِي ويختار نفسه وذاته حسب دقائق أسمائه وصفاته مِنَ الْمَلائِكَةِ المقربين عنده رُسُلًا يرسلهم سبحانه الى خواص البشر وخلصه وَايضا يصطفى ويختار مِنَ خيار النَّاسِ واشرافهم رسلا يرسلهم نحو عموم العباد بالنبوة والرسالة ليرشدوهم الى توحيده سبحانه ويهدوهم الى سواء طريقه إِنَّ اللَّهَ المطلع لاستعدادات عباده سَمِيعٌ يسمع جميع أقوالهم ومناجاتهم ويقضى عموم حاجاتهم بَصِيرٌ يبصر جميع أعمالهم وأفعالهم ويجازيهم عليها إذ يَعْلَمُ سبحانه بعلمه الحضوري منهم عموم ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من الأفعال

[سورة الحج (22) : آية 77]

والأحوال حالا حاضرا وَكذا عموم ما خَلْفَهُمْ من الأخلاق والأطوار ماضيا ومستقبلا غائبا وَبالجملة إِلَى اللَّهِ الذي قد بدأ منه عموم ما بدا تُرْجَعُ الْأُمُورُ الكائنة ازلا وابدا ظاهرا وباطنا حالا ومآلا دنيا وعقبى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق ورجوع الكل نحوه أولا وبالذات ارْكَعُوا عنده خاضعين خاشعين منكوسين منكسرين وَاسْجُدُوا له متواضعين متذللين وَبالجملة اعْبُدُوا بجميع اركانكم وجوارحكم رَبَّكُمْ الذي رباكم بأنواع النعم كي تعرفوا ذاته حسب استعداداتكم وقابلياتكم واشكروا نعمه الفائضة عليكم وأدوا حقوق كرمه مقدار وسعكم واعبدوا إياه حق عبادته حسب طاقتكم وَبالجملة افْعَلُوا الْخَيْرَ على الوجه الذي أمرتم به طلبا لمرضاته واحذروا عن الشر هربا عن سخطه وحلول غضبه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون بما وعدتم من جنة المأوى وشرف اللقاء. وفقنا بفضلك وجودك بما تحب عنا وترضى وَبعد ما سمعتم ما سمعتم من علو شأنه وكمال عظمته وكبريائه وبسطته وبهائه جاهِدُوا فِي اللَّهِ واجتهدوا في طريق توحيده حَقَّ جِهادِهِ وابذلوا وسعكم وطاقتكم في سلوك سبيل المعرفة والتوحيد مرابطين قلوبكم الى الله باذلين مهجكم في سلوك سبيل الفناء فيه وكيف لا تجاهدون مع انفسكم ولا يرابطون قلوبكم ايها المائلون الى الله بالميل الحبى الشوقى مع انه هُوَ بذاته قد اجْتَباكُمْ واصطفاكم من بين بريته لدرك توحيده والاتصاف بعرفانه وقد أرسل عليكم الرسل وانزل الكتب ليرشدوا لكم اليه ويبينوا لكم طريق توحيده بوضع المناهج والطرق والمسالك الموصلة اليه والملل والأديان المثمرة له وَبالجملة ما جَعَلَ سبحانه عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ والشريعة الموضوعة بينكم مِنْ حَرَجٍ ضيق وعسر خارج عن وسعكم وطاقتكم بل قد وسع سبحانه عليكم الأمر وفضلكم على سائر خليقته حيث فطركم على فطرة المعرفة وجبلكم على جبلة التوحيد وجعل ملتكم مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ صلوات الرّحمن عليه وسلامه إذ لا ضيق فيه ولا حرج أضاف سبحانه ابوة ابراهيم الى الامة إذ هو صلّى الله عليه وسلم جد الرسول صلّى الله عليه وسلّم والرسول أب لهم إذ رسول كل امة بالنسبة الى أمته أب بل هو خير الآباء بإرشادهم الى الحق ولا معنى للأب حقيقة الا المرشد المربى وكما جعل سبحانه ملتكم ملة ابراهيم هُوَ سبحانه بذاته ايضا قد سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ في كتبه السالفة حيث قال سبحانه من يؤمن ويصدق بمحمد خاتم النبوة والرسالة يصير مسلما وَفِي هذا الكتاب قد بين التسمية على وجه التسليم وسماكم فيه ايضا مسلمين ضمنا وانما سماكم سبحانه مسلمين مسلمين منقادين لِيَكُونَ الرَّسُولُ الذي هو أكمل الرسل وأفضل الأنبياء بنفسه شَهِيداً عَلَيْكُمْ شاهدا على انقيادكم وتسليمكم في يوم الجزاء وَتَكُونُوا أنتم ايضا بسبب هذا الاسم والتسمية والاضافة أفضل الأمم واشرف الفرق وبواسطة كونكم من أمته وزمرته وتحت لوائه وفي حيطة حوزته تكونون شُهَداءَ أمناء عَلَى عموم النَّاسِ بتبليغ رسالته صلّى الله عليه وسلم إليهم واظهار الدعوة لهم وبعد ما ثبت خيريتكم وشرفكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ واديموا الميل والتوجه نحو الحق بجميع الجوارح والأركان تقربا اليه شوقا وتحننا وَآتُوا الزَّكاةَ المسقطة لميلكم والتفاتكم الى زخرفة الدنيا وحطامها وَبالجملة اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ في كل الأحوال واثقين بفضله وجوده وفوضوا أموركم كلها اليه متوكلين عليه إذ هُوَ مَوْلاكُمْ ناصركم ومعينكم ومتولى أموركم فَنِعْمَ الْمَوْلى الأمين هو سبحانه وَنِعْمَ النَّصِيرُ الناصر المعين ذو القوة المتين حسبنا الله ونعم الوكيل

خاتمة سورة الحج

خاتمة سورة الحج ايها السالك المجاهد في سبيل الله مع اعداء الله التي هي عبارة عن موانع الوصول الى توحيده الذاتي ان تجاهد او لامع نفسك التي بين جنبيك إذ هي أعدى عدوك وأشد صولة واستيلاء على مملكة باطنك وقلبك الذي هو مخيم سرادقات سلطان الوحدة ومحل نزول قهرمان العزة ومهبط الوحى الإلهي والوارد الغيبى فلك ان تزيل صولتها وتشتت شملها وتفرق جمعها التي هي جنودها وأعوانها من القوى الشهوية والغضبية وجميع الأوصاف البهيمية المستدعية الداعية الى تخريب القلب وتعمير النفس الامارة بالسوء وتقويتها وتقويمها إذ عداوتها ومنعها ذاتية حقيقية بلا واسطة وعداوة سائر الموانع بواسطتها وإياك إياك الإطاعة والانقياد إليها فإنها تشغلك عن الحق وتضلك عن سبيله وتغريك الى الباطل ونفودك الى طريقه. فاعلم ايها المجاهد الطالب للغلبة على جنود النفس الامارة انه لا يمكن لك هذا ولا يتيسر عليك الا بالاعتزال عن أقطاع الشيطان وعن مملكة النفس ومشتهياتها ومستلذاتها بالكلية وبالتشمير نحو الحق بالعزيمة الخالصة عن مطلق الرياء والرعونات والانخلاع عن مقتضيات الأوصاف البشرية بالإرادة الصادقة وبالتوجه التام نحو الوحدة الذاتية من طريق الفناء بإسقاط الإضافات المشعرة لتوهم الكثرة وبالجملة لا يتم سلوك السالك في طريق التوحيد الا بالفناء في الله والبقاء ببقائه ربنا هب لنا من لدنك جذبة تنجينا عن مضائق هوياتنا وتوصلنا الى فضاء توحيدك بمنك وجودك [سورة المؤمنين] فاتحة سورة المؤمنين لا يخفى على المؤمنين المفلحين الفائزين بالدرجة العلية والمرتبة السنية من مراتب التوحيد المنتظرة لأرباب الولاء الوالهين في سر سريان الوحدة الذاتية وكيفية امتدادها وانبساطها على هياكل التعينات وتماثيل الهويات العدمية المنصبغة بصبغ الوجود الفائض من التجليات الذاتية والشئون الصفاتية المتشعشعة من الذات الاحدية لإظهار الكمالات المندمجة فيها ان ترقى المؤمنين الموقنين بالتوحيد الذاتي من حضيض البشرية المتصفة بالأوصاف الناسوتية والتطورات الطبيعية الى ذروة الشئون الذاتية اللاهوتية المنعكسة من الأسماء الذاتية الإلهية انما هو بالميل المقارن بالخشوع والخضوع والتذلل التام والانكسار المفرط المسقط للوازم الأنانية المبعدة عن الحق وكذا بالإعراض والانصراف عن فرطات الألحاظ وسقطات الألفاظ وبالتطهر والتعري عن زخرفة الدنيا المانعة من الوصول الى المولى وكذا عن جميع الأوصاف البهيمية من الغضبية والشهوية الا ما تقضيه الحكمة الإلهية من الإبقاء والاستغناء فمن تعدى وتجاوز عنه فقد لحق بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا. وبالجملة لا بد للقاصد السائر السالك نحو الحق من الميل الخالص الدائم والتوجه التام المستمر نحوه مع انخلاع عن لوازم ناسوته ورسوم هويته مطلقا متدرجا في افنائها وفنائها الى ان يفنى عن الافناء والفناء ايضا حتى يمكن له الوصول الى فضاء اللاهوت وسعة حضرة الرحموت فح انقطع السير وارتفع الغير ولم يبق الا الخير الى الخير الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لذلك اخبر سبحانه في هذه السورة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم عن احوال المؤمنين الموقنين اوصافهم وترقبهم فيها فقال متبركا باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي قد أفاض على ارباب الايمان بعد رسوخهم وتمكنهم فيه كرامة التوحيد والعرفان الرَّحْمنِ عليهم يوفقهم على انواع الطاعات واصناف الخيرات والمبرات الموصلة الى درجات الإحسان الرَّحِيمِ لهم ينجيهم عن دركات النيران ويوصلهم

الآيات

الى أعلى طبقات الجنان [الآيات] قَدْ أَفْلَحَ وفاز بمرتبة حق اليقين التي هي أعلى مراتب التوحيد ومنتهى الصعود والعروج ومنقطع الطلب والسلوك الْمُؤْمِنُونَ الراسخون في اليقين العلمي والعيني الجازمون الثابتون فيهما بلا تزلزل وتلوين الَّذِينَ هُمْ من كمال رسوخهم وتمكنهم فِي صَلاتِهِمْ وميلهم التي هي عبارة عن معراج الوصول الى مرتبة الرضاء والقبول خاشِعُونَ مخبتون متضرعون متحننون نحو الحق عن ظهر القلب وعموم الجوارح والأعضاء بلا تلعثم وعثور وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ الشاغل لهم عن التوجه نحو الحق مُعْرِضُونَ منصرفون مثل اعراضهم وانصرافهم عن مكروهات نفوسهم وقلوبهم وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ المطهرة لنفوسهم عن الميل نحو امتعة الدنيا وحطامها الفانية فاعِلُونَ تمرينا لنفوسهم على ترك الميل والالتفات إليها وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ التي هي أجل مواريث بهيميتهم وأقوى قوائم بشريتهم حافِظُونَ ناكسون رؤسهم عن مقتضاها راكنون عما تأملها وتهويها إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من الإماء والسراري حفظا لحكمة إبقاء النوع ومصلحة التناسل فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ على ذلك ان ارتكبوا بلا مبالغة مفرطة زائدة على قدر الحاجة فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ وطلب التجاوز عن قدر الحاجة من الحلائل المذكورة فَأُولئِكَ البعداء الخارجون عن مقتضى الحد والحكمة المتقنة الإلهية هم العادُونَ المقصورون على التجاوز والعدوان لا يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح وَالَّذِينَ هُمْ من كمال عدالتهم وقسطهم الفطري واعتدال اوصافهم الجبلية وأخلاقهم الصورية والمعنوية لِأَماناتِهِمْ التي قد ائتمنوا عليها ثقة واعتمادا وَعَهْدِهِمْ الذي عهدوا به سواء كانت الامانة والعهد لله او لعباده مطلقا سواء كانوا مؤمنين او كافرين راعُونَ قائمون مواظبون على حفظها ورعاية حقها بلا فوت شيء من حقوقها ورعايتها وَبالجملة المؤمنون المفلحون الفائزون بالعاقبة الحميدة التي هي مرتبة الكشف والشهود المعبر عنها عند ارباب المحبة والولاء بالحق اليقين الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ المقربة لهم الى ربهم يُحافِظُونَ يداومون ويواظبون على أدائها في أوقاتها المكتوبة بشرائطها المفروضة وآدابها المسنونة مقارنين موصوفين مع ما ذكر من الأوصاف الجميلة المذكورة آنفا ومع الأخلاق الحميدة المرضية والسجايا الفاضلة الكاملة مخلصين فيها مجتنبين عن رذائل الرياء والرعونة والعجب والسمعة أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله هُمُ الأولياء الْوارِثُونَ عن الأنبياء والرسل وعن صفوة عباده وخيرتهم يعنى الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ التي هي عبارة عن التحقق بمقام الكشف والشهود باستحقاقهم الذاتي سيما مع استرشادهم واستفادتهم من الأنبياء والرسل الهادين المهديين الراشدين المرشدين لهم الى ما جبلوا لأجله لذلك هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون متمكنون متقررون بحيث لا يتبدلون ولا يتحولون وَكيف لا يرثون الفردوس ولا يخلدون فيها أولئك المفلحون مع انهم قد جبلوا لأجلها سيما إذا كملوا وتمموا نسكهم على الوجه الذي هداهم الأنبياء والرسل الهادون والأولياء الأمناء الراشدون المرشدون الذينهم خلفاء عن الرسل الكرام والأنبياء العظام عليهم التحية والسّلام والإكرام وهؤلاء العظماء الواصلون الى أعلى المقامات وارفع الدرجات منتشؤن من نوع الإنسان مع انا لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وقدرنا جسم آدم وبنيته أولا مِنْ سُلالَةٍ اى زبدة وخلاصة منتخبة متخذة مِنْ طِينٍ الذي هو أقوى مواد الأجسام السفلية وأقوم عناصرها وهيولاها ولا شك انه أدون الأشياء وارذلها ثُمَّ جَعَلْناهُ وصيرنا ما انتخبنا وأخذنا من الطين نُطْفَةً بيضاء وقررناها زمانا فِي قَرارٍ ومستقر مَكِينٍ

[سورة المؤمنون (23) : آية 14]

حصين متين الذي هو ظلمة الرحم ثُمَّ بعد ما مكناها في المقر المذكور المكين زمانا قد خَلَقْنَا وصيرنا النُّطْفَةَ المقررة المتمكنة في الرحم عَلَقَةً دما حمراء منعقدة ممتزجة بدم الطمث منصبغة به فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ الحمراء مُضْغَةً لحما متصلا ملتصقا اجزاؤه بحيث صار قابلا للمضع فَخَلَقْنَا وصيرنا بعد ذلك الْمُضْغَةَ الملتصقة المتصلة بعد انفصالها وتفريقها التقديري بمقتضى الحكمة عِظاماً صلبة خارجة عن قابلية المضغ والتليين مقومة محكمة غير مائلة وغير قابلة للتبديل والتحريف ليكون قوائم واعمدة للجسم فَكَسَوْنَا الْعِظامَ الصلبة القابلة للكسر والانكسار لَحْماً صونا لها عما يضرها ويكسرها فتم حينئذ تركيب صورته الجسمية وقالبه الطبيعي بجميع لوازمها ومتمماتها من العروق والعظام والغضاريف والشريانات وغيرها من الرباطات والارتباطات ورقائق الامتزاجات ودقائق الاختلاطات الواقعة بين أجزاء البدن ثُمَّ بعد ما تم تركيبه وكمل مزاجه وتصويره على أبدع وجه وأحسنه وصار حيوانا حساسا متحركا بالإرادة كسائر الحيوانات أَنْشَأْناهُ اى قد أبدعنا واودعنا واخترعنا في هيكله خاصة خَلْقاً مخلوقا آخَرَ مختصا به من بين سائر انواع الحيوانات بان قد نفخنا فيه من روحنا حتى يسرى الى عموم أعضائه واجزائه وآلاته مطلقا ليتصف باوصافنا الكاملة ويتخلق باخلاقنا الفاضلة وما ذلك الا ليستحق بخلافتنا ونيابتنا ويليق لان يصير مرأة لنا قابلة لانعكاس اظلال أسمائنا الحسنى واوصافنا العليا فَتَبارَكَ تعالى وتعاظم اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم القادر المقتدر بالقدرة الكاملة على إيجاد أمثال هذه التبدلات والتطورات التي قد تحيرت العقول عندها وانحسرت الافهام دونها وبالجملة سبحانه هو في ذاته أَحْسَنُ الْخالِقِينَ وأكرم القادرين المقدرين تقديرا وخلقا وأتمهم ابداعا واختراعا لو فرض مقدر غيره وخالق سواه مع انه محال عقلا وعادة بل لا اله الا هو ولا موجود سواه ثُمَّ إِنَّكُمْ يا بنى آدم بَعْدَ ذلِكَ اى بعد تتميم صوركم ومعناكم على الوجه الذي ذكر لَمَيِّتُونَ بالآجال المقدرة من لدنا لانقضاء حياتكم في النشأة الأولى ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة للعرض والجزاء تُبْعَثُونَ وتحشرون في النشأة الاخرى لانتقاد ما اكتسبتم في النشأة الاولى ثم تجازون حسب ما تحاسبون فريق في الجنة معززون وفريق في النار معذبون الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ثم أخذ سبحانه في تعداد نعمه على عباده تفضلا عليهم وامتنانا فقال وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ سموات طَرائِقَ متطارقة متطابقة بعضها فوق بعض مشتملة على كواكب مدبرات لما في عالم السفلى من الأشياء المتعلقة لمعاشكم وَبالجملة ما كُنَّا في حال من الأحوال السابقة واللاحقة عَنِ الْخَلْقِ اى عن جميع المخلوقات المستندة إلينا الظاهرة من امتداد اظلالنا المنعكسة من اوصافنا وأسمائنا غافِلِينَ ذاهلين عن حفظها وتفقدها ولولا امدادنا إياها طرفة لفنى الكل دفعة وَمن كمال جودنا ووفور رحمتنا الى عموم عبادنا قد أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بعد ما اصعدنا الابخرة والادخنة من الأرض نحوها وركبناهما تركيبا بليغا بديعا الى ان صارت سحبا متراكمة متكاثفة فتقاطر منها الماء بمجاورة الهواء الباردة إياها ونفوذها فأرسلنا الى الأرض الجرز بِقَدَرٍ معلوم معتدل فَأَسْكَنَّاهُ وأدخلناه فِي خلال الْأَرْضِ وتجاويفها ومساماتها حتى ندخر فيها ثم فجرنا ينابيع يخرج الماء منها متدرجا ويجرى على قدر الحاجة تتميما لحوائج عبادنا وتيسيرا لهم في معاشهم وَإِنَّا بعد ما اسكنا وأجرينا الماء في الأرض عَلى ذَهابٍ بِهِ اى اذهاب الماء واعدامه بالاغوار والتفريق

[سورة المؤمنون (23) : آية 19]

والتجفيف وغير ذلك من طرق الاذهاب والازالة لَقادِرُونَ كما انا قادرون على انزاله وإخراجه واجرائه وبعد ما اخترنا وادخرنا الماء فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ اى بالماء المدخر جَنَّاتٍ حدائق وبساتين مملوة مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ هما معظم الفواكه وأصلها وبالجملة لَكُمْ فِيها اى في تلك الجنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ متفرعة عليهما ملتفة بهما من انواع الفواكه على ما هو عادة الدهاقين في غرس الحدائق والبساطين وَمِنْها اى من تلك الجنات ايضا تَأْكُلُونَ تغذيا وتقوتا إذ تزرعون فيها ايضا من انواع الحبوبات وَلا سيما قد انشأنا لكم بالماء شَجَرَةً مباركة تَخْرُجُ وتنشأ مِنْ طُورِ سَيْناءَ هو جبل رفيع بين مصر وايلة تَنْبُتُ وتثمر ملتبسة ممتزجة بِالدُّهْنِ المضيء للسروج والقناديل وَصِبْغٍ ادام حاصل متخذ منها لِلْآكِلِينَ إذ الناس يغمسون اخبازهم فيه تأدما وَإِنَّ لَكُمْ ايها المتأملون في نعمنا المعتبرون من انعامنا فِي الْأَنْعامِ والدواب التي تنعمون بها من لدنا لَعِبْرَةً عظيمة واعتبارا ظاهرا دالا على كمال قدرتنا وجلالة نعمتنا لو تعتبرون منها إذ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها ونخرج لكم من بين الأخلاط والفضلات لبنا خالصا سائغا للشاربين مع انه لا مناسبة بينه وبين مجاوره وملاصقه من الفرث والدم وسائر الأخلاط والفضلات وَايضا لَكُمْ فِيها اى في الانعام مَنافِعُ كَثِيرَةٌ من ظهورها وأصوافها واشعارها واوبارها وغير ذلك وَايضا مِنْها تَأْكُلُونَ اى من لحومها تقوية لأمزجتكم وتقويما لها بالجملةلَيْها اى بعض الانعام في البر عَلَى الْفُلْكِ في البحرحْمَلُونَ وبعد ما عد سبحانه نبذا من نعمه الجليلة التي قد أنعم بها على عباده شرع في توبيخ من يكفر بها ولم يؤد حق شكرها فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنا حسب حكمتنا واصلاحنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ حين انحرفوا عن جادة العدالة الفطرية وانصرفوا عن طرق الاستقامة وسبل السلامة مطلقا فَقالَ بمقتضى وحينا إياه مناديا لهم ليقبلوا اليه على مقتضى شفقة النبوة والرسالة وعطف الإرشاد والهداية يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه امحاضا للنصح وإظهارا لكمال الإشفاق اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد واعلموا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق ويستحق بالعبادة غَيْرُهُ أَتتخذون الها سواه فَلا تَتَّقُونَ ولا تحذرون عن بطشه وانتقامه بأنواع العذاب والنكال ايها المسرفون المفرطون وبعد ما قد ظهر عليهم بدعوى الرسالة واظهر لهم الدعوة على الوجه المذكور فَقالَ الْمَلَأُ والأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ باتخاذ الأوثان والأصنام آلهة قد عبدوها مثل عبادة الله على سبيل الخطاب لضعفاء العوام ترويجا لكفرهم وتحقير اله ولدعوته ما هذا الرجل الحقير الدنى المدعى للرسالة والنبوة من الله الموهوم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بل أضعفكم حالا وأدناكم عقلا ومالا يُرِيدُ مع غاية حقارته ودنائته أَنْ يَتَفَضَّلَ ويتفوق عَلَيْكُمْ بهذه الدعوة الكاذبة والافتراء الباطل وَلَوْ شاءَ اللَّهُ إرسال رسول ونبي لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً إذ هم اولى وأليق بالإرسال من عنده ولهم مناسبة معه بخلاف البشر إذ لا مناسبة له معه سبحانه وتعالى مع انا ما سَمِعْنا بِهذا اى برسالة البشر من الله لا في زماننا هذا ولا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ وبالجملة لم يعهد هذا لا في الازمنة السابقة ولا في اللاحقة بل إِنْ هُوَ وما هذا المدعى إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ يعنى قد عرض له جنون فاختل دماغه وذهب عقله فيتخبط الشيطان لذلك يتفوه بأمثال هذه الهذيانات المستبعدة المستحيلة وبالجملة فَتَرَبَّصُوا بِهِ وأمهلوه وانتظروا في امره

[سورة المؤمنون (23) : آية 26]

وشأنه ولا تميلوا نحوه ولا تلتفتوا اليه حَتَّى حِينٍ ومضى مدة وزمان ليظهر لكم خبطه واختلاله او يفيق عما هو عليه من الخبط والجنون وعاد على ما كان قبل ثم لما سمع منهم نوح عليه السّلام ما سمع من التجهيل والتسفيه وايس منهم وقنط عن ايمانهم وصلاحهم قالَ مشتكيا الى الله مستعينا منه رَبِّ يا من رباني بأنواع الكرم وأرسلني الى هؤلاء الضالين عن سواء سبيلك لأهديهم الى توحيدك فبلغت ما أرسلت به إياهم فلم تقبلوا منى بل قد كذبوني وسفهونى انْصُرْنِي يا رب باهلاكهم وتعذيبهم بِما كَذَّبُونِ اى بدل تكذيبهم إياي وبسببه فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ انجازا لما قد وعدنا إياهم من العذاب والهلاك بعد تكذيبهم الرسول وعموم ما جاء به من عندنا من الايمان والتوحيد وجميع المعتقدات الاخروية أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ واعمل السفينة الموعودة لك ولا تخف عن فسادها بعدم تعلمك من احد بل اصنعها أنت بِأَعْيُنِنا وبين أيدينا وفي حضورنا نحفظك عن عروض الخطأ والفساد في صنعها وَأعملها على مقتضى وَحْيِنا وأمرنا وتعليمنا لك كيفية صنعها ولا تبال بتسفيههم لك واستهزائهم معك ونسبتك الى الخبط والجنون وانواع الأذيات فَإِذا جاءَ أَمْرُنا الوجوبي المتعلق باغراقهم واستئصالهم وَفارَ التَّنُّورُ المعين المعهود في حضرة علمنا فورة ونبع منه الماء نبعة فَاسْلُكْ أنت حينئذ وادخل على الفور فِيها اى في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ اى من كل نوع من الحيوانات اثنين ذكرا وأنثى إبقاء لعموم الأنواع في العالم وَاسلك ايضا فيها أَهْلَكَ ومن ينتمى إليك قرابة ودينا إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ والحكم منا وجرى في لوح قضائنا وحضرة علمنا بانه من الهالكين مِنْهُمْ اى من أهلك يعنى ادخل عموم أهلك سوى من مضى قضاؤنا ونفذ حكمنا بغرقه وهلاكه وهو ابنه كنعان وَبعد ما سبق القضاء منا باهلاك من كفر من أهلك عليك ان لا تُخاطِبْنِي يا نوح ولا تدع الىّ في حق من سبق الحكم منى بغرقه ولا تسع فِي خلاص القوم الَّذِينَ ظَلَمُوا على أنفسهم بالعرض على عذابنا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ معدودون عن عداد الغرقى الهلكى ولا اثر لدعائك لهم بعد ما قد صار الأمر منا حتما مقضيا وصدر الحكم عنا مبرما جزما فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ يا نوح وتمكنت وَتمكن ايضا مَنْ مَعَكَ مع المؤمنين عَلَى الْفُلْكِ وصرتم متمكنين مستقرين عليها فَقُلِ شكرا لما أنعمنا عليك من انجاز النصرة المعهودة الموعودة لك وإهلاك عدوك وغير ذلك من النعم العظام الواصلة إليك الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا من سعة رحمته وكمال جوده ومرحمته مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى العقل والشرع عتوا وعنادا وَقُلْ ايضا بعد ما تمكنت على السفينة رَبِّ أَنْزِلْنِي بفضلك ولطفك مُنْزَلًا مُبارَكاً كثير الخير والبركة وَأَنْتَ من كمال جودك خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ لو فرض منزل سواك ومع انه لا منزل غيرك ولا وجود لسواك لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من قصة نوح مع قومه ونجاته من الغرق وهلاك قومه وتعليم صنع السفينة عليه وخروج الماء من التنور المعهود واحاطته على وجه الأرض وشموله عليها ونجاة من كان في السفينة وغير ذلك من الأمور البديعة لَآياتٍ دلائل واضحات على كمال قدرتنا وارادتنا واختيارنا في عموم أفعالنا وتصرفاتنا على المعتبرين المتأملين في بدائع الأمور وغرائبها الناظرين بعين العبرة والاستبصار في حدوث أمثال هذه الوقائع الهائلة وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ اى ان الشأن والأمر انا باحداث هذه الحوادث مع قوم نوح لمختبرين مجربين عموم عبادنا لننظر من يعتبر ويتعظ بها منهم وما هي الا تذكرة وتذكير منا

[سورة المؤمنون (23) : آية 31]

إياهم ثُمَّ بعد إهلاك قوم نوح وإغراقهم أَنْشَأْنا وأظهرنا من ذرية من في سفينة نوح عليه السّلام مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ هم عاد وثمود فانحرفوا ايضا عن جادة التوحيد فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا ناشئا مِنْهُمْ ابتلاء لهم واختبارا لمن اعتبر منهم فقال لهم رسولهم على مقتضى وحينا والهامنا إياه أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد المستقل بالالوهية والوجود واعلموا انه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد له ويرجع اليه غَيْرُهُ أَتتخذون وتأخذون غيره الها وتعبدون له إفكا وتتضرعون نحوه في الوقائع والخطوب فَلا تَتَّقُونَ من غضبه ولا تخافون عن قهره وانتقامه ايها المفسدون المفرطون وَبعد ما بلغهم الرسول الوحى به قالَ الْمَلَأُ مِنْ اعيان قَوْمِهِ عتوا واستكبارا وهم الَّذِينَ كَفَرُوا بالله باتخاذ الأصنام آلهة وأنكروا وحدة الا له وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ ويوم العرض والجزاء وعموم المواعيد والوعيدات الموعودة فيها وَمع كفرهم وشركهم وانكارهم بالنشأة الاخرى قد أَتْرَفْناهُمْ بوفور نعمنا إياهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا امهالا لهم مخاطبين لضعفة قومهم وسفلتهم ما هذا المدعى الكاذب إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بلا مزية له عليكم يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ ايضا مِمَّا تَشْرَبُونَ وَالله لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً فيما يأمركم به من تلبيساته وتغريراته مع كونه مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ في إطاعتكم وانقيادكم لبنى نوعكم إِذاً لَخاسِرُونَ خسرانا عظيما لا خسران أعظم منه إذ هو خسران العقل والإدراك وتذليل النفس العزيزة بمثلها تغريرا أَتسمعون وتقبلون منه ايها المجبولون على الدرية والدراية ما يَعِدُكُمْ به من الخرافات المستبعدة عن مقتضى العقل والإدراك وذلك أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً رميما ورفاتا بحيث قد تفرقت اجزاؤكم وتفتتت الى ان صارت منبثة بل عدما صرفا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ منها احياء معادون الى ما كنتم عليه من التشخصات والتعينات هَيْهاتَ هَيْهاتَ قد بعد بعدا تاما واستحال استحالة شديدة وامتنع امتناعا ظاهرا لِما تُوعَدُونَ من البعث بعد الموت والوجود بعد العدم والإعادة بعد الاماتة بل إِنْ هِيَ وما الحيوة لنا ايها العقلاء المجبولون على فطرة الدراية والشعور إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا اى ما هي حاصلة لنا الا فيها إذ وجودنا وعدمنا وايجادنا واعدامنا ما هو الا فيها وبالجملة نَمُوتُ ونعدم بعد ما قد كنا موجودين فيها وَنَحْيا ايضا ونوجد بعد ما كنا معدومين فيها وَبالجملة ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ منشرين من قبورنا احياء بعد ما متنا فيها كما نشاهد من سائر الأشياء يعنى لا منزل لنا سوى الدنيا حياتنا فيها ومماتنا فيها لا دار لنا غيرها وبالجملة إِنْ هُوَ وما هذا المدعى الكذاب إِلَّا رَجُلٌ مفتر كاذب قد افْتَرى قصدا ونسبه عَلَى اللَّهِ كَذِباً عمدا تغريرا وترويجا مراء وافتراء من انه قال قد أرسلني الله واوحانى كذا كذا وما هي الا مفتريات قد اخترعها من تلقاء نفسه وَبالجملة ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ بمجرد هذا الدعوى وان أثبتها ايضا إذ هو بشر مثلنا ولا رسالة للبشر الى البشر وبعد ما يئس عن ايمانهم أخذ في الدعاء عليهم مشتكيا الى الله حيث قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ وعذبهم بتكذيبهم إياي وتكذيبي مستلزم لتكذيبك يا ربي قالَ سبحانه اصبر ولا تستعجل في انتقامهم انهم عَمَّا قَلِيلٍ اى عن زمان قليل وأوان قصير لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ على ما فعلوا من التكذيب والإنكار فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الهائلة من جانب السماء بغتة قيل صاح عليهم جبرائيل عليه السّلام صيحة هائلة مهولة بعد ما تعلق ارادة الله باهلاكهم ملتبسة بِالْحَقِّ اى بالعذاب الثابت المحقق الواجب وقوعه حتما فَجَعَلْناهُمْ وصيرنا اجسادهم

[سورة المؤمنون (23) : آية 42]

غُثاءً اى كالغثاء التي يسيل بها الماء وهي الزبد والخشائش التي يذهب بها الماء وقت سيلانه فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وبعد ما صاروا كذلك قيل في حقهم قد بعد بعدا وطردا للقوم الخارجين عن مقتضى أوامر الله ونواهيه النازلة منه سبحانه على ألسنة أنبيائه ورسله ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ بعد انقراضهم وانقضائهم قُرُوناً آخَرِينَ يعنى قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم من الأمم الهالكة المستهلكة على الكفر والعناد بسبب تكذيب الرسل والكتب وبالجملة قد أهلكنا كلا منهم فرادى بحيث ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها اى ما تستعجل وتستقدم امة منهم أجلها الذي قد عيناه لإهلاكهم وقدرنا هلاكهم فيه وَما يَسْتَأْخِرُونَ ايضا اى لا يسع لهم لا الاستقدام ولا الاستئخار في المدة المقدرة المعينة لهلاكهم ثُمَّ بعد ما انقرضوا قد أَرْسَلْنا ايضا رُسُلَنا على المنحرفين عن جادة توحيدنا المصرفين عن مقتضى سنتنا وحكمتنا تَتْرا متواترة متتالية بلا تخلل فترة بينهم بحيث كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها لإصلاح حالهم واعتدال أخلاقهم وأعمالهم كَذَّبُوهُ وأنكروا له وظهروا عليه بالمقاتلة والمشاجرة فأهلكناهم واستأصلناهم بسبب تكذيبهم وانكارهم وبالجملة فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً بالهلاك اى أهلكناهم متتابعين بعضهم بعد بعض الى حيث طهرنا الأرض عن خباثتهم وقساوتهم وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ اى قد صيرناهم حكايات وقصصا يسمر بها السامرون ويعتبر المعتبرون عما جرى عليهم ويقال في حقهم بعد استماع قصصهم على سبيل العدة فَبُعْداً اى طردا وحرمانا ومقتا وخذلانا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بالله ولا يصدقون رسله وجميع ما جاءوا به من عنده سبحانه من المعتقدات المتعلقة بالنشأتين ثُمَّ بعد انقراض أولئك الحمقى الهلكى قد أَرْسَلْنا مُوسى وَقرنا له أَخاهُ هارُونَ ليكون ردأ له ووزيرا عنده مؤيدين بِآياتِنا الدالة على كمال قدرتنا ومتانة صنعتنا وحكمتنا لتكون معجزة لهما خارقة للعادات صادرة عنهما ملزمة لمن يقابلهما وَمع ذلك قد قويناهما بورود سُلْطانٍ مُبِينٍ برهان عقلي مبين ومعجزة ساطعة منا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ واشراف قومه فبلغ الموحى به إليهم واظهر الدعوة عندهم فَاسْتَكْبَرُوا عن قبولها عنادا وعتوا وَهم قد كانُوا في أنفسهم وحسب زمانهم قَوْماً عالِينَ متجبرين متكبرين بحيث قد ترقى امر فرعون في العتو والاستكبار الى ان ادعى الربوبية والألوهية لنفسه فَقالُوا بعد ما سمعوا منهما ما سمعوا من الايمان بالله والدعوة الى توحيده والإتيان بالأعمال الصالحة والامتثال بالأوامر والاجتناب عن النواهي المنزلة في التورية متشاورين بينهم مستبعدين عن أمرهما متهكمين معهما قائلين أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ اى لهذين البشرين ونقبل منهما قولهما مع كونهما مِثْلِنا في البشرية بلا مزية لهما علينا لا بالمال ولا بالكمال وَلا بالنسب ايضا إذ قَوْمُهُما الذين قد انتشئا منهم لَنا عابِدُونَ الى الآن ونحن أربابهم مسلطون عليهم وبالجملة كيف ننقاد ونؤمن بهما بلا شرف فيهما لا حسبا ولا نسبا فَكَذَّبُوهُما أشد تكذيب وأنكروا عليهما آكد انكار ونسبوا عموم ما أتيا به من الحجج والمعجزات الى السحر والشعبذة وبالجملة قد خاصموا معهما أشد الخصومات فَكانُوا بالآخرة بسبب انكارهم وتكذيبهم وإصرارهم مِنَ الْمُهْلَكِينَ المستأصلين بالإغراق في بحر قلزم او النيل وَاذكر يا أكمل الرسل لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى من كمال كرامتنا ولطفنا معه الْكِتابَ اى التورية الجامع لإصلاح الظاهر والباطن لَعَلَّهُمْ اى قوم موسى يَهْتَدُونَ به الى مقر التوحيد وهم ما آمنوا به وبكتابه وما كانوا مهتدين

[سورة المؤمنون (23) : آية 50]

وَبعد انقضاء زمن موسى الكليم وانقراض أعدائه قد جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ عيسى عليه السّلام وَأُمَّهُ رضى الله عنها اى كل واحد منهما آيَةً دالة على كمال قدرتنا وبدائع حكمتنا وغرائب صنعتنا بان جعلنا لعيسى عليه السّلام من الخوارق والمعجزات ما لا يخفى ولمريم ايضا من الكرامات والارهاصات الخارقة للعادات منها الحمل بلا مساس زوج وسقوط التمرة من النخلة اليابسة لأجلها سيما في أوان الشتاء وحضور انواع الأطعمة والفواكه عندها حال كونها في المحراب والأبواب مغلقة عليها مع انها ما تشبه باطعمة الدنيا وفواكهها وغير ذلك من الارهاصات الغريبة وَبعد ما أخرجهما الجاهلون عن مقرهما ومنزلهما آوَيْناهُما اى ارجعناهما واوصلناهما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ اى الى مكان مرتفع من الأرض كثير المآكل والمشارب يتنعم ويترفه الساكنون فيها بلا تردد واضطراب في امر المعاش. قيل هي بيت المقدس او دمشق. ثم قال سبحانه مخاطبا لقاطبة رسله وأنبيائه اصالة ولأممهم تبعا مناديا لهم مسقطا منهم الرهبانية والزهد المفرط المؤدى الى تخريب البنية وضعف القوى المدركة والمحركة عن مقتضاها وكذا جميع آلات الجوارح المعمول بها يا أَيُّهَا الرُّسُلُ يعنى نادى سبحانه كل واحد منهم في زمانه كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ التي قد أبحنا لكم حسب ما يسد جوعتكم ويعتدل امزجتكم وأطيب مطاعمكم كسب أيديكم وَبعد ما اعتدل امزجتكم وقوى قواكم اعْمَلُوا عملا صالِحاً مقربا لكم إلينا مصلحا لما في نفوسكم من المقاصد الحاصلة من الاهوية الفاسدة ومن تسويلات الشياطين وتغريراته إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ على وجه الإخلاص عَلِيمٌ اجازيكم عليه سواء تتزهدون وتترهبون أولا وَمتى علمتم ان مناط أمركم في عملكم المقرب الى ربكم على الإخلاص والخضوع فعليكم بأجمعكم ان تداوموا وتلازموا عليه واعلموا إِنَّ هذِهِ الطريقة المعهودة المذكورة لكم من ربكم أُمَّتُكُمْ اى قدوتكم وقبلتكم موصلة الى توحيد ربكم لذلك قد صارت أُمَّةً واحِدَةً وقبلة منفردة بلا تعدد واختلاف فيها أصلا وان كانت جهاتها وطرقها متعددة مختلفة حسب اختلاف الشرائع والأديان بمقتضى الأعصار والأزمان وَاعلموا ايضا أَنَا رَبُّكُمْ الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لا أكون عرضة للتعدد والكثرة قطعا فَاتَّقُونِ من أخذي وبطشى ومقتضيات جلالي وقهري إذ لا ملجأ لكم غيرى ولا منجا لكم سواي ومع ذلك فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ يعنى جعلوا دينهم الواحد وملتهم المنفردة وأمتهم الواحدة زُبُراً قطعا مختلفة وصاروا أحزابا متفاوتة ومللا متعددة وامما متكثرة متخالفة بحيث يدعى كل منهم حقية دينه وملته نصا كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ وعندهم من الدين والملة المرضية لهم فَرِحُونَ مسرورون معجبون فَذَرْهُمْ بعد ما تحزبوا وانحرفوا عن التوحيد وانصرفوا عن جادته واتركهم على حالهم يعمهون فِي غَمْرَتِهِمْ وجهلهم وغوايتهم حَتَّى حِينٍ اى حين انكشف الغطاء عن بصائرهم وأبصارهم فعاينوا العذاب ولم يمكنهم رده والنجاة منه فهلكوا به صاغرين مضطرين أَيَحْسَبُونَ ويعتقدون أولئك الضالون المنهمكون في بحر الغفلة والضلال ويزعمون بل يصدقون أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ وما نعطيهم امدادا لهم واعانة عليهم مِنْ مالٍ مله لنفوسهم شاغل لقلوبهم وَبَنِينَ الذين هم يستعبدون نفوسهم ويسترقون أعناقهم نحن نُسارِعُ ونبادر لَهُمْ فِي نيل الْخَيْراتِ ونول المثوبات والكرامات تفضلا منا إياهم وتعظيما وتكريما لهم ولا يفهمون ولا يتفطنون ابتلاءنا واختبارنا إياهم بإعطاء أمثال هذه الزخرفة

[سورة المؤمنون (23) : آية 57]

الدنية الدنياوية لذلك يباهون ويفتخرون بها ويتفوقون على من دونهم لأجلها بَلْ ما هذا الا استدراج منا إياهم وامهال لهم كي يحصلوا اسباب أشد العذاب وأسوأ العقاب ويستحقوا بواسطتها أسفل دركات النيران وهم لا يَشْعُرُونَ الاستدراج من الكرامة فحملوا عليها وباهوا فسيعلمون مصيرهم ومنقلبهم الى اين. ثم قال سبحانه إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون حذرون محترزون وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ النازلة على رسله يُؤْمِنُونَ يصدقون ويذعنون وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ بحال بل يستقلون سبحانه بالوجود ولا يثبتون لغيره وجودا ولا يسندون الحوادث الكائنة الى الأسباب العادية مطلقا بل يسندون كلها الى الله أولا وبالذات وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا من الأعمال الصالحات وانواع الخيرات والصدقات ومطلق الحسنات وَقُلُوبُهُمْ في حال إتيانها وَجِلَةٌ خائفة مستوحشة بسبب أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ بهذه الأعمال والحسنات هل يقبل منهم او يرد عليهم وهم دائما بين الخوف والرجاء خائفون عن قهره راجون من لطفه أُولئِكَ السعداء المحسنون الأدب مع الله المخلصون في أعمالهم يُسارِعُونَ يبادرون ويرغبون فِي الْخَيْراتِ وانواع الطاعات والعبادات وعموم الحسنات راجين بها انواع الكرامات والمثوبات من الله وَبالجملة هُمْ في عموم أوقاتهم وحالاتهم لَها سابِقُونَ ساعون سارعون ولمثل هذا فليعمل العاملون وَاعلموا ايها المكلفون بأنواع التكاليف المصفية لظواهركم وبواطنكم لا نُكَلِّفُ ولا نحمل نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ومقدار طاقتها حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية وكيف نكلفهم بما لا طاقة لهم وَلَدَيْنا كِتابٌ جامع لجميع ما حدث وكان ويحدث ويكون الا وهو لوح قضائنا الشامل وحضرة علمنا المحيط ولا شك انه يَنْطِقُ بِالْحَقِّ السوى الصحيح الثابت المعتدل المطابق للواقع بلا افراط وتفريط وَبالجملة هُمْ لا يُظْلَمُونَ بحال لا بزيادة العذاب ولا بنقصان الثواب بل كل منهم مجزيون بمقتضى ما ثبت فيه والكفار من غاية انهماكهم في الغفلة والضلال منكرون لكتابنا الجامع لجميع الكوائن والفواسد الناطق بالحق الواقع بَلْ قُلُوبُهُمْ التي قد جبلت وعاء وظرفا للايمان والتصديق فِي غَمْرَةٍ غطاء وغشاء مِنْ هذا الطريق الذي يترتب عليه الفلاح والفوز بالنجاح الا وهو طريق التوحيد والتصديق وَمع ذلك لَهُمْ أَعْمالٌ طالحة صادرة عنهم على مقتضى اهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة مِنْ دُونِ ذلِكَ الأمر الذي نأمر به عبادنا على السنة رسلنا هُمْ لَها عامِلُونَ وإليها متوجهون مائلون وعن طريق الحق وسبيل التوحيد ناكبون منصرفون وهم قد صاروا عليها مصرين حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ وانتقمنا من متنعميهم بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ يستغيثون منا وبالجملة هم في الراحة والرخاء عنا غافلون وإذا أخذناهم بالبلاء والعناء فاجؤا الى الاستغاثة والاستعانة منا مصرخين إلينا متضرعين نحونا لذلك يقال لهم من قبلنا تهكما واستهزاء ردا وطردا لا تَجْأَرُوا ايها المسرفون المفرطون ولا تستنصروا الْيَوْمَ منا حين حلول العذاب عليكم إِنَّكُمْ بسبب غفلتكم عنا وانكاركم علينا في وقت الراحة والرخاء مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أصلا فاليوم لا ينفعكم دعاؤكم وصراخكم وكيف تستنصرون عنى ايها المسرفون اما تستحيون منى إذ قَدْ كانَتْ آياتِي الدالة على عظمة ذاتى وعلو شأنى وشدة سطوتي وسلطاني تُتْلى عَلَيْكُمْ تليينا لقلوبكم وإصلاحا لعيوبكم فَكُنْتُمْ من شدة عتوكم واستكباركم عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ ترجعون رجوع القهقرى منصرفين من سماعها

[سورة المؤمنون (23) : آية 67]

حال كونكم مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ اى بالكتاب وبالأوامر والاحكام المندرجة فيه بحيث لا تذكرونه سامِراً ايضا وحاكيا به ليلا على ما هو عادتكم وسنتكم المستمرة بينكم إذ كنتم تسمرون حول البيت في خلال الليالى سيما في الأحاديث الحديثة والحكايات الجديدة بل تَهْجُرُونَ وتتركون السمر مطلقا حتى لا تسمعوا ذكر الآيات والكتاب أصلا فكيف الامتثال والتلذذ بما فيه من الأوامر والنواهي ومع استكباركم بنا وبآياتنا ورسلنا على ابلغ الوجوه وأشدها تستنصرون منا وتستغيثون إلينا. ثم قال سبحانه على وجه التعيير والتقريع أَينكرون المشركون القرآن ويستكبرون به عنادا ومكابرة فَلَمْ يَدَّبَّرُوا ولم يتأملوا حق التأمل الْقَوْلَ المقبول المطبوع والمقول المعقول المسموع منه ولم يتفكروا في أسلوبه وترتيبه واتساق نظمه وتطابق كلماته ليظهر لهم اعجازه ويتضح لديهم فصاحته وبلاغته الخارجة عن طور العقل وطوق البشر كيلا يبادروا الى إنكاره وتكذيبه بل يصدقوه ويؤمنوا به وبمن جاء به أَمْ جاءَهُمْ يعنى بل يعلمون لو تأملوا في شأن القرآن انه قد جاءهم من الله كتاب كامل شامل هاد منقذ يخلصهم من العذاب الأخروي لو امتثلوا بما فيه من الأوامر والنواهي مع انه ما لَمْ يَأْتِ يعنى كتابهم هذا نور ظاهر باهر لم يأت مثله آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ حتى تأملوا وتدبروا فيه وتخلصوا من العذاب النازل عليهم فهؤلاء الحمقى الهلكى المنهمكون في الغي والضلال يفوتون على أنفسهم الايمان به والهداية بامتثال ما فيه حتى يتيسر لهم الخلاص والنجاة أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ يعنى بل لم يعرفوا من شدة شكيمتهم وبغضهم علو شأن رسولهم وسمو برهانه وكمال عقله ورشده واعتدال أخلاقه وأطواره وايفائه العهود والأمانات حتى يصدقوه ويؤمنوا به بل فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ من غاية الجهل والعناد أَمْ يَقُولُونَ وينسبون بِهِ جِنَّةٌ اختلال وخبط ومن اختلاله وخبطه قد ظهر منه أمثال هذه البدائع التي استحدثها من تخيلاته بَلْ قد جاءَهُمْ رسولهم بعموم ما جاء به ملتبسا بِالْحَقِّ الصريح والصدق السوى المطابق للواقع والوحى الإلهي وَلكن أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لأنهم على الباطل مائلون والى مشتهيات نفوسهم آئلون وَبالجملة لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ اى الوحى النازل من لدنه أَهْواءَهُمْ الباطلة وآراءهم الفاسدة لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ من ذوى الشعور والإدراك المتوجهين نحو الحق طوعا من شؤم أعمالهم وسوء أفعالهم وقبح أخلاقهم وأطوارهم لذلك ما آتيناهم وما أوحينا على رسولهم ما هو مشتهى نفوسهم ومقتضى اهوائهم بَلْ قد أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ وتذكيرهم وما يذكرهم به بل ليس الا ما هو الا صلح بحالهم والأليق بشأنهم من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد والإنذار والتبشير والعبر والأمثال والقصص والآثار فَهُمْ من غاية عمههم وسكرتهم عَنْ ذِكْرِهِمْ المصلح بحالهم المنجى لنفوسهم من الوبال والنكال مُعْرِضُونَ منصرفون عنه عتوا واستكبارا أَمْ تَسْأَلُهُمْ اى أيظنون ويعتقدون انك يا أكمل الرسل تطلب لأداء الرسالة وتبليغها عليهم خَرْجاً جعلا واجرا لذلك انصرفوا عنك وعن دينك وكتابك فَخَراجُ رَبِّكَ الذي رباك بأنواع النعم الصورية والمعنوية واجره لك بأعظم المثوبات وأعلى الدرجات خَيْرٌ لك من جعلهم وخرجهم وَان نسبوك الى الفقر والفاقة قل هُوَ سبحانه خَيْرُ الرَّازِقِينَ لو فرض رازق سواه مع انه لا رازق الا هو وَبالجملة هم منحرفون في أنفسهم عن جادة العدالة وصراط التوحيد بحيث لا يفيدهم هدايتك وارشادك مطلقا إِنَّكَ بوحي الله إياك لَتَدْعُوهُمْ وتهديهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ

[سورة المؤمنون (23) : آية 74]

سوى لا عوج له أصلا الا وهو طريق التوحيد الذاتي المنزل على الحضرة الختمى النبي الأمي صلوات الله عليه وسلامه وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بالله ولا يصدقون بِالْآخِرَةِ التي فيها انتقاد الأعمال والأحوال والعرض على ذي العظمة والجلال عَنِ الصِّراطِ الذي هو سبب اعتدالهم وإخلاصهم فيها لَناكِبُونَ عادلون مائلون لذلك لم يقبلوا منك ما جئت به من عند ربك يا أكمل الرسل إذ خوف الآخرة من أقوى قوائم الايمان وأشد اعمدته وأركانه وَلَوْ رَحِمْناهُمْ بمقتضى سعة رحمتنا وجودنا وَكَشَفْنا وأزلنا عنهم ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ مفرط مزعج مثل القحط والوباء والزلزلة والعناء وغير ذلك من المحن والشدائد العاجلة لَلَجُّوا وأصروا فِي طُغْيانِهِمْ التي هم عليها من الكفر والشرك والعداوة مع اهل الايمان يَعْمَهُونَ يترددون ولا يتركون وَكيف لا يعمهون وقد جربناهم مرارا فانا لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ اى بالجدب والقحط وبالقتل يوم بدر فَمَا اسْتَكانُوا وما تذللوا وما تواضعوا لِرَبِّهِمْ من كمال عتوهم وعنادهم وَما يَتَضَرَّعُونَ اليه استكبارا بل هم مصرون على إصرارهم دائما وبالجملة كلما أخذناهم وكشفنا عنهم زادوا على استكبارهم وإصرارهم ولم يرجعوا إلينا خاشعين مخلصين قط حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً من البلاء والعناء ذا عَذابٍ شَدِيدٍ وهو القحط المفرط إذ هو من أصعب العقوبات وأسوئها إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ متحيرون آيسون من كل خير ومع ذلك لم يتوجهوا إلينا ولم يتضرعوا نحونا مع انه لا منجى لهم سوانا وَكيف لا تتوجهون الى الله ولا تتضرعون نحوه ايها الحمقى الهالكون في تيه العتو والعناد مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ اظهر لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ من المشاعر التي تحفظون بها انفسكم من الأعادي الخارجة عنكم وَالْأَفْئِدَةَ اى القلوب التي تحفظون بها صدوركم وسرائركم من الأعداء الداخلة من التخييلات الباطلة والتوهمات الزائغة الزائلة المزخرفة المموهة من الرياء والرعونات وانواع التلبيسات النافية لصفاء مشرب التوحيد مع انكم قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ اى ما تشكرون لهذه النعم الجليلة الا قليلا وَكيف لا تشكرون نعمه سبحانه مع انه هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ اى أوجدكم وأظهركم من كتم العدم في النشأة الاولى وبث نسلكم ونسبكم فِي الْأَرْضِ التي تترفهون فيها وتتنعمون عليها ورزقكم من انواع الطيبات وَفي النشأة الاخرى إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا وجود للغير مطلقا تُحْشَرُونَ وترجعون رجوع الأمواج الى البحر وَكيف لا تحشرون اليه سبحانه مع انه هُوَ الَّذِي يُحْيِي ويظهر أشباحكم من العدم بامتداد اظلال أسمائه وصفاته وبسطها على مرايا الاعدام وَيُمِيتُ بانقهارها وقبض الاظلال عنها وَمن مقتضيات قبضه وبسطه ان لَهُ سبحانه حسب ارادته ومشيئته اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ طولا وقصرا ضوأ وظلمة أَفَلا تتفكرون وتتأملون ايها المجبولون على التفكر والتدبر حتى تَعْقِلُونَ وتدركون كيفية ظهور الحق وإظهاره مظاهر أسمائه الحسنى وآثار صفاته العليا وبالجملة أولئك البعداء الضالون لا يتفكرون ولا يعقلون مع وضوح الدلائل وسطوع الشواهد بَلْ قالُوا اى هؤلاء الضالون المفرطون من الهذيانات الباطلة مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ المبطلون المسرفون من آبائهم وأسلافهم تقليدا لهم حيث قالُوا مستنكرين مستبعدين على مواعيد الحق ووعيداته في النشأة الاخرى أَإِذا مِتْنا وانقرضنا من الدنيا وَقد كُنَّا بعد انقراضنا منها تُراباً وَعِظاماً بالية أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ مخرجون من القبور احياء مثل ما كنا عليه قبل موتنا كلا وحاشا لا حيوة لنا الا هذه الحيوة التي

[سورة المؤمنون (23) : آية 83]

كنا عليها في دار الدنيا مع انا لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ على لسان من جاءنا بادعاء الرسالة والنبوة وَقد وعد ايضا آباؤُنا وأسلافنا ايضا هذا الموعود المخصوص على لسان من جاء به مِنْ قَبْلُ وهلم جرا مع انا ولا آباؤنا وأسلافنا لم نر من علامات صدقه وامارات وقوعه شيأ أصلا وبالجملة إِنْ هذا وما هذا الوعد الموعود والقول المعهود وهو انكم إذا مرقتم كل ممزق انكم لفي خلق جديد إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى أباطيلهم وأكاذيبهم التي قد سطروها في دواوينهم وكتبهم على وجه السمرة والخدعة لضعفاء الأنام وبعد ما بالغوا في الإنكار على البعث والإعادة وعدم قدرتنا عليها مع انا قادرون على الإبداء والإنشاء عن لا شيء قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما عليهم وتبكيتا لِمَنِ الْأَرْضُ المفروشة وَمَنْ فِيها وعليها من انواع النباتات والحيوانات والمعادن ومن المظهر لها من كتم العدم ومن المزين المنبت عليها من الأجناس المختلفة أخبرونا عن موجدها ومخترعها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اى من ذوى الشعور والإدراك سَيَقُولُونَ في الجواب البتة لِلَّهِ إذ لا يمكنهم انكار الصريح المحقق قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اعترفوا بان الأرض ومن عليها لله سبحانه موبخا عليهم ومقرعا أَتنكرون ايها الجاهلون قدرة الله على اعادة المعدوم وحشر الأجساد فَلا تَذَكَّرُونَ ولا تستحضرون قدرة الحق على إبداع هذه البدائع وإيداع هذه العجائب المستحدثة على الأرض بلا سبق مادة ومدة ومع ذلك تنكرون اعادة من عليها سيما بعد سبق المادة مع ان هذا أهون علينا من ذلك قُلْ لهم ايضا إلزاما وتبكيتا مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ الشداد المطبقات المزينات بالكواكب وَمن رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ المحيط بالكل المحرك لها على وجه السرعة التامة والحركة السريعة الشديدة بلا تخلل سكون أصلا سَيَقُولُونَ لِلَّهِ إذ لا يسع لهم الخروج عن مقتضى صريح العقل قُلْ لهم يا أكمل الرسل أَفَلا تَتَّقُونَ وتحذرون عن قهر الله وغضبه تنكرون منه أهون مقدوراته وأسهل مراداته مع انكم قد اعترفتم باشدها وأصعبها قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما تأكد إلزامهم وافحامهم كلاما جمليا شاملا لعموم مقدورات الله ومراداته مَنْ بِيَدِهِ وقبضة قدرته وتحت حوله وقوته مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وملكه يتصرف فيه حسب ارادته واختياره على سبيل الاستقلال وَمن هُوَ يُجِيرُ يغيث ويعين الملهوف والمضطر إذا دعاه وَلا يُجارُ ولا ينصر عَلَيْهِ إذ هو سبحانه يعلو ولا يعلى عليه أخبروني إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اى من ذوى الخبرة والشعور سَيَقُولُونَ ايضا بلا تردد لِلَّهِ اختصاصا وملكا تصرفا واستقلالا ارادة واختيارا قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اثبتوا اليد الغالبة والقدرة التامة الكاملة والفاعلية المطلقة بالإرادة والاختيار فاعل المختار اختصاصا واستقلالا فَأَنَّى تُسْحَرُونَ اى من اين تخدعون وتلبسون للخروج عن مقتضى العقل والرشد في المقدور المخصوص والمراد المعين حتى تنكروا له ولم تقبلوا وقوعه مع ورود الآيات الكثيرة الكبيرة في الكتب الإلهية والصحف السماوية مطلقا الدالة على وقوعه بَلْ ما أَتَيْناهُمْ كل ما أتيناهم اى للأنبياء والرسل الهادين المهديين من التوحيد ولوازمه من الايمان بالغيب وعموم المأمورات والمنهيات الصادرة منا المنزلة على رسلنا وجميع ما أوحينا وألهمنا على رسلنا الا بِالْحَقِّ الصدق المطابق لما في حضرة علمنا المحيط ولوح قضائنا الشامل الجامع بلا توهم البطلان في شيء منها وَبالجملة إِنَّهُمْ اى أولئك المكذبين المسرفين لَكاذِبُونَ البتة في نسبة الكذب إلينا وإليها وإليهم الا لعنة الله على الكاذبين

[سورة المؤمنون (23) : آية 91]

ومن جملة ما نسبوا الى الله سبحانه افتراء ومراء اثبات الولد له سبحانه مع انه مَا اتَّخَذَ اللَّهُ الواحد الأحد الصمد الفرد الذي شأنه ووصفه المخصوص له انه الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد مِنْ وَلَدٍ إذ هو من أقوى خواص الأجسام وأوضح لوازم الإمكان وهو سبحانه منزه عنهما مطلقا وَمن جملة أكاذيبهم الباطلة ايضا اثبات الشريك له سبحانه مع انه ما كانَ وما صح وما جاز ان يكون مَعَهُ مِنْ إِلهٍ كان شريكا له يعبد بالحق مثله ويستحق بالعبادة له استحقاقا ذاتيا ووصفيا كما هو شأنه سبحانه إِذاً اى حين كان الا له الواجب الوجود المستحق للعبادة متعددا كما زعم أولئك المبطلون لَذَهَبَ وتميز كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ أوجد واظهر فيكون مملكة كل منهم ممتازة عن الاخرى ومتى كان الإله متعددا والمملكة ممتازة لأمكن التغالب والتحارب وَلَعَلا اى لغلب وارتفع بَعْضُهُمْ اى بعض الآلهة عَلى بَعْضٍ بالقدرة والاستيلاء فاختل النظام المشاهد المحسوس ولم يبق له انتظام وقيام والتيام ودوام أصلا سُبْحانَ اللَّهِ وتعالى ذاته عَمَّا يَصِفُونَ به ذاته أولئك الجاهلون بقدره الغافلون عن علو شأنه من اثبات الولد والشريك معه مع كمال تنزهه وتقدسه في ذاته عنهما وعن أمثالهما وكيف يكون له ولد ومعه شريك وهو بذاته عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بحيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء منهما فَتَعالى وتنزه سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ أولئك المعاندون المفرطون من ان يكون له ولد يشبهه او شريك يماثله ويشترك معه في أخص أوصافه التي هي وجوب الوجود والعلم بالغيب والشهود قُلْ يا أكمل الرسل مستعيذا بالله من شر ما سيلحق لأولئك المعاندين المبطلين رَبِّ يا من رباني بمزيد اللطف والإحسان إِمَّا تُرِيَنِّي اى ان تحقق وتقرر عندك في حضرة علمك يا مولاي اراءتك إياي ما يُوعَدُونَ به أولئك المسرفون المشركون من أشد العذاب والنكال في العاجل والأجل أرني وابصرنى بحولك وقوتك يا رب لتكون رؤيتي سبب عبرتي وتذكيري من أحوالهم وبالجملة رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ مقارنا لهم معدودا من عدادهم ملحقا بي ما سيلحقهم من انواع العذاب الصوري والمعنوي الدنيوي والأخروي وَقال سبحانه إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب لَقادِرُونَ يعنى انا لقادرون على ان نريك ما نعدهم العذاب الموعود إياهم في هذه النشأة لكنا نؤخر عذابهم الى النشأة الاخرى ونمهلهم رجاء ان يؤمن بعضهم او يحصل منهم المؤمنون من نسلهم وذرياتهم وبعد ما قد كنا نمهلهم ونؤخر عذابهم لحكم ومصالح ادْفَعْ أنت يا أكمل الرسل بِالَّتِي اى بالدلائل والشواهد التي هِيَ أَحْسَنُ من المقاتلة والمشاجرة السَّيِّئَةَ التي هم عليها من الكفر والشرك وانواع الطغيان والعصيان لعل دلائلك تلين قلوبهم وتصفيهم عن المكابرة والعناد معك إذ نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِما يَصِفُونَ اى ما يصفونك به وينسبونك اليه مما لا يليق بشأنك وثق بنا وتوكل في عموم احوالك علينا واتخذنا وكيلا وفوض امر انتقامهم إلينا فانا نكفى ونكف عنك مؤنة شرورهم وَقُلْ رَبِّ يا من رباني بكنفك وجوارك أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ ووساوسه وانواع تسويلاته وتلبيساته وَلا سيما أَعُوذُ والوذ بِكَ يا رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ عند توجهي نحوك وتحننى إليك ومناجاتي معك سيما خلال صلاتي في خلواتي وعند تلاوتى وعرض حاجاتي والكافرون في غاية انهماكهم في الغفلة مصرون على ما هم عليه من الشرك والكفر حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ وعاين من

[سورة المؤمنون (23) : آية 100]

امارات النشأة الاخرى تنبه حينئذ بقبح صنائعه التي قد اتى بها في النشأة الاولى قالَ حينئذ متضرعا الى الله نادما متمنيا متحسرا رَبِّ ارْجِعُونِ بفضلك وجودك الى النشأة الاولى لَعَلِّي أَعْمَلُ بعد رجوعي عملا صالِحاً مصلحا فِيما تَرَكْتُ وأفسدت من امور الايمان والإطاعة والانقياد كَلَّا ردع له عن هذا السؤال والدعاء ومنع له عن إنجاح مسئوله إِنَّها اى طلب المراجعة كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها من غاية الحسرة والندامة متمنيا على ما فات عنه في دار الابتلاء وَالا كيف يرجع إليها إذ مِنْ وَرائِهِمْ اى امامهم وقدامهم بَرْزَخٌ وحجاب مانع يمنعهم عن الرجوع إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يعنى لا يمكنهم الرجوع الى دار الدنيا والحيوة فيها الا الحيوة في يوم البعث والجزاء ولم يمكن لهم التدارك والتلافي فيها فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ لحشر الأموات ونشرها من قبورهم فيخرجون منها حيارى سكارى تائهين هائمين فَلا أَنْسابَ ولا تعارف بَيْنَهُمْ يومئذ بل يفر كل امرء من أخيه وصاحبته وبنيه إذ لكل منهم يَوْمَئِذٍ شأن يغنيه ويشغله وَلا يَتَساءَلُونَ اى لا يسئل بعضهم احوال بعض بل كل نفس منهم رهينة بما كسبت قرينة بما اقترفت بلا التفات منها الى غيرها فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ ورجحت خيراته وحسناته على شروره ومعاصيه فَأُولئِكَ السعداء المقبولون هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون المقصورون على الفلاح لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ورجحت سيئاته على حسناته فَأُولئِكَ الأشقياء المردودون هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ خسرانا مبينا الى حيث هم لانهماكهم في الشرور والسيئات فِي جَهَنَّمَ البعد والخذلان خالِدُونَ مخلدون دائمون ثابتون لا نجاة لهم منها أصلا ومن شدة اشتعال النار وتلهبها تَلْفَحُ وتحرق وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها اى في النار كالِحُونَ عابسون حيث تقلص شفاههم عن أسنانهم بحيث تصل شفتهم العليا الى وسط رأسهم والسفلى الى سرتهم ومتى تضرعوا وتفزعوا وبثوا الشكوى الى الله قيل لهم من قبل الحق أَلَمْ تَكُنْ آياتِي الدالة على عظمة ذاتى وكمال قدرتي على الانعام والانتقام تُتْلى عَلَيْكُمْ حين ابتليناكم في النشأة الاولى فَكُنْتُمْ من غاية غفلتكم وضلالكم بِها تُكَذِّبُونَ وتنكرون استكبارا فالآن قد لحق بكم وعرض عليكم ما انكرتم له وأعرضتم عنه وبعد ما سمعوا من التوبيخ والتقريع ما سمعوا قالُوا متضرعين معترفين بما صدر عنهم من البغي والعناد رَبَّنا يا من ربانا على فطرة السعادة والهداية فافسدناها بالإنكار والتكذيب إذ قد غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا واستولت بنا امارتنا وتسلطت اهويتنا وشهواتنا علينا وَبالجملة قد كُنَّا بمتابعة تلك البغاة الغواة قَوْماً ضالِّينَ منحرفين منصرفين عن طريق الحق ناكبين عن الصراط المستقيم رَبَّنا أَخْرِجْنا بفضلك وجودك مِنْها اى من النار فَإِنْ عُدْنا بعد ما خرجنا منها الى ما قد كنا عليها قبل من الغفلة والغرور فَإِنَّا حينئذ ظالِمُونَ لأنفسنا بالعرض على انواع العذاب والنكال قالَ سبحانه في جوابهم زجرا لهم وتبكيتا اخْسَؤُا واسكتوا وتمكنوا فِيها اى في النار صاغرين وَلا تُكَلِّمُونِ معى ولا تناجوا الى لدفع عذابكم وتخفيفه وإخراجكم من النار إذ أنتم فيها خالدون اما تستحيون ايها المسرفون المفسدون منى اما تذكرون ما أنتم عليه إِنَّهُ اى ان شأنكم وأمركم في دنياكم هذا وقد كانَ فَرِيقٌ مِنْ خلص عِبادِي يَقُولُونَ متضرعين متحننين نحونا راجين العفو والرحمة منا بقولهم رَبَّنا كما ربيتنا بأنواع الكرم قد آمَنَّا بك وصدقنا رسلك وكتبك فَاغْفِرْ لَنا ذنوبنا واستر علينا

[سورة المؤمنون (23) : آية 110]

عيوبنا وَارْحَمْنا تفضلا وامتنانا علينا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ إذ رحمتك بنا لا تعلل بغرض منك وعوض منا ومتى سمعتم مناجاتهم هذه ودعاءهم هكذا فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا مستهزئين بأقوالهم وأعمالهم مبالغين في الهزء والسخرية متوغلين في الغفلة والغرور حَتَّى أَنْسَوْكُمْ جهلكم وغفلتكم ذِكْرِي والتوجه نحوي والرجوع الى بل قد صرتم يومئذ غافلين ذاهلين عن كمال الإنسان مطلقا منحطين عن مرتبة الخلافة مستوجبين لانواع الهزل والضحك بفعلكم ونسيانكم هذا وَمع ذلك قد كُنْتُمْ أنتم مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ مع انهم ساعون نحونا سالكون في طريق توحيدنا طالبون الوصول الى ما هم جبلوا لأجله وأنتم عابثون مبطلون باطلون جاهلون لذلك إِنِّي من كمال عطفي ولطفي معهم قد جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ احسن الجزاء بِما صَبَرُوا على اذياتكم ايها الجاهلون في النشأة الاولى وهم بسبب صبرهم وتمكنهم في دينهم ورسوخهم في ايمانهم في النشأة الاولى أَنَّهُمْ اليوم هُمُ الْفائِزُونَ المقصورون على الفوز والفلاح الى ما هو النجاة والنجاح بلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وبعد ما صار المفسدون المسرفون مخلدين في النار صاغرين مهانين فيها قالَ لهم قائل من قبل الحق على سبيل التوبيخ والتقريع إظهارا لقبح استبدالهم واختيارهم الأدنى بدل الأعلى كَمْ لَبِثْتُمْ ايها الضالون المسرفون فِي الْأَرْضِ التي تستكبرون عليها خيلاء مغرورين عَدَدَ سِنِينَ اى كم مدة وسنة تستقرون عليها مترفهين قالُوا مستقصرين مستقلين قد لَبِثْنا عليها يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ يعنى بل بعض يوم بالنسبة الى هذه الأيام الطوال التي قد كنا وصرنا فيها معذبين بل قد نسينا نحن مدة ما كنا عليها لغاية قصرها وقلتها ولا نقدر على تعيينها فَسْئَلِ الْعادِّينَ المعاصرين بنا عن اهل القبول والسرور والموكلين علينا من الملائكة المستحضرين لأعمارنا وأعمالنا وعموم ما قد كنا عليها من الأحوال والأفعال قالَ القائل المذكور في جوابهم تصديقا لهم في مقالهم واستقلالهم واستقصارهم إِنْ لَبِثْتُمْ وما مكثتم فيها إِلَّا قَلِيلًا قصيرا في غاية القلة والقصر وبالجملة لَوْ أَنَّكُمْ ايها الضالون المسرفون قد كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ في انفسكم طول مدة العذاب وعدم تناهيها لما اخترتم لأنفسكم ما يستجلب عليكم العذاب المؤبد وما يوقعكم فيه ومع جهلكم بهذا لم تقبلوه من الأنبياء العارفين الهادين ايضا بل قد انكرتم عليهم واستهزأتم بهم مستكبرين أَزعمتم ايها الجاهلون المعاندون ان أفعالنا خالية عن الحكمة والمصلحة ومقدوراتنا قد صدرت عنا حشوا لغوا بلا طائل فَحَسِبْتُمْ وظننتم بل قد جزمتم وأيقنتم حسب تركب جهلكم المركوز في جبلتكم أَنَّما خَلَقْناكُمْ واظهرناكم من كتم العدم عَبَثاً اى قد كنا عابثين فيها وفي خلقها ساعين في إحداثها بلا طائل مرتكبين لها بلا حكم ومصالح وَايضا قد ظننتم ايها الغافلون الجاهلون أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ للجزاء وتنقيد الأعمال وعرض الأحوال أصلا وكيف لا ترجعون الى ربكم ايها المجرمون المسرفون وكيف عن أعمالكم وأفعالكم لا تسئلون ايها المسرفون المفرطون ولا تحاسبون ايها الضالون المضلون فَتَعالَى اللَّهُ المحيط بالكل حضورا وشهودا قد تنزه ان يتصف ذاته بالغفلة والذهول وأوصافه بعدم الحيطة والشمول وأفعاله بالعبث والفضول إذ هو الْمَلِكُ المستجمع المستحضر بجميع مملكته والمالك المراقب المحافظ على عموم مملوكاته ومماليكه شأنه انه لا يعزب عنه مثقال ذرة لا في الأرض ولا في السماء وكيف يعزب ويغيب عنه شيء من الأشياء إذ هو الْحَقُّ المقرر الثابت المحقق الحي الدائم القيوم المطلق المثبت المتحقق

[سورة المؤمنون (23) : آية 117]

الذي لا يشغله شأن عن شأن بل هو في شأن لا يعرضه شأن ولا يعتريه زمان ومكان بل مطلق الشئون مستهلكة في علو شأنه لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ وهو رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ المحيط لعروش ذرائر الكائنات الا وهو الوجود العيني الظلي الفائض من حضرة القدس الحقي والوجود المطلق الحقيقي على هياكل العكوس والأشباح واشكال الاظلال والأمثال وَبعد ما تحقق ان الكل في حيطة أوصافه وأسمائه ومن عكوس اظلاله وتحت لوائه مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ المحيط للكل احاطة حضور وشهود إِلهاً آخَرَ من الاظلال المحاطة والعكوس الساقطة مع انه لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ يثبت به وجود اله آخر سواه سبحانه سيما بعد احاطته وشموله الكل وبالجملة فَإِنَّما حِسابُهُ اى حساب المدعى وجزاء ما ادعى من الشرك عِنْدَ رَبِّهِ وفي حيطة حضرة علمه يجازيه بمقتضى علمه وخبرته إِنَّهُ اى ان الشأن والأمر عنده سبحانه هذا لا يُفْلِحُ ولا يفوز الْكافِرُونَ بكفرهم وشركهم الى ما هو موجب للفلاح ومستلزم للنجاح وبعد ما اثبت سبحانه الفلاح للمؤمنين الموحدين في أول السورة ونفاه عن الكافرين المشركين في آخرها قال وَقُلْ يا أكمل الرسل تعليما لكل من يقتدى بك ويقتفى اثرك وتنبيها عليهم وتذكيرا لهم رَبِّ يا من رباني بكنفك وجوارك اغْفِرْ واستر عن عين بصيرتي ذنب انانيتى وَارْحَمْ على بنفي هويتى وافنائها في هويتك يا رب وَأَنْتَ بذاتك وبمقتضى أسمائك وصفاتك خَيْرُ الرَّاحِمِينَ الذين هم ايضا من اظلال أسمائك وعكوس اوصافك وبالجملة الكل بك ومنك وفيك وإليك لا راحم سواك ولا مربى غيرك خاتمة سورة المؤمنين عليك ايها المحمدي المتحقق بمقام العبودية والإخلاص ان تلازم على هذه الكلمة التي قد أسمعك الحق على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم وتداوم عليها سيما في خلواتك وأعقاب صلواتك عازما عليها عزم صدق وجزم سامعا لها سمع قبول ورضى حتى تترسخ في قلبك وتتمرن في سرك وصدرك الى حيث قد نطقت حالك بها بلا ترجمان لسانك ومتى تحققت وتمكنت في هذه المرتبة العلية ارتقيت الى مرتبة الفناء في الله والبقاء ببقائه وذلك لا يتم الا باضمحلال رسوم هويتك وتلاشى لوازم بشريتك وماهيتك بحيث قد سقطت عنك تعيناتك رأسا وفنيت تشخصاتك الناسوتية جملة فحينئذ قد فزت بما فزت ووصلت الى ما وصلت وليس وراء الله مرمى ومنتهى تم الجزء الاول ويليه الجزء الثاني اوله سورة النور جميع الحقوق محفوظة للناشر رقم الإيداع بدار الكتب: 3882 لسنة 1999

الجزء الثاني

الجزء الثاني بسم الله الرّحمن الرّحيم [سورة النور] فاتحة سورة النور لا يخفى على من تنور قلبه بنور الكشف والشهود واكتحل عينه بمشاهدة آثار وجود الحق عن مظاهر الوجود ان انبساط نور الحق على ذرائر الأكوان وفيضان اظلال وجوده على صفائح الأعيان حسب جوده انما هو لإظهار الكمالات المندرجة في الذات الاحدية باعتبار الأوصاف والأسماء الذاتية المندمجة فيها حسب التجليات الحبية والتجددات الشوقية المنعثة من المحبة الذاتية الموجبة للجلاء والانجلاء وذلك لا يحصل الا بالتنزلات والهبوطات الى الشئون المتنوعة والتطورات المتلونة المترتبة على الأسماء والصفات المستلزمة للاضافات والكثرات لتعين مراتب الحب والمحبوب والمحبة والطالب والمطلوب والطلب والسير والسلوك والصعود والعروج والوصول والاتصال وبعد حصول التنزلات قد حدثت الإضافات والاختلافات وتفاوتت تشتت الأعمال والأحوال وظهرت الآراء والمذاهب وبرزت الأهواء والمشارب فاقتضت الحكمة الإلهية وضع الحدود والآداب بين المظاهر المختلفة والآراء المتفاوتة ليعتدل امر الأنام ولا يختل النظام واستقام السل وتميزت طرق السعادة والشقاوة والهداية والضلال لذلك أشار سبحانه الى وضع الحدود أولا بين الأنام ومن أهمها محافظة امر التناسل والتناكح من الزنا والسفاح المفضى الى سد باب المعرفة التي هي الحكمة العلية والمصلحة السنية من إيجاد نوع الإنسان وإظهاره إذ لهذا النوع مرتبة الخلافة والنيابة من الله الرحيم الرحمن فالخلطة في حصول هذا النوع مخل بصرافة الوحدة الذاتية إذ لا بد من المناسبة بين المستخلف والمستخلف عنه فقال سبحانه متيمنا متبركا باسمه الجامع بجميع الأسماء والأوصاف بِسْمِ اللَّهِ الذي اظهر نوع

الآيات

الإنسان بخلافته وأنعم عليهم التخلق بأخلاقه والاتصاف بأوصافه الرَّحْمنِ عليهم حيث أظهرهم بأحسن التقويم واعدله الرَّحِيمِ لهم بإصلاح مفاسدهم وتحسين مقابحهم لئلا ينحطوا عن رتبة خلافته ونيابته هذه [الآيات] سُورَةٌ عظيمة وسفر جليل وآيات كريمة قد أَنْزَلْناها من مقام فضلنا وجودنا عليك يا أكمل الرسل تأييدا لنبوتك ورسالتك وترويجا لدينك وملتك وَفَرَضْناها اى قد أوجبنا الاحكام التي ذكرنا فيها وقدرنا الحدود المقررة في ضمنها والزمناها عليك وعلى من تبعك من المؤمنين تهذيبا لظواهرهم وبواطنهم وَبالجملة أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ عظاما دالة على وحدة ذاتنا وكمال اقتدارنا على وجوه الانعام والانتقام مع كونها بَيِّناتٍ واضحة الدلالات لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وتتعظون بها فتتركون ما يوجب مقتكم وهلاككم وتتوجهون الى ما جبلتم لأجله ثم أخذ سبحانه بتطهير المؤمنين وتهذيبهم عما لا يليق بشأنهم سيما في افحش الفواحش وأقبح الآثام فقال الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي اى حكمهما وحدهما فيما فرضناها وقدرناها لكم حتما ايها المؤمنون الجلد قدم سبحانه الزانية لان وقوع الزنا في الأعم الأغلب انما يحصل من جانبهن ومن عرضهن النفس والزنية على الرجال وبعد ما سمعتم ايها الحكام الحد والحكم فيهما فَاجْلِدُوا بعد ثبوت الزنا بينهما على الوجه المفصل في علم الاحكام وهما غير محصنين إذ حكم المحصنين مطلقا بالإجماع رجم كل منهما ان كانا محصنين او رجم أحدهما ان كان الآخر غير محصن والمحصن هو المسلم الحر العاقل البالغ الذي قد وقع منه الوقاع بنكاح صحيح كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ اى مائة ضربة بسوط مؤلم بجلدة أشد إيلام بدل ضرابات قد استلذ بها حال الوقاع وزاد الامام الشافعى رحمه الله على جلد المائة تغريب العام إذ هو احوط وادخل في الانزجار لقوله عليه السلام البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام وَلا تَأْخُذْكُمْ ايها الحكام سيما وقت اجرائكم الحدود والاحكام بِهِما رَأْفَةٌ رقة ورحمة تضيعون بها حكمة الحد إذ لا رأفة فِي دِينِ اللَّهِ وفي تنفيذ أحكامه وحدوده على من خرج عن مقتضى العدل القويم والشرع المستقيم الإلهي إِنْ كُنْتُمْ ايها الحكام المقيمون للحدود والاحكام بين الأنام تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وبعموم ما جاء من عند الله سبحانه من الأوامر والنواهي وجميع الحدود والاحكام الموضوعة من لدنه على مقتضى الحكمة المتقنة وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الذي فيه تبلى السرائر وتكشف الضمائر فلكم ان تقيموا حدود الله على الوجه الذي أمرتم بها لئلا تؤاخذوا في يوم الجزاء وَلْيَشْهَدْ وليحضر وليبصر حين اجراء الحد عليهما عَذابَهُما طائِفَةٌ وجمع كثير مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المعتبرين تفضيحا لهما وتشهيرا لامرهما لينزجر مما جرى عليهما من في قلبه ميل الى ما أتيا به من الفعلة القبيحة والديدنة الشنيعة ثم أشار سبحانه الى قبح مناكحتهما وشناعة الفتهما ومواصلتهما على وجه المبالغة في النهى والكراهة فقال الزَّانِي اى الذي يرغب ويميل الى عورات المسلمين بلا رخصة شرعية متعديا عن حدود الله وهتكا لستره وحرمته لا يَنْكِحُ ان نكح إِلَّا زانِيَةً مثله مناسبة له مشاكلة إياه إذ الجنسية علة الالفة والتضامّ أَوْ مُشْرِكَةً هي اخس وأخبث وأشد قبحا وشناعة منها وَالزَّانِيَةُ الراغبة للأجانب المائلة إليهم بلا طريق شرعي لا يَنْكِحُها ايضا إِلَّا زانٍ كذلك لكمال الملايمة والمشابهة أَوْ مُشْرِكٌ هو أخبث وأقبح منه وَبالجملة قد حُرِّمَ ذلِكَ الفعل القبيح والخصلة الذميمة الشنيعة حرمة مؤبدة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الموقنين المخلصين من ارباب العزائم ونهى عن اهل الرخص منهم نهيا متناهيا الى حد النفي والحرمة ثم قال سبحانه

[سورة النور (24) : آية 5]

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ بالزنا الْمُحْصَناتِ الحرائر العاقلات البالغات العفائف من المسلمات سواء كان الرامي أزواجهن او غيرهم وحكم المحصنين ايضا كذلك وانما خصهن بالذكر لكثرة ورود الرمي في حقهن وكون رميهن سببا لنزول الآية الكريمة ثُمَّ بعد ما رموا لَمْ يَأْتُوا لإثباته بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ذوى عدل وامانة ومروة بحيث لم يكونوا متجسسين عن احوال الزانيين البغيين ولا مستورين منتظرين لاطلاع ما يأتيان به من الفعلة الشنيعة بل قد وقع نظرهم عليهما بغتة فرأوا قبح صنيعهما العياذ بالله كالميل في المكحلة فان أتوا باربعة شهداء على الوجه المذكور فقد اثبتوا الزنا وان لم يأتوا فَاجْلِدُوهُمْ ايها الحكام الرامين القاذفين ثَمانِينَ جَلْدَةً لا كجلدة الزنا بل أخف منها كما هي اقل عددا وَبعد ما جلدتم ايها الحكام المقيمون لحدود الله لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً في حال من الأحوال ودعوى من الدعاوى الى انقراض حياتهم وَبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المفترون المردودون هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن مقتضى العقل والشرع المسقطون للمروءة والعدالة التاركون طريق الإنصاف والانتصاف لا يرجى نجاتهم من عذاب الله أصلا إِلَّا الَّذِينَ تابُوا منهم ورجعوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الرمي والافتراء وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا على أنفسهم بالتوبة والندامة عن ظهر القلب فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائرهم غَفُورٌ يعفو عنهم جريمتهم ويستر زلتهم رَحِيمٌ يرحمهم ويقبل توبتهم ان أخلصوا فيها وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ بالزنا وَان لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ حضراء عندهم إِلَّا أَنْفُسُهُمْ اى غير أنفسهم فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ فالواجب عليهم لإسقاط حد القذف عنهم في هذه الصورة ان يشهد أحدهم أَرْبَعُ شَهاداتٍ مؤديا في اربع كرات مؤكدات بالقسم بِاللَّهِ إِنَّهُ اى الزوج المدعى لَمِنَ الصَّادِقِينَ في هذه الدعوى لا من الكاذبين المفترين وَالْخامِسَةُ يعنى بعد ما ادى اربع شهادات مؤكدات بالقسم على عدد شهود الزنا اتى ايضا بالشهادة الخامسة المؤكدة للاربعة وايدها بالقسم ايضا على وجه التغليظ بان قال هكذا أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ اى طرده وتبعيده عن ساحة عز قبوله وسعة رحمته عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ في هذه الدعوى وَبعد أداء الشهادات الأربع على وجهها وتأكيدها بالخامسة المؤكدة باللعنة فقط سقط عنه حد القذف وثبت حد الزنا على المرأة ووقع التفريق المؤبد بينهما بالفسخ او بالطلاق على اختلاف الرأيين ونفى الولد ايضا ان تعرض له فيها لكن يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ اى يسقط عن المرأة حد الزنا بعد أَنْ تَشْهَدَ المرأة ايضا أَرْبَعَ شَهاداتٍ مؤكدات بالقسم بِاللَّهِ في كل مرة وشهادة إِنَّهُ اى الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ المفترين فيما رمانى به وانا بريئة عنه وَالْخامِسَةَ يعنى بعد أداء الاربعة المؤكدات بالقسم أتت ايضا بالشهادة الخامسة المؤكدة للاربعة وأيدتها بالقسم ايضا على وجه التغليظ والمبالغة بان قالت هكذا أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ وقهره وتبعيده عن رحمته عَلَيْها إِنْ كانَ زوجها مِنَ الصَّادِقِينَ في هذا الرمي الشنيع وبعد ما أدتها ايضا على وجهها فقد سقط الحد عنها ايضا ووقع التفريق المؤبد بينهما لقوله عليه السلام. المتلاعنان لا يجتمعان ابدا. ثم قال سبحانه وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ المطلع على سرائر عباده عَلَيْكُمْ ايها المجترؤون بالحلف الكاذب وبأداء الشهادات الكاذبة الباطلة وكذا تحمل لعنة الله وغضبه في تغليظ الحلف الجاري في ثبوت الوقائع والخطوب وَرَحْمَتُهُ اى مرحمته وشفقته بالسر والإخفاء عليكم لفضحكم واظهر شنيعتكم البتة ولكن قد أمهلكم وستر عليكم رجاء ان تتوبوا عن هتك محارم الله والخروج عن

[سورة النور (24) : آية 11]

مقتضى حدوده وَاعلموا ايها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ المصلح لأحوالكم تَوَّابٌ لكم يوفقكم على التوبة حَكِيمٌ في عموم أفعاله لا يعاجلكم بالعقوبات كي تتنبهوا عن قبح صنيعكم وترجعوا عن سوء فعالكم لتفوزوا الى ما جبلتم لأجله. ثم أشار سبحانه الى طهارة ذيل عائشة رضى الله تعالى عنها عما رماها وافتراها اهل الزيغ والضلال جهلا بجلالة قدرها وعلو شأنها وكمال عصمتها وعفتها فقال إِنَّ المسرفين المفسدين الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ اى بالكذب المنصرف عن الحق بمراحل عُصْبَةٌ اى فرقة وعصابة معدودة مِنْكُمْ ظاهرا يريد عبد الله بن ابى وزيد بن رفاعة واحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم فعليكم ايها المؤمنون المقذوفون انه لا تَحْسَبُوهُ ولا تظنوه اى الإفك الذي قد جاءوا به شَرًّا لَكُمْ ولحوق عار عليكم منه بَلْ هُوَ اى إفكهم هذا خَيْرٌ لَكُمْ وثواب عظيم واجر جزيل جميل وظهور كرامة ونزول آيات عظام كرام في برائتكم وطهارتكم وتهويل شأنكم وقد حق وثبت عند الله المنتقم الغيور لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ اى من القاذفين المفترين جزاء مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالإفك الَّذِي قد جاءوا به أولئك المفسدون المفرطون ظلما وزورا ولا سيما المفسد المنافق الذي قد تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ اى معظم الآفكين ورئيسهم وهو ابن ابى الذي تحمل كبره وعظمه وهو القيام الى اذاعته وإشاعته إذ هو بنفسه قد أخذ في افشائه وإشاعته أولا عداوة مع رسول الله ومع اهل بيته لذلك لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا والآخرة إذ هو مهان مطرود بين المؤمنين مشهور بالنفاق والشقاوة وله في الآخرة أشد العذاب ثم وبخ سبحانه على الآفكين وقرعهم حيث قال لَوْلا وهلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ اى الإفك ايها الآفكون المسرفون لم تظنوا بالمقذوفين خيرا كما ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَلم لم تقولوا مثل ما قالُوا اى المؤمنون المنزهون المطهرون أمثال هذا عن إخوانهم سيما عن اهل بيت العصمة والعفاف هذا إِفْكٌ مُبِينٌ وكذب عظيم وفرية بلا مرية إذ ساحة عصمتها وطهارة ذيلها ونجابة طينتها أجل وأعلى من ان يفترى عليها سيما بأمثال هذه المفتريات الباطلة عصمنا الله عما لا يرضى عنه لَوْلا جاؤُ اى الآفكون المسرفون وأقاموا عَلَيْهِ اى على إفكهم هذا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ عدولا ثقات يصدقون فيما قالوا فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ الأربع العدول فَأُولئِكَ الآفكون المفترون عِنْدَ اللَّهِ المطلع على ضمائرهم ومخايلهم فيها هُمُ الْكاذِبُونَ المقصورون على الكذب يجازيهم سبحانه بمقتضى ما اقترفوا من الكذب والبهتان سيما مع اهل بيت العصمة والكرامة وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ايها الباهتون المفترون بتوفيقكم على الانابة والرجوع من هذه الفرية العظيمة وَرَحْمَتُهُ الشاملة لكم فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ وأحاط بكم فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ وخضتم في إشاعته واذاعته عَذابٌ عَظِيمٌ عاجلا وآجلا وكيف لا إِذْ تَلَقَّوْنَهُ أنتم مع نهاية كراهته وسماجته بِأَلْسِنَتِكُمْ سائلا بعضكم بعضا متلقيا على قبوله وسماعه وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ لا ظن ولا يقين بل جهل وتخمين وَمع عظم هذا الجرم عند الله تَحْسَبُونَهُ أنتم ايها الحمقى المفرطون المسرفون هَيِّناً سهلا يسيرا لا يترتب عليه شيء من العذاب والعقاب وَالحال انه هُوَ اى رمى تلك البريئة العفيفة عِنْدَ اللَّهِ المطلع لعفتها وكمال عصمتها عَظِيمٌ فظيع في غاية العظمة والفظاعة مستجلب لانواع العذاب وأشد النكال إذ الافتراء بآحاد الناس يوجب أشد العذاب وأسوأ العقاب فكيف بأفضلهم وأشرفهم وَلَوْلا وهلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أولا ايها

[سورة النور (24) : آية 17]

الآفكون المفترون قُلْتُمْ ما يَكُونُ اى ما يصح وما يجوز لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا الفحش الباطل والكذب الصريح العاطل سُبْحانَكَ نقدسك وننزهك من ان تمكن أنت أحدا يفعل ويقول سبا وقولا سهلا سمجا خصوصا في حق حليلة حبيبك سيما أمثال هذا الافتراء إذ ما هذا الا بُهْتانٌ عَظِيمٌ تبهت وتتحير منه العقول وتضطرب الأسماع وتتقلقل القلوب وبالجملة انما يَعِظُكُمُ اللَّهُ المصلح لمفاسدكم ويبالغ في وعظكم وتذكيركم كراهة أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً مادمتم احياء إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله مصدقين لنبيه إذ أمثال هذه الخرافات بالنسبة الى بيت النبوة من امارات الكفر والتكذيب وعلامات سوء الأدب مع الله ورسوله وَبعد صدور أمثال هذه الخرافات من اصحاب الإسراف والإفساد يُبَيِّنُ اللَّهُ المدبر لمصالحكم لَكُمُ الْآياتِ الدالة على الصفح والاعراض عن أمثال هذه الافتراءات الهاتكة لأستار محارم الله سيما مع أكرم عترة حبيبه صلى الله عليه وسلم وَاللَّهُ المصلح لمفاسد أحوالكم عَلِيمٌ بما في ضمائركم وخواطركم حَكِيمٌ في ازالة ما يؤذيكم ويغويكم. ثم قال سبحانه تذكيرا لعموم عباده إِنَّ المفسدين المسرفين الَّذِينَ يُحِبُّونَ من خبث بواطنهم أَنْ تَشِيعَ تظهر وتنتشر الْفاحِشَةُ والخصلة المذمومة عقلا وشرعا فِي الَّذِينَ آمَنُوا اى بين عموم المؤمنين لَهُمْ جزاء لإشاعتهم واذاعتهم عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم مقرع فِي الدُّنْيا بالجلد والجلاء وَفي الْآخِرَةِ بالنار المحرقة الملتهبة وَاللَّهُ المطلع على عموم ما جرى في الغيب والشهادة يَعْلَمُ قبح ما في الاشاعة والشيوع من القباحة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ قبحها لذلك تحبون الاشاعة والإذاعة بها وَبالجملة لَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بفتح باب التوبة والرجوع عن المعصية بالندامة الخالصة لفضحكم البتة وعذبكم بقبح صنعكم وشنعة خصلتكم هذه وَاعلموا أَنَّ اللَّهَ المراقب لعموم ما صدر عنكم رَؤُفٌ لكم يحفظكم عما يضركم رَحِيمٌ لكم يرحمكم بعد ما وفقكم على التوبة والندامة ثم لما كان صدور أمثال هذه المعاصي والآثام انما هي بمتابعة الشيطان المضل المغوى نادى سبحانه عموم عباده المؤمنين ونهاهم عن متابعته والاقتداء به والاقتفاء باثره فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الصانع وصفاته وصدقوا بالنبوة والرسالة والتشريع العام المفيد لاعتدال الأخلاق والأطوار بين عموم العباد مقتضى ايمانكم مخالفة النفس والهوى اللتين هما من جنود الشيطان المضل المغوى عن طريق الحق عليكم ان لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ولا تقتفوا اثره في اشاعة الفاحشة وهتك الحرمة واستحباب المعصية وَمَنْ يَتَّبِعْ منكم ايها المؤمنون خُطُواتِ الشَّيْطانِ المضل المغوى فقد ضل وغوى وكيف لا فَإِنَّهُ اى الشيطان يَأْمُرُ عموم من يتابعه ويقتدى به بِالْفَحْشاءِ والمستقبح عقلا وشرعا وَالْمُنْكَرِ المردود مروءة ونقلا وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ المتكفل لإصلاح أحوالكم عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ الواسعة الشاملة لعموم عباده ما زَكى وما طهر وخلص مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ من متابعة الشيطان أَبَداً ما دمتم احياء إذ متابعته مطبوع لكم مستحسن عندكم مقبول لأنفسكم وَلكِنَّ اللَّهَ المدبر لأمور عباده يُزَكِّي اى يخلص ويطهر من غوائل الشيطان ووساوسه مَنْ يَشاءُ من عباده رعاية لحكمته وضبطا لمصلحته التي قد جبل عباده عليها وَاللَّهُ المطلع على عموم ما ظهر وما بطن سَمِيعٌ لأقوالهم عَلِيمٌ بقصدهم ونياتهم فيها وبعد ما جاء من القاذفين الآفكين ما جاء

[سورة النور (24) : آية 22]

انصرف عنهم المؤمنون واعرضوا عن انفاقهم ورعايتهم وحلفوا ان لا ينفقوا عليهم أصلا مع ان بعضهم في غاية الفاقة رد الله على المؤمنين هذا وحثهم على الانفاق عليهم وأمرهم بالإحسان بدل الإساءة حيث قال وَلا يَأْتَلِ اى لا يحلف ولا يقصر أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ في الدين وَأولو السَّعَةِ في الرزق والمال أَنْ يُؤْتُوا اى من ان لا يؤتوا او على ان لا يؤتوا أُولِي الْقُرْبى الذين ينتمون إليكم ايها المؤمنون بالقرابة النسبية وَكذا الْمَساكِينَ الفاقدين لقوت يومهم وَلا سيما فقراء الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الباذلين مهجهم في ترويج دينه بسبب انهم قد خاضوا في معصية الإفك والافتراء وجاءوا ببهتان عظيم وأحبوا ان يشيعوه ويتقولوا به ظلما وزورا وَبعد نزول آيات البراءة والتنزيه في شأن العفيفة رضى الله عنها لْيَعْفُوا اى جملة المؤمنين عن ذنوب القاذفين بعد ما تابوا وندموا وقبل الله منهم توبتهم وَلْيَصْفَحُوا وليعرضوا عن جريمتهم ويصافحوا معهم وليعطوا إليهم ما اعطوهم من قبل أَلا تُحِبُّونَ ايها المقذوفون المطهرون المنزهون أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ زلتكم وذنوبكم بسبب عفوكم عن القاذفين وصفحكم عما جاءوا به افتراء ومراء وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده غَفُورٌ لهم يغفر ذنوبهم بسبب عفوهم جرائم إخوانهم رَحِيمٌ يرحم عليهم تفضلا وامتنانا. روى انه عليه السلام قرأها على ابى بكر رضى الله عنه فقال بلى أحب وأعاد الى مسطح وهو احد القاذفين الآفكين وهو ابن خالة ابى بكر رضى الله عنه فقير ليس له شيء نفقته التي قد أنفق عليه دائما. ثم قال سبحانه تذكيرا لعموم عباده ونهيا لهم عن الرمي بالزنا مطلقا إِنَّ المسرفين المفرطين الَّذِينَ يَرْمُونَ بالزنا الْمُحْصَناتِ المتعففات المستحفظات لحدود الله الْغافِلاتِ المبرءات المنزهات عما رموا به أولئك الغفلة الجهلة ظلما وزورا الْمُؤْمِناتِ الموقنات بالله وبما جاء من عنده من الحدود والاحكام الجارية على السنة رسله ولا سيما بيوم الجزاء المعد للكشف والتفضيح لُعِنُوا وطردوا عن روح الله وسعة رحمته لقصدهم بعرض العفائف وهتك حرماتهن وطعنهم فيهن افتراء ومراء فِي الدُّنْيا بإجراء الحد وانواع الشتم والطرد ورد شهادتهم مدة حياتهم وَالْآخِرَةِ بأنواع العذاب والنكال وَبالجملة هم بسبب قبح صنيعهم وسوء أفعالهم لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا عذاب أعظم منه لعظم جرمهم وعصيانهم اذكر لهم يا أكمل الرسل توبيخا لهم وعظة وتذكيرا لمن اعترض لهم من المؤمنين يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بالهام الله واعلامه أَلْسِنَتُهُمْ اى القاذفين الباهتين وتقر بعموم ما صدر عنهم من الكذب ورمى المحصنات وقذف العفائف عمدا بلا علم لهم ولا شعور بحالهن وَأَيْدِيهِمْ بما اقترفوا من الأخذ والإعطاء لا على الوجه المشروع وَأَرْجُلُهُمْ بالسعي والتردد الى ما لا يرضى منه سبحانه ولا رسوله ولا المؤمنون وبالجملة يقر كل من أعضائهم وجوارحهم بِما كانُوا يكسبون ويَعْمَلُونَ به من المعاصي والآثام وبالجملة يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ المجازى لاعمالهم دِينَهُمُ وجزاءهم الْحَقَّ اى يوفى عليهم ما يستحقون من الجزاء بلا زيادة ولا نقصان عدلا منه سبحانه وَحينئذ يَعْلَمُونَ يقينا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على انواع الانعام والانتقام هُوَ الْحَقُّ المقصور على التحقق والثبوت بالقسط والعدل الْمُبِينُ الظاهر ألوهيته وربوبيته على الوجه الاقسط الأقوم بلا ميل منه وانحراف عن جادة الاستقامة والعدل الحقيقي ومن جملة عدالته رعاية المناسبات بين المظاهر والمربوبات كما بينهما سبحانه بقوله الْخَبِيثاتُ من النساء المطعونات بأنواع الرذائل المنحرفات عن جادة السلامة

[سورة النور (24) : آية 27]

والطهارة لِلْخَبِيثِينَ كذلك من الرجال يعنى لا يتزوجهن غير الخبيثين لحكم الكفاءة والمناسبة وَكذا الْخَبِيثُونَ من الرجال لِلْخَبِيثاتِ من النساء كل لنظيرتها بحكم المصلحة الإلهية وَكذا الطَّيِّباتُ الطاهرات العفائف لِلطَّيِّبِينَ ايضا كذلك وَكذا الطَّيِّبُونَ المستقيمون على جادة العدالة لِلطَّيِّباتِ ايضا كذلك إذ كل يميل بالطبع الى شاكلته بالميل المعنوي الموضوع بالوضع الإلهي المسمى بلسان الشرع بالكفاءة ومتى ثبت هذا الحكم من الله وتبين هذه المناسبة بتبيين الله أُولئِكَ العفائف المطهرون الطيبون مُبَرَّؤُنَ منزهون مِمَّا يَقُولُونَ أولئك الرماة المفترون والطغاة الخبيثون المنحرفون عن طريق الحق الناكبون عن الصراط المستقيم ولكمال براءتهم ونزاهتهم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وعفو من الله المطلع لبراءتهم الشاهد عليها وَرِزْقٌ كَرِيمٌ الا وهو الرزق الصوري والمعنوي الذي يتلذذون به في الجنة عند كشف الغطاء ورفع الحجب عن وجه الله الكريم اللهم ارزقنا بلطفك من رزقك الكريم واجعلنا بجودك من ورثة جنة النعيم ثم لما كان أمثال هذه الهذيانات الباطلة والمفتريات العاطلة من نتائج الخلطة والاستيناس مع اصحاب الغفلة وكشف الحجب والأستار الواقعة بين ذوى القدر والاعتبار واولى الخطر الكبار الى من هو من السفلة السافلين المنحطين عن درجة ارباب الاستبصار أشار سبحانه الى ان الاختلاط والاستيناس بين المؤمنين لا بد وان يكون مسبوقا بالاستيذان والاسترخاص حتى لا يؤدى الى أمثال هذه الخرافات فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم محافظة آداب المحبة والإخلاص بينكم ومن جملتها انها لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ اى بيتا من بيوت إخوانكم بغتة بلا استيذان من أهلها ان تصبروا حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وتستأذنوا وتطلبوا رخصة الدخول وَبعد ما اذنتم ورخصتم لكم ان تُسَلِّمُوا أولا عَلى أَهْلِها بان تقولوا السلام عليكم أأدخل أم لا ثلاث مرات هكذا قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم فان اذنتم بالدخول فادخلوا والا فارجعوا ذلِكُمْ الاستيذان والاستيناس خَيْرٌ لَكُمْ من المبادرة الى الدخول بغتة وانما انزل عليكم هذه الآية الكريمة المتعلقة بالأخلاق لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وتتعظون بها وتحفظون حدود المصاحبة والمواخاة بينكم وتحافظون عليها ولا تجاوزون عن مقتضى المروءة والعدالة فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها اى في البيوت أَحَداً تستأذنون منه فَلا تَدْخُلُوها ابدا لئلا تتهموا بأنواع التهمة بل اصبروا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ اى لا تدخلوا حتى تجدوا من يأذن لكم وَبعد ما وجدتم إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فالوقت لا يسع بالدخول فَارْجِعُوا على الفور بلا تفحص ولا تفتيش عن أسبابه على وجه الإلحاح والاقتراح كما يفعله الجهلة من الناس هُوَ اى الرجوع بلا تفحص أَزْكى لَكُمْ واطهر لنفوسكم من الإلحاح وَاللَّهُ المدبر لمصالحكم بِما تَعْمَلُونَ وتأملون في نفوسكم عَلِيمٌ يجازيكم بمقتضى علمه وخبرته لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ اى ضيق ومنع أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ سيما قد كان فِيها مَتاعٌ لَكُمْ تستأجرونها وتستعيرونها للادخار والاستخزان وَبالجملة اللَّهُ المطلع على ضمائر عباده يَعْلَمُ منكم ما تُبْدُونَ وتظهرون وَما تَكْتُمُونَ وتخفون يجازيكم على مقتضى علمه. ثم امر سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم بتذكير عباده وتهذيب أخلاقهم سيما في حفظ المحارم والحدود فقال قُلْ يا أكمل الرسل لِلْمُؤْمِنِينَ المصدقين لحدود الله الممتثلين بأوامره يَغُضُّوا وينقصوا مِنْ أَبْصارِهِمْ دائما حتى لا يقع نظرهم بغتة الى المحارم

[سورة النور (24) : آية 31]

والمكاره بل لهم ان يديموا النظر الى الطريق الذي مشوا عليها حتى يسلموا من شرور اماراتهم ومن صولة جنود الشهوات عليهم وَقل لهم ايضا يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عن امارات الزنا وعلامات السفاح ومقدماته ويتقوا عن مواضع التهم ومظان الرمي والقذف مطلقا ذلِكَ الغض والحفظ أَزْكى لَهُمْ واطهر وأليق لنفوسهم وقلوبهم إِنَّ اللَّهَ المراقب على عموم حالاتهم خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ من التغامز والترامز واجالة النظر وتحريك الحدقة وسائر الأعضاء نحو ما تشتهون من المحرمات وَقُلْ ايضا يا أكمل الرسل لِلْمُؤْمِناتِ المقيمات لحدود الله المحترزات عن محارمه يَغْضُضْنَ وينقصن مِنْ أَبْصارِهِنَّ ويقصرن نظرهن الى أزواجهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ من الميل الى المحارم ولهن ان لا يعرضن انفسهن الى غير أزواجهن وَلا يُبْدِينَ ولا يظهرن زِينَتَهُنَّ لغيرهم إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها من الثياب التي يلبسن وَمن كمال تحفظهن وتسترهن لْيَضْرِبْنَ وليسترن بِخُمُرِهِنَّ ومقانعهن عَلى جُيُوبِهِنَّ اى نحورهن وصدورهن مبالغة في التستر والتحفظ وَبالجملة لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ اى الأشياء التي يتزين بها لازدياد الحسن إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ اى لأزواجهن إذ الزينة انما هي لأجلهم ولازدياد ميلهم إليهن أَوْ آبائِهِنَّ إذ هم الأولياء لهن أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ لحفظهم محارم أبنائهم وحرمتهن عليهم مطلقا أَوْ أَبْنائِهِنَّ لأنهم أمناء على أمهاتهم أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ إذ هم يحفظون حمية آبائهم وحرمة محارمهم أَوْ إِخْوانِهِنَّ إذ هم احفظ عليهن من أنفسهم لخوف لحوق العار عليهم حمية وغيرة أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ إذ هم مثل آبائهم في المحافظة أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ لان نسبتهم إليهن كنسبتهم الى أمهاتهم أَوْ نِسائِهِنَّ اى المسلمات مطلقا إذ لا يتصور منهن الضرر سوى المساحقة والايمان يمنع عنها أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ إذ الاحتراز عنهم موجب للحرج لأنهم من اهل الخدمة أَوِ التَّابِعِينَ لهن غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ وذوى الحاجة والشهوة مِنَ الرِّجالِ إليهن إذ هم الهرمى الذين لا يرجى منهم الشهوة قطعا أَوِ الطِّفْلِ وهم الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ لعدم بلوغهم أوان الحلم وثوران الشهوة وَقل لهن ايضا يا أكمل الرسل لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ ولا يترقصن ولا يتبخترن على العادة الجاهلية لِيُعْلَمَ ويظهر ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَبالجملة تُوبُوا وارجعوا رجالا ونساء إِلَى اللَّهِ المبدئ المبدع لكم من كتم العدم جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بالله وبوحدة ذاته والمصدقون بكتبه ورسله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بالفلاح والنجاح من عند الله الملك التواب الفتاح. ثم لما أشار سبحانه الى محافظة الحدود وآداب الالفة والمصاحبة بين المؤمنين ونهاهم عن امارات السفاح ومقدمات الزنا مطلقا لئلا يختل النسب ولا يختلط النطف وقدمها اهتماما بشأنها أراد ان يشير الى ضبط النكاح الصوري المنبئ عن النكاح المعنوي فقال وَأَنْكِحُوا ايها الأولياء السادة المتولون لأمور من في حفظكم وحضانتكم الْأَيامى مِنْكُمْ وهي جمع الايم والايم العزب سواء كان ذكرا او أنثى وبكرا او ثيبا وَانكحوا ايضا الصَّالِحِينَ للنكاح والتزويج مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ فعليكم ايها الولاة تزويج العباد والإماء ولا تبالوا بفقرهم وفاقتهم إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ عند العقد والنكاح يُغْنِهِمُ اللَّهُ المدبر المصلح لأحوالهم مِنْ فَضْلِهِ وسعة جوده ورحمته لعباده بعد النكاح وَاللَّهُ المتكفل لأرزاق عباده واسِعٌ يوسع عليهم من رزقه عَلِيمٌ برثاثة حالهم مغن علمه بهم عن سؤالهم وَلْيَسْتَعْفِفِ

[سورة النور (24) : آية 34]

وليجتهد في العفة وتسكين الشهوة الفقراء الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً اى أسبابه وصداقه وليصبروا لمشاق العزوبة حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ المصلح لأحوالهم مِنْ فَضْلِهِ وسعة جوده فيجدوا ما يتزوجون. ثم أشار سبحانه الى الموالي وتحريرهم وتخليصهم من ربقة الرقية وعروة العبودية المقتضية لانواع المذلة والهوان طلبا لمرضاة الله وعتقا من عذابه فقال وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ اى العبيد الذين يطلبون الْكِتابَ اى الكتابة المتضمنة لعتقهم وخلاصهم عن الرق بعد ما أدوا المبلغ المعهود الذي يكاتب عليهم وهم مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ايها الموالي سواء كانوا عبيدا او إماء قنا او مدبرا او مستولدة ويطلبون منكم ان تعتقوهم عن مال تكتبون لهم ليؤدوا إليكم منجما وبعد ما أدوا ما تكتبون لهم صاروا أحرارا معتقين فَكاتِبُوهُمْ ايها المالكون واعتقوهم على جعل إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً اى ان علمتم وتفرستم منهم بعد ما فككتم رقابهم يكونون صلحاء أمناء مؤمنين بحيث لا يرجى منهم الشر والفساد وَبعد ما عقدتم الكتابة معهم آتُوهُمْ ايها المسلمون مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ من فضله تفكيكا لرقابهم عن مذلة الرق وهوان العبودية. ثم أشار سبحانه الى حسن المعاشرة مع المماليك ورعاية غبطتهم ومحافظة الحدود منهم بحيث لا يكرهونهم ولا يعرضونهم ظلما وعدوانا الى ما لا يصح ولا يصلح لهم شرعا وعادة بل عقلا ومروءة سيما إذا استحصنوا واستحفظوا صيانة فقال على سبيل المبالغة في النهى وَلا تُكْرِهُوا ايها الملاك المسلمون فَتَياتِكُمْ وشواب جواريكم عَلَى الْبِغاءِ والزنا مطلقا سيما إِنْ أَرَدْنَ بأنفسهن تَحَصُّناً وتحفظا عن البغي مع قلة عقلهن ورشدهن فأنتم ايها الولاة أحق بحفظهن وحصنهن مما لا يرتضيه العقل والشرع والمروءة وبالجملة لا تنصرفوا ولا تعدلوا ايها الولاة الملاك عن مقتضى العقل والشرع لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وتطلبوا متاعها الفانية وحطامها الدنية الزائلة وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ سيما بعد نزول الزاجر فَإِنَّ اللَّهَ المنتقم لعصاة عباده سيما الظالم الخارج عن حدوده مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ يعنى من اكراه الملاك اياهن غَفُورٌ يغفر لهن رَحِيمٌ يرحم عليهن ان كن مخلصات في التحصن والتحفظ ويعاقب على المكرهين الظالمين أشد العقاب ويعذبهم أسوأ العذاب وَكيف لا يعاقبكم ايها المسرفون المصرون على الفسوق والعصيان مع انا لَقَدْ أَنْزَلْنا من مقام فضلنا وجودنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ واضحات فيها ما هو صلاحكم ونجاتكم وَاوضحناها لكم بان او ردنا فيها مَثَلًا مِنَ احوال الظلمة الغواة الطغاة العداة الَّذِينَ خَلَوْا مضوا مِنْ قَبْلِكُمْ لتعتبروا أنتم مما جرى عليهم من سوء صنيعهم وَلتكون قصصهم وأمثالهم مَوْعِظَةً وتذكيرا لِلْمُتَّقِينَ منكم المحترزين من بطشنا وانتقامنا ومع ذلك لم تعتبروا ولم تنزجروا حتى لا تستحقوا أشد العذاب وأسوأ العقاب أمثالهم وكيف لا تنزجرون عن قهر الله ايها الغافلون ولا تخافون عن بطشه وانتقامه ايها الضالون المفسدون المفرطون اما تستحيون منه سبحانه سيما مع حضوره وشهوده في عموم الأماكن والأحيان وظهور نوره في جميع الأنفس والآفاق غيبا وشهادة ظاهرا وباطنا ازلا وابدا أولا وآخرا صورة ومعنى وكيف تتركون حدوده وتخرجون عن مقتضى أوامره ونواهيه الموردة في كتبه المنزلة على رسله ايها الجاهلون المسرفون المفسدون المفرطون إذ هو اللَّهُ المتجلى بأسمائه الحسنى وأوصافه العظمى نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى الظاهر فيهما ومنهما ومظهرهما وكذا موجد ما ظهر بينهما وفيهما وعليهما جميعا من كتم العدم بلا سبق مادة

[سورة النور (24) : آية 36]

ومدة بل بامتداد اظلال أسمائه وآثار صفاته عليهما مَثَلُ نُورِهِ وظهور لمعات شمس وجهه حسب جود وجوده من هياكل الهويات وشباك العكوس والتعينات كَمِشْكاةٍ وهي الكوة يوضع القنديل المسرج وهي مثال الأشكال الظاهرة والتعينات المنعكسة من اشعة الأسماء والصفات الإلهية المتشعشعة المتجلية بالتجليات الحبية على مقتضى الذات فِيها اى في تلك الهويات المنعكسة من آثار الأسماء والصفات مِصْباحٌ وهي مثال نور الوجود الإلهي المضيء بنفسه وذاته الظاهر اللائح المتجلى عن عموم مظاهره ومصنوعاته ومن كمال شروقه وبروقه وشدة لمعانه وشعشعته يخطف الأبصار ويكل المدارك والانظار لذلك قد أصبحت الْمِصْباحُ المذكورة أولا فِي زُجاجَةٍ صافية من كدر التعينات ورين التعلقات والتلونات الا وهي مثال رحاجات الأسماء وقناديل الصفات المنبسطة اظلالها وعكوسها على صفائح الأكوان المنتشرة آثارها على صفحات الكائنات الواقعة في بقاع الإمكان وعراص الطبائع والأركان ومن كمال اللطافة والنظافة والصفاء المفرط هذه الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ في غاية الإضاءة والإنارة تتلألأ وتتشعشع دائما بصفائها الذاتي ولطافتها الجبلية إذ هي يُوقَدُ ويسرج بدهن غيبي الهى متخذ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ كثيرة الخير والبركة لمن استدهن منها واستظل تحتها الا وهي شجرة الوجود الممتد اظلالها واضواؤها وكذا أغصانها وأفنانها على صفائح عموم ما ظهر وما بطن من المظاهر والموجودات الغير المحصورة زَيْتُونَةٍ كثيرة النفع والخير إذ الوجود خير محض ونفع صرف بحيث لا شرفيه ولا ضر أصلا لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ بل معتدلة في نفسها خارجة عن مطلق الحدود والجهات غير محاطة بالأقطار والابعاد ومن كمال صفائها الذاتي ولطافتها الجبلية يَكادُ زَيْتُها حسب إضاءتها الذاتية وإشراقها اللطيف يُضِيءُ بضيائها الذاتي وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ هي عبارة عن نار المحبة الخالصة والمودة الصافية الحاصلة من العشق المفرط الإلهي الحاصل لأرباب الولاء الحقيقي من التجلي الحبى الشوقى الجمالي وبالجملة نور الوجود الإلهي نُورُ متراكم عَلى نُورٍ بحيث لا يدرك به ولا يشاهد ولا يتميز ولا يشار اليه ولا يحس به وبالجملة من كمال شعشعته وغاية بروقه وشروقه ولمعانه لا يطلع عليه احد من مظاهره ومصنوعاته بلا توفيق منه سبحانه وجذب من جانبه بل يَهْدِي اللَّهُ الهادي لعباده الى فضاء وحدته لِنُورِهِ وضياء وجوده وسعة رحمته وجوده مَنْ يَشاءُ من عباده ممن جذبه الحق نحو جنابه ووفقه الوصول الى فناء بابه وَللتنبيه الى هذا المقام والإشارة الى هذا المرام يَضْرِبُ اللَّهُ المطلع على استعدادات عباده الْأَمْثالَ المنبهة والأشباه المشيرة الموضحة لِلنَّاسِ المجبولين على فطرة التوحيد لعلهم يتفطنون منها على ما جبلوا لأجله ويتنبهون على مبدئهم ومعادهم وَبالجملة اللَّهُ المحيط بالأنفس والآفاق احاطة حضور وشهود بِكُلِّ شَيْءٍ مما جرى في مملكة الوجود عَلِيمٌ بذاته لا يغيب عن حضرة علمه شيء من مظاهره ومصنوعاته ولحصول هذا التفطن والتنبه يتوجه المخلصون المنجذبون نحو الحق فِي بُيُوتٍ وبقاع معدة للتوجه والتذكر مع انه قد أَذِنَ اللَّهُ المصلح لأحوال عباده الميسر لهم طريق الوصول الى جنابه أَنْ تُرْفَعَ اى لان ترفع بناؤها وتشيد اساسها وتعظم غاية التعظيم وَيُذْكَرَ فِيهَا اى لان يذكر في تلك البيوت والمساجد المعدة للتوجه والعبادة اسْمُهُ الذي هو عبارة عن كلمة توحيده وتنزيهه وتقديسه ولهذا يُسَبِّحُ لَهُ وينزه ذاته سبحانه عما لا يليق بشأنه توجها اليه سبحانه وطلبا لمرضاته فِيهَا اى في تلك البيوت المعدة المذكورة بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ اى في عموم

[سورة النور (24) : آية 37]

آناء الأيام والليالى رِجالٌ اى ابطال كمل مخلصون منجذبون نحو الحق مشمرون أذيال هممهم لسلوك طريق الفناء منقطعون عن الدنيا الدنية وما فيها بحيث لا تُلْهِيهِمْ ولا تشغلهم ولا تخدعهم ولا تغرهم تِجارَةٌ وأرباح متعلقة بالنشأة الدنيوية والاخروية ايضا وَلا بَيْعٌ ايضا كذلك مطلقا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعن التوجه نحو جنابه والعكوف حول بابه وَلا عن إِقامِ الصَّلاةِ ودوام الميل اليه والمناجاة معه وَلا عن إِيتاءِ الزَّكاةِ وانفاق ما في أيديهم وما ينسب إليهم خالصا لوجهه الكريم ومع ذلك يَخافُونَ يَوْماً اى عذاب يوم واى يوم يوما تَتَقَلَّبُ اى تتقلقل وتضطرب فِيهِ الْقُلُوبُ وَتدهش وتتحير فيه الْأَبْصارُ كل ذلك لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ المجازى عن عموم أعمالهم أَحْسَنَ ما عَمِلُوا اى يجزى أعمالهم الجميلة الصادرة عنهم بأحسن الجزاء وأجملها وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ امتنانا عليهم وتفضلا وَاللَّهُ المكرم المفضل لخواص عباده يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ منهم من الرزق المعنوي الحقيقي مستوفى بِغَيْرِ حِسابٍ بلا مقابلة أعمالهم ومعاوضة حسناتهم بل بمحض الكرم والجود. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة منه في كتابه هذا وَالَّذِينَ كَفَرُوا اى ستروا الحق وأنكروا عليه وأظهروا الباطل ظلما وزورا وأصروا عليه عنادا ومكابرة لذلك صارت أَعْمالُهُمْ التي خيلوها صالحة مستجلبة لانواع الخير والحسنى لهم في يوم الجزاء على عكس اعمال اهل الايمان عندهم وبزعمهم كَسَرابٍ اى صارت أعمالهم مثل سراب يلمع ويبرق بِقِيعَةٍ اى بادية وصحراء بحيث يَحْسَبُهُ ويظنه الظَّمْآنُ من بعيد ماءً مسكنا للعطش مبردا للأكباد فلما رآه العطشان سار اليه وسارع نحوه وسعى سعيا سريعا حَتَّى إِذا جاءَهُ بعد تعب كثير وعناء مفرط مؤملا الوصول الى الماء لَمْ يَجِدْهُ ماء بل لم يجد ايضا شَيْئاً آخر متأصلا في الوجود سوى العكوس التي يتراءى كالماء في البريق واللمعان من تقلب الحدقة واضطرابها ومن تشتت البال وضعف القوى واختلال المزاج والحال باستيلاء العطش المفرط وحرقة الكبد وَبعد ما قد ايس من وجدان الماء وكذا عن نفع الأعمال وَجَدَ اللَّهَ المراقب عليه في عموم أحواله محاسبا إياه عن جميع ما صدر عنه حاضرا شهيدا عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ على الوجه الاقسط الأعدل بلا زيادة ولا نقصان وَاللَّهُ المطلع على عموم ما جرى على عباده في جميع شئونهم وتطوراتهم سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسبهم ويجازيهم بمقتضى علمه وخبرته بلا فوت شيء مما صدر عنهم عدلا منه سبحانه أَوْ مثل اعمال الكفرة في عدم النفع والخير كَظُلُماتٍ اى كاصحاب ظلمات متراكمة في ليلة مظلمة وهم ليلتئذ مضطرون مغمورون فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق غائر منسوب الى اللج وهو معظم الماء يَغْشاهُ اى يغطى البحر ويعلو عليه مَوْجٌ هائل مِنْ فَوْقِهِ اى فوق الموج الاول وعقبه مَوْجٌ آخر اهول منه وهكذا تترادف وتتوالى وتتعاقب امواج كثيرة متراكمة مترادفة بعضها فوق بعض على التوالي والتتالى مع انه مِنْ فَوْقِهِ اى من فوق الموج المظلم المتجدد بتجدد الأمثال سَحابٌ كثيف ثقيل اظلم منه وبالجملة تلك الأمواج والسحب ظُلُماتٌ متراكمة مترادفة بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ وأشد منه بحيث إِذا أَخْرَجَ من وقع واضطر فيها يَدَهُ حذاء بصره اختيارا لنظره لَمْ يَكَدْ يَراها اى لم يقرب ان يرى يده ويشهدها بالقوة فكيف الرؤية بالفعل هكذا اعمال الكفرة المتوغلين في بحر الغفلة والضلال المغشاة بالأمواج المتراكمة من الظلم والطغيان والبغي والعدوان من فوقها السحب الكثيفة والحجب الغليظة

[سورة النور (24) : آية 41]

من الجهل بالله والتعامي عن مطالعة آياته الدالة على توحيده واتصافه بالأوصاف الذاتية وعن ملاحظة آثاره البديعة وصنائعه العجيبة الغريبة وهم من غاية انهماكهم في ظلمات غفلاتهم وجهالاتهم وكمال غيهم وضلالاتهم إذا أمعنوا نظرهم الى مشاهدة ما في نفوسهم من غرائب صنع الله وبدائع حكمته لم يقربوا ان يكونوا قابلين مترصدين مستعدين للوقوف عليها فكيف الشهود والاطلاع بها بالفعل كل ذلك لتركب جهلهم المركوز في جبلتهم واصل فطرتهم وَبالجملة مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ الهادي لعباده الى زلال توحيده لَهُ نُوراً لا معا من جذبة التوفيق او جذوة من نار المحبة الصادقة والمودة الصافية عن مطلق الكدورات يهدى به التائهين الى مقصد توحيده فَما لَهُ من نفسه وبمجرد كسبه وسعيه مِنْ نُورٍ يرشده اليه سبحانه ويوصله الى فضاء وحدته وصفاء جنته. هب لنا من لدنك نورا نهتدي به الى ما قد جبلنا لأجله بفضلك وجودك يا ذا القوة المتين أَلَمْ تَرَ ولم تعلم ايها المعتبر الرائي أَنَّ اللَّهَ المتوحد برداء العظمة والكبرياء المستقل بالوجود الحقيقي اللائق بكمال الكرامة والجود يُسَبِّحُ لَهُ ويقدس ذاته سبحانه عن جميع ما لا يليق بشأنه لا سيما من شوب النقص وسمات الحدوث والإمكان جميع مَنْ فِي السَّماواتِ من المجبولين على فطرة المعرفة المتوجهين نحو المبدع طوعا وَكذا جميع من في الْأَرْضِ ايضا كذلك وَكذا الطَّيْرُ في جو الهواء الواقع بين الأرض والسماء يسبحن له ويقدسن ذاته صَافَّاتٍ باسطات أجنحتهن في الجو كُلٌّ اى كل واحد من المسبحين السماويين والارضيين والهوائيين قَدْ عَلِمَ وأدرك صَلاتَهُ وميله الى ربه الذي أوجده وأظهره وَتَسْبِيحَهُ الذي قد سبح ونزه به مبدعه عما لا يليق بشأنه وَبالجملة اللَّهَ المتصف بالأسماء الحسنى والصفات العليا عَلِيمٌ بعلمه الحضوري بِما يَفْعَلُونَ اى بجميع ما صدر عنهم من التوجه والتسبيح وباخلاصهم فيه وَكيف لا يعلم سبحانه افعال عباده ومماليكه إذ لِلَّهِ المظهر المبدع ابتداء وانتهاء مُلْكُ السَّماواتِ وجميع من فيها وما فيها وَالْأَرْضِ ومن عليها ومما عليها فله التصرف فيهما وفيما بينهما وفيما امتزج وتركب منهما وفيهما بالاستقلال والاختيار بلا مزاحمة الاضداد والأغيار وَكيف لا إِلَى اللَّهِ لا الى غيره من الاظلال الهالكة في بيداء الضلال الْمَصِيرُ اى المرجع والمنتهى إذ الكل منه بدأ واليه يعود كما بدأ وكيف لا هو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء كائن وسيكون ازلا وابدا عليم خبير يظهره ويعدمه حسب علمه وخبرته بإرادته واختياره أَلَمْ تَرَ ايها الرائي أَنَّ اللَّهَ المتكفل بارزاق عباده كيف يُزْجِي ويسوق أجزاء الابخرة والادخنة الى فوق متفرقة ليجعلها سَحاباً هامرا ثُمَّ يُؤَلِّفُ ويركب بَيْنَهُ اى بين أجزاء السحاب ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكما متكافئا متصلا لتتكون منها مياه كثيرة ثم يجعل له فتوقا ومنافذ فَتَرَى ايها الناظر المعتبر الْوَدْقَ اى المطر المتقاطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وفتوقه عناية منه سبحانه لمن في حوزة فضله وجوده وَكذا يُنَزِّلُ مِنَ جانب السَّماءِ مِنْ جِبالٍ من قطع سحاب متراكم في الجو على هيئة الجبال الرواسي فِيها مِنْ بَرَدٍ متكون من الابخرة والادخنة الواصلة الى الطبقة الزمهريرية من الهواء وصولا تاما الى حيث قد انجمدت انجمادا صلبا كالحجر من شدة البرودة فينزل منها إظهارا لقهره سبحانه وتنبيها على صولة سطوة صفاته الجلالية فَيُصِيبُ بِهِ سبحانه مَنْ يَشاءُ من عباده ممن سبق له القهر والغضب منه سبحانه في سابق علمه بمقتضى جلاله وَيَصْرِفُهُ

[سورة النور (24) : آية 44]

اى يصرف شره عَنْ مَنْ يَشاءُ من اهل العناية على مقتضى لطفه وجماله ومن امارات غضب الله وقهره انه يَكادُ ويقرب سَنا بَرْقِهِ اللامع ضوؤه الحاصل منه في كمال الظلمة حالة الاصطكاك يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ الناظرة نحوه ويخطفها بحدوث الضد من الضد فجاءة وذلك من أقوى الأسباب لتفريق البصر وكيف لا يخطف سبحانه الأبصار حينئذ إذ يُقَلِّبُ اللَّهُ المحول للأحوال بكمال الاختيار والاستقلال فيه اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بغتة بلا تراخ ومهلة اظهار الكمال قدرته واختياره واستقلاله بالتصرف في مظاهره ومصنوعاته إِنَّ فِي ذلِكَ التبديل والقلب واحداث الضد من الضد بغتة لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ المنكشفين بوحدة الواجب وصفاته الذاتية التي هي منشأ عموم ما ظهر وما بطن من الكوائن والفواسد بإرادته واختياره المستدلين من آثار أوصافه وأسمائه لعلو شأنه وسمو برهانه المتيقنين بوحدة ذاته وتنزهه عن وصمة الكثرة والشركة مطلقا وَاللَّهُ المتوحد بذاته المتعزز بكمالات أسمائه وصفاته خَلَقَ اظهر وقدر كُلَّ دَابَّةٍ تتحرك على الأرض مِنْ ماءٍ هو العنصر الأصلي لوجود الحيوانات إذ هو مبدأ حركاتهم ومنشأ احساساتهم وادراكاتهم لذلك خص بالذكر من بين العناصر وان كانت مركبة من جميعها فَمِنْهُمْ اى من الدواب ذكر الضمير وجمع جمع العقلاء على سبيل التغليب إذ منها مَنْ يَمْشِي ويرجف عَلى بَطْنِهِ بلا آلة المشي كالحية وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالطير والإنسان وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالنعم والوحوش وبالجملة يَخْلُقُ اللَّهُ القادر المقتدر على مطلق الخلق والإيجاد ما يَشاءُ من الموجودات والمخلوقات ارادة واختيارا إِنَّ اللَّهَ المتصف بصفات الكمال عَلى كُلِّ شَيْءٍ داخل في حيطة حضرة علمه المحيط قَدِيرٌ بإيجاده وإظهاره في فضاء العلياء حسب حضرة قدرته بلا فتور وقصور. ثم قال سبحانه تحريكا لحمية عباده وتشييدا لبنيان اعتقاداتهم بالله وبوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته لَقَدْ أَنْزَلْنا من مقام لطفنا وجودنا إليكم ايها المحبوسون في مضيق الإمكان المقيدون بسلاسل الكفران وأغلال العصيان آياتٍ مُبَيِّناتٍ موضحات واضحات مفصلات دالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا واقتدارنا على انواع الانعام والانتقام لعلكم تتفطنون منها الى علو شأننا وكمال سطوتنا وسلطاننا مع ان أكثركم لا تتفطنون ولا تتنبهون لانهماككم في بحر الغفلة والضلال وَاللَّهُ الهادي لعباده يَهْدِي بفضله مَنْ يَشاءُ هدايته منهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى كعبة توحيده ووحدة ذاته بلا عوج وانحراف وَمن انحراف المنافقين وانصرافهم عن طريق الحق وميلهم الى الباطل يَقُولُونَ بأفواههم خوفا من دمائهم وأموالهم آمَنَّا بِاللَّهِ المتوحد في ذاته وَبِالرَّسُولِ المرسل من عنده لتبليغ دينه وآياته وَأَطَعْنا حكم الله وحكم رسوله سمعا وطاعة ثُمَّ يَتَوَلَّى اى يعرض وينصرف فَرِيقٌ مِنْهُمْ اى من المنافقين مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الإقرار والاعتراف عن حكم الله وحكم رسوله تكذيبا لنفسه من الايمان باللسان وإظهارا لما في قلبه من الكفر والنفاق وَبالجملة ما أُولئِكَ الأشقياء المردودون بِالْمُؤْمِنِينَ وليسوا متفقين معهم حقيقة وان أقروا واعترفوا على طرف اللسان خوفا إذ الايمان من فعل القلب واللسان مترجم له وَكيف كانوا مؤمنين أولئك المنافقون مع انهم إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ المصلح لأحوال عباده وَكذا الى رَسُولِهِ المستخلف منه سبحانه النائب عنه باذنه لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ويقطع نزاعهم إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ اى فاجؤا الى الاعراض

[سورة النور (24) : آية 49]

والانصراف عن حكم الله وحكم رسوله بعد ما دعوا الى رسوله ان كان الحكم عليهم وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ والحكم يَأْتُوا إِلَيْهِ اى الى الرسول ورضوا بحكمه مُذْعِنِينَ منقادين طائعين وبالجملة هم تابعون لمطلوبهم وما هو مقصودهم طالبون ان يصلوا الى ما أملوا في نفوسهم بلا ميل منهم الى الحق وصراطه المستقيم وميزانه العدل القويم وبالجملة باى سبب ميلهم واعراضهم ولأي شيء ينصرفون عن الحق أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعرضهم عن قبول الايمان ويمنعهم عن اليقين والعرفان أَمِ ارْتابُوا وترددوا في عدالة الله ورسوله أَمْ يَخافُونَ من سوء ظنونهم وجهالاتهم أَنْ يَحِيفَ ويميل اللَّهُ المستوي على القسط القويم والعدل المستقيم عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ المتخلق بأخلاقه ظلما بان أجازوا الظلم على الله وعلى رسوله بَلْ الحق انه لا شك في عدالة الله وعدالة رسوله ولا يليق بشأنهما ان ينسب الحيف والميل إليهما قطعا فتعين انه أُولئِكَ المهجورون عن ساحة عز القبول هُمُ الظَّالِمُونَ المقصورون على الظلم والخروج عن حد الاعتدال المائلون عن الصراط المستقيم الإلهي لمرض قلوبهم وخبث طينتهم. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية المستمرة في كتابه إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين على عكس المنافقين المترددين إِذا دُعُوا عند النزاع والخصومة إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ويزيل شبههم أَنْ يَقُولُوا طائعين راغبين سَمِعْنا وَأَطَعْنا بلا مطل وتسويف قد رضينا بما حكم الله ورسوله لنا وعلينا وَأُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله وعند رسوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالفلاح المقصورون على الصلاح والنجاح لا يتحولون منه بل يزادون عليه تفضلا وامتنانا وَكيف لا يزادون على أجورهم مَنْ يُطِعِ اللَّهَ حق أطاعته وينقد له حق انقياده وَيتبع رَسُولَهُ حق أطاعته ومتابعته ايضا وَمع ذلك يَخْشَ اللَّهَ المنتقم الغيور فيما صدر عنه ومضى عليه من الذنوب بعد ما تاب وندم وَيَتَّقْهِ ويحذر عنه سبحانه فيما بقي من عمره فَأُولئِكَ المطيعون المنقادون بالله ورسوله الخائفون الخاشعون المخبتون المتقون هُمُ الْفائِزُونَ بالمثوبة العظمى والدرجة العليا عند الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا وَ من خباثة بواطن اهل الشرك والنفاق وشدة شكيمتهم وشقاقهم معك يا أكمل الرسل قد أَقْسَمُوا بِاللَّهِ ترويجا لنفاقهم وتغريرا للمؤمنين جَهْدَ أَيْمانِهِمْ غاية حلفهم مبالغين مغلظين فيها منكرين للامتناع عن حكم الرسول بقولهم والله لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ يا أكمل الرسل يعنى المنافقين بالخروج عن الديار والجلاء عن الوطن لَيَخْرُجُنَ عنها بلا مطل وتسويف ممتثلين لأمرك مطيعين لحكمك ولا يتأتى منهم الامتناع عن حكمك قطعا وما هذا الا من غاية تلبيسهم ونهاية نفاقهم وتغريرهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما ظهر نفاقهم عندك بالهام منا إليك ووحى لا تُقْسِمُوا بالله ايها المسرفون المفرطون ولا تبالغوا في الحلف الكاذب فان المطلوب منكم طاعَةٌ واطاعة مجردة مَعْرُوفَةٌ مشهورة بين الناس فقط بلا إتيان مخالفة منكم ظاهرا واما حال بواطنكم وقلوبكم فأمره عند الله إِنَّ اللَّهَ المطلع على سرائركم وضمائركم خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ وتقصدون في نفوسكم يجازيكم بمقتضى خبرته قُلْ يا أكمل الرسل لعموم الناس على سبيل التبليغ العام والرسالة المطلقة أَطِيعُوا اللَّهَ المظهر لكم من كتم العدم وانقادوا لعموم أوامره ونواهيه وَأَطِيعُوا ايضا الرَّسُولَ المبعوث إليكم وصدقوه في جميع ما جاء به من عند ربكم فَإِنْ تَوَلَّوْا وانصرفوا بعد ما بلغت

[سورة النور (24) : آية 55]

رسالتك حق التبليغ فَإِنَّما عَلَيْهِ اى فاعلم ان ما على الرسول المرسل الا جزاء ما حُمِّلَ من التبليغ واظهار الدعوة وتبيين الرسالة وَعَلَيْكُمْ ايها المكلفون السامعون جزاء ما حُمِّلْتُمْ من الامتثال والانقياد وَاعلموا ايها الأحرار المتوجهون نحو الحق إِنْ تُطِيعُوهُ اى الرسول وتصدقوا قوله وتعملوا بمقتضى ما أمرناكم به على لسانه تَهْتَدُوا الى معرفة ربكم وتفوزوا بتوحيده وَان لم تطيعوا له وتنقادوا لحكمه ولم تقبلوا منه دعوته ولم تهتدوا الى ما جبلتم لأجله فبالجملة ما عَلَى الرَّسُولِ المأمور بالدعوة والتبليغ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الظاهر الواضح لئلا يشتبه عليكم امر الدين فان امتثلتم بما سمعتم منه قد فزتم وان توليتم وانصرفتم فعليكم الوزر والوبال واعلموا يقينا قد وَعَدَ اللَّهُ المحسن المفضل لعباده بأنواع الفضل والعطاء سيما الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ايها الناس بوحدة الله وصفاته وإرسال الرسل وإنزال الكتب وبالبعث بعد الموت وكذا لجميع الأمور الاخروية وَمع الايمان والإذعان بالمأمورات المذكورة قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقبولة عند الله المرضية دونه حسب ما أوحاه على رسوله وأنزله في كتابه وقد اقسم سبحانه بنفسه تأكيدا لوعده لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ وليجعلنهم خلفاء فِي الْأَرْضِ التي قد استولى عليها الكفرة كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ آمنوا مِنْ قَبْلِهِمْ يعنى بنى إسرائيل قد استخلفهم سبحانه على بلاد العمالقة والفراعنة وارض الشأم والفرس وَبعد استخلافهم لَيُمَكِّنَنَّ ويقررن لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ الا وهو دين الإسلام المبنى على صرافة التوحيد الذاتي المستلزم المتضمن لتوحيد الصفات والأفعال وليشيعن وليذيعن دينهم هذا في جميع اقطار الأرض وانحائها وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ ويحولن حالهم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ الناشئ من تمويهات متخيلتهم وتصويرات متوهمتهم أَمْناً ناشئا من اليقين الحقي المثمر لكمال الاطمئنان والوقار وبعد ما حصل لهم مرتبة الفناء الذاتي في ذاتى قد حصل لهم البقاء الذاتي ببقائى فحينئذ يَعْبُدُونَنِي مخلصين متخصصين بحيث لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ولا يشركون معى في الوجود أحدا من مظاهري ومصنوعاتى بتسويلات شياطين خيالاتهم وتغريرات اوهامهم وَمَنْ كَفَرَ وارتد ورجع بَعْدَ ذلِكَ اى بعد نفى الخواطر والأوهام المضلة عن سواء السبيل فَأُولئِكَ المطرودون المردودون عن ساحة عز الحضور والقبول هُمُ الْفاسِقُونَ الخاسرون المقصورون على الخروج والخسران المؤبد عن مقتضى اليقين العلمي والعيني والحقي الا ذلك هو الخسران المبين وَبعد ما جعلتم التوحيد الذاتي قبلة مقاصدكم ايها المحمديون أَقِيمُوا الصَّلاةَ المثمرة لكم كمال الشوق والمحبة نحو الحق دائما وَآتُوا الزَّكاةَ المطهرة لنفوسكم عن الميل الى ما سواه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ الهادي المرشد لكم الى طريق التوحيد الذاتي لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وتفوزون بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر حققنا بما أنت به راض منا يا مولانا. ثم قال سبحانه تأييدا لنبيه صلى الله عليه وسلم لا تَحْسَبَنَّ ولا تظنن أنت يا أكمل الرسل الَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن توحيده انهم هم قد صاروا بكفرهم وعنادهم مُعْجِزِينَ معاجزين الله القادر المقتدر على وجوه الانتقام عن أخذهم وإهلاكهم سيما فِي الْأَرْضِ التي هي مملكة الحق ومحل تصرفاته سبحانه بل قد أخذهم الله الرقيب عليهم بظلمهم وبغيهم واستأصلهم عن وجه الأرض في النشأة الاولى وَمَأْواهُمُ النَّارُ في الاخرى وَالله لَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم ومرجعهم ومنقلبهم ومثواهم. ثم أشار

[سورة النور (24) : آية 59]

سبحانه تتميم ما مضى من آداب الخلطة والمؤانسة بين المؤمنين فقال مناديا لهم على العموم ليقبلوا الى امتثال ما أمروا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من آداب المصاحبة والإخاء هذا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ بالدخول على بيوتكم وليسترخص منكم ايها المؤمنون خدمتكم يعنى الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ سواء كانوا عبيدا او إماء وأنتم رجال او نساء ذكر الضمير على سبيل التغليب وَكذا الصبيان الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ اى لم يبلغوا وقت الحلم منكم خص بالذكر لكونه أقوى اسباب البلوغ الى وقت التكليف ثَلاثَ مَرَّاتٍ يعنى يستأذنكم الخدمة والصبيان منكم في ثلثة اوقات لدخولهم أحدها مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ إذ هو وقت التجرد والانخلاع عن ثياب النوم والدخول فيه منهى وَثانيها حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ للقيلولة والاستراحة وَثالثها مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ وهو وقت التجرد عن الثياب للنوم وبالجملة الأوقات المذكورة ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لا بد من تحفظكم فيها عن من يشوشكم ويطلع على سرائركم لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ ضيق ومنع بَعْدَهُنَّ اى بعد الأوقات الثلاثة لو دخلوا عليكم بلا اذن منكم إذ هم خدمة طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ ليخدموكم إذ جبلتكم واصل فطرتكم على ان يظاهر بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ ويطوف عليه ويحوم ليخدمه كَذلِكَ اى مثل ذلك البيان يُبَيِّنُ اللَّهُ المدبر لمصالحكم لَكُمُ الْآياتِ الدالة على آداب المصاحبة والمؤانسة وَاللَّهُ المطلع لأحوال عباده عَلِيمٌ بمصالحهم ومفاسدهم حَكِيمٌ في ضبطها وحفظها بحيث لا يختل امر النظام المتعارف وَكذا إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ وظهر منهم امارات الميل والشهوات سواء كانوا ذكرا او أنثى فَلْيَسْتَأْذِنُوا مطلقا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأحرار البالغين إذ هم قد دخلوا في حكمهم بعد الحلم وبالجملة كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ الدالة على آداب مخالطتكم وحسن معاشرتكم وَاللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده عَلِيمٌ بما في ضمائرهم من المنكرات حَكِيمٌ دفعها قبل وقوعها وَالْقَواعِدُ مِنَ العجائز النِّساءِ اللَّاتِي قد قعدن عن الحيض والحمل وشهوة الوقاع مطلقا بحيث لا يَرْجُونَ ولا يأمن نِكاحاً فراشا وزواجا لكبرهن وكهولتهن فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ اى ذنب وكراهة أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ اى الثياب الظاهرة التي تلبسها فوق الأستار كالجلباب حال كونهن غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ ومظهرات بِزِينَةٍ مشهية للرجال مثيرة لشهواتهم يعنى الزينة التي قد منعن من ابدائها في كريمة ولا يبدين زينتهن الآية وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ عن الوضع خَيْرٌ لَهُنَّ سواء كن عجائز أم شواب لان العفة ابعد من التهمة في كل الأحوال وَاللَّهُ المطلع بسرائرهن سَمِيعٌ لمقالتهن مع الرجال عَلِيمٌ بنياتهن منها ثم لما كان العرب قد كانوا يتحرجون عن مصاحبة ذوى العاهات والمؤاكلة معهم استقذارا وكانوا ايضا يتحرجون من دخول البيوتات المذكورة لأكل الطعام تعظما واستكبارا بل يعدونه عارا ويستنكفون منه تجبرا واستكبارا رد الله عليهم ونفى الحرج عنهم فقال لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ان يأكل مع البصير وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ان يأكل مع السوى الصحيح السالم ويجلس معه وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ان يأكل مع الأصحاء وَلا حرج ايضا عَلى أَنْفُسِكُمْ في أكلكم مطلقا سواء أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ وعند أهليكم ومحارمكم وسواء كان من اكسابكم او اكساب أولادكم أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ او أجدادكم إذ هم مستخلفون لكم أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ إذ بينكم وبينهن نسبة الكلية والجزئية

[سورة النور (24) : آية 62]

أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ لاشتراككم في المنشأ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ لاشتراك آبائكم معهم في المنشأ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ لاشتراك أمهاتكم في المنشأ أَوْ بيوت ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ يعنى بيوت عبيدكم الذين أنتم علل واسباب لإنشائهم سواء كانوا معتقين أم لا والتعبير عنهم بما للتمليك والرقية أَوْ بيوت صَدِيقِكُمْ بالمناسبة المعنوية التي هي أقوى من القرابة النسبية الصورية كل ذلك المذكور مسبوق بالإذن والرضا والتبسط والنشاط من اصحاب البيوتات ثم أشار سبحانه الى آداب المؤاكلة فقال لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً مجتمعين في اناء واحد يأكل بعضكم سؤر بعض إذ هو ادخل في التآلف والتحابب أَوْ أَشْتاتاً متفرقين كل في اناء وهذا ادخل في التزكية والنظافة فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً اى كل واحد منكم بيتا من البيوت التي قد رخصتم بالأكل فيها فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ اى فابدءوا بالسلام أولا على أهلها لأنهم منكم دينا وقرابة حتى صار سلامكم إياهم تَحِيَّةً زيادة حيوة لهم مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تفضلا عليهم وإحسانا مُبارَكَةً كثير الخير والبركة النازلة من عنده سبحانه على أهلها طَيِّبَةً خالصة صافية عن كدر النفاق واثر الخلاف والشقاق كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على آداب معاشرتكم في النشأة الاولى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رجاء ان تتفطنوا منها الى أحوالكم في النشأة الاخرى فتزودوا فيها لأجلها. ثم أشار سبحانه الى محافظة الآداب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورعاية حقوقه وكمال انقياده والإطاعة اليه فقال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الموحدون الكاملون المنكشفون بسرائر التوحيد الذاتي هم الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ الجامع بجميع الأسماء والصفات المنسوبة الى الذات الاحدية وَرَسُولِهِ الجامع بجميع مراتب المظاهر والمصنوعات بحيث لا يخرج عن حيطة مرتبته الجامعة الكاملة مرتبة من المراتب أصلا وَبعد ما عرفوا جمعيته صلى الله عليه وسلم إِذا كانُوا مجتمعين مَعَهُ صلى الله عليه وسلم عَلى أَمْرٍ جامِعٍ يعنى امرا قد اشترط في حصوله الاجتماع والاقتحام كالزحف والجهاد والجمع والأعياد لَمْ يَذْهَبُوا ولم ينصرفوا من عنده صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ بالانفضاض والانصراف وان كانوا مضطرين الى الذب والذهاب ثم كرر سبحانه امر الاستيذان على الوجه الأبلغ تأكيدا ومبالغة فقال مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ في الذهاب والانصراف على احسن الأدب معك يا أكمل الرسل أُولئِكَ السعداء المستأذنون هم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ في الذهاب حقا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ويراعون حق الأدب معهما من صفاء بواطنهم وخلوص طوياتهم فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ يا أكمل الرسل بعد اضطرارهم لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ وأمرهم المتعلق لمعاشهم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ يعنى أنت مخير في إذنهم بعد اضطرارهم وَبعد ما أذنت لهم اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ من ذنبهم الذي قد اختاروا امر الدنيا على امر العقبى واستأذنوا له واهتموا بشأنه إِنَّ اللَّهَ المطلع لاستعدادات عباده غَفُورٌ يغفر لهم أمثال هذه الفرطات الاضطرارية رَحِيمٌ مشفق يرحم عليهم بعد ما ندموا في نفوسهم ومن جملة الآداب التي قد وجبت عليكم رعايتها ومحافظتها بالنسبة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم انه لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ ونداءه بَيْنَكُمْ وبين أظهركم كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً بالاسم واللقب بلا ضميمة تدل على تعظيمه وتوقيره بل قولوا له وقت ندائه يا نبي الله او يا خير خلق الله او يا أكرم الخلق على الله وأمثالها او لا تجعلوا دعاءه ومناجاته مع الله ورفع حاجاته صلّى الله عليه وسلّم اليه

[سورة النور (24) : آية 64]

سبحانه في الاجابة والقبول كدعاء بعضكم بعضا بان قبل مرة ورده اخرى بل قد رده مرارا كثيرة فان دعاءه صلّى الله عليه وسلّم لا يرد عند الله أصلا أو لا تقيسوا دعاءه ونداءه إليكم في الوقائع والأمور كدعاء بعضكم بعضا بان تجيبوا مرة وتردوا اخرى بل عليكم ان تبادروا لإجابة ندائه صلّى الله عليه وسلّم سمعا وطاعة بلا مطل وتسويف خافضين أصواتكم وقت اجابته مسرعين إليها بالآداب 7 والجوانح ساعين الى إنجاح مسئوله ومطلوبه صلّى الله عليه وسلّم دفعة ثم أشار سبحانه الى توبيخ المنافقين وتقريعهم حيث قال قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ المطلع على سرائر عباده بمقتضى علمه الحضوري كيد المنافقين الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ ويخرجون متدرجين قليلا قليلا من بينكم وجمعكم ايها المؤمنون لِواذاً اى حال كونهم ملاوذين ملتجئين بغيركم بان يستتر بعضهم خلف بعض حتى يخرج ويذهب بلا اذن ورخصة منه صلّى الله عليه وسلّم فَلْيَحْذَرِ أولئك الماكرون المخادعون الَّذِينَ يُخالِفُونَ وينصرفون عَنْ أَمْرِهِ سبحانه وامر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بلا رخصة من أَنْ تُصِيبَهُمْ في الدنيا فِتْنَةٌ اى مصيبة ومحنة عظيمة مثل القتل والنهب والأسر وانواع البليات أَوْ يُصِيبَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لا عذاب أشد منه وكيف تعرضون وتنصرفون عن امر الله وامر رسوله ايها المفسدون المسرقون المفرطون اما تستحيون من الله المراقب عليكم أَلا اى تنبهوا ايها الغافلون الجاهلون بقدر الله وحق ألوهيته وربوبيته وكمال استقلاله وبسطته إِنَّ لِلَّهِ المظهر الموجد تصرفا وملكا مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى العلويات والسفليات وما بينهما من الممتزجات قَدْ يَعْلَمُ سبحانه بعلمه الحضوري على وجه الإحصاء والتفصيل عموم ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ في نشأتكم هذه اليوم وَايضا يعلم ما ستكونون عليه فيما سيأتى يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ في النشأة الاخرى المعدة للعرض والجزاء كما علم منكم ما أنتم عليه فيما مضى إذ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء مما جرى ويجرى في عالم الغيب والشهادة والنشأة الاولى والاخرى فَيُنَبِّئُهُمْ ويخبرهم حينئذ بِما عَمِلُوا في النشأة الاولى على التفصيل بلا شذوذ شيء منها ثم يجازيهم عليها وَاللَّهُ المجازى لعموم عباده في يوم الجزاء بِكُلِّ شَيْءٍ صدر عنهم في أولاهم وأخراهم عَلِيمٌ محيط علمه بجميع أعمالهم وأفعالهم وشئونهم وحالاتهم وجميع ما جرى عليهم يجازيهم بمقتضى علمه وخبرته ان خيرا فخير وان شرا فشر اصنع بنا ما أنت به اهل يا مولينا خاتمة سورة النور عليك ايها الموحد المستنير المقتبس من المشكوة الجامعة المصطفوية والمصباح اللامعة النبوية المحمدية أرشدك الله الى غاية ما املك ووفقك الى كمال ما جبلك لأجله ان تحسن الأدب مع النبي الهادي لك الى طريق التوحيد الذاتي وتلازم على محافظة ما أوجب عليك الحق من حقوقه وآدابه صلى الله عليه وسلم فلك ان تجعل رتبته صلى الله عليه وسلم نصب عينيك وقدوة مناك بحيث لا تترك شيأ من سنته المأثورة وأخلاقه المشهورة وشيمه المعروفة بين اهل الحق وارباب المحبة من المنكشفين بعلو مرتبته صلّى الله عليه وسلّم ورفعة قدره ومكانته ولا تهمل شيأ من الحدود والاحكام الموضوعة في دينه وشريعته ولك ان تختار لنفسك من عزائم شرعه وملته مهما أمكنك ولا تميل الى رخصتها إذ الرخصة انما هي لعوام اهل الايمان والعزائم من شيم الخواص فلك الإخلاص في العمل وعليك

سورة الفرقان

الاجتناب عن الرياء والسمعة وعن عموم الرعونات الواقعة في صدور الأعمال سواء كان عملك قليلا او كثيرا عزائم او رخصا وإياك إياك الحذر عن مداخل الرياء والتلبيس فإنها من شباك إبليس يضل بها ضعفاء الأنام من منهج الرشد وسبيل الاستقامة والسداد عصمنا الله وعموم عباده من تغريرات الشياطين وتسويلاتها بفضله وجوده [سورة الفرقان] فاتحة سورة الفرقان لا يخفى على ذوى البصائر والألباب المنقطعين نحو الحق السائرين اليه الفارقين بينه وبين الباطل من اظلاله المستهلكة المعدومة في أنفسها الظاهرة المرئية في هياكل الموجودات وأشكالها ان إنزال هذا الكتاب الجامع لأحوال النشأتين الحاوي لأطوار المنزلتين انما هو لتفرقة الحق عن الباطل وتمييز المحق من المبطل لذلك قد سماه سبحانه فرقانا بين اهل الهداية والضلال من المجبولين على فطرة التوحيد المخلوقين لمصلحة الايمان والعرفان فمن امتثل بما فيه امرا ونهيا عظة وتذكيرا اشارة ورمزا حقيقة ومعرفة خلقا وأدبا مثالا وعبرة فقد فاز بمرتبة العرفان بعد جذب الحق نحو ذاته وكحل عين بصيرته بكحل التوحيد ورفع سبل الغربة وسدل التعينات عنها برمتها والاسترشاد من هذا الكتاب موقوف على الاتصاف بأوصاف من انزل اليه وعلى التخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه والسلوك اثر سننه بلا فوت شيء منها وإهمال دقيقة من دقائقها حتى تحصل المناسبة المعتبرة بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين هذا الكتاب وينزل على قلبه ما نزل فيه من المعارف والحقائق كما اخبر سبحانه عن تنزيله إياه صلّى الله عليه وسلّم متيمنا متبركا باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي قد انزل الكتاب على عبده ليبين للناس احوال مبدئهم ومعادهم وينبه عليهم طريق التفرقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد الرَّحْمنِ عليهم بإرسال الرسول المبين لهم ما هو الأصلح لحالهم من السداد والإرشاد الرَّحِيمِ يوصلهم الى مرتبة التوحيد الذاتي بعد رفع الحجب بلا ميل والحاد [الآيات] تَبارَكَ الله تعاظم وتعالى ذاته سبحانه من ان يحيط بمنافعه وكثرة خيراته وبركاته عقول مظاهره ومصنوعاته حتى يعدوها بألسنتهم ويعبروا عنها بأفواههم حالا او مقالا الحكيم العليم الَّذِي نَزَّلَ بمقتضى جوده الواسع وكرمه الكامل الْفُرْقانَ اى القرآن الجامع لفوائد الكتب السالفة مع زوائد قد خلت عنها تلك الكتب تفضلا وامتنانا ومزيد اهتمام عَلى شأن عَبْدِهِ صلّى الله عليه وسلّم بعد ما هيأه لقبوله وأعده لنزوله ورباه أربعين سنة تتميما لأمر المناسبة المعنوية وتحصيلا لها حتى يستعد ويستحق لنزول الوحى والإلهام ولخلعة الخلافة والنيابة وانما أنزله هذا لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ اى كافة المخلوقين على فطرة التكليف وعامة المجبولين على استعداد المعرفة واليقين نَذِيراً ينذرهم ويحذرهم عما يضرهم ويغويهم عن صراط الحق وطريق توحيده عناية منه سبحانه إياهم ومرشدا لهم الى مبدئهم ومعادهم وكيف لا يرشدهم سبحانه مع انه هو المالك المطلق والمتصرف المستقل الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات المعبر عنها بالعلويات وَالْأَرْضِ اى الطبائع السفلية القابلة للانعكاس من العلويات فلا يضر كثرة الأسماء والصفات وحدوث العكوس والتعينات حسب الشئون والتجليات الإلهية وحدته الذاتية وانفراده الحقيقي وَلهذا لَمْ يَتَّخِذْ سبحانه وَلَداً حتى يتكثر وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ اى في تحققه ووجوده وملكه وملكوته حتى ينازع ويتضرر

[سورة الفرقان (25) : آية 3]

بل له خاصة التصرف بالاستقلال والاختيار بلا مزاحمة العكوس والاظلال الهالكة المستهلكة في صرافة وحدته وشمس ذاته وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بعد ما قدره أولا في حضرة علمه المحيط وأظهره حسب تجلياته بمقتضى آثار أسمائه وصفاته وبعد ما اظهر عموم ما اظهر فَقَدَّرَهُ ثانيا تَقْدِيراً بديعا ودبر امره تدبيرا محكما عجيبا بان اقدر البعض على اختراع انواع الصنائع والبدائع من الحرف والإدراكات الكاملة والتدبيرات الغريبة المتعلقة لتمدنهم ومعاشهم وجعل بعضهم آلة للبعض وبعضهم مملوكا وصيرهم ارواجا وأصنافا مؤتلفة وفرقا وأحزابا مختلفة متخالفة وأنواعا متفاوتة الى ما شاء الله وما يعلم جنود ربك الا هو كل ذلك ليتعاونوا ويتظاهروا واختلطوا وامتزجوا الى ان اعتدلوا وانتظموا وصاروا مؤتلفين موانسين محتاجين كل منهم بمعاونة الآخر وانما فعل سبحانه ما فعل ليظهر كمالاته المتكثرة المندرجة في وحدة ذاته ويظهر سلطان الوحدة الذاتية بظهور ضده وبعد ما بلغت الكثرة غايتها فقد انتهت الى الوحدة كما بدأت منها وانتشئت عنها فحينئذ قد اتصل في دائرة الوجود قوسا الوجوب والإمكان البداية والنهاية ومنشأهما الاول والآخر والظاهر والباطن واتحد الأزل والأبد وارتفعت الكثرة والعدد ولم يبق الا الواحد الفرد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد وَكيف لا يدبر سبحانه امر عباده بانزال الكتب وإرسال الرسل المرشدين لهم الى توحيده بعد ما تاهوا في بيداء الكثرة والضلال مع انهم قد اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ سبحانه آلِهَةً يعبدونها كعبادته مع ان آلهتهم الباطلة لا يَخْلُقُونَ ولا يوجدون ولا يظهرون شَيْئاً من المخلوقات حتى يستحقوا الألوهية والعبادة مع ان من شأن الإله الخلق والإيجاد حتى يستحق التوجه والرجوع اليه بل وَهُمْ يُخْلَقُونَ اى مخلوقون مقدورون لا قادرون خالقون بل هم مرادون وَالمخلوقات التي هي الجمادات لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا اى دفع ضر عنها وَلا نَفْعاً اى جلب نفع إليها وَلا يَمْلِكُونَ ايضا مَوْتاً اى اماتة احد وَلا حَياةً اى احياء له وَلا نُشُوراً اى بعثا وحشرا بعد الموت للحساب والجزاء ومن كان وصفه هذا كيف يتأتى منه الألوهية والربوبية المقتضية للعبودية وَبعد ما أنزلنا القرآن الفرقان على عبدنا ليهدى به التائهين في بيداء الغفلة والضلال قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عما جاء به من عنده لتكميل الناقصين إِنْ هَذا وما هذه الأراجيف التي قد جاء بها هذا المدعى إِلَّا إِفْكٌ كذب صرف يصرف به العباد عن الحق ويلبس الباطل بصورته ويروجه بهذه الحيل إذ هو افْتَراهُ واختلقه عن عمد من عنده ونسبه الى الوحى تغريرا وتزويرا وترويجا لأمره وَمع ذلك قد أَعانَهُ ولقن له فحواه عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ وهم احبار اليهود وبعد ما قد سمع فحواه منهم عبر عنه في قالب بليغ فأتى به على الناس ولقبه بالقرآن المعجز وبالفرقان والبرهان المثبت المنزل عليه من ربه بطريق الوحى والإلهام ترويجا لمفترياته وتغريرا للناس على قبولها وبالجملة فَقَدْ جاؤُ اى أولئك المسرفون المفرطون بجعل القرآن الفرقان المعجز لفظا ومعنى إفكا صرفا وافتراء محضا ظُلْماً عدوانا ظاهرا وخروجا فاحشا عن حد الاعتدال وَزُوراً قولا كذبا باطلا وبهتانا ظاهرا متجاوزا عن الحد مسقطا للمروءة سقوطا تاما إذ نسبة هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه الى أمثال هذه الخرافات التي قد جاء بها أولئك الجهلة بشأنه في غاية الظلم والزور ونهاية المراء والغرور وَقالُوا ايضا في حق هذا الكتاب ما هو افحش منه وابعد عن شأنه بمراحل وهوانه أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى أكاذيب قد سطرها

[سورة الفرقان (25) : آية 6]

الأولون الأقدمون فيما مضى وهو اكْتَتَبَها واستنسخها من حبر وكتبها له كاتب وبعد ما أخذ سوادها فَهِيَ الأساطير المذكورة تُمْلى وتقرأ عَلَيْهِ اى على محمد بُكْرَةً وَأَصِيلًا غداة وعشيا على سبيل التكرار ليحفظها إذ هو أمي لا يقدر على ان يكرر من الكتاب وبعد ما قد حفظها على وجهها قراها على الناس مدعيا انها قد اوحى الى من عند الله وقد أنزلها على ملك سماوي اسمه جبرئيل قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما سمعت مقالهم وتفرست حالهم في العتو والعناد وانواع الإنكار والفساد قد أَنْزَلَهُ اى الفرقان على مع انى أمي كما اعترفتم لا قدرة لي على الإملاء فكيف على الإنشاء العليم الَّذِي يَعْلَمُ بعلمه الحضوري السِّرَّ المكنون والحكمة الكامنة فِي اشكال السَّماواتِ وَاقطار الْأَرْضِ ولهذا أعجزكم بكلامه هذا عن آخركم مع انكم أنتم من ذوى اللسن والفصاحة وعلى أعلى طبقات البلاغة والبراعة فعجزتم عن معارضته بحيث لم يتأت لكم إتيان مثل آية قصيرة منه مع كمال تحديكم ووفور دواعيكم ومع ذلك اما تستحيون ايها المسرفون المفرطون قد نسبتم اليه ما هو برئ منه وبنسبتكم هذه قد استوجبتم العذاب والعقاب عاجلا وآجلا الا انه سبحانه قد أمهلكم رجاء ان تنتبهوا بسوء صنيعكم هذا فترجعوا اليه سبحانه تائبين نادمين فيغفر لكم ما تقدم من ذنبكم ويرحمكم بتوبتكم إِنَّهُ سبحانه في ذاته قد كانَ غَفُوراً للأوابين التوابين رَحِيماً للمتندمين المخلصين وبعد ما قد افرطوا في طعن الكتاب المنزل والقدح ولم يقصروا على القدح والطعن فيه فقط بل أخذوا في طعن من انزل اليه ايضا حسب عداوتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم معه وَقالُوا مستهزئين متهكمين مالِ هذَا الرَّسُولِ يدعى الرسالة والنبوة مع انه لا يتميز عن العوام إذ يَأْكُلُ الطَّعامَ كما نأكل وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لضبط امور معاشه كما نمشي فما مزيته علينا وامتيازه عنا حتى يكون رسولا علينا اولى منا وان كان صادقا في دعوى نزول الملك اليه بالوحي لَوْلا هلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ظاهرا بلا سترة حتى نراه ونعاين به ونؤمن له بلا تردد فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً اى يكون الملك المنزل ردأ له في انذارنا وتبليغ الدعوة إلينا أَوْ هلا يُلْقى إِلَيْهِ من قبل ربه كَنْزٌ فيستغنى به عن الخلق فيتبعه طمعا للإحسان أَوْ هلا تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ موهوبة له من ربه فيها انواع الثمرات والفواكه يَأْكُلُ مِنْها رغدا ويترفه بها أمدا ويعطى منها الناس فيتبعونه أفواجا وأحزابا وبالجملة ما له لا هذا ولا ذاك ولا ذلك فمن اين نصدق برسالته وباى شيء نعتقده نبيا وَبعد ما قد بالغوا في قدحه وإنكاره وافرطوا في استهزائه وسوء الأدب معه صلّى الله عليه وسلّم وبالجملة قد قالَ الظَّالِمُونَ المنكرون المستكبرون على سبيل الذب والاعراض لضعفاء الأنام عن متابعته صلّى الله عليه وسلّم لو اتبعتم ايها الناس لهذا المدعى وآمنتم به مع انكم قد سمعتم بل علمتم بيانا وابصرتم عيانا ان لا مزية له عليكم ولا امتياز بينه وبينكم إِنْ تَتَّبِعُونَ وما تؤمنون وتقتدون إذا إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً مجنونا قد سحر له فجن فاختبط واختل عقله وكل فهمه لذلك قد تكلم بكلام المجانين فاعرض عن معارضته العقلاء إذا لعقل قاصر عن ادراك مموهات الوهم وتسويلات الخيال وتصويراته انْظُرْ يا أكمل الرسل كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ هؤلاء الضلال بعد ما عجزوا عن معارضتك وتاهوا في كمال رشدك وهدايتك وكيف توغلوا في الحيرة والضلال عن مدركاتك ومكانك فَضَلُّوا وتحيروا وانحسرت عقولهم عن الوصول الى كمالات مدركاتك وانواع هداياتك فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا لتعاليه عن مداركهم

[سورة الفرقان (25) : آية 11]

وعقولهم فنسبوك الى ما لا يليق بشأنك عنادا واستكبارا مع انه قد تَبارَكَ وتعالى ربك الَّذِي رباك بأنواع الكرامات الخارقة للعادات الشاملة لانواع السعادات المعدة لأرباب الشهود والمكاشفات وكذا بأصناف المعجزات الباهرة الدالة على صدقك في جميع ما جئت به من قبل ربك من الآيات البينات وانواع الخيرات والبركات ومع ذلك إِنْ شاءَ ربك وتعلقت مشيئته وارادته جَعَلَ لَكَ يا أكمل الرسل واعطاك في النشأة الاولى ايضا خَيْراً واحسن مِنْ ذلِكَ اى مما قالوا أولئك المسرفون المفرطون وأملوا لك تهكما واستهزاء ولكن قد اخره سبحانه الى النشأة الاخرى إذ هي خير وأبقى والتنعم فيها ألذ واولى إذ اللذات الاخروية انما هي مؤبدة مخلدة بلا انقطاع ولا انصرام. ثم بين سبحانه ما هيأ لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم وما أعد لأجله جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المتجددة بتجددات التجليات الإلهية بمقتضى الكمالات الاسمائية والصفاتية وَيَجْعَلْ لَكَ ايضا فيها قُصُوراً عاليات ودرجات مرتفعات متعاليات عن مدارك ذوى العقول والإدراك مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهم من قصور نظرهم وعمى قلوبهم في هذه النشأة لا يلتفتون في أمثال هذه الكرامات العلية الاخروية بَلْ هم بمقتضى أحلامهم السخيفة قد كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ الموعودة المعهودة وكذا بجميع ما يترتب عليها من المثوبات السنية والدرجات العلية ومن العقوبات والدركات الهوية إذ نظرهم مقصور على هذا الأرذل الأدنى وما فيه وَلهذه قد أَعْتَدْنا وهيئنا بمقتضى قهرنا وجلالنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ وبالأمور الموعودة فيها سَعِيراً نارا مسعرة متلهبة في غاية التلهب ونهاية الاشتعال بحيث إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يعنى إذا كانوا بمرأى العين منها مع انهم بعيد عنها بمسافة طويلة قد سَمِعُوا لَها مع بعدها تَغَيُّظاً صوتا كصوت المغتاظ من شدة تلهبها وغليانها وَزَفِيراً ايضا كزفرة المغتاظ والزفرة في الأصل ترديد النفس بحيث تنتفخ عند خروجها الضلوع والجوانب يعنى من شدة غيظها لهم تغلى وتتلهب تلهبا شديدا وغليانا مفرطا وتردد نفسها ترديدا بليغا حتى يردوا فيها وهبطوا إليها وَإِذا أُلْقُوا مِنْها اى من النار مَكاناً اى في مكان من أماكنها قد صار ذلك المكان ضَيِّقاً لهم من تشدد العذاب عليهم بحيث صار كل منهم من ضيق مكانهم كأنهم مُقَرَّنِينَ قد قرنت أيديهم الى أعناقهم بالسلاسل والأغلال وبالجملة قد دَعَوْا وتمنوا حينئذ من شدة حزنهم وكربهم هُنالِكَ ثُبُوراً هلاكا وويلا قائلين صائحين صارخين وا ثبوراه وا ويلاه تعال تعال فهذا وقت حلولك وأوان نزولك ويقال لهم حينئذ لا تَدْعُوا ولا تتمنوا ايها الجاهلون الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً بل وَادْعُوا فيه ثُبُوراً كَثِيراً إذ انواع العذاب يتجدد عليكم دائما مستمرا فاطلبوا لكل منها ثبورا قُلْ يا أكمل الرسل موبخا عليهم ومقرعا لهم ومعيرا عليهم بعد ما بينت لهم منقلبهم ومثواهم في الآخرة أَذلِكَ السعير الذي قد سمعتم وصفه او المعنى إذ لك الجنة التي قد املتم لنا مستهزئين من جنات الدنيا ومتنزهاتها خَيْرٌ مرجعا ومصيرا أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ المؤبد المخلد أهلها ونعيمها فيها بلا تبديل ولا تغيير الَّتِي قد وُعِدَ الْمُتَّقُونَ بها وبدخولها والخلود فيها حتى كانَتْ لَهُمْ جَزاءً لاعمالهم الصالحة التي قد أتوا بها في النشأة الاولى وصارت بدلا من مستلذاتها الفانية وَمَصِيراً اى مرجعا ومنقلبا لهم بعد ما خرجوا من الدنيا الدنية مع ان لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من النعيم المقيم الدائم لكونهم

[سورة الفرقان (25) : آية 17]

خالِدِينَ فيها ابدا لا يتحولون عنها أصلا لذلك قد كانَ وصار هذا الوعد الموعود عَلى رَبِّكَ يا أكمل الرسل وَعْداً مَسْؤُلًا مطلوبا للمؤمنين في دعواتهم ومناجاتهم مع الله حيث قالوا في سؤالهم ودعائهم ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك الآية الى غير ذلك من الآيات المشتملة على الدعوات ورفع الدرجات والمناجاة المأثورة من الأنبياء والأولياء وخواص العباد وَاذكر يا أكمل الرسل للمشركين المتخذين آلهة سوانا وحذرهم يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ونبعثهم من قبورهم للعرض والجزاء وَنحشر ايضا معهم ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد يعنى آلهتهم الذين كانوا يعبدون لهم مثل عبادة الله كالملائكة وعزيز وعيسى والجن والكواكب والأصنام عبر سبحانه عن آلهتهم بما مع ان بعضهم عقلاء لعموم لفظة ما او للتغليب او باعتبار ما يتخذون ويعتقدون آلهة من تلقاء أنفسهم بلا حقيقة لها أصلا سوى الاعتبار إذ معبوداتهم لا يرضون باتخاذهم آلهة وبعد ما حشر الآلهة ومتخذوهم مجتمعين فَيَقُولُ الله سبحانه مستفهما عن الآلهة مخاطبا لهم على سبيل التوبيخ والتبكيت لمتخذيهم أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي عن عبادتي ودعوتم أنتم هؤُلاءِ الى عبادة انفسكم مدعين الشركة معى في الإلهية أَمْ هُمْ بأنفسهم قد ضَلُّوا السَّبِيلَ قالُوا يعنى الآلهة مبرئين نفوسهم عن أمثال هذه الجرأة والجريمة العظيمة منزهين ذاته سبحانه عن وصمة المشاركة والمماثلة عن مطلق الكفاءة سُبْحانَكَ نحن ننزه ونقدس لك يا ربنا عن توهم الشركة في الوهيتك وربوبيتك بل في وجودك وتحققك مطلقا ما كانَ يَنْبَغِي لَنا وما يليق بنا وما يصح منا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ فكيف ان ندعى الولاية لأنفسنا دونك او نزعم الاشتراك معك مع انا نعلم ان لا وجود لنا إلا منك ولا رجوع لنا الا إليك وأنت يا ربنا تعلم منا عموم ما في ضمائرنا وأسرارنا بل جميع ما في استعداداتنا ونياتنا وجميع شئوننا وقابلياتنا وأنت تعلم ايضا منا يا مولانا مالنا علم باتخاذهم وايضا لا إضلال ولا تغرير من قبلنا إياهم وَلكِنْ أنت مَتَّعْتَهُمْ حسب فضلك وجودك بأنواع النعم واصناف الكرم زمانا وَكذا قد متعت آباءَهُمْ كذلك وقد أمهلتهم زمانا مترفهين مترفين مستكبرين حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ اى ذكر المنعم المفضل وغفلوا عن شكر نعمه بالمرة وصاروا عليها زمانا بطرين مفتخرين الى حيث قد أخذوا واتخذوا بمقتضى اهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة اولياء ظلما وزورا وسموهم أربابا دونك وعبدوهم كعبادتك عتوا واستكبارا وَبالجملة هم قد كانُوا مقدرين مثبتين في حضرة علمك ولوح قضائك قَوْماً بُوراً هالكين في تيه الغفلة والضلال معدودين من اصحاب الشقاوة الازلية الابدية بحيث لا يرجى منهم السعادة والفلاح أصلا ثم قيل للمشركين من قبل الحق تفضيحا لهم وإلزاما وتبكيتا فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ آلهتكم ايها الضالون بِما تَقُولُونَ انهم آلهتنا او بما تقولون هؤلاء أضلونا او بقولكم هؤلاء شفعاؤنا فَما تَسْتَطِيعُونَ اى فالان قد لاح وظهر ان آلهتكم وشفعاءكم لا يقدرون صَرْفاً من عذابنا إياكم شيأ وَلا يقدرون ايضا نَصْراً لكم حتى تصرفوا أنتم عذابنا عن انفسكم بمعاونتهم ولا يقدرون ايضا ان يشفعوا لكم ليخفف عذابنا عنكم وَبالجملة مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ ايها المشركون علينا باتخاذ غيرنا الها سوانا عنادا ومكابرة ولم يتب عن ذلك حتى قد خرج من الدنيا عليه نُذِقْهُ الآن اى يوم الجزاء عَذاباً كَبِيراً لا عذاب اكبر منه. ثم أشار سبحانه الى تسلية حبيبه صلّى الله عليه وسلّم عما عيره الكفرة الجهلة المستهزءون معه بقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الأسواق الآية فقال وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ يا أكمل الرسل رسولا

[سورة الفرقان (25) : آية 21]

مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ كما تأكل أنت وسائر الناس وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ لحوائجهم كما تمشى أنت وغيرك وامتياز الرسل والأنبياء من عوام بنى نوعهم انما هو بأمور معنوية لا اطلاع لاحد عليها سوى من اختارهم للرسالة واجتباهم للنبوة والخلافة وهم في ظواهر أحوالهم وأطوارهم مشتركون مع نبي نوعهم بل ادنى حالا منهم في ظواهرهم لعدم التفاتهم الى زخارف الدنيا الدنية ومموهاتها العائقة عن اللذة الاخروية ولهذا ما من نبي ولا رسول الا وقد عيرتهم العوام بالفقر والفاقة الا نادرا منهم وَبالجملة من سنتنا القديمة انا قد جَعَلْنا بَعْضَكُمْ ايها الناس لِبَعْضٍ فِتْنَةً اى سبب افتتان وابتلاء وامتحان واختبار من ذلك ابتلاء الفقراء بتشنيع الأغنياء وتعييرهم والنبيين والمرسلين باستهزاء المنكرين المستكبرين وكذا المرضى بالأصحاء وذوى العاهات بالسالمين الى غير ذلك وانما جعلناكم كذلك لنختبر ونعلم أَتَصْبِرُونَ ايها المصابون بما أصابكم من البلاء فتفوزون بجزيل العطاء وجميل اللقاء أم لا وَالحال انه قد كانَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل في سابق قضائه وحضرة علمه بَصِيراً لصبر من صبر وشكر من شكر من اولى العزائم الصحيحة ولمن لم يصبروا ولم يشكروا من ذوى الأحلام السخيفة وسر الاختبار والابتلاء الإلهي انما هو اظهار الحجة البالغة الإلهية حين الأخذ والانتقام إذ الإنسان مجبول على الجدال والكفران وَمن جملة جدالهم قالَ الكافرون الجاحدون الملحدون الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا بل لا يؤملون لقيانا قطعا ولا يخافون عنا مطلقا لإنكارهم بنا وبعموم ما قد وعدنا لهم في يوم الجزاء لو كان محمد رسولا مؤيدا من عند الله لَوْلا هلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ المصدقون لرسالته ليخبرونا بصدقه في دعواه أَوْ هلا نَرى رَبَّنا الذي يدعونا اليه معاينة فيخبر لنا بصدق رسالته حتى نصدقه بلا تردد قال سبحانه في ردهم مقسما على سبيل الاستعجاب والاستغراب والله لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أولئك المسرفون المفرطون بقولهم هذا مكابرة حيث طلبوا من الله ما لا يسع لخلص عباده من ذوى النفوس القدسية فكيف لهؤلاء الملحدين وَبالجملة قد عَتَوْا باخطار هذا المطلب العظيم في خواطرهم وان صدر عنهم هذا تهكما واستهزاء عُتُوًّا كَبِيراً فاستحقوا بذلك اكبر العذاب وأصعب النكال والوبال اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ اى ملائكة العذاب مع انه لا بُشْرى ولا بشارة برؤيتهم يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ بل انما يجيئون إليهم ليجروهم الى جهنم صاغرين مهانين وَبعد ما يرونهم صائلين عليهم صولة الأسود يَقُولُونَ متحسرين خاسرين قولا يقول به العرب عند هجوم البلاء وحلول العناء وعند اليأس التام من الظفر بالمطلوب وهو قولهم هذا حِجْراً مَحْجُوراً هو كناية عن قولهم قد حرمنا عن التبشير بالجنة حرمانا مؤبدا وصرنا مسجونين في النار سجنا مخلدا. ثم قال سبحانه وَبعد ما قد حرمنا الجنة عليهم وجعلنا مصيرهم النار ابدا قد قَدِمْنا وعمدنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ اى أصلح أعمالهم وأحسنها التي قد أتوا بها في النشأة الاولى كقرى الضيف وصلة الرحم واعانة الملهوف واغاثة المظلوم وغير ذلك من حسنات أعمالهم فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً اى قد صيرناه كالغبار المنثور بالرياح بلا ترتب الثواب والجزاء عليه لفقدهم شرط القبول والاثابة وقت صدورها عنهم الا وهو الايمان والتوحيد والتصديق بالرسل والكتب والعمل بمقتضى الوحى وبالجملة هم كفار مكذبون مستكبرون لذلك لم تقبل أعمالهم واما أَصْحابُ الْجَنَّةِ المتصفون بالإيمان والتوحيد وتصديق الرسل والكتب الممتثلون بالأوامر والنواهي بمقتضى

[سورة الفرقان (25) : آية 25]

ما بلغهم الرسل وبينهم فهم هم يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا اى من جهة مكان يستقرون عليه ويتوطنون فيه وَأَحْسَنُ مَقِيلًا يستريحون ويستروحون فيه ومع الحور والولدان والغلمان يتلذذون او هم يومئذ اى حين انقطاع السلوك وانكشاف السدل والاغطية المانعة من الشهود خير مستقرا من استقرارهم في مقر التوحيد آمنين من وساوس الأوهام والخيالات الباطلة واحسن مقيلا يستريحون فيه بلا مقتضيات القوى والآلات البشرية منخلعين عن جلابيب ناسوتهم مطلقا مشرفين بخلع عالم اللاهوت المهداة الموهوبة لهم من قبل حضرة الرحموت وَذلك يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ اى تتصفى وتتجلى سماء الأسماء الإلهية المستورة المحتجبة بِالْغَمامِ اى بغيوم التعينات العدمية المنعكسة منها وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ المهيمين عند الذات الاحدية الا وهي الأسماء والصفات التي قد استأثر الله به في غيبه بلا انعكاس وانبساط وامتداد ظل كسائر الأسماء الفعالة الإلهية تَنْزِيلًا على صرافة تجردهم بلا تدنس وانغماس بغيوم التعلقات والتعينات مطلقا فحينئذ نودي من وراء سرادقات العز والجلال الْمُلْكُ المطلق والاستيلاء التام والسلطنة الغالبة يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ الثابت اللائق المثبت على ما ينبغي ويليق لِلرَّحْمنِ المستوي على عروش ذرائر الأكوان بعموم الرحمة وشمول الفضل والامتنان بلا تقدير مكيال وميزان من زمان ومكان وَقد كانَ ذلك اليوم والشأن يَوْماً وشأنا عَلَى الْكافِرِينَ الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة هوية الحق الظاهر في الأنفس والآفاق عَسِيراً في غاية العسرة والشدة وعلى الموحدين الواصلين الى مرتبة الفناء الفانين في الله الباقين ببقائه سهلا يسيرا في غاية اليسر والسهولة وَاذكر يا أكمل الرسل لمن ظلمك وأساء الأدب معك وأراد مقتك وطردك بغيا عليك وعدوانا بك يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ الجاحد الخارج عن مقتضى الأدب مع الله ورسوله عَلى يَدَيْهِ تحسرا على افراطه وتفريطه في العتو والاستكبار والجحود والإنكار يَقُولُ حينئذ متحسرا متمنيا يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ الهادي الى سواء السبيل سَبِيلًا يوصلني الى منهج الرشد وينجيني عن هذا العذاب يا وَيْلَتى تعالى ويا هلكتي اسرعى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً مضلا مذلا خَلِيلًا صديقا قد أضلني عن خلة الرسول المرشد المنجى وازالنى عن شرف صحبته والله ذلك المغوى المضل لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ اى عن ذكر الله وتذكير رسوله وعن مصاحبة المؤمنين ومواخاتهم بَعْدَ إِذْ جاءَنِي واختلط معى وصار صديقي وخليلي وخير قرينى ورفيقي بل صار شيطاني فوسوس على وصرفني عن طريق الحق بتغريره وتلبيسه وَبالجملة قد كانَ الشَّيْطانُ المضل المغوى سواء كان جنا او انسا او نفسا لِلْإِنْسانِ المجبول على الغفلة والنسيان خَذُولًا يخذله ويحرمه عن الجنان ويسوقه الى دركات النيران بأنواع الخيبة والحرمان. نعوذ بك يا ذا الفضل والإحسان من شر الشيطان وَبعد ما قد طعنوا في القرآن طعنا كثيرا ونبذوه وراء ظهورهم نبذا يسيرا بلا التفات لهم اليه والى ما فيه من الأوامر والنواهي قالَ الرَّسُولُ مشتكيا الى الله مناجيا معه يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي الذين قد بعثتني إليهم لأهديهم وارشدهم الى طريق توحيدك وأبين لهم حدود ما أنزلت الى من الكتاب المعجز الجامع لجميع ما في الكتب السالفة المشتمل على عموم المعارف والحقائق والحكم والاحكام المتعلقة بالتدين والتخلق في طريق توحيدك وتفريدك وتقديسك مع ان هؤلاء الجهلة المسرفين قد اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مع سطوح برهانه وقواطع حججه وبيانه مَهْجُوراً متروكا لا يلتفتون اليه ولا يسترشدون

[سورة الفرقان (25) : آية 31]

منه بل لا يتوجهون نحوه بل يقدحون فيه ويكذبونه وينسبون اليه ما لا يليق بشأنه وَبعد ما قد بث صلّى الله عليه وسلّم شكواه الى ربه وبسط فيها معه سبحانه ما بسط قال سبحانه تسلية له صلّى الله عليه وسلّم وازالة لشكواه لا تبال بهم وبشأنهم ولا تحزن من سوء فعالهم وخصالهم إذ كَذلِكَ ومثل ما جعلنا لك يا أكمل الرسل اعداء منكرين مكذبين قد جَعَلْنا ايضا لِكُلِّ نَبِيٍّ من الأنبياء الماضين عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ المنكرين المكذبين لهم يسيئون الأدب معهم ويطعنون بكتبهم وصحفهم ولا ينصرونهم ولا يروجون دينهم ولا يقبلون منهم قولهم ودعوتهم وليس هذا مخصوصا بك وبدينك وكتابك وَبالجملة لا تحزن عليهم إذ قد كَفى بِرَبِّكَ اى كفى ربك لك هادِياً يرشدك الى مقصدك ويغلبك على عدوك وَنَصِيراً حسيبا يكفيك ويكف عنك مؤنة شرورهم وعداوتهم وانكارهم وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا على سبيل الإنكار والتكذيب للقرآن والرسول على وجه الاعتراض والاستهزاء لَوْلا هلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً من عند ربه كالكتب الثلاثة على الأنبياء الماضين يعنى انهم قد استدلوا بنزوله منجما على انه ليس من عند الله إذ من سنته سبحانه إنزال الكتب من عنده جملة واحدة كالكتب السالفة قال سبحانه تسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم وردا للمنكرين انما أنزلناه كَذلِكَ اى منجما متفرقا لِنُثَبِّتَ نقوى ونشيد بِهِ فُؤادَكَ يا أكمل الرسل ونمكنك على حفظه نجوما لان حالك مخالف لحال موسى وداود وعيسى صلوات الله عليهم إذ هم اهل الإملاء والإنشاء والكتابة وأنت أمي ولان انزاله عليك بحسب الوقائع والأغراض والإنزال حسب الوقائع والأغراض ادخل في التأييد الإلهي وَلهذه الحكمة العلية والمصلحة السنية قد رَتَّلْناهُ وتلوناه لك وقرأناه عليك تَرْتِيلًا تدريجيا شيأ بعد شيء على التراخي والتؤدة في عرض عشرين سنة او ثلاث وعشرين وَايضا من جملة حكمة انزاله منجما انه لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ عجيب غريب يضربون لك جدلا ومكابرة في وقت من الأوقات وحال من الحالات على تفاوت طبقاتهم إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ اى قد جئناك بالمثل الحق على طريق البرهان تأييدا لك وترويجا لأمرك ودينك أوضح بيانا وابلغ تبيانا مما قد جاءوا به وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً كشفا وتبيينا وكيف يتأتى لهم المعارضة والمجادلة معك يا أكمل الرسل مع تأييدنا إياك في النشأة الاولى والاخرى وهم في الدنيا مقهورون مغلوبون وفي الآخرة هم الَّذِينَ يُحْشَرُونَ ويسحبون عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان وبالجملة أُوْلئِكَ الأشقياء المردودون عن شرف القبول شَرٌّ مَكاناً منقلبا ومصيرا وَأَضَلُّ سَبِيلًا واخطأ طريقا. اهدنا بفضلك سواء سبيلك ثم أخذ سبحانه في تعداد المنكرين الخارجين على رسل الله المكذبين لهم المسيئين الأدب معهم وما جرى عليهم بسوء صنيعهم من انواع العقوبات والنكبات فقال وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ اى التورية المشتملة على الاحكام ليبين الأنام ما فيها من الأوامر والنواهي المصفية للنفوس المنغمسة بالمعاصي والآثام ليستعدوا بقبول المعارف والحقائق المنتظرة لهم المكنونة في استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً ظهيرا له يوازره ويعاون له في ترويج دينه وتبيين احكام كتابه وبعد ما ايدناهما بانزال التورية واظهار المعجزات فَقُلْنَا لهما اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا واستقلالنا في تصرفات ملكنا وملكوتنا ارادة واختيارا يعنى فرعون وهامان ومن معهما من العصاة والبغاة الهالكين في تيه

[سورة الفرقان (25) : آية 37]

العتو والعناد وادعوهم الى توحيدنا واظهرا الدعوة لهم فذهبا بمقتضى الأمر الوجوبي فدعوا فرعون وقومه الى ما امرا فأبوا عن القبول وكذبوهما واستهزؤا معهما كبرا وخيلاء فأخذناهم بتكذيبهم واستنكافهم فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً اى قد أهلكناهم إهلاكا كليا بحيث لم يبق احد منهم على وجه الأرض وَقد دمرنا ايضا قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ اى حين كذبوا نوحا ومن مضى قبله من الأنبياء إذ قد أمرهم نوح بتصديقهم ايضا والايمان بهم فكذبوا به اصالة وبهم تبعا لذلك أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان جميعا وَجَعَلْناهُمْ اى قد جعلنا اغراقنا إياهم بالمرة لِلنَّاسِ المعتبرين من أمثال هذه الوقائع والخطوب العظام آيَةً علامة وعبرة يعتبرون منها ويستوحشون من إلمام أمثالها إياهم لذلك يحسنون الأدب مع الله ورسوله خوفا من بطشه وانتقامه وَكيف لا يخافون من بطشنا وانتقامنا إذ قد أَعْتَدْنا وهيئنا لِلظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات حدودنا وأحكامنا عَذاباً أَلِيماً مؤلما أشد إيلام وانتقمنا منهم صعب انتقام وَقد دمرنا ايضا عاداً وَثَمُودَ يعنى قوم هود وصالح عليهما السلام المكذبين لعموم الأنبياء بتكذيبهم إياهما وانكارهم على ما قد ظهر عليهما من الدعوة الى طريق الحق وَكذا قد دمرنا أَصْحابَ الرَّسِّ ايضا بتكذيبهم رسولهم قيل هم كانوا يعبدون الأصنام فأرسل الله سبحانه إليهم شعيبا عليه السلام فكذبوه وهم يسكنون حينئذ حول الرس وهو البئر الغير المطوية فانهارت فخسف بهم وبديارهم وقيل الرس قرية بفلج اليمامة قد كان فيها بقية قوم ثمود فبعث الله إليهم نبيا فقتلوه فهلكوا وقيل اصحاب الرس هي اصحاب الأخدود وقيل قرية بانطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار وقيل هم اصحاب حنظلة بن صفوان النبي عليه السلام ابتلاهم الله بطير عظيم كان فيها من كل لون وسموها عنقاء لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتخ او دمخ وكانت تنقض على صبيانهم فتخطفهم وقت إذ أعوزها الصيد فلذلك سميت مغربا فدعا عليها حنظلة عليه السلام فاصابتها الصاعقة ثم انهم قد كذبوا حنظلة عليه السلام فقتلوه فاهلكوا لذلك وقيل قوم قتلوا نبيهم ورسوه اى دسوه في بئر وَبالجملة قد دمرنا بواسطة تكذيب رسلنا قُرُوناً أخر اى اهل قرون وإعصار قيل القرن أربعون سنة وقيل مائة وعشرون سنة بَيْنَ ذلِكَ المذكور من الأمم الهالكة كَثِيراً لا يعلم عددها الا الله وَبالجملة كُلًّا اى كل واحد من الأمم الهالكة المذكورة وغير المذكورة قد ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أولا من الذين هلكوا قبلهم بالتكذيب وبينا له الاحكام والشرائع الموضوعة على مقتضى حكتنا ومصلحتنا فكذبوها ظلما وعدوانا فأهلكناهم بتكذيبهم خيبة وخسرانا بواسطة تلك الخصلة المذمومة المشتركة بينهم وَكُلًّا منهم قد تَبَّرْنا وفتتنا اجزاءه تَتْبِيراً تفتيتا شديدا وتشتيتا بليغا الى حيث لم يبق منهم احد يخلفهم ويحيى اسمهم ثم أخذ سبحانه بتعيير قريش وتوبيخهم وبيان قساوة قلوبهم وشدة شكيمتهم مع رسول الله وكمال غيهم وغفلتهم عن الله ونهاية عمههم وسكرتهم وعتوهم واستكبارهم وخيلائهم في أنفسهم بحيث لم يتأثروا ولم يتعظوا مما جرى على أمثالهم من العصاة البغاة المتمردين عن الله ورسله فقال سبحانه مؤكدا بالقسم على سبيل التعجب من شدة قسوتهم وَالله لَقَدْ أَتَوْا يعنى القريش كانوا يذهبون الى الشأم للتجارة ويمرون في كل مرة ذهابا وإيابا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي قد أُمْطِرَتْ على أهلها مَطَرَ السَّوْءِ يعنى الحجارة قهرا من الله إياهم وزجرا لهم من سوء فعالهم وخروجهم عن حدود الله وسوء الأدب مع الله ورسوله

[سورة الفرقان (25) : آية 41]

يعنى لوطا والقرية سدوم معظم بلاد قوم لوط أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها في مرات مرورهم حتى يتذكروا ويتعظوا منها بَلْ كانُوا يرونها في كل مرة إذ هي على طرف الطريق لكن بكفرهم بالله وبكمال قدرته وعزته لا يَرْجُونَ ولا يأملون نُشُوراً اى يوم ينشرون ويحشرون فيه للجزاء ولا يخافون مما سيجرى عليهم فيه لذلك لم يعتبروا ولم يتعظوا منها ومما جرى على أهلها وَمن كمال استكبارهم وشدة غيظهم معك يا أكمل الرسل إِذا رَأَوْكَ في المرأى إِنْ يَتَّخِذُونَكَ وما يحدثون عنك وفي شأنك إِلَّا هُزُواً كلاما مشعرا بالاستهانة والاستحقار والسخرية حيث يقولون في كل مرة من مرات رؤيتهم بك متهكمين أَهذَا الَّذِي قد بَعَثَ اللَّهُ إليكم رَسُولًا يرشدكم ويهديكم الى توحيد ربه ويقيم لكم الحجج والبراهين ليصرفكم عن الهتكم وآلهة آبائكم واسلافكم ومن كمال جده وجهده في شأنه ونهاية سعيه واجتهاده إِنْ كادَ اى انه قد قرب لَيُضِلُّنا ويصرفنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا اى ثبتنا أقدامنا ومكنا قلوبنا ووطنا أنفسنا عَلَيْها اى على عبادة آلهتنا لصرفنا عن آلهتنا البتة وأضلنا عن طريق عبادتهم بسعيه التام وجده البليغ المفرط في ترويج دينه واثبات دعواه وكثرة اظهار ما يخيل له انها حجج ومعجزات وكمال فصاحته في تبيينها وبالجملة لولا صبرنا وثباتنا على ديننا لضللنا عن آلهتنا بإضلاله البتة قال سبحانه ردا عليهم على وجه التنذير والتوبيخ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أولئك الحمقى الجاهلون حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ النازل عليهم مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا واخطأ طريقا وأسوأ حالا ومآلا أنتم ايها الجاهلون المصرون على الجهل والعناد أم المؤمنون. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ لعامة المشركين المتخذين الها من غير الله سواء كانوا مشركين بالشرك الجلى او الخفى المسندين الأفعال والحوادث الكائنة في عالم الكون والفساد الى الأسباب والوسائل العادية بمقتضى اهوية نفوسهم وما ذلك الا لجهلهم بالله وغفلتهم عن احاطة علمه وقدرته وجميع أوصافه وأسمائه بجميع ما ظهر وبطن وكان ويكون أَرَأَيْتَ اى أخبرني يا أكمل الرسل ان كنت من اهل الخبرة والذكاء أتهدي أنت وترشد بسعيك وجهدك الى طريق التوحيد ودين الإسلام مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ اى من اتخذ هوى نفسه ومشتهى قلبه الها يعبده كعبادة الله قدم المفعول الثاني للعناية والاهتمام أَفَأَنْتَ يا أكمل الرسل تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا حفيظا تحفظه عن متابعة هواه ومقتضى طبعه مع انا قد جبلناه على تلك الشقاوة والغي والغباوة وأثبتناه في لوح قضائنا وحضرة علمنا كذلك أَمْ تَحْسَبُ أنت وتظن من غاية حرصك وشغفك على ايمان هؤلاء الهلكى أَنَّ أَكْثَرَهُمْ اى اكثر المشركين يَسْمَعُونَ كلمة التوحيد سمع قبول ورضاء أَوْ يَعْقِلُونَ ويفهمون معناه وليس بينهم عارف متدرب متدبر الا من سبقت له العناية الازلية والتوفيق بل إِنْ هُمْ وما أكثرهم في حدود ذواتهم إِلَّا كَالْأَنْعامِ يأكلون ويمشون وعن السمع والشعور الفطري معزولون بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا منها إذ هم مجبولون على فطرة المعرفة والشعور والانعام ليس كذلك فهم أسوأ حالا منها فكيف لا يكونون أسوأ حالا وأضل سبيلا من الانعام ومع استعدادهم وقابليتهم لقبول فيضان أنوار التوحيد ومعرفة كيفية سريان الوحدة الذاتية وامتداد اظلالها على هياكل المظاهر والموجودات قد صاروا محرومين عنها وعن شواهدها والاطلاع عليها غافلين عن لذاتها مع انهم انما جبوا لان يدركوها ويشاهدوا عليها وينكشفوا بسرائرها ومع ذلك لا يجتهدون في شأنها بل لا يلتفتون ايضا مع انه سبحانه قد أشار إليها وصرح بها في كتابه العزيز إرشادا لنبيه العزيز صلّى الله عليه وسلّم

[سورة الفرقان (25) : آية 45]

وتنبيها على من تبعه من المؤمنين ليتفطنوا منها الى مبدئهم ومعادهم ويتصفوا بكمال المعرفة والتوحيد فقال مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم إذا مثال هذه الخطابات الحبيبية لا يسع في سمع غيره صلى الله عليه وسلم أَلَمْ تَرَ ايها المسترشد البصير والمستكشف الخبير إِلى رَبِّكَ اى مربيك الذي رباك بأنواع الكمالات وهداك الى أعلى المراتب وارفع الدرجات كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ اى كيف مهد وبسط اظلال أوصافه وأسمائه وعكوس شئونه وتطوراته على مرايا الاعدام القابلة للتأثر فيتراءى فيها حسب اقتضاء أسمائه الحسنى وصفاته العليا ما لا يتناهى من الصور العجيبة والهياكل الغريبة حتى توهم المحجوبون الفاقدون بصر البصيرة وظنوا انها موجودات حقيقية متأصلة في الوجود مستقلة في الآثار المرتبة عليها ثم افترقوا فذهب قوم الى انها موجودات متأصلة مستقلة بأنفسها مستغنية عن فاعل خارجى يؤثر فيها الا وهم الدهريون القائلون بان الطبيعة تكفى في تكون الأشياء وإذا وجدت الشرائط وارتفعت الموانع تكون الشيء البتة بلا احتياج الى فاعل خارجى مؤثر في وجوده ولم يتفطنوا أولئك الحمقى العمى ان هذه الصور المرئية والاظلال المحسوسة والعكوس المتشعشعة اللامعة عن سراب العدم باقية على عدمياتها الاصلية ما شمت رائحة من الوجود سوى ان ظل الوجود قد انبسط عليها وانعكس منها وآخر الى انها موجودات حقيقية قديمة بالنوع لها صور ومواد قديمة محتاجة الى فاعل خارجى مؤثر موجب بمقارنة الصورة للمادة وهذا مذهب جمهور الحكماء وهؤلاء الهلكى القاصرون عن درك الحق ومعرفته لم يتنبهوا ايضا ان لا قديم في الوجود الا الله الواحد القهار لمطلق السوى والأغيار وآخر الى انها موجودات حقيقية قد ابدعها الله تعالى من العدم على حسب علمه وقدرته واختياره وارادته بلا وجوب شيء عليه في إيجادها وبلا سبق مادة ومدة عليها وهذا مذهب جمهور المتكلمين المليين وهؤلاء ايضا لم يتفطنوا ان العدم لا يقبل الوجود أصلا كما ان الوجود لا يقبل العدم قطعا إذ بينهما تناقض وتضاد حقيقى وتقابل ذاتى لا يتصف أحدهما بالآخر مطلقا ومنشأ توهم هؤلاء الفرق الثلاث اقتصار نظرهم على الصور المرئية ظاهرا وغفلتهم وذهولهم عن ذي الصورة الذي هي اى الصور المرئية والأشباح المحسوسة عكوس واظلال وآثار له ولو علموا ارتباط هذه الصور المرئية المعدومة بذي الصورة وكوشفوا بوحدة الوجود وشهدوا ان لا موجود الا الله الواحد القهار لجميع السوى والأغيار لم يبق لهم شائبة شك في عدمية هذه الصور المرئية كما لا شك لهم في عدمية الصور المرئية في المرايا والعكوس والاظلال المحسوسة في الماء. ومن لم يجعل الله نورا فماله من نور وَبالجملة لَوْ شاءَ وأراد سبحانه عدم انبساط عكس وجوده وإبقاء العدم على صرافته ولم يجعله مرآة لكمالات جود وجوده ولم يلتفت اليه ولم يتجل عليه لَجَعَلَهُ ساكِناً اى لجعل ظل وجوده مقبوضا غير مبسوط ولفنى العالم دفعة وزال وذهب ما فيه من الصور والأشباح لزوال اسبابها واربابها ثُمَّ أوضحنا هذا المد والبسط بمثال واضح من جملة المحسوسات عناية منا لعبادنا حيث جَعَلْنَا الشَّمْسَ حسب إضاءتها وإشراقها وانبساط نورها وشعاعها على ظلمة الليل المشابه بالعدم عَلَيْهِ اى على بسط الوجود على مرايا الاعدام دَلِيلًا أمثالا واضحا موضحا لكيفية امتداد اظلال الوجود وانعكاسها من العدم وذلك ان الشمس إذا أخذت في الإشراق وبسطت النور على الآفاق قد استنار العالم بعد ما كان مظلما وإذا غربت وقضبت عاد العالم على ظلمته التي كان عليها ثُمَّ اى بعد قد بسطنا ظل وجودنا على هياكل المظاهر والموجودات قَبَضْناهُ إِلَيْنا دفعا لتوهم الشركة المنافية لصرافة

[سورة الفرقان (25) : آية 47]

التوحيد وان كان بحسب الظاهر إذ لا موجود حقيقة الا الواحد القهار قَبْضاً يَسِيراً سهلا بان قدر ناله التغير والتجدد على تعاقب الأمثال ليدل على ان لا وجود لها لذاتها إذ لو كان وجود من نفسها لم يطرأ عليها التغير والانتقال مطلقا فعلم من هذه التغيرات الواقعة في الأكوان ان لا وجود لها لذاتها في الحقيقة بل لا وجود حقيقة الا للواجب الذي هو نفس الوجود المنبسط عليها. ثم نزل سبحانه عن خطاب حبيبه صلّى الله عليه وسلّم في المعارف والحقائق المتعلقة بالوحدة الذاتية السارية في الأكوان وكيفية ارتباط الأكوان عليها الى مخاطبة العوام على مقتضى استعداداتهم وقابلياتهم فقال وَكيف تغفلون أنتم عن مبدعكم ومظهركم ايها الغافلون مع انه هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً تسترون بظلمته عن أعين الناس لئلا يطلع بعضكم مقابيح بعض وَايضا قد جعل النَّوْمَ فيه سُباتاً راحة للأبدان بعد قطع المشاغل وقضاء الأوطار المتعلقة بالنهار وَايضا قد جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً تنتشرون فيه في اقطار الأرض لطلب المعاش كل ذلك بتقدير الله وتدبيره وإصلاحه لأمور عباده وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً مبشرا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ اى قدام المطر يبشركم بنزوله وَبعد تبشيرنا إياكم بالرياح المبشرات قد أَنْزَلْنا من مقام جودنا مِنَ جانب السَّماءِ ماءً طَهُوراً متناهيا في الطهارة والنظافة بالغا أقصى غايتها لِنُحْيِيَ بِهِ اى بالماء بَلْدَةً مَيْتاً قفرا يابسا جامدا بأنواع النباتات والخضروات وَنُسْقِيَهُ اى بالماء مِمَّا خَلَقْنا في البراري والبوادي أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً وهي جمع انسان حذف نونه وعوض منها الياء فأدغم او جمع انسى خصهم بالذكر لان اهل الحضر يسكنون قريب المنابع والأنهار وهم ودوابهم انما يسقون من المطر لبعدهم عن المنابع والأنهار وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ اى المطر بَيْنَهُمْ انعاما لهم وإصلاحا لحالهم وكررنا ذكره في هذا الكتاب وكذا في الكتب السالفة لِيَذَّكَّرُوا ويتفكروا في جلائل نعمنا وانعامنا ويواظبوا على شكرها لنزداد لهم ومع ذلك فَأَبى وامتنع أَكْثَرُ النَّاسِ عن قبوله وتذكره بل ما ازدادوا إِلَّا كُفُوراً اى كفرانا للنعم وإنكارا لمنعمها حيث يقولون منكرين على المنعم قد مطرنا بنوء كذا وَمن شدة بغيهم وكفرانهم لَوْ شِئْنا وتعلقت مشيئتنا لإنذار كل منهم بمنذر مخصوص لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ من القرى نبيا نَذِيراً ينذرهم عما هم عليه من الكفران والطغيان ولكن قد بعثناك يا أكمل الرسل الى كافتهم وعامتهم تعظيما لشأنك وإجلالا لقدرك ومكانك فلك ان لا تعي من أعباء رسالتنا وتبليغ ما امرناك به ولا تلتفت الى مزخرفاتهم التي أرادوا ان يخدعوك بها وبالجملة فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والكفران والعناد والطغيان بحال ولا تتبع أهواءهم مطلقا بل وَجاهِدْهُمْ بِهِ اى بدينك هذا جِهاداً كَبِيراً حتى تقمع وتقلع دينهم الباطل عن أصلها وتروج دينك الحق ترويجا بليغا الى حيث يظهر دينك على الأديان كلها وكفى بالله حسيبا وَقل لهم تنبيها عليهم كيف تغفلون عن ربكم وتنصرفون عن دينه الموضوع فيكم إصلاحا لحالكم مع انه سبحانه هُوَ الحكيم العليم الَّذِي قد مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ اى الشرك والتوحيد وكلاهما متجاورين متلاصقين في فضاء الوجود مع انه هذا اى التوحيد عَذْبٌ فُراتٌ سائغ شرابه للمتعطشين بزلاله وَهذا اى الشرك والكفر مِلْحٌ أُجاجٌ اى مر مالح في كمال الملوحة والمرارة بحيث يقطع أمعاء شاربيها وَمن كمال لطف الله ومرحمته على عباده قد جَعَلَ سبحانه دين الإسلام والشريعة المصطفوية الموضوعة لضبطه بَيْنَهُما

[سورة الفرقان (25) : آية 54]

اى بين التوحيد والشرك بَرْزَخاً مانعا من التصاقهما واتصالهما وَقد جعله حِجْراً مَحْجُوراً اى حدا حصينا محدودا مانعا عن امتزاجهما واختلاطهما وَكيف تنكرون ايها المنكرون سريان وحدته الذاتية على صفائح مظاهره مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي خَلَقَ اى اظهر وأوجد تنبيها لعباده على سر توحيده مِنَ الْماءِ اى النطفة بَشَراً سويا ذا أجزاء مختلفة طبعا وشكلا صلابة ولينا قوة وضعفا رقة وغلظا الى غير ذلك من الصفات المتقابلة والاجزاء المتفاوتة التي قد عجزت عن تشريح جزء من أجزاء شخص من اشخاص نوع الإنسان فحول الحكماء مع توفر دواعيهم لكشفها الى حيث تاهوا وتحيروا عن ضبط ما فيه من الامتزاجات والارتباطات فكيف عن جميع اجزائه وبعد ما قد قدره سبحانه وسواه بكمال قدرته وقوته ووفور حكمته قسمه قسمين فَجَعَلَهُ نَسَباً وقد جعل قسما منه ذكرا ذا نسب ونسل نسب اليه من يخلفه من أولاده الحاصلة من نطفة وَجعل قسما آخر منه صِهْراً أنثى يصاهر بها اى يختلط ويمتزج الذكر معها إبقاء للنوع وتتميما له لبقائه على سبيل التناسل والتوالد الى ما شاء الله وَبالجملة قد كانَ رَبُّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل على كمال الذكاء والفطنة في فهم دقائق توحيده ورقائق تجلياته الجلالية والجمالية قَدِيراً على كل ما أراد وشاء بلا فتور وقصور وَمع كمال قدرته سبحانه وعلو شانه وسطوع برهانه يَعْبُدُونَ من خبث طينتهم وشدة قسوتهم وضغينتهم مِنْ دُونِ اللَّهِ الحقيق بالمعبودية الوحيد في الربوبية والألوهية ذاتا ووصفا واسما ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ يعنى أصناما وأوثانا لا يرجى نفعهم ولا ضرهم لا لأنفسهم ولا لغيرهم وبالجملة لا يملكون شيأ من لوازم الألوهية والربوبية مطلقا وَبالجملة قد كانَ الْكافِرُ الجاهد الجاهل بذات الله وبكمالات أسمائه وصفاته عَلى رَبِّهِ الذي رباه بمقتضى أوصافه وأسمائه ظَهِيراً يظهر عليه بالباطل ويظاهره وينبذ الحق وراء ظهره ويخالفه ولا يلتفت اليه عتوا واستكبارا وَما أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً الى كافة البرايا وعامة العباد لتبشرهم وترشدهم على ما ينفعهم وتنذرهم عما يضرهم يعنى تهديهم الى المعرفة والتوحيد الذي هم جبلوا لأجله وتمنعهم عن المفاسد المنافية له ولطريقه وان نسبوك يا أكمل الرسل الى أخذ الجعل والرشى لإرشادك وهدايتك إياهم قُلْ لهم تبكيتا وإلزاما ما أَسْئَلُكُمْ وما اطلب منكم عَلَيْهِ اى على تبليغى إياكم ما اوحى الى من ربي وإرشادي لكم بمقتضى الوحى الإلهي مِنْ أَجْرٍ جعل ومال آخذه منكم واجعله سببا للجاه والثروة وانواع المفاخرة والمباهات بها كما هو عادة الجهلة المتشيخين في هذا الزمان هم من عونة الشيطان نسبوا أنفسهم الى الصوفية المتشرعين تلبيسا وتغريرا وأخذوا من ضعفاء العوام من حطام الدنيا بعد ما أفسدوا عقائدهم بأنواع التلبيسات والتدليسات وتحليل المحرمات واباحة المحظورات واختزنوها ثم ادعوا بسببها السيادة والرياسة حتى مضوا عليها زمانا وكثروا الاتباع والاحشام بها وهيئوا الأعوان والأنصار بتلبيسهم هذا ثم بعد ذلك قد بغوا على السلطان وقصدوا الخروج على اولى الأمر والطاعة واشتغلوا بتخريب البلدان وإضرار اهل الايمان وقصدوا اموال الأنام واعراضهم وسبى ذراريهم ومع ذلك قد سموا أنفسهم اهل الحق والعدل واصحاب المعرفة والايمان وارباب اليقين والعرفان الا ذلك هو الخسران المبين والطغيان العظيم عصمنا الله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا بل ما أريد واطلب بتبليغي هذا إِلَّا هداية مَنْ شاءَ وأراد سبحانه بتوفيقه إياه ممن قد سبقت لهم العناية الازلية أَنْ يَتَّخِذَ

[سورة الفرقان (25) : آية 58]

ويطلب إِلى رَبِّهِ الذي رباه بأنواع الكمالات سَبِيلًا يوصله الى معرفته وتوحيده وَان انصرفوا عنك يا أكمل الرسل واعرضوا عن هدايتك وارشادك وقصدوا مقتك وقتلك عدوانا وظلما لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبشأنهم ولا تحزن عن أمرهم هذا بل تَوَكَّلْ في مقابلتهم ومقاومتهم عَلَى الْحَيِّ القيوم الَّذِي لا يَمُوتُ اى لا يطرأ عليه الموت والفناء وَسَبِّحْ ربك ونزهه عما لا يليق بشأنه مقارنا تسبيحك بِحَمْدِهِ على آلائه ونعمائه الفائضة عليك على التعاقب والتوالي سيما على ما قد اصطفاك من بين البرايا واعطاك الرياسة والسيادة على كافة الأنام والرسالة العامة على قاطبة الأمم وبلغ ما انزل إليك ولا تفرح من ايمانهم ولا تحزن ايضا على كفرهم وطغيانهم وَاعلم انه كَفى بِهِ اى كفى الله سبحانه بِذُنُوبِ عِبادِهِ ما ظهر منهم وما سيظهر وما بطن في استعداداتهم وكمن في قابلياتهم خَبِيراً مطلقا بصيرا على وجه الحضور والشهود ولا يعزب عن حيطة حضرة علمه المحيط شيء منها ومجازيا قديرا ومنتقما عزيزا يجازيهم بقدرته بمقتضى اطلاعه وخبرته وكيف لا يعلم ولا يطلع سبحانه بعموم ما ظهر وما بطن إذ هو القادر الخالق الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى ابدعهما واظهرهما وَما بَيْنَهُما من كتم العدم بلا سبق الهيولى والزمان فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ اى في الجهات والأقطار الستة المحفوفة بها عموم الكوائن والفواسد ثُمَّ بعد ما كمل ترتيبها على ابلغ النظام قد اسْتَوى وتمكن وبسط واستولى عَلَى الْعَرْشِ اى عروش عموم المظاهر بالاستيلاء التام والبسطة العامة الغالبة الرَّحْمنُ الذي قد وسعت رحمته وعمت مرحمته على كل ما ظهر وما بطن غيبا وشهادة فَسْئَلْ بِهِ اى بما ذكر من خبرة الله واحاطة علمه وقدرته وإظهاره عموم ما برز وخفى وغاب وشهد واحاطته وشموله واستيلائه على عروش عموم الأكوان بالرحمة العامة الشاملة خَبِيراً بصيرا اذله خبرة تامة وولاية كاملة يخبرك بصدقها ارباب القلوب الصافية الواصلين الى مرتبة الكشف والشهود ممن سبقت لهم العناية الازلية وجذبته الجذبة الجالبة الغالبة الإلهية من قبل الحق المفنية لهم عن ذنوب انانياتهم الباطلة المبقية لهم ببقاء الحق الحقيق بالحقية وَمع ظهور استيلاء الحق وانبساطه على عروش ذرائر الأكوان إِذا قِيلَ لَهُمُ على وجه الإيقاظ عن نعاس النسيان والتنبيه عن نومة الحرمان ورقدة الخذلان اسْجُدُوا واخضعوا وتذللوا لِلرَّحْمنِ المظهر من كتم العدم بسعة رحمته وجوده قالُوا منكرين له مع كمال ظهوره مستفهمين على سبيل الاستغراب والاستبعاد وَمَا الرَّحْمنُ الذي أنت تدعونا الى سجوده وقد أتوا في سؤالهم بلفظة ما من غاية نكارته عندهم وشدة انكارهم عليه قائلين ايضا أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا يعنى انخضع ونتذلل اى كل منا لكل مما تأمرنا بسجوده وتذلله أنت من تلقاء نفسك بلا برهان لاح لدينا ودليل ظهر علينا وَبالجملة ما زادَهُمْ قولك وأمرك هذا إياهم الا نُفُوراً عن الحق وطريق توحيده بخبث طينتهم وشدة شكيمتهم وغاية غيهم وقسوتهم وكيف يتنفرون وينصرفون أولئك الجاهلون الغافلون عن سجوده سبحانه مع انه قد تَبارَكَ وتعالى شأنه ان ينصرف عنه ويتنفر عن عبادته احد من عباده سبحانه مع كثرة خيراته وبركاته عليهم لأنه الَّذِي قد جَعَلَ فِي السَّماءِ اى العلويات بُرُوجاً لتكون منازل الكواكب المدبرة للأمور الارضية وَبعد ما هيأها سبحانه على ابلغ النظام وابدعه قد جَعَلَ فِيها سِراجاً اى شهبا مضيئة دائرة من بروج الى بروج وَقَمَراً مُنِيراً منقلبا من منزل الى منزل من المنازل المذكورة المعروفة

[سورة الفرقان (25) : آية 62]

ليحصل من دورانهما وانقلاباتهما الفصول الاربعة المصلحة لأحوال ما في السفليات من المواليد الثلاثة وَكيف تغفلون عن الصانع الحكيم ايها الضالون المكابرون مع انه سبحانه هُوَ الحكيم العليم المدبر العظيم الَّذِي جَعَلَ لكم اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً متعاقبة متجددة مخلفا أحدهما بالآخر ليكونا مرصدا وميقاتا لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ يتذكر لآلاء الله المتوالية المتتالية عليه الفائضة من عنده على تعاقب الأوقات والآنات وتتابع الازمنة والساعات أَوْ أَرادَ شُكُوراً اى أراد ان يشكر على نعمائه الواصلة اليه في خلالهما وَالمتذكرون لآلاء الله المواظبون لأداء حقوقها حسب طاقتهم وقدر قوتهم هم عِبادُ الرَّحْمنِ الواصلون الى مرتبة الرضوان الفائزون بلقاء الحنان المنان اللائح على صفائح الأكوان وعلامتهم انهم الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى وجه الْأَرْضِ التي هي محل انواع الفتن والفسادات هَوْناً هينين لينين بلا منازعة وجدال مع احد من بنى نوعهم وبلا سوء خصال وقبح فعال معهم من كبر وخيلاء وعجب ورياء وَهم من كمال سكينتهم ووقارهم وتلطفهم لعباد الله إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ بعلو شأنهم ورفعة مكانتهم ومكانهم سيما بما يكرهون من الشتم والوقاحة والاستهزاء قالُوا من سلامة نفوسهم وطيب قلوبهم سَلاماً وتسليما عليهم بلا تغير منهم وتأثر من قولهم وتركا لانتقامهم ومخاصمتهم توطينا لنفوسهم على التسليم والرضا بجريان القضاء من غاية الحلم وكظم الغيظ هكذا حالهم وشغلهم بين الناس في النهار واما في الليل وَهم الَّذِينَ يَبِيتُونَ ويدخلون في الليل بائتين قد صاروا في خلاله لِرَبِّهِمْ سُجَّداً ساجدين واضعين جباههم على تراب المذلة والهوان طلبا لمرضاة الله بلا شوب السمعة والرياء والعجب والهوى لكونهم خالين في خلاله مع الله بلا وقوف احد عليهم وَقِياماً قائمين بين يدي الله تواضعا وإكراما وَالَّذِينَ يَقُولُونَ في مناجاتهم مع الله ورفع حاجاتهم نحوه سيما أعقاب صلواتهم وتهجداتهم في خلواتهم رَبَّنَا يا من ربانا بأنواع الكرامات اصْرِفْ عَنَّا بفضلك وجودك عَذابَ جَهَنَّمَ المعدة لعصاة عبادك إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً حتما لازما لنا لولا فضلك بنا وإحسانك علينا فإنهم مع كمال توجههم وتحننهم نحو الحق على وجه الإخلاص ورسوخهم في الأعمال الصالحة الخالصة بلا فوت شيء من لوازمها خائفون وجلون عن بطشه سبحانه وانتقامه لأنهم لا يتكؤن ولا يتكلون الى أعمالهم وطاعاتهم ولا يثقون بها بل ما يعتمدون ولا يثقون ولا يتمسكون الا بفضل الله وسعة رحمته وجوده قائلين مستبعدين من النار إِنَّها اى جهنم البعد والحرمان قد ساءَتْ مُسْتَقَرًّا لا يستقر احد فيها ساعة وآنا وَكيف ان يكون لنا مُقاماً نقيم فيها زمانا وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا مما رزقهم الله من الأطائب المكتسبة بالأيدي على الفقراء والمساكين لَمْ يُسْرِفُوا في الانفاق الى ان وصل حد التبذير المذموم عقلا وشرعا وَلَمْ يَقْتُرُوا في الإمساك والمنع ايضا الى ان وصل حد التقتير المحرم المكروه المنكر شرعا وعقلا ومروءة وعادة وَبالجملة قد كانَ انفاقهم بَيْنَ ذلِكَ قَواماً وسطا عدلا بين طرفي الإفراط والتفريط المذمومين الساقطين عن درجة الاعتبار عند الله وعند المؤمنين المسقطين للنفس عن الاعتدال الحقيقي المقبول عند الله وعند عموم عباده وَبالجملة أولئك المعتدلون المقسطون هم الموحدون الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ الواحد المستقل بالالوهية والربوبية إِلهاً آخَرَ يستحق للعبودية مثله وَمن جملة خصائلهم الحميدة انهم لا يَقْتُلُونَ بحال من الأحوال النَّفْسَ الَّتِي

[سورة الفرقان (25) : آية 69]

قد حَرَّمَ اللَّهُ الحكيم العليم المتقن في أفعاله وأحكامه قتلها إذ كل نفس من النفوس البشرية انما وضعت وبنيت لتكون بيتا لله مهبطا لوحيه والهامه منزلا ومحلا لحلول سلطان وحدته الذاتية ومجلى لظهور أسمائه الحسنى وصفاته العظمى فلا يصح ولا يجوز هدم بيته وتخريب بنائه إِلَّا بِالْحَقِّ اى بالرخصة الشرعية الموضوعة بوضع الله سبحانه حدا او قصاصا وَمن جملة أخلاقهم الحميدة انهم لا يَزْنُونَ عدوانا وعدولا عن مقتضى الحد الشرعي والوضع الإلهي في حفظ النسب وعن اختلاط النطف والمياه إذ هو من اخس المحرمات وافحش المحظورات لذلك عقبه سبحانه بالوعيد الهائل تنبيها لفظاعتها فقال وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اى الزنا التي هي الفعلة الشنيعة والديدنة القبيحة المتناهية في القبح والشناعة المستكرهة عند الطبائع السليمة المسقطة للمروءة الفطرية والعدالة الإلهية يَلْقَ يوم الجزاء أَثاماً اى جزاء مسمى بالآثام مبالغة وتأكيدا كان اسم الإثم موضوع له حقيقة وهو الجامع لجميع ما يطلق عليه اسم الإثم مبالغة ادعاء لذلك يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا تضعيفا مرة بل أضعافا كثيرة وَمع ذلك التضعيف والتشديد يَخْلُدْ ويدم فِيهِ اى في العذاب مُهاناً صاغرا ذليلا بين عموم اهل النار إذ الزنا من أقبح الجرائم عند الله وأفحشها إذ لا جرم عنده سبحانه أعظم من هتك محارمه أعاذنا الله وعموم عباده من ذلك إِلَّا مَنْ تابَ عما جرى عليه من سوء القضاء ورجع الى الله نادما عن فعله خائبا خاسرا مستحيا من الله خائفا عن بطشه مكذبا لنفسه معيرا عليها متأوها متحسرا عما صدر عنها وَمع ذلك قد آمَنَ بتوحيد الله وأكد توبته بتجديد الايمان المقارن بالإخلاص الصائن للمؤمنين عن ارتكاب عموم المحظورات المنافية للايمان وَبالجملة قد جدد إيمانه معتقدا انه حين صدور الزنا عنه لم يكن مؤمنا ومع اظهار التوبة على وجه الندم والإخلاص وتجديد الايمان ساعة فساعة قد عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً منبئا عن إخلاصه في إيمانه وتوبته مشعرا على يقينه ومعرفته دالا على انابته ورجوعه عن ظهر القلب وصميم الفؤاد فَأُوْلئِكَ السعداء التائبون الآئبون المقبولون هم الذين يُبَدِّلُ اللَّهُ الحكيم المصلح لأحوال عباده بعد ما وفقهم على التوبة الخالصة والانابة الصحيحة الوثيقة سَيِّئاتِهِمْ التي قد أتوا بها قبل التوبة حَسَناتٍ بعدها بان يمحو سبحانه بفضله معاصيهم المثبتة في صحائف أعمالهم قبل انابتهم ويثبت بدلها حسنات بعدها وَكانَ اللَّهُ المطلع لسرائر عباده وإخلاصهم غَفُوراً لهم متجاوزا عن ذنوبهم وان عظمت بعد ما جاءوا بالتوبة الخالصة رَحِيماً عليهم يقبل توبتهم ويعفو زلتهم وَبالجملة مَنْ تابَ ورجع الى الله نادما على ما مضى عليه من المعاصي وَعَمِلَ عملا صالِحاً تلافيا لما فات عليه من الطاعات والحسنات جابرا بما انكسر من قوائم إيمانه واعمدة يقينه وعرفانه فَإِنَّهُ يَتُوبُ ويرجع إِلَى اللَّهِ المفضل المحسن الكريم الرحيم مَتاباً توبة مقبولة عند الله مرضية دونه سبحانه وَبالجملة المؤمنون المقبولون المبرورون عند الله هم الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ والشهادة الباطلة المسقطة للعدالة والمروءة رأسا وَايضا إِذا مَرُّوا فجاءة بغتة بلا سبق ترقب وتجسس بِاللَّغْوِ مطلقا اى ما يجب ان يلقى ويطرح من المكروهات الشرعية والمحظورات والمستهجنات سواء كانت قولية او فعلية قد مَرُّوا عليها كِراماً مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه مستغفرين من الله لمن ابتلاه الله به غاضين أبصارهم عن تدقيق النظر نحوه وتكرير المشاهدة اليه والمبالغة في المطارحة والمطالعة فيه وبالجملة قد مروا باللغو على وجه التلطف والرفق والتستر والتليين

[سورة الفرقان (25) : آية 73]

بحيث يستحيى من غاية رفقهم ولطفهم المبتلون به لعل الله يتوب عليهم بكرامة رفقهم وبكرمه سبحانه بحيث لا يحومون حول ذلك اللغو بعد ذلك أصلا ولا يرومونه مطلقا لو جبلوا على فطرة الهداية والكرامة وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا ووعظوا بِآياتِ رَبِّهِمْ الدالة على توحيده واستقلاله في ألوهيته وربوبيته لَمْ يَخِرُّوا ولم يسقطوا عَلَيْها اى على تلك الآيات صُمًّا أصمين غافلين عما فيها من الأوامر والنواهي والعبر والأمثال والرموز والإشارات وَعُمْياناً عميا عن مطالعة آثار أوصافه الجلالية وصفاته الجمالية فيها بل يخرون ويتذللون عند سماعها داعين حافظين بما فيها من المواعظ والتذكيرات المتعلقة لأحوالهم في النشأتين مطالعين منها آثار الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية ناظرين عليها بنظر العبرة والاستبصار مسترشدين منها حسب ما يسر الله لهم ووفقهم عليه وَالَّذِينَ يَقُولُونَ داعين نحونا مناجين إلينا متضرعين قائلين رَبَّنا يا من ربانا على فطرة التوحيد والإيقان هَبْ لَنا بفضلك وسعة لطفك وجودك ممن في حوزتنا وحيطتنا وكشف حفظنا وجوارنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ اى اجعلهم بحيث تقر وتتنور عيوننا برؤيتهم من كمال صلاحهم وسدادهم ممتثلين بعموم أوامرك مجتنبين عن جميع نواهيك وَبعد ما قد وهبت لنا ولاهلينا يا مولانا ما تقر به عيوننا من الاتقاء عن محارمك والامتثال بأوامرك اجْعَلْنا بلطفك لِلْمُتَّقِينَ المحترزين الحذرين الحاذرين الخائفين عن محارمك ومنهياتك إِماماً مقتدى لهم مرشدا إياهم حسب توفيقك وتيسيرك نرشدهم الى طريق توحيدك وسبيل تقريدك وتمجيدك وبالجملة أُوْلئِكَ السعداء المقبولون عند الله المذكورة اوصافهم من قوله سبحانه وعباد الرحمن الى هنا هم الذين يُجْزَوْنَ عند ربهم تفضلا عليهم وامتنانا الْغُرْفَةَ التي هي عبارة عن أعلى درجات الجنان وارفع مقاماتها كل ذلك بِما صَبَرُوا اى بسبب صبرهم وثباتهم على مشاق الطاعات والعبادات ومتاعب الرياضات والتحمل على قطع التعلقات وترك المألوفات وعلى الذب والانصراف عن جملة المشتهيات والمستلذات وَبعد ما استقروا عليها يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وترحيبا من قبل الملائكة من جميع الجوانب والجهات وَسَلاماً اى سلامة وتسليما لهم عن جميع الآفات والعاهات خالِدِينَ فِيها اى الجنة لا يتحولون عنها ولا يتبدلون بل دائمون فيها مقيمون لذلك قد حَسُنَتْ الجنة مُسْتَقَرًّا لهم يستقرون فيها ويتمكنون عليها وَمُقاماً يقيمون ويتوطنون. ثم لما دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عموم المشركين الى طريق الايمان والتوحيد وأمرهم بالطاعة والانقياد بعموم ما أمرهم الله ونهاهم سبحانه عنه بمقتضى الوحى والإلهام والكتاب المنزل من عنده وكذبوه وأنكروا له مكابرة وعنادا قائلين نحن لا نؤمن بك ولا بكتابك ولا بربك الذي ادعيت الرسالة من عنده ولا نطيع بما أمرنا به ونهينا عنه مطلقا وبالجملة نحن لا نقبل منك عموم ما جئت به من قبل ربك ونسبته اليه افتراء ومراء رد الله عليهم بقولهم هذا على ابلغ وجه وآكده مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم آمرا له بقوله قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما انصرفوا عن دعوتك وعن الايمان بك وبربك وبكتابك ما يَعْبَؤُا بِكُمْ وما يبالى ولا يعتد لا بايمانكم ولا بكفركم رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ اى إطاعتكم وعبادتكم إياه وانقيادكم له فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أنتم بي وبربي وانكرتم بجميع ما جئت به من عنده سبحانه عنادا ومكابرة الزموا مكانكم فتربصوا وانتظروا لجزاء تكذيبكم وانكاركم فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً اى سيكون جزاء تكذيبكم وانكاركم حتما لازما ملازما عليكم جزما لا مقطع عنكم ابدا بل يكبكم سبحانه في النار خالدين صاغرين ويعذبكم فيها ذليلين مهانين نعوذ بك يا ذا القوة المتين

خاتمة سورة الفرقان

خاتمة سورة الفرقان عليك ايها المحمدي الملازم لتهذيب الأخلاق عن الرذائل وتطهير الصفات عن ذمائم الأفعال والأطوار وعن القبائح والأسرار وعن الميل والالتفات الى السوى والأغيار من الأمور المنافية المكدرة لصفاء مشرب التوحيد ان تتأمل وتتعمق في مرموزات الآيات العظام المذكورة في هذه السورة سيما في الآيات التي قد وصف بها سبحانه خلص عباده المتحققين بمرتبة العبودية المنكشفين بسعة اسمه الرحمن المظهر لمظاهر عموم الأكوان شهادة وغيبا وتتدبر في إشاراتها حق التدبر والتفكر الى ان يترسخ في قلبك معانيها ترسخا تاما وينتقش في صحيفة سرك وخاطرك فحاويها انتقاشا كاملا الى ان تصير من جملة وجدانياتك وذوقياتك وبعد ما قد صرت ذا وجدان وحال بها وذقت حلاوتها قد فزت بغرفات جنة الرضا ورضوان التسليم فحينئذ يترشح في صدرك من رشحات بحر الوحدة الذاتية وتعرضت أنت لروح الحق واستنشقت من نفحات النفسات الرحمانية المهبة من فناء حضرة الرحموت ومن قبل يمن عالم اللاهوت المصفية عن كدر التعينات الهيولانية والتعلقات الطبيعية فلك ان لا تنظر ولا تلتفت بعد ذلك ابدا الى مقتضيات علائق ناسوتك مطلقا وتجمع همك نحو لوازم لاهوتك لعل الله ينقذك بفضله عن أغلال انانيتك وسلاسل بشريتك بمنه وجوده [سورة الشعراء] فاتحة سورة الشعراء لا يخفى على من تحقق بمقام الرضا والتسليم وفوض امره الى الحكيم العليم وانكشف له ان لا فاعل للافعال الا هو بل لا موجود في الوجود سواه ولا متصرف بالاستقلال والاختيار غيره ان جميع ما جرى في فضاء الوجود غيبا وشهادة ازلا وابدا انما هو مستند اليه سبحانه ومن آثار أوصافه وأسمائه بلا شركة ومظاهرة من احد سواه ومتى تحقق عنده هذه الأمور واتضح لديه هذا المذكور فله ان يترك التصرف مطلقا بحيث لا يحزن عن فقد شيء ولا يفرح عن وجده بل حينئذ لا بد ان يرتفع عنه الارادة والكراهة والوجدان والفقدان والربح والخسران والسرور والخذلان مطلقا بل صار راضيا بجميع ما جرى عليه من القضاء لذلك خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما خاطب وعاتبه بما لاح عليه من امارات المحبة المفرطة والارادة الكاملة بإيمان من يدعوهم الى التوحيد من الكفرة المعاندين وعلامات الحزن والكراهة من إصرارهم وتعنتهم على ما هم عليه من الكفر والشقاق فقال متيمنا باسمه الأعلى تبارك وتعالى بِسْمِ اللَّهِ المدبر المصلح لمفاسد عباده بمقتضى ارادته واختياره الرَّحْمنِ عليهم بافاضة الوجود ليتنبهوا بربوبيته ويواظبوا على أداء طاعته وعبادته الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى فضاء وحدته بعد ما أخلصوا التوجه نحوه وأتوا بالأعمال الصالحات طلبا لمرضاته [الآيات] طسم يا طالب السعادة والسيادة المؤبدة المخلدة ويا طاهر الطينة والطوية من ادناس الطبيعة البشرية ويا سالم السر والسريرة من العلائق الناسوتية ويا ما حي آثار الرذائل المكدرة لصفاء مشرب التوحيد تِلْكَ الآيات العظام المذكورة في هذه السورة آياتُ الْكِتابِ اى نبذ من آيات القرآن الْمُبِينِ المبين المظهر لدلائل التوحيد واليقين الموضح للبينات الساطعة والبراهين القاطعة الدالة على حقية دينك القويم انا أنزلناه إليك يا أكمل الرسل تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك فلك ان تبلغها على قاطبة الأنام وعامة المكلفين على الوجه

[سورة الشعراء (26) : آية 3]

الذي تلى واوحى إليك بلا التفات منك الى ايمانهم وكفرهم وتصديقهم وتكذيبهم بل ما عليك الا البلاغ وعلينا الحساب الا انك في نفسك ومن فرط محبتك لإيمانهم بك وبدينك وبكتابك لَعَلَّكَ باخِعٌ مهلك قاتل نَفْسَكَ تحسرا وتحزنا أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ اى لأجل ان لا يكونوا مصدقين لك ولدينك وكتابك مع انا لا نريد ايمانهم وهدايتهم بل قد مضى في لوح قضائنا وثبت في حضرة علمنا المحيط كفرهم وضلالهم وما يبدل القول لدينا ولا يغير حكمنا بل إِنْ نَشَأْ اى ان تعلقت ارادتنا ومشيئتنا لإيمانهم نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ملجئة لهم الى الايمان والتصديق فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ اى قد صارت حين نزول الآية أعناقهم التي هي آلات كبرهم وخيلائهم من كمال الإطاعة والانقياد لَها اى للآية الملجئة النازلة خاضِعِينَ منكوسين منكسرين منخفضين بحيث لا يتأتى لهم الاعراض عنها والتكذيب بها أصلا وَمتى لم تتعلق مشيئتنا لم ننزل آيتنا فلم يؤمنوا بل صاروا مصرين على إصرارهم إذ ما يَأْتِيهِمْ وما ينزل عليهم مِنْ ذِكْرٍ من عظة وتذكير نازل مِنْ قبل الرَّحْمنِ تفضلا عليهم مُحْدَثٍ مستبدع على الأعصار والأزمان لإصلاح ما في نفوس أهلها من المفاسد والضلال إِلَّا كانُوا عَنْهُ اى عن الذكر المحدث والهداية المبدعة مُعْرِضِينَ منصرفين لعدم تعلق مشيئتنا بقبولهم بل ما أرسلناك يا أكمل الرسل إليهم وما امرناك بدعوتهم وتبليغهم الا ليتعظ ويتذكر منهم من وفقناه وسبقت له العناية الازلية من لدنا من خلص عبادنا وقد تعلقت ارادتنا بهدايتهم ورشدهم من اصل فطرتهم واستعدادهم بعد ما بلغت إليهم الذكر والعظة المهذبة لقلوبهم عن رين الكفر وشين الشرك العارض لهم من قبل آبائهم وأسلافهم قد سمعوها سمع قبول ورضا إذ كل ميسر موفق لما خلق له واما المجبولون على فطرة الشقاوة المطبوعون على قلوبهم بغشاوة الغفلة والضلال أمثال هؤلاء الضلال فَقَدْ كَذَّبُوا بها حين سمعوها ولم يقتصروا على تكذيبها فقط بل قد استهزؤا بها وبك يا أكمل الرسل عتوا واستكبارا فلك ان لا تلتفت إليهم ولا تبالي بهم وبايمانهم فَسَيَأْتِيهِمْ عن قريب أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ اى اخبار ما أنكروا واستهزؤا به عنادا ومكابرة وما يترتب عليها من الجزاء فيظهر حينئذ اهو حق حقيق بان ينقاد ويتبع أم هو باطل واجب التكذيب والانصراف عنه وكيف ينكرون بآياتنا الدالة على كمال قدرتنا أولئك المعرضون المصرون عنادا ومكابرة أَوَلَمْ يَرَوْا ولم ينظروا ولم يتفكروا حتى يعتبروا مع انهم مجبولون من اهل النظر والاعتبار إِلَى عجائب الْأَرْضِ اليابسة الجامدة كَمْ أَنْبَتْنا وكثيرا أخرجنا من كمال قدرتنا ووفور حكمتنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ اى أجناس كثيرة من النباتات والحيوانات والمعدن وغير ذلك مما لا اطلاع لهم عليه إذ ما يعلم جنود ربك الا هو كَرِيمٍ كلها ذوو الكرامات والبركات وانواع المعارف والخيرات وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ اى في إنبات كل من انواع النباتات وإخراج كل من اصناف الحيوانات وأجناس المعادن منها لَآيَةً بينة واضحة قاطعة دالة على ان منبتها ومخرجها متصف بعموم أوصاف الكمال ونعوت الجمال والجلال فاعل بالاختيار والاستقلال بلا مزاحمة الأشباح والأمثال وَهي وان كانت في غاية الوضوح والجلاء لكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر الناس مُؤْمِنِينَ موقنين على الايمان والتوحيد في علم الله ولوح قضائه لذلك لم يؤمنوا بالآيات العظام ولم يستدلوا منها الى وجود الصانع الحكيم العليم العلام القدوس السلام المنزه ذاته عن طريان التقضي والانصرام وَ

[سورة الشعراء (26) : آية 10]

ان كذبوك يا أكمل الرسل بما قد جئت به من الآيات العظام وعاندوا معك في قبولها لا تبال بهم ولا تحزن عليهم إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك بأنواع الكرامات لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب المقتدر على انواع البطش والانتقام الرَّحِيمُ الحليم الذي لا يعجل بالعذاب وان استوجبوا بل يمهلهم زمانا لعلهم يتنبهون على ما فرطوا من سوء المعاملة مع الله ورسوله وآياته فيتوبون نادمين خاشعين صاغرين. ثم أشار سبحانه الى تعداد المكذبين الضالين عن طريق التوحيد التائهين في تيه الغفلة والغرور فقال وَاذكر يا أكمل الرسل للمنصرفين عنك وعن آياتك عنادا قصة أخيك موسى الكليم عليه صلوات الرحمن مع فرعون وملائه وقت إِذْ نادى رَبُّكَ عبده مُوسى واوحى اليه بعد ما قد ظهر الفساد في الأرض من استيلاء فرعون وملائه على بنى إسرائيل واستعبادهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم عدوانا وظلما حيث قال سبحانه أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ اى لك الإتيان بالدعوة والرسالة يا موسى على القوم الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة بين العباد لبقاء الإنصاف والانتصاف بينهم يعنى قَوْمَ فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي الذي قد ظهر على عباد الله بأنواع الجور والفساد فقل لهم أولا بعد ما ذهبت إليهم على سبيل التنبيه أَلا يَتَّقُونَ اما يحذرون عن قهر الله أولئك المفسدون المسرفون المكابرون المتجاوزون عن مقتضى العقل والنقل وبعد ما ناداه سبحانه بما ناداه قالَ موسى ملتجأ الى الله مناجيا له رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم إِنِّي من شدة ضعفى وانفرادي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ولا يقبلون منى دعوتي ولا يلتفتون الى وَبذلك يَضِيقُ صَدْرِي ويكل خاطري عن تبليغ ما أمرتني وَبعد ما قد ضاق صدري وكل خاطري لا يَنْطَلِقُ ولا يجرى حينئذ لِسانِي على تبيينه وتفهيمه مع ان في لساني لكنة جبلية وبالجملة انا وحدي لا اطيق بحمل أعباء الرسالة وتبليغها إليهم واجعل لي يا رب ظهيرا لي يعينني في شأنى هذا وأخي اولى بي بالمظاهرة والمعاونة إياي فَأَرْسِلْ حسب فضلك وجودك حامل وحيك جبريل عليه السلام إِلى هارُونَ أخي وأمره ان يشرك في امرى حتى نذهب كلا الأخوين الى فرعون ونبلغ رسالتك إياه وَلا سيما لَهُمْ اى لقوم فرعون عَلَيَّ ذَنْبٌ عظيم وهو انى قد قتلت منهم قبطيا فيما مضى فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ بقصاصه قالَ سبحانه في جوابه على سبيل الردع والمنع كَلَّا اى ارتدع يا موسى عن الخوف منهم وانزجر عنه بعد ما أيدناك واصطفيناك للرسالة ولا تبال بهم وبكثرتهم وشوكتهم إذ لا يسع لهم ان يقتلوك وان أردت ان نشرك أخيك معك في أمرك هذا فنشركه فأرسل سبحانه جبرائيل عليه السلام الى هارون بالوحي واشركه مع أخيه وأمرهما بتبليغ الرسالة الى فرعون بقوله فَاذْهَبا بِآياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وبلغا ما أمرتكما بتبليغه بلا خوف منهم وبلا مبالاة لهم إِنَّا حاضرون مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ما جرى بينكم حافظون مراقبون لكما عما قصدوا من المقت والأذاة ْتِيا فِرْعَوْنَ مجترئين بلا مبالاة له وبشأنه وأعوانه قُولا بلا دهشة وخوف من سطوته واستيلائه نَّا اى كل واحد مناسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ إليك ايها الطاغي نبلغك من عنده سبحانه أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا قومنا بَنِي إِسْرائِيلَ وخل سبيلهم حتى يذهبوا بنا الى ارض الشأم سالمين مخلصين عن ظلمك وجورك فقبلا من الله امره سبحانه فذهبا الى فرعون وملائه فقالا لهم ما قالا على الوجه المذكور بلا مبالاة لهم وبعد ما بلغا الرسالة على وجهها قالَ فرعون في جوابهما مخاطبا لموسى إذ هو اصل

[سورة الشعراء (26) : آية 19]

في الرسالة معاتبا عليه متهكما موبخا أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا زمانا يا موسى حين كنت وَلِيداً لا متعهد لك سوانا وَلَبِثْتَ فِينا بعد ما كبرت الى حيث قد مضى مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ قيل قد لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج الى مدين عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم الى التوحيد ثلاثين سنة ثم بقي بعد غرقهم خمسين سنة وَبعد ما ربيناك بأنواع التربية والكرامة قد فَعَلْتَ من سوء صنيعك فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ بان قتلت نفسا بلا جريمة صدرت منها موجبة لقتلها بل قد قتلتها ظلما وعدوانا وَبالجملة ما أَنْتَ يا موسى الا مِنَ الْكافِرِينَ لنعمنا وحقوق كرمنا كفرا قد سقط به لياقتك للرسالة والهداية فالآن جئت تدعى الرسالة والإرشاد الى الهداية ايها الكافر الضال قالَ موسى في جوابه معترفا بما صدر عنه في أوان جهله وغفلته قد فَعَلْتُها اى الفعلة المذكورة المذمومة إِذاً اى حينئذ وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ في تلك الحالة ومن الجاهلين بعواقب الأمور ومن الغافلين عما ترتب عليه من الأوزار والآصار فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ وبعد ما فررت منكم لأجلها قد وصلت الى خدمة مرشد رشيد ومرب منبه نبيه يرشدني ويربيني بأنواع الفضائل والكرامات فَوَهَبَ لِي رَبِّي من شرف صحبته وحسن تربيته حُكْماً اى حكمة متقنة كاملة بالغة وَجَعَلَنِي حسب فضله وطوله مِنَ الْمُرْسَلِينَ فأرسلني إليكم لأدعوكم الى توحيد رب العالمين ثم شرع موسى في جواب ما قد من عليه فرعون من حقوق النعمة والتربية فقال وَتِلْكَ النعمة التي قد عددت أنت ايها الطاغي الباغي نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ ليست تبرعا منك الى حتى أكون ممنونا بها منك بل ما هي الا أَنْ عَبَّدْتَ أنت زمانا طويلا قومي بَنِي إِسْرائِيلَ بك لها صاغرين مهانين مظلومين بأنواع الظلم والهوان وبالجملة ما انا ممنون منك حقيقة بل منهم لأنهم هم متسببون لتربيتك وحضانتك بي وبعد ما جرى بينهم ما جرى قالَ فِرْعَوْنُ مستكبرا مستفهما على سبيل الإنكار والاستبعاد وَما رَبُّ الْعالَمِينَ اى ما هو وما ماهيته وحقيقته ولأي شيء تدعونا اليه عبر عنه لعنه الله سبحانه بما من غاية إنكاره واستحقاره إذ لفظة ما هي موضوعة للنكارة والإبهام قالَ موسى في جوابه منبها له بناء على ظهوره سبحانه في الأكوان والآفاق هو رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وموجدهما ومظهرهما من كتم العدم وَكذا موجد ما حدث بَيْنَهُمَا من الكوائن والفواسد إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ اى من ذوى الإيقان والعرفان بحقائق المحدثات المبدعة بإبداع الله إياها من كتم العدم بلا سبق مادة وزمان بل بمجرد امتداد اظلال أسمائه وصفاته الذاتية على مرايا الاعدام بمقتضى التجليات الحبية المنتشئة من الذات الاحدية والا فلا يمكن تعريفه بإيراد الأجناس والفصول إذ هو سبحانه منزه عن الاشتراك والامتياز إذ الواحد من كل الوجوه المستقل بوجوب الوجود والتحقق مع امتناع غيره مطلقا لا يمكن ان يقومه جنس ويميزه فصل حتى يركب له حد او رسم وبعد ما سمع فرعون من موسى ما سمع قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ من ملائه واشرافه متهكما بجوابه حسب بطره وخيلائه وترفعه بنفسه أَلا تَسْتَمِعُونَ جوابه ايها العقلاء قد سألته عن حقيقته وذاته فأجاب بعدّ أفعاله وآثاره المترتبة على أوصافه وأسمائه التي هي من عوارض ذاته وبعد ما سمع موسى بجوابه حسب تشنيعهم واستبعادهم أراد ان يزيد ايضا على تنبيههم فأجاب بظهوره سبحانه في الأنفس رجاء ان يتنبهوا حيث قالَ هو رَبُّكُمْ مظهركم ومربيكم بأنواع التربية والكرامة وَايضا رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ الأقدمين وبعد ما سمع فرعون كلامه ثانيا قالَ حينئذ جازما عازما

[سورة الشعراء (26) : آية 28]

إِنَّ رَسُولَكُمُ سماه رسولا تهكما واستهزاء الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لإرشادكم وإصلاحكم لَمَجْنُونٌ لا يتكلم بالمقابلة بل يتفوه كيف ما اتفق بلا تأمل وتدرب بأسلوب الكلام إذ قد سألته عن حقيقة شيء ما أجاب عنه بل أجاب عن أشياء لا أسألها وبعد ما لم يتنبهوا بالتنبيهات المذكورة بل ما زادوا منها الا خبالا غب خبال وإنكارا فوق انكار وبالغوا فيه الى حيث نسبوه الى الخبط والجنون وبعد ما قد عتوا عتوا كبيرا قالَ موسى كلاما جمليا كليا مشتملا على عموم الأمور المنبهة بما هو له سبحانه رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما اى هو بذاته مشرق الشمس ومديرها كل يوم بمدار مخصوص ومغيبها كذلك تتميما وتدبيرا لمصالح عباده وجميع حوائجهم المتعلقة بمعاشهم على الوجه الأحكم الأبلغ الأعدل بلا فوت شيء منها إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وتطرحون عقولكم الى التأمل والنظر في عجائب مصنوعاته وغرائب مخترعاته في كيفية تدبيراته في ابدائه وإنشائه وابقائه وافنائه وكذا في جميع الأمور المتعلقة بألوهيته وربوبيته وان اجتهدتم وسعيتم حق السعى والجهد في شأنه لاهتديتم الى وحدة ذاته ووجوب وجوده واستقلاله بالتصرف في مظاهره ومصنوعاته فحينئذ لم يبق لكم شائبة شك في ذاته سبحانه حتى تحتاجو الى السؤال والكشف عن جنابه وبعد ما جهلهم موسى وشدد عليهم وسفههم قالَ فرعون مغاضبا مستكبرا مستعليا مهددا مقسما بعزته وجلاله قائلا فو عزتي وعظمتي لَئِنِ اتَّخَذْتَ وأخذت وعبدت يا موسى إِلهَاً غَيْرِي بمقتضى زعمك لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ المعهودين عندك من انهم لا مخلص لهم عن سجنى حتى الموت فيه فانه قد كان يطرح المخالفين في هوة عميقة حتى يموتوا فيها وبعد ما سمع موسى تهديده وعتوه قالَ له مستفهما على سبيل التعجيز والغلبة أَتفعل أنت ما هددتنى به وَلَوْ جِئْتُكَ ايها الطاغي المتجبر بِشَيْءٍ مُبِينٍ وبمعجزة عظيمة ظاهرة الدلالة على صدقى في دعواي قالَ فرعون مستحيا من الناس مستبعدا نفسه عن العجز والافحام فَأْتِ بِهِ اى بالذي ادعيت من المعجزة إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في الدعوى فَأَلْقى موسى أولا عَصاهُ على الفور فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر ثعبانيته عظيم بحيث لا يشتبه على احد امره وصولته وَبعد إلقاء العصا قد نَزَعَ يَدَهُ ثانيا وأخرجها من جيبه ليثبت مدعاه بشاهدين فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ محيرة مفرقة للابصار من غاية شعاعها ولمعانها سيما لِلنَّاظِرِينَ إليها مدهشة لقلوبهم الى حيث قد تاهوا وتحيروا من شعشعتها فلما رآهما فرعون قالَ بعد ما اوجس في نفسه خيفة لِلْمَلَإِ الذين يجلسون حَوْلَهُ مستغربا من امره مستعجبا من شأنه إِنَّ هذا المدعى لَساحِرٌ عَلِيمٌ ماهر في علم السحر بالغ نهايته يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ المألوفة ووطنكم الموروث بِسِحْرِهِ هذا وبكماله فيه فَماذا تَأْمُرُونَ في امره ايها الأشراف والأعيان. انظر ايها المتأمل الناظر الى كمال قدرة الله وسطوع حجته البالغة كيف تأثر منها فرعون المتكبر المتجبر الطاغي مع كمال عتوه واستعلائه الى حيث قد اضطر الى المشورة مع الناس في امر موسى ودفعه مع انه كان في فرط عتوه واستعلائه وعزته قد ادعى الألوهية لنفسه وبعد ما سمع الأشراف قوله قالُوا له مقتضى شأنك وجلالك أن لا تسارع الى قتلهما لئلا تنسب الى العجز والإلزام منهما ومن حجتهما بل أَرْجِهْ واحبس موسى وَأَخاهُ هارون وأخر قتلهما زمانا وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ المحروسة شرطا حاشِرِينَ جامعين حاصرين وأمرهم حتى يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ مبالغ في السحر عَلِيمٍ فائق في علمه متناه فيه بالغ نهايته فبعث شرطا الى الأقطار بعد ما قد وكل عليهما وكلاء يحبسونهما

[سورة الشعراء (26) : آية 38]

فَجُمِعَ السَّحَرَةُ المهرة في فن السحر لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ اى لوقت قد عين لجمعهم في يوم الزينة وهو وقت الضحى وَقِيلَ لِلنَّاسِ اى نودي عليهم في الطرق والسكك هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لموعد يوم معلوم حتى تشاهدوا حال موسى وهارون وغلبة السحرة عليهما وابطال ما أتيا به من السحر لَعَلَّنا بأجمعنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ إياهما فخرج فرعون الى الموعد واجتمع الناس فيه واحضروا موسى وهارون فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ الموعد قالُوا لِفِرْعَوْنَ مؤملين طالبين الجعل منه أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ المبطلين ما جاءوا به من السحر قالَ لهم فرعون نَعَمْ ان غلبتم أنتم لكم من الأجر أقصى ما املتم وطلبتم وَمع ذلك إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ اى المصاحبين معى فلكم الترقي في المراتب والمناصب والزيادة في الانعام والإحسان في كل حين وأوان يوما فيوما وبعد ما قد رضوا بما وعدوا جاءوا بمقابلة موسى واشتغلوا بمعارضته قالَ لَهُمْ اى للسحرة مُوسى على سبيل الجرأة وعدم المبالاة بهم وسحرهم أَلْقُوا ايها الطغاة المعارضون المتعارضون بأكاذيب السحر والشعبذة مع آيات الله ومعجزاته عنادا ومكابرة ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ من الأباطيل الزائغة الزائلة فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ التي قد احتالوا فيها بأنواع الحيل وَقالُوا حين القائها مقسما بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ وبسطوته وجلاله إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ المقصورون على النصر والغلبة على موسى وأخيه هارون ولما رأى موسى من أباطيلهم ما رأى فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ على الفور بالهام الله إياه فَإِذا هِيَ ثعبان مبين أخذت تَلْقَفُ تبتلع وتلتقم عموم ما يَأْفِكُونَ ويحتالون فيه ويخيلونه حيات تسعى بتمويهاتهم وتزويراتهم وبعد ما قد شاهد السحرة من عصا موسى ما شاهدوا من الأمر العظيم المعجز الذي لا يتأتى للساحر مثله تيقنوا انها ما هي سحر وشعبذة بل امر سماوي الهى لا يكتنه لميته ولا كيفيته فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ على الفور بلا تردد وتأمل ساجِدِينَ متذللين واضعين جباههم على تراب المذلة استحياء من مقابلة أباطيلهم الزائغة معه قالُوا حين سقطوا ساجدين قد آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ وقد صدقنا الآن بأنهما رسولان من الحق بالحق لترويج الحق واذعنا الآن ان لا معبود يعبد بالحق ويستحق للعبادة سواه ولا اله غيره وبعد ما قد رأى فرعون منهم ما رأى قالَ مهددا متوعدا إياهم قد آمَنْتُمْ لَهُ اى لموسى ولإلهه بعينه قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ انا بتصديقه وإيمانه فقد لاح لدى ووضح عندي إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ومعلمكم الَّذِي قد عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ واتفقتم معه في الخلوة لتفضحونا على رؤس الملأ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ايها المفسدون انا اقدر على الانتقام والتعذيب أم رب موسى لَأُقَطِّعَنَّ البتة اليوم أولا أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ متبادلتين وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ بعد ذلك على رؤس الاشهاد أَجْمَعِينَ بجمعكم هذا ليعتبر من حالكم من كان في قلبه خلافنا ونفاقنا وبعد ما سمعوا منه تهديده ووعيده قالُوا منقطعين نحو الحق متشوقين بلقياه لا ضَيْرَ ولا ضر يلحق بنا من قتلك وإهلاكك إيانا ايها المتجبر الطاغي بل ما قتلك الا عين مصلحتنا ومرمانا إِنَّا بالموت الصوري والهلاك المجازى إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ صائرون راجعون متصلون واصلون بعد ارتفاع انانيتنا الباطلة من البين واضمحلال هويتنا العاطلة عن العين إِنَّا نَطْمَعُ من سعة رحمة الله ومن وفور لطفه وإحسانه بعد ما خرجنا عن كسوة ناسوتنا أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا التي قد صدرت عنا أوان جهلنا وغفلتنا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ اى لان كنا أول المؤمنين الموقنين بتوحيده اليوم وَبعد ما قد قضى اللعين عليهم ما قضى وجرى على أولئك المظلومين المقبولين

[سورة الشعراء (26) : آية 53]

ما جرى قد اقام فيهم موسى زمانا يدعوهم الى التوحيد دائما مستمرا وما زادوا الا عتوا وعنادا وادي عتوهم وعنادهم الى ان قصدوا مقته وهلاكه وقتل من معه من المؤمنين لذلك قد أَوْحَيْنا إِلى مُوسى بعد ما صمموا العزم لإهلاكه وقلنا له أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي يعنى سر ليلا يا موسى مع من تبعك من عبادي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ حتى يتبعكم ويعقبكم فرعون وجنوده فاسرى موسى مع المؤمنين امتثالا للأمر الوجوبي فاطلع فرعون وقومه على أسراء موسى ومن معه فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ شرطا فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ جامعين لجنوده ليتبعوهم وامر لشرطه بان قالوا للجيش ترغيبا لهم وتحريكا لحميتهم وتطميعا إِنَّ هؤُلاءِ الفارين لَشِرْذِمَةٌ اى لطائفة وجماعة قَلِيلُونَ بالنسبة إلينا مع انهم ستمائة وسبعون الفا وقوم فرعون من كثرتهم لا يعد ولا يحصى وَقد لزم علينا ان نتبعهم ونستأصلهم إِنَّهُمْ قوم عدو لَنا لَغائِظُونَ بنا يفعلون افعالا تغيظنا وتحرك غيظنا دائما فلنا ان نقلع عرقهم عن وجه الأرض وَإِنَّا وان كنا أقوياء أشداء على عموم الأعداء لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ دائما عن كيدهم ومكرهم وافسادهم بأنواع الفسادات من قطع الطريق والالتجاء بالأعادي والمظاهرة معهم فلا بد لذوي الحزم والعزم من الضبط والاحتياط في عموم الأحوال وبالجملة فَأَخْرَجْناهُمْ بعد ما تعلق ارادتنا باهلاكهم وإغراقهم بهذه الدواعي والبواعث المهيجة لنفوسهم الى الخروج والاقتفاء اثر أعدائهم مِنْ جَنَّاتٍ متنزهات بهية فيها فواكه شهية وَعُيُونٍ اى منابع وينابيع تجرى منها في خلال جناتهم الأنهار لنزيد صفاء ونضارة وبهجة وبهاء وَكُنُوزٍ من الذهب والفضة مدفونة وغير مدفونة وَمَقامٍ كَرِيمٍ هو المنازل الحسنة والقصور المرتفعة الموضوعة فيها الأرائك العالية والسرر الرفيعة والبسط المفروشة من الحرير وغيرها كَذلِكَ يعنى قد اخرجناهم إخراجا كذلك باحداث بواعث الخروج في نفوسهم وازعاجهم الى ان خرجوا مضطرين وَبعد ما اخرجناهم كذلك عما اخرجناهم قد أَوْرَثْناها اى عموم ما سمعت من المذكورات بَنِي إِسْرائِيلَ انعاما لهم وامتنانا عليهم بما صبروا بظلمهم وبأنواع اذياتهم طول عمرهم وبعد ما اجتمع الجيش من أطراف المدائن وازدحموا على باب فرعون خرجوا خلفهم مسرعين فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ وقت طلوع الشمس من المشرق فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ اى تقاربا الى ان رأى كل من الجمعين صاحبه قالَ أَصْحابُ مُوسى مشتكيا اليه مأيوسا من الحياة بعد ما رأوا من خلفهم جيشا لا يعد ولا يحصى وعن امامهم البحر الذي لا يمكن العبور عنه إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ملحقون يلحقنا العدو الآن وبعد غرقنا في البحر قالَ موسى ردعا لهم وازالة لرعبهم كَلَّا اى ارتدعوا عن هذا ولا تخافوا عن ادراكهم إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ويلهمني الى طريق النجاة والخلاص إذ قد وعدني ربي اليوم بالخلاص والنجاة فان وعده سبحانه حق ولا يخلف فصبر الى ان قرب العدو ووصل موسى على شاطئ البحر مضطرا مضطربا مرعوبا وبعد ما رأينا كليمنا كذلك فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى بان قلنا له أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فضرب على الفور فَانْفَلَقَ البحر اى قلزم او النيل وافترق فرقا فرقا وانقطع قطعا قطعا كثيرة فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ بعد انفلاقه وانقطاعه كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ كالجبل الشامخ المرتفع نحو السماء الثابت في مقره بلا حركة وجرى وذهاب وانفرج بين الفلق فرجا وسيعة فسيحة فدخل على الفور موسى باذن منا وقومه تبعا له في تلك الشعوب والفرج كل سبط بشعب وَبعد ما دخلوا في شعاب البحر المنفلق أَزْلَفْنا

[سورة الشعراء (26) : آية 65]

وقربنا ثَمَّ الْآخَرِينَ اى قربنا فرعون وقومه هناك يعنى قد وصلوا على شاطئ البحر متعاقبة فرأوهم في شعاب البحر المنفلق على العبور فاقتحموا على الفور أثرهم طامعين النجاة والعبور مثلهم وَقد أَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ حيث حفظنا البحر على انفلاقه وعدم جريه الى ان عبروا سالمين من تلك الفرج ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ اى فرعون وقومه جميعا بعد ما دخلوا مغترين مغرورين في تلك الفرج باطباق البحر واجرائه واعدام انفلاقه وافتراقه واتصاله على الوجه الذي قد كان عليه قبل الانفلاق حسب وضعه الأصلي وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء والإغراق على الوجه المذكور لَآيَةً عظيمة دالة على كمال قدرة الله ومتانة حكمته بالنسبة الى ذوى الأبصار والنهى واولى العبر والاعتبار من الأبرار الأخيار المشمرين أذيال الهمم والاهتمام نحو التفكر والتدبر في آثار أوصاف الفاعل المختار وَلكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر الناس المجبولين على فطرة الاستدلال والاعتبار مُؤْمِنِينَ بالله موقنين بتوحيده وبأسمائه الكاملة وأوصافه الشاملة حتى يتأملوا في آثار صفاته ليتمكن لهم الاستدلال بها على ذاته وَبالجملة إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على امره القادر المقتدر على اجراء أحكامه وإنفاذ قضائه الرَّحِيمُ المشفق لخلص عباده الموفقين من عنده للوصول الى مبدئهم ومعادهم وَاتْلُ يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ اى على مكذبي قريش ومعانديهم نَبَأَ إِبْراهِيمَ اى قصة جدك ابراهيم الخليل صلوات الرحمن عليه وسلامه مع قومه وقت إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ سائلا لهم عن حقيقة ما يعبدون من الآلهة ليريهم ان الأصنام لا تستحق ولا تليق للعبادة والانقياد ما تَعْبُدُونَ ولأي شيء تنقادون وتطيعون ايها المكلفون العابدون قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ اى تدوم عكوفنا إياها واطاعتنا لها قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ ويجيبون دعوتكم إِذْ تَدْعُونَ إليهم في السراء والضراء أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ ويثيبون جزاء إطاعتكم وعبادتكم أَوْ يَضُرُّونَ لكم ان أعرضتم وانصرفتم عن عبادتهم قالُوا مستغربين عن مسئولاته نحن لا نرجو منهم أمثال هذه الصفات إذ هم جمادات لا يتأتى منهم افعال ذوى الحياة والشعور بَلْ قد وَجَدْنا آباءَنا وأسلافنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ اى يعبدون لها ويعكفون عليها خاشعين متذللين ونحن على آثارهم نعبدهم ونتذلل لهم تقليدا لآبائنا قالَ لهم ابراهيم على سبيل النصيحة والتذكير أَفَرَأَيْتُمْ وعلمتم ان ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ من دون الله أَنْتُمْ في مدة اعماركم وَكذا آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ في مدة اعمارهم ايضا وفيما مضى عليهم من الزمان لا يليق بالالوهية ولا يستحق للاطاعة والانقياد إذ الإله المستحق بالعبودية لا بد وان يتصف بالصفات الكاملة الفاضلة التي هي مبادي لآثار كثيرة وان يكون ذا نفع وضر وثواب وعقاب حتى يعبد له وهؤلاء معطلون عن أوصاف الألوهية مطلقا بل فَإِنَّهُمْ اى الالهة الباطلة عَدُوٌّ لِي نسب عداوتهم لنفسه أولا امحاضا للنصح والتوجه إليهم والتذلل نحوهم يجلب عذاب الله ونكاله فهم وعبادتهم من اسباب غضب الله وقهره فلكم ان لا تتوجهوا نحوهم ولا تعبدوا إياهم ولا تتخذوا غير الله سبحانه الها كما انى ما أتوجه وما اعبد إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ إذ هو المستحق للالوهية والربوبية ذاتا ووصفا وكيف لا اعبد الها واحدا أحدا حيا قيوما قادرا مقتدرا مع انه سبحانه هو الَّذِي خَلَقَنِي اى أوجدني وأظهرني من كتم العدم حسب جوده فَهُوَ يَهْدِينِ الى توحيده واستقلاله في الوجود والتصرف بمقتضى لطفه وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي إذا

[سورة الشعراء (26) : آية 80]

افتقرت الى الغذاء وَيَسْقِينِ حين احتياجى الى الماء وَكذا إِذا مَرِضْتُ من اختلاف الأمزجة وتداخل الاغذية فَهُوَ يَشْفِينِ باعتدالها واستقامتها وَالَّذِي يُمِيتُنِي حين حلول اجلى وانقضاء مدة حياتي في النشأة الاولى ثُمَّ يُحْيِينِ في النشأة الاخرى للعرض والجزاء وَالَّذِي أَطْمَعُ وأرجو من سعة رحمته وجوده أَنْ يَغْفِرَ لِي ويمحو عنى جميع خَطِيئَتِي التي قد صدرت عنى في نشأة الاختبار ويعفو زلتى التي قد عرضت على فيها يَوْمَ الدِّينِ والجزاء ثم ناجى مع الله بقوله رَبِّ يا من رباني بلطفك وهداني الى صراط توحيدك هَبْ لِي حُكْماً يقينا علميا وعينيا حتى استحق ان تفيض على اليقين الحقي الذي قد صرت بفيضانه مستحقا لمرتبة الخلة والخلافة وَبالجملة أَلْحِقْنِي بعد ما وهبت لي من حكمك وأحكامك ومعارفك ما قدرت لي في حضرة علمك ولوح قضائك بِالصَّالِحِينَ المرضيين عندك المقبولين في حضرتك وَاجْعَلْ لِي بفضلك وجودك لِسانَ صِدْقٍ اى لسانا يتكلم بالصدق في عموم حكمك وأحكامك ومعارفك وتوحيدك وفي جميع أوامرك ونواهيك بحيث يدوم اثر صدقى في أقوالي وأفعالي وأحوالي وفي عموم اطوارى واخلاقى فِي الْآخِرِينَ اللاحقين من عبادك المخلفين لي من بعدي لذلك ما من دين من الأديان الا وله صلوات الرحمن عليه وسلامه فيه اقوال وافعال واخلاق وسنن وآداب منسوبة اليه مسلمة منه معمولة بمتابعته وَبالجملة اجْعَلْنِي بسعة رحمتك ووفور إحسانك وعطيتك بي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ اى من الذين يرثون من فضلك وجودك مرتبة الرضا والتسليم إذ لا نعمة أجل منها وأتم عند المنقطعين نحوك والمتشوقين بلقياك وَاغْفِرْ لِأَبِي واعف عن زلته وذنوبه ان سبقت عنايتك له في حضرة علمك وسابق قضائك إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ التائهين في تيه الغفلة والغرور وَبالجملة لا تُخْزِنِي ولا تخجلنى من قبل نفسي وابى يَوْمَ يُبْعَثُونَ اى الأموات ويحشرون من قبورهم نحو العرصات لعرض الأحوال وجزاء الأعمال ان خيرا فخير وان شرا فشر واحسن الى يا ربي يَوْمَ لا يَنْفَعُ فيه مالٌ ولا يفيد صاحبه ويخلص من العذاب او يخفف العذاب لأجله وَلا بَنُونَ يظاهرون لآبائهم وينقذونهم من عذاب الله وذلك يوم لا مخلص فيه لاحد من عذاب الله من ذوى المعاصي والآثام إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ المطلع على سرائر العباد وضمائرهم بِقَلْبٍ سَلِيمٍ خال عن الميل الى الهوى ومزخرفات الدنيا خالص عن رعونات العجب والرياء مخلص في التوجه نحو المولى بلا طلب الثواب منه والعطاء والجزاء بل لمحض الرضاء والامتثال بما امره الله ونهى راضيا في كل الأحوال بما جرى عليه من نفوذ القضاء وَفي تلك الحالة التي قد أتوا كذلك أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ وقربت لِلْمُتَّقِينَ الذين يتقون ويحذرون عن محارم الله استحياء منه وطلبا لمرضاته بحيث يرونها ويسرعون إليها تشوقا وتحننا ويتفطنون انهم يدخلون فيها خالدين مؤبدين وَكذا قد بُرِّزَتِ وأظهرت الْجَحِيمُ المسعرة لِلْغاوِينَ الذين يضلون عن طريق الحق في النشأة الاولى بالميل الى الهوى وبالركون الى مستلذات الدنيا والاعراض عن ارشاد الأنبياء والأولياء والمصاحبة مع اهل البدع والآراء الفاسدة والأهواء الباطلة المضلة عن صراط الله الأعدل واتخاذ الآلهة الباطلة بمقتضى اهويتهم الفاسدة وَقِيلَ لَهُمْ حين ظهرت الجحيم عليهم ويتفطرون انهم مسوقون نحوها صاغرين مهانين أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ يعنى اين الآلهة الباطلة التي قد كنتم عبدتم لها مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد بالالوهية والربوبية معتقدين انها شفعاؤكم ينقذونكم عن عذاب الله هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ اليوم بان يدفعوا عنكم العذاب أَوْ يَنْتَصِرُونَ

[سورة الشعراء (26) : آية 94]

فيدفعون العذاب عن أنفسهم وبعد ما قد جرى عليهم ما جرى من التقريع والتوبيخ فَكُبْكِبُوا فِيها اى ادخلوا في النار قسرا وقهرا هُمْ اى آلهتهم المضلة المغوية وَالْغاوُونَ اى العبدة الضالون وَجُنُودُ إِبْلِيسَ مصاحبون معهم ملازمون إياهم من القوى البهيمية الشهوية والغضبية التي هي من اعونة النفوس الامارة أَجْمَعُونَ إذ كل منهم سبب تام لإضلالهم وبعد ما دخلوا في النار بأجمعهم صاغرين مهانين قالُوا اى الداخلون في النار تابعا ومتبوعا وَالحال انه هُمْ فِيها اى في النار يَخْتَصِمُونَ اى يتخاصم بعضهم بعضا حيث قال العابدون لمعبوداتهم مقسمين مغلظين تحسرا وتحزنا تَاللَّهِ إِنْ اى انه قد كُنَّا باتخاذكم ايها المضلون المبطلون آلهة من دون الله وعبدناكم كعبادته سبحانه لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر لا يشتبه على ذي مسكة ضلالنا وكيف لا يكون ضلالا ظاهرا إِذْ نُسَوِّيكُمْ مع كونكم من ادنى الأشياء وارذلها نرجحكم ونفضلكم بِرَبِّ الْعالَمِينَ الذي هو احد صمد فرد وتر ليس كمثله شيء وليس له كفو لإضلال أبين من هذا وأعظم وَبالجملة ما أَضَلَّنا واوقعنا في هذا الضلال المبين إِلَّا الْمُجْرِمُونَ الذين قد اقتدينا بهم من رؤسائنا وكذا من تقليدات آبائنا الذين مضوا قبلنا على هذا فَما لَنا بعد ما قد وقعنا في النار صاغرين مِنْ شافِعِينَ يشفعون لنا ينقذون منها وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ اى ذي قرابة وصداقة تكفى صداقته وحمايته لإنقاذنا ونجاتنا وانما قالوه تحسرا وتحزنا وبعد ما قد قنطوا عن الشفاعة والحماية تمنوا الرجعة والإعادة المستحيلة وقالوا فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً رجعة وعودة الى الدنيا مرة بعد اخرى وكرة بعد الاولى فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بالله الموحدين له لا نشرك به شيأ من مظاهره ومصنوعاته إِنَّ فِي ذلِكَ اى فيما ذكر من نبأ ابراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه لَآيَةً عظيمة دالة على توحيد الحق وعلو شأنه وسمو برهانه وعظة وتذكيرا للمتذكرين المعتبرين من أخلاقه وأطواره صلوات الرحمن عليه وكمال علمه ودعوته وانصافه في محاورته وارخائه العنان الى من قصد مجادلته ومعارضته وإظهاره الحق على ابلغ وجه وآكده عاريا عن جميع الرعونات والخرافات الواقعة بين اصحاب المناظرات والمجادلات وَلكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر الناس مُؤْمِنِينَ بتوحيد الله وخلة خليله وصفوة أخلاقه وحسن خصاله وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على انتقام من خرج عن رق عبوديته الرَّحِيمُ لمن وفق عليها وجبل لأجلها ثم قال سبحانه مخبرا عن المكذبين كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ لان تكذيب نوح والإنكار على إرساله يستلزم تكذيب مطلق الإرسال فيستلزم تكذيبه تكذيب جميع الرسل الذين مضوا قبله بل من سيأتى بعده من الرسل ايضا لاتحاد المرسل والمرسل به وذلك وقت إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ حين لاح عليهم امارات الكفر والفسوق والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة على العدالة المعنوية والقسط الحقيقي أَلا تَتَّقُونَ وتحذرون عن محارم الله ايها المكلفون المسرفون إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من قبل الحق أَمِينٌ بينكم أرشدكم الى ما يعنيكم وينفعكم واجنبكم عما يضركم وما لا يعنيكم بل يؤذيكم ويغويكم فَاتَّقُوا اللَّهَ القادر المقتدر على انواع الانتقام وَأَطِيعُونِ في عموم ما جئت به من قبل ربي وَاعلموا انى ما أَسْئَلُكُمْ ولا اطلب منكم عَلَيْهِ اى على إرشادي وتكميلى واصلاحى لكم ما أفسدتم على انفسكم من الأخلاق والأعمال مِنْ أَجْرٍ جعل ومال كما يسأل المتشيخة خذلهم الله عن مريديهم ومحبيهم إِنْ أَجْرِيَ وما جعلى إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فانه سبحانه قد أرسلني إليكم وأمرني بتبليغ ما اوحى الىّ إليكم

[سورة الشعراء (26) : آية 110]

فَاتَّقُوا اللَّهَ حق تقاته واحذروا من بطشه وانتقامه وَأَطِيعُونِ في جميع ما جئت به من عنده من الأوامر والنواهي المصلحة لمفاسد أحوالكم حتى تستقيموا وتعتدلوا في النشأة الاولى وتفوزوا بما قد وعد لكم ربكم في النشأة الاخرى قالُوا في جوابه مستكبرين مستهزئين أَنُؤْمِنُ لَكَ ونتبعك نحن مع شرفنا وثروتنا وَالحال انه قد اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ منا الأقلّون مالا الأنزلون جاها ورتبة ومن هذا ظهر ان مناط الأمر عندهم على الحطام الدنياوية والمفاخرة بها واظهار الجاه والثروة بسببها ومتابعتهم انما هي لحصولها لا لأغراض دينية ومصلحة اخروية مصفية ببواطنهم عن العلائق المادية والشواغل الهيولانية العائقة عن الوصول الى مقر التوحيد لذلك قالَ نوح متكأ الى الله مفوضا امره اليه وَما عِلْمِي وادراكى محيطا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ويؤملون في نفوسهم من اى غرض وسبب يؤمنون بي ويمتثلون بأمري إذ مالي اطلاع على ضمائرهم وسرائرهم بل بظواهرهم إِنْ حِسابُهُمْ وما امر بواطنهم وأسرارهم إِلَّا عَلى رَبِّي المطلع على خفايا الأمور ومغيباتها لَوْ تَشْعُرُونَ وتدركون أنتم وتعقلون ما أبث لكم من الكلام لفهمتم ما هو الحق منه ولكنكم أنتم قوم تجهلون لذلك تقولون ما لا تعلمون ولا تفهمون وَبعد ما سمعتم مقالتي هذه فاعلموا انى ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ونافيهم من عندي بسبب ميلكم الى واستدعاكم طردهم وتوقيفكم الايمان بي على تبعيدهم وبالجملة إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ من قبل الحق مُبِينٌ ظاهر الحجج واضح البينات والمعجزات بالنسبة الى عموم المكلفين سواء كانوا اغنياء او فقراء إذ الايمان والتوحيد والتدين والإخلاص انما هي من افعال القلوب لا مدخل للأمور الخارجية فيها التي هي الغناء والثروة والفقر والرذالة فمن وفقه الحق على التوحيد وسبقت له العناية في سابق القضاء فهو مؤمن سواء كان فقيرا او غنيا ومن سبق عليه الغضب الإلهي وكتب في لوح القضاء من الأشقياء فهو كافر ناف للصانع مشرك له سواء كان غنيا او فقيرا وبعد ما سمعوا من عدم مبالاته بهم وبشأنهم وعدم رعاية جانبهم وغبطتهم قالُوا من فرط عتوهم واستكبارهم مقسما والله لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عن دعوتك وادعائك هذا ولم تترك هذياناتك التي قد جئت بها من تلقاء نفسك افتراء ومراء لَتَكُونَنَّ باصرارك عليها مِنَ الْمَرْجُومِينَ المقتولين زجرا وقهرا فارجع الى حالك وتب من هذياناتك حتى لا نقتلك بأقبح الوجوه وبعد ما قنط نوح عن ايمانهم وايس عن توحيدهم وعرفانهم قالَ مشتكيا الى الله ملجأ نحوه رَبِّ يا من رباني بأنواع الكرامة ووفقني على الهداية والتوحيد إِنَّ قَوْمِي الذين قد بعثتني إليهم لأهديهم الى دينك وطريق توحيدك كَذَّبُونِ بجميع ما جئت به من عندك تكذيبا شديدا وسفهونى تسفيها بليغا بل قد قصدوا مقتى وقتلى باشد العذاب وأقبح العقاب وبالجملة ما بقي بيني وبينهم ائتلاف وارتباط فَافْتَحْ فاحكم أنت يا رب حسب عدلك وقضائك بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً حكما مبرما منجزا لوعدك الذي وعدتني به بعد ما كذبون وانزل عليهم العذاب الموعود من عندك وَبعد إنزال العذاب عليهم نَجِّنِي منه بلطفك وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بدينك ونبيك الممتثلين بأوامرك المجتنبين عن نواهيك بفضلك وطولك وبعد افراطهم وإصرارهم المتجاوز عن الحد في الاعراض عن الله والانصراف عن دينه وتكذيب نبيه وإيذائهم إياه والى من آمن له من المؤمنين قد انزل الله عليهم الطوفان الموعود فَأَنْجَيْناهُ اى نوحا وَمَنْ مَعَهُ من متابعيه ومصدقيه حيث أدخلناهم فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملو منهم ومن كل شيء زوجين اثنين ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ اى بعد انجائنا وادخالنا نوحا ومن معه في الفلك أغرقنا الباقين من قومه بحيث لم

[سورة الشعراء (26) : آية 121]

يبق منهم احد على وجه الأرض سوى اصحاب السفينة إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء والإغراق لَآيَةً عظيمة دالة على كمال قدرتنا وشدة سطوتنا وعلو شأننا وبسطتنا وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ اى اكثر الناس مُؤْمِنِينَ بوحدة وجودنا وكمال قدرتنا وعزتنا ومتانة حكمنا وحكمتنا وَإِنَّ رَبَّكَ الذي وفقك يا أكمل الرسل على الايمان والتوحيد وكشف لك سرسريان وحدته الذاتية على هياكل المظاهر لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القاهر في نفسه القهار للاغيار بحيث لم يكن احد في فضاء الوجود سواه ولا اله يعبد له ويرجع في الخطوب والمهمات نحوه الا هو ليس كمثله شيء وهو السميع العليم الرَّحِيمُ لخلص عباده ممن جذبته العناية الازلية نحو بابه ويسر له الوصول الى جنابه. رب اجعلنا من المنجذبين إليك المنكشفين بوحدة ذاتك. ثم قال سبحانه مخبرا عن احوال المكذبين ايضا قد كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ جميعه على الوجه الذي ذكر في تكذيب نوح عليه السلام وانما أنث باعتبار القبيلة وعاد اسم أبيهم اذكر وقت. إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ حين رأى منهم ما هو امارات الكفر والفسوق وعلامات الخروج عن مقتضى العدالة والاستقامة الموضوعة بينهم بوضع الهى أَلا تَتَّقُونَ من بأس الله ايها المفرطون المسرفون ولا تحذرون عن حلول قهره وانتقامه ايها الجاهلون إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ مرسل إليكم من عنده لا بلغكم ما أرسلت به من قبل الحق من الأوامر والنواهي المصلحة لأحوالكم المبعدة عن غضب الله إياكم وقهره فَاتَّقُوا اللَّهَ الغالب القادر المقتدر على انواع الانتقامات وَأَطِيعُونِ فيما أمرت لكم بوحي الله والهامه من الأمور المهذبة لأخلاقكم وَاعلموا انى ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ومن جملة تربيته إرسال الرسل على المنحرفين عن سبيل الاستقامة المنصرفين عن طريق توحيده أَتَبْنُونَ وتعمرون ايها المسرفون المستكبرون بِكُلِّ رِيعٍ تلال مرتفعة من الأرض آيَةً وعلامة تستدلون بها على سلوككم نحو مقاصدكم ومناهجكم مع ان النجوم الزاهرات انما ظهرت لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر وبالجملة أنتم بوضع هذه الآيات والعلامات تَعْبَثُونَ وترتكبون فعلا عبثا لا فائدة لكم فيها أصلا وَايضا من جملة كبركم وخيلائكم تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ اى منابع الماء والقوانيت او قصورا عاليات وابنية شامخات مجصصة مشيدة لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وتأملون الخلود في دار الابتلاء والغرور لذلك تحكمون بناءكم وتشيدونها وَمن غاية استكباركم وتجبركم إِذا بَطَشْتُمْ وأخذتم أحدا بجريمة صدرت عنه بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ متجبرين متكبرين خارجين عن مقتضى الحد الإلهي الموضوع للتأديب والتعزير فَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ان لا يأخذكم على أمثال هذه الجرائم والعدوان على عباده وَأَطِيعُونِ في نصحى وتذكيري لتنجوا من سخط الله وغضبه وَبالجملة اتَّقُوا الله القادر العليم الحكيم الَّذِي أَمَدَّكُمْ ونصركم بِما تَعْلَمُونَ من انواع النعم واصناف الكرم الفائضة عليكم ثم فصل بعضا منها تنصيصا فقال قد أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ تستمدون بها اكلا وحملا وركوبا وَبَنِينَ تظاهرون بهم وتفاخرون بنسبهم وسببهم وَجَنَّاتٍ متنزهات ملتفة بأنواع الأشجار والكروم وَعُيُونٍ جاريات تجرى بين جناتكم من انهار المياه الصافيات وبالجملة إِنِّي من غاية عطفي ومرحمتى قد أَخافُ عَلَيْكُمْ من شدة تعنتكم واستكباركم عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ اى نزول عذاب الله وانواع عقوباته فيه ثم لما سمعوا منه ما سمعوا من العظة والتذكير والنصيحة على طريق المبالغة قالُوا من نهاية استكبارهم واستنكافهم وشدة انكارهم سَواءٌ عَلَيْنا يا هود أَوَعَظْتَ

[سورة الشعراء (26) : آية 137]

بما وعظت أَمْ لَمْ تَكُنْ أنت مِنَ الْواعِظِينَ المذكرين إذ نحن ما نسمع منك خرافاتك ولا نمتثل بها ولا نترك لأجلها وأجلك اخلاق أسلافنا التي قد كانوا عليها إِنْ هذا وما كنا عليه من الأخلاق والشيم ما هي إِلَّا خُلُقُ آبائنا الْأَوَّلِينَ وعادتهم المستمرة وسننهم السنية الموروثة لنا منهم وَبالجملة ما نَحْنُ ولا أسلافنا الذين قد مضوا عليها بِمُعَذَّبِينَ بعد انقراضنا عن هذه النشأة كما زعمت إذ لا اعادة ولا رجوع ولا عود ولا نشور لنا من قبورنا بعد ما متنا وكنا ترابا وعظاما بالية وبالجملة لم يقبلوا منه دعوته مطلقا ولم يصدقوا قوله أصلا فَكَذَّبُوهُ تكذيبا شديدا وصاروا بسبب تكذيبهم إياه وانكارهم عليه مستحقين لقهرنا وغضبنا فَأَهْلَكْناهُمْ من كمال غيرتنا واستأصلناهم بمقتضى قدرتنا وحميتنا إِنَّ فِي ذلِكَ الإهلاك والاستئصال لَآيَةً دالة على استقلالنا واستيلائنا بالسلطنة القاهرة على عموم مظاهرنا ومربوباتنا وَلكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بنا وبأسمائنا واوصافنا الكاملة الشاملة آثارها لعموم المظاهر والمصنوعات وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب المستقل بالتصرف في آثار أوصافه وأسمائه بلا مشاركة له في الوجود والإيجاد الرَّحِيمُ بتجلياته اللطفية الجمالية في اظهار الكائنات المشهودة في الأنفس والآفاق حسب إمداده واعانته. ثم قال سبحانه مخبرا عن المكذبين المهلكين ايضا كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ المصلح لأحوالهم حين لاح عليهم علامات الاعراض عن الله والانحراف عن جادة توحيده أَلا تَتَّقُونَ عن قهر الله فتخرجون عن مقتضى حدوده إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ من عنده سبحانه انبهكم على ما يصلح حالكم واجنبكم عما يفسدكم فَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور واحذروا من قهره وصولته وغضبه وجلاله وَأَطِيعُونِ فيما انصح لكم وأذكركم به وَاعلموا انى ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تذكيري وإرشادي إياكم مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وهو سبحانه قد اختارني للبعثة والرسالة واصطفاني لجمل وحيه فأرجو انا من فضله وسعة جوده ان يفيض على من معارفه وحقائقه الى حيث قد اضمحل هويتى الباطلة العاطلة في هوية الحق وتلاشى تعيناتى بالفناء فيه أَتُتْرَكُونَ وتبقون فِي ما اى في انواع النعم واصناف الإحسان والكرم وتستمرون هاهُنا اى في هذه النشأة كذلك آمِنِينَ بلا فترة وانتقال وتحويل مترفهين فِي جَنَّاتٍ اى حدائق ذات بهجة وَعُيُونٍ جاريات فيها وَزُرُوعٍ كثيرة من أطرافها وَلا سيما في نَخْلٍ لطيف طَلْعُها هَضِيمٌ إذ هو ينكسر وينهضم بسهولة ويستحيل دما بسرعة وَمن شدة بطركم ونهاية حرصكم واملكم تَنْحِتُونَ اى تنقبون وتثقبون مِنَ الْجِبالِ المتحجرة بُيُوتاً ومخازن تدخرون وتخزنون أمتعتكم فيها صونا لها من انواع الحادثات بطرين فارِهِينَ متنعمين فَاتَّقُوا اللَّهَ المحول للأحوال حتى لا يبدل يسركم الى العسر وتنعيمكم الى التنقيم وَأَطِيعُونِ في نصحى وتذكيري وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ في الإغراء على المعاصي والتغرير فيها يعنى الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بأنواع الفسادات ومن جملتها افسادكم واغراؤكم الى ما يضركم ويغويكم وَبالجملة هم لا يُصْلِحُونَ مفاسد احد أصلا وبعد ما سمعوا من صالح ما سمعوا من النصيحة والإرشاد وانواع الصلاح والسداد قالُوا من فرط تعنتهم وعنادهم وكمال توغلهم في بحر الغفلة والغرور إِنَّما أَنْتَ يا صالح مِنَ الْمُسَحَّرِينَ المختلين المحتبطين عقولهم بالسحر لذلك قد تخيلت انك رسول مرسل من

[سورة الشعراء (26) : آية 154]

قبل الحق هاد الى طريقه مع انك ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا بلا رجحان لك علينا ولم يعهد إرسال البشر الى البشر من عند الله وبعد ما قد عيروه وشنعوا عليه قصدوا تعجيزه فأمروه بإتيان البرهان على صدقه فقالوا متهكمين فَأْتِ يا صالح بِآيَةٍ معجزة دالة على صدقك في دعواك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ صالح معجزتي الدالة على حقية دعوتي ورسالتي هذِهِ ناقَةٌ مخرجة من الصخرة بإخراج الله بعد ما اقترحتمونى بإخراجها فدعوت الله القادر المقتدر على اختراع الأمور المستبدعة وتضرعت نحوه فقبل دعائي فأخرجها بقدرته التامة على الوجه المقترح واعلموا ايها المتهكمون في بحر الغفلة والغرور انه لَها اى الناقة شِرْبٌ الى يوم قد عين الله لشربها من بئركم هذا وَلَكُمْ ايضا شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ معين فعليكم ان لا تتجاوزوا من شربكم الى شربها ولا تضروا بها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ من ضرب وذب وظمأ وجوع فإنكم ان تمسوها بسوء فَيَأْخُذَكُمْ وينزل عليكم عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ وصف به لعظم ما فيه من العذاب. ثم لما أوصاهم بحفظها وحضانتها وبالغ في شأنها لم يقبلوا منه ولم يبالوا بقوله فاتفقوا على عقرها فَعَقَرُوها بعد ما اجمع الكل فَأَصْبَحُوا بعد ما عقروها وصاروا نادِمِينَ خائفين من نزول العذاب لا تائبين آئبين عما فعلوا من ترك المأمور وارتكاب المنهي وبعد ما استحقوا العذاب بصنيعهم هذا فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الموعود المعهود من قبل الحق فنزل عليهم فاهلكهم بالمرة بحيث لم يبق منهم احد على وجه الأرض إِنَّ فِي ذلِكَ الابتلاء والإنزال والإهلاك لَآيَةً عظيمة مثبتة لكمال قدرة الله وقهره بمقتضى صفاته الجلالية وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بقهره وجلاله وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القاهر على أعدائه حسب غضبه وجلاله الرَّحِيمُ المشفق على أوليائه بمقتضى لطفه وجماله ثم قال سبحانه مخبرا ايضا قد كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ مثل ما كذب السابقون وذلك وقت إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ حين شاعت بينهم الفعلة القبيحة والديدنة الذميمة الشنيعة الى حيث يباهون بها ولا يخفونها أَلا تَتَّقُونَ من غضب الله ايها المسرفون المفرطون اتقوا الله الغالب الغيور واحذروا من سخطه إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من قبله أَمِينٌ يؤمنكم من مكر الله وحلول غضبه وعذابه لو قبلتم منى قولي فَاتَّقُوا اللَّهَ حق تقاته وَأَطِيعُونِ في عموم ما جئت لكم من عنده وَاعلموا انى ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغى ونصحى مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ وما جزائي إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فانه المتكفل لأجور عباده حسب أعمالهم ونياتهم فيها أَتَأْتُونَ وتجامعون ايها المسرفون المفرطون الذُّكْرانَ الذكور الأمارد وتخصون أنتم بهذه الفعلة القبيحة الشنيعة مع انه ما سبق مثلها مِنَ الْعالَمِينَ يعنى الذين مضوا من بنى نوعكم وَتبالغون أنتم فيها بحيث تَذَرُونَ وتتركون ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ لإتيانكم وحرثكم مِنْ أَزْواجِكُمْ ونسائكم ليترتب عليها حكمة التناسل وإبقاء النوع بَلْ أَنْتُمْ بسوء صنيعكم وقبح فعلتكم هذه قَوْمٌ عادُونَ متجاوزون من حدود الله ومقتضى حكمه وحكمته وبعد ما سمعوا منه تشنيعه على ابلغ الوجه واشنعه قالُوا من شدة شكيمتهم وضغينتهم معه لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ ولم تنزجر عن تشنيعنا وتقبيح فعلنا ونهينا عنه لَتَكُونَنَّ أنت بجراءتك علينا مِنَ الْمُخْرَجِينَ من قريتنا على أقبح وجه وأسوئه وبعد ما سمع لوط عليه السلام منهم ما سمع من الغلظة والتشديد في التهديد قالَ مستوحشا منهم مستنكرا عليهم إِنِّي لِعَمَلِكُمْ هذا مِنَ الْقالِينَ المبغضين غاية البغض بحيث اكره

[سورة الشعراء (26) : آية 170]

مساكنكم وجواركم مطلقا وأريد الخروج من بينكم ولا أبالي من تهديدكم على بالإخراج والاجلاء ثم توجه نحو الحق وناجى معه مبغضا عليهم مشتكيا الى ربه بقوله رَبِ يا من رباني بأنواع الطهارة والنظافة الصورية نَجِّنِي بفضلك وجودك وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ من العذاب الموعود النازل عليهم بشؤم عملهم هذا وبعد ما قد أصروا وبالغوا في الإصرار أنزلنا العذاب عليهم بعد ما استحقوا لإنزاله فَنَجَّيْناهُ اى لوطا وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ من اصابة العذاب المنزل على قومه إِلَّا عَجُوزاً من اهله وهي امرأته قد بقيت فِي الْغابِرِينَ الهالكين لميلها إليهم ومحبتها لهم ثُمَّ دَمَّرْنَا وأهلكنا الْآخَرِينَ عن آخرهم وَذلك بان قد أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً لم يعهد مثله إذ هو حجارة مهلكة لكل من أصاب فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ مطرهم هذا إِنَّ فِي ذلِكَ الأمطار والإهلاك لَآيَةً عظيمة على علو شأننا وسطوع حجتنا وبرهاننا وَلكن ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بآياتنا العظام لذلك قد لحقهم ما لحقهم وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء المتفرد بالوجود والبقاء لا موجود سواه ولا اله الا هو الرَّحِيمُ المتجلى بالتجليات الحبية حسب الأسماء والصفات الذاتية من الأعيان والأكوان المنعكسة من الأسماء والصفات قال سبحانه كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ حين رأى منهم امارات الميل والانحراف عن القسطاس المستقيم الموضوع من لدن حكيم عليم المنبئ عن الاعتدال المعنوي أَلا تَتَّقُونَ وتحذرون عن بطش الله ايها المتجاوزون عن حدوده إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من عنده سبحانه أَمِينٌ مبلغ إليكم أمانته فَاتَّقُوا اللَّهَ حق تقاته ولا تنقصوا المكيال والميزان وَأَطِيعُونِ فيما أرسلت به وَلا تخافوا عن أخذ الجعل والرشى إذ انا ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ ان شاء يعطيني جزاء إرشادي وإبلاغي ويوصلني الى منتهى املى ومرادى وعليكم ايها المكلفون المنحرفون عن جادة العدالة الإلهية إيفاء الكيل أَوْفُوا الْكَيْلَ إيفاء تاما كاملا وَلا تَكُونُوا بتطفيفه وتنقيصه مِنَ الْمُخْسِرِينَ الناقصين حقوق عباد الله حتى لا يخسركم من رحمته وَزِنُوا وقت وزنكم بغيركم من عباد الله بِالْقِسْطاسِ والميزان الْمُسْتَقِيمِ العدل السوى بحيث لا يميل ولا ينحرف الى جانب أصلا وَعليكم ايضا ان لا تَبْخَسُوا ولا تنقصوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ولا تكسروا سلعهم ولا تنقصوا من أسعارها وَبالجملة لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ ولا تتمشوا عليها بالظلم مُفْسِدِينَ بأنواع الفسادات وَكيف تفسدون فيها وتظلمون من عليها اتَّقُوا الله القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَكُمْ وأظهركم من كتم العدم وَكذا قد خلق وأوجد أمثالكم الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ وذوى الخلقة من المتقدمين من اسلافكم وغيرهم ايضا وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا من الحكم والتذكيرات قالُوا متهكمين مستهزئين إِنَّما أَنْتَ يا شعيب مِنَ الْمُسَحَّرِينَ المجنونين الذين قد ضاعت عقولهم بالسحر والافتتان وَكيف تكون أنت من المرسلين مع انك ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ومن اين يتيسر لبشر أن يكون مرسلا من رب العالمين وَبالجملة إِنْ نَظُنُّكَ في دعواك الرسالة لَمِنَ الْكاذِبِينَ المفترين والا فَأَسْقِطْ بدعائك عَلَيْنا كِسَفاً قطعا مِنَ السَّماءِ اى من بعض اقطاعها لتهلكنا بها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أمرك هذا ورسالتك هذه وبعد ما ايس شعيب عليه السلام عن ايمانهم قالَ لهم مشتكيا الى الله رَبِّي أَعْلَمُ بعلمه الحضوري بِما تَعْمَلُونَ أنتم

[سورة الشعراء (26) : آية 189]

من انواع الفسادات وبمقدار ما تستحقون عليها من العذاب والجزاء وبالجملة فَكَذَّبُوهُ تكذيبا شديدا وأنكروا عليه إنكارا بليغا ولم يقبلوا قوله فاستحقوا العذاب فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ على الوجه الذي اقترحوا منه بان قد شدد الله عليهم الحر حيث اضطروا الى الاستظلال وذلك يوم قد غلت المياه في الأنهار فأظلتهم السحابة بغتة فازدحموا تحتها مستظلين بها فأمطر الله عليهم نارا فاحترقوا بالمرة إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لعظم جرمهم وعذابهم فيه إِنَّ فِي ذلِكَ الأخذ والإنزال والاظلال لَآيَةً عظيمة دالة على كمال قهرنا إياهم وزجرنا وانتقامنا عنهم وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بقهرنا وغضبنا ومقتضيات اوصافنا الجلالية وَإِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على عموم المرادات والمقدورات من الثواب والعقاب والانعام والانتقام الرَّحِيمُ على من وفقهم الى مقتضى ما رضى عنهم ويسر لهم الامتثال بما أمرهم ونهاهم هذا آخر القصص السبع المذكورة لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدالة على ان المكذبين للرسل مأخوذون بأنواع العذاب مستهلكون بأصناف العقاب والنكال انما ذكر سبحانه ليعتبر منها المعتبرون من المؤمنين ويتفطن المكذبون ما سيلحقهم من العذاب لو أصروا على ما هم عليه من التكذيب والعناد وَإِنَّهُ اى القرآن لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ كالكتب السالفة قد نَزَلَ بِهِ بالتخفيف الرُّوحُ الْأَمِينُ كما نزل بسائر الكتب الماضية وهو جبريل عليه السلام سمى به لأمانته على الوحى الإلهي حيث أوصله الى من اليه انزل على وجهه بلا تغيير وتبديل أصلا دائما وانما نزل به عَلى قَلْبِكَ يا أكمل الرسل لِتَكُونَ أنت ايضا كسائر الرسل مِنَ الْمُنْذِرِينَ لتنذر اهل الغفلة والغرور من قومك كما انذروا لذلك قد أنزله سبحانه بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ظاهر الدلالة واضح الفحوى مناسبا بلغة من أرسلت إليهم ولو أنزله على لغة العجم كالكتب السابقة لقالت العرب ما نفهم معناه ولا نعرف فحواه ومقتضاه وَإِنَّهُ اى إنزال القرآن عليك يا أكمل الرسل عربيا لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ مثبتا مزبورا في كتبهم مع نعتك ايضا وحليتك وجميع اوصافك وأسمائك أَينكرون صدق القرآن وصحة نزوله من عند العليم العلام على محمد صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ولم يكف آيَةً ودليلا تدل على صدقه وحقيته وصحة نزوله من عند الله أَنْ يَعْلَمَهُ ويعرفه ويروى أوصافه عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ وأحبارهم يخبرون به ويقرؤن في كتبهم اسمه واسم من انزل اليه ونعته وحليته وَلَوْ نَزَّلْناهُ اى القرآن عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ بلسانهم وعلى لغتهم ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ حينئذ البتة معللين بانا لا نفهم معناه ولا نعرف فحواه فكيف عملنا به وامتثلنا بما فيه كَذلِكَ اى مثل ما قررنا القرآن وأدخلناه في قلوب المؤمنين سَلَكْناهُ وأدخلناه ايضا فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ان المؤمنين قد آمنوا به وامتثلوا بما فيه لصفاء طينتهم والمجرمون لا يُؤْمِنُونَ بِهِ عنادا ومكابرة لخبث طينتهم حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم الملجئ لهم الى الايمان فآمنوا به لكن في وقت لا ينفعهم ايمانهم فَيَأْتِيَهُمْ العذاب الموعود لهم حينئذ من قبل الحق بَغْتَةً بلا تقديم مقدمة وسبق امارة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ نزوله فَيَقُولُوا بعد ما نزل عليهم ووقعوا فيه متحسرين متحننين هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ ممهلون زمانا حتى نتدارك ما قد فوتنا على أنفسنا من الايمان بالله وتصديق كتبه ورسله قيل لهم حينئذ من قبل الحق أَيستمهلون ويستنظرون أولئك المصرون المسرفون فَبِعَذابِنا هذا قد كانوا يَسْتَعْجِلُونَ فيما مضى مستهزئين متهكمين

[سورة الشعراء (26) : آية 205]

قائلين لرسلنا فأتنا بما تعدنا الآية وأمطر علينا حجارة الآية وأسقط علينا كسفا الآية وأمثال ذلك من الآيات وحين نزل عليكم العذاب الموعود تستنظرون وتستمهلون أَفَرَأَيْتَ وعلمت ايها الرائي الخبير والمعتبر البصير إِنْ امهلناهم في الدنيا زمانا طويلا بان مَتَّعْناهُمْ فيها سِنِينَ تمتيعا بليغا ورفعناهم فيها ترفيها بديعا ثُمَّ جاءَهُمْ ونزل عليهم بعد زمان طويل ما كانُوا يُوعَدُونَ من العذاب البتة وبالجملة ما أَغْنى عَنْهُمْ ولم يدفع طول مكثهم فيها شيأ من العذاب ولم يخفف عذابهم أصلا ما كانُوا يُمَتَّعُونَ اى تمتيعهم زمانا طويلا فإذا لا فرق بين إمهالهم وبين تعجيل العذاب عليهم وَمن سنتنا المستمرة وعادتنا القديمة انا ما أَهْلَكْنا مِنْ اهل قَرْيَةٍ من القرى القديمة الهالكة إِلَّا قد أرسلنا أولا لَها أنبياء ورسلاهم مُنْذِرُونَ يخوفون عماهم عليه من الأمور المستجلبة للعذاب المستوجبة له وانما أرسلنا إليهم من أرسلنا وانذرناهم عما انذرناهم أولا ليكون ذِكْرى اى تذكرة وعظة منا إياهم حتى لا ينسبوننا الى الظلم ولا يجادلون معنا وقت حلول العذاب عليهم وَايضا قد ظهر عندهم انا ما كُنَّا ظالِمِينَ بتعذيبهم بأنواع العذاب وبعد ما نسب المشركون المكابرون تنزيل القرآن المعجز إليك يا أكمل الرسل بالشياطين وطعنوا فيه بانه ما يلقى الشيطان الى الكهنة والرهابين رد الله عليهم بقوله وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ اى بالقرآن الفرقان المعجز لفظا ومعنى المبنى على الهداية المحضة ظاهرا وباطنا الشَّياطِينُ الضالون المضلون إذ لا يتأتى منهم الهداية أصلا وَما يَنْبَغِي وما يصح لَهُمْ الإتيان بالهداية والرشد وَما يَسْتَطِيعُونَ وما يقدرون عليها إذ الهداية والإرشاد انما هي من طيب النفس وطهارة الفطرة وزكاء الفطنة وصفاء الجبلة وهم ليسوا كذلك بل هم مجبولون على الخباثة في اصل الخلقة واما استماعهم وسماعهم من الملائكة أمثال هذا ايضا فلا يتأتى منهم ولا يمكنهم من رداءة فطرتهم وفطنتهم وخباثة جبلتهم وطينتهم إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لكلام الملائكة لَمَعْزُولُونَ لان الاستماع منهم مشروط بالمناسبة لهم في التجرد عن العلائق مطلقا وصفاء الفطرة عن إكدار الطبيعة رأسا إذ قبول الفيض انما هو عند هبوب نسمات النفسات الرحمانية والتعرض والاشتياق منها ومن نفحاتها على الدوام وظاهر ان نفوسهم الخبيثة ليست بهذه المثابة والقرآن الفرقان محتو على حقائق ومعارف ومكاشفات ومشاهدات لا يمكن صدورها الا ممن هو منبع جميع الكمالات ومنشأ عموم الخيرات والمطلع على جميع السرائر والخفيات والقادر المقتدر على عموم المرادات والمقدورات فكيف يليق بكمال القرآن ان ينسب الى الشيطان تعالى شأن القرآن عما ينسب اليه الظالمون علوا كبيرا. ثم أشار سبحانه الى تحريك سلسلة اشواق المحبين وتهييج اخلاص الموحدين المخلصين المنقطعين نحو الحق الساعين بافناء هوياتهم الباطلة في طريق توحيده الباذلين مهجهم في مسلك الفناء ليفوزوا بشرف البقاء واللقاء فقال مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ناهيا له عن التوجه والالتفات نحو الغير مطلقا فَلا تَدْعُ ايها الداعي للخلق الى الحق بالحق على الحق مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية إِلهاً آخَرَ من مظاهره ومصنوعاته إذ الكل في حيطة أوصافه وأسمائه لا وجود لها لذاتها بل انما هي عكوس واظلال للأسماء والصفات الإلهية فَتَكُونَ أنت بجمعيتك وكمالك لو دعوت واتخذت الها آخر لقد صرت أنت البتة مِنَ الْمُعَذَّبِينَ بأنواع التعذيبات الصورية والمعنوية العقلية والحسية الجسمانية والروحانية انما خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بهذا

[سورة الشعراء (26) : آية 214]

الخطاب الهائل وعاتبه بهذا العتاب الهائب ليتنبه المؤمنون ويتفطنوا بكمال غيرة الله المتفرد المتوحد القهار للاغيار مطلقا وَبعد ما قد ظهر عندك يا أكمل الرسل غوائل الشرك بالله ولاح دونك ما يترتب عليه من القهر الإلهي وغضبه أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ وقرابتك سيما الْأَقْرَبِينَ منهم واهتم بشأنهم أشد اهتماما حتى تنقذهم من الشرك المستجلب لانواع الغضب والعذاب من قبل الحق وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ وآمن لك منهم اى لين جانبك نحوهم وابسط موانستك معهم ومصاحبتك إياهم حتى صار كلهم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموحدين الناجين من عذاب الله وسخطه فَإِنْ عَصَوْكَ وانصرفوا عنك واعرضوا عن موانستك بعد ما قد لنت لهم وواسيت معهم ولم يقبلوا منك دعوتك وإنذارك فَقُلْ مستبرأ منهم مستنزها نفسك عنهم وعن أعمالهم إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ يعنى منكم ومن عملكم الذي أنتم تعملونه مصرين مستكبرين وَان عادوك وعاندوا معك الى ان قصدوا مقتك تَوَكَّلْ في دفعهم ورفع مؤنتهم عَلَى الْعَزِيزِ الغالب لقهر الأعداء القادر المقتدر على غضبهم وانتقامهم بأنواع البلاء والعناء الرَّحِيمِ على الأولياء ينصرهم على أعاديهم ويدفع عنهم شرورهم وكيف لا يرحمك يا أكمل الرسل ولا يكفيك ولا يكف عنك مؤنة أعدائك الَّذِي يَراكَ اى القيوم القادر الذي يشهدك ويشاهدك حِينَ تَقُومُ من منامك خلال الليالى طلبا لمرضاته ورفعا لحاجاتك نحوه وَايضا يشاهد تَقَلُّبَكَ وترددك جوف الليل فِي تفقد احوال المؤمنين السَّاجِدِينَ المتذللين نحو الحق الواضعين جباههم على تراب المذلة والانكسار شوقا اليه وتحننا نحوه من افراط المودة ومن شدة اشتعال نار العشق والمحبة الإلهية المطفئة لنيران الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة وكيف لا يتذللون اليه سبحانه ولا يتمنون نحوه إِنَّهُ بذاته هُوَ السَّمِيعُ لمناجاتهم وعرض حاجاتهم الْعَلِيمُ لمقاصدهم وطيب أغراضهم وخلوص نياتهم وإخلاصهم في أعمالهم وبعد ما رد سبحانه قول من قال ان القرآن منزل من قبل الشياطين لا من الملائكة واثبت ان انزاله منه سبحانه وإيصاله من الروح الأمين على الرسول الأمين إذ المناسبة بينهما مرعية والمشاكلة مثبتة مرضية أراد ان يشير سبحانه الى ان تنزيل الشياطين وتسويلهم انما هو لأوليائهم الذين قد كملت نسبتهم إليهم وصحت مناسبتهم معهم فقال هَلْ أُنَبِّئُكُمْ وأخبركم ايها المسرفون المردودون في امر القرآن واعجازه وانزاله من قبل الحق القادحون فيه بنسبته الى تنزيل الشياطين او الى الشعر الذي من جملة وساوسهم وتخييلاتهم ايضا مع ان القرآن الفرقان مشتمل على معارف وحقائق ورموزات وشهودات لا يسع الإتيان بها والتعبير عنها الا لمن هو علام الغيوب مطلع على سرائر ارباب الكشف والشهود وأبين لكم عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ للاضلال والوسوسة والتحريف عن طريق الحق والتغرير بالأباطيل تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ مبالغ في الإفك والافتراء أَثِيمٍ مغمور في الإثم والعصيان وانواع الفسوق والطغيان لتحقق مناسبته مع الشياطين الذين يُلْقُونَ السَّمْعَ للملائكة ويصغون منهم بعض المغيبات ويخبرون بها لا على وجهها إذ ليس غرضهم من الإصغاء الا الإفساد والرد لا الإصلاح والقبول وَلذلك قد كان أَكْثَرُهُمْ هم كاذِبُونَ فيما يسمعون ويلقون إذ هم يحرفون ويزيفون ما سمعوا ترويجا لما هم عليه من الفساد والإفساد وتغريرا لأوليائهم بأنواع التغريرات وَمن جملة اولياء الشياطين المنتسبين إليهم بالنسبة الكاملة الكاذبة الشُّعَراءُ المذبذبون بين الأنام بأكاذيب الكلام واباطيله لذلك يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ الضالون من جنود الشياطين المتبعون لهم لترويج أباطيلهم الزائغة

[سورة الشعراء (26) : آية 225]

أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ ومن تابعهم من الغواة فِي كُلِّ وادٍ من اودية الضلال والطغيان يَهِيمُونَ ويترددون حيارى سكارى تائهين بلا ثبات ولا قرار مترددين في معاشهم ومعادهم وَأَنَّهُمْ من غاية غفلتهم وسكرتهم في امور معاشهم يَقُولُونَ بأفواههم ويخبرون بألسنتهم تلقفا ما لا يَفْعَلُونَ ولا يتصفون به من الأخلاق والحكم والمواعظ والرموز والإشارات التي قد صدرت عنهم هفوة وهم لا يمتثلون بها أصلا إِلَّا الشعراء الحكماء الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله واتصفوا بالحكمة المعتدلة المودعة في قلوبهم الظاهرة آثارها من ألسنتهم ومضوا على مقتضى الاعتدال المعنوي الذي قد جبلهم الحق عليه بلا تلعثم منهم وتزلزل عن مقتضى فطرتهم الاصلية وفطنتهم الجبلية وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الأعمال المصلحة لمفاسدهم المهذبة لأخلاقهم وأطوارهم وَمن اجلة أخلاقهم انهم قد ذَكَرُوا اللَّهَ المستوي على صراط العدالة والاستقامة في اشعارهم وقصائدهم كَثِيراً في عموم أوقاتهم وحالاتهم بل اكثر اشعارهم انما هو لإثبات توحيد الحق وتبيين معارفه وحقائقه وكذا لإظهار رموز ارباب الكشف والعيان والتذكيرات المتعلقة بترك المألوفات وقطع التعلقات المنافية لصفاء مشرب التوحيد وبعض اشعارهم متعلق بردع اهل الهواء والآراء الفاسدة وهتك محارمهم واعراضهم وتعداد مقابحهم ورذائلهم وَذلك بأنهم قد انْتَصَرُوا باشعارهم هذه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا من أيدي الجهلة وألسنة الكفرة المتعنتين المستكبرين على ارباب المحبة والولاء من المنقطعين نحو الحق السالكين سبيل توحيده وَبالجملة سَيَعْلَمُ الظلمة المفسدون والكفرة المستهزءون المسرفون الَّذِينَ ظَلَمُوا على اهل الحق وآذوهم بالسنان واللسان وانواع القدح والطعنان ونسبوهم الى الإلحاد والعناد ورموهم بأنواع الفسوق والفساد مع انهم هم على صرافة التوحيد متمكنون ومن امارات الكثرة والتقليد متنزهون وسيعلمون أولئك المردة الرامون المفرطون المسرفون أَيَّ مُنْقَلَبٍ واى مرجع ومآب يَنْقَلِبُونَ ويرجعون أيدخلون في حفر النيران والخذلان وهم منكوسون أم الى روضة الرضا وجنة التسليم وهم مسرورون ألا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون خاتمة سورة الشعراء عليك ايها السالك المراقب لاعتدال الأطوار والأخلاق والأعمال وجميع الشئون والأحوال المتعلقة بنشأتى الدنيا والعقبى ان تراجع ذوقك ووجدانك في جميع ما جرى عليك من الأحوال وتتأمل فيه حق التأمل الى ان تطلع على مبدئه ومنشأه ثم تتفكر في صدوره هل هو على مقتضى الاعتدال والقسط الإلهي صدر ما صدر أم على مقتضى الهوى الغالب الذي من جنود الامارة المستمدة من إغواء الشيطان واغرائه فان وجدته على مقتضى القسط والهدى الإلهي والعدل الجبلي السوى فطوبى لك وان وجدته على مقتضى الهوى فعليك ان تعالجه وتلازم في إصلاحه واستقامته بالرياضات القالعة لعرق الأماني والآمال والمرادات المتعلقة بمستلذات الدنيا الفانية عن أصلها وتواظب على أشق الطاعات واتعب العبادات عن صوم الأيام ومشى الاقدام ومشق الأقلام وانقطاع صحبة الأنام والخروج من بين العوام والاعتزال نحو الجبال والآجام والعكوف في مطاوى الكهوف وخلال الخلوات والاشتغال بالميل والصلوات المقربة نحو الحق حتى تعتدل اوصافك واخلاقك وتستقيم افعالك واحوالك فحينئذ قد انكشف لك باب التوحيد وانفلق عليك وسد دونك مداخل الرياء

سورة النمل

والسمعة والعجب وانواع الكدورات اللاحقة من الخلطة والمؤانسة مع الناس والمصاحبة معهم المكدرة لصفاء مشرب التوحيد. واعلم يا أخي احسن الله احوالك وأصلح شأنك ان ارباب المحبة الكاملة والولاء التام هم الذين يبذلون مهجم في سلوك سبيل الفناء والافناء بلا التفات منهم الى احد من الناس لا خيرا ولا شرا ولا نفعا ولا ضرا بل هم من كمال حيرتهم واستغراقهم في مطالعة جمال الله وجلاله لا يلتفتون الى نفوسهم فكيف الى غيرهم ولا يتيسر لك هذا الا بتوفيق الهى وجذب من جانبه ومتابعة حبيبه صلى الله عليه وسلّم في عموم أطواره وأخلاقه وجميع سننه وآثاره وبملازمة خدمة مرشد رشيد عاقل كامل منبه نبيه هاد مهتد يوقظك من منام غفلتك ويرشدك الى منتهى مقصدك وقبلتك. رب هب لي من لدنك حكمة وحكما والحقنى بالصالحين [سورة النمل] فاتحة سورة النمل لا يخفى على ارباب الهداية الكاملة من الراسخين في مقر العز والتمكين الواصلين الى سر الوحدة الذاتية بمقتضى اليقين الحقي متدرجين من مرتبتي العلم والعين إلهاما بعد ما سبقت لهم العناية الازلية والجذبة الإلهية والبشارة المتضمنة لانواع الرموز والإشارة من قبل الحق الحقيق بالحقية ان من اهتدى الى مرتبة التوحيد الذاتي وتمكن على تلك المرتبة مطمئنا راسخا بلا طريان تزلزل وتلوين لا بد ان يقيم ويديم صلاته وميله نحو الذات الاحدية مهذبا ظاهره وباطنه عن الميل والالتفات الى ما سواه من المزخرفات الفانية الشاغلة الملهية له عن الفناء فيه والبقاء ببقائه وايضا لا بد له ان يميت نفسه بالموت الإرادي عن مقتضيات أوصافه البشرية وقواه الناسوتية المبعدة عن التقرب بكنف اللاهوت وجوار حضرة الرحموت القيوم الذي لا ينام ولا يموت وبالجملة لا بدله الانخلاع عن خلعة التعيينات العدمية المقتضية للتعدد والكثرة مطلقا حتى يتصف بالطهارة الحقيقية والطيب المعنوي والسعادة السنية والسيادة السرمدية وبذلك خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بعد ما تيمن باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا على ما ظهر وبطن من الأشياء الرَّحْمنِ لعموم عباده بالرزق الأوفى الرَّحِيمِ لخواصهم بالمثوبة العظمى والدرجة العليا وبالترقى من ارض الطبيعة الى سموات الصفات والأسماء واللحوق بالملإ الأعلى والوصول الى سدرة المنتهى [الآيات] طس يا طالب السيادة السرمدية والسعادة السنية الازلية الابدية تِلْكَ الآيات المتلوة عليك تعظيما لشأنك وتتميما لبرهانك آياتُ الْقُرْآنِ اى بعض آيات القرآن المبين المبين لدلائل التوحيد وبينات الفرقان الفارق بين الحق والباطل من الاحكام وَكِتابٍ مُبِينٍ منتخب من لوح القضاء وحضرة العلم الإلهي المحيط بجميع ما لمع عليه برق تجلياته الحبية انما أنزلت إليك يا أكمل الرسل من عنده سبحانه لتكون هُدىً هاديا لك الى مقام التمكن من التوحيد الذاتي وَلتكون ايضا بُشْرى بأنواع السعادات ونيل اصناف الخيرات والبركات ورفع الدرجات وانواع المثوبات لِلْمُؤْمِنِينَ التابعين لك في شأنك ودينك ان اطمأن قلوبهم بالإيمان اى اليقين العلمي المستجلب لليقين العيني والحقي والمطمئنون المتمكنون الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ المكتوبة المفروضة لهم من قبل الحق في الأوقات المخصوصة ويؤدونها على الوجه الذي وصل إليهم من صاحب الشرع الشريف والدين الحنيف بلا تخفيف ولا تسويف ليتقربوا بها نحو الحق ويزداد يقينهم وتصديقهم بسببها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ المصفية لقلوبهم عن الميل الى ما سوى الحق من الزخرفة الفانية الدنية الدنيوية

[سورة النمل (27) : آية 4]

ويتمكنوا بسببها على إسقاط عموم الإضافات العائقة عن الوصول الى وحدة الذات وَبالجملة هُمْ في عموم شئونهم وحالاتهم بِالْآخِرَةِ المعدة لجزاء الأعمال وتنقيد الأفعال هُمْ يُوقِنُونَ علما وعينا لان ارباب الخبرة والبصيرة المنكشفين بتعاقب النشأتين يرون في النشأة الاولى ما سيحلقهم في الاخرى لذلك يترددون في الاولى للأخرى ويزرعون فيها ما يحصدون فيها. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ولا يصدقون بِالْآخِرَةِ عنادا ومكابرة قد زَيَّنَّا وحسنا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ القبيحة الفاسدة الدنيوية وامهلناهم عليها زمانا ليستحقوا أشد العذاب وأسوأ العقاب فَهُمْ بواسطة امهالنا إياهم في سكرتهم وغفلتهم يَعْمَهُونَ يترددون ويتحيرون بطرين بما لهم من التنعم والترفه وبالجملة أُوْلئِكَ البعداء عن عز الحضور الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ في النشأة الاولى إذ هم مترددون في اودية الإمكان بأنواع الخيبة والحرمان مقيدون بأصناف الأماني والآمال الطوال في بيداء الوهم والخيال وصحراء الحيرة والضلال لا نجاة لهم منها ولا ثبات لهم فيها وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي والخذلان السرمدي لا يرجى لهم نيل مثوبة ورفع درجة وتخفيف عذاب وقبول شفاعة ولا خسران أعظم من ذلك لذلك قد أصاب يوم بدر ما أصاب ويصيب لهم في الآخرة بأضعافه وآلافه قال سبحانه مخاطبا لحبيبه تفضلا عليه وامتنانا له في انزاله القرآن اليه ووحيه عليه وَإِنَّكَ يا أكمل الرسل لنجابة طينتك وطهارة فطنتك وفطرتك لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ ويؤتى بك وينزل إليك مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ مبالغ في الإتقان والاحكام عَلِيمٍ باستعدادات الأنام وقابلياتهم التي بها تتفاوت طبقاتهم فضلا وكرامة. ثم أخذ سبحانه بتعداد بعض ارباب الطبقات والكرامات حثا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم الى التوجه نحوه والتحنن اليه والمواظبة على شكر نعمه فبدأ بموسى صلوات الرحمن عليه وسلامه فقال مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ أخوك مُوسى الكليم صلوات الرحمن عليه وسلامه لِأَهْلِهِ وزوجته ابنة شعيب عليه السلام حين سار معها من مدين الرشد الى مصر وهي حاملة والليلة شاتية مظلمة وهم ضالون عن الطريق فجاءها الطلق واضطر موسى في أمرها فرأى شعلة نار من بعيد فقال لأهله اثبتوا مكانكم إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ هذه الساعة مِنْها بِخَبَرٍ عن الطريق يخبر به من عندها إذ النار قلما تخلو عن ناس موقدين لها أَوْ آتِيكُمْ ان لم أجد عندها أحدا بِشِهابٍ اى جمر ذي قَبَسٍ اى مقتبس مشتعل منها لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ وتستدفئون من البرد وتستضيئون منها للطريق فاستقروا في مكانهم فذهب موسى نحوها فَلَمَّا جاءَها اى النار ووصل عندها نُودِيَ من وراء سرادقات العز والجلال تكريما لموسى وتعظيما له وتنبيها عليه من ان مرجع جميع مقاصدك وحوائجك هو الحق فاطلبه وصل اليه حتى تجد عنده عموم مقاصدك أَنْ بُورِكَ اى الشأن انه قد اكثر عليك الخير والبركات يا موسى مَنْ فِي النَّارِ اى من ظهر فيها ولاح عليها وَمَنْ ظهر حَوْلَها اى أطرافها وحواليها إذ هو سبحانه محيط بعموم الأماكن والجهات ظاهر منها متجل عليها غير متمكن فيها وَبعد ما تحققت بشهود الحق من جميع الأماكن ومن عموم الأشياء نزه ذاته عن الحلول فيها والاتحاد بها فقل سُبْحانَ اللَّهِ المنزه عن الأماكن كلها المتجلى في جميعها رَبِّ الْعالَمِينَ يربيها بدوام التجلي الحبى عليها وبامتداد الاظلال والعكوس الفائضة منه سبحانه عليها المظهرة لها المربية إياها

[سورة النمل (27) : آية 9]

ثم لما سمع هذا الصدا وقلق وارتعد واستوحش عن هذا النداء وقرب الى ان صار مغشيا عليه من شدة هوله ودهشته وكمال ولهه وحيرته نودي ثانيا ايضا باسمه استيناسا له وازالة لاستيحاشه يا مُوسى إِنَّهُ اى ان من ناداك في النار وظهر عليك على صورتها أَنَا اللَّهُ المحيط بعموم المظاهر والأكوان احاطة البحر لجميع الأمواج والازباد والشمس لعوم الأضواء والاظلال والروح لجميع الأعضاء والاجزاء من البدن الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر لقهر مطلق السوى والأغيار الْحَكِيمُ المتقن في جميع الأفعال والآثار الصادرة الظاهرة منى على أبدع ارتباط وابلغ انتظام ونظام وَبعد ما أزال الله سبحانه وحشته واذهب ولهه ودهشته بالمؤانسة والمواساة معه قال له سبحانه آمرا إياه أَلْقِ عَصاكَ التي قد أخذتها بيدك يا موسى على الأرض لترى من عجائب صنعتنا وغرائب حكمتنا ما ترى حتى تتنبه أنت من تبدل صورتها وسيرتها الى سرسريان وحدتنا الذاتية السارية في المظاهر فألقاها على الفور فإذا هي حية تسعى فَلَمَّا رَآها اى موسى العصا تَهْتَزُّ وتتحرك كَأَنَّها جَانٌّ اى حية صغيرة سريعة السير وَلَّى وانصرف موسى منها مُدْبِراً خائفا منها قلقا حائرا من أمرها وَلَمْ يُعَقِّبْ موسى نحوها ولم يرجع إليها ليأخذها هيبة وخوفا وقلنا له مناديا إياه ليقبل عصاه يا مُوسى لا تَخَفْ من عصاك ستعود على سيرتها الاصلية إِنِّي من كمال مرحمتى واشفاقى على خلص عبادي لا يَخافُ لَدَيَّ احد من أوليائي سيما الْمُرْسَلُونَ منهم المختارون للرسالة والتشريع العام ألا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون إِلَّا مَنْ ظَلَمَ من المرسلين بارتكاب ذنب صدر منه لا عن عمد ثُمَّ بَدَّلَ وتدارك ذنبه حُسْناً بالتوبة والندامة بَعْدَ سُوءٍ صدر عنه وهو يخاف عنى بسبب ذنبه فَإِنِّي ايضا غَفُورٌ له ولأمثاله اغفر لهم واعف عن زلاتهم رَحِيمٌ ارحمهم واقبل توبتهم بعد ما صدرت عن خلوص الطوية ومحض الندم وَبعد ما قد رأى موسى من عجائب العصا ما رأى قال له سبحانه ثانيا آمرا أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ يا موسى تَخْرُجْ على الفور منه اى أدخلها فأخرجها ترها بَيْضاءَ محيرة للعقول والأبصار مع ان بياضها مِنْ غَيْرِ سُوءٍ مرض عرض عليها برص وغيره ثم قيل له من قبل الحق هي اى اليد البيضاء آية ومعجزة جديدة دالة على نبوتك ورسالتك موهوبة لك من لدنا معدودة محسوبة فِي تِسْعِ آياتٍ عظام قد وهب لك وهي العصاء واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس والجدب ثم بعد ما شهدت من يدك وعصاك ما شهدت يكفيك شهادتهما على صدقك في دعواك الرسالة مع ان لك معجزات كثيرة سواهما اذهب أنت مرسلا من عندي إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وبلغهم إنذاري وتخويفى ونزول عذابي إليهم من سوء صنيعهم إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن مقتضى الحدود الموضوعة فيهم من عندنا وبوضعنا فذهب موسى باذن الله ووحيه الى فرعون واظهر الدعوة عنده واقام البينة عليها فَلَمَّا جاءَتْهُمْ اى ظهرت على فرعون وقومه آياتُنا الدالة على كمال قدرتنا وحكمتنا وصدق من قد أرسلنا إليهم لإرشادهم وتكميلهم مع كونها آية مُبْصِرَةً موضحة مثبتة مبينة لهم صدق موسى في دعوى الرسالة ظاهرة لائحة في نفسها انها معجزة ما هي من جنس السحر والشعبذة قالُوا من فرط عتوهم وعنادهم ومن شدة بطرهم وسكرتهم هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر انه مجعول بمكر وحيل كثيرة وَمن كمال استنكافهم واستكبارهم قد جَحَدُوا بِها وأنكروا لها ولم يلتفتوا إليها ظاهرا وَالحال

[سورة النمل (27) : آية 15]

انها قد اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ انها معجزة خارقة للعادة قد صدرت عن امر الهى لا عن مكر وخديعة فظلموا أنفسهم بتكذيب ما استقر في أنفسهم صدقه وكونه معجزة ظُلْماً صريحا وَعُلُوًّا على الحق وميلا منهم نحو الباطل حسدا وعنادا واستكبروا على موسى وأنكروا جميع ما جاء به من عند ربه علوا وعتوا فَانْظُرْ ايها المعتبر الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ المستكبرين الذين يكذبون ما يعلمون يقينا حقيته في نفوسهم وينسبونه بأفواههم الى السحر والشعبذة عنادا ومكابرة فانظر مآل أمرهم وعاقبته كيف اغرقوا واستوصلوا في بحر الغفلة والغرور بحيث لم يبق منهم احد يخلفهم ويحيى اسمهم ورسمهم وَمن سعة جودنا وعموم فيضنا وفضلنا لَقَدْ آتَيْنا وأعطينا داوُدَ وَابنه سُلَيْمانَ عِلْماً متعلقا بالحكم والاحكام وعموم تدبيرات الأنام وضبط أحوالهم وأوضاعهم المتداولة بينهم من الإنصاف والانتصاف واقامة الحدود وسد الثغور وغيرها من الأمور المتعلقة بضبط المملكة وَقالا بعد ما رأيا ترادف نعم الله عليهما وتواليها لهما حين أرادا ان يشكر الله ويؤديا حقوق نعمه الجليلة ومنحه الفاضلة الجزيلة الْحَمْدُ والمنة والثناء التام الناشئ عن عموم الألسنة وعن جميع الجوارح والآلات الممنونة من نعمه المغمورة بموائد لطفه وكرمه ثابت لِلَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستحق لعموم المحامد والاثنية الصادرة من ذرائر الأكوان طوعا المفضل المكرم الَّذِي قد فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ له الموحدين بذاته المصدقين لأنبيائه ورسله وكتبه وبالحكمة المتقنة المتعلقة بمرتبتى الناسوت واللاهوت الفائضة علينا الموهوبة إيانا من حضرة الرحموت ومن الحي الذي لا يموت وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ يعنى بعد ما انقرض داود استخلف عنه ابنه سليمان وورث منه نبوته وحكمته وحكومته وقد سخر له عموم ما سخر لداود مع زيادات قد خلا عنها أبوه وهو تسخير الجن والريح ومنطق الطير فإنها ما تيسر لأبيه وَبعد ما تمكن سليمان على مقر الحكومة والنبوة قالَ يوما للملأ الجالسين حوله تنويها وتشهيرا لنعم الله على نفسه يا أَيُّهَا النَّاسُ قد عُلِّمْنا بلسان الوحى وترجمانه مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا من فضل الله علينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ اى كثير من الأشياء لم يؤت مثله أحدا من العالمين إِنَّ هذا الإعطاء والتخصيص والتفضل من الله العزيز العليم لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ الظاهر اللائح فضله على كل احد والملك العظيم الذي لم يؤت أحدا من الأنبياء الماضين وَاذكر يا أكمل الرسل يوم حُشِرَ وجمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ وقد كان معسكره مسيرة مائة فرسخ خمسة وعشرون للانس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون للوحش تمشى كل طائفة منهم من بنى نوعهم صافين مستوين وان تسابق بعضهم على بعض فَهُمْ حينئذ يُوزَعُونَ ويحبسون حتى يتلاحقوا ويتساوى صفوفهم وكان سليمان صلى الله عليه وسلم يأمر الريح فترفعه فوق رؤسهم مشرفا عليهم فتسير معه رخاء من كمال فضل الله عليه انه ما تكلم احد منهم بكلام الا وقد حملته الريح والقته في سمعه فبينما هو يسير مع عسكره هكذا قد رآه وجنده حراث فقال مستغربا متعجبا والله لقد اوتى آل داود ملكا عظيما فسمع سليمان عليه السلام قوله ومشى نحوه فقال له انما مشيت إليك لأوصيك ان لا تتمنى ما لا تقدر عليه وليس في وسعك تدبيره ثم قال والله لتسبيحة واحدة يتقبلها الله خير مما اوتى آل داود وقد كان سليمان صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام مع جنوده على الوجه المذكور حَتَّى إِذا أَتَوْا ودخلوا عَلى وادِ النَّمْلِ هو واد في الشام كثير النمل ولذلك سمى به قالَتْ نَمْلَةٌ

[سورة النمل (27) : آية 19]

بعد ما رأت سواد العسكر وأشعرت بعبورهم على الوادي منادية لاخوانها صائحة عليهم وصارخة يا أَيُّهَا النَّمْلُ الضعيف النحيف ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ مسرعين محترزين ولا تقفوا في الصحراء والبراء حتى لا يَحْطِمَنَّكُمْ ولا يطأنكم سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ بحوافر خيولهم وَهُمْ وان كانوا من ارباب البر والتقوى محترزين عن أمثالكم هذا الظلم الصريح الا انهم لا يَشْعُرُونَ بكم لصغركم وحقارتكم فيطئونكم بلا شعور وادراك وبعد ما سمع سليمان من النملة ما سمع فَتَبَسَّمَ تبسما ظاهرا الى ان قد صار ضاحِكاً متعجبا مِنْ قَوْلِها المشتمل على انواع التدبيرات والخبرات من حسن المعاشرة مع الجيران وآداب المصاحبة مع الاخوان والتحذير عن مظان المهالك والمتالف قبل الوقوع فيها وغير ذلك وَبعد ما اطلع سليمان على قولها وغرضها وتوجه نحو الحق عادا على نفسه جلائل نعمه تعالى وآلائه قالَ حينئذ مناجيا اليه سبحانه رَبِّ يا من رباني بأنواع الخيرات والكرامات التي ما أعطيتها أحدا من خلقك أَوْزِعْنِي والهمنى ويسر على أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ ووفقني على ان أؤدي حقوقها على الوجه الذي ينبغي ويليق بشأنك وشأنها ولا يتأتى منى هذا الا بتوفيقك وتيسيرك يا رب وفقني على إتمامها وتكميلها حسب فضلك وجودك وَيسر على ايضا أَنْ أَعْمَلَ في مدة حياتي عملا صالِحاً مقبولا عندك مرضيا لك تَرْضاهُ وَبعد ما توفيتني أَدْخِلْنِي في جنتك بِرَحْمَتِكَ وسعة فضلك وجودك فِي زمرة عِبادِكَ الصَّالِحِينَ المرضيين عندك المقبولين دونك وعدني من عدادهم واحشرني في حوزتهم ومن زمرتهم انك على ما تشاء قدير وبرجاء المؤملين جدير. ولما صار سليمان صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وقد كان الهدهد دائما رائده وبريد عسكره ودليلهم يدلهم على الماء عند الاحتياج إذ هو عالم بالمياه الى حيث يعرفه تحت الأرض ويعين موضعه وكان يأمر سليمان عفاريت الجن ليحفروها ويخرجوا منها الماء لدى الحاجة فاحتاج سليمان صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام الى الماء ولم يكن الهدهد حاضرا عنده فغضب عليه وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ وتعرفها مفصلا حتى يجده بينهم فلم يجد فغضب فَقالَ مغاضبا ما لِيَ اى اى شيء عرض على ولحق بي حتى صرت كذلك لا أَرَى الْهُدْهُدَ بين الطيور اهو حاضر عندي قد ستر على فلم أره أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ المتخلفين عن خدمتي ورفاقتي فو الله لو وجدته لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً بحيث آمر بنتف ريشه وحبسه في حر الشمس في محبس مضيق مع ضده أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ جدا ليعتبر منه سائر الخدمة أَوْ لَيَأْتِيَنِّي وليقيمن على لإثبات عذره بِسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة واضحة ظاهرة الدلالة مقبولة من ذوى الاعذار الصادقة عند اولى البصائر والأبصار وذوى القدر والاعتبار فَمَكَثَ الهدهد بعد تفقد سليمان وتهديده زمانا غَيْرَ بَعِيدٍ مديد متطاول ثم حضر عنده بلا تراخ طويل فَقالَ معتذرا لغيبته ومكثه انما غبت عن خدمة السلطان لأني قد أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أنت يا سيدي يعنى قد تعلق ادراكى بمعلوم لم يتعلق به قبل لا علمي ولا علمك ولا علم احد من جنودك وَبعد وقوفي واطلاعى عليه قد جِئْتُكَ تلك الساعة بالعجلة مِنْ بلاد قبيلة سَبَإٍ من نواحي المغرب وبمن ملك عليها بِنَبَإٍ وخبر يَقِينٍ مطابق للواقع قد حققته وتحققت به وجئتك لشرحه قال سليمان عليه السلام مبتهجا مزيلا لغيظه وغضبه عنه مستكشفا عن خبره وما الخبر والنبأ ايها الصديق قال الهدهد إِنِّي بعد ما قد وصلت الى ديارهم بأقصر مدة قد وَجَدْتُ وصادفت امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ اسمها بلقيس بنت شراحيل

[سورة النمل (27) : آية 24]

من نسل يعرب بن قحطان وأمها كانت جنية لأنه ما كان يرى التزوج من الانس ولم يكن له ولد غيرها لذلك قد ورثت منه الملك فملكت وَمن كمال عظمتها وشوكتها ورتبتها ووفور زينتها قد أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ نفائسه وعجائبه ما لا يعد ولا يحصى وَلَها من جملة البدائع عَرْشٌ عَظِيمٌ من جميع عروش ارباب الولاية والملك قيل كان ثمانين ذراعا في ثمانين وارتفاعه ثلاثين او ثمانين ايضا وهو متخذ من الذهب والفضة مكلل بالدر والزمرد والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقد كانت قوائمه من ياقوت احمر واخضر وزمرد وعليه سبعة بيوتات على كل بيت باب مغلق وبالجملة وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ ويعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ المستحق للتذلل والعبادة وَمن غاية جهلهم بالله وغفلتهم عن كمال أوصافه العظمى وأسمائه الحسنى قد زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ هذه وعبادتهم هكذا فَصَدَّهُمْ الشيطان وصرفهم بتزيينه وتغريره عَنِ السَّبِيلِ السوى الموصل الى توحيد الحق الحقيق بالعبودية والتذلل فَهُمْ بسبب تضليل الشيطان وتغريره إياهم ورسوخهم على ما قد زينه لهم لا يَهْتَدُونَ الى التوحيد حسب فطرتهم الاصلية وجبلتهم الحقيقة فلا بد لهم من مرشد كامل وهاد مشفق يهديهم الى سواء السبيل مع انهم من زمرة العقلاء المميزين بين الهداية والضلال لأنهم لانهماكهم في الغفلة والغرور قد زين لهم الشيطان عبادة الشمس التي من جملة مظاهر الحق مقتصرين العبادة عليها لقصور نظرهم ولو نبههم منبه نبيه على توحيد الله واستقلاله سبحانه في عموم مظاهره لعل الله يوقظهم من منام الغفلة بان قال لهم مناديا إياهم أَلَّا يَسْجُدُوا يعنى تنبهوا ايها الفاقدون قبلة سجودكم ووجهة معبودكم وانصرفوا عنها ايها القوم الضالون المنصرفون عن المسجود الحقيقي والمعبود المعنوي بل اسجدوا وتذللوا لِلَّهِ المتجلى في الأكوان المنزه عن الحلول في الجهات والمكان المقدس عن تتابع الساعات عليه وتعاقب الآنات والأزمان إياه بل له شأن لا يشغله شأن ولا يجرى عليه زمان ومكان العليم القدير الَّذِي يُخْرِجُ ويظهر بمقتضى علمه المحيط وقدرته الكاملة الشاملة الْخَبْءَ اى الشيء الخفى المطوى المكنون الكائن فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى سموات الأسماء الإلهية وأوصافه الذاتية وَايضا يَعْلَمُ سبحانه بعلمه الحضوري عموم ما تُخْفُونَ تكتمون وتسترون أنتم في سرائركم وضمائركم بل بالخفيات التي لا اطلاع لكم عليها أصلا بمقتضى قابلياتكم واستعداداتكم وَكذا عموم ما تُعْلِنُونَ أنتم ايضا من أفعالكم وأحوالكم وكيف لا يظهر المكنون من الأمور ولا يعلم خفيات الصدور اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ المحيط بجميع ما قد لمع عليه بروق تجلياته المتشعشعة المتجددة المترتبة على أسمائه الذاتية الكاملة المستدعية للظهور والبروز عن أوصافه الفعلية والمقتضية لإظهار ما قد كمن من الكمالات المندمجة في الذات الاحدية الى فضاء الوجود والشهود وبعد ما سمع سليمان منه ما سمع قالَ ممهلا عليه مستأخرا سَنَنْظُرُ ونصبر الى ان يظهر لدينا أَصَدَقْتَ فيما أخبرت به أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ المزورين قد زورت هذا للتخلص من العذاب الأليم. ولما صح الخبر ووضح صدقه عند سليمان صلوات الرحمن عليه وسلامه أراد ان يرسل الهدهد رسولا الى بلقيس فأمر الكتاب ان يكتبوا كتابا هكذا بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من اتبع الهدى اما بعد فلا تعلوا على وأتونى مسلمين ثم طبعه بالمسك وختمه بخاتمه ثم قال للهدهد اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ بحيث لم يتفطنوا بك وبأمرك ثُمَّ تَوَلَّ وانصرف

[سورة النمل (27) : آية 29]

عَنْهُمْ وكن متواريا في قربهم فَانْظُرْ وتأمل ماذا يَرْجِعُونَ وما يرجعون وما يراجعون ويتراجعون بعضهم بعضا في المشاورات والمحاورات فأخذ الهدهد الكتاب وأتى بلقيس وهي نائمة في قصرها فألقاه على نحرها فلما استيقظت رأت الكتاب في نحرها فارتعدت وخضعت خوفا ثم جلست مع اشراف قومها وتشاورت معهم في شأن الكتاب حيث قالَتْ منادية لهم مستفتية منهم يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي قد أُلْقِيَ اليوم إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ وصفته بالكرامة إذ هي نائمة في قصرها والأبواب مغلقة عليها فرأت في صدرها هذا بلا إحضار محضر وبعد ما سمعوا منها ما سمعوا كأنهم قالوا ممن وما مضمونه قالت إِنَّهُ اى الكتاب مرسل مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ اى مضمونه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا اى عليكم ان لا تترفعوا ولا تتكبروا عَلَيَّ ولا تبالوا ببسطتكم وبشوكتكم وبالجملة لا يليق بكم وبشأنكم الا الإتيان على وجه الخضوع بلا كبر وخيلاء وَبعد ما انحصر أمركم على الإتيان أْتُونِي مُسْلِمِينَ منقادين لأمر الله مطيعين لحكمه وحكم رسوله بلا ممانعة وإباء واظهار مقاتلة ومقابلة ثم قرأت مضمون الكتاب عليهم وشرحت لهم فحواه قالَتْ خائفة مضطربة منادية لهم ثانيا تأكيدا للتأمل والتدبر في هذا الأمر الهائل والشأن المهول يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي وأجيبوا على وأشيروا الى فِي أَمْرِي هذا واختاروا ما هو الأحوط واستصوبوا طريقا ورأيا اختر ذلك قطعا وآمر بها حكما وامض بها جزما إذ ما كُنْتُ قاطِعَةً جازمة أَمْراً امضى عليه واجزم به حَتَّى تَشْهَدُونِ له وتستصوبوه بل الأمر مفوض إليكم فاستصوبوا ما قد تقرر رأيكم عليه حتى امض على مقتضاه وبعد ما فوضت أمرها إليهم استعطافا واستظهارا قالُوا اى الأشراف مستعلين مستكبرين حسب خيلاء اصحاب القدرة والقوة وارباب الجاه والثروة نَحْنُ قوم أُولُوا قُوَّةٍ وقدرة تامة عددا وعددا وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ قد انتشر صيتنا في الآفاق بالشدة والشجاعة وبأنواع الجرأة والاستيلاء والصولة على الأعداء والغلبة عليهم فنحن هكذا ولا خوف لنا لا منهم ولا من غيرهم وَالْأَمْرُ بعد ذلك مفوض إِلَيْكِ ونحن عبيدك فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ من القتال او الصلح نعمل على وفق ما امرتنا به قالَتْ في جوابهم بعد ما تأملت وتعمقت في أمرها ورأيها نعم ان لنا كثرة وقوة وشوكة وشجاعة وصولة منتشرا في اقطار الأرض بأسها وصيتها الا ان الحرب خداع والقتال سجال لا تدرى عاقبتها ومآلها ولا اعتماد على الكثرة والجرأة بعد ما قد مضى القضاء ونفذ على الهزيمة ومن المقدمات المسلمة إِنَّ الْمُلُوكَ وارباب القدرة والاستيلاء إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً عنوة وقهرا أَفْسَدُوها وغيروا أوضاعها وبدلوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بالغلبة والاستيلاء وَبالجملة كَذلِكَ يَفْعَلُونَ هؤلاء لو دخلوا على بلادنا هذه وَبالجملة ما ينبغي ولا يليق بنا اليوم ولا يصلح بحالنا لا مقارعة باب المقاتلة بإمضاء السيوف ولا المصالحة ايضا بإعطاء الألوف بل إِنِّي مُرْسِلَةٌ رسلا إِلَيْهِمْ أولا مصحوبة بِهَدِيَّةٍ كثيرة لائقة بعظم شأننا وشأنهم لاختبرهم فَناظِرَةٌ انا منتظرة بعد ذلك بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ اى بأى شيء يعودون من عندهم بعد تجسسهم عن أحوالهم وأطوارهم ومعاشرتهم مع رسلنا حتى اعمل على مقتضى ما يرجعون هذا ما هو الا من كمال عقلها ورزانة رأيها وتدبيرها المملكة وصيانتها آداب السلطنة والامارة وضبط المملكة. روى انها قد أرسلت منذر بن عمرو في وفد وأرسلت معه غلمانا على زي الجواري وجواري على زي الغلمان وحقة فيها

[سورة النمل (27) : آية 36]

درة عذراء لا ثقب لها وجزعة معوجة الثقب وقالت ان كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الجزعة خيطا وأرسلت ايضا أموالا عظاما من لبنات الذهب والفضة والعود والعنبر والكافور والمسك ومن أجناس الجواهر والنفائس من كل شيء فلما وصلوا معسكره قد رأوا عظمه ما شهدوا مثلها قط ولا سمعوا ايضا من احد فَلَمَّا جاءَ الرسل سُلَيْمانَ وحضروا عنده على الوجه المعروف نظر نحوهم بوجه حسن طلق وتكلم معهم لينا حزنا مستخبرا عن احوال ملكتهم ومملكتهم ثم قالَ ما أمركم وشأنكم فأعطوا كتاب بلقيس فنظر فيه فإذا هي قد فصلت فيه جميع ممتحناتها قال سليمان عليه السلام اين الحقة فجئ بها فقال ان فيها درة ثمينة غير مثقوبة وجزعة معوجة الثقب فأمر سليما الارضة فأخذت شعرة فدخلت في الدرة حتى خرجت من الجانب الآخر وامر دودة اخرى حتى دخلت في الجزعة المعوجة الثقب بخيط وخرجت من الجانب الآخر وميز ايضا بين الجواري والغلمان حيث أمرهم بغسل الوجه واليد فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها وتصبه في الاخرى ثم تضربه وجهها والغلام كما يأخذه يضرب به الوجه ثم أتوا ببقاء الهدايا المرسلة فأبى سليمان عليه السلام وامتنع من قبولها ورد كله إليهم مهددا عليهم حيث قال أَتُمِدُّونَنِ وتزيدونني بِمالٍ يميل إليها أبناء الدنيا الدنية المحرومون عن اللذات الاخروية فَما آتانِيَ اللَّهُ المنعم المفضل على من الأمور الاخروية واللذات اللدنية من النبوة والرسالة وتسخير الثقلين والرياح والطيور والوحوش وجميع من في الجو وعلى وجه الأرض خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية فما لنا ميل والتفات إليها بَلْ أَنْتُمْ وأمثالكم من أبناء الدنيا بِهَدِيَّتِكُمْ هذه تَفْرَحُونَ تميلون وتسرون بها لفخركم بأمثال هذه الزخارف لقصور نظركم عليها وغفلتكم عن الأمور الاخروية ارْجِعْ ايها الرسول إِلَيْهِمْ اى الى ملكتكم ومن معها من الجنود وقل لهم ما مطلوبي منهم ومن أمثالهم الا الايمان بالله المتوحد بالالوهية والربوبية والانقياد له والإطاعة لأحكامه وبالجملة قد لزم عليهم الإتيان إلينا مؤمنين مسلمين موحدين منقادين والا فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ من الانس والجن واصناف الوحوش والطيور وانواع السباع والبهائم والهوام والحشرات بالغة من الكثرة الى حد لا قِبَلَ لَهُمْ بِها ولا يسع لهم مقابلتها من بعيد فكيف ممانعتها ومقاتلتها وَبعد ما لم يسع لهم المقابلة والمقاتلة لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها اى من بلادهم المألوفة أَذِلَّةً ضعفاء ذليلين وَهُمْ حينئذ صاغِرُونَ مهانون أسراء بأيدي هؤلاء العفاريت. ثم لما رجع الرسل مع ما اهدت من الهدايا على وجهها وقد حل جميع ممتحناتها ومشاكلاتها قالت بلقيس قد علم انه ليس بملك بل هو نبي من الأنبياء مؤيد بأمر سماوي وما لنا طاقة مقاومتها ومقابلتها معه وما لنا سوى المصالحة والإطاعة بامره والحضور عنده ثم أرسلت بلقيس اليه صلوات الرحمن عليه رسولا ثانيا قائلا منها حاكيا عنها انى قادمة الى شرف خدمتكم وحضوركم عن قريب وأخذت بتهيئة الأسباب حتى تخرج وجعلت سريرها داخل سبعة أبواب في قصرها وقد كان قصرها داخل سبعة قصور وأغلقت كل الأبواب ووكلت عليها حراسا متعددة وارتحلت نحو سليمان عليه السلام فلما دنت اليه رأى سليمان حين كان على سريره جما غفيرا من السواد مسيرة فرسخ فسأل عنهم فقالوا هي بلقيس قد أتت بجنودها مطيعين مسلمين قالَ سليمان عليه السلام لمن حوله من الجن والانس يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي ويحضروا عندي مُسْلِمِينَ مؤمنين إذ بعد ما قد أتوا لا يجوز إتيان عرشها الا باذنها إذ لا يصح

[سورة النمل (27) : آية 39]

نقل مال المسلم الا باذنه قالَ عِفْرِيتٌ خبيث مارد مِنَ الْجِنِّ اسمه ذكوان او صخر أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ اى مجلسك الذي تجلس عليه أنت للحكومة وكان من دأبه الجلوس الى وقت الزوال وَبالجملة أتيك به قبل إتيانها وإِنِّي عَلَيْهِ اى على حمل العرش وإتيانه لَقَوِيٌّ احمله بلا تزلزل أركانه وقوائمه أَمِينٌ لا أتصرف شيأ من زينته وجواهره فاستبطأ عليه السلام إتيانه وطلب السرع من ذلك قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ فائض عليه مِنَ الْكِتابِ اى من حضرة العلم المحيط الإلهي المعبر عنه بالقضاء واللوح المحفوظ وعالم الأسماء والأعيان الثابتة يقدر بذلك العلم على إحضار شيء واعدامه دفعة وهو كان وزيره آصف بن برخيا قد انكشف عليه خواص الأسماء الإلهية ففعل بها ما فعل أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ اى قبل ان تعيد وتطبق اجفانك حين نظرك والتفاتك وهذا كناية عن كمال السرعة والعجلة فاتى به طرفة عين فَلَمَّا رَآهُ اى سليمان العرش مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ في طرفة عين قبل إتيان بلقيس ساعة قالَ سليمان عليه السلام متوجها الى ربه مذكرا نعمه الفائضة على نفسه مجددا الشكر إياها هذا اى حضور هذا العرش العظيم الثقيل في غاية الثقل والعظمة في آن واحد مع انه قد كان في مسافة بعيدة مِنْ فَضْلِ رَبِّي على ومن عداد جلائل العامة وافضاله الى انما تفضل سبحانه على بهذا لِيَبْلُوَنِي ويختبرني أَأَشْكُرُ وأخذ بمواظبة شكر نعمه المتواترة على بحيث أعجز عن أداء شكره واعترف بالعجز والقصور عن احاطة نعمه فكيف عن أداء حقوقها أَمْ أَكْفُرُ لنعمه ولا أقيم بمقام الشكر عليها وان كانت الاقامة والتوفيق عليها ايضا من جملة انعامه وافضاله وإكرامه وَلا عائدة من شكرنا اليه سبحانه إذ هو منزه عنها بل مَنْ شَكَرَ على نعم الحق وصرفها على مقتضى ما جبلها الحق لأجله فَإِنَّما يَشْكُرُ الشاكر لِنَفْسِهِ ولازدياد نعمه بمزيد الشكر وَايضا مَنْ كَفَرَ فإنما يكفر لنفسه ولانتقاص نعمه لانتقاص شكره فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ في ذاته من عموم الفوائد والعوائد كَرِيمٌ جواد لا يعلل فعله بالأغراض وانعامه بالاعواض ثم لما دنت بلقيس مع من معها من اشراف قومها بالدخول على سليمان عليه السلام والعرش عنده قالَ سليمان لمن حوله نَكِّرُوا لَها عَرْشَها حين جلست وغيروا بعض أوضاعه وزينته نَنْظُرْ حينئذ أَتَهْتَدِي وتتعقل انه هو أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ لاستحالة ان يكون هذا هو عادة وانما قصد به عليه السلام اختبار عقلها ورشدها للايمان بالمغيبات والمستبعدات الخارقة للعادات فغير عرشها على الفور وقد بنى سليمان عليه السلام صرحا ممردا من قوارير ووضع سريره فيها وهي على الماء ومن غاية صفائها لا يتميز عن الماء وفي الماء حيوانات مائية المولد من الحوت والضفدع وغيرها فَلَمَّا جاءَتْ بلقيس وهو عليه السلام في ذلك الصرح على السرير قِيلَ لها أولا أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ بعد ما أمعنت نظرها نحو العرش كَأَنَّهُ هُوَ أتت حينئذ بكلمة التشبيه وقد تحقق عندها انه هو صيانة لنفسها عن الكذب وَبعد ما تفرست بلقيس منه عليه السلام القبول والتحسين إياها في قولها بادرت الى تصديق نبوته عليه السلام وقالت لا حاجة لنا الى اختبارك بأمثال هذه المعجزات والخوارق حتى نؤمن لك يا نبي الله إذ قد أُوتِينَا الْعِلْمَ المتعلق منا بصدقك وتصديق نبوتك مِنْ قَبْلِها اى قبل ظهور هذه المعجزة الخارقة للعادة بأمور قد اختبرناك بها وَبالجملة قد كُنَّا مُسْلِمِينَ منقادين لك مسلمين نبوتك وتأييدك من قبل الحق وَمن فضل الله إياها انه قد صَدَّها وصرفها بعد ما قد ظهر عندها نبوة سليمان عليه السلام عن ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعنى قد

[سورة النمل (27) : آية 44]

صرفها الحق عن عبادة الشمس إذ قد عبدتها تقليدا لاسلافها فلما وصلت الى التحقيق صرفها الحق عنها وعن عبادتها إِنَّها كانَتْ منتشئة مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ جاحدين بالله عابدين للشمس ثم لَ يعنى قال سليمان عليه السلام آمراهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فبادرت الى الاجابةلَمَّا رَأَتْهُ اى القصرسِبَتْهُ لُجَّةً فيها انواع الحيوانات المائية كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها اى رجليها لتدخل فيها فلما رأى سليمان عليه السلام ساقيها وقد اخبر ان ساقيها لا كساق الإنسان لذلك قد احتال ببناء قصر القوارير حتى يظهر عنده هل هو مطابق للواقع أم لا فلما رآها احسن ساقا وقدما لكن على ساقيها شعر صرف عليه السلام وجهه عنها مستغفرا ثم الَ لهانَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ اى بنيان مملس مصنوع نْ قَوارِيرَ زجاجات فأرخت زيلها فدخلت وبعد ما قد رأت اللجة أولا ظنت انه يستغرقها بها عمدا ثم لما ظهر خلافه الَتْ مستغفرة عن سوء ظنها إياه بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بهذا الظن الفاسد على نبي الله أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ الواحد الأحد المستقل بالالوهية والربوبيةبِّ الْعالَمِينَ لا رب له سواه ولا اله الا هو. وقد اختلف في تزوجها والأصح انه قد تزوجها ثم انقرضت هي وسليمان ومن عليها جميعا إذ كل يوم هو في شأن وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وَمن وفور جودنا وإحساننا لخلص عبادنا لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ حين لاح عليهم امارات العدوان وعلامات الفسوق والعصيان أَخاهُمْ صالِحاً قائلا لهم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ حق عبادته وتذللوا نحوه بأنواع الخشوع والخضوع ولا تتكبروا عليه بالخروج عن مقتضى أوامره وحدوده فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ اى بعد ما اظهر عليهم الدعوة فاجؤا على الافتراق حيث آمن له البعض وصدقه واعرض عنه البعض الآخر فكذبه فاختصما قالَ صالح للمعرضين المكذبين يا قَوْمِ شأنكم الحذر والاحتراز عن عذاب الله ونكاله وعن موجبات قهره واسباب غضبه وجلاله لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ الموجبة لانواع العذاب والقهر الإلهي قَبْلَ الْحَسَنَةِ المستجلبة لعموم الخيرات لَوْلا هلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ العفو الغفور لكفركم وذنبكم الذي قد صدر عنكم لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قبل حلول عذابه عليكم إذ حين حلول العذاب لا ينفع توبتكم واستغفاركم وبعد ما ظهر عليهم امارات قهر الله وغضبه إياهم حيث وقع الجدب بينهم قالُوا مغاضبين على صالح اطَّيَّرْنا اى قد تطيرنا وتشأمنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ من المصدقين لك المتدينين بدينك إذ قد تواترت علينا المصائب مذ ظهرتم أنتم بدينكم هذا بيننا وقد وقع الوقائع الهائلة بشؤمكم وشؤم دينكم وبعد ما قد سمع صالح منهم ما سمع ايس عن ايمانهم وصلاحهم حيث قالَ في جوابهم طائِرُكُمْ اى اسباب خيراتكم وشروركم عِنْدَ اللَّهِ وفي لوح قضائه وحضرة علمه إذ قد كتب عليكم الخير والشر حسب ما صدر عنكم من الأعمال الصالحة والطالحة ولا معنى لتطيركم وتشاؤمكم بنا بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ تختبرون بتفاقم انواع المحن وبتلاطم امواج الفتن كي تستغفروا وتندموا عما أنتم عليه من الكفر والعصيان حتى لا تستأصلوا بنزول عذاب الله الموعود لاستئصالكم حتما وبعد ما سمعوا منه كلامه هذا قصدوا مقته وإهلاكه وَقد كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يعنى تسعة رجال اتفقوا بحيث صاروا رهطا واحدا وطائفة متفقة على قتله والرهط جمع لا واحد له يطلق على مادون العشرة وكان شأنهم مقصورا على الفساد والإفساد يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بأنواع الفسادات وَلا يُصْلِحُونَ أصلا في حال من الأحوال وبعد ما ظهر عليهم امارات العذاب الإلهي وتحقق عندهم

[سورة النمل (27) : آية 49]

نزوله قصدوا إهلاك صالح ومن معه قبل هلاكهم حيث قالُوا فيما بينهم تَقاسَمُوا بِاللَّهِ بان حلف كل منهم عند صاحبه لَنُبَيِّتَنَّهُ ولنهلكنه قبل إتمام العذاب علينا وَأَهْلَهُ ايضا ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ عند طلب ثأره مبالغين في الإنكار ما شَهِدْنا في مدة عمرنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ يعنى المكان الذي أهلك فيه صالح فكيف قتلنا إياه ونؤكد قولنا هذا بالقسم ايضا عند وليه ونقسم وَالله إِنَّا لَصادِقُونَ في قولنا هذا وَبالجملة ما لنا علم بإهلاكه ومهلكه ومهلكه وبالجملة قد مَكَرُوا واحتالوا لمقت نبينا مَكْراً بليغا وَقد مَكَرْنا ايضا لهلاكهم واستئصالهم مَكْراً ابلغ من مكرهم إذ قد أمرنا للملائكة حين يمّم أولئك الماكرون المفسدون لقتل نبينا صالح وأخذوا يطلبونه ليرجموه بالحجارة ان يصيحوا عليهم حين قصدهم واشتغالهم لرجمه فصاحوا حينئذ عليهم بالصيحة الهائلة وَهُمْ حالتئذ من شدة هولهم وفزعهم لا يَشْعُرُونَ لا الصائح ولا الصالح ولا الرماة ولا العداة الطغاة فهلكوا بالمرة بلا وصول الى مرامهم فَانْظُرْ ايها الناظر المعتبر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ راجعة واصلة إليهم لاحقة بهم وبالجملة أَنَّا من مقام قهرنا وجلالنا قد دَمَّرْناهُمْ وأهلكناهم اى التسعة المتقاسمين وَقَوْمَهُمْ ومن معهم أَجْمَعِينَ بحيث لم يبق منهم احد يخلفهم فَتِلْكَ الاطلال الخربة والرسوم المندرسة والدور المنكوسة بُيُوتُهُمْ ومساكنهم التي شيدوها وحصنوها مدة حياتهم بأنواع التشييدات والترصينات والتجصيصات انظر كيف صارت خاوِيَةً ساقطة جدرانها على سقوفها منعكسة منكوسة كل ذلك بِما ظَلَمُوا وبشؤم ما خرجوا عن مقتضى الحدود الإلهية عتوا واستكبارا إِنَّ فِي ذلِكَ المكر والإهلاك لَآيَةً دالة على كمال قدرتنا على انتقام من خرج عن ربقة الانقياد واطاعتنا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَبعد ما أهلكناهم صاغرين قد أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيدنا وصدقوا رسلنا سالمين غانمين من أمتعتهم وأموالهم وَهم من كمال إخلاصهم في الايمان وخشيتهم عن ما له الظلم والعدوان قد كانُوا يَتَّقُونَ ويحذرون من قهرنا وغضبنا ولا يسيئون الأدب معنا ومع رسلنا وَمن مقتضيات حكمتنا المتقنة ايضا قد أرسلنا لُوطاً الى قوم قد خرجوا عن مقتضى حدودنا تاركين طريق حكمة التناسل والتوالد وإبقاء النوع مبدلين لها الى ما هو مذموم عقلا وشرعا وعرفا وعادة ومروءة وطبعا وفطنة وفهما اذكر يا أكمل الرسل إِذْ قالَ لوط عليه السلام لِقَوْمِهِ مستفهما منهم على سبيل الإنكار والتوبيخ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ والفعلة القبيحة الشنيعة وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ وتشاهدون قبحها وشنعتها وقت ما فعلتم وأتيتم أَإِنَّكُمْ ايها المسرفون المستعبدون العابدون للشهوة مثل الحمار لَتَأْتُونَ الرِّجالَ الذين هم أمثالكم في الرجولية شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ مع ان الحكمة الإلهية تقتضي إتيانهن للتناسل وبقاء النوع كسائر انواع الحيوانات وهؤلاء الحيوانات مع جهلهم لا يخرجون عن مقتضى الحكمة وأنتم ايها الحمقى مع انكم مجبولون على العقل الفطري المميز بين الذمائم من الأخلاق والأطوار وحميدتها تخرجون عن مقتضاها بَلْ أَنْتُمْ بفعلتكم هذه قَوْمٌ تَجْهَلُونَ منسلخون عن مقتضى الإدراك المميز للإنسان عن سائر الحيوانات العجم إذ لا يتأتى منها أمثال هذه الا من الحمار الأرذل الأنزل انظروا ماذا شريككم في فعلتكم هذه ايها الحمقى المسرفون المفرطون فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ بعد ما سمعوا منه انواع التشنيعات والتقريعات إِلَّا أَنْ قالُوا من فرط انهماكهم في الغي والضلال ونهاية عمههم وسكرتهم في رق شهواتهم ولذاتهم البهيمية

[سورة النمل (27) : آية 57]

متشاورين بينهم أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ عن أفعالنا ويستنزهون منها ولا مناسبة بيننا وبينهم فلهم ان يخرجوا من بيننا حتى يتلوثوا بافعالنا انما قالوا هذا تهكما واستهزاء ثم لما استحقوا لحلول العذاب والإهلاك وحان نزول البوار عليهم فَأَنْجَيْناهُ اى أخرجنا لوطا من بينهم وَأمرنا له ان يخرج أَهْلَهُ ايضا عناية منا إياهم إِلَّا امْرَأَتَهُ المائلة عليهم الراضية بفعلتهم إذ هي منهم لذلك قَدَّرْناها في سابق قضائنا مِنَ الْغابِرِينَ الهالكين المصابين وَبعد ما أخرجنا لوطا واهله من بينهم قد أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً اى مطر هو مطر الحجارة المهلكة فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ مطرهم الذي قد امطروا به بحيث لم يبق منهم ومن مساكنهم ومواشيهم شيء أصلا. وبعد ما قص سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم قصص بعض ارباب الطبقات من الأنبياء والرسل المختص بأنواع الفضائل والكرامات الموهوبة من عنده سبحانه إياهم تفضلا عليهم وامتنانا امره سبحانه بان بادر الى تجديد الشكر والثناء عليه سبحانه بما أولاهم من النعم العظام واعطاهم من الفواضل الجسام إبقاء لحقوق المواخاة والاتحاد الحقيقي الواقع بين الأنبياء العظام والرسل الكرام بعد رفع الإضافات ونزع البسة التعينات الناسوتية والتشرف بلبس الخلعة اللاهوتية فقال سبحانه قُلِ يا أكمل الرسل بعد ما تلونا عليك بعض فضائل اخوانك تحميدا علينا من قبلهم وتسليما منا إياهم الْحَمْدُ والثناء الكامل اللائق الصادر من ألسنة عموم اهل النعم والانعام من الثقلين وغيرهم ثابت لِلَّهِ الواحد الأحد الحقيق بجميع المحامد والاثنية الصادرة عن ألسنة عموم من رش سبحانه عليهم رشحات بحر وجوده وامتد عليهم اظلال أسمائه وصفاته بمقتضى جوده وَسَلامٌ منه سبحانه ورحمة نازلة من لدنه على التواتر والتوالي عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى سبحانه واختارهم من بين البرايا لإرشاد التائهين في بيداء الغفلة والضلال وتكميل الناقصين المنحطين عن رتبة الخلافة والنيابة بميلهم الى فضلات الدنيا العائقة عن الوصول الى دار الخلافة التي هي التوحيد المسقط لتوهم الإضافات مطلقا قل يا أكمل الرسل بعد ما قد ظهر الحق عندك مستفهما مقرعا للمشركين المتخذين غير الله الها جهلا وعنادا آللَّهُ الواحد الأحد القادر المقتدر المدبر لمصالح عباده الموصل لهم بعد تصفية ظواهرهم وبواطنهم الى ما قد جبلوا لأجله من معرفة مبدئهم ومعادهم خَيْرٌ واحسن وانفع واولى وأليق لهم أَمَّا يُشْرِكُونَ له عنادا ومكابرة من الاظلال الهالكة في أنفسها المجبورة المستهلكة تحت قهر الله وقدرته الكاملة ثم قرع عليه سبحانه من انواع التقريعات والتوبيخات ما قرع تتميما لردعهم وتكميلا لزجرهم فقال أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ اى عالم الأسباب العادية العلوية وَالْأَرْضَ اى عالم الطبيعة السفلية القابلة لقبول فيضان آثار الفواعل العلوية وَمن أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ جانب السَّماءِ ماءً محييا لأموات الأراضي القابلة اليابسة بالطبع فَأَنْبَتْنا بِهِ اى بالماء بعد ما أنزلناه من جانب السماء حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ وبهاء ونضارة وصفاء ما كانَ اى ما صح وما أمكن لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها بل شجرة واحدة من جملة أشجارها لولا امداد الله وانباته إياها أَإِلهٌ اى أتدعون وتعبدون وتدعون الها آخر مَعَ اللَّهِ المدبر لمصالحكم بالاستقلال وبكمال الارادة والاختيار بَلْ هُمْ اى المتخذون غير الله الها قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ويصرفون عن الحق الصريح الذي هو التوحيد الى الباطل الزاهق الزائل الذي هو الشرك في ألوهيته واثبات الغير معه في الوجود وادعاء استحقاق العبادة إياه عنادا ومكابرة أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً اى مقرا تستقرون عليها وتعيشون فيها

[سورة النمل (27) : آية 62]

مع ان طبع الماء يقتضى الاحاطة بجميع جوانبها بحيث لا يبدو من كرة الأرض شيء خارجا عنه وَبعد ما ابدأ بعضها من الماء عناية منه سبحانه إياكم قد جَعَلَ خِلالَها اى اوساط الأرض البادية أَنْهاراً جارية تتميما لأمور معاشكم عليها وَايضا جَعَلَ لَها اى للأرض رَواسِيَ وجبالا شامخات وأودع فيها معادن الفلزات ومنابع المياه ومراتع الحيوانات تتميما وتكميلا لمصالحكم ومعايشكم وَايضا جَعَلَ سبحانه من كمال مرحمته ولطفه بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ العذب والمالح حاجِزاً مانعا حصينا لئلا يختلطا ولا يختل نظام معاشكم عليها أَإِلهٌ تدعون ايها الجاهلون مَعَ اللَّهِ المتوحد المتفرد في ذاته المستقل في تصرفاته الواقعة في مملكته بَلْ أَكْثَرُهُمْ لانهماكهم في الغفلة والجهل عن الله وعن حق قدره وقدر ألوهيته لا يَعْلَمُونَ شيأ من آداب عبوديته لذلك ينسبون اليه سبحانه ما لا يليق بشأنه جهلا ومكابرة أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ القلق الحائر في أموره بلا رشد منه الى مخرجه ومخلصه إِذا دَعاهُ وتضرع نحوه دعوة مؤمل صريع ومتمن فجيع سواه سبحانه وَمن يَكْشِفُ السُّوءَ المتفاقم على ذوى الأحزان واولى المصائب والملمات غيره سبحانه وَبالجملة من يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ من الاسلاف الذين مضوا عليها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد تدعون ايها الجاهلون المسرفون المكابرون وأنتم ايها المبطلون المفرطون من نهاية جهلكم المركوز في جبلتكم وغفلتكم من الوهية الحق ومن غاية غيكم وضلالكم عن توحيده قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ اى قليلا منكم تتذكرون آلاء الله ونعماءه المتوالية المترادفة عليكم آنا فآنا طرفة فطرفة ايها الكافرون المعاندون المكابرون أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ ويرشدكم ايها الحمقى فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بالنجوم الزاهرات وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ المبشرات لتكون لكم بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ اى بشارة بالمطر المحيي لأموات الأراضي بأنواع النباتات والحبوبات المبقية لأصناف الحيوانات أَإِلهٌ قادر على أمثال هذه الأفعال المتقنة والآثار المحكمة مَعَ اللَّهِ المستقل بالقدرة الكاملة والحكمة الباهرة والرحمة العامة الشاملة تدعون وتعبدون ايها الحمقى الجاهلون مع انه قد تَعالَى اللَّهُ وتنزه ذاته وتعاظمت أسماؤه وصفاته عن مشابهة الأمثال وعن مطلق المشاركة معها في عموم الآثار والأفعال سيما عَمَّا يُشْرِكُونَ له أولئك المشركون المسرفون من الأوثان والأصنام أَمَّنْ يَبْدَؤُا ويظهر الْخَلْقَ اى عموم المخلوقات والمكونات من كتم العدم إبداء إبداعيا وإيجادا اختراعيا بعد ما لم يكن شيأ مذكورا برش نوره عليها ومد ظله إليها بمقتضى لطفه وجماله ثُمَّ بعد إظهاره وإيجاده على الوجه الأغرب الابدع من يُعِيدُهُ ويبعثه بعد اعدامه وإماتته بمقتضى قهره وجلاله على النمط البديع العجيب الغريب ايضا وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ ويقوّم امزجتكم بأنواع الاغذية الحاصلة مَنْ امتزاج آثار فواعل السَّماءِ وَقوابل الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ القادر المقتدر على إنشاء انواع البدائع وإبداء اصناف الغرائب والعجائب المكونة في التراب اليابس الجامد لتكون غذاء لمن عليها من الحيوانات تثبتون وتشركون ايها الحمقى المشركون المسرفون المكابرون وان أصروا على شركهم وكفرهم سيما بعد ما سمعوا قوارع الدلائل القاطعة وشواهد الحجج والبراهين الساطعة المذكورة في كتابك هذا المثبتة لتوحيد الحق المبينة له على الوجه الأبلغ الأكمل قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما عليهم وتبكيتا هاتُوا ايها الحمقى بُرْهانَكُمْ على دعواكم الوهية معبوداتكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في هذه الدعوى وبعد ما قدمت

[سورة النمل (27) : آية 65]

إلزامك عليهم وتبكيتك إياهم قُلْ يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض التوحيد خاليا عن وصمة الكثرة مطلقا لا يَعْلَمُ مَنْ ظهر فِي السَّماواتِ اى العلويات وَمن ظهر في الْأَرْضِ اى السفليات من المظاهر المجبولة فيهما على فطرة الشعور والإدراك الْغَيْبَ الذي قد غاب وخرج عن مداركهم وعقولهم وكذا عن حيطة حواسهم وآلاتهم ولا يسع لهم ان يحيطوا بها ويتصفوا بشعورها وادراكها إِلَّا اللَّهُ المنزه عن مطلق الأماكن والأزمان بل الكل في حيطة أسمائه وأوصافه المبرى عن الاشتراك في جنس وعن الامتياز بفصل فانه واحد احد من كل الجهات ليس معه شيء ولا دونه حي فلا يشارك شيء في شيء حتى يميز عنه بشيء بل وحدته لا كسائر الوحدات وعلمه لا كسائر العلوم والإدراك وكذا جميع صفاته وأسمائه فانه سبحانه يعلم بعلمه الحضوري جميع ما ظهر وبطن وغاب وشهد بلا تفاوت من تقدم وتأخر وزمان ومكان واسباب وآلات وعلل وموجبات وشرائط ومقتضيات بل الكل في ساحة عز حضوره على السواء بلا اختلاف الخفاء والجلاء وَان اجتهد أولئك العالمون من اهل السموات والأرضين ما يَشْعُرُونَ ويدركون أَيَّانَ يُبْعَثُونَ اى متى يبعثون وفي أى آن يحشرون من قبور تعيناتهم وينشرون من أجداث هوياتهم للوقوف بين يدي الله وان وصلوا بعد ما اجتهدوا بتوفيق الله وتيسيره الى مقام قد عرفوا ان وقوفهم بين يديه سبحانه للعرض والجزاء كائن ثابت لا محالة لكنهم ما وصلوا الى مرتبة يسع وينكشف لهم تعيين وقت الحشر والنشر إذ تعيين وقت البعث من حملة الغيوب التي قد استأثر الله بها في علم غيبه ولم يطلع أحدا من أنبيائه وأوليائه عليها بَلِ ما ادَّارَكَ وما تدارك وبلغ وما وصل وتعلق عِلْمُهُمْ اى علم عموم العلماء ومشاعر جميع ارباب الشعور والإدراك بعد ما كوشفوا بالهام الله وجذب من جانبه الا فِي تحقق النشأة الْآخِرَةِ وانية ما فيها من المعتقدات الاخروية المحققة من الحشر والنشر والصراط والسؤال والجنة والنار والثواب والعقاب وجميع الأمور التي قد نطقت بها ألسنة الرسل والكتب وبالجملة ما بلغت بتعيين وقت البعث وتشخيص حينه وآن وقوعه الافهام واحلام الخواص والعوام بَلْ هُمْ اى اكثر الناس فِي شَكٍّ وتردد مِنْها اى من النشأة الآخرة ومن تحقق الأمور الكائنة فيها بَلْ هُمْ اى بل أكثرهم مِنْها اى من قيام الساعة ومن الأمور الموعودة فيها عَمُونَ غافلون منكرون لا يعتقدون وقوعها ولا يقبلون قيامها بل ينكرونها أشد انكار ويكذبونها ابلغ تكذيب وَمن شدة انكارهم وتكذيبهم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبعموم ما قد وعد سبحانه لهم في يوم العرض والجزاء على سبيل الاستبعاد والاستنكار مستفهمين مستهزئين أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا ايضا كذلك أَإِنَّا وانهم لَمُخْرَجُونَ من قبورنا احياء على الوجه الذي قد كنا عليه في مدة حياتنا قبل طريان الموت الطبيعي علينا كلا وحاشا إذ هي من جملة الأمور المستحيلة الممتنعة التي تأبى العقول السليمة عن قبولها ولا منشأ لها سوى انا لَقَدْ وُعِدْنا هذا اى البعث والحشر نَحْنُ اليوم على لسان هذا المدعى للنبوة والرسالة وَكذا قد وعد آباؤُنا ايضا مِنْ قَبْلُ على ألسنة المدعين الآخرين الذين مضوا وقد كان أسلافهم ايضا كذلك على ألسنة إسلاف أخر من المدعين وهكذا وهكذا وبالجملة إِنْ هذا اى ما هذا الوعد بالبعث والجزاء إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ الموروثة لأخلافهم اللاحقين المستخلفين المتأخرين عنهم وبالجملة ما هذا الا ديدنة قديمة وعادة مستمرة قد بقيت بين الأنام من قديم الأيام لتخويف العوام بلا وقوع ولا إمكان وقوع ايضا ثم

[سورة النمل (27) : آية 69]

لما بالغ أولئك الهالكون في تيه الضلال في تكذيب يوم الجزاء وأصروا على ما هم عليه من الكفر والإنكار ومتابعة الأهواء والآراء قُلْ يا أكمل الرسل كلاما خاليا عن وصمة المجادلة والمراء صادرا عن محض الحكمة والعبرة والاستبصار آمرا لهم على سبيل الاعتبار سِيرُوا ايها المنكرون المكابرون ليوم العرض والجزاء فِي الْأَرْضِ التي هي محل العبرة ومنزل الاستبصار فَانْظُرُوا معتبرين متأملين كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ المكذبين كمال قدرة الله القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء بلا فتور وقصور ولا ينتهى قدرته دون مقدوره بل له اعادة كما له ابداؤه مع جميع اجزائه ولوازمه وعوارضه من الزمان والمكان والحركات والسكنات ومع جميع الأطوار والأحوال الطارية عليه من مبدأ حدوثه الى منتهى حياته إذ جميع ما جرى عليه وصدر عنه حاضر عنده سبحانه مشهود له غير مغيب عنه بلا انقضاء من حضرة علمه وإمضاء من لوح قضائه إذ عنده سبحانه لا زمان ولا مكان حتى يتصور الانقراض والانقضاء واستبعاد أمثال هذه المسألة انما يجئ عن العقول السخيفة والأحلام الضعيفة المحبوسة في مضيق الزمان والمكان المتحصنة بحصون الجهات والابعاد المقيدة بسلاسل الأيام وأغلال الليالى ومن انكشف له بصر بصيرته وارتفع عنه سبل السدل وحول التحويل ورمد التغير والتبدل واكتحل عين عبرته وبصر بصيرته بكحل الكشف والشهود قد اضمحل دونه الزمان والمكان والجهات والأقطار وجميع ما يوهم الانقضاء والانصرام والتجدد والاستمرار ولم يبق في عين عبرته ونظر شهوده وخبرته سوى الله الواحد القهار لعموم الأغيار فسمع منه به وابصر به اليه وظهر منه عليه بحوله وقوته وفنى فيه وبقي لديه ولاح منه ورجع اليه وبدا عنه وعاد عليه قائلا دائما بلسان الحال والمقال انا لله وانا اليه راجعون. ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين برحمتك وجودك يا ارحم الراحمين وَبعد ما قد هدد سبحانه مكذبي وعده ووعيده بما هدد وقرعهم بما قرع أراد سبحانه ان يسلى حبيبه صلى الله عليه وسلم بما لحق له من أذى المنكرين المكذبين بقوله لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ان كذبوك واعرضوا عنك يا أكمل الرسل وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ وسآمة مِمَّا يَمْكُرُونَ اى من مكرهم وحيلتهم فان الله يكفيك ويكف عنك مؤنة شرورهم وكن في نفسك يا أكمل الرسل وسيع الصدر طلق الوجه فرحان القلب يقظان السر فان الله ناصرك ومعينك في كل الأحوال يحفظك عن شرورهم ومكرهم وسيغلبك عليهم عن قريب ويظهر دينك على عموم الأديان كلها وينشر آثار هدايتك وارشادك في اقطار الأرض وانحائها وكفى بالله حسيبا وَمن شدة شكيمتهم وغاية انكارهم وضغينتهم معك يا أكمل الرسل يَقُولُونَ متهكمين مَتى هذَا الْوَعْدُ المعهود والعذاب الموعود وفي اىّ آن يظهر واىّ زمان يقوم عيّنوا لنا وقته ايها المدعون إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الوقوع والنزول قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد اقترحوا عنك والحوا عَسى اى قد دنا وقرب أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ اى تبعكم ولحقكم واللام زائدة بَعْضُ العذاب الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ نزوله وحلوله فقد لحقهم عذاب يوم البدر وَسيلحقهم عن قريب كله ايضا لكن من سنته سبحانه امهال عباده زمانا رجاء ان يتنبهوا او يتوبوا عما أصروا عليه من الكفر والكفران والشرك والطغيان إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَذُو فَضْلٍ عظيم ورحمة واسعة شاملة عَلَى عموم النَّاسِ سيما الناسين سوابق عهودهم مع الله المدبر لأحوالهم يمهلهم وينبه عليهم رجاء ان يتنبهوا ويتفطنوا بمقتضى فطرتهم الاصلية وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ نعمة الامهال حتى يخلصوا من نقمته وعذابه لذلك لحقهم ما لحقهم من العذاب ومن جملة كفرانهم بنعم الحق

[سورة النمل (27) : آية 74]

وطغيانهم عليه انهم أرادوا وقصدوا على وجه الاهتمام ان يخدعوا مع الله ورسله ولا يشكرون نعمة الإرسال والإرشاد بل ينكرون عليها في نفوسهم ويظهرون على الناس انهم مؤمنون مع انهم ليسوا كذلك بل ما قصدوا بذلك الا التلبيس والخداع على وجه النفاق وَبالجملة لا ينفع لهم مكرهم هذا وحيلتهم هذه إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل لَيَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما تُكِنُّ وتخفى صُدُورُهُمْ من الغل والنفاق وَما يُعْلِنُونَ ويظهرونه بألسنتهم من ايمان وكفر وفساد وصلاح وعهد ونقض إذ لا يخفى عليه سبحانه شيء من احوال عباده وما جرى عليهم في ظواهرهم وبواطنهم وَكيف يخفى عليه شيء من أحوالهم إذ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي طي السَّماءِ وَالْأَرْضِ حتى النقير والقطمير وكذا ما يعقل ويحس ويعبر عنه ويومى اليه ويرمز نحوه ويعرب عنه الى ما شاء الله إِلَّا هو مثبت محفوظ فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو لوح القضاء وحضرة العلم المحيط الإلهي الذي قد فصل فيه عموم ما كان وما يكون ازلا وابدا بحيث لا يشذ عن حيطته ما من شأنه ان يعلم ويحس به وايضا من جملة ما يدل على شمول قضائه وعلى حيطة حضرة علمه الكتب الإلهية النازلة المنزلة من عنده سبحانه المنتخبة من حضرة علمه ولوح قضائه سيما القرآن إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ من كمال جمعيته واحاطته يَقُصُّ يظهر ويبين عَلى علماء بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الأمر والشأن الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الأمور المتعلقة بدينهم وملتهم وَإِنَّهُ في نفسه لَهُدىً هاد موصل الى طريق التوحيد الذاتي وَرَحْمَةٌ نازلة لِلْمُؤْمِنِينَ الموحدين المحمديين من قبل الحق ليهديهم الى وحدة ذاته ويوصلهم الى غاية ما جبلوا لأجله من المعرفة والتوحيد واليقين إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل يَقْضِي بَيْنَهُمْ اى بين المختلفين في بنى إسرائيل ويحكم عليهم بِحُكْمِهِ المستنبط من حكمته البالغة المتقنة وَكيف لا هُوَ الْعَزِيزُ الغالب في احكام أحكامه المحكمة المبرمة الْعَلِيمُ في حكمته البالغة المتقنة المفرعة على عدالته الحقيقية وان كذبوك يا أكمل الرسل وأنكروا كتابك وجادلوا معك مراء ومجادلة عنادا ومكابرة فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ المتكفل لحفظك وحضانتك إِنَّكَ في امر دينك وكتابك ورسالتك وهدايتك وفي عموم ما جئت به من قبل ربك عَلَى الْحَقِّ والصدق الذي لا يأتيه الباطل والكذب لا من بين يديه ولا من خلفه الْمُبِينِ الظاهر حقيته عند ذوى البصائر واولى الألباب المستكشفين عن لب الأمور المعرضين عن قشرها فان اعرضوا عنك ولم يقبلوا منك ارشادك وهدايتك لا تبال بهم وباعراضهم وانصرافهم إذ هم عند التحقيق أموات لا حياة لهم حقيقة بل هم موتى إِنَّكَ وان بالغت واجتهدت في ارشادك وهدايتك إياهم لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ما جئت به من الأوامر والنواهي المأمورة بها الأحياء المقربة الى الله المبينة لطريق توحيده وكيف لا وهم عن السمع معزولون وَايضا أنت لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ اى ليس في وسعك إسماع الدعاء للاصمين الفاقدين آلة السماع والاستماع سيما إِذا وَلَّوْا وانصرفوا عنك مُدْبِرِينَ بلا التفات وتوجه منهم الى الاستماع والسماع والإصغاء وَبالجملة ما أَنْتَ ايها المرسل للهداية والمبعوث للإرشاد والتكميل بِهادِي الْعُمْيِ الفاقدين آلات الهداية واسبابها عَنْ ضَلالَتِهِمْ المركوزة في جبلتهم الراسخة في طبيعتهم بل إِنْ تُسْمِعُ اى ما تسمع أنت بهدايتك وارشادك ايها الهادي بوحينا وتوفيقنا إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وبالجملة ما تهدى أنت الا من يصدق بعموم ما جئت به من عندنا ووفق من لدنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ منقادون لأوامرنا وأحكامنا

[سورة النمل (27) : آية 82]

مجتنبون عن نواهينا ومحظوراتنا قابلون للإرشاد والتكميل فهم من شدة شقاوتهم وغلظ غشاوتهم لا يؤمنون بك ولا يسلمون في أنفسهم لكنهم مجبولون على الشقاوة الاصلية والضلالة الجبلية فكيف يتأتى لك اسماعهم وإرشادهم وَاصبر يا أكمل الرسل وقت إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ الموعود عَلَيْهِمْ ولاح امارات الساعة وظهر علامات القيامة ودنا وقت قيامها أَخْرَجْنا لَهُمْ قبيل قيام الساعة دَابَّةً عظيمة مِنَ الْأَرْضِ لتكون امارة على قيامها دالة على كمال قدرتنا على احياء الأموات من العظام الرفات طولها سبعون ذراعا ولها قوائم وزغب اى شعرات صفر كريش الفرخ وريش وجناحان يقال لها الجساسة لا يفوتها هارب ولا يدركها طالب سئل عليه السلام عن مخرجها فقال من أعظم المساجد حرمة على الله يعنى المسجد الحرام فإذا خرجت عليهم تُكَلِّمُهُمْ وتخاطب معهم بسوء فعالهم وحسن خصالهم فتفرق المؤمن من الكافر وتميزهم وحينئذ قد ظهر أَنَّ النَّاسَ المنهمكين في بحر الغفلة والنسيان لأي شيء كانُوا بِآياتِنا الواصلة إليهم من ألسنة رسلنا لا يُوقِنُونَ ولا يذعنون بل ينكرون ويكذبون عنادا ومكابرة وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ نَحْشُرُ ونسوق عند قيام الساعة مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً فرقة وجماعة هي صناديدهم ورؤساؤهم مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا التي قد جاء بها الرسل لهدايتهم وإرشادهم فَهُمْ في حين حشرهم وسوقهم يُوزَعُونَ اى يحبس اولهم لآخرهم حتى يتلاحقوا ويزدحموا وبالجملة يساقون أولئك المجرمون هكذا حَتَّى إِذا جاؤُ المحشر وحضروا الموعد وعرضوا على الله صافين صاغرين جاثمين جالسين على ركبهم باركين قالَ قائل من قبل سرادقات العظمة والجلال معيّرا عليهم وموبخا أَكَذَّبْتُمْ أنتم ايها المسرفون المكذبون بِآياتِي في بادئ الرأى بلا تأمل وتدبر فيها وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً ولم تطرحوا نظركم وعقولكم عن فحص معانيها وضبط فحاويها حتى ظهر عندكم ولاح عليكم هل هي جدير بالرد والإنكار أم هي حقيق بالقبول والاعتبار فبادرتم الى تكذيبها دفعة بلا إمعان فيها أَمَّا ذا اى أم اى شيء شنيع وامر فظيع قد كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أنتم ايها الجاهلون المسرفون هذا. وبعد ما قد جرى من قبل الحق من انواع التوبيخ والتقريع ما جرى سكتوا حائرين خائبين منكوسين وَحينئذ قد وَقَعَ الْقَوْلُ المعهود منا وتحقق الوعد المحقق وحل العذاب الموعود عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا اى بسبب ظلمهم السابق الواقع منهم في النشأة الاولى فَهُمْ حينئذ لا يَنْطِقُونَ ولا يعتذرون ولا يتضرعون لانكبابهم على النار منكوسين بحيث لا يسع لهم التنطق والتضرع أصلا أَلَمْ يَرَوْا ولم ينظروا أولئك الحمقى العميان بنظر العبرة والاستبصار الى مصنوعاتنا المتبدلة المتغيرة المجبورة المقهورة تحت قدرتنا واختيارنا ليتحقق عندهم امر الساعة ولم يبادروا الى إنكارها حتى لا يلحقهم ما لحقهم أَنَّا من كمال قدرتنا ووفور حولنا وقوتنا كيف جَعَلْنَا اللَّيْلَ مظلما لِيَسْكُنُوا فِيهِ بلا دغدغة منهم الى الحركة والاشتغال وَكيف جعلنا النَّهارَ مُبْصِراً مضيئا يتحركون ويترددون لشغل معاشهم إِنَّ فِي ذلِكَ الاضائة والاظلام على التعاقب والتوالي لَآياتٍ دلائل قاطعات وشواهد ساطعات دالة على قدرة القدير القادر المقتدر على أمثال هذه المقدورات المتقنة والمصنوعات المحكمة الصادرة عن محض الحكمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ويذعنون بوحدة ذات الله وكمالات أسمائه وأوصافه وَاذكر يا أكمل الرسل تنبيها على التائهين في بيداء الغفلة يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ألا وهو البوق الموضوع المنفوخ فيه لحشر الأموات من اجداثها فَفَزِعَ

[سورة النمل (27) : آية 88]

ارتعد من هول تلك الصدا جميع مَنْ فِي السَّماواتِ من سكانها وَكذا جميع مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ تمكنه وقرار قلبه مطمئنا بلا قلق واضطراب ألا وهم الأولياء المتمكنون في مقر الفناء في الله المتحققون بمقام البقاء ببقائه الواصلون الى شرف لقائه بلا تذبذب وتلوين منسلخين عن جلباب ناسوتهم رأسا وصاروا بحيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وَبعد ما أفاقوا من دهشتهم وهيبتهم العارضة إياهم من هول ما سمعوا كُلٌّ ممن يتأتى منهم الإتيان أَتَوْهُ على كلتا القرائتين فعلا او اسم فاعل اى حضروا عند الداعي النافخ او هم حاضروه داخِرِينَ صاغرين ذليلين منتظرين الى ما جرى عليهم من حكم الله أيساقون الى النار حسب قهره وعدله أم الى الجنة حسب فضله وطوله وَتَرَى ايها الرائي يومئذ الْجِبالَ الرواسي التي تَحْسَبُها وتظنها أنت جامِدَةً ثابتة مستقرة في مكانها بلا حركة وذهاب وَهِيَ في أنفسها يومئذ تَمُرُّ اى تتحرك وتذهب مَرَّ السَّحابِ كمروره وسرعة سيره إذ الأشياء العظيمة التي لا تحيط الأبصار بجميع جوانبها قلما يحس بحركتها وان اسرع فيها بل يظن انها ثابتة في مقره وهكذا حال الجبال وجميع الاظلال والاطلال المشهودة في عالم الحس والخيال كل طرفة وآن على التقضي والارتحال قبل قيام الساعة ولو تفطنت بمرورها ايها الفطن اللبيب لوجدتها في كل آن على التقضي والانصرام إذ الاعراض لا قرار لها ولا قيام والعكوس والأشباح لا مرار لها ولا نظام بل كل يوم وآن في شأن لا كشأن الذي سيمضى وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ومرور الجبال على هذا المنوال انما يكون صُنْعَ اللَّهِ اى من صنع الله القادر القوى الَّذِي أَتْقَنَ واحكم كُلَّ شَيْءٍ اتقانا بديعا ودبره تدبيرا انيقا عجيبا وأودع فيه من الحكم والمصالح ما لم يطلع عليها احد من عباده إذ لا يسع لهم الاطلاع على أفعاله سبحانه بل إِنَّهُ بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ اى بعموم أفعالهم وأحوالهم وأقوالهم الظاهرة والباطنة يجازيهم عليها بمقتضى خبرته ان خيرا فخير وان شرا فشر لذلك مَنْ جاءَ من المكلفين في دار الابتلاء بِالْحَسَنَةِ اى الخصلة الواحدة المقبولة عند الله وعند الناس فَلَهُ في دار الجزاء خَيْرٌ مِنْها إذ يعطى له بدلها سبعمائة من الحسنة وقد أبدل الخسيس بالشريف سيما بأضعافه والفاني بالباقي وَهُمْ ايضا مع وفور هذه المثوبات مِنْ فَزَعٍ هائل مهول للناس يَوْمَئِذٍ اى يوم ينفخ في الصور آمِنُونَ مطمئنون متمكنون لا يضطربون من هولها ولا يفزعون وَمَنْ جاءَ في دار الاختبار بِالسَّيِّئَةِ المردودة عند الله وعند الناس من الأمور التي قد حرمها الشرع والعقل والمروءة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ اى كبوا على وجوههم في النار صاغرين ذليلين قيل لهم حينئذ زجرا عليهم وطرد الهم هَلْ تُجْزَوْنَ وما تجازون بهذا الهوان والصغار إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بسبب عملكم من السيئات الجالبة له في النشأة الاولى. ثم لما امر سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما اوحى اليه من الوعد والوعيد والأوامر والنواهي المصلحة لأحوال الأنام في النشأتين وبيان مبدأهم ومعادهم وما يئول اليه أمرهم بعد ما انقرضوا من هذه النشأة التي هي دار الابتلاء والاختبار اما الى دركات النيران واما الى درجات الجنان. ثم بين لهم سبحانه طريق الوصول الى مقر التوحيد والتمكين في مقام التجريد والتفريد حيث امر له صلى الله عليه وسلم ايضا بان قال لهم امحاضا للنصح كلاما ناشئا عن محض الحكمة خاليا عن وصمة الميل الى الهوى إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ عبادة خاصة خالصة عن جميع الرياء والرعونات رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ أراد بها مكة

[سورة النمل (27) : آية 92]

شرفها الله خصها بالإضافة للتعظيم والا فهو رب عموم البلاد والأماكن الَّذِي حَرَّمَها اى حرم في هذه البلدة من الأمور التي قد أباحها في غيرها من البلاد وَلَهُ سبحانه كُلُّ شَيْءٍ خلقه وملكه والتصرف فيه كيف يشاء ويريد بلا منازع ومخاصم وَبالجملة أُمِرْتُ من عنده سبحانه أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لأحكامه سبحانه الممتثلين بأوامره ونواهيه بلا التفات الى ايمان احد وكفره وهدايته وضلاله وَايضا قد أمرت أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ المنزل على من عند ربي وداوم على تلاوته بين اظهر الأنام لأنه اوحى للهدى والرشد بالنسبة الى عموم العباد فَمَنِ اهْتَدى به بعد ما سمعه وتأمل معناه وامتثل بمقتضاه فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ونفع هدايته عائد إليها مفيد لها وَمَنْ ضَلَّ واعرض عنه بعد ما سمع واستكبر وكذب فَقُلْ بمقتضى أمرنا ووحينا إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ اى امرى منحصر بالإنذار والتخويف كسائر الرسل المنذرين فالهداية والضلال انما هو مفوض الى الكبير المتعال وبعد ما قد أمرني ربي بهذه المأمورات المذكورة قد أمرني ايضا بتجديد التحميد على تبليغ ما اوحى الى به بقوله وَقُلِ يا أكمل الرسل بعد ما قد تلوت عليهم ما تلونا عليك الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما علمني ربي من الحقائق والمعارف وشرفني بأنواع المكاشفات والمشاهدات ويسر على تبليغ ما اوحى الى وأمرني بتبليغه الى قاطبة الأنام وان اعرضوا عن قبول ما قد بلغت لهم من مصالح دينهم في النشأة الاولى والاخرى قل لهم على سبيل التهديد سَيُرِيكُمْ سبحانه في النشأة الاخرى عند قيام الساعة الموعودة صدق آياتِهِ الدالة على عظمة ذاته المثبتة لعموم مواعيده ووعيداته فَتَعْرِفُونَها حينئذ وتسمعونها سمع قبول ورضا ولا يجديكم قبولها حينئذ نفعا وفائدة إذ قد مضى وقت الإرشاد والامتثال بها والعمل بمقتضاها وَبعد ما قد بلغت لهم يا أكمل الرسل ما بلغت لا تبال باعراضهم وانكارهم إذ ما رَبُّكَ المطلع على عموم السرائر والخفايا بِغافِلٍ غائب ذاهل عَمَّا تَعْمَلُونَ من الرد والقبول سيما بعد ما سمعوا منك وفهموا معناه يجازيهم بمقتضى اطلاعه وعلمه وخبرته. ربنا اشرح لنا صدورنا بتأمل آياتك المنزلة من عندك ويسر لنا أمورنا بان نمتثل بمقتضاها بفضلك وجودك. خاتمة سورة النمل عليك ايها المحمدي المواظب على تلاوة كتاب الله الملازم للاسترشاد والاستهداء منه ان تلاحظ أولا منطوقات الألفاظ المفردة ثم مفهومات الكلام المركب منها ثم التأمل والتدبر في رعاية المطابقة بمقتضيات الأحوال المورد لأجلها ثم التعمق في الاساليب والأغراض المصوغ المسوق لها الكلام ثم سرائر الأوامر والنواهي الموردة فيه ورموز العبر والأمثال المشتمل عليها الكلام ثم الحكم والمصالح الباعثة لا يراد الكلام على وجهها ثم التفطن والتنبه من النظم المتلو المقرو على المعارف والحقائق والتجليات والمكاشفات والمشاهدات التي هي العلل الغائية لإنشائه والأسرار الباعثة لنظم كلماته وتأليف حروفه وعليك ايها الفطن اللبيب الخبير ان تدرك ان للقرآن ظهرا وبطنا ولبطنه بطنا الى سبعة ابطن على ما نطق به الحديث الصحيح صلوات الله على قائله وسلامه وإياك إياك ان تقنع منه بألفاظه ومنطوقاته التي تعرفها عوام العرب او تقنع عنه بمجرد الخواص والمزايا التي تعرفها ارباب اللسن منهم بل لك ان تلاحظ على الوجه المذكور الى ان يصير علمك المتعلق به لدنيا ذوقيا حاليا شهوديا وجدانيا شوقيا حضوريا بحيث تسمعه أنت من قلبك وتفهمه أنت منك بقلبك بلا وسائل الألفاظ والحروف الجارية على لسانك إذ الألفاظ والحروف انما هي من جملة القشور الكثيفة والحجب الغليظة

سورة القصص

ايضا عند ذوى المعارف واولى الألباب الناظرين في لب القرآن فحينئذ قد فزت بحظك منه ونلت نصيبك من هدايته وإرشاده على قدر استعدادك واستجماع وسعك رب هب لي من فضلك من خزائن جودك التي او دعتها في كتابك الكريم انك أنت الوهاب والملهم بالخير والصواب [سورة القصص] فاتحة سورة القصص لا يخفى على من تحقق بوحدة الحق وانكشف باستقلاله وتوحده في التحقق والوجود وشهد حضوره في الأكوان كلها. بلا مزاحمة ضد وشريك ومظاهرة مثل وظهير ان وحدة الحق تستدعى نفى الكثرة والتعدد مطلقا ولهذا ما ظهر في فضاء الوجود الا ما لمع عليه بروق تجلياته الحبية حسب أوصافه وأسمائه الذاتية ومن انكشف له هذا المشهد العظيم لم يسمع من احد ان يدعى الوجود لنفسه فكيف ان يدعى الألوهية والربوبية والاستقلال بالآثار والتصرفات الواردة في عالم الغيب والشهادة ومن ظهر على الله الواحد الأحد الفرد الصمد بأمثال هذه الدعوى الكاذبة وترقى فيها جهلا وعتوا الى ان قال أنار بكم الأعلى فمن كمال غيرة الله وحميته على نفسه ان يطرد من يدعى أمثال هذه الدعوى عن ساحة عز حضوره ويهلكه باشد العذاب وأسوأ العقاب في النشأة الاولى والاخرى لذلك خاطب سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بما خاطب وأخبره في هذه السورة من نبأ أخيه موسى عليه السلام مع من تكبر واستعلى على الأرض الى حيث قد استعبد من عليها مدعيا الألوهية والربوبية لنفسه لذلك قد اخذه الله نكال الآخرة والاولى ان في ذلك لعبرة لمن يخشى من قهر الله وغضبه فقال سبحانه متيمنا باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بجمعيته في الأكوان على مقتضى الأوصاف والأسماء الحسان الرَّحْمنِ بعموم المكونات بافاضة الوجود على سبيل السواء بلا تفاوت في خلقه وإظهاره لعموم الوراء الرَّحِيمِ لخواص عباده يوصلهم الى توحيد ذاته بافاضة انواع الرشد واصناف الهدى [الآيات] طسم يا طالب السعادة المؤبدة المخلدة ويا طيب الطينة ويا سالم السر والسريرة المنزه المقدس عن المكدرات الطبيعية المورثة لانواع الجهالات والضلالات المنافية لصفاء مشرب التوحيد تِلْكَ الآيات المتلوة عليك يا أكمل الرسل في هذه السورة الحاكية عن قصص اخوانك من الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم أجمعين آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ اى نبذ مما ثبت في لوح القضاء وحضرة العلم المحيط الإلهي الظاهر احاطته وشموله لجميع ما لاح عليه شروق شمس الوجود نَتْلُوا عَلَيْكَ ونحكى لك يا أكمل الرسل مِنْ نَبَإِ مُوسى أخيك الكليم وَفِرْعَوْنَ المستكبر المستعلى المفرط في العتو والعناد انما أنزلناه إليك هذا ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع مع كونك خالي الذهن عنه وعن أمثاله لكونك اميا لا تقدر على مطالعة كتب التواريخ وانما أنزلناه إليك لتكون آية ودليلا لك على صدقك في دعواك الرسالة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بك ويصدقون رسالتك ونبوتك وذلك إِنَّ فِرْعَوْنَ المفسد المسرف قد عَلا وأفرط فِي الْأَرْضِ اى ارض مصر وترقى امره الى حيث تفوه بانا ربكم الأعلى وَمن كمال عتوه واستكباره قد جَعَلَ أَهْلَها اى اهل مصر ومن يسكنون حولها شِيَعاً اى فرقا وأحزابا يشايعون له لدى الحاجة ويزدحمون عليه عند الارادة طوعا وكرها وبعد ما قد رأى فرعون في منامه ليلا ان نارا تخرج من دور بنى إسرائيل وتقع على داره وتحرقه وما حولها من دور القبط ولم تضر بدور بنى إسرائيل أصلا فأصبح وامر بإحضار الكاهن العليم فاستعبر عنه الرؤيا فقال له الكاهن

[سورة القصص (28) : آية 5]

سيخرج من بنى إسرائيل رجل يستولى عليك ويستأصلك ومن معك وبعد ما سمع من الكاهن ما سمع صار يَسْتَضْعِفُ اى يضعف طائِفَةً مِنْهُمْ اى من بنى إسرائيل وقد بالغ في أضعافهم الى حيث يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ يعنى امر بشرطته ووكلائه ان يقتلوا من ولد منهم ذكرا لئلا يتقووا على قتاله ولم يحدث بينهم من أخبر به الكاهن وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ ليتزوجهن القبط ظلما ويزداد ويلحق العار والصغار على بنى إسرائيل وبالجملة إِنَّهُ كانَ مِنَ أعظم الْمُفْسِدِينَ في الأرض يريد ان يظهر على الله بقتل ما أوجده سبحانه عتوا واستكبارا وَبعد ما بالغ في الإفساد والفساد وتمادى في الجور والعناد زمانا نُرِيدُ بمقتضى جودنا وسعة رحمتنا أَنْ نَمُنَّ منة عظيمة عَلَى عبادنا الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ اى ارض العمالقة وهم بنوا إسرائيل الإسراء المظلومون في أيدي القبط وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وقدوة كراما كبراء عظماء اعزة متبوعين بعد ما كانوا اتباعا أذلاء صاغرين وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ من ظالميهم يرثون منهم ارضهم وديارهم وأموالهم وَنُمَكِّنَ لَهُمْ اى نقررهم ونوطنهم فِي الْأَرْضِ اى ارض مصر والشأم بعد ما كانوا مضطربين متزلزلين في أيدي العدو وَنُرِيَ بمقتضى قهرنا وجلالنا فِرْعَوْنَ المفرط في العتو والعناد وَظهيره هامانَ المفتخر على اهل الزمان بنيابته ووزارته وَجُنُودَهُما من القبط مِنْهُمْ اى من بنى إسرائيل ما كانُوا يَحْذَرُونَ منه وهو ظهور مولود منهم يذهب به دولة القبط وصار سببا لهلاكهم بالمرة وَبعد ما ولد موسى وظهر من أراد به سبحانه زوال ملك فرعون واستوحشت امه من وقوف الشرطة عليه وقتله قد أَوْحَيْنا عناية منا إياه وإظهارا لحكمتنا المتقنة المثبتة في حضرة علمنا ولوح قضائنا وألهمنا حينئذ إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ مهما أمكنك ارضاعه واخفاؤه فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من وقوفهم إياه ضعيه في التابوت فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ اى النيل وَلا تَخافِي من هلاكه وغرقه وَلا تَحْزَنِي من فراقه إِنَّا من وفور لطفنا وعطفنا إياه وإياك قد رَادُّوهُ إِلَيْكِ لتحصنه وتحفظه أنت الى وقت فطامه وكبره البتة وَبعد ما استوى وبلغ أشده ورشده جاعِلُوهُ مِنَ جملة الْمُرْسَلِينَ المؤيدين من لدنا بالوحي والإلهام وظهور انواع المعجزات والخوارق من يده وبعد ما قد تفرست امه بوقوف الشرطة وتجسسهم بعد ما أرضعته ثلاثة ايام وضعته في التابوت على الوجه المأمور والقته في اليم مفوضة امره الى الله المتكفل بحفظه فذهب البحر بتابوته الى حذاء دار فرعون فرآه من فيها فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ فأخذوه وأخرجوه من اليم واحضروه وبعد ما كشفوا عنه ستره رأوا فيه وليدا في غاية الحسن والجمال بحيث تبهر عيون الناظرين اليه يمضغ إبهامه فلما رآه فرعون وامرأته وجميع من في بيته من الخدمة احبوه واعجبوا حسنه وصفاءه وبهاءه وقد ألقينا محبته في قلوبهم جميعا الى ان اتفقوا لحفظه غافلين عن مكرنا معهم لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً اى موجب حزن طويل وعداوة شديدة مستمرة وبالجملة إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ مجبولين موافقين على الخطأ في عموم أفعالهم وأعمالهم كأنهم مجسمون متخذون من الخطأ ومن جملته محافظة العدو الموجب لانواع العذاب والنكال الواقع عليهم في النشأة الاولى والاخرى وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ آسية رضى الله عنها من كمال محبتها له وتحننها نحوه لفرعون مشيرة الى الوليد هذا قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ مثل أبناء بنى إسرائيل على ظن انه منهم بل نحفظه عَسى أَنْ يَنْفَعَنا اى رجاء ان ينفع بنا نفعا كليا

[سورة القصص (28) : آية 10]

أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً خلفا لنا ويصير ولى عهدنا ان ظهر على رشد تام وعقل كامل كافل وَبالجملة هُمْ لا يَشْعُرُونَ انه عدوهم الذي يذهب به دولتهم وملكهم وبيده زوالهم وهلكهم وَبعد القائه في البحر قد أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً صفرا من العقل ومن مقتضياته بل قد صارت قلقة هائمة حائرة حاسرة خاسرة بحيث قد اضمحلت عنها امارات الحياة تحننا الى ولدها وشوقا اليه وخوفا من قتله سيما قد سمعت بالتقاط آل فرعون إياه ووقوعه بأيديهم إِنْ كادَتْ اى انها قد صارت من غاية الحزن والأسف الى ان قربت لَتُبْدِي بِهِ اى لتظهر وتبوح بامره صائحة عليه فجيعة في شأنه من التقاط عدوه لَوْلا أَنْ رَبَطْنا وألقينا عَلى قَلْبِها السكينة والطمأنينة لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين لما وعدنا إياها برد ولدها إليها بلا ضرر من العدو وَبعد ما سكنت من البوح والنوح وقصد الإظهار قالَتْ لِأُخْتِهِ اى مريم اخت موسى قُصِّيهِ اى اتبعى اثره وتتبعى امره كي تدركى وتدرى ما فعلوا معه فذهبت هي بأمرها فَبَصُرَتْ بِهِ اى بموسى عَنْ جُنُبٍ بعد واخفت حالها عنهم وَهُمْ بحيث لا يَشْعُرُونَ بقرابتها إياه وهم بعد ما اتفقوا على حفظه وتركوا قتله أرادوا ان يرضعوه فطلبوا المرضعة لحضانته ورضاعته وَقد كنا من متانة حكمتنا وحكمنا قد حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ اى قبل القائه في البحر وحين عهدنا مع امه برده إياها بقولنا انا رادوه إليك فاحضروا مراضع كثيرة فأبى موسى عن مص الكل فتحيروا في امره فَقالَتْ مريم بعد ما انتهزت الفرصة هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ ان أردتم له مرضعة وَهُمْ اى اهل ذلك البيت لَهُ ناصِحُونَ حافظون الى ان كبر بحيث لا يغفلون عن تربيته وحفظه فلما سمع هامان منها ما سمع قال انها قد تعرفه واهله ومنشأه خذوها حتى تخبر ما حاله ومن أى قوم منشأه قالت انما أردت وهم للملك قوم ناصحون فأمرها فرعون باحضارها فأتت مريم بأمه وموسى على يد فرعون يبكى ويصيح فلما شم ريح أمه استأنس والتقم ثديها ومص بلا إباء فقال له فرعون من أنت منه فقد أبى من كل ثدي الا ثديك قالت انى امرأة طيبة الريح واللبن لم أوت بصبى إلا قبلني فدفعه إليها وعين اجرة حضانتها ورضاعتها فذهبت به الى بيتها من يومه كما قال سبحانه فَرَدَدْناهُ يوم القائه في البحر إِلى أُمِّهِ إيفاء لوعدنا إياها كَيْ تَقَرَّ وتنور عَيْنُها بولدها وَبعد ما قد رددناه إليها ألهمنا لها ان لا تَحْزَنَ بعد اليوم وتثق بوعدنا إياها وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ القادر المقتدر على إيفاء مطلق العهود حَقٌّ ثابت محقق مطابق للواقع فكما اوفى سبحانه وعد رده إليك يوفى ايضا وعد رسالته ونبوته ايضا بلا خلف منه فعليك ان تثقى بالله وتفوضى امره اليه سبحانه فانه سبحانه يكفى ويكف عنه مؤنة شرور أعدائه ويوصله الى منتهى ما جبله لأجله إذ هو سبحانه قادر مقتدر غالب على عموم ما أراد وشاء وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ اى اكثر الناس لا يَعْلَمُونَ كمال قدرته وحكمته سبحانه وَلَمَّا ربته امه وأحسنت تربيته بمعاونة عدوه الى ان بَلَغَ أَشُدَّهُ وكمال قوته في نشوه ونمائه وَاسْتَوى اى كمل وتم عقله ورشده الى ان صلح لحمل أعباء الرسالة قد آتَيْناهُ من كمال جودنا إياه إيفاء لما وعدنا له في سابق علمنا المحيط وكتبنا لأجله في لوح قضائنا المحفوظ حُكْماً نبوة ورسالة ليضبط به ظواهر الاحكام من الأنام وَعِلْماً لدنيا متعلقا بمعرفة نفسه وبمعرفة ذات الحق المتصف بجلائل الأوصاف والأسماء وكذا بمعرفة توحده وتنزهه في ذاته عن سمة الكثرة

[سورة القصص (28) : آية 15]

والتعدد مطلقا وَكَذلِكَ اى مثل ما جزينا موسى بأحسن الجزاء نَجْزِي عموم الْمُحْسِنِينَ من خلص عبادنا البالغين رتبة الإحسان معنا وهم الذين يعبدون الله كأنهم يرونه. وانما اتى بلفظ الماضي مع انه انما أرسل بعد ما هاجر من بينهم الى مدين وتلمذ شعيبا عليه السلام تنبيها على تحقق وقوعه وَبعد ما قد بلغ موسى أشده قد دَخَلَ الْمَدِينَةَ اى مصر يوما من الأيام عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها لأنهم لا يترقبونه في تلك الوقت قيل هو وقت القيلولة وقيل وقت العشاء فَوَجَدَ موسى حين دخل فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ قتالا شديدا هذا اى احد المقاتلين مِنْ شِيعَتِهِ اى بنى إسرائيل وَهذا الآخر مِنْ عَدُوِّهِ يعنى القبط وبعد ما وصل موسى إليهما فَاسْتَغاثَهُ اى طلب منه الغوث والإعانة الرجل الَّذِي هو مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الرجل الَّذِي هو مِنْ عَدُوِّهِ إذ القبطي غالب على السبطى وبعد ما وجد موسى صديقه مظلوما مغلوبا فَوَكَزَهُ اى العدو مُوسى يعنى ضم أصابعه مجتمعة مقبوضة فضرب بها العدو مرة فَقَضى عَلَيْهِ وهلك وانفصل روحه عنه بوكزة واحدة دفعة فخجل موسى من فعله هذا واسترجع الى الله مستحييا منه سبحانه حيث قالَ هذا اى ما جئت به من الفعلة الشنيعة مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إذ هو يغرينى ويغويني باغرائه واغوائه إِنَّهُ اى الشيطان المغرى المغوى عَدُوٌّ لأهل الحق وارباب اليقين مُضِلٌّ لهم يضلهم عن الطريق المستبين مُبِينٌ ظاهر العداوة والإضلال سيما بالنسبة الى ارباب الرشد والكمال قالَ موسى حينئذ متضرعا نحو الحق آئبا اليه تائبا عما صدر عنه مناجيا له عن محض الندم والحياء رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم بين يدي عدوى وخلصني من البلية العامة بمقتضى جودك إِنِّي بالاقدام على هذا الأمر الشنيع قد ظَلَمْتُ نَفْسِي وعرضتها على عذابك بالخروج عن مقتضى حدودك بقتل هذا الشخص بلا رخصة شرعية فَاغْفِرْ لِي يا ربي زلتى بعد ما تبت إليك وأنبت نحوك ورجعت عن ذنبي نادما والتجأت الى بابك راجيا فَغَفَرَ لَهُ ربه زلته بعد ما رجع اليه مخلصا إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْغَفُورُ لذنوب عباده بعد ما رجعوا نحوه متذللين خائبين خاسرين الرَّحِيمُ يقبل توبتهم بعد ما أخلصوا فيها وبعد ما تاب ورجع عما قد عمله خطأ قالَ مقسما رَبِّ يا من رباني بأنواع الكرامات أقسمت بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ اى بعموم نعمك العظيمة الواصلة الى فَلَنْ أَكُونَ بعد اليوم وبحال من الأحوال ظَهِيراً مغيثا ومعينا لِلْمُجْرِمِينَ الذين قد أدت اغاثتهم الى جرم كبير وذنب عظيم وبعد ما صدر من موسى ما صدر فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً من اولياء المقتول يَتَرَقَّبُ منهم الاستقادة والقصاص فَإِذَا اى فاجأ موسى بغتة بالرجل الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ واستغاث منه بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ويستغيث منه ايضا مرة بعد اخرى لقبطى آخر يخاصم معه ويتغلب عليه قالَ لَهُ اى للمستغيث مُوسى على وجه الردع إِنَّكَ مع غاية ضعفك وقلة قوتك لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ظاهر الغواية والضلال فَلَمَّا أَنْ أَرادَ موسى بعد ما رأى غاية ضعف صديقه ومغلوبيته من العدو وان نسب الصديق الى الغواية أَنْ يَبْطِشَ غيرة وحمية عليه بِالَّذِي اى بالقبطي الذي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما اى لموسى والإسرائيلي المغلوب إذ كل قبطى عدو لكل سبطي لاستمرار العداوة فيما بينهم قالَ القبطي يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي ظلما وعدوانا كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ جبرا بلا رخصة شرعية إِنْ تُرِيدُ وما تقصد بفعلك هذا وظهورك هكذا

[سورة القصص (28) : آية 20]

إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً قتالا فِي الْأَرْضِ ظلما وعدوانا بطرا مباهيا بقدرتك وقوتك وَبالجملة ما تُرِيدُ وما تقصد أنت بهذه الجرأة والجريمة أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بين المتخاصمين بل ما أنت الا من المفسدين أشد إفساد وَبعد ما انتشر الخبر بين العوام وشاع بين الأنام الى ان وصل الى فرعون وملائه فحضر اولياء المقتول على باب السلطان طالبين القود من القاتل فهم فرعون وملاؤه بقتل موسى بعد ما قد شاوروا في شأنه مشاورة عظيمة قد جاءَ رَجُلٌ مؤمن بموسى مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ نحوه وهو ابن عمه حال كونه يَسْعى يسرع ويتبختر قالَ باكيا يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ اى فرعون واشراف قومه يَأْتَمِرُونَ بِكَ ويتشاورون في شأنك واستقر رأيهم لِيَقْتُلُوكَ قصاصا فَاخْرُجْ من المدينة في هذه الساعة وبالجملة إِنِّي من كمال عطفي ومرحمتى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ أنصحك بالخروج من بينهم لئلا يلحقك شرهم وضرهم وبعد ما سمع موسى من المؤمن الناصح ما سمع فَخَرَجَ مِنْها اى من المدينة على الفور خائِفاً يَتَرَقَّبُ ادراكهم من الخلف قالَ حين خروجه منها ملتجأ الى الله مناجيا معه مستعينا مغيثا اليه رَبِّ يا من رباني بكنف حفظك وجوارك ونجاني من انواع الفتن والمحن نَجِّنِي بلطفك اليوم ايضا مِنَ ادراك الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ القاصدين لمقتي وقتلى وَلَمَّا تَوَجَّهَ موسى تِلْقاءَ مَدْيَنَ اى جهة قرية شعيب النبي صلوات الله عليه وسلامه قالَ راجيا الى الله ذاكرا سوابق نعمه عليه من كمال فضله وكرمه عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي حسب جوده العميم سَواءَ السَّبِيلِ اى الطريق المستقيم المنجى عن العدو الموصل الى الصديق المشفق المرشد ليهدينى الى صراط الله الأقوم الأعدل الذي هو التوحيد المخلص عن وساوس التقليد فعن له يومئذ ثلاث طرق فاختار أوسطها بالهام الله إياه وجاء الطلاب عقيبه فاختاروا الآخرين فنجى من شرورهم وَلَمَّا وَرَدَ ووصل بعد ما سار ثمانية ايام بلا زاد يأكل الكلأ ماءَ مَدْيَنَ اى بئرا قرب مدين قد كان أهلها يسقون منها مواشيهم وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً اى فرقة مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ مواشيهم وأنعامهم بالدلو وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ اى في مكان ابعد منهم وأسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ معهما أغنام كثيرة وهما تَذُودانِ تطردان وتصرفان غنمهما عن اختلاط غنمهم وتبعدان عن الماء قالَ موسى سائلا عنهما بعد ما شاهد حالهما وذودهما ما خَطْبُكُما واى شيء شأنكما وأمركما واى شيء مقصودكما من الذود مع ان اغنامكما في غاية العطش قالَتا مع كمال الاستحياء والتحفظ من مكالمته في جوابه لا نَسْقِي أغنامنا مع هؤلاء الرجال إذ نحن من اهل بيت النبوة لا نجتمع معهم في السقي بل نصبر حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ ويخلو الدلو ويخرجوا مواشيهم الى المرعى عن رأس الماء. الرعاء جمع راع كتجار جمع تاجر هذا على قراءة يصدر بضم الياء وكسر الدال واما على قراءة يصدر بفتح الياء وضم الدال اى يذهب الرعاة والحفظة بمواشيهم مرتوية وينصرفوا عن شفير البئر إذ نحن لا نختلط باجانب الرجال وَبالجملة نحن من غاية اضطرارنا وضرورتنا قد جئنا للسقي إذ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ فاقد البصر وما لنا أخ وعم وليس لأبينا ظهير وهو شيخ ضرير وبعد ما سمع موسى منهما ما سمع ورأى ما رأى من كمال العفة والعصمة قام مع انه في غاية الضعف من شدة الجوع والعطش وفي رأس البئر حجر عظيم يقلبه عند الاستقاء جمع كثير فقلبه وحده فَسَقى لَهُما جميع اغنامهما فانصرفتا وذهبتا باغنامهما الى بيتهما ثُمَّ تَوَلَّى وانصرف موسى إِلَى الظِّلِّ وازداد جوعه وعناه من فرط

[سورة القصص (28) : آية 25]

الحركة فَقالَ ملتجأ الى ربه رَبِّ إِنِّي من شدة جوعى وضعفى لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ ورزقتني من موائد افضالك وإنعامك مِنْ خَيْرٍ طعام وصل الى فَقِيرٌ مريد محتاج وأنت اعلم لحالي منى وبعد ما تم مناجاته مع ربه ورفع حاجاته اليه سبحانه فَجاءَتْهُ فجاءة إِحْداهُما اى احدى المرأتين تَمْشِي نحوه عَلَى اسْتِحْياءٍ تام منه وكمال تحفظ وتحصن فلما وصلت حوله سلمت عليه خافضة صوتها ناكسة رأسها ثم قالَتْ له مستحية إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ ويكافئ معك أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا تبرعا فأجابها موسى تبركا برؤية شعيب عليه السلام لا طمعا لاجرته. روى انه لما دخل عليه قد أتى أولا بالطعام فامتنع موسى ولم يأكل وقال نحن من اهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا قال شعيب عليه السلام هذا من عادتنا مع كل من ينزل علينا وان من أوتى بمعروف واهدى له لم يحرم أكله في عموم الأديان فقبل قوله موسى واشتغل بأكل الطعام فَلَمَّا جاءَهُ اى لما وصل موسى شعيبا عليهما السلام وتبرك بشرف صحبته وقد لاح على شعيب عليه السلام حاله وشأنه بنور النبوة وَبعد ما ظهر على موسى ايضا انه قد لاح عليه قَصَّ موسى عَلَيْهِ الْقَصَصَ عن آخرها اى عموم ما جرى عليه من اوله الى آخره وسمع منه الشيخ على التفصيل وبعد ما سمع شعيب عليه السلام قالَ لا تَخَفْ بعد اليوم فقد نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعنى فرعون وملئه وبعد ما قد جلس موسى عند شعيب عليه السلام وقص عليه ما جرى عليه من الخوف والحزن والكآبة وانواع الملال والضلال وتشتت الحال وتفرق البال قالَتْ إِحْداهُما اى احدى ابنتين وهي التي استدعته للضيافة يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ لرعى الغنم وأنت تريد الأجير إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ من الرجال هو لأنه الْقَوِيُّ القادر شديد القوة الْأَمِينُ ذو الامانة والديانة قال لها أبوها حمية وغيرة من اين عرفت قوته وأمانته فذكرت لأبيها ما رأت من إقلال الحجر العظيم وحده من رأس البئر مع ان الناس قد يقلون بجمع كثير فهذا دليل قوته واما دليل أمانته فانى بعد ما دعوته بإذنك قام ومشى قدامي وأمرني بالمشي خلفه صيانة على عن النظر الى فقال لي دلينى على الطريق ان ضللت ولما سمع شعيب عليه السلام من ابنته ما سمع من امارات أمانته ومروءته مع انه قد شاهد منه ولاح عليه بنور النبوة نجابة طينته وفطرته رغب الى ألفته ومؤانسته حيث قالَ شعيب عليه السلام بموسى إِنِّي بعد ما وجدتك شابا صالحا سويا نسيبا حسيبا ذا رشد وامانة أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ بصداق معين وهو عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً كاملا فَمِنْ عِنْدِكَ تبرعا وإحسانا وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بان أحملك أزيد من ذلك سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ للخدمة والمصاحبة والمواخاة في أداء الحقوق والعهود قالَ موسى مجيبا له راغبا لقبول ما ألقاه من الكلام ذلِكَ الوقت الذي عينته ملزما على أولا بَيْنِي وَبَيْنَكَ معهود ثابت مقرر معقود عليه كما أمرتم وحكمتم والذي قلتم ثانيا تبرع منى ان قدرت على إتيانه بتوفيق الله وتيسيره كما قررتم أنتم ايضا وبالجملة أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ يعنى أجل الالتزام او أجل التبرع قَضَيْتُ يقع المعهود بلا تردد فَلا عُدْوانَ ولا تعدى عَلَيَّ بعد انقضاء كل واحد من الأجلين وَاللَّهُ الشهيد المطلع على عموم احوال عباده عَلى ما نَقُولُ من المشارطة والمعاهدة وَكِيلٌ حفيظ يحفظها على وجهها فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ اى أقصى الأجلين ومكث عنده عشرا أخر بعد ما تزوج ابنته للاسترشاد والاستكمال وكسب

[سورة القصص (28) : آية 30]

الأخلاق والأطوار بعد ما قد كمل بصحبة المرشد الكامل المكمل وشرف بشرف تربيته أراد ان يرجع الى قومه بل أراد الحق ان يظهر منه ما جبله لأجله وهو زوال ملك فرعون وسلطنته بسببه فخرج من عنده باذنه عليه السلام وَسارَ بِأَهْلِهِ نحو مصر وهي حاملة فجاءها الطلق في ليلة شاتية مظلمة وهم على جناح السفر ضالين عن الطريق آنَسَ وأبصر موسى مِنْ جانِبِ الطُّورِ اى من الجهة التي تجاه الطور ناراً ففرح من رؤيتها حيث قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ساعة إِنِّي قد آنَسْتُ وأبصرت ناراً ومن هذا يعلم ان اهله لم يروها اذهب نحوها لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ من الطريق استخبر من عندها أَوْ جَذْوَةٍ اى عود غليظ مع شيء مِنَ النَّارِ ان لم أجد عندها أحدا لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ بها وتستدفئون من البرد فمكثوا فبادر موسى نحوها سريعا مسرعا فَلَمَّا أَتاها وقرب منها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ اى شفيره وجانبه الْأَيْمَنِ ذي اليمن والكرامة الواقعة فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ التي قد كثر الخير والبركة فيها مِنَ الشَّجَرَةِ التي توقد عليها النار نداء عجيبا معربا عن اسمه مصرحا به أَنْ يا مُوسى المتحير في بيداء الطلب القلق الحائر في فيافى التعب إِنِّي مع كمال اطلاقى وان ظهرت على صورة النار وتقيدت بها متنزلا عن كمال تنزهى وعلو شأنى عن عموم الصور والتعينات أَنَا اللَّهُ الجامع لعموم الأسماء والصفات المتجلى بجميع الصور والشئون وبعموم الهياكل والتماثيل الظاهرة من آثار أوصافي وأسمائي المحسوسة من عكوس شئوني وتجلياتى حسب تطوراتى بمقتضى كمالاتى المتعالي عن الحلول في الشيء منها والاتحاد معه فاطلبنى تجد عموم حوائجك عندي لأنى رَبُّ الْعالَمِينَ اى مربى الكل ومدبره بعد ما قد أظهرت الأشياء واوجدتها من كتم العدم حسب رش نوري ومد ظلي عليها وبعد ما سمع موسى ما سمع قد استوحش بل قد هام ووله من هذا النداء الهائل وارتعد من هيبة هذا الصداء المهول إذ هو في أول انكشافه وابتداء شهوده وبعد ما ظهر منه ما ظهر من الرعب المفرط آنس معه ربه ازالة لرعبه ووحشته فقال مخاطبا له آمرا وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ التي في يدك حتى ترى عجائب صنعتنا وبدائع حكمتنا ويزول استبعادك عن ظهورنا على صورة النار فألقاها على الفور فإذا هي حية تسعى فَلَمَّا رَآها موسى عليه السلام تَهْتَزُّ وتتحرك على وجه السرعة كَأَنَّها جَانٌّ حية صغيرة سريعة السير قد وَلَّى موسى وانصرف عنها مُدْبِراً خائفا مرعوبا متنفرا إذ لم يرها قبل ذلك كذلك وَبعد ما أدبر هائلا هاربا لَمْ يُعَقِّبْ اى لم يرجع ولم يقبل نحوه ولم يلتفت الى اخذه خائفا منها هائبا قلنا له حينئذ مناديا ازالة لرعبه يا مُوسى أَقْبِلْ نحو عصاك وخذها بيدك وَلا تَخَفْ من صورتها المحدثة إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ من ضرر ما ظهر عليك من الصور الحادثة المهيبة فانا سنعيدها سيرتها الاولى وصورتها الاصلية ثم امر سبحانه ثانيا تأكيدا لتأنيسه بقوله اسْلُكْ وادخل يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مضيئة منيرة محيرة المعقول مفرقة الأبصار من كمال إشراقها وإضاءتها مع انها مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ومرض من برص وبهق وغيرها فادخل واخرج على الفور فرأى ما رأى وَبعد ما قد رأى موسى يده في غاية البياض والصفاء واستوحش ايضا منها واسترهب عن عروض المرض إليها بمقتضى بشريته امره سبحانه ثالثا ازالة لحزنه وتمرينا له بقوله اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ واطو كشحك واجمع شملك ويديك ولا تنشره مِنَ الرَّهْبِ والخوف والرعب المفرط وهذا كناية عن الطمأنينة والوقار وعدم اخطار الخوف مطلقا بالبال فَذانِكَ اى فاعلم

[سورة القصص (28) : آية 33]

ان العصا واليد البيضاء بُرْهانانِ واضحان وشاهدان صادقان على دعواك النبوة والرسالة ومعجزتان باهرتان لك لمن يعارض معك وأنكر عليك وعلى رسالتك وذانك البرهانان منتشآن مِنْ رَبِّكَ موهوبان لك من عنده تأييدا لك ولأمرك وشأنك حين رسالتك وإتيانك إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ لتدعوهم الى توحيد الحق وصراطه المستقيم وتنذرهم عماهم عليه من الإفراط والتفريط إِنَّهُمْ من غاية انهماكهم في الغفلة والغرور كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة في شرائع الأنبياء الماضين والرسل المنقرضين ثم لما سمع موسى من ربه ما سمع قالَ معتذرا مستظهرا رَبِّ يا من رباني بسوابق النعم الجليلة أنت اعلم منى بحالي إِنِّي قد قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً خطأ بإغراء الشيطان على واغوائه فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ويبادرون الى قتلى قبل دعوتهم الى دينك وتوحيدك لو اذهب نحوهم وحيدا فريدا بلا ظهير ومعين وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً وأوضح بيانا وأتم تقريرا وتبيانا فَأَرْسِلْهُ مَعِي واشركه في امرى ليكون رِدْءاً الى معاونا على يعينني في امرى يُصَدِّقُنِي قولي لدى الحاجة إِنِّي من كمال عداوتهم معى وشدة شكيمتهم وضغينتهم على أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ دفعة ولا ينطلق لساني بمجادلتهم ودفعهم بسبب لكنتى فافوت بلكنتى حكمة رسالتي واحكام دعوتي ونبوتي قالَ له سبحانه على سبيل التأييد والتعضيد سَنَشُدُّ عَضُدَكَ ونقوى ظهرك وأمرك بِأَخِيكَ وَمع ذلك لا تيأس من توفيقنا لك وتأييدنا إليك واعلما انا بعد ارسالكما الى فرعون وملائه نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً برهانا واضحا وحجة قاطعة بها تغلبان أنتما إليهم فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بسوء قطعا بل لا يمكن لهم ان ينظروا نحوكما بقهر واستيلاء سيما بعد اتيانكما مؤيدا مصحوبا بِآياتِنا التي قد آتيناكما وبالجملة لا تخافا من غلبتهم عليكما حسب شوكتهم وكثرتهم عددا بل أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا وآمن لكما الْغالِبُونَ المقصورون على الغلبة والاستيلاء وهم المغلوبون المنحصرون على المغلوبية والمهزومية لا يتجاوزون عنها أصلا حسب ما أثبتنا في لوح قضائنا وحضرة علمنا المحيط فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى مؤيدا بِآياتِنا الدالة على صدقه في دعواه مع كون تلك الآيات بَيِّناتٍ ظاهرات واضحات في انها من لدنا بلا ريب وتردد ومع ذلك قالُوا من شدة قسوتهم وانهماكهم في الضلال ما هذا الذي قد اتى على صورة المعجزة والبرهان إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً قد اختلقه من تلقاء نفسه ونسبه الى ربه تغريرا وترويجا لباطله في صورة الحق وَمن شدة حرصه على ترويج ما قد زخرفه من عند نفسه سماه دينا وهداية ورشدا ودراية ونسبه الى الوحى والإنزال من الإله الواحد الأحد الموهوم مع انا ما سَمِعْنا بِهذا اى بوحدة الإله الواحد الأحد المرسل الرسل المنزل الكتب بالوحي والإلهام الواضع الأديان والشرائع بين الأنام وما كان هذا ايضا كائنا ثابتا معروفا مشهورا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ بل ما هو الا افك وافتراء ولبس على الأنام امره تغريرا عليهم وتضليلا لهم وَبعد ما قد أبصروا بالآيات القاطعة والبراهين الساطعة ونسبوها من غاية غيهم وضلالهم الى السحر والشعبذة مع انها بعيد بمراحل عنها قالَ مُوسى بعد ما قنط عن ايمانهم وصلاحهم رَبِّي الذي رباني بأنواع الكرامات أَعْلَمُ منى بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى ومن اتصف بالرشد والهداية المنزلة مِنْ عِنْدِهِ حسب وحيه والهامه ومن اهتدى واسترشد به من عباده وَمَنْ تَكُونُ وتحصل لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ يعنى العاقبة الحميدة المترتبة على هذه النشأة التي هي دار الابتلاء والاختبار في النشأة الآخرة التي هي نشأة الجزاء

[سورة القصص (28) : آية 38]

والعطاء وبالجملة إِنَّهُ اى الشأن والأمر حسب ارادة الله سبحانه وبمقتضى عدله وحكمته لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية ولا يفوزون بما فاز به المتقون من المثوبة العظمى والدرجة العليا وَبعد ما قد أتم موسى كلامه الصادر من محض الحكمة قالَ له فِرْعَوْنُ مستكبرا عليه مستحيا عمن حوله من الأنام لئلا ينسبوه الى العجز والافحام مناديا لهم على سبيل العظمة والكبرياء يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق ويستحق للعبادة غَيْرِي ومن اين يدعى هذا الكذاب ان في السماء الها سواي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ يعنى مر يا هامان للعملة على الفور ان يتخذوا من الطين لبنا ويوقدوها بالنار حتى صارت متحجرة آجرا فَاجْعَلْ لِي وابن لي منها صَرْحاً رفيعا وقصرا مشيدا منيعا سمكه متصل الى السماء فاستعلى انا عليها لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى فان اقبل بالقتال اغلب عليه واحطه على الأرض صاغرا مهانا وَبالجملة إِنِّي لَأَظُنُّهُ في هذه الدعوى مِنَ الْكاذِبِينَ القائلين بقول لا منشأ له في الواقع ولا اصل ولا مستند له لا في العقل ولا في العادة قيل قد بنى رصدا ليطلع على نظرات الكواكب هل يجد فيها نظرا يدل على زوال دولته باستيلاء موسى عليه وَمن غاية غفلته وسكرته ونهاية عمهه وقسوته قذ اسْتَكْبَرَ هُوَ اى فرعون اصالة وَجُنُودُهُ ايضا تبعا له إذ هم على دين ملكهم وطوره فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ والاستحقاق وترقوا في عتوهم وعنادهم الى ان قد ظهروا على الله بأمثال هذه الهذيانات الباطلة وَظَنُّوا بل تيقنوا وجزموا بالاقدام والجرأة على أمثال هذه الخرافات أَنَّهُمْ بعد انخلاعهم عن لوازم عالم الناسوت إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ رجوع الاظلال الى الأضواء المنعكسة من شمس الذات وصور الأمواج الحادثة على سطح الماء الى الماء وبعد ما بالغوا في العتو والعناد وظهروا على وجه الأرض بأنواع الجور والفساد فَأَخَذْناهُ اى فرعون حسب قهرنا وجلالنا إياه وَجُنُودَهُ ايضا بأنواع العذاب فَنَبَذْناهُمْ اى قد طرحنا الكل فِي الْيَمِّ وغطيناهم بالماء واغشيناهم مثل غشى وجوداتهم الباطلة بالوجود المطلق البحث الإلهي فَانْظُرْ يا أكمل الرسل وتأمل كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ومآل أمرهم وما يئول اليه حالهم وشأنهم وَمن كمال ابتلائنا إياهم ومكرنا معهم قد جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً وقدوة للضلال المستوجبين بأنواع الخسار والبوار بحيث يَدْعُونَ من تبعهم ويقتفى أثرهم إِلَى النَّارِ اى اسبابها وموجباتها إذ مآل الكل إليها تابعا ومتبوعا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ اى لا يدفع عنهم العذاب ولا يخفف بشفاعة احد وَكيف ينصرون أولئك الضلال الهالكون في تيه الضلال مع انا قد أَتْبَعْناهُمْ والزمنا عليهم فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً مستمرة جارية على ألسنة من على الأرض وَيَوْمَ الْقِيامَةِ المعد للجزاء هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ المطرودين عن ساحة عز القبول والحضور المسوقين بسياط العنف والجبر نحو جهنم البعد والخذلان صاغرين مهانين وَبعد ما قد نبذنا فرعون وجنوده في اليم لَقَدْ آتَيْنا وأعطينا مُوسَى الكليم الْكِتابَ العظيم اى التوراة المحتوية الجامعة على ظواهر الاحكام مِنْ بَعْدِ ما قد أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى واستأصلنا آثارهم وأحكامهم بحيث لم يبق حينئذ من شرائع المتقدمين وضوابطهم وقواعدهم وحدودهم وأحكامهم شيء بين الأنام كنوح وهود وصالح وابراهيم وغيرهم صلوات الرحمن عليهم دائما وانما آتيناه ليكون بَصائِرَ لِلنَّاسِ يعنى ينور باحكامه وأوامره عيون بصائرهم ويستيقظون به عن منام الجهل والغفلة ويشتغلون بسببه لطلب الحق وَهُدىً يهديهم الى

[سورة القصص (28) : آية 44]

سلوك مسالك التوحيد وَرَحْمَةً تبشرهم الى البقاء الأبدي السرمدي بعد انخلاعهم عن خلعة تعيناتهم العدمية وافنائهم عن هوياتهم الباطلة الناسوتية لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ رجاء ان يتذكروا ويتنبهوا من المواعظ والاحكام التي ذكرت فيه الى ما جبلوا لأجله من المعارف والحقائق والرموز والإشارات والمكاشفات والمشاهدات ومع ذلك لم يتنبهوا ولم يتفطنوا ولم يتعظوا بها الا قليلا. ثم لما قص سبحانه حبيبه ما قص من قصة موسى الكليم وكيفية انكشافه من النار الموقدة على الشجرة المذكورة وكيفية عروجه منها مترقيا من العلم الى العين ثم الى الحق أراد ان يمن عليه سبحانه بما اصطفاه وفضله من بين البرايا للرسالة العامة وأخبره من المغيبات بطريق الوحى والإلهام ما ليس في وسعه لولا وحيه والهامه سبحانه إياه فقال وَما كُنْتَ يا أكمل الرسل حين انكشف أخوك موسى بالواد المقدس وقد شهد من فضل الله عليه ما شهد بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ اى وادي الذي على شفيره الشجرة المعهودة بالطرف الغربي من مكان موسى وبالجملة ما كنت حينئذ حاضرا عنده وقت إِذْ قَضَيْنا وأوحينا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ الذي هو انكشاف مطلوبه الحقيقي من مطلوبه الصوري وَما كُنْتَ أنت حينئذ مِنَ الشَّاهِدِينَ الحاضرين المطلعين على شهوده وشأنه وَلكِنَّا من كمال لطفنا وجودنا قد اخبرناك بما قد جرى بينه وبيننا في تلك الليلة كما قد أخبرنا لك عن احوال امم كثيرة قد أَنْشَأْنا من بعد موسى ومن قبلك قُرُوناً وامما كثيرة في ازمنة متطاولة وأمد بعيد فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ومكثوا في الدنيا كثيرا ودار عليهم الدول وطال الحول وحدثت الفتن والمحن ووقع ما وقع من التغييرات والتحريفات الكلية في الشرائع والأديان الماضية واندرست معالم الهدى وفشا انواع الجدال والطغيان بين اشخاص الإنسان وبالجملة قد استولت الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة على اهل الأعصار والأزمان السالفة والقرون الماضية ولقد أخبرنا لك يا أكمل الرسل ما في كتابك هذا من وقائعهم وأحوالهم وأطوارهم ومعاملاتهم ومقالاتهم مع رسل الله وخواص عباده ليكون تذكرة لك وعبرة للمؤمنين بك وَايضا ما كُنْتَ يا أكمل الرسل ثاوِياً مقيما متوطنا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الدالة على كمال القسط والعدالة بلسان نبينا شعيب عليه السلام وذلك عند انحرافهم عن جادة الاعتدال في المكيلات والموزونات واشتغلوا بالبخس والتطفيف وانواع التنقيص والتخسير وَلكِنَّا قد كُنَّا مُرْسِلِينَ مخبرين لك موحين إليك ما جرى عليهم من الأحوال وَما كُنْتَ ايضا حاضرا بِجانِبِ الطُّورِ الذي هو موعد موسى معنا وقت إِذْ نادَيْنا موسى لاخذ التوراة ووقت وحينا اليه وَلكِنْ قد علمناك به ليكون رَحْمَةً لك نازلة إليك مِنْ رَبِّكَ تأييدا لك وتقوية لشأنك بل انما اوحيناك عموم ما اوحيناك لِتُنْذِرَ أنت به قَوْماً ضلالا ظالمين قد بقوا على فترة من الرسل إذ ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ من لدن عيسى عليه السلام وهي خمسمائة وخمسون سنة او من لدن جدك إسماعيل عليه السلام وهي بأضعاف هذه المدة المذكورة بناء على ان دعوة بنى إسرائيل مختصة بهم لا يتعدى الى غيرهم لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ويتعظمون بما في كتابك ويتنبهون من حكمه وأحكامه الى مبدئهم ومعادهم ويفوزون منها الى المعارف والحقائق التي جبلوا لأجلها. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع وَلَوْلا كراهة أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ عظيمة جالبة موجبة لنزول انواع العذاب والنكال بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ اى بشؤم ما اقترفوا من المعاصي فَيَقُولُوا حينئذ محتجين علينا مجادلين بنا بعد ما

[سورة القصص (28) : آية 48]

قد أخذناهم عليها رَبَّنا لَوْلا هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا من عندك مؤيدا من لدنك بالآيات البينات فَنَتَّبِعَ آياتِكَ حينئذ البالغة إلينا برسالته ونصدقها ونعمل بمقتضاها وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بوحدانيتك المخلصين في إيمانك وتوحيدك المخلصين من عذابك ما أرسلناك ولكن قد أرسلنا الرسل وأنزلنا الكتب لذلك فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ اى الرسول المرسل مِنْ عِنْدِنا ملتبسا بالحق مؤيدا بالآيات الساطعة والبراهين القاطعة قالُوا من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم وضغينتهم لَوْلا هلا أُوتِيَ بهذا الرسول المرسل إلينا من الدلائل والمعجزات مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى حتى نصدقه ونؤمن به وبالجملة ما هذا الا من غاية غيهم وضلالهم وغلظ حجبهم وكثافة غشاوتهم ولذا لو اوتى لك مثل ما اوتى موسى لكفروا لك البتة أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ حيث قالُوا بعد ما شاهدوا دلائل معجزاته مبالغين في رده وإنكاره سِحْرانِ او ساحران على القرائتين تَظاهَرا يعنون هارون وموسى مع ان ما أتيا به بعيد بمراحل عن السحر وأنتم ايضا ايها الضالون من بقية من كفروا بدلائل موسى ونسبوها الى السحر ولو آتينا محمدا صلى الله عليه وسلم مثل ما أتينا موسى لكفرتم به البتة كما كفر اسلافكم بآيات موسى ومعجزاته مع ان دلائل محمد صلى الله عليه وسلم أقوى من دلائل موسى عليه السلام وكتابه اجمع من كتابه أتم نظما وأكمل معرفة وأعم حكما واشمل فائدة وَبعد ما سمعوا ما دل على خباثة فطرتهم قالُوا مظهرين ما في نفوسهم من الشرك والنفاق إِنَّا بِكُلٍّ ممن يدعى الرسالة والنبوة والإرشاد والهداية كافِرُونَ منكرون وبالجملة نحن لا نقبل مطلقا من أبناء جنسنا أمثال هذه المفتريات التي قد اختلقوا عن تلقاء أنفسهم ونسبوها ترويجا الى ما لا وجود له في الواقع وسموه الها واحدا أحدا صمدا فردا وترا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا قُلْ يا أكمل الرسل على سبيل التعجيز والتوبيخ بعد ما قد عاينت منهم الكفر على ابلغ وجه وآكده فَأْتُوا ايها المفسدون المسرفون بِكِتابٍ نازل مِنْ عِنْدِ اللَّهِ المنزل الكتب لإرشاد عباده هُوَ أَهْدى مِنْهُما اى من التوراة والقرآن أَتَّبِعْهُ اى ذلك الكتاب وما فيه من الاحكام وامتثل لأوامره واجتنب عما نهى فيه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في نسبتنا الى السحر فَإِنْ عجزوا عن الإتيان ولَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ ما طلبت منهم فَاعْلَمْ يا أكمل الرسل يقينا أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ اى انهم ما يتبعون الا أهواءهم الفاسدة وآراءهم الباطلة بلا متابعة منهم الى ملة من الملل السالفة ودين من الأديان السابقة وَمَنْ أَضَلُّ طريقا وأشد غيا وأسوأ حالا ومآلا مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ حال كونه بِغَيْرِ هُدىً ولا توفيق وارشاد ناش مِنَ اللَّهِ الميسر لأمور عباده وكيف يوفقهم الحق ويهديهم إِنَّ اللَّهَ الحكيم المتقن في أفعاله لا يَهْدِي الى الطريق المستبين الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات أوامره ونواهيه إذ هم منهمكون في بحر الغفلة والضلال بحيث لا يرجى نجاتهم منها أصلا وَلَقَدْ وَصَّلْنا وفصلنا لَهُمُ الْقَوْلَ بان قد اتبعنا الاحكام بالحكم والأوامر بالمواعظ والتذكيرات والنواهي بالعبر والأمثال وقد أوضحنا الكل بالقصص والوعيدات الهائلة الواردة على اصحاب الغفلة والنسيان وبتنزيل انواع العذاب والنكال على اهل الكفر والإنكار كل ذلك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فيتعظون منها ويؤمنون بها ويقبلون ما فيها ومع ذلك لم يتعظوا ولم يتأثروا ولم يقبلوا ولم يؤمنوا. ثم قال سبحانه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اى التوراة ووفقناهم على امتثال ما فيها من الأوامر والنواهي وعموم الأمور المتعلقة بالمعتقدات الدينية مِنْ قَبْلِهِ اى قبل نزول القرآن هُمْ بِهِ اى بالقرآن او بمحمد عليه السلام يُؤْمِنُونَ

[سورة القصص (28) : آية 53]

إذ هم مصدقون بعموم ما في كتابهم ومن جملة الأمور المثبتة فيه إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن اليه وهم يؤمنون به قبل بعثته صلّى الله عليه وسلّم ونزول القرآن بمدة متطاولة وَبعد نزول القرآن إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا مسلمين مصدقين آمَنَّا بِهِ واعتقدنا إِنَّهُ الْحَقُّ المطابق للواقع النازل المنزل مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ اى قبل نزوله مُسْلِمِينَ منقادين لجميع ما فيه مصدقين له مؤمنين بمن انزل اليه إذ الايمان به من جملة المعتقدات المثبتة في كتابنا فالآن لم لم نؤمن مع انا قد وجدناه مطابقا لما علمناه وحفظناه في كتابنا وعلى الوجه الذي تلوناه فيه وبالجملة أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله يُؤْتَوْنَ ويعطون أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ وضعفين مرة على الايمان السابق بالقرآن وبمحمد حسب ما ثبت في كتابهم ومرة على الايمان اللاحق بعد ما عاينوا ما وصف لهم في كتابهم وانما ضعّفوا في جزائهم بِما صَبَرُوا وثبتوا على ما نزل عليهم من قبل الحق ولم يتركوا امتثاله لا سابقا ولا لاحقا وَهم بسبب دوامهم وثباتهم على ما أمروا في كتابهم يَدْرَؤُنَ يسقطون ويدفعون بِالْحَسَنَةِ اى الخصلة الحميدة الجميلة الموجبة لانواع الإفضال والانعام السَّيِّئَةَ الجالبة لانواع العذاب والخذلان وَهم ايضا من كمال اتصافهم بالإيمان والإحسان مِمَّا رَزَقْناهُمْ واقدرناهم على اقترافه وكسبه يُنْفِقُونَ في سبيلنا طلبا لمرضاتنا وَايضا هم من كمال تحفظهم وصيانتهم عن نواهينا إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ اى الكلام الخالي عن المصلحة الدينية أَعْرَضُوا عَنْهُ اتقاء وتحرزا عن وصمة المداهنة والمراضاة بما لا يرضى به سبحانه وَقالُوا من سلامة نفوسهم وكمال علمهم للمرتكبين به بعد ما لم يقدروا على نهيهم لَنا أَعْمالُنا التي قد اقترفناها بسعينا واجتهادنا اى جزاؤها وما يترتب عليها وَلَكُمْ ايضا أَعْمالُكُمْ التي أنتم عليها مصرون وبجزائها متربصون وقالوا لهم حين توديعهم والذب عنهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعنى سلمكم الله العفو الرحيم عن عوائد ما كنتم عليه ووفقكم على التوبة والانابة عنه ومالنا معكم مطالبة ومجادلة سوى انا لا نَبْتَغِي ولا نطلب مصاحبة الْجاهِلِينَ بسوء عواقب الخصائل الذميمة الغير المرضية عند الله وعند خلص عباده. ثم لما احتضر ابو طالب ودنا ان يخرج من الدنيا جاءه رسول الله صلّى الله عليه مهتما بإيمانه وتوحيده فقال له قل يا عمى مرة لا اله الا الله انا أحاج بها لك عند ربي فأخرجك بها عن زمرة المشركين قال يا ابن أخى والله لقد علمت يقينا انك لصادق صدق صدوق في جميع ما جئت به لكن اكره ان يقال قد جزع ابو طالب عند الموت اى ضعف وجبن لذلك آمن بابن أخيه انزل سبحانه هذه الآية تأديبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم وردعا عن طلب شيء لا يرجى حصوله فقال إِنَّكَ يا أكمل الرسل من شدة حرصك واهتمامك لا تَهْدِي ولا ترشد الى طريق الحق وسبيل توحيده عموم مَنْ أَحْبَبْتَ وأردت إيمانه وَلكِنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده يَهْدِي ويوفق على الايمان والإطاعة بدين الإسلام مَنْ يَشاءُ هدايته واثبت سعادته وتوحيده في لوح قضائه وَهُوَ سبحانه أَعْلَمُ بعلمه الحضوري بِالْمُهْتَدِينَ من عباده بعد ما بلغت لهم ما قد أمرك الحق بتبليغه وبالجملة ما عليك الا البلاغ والهداية والرشد والإرشاد الى سبيل السداد انما هو بإرادته سبحانه وبمقتضى اختياره ومشيئته ومن الاعراب قوم جاءوا الى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَقالُوا انا قد علمنا يقينا انك على الحق والهداية والرشد لكنا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ ونؤمن بك ونعمل بدينك ونمتثل بجميع ما قد جئت به من عند ربك على الوجه الذي اعتقدناك نُتَخَطَّفْ ونخرج مِنْ أَرْضِنا التي كنا مستقرين عليها بمخالفتنا

[سورة القصص (28) : آية 58]

العرب إذ نحن معاشر العرب أكلة رأس متفقين في عموم الخطوب ومتى خالفناهم في امر لم يرضوا عليه قد أخرجونا من بينهم البتة صاغرين مهانين فرد الله سبحانه عليهم عذرهم هذا بقوله أَيخافون أولئك الخائفون وَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ فيما مضى ولم نجعل مكانهم الذي يستقرون فيه حَرَماً ذا حرمة عظيمة آمِناً ذا أمن وأمان من عموم المكاره جالبا لانواع الخيرات والبركات إذ يُجْبى إِلَيْهِ ويجمع فيه ويحمل نحوه ويجر اليه ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ ونفائسه من كل أمد بعيد وفج عميق لتكون رِزْقاً لهم مِنْ لَدُنَّا نحوهم وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ اى اكثر الناس المجبولين على الجهل والنسيان لا يَعْلَمُونَ كمال لطفنا معهم ووفور رحمتنا إياهم وَقل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا لا تغرنكم الحياة الدنيا وامهالنا إياكم فيها مترفهين متنعمين إذ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ اى كثيرا من اهل قرية أهلكناهم مع انهم قد بَطِرَتْ مَعِيشَتَها وكان أهلها بطرين فيها من سعة عيشها ووفور نعمها ومعيشتها أمثالكم فدار عليهم الدول فأخذناهم بأنواع النقم بدل نعمنا وانعامنا إياهم بشؤم كفرهم وكفرانهم فأهلكناهم واستأصلناهم صاغرين فانظر كيف كان عاقبة البطرين المفسدين فَتِلْكَ الاطلال الخربة والآثار الكربة الكئبة التي تجاه وجوهكم مَساكِنُهُمْ وأوطانهم التي كانوا يتمكنون فيها مترفهين بطرين انظروا كيف اندرست وخربت وتفتتت بحيث لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ في بلادهم وأماكنهم إِلَّا قَلِيلًا من اهل السفر والعبور ينزلون فيها ساعة ويرحلون بلا اقامة فيها ووراثة لها هكذا حال الدنيا وحياتها والاستقرار عليها والتمتع بمتاعها دائما عند العارف المحقق المتحقق ببطلان حقيقتها وماهيتها وَبعد ما أهلكناهم وخربنا بلادهم ودورهم قد كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ منهم لا نمكن فيها خلفاء من أبناء نوعهم من شؤم آثامهم وجرائمهم التي قد كانوا عليها مصرين غير ممتنعين وان أرسلنا عليهم الرسل وأنزلنا عليهم الكتب وَبالجملة ما كانَ رَبُّكَ يا أكمل الرسل مُهْلِكَ الْقُرى وما ينبغي وما يليق بشأن الحكيم العليم ان يأخذهم بغتة بلا منبه منذر بل ما أخذناهم على ظلمهم وعدوانهم حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها اى البلدة التي هي أم القرى الهالكة ومعظمها إذ أهلها اقبل للرشد والهداية من اصحاب حواليها ونواحيها وهم يتبعون لهم في معظمات أمورهم أولا رَسُولًا مؤيدا من لدنا مرسلا إليهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمال قدرتنا على وجوه الانعام والانتقام ويدعوهم الى توحيدنا والتدين بالدين الموضوع من عندنا فتلا عليهم آياتنا فدعاهم الى توحيدنا وديننا فلم يقبلوا قوله ولم يستجيبوا له بل قد كذبوه وجميع ما جاء من الرشد والهداية مصرين على ما هم عليه من الغواية فاستحقوا العذاب والهلاك فلذلك أهلكناهم وَبالجملة ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ يعنى ما كنا مبادرين على إهلاك القرى الهالكة بلا سبق اسباب قد صدرت عنهم واستوجبت إهلاكهم بل انما أخذناهم بعد ما ظلموا أنفسهم بالخروج عن مقتضى حدودنا الموضوعة فيهم ظلما وعدوانا وصاروا مصرين مفتخرين بطرين بما آتيناهم من زخرفة الدنيا المستعارة الفانية التي قد الهاهم عن اللذات الاخروية الباقية وَالحال انه ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ في هذه النشأة فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الدنية التي هي على طرف التمام مشرفة على التقضي والانصرام مبنية على السقوط والانهدام وَزِينَتُها الزائلة الذاهبة بلا قرار ولا دوام وَما عِنْدَ اللَّهِ من المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات المعدة الموعدة

[سورة القصص (28) : آية 61]

لأرباب المراتب العلية والمناصب السنية من المنقطعين نحو الحق بعد انخلاعهم عن لوازم هوياتهم الباطلة البشرية العائقة عن التلذذ باللذات الاخروية الروحانية خَيْرٌ محض لا يتخلل بينه شر ونفع صرف ولا يطرؤ عليه ضرر وَأَبْقى وأدوم إذ لا يلحقه انصرام ولا انقضاء ولا زوال ولا فناء أَتستبدلون أنتم ايها الحمقى الأدنى الفاني بالأعلى الباقي بل تختارون اللذة الجسمانية على اللذات الروحانية فَلا تَعْقِلُونَ ولا تستعملون عقولكم الموهوبة لكم بمقتضاها ليتميز عندكم ما هو الأليق بحالكم والاولى بمآلكم أَتستوون وتعدلون الآجل الباقي بالعاجل الزائل الفاني مع ان الكل من عندنا وتحت قدرتنا فَمَنْ وَعَدْناهُ من لدنا وعهدنا معه وَعْداً حَسَناً اى موعدا ذا حسن وكرامة وبهجة وبهاء فَهُوَ لاقِيهِ ومدركه وموصل اليه البتة إذ لا خلف لوعدنا الموعود من عندنا ولا نقض لعهدنا المعهود من لدنا أصلا أتظنون وتعتقدون ايها الجاهلون ان منزلة هذا السعيد الموفق على السعادة من عندنا كَمَنْ مَتَّعْناهُ كالشقى الذي متعناه في هذه النشأة مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الدنية الامكانية الظلمانية التي هي مكدرة بأنواع الكدورات مشوبة بأصناف الآلام والحسرات منغمسة بالخبائث والقاذورات ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بعد انقراض النشأة الاولى مِنَ الْمُحْضَرِينَ عند الله يوم العرض الأكبر للحساب والجزاء على ما قد تمتعوا به في النشأة الاولى. ثم قال سبحانه وَاذكر يا أكمل الرسل لمن أشرك بالله واثبت شريكا في الوجود سواء يَوْمَ يُنادِيهِمْ الله المتعزز برداء العظمة والكبرياء حين ظهر على مظاهره باسم القهار المفنى لأظلال السوى والأغيار مطلقا فَيَقُولُ بمقتضى غيرته وجلاله مخاطبا لمن قد أشرك له شيأ من عكوسه واظلاله مع ان الكل مطموس مقهور تحت حوله وقوته أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ايها الزاعمون المشركون المثبتون لي شركاء وتعبدونهم مثل عبادتي عدوانا وظلما. ثم أظهرهم الحق وأوجدهم جميعا تابعا ومتبوعا عابدا ومعبودا بعد ما قد قهرهم واعدمهم جميعا إظهارا للقدرة الكاملة وإلزاما للحجة البالغة وبعد ما أظهرهم وسألهم قالَ الَّذِينَ حَقَّ اى ثبت وتوجه عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ والسؤال من الله أولا وهم المعبودون مناجين نحو الحق متضرعين قائلين رَبَّنا يا من ربانا على فطرة التوحيد كيف تصدر منا أمثال هذه الجرأة بل هؤُلاءِ الغواة الهالكون في تيه الغي والضلال هم الَّذِينَ قد أَغْوَيْنا عن منهج الاستقامة والسداد بأنواع التذلل والانقياد والإطاعة والعبادة إيانا بمقتضى اهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة مع انا لا نستحق بها بل فعلوا ذلك على توهم منهم انا قادرون على إنجاح ما في نفوسهم وطباعهم من الأماني والشهوات ونحن ايضا قد أَغْوَيْناهُمْ بأنواع التغريرات والتضليل كَما غَوَيْنا 7 هؤلاء إيانا بعباداتهم وطاعاتهم إلينا فتعارض اغواؤنا باغوائهم وحين ظهر الحق قد تساقطا فالآن قد تَبَرَّأْنا عنهم وعن عبادتهم والتجأنا إِلَيْكَ تائبين آئبين مع انهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ حين ادعوا عبادتنا بل انما عبدوا اهوية نفوسهم وأماني قلوبهم وتوسلوا بنا فيها وكذا العابدون الضالون يتبرءون عن معبوداتهم باشد من ذلك متلائمين متعارضين وَقِيلَ حينئذ من قبل الحق للمشركين على سبيل التهكم والاستهزاء ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ الذين كنتم تطمعون وتدعون شفاعتهم إياكم فَدَعَوْهُمْ صائحين متضرعين فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ من كمال عجزهم وحيرتهم في أنفسهم وَبعد ما قد رَأَوُا الْعَذابَ النازل على أربابهم قالوا متمنين على سبيل التلهف والتحسر لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ في النشأة الاولى لينقذوا أنفسهم عن العذاب اليوم فكيف إنقاذهم بنا

[سورة القصص (28) : آية 65]

وَبعد ما قد سأل سبحانه عن جريمة شركهم وسألهم ايضا عن تكذيب رسلهم اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يُنادِيهِمْ الحق فَيَقُولُ سبحانه معاتبا عليهم ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ حين دعوتكم الى الايمان والتوحيد والعمل الصالح والاجتناب عن المحضورات وترك المنكرات فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ يعنى قد ضلوا وتحيروا عن جميع طرق الكلام وسدت عليهم عموم سبل الاجوبة والتنطق والاخبار مطلقا وما ذلك الا من نهاية دهشتهم وحيرتهم وشدة ولههم وسكرتهم وبالجملة فَهُمْ حينئذ من غاية الهيبة والوحشة والهيمان لا يَتَساءَلُونَ ولا يتقاولون ولا يسأل بعضهم بعضا شيأ مجهولا حتى يعلمه بل كلهم حينئذ حيارى سكارى تائهون هائمون لا يسع لهم ولا يتأتى منهم الالتفات والتلقي أصلا فَأَمَّا مَنْ تابَ من عموم ما جرى من المعاصي وَآمَنَ بالله بمقتضى ما امره الحق بلسان رسله وأنبيائه وَعَمِلَ عملا صالِحاً امتثالا بما نطق به الكتب والرسل فَعَسى أَنْ يَكُونَ هذا التائب السعيد مِنَ الْمُفْلِحِينَ الفائزين بالتوبة العظمى والدرجة العليا عند الله ومن المبشرين من لدنه سبحانه بشرف اللقاء والوصول الى دار البقاء وسدرة المنتهى وَرَبُّكَ يا أكمل الرسل يَخْلُقُ ويظهر حسب تجلياته الحبية الجمالية جميع ما يَشاءُ من المظاهر وَيَخْتارُ منها ما يختار فالكل مجبور محكوم تحت قدرته ومشيته ما كانَ وما صح وما جاز وما ثبت لَهُمُ الْخِيَرَةُ والتخير والاختيار مطلقا حتى يريدوا لأنفسهم ما هو الأصلح لهم بل عموم أمورهم وشئونهم وأطوارهم مفوضة الى الله أولا وبالذات مستندة اليه سبحانه اصالة وهم مقهورون مجبورون تحت حكمه وقضائه حسب الارادة والاختيار وكيف لا يكونون مجبورين إذ هم في أنفسهم من عكوس أسمائه وظلال أوصافه ما لهم وجود في أنفسهم وتحقق في ذاتهم سُبْحانَ اللَّهِ المنزه عن المثل والشبه في الوجود وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ له من الشريك والنظير من الوجود وَرَبُّكَ يا أكمل الرسل يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع ما تُكِنُّ وتخفى صُدُورُهُمْ اى ضمائرهم وقلوبهم وَما يُعْلِنُونَ اى يظهرون بجوارحهم وآلاتهم وَكيف يخفى عليه شيء إذ هُوَ اللَّهُ الواجب لذاته المستقل في وجوده وظهوره المستوي على عروش عموم مظاهره ومصنوعاته بالاستقلال التام والاستيلاء الكامل لا إِلهَ في الوجود سواه ولا موجود غيره يعبد ولا عالم لعموم ما ظهر وما بطن إِلَّا هُوَ لذلك قد ثبت لَهُ الْحَمْدُ والثناء على الإطلاق الصادر من ألسنة ذرائر الأكوان والمظاهر وعموم من رش عليه من رشحات جوده ولمعات وجوده فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ من نشأتى الظهور والخفأ والبروز والكمون والقبض والبسط وَلَهُ الْحُكْمُ والأمر في الصعود والهبوط والنزول والعروج وكذا في عموم الشئون والتطورات وَبالجملة إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا غير معه في الوجود ولا شيء سواه في عين الشهود تُرْجَعُونَ وتحشرون كما انه منه تبدؤن وتنشئون. ثم أشار سبحانه الى معظم ما أنعم على عباده من تجدد الملوين وتعاقب الجديدين امتنانا لهم وحثا على مواظبة شكره ومداومة ذكره والتذكر بانعامه وإحسانه وتعريضا للمشركين على كفرهم وكفرانهم فقال آمرا لحبيبه صلّى الله عليه وسلم قُلْ يا أكمل الرسل للناس الناسين توالى نعمنا المتوالية المترادفة عليهم مستفهما إياهم مستخبرا عنهم على سبيل التنبيه والتذكير أَرَأَيْتُمْ اى أخبروني ايها المغموزون بموائد نعمى إِنْ جَعَلَ اللَّهُ المحول للأحوال المدبر لعموم التدابير والأطوار عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ المظلم والعدم الصرف سَرْمَداً ممتدا مستمرا بلا تخلل ضوء الوجود بينه إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ

[سورة القصص (28) : آية 72]

مَنْ إِلهٌ قادر على إيجاد الضوء في خلال الظلمة واظهار الوجود على العدم غَيْرُ اللَّهِ على زعمكم الفاسد يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ تفوزون أنتم الى امور معاشكم بسببه أَفَلا تَسْمَعُونَ أمثال هذه التذكيرات ولا تفهمون معناها ولا تنكشفون عن الحكم والمصالح المدرجة فيها ايها المجبولون على الفهم والاستكشاف. ثم قال سبحانه قُلْ لهم يا أكمل الرسل أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ جَعَلَ اللَّهُ المصلح لعموم أحوالكم وحالاتكم عَلَيْكُمُ النَّهارَ المضيء وشمس الوجود على صرافتها وإشراقها سَرْمَداً مستمرا دائما بلا طريان الضد عليها إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ الواحد الأحد المستقل بالالوهية والربوبية يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ وتستريحون من تعبكم اللاحق من اشغالكم ومن لذات تجدداتكم وتطوراتكم أَفَلا تُبْصِرُونَ آلاء الله الفائضة عليكم على التعاقب والتوالي لإصلاح أحوالكم ليلا ونهارا حتى تواظبوا على شكرها وتداوموا لأداء حقها سرا وجهارا وَمِنْ كمال رَحْمَتِهِ ووفور مرحمته قد جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ متجددين متعاقبين لِتَسْكُنُوا فِيهِ اى في الليل وتستريحوا عما عرض عليكم في النهار من المتاعب والمشاق وَلِتَبْتَغُوا وتطلبوا مِنْ فَضْلِهِ وسعة جوده في النهار وَبالجملة انما أفاض عليكم سبحانه كل ذلك لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه سبحانه كي تفوزوا الى ما أعدلكم من موائد كرمه ولا تشركوا معه شيأ من مظاهره ومصنوعاته ولا تنظروا نحو الوسائل والأسباب العادية ولا تنسبوا الأفعال الحادثة في الآفاق على غيره سبحانه بل نزهوه عن مطلق المشاركة والمماثلة وقدسوه عن جميع ما لا يليق بشأنه وَاذكر للمشركين ايضا يا أكمل الرسل يَوْمَ يُنادِيهِمْ الحق فَيَقُولُ مغاضبا عليهم مستفهما على سبيل التوبيخ والتقريع أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ايها الحمقى شركاء معى احضروهم حتى يظهر الحق ويقمع الباطل الزاهق الزائل وَبعد ما سكتوا وبهتوا من الجواب قد نَزَعْنا وأخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً يشهد عليهم جميع ما صدر عنهم وجرى عليهم في دار الاختبار. والشهيد الشاهد العادل العدل السوى هو النبي المبعوث إليهم حين انحرافهم عن طريق السلامة وسبل الاستقامة فَقُلْنا للأمم بعد ما نزعنا شهداءهم منهم هاتُوا ايها الضالون المسرفون المفرطون بُرْهانَكُمْ مستندكم ودليلكم الذي أنتم تضلون لأجله وتشركون بسببه وتنحرفون عن جادة العدالة بواسطته وتنصرفون عن سبل السلامة بمتابعته فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ واللياقة المطلقة والاستحقاق التام على العبادة ثابتة لِلَّهِ الحقيق بالحقية الجدير بالالوهية اللائق بالربوبية ليس كمثله شيء يعبد له ويرجع اليه وَبعد ما جاء الحق وزهق الباطل قد ضَلَّ غاب وخفى حينئذ عَنْهُمْ عموم ما كانُوا يَفْتَرُونَ المعبودية اليه وينسبون الألوهية والربوبية نحوه جهلا وعنادا ويدعون اشتراكه مع الله في استحقاق العبادة والرجوع اليه لدى الحاجة. ثم قال سبحانه تذكيرا للمؤمنين وعبرة لهم عن تفظيع حال من تكبر على الله وعلى كليمه وخرج عن ربقة الايمان وقلادة الإخلاص وعروة العبودية بسبب ما قد بسط الله عليه من حطام الدنيا ومزخرفاتها ابتلاء وفتنة إِنَّ قارُونَ المتجبر المتكبر الذي قد ظهر على الله وعلى رسوله مفتخرا بماله وجاهه كانَ أولا مِنْ قَوْمِ مُوسى ومن جملة من آمن له وصدقه قيل هو ابن عمته وقيل ابن خالته وكان أميرا بين بنى إسرائيل قد امره عليهم فرعون وبعد ما قد ظهر موسى وهارون آمن له وحفظ التوراة واحسن حفظه بحيث يقرأه عن ظهر القلب ثم لما استولى موسى واخوه على مملكة العمالقة وانقرض الفراعنة رأسا؟؟؟

[سورة القصص (28) : آية 77]

حسد لهما قارون وأنكر جاههما اتكاء بما عنده من الدفائن والكنوز فقال يوما لموسى لك الرسالة والنبوة ولأخيك الحبورة وانا في غير شيء الى متى اصبر فَبَغى عَلَيْهِمْ وقصد مغالبتهم وَما ذلك الا ان قد آتَيْناهُ وأعطينا له مكرا عليه وافتنانا له مِنَ الْكُنُوزِ اى الأموال والامتعة التي قد عهد ادخارها من الذهب والفضة وغيرهما وقد بلغت أمواله وخزائنه من الكثرة الى ما إِنَّ مَفاتِحَهُ اى الى حد ومرتبة قد كان مفاتح أقفال أبواب مخازنه وأقفال الصناديق الموضوعة فيها المختومة المقفولة لَتَنُوأُ وتثقل من الكثرة بِالْعُصْبَةِ بالجماعة الكثيرة من الحفظة أُولِي الْقُوَّةِ والقدرة أقوياء على حمل الأثقال جدا وقد كان مفتخرا بها بطرا فرحانا يمشى على وجه الأرض خيلاء اذكر وقت إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ اى بعض من أقربائه وقرنائه بعد ما قد أبصروا بطره المفرط ردعا له وتشنيعا عليه وحثا له على الانفاق والصرف في سبيل الخيرات وبناء المبرات لا تَفْرَحْ بما عندك من الزخارف الفانية يا قارون فإنها عن قريب سيفوت وأخرج حبها من قلبك إِنَّ اللَّهَ المطلع الغيور لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ من عباده سيما بحطام الدنيا ومزخرفاتها الملهية عن اللذات الروحانية وَابْتَغِ واطلب وترقب واكسب فِيما آتاكَ اللَّهُ المنعم المفضل من الرزق الصوري الزائل الغير القار الدَّارَ الْآخِرَةَ وما فيها من الرزق المعنوي القار المستمر في دار القرار وذلك لا يحصل لك الا بإنفاق ما في يدك من الرزق الصوري في سبيل الله لفقراء الله طلبا لمرضاته بلا شوب المن والأذى وبصرفها الى سد الثغور وبناء المساجد والقناطير والخانات وغير ذلك من بقاع الخيرات والمبرات من الأمور المتعلقة بمصالح عموم العباد من التسهيل عليهم ورفع العسرة عنهم وَان أردت ان تكون من اهل الثروة والجاه المخلد في النشأتين لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ألا وهو اجتهادك ان تتمكن في مرتبة الخلافة والنيابة الإلهية بمقتضى كريمة وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه الآية إذ العبد وما في يده انما هو لمولاه واعلم يقينا ان التصرفات الحادثة في عالم الكون والفساد انما هي مستندة الى الله أولا وبالذات وَبعد ما قد علمت ان حظك ونصيبك ما هو من الدنيا وما معك وليس قرينك منها في أخراك الا الإحسان والانفاق أَحْسِنْ مما قد جعلك الحق خليفة عليه ونائبا كَما أَحْسَنَ اللَّهُ المنعم المحسن إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ ولا تطلب بحال من الأحوال الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ اتكالا على ما في يدك من أسبابه التي هي الأموال المؤدية الى اصناف الفسادات وارتكاب انواع المحظورات والمنكرات إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم احوال عباده لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ منهم سيما بمظاهرة حطام الدنيا الدنية وبعد ما قد سمع قارون منهم المواعظ والتذكيرات المتعلقة بإصلاح حاله النافعة له في النشأة الاولى والاخرى اعرض عنهم وانصرف عن مقالتهم عتوا واستكبارا حيث قالَ متعظما بشأنه مستبدا برأيه إِنَّما أُوتِيتُهُ يعنى ما أوتيت عموم ما أوتيت من الرزق الصوري الا عَلى عِلْمٍ حاصل عِنْدِي يعنى منشأ اجتماع الأموال على وحصولها عندي اتصافى بعلم كامل كافل موجب لحصولها وتحصيلها وبالجملة ما هي وجمعها الا بحولي وقوتي وعلمي بطرق تحصيلها وانما قال ما قال بطرا واستغناء وكبرا وخيلاء قيل انه عالم بعلم الكيمياء قال سبحانه ردا عليه على سبيل التعيير والتقريع أَيتفوه ويقول هذا الطاغي الباغي الهالك في تيه الغي والضلال أمثال هذه الخرافات وَلَمْ يَعْلَمْ بالتواتر وبمطالعة كتب التواريخ ومن القصص المثبتة في التوراة أَنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء قَدْ أَهْلَكَ واستأصل كثيرا مِنْ قَبْلِهِ مِنَ اهل الْقُرُونِ الماضية مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً

[سورة القصص (28) : آية 79]

بحسب الأولاد والاتباع وَأَكْثَرُ جَمْعاً لحطام الدنيا اما يستحى هذا الطاغي المسرف حتى ظهر على الله ولم يخف من بطشه وانتقامه بغتة وَمن سرعة نفوذ قضاء الله وقت ارادة إنفاذه عند الغضب على أعدائه لا يُسْئَلُ حينئذ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ إذ اطلاعه سبحانه على حالهم وضلالهم يكفى في انتقامهم فلا يحتاج الى سؤالهم وبعد ما ذكروا عنده من الزواجر والعبر فلم ينزجر ولم يعتبر بل ما زاد الا بطرا وخيلاء فَخَرَجَ يوما من الأيام من بيته بطرا مباهيا عَلى قَوْمِهِ مستكبرا عليهم مغرورا مستغرقا فِي زِينَتِهِ الكاملة إذ هو على بغلة شهباء وهي الأبلق الذي كثر بياضه على سواده وعليه ثياب فاخرة حمر كلها تسر الناظر إليها من صفاء لونها وبهائها وعلى البغلة سرج من ذهب ومعه اربعة آلاف على زيه وقيل تسعون الفا كلهم على زيه وعلى خيولهم ومراكبهم ايضا اكسية حمراء وخرج الناس معه صافين حوله ناظرين نحوه متعجبين من حاله متمنين من الله رتبته وزينته حيث قالَ المفسدون المسرفون الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وزينتها وهمهم مقصورة إليها وغاية متمناهم حصول مثلها لهم متمنين متحسرين يا لَيْتَ لَنا من حظوظ الدنيا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ونصيب كامل من الدنيا وهو في دهره وحيد عصره فريد زمانه وشأنه وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اللدني والمعرفة الكاملة المتعلقة منهم بالله وبالنشأة الاخرى ردا عليهم وازالة لتحسرهم وردعا لهم عن متمناهم على ابلغ وجه وآكده وَيْلَكُمْ اى يلزمكم ويلكم ويحل عليكم هلاككم ايها القاصرون عن معرفة الحق وما يترتب عليها من المكاشفات والمشاهدات التي هي مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر الحاصلة لأرباب المحبة والولاء الوالهين في بيداء الألوهية طالبين الفناء فيها ليصلوا الى شرف البقاء واللقاء بل ثَوابُ اللَّهِ المحسن المفضل ورضاه من عبيده الحاصل لأرباب المعاملات من الأبرار والأخيار المحسنين الأدب مع الله في عموم أحوالهم خَيْرٌ من الدنيا وما فيها بل من اضعافها وآلافها لِمَنْ آمَنَ له احتسابا على نفسه وَعَمِلَ عملا صالِحاً يعنى قرن إيمانه بالعمل الصالح إحسانا منه بالنسبة اليه سبحانه وطلبا لمرضاته وَبالجملة لا يُلَقَّاها ولا يصل الى تلك المثوبة العظمى والدرجة العليا التي قد أعدها الله لعباده إِلَّا الصَّابِرُونَ على عموم ما جرى عليهم من البليات وعلى مشاق الطاعات ومتاعب العبادات والرضوان بما اعطاهم الحق ورزقهم من الحظوظ بلا تمن منهم ولا تحسر على مرتبة احد من اصحاب الجاه والثروة بل هم بما عندهم راضون وبما اعطاهم الحق بمقتضى قسمته الازلية متمكنون مطمئنون ألا انهم هم المؤمنون حقا وأولئك هم الفائزون المفلحون. ربنا اجعلنا من زمرتهم بمنك العظيم وجودك الكريم وبعد ما قد أمهلنا قارون زمانا ورفهناه نشطا فرحانا قد أخذناه غضبانا فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ صاغرا مهانا يعنى قد طبقنا الأرض عليه وعلى أمواله وخزائنه بعد ما أخذتها وابتلعتها الأرض امتثالا بأمر نبينا موسى الكليم صلوات الله عليه وسلامه وذلك انه قد كان يؤذى موسى عليه السلام دائما حسدا عليه وكان موسى يداريه صيانة لقرابته ثم لما نزلت الزكاة صالح معه من كل ألف بواحد من اى جنس كان فحاسبه فبلغ مبلغا عظيما فاستكثره فمنعه فعمد الى ان يفضح موسى بين بنى إسرائيل بغيا عليه وعدوانا فبرطل بغيّة واعطى لها رشوة لترمى موسى بنفسها فلما كان يوم العيد قام موسى خطيبا فقال في خطبته من سرق قطعناه ومن زنى غير محصن جلدناه ومن زنى محصنا رجمناه فقال قارون لو أنت يا موسى قال ولو كنت انا قال ان بنى إسرائيل يزعمون انك قد فجرت مع فلانة قال موسى

[سورة القصص (28) : آية 82]

فاحضروها فاحضروها فناشدها موسى بالله الذي قد فلق البحر وانزل التوراة ان تصدقي أيتها المرأة فقالت بإلقاء الله في قلبها كرامة لموسى وتنزيها له عما لا يليق بشأنه وتفضيحا لقارون يا نبي الله ان قارون جعل لي جعلا كذا على ان أرميك بنفسي فخر موسى ساجدا وقال في سجدته الهى ان كنت نبيك ورسولك فانصرني واخذل عدوى فأوحى الله عليه في سجدته ان مر الأرض ان شئت فتجيبك يا موسى فرفع رأسه من سجدته مرتعدا غيورا غضبانا فقال يا ارض خذيه فابتلعته على الفور الى ركبته فأخذ يتضرع يا موسى ارحمني فانا حميمك وقرابتك ثم قال موسى مغاضبا على الأرض خذيه فأخذته الى وسطه فزاد في تضرعه وتفزعه ثم قال خذيه فأخذته الى عنقه فتضرع وصرخ نحو موسى من أول اخذه الى خسفه سبعين مرة لم يرحم عليه ثم قال خذيه فخسفت به وطبقت عليه فلم يرحمه موسى حتى عاتبه سبحانه بقوله ما افظك وما أبغضك يا موسى حتى استرحم منك فلم ترحمه ولم ترعه فو عزتي وجلالي لو دعاني مرة لأجبته وبعد ما خسف قارون قال بنو إسرائيل انما قتله ليرث أمواله فاشعر به فأمر الأرض بخسف داره وأمواله وخزينته بحيث لم يبق من منسوباته شيء على وجه الأرض فَما كانَ لَهُ حينئذ مِنْ فِئَةٍ وأعوان وأنصار يَنْصُرُونَهُ ويدفعون عذاب الله عنه مِنْ دُونِ اللَّهِ القادر المقتدر على دفع أمثاله والحال انه هو برىء من الله لذلك لم يلتجئ اليه ولم يتضرع نحوه حين أخذت الأرض إياه وَلذلك ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ الممتنعين من العذاب لا بنفسه ولا بمعاونيه وانصاره وَبعد ما قد خسف قارون بشؤم أمواله التي قد جعلها وسيلة الى انواع الفسادات من جملتها رمى كليم الله وأخلص رسله بالزنا التي هي بعيدة بمراحل عن طهارة زيله ونجابة طينته إذ معاشر الأنبياء كلهم معصومون عن الكبائر مطلقا قد أَصْبَحَ وصار الفقراء الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ ومنزلته بِالْأَمْسِ اى في الزمان الذي هو اقرب زمان بخسفه متحسدين بما عنده من التوراة والجاه أخذوا يَقُولُونَ متمنين على عكس ما قد تمنوا في الزمان السابق متعجبين من كمال علم الله ومتانة حكمته قائلين كل منهم لصاحبه وَيْكَأَنَّ المعنى على الانفصال بين ويك وان والاتصال بينهما انما هو بمتابعة المصحف يعنى ويل لك وهلاكك لازم عليك بمتمناك الذي قد تمنيته بالأمس واعلم ان اللَّهَ الحكيم المتقن في عموم أفعاله يَبْسُطُ الرِّزْقَ بمقتضى حكمته لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بمقتضى استعداداتهم وَيَقْدِرُ ويقبض عمن يشاء ايضا على وفق قابليته وما لنا اطلاع على احاطة علمه ومتانة حكمته لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ المصلح لمفاسدنا عَلَيْنا بمنعنا عن متمنانا لَخَسَفَ بِنا ايضا من شؤم مبتغانا ومتمنانا مثل ما قد خسف بذلك الطاعى المغرور وانما من سبحانه علينا بما من سبحانه لايماننا به سبحانه واخلاصنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ولا يصلح أحوالهم وأعمالهم وهم لا يفوزون بالنجاة من عذابه سبحانه بل يوقعهم سبحانه على ما يوقعهم في عذابه افتنانا فيه إياهم وانتقاما لهم. ثم قال سبحانه تبشيرا للمؤمنين المتواضعين وتنشيطا للمتقين الموقنين تِلْكَ الجنة التي قد سمعتم ايها المؤمنون الموقنون وصفها وبلغكم نعتها وخبرها في كتب الله والسنة رسله وأنبيائه وأوليائه المنكشفين بها الفائزين بمقاماتها بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر التي هي مقر ارباب المحبة والولاء الباذلين مهجم في سبيل الفناء ليصلوا الى دار البقاء هي هذه الدَّارُ الْآخِرَةُ المعهودة الموصوفة بهذه الصفات المعروفة المشهورة بها إذ لا مقر لأهل الحق سواها لذلك سمينا بها نَجْعَلُها بمقتضى فضلنا وجودنا مقرا لِلَّذِينَ اى للمؤمنين الموحدين الذين لا يُرِيدُونَ من كمال حلمهم وعلمهم

[سورة القصص (28) : آية 84]

عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ جاها وثروة تفوقا وتكبرا على من عليها من عباد الله ولا يمشون عليها خيلاء غافلين عن تزود الآخرة وَلا يقصدون فيها فَساداً مؤديا الى هتك محارم الله والخروج عن مقتضى حدوده وَبالجملة الْعاقِبَةُ الحميدة التي قد عبر عنها بلفظ الجنة ودار الآخرة ودار السلام ودار الخلود وغير ذلك من الألفاظ والعبارات المتداولة في ألسنة الكتب والرسل انما هي معدة مهيأة لِلْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن ارتكاب المنهيات والمحظورات مطلقا ويجتنبون عن عموم ما يؤدى الى إسقاط المروات رأسا ويتصفون بجميع ما جاء به الرسل ونطق به الكتب من الأمور المشعرات للهداية والصلاح والفوز بالفلاح والنجاة جملة فأولئك السعداء المقبولون هم الواصلون الى درجة القرب والشهود الوالهون بشرف مطالعة لقاء الخلاق الودود ثم أشار سبحانه اشارة جملية محتوية على اصول عموم المواعظ والتذكيرات المتعلقة بجميع عباده فقال مَنْ جاءَ في النشأة الاولى بِالْحَسَنَةِ والخصلة المقبولة عند الله المستحسنة عند عموم عباده ابتغاء لمرضاته سبحانه وأداء لحقوق عباده فَلَهُ عند الله في النشأة الاخرى جزاء عليها حسنة مستحسنة هي خَيْرٌ مِنْها بل بأضعافها وآلافها تفضلا وإحسانا وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ والخصلة الذمية ايضا فيها المستقبحة عقلا وشرعا المستهجنة عند الله وعند عموم عباده عرفا وعادة فَلا يُجْزَى من قبل الحق في يوم الجزاء المسيئون الَّذِينَ قد عَمِلُوا السَّيِّئاتِ التي لا يرضى بها الله ولا خلص عباده إِلَّا مثل ما كانُوا يَعْمَلُونَ عدلا منه سبحانه. ثم لما اغتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين هاجر من مكة بسبب مكر المشركين ووصل الى جحفة واشتد اشتياقه الى مولده وموطن آبائه فتحزن حزنا شديدا بحيث أراد ان يعود منها إليها فنزلت تسلية له صلّى الله عليه وسلّم وازالة لحزنه إِنَّ الله القادر المقتدر الَّذِي قد فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ وقدر لك انزاله وأقدرك على الامتثال بعموم ما فيه من الأوامر والنواهي وكشف عليك جميع ما فيه من الحقائق والمعارف والرموز والإشارات المتعلقة بصفاء مشرب التوحيد وذكر لك فيه من القصص والعبر والأمثال إرشادا لك الى مقامك الذي قد وعد لك الحق تفضلا وامتنانا وسماه من عنده مقاما محمودا لَرادُّكَ ومعاودك البتة إِلى مَعادٍ معهود فهو مولدك ومحتدك الأصلي وكذا موطن آبائك واسلافك على احسن وجه وأكمله وبعد ما عدت ورجعت إليهم بعد هجرتك من بينهم ان اضلوك وخيلوك على ما هو عادتهم وأساؤا الأدب معك ونسبوك الى ما لا يليق بشأنك قُلْ لهم على سبيل المجاراة رَبِّي الذي قد وسع كل شيء علما أَعْلَمُ منى بعلمه الحضوري مَنْ جاءَ بِالْهُدى منا انا او أنتم وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ منا ومنكم وَعليك يا أكمل الرسل ان تفوض بعموم أمورك إلينا اتكالا علينا واعتصاما بحولنا وقوتنا ولا تلتفت الى المشركين وايمانهم ولا تداريهم ايضا خوفا او مداهنة ولا تك في رعب منهم انا قد كفيناك ونكف عنك مؤنة شرورهم إذ ما كُنْتَ أنت في حال من احوالك تَرْجُوا وتأمل أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ الجامع لفوائد جميع الكتب المنزلة من عندنا لكن ما انزل إليك هذا إِلَّا رَحْمَةً ناشئة نازلة مِنْ رَبِّكَ تفضلا عليك وتلطفا معك بلا تطلب منك وترقب من قبلك فكذلك يكفيك ربك عموم مهامك على الوجه الأصلح الأحسن فاتكل عليه واتخذه وكيلا وفوض أمورك كلها اليه واجعله حسيبا وكفيلا ومتى سمعت نبذا من شأنك الذي أنت عليه في ابتداء حالك فَلا تَكُونَنَّ أنت بعد اليوم ظَهِيراً معاونا ومعينا لِلْكافِرِينَ ولا مستظهرا ولا

[سورة القصص (28) : آية 87]

مستعينا منهم بل لك ان تبلغ وتمضى على الوجه الذي أمرت بلا مبالاة لهم ومداراة معهم وَلا يَصُدُّنَّكَ ولا تصرفنك مواساتهم ومداراتهم على المسامحة معهم عَنْ تبليغ آياتِ اللَّهِ المشتملة على انواع الإنذارات والوعيدات الهائلة إليهم سيما بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وأمرت أنت بتبليغها وَادْعُ إِلى توحيد رَبِّكَ بعد ما بعثك الى كافة البرايا وعامة الأمم بشيرا ونذيرا لكل من جبله الحق على صورة الإنسان وفطرة العرفان وكلفه بالمعرفة والايمان وَلا تَكُونَنَّ أنت بحال من الأحوال لا بالمداهنة ولا بالمسامحة معهم مِنَ الْمُشْرِكِينَ المشاركين إياهم في شركهم وكفرهم لا صورة ولا معنى ولا حقيقة ولا مجازا وَبعد ما قد ظهرت أنت يا أكمل الرسل على فطرة التوحيد الذاتي وأكملت بتوفيق منا مراسم الدين المستبين وأقمت مكارم الأخلاق واليقين لا تَدْعُ في حال من الأحوال وفي شأن من الشئون مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الوتر الذي لم يلد ولم يولد ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له كفوا احد إِلهاً آخَرَ شريكا له لا في الوجود ولا في الألوهية والربوبية ولا مطلق التصرفات الواقعة في مملكته ومظاهره إذ لا إِلهَ في الوجود ولا موجود في الشهود إِلَّا هُوَ هذا هو نهاية ما قد نطق العارف عند التحقق به سبحانه وبعد ذلك يقلق ويدهش ويهيم ويفنى ويتلاشى إذ كُلُّ شَيْءٍ من جماد وحى يتراءى لك ويلوح في عالم العيان وعرصة الأكوان من اظلال أسمائه الحسنى وعكوس أوصافه الأسنى هالِكٌ في حد ذاته باق على عدمه الأصلي مستمر على استحالته الذاتية وامتناعه الحقيقي إِلَّا وَجْهَهُ الذي قد اقتبس به النور من تجليات الحق وشئونه حسب تطورات أسمائه وصفاته واستمد به العكس من شوارق بوارق لمعاته المتشعشعة وتجلياته المتجددة وكذا من رقائق لوائح لوامع بروق تطوراته التي بها تخطف ابصار ارباب الكشف والشهود من المنجذبين نحو الحق المتأملين في شأنه الوالهين بمطالعة جماله وجلاله وبالجملة بعد ما قد ثبت وتحقق هلاك الكل واستحالتها في حد ذاتها وظهورها وانعكاسها ابتداء انما هو من اظلال أوصافه وأسمائه الذاتية قد ثبت لَهُ الْحُكْمُ المطلق والتصرف التام المستقل والأمر الكامل المقارن بالإرادة والاختيار وبكمال الاقتدار والاستقلال في عموم ما كان وما يكون ازلا وابدا وَإِلَيْهِ انتهاء لا الى غيره إذ لا غير في الوجود معه تُرْجَعُونَ رجوع الأمواج الى الماء والاظلال الى الأضواء فسبحان من ظهر من الكل فأهلكها وبطن في الكل فاوجدها وسبق على الكل فابدأها ولحق بالكل فافناها وبقي مع الكل فابقاها وهو الاول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ألا الى الله تصير الأمور ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين خاتمة سورة القصص عليك ايها السالك المتوجه نحو الحق بوجه الحق الذي قد ظهر فيك وتقتبس أنت بوجهه من اشعة أنوار تجلياته الذاتية المتشعشعة حسب أسمائه الحسنى وصفاته العليا ان تتأمل في كيفية نشآت الكثرات الغير المحصورة ونشرها من الواحد الأحد الفرد الصمد من كل الوجوه وتتعمق أنت بمقتضى العقل المفاض لك من حضرة علمه سبحانه على سبيل التوديع لتتدبر وتدرك به معرفة مبدئك ومعادك حسب استعدادك الفطري وقابليتك الجبلية التي بها امتيازك عن سائر المظاهر والمصنوعات وبها تستحق الخلافة والنيابة عن الله وبواسطة تلك الوديعة البديعة المودعة فيك قد كلفك الحق الى ما كلفك

سورة العنكبوت

وأعدلك من المراتب العلية والمقامات السنية عنده سبحانه ما أعدلك حسب صعودك وترقيك في معارفك وحقائقك بمقتضى التكاليف التي توصلك إليها ان أخلصت فيها فلك ان تتحمل على مشاق التكليفات ومتاعب الرياضات ما دمت أنت مقيدا في محال التكاليف ومنازل العروج الى ان جذبك الحق منك نحوه وافناك عن بشريتك وحصة ناسوتك التي بها بعدك عن الحق وابقاك ببقائه حسب حصة لاهوتك ومكنك بموعدك المعهود وبمقامك المحمود الموعود الذي هو مرتبة الكشف والشهود وحينئذ قد اتحد دونك قوسا الوجوب والإمكان وارتفعت الزبد والأمواج الحادثة من فضلات التعينات عن بحر العيان وقد فزت بما فزت من موائد اللطف والإحسان فظهر لك ولاح عندك حينئذ معنى قوله لا اله الا هو كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون [سورة العنكبوت] فاتحة سورة العنكبوت لا يخفى على من تدرج في درجات الكمال وترقى من حضيض الجهل ومضيق الوهم والخيال الى سعة ذروة المعرفة والتوحيد وفضاء الوصال وتمكن بمقر الوحدة بلا تلوين وانتقال وانكشف له ما في استعداده من ودائع البدائع الإلهية المقتضية للظهور الباعثة للبروز من موطن الكمون والخفاء الى فضاء الجلاء والانجلاء ان الاختبارات والابتلاءات الإلهية الواقعة بين مظاهره ومصنوعاته انما هي لحصول الاعتدال الحقيقي والقسط المعنوي المنبئ عن مرتبة الخلافة والنيابة عن الله المستلزم للتخلق بأخلاقه العظيمة والتثبت على الصراط المستقيم لذلك قد جرت سنته السنية وعادته العلية على نقد اعمال جميع المكلفين بالإيمان والعرفان بالعرض على محك الإخلاص ليتميز المغشوش المكدر بأنواع الكدورات من الرياء والسمعة والعجب وانواع الاهوية الفاسدة والرعونات الكاسدة الناشئة من النفوس الخبيثة عن الصافي الخالص الخالي عن شوب اللوث بالأمور الطبيعية الطاهر المطهر عن الأدناس البشرية الحاصلة من تسويلات النفوس الامارة بالسوء وتلبيسات الشياطين المنبعثة عن القوى البهيمية المورثة لانواع الجهالات والضلالات لذلك خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما خاطبه وبين في خطابه على ابلغ وجه وآكده ما عاتب به عباده من ترك الإخلاص والاغترار على مجرد الأقوال بلا مطابقة الاعتقاد متيمنا باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي كلف عباده بما كلف ليتأدبوا بآداب عبوديته حتى يستعدوا لفيضان آثار ربوبيته الرَّحْمنِ عليهم بافاضة ما يصلحهم عما هم عليه من المفاسد البشرية الرَّحِيمِ لهم يوصلهم بعد ما امتثلوا بما أمروا الى أقصى ما أعدلهم من الدرجات العلية والمقامات السنية [الآيات] الم ايها الإنسان الكامل الأكمل الأعلم اللائق لفيضان لوامع أنوار الوجود ولوائح آثار الفضل والجود المؤيد الملازم لاستكشاف مكنونات ما في مظاهر المكونات من معظمات آثار الألوهية ومكرمات أنوار الربوبية اللامعة اللائحة على نواصي عموم ما ظهر وبطن غيبا وشهادة على التعاقب والتوالي بلا انقطاع ولا انصرام ازلا وابدا وبلا ذهول وغفلة وفتور وفترة بحيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه المحيط ذرة من ذرائر ما ظهر ولاح دون اشراق شمس وجهه الكريم أَحَسِبَ زعم وظن وتخيل النَّاسُ المنهمكون في الغفلة والنسيان أَنْ يُتْرَكُوا ويهملوا على ما هم عليه من عدم مطابقة قلوبهم بأفواههم وأعمالهم بنياتهم وأفعالهم بحالاتهم بمجرد أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا بلا موافقة من قلوبهم مع ان الايمان في الأصل ما هو الا الإذعان والقبول والإخلاص بالقلب والانقياد والتسليم بالجوارح والآلات من لوازمه ومتمماته وَهُمْ بمجرد ما يلقلق به

[سورة العنكبوت (29) : آية 3]

لسانهم ويظهره بيانهم قد ظنوا انهم لا يُفْتَنُونَ ولا يمتحنون ولا يجربون بل والله لنبلونهم ولنختبرنهم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى ظهر إخلاصهم ولاح اعتقادهم في جميع ما آمنوا فيترتب خلاصهم حينئذ على إخلاصهم وَليس افتتاننا واختبارنا إياهم ببدع منا بل لَقَدْ فَتَنَّا وامتحنا القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم السالفة مع انهم قد يدعون الايمان ويتفوهون به أمثالهم ومع ذلك لم نتركهم عبثا سدى بلا ابتلاء منا إياهم واختبار لهم وليس اختبارهم وامتحانهم الا لإظهار محبتنا البالغة عليهم والا فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ المطلع على ضمائر عباده وسرائرهم وليميزن حسب علمه الحضوري المؤمنين الموقنين الَّذِينَ صَدَقُوا منهم وأخلصوا في ايمانهم وَايضا لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ منهم وهم الذين لا يخلصون مع الله في حال من الأحوال وعمل من الأعمال ولا يسمعون أوامر الله ونواهيه من السنة رسله سمع قبول ورضا وانما أرادوا بايمانهم الظاهر الذي قد أتوا به على سبيل الكراهة والمراء إسقاط لوازم الكفر من حقن الدماء وسبى الذراري ونهب الأموال والافهم ليسوا ممن يذعنون بدلائل التوحيد وبراهين الايمان عن صميم قلوبهم ظنا منهم انا غافلون عن بواطنهم ونياتهم أَمْ حَسِبَ بل ظن المسرفون المفرطون الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ مصرين عليها مبالغين في إتيانها أَنْ يَسْبِقُونا ويفوتوا عنا جزاء ما عملوا ويسقطوا عن حسابنا ما أتوا به من المعاصي والآثام عنهم بالفعل وبالجملة قد ساءَ ما يَحْكُمُونَ علينا وينسبون إلينا حكمهم هذا ونسبتهم هذه أعاذنا الله وعموم عباده عن أمثال هذه الظنون الفاسدة بالنسبة اليه سبحانه وما كل ذلك الا عن جهلهم بالله وبمقتضى علو شأنه وعزة سلطانه وانكارهم بلقائه والوقوف عند يديه والا مَنْ كانَ يَرْجُوا ويأمل لِقاءَ اللَّهِ المتجلى على الأكوان حسب أسمائه العلية وصفاته السنية ويترصد مترقبا ان ينكشف له ما هو الموعود من لدنه سبحانه من الدرجات العلية والمقامات السنية حال كونه متأدبا بالآداب المنزلة من عنده بوساطة أنبيائه ورسله متحملا على متاعب التكاليف ومشاق الطاعات المفروضة المشروعة له مترقبا للانكشاف والشهود راجيا لقياه سبحانه بلا يأس وقنوط فاز بمبتغاه على الوجه الذي وعد بعد ما وفقه الحق وجذبه الى نفسه فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ الذي قد وعده لعباده الخلص من ان يشرفهم بشرف لقائه لَآتٍ جاء حالّ نازل بلا شك وارتياب وَكيف لا يشرفهم سبحانه بمطالعة وجهه الكريم سيما بعد ما وعدهم إذ هُوَ السَّمِيعُ بمناجاتهم الْعَلِيمُ بحاجاتهم التي هي الفوز بشرف اللقاء والوقوف عند سدرة المنتهى والتدلي الى مقام دنى فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى وَمَنْ جاهَدَ واجتهد في الوصول الى ما ذكر من المقام المحمود وسعى في حصول الموعود المعهود الذي هو مرتبة الكشف والشهود فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إذ نفع جهاده وجهده انما يعود اليه وهو واصل الى منتهى مطلوبه بعد ما كان مستكملا طالبا إِنَّ اللَّهَ المنزه عن مطلق الطلب والاستكمال المبرأ عن عموم الترقب والانتظار لَغَنِيٌّ في ذاته عَنِ الْعالَمِينَ وعن مطلق طاعاتهم وعباداتهم ورجوعهم اليه وتوجههم نحوه. ثم قال سبحانه حثا لعموم عباده على التوجه نحو بابه ليفوزوا بما وعدوا وينالوا بما قد أعد لهم من الحسنات والدرجات وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله وأخلصوا في ايمانهم وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المشعرة المؤيدة لإخلاصهم بلا شوب الهوى والرياء وعموم الرعونات أصلا لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ ولنمحون عن صحف أعمالهم عموم سَيِّئاتِهِمْ التي قد جاءوا وقت جهلهم وضلالهم وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ ولنعاملن معهم

[سورة العنكبوت (29) : آية 8]

أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ يعنى احسن واولى وأوفر من الجزاء الذي يستحقون بأعمالهم بعد ايمانهم وأزيد منه بل بأضعافه وآلافه تفضلا منا إياهم وإحسانا عليهم وبعد ما قد حثهم سبحانه على الايمان والعمل الصالح اوصى لهم وأمرهم ببر الوالدين وبحسن المعاشرة معهما والتحنن نحوهما إذ هما من اقرب اسباب ظهورهم في نشأة الشهادة والبروز بمقتضى سنة الله سبحانه فقال وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بعد ما كلفناهم بالإيمان والعمل الصالح من ان يأتى كل منهم ويعمل بِوالِدَيْهِ حُسْناً اى معاملة ذات حسن يستحسنها العقل والشرع ويرتضيها الحق وتقتضيها الفتوة بحيث لا يحوم حولها شائبة من ولا أذى ولا استخفاف ولا استحقار بل يتذللون لهما ويتواضعون معهما على وجه الانكسار التام والتذلل المفرط وعليكم ايها المكلفون امتثال عموم أوامرهما ونواهيهما سوى الشرك بالله والطغيان على الله والعدوان معه سبحانه ومع أنبيائه ورسله وخلص عباده وَإِنْ جاهَداكَ ايها المؤمن المأمور على بر الوالدين ابواك وبالغا في حقك مقدمين أشد اقدام والحا عليك ابلغ إلحاح وأتم إبرام لِتُشْرِكَ بِي شيأ من مظاهري ومصنوعاتى سيما ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يعنى ليس علمك ويقينك متعلقا بألوهيته وربوبيته واستحقاقه للعبادة ولياقته للرجوع اليه في الخطوب والمهمات فَلا تُطِعْهُما ولا تقبل منهما أمرهما المتعلق بالإضلال والإشراك ولا تمتثل بقولهما هذا بل اعرض عنهما وعن قولهما وأمرهما هذا ولا تمض على دينهما وملتهما إذ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ورجوعكم جميعا أصلا وفرعا مؤمنا وكافرا موحدا ومشركا وبعد رجوعكم الىّ فَأُنَبِّئُكُمْ وأخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في دار الاختبار أحاسب عليكم أعمالكم واجازيكم على مقتضاها ان خيرا فخير وان شرا فشر وَالَّذِينَ آمَنُوا منكم في دار الاختبار مخلصين وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ تكميلا لإيمانهم وتتميما له بما هو من لوازمه ومتمماته لَنُدْخِلَنَّهُمْ حين رجوعهم إلينا فِي السعداء الصَّالِحِينَ المقبولين الآمنين المستبشرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا منكم في النشأة الاولى وأصروا على الكفر والشرك والجحود والإنكار العياذ بالله ولم يرجعوا عنه سيما مع بعثة الرسل ونزول الكتب وورود الزواجر والروادع الكثيرة فيها لنعذبنهم البتة عذابا شديدا ولندخلنهم يوم يعرضون عليها في زمرة الأشقياء المردودين المغضوبين الذين لا نجاة لهم من النار ولا يرجى خلاصهم منها ابدا وَمِنَ النَّاسِ المجبولين على التزلزل والتذبذب مَنْ يَقُولُ خوفا من عذاب الله آمَنَّا بِاللَّهِ بلا تمكن له واطمئنان في قلبه فَإِذا أُوذِيَ فِي سبيل اللَّهِ من اعداء قد انقلب على كفره وحيث جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ وإذا هم في شدة كَعَذابِ اللَّهِ القادر المقتدر بالقدرة الكاملة والقوة الشاملة على انواع المحن والابتلاءات وبالجملة هم يسوون بين خوف الله وخوف الناس فكما يؤمنون بالله من خوف عذابه يكفرون به من خوف عذاب الناس وتقريعهم وتشنيعهم بلا تفاوت بين الخوفين والعذابين بل يرجحون خوف الناس على خوف الله لذلك يختارون الكفر على الايمان من ضعف يقينهم وعدم رسوخهم وتمكنهم على الايمان وذلك من عدم ترقيهم من حضيض الجهل والتقليد الى ذروة المعرفة والتوحيد وَمن غاية تزلزلهم وتلونهم لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ وعون للمؤمنين الباذلين مهجهم في سبيل الله مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وصاروا غالبين على اعداء الله بنصر الله إياهم وفازوا بالفتح والغنائم وانواع الكرامات لَيَقُولُنَّ أولئك المذبذبون المتزلزلون مبالغين في دعوى الموافقة والمواخاة إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ومن عدادكم موافقين ظاهرا وباطنا وفي دين الإسلام متمكنين مطمئنين سرا وجهرا

[سورة العنكبوت (29) : آية 11]

فاشركونا فيما نلتم من الغنيمة وأعطونا قسمنا وسهمنا منها وهم ما يقصدون بقولهم هذا الا التغرير والتلبيس على المؤمنين بل على الله ايضا بزعمهم لذلك قال سبحانه مستفهما مستنكرا أَتعتقدون التلبيس والتشبيه علينا ايها الجاهلون بعلو شاننا وَلَيْسَ اللَّهُ المتجلى على عموم ما ظهر وما بطن في الأكوان غيبا وشهاة بِأَعْلَمَ بعلمه الحضوري بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ بل بما في استعداداتهم وقابلياتهم الفطرية التي قد كانوا عليها في حضرة علمنا ولوح قضائنا حيث لم يكونوا شيأ مذكورا وان كان شأنهم ايضا كذلك الآن عند من له ادنى حظ من المعرفة واليقين وَالله لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ المطلع لضمائر عباده وليميزن الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبذلوا جهدهم في سبيله وليظهرن إخلاصهم ورسوخهم على الدين وتمكنهم واطمئنانهم في مرتبة اليقين بعد ما أمرهم بالجهاد والقتال الصوري والمعنوي وَلَيَعْلَمَنَّ وليظهرن ايضا كيد الْمُنافِقِينَ ومكرهم وتقاعدهم عن القتال واحتيالهم في التخلف عن المؤمنين وَمن جملة مكرهم واحتيالهم مع المؤمنين وخداعهم إياهم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا قاصدين اضلالهم عن الطريق الحق وانصرافهم عن الدين المستبين اتَّبِعُوا ايها الحمقى المتذللون في أيدينا سَبِيلَنا واختاروا طريقنا الذي كنا عليه من عبادة الأوثان والأصنام التي هي دين آبائنا وديدنة أسلافنا وَان خفتم بمقتضى زعمكم من أثقال ذنوبكم يوم العرض والجزاء لْنَحْمِلْ نحن أثقال خَطاياكُمْ عنكم حينئذ فتصيروا يومئذ مخففين بلا وزر وذنب وَبالجملة انما قالوا لهم هكذا تغريرا عليهم وتضليلا لهم واستهزاء والافهم هم المنكرون بالآخرة وبجميع ما فيها من الوعيدات الهائلة والإنذارات البليغة وهم وان فرض انهم قد اعتقدوا النشأة الاخرى وما فيها ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ اى شيأ قليلا من خطاياهم لدى الحاجة فكيف بجميعها وبالجملة إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في عموم مواعدهم وعهودهم إذ الكل لا يطابق اعتقادهم ولا الواقع إذ لا تحمل يومئذ نفس وازرة وزر نفس اخرى كذلك كل نفس لاقية ما كسبت حاملة ما اقترفت عدلا منه سبحانه ولهذا قال سبحانه مقسما وَالله لَيَحْمِلُنَّ حينئذ أَثْقالَهُمْ وخطاياهم التي قد اقترفوها بأنفسهم بل وَنزيد عليها أَثْقالًا أخر حاصلة من اضلالهم وتضليلهم عباد الله منضمة مَعَ أَثْقالِهِمْ الاصلية وَالله مع تلك الأثقال على الأثقال لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ على الله من اثبات الشريك له في الوجود والتحقق وفي استحقاق العبادة وعن نسبتهم اليه سبحانه ما لا يليق بشأنه افتراء ومراء ثم ذكر سبحانه نبذا من احوال اهل الضلال والإضلال من المفترين الذين مضوا في سالف الزمان تسلية لرسول الله وازالة للحزن الذي قد لحقه صلّى الله عليه وسلم من تمادى المشركين في الغفلة والفساد ومن تطاولهم في الغي والعناد فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وقت إذ ظهر فيهم انواع الفسوق والجدال واصناف الغي والضلال فَلَبِثَ فِيهِمْ وتحمل على مشاق دعوتهم وانواع أذاهم أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فهم كانوا يضربونه ويشتمونه وينسبونه الى الجهل والجنون والخرق والخرف وانواع الاستخفاف والاستحقار ومع ذلك لم يتقاعد عن دعوتهم ولم ينزجر عن زواجرهم بل كان يبلغهم ما امره الحق بتبليغه من الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة وهم من شدة شكيمتهم وخباثة طينتهم لم يزيدوا من سماعها الا تعنتا واستكبارا وعتوا واغترارا وإصرارا على ما هم عليه من الكفر والجحود وبعد ما قد استحقوا أشد العذاب وأسوأ النكال فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ حين خرج الماء من التنور المعهود وطاف عليهم فأغرقهم واستأصلهم

[سورة العنكبوت (29) : آية 15]

وَهُمْ في أنفسهم ظالِمُونَ خارجون عن مقتضيات الحدود الإلهية منهمكون في بحر الغفلة والغرور ضالون في تيه الجهل والطغيان لذلك قد أخذهم الله بالطوفان واستأصلهم بالمرة بحيث لم يبق منهم احد على وجه الأرض وبعد ما أغرقناهم وأهلكناهم فَأَنْجَيْناهُ يعنى نبينا نوحا عليه السلام وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وهم المؤمنون الذين قد ركبوا معه عليها حين نبع الماء من التنور قيل كانوا ثمانين او سبعين وقيل عشرة نصفهم ذكور ونصفهم إناث وَبالجملة قد جَعَلْناها اى قصة إهلاكهم وهلاكهم بالطوفان آيَةً عظيمة لِلْعالَمِينَ تستدلون بها على كمال قدرتنا ووفور حكمتنا في انتقام من خرج من مقتضيات حدودنا وأحكامنا وأوامرنا ونواهينا وَلقد أرسلنا ايضا يا أكمل الرسل جدك الأعلى إِبْراهِيمَ الخليل صلوات الرحمن عليه وسلامه الى قومه الذين تمادوا زمانا في الغفلة والغرور ليصلح مفاسدهم ويرشدهم الى توحيدنا اذكر وقت إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ بعد ما قد بعثناه إليهم ليهديهم الى طريق الحق اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد المستحق للعبادة والإطاعة استحقاقا ذاتيا ووصفيا وَاتَّقُوهُ حق تقاته عن ارتكاب محارمه ومنهياته واجتنبوا عن عموم ما لا يرضى به سبحانه حتى لا تستجلبوا سخطه وغضبه عليكم ذلِكُمْ الذي اوصيكم به من العبادة والعرفان والاجتناب عن المحارم والطغيان والاتصاف بالتوحيد والتقوى وجميع لوازم الايمان خَيْرٌ لَكُمْ واولى بحالكم وانفع لنفوسكم في اولاكم وأخراكم مما أنتم عليه من عبادة التماثيل التي تنحتونها أنتم بأيديكم وتسمونها من تلقاء انفسكم آلهة دون الله ظلما وزورا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اى ان كنتم من ذوى العقول المستكملين بالقوة النظرية المفاضة لكم من حضرة العلم الإلهي ليميزكم بها عن سائر الحيوانات ويعدكم بسببها للخلافة والنيابة عن الله. ثم نبه سبحانه على خطأهم في عبادة غير الله فقال إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ المستحق للعبادة بالاستقلال بلا شريك ومثال أَوْثاناً وتسمونهم آلهة ظلما وعدوانا وتعبدونهم مثل عبادة الله عنادا وطغيانا وَتَخْلُقُونَ اى تفترون وتنسبون الى الله بإثبات الشريك له سيما هذه التماثيل الباطلة العاطلة إِفْكاً كذبا وافتراء مجادلة ومراء مع ان هؤلاء التماثيل الهلكى لا تنفعكم ولا تضركم ولا ترزقكم ولا تمنع رزقكم بل إِنَّ مطلق الالهة الباطلة الَّذِينَ تَعْبُدُونَ أنتم وأمثالكم مِنْ دُونِ اللَّهِ الحقيق بالاطاعة والعبادة مطلقا سواء كانوا هؤلاء الجمادات او ذوى الحس والحركات من الحيوانات لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً يعنى امر الرزق مقصور على الله المتكفل لأرزاق عباده وليس في وسع غيره ان يرزق أحدا من عباده رزقا صوريا او معنويا وانما خص سبحانه الرزق بالذكر مع انهم لا يملكون سواه ايضا إذ هو اظهر للوازمهم وأتم لشدة احتياجهم اليه وان أردتم رزقا جسمانيا او روحانيا فَابْتَغُوا واطلبوا عِنْدَ اللَّهِ القادر المقتدر الرِّزْقَ الصوري المقوم لمزاجكم وكذا المعنوي الموصل الى مبدأكم ومعادكم لتتزودوا برزقه في اولاكم وأخراكم وَإذا سمعتم وعلمتم ان لا رازق لكم سوى الله اعْبُدُوهُ حق عبادته واعرفوه حق معرفته وَاشْكُرُوا لَهُ أداء لحق شيء من حقوق نعمه ونبذ من موائد فضله وكرمه واعلموا انكم إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ رجوع الظل الى ذي الظل والأمواج الى الماء وَإِنْ تُكَذِّبُوا اى ان تكذبوني في قولي ولم تقبلوا منى رسالتي ولم تتعظوا بنصحي وإرشادي فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ أمثالكم رسلهم مثلي مِنْ قَبْلِكُمْ ومن قبلي فصار تكذيبهم وبالا عليهم وسبب هلاكهم وحلول العذاب عليهم وهم ما بالوا على تكذيبهم وَانا ايضا لا أبالي بتكذيبكم

[سورة العنكبوت (29) : آية 19]

كما لم يبالوا بتكذيب أممهم إذ ما عَلَى الرَّسُولِ المبلغ المرسل من عند الله الى قوم إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ اى تبليغ ما أرسل به مكشوفا ظاهرا بلا سترة وحجاب وبلا زيادة ولا نقصان واما امر القبول والامتثال بالمأمور فوض الى مشية الله وارادته وقدرته له ان يتصرف في عباده بان يجعل الكافر الجاحد مؤمنا مطيعا والمطيع المؤمن كافرا نافيا للصانع العياذ بالله من سخطه وغضبه فالكل مقدور له مثبت في لوح قضائه حاضر في حضرة علمه المحيط لا يسأل عن فعله وحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد أَوَلَمْ يَرَوْا اى كمال قدرته ومتانة حكمه وحكمته كَيْفَ يُبْدِئُ اى يبدع ويظهر اللَّهُ القادر المقتدر الْخَلْقَ اى عموم المخلوقات والموجودات من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة ثُمَّ يُعِيدُهُ ويعدمه كما ابدأه وأظهره بمقتضى النشأتين نزولا وعروجا هبوطا وصعودا ظهورا وبطونا مدا وقبضا نشرا وطيا لطفا وقهرا جلالا وجمالا إِنَّ ذلِكَ التبديل والتحويل عَلَى اللَّهِ المتجلى في الأكوان في كل آن وبكل شأن يَسِيرٌ إذ لا يعرضه العسر والفتور ولا يعتريه العجز والقصور ولا يبرمه مر الدهور وكر الشهور وان أنكروا لك ولم يقبلوا منك تنويرك الذي جئت به قُلْ لهم يا أكمل ذوى الحكم والخلة سِيرُوا فِي الْأَرْضِ سير معتبر خبير فَانْظُرُوا بنظر الاعتبار والاستبصار كَيْفَ بَدَأَ واظهر الله العليم الحكيم الْخَلْقَ في اقطار الآفاق وكيف نشرهم فيها وبسطهم عليها بامتداد اظلال أسمائه وعكوس صفاته ثُمَّ اللَّهُ القادر المقتدر على كل ما أراد وشاء بالاختيار والاستقلال يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ المقابلة لنشأة الظهور والإبداء الا وهي نشأة الكمون والإخفاء والفناء والافناء بان قبض سبحانه حسب قهره وجلاله جميع ما مد من الاظلال وطوى نحوه عموم ما نشر من الآثار المترتبة على الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية إِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته قَدِيرٌ لا ينتهى قدرته عند مقدور بل له ان يتصرف فيه كيف شاء ومتى أراد ازلا وابدا ومن كمال قدرته ومقتضى حكمته ومشيته يُعَذِّبُ من عباده مَنْ يَشاءُ تعذيبه بلا سبق اسباب عادية حسب قهره وجلاله وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ برحمته الواسعة ايضا كذلك بمقتضى لطفه وجماله وَكيف لا يرحمهم سبحانه مع انه لا ملجأ لهم دونه ولا مرجع لهم سواه إذ إِلَيْهِ لا الى غيره ولا غير في الوجود معه تُقْلَبُونَ انقلاب الزبد هواء والأمواج ماء وَبعد ما ثبت ان منقلبكم اليه ومرجعكم نحوه فعليكم الإطاعة والايمان بالله وبوحدانيته طوعا بلا تذبذب وتلعثم إذ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ معاجزين الله المنتقم الغيور عن اخذكم ودرككم ما دمتم فِي الْأَرْضِ ولو تحصنتم فيها بقلاع حصينة وبروج مشيدة متينة وَلا فِي السَّماءِ ايضا لو تصعدتم إليها وترقيتم نحوها إذ الكل في قبضته وتحت قدرته بحيث لا يخفى عليه شيء لا في الأرض ولا في السماء وَبالجملة ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ المبدئ المعيد المحيي المميت مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم بالاستقلال ويتصرف فيكم بالإرادة والاختيار وَلا نَصِيرٍ ينصركم على أعدائكم ويدفع ضررهم عنكم. ثم قال سبحانه حثا لهم الى الايمان وترغيبا لهم الى التوحيد والعرفان وَالَّذِينَ كَفَرُوا وكذبوا بِآياتِ اللَّهِ الدالة على عظمة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته وَلِقائِهِ اى أنكروا بلقاء الله الموعود المعهود لأرباب الكشف والشهود أُولئِكَ البعداء المطرودون عن ساحة عز القبول هم الذين قد يَئِسُوا وقنطوا مِنْ رَحْمَتِي مع وسعتها ووفورها وَأُولئِكَ الأشقياء

[سورة العنكبوت (29) : آية 24]

المردودون المترددون في تيه الغفلة والغرور لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في النشأة الاولى والاخرى بحيث لا يرجى نجاتهم وخلاصهم منه أصلا وبعد ما قد بالغ الخليل الجليل صلوات الرحمن عليه وسلامه في الدعوة والإرشاد وأيد دعوته بأنواع المواعظ والتذكيرات واصناف الرموز والإشارات ونبذ من الوعيدات الهائلة والإنذارات المهولة رجاء ان يتنبهوا منها ويتفطنوا بها على ما هو الحق الحقيق بالاطاعة والاتباع فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ بعد استماعهم بمقالاته تفصيلا إِلَّا أَنْ قالُوا متفقين مجتمعين اقْتُلُوهُ حدا فانه قد اعرض عن دينكم وانصرف عن آلهتكم وشفعائكم أَوْ حَرِّقُوهُ فانه حرى بالإحراق لعظم جرمه وكبر ذنبه وبعد ما اتفقوا على إحراقه أوقدوا نارا عظيمة بحيث لا يمكن التقرب نحوها الا من مسافة بعيدة فوضعوه في المنجنيق فرموه بها إليها فَأَنْجاهُ اللَّهُ المراقب عليه المطلع على إخلاصه فأخلصه مِنَ النَّارِ سالما بل قد جعلها له بردا وسلاما وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء والانقاذ مع ان طبع النار انما هي على الإحراق والافناء لَآياتٍ عظاما ودلائل جساما دالة على كمال قدرة الله ومتانة حوله وقوته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته إذ هم المنتفعون بأمثال هذه الشواهد الساطعة والبراهين القاطعة وَبعد ما أنجاه الله منها وأيس من ايمان قومه قالَ لهم موبخا عليهم موعدا لهم بوحي الله والهامه إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ وأخذتم مِنْ دُونِ اللَّهِ المتوحد بالالوهية والربوبية أَوْثاناً وسميتموهم أنتم من تلقاء انفسكم آلهة لتكون أسبابا لكم توجب مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ وتوقع المحبة والمواخاة بين أظهركم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بان تجتمعوا عندها وتعكفوا حولها وتتقربوا عندها بالهدايا والقرابين ثُمَّ اعلموا ايها الضالون المنهمكون في بحر الغفلة والضلال والتائهون في تيه الجهل بالله وقدر حوله وقوته وقدرته انكم وان اتفقتم في شأنكم هذا على الايمان بهؤلاء الهلكى المنحطين عن درجة الاعتبار وتتألفون بسببها في الحيوة الدنيا الا انكم يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة للعرض والجزاء وحساب عموم ما صدر عنكم في نشأة الابتلاء يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ يعنى يقع التناكر والتخاصم بينكم فيكفر بعضكم بعضا وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً إذ كل منكم ومن معبوداتكم تتلاعنون وتتخاصمون حال كونكم متبرئين إذ كل منكم متبرئ عن صاحبه تابعا ومتبوعا عابدا ومعبودا وَبالجملة مَأْواكُمُ النَّارُ ومرجعكم إليها بل أنتم وآلهتكم جميعا خالدون فيها لا نجاة لكم منها لا بأعمالكم وأفعالكم ولا بنياتكم وإخلاصكم فيها وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ليشفعوا لكم وينقذوكم منها بشفاعتهم وبعد ما قد أنجى سبحانه خليله صلوات الرحمن عليه وسلامه من النار وخرج منها سالما سويا بلا طوق ضرر وطريان الم فَآمَنَ لَهُ ابن أخته لُوطٌ عليه السلام وهو أول من آمن له وأنكره غيره ونسبوه الى السحر والشعبذة وانواع الخرافات وَبعد ما ايس عن ايمان قومه وصلاحهم قالَ ابراهيم للوط ولزوجته سارة ابنة عمه إِنِّي بعد ما قد أيست عن ايمان هؤلاء الجهلة الضالين ونجوت عن مكرهم ومكائدهم بعون الله ولطفه وجوده مُهاجِرٌ متبعد عنهم إِلى ارض قد أمرني رَبِّي بالهجرة إليها واوحانى ان اذهب نحوها فعلىّ ان امتثل بامره سبحانه وامضى على موجب حكمه ووحيه إِنَّهُ سبحانه في ذاته وأسمائه وأوصافه وأفعاله هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عموم ما قد جرى عليه مشيته وقضاؤه الْحَكِيمُ المتقن في جميع ما صدر عنه ارادة واختيارا وَبعد ما قد خرج عليه السلام من سواد الكوفة مع لوط وزوجته وصل

[سورة العنكبوت (29) : آية 28]

الى حران ثم منها الى الشأم فنزل هو بفلسطين ونزل لوط بسدوم ثم لما استقر وتمكن متوطنا على فلسطين قد وَهَبْنا لَهُ من كمال لطفنا معه وفضلنا إياه ابنه إِسْحاقَ وَنافلته يَعْقُوبَ ليزيل بهما كربة الغربة ووحشة الجلاء مع ان هبة الولد إياه انما هي من محض الجود والعطاء على سبيل خرق العادة إذ هو في سن الكبر والكهولة وامرأته عاقر عقيم وَمن كمال لطفنا معه ايضا قد جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ مستمرة الى يوم الجزاء وَالْكِتابَ ايضا اى قد آتينا الكتاب لبعض منهم يعنى رسلهم وانما فعلنا معه كذلك لئلا ينقطع سلسلة كرامتنا عنه وتعظيمنا إياه بل يستمر الى انقراض النشأة الاولى وَبالجملة بعد ما هاجر إلينا خليلنا بالكلية وانخلع عن خلعة الإمكان بالمرة وتجرد عن كسوة الناسوت رأسا فقد آتَيْناهُ أَجْرَهُ اى اجر هجرته فِي الدُّنْيا على وجه لا ينقطع صيته عن الآفاق ابدا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ بقبولنا المقبولين في ساحة عز حضورنا وَمن كمال فضلنا وجودنا أرسلنا ايضا لُوطاً الى قوم قد انحرفوا عن جادة العدالة وطريق الاستقامة وضلوا عن سواء السبيل اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ لوط عليه السلام لِقَوْمِهِ بوحي الله إياه والهامه إِنَّكُمْ ايها المفسدون المسرفون لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ اى الفعلة الذميمة التي ما سَبَقَكُمْ بِها وعليها لغاية هجنتها وقبحها ونهاية شنعتها وخباثتها مِنْ أَحَدٍ اى احد مِنَ الْعالَمِينَ اى من بنى نوعكم بل أنتم قد ابتدعتموها واخترعتموها من خباثة نفوسكم وشؤم شهوتكم ثم وبخهم وقرعهم سبحانه بهجنة أفعالهم وأعمالهم فقال أَإِنَّكُمْ ايها المسرفون المفرطون في اطاعة القوة الشهوية لَتَأْتُونَ وتطئون الرِّجالَ من ادبارهم وهم أمثالكم واشباهكم في الرجولية وَمع ذلك تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ المعهود يعنى سبيل التناسل والتوالد وتبطلون الحكمة المتقنة البالغة الإلهية المتعلقة بابقاء النوع وَمع ذلك تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ اى في مجالسكم ومحافلكم الْمُنْكَرَ اى هذه الفعلة الذميمة القبيحة المتناهية في الهجنة والفضاحة يعنى تأتون بها على رؤس الملأ والاشهاد بلا مبالات واستحياء وإخفاء بل تباهون وتفتخرون بإظهارها مع ان إعلان عموم المنكرات من أعظم الجرائم وأقبح الفواحش عند الله وعند عموم المؤمنين سيما هذا المنكر المستبدع المستقذر فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ بعد ما سمعوا منه التشنيع الشنيع والتقبيح الفضيح على ابلغ وجه وآكده إِلَّا أَنْ قالُوا متهكمين له مصرين على ما هم عليه من الفعلة المستهجنة والديدنة المستقبحة ائْتِنا يا لوط المتطهر المتنزه بِعَذابِ اللَّهِ الذي قد ادعيت نزوله علينا بسبب فعلتنا هذه إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك فنحن لم نمتنع عن فعلتنا بهذياناتك قط ولم نقبل منك وعظك ونصيحتك أصلا وبعد ما ايس لوط عن صلاحهم وإصلاحهم قالَ مشتكيا الى الله ملتجأ نحوه مستنصرا منه رَبِّ يا من رباني على الطهارة والنظافة انْصُرْنِي بحولك وقوتك بانزال العذاب عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ المسرفين المفرطين في الإفساد الخارجين عن مقتضيات حدودك وأحكامك وَبعد ما استحقوا الإهلاك والاستئصال بإصرارهم عليها وعدم امتناعهم عنها مع كونهم مجاهرين بها مفاخرين بإظهارها أخذناهم بغتة واستأصلناهم مرة وذلك لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى ليبشروه بهبة الولد والنافلة قالُوا مخبرين له على طريق الوحى من الله إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعنى سدوم وجاعلوها منقلبة على أهلها إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ خارجين عن مقتضى الحدود الإلهية قلابين الحكمة المتقنة البديعة الإلهية بالبدعة الشنيعة

[سورة العنكبوت (29) : آية 32]

وبعد ما سمع ابراهيم عليه السلام منهم ما سمع قالَ مضطربا قلقا إِنَّ فِيها لُوطاً من خلص عباد الله قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِمَنْ فِيها بتعليم الله إيانا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ مما سيصيب قومه بأمر الله علينا بانجائه وإنجاء من معه من اهل بيته والمؤمنين له إِلَّا امْرَأَتَهُ قد كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الهالكين لنفاذ قضاء الله على هلاكها بينهم وفيهم إذ هي منهم ومن جملتهم وفي عدادهم وزمرتهم وَبعد ما قد بشروا ابراهيم بما بشروا وأخبروا له ما أخبروا توجهوا نحو قرى قوم لوط عليه السلام اذكر يا أكمل الرسل لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ يعنى قد فاجأته المساءة والسآمة والكرب المفرط والكآبة بقدومهم وَضاقَ لوط بِهِمْ وبقدومهم ذَرْعاً يعنى قد ضاق طاقته بقدومهم ونزولهم إذ قد اشتد وصعب عليه حفظهم عن اهل القرية وضاقت طاقته عن تدبير خلاصهم منهم إذ هم قد جاءوا على صورة صبيان صباح وملاح أمارد في غاية الحسن وكمال اللطافة والجمال فهم مشغوفون بطلب أمثالهم بل هم ما رأوا أمثالهم قط وَلما تفرس الرسل من لوط الخوف والحزن والضجرة المفرطة وانواع الغموم والهموم العارضة له من إلمامهم إياه هكذا قالُوا له تفريجا لهمه لا تَخَفْ يا لوط من إضرار هؤلاء الضلال الهلكى بنا وَلا تَحْزَنْ من لحوق العار عليك بسببنا فانا رسل الله قد أرسلنا الله لنصرك وتأييدك وإنزال العذاب على قومك ولا تحزن ايضا من تعذيبنا لك ولمن اتبعك إِنَّا باذن ربنا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ مما يصيبهم من العذاب والهلاك إِلَّا امْرَأَتَكَ قد كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الهالكين البتة هكذا ثبت في لوح القضاء وحضرة العلم المحيط الإلهي ثم فصلوا له العذاب وقالوا إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ اى عذابا ذا رجز اى قلق واضطراب يقلقل المعذب به ويضطرب به اضطرابا شديدا حين نزوله وحلوله وما ذلك الا بِما كانُوا يَفْسُقُونَ اى بفسقهم الذي قد باهوا به وافتخروا بسببه وقد تمادوا فيه مصرين مجاهرين وَبعد ما انتقمنا منهم وأخذناهم بفسقهم لَقَدْ تَرَكْنا وأبقينا مِنْها اى من حكاياتهم وقصصهم آيَةً بَيِّنَةً وعبرة ظاهرة لائحة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعنى يستعملون عقولهم في مواضع العبر ويتأملون فيها معتبرين مستبصرين بها فاعتبروا يا اولى الأبصار واعلموا ان الأبرار والأخيار انما يتميزون عن الأشرار بالاعتبار والاستبصار. بصرنا الله بعيوب أنفسنا وجعلنا من زمرة المعتبرين بعيوب الغير بمنه وجوده وَمن مقتضيات حكمتنا ايضا قد أرسلنا إِلى مَدْيَنَ حين ظهر فيهم الخبط والخيانة في المكيلات والموزونات أَخاهُمْ شُعَيْباً ليصلح ما فيهم من المفاسد فَقالَ بعد ما بعثنا إليهم مناديا لهم ليقبلوه ويطيعوا امره يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه لكمال العطف والشفقة وإمحاض النصح اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الحقيق بالعبادة والإطاعة وَارْجُوا من الله الْيَوْمَ الْآخِرَ اى ائتوا بالإيمان والإخلاص والأعمال الصالحة راجين من الله الثواب في يوم الجزاء وَعليكم ان لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ ولا تتحركوا عليها حال كونكم مُفْسِدِينَ لمصالح عباد الله وامور معاشهم ومعادهم وبعد ما قد سمعوا مقالته فَكَذَّبُوهُ فاجئوا لتكذيبه بلا مبالاة بشأنه وبكلامه فاستحقوا المقت العظيم فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ والزلزلة الشديدة مع الصيحة الهائلة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ التي بنوها للمعاش والحياة وصاروا فيها جميعا جاثِمِينَ مائتين هالكين باركين على ركبهم ساقطين على وجوههم وَاذكر يا أكمل الرسل عاداً المبالغين في الظلم والعدوان وَثَمُودَ المتجاوزين عن مقتضيات الحدود الإلهية بالبغي والطغيان وَقَدْ

[سورة العنكبوت (29) : آية 39]

تَبَيَّنَ لَكُمْ وظهر عندكم ولاح لديكم ايها الناظرون المعتبرون عتوهم واستكبارهم مِنْ مَساكِنِهِمْ الرفيعة وحصونهم الحصينة المنيعة وَذلك بأنهم قوم ضالون منحرفون عن جادة العدالة قد زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وحسنها في نفوسهم فاستبدوا بها فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يعنى قد اعرضهم الشيطان بتزيين أعمالهم الفاسدة عليهم عن الصراط المستقيم والطريق المستبين وَهم كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ مجبولين على العبرة والبصارة متمكنين قادرين على الاستبصار والاعتبار فلم يعتبروا مع انه لم يسلب عنهم لوازم عقولهم بل قد لبس عليهم الشيطان أفعالهم وحسن عندهم أعمالهم فظنوا انهم مهتدون وهم ما كانوا مهتدين وَاذكر يا أكمل الرسل قارُونَ المباهي بالمال والنسب على اهل عصره وزمانه وَفِرْعَوْنَ المستعلى بالسلطنة والملك الى ان تفوه من غاية عتوه واستكباره بدعوى الألوهية لنفسه وَهامانَ وزيره وقد تفوق على اقرانه واهل زمانه بالثروة والجاه والنيابة الكاملة وعلو المكانة والمنزلة بين الأنام وَمن كمال تعنت هؤلاء المفسدين المسرفين المفرطين وغاية استعلائهم ونهاية كبرهم وخيلائهم لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى مصحوبا بوحينا رسولا منا إياهم ليهديهم الى طريق الحق والصراط المستقيم فكذبوه ولم ينالوا به وبكلامه مع كونه مؤيدا من لدنا بِالْبَيِّناتِ القاطعة والمعجزات الساطعة فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ على الله وعلى رسله وعموم عباده وانصرفوا عن مطلق أوامره سبحانه ونواهيه منكرين وجوده وإرساله ووحيه عنادا ومكابرة وَمع ذلك ما كانُوا سابِقِينَ بنا حافظين نفوسهم عن عذابنا إياهم وانتقامنا عنهم فَكُلًّا منهم قد أَخَذْنا بِذَنْبِهِ الذي قد صار علة موجبة لبطشنا وانتقامنا بمقتضى عذلنا. ثم فصل سبحانه كيفية اخذه إياهم بعد ما أجمل فقال فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً اى ريحا عاصفة فيها حصباء رميناهم بها ورجمناهم كقوم لوط وعاد وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ الهائلة المهولة كثمود واصحاب مدين وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون وبما معه من زخارفه التي هي سبب بغيه وطغيانه وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا كقوم نوح وفرعون وهامان وجميع جنودهما واتباعهما وبالجملة ما أخذنا كلا منهم الا بذنوب عظيمة قد صدرت عنهم على سبيل الإصرار والاغترار وَما كانَ اللَّهُ المستوي على العدل القويم والطريق المستقيم وما صح عليه وما حق له سبحانه لِيَظْلِمَهُمْ ويأخذهم عدوانا بلا ذنب صدر عنهم موجب لاخذهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى وهم قد كانوا يظلمون أنفسهم باستجلاب عذاب الله عليها بارتكاب أسبابه وموجباته وعرضها على غضب الله بالخروج عن مقتضى أوامره ونواهيه وما ذلك الا من رسوخ التقليدات والتخمينات في نفوسهم واستقرار الرسوم والعادات المألوفة المأنوسة الموروثة لهم من أسلافهم في جبلتهم لذلك قد أصروا على ما هم عليه وانصرفوا عن سواء السبيل فكذبوا الرسل الهادين اليه وأنكروا عليهم عتوا واستكبارا فهلكوا خسارا وبوارا. ثم أشار سبحانه الى توهين عموم التقليدات والتخمينات الحاصلة من اهوية النفوس الخبيثة المعتادة بالماديات والعقول السخيفة المكدرة بكدورات الأوهام والخيالات فقال على سبيل التمثيل والتشبيه بمقتضى ادراك العوام توضيحا لهم ليتنبهوا على طريق الحق ويتفطنوا بالتوحيد القويم مَثَلُ القوم الَّذِينَ اتَّخَذُوا وأخذوا مِنْ دُونِ اللَّهِ المنزه عن الأشباه والأنداد مطلقا أَوْلِياءَ يوالونهم كولاية الله ويعبدونهم مثل عبادته متوهمين انهم شركاء معه سبحانه أم شفعاء لهم عنده سبحانه مع انهم في أنفسهم لا يتأتى منهم لا الشركة ولا الشفاعة قطعا انما مثلهم في هذا الاتخاذ والاعتقاد

[سورة العنكبوت (29) : آية 42]

كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ التي قد اتَّخَذَتْ بَيْتاً من لعابها ثم تركته واتخذت آخر مثلها ثم تركته وهكذا حالها دائما مع ان هذه الابنية والبيوتات المتخذة لا تدفع حرا ولا بردا ولا تصير مانعا له من العدو ولا حجابا حاجزا من المكاره إياه كهؤلاء المقلدين الضالين الذين اتخذوا بتقليد بعض الضلال المتقدمين منهم دينا ومذهبا ثم تركوه بتقليد آخر منهم بلا تمكن ولا تمرن وهكذا حالهم دائما مع ان الأديان المتخذة لا تكشف لهم طريق الحق ولا توصلهم الى معرفته وتوحيده ولا تنقذهم من ظلمات الأوهام والخيالات الباطلة العائقة عن مشرب التوحيد ولا تخلصهم من سجن الطبيعة وقيود الإمكان وأغلال الأنانيات وسلاسل الهويات والتعينات مطلقا قال سبحانه على سبيل التأكيد والمبالغة على وجه التنصيص والتصريح بالضعف والتوهين بعد ما قد كنى ورمز لينزجروا ويرتدوا عن ما هم عليه من الأديان الباطلة وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ وأضعف الابنية لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ إذ لا بيت أضعف منه واشرف الى التخريب والانهدام واقل وقاية من الحر والبرد ودفع الضر والشر لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وهنه وضعفه وعدم نفعه لما اتخذوها لكنهم لم يعلموا فاتخذوا جهلا وعنادا فسيعلمون عاقبة ما اتخذوا ووبال ما عبدوا. ثم قال سبحانه على وجه الوعيد إياهم آمرا لحبيبه صلى الله عليه وسلم قل لهم يا أكمل الرسل إِنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر عباده وسرائرهم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما يَدْعُونَ وما تعبدون مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ من الأوثان والأصنام على التفصيل إذ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه المحيط شيء مما ظهر وبطن وخفى وعلن ولكن يمهلكم ويؤخر اخذكم بها زمانا لحكم ومصالح قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها وَكيف لا يأخذكم سبحانه بما صدر عنكم مع انه هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر على الانتقام بالقوة الكاملة والبطش الشديد الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله بما لا مزيد عليه وَان استهزؤا معك يا أكمل الرسل متهكمين بما في كتابك من التمثيلات بأحقر الأشياء وأضعفها مثل الذباب والعنكبوت والنمل وغيرها لا تبال بهم وبتهكمهم واستهزائهم إذ تِلْكَ الْأَمْثالُ التي نَضْرِبُها لِلنَّاسِ المتمكنين في الغفلة والنسيان لنوضح لهم طريق التوحيد والعرفان وسبيل السلامة والايمان انما هي للموفقين منهم المجبولين على استعداد القبول وفطرة الإسلام لا لكل احد من اهل الغفلة والضلال التائهين المترددين في اودية الجهل واغوار الخيال لطلب المحال وفي هاوية الوهم بأنواع المراء والجدال وَلذلك ما يَعْقِلُها وما يفهم معناها وما يصل الى قعرها ومرماها إِلَّا الْعالِمُونَ العارفون الواصلون بما أفاض الله عليهم سبحانه من رشحات حضرة العلم المحيط الإلهي الى ينبوع بحر الوحدة الذاتية التي هي منبع عموم الكمالات اللائحة على صحائف الأنفس والآفاق وصفحات الأعيان والأكوان بكمال الاستقلال والاستحقاق وكيف لا قد خَلَقَ اللَّهُ المتجلى بجميع صور الكمالات واظهر بمقتضى الأسماء والصفات السَّماواتِ اى العلويات المتفاوتة المتخالفة باختلافات الأسماء والصفات المنتشئة المنعكسة من الذات الاحدية حسب الشئون والتطورات المترتبة على الكمالات المندمجة فيها وَالْأَرْضَ اى طبيعة العدم القابلة لجميع الانعكاسات المنعكسة من اشعة التجليات الذاتية غيبا وشهادة ظهورا وبطونا بروزا وكمونا جمالا وجلالا وبالجملة ما خلق واظهر سبحانه عموم ما ظهر وبطن الا ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع بلا شائبة شك فيه وارتياب إِنَّ فِي ذلِكَ الإيجاد والإظهار على الوجه الابدع الأبلغ والنظام الأتم الأكمل لَآيَةً عظيمة وحجة قاطعة لِلْمُؤْمِنِينَ الموحدين الموقنين بوحدة ذاته وكثرة أسمائه وصفاته حسب شئونه

[سورة العنكبوت (29) : آية 45]

وتطوراته على مقتضى تجلياته المتجددة الغير المتكررة ازلا وابدا اتْلُ يا أكمل الرسل ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ الجامع لما في النشأتين الحاوي لعموم الأمور الجارية في المنزلتين وتأمل في رموزه وإشاراته حق التأمل والتدبر واتصف بأوامره واجتنب عن نواهيه واعتبر من عبره وأمثاله وذق حلاوة معارفه وحقائقه بتوفيق الله وتيسيره وَأَقِمِ الصَّلاةَ وداوم على الميل المقرب نحو الحق بعموم جوارحك وأركانك بعد ان تنوي وتقصد في صلاتك هذه الانخلاع عن لوازم ناسوتك مطلقا محرما على نفسك عموم حظوظك من دنياك مقبلا على شأنك في أخراك متوجها الى قبلة الوحدة وكعبة الذات الاحدية وعرفات الأسماء والصفات وبالجملة مستأنسا بالله متشوقا الى لقاء الله مستوحشا عن غير الله مطلقا إِنَّ الصَّلاةَ على الوجه المذكور تَنْهى وتكف صاحبها عَنِ الْفَحْشاءِ المترتبة على القوى البهيمية من الشهوية والغضبية وَالْمُنْكَرِ المترتب على مطلق القوى البشرية المنغمسة بالعلائق المادية والشواغل الجسمية والجسمانية وَبالجملة لَذِكْرُ اللَّهِ المنزه في ذاته عن عموم الأكوان المبرى أوصافه وأسماؤه عن وصمة النقصان وسمة الحدوث والإمكان والاشتغال بذكره سبحانه حسب إطلاقه أَكْبَرُ شمولا وأتم توجها وقبولا وأكمل حصولا ووصولا سيما لو جذبتك العناية من لدن جنابه ووافقك التوفيق من عنده نحو بابه وَكن يا أكمل الرسل في نفسك متوجها الى ربك متقربا اليه على الوجه الذي أمرت به ولا تلتفت الى هذيانات اهل البدع والأهواء الفاسدة إذ اللَّهِ المطلع بجميع حالاتهم يَعْلَمُ منهم بعلمه المحيط الحضوري عموم ما تَصْنَعُونَ من الاستخفاف والاستهزاء وعدم المبالات بمعالم الدين والاستحقار بمراسم التوحيد واليقين فسيجازيهم سبحانه حسب علمه بهم وَبعد ما سمعتم ايها المؤمنون خطاب ربكم مع نبيكم لا تُجادِلُوا ولا تخاصموا أَهْلَ الْكِتابِ اى مع الأحبار الذين واظبوا على محافظة كتاب الله المنزل إليهم واستنبطوا منه الاحكام وامتثلوا بأوامره واجتنبوا عن نواهيه إِلَّا بِالَّتِي اى بالطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ الطرق وابعد عن المكابرة واقرب الى الصواب هينين لينين معهم بلا قلق واضطراب وفضول من الكلام ما داموا منصفين معتدلين بلا ميل منهم وانحراف الى المكابرة والاغتساف إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ جهلا وعنادا وخرجوا عن منهج الصدق والصواب بغيا وعدوانا وَقُولُوا لهم بمقتضى ما أمرتم به في كتابكم آمَنَّا وصدقنا بِالَّذِي اى بالكتاب الذي أُنْزِلَ إِلَيْنا من عند ربنا بطريق الوحى لنبينا وَآمنا ايضا بالكتاب الذي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ منه سبحانه ايضا وحيا على نبيكم وَكيف لا نؤمن بكتابكم ونبيكم إذ إِلهُنا الذي قد انزل علينا كتابا وَإِلهُكُمْ الذي انزل عليكم كتابا ايضا واحِدٌ لا تعدد فيه ولا شريك له يشاركه ولا مثل له يماثله ولا كفؤ له يشابهه وَبالجملة نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مؤمنون منقادون مطيعون وبجميع ما حكم به سبحانه في كتبه وعلى ألسنة رسله مصدقون ممتثلون سوى ما قد نسخ في كتابنا حكمه وَكيف لا يقول لهم المؤمنون هكذا ولا يؤمنون بالكتب المنزلة من عندنا إذ كَذلِكَ وعلى وفق ذلك وطبقه قد أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل الْكِتابَ الجامع لما في الكتب السالفة لتكون أنت ومن تبعك من المؤمنين مصدقين بعموم الكتب والرسل بلا تفاوت وتفرقة بينهم فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ قبل كتابك يُؤْمِنُونَ بِهِ اى بكتابك ويصدقون بك ايضا كذلك على الوجه الذي وعدناهم في كتبهم من انا سنرسل رسولا من لدنا ومعه كتاب جامع مصدق

[سورة العنكبوت (29) : آية 48]

لجميع الكتب السالفة والرسل السابقة وان كان مشتملا على النسخ والتبديل لبعض احكام الكتب السابقة المنزلة على الأمم السالفة وَمِنْ هؤُلاءِ الاعراب مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ اى بهذا الكتاب وان لم يسبق لهم وعد لأنهم ليسوا من اهل الكتاب في وقت من الأوقات بل انما آمنوا به لكونهم من ارباب اللسن والفصاحة قد تأملوا في نظم ألفاظه العجيبة واتساق معانيه البديعة الغريبة قد انكشف لهم انه ما هو من جنس كلام البشر فجزموا بإعجازه وآمنوا له وصدقوه انه نازل من عند الله على سبيل الوحى بلا تردد وَبالجملة ما يَجْحَدُ وينكر بِآياتِنا الظاهرة الاعجاز العجيبة الشأن الباهرة البيان والتبيان إِلَّا الْكافِرُونَ الساترون نور الهداية والايمان بظلمة الكفر والطغيان عنادا ومكابرة وَكيف لا يكون القرآن وحيا معجزا نازلا من عند الله حسب ارادته واختياره إذ ما كُنْتَ أنت يا أكمل الرسل تَتْلُوا وتتعلم مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل القرآن ونزوله مِنْ كِتابٍ من الكتب المنزلة وَلا تَخُطُّهُ ولا تنسخه أنت نفسك بِيَمِينِكَ على سبيل النقل يعنى ما كنت أنت بحال من الأحوال من اهل النسخ والإملاء والكتابة والإنشاء إذ هي مسبوقة بالتعلم وأنت أمي عار عن الدراسة والكتابة والتعلم مطلقا ولم يعهد منك أمثال هذه الأمور الدالة على الأخذ والاستبصار ولو كنت أنت متصفا بها وأهلا لها إِذاً لَارْتابَ شك وتردد الْمُبْطِلُونَ المجاهرون بالقول الزور الباطل في شأنك وشأن كتابك وكونه معجزا مع انه ما هو اى القرآن حينئذ ايضا محل ارتياب لأنه في نفسه وفي حد ذاته وباعتبار نظمه البديع ومعناه الغريب العجيب وأسلوبه المحكم معجز خارق للعادة عند من له ادنى دريبة بأساليب الكلام وبالجملة لا ينبغي ولا يليق لاحد من ذوى العقول السليمة والطباع المستقيمة سيما من ذوى الأذواق الصحيحة وارباب الوجدان ان يشك في اعجازه الا من هو متناه في البلادة وسخافة العقل وركاكة الفهم بَلْ هُوَ اى القرآن في نفسه وعند اولى العزائم الخالصة الصحيحة عن مطلق المكدرات المنافية لصفاء مشرب التوحيد آياتٌ شواهد ودلائل دالة على الحق بَيِّناتٌ واضحة الدلالات في أنفسها ثابتة فِي صُدُورِ العارفين المحققين الموحدين الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اللدني المترشح من حضرة العلم المحيط الإلهي المفاض لهم منها حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية تفضلا عليهم وامتنانا لهم وَبالجملة ما يَجْحَدُ وينكر بِآياتِنا سيما قواطع برهانها وسواطع تبيانها إِلَّا القوم الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى العلم والعين والكشف والشهود وَمن غاية بغضهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشدة شكيمتهم وضغينتهم معه قالُوا مقترحين منه على سبيل التعجيز والإنكار لَوْلا وهلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ عجيبة غريبة مِنْ رَبِّهِ ان كان صادقا في دعوى الرسالة كالآيات التي أنزلت على الأنبياء الماضين مثل عصا موسى وناقة صالح ومائدة عيسى وسائر معجزاته وغير ذلك قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض الحكمة خاليا عن وصمة الشبهة إِنَّمَا الْآياتُ كلها عِنْدَ اللَّهِ وفي قبضة قدرته وعلى مقتضى ارادته ومشيته متى تعلق ارادته بانزال آية منها أنزلها على من أرسله ارادة واختيارا وليس في وسعى وطاقتي ولا في وسع كل من مضى قبلي من الأنبياء والرسل إنزال ما طولبوا وإتيان جميع ما اقترحوا من الآيات وَهكذا حالي بكم ومقترحاتكم بل إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ من قبل ربي إياكم مُبِينٌ ظاهر الإنذار والتخويف وكل من الأنبياء والرسل الماضين قد كانوا ايضا كذلك بالنسبة الى أممهم إذ نحن معاشر الأنبياء والرسل

[سورة العنكبوت (29) : آية 51]

مالنا الا التبليغ والإنذار بمقتضى الوحى والإلهام الإلهي بلا تحريف منا وتبديل. واما امر التنزيل والإنزال من قبل الحق وكذا امر القبول منكم فمفوض الى القادر الحكيم موكول اليه سبحانه مترتب على توفيقه واقداره ثم قال سبحانه توبيخا على المقترحين وتقريعا لهم أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ ولم يغنهم من جميع الآيات التي اقترحوا عنك يا أكمل الرسل أَنَّا قد أَنْزَلْنا عَلَيْكَ من مقام لطفنا وجودنا الْكِتابَ الجامع لما في الكتب السالفة المحتوى على احوال النشأتين على الوجه الأبلغ الأتم مع انه لا يغيب عنهم بل يُتْلى عَلَيْهِمْ ويقرأ عندهم دائما ويدوم بينهم ابدا بخلاف سائر الآيات فإنها كما ظهرت غابت هي وأثرها ايضا وهو واثره حاضر عندهم غير مغيب عنهم وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الكتاب الذي هو في نفسه مشتمل على آيات عظام كثيرة الفوائد دائمة العوائد غير منقطعة آثارها عن من تمسك بها واستهدى بها لَرَحْمَةً اى نعمة عامة نازلة من قبل الحق وَذِكْرى اى عظة وتذكيرا شاملا لعموم عباده ملقاة من عنده سبحانه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بتوحيده سبحانه وبكمالات أسمائه وصفاته ويصدقون المبدأ والمعاد والعرض والجزاء والفوز بشرف اللقاء وجميع ما وعد لهم الحق في النشأة الاخرى. ثم لما اتى قوم من ضعفاء المسلمين الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتف قد رقم فيها بعض اراجيف اليهود وأقاويلهم الكاذبة متبركين بها متيمنين لما فيها فقال صلّى الله عليه وسلّم مبغضا عليهم كفى بضلال قوم ان يرغبوا عما جاء به نبيهم من قبل ربهم الى ما جاء به غير نبيهم وصدقوا ما جاء به غير نبيهم مع انه كذب مفترى وكذبوا ما جاء به النبي مع انه صدق كلمه مطابق للواقع فنزلت حينئذ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم قُلْ يا أكمل الرسل للمكذبين لك وبما جئت به مصدقين لأعدائك وبما جاءوا به كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ايها المكابرون شَهِيداً حاضرا معى ومعكم مطلعا على حالي وحالكم وما جرى في ضميري وضمائركم إذ هو سبحانه يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع ما ظهر فِي السَّماواتِ وَكذا ما ظهر الْأَرْضِ وكذا ما ظهر بينهما وبطن فيهما فيجازى كلامنا ومنكم بمقتضى علمه بنا وبكم وَكيف لا يجازى القادر المقتدر على انتقام عصاة عباده سيما الَّذِينَ آمَنُوا واطاعوا بِالْباطِلِ الذي هو بمراحل عن الحق والصدق وَكَفَرُوا بِاللَّهِ الحق الحقيق بالحقية المستوي على منهج الصدق والصواب بالعدالة دائما واعرضوا عن أطاعته وانقياده عنادا ومكابرة وبالجملة أُولئِكَ البعداء المطرودون عن ساحة عز الحضور والأشقياء المحرومون عن سعة رحمة الملك الرحيم الغفور هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران والخذلان لا يرجى ربحهم وتفريجهم منه أصلا وَمن غاية غيهم وضلالهم وانهماكهم في بحر الغفلة والغرور يَسْتَعْجِلُونَكَ تهكما واستهزاء بك بِالْعَذابِ الذي قد أنذرتهم به بوحي منا إليك بنزوله إياهم وحلوله عليهم وما ذلك الا من كمال انكارهم وتكذيبهم إياه وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى ووقت معين موعود مثبت في لوح قضائنا لَجاءَهُمُ الْعَذابُ اليوم فجاءة عاجلا لاستحقاقهم بنزوله وحلوله الا انه موقت موعود بمقتضى سنتنا القديمة المستمرة من ترهين الأمور على الأوقات المعينة المثبتة في لوح القضاء وحضرة العلم حسب الحكمة المتقنة قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا لا تغتروا بامهالنا إياكم زمانا وَالله لَيَأْتِيَنَّهُمْ ولينزلن عليهم العذاب الموعود بَغْتَةً اى دفعة وفجاءة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ولا يطلعون بنزوله وامارات إتيانه وحلوله ومن غاية عمههم وسكرتهم ونهاية انهماكهم في اسباب العذاب

[سورة العنكبوت (29) : آية 54]

ولوازمه وموجباته يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ ظنا منهم ان ما هم عليه انما هو من موجبات الثواب واسباب النجاة والجنة بل هو عينهما إذ لا ايمان لهم بالنشأة الاخرى وما فيها وَكيف لا يعذبون في النشأة الاخرى ولا يدخلون النار إِنَّ جَهَنَّمَ المعدة الموعودة لهم فيها لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ محتوية عليهم الآن في النشأة الاولى ايضا باعتبار احاطة اسبابها وموجباتها التي هي سلاسل الأماني والآمال الامكانية المحيطة لهم دائما في عموم أوقاتهم وحالاتهم في النشأة الاولى المستجلبة لهم دركات النيران واودية الحرمان والخذلان في النشأة الاخرى اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ في الآخرة كغشى الأسباب التي هي عبارة من لوازم الإمكان إياهم اليوم الى حيث صاروا محفوفا بها مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ اى من أعلاهم واسفلهم محيطا بجميع جوانبهم وَيَقُولُ لهم حينئذ قائل من قبل الحق زجرا لهم وتوبيخا ذُوقُوا ايها المستكبرون المصرون على الكفر والعناد جزاء ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ايها المعاندون المكابرون. ثم قال سبحانه على سبيل التعليم والتنبيه مناديا لخلص عباده الذين جل هممهم الإخلاص في عموم ما جاءوا به من الأعمال يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا أضافهم سبحانه الى نفسه تفضيلا وتكريما مقتضى ايمانكم الإخلاص والحضور معى والتوجه الى مع فراغ البال في كل الأحوال فان لم تجدوا الفرصة والفراغة المذكورة في ارض لا تستقروا فيها ولا تتمكنوا عليها بل عليكم ان تفروا وتخرجوا منها طالبين الجمعية والحضور إِنَّ أَرْضِي مقر عبادي وعبادتي واسِعَةٌ فان لم تجدوا لذة التوجه وحلاوة الرجوع الى في ارض ولم يتيسر لكم الجمعية الحاصلة المنعكسة من صفاء مشرب التوحيد ومن عالم العماء المفضى الى التجريد والتفريد فعليكم الخروج والجلاء منها وبالجملة فَإِيَّايَ في عموم الأماكن والأحوال فَاعْبُدُونِ عبادة مقارنة بالإخلاص والخضوع والخشوع والتبتل والتوكل والتفويض والرضاء والتسليم ولا تغتموا ولا تتحزنوا بالخروج عن الأوطان المألوفة والبلدان المأنوسة والبيوت الموروثة وبالجلاء منها خوفا من الموت الطبيعي ان كنتم مائلين إلينا راغبين نحونا مؤملين الفناء فينا والبقاء ببقائنا والفوز بشرف لقائنا إذ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس المستحدثة بحدوث البدن ذائِقَةُ كأس الْمَوْتِ الطبيعي في اى مكان كان ثُمَّ بعد ما قد ذقتم حلاوة كأس الموت الإرادي ولذة الفناء الاختياري فقد خلصتم عن قيود الهويات العدمية المانعة عن الإطلاق الحقيقي فحينئذ إِلَيْنا لا الى غيرنا إذ لا موجود في فضاء الوجود سوانا تُرْجَعُونَ رجوع الأضواء الى الذكاء والأمواج الى الماء وَبعد ما رجع الموحدون الَّذِينَ آمَنُوا بالله موقنين وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مقارنين ايمانهم بها مخلصين فيها إلينا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ وننزلنهم تفضلا منا إياهم وتكريما مِنَ الْجَنَّةِ وفضاء الوحدة المعدة لأرباب المعرفة والتوحيد غُرَفاً اى لكل منهم غرفة معينة تصير له مقرا ومنزلا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق مملوة بمياه المكاشفات والمشاهدات على تفاوت طبقاتهم وقدر قابلياتهم خالِدِينَ فِيها دائمين غير متحولين عنها أصلا وبالجملة نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنة وما فيها مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ألا وهم أولو العزائم الصحيحة الَّذِينَ صَبَرُوا على عموم مشاق التكاليف الإلهية ومتاعب الطاعات واذيات الأعادي والجلاء عن الأوطان ومفارقة الأقران والخلان وغير ذلك مما جرى عليهم من طوارق الحدثان ومن تجدد الملوان وَمع ذلك هم في جميع حالاتهم وفي عموم ما جرى عليهم من المحن والمنح والترح

[سورة العنكبوت (29) : آية 60]

والفرح عَلى رَبِّهِمْ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية يَتَوَكَّلُونَ وينسبون اليه عموم ما ينسبون لا الى الوسائط والوسائل إذ الكل منه بدأ واليه يعود بل الوسائل كلها مطوية عندهم منسية لديهم ودونهم بل نظرهم مقصور على المسبب الواحد الأحد الفرد الصمد القيوم المطلق الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد وبعد ما امر سبحانه المؤمنين بالجلاء ومفارقة الأوطان لكسب الجمعية وحضور القلب قالوا متحوفين عن العيلة والاضطرار في امر المعاش كيف نعمل ونعيش في بلاد الغربة ولا معيشة لنا فيها قال سبحانه تسلية لهم وازالة لخوفهم وَكَأَيِّنْ اى كثيرا مِنْ دَابَّةٍ تحرك على الأرض محتاجة الى الغذا المقوم لمراحها مع انها لضعفها وعدم مكنتها لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اى لا تطيق لحمل الرزق وادخاره وكسبه اللَّهُ المتكفل لأرزاق عموم عباده يَرْزُقُها من حيث لا يحتسب وَإِيَّاكُمْ ايضا كذلك وأنتم حسب حصة ناسوتكم من حملة الدواب التي قد تكفل الله برزقها بل من حلتها فلا تغتموا لأجل الرزق الصوري ولا تقولوا قولا به نزل بعلكم عن خالقكم ورازقكم وَلا تخطروا ايضا ببالكم أمثال هذا إذ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالكم الْعَلِيمُ بأحوالكم ونياتكم فعليكم ان تثقوا في كل الأحوال بالله المتولى لأموركم مفوضين كلها اليه متوكلين عليه متمكنين في توكلكم وتفويضكم راسخين فيه بلا تلعثم وتزلزل. ثم قال سبحانه قولا على سبيل الإلزام والتبكيت وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا أكمل الرسل اى اهل مكة مع كفرهم وشركهم مَنْ خَلَقَ واظهر السَّماواتِ وَالْأَرْضَ من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة وَمن سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وصيرهما دائبين دائرين لَيَقُولُنَّ اللَّهُ المظهر للكائنات المستقل في إيجادها والمتصرف فيها بالاستقلال والاختيار حسب ارادته ومشيته وبعد ما أقروا بوحدة الحق وانتهاء مراتب عموم الكثرات والممكنات اليه سبحانه قل فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ والى اين ينصرفون عن توحيده والايمان به والامتثال بأوامره والاجتناب عن نواهيه الجارية على ألسنة رسله وكتبه وان صرفهم عن الايمان فقر اهله وفاقتهم قل لهم نيابة عنا اللَّهُ المطلع لاستعدادات عباده وقابلياتهم يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ حسب استعداده وقابليته وَيَقْدِرُ لَهُ ويقبض عنه ايضا بحسنه ارادة واختيارا إِنَّ اللَّهَ المتقن في عموم أفعاله بِكُلِّ شَيْءٍ صدر عنه ارادة واختيارا عَلِيمٌ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء من لوازمه ومتمماته وجميع مقتضياته وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ايضا يا أكمل الرسل مَنْ نَزَّلَ مِنَ جانب السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ اى بواسطة الماء بمقتضى عادته المستمرة من تعقيب الأسباب بالمسببات الْأَرْضَ الجامدة اليابسة مِنْ بَعْدِ مَوْتِها وجمودها ويبسها طبعا لَيَقُولُنَّ طوعا اللَّهُ القادر المقتدر على مطلق الأحياء والاماتة ومع اعترافهم بوحدة الله وانتساب معظم الأشياء اليه سبحانه يشركون له غيره عنادا ومكابرة قُلِ يا أكمل الرسل بلسان الجمع بعد ما قد عصمك الحق عن الشرك وانواع الجهالات بافاضة العقل المفاض وهداك نحو توحيده بالرشد الكامل المكمل المميز لك أكمل التمييز حامدا به شاكرا لنعمه سيما نعمة العصمة عن الشرك والضلال الْحَمْدُ المطلق والثناء العام الصادر عن ألسنة ذرائر الكائنات المتذكرة لمبدئها ومنشئها طوعا وطبعا ثابت حاصل لِلَّهِ راجع اليه سبحانه اصالة إذ لا مظهر لهم سواه ولا موجد بل لا موجود في الوجود الا هو بَلْ أَكْثَرُهُمْ من نهاية غفلتهم وضلالهم عن الله لا يَعْقِلُونَ ولا يفهمون وحدة الحق واستقلاله في الآثار والتصرفات الواقعة في الأنفس والآفاق ولا يستعملون عقولهم المفاضة لهم للتدبر والتأمل

[سورة العنكبوت (29) : آية 64]

في هذا المطلب العزيز الشأن حتى يستعدوا لفيضان زلال الوحدة بطريق الكشف والشهود فخلصوا عن التردد في هاوية الجهالات واودية الأوهام والخيالات وما يعوقهم ويمنعهم عن الوصول الى هذا المطلب العلى والمقصد السنى الا المزخرفات الدنية الدنياوية الملهية للنفوس البشرية عن اللذات الروحانية مع انها ما هي في أنفسها الا اوهام وخيالات باطلة عاطلة فكيف ما يترب عليها من اللذات الوهمية والشهوات البهيمية كما قال سبحانه مشيرا الى فناء زخرفة الدنيا وعدم قرارها وثباتها وبقاء النشأة الاخرى وما يترتب عليها من اللذات الروحانية والدرجات العلية النورانية المتفاوتة علما وعينا وحقا على تفاوت طبقات ارباب الكشف والشهود ومقتضيات استعداداتهم الثابتة في لوح القضاء وحضرة العلم الإلهي وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا التي لا قرار لها ولا مدار حقيقة بل لا اصل لها أصلا سوى سراب قد انعكس من شمس الذات وامواج قد حدثت في بحر الجود إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ يعنى كما ان السراب يلهى ويخدع العطشان بالتردد والتبختر نحوه على اعتقاده انه ماء فيتعب نفسه ويزيد عطشه بل يهلكه كذلك الحياة الدنياوية ومزخرفاتها الفانية ولذاتها الزائلة الذاهبة الامكانية تتعب صاحبها طول عمره ولا ترويه ثم تميته بأنواع حسرة وضجرة وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ وما يترتب عليها من المكاشفات والمشاهدات اللدنية وانواع الفتوحات والكرامات الفائضة لأرباب التوحيد لَهِيَ الْحَيَوانُ اى هي مقصورة على الحياة الازلية الابدية التي لا يطرأ عليها زوال ولا يعقبها فناء ولا يعرض للذاتها القارة انصرام وانقضاء لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ويوقنون بها وبما فيها من الكرامات لم يؤثروا الدنيا الدنية وحياتها الفانية المستعارة عليها ولم يختاروا اللذات الوهمية البهيمية على لذاتها الازلية الابدية وبجهلهم وضلالهم قد اختاروا الفاني على الباقي والزائل على القار والشراب المهلك على الفرات المحيي. والعجب منهم ومن أحوالهم كل العجب انهم مع شركهم وإصرارهم على الكفر وعدم تأثرهم بالزواجر والدواعي الواردة من قبل الحق وظهور المعجزات المزعجة الى الايمان فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ متضرعين نحوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حينئذ كائنين كالمؤمنين المطيعين الخالصين في اطاعتهم وانقيادهم لله بلا شوب الشرك وشين الكفر فَلَمَّا نَجَّاهُمْ من كمال فضلنا وجودنا إياهم إِلَى الْبَرِّ وأخلصناهم من المهلكة آمنين إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ يعنى هم قد فاجؤا على الفور بعيد ما خلصوا عن التهلكة الى الشرك والطغيان وانواع العصيان والكفران قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا آمرا لهم على سبيل التهديد لِيَكْفُرُوا أولئك الكافرون بِما آتَيْناهُمْ من النعم العظام سيما نعمة الإنجاء عن مضيق البحر وَلِيَتَمَتَّعُوا أولئك المتمتعون بما عندهم من الحطام الدنياوية وبما هم عليه من الإصرار على الكفر والضلال فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ما يترتب على كفرانهم وتمتعهم وشركهم وضلالهم أَينكرون نعمنا وانعامنا إياهم أولئك الكافرون المبطلون وَلَمْ يَرَوْا ولم يعلموا سيما اهل مكة أَنَّا من مقام فضلنا وجودنا إياهم قد جَعَلْنا بلدهم يعنى مكة حَرَماً ذا حرمة عظيمة يأوى إليها الناس من جميع اقطار الأرض من كل مرمى سحيق وفج عميق آمِناً ذا أمن اهله من النهب والسبي وانواع الأذى وَيُتَخَطَّفُ اى يختلس ويؤخذ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ نهبا وسبيا وهم آمنون فيها مصونون عن المؤذيات كلها ومع ذلك يكفرون نعمنا ويشركون بنا غيرنا أَما يستحيون من الله أولئك المبطلون اما يخافون من بطشه أولئك المفسدون المسرفون فَبِالْباطِلِ العاطل الزاهق الزائل يعنى الأصنام والأوثان يُؤْمِنُونَ يطيعون ويعبدون مع انهم لا يقدرون

[سورة العنكبوت (29) : آية 68]

على جلب نفع ودفع ضر وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ القادر المقتدر القوى على البطش والانتقام يَكْفُرُونَ فسيعلمون أولئك الجاهلون الظالمون أى منقلب ينقلبون. ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والوعيد الشديد وَمَنْ أَظْلَمُ وأشد ظلما وعدوانا على الله وخروجا عن مقتضيات حدوده وعلى نفسه ايضا بالعرض على بطشه وعذابه سبحانه مِمَّنِ افْتَرى ونسب عَلَى اللَّهِ مراء وافتراء كَذِباً عظيما بان يشرك معه غيره مع انه ليس في الوجود الا هو ولا اله سواه أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ المطابق للواقع الثابت المرسل من عنده سبحانه يعنى الرسول عليه السلام لَمَّا جاءَهُ كذبه فجاءة بلا تأمل وتدبر عنادا ومكابرة أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ يعنى أيزعمون أولئك المسارعون المبادرون في التكذيب المجترئون على الإنكار انهم لا يدخلون في جهنم الطرد وجحيم الخذلان خالدين مخلدين بسبب هذا الجرم العظيم والافتراء البالغ نهاية البغي والعناد على الله وعلى كتابه ورسوله بل هم المستوجبون المقصورون على الخلود فيها ابدا مهانين صاغرين. ثم قال سبحانه بمقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا يعنى المؤمنين الموقنين الذين قد حازوا كلتا مرتبتي العلم والعين بمقتضى استعداداتهم الفطرية ثم اجتهدوا ببذل وسعهم حتى أفنوا أنفسهم فينا وبقوا ببقائنا باذلين مهجهم في سبيلنا تاركين مقتضى هوياتهم وأعيانهم الباطلة وتعيناتهم العاطلة في هويتنا وعيننا الحقة الحقيقية لَنَهْدِيَنَّهُمْ ولنوفقن عليهم سُبُلَنا ولنزيدن هديهم ورشدهم إلينا جذبا منا إياهم وعناية لهم وإحسانا معهم وَكيف لا يجذبهم الحق ولا يعتنى بشأنهم ويزيد برشدهم وتوفيقهم إِنَّ اللَّهَ المتجلى لخلص عباده بمقتضى أسمائه وصفاته لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ منهم ألا وهم الذين يحسنون الأدب مع الله ويجتهدون في افناء ذواتهم الباطلة في الحق سبحانه بعد ما قد تحققوا بمقام الكشف والشهود وتيقنوا ان لا موجود سواه ولا اله في الوجود الا هو بل اجتهدوا حينئذ ان يحكوا اظلال هوياتهم الباطلة وعكوس تعيناتهم الهالكة العاطلة عن دفتر الوجود مطلقا لئلا يبقى لهم لا اسم ولا رسم ولا عين ولا اثر بعد ما قد طرحوا بتوفيق الله وجذب من جانبه ما طرحوا من أباطيل التعينات ولوازم الهويات والأنانيات وعموم الاعتباريات عن دفتر الوجود وفضاء الشهود بحيث لم يبق لهم شائبة الهوية والأنانية والاثنينية مطلقا وحينئذ لم يبق للمعية والمصاحبة والمقارنة معنى أصلا بل لم يبق في الوجود وعين الشهود الا هو فثبت انه ما هو في الحقيقة الا هو ولا اله في الوجود سواه بل كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون وبالجملة لا يشوشك منطوقات الألفاظ والعبارات ان كنت من ارباب الرموز والإشارات هو يقول الحق وهو يهدى السبيل حسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير خاتمة سورة العنكبوت عليك ايها المجتهد المتوجه نحو الحق المتعطش بزلال توحيده المعرض عن الباطل وعما يترتب عليه من غوائل الشيطان ووساوسه ان تجتهد أولا في استخلاص نفسك البشرية عن أمانيها مطلقا سيما انية امارتك المائلة الى انواع الفجور البغية على الله بأصناف الكفر والفسوق الغبية التي لا تفهم مقتضيات الوحدة وإشارات ارباب التوحيد أصلا العرية عن مبدأ المعارف والحقائق والأسرار والمكاشفات الواقعة في طريقه رأسا فلك ان تروضها بمتاعب الرياضات ومشاق التكليفات

سورة الروم

الى ان تجعلها مطمئنة راضية بما جرى عليها من القضاء ثم بعد ما قد صارت امارتك مطمئنة راضية انبعث شوقك وافضى ذوقك مع جذب من جانب الحق الى ان تجعلها فانية في هوية الله مضمحلة في ذاته متلاشية في أوصافه وأسمائه بحيث لا يبقى لها عين ولا اثر فحينئذ قد صرت من زمرة المحسنين المهديين المرضيين الذين هم مع الله في عموم أحوالهم لا بطريق المصاحبة والمقارنة ولا بطريق الحلول والاتحاد على ما يخيلك الألفاظ والعبارات بل بطريق الصيرورة والرجوع اليه والفناء فيه والبقاء ببقائه جعلنا الله ممن اجتهد في طريق التوحيد وجاهد في نفسه في مسلك الفناء حتى بذلها في سبيل الله وأفناها في هويته سبحانه بمنه وجوده [سورة الروم] فاتحة سورة الروم لا يخفى على من تحقق بتجددات التجليات الإلهية وتبدلات شئونه وتطوراته لطفا وقهرا قبضا وبسطا جمالا وجلالا ان دوام العسر واليسر والنعمة والنقمة والجدب والرخاء والفرح والترح والغالبية والمغلوبية وكذا عموم الأوصاف المتضادة المتناقضة والأطوار المتخالفة الحاصلة من الإضافات والارتباطات الواقعة بين الشئون والتطورات الحادثة في الأكوان والأزمان بين اهل الزمان المحبوسين في مضيق الإمكان والحدثان انما هي بحسب التجليات الإلهية المقتضية لحدوثها كل ذلك وأمثاله مما لا يتصور امتداده ودوامه ابدا مستمرا بلا تبدل وتحول بل ما هي الا أعراض متبدلة متجددة على تعاقب الأمثال وتوارد الاضداد لا تبقى زمانين متطاولة بالنسبة الى قوم دون قوم بل يتداول ويتداور بينهم بمقتضى سنة الله وجرى عادته المستمرة كما هو المتعارف المشهور المشهود من جريان الزمان وتوارد الحدثان حسب تجدد الملوان لذلك رد الله سبحانه على مشركي مكة خذلهم الله فرحهم وسرورهم حين أخبروا بغلبة فارس الذين هم ليسوا من اهل الكتاب على الروم الذين هم نصارى من اهل الكتاب ومن غاية فرحهم وجهلهم قالوا للمؤمنين تفألا على سبيل التبجح نحن نظهر ونغلب عليكم كما قد ظهر إخواننا على إخوانكم فاغتم المؤمنون من هذه الواقعة الهائلة انزل الله سبحانه هذه السورة تسلية لهم وازالة لغمهم مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلم مخبرا إياه متيمنا باسمه الكريم بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بمقتضى جماله وجلاله حسب ارادته واختياره الرَّحْمنِ لعموم عباده بسعة رحمته وسبقتها على غضبه الرَّحِيمِ لخواصهم بدوام الرحمة عليهم والرضاء عنهم والبسط معهم بلا تخلل الغضب والقبض [الآيات] الم ايها الإنسان الأفضل الأكمل اللبيب اللائق الملازم المداوم لاستكشاف غوامض اسرار الوجود ورقائق دقائق آثار الكرم والجود الفائض من الخلاق الودود على خواص مظاهر الأكوان وزبدة الأعيان المحبوسين في مضيق الإمكان ليوصلهم الى فضاء الوجوب وصفاء الكشف والشهود مخلصين عن عموم الأوهام والخيالات المستتبعة لانواع القيود قد غُلِبَتِ الرُّومُ وصاروا مغلوبين من عسكر الفرس فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وأقربها من ارض العرب وارض الروم وهي أذرعات الشام والأردن او فلسطين على اختلاف الروايات من اصحاب التواريخ وَلا تغتموا ايها المؤمنون من مغلوبية اهل الكتاب وضعفهم إذ هُمْ اى الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ ومغلوبيتهم من الفرس سَيَغْلِبُونَ ويصيرون غالبين عليهم آخذين انتقامهم عنهم على ابلغ وجه وأشده لا بعد زمان بعيد ومدة متطاولة بل فِي بِضْعِ سِنِينَ والبضع عند العرب من الثلاث الى التسع. روى ان فارس قد عزوا الروم فتلاحقا باذرعات الشأم

[سورة الروم (30) : آية 5]

وهي اقرب ارض الروم من الفرس والعرب ايضا فلما اقتحما قد غلب الفرس على الروم فوصل الخبر الى مكة فأخذ المشركون في فرح عظيم وسرور مفرط شامتين بالمسلمين متطيرين بهم قائلين إياهم أنتم والنصارى اهل الكتاب ونحن وفارس أميون لا كتاب لنا وقد ظهر إخواننا على إخوانكم فنحن لنظهرن ايضا عليكم مثلهم عن قريب فنزلت الآية فقرأها صلّى الله عليه وسلّم على ابى بكر رضى الله تعالى عنه فخرج عليهم فقال لهم لا يقرن الله أعينكم ايها المشركون المسرفون فو الله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين فقال له ابى ابن خلف كذبت اجعل بيننا أجلا اناحبك وأراهن معك فناحبه ابو بكر رضى الله عنه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا الأجل ثلاث سنين فأخبر ابو بكر رضى الله عنه ما جرى بينهما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال صلّى الله عليه وسلّم والبضع ما بين الثلاث الى التسع فرجع رضى الله عنه الى ابى فزايده الجعل والمدة ايضا فجعلاها مائة قلوص الى تسع سنين ومات ابى من طعن قد طعنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم احد وظهر الروم على فارس يوم الحديبية او بدر فأخذ ابو بكر الخطر والرهن من ورثة ابى وجاء به الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال تصدق به فتصدق فهذا قبل تحريم القماز فلا يصح الاستدلال به على جواز العقود الفاسدة فهذه الآية من جملة دلائل النبوة والرسالة لكونها اخبارا عن الغيب بوحي الله والهامه إذ لِلَّهِ وفي قبضة قدرته واختياره الْأَمْرُ كله غيبا وشهادة دنيا وعقبا مِنْ قَبْلُ ازلا وَمِنْ بَعْدُ ابدا سرمدا لا راد لأمره ولا معقب لحكمه بل يفعل الله بمقتضى ارادته واختياره ما يشاء حسب حكمته ويحكم ما يريد بحوله وقوته وَيَوْمَئِذٍ اى حين غلب الروم على الفرس في رأس السنة التاسعة انجازا لما وعد به سبحانه المؤمنين يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ مثل ما فرح المشركون في الواقعة السابقة الا ان فرح المؤمنين انما هو بِنَصْرِ اللَّهِ وتأييده باهل الكتاب والملة وبتقوية دينه وكتابه النازل من عنده إليهم وبتغليبهم على اهل الهواء والآراء الباطلة وبالجملة فرحهم انما هو لتقوية الدين واهله لا لمجرد الغيرة والحمية الجاهلية والعصبية المفرطة كما هو ديدنة اهل الزيغ والضلال والا فالله سبحانه يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ من عباده بمقتضى مراده سواء كان من اهل الهداية او الضلالة او السعادة او الشقاوة لا يسأل عما يفعل وَكيف يسئل عن فعله سبحانه مع انه هُوَ الْعَزِيزُ المنيع ساحة عز حضوره عن ان يسأل عن كيفية أفعاله الغالب المقتدر بالقدرة الكاملة على عموم مراداته الرَّحِيمُ لعباده يتفضل عليهم حسب سعة رحمته إحسانا لهم وامتنانا عليهم وما ذلك النصر والتأييد الا وَعْدَ اللَّهِ وعهده الذي قد وعده وعهده مع المؤمنين حين اشتد عليهم الحزن وهجم الهموم وقت مغلوبية الروم غيرة منهم على دين الله واهله ومن سنته سبحانه انه لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ الذي وعده سيما مع خلص عباده وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على الغفلة والنسيان لا يَعْلَمُونَ وعده ولا يؤمنون ولا يصدقون بانجازه الوعد وعدم خلفه في الموعود بل ما يَعْلَمُونَ وما يأملون الا ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعنى لا يترقى علمهم من المحسوسات الظاهرة مثل الحيوانات العجم بل هم أسوء حالا منها إذ هم مجبولون على التأمل والتدبر والتفطن بما هو المقصود منها ومن ظهورها والتفكر في حكمة إظهارها على هذا النمط البديع والنظم العجيب وفي كيفية ارتباطها بالأسماء الإلهية والأوصاف الذاتية وانعكاسها منها وهم مكلفون عليها قابلون لها بخلاف سائر الحيوانات وَبالجملة هُمْ عَنِ النشأة الْآخِرَةِ المعدة لكشف السدل والستائر ولرفع الحجب وعموم الاغطية والأستار المانعة عن ظهور الحق وانكشاف لقائه على جميع عباده بلا سترة وحجاب هُمْ غافِلُونَ غفلة مؤبدة تامة

[سورة الروم (30) : آية 8]

بحيث لا يرجى منهم الاطلاع والوقوف أصلا لكثافة حجبهم وغلظ اغطيتهم واغشيتهم لذلك لم يتدرجوا من عالم الكون والفساد ومضيق الإمكان وما يترتب عليه من اللذات الوهمية البهيمية الى عالم الغيب وفضاء وجوب الوجود وما يترتب عليه من الكشف والشهود وانواع المعارف والحقائق الفائضة منه سبحانه بمقتضى الجود أَيقنعون بهذه المزخرفات الفانية أولئك الضالون الغافلون ويرضون أنفسهم بلذاتها الوهمية وشهواتها البهيمية وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ولم يتدبروا في آلائه ونعمائه الفائضة على الترادف والتوالي في الآفاق على الصور العجيبة والهيآت الغريبة سيما فِي أَنْفُسِهِمْ التي هي اقرب الأشياء إليهم وابدعها نظما وتركيبا وأعجبها ظهورا وبروزا وأشملها تصرفا وأكملها علما ومعرفة وأعلاها شأنا وأوضحها برهانا لذلك ما وسع الحق الا فيها وما انعكس أوصافه وأسماؤه الا منها وقد استحقت اى بخصوصها من بين سائر مظاهره سبحانه بخلعة خلافته ونيابته أيطمئنون بهذه المزخرفات الزائلة الخسيسة ولم يعبروا منها الى مباديها التي هي الأوصاف الذاتية والأسماء الإلهية مع انهم هم مجبولون على الجواز والعبرة بحسب اصل الفطرة ولم يعلموا ولم يتفطنوا انه ما خَلَقَ واظهر اللَّهُ الحكيم المتقن في عموم أفعاله السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى عموم العلويات والسفليات وَما بَيْنَهُما من البرازخ المتكونة من امتزاجاتهما واختلاطاتهما أثرا وأجزاء إِلَّا خلقا وإظهارا ملتبسا بِالْحَقِّ منتهيا اليه اعادة وإبداء لكنه قد قدر بقاءه وظهوره بوقت معين وَأَجَلٍ مُسَمًّى عنده وحين انقضائه قد انتهى اليه ورجع نحوه عموم ما ظهر من الموجود وانتفى وفنى جميع ما قد لمع عليه برق الوجود وحينئذ لم يبق في فضاء الوجود سوى الله الواحد القهار لعموم الاظلال والأغيار وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ المجبولين على النسيان والكفران بِلِقاءِ رَبِّهِمْ في النشأة الاخرى لَكافِرُونَ منكرون جاحدون عتوا واستكبارا مغرورين بما عندهم من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية أَوَلَمْ يَسِيرُوا أولئك المسرفون المفرطون فِي اقطار الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا بنظر العبرة والاستبصار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المسرفين الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد وثمود مع انهما قد كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً لدلالة آثارهم واطلالهم على غاية تمكنهم واقتدارهم وَمن دلائل قوتهم وتمكنهم انهم قد أَثارُوا الْأَرْضَ وقلبوها للمعادن وإخراج العيون والقنوات واجراء الأنهار واحداث الحرث والزراعات وغير ذلك وَبالجملة قد عَمَرُوها أولئك فيما مضى أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها هؤلاء اليوم فدل زيادة عمارتهم على ازدياد قوتهم وتمكنهم وبعد ما أفسدوا على أنفسهم بأنواع الفسادات مباهين بمالهم وجاههم قد قلبنا عليهم أمرهم وشأنهم حيث أرسلنا إليهم رسلا مؤيدين من لدنا بأنواع المعجزات والبينات وَلما جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ القاطعة والبراهين الساطعة فاجؤا أولئك الضالون المسرفون على تكذيبهم وانكارهم بلا تأمل وتدبر فيما جاءوا به فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر فاستأصلناهم وقلبنا عليهم أماكنهم وخربنا بلادهم ومزارعهم فَما كانَ اللَّهُ العزيز المقتدر الحكيم المتقن لِيَظْلِمَهُمْ ويفعل بهم فعل الظلمة بان يأخذهم بلا جرم صدر عنهم موجب لانتقامهم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ اى يظلمون أنفسهم بعتوهم واستكبارهم على ضعفاء عباد الله وتكذيب خلص أنبيائه ورسله وأوليائه وخروجهم عن مقتضى حدوده الموضوعة على محض العدالة ثُمَّ بعد ما قد تمادوا في الغفلة والعصيان وتكذيب الرسل والطغيان على خلص العباد وانواع الإساءة والأذى عليهم قد كانَ عاقِبَةَ القوم الَّذِينَ

[سورة الروم (30) : آية 11]

أَساؤُا مع الله ورسله والمؤمنين السُّواى والعذاب المخلد والنكال المؤبد المترتب على إساءتهم في النشأة الاخرى جزاء ما كانوا عليه في الاولى كل ذلك بسبب أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وأنكروا عليها واستخفوا بها وبمن أنزلت اليه وَكانُوا من غاية عتوهم واستكبارهم بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ويستسخرون وينسبون إليها ما لا يليق بشأنها افتراء ومراء وكيف يستهزؤن أولئك المسرفون المفرطون مع الله ورسلهم وآياته النازلة من عنده إذ اللَّهُ المستقل بالتصرف في ملكه وملكوته يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ويبدع المخلوقات أولا من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة ويظهرها في فضاء الوجود على الوجه المشهود ثم يميته ويعدمه ثُمَّ يُعِيدُهُ حيا كذلك في النشأة الآخرة بعد انقراض النشأة الاولى للعرض والجزاء ثُمَّ بعد العرض وتنقيد الأعمال إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ رجوع الأمواج الى البحر والاظلال الى الأضواء وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ المعدة للعرض والجزاء يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ويسكتون حيارى سكارى تائهين هائمين مأيوسين عن الخلاص وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حينئذ مِنْ شُرَكائِهِمْ ومعبوداتهم شُفَعاءُ يجتهدون لخلاصهم وإنقاذهم من عذاب الله بمقتضى ما هو زعمهم إياهم بل وَهم حينئذ قد كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ ينكرونهم ويكفرون بهم حيث يئسوا عنهم وقنطوا عن شفاعتهم وَاذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ التي يحشر فيها الأموات ويعرضون على الله بما اقترفوا في دار الابتلاء من الحسنات والسيئات يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ويتحزبون حزبا حزبا فرقا فرقا فوجا فوجا كل مع شاكلته في الايمان والكفر والضلال والفساد فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وكتبه ورسله في دار الاختبار وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المؤيدة المؤكدة لإيمانهم فيها فَهُمْ حينئذ من كمال فرحهم وسرورهم متمكنون فِي رَوْضَةٍ ذات ازهار وأنوار وانهار يُحْبَرُونَ يتنزهون ويسرون مسرورين متنعمين وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وأنكروا بتوحيدنا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة من لدنا على رسلنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ اى أنكروا بلقائنا في النشأة الاخرى مع انا قد وعدناهم على ألسنة رسلنا إياهم فَأُولئِكَ الأشقياء المردودون عن ساحة عز الحضور فِي الْعَذابِ المؤبد المخلد مُحْضَرُونَ لا نجاة لهم منه أعاذنا الله من ذلك. ثم أشار سبحانه الى اسباب النجاة والخلاص عن الوعيدات الاخروية والى نيل لذاتها ومتنزهاتها الروحانية فقال فَسُبْحانَ اللَّهِ اى سبحوا الله الواحد الأحد الصمد المنزه المقدس عن شوائب النقص وسمات الكثرة والحدوث مطلقا ايها الأحرار المتوجهون نحوه في السرائر والإعلان سيما حِينَ تُمْسُونَ وتدخلون في المساء الذي هو أول وقت الفراغ عن الشواغل الجسمانية وفتح باب الخلوة مع الله والعزلة عن اسباب الكثرة مطلقا وَكذا حِينَ تُصْبِحُونَ وتدخلون في الصباح الذي هو نهاية مرتبة خلوتكم مع ربكم فاغتنموا الفرصة فيه وتعرضوا للنسمات المهبة بأنواع النفحات من قبل الرحمن ويمن عالم اللاهوت وبعد ما تزودتم بأنواع الفتوحات الروحانية في تلك الساعة الشريفة التي هي البرزخ بين اللذائذ الروحانية والجسمانية فاشتغلوا بالاشغال الجسمانية المتعلقة لتدبير المعاش النفساني وَلكم ايها المتوجهون نحو الحق ان تحمدوه وتشكروا نعمه وتداوموا على أداء حقوق كرمه في خلال أيامكم ولياليكم مطلقا سيما طرفي النهار إذ لَهُ الْحَمْدُ والثناء الصادر عن ألسنة عموم ما فِي السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ من المظاهر التي قد لمع عليها برق الوجود وانبسطت على صفحاتها اظلال شمس الذات واضواؤها وَلا سيما عَشِيًّا إذ هو وقت مصون عن الكثرة غالبا وَكذا حِينَ تُظْهِرُونَ وتدخلون وقت

[سورة الروم (30) : آية 19]

الظهر ايضا إذ فيها يحصل الفراغ من امور المعاش غالبا وكيف لا تتوجهون نحو الحق ولا تديمون الميل اليه في اوقات حياتكم إذ هو سبحانه بمقتضى لطفه وجماله يُخْرِجُ ويظهر لكمال قدرته الْحَيَّ اى ذا الحس والحركة الارادية الذي هو انواع الحيوانات مِنَ الْمَيِّتِ الذي هو النطفة الجامدة وَكذا يُخْرِجُ ويظهر بمقتضى قهره وجلاله الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ يعنى يعقب الموت بالحياة والحياة بالموت وَمن كمال قدرته يُحْيِ الْأَرْضَ بأنواع النضارة والبهاء بَعْدَ مَوْتِها اى يبسها وجمودها وَكَذلِكَ اى مثل اعادة الحياة والنضارة للأرض وقت الربيع تُخْرَجُونَ أنتم من قبوركم ايها المنكرون للبعث والحشر واعادة المعدوم وَمِنْ آياتِهِ الدالة على كمال قدرته على الإعادة والإبداء على السواء أَنْ اى انه قد خَلَقَكُمْ وقدر جسمكم وصوركم أولا مِنْ تُرابٍ يابس ثم بدلكم أطوارا وادوارا لتكميلكم وتشريفكم امدادا وادوارا الى ان صوركم في احسن صورة وعدلكم في أقوم تعديل ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ اى بعد ما قد كمل صورتكم وتم تمثالكم وشكلكم واستوى بشريتكم ففاجأتم تَنْتَشِرُونَ في الأرض على سبيل التناسل والتوالد وبالجملة من قدر على ابدائكم على الوجه المذكور وابداعكم قدر على حشركم واعادتكم بل هي أسهل من الإبداء وَايضا مِنْ آياتِهِ الدالة على كمال قدرته أَنْ خَلَقَ وقدر لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ اى من جنسكم وبنى نوعكم أَزْواجاً نساء حتى توانسوا بهن وتستأنسوا معهن بل انما قدر لكم أزواجا لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وتتوطنوا معها وتتألفوا بها توطنا خاصا وتألفا تاما بحيث يفضى الى التوالد والتناسل وَلهذه الحكمة البديعة قد جَعَلَ بَيْنَكُمْ وبينهن مَوَدَّةً ومحبة خاصة خالصة منبعثة عن محض الحكمة الإلهية بحيث لا تكتنه لميتها وكيفيتها أصلا وَمن كمال قدرته ومتانة حكمته جعل من امتزاج النطف النازلة منكم ومنهن الناشئة من المودة المذكورة والمحبة المقررة بينكم رَحْمَةً ولدا مثلكم محييا لكم اسمكم ورسمكم إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق والإيجاد والتكميل والتمكين والتقدير والانبعاث والانزعاج وانواع التدبيرات الواقعة فيها والحكم العجيبة المحيرة لعقول ارباب الفطنة والذكاء لَآياتٍ عظاما ودلائل جساما لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ويتأملون في آثار صنائع الحكيم القدير العليم الخبير وَايضا مِنْ آياتِهِ العجيبة الشأن والبديعة البرهان خَلْقُ السَّماواتِ وإيجاد العلويات متطابقة متوافقة مع ما فيها من الكواكب المتفاوتة في الإضاءة والإشراق على أبدع نظام وابلغ التيام وانتظام بحيث لا يكتنه عند ذوى العقول واولى الافهام المجبولين على الاستعلام والاستفهام بل لا حظ لهم منها سوى الحيرة والعبرة وانواع الوله والهيمان وَخلق الْأَرْضِ ممهدة منبسطة مشتملة على جبال راسيات وبحار واسعات وانهار جاريات وأشجار مثمرات ومعادن وحيوانات واصناف من نوع الإنسان المجبول على صورة الرحمن الجامع لانواع التبيان والبيان واصناف الدلائل والبرهان ليصير مرأة مجلوة يتراءى فيها صور الأسماء والصفات الإلهية وتنعكس عنها شئونه وتطوراته وَايضا من آياته العظيمة اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وتكلمكم ولغاتكم ايها المجبولون على فطرة النيابة والخلافة الإلهية وَكذا اختلاف أَلْوانِكُمْ من السواد والبياض وانواع التخليطات والتشكيلات والهيآت الصورية والمعنوية التي قد اشتملت عليها هياكلكم وهوياتكم كل ذلك انما هو من آثار الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية التي قد امتدت وانبسطت على ماهيتكم وتعيناتكم اظلالها وآثارها وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ الانطباق والالتصاق وانواع الائتلاف والانتظام الواقعة في الأنفس على اغرب الوجوه

[سورة الروم (30) : آية 23]

وأبدع الطرق لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على كمال قدرة العليم الحكيم لِلْعالِمِينَ لكل من يتأتى منه التفطن والتدبر للمبدأ والمعاد من ارباب الهداية والرشد والتأمل والتفكر على سبيل النظر والاستدلال من الصنائع والآثار الى الصانع المؤثر المختار وَمِنْ آياتِهِ العظام ايضا مَنامُكُمْ واستراحتكم تقويما لا مزجتكم وتقوية لقواكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وقت عروض الفتور والعناء وَابْتِغاؤُكُمْ وطلبكم المعاش فيهما مِنْ فَضْلِهِ وسعة رحمته وجوده او على طريق اللف والنشر بان قدر لمنامكم زمان الليل وابتغائكم النهار إِنَّ فِي ذلِكَ التقدير والتدبير المبنى على كمال العطف واللطف لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ دلائل توحيده سبحانه سمع قبول ورضاء ويتأملون في حكمة الحكيم المدبر لمصالح عباده وما هو الأصلح لهم وَمِنْ جملة آياتِهِ ايضا انه سبحانه يُرِيكُمُ الْبَرْقَ المنبئ عن هجوم البلاء ونزول المطر ايضا انما أراكم سبحانه هكذا خَوْفاً من خشية الله وحلول غضبه وعذابه وَطَمَعاً لنزول فضله ورحمته وانما فعل سبحانه معكم كذلك لتكونوا دائما وفي كل حين من الأحيان وحال من الأحوال خائفين من سخطه وبطشه راجين من فضله وجوده وَيُنَزِّلُ مِنَ جانب السَّماءِ ماءً بعد ما أراكم البرق المخيف المطمع فَيُحْيِي بِهِ اى بالماء النازل الْأَرْضَ اليابسة بَعْدَ مَوْتِها جمودها ويبسها إِنَّ فِي ذلِكَ الاراءة والإخافة والأطماع والإنزال والأحياء لَآياتٍ ودلائل قاطعة دالة على حكمة القادر المختار المستقل بالتصرف والآثار لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويستعملون عقولهم في التفكر والتدبر في المصنوعات العجيبة والمخترعات البديعة الصادرة من الفاعل المطلق بالإرادة والاختيار وَمِنْ آياتِهِ المحكمة ايضا أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ يعنى من جملة آياته الظاهرة الباهرة قيام السماء والأرض بلا عمد وأوتاد وأسانيد وقرارهما ومدارهما في مكان معين بلا تبدل وتحول وانما هو بِأَمْرِهِ وحكمه وعلى مقتضى ارادته ومشيته بحيث لا يسع لهما الخروج عن امره وحكمه أصلا ثُمَّ بعد ما تأملتم نفاذ حكمه سبحانه ومضى قضائه في معظم المخلوقات فلكم ان تتيقنوا إِذا دَعاكُمْ وقت ارادة اعادتكم واحيائكم دَعْوَةً متضمنة لاخراجكم مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ يعنى بعد ما أسمعكم سبحانه بكمال قدرته مضمون دعوته إليكم قد فاجأتم أنتم الى الخروج منها احياء بلا تراخ ومهلة تتميما لسرعة نفوذ قضائه وَكيف لا تسمعون ولا تخرجون منها احياء بعد ما تعلق ارادته سبحانه باخراجكم واعادتكم إذ لَهُ سبحانه ملكا وتصرفا ابداعا وإنشاء عموم مَنْ فِي السَّماواتِ من الملائكة المغمورين في آلاء الله ونعمائه المستغرقين بمطالعة وجهه الكريم وَكذا عموم من في الْأَرْضِ من ارباب المحبة والولاء الوالهين التائهين في بيداء الألوهية الفانين الحائرين في فضاء الربوبية الهائمين في صحراء الوجود لذلك كُلٌّ ممن أشرقت عليه شمس الذات ولاح عنده نور الوجود ولمع دونه بروق التجليات الحبية اللطفية لَهُ قانِتُونَ منقادون مطيعون طوعا وطبعا وَكيف لا ينقادون ولا يطيعون لحكمه أولئك المسخرون المقهورون تحت صولجان قضائه وقدره مثل الكرات مع انه هُوَ القادر المقتدر الَّذِي يَبْدَؤُا ويظهر الْخَلْقَ من كتم العدم في فضاء الوجود بمقتضى اللطف والجود ثم يعدمه ويميته بمقتضى قهره وجلاله ايضا فيه في النشأة الاولى ثُمَّ يُعِيدُهُ ايضا على ما ينشئه في النشأة الاخرى إظهارا لكمال قدرته ومقتضى حكمته كي يظهر مصالح الإبداء والإبراز في النشأة الاولى ويلوح فوائد ما يترتب عليها في النشأة الاخرى يوم العرض والجزاء وَاهل

[سورة الروم (30) : آية 28]

الأهواء والآراء الباطلة ينكرون الإعادة مع انه هُوَ اى الإظهار بعد الاعدام أَهْوَنُ وأسهل عَلَيْهِ سبحانه بالنسبة الى عقولهم السخيفة وأحلامهم الضعيفة من الإبداء والإبداع عن لا شيء وبلا سبق مادة وان كان نسبة قدرته وارادته سبحانه الى كل ما دخل تحت حيطة حضرة علمه وخبرته على السواء إذ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر وكرر النظر تكرارا هل ترى من فطور وفتور وقصور في مبدعات الحق ومخترعاته ما ترى البتة وَكيف تتفاوت دون قدرته الأشياء إذ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى واليد الطولى والتصرف التام والاقتدار العام الشامل لكل ما لاح عليه برق الوجود سواء كان فِي السَّماواتِ اى العلويات التي هي عالم الأسماء والصفات باعتبار التنزلات من مرتبة الاحدية والعماء الذاتي التي لا يسعها ادراك مدرك وخبرة خبير وَالْأَرْضِ اى السفليات التي هي عبارة عن عالم الهيولى والطبيعة القابلة لان تنعكس منها اشعة أنوار العلويات المتفاوتة حسب تفاوت الشئون والتطورات المترتبة على الأسماء والصفات المتخالفة المتكثرة بحسب التجليات الحبية الإلهية حسب الكمالات الذاتية المشتمل عليها الوجود المطلق وَكيف لا يكون له سبحانه المثل الأعلى إذ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب في ذاته قد تفرد بوجوب الوجود ودوام البقاء المنيع فناء عز سرادقات سطوته وسلطنته عن وصمة الكثرة وسمة التعدد والحدوث وكذا عن شوب النقص والقصور مطلقا الْحَكِيمُ المتقن في عموم أفعاله وآثاره بالاستقلال حسب حيطة حضرة علمه المحيط بجميع وجوه الكمالات اللائقة لكل ذرة من ذرائر الكائنات لذلك قد ضَرَبَ لَكُمْ سبحانه تبيينا وتنبيها مَثَلًا متخذا منتزعا مِنْ أَنْفُسِكُمْ ايها المشركون المتخذون لله شركاء من مصنوعاته وعبيده إذ هي اقرب الأشياء إليكم وأوضحها عندكم هَلْ لَكُمْ ايها الأحرار المتصرفون بالاستقلال في منسوباتكم متصرف آخر سواكم سيما مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وحصلت من اكسابكم من العبيد والإماء الذين من جملة منسوباتكم وهل يصح ويجوز لمملوكاتكم ان يكونوا ويعدوا مِنْ شُرَكاءَ معكم يتصرفون أمثالكم فِي ما رَزَقْناكُمْ اى في أموالكم المنسوبة إليكم مثل تصرفكم بلا اذن منكم وبالجملة فَأَنْتُمْ ايها المالكون وكذا ما ملكت ايمانكم فِيهِ اى في التصرف والاحتياج الى الأموال سَواءٌ إذ هم أمثالكم فباىّ شيء تحتاجون اليه أنتم هم ايضا محتاجون اليه بلا تفاوت لكن أنتم تَخافُونَهُمْ وتحذرون منهم ان يتصرفوا في أموالكم واكسابكم بلا اذن منكم كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ اى كخوفكم من سائر الأحرار من بنى نوعكم يعنى تخافون أنتم على تضييع أموالكم منهم مثل خوفكم من احرار بنى نوعكم بل أشد من ذلك وبالجملة أنتم تخافون منهم ان تساووا معكم في التصرف في أموالكم فلذلك منعتموهم ولم ترضوا بتصرفهم وشركتهم معكم في حطام الدنيا فكيف ترضون أنتم لنا شركة عبيدنا ومخلوقاتنا بل أدونهم وأرذلهم سيما في أخص اوصافنا الذي هو الوهيتنا وربوبيتنا والتصرف في ملكنا وملكوتنا ايها الغافلون المسرفون المفرطون في علو شأننا والجاهلون بقدرتنا وقدر مكانتنا وبالجملة كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ اى دلائل توحيدنا وبراهين وحدتنا وتفردنا لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويستعملون عقولهم في تأمل الآيات والتدبر فيها على وجه العبرة والاستبصار فاعتبروا يا اولى الأبصار بَلِ اتَّبَعَ الجاهلون الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالخروج عن مقتضيات الآيات الواضحة والبراهين اللائحة أَهْواءَهُمْ الباطلة وآراءهم الزائغة الزائلة مع ان اتباعهم بها بِغَيْرِ عِلْمٍ فائض عليهم من المبدأ الفياض بل عن جهل مركوز

[سورة الروم (30) : آية 30]

في جبلتهم مركب مع طبيعتهم في اصل فطرتهم بمقتضى الشقاوة الازلية والغباوة الفطرية الجبلية وإذا كان الأمر على ذلك فَمَنْ يَهْدِي ويرشد مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وأراد ضلالهم وقد أثبته في لوح قضائه وحضرة علمه المحيط من جملة الضالين وزمرة الجاهلين وَما لَهُمْ بعد ما نفذ القضاء على شقاوتهم وضلالهم مِنْ ناصِرِينَ ينصرون ويرشدونهم الى سبيل الهداية وطريق السعادة والرشد وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل ان الهداية والضلال انما هو مفوض الى الكبير المتعال فَأَقِمْ وَجْهَكَ فاستقم واعتدل بوجه قلبك الذي فاض عليك من ربك تتميما لتكميلك وتخليصك عن قيود بشريتك وأغلال طبيعتك لتصل به الى مقرك من التوحيد الذاتي الذي قد جبات لأجله لِلدِّينِ النازل لك من عند ربك تأديبا لك يا أكمل الرسل وتديينا لمن تبعك وإصلاحا لشأنك وشأن متابعيك حَنِيفاً اى حال كونك منصرفا مائلا من عموم الأديان الباطلة والآراء الفاسدة مطلقا واعلم يا أكمل الرسل ان فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها وصبغتهم التي قد صبغهم بها اصلية جبلية لا تزول عنهم أصلا إذ لا تَبْدِيلَ ولا تغيير ولا تحويل لِخَلْقِ اللَّهِ الحكيم العليم وتقديره الذي قد قدره بمقتضى علمه وحكمته كما قال عز شأنه ما يبدل القول اى الحكم لدىّ ذلِكَ الدِّينُ المنزل عليك من ربك يا أكمل الرسل لوقاية الفطرية الاصلية المذكورة ورعاية لوازمها المساوية لها من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المرضية هو الدين الْقَيِّمُ والطريق الأعدل الأقوم الموصل الى توحيده سبحانه على الاستقامة بلا عوج وانحراف وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على الغفلة والنسيان لا يَعْلَمُونَ حقيته ولا يفهمون استقامته فكيف إيصاله الى التوحيد فعليكم ايها المحمديون ان تتدينوا بدين الإسلام وتطيعوا بجميع ما فيه من أوامر الله ونواهيه مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين نحوه بالإخلاص التام وَاتَّقُوهُ واحذروا عن محارمه خائفين من انتقامه بالخروج عن مقتضيات حدوده ومع ذلك لا تقنطوا من وسعة رحمته وجوده وَبالجملة أَقِيمُوا الصَّلاةَ واديموا الميل نحوه في عموم أوقاتكم وحالاتكم سيما في الأوقات المكتوبة والساعات المحفوظة وَلا تَكُونُوا ايها المنيبون المتوجهون نحو الحق المتدينون بدين الإسلام مِنَ الْمُشْرِكِينَ المشركين له سبحانه غيره في حال من الأحوال ولا تنسبوا الحوادث الكائنة في ملكه وملكوته الى غيره من الاظلال والأسباب الهالكة المستهلكة في شمس ذاته مع كمال توحده واستقلاله في الوجود والتصرفات الواقعة في مظاهره مطلقا وبالجملة لا تكونوا ايها المحمديون المتدينون بالدين النازل من عند الله لحفظ فطرتكم الاصلية التي هي التوحيد الذاتي مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ الوحدانى الذي هو وقاية توحيدهم فرقا مختلفة وابتدعوا فيه مذاهب متفاوتة متخالفة فتشعبوا شعبا كثيرة وَكانُوا شِيَعاً يعنى هم بسبب هذا الاختلاف والافتراق قد صاروا شيعا وأحزابا كثيرة يشايع ويروج كُلُّ حِزْبٍ وشيعة منهم بِما لَدَيْهِمْ وبما هو عندهم من المذهب المستبدع المستحدث من تلقاء نفوسهم فَرِحُونَ مسرورون مدعون كل منهم حقية ما هم عليه من الباطل الزائع الزائل حمية وغيرة عليه بلا سند عقلي وشرعي. ثم أشار سبحانه الى ما حداهم وأغراهم على هذا الزيغ والضلال من الخصلة الذميمة المركوزة في جبلتهم فقال وَإِذا مَسَّ النَّاسَ المجبولين على الكفران والنسيان ضُرٌّ اى شدة وبلاء ومصيبة وعناء يزعجهم الى الدعوة والتوجه نحو الحق لكشفه وتفريجه دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ مائلين عن الأسباب العادية مطلقا مسترجعين نحوه عن محض الندم والإخلاص ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ اى

[سورة الروم (30) : آية 34]

من الحق يعنى بعد ما أنجاهم وأخلصهم من الضر المزعج ومن آثاره ولوازمه المستتبعة رَحْمَةً خلاصا لهم وعطفا إياهم ناشئا من لدنه سبحانه بمقتضى اللطف والجمال إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ اى فاجأ فريق منهم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ اى يشركون بربهم وينسبون الكشف والتفريج الى الأسباب والوسائل العادية بل الى ما اتخذوها وأخذوها من دون الله من الآلهة الباطلة التي اعتقدوها شفعاء ينقذونهم عن أمثاله عدوانا وظلما وانما فعلوا ذلك ونسبوا ما نسبوا الى الاظلال الباطلة لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وأعطيناهم من النعم العظام والفواضل الجسام ولم يشكروا لها وما ذلك الا من خبث طينتهم وتركب جهلهم المركوز في جبلتهم قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا فَتَمَتَّعُوا ايها الكافرون لنعمنا وفواضل لطفنا وكرمنا وتعيشوا بها بطرين مسرورين هكذا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة تمتعكم وكفرانكم وما يترتب عليهما من انواع العذاب والنكال إذ سيأتى عليهم زمان يعترف كل منهم جميع ما جرى عليه من الكفران والعصيان وقت رؤيتهم احوال الكافرين واهوالهم في النار أَمْ أَنْزَلْنا يعنى بل قد أنزلنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً ملكا ذا سلطنة وسطوة فَهُوَ يَتَكَلَّمُ معهم ويذكرهم بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ اى بجميع ما صدر عنهم من الشرك والكفران وانواع الفسوق والعصيان بلا فوت شيء منها فنجازيهم حينئذ بمقتضى ما اعترفوا وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً وأعطيناهم نعمة وسعة في الرزق وصحة في الجسم على الترادف والتوالي فَرِحُوا بِها وافرطوا في السرور الى ان بطروا وباهوا مفتخرين بما عندهم من الأسباب وَإِنْ تُصِبْهُمْ أحيانا سَيِّئَةٌ مثل جدب وعناء ومصيبة وبلاء تسؤهم مع انه انما أصابهم ما أصابهم بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وبشؤم ما اقترفوا من المفاسد والمعاصي الموجبة للبطش والانتقام فانتقمناهم لذلك إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ يعنى فاجؤا حين البأس على اليأس والقنوط منا بحيث لا يتوجهون إلينا لكشفها وتفريجها بل لا يعتقدون قدرتنا على كشفها ورفعها مع انهم قد جربوا كشفنا عنهم مرارا وتفريجنا إياهم تكرارا أَينكرون قدرتنا أولئك المنكرون المفرطون وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على انواع اللطف والكرم كيف يَبْسُطُ ويفيض الرِّزْقَ الصوري والمعنوي لِمَنْ يَشاءُ بسطه إياه وَكيف يَقْدِرُ ويقبض عمن يشاء قبضه عنه حسب حكمته المتقنة إِنَّ فِي ذلِكَ القبض والبسط لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بتوحيد الحق وبكمالات أسمائه وأوصافه الذاتية الكاملة الجارية آثارها على مقتضى الحكمة والعدالة الإلهية المعبر عنها بالصراط القويم والقسطاس المستقيم وبعد ما قد أشار سبحانه الى بسط الرزق على من يشاء وقبضه عمن يشاء ارادة واختيارا أراد ان يشير الى مصارفه فقال مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم إذ هو جدير بأمثال هذه الخطابات العلية الإلهية فَآتِ وأعط يا أكمل الرسل من فواضل ما رزق لك من النعم ذَا الْقُرْبى المنتمين إليك من قبل أبويك حَقَّهُ اى ما يليق به وبحفظه ورعاية غبطته فهم اولى وأحق بالرعاية من غيرهم وَبعد أولئك فالاولى بالرعاية الْمِسْكِينَ وهو الذي قد اسكنه الفقر في هاوية الهوان وزاوية الحرمان وَبعده ابْنَ السَّبِيلِ وهم الذين فارقوا عن الأموال والأوطان والأقران والخلان والاخوان بأسباب قد أباحها الشرع لهم ذلِكَ الصرف المذكور والانفاق المأمور خَيْرٌ في الدنيا والآخرة لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ بأموالهم وصرفها وَجْهَ اللَّهِ وابتغاء مرضاته وخوضا في مواظبة

[سورة الروم (30) : آية 39]

شكره أداء لحق شيء من جلائل نعمه وفواضل كرمه وَبالجملة أُولئِكَ الباذلون أموالهم في سبيل الله على الوجه الذي أمرهم الحق به هُمُ الْمُفْلِحُونَ المقصورون على الفوز والفلاح من عنده سبحانه. ثم أشار سبحانه الى احوال الجهلة الذين قد بذلوا أموالهم لطلب الجاه والثروة والرياء والسمعة وازدياد مال صديقه بلا ارادة وجه الله وابتغاء رضوانه وطلب الثواب منه بل لمجرد الكبر والخيلاء فقال وَما آتَيْتُمْ وأعطيتم مما عندكم مِنْ رِباً اى زيادة حاصلة من أموالكم بطريق الربا انما أعطيتم وآتيتم ايضا لِيَرْبُوَا ويزيد فِي أَمْوالِ النَّاسِ مكافاة لهم أو نية فاسدة اخرى بلا امتثال امر الله وطلب مرضاته فَلا يَرْبُوا يعنى فاعلموا انه لا يزيد لكم صرفكم هذا عِنْدَ اللَّهِ شيأ من الثواب بل لا يقبل صرفكم هذا عنده سبحانه أصلا لفساد اغراضكم ونياتكم فيها وَاما ما آتَيْتُمْ وأعطيتم للفقراء الفاقدين وجه المعاش مِنْ زَكاةٍ قد فرضها سبحانه عليكم امتثالا لأمره واطاعة لدينه على الوجه الذي أمرتم به مع انكم تُرِيدُونَ وتقصدون بإخراجها وصرفها وَجْهَ اللَّهِ ومحض رضاه بلا خلط شيء من أماني اهويتكم وتسويلات امارتكم معها فَأُولئِكَ الفاعلون للزكاة على الوجه المذكور المأمور هُمُ الْمُضْعِفُونَ عند الله ثوابها الى سبعين بل الى سبع مائة بل الى ما شاء الله عناية من الله وإفضالا لهم وكيف لا تطلبون ولا تقصدون بخيراتكم وصدقاتكم خالص وجه الله وتشركون معه غيره من التماثل والاظلال الهالكة الباطلة العاطلة إذ اللَّهُ المتوحد المتفرد في ذاته القادر المقتدر الحكيم العليم الَّذِي خَلَقَكُمْ وأظهركم أولا من كتم العدم ولم تكونوا شيأ مذكور الا بالقوة ولا بالفعل ثُمَّ بعد ما أظهركم في بيداء الوجود رَزَقَكُمْ وأنعم عليكم من انواع النعم ليربيكم بها على مقتضى اللطف والكرم ثُمَّ بعد ما انقضى الأجل المسمى عنده لبقائكم في النشأة الاولى يُمِيتُكُمْ بمقتضى قهره وجلاله تتميما لقدرته الكاملة الغالبة ثُمَّ بعد ما انقرض النشأة الاولى المعدة لانواع الابتلاءات والاختبارات الإلهية المتعلقة لحكمة اظهاركم وايجادكم في عالم الكون والفساد لتتزودوا فيها من المعارف والحقائق والاتصاف بالأخلاق الإلهية لنشأتكم الاخرى يُحْيِيكُمْ فيها للعرض والجزاء وتنقيد ما اقترفتم من الأعمال والأحوال في النشأة الاولى لتجازوا بها على مقتضاها فيها وبعد ما سمعتم ما سمعتم تأملوا وتدبروا منصفين ايها المشركون بالله المتوحد المتفرد المستقل في التصرفات الواقعة في ملكه غيرة منه وحمية لحمى قدس ذاته من ان يحوم حول سرادقات عزه وجلاله شائبة فتور وقصور وإذا سمعتم نبذا من خواص أوصافه سبحانه تأملوا هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ الذين قد ادعيتم أنتم شركتهم مع الله القادر على أمثاله بالاستقلال والاختيار مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ الذي قد سمعتم صدوره منه سبحانه بل قد رأيتم وابصرتم طول عمركم في الآفاق وفي انفسكم مِنْ شَيْءٍ حقير قليل كلا وحاشا ان يصدر شيء من الأشياء من غيره سُبْحانَهُ بل هو في ذاته منزه عن شوب الشركة والمظاهرة مطلقا وَتَعالى شأنه عَمَّا يُشْرِكُونَ أولئك المشركون المسرفون علوا كبيرا ومن غاية جهلهم بالله وغفلتهم من علو قدره وسمو مكانته قد ظَهَرَ الْفَسادُ وانواع البليات والمصيبات الواقعة فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ من الجدب والعناء والزلزلة والوباء والحرق والغرق وانواع الضلالات الواقعة في السفن الجارية مع ان اصل الظهور والبروز باعتبار الفطرة الاصلية على العدالة والاستقامة وما ظهر عموم ما ظهر من الانحرافات والانصرافات المنافية لصرافة الاعتدال الحقيقي الإلهي الا بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ وبشؤم ما اقترفوا من الكفر والكفران والفسوق والعصيان والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة

[سورة الروم (30) : آية 42]

على الاعتدال والقسط القويم والحكمة في صدور هذه الانحرافات والفسادات عنهم مع انها انما صدرت عنهم باقدار الله إياهم وتمكينه لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا اى يذيق لهم العليم الحكيم في الدنيا وبال بعض أعمالهم الفاسدة ويبقى بعضها في الآخرة ليستوفيها فيها وانما يذيقهم سبحانه نبذا منها عاجلا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ رجاء ان يرجعوا اليه بعد ما ذاقوا ما ذاقوا من انواع المحن والشدائد وان أنكر هؤلاء المشركون أذاقتنا العذاب لأمثالهم قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا سِيرُوا فِي الْأَرْضِ المعدة لانواع الكون والفساد فَانْظُرُوا نظر معتبر منصف ومتأمل مستبصر ليظهر عندكم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلُ مع انهم كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ أمثالكم مشاركين معكم في الشرك والكفر وانواع الفسوق والعصيان وبعد ما قد أشار سبحانه الى وخامة عاقبة اصحاب الآراء الفاسدة والأهواء الباطلة من المنحرفين عن جادة الاستقامة المنصرفين عن سبيل السلامة امر حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالإقامة والاستقامة في منهج العدالة التي هي دين الإسلام الناسخ لعموم الأديان الباطلة والآراء الزاهقة الزائلة فقال فَأَقِمْ وَجْهَكَ فاستقم وتوجه واعتدل يا أكمل الرسل بوجه قلبك الذي هو يلي الحق لِلدِّينِ الْقَيِّمِ المنزل من عنده سبحانه على الاستقامة والعدالة تفضلا عليك وامتنانا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ ويحل عليك يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ اى لا يرد فيه ما نفذ من القضاء المبرم إذ إتيانه انما هو مِنَ اللَّهِ العليم الحكيم على هذا الوجه إذ لا استكمال ولا رجوع حينئذ ايضا ولا ينفع الطاعة والعبادة حين حلوله بل يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ اى يتفرق الناس فرقا ويتحزبون أحزابا بمقتضى ما كانوا عليه في نشأة الاختبار والابتلاء مَنْ كَفَرَ فيما مضى فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ اى وبال كفره وفسقه ملازم معه يدخله في النار ويخلده مهانا وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فيما مضى فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ يعنى فهم بايمانهم وعملهم الصالح يمهدون ويبسطون لأنفسهم منزلا ومهادا في الجنة هم فيها خالدون والسر في قيام الساعة وتعاقب النشأة الاخرى لِيَجْزِيَ سبحانه المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا به سبحانه وأيقنوا بوحدة ذاته وبجميع ما جاء من عنده سبحانه على رسله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقبولة عنده امتثالا لما أمروا به على ألسنة رسله مِنْ فَضْلِهِ اى يجزيهم من محض فضله ولطفه معهم ومحبته إياهم بأضعاف ما استحقوا بأعمالهم وايمانهم ويجزى الكافرين ايضا بمقتضى عدله بمثل ما اقترفوا من الكفر والشرك والظلم والضلال إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والضلال سيما بعد إرساله سبحانه إليهم من يصلحهم ويهديهم الى صراط مستقيم فكذبوه وأنكروا له عنادا واستكبارا وَمِنْ جملة آياتِهِ سبحانه الدالة على كمال رأفته ورحمته للمؤمنين المتحققين بمرتبة التوحيد المتمكنين بمقر الوحدة الذاتية أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ المشتملة لانواع الروح والراحة المهبة من نفحات النفسات الرحمانية لتعرضوا لها وتستنشقوا منها فيضان آثار اللطف والجمال مع كونها مُبَشِّراتٍ لمزيد فضله وطوله ونزول انواع رحمته وجوده وَلِيُذِيقَكُمْ ويفيض عليكم مِنْ سعة رَحْمَتِهِ ما ينجيكم ويخلصكم من لواز بشريتكم وناسوتكم وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ اى سفن تعيناتكم الجارية في بحر الوجود بِأَمْرِهِ وعلى مقتضى ارادته ومشيته وَلِتَبْتَغُوا وتطلبوا بعد ما فوضتم أموركم كلها اليه واتخذتموه وكيلا مِنْ موائد فَضْلِهِ وإحسانه وعوائد كرمه وجوده ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَانما فعل معكم سبحانه هذه الكرامات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تشكروا نعمه وتفوزوا بمزيد كرمه

[سورة الروم (30) : آية 47]

وتحققوا بمقام معرفته وتوحيده الذي قد جبلتم لأجله. ثم قال سبحانه مقسما تسلية لرسوله وازالة لهمه وحزنه العارض له من تكذيب الجهلة المسرفين المشركين بالله إياه المستهزئين معه جهلا وعنادا الله قَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا أكمل الرسل سُلًا مبشرين ومنذرين لى قَوْمِهِمْ الذين قد ظهرت عليهم امارات الكفر والطغيان وعلامات الظلم والعدوان جاؤُهُمْ مؤيدين من عندناالْبَيِّناتِ الواضحة والمعجزات اللائحة ففاجأوا على تكذيبهم عنادا واستكبارا بلا تأمل وتدبر منهم في آياتهم وبيناتهم انْتَقَمْنا بمقتضى قهرنا وجلالنانَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بالجرائم العظام سيما تكذيب الرسل الكرام عليهم التحية والسلام كيف لا ننتقم عنهم بتكذيبهم رسلنا مع انه قدانَ حَقًّا عَلَيْنا حسب لطفنا حتما لازما ثبت في لوح قضائنا وحضرة علمناصْرُ الْمُؤْمِنِينَ اى نصر الرسل والمؤمنين بهم وتغليبهم على الكافرين بعد ما امتثلوا باوامرنا واجتنبوا عن نواهينا وبلغوا جميع ما امرناهم واوحيناهم الى من أرسلناهم فكذبوهم ولم يقبلوا منهم أولئك البعداء المنكرون المسرفون وحى الحق إياهم والهامه عليهم مع انه اللَّهُ الجامع لجميع مراتب الأسماء والصفات الكاملة الظاهرة المتجلى على مقتضاها بالاستقلال ارادة واختيارا هو القادر المقدر الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ المنتشئة من محض فضله وجوده بلا سبق سبب يوجبها وعلة تقتضيها على ما جرى عليه عادته سبحانه في سائر الموجودات فَتُثِيرُ وتحرك أجزاء البخار والدخان وتمزج بعضها مع بعض فتركمها وتكشفها حتى صارت سَحاباً هامرا فَيَبْسُطُهُ سبحانه فِي جو السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ عرضا وطولا سائرا وواقفا مطبقا وغير مطبق الى غير ذلك من الأوضاع الممكنة الورود عليه وَبعد ما مهده سبحانه وبسطه يَجْعَلُهُ كِسَفاً وقطعا مختلفة فَتَرَى ايها المعتبر الرائي الْوَدْقَ والمطر يَخْرُجُ ويفيض مِنْ خِلالِهِ فتوقه ومنافذه بعد ما قد تكون فيه بقدرة الله من اجتماع أجزاء الابخرة والادخنة المتصاعدة الممتزجة المتراكمة المتكاثفة المتفاعلة بعضها مع بعض الى ان صارت ماء فتقطر وتسيل فَإِذا أَصابَ بِهِ اى بالماء مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ اى أراضيهم ومزارعهم منا منه سبحانه إياهم وتفضلا عليهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يعنى هم قد فاجؤا بنزوله الى انواع البشارة والابتهاج واظهار الفرح والسرور متفألين بنزوله الى الخصب والرخاء وانواع البهجة والصفاء وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل ثوران الابخرة والادخنة وانعقاد السحب وتراكمها منها لَمُبْلِسِينَ آيسين قانطين لطول عهد عدم نزوله إياهم وامتداد مدة حبسه عنهم فَانْظُرْ ايها المؤمن المعتبر الناظر بنور الله إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ والى كمال فضله وجوده كَيْفَ يُحْيِ ويخضر الْأَرْضَ سيما بَعْدَ مَوْتِها اى جمودها ويبسها وعدم نضارتها ونزاهتها ويظهر عليها انواع الازهار والأثمار عناية منه سبحانه لعباده وفضلا لهم ليتزودوا بها ويسلكوا سبيل هدايته وتوحيده إِنَّ ذلِكَ القادر المقتدر بالإرادة التامة والاختيار الكامل لَمُحْيِ الْمَوْتى في الحشر والجزاء ومخرجها البتة من قبورهم وقت تعلق ارادته باحيائهم وَكيف لا هُوَ بذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة حضرة علمه وارادته قَدِيرٌ على الوجه الأتم الأكمل بلا فتور ولا قصور وَمن عدم رسوخهم في الدين القويم وقلة تثبتهم على الصراط المستقيم لَئِنْ أَرْسَلْنا عليهم رِيحاً فَرَأَوْهُ اى ما هبت عليه من الزروع مُصْفَرًّا من أثرها بعد ما كان مخضرا يعنى لا تربى زروعهم ولا تنميها بل تضعفها وترديها

[سورة الروم (30) : آية 52]

مع ان اضرارها واصفرارها ايضا انما هو بشؤم ما اقترفوا من المعاصي والآثام لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ وصاروا بعد ما أبصروا اضرارها واصفرارها ايضا يَكْفُرُونَ بالله وبنعمه وينكرون بعموم فضله وكرمه مع ان أخذهم بالبأساء والضراء انما هو لأجل ان يتضرعوا نحوه ويلتجئوا اليه منيبين خاشعين خاضعين ليكشف عنهم ما يضرهم إذ لا كاشف الا هو ولا منجى لهم سواه وبالجملة هم في أنفسهم من خبث طينتهم وجمود قريحتهم أموات حقيقة ومعنى وان كانوا من الأحياء صورة فعليك ان لا تبالي يا أكمل الرسل بهم وبشأنهم ولا تجتهد الى هدايتهم وتكميلهم فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى اى ليس في وسعك وطاعتك إسماع الموتى بل ما عليك الا الدعوة والتبليغ وَلا تُسْمِعُ ايضا الصُّمَّ الجبلي الدُّعاءَ والدعوة سيما إِذا وَلَّوْا وانصرفوا عنه مُدْبِرِينَ معرضين منكرين لك مكذبين رسالتك ودعوتك وَكيف تجتهد أنت وتسعى يا أكمل الرسل في تحصيل ما هو خارج عن وسعك وطاقتك مع انك لا تؤمر به من لدنا إذ ما أَنْتَ باستبدادك واستقلالك بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إذ هم مجبولون على الغواية الجبلية في اصل فطرتهم فاقدون بصائر قلوبهم المدركة بها دلائل التوحيد وشواهد الوحدة الذاتية ولا يتأتى لك ان تهديهم الى طريق التوحيد وترشدهم اليه إِنْ تُسْمِعُ بتبليغك وارشادك وما تهدى أنت بسعيك واجتهادك إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا ونحن نوفقهم على الايمان من لدنا بمقتضى ما ثبت وجرى في لوح قضائنا وحضرة علمنا فَهُمْ بعد ما سبقت العناية منا إياهم مُسْلِمُونَ منقادون لك مسلمون منك جميع ما بلغت لهم من شعائر الدين ودلائل التوحيد واليقين. ثم قال سبحانه على سبيل الامتنان إظهارا لكمال قدرته على إبداء الشئون والتطورات الواردة على عباده حسب تعاقب الازمنة والأوقات في النشأة الاولى فكيف ينكرون إعادتها في النشأة الاخرى مع ان الإعادة أهون من الإبداء وان كان الكل في جنب قدرته على السواء اللَّهُ القادر المقتدر الحكيم المتقن في عموم أفعاله وأحكامه العليم بمقتضاها هو القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَكُمْ وقدر وجودكم بعد ما أراد ابداعكم من كتم العدم وايجادكم في عالم الطبيعة والهيولى مِنْ ضَعْفٍ هو ماء النطفة الضعيفة المهينة ثُمَّ جَعَلَ صير وخلق وقدر مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ كائن في نشأة النطفة قُوَّةً جسمانية متزايدة مستكملة فيها يوما فيوما الى ان قد بلغت كمال القوة والشباب ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ كائنة في عالم الشباب ضَعْفاً وانحطاطا وَشَيْبَةً مضعفة طارية لعموم القوى والآلات منتهية الى الهرم الذي قد عبر عنه سبحانه بارذل العمر كيلا يعلم صاحبه من بعد علمه شيأ وبالجملة يَخْلُقُ ويظهر سبحانه عموم ما يَشاءُ ويقضى ويحكم جميع ما يريد ارادة واختيارا وَكيف لا هُوَ الْعَلِيمُ بجميع ما أحاطت عليه ارادته ومشيته الْقَدِيرُ المقتدر لإيجاده وإظهاره في فضاء العيان بلا فتور وقصور ونقصان وفطور وَكيف ينكر من ينكر الحشر والنشر واعادة الموتى احياء سيما بعد مشاهدة هذه التطورات المترادفة والنشآت المتخالفة المتعاقبة اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ الموعودة المعدة لحشر الأموات من الأجداث يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ويحلف حينئذ كل منهم عند صاحبه بمدة لبثهم في الدنيا مترفهين متنعمين واتفقوا بعد ما اختلفوا وترددوا كثيرا في مكثهم فيها على انهم ما لَبِثُوا فيها غَيْرَ ساعَةٍ واحدة بالنسبة الى طول يوم القيامة وبالجملة من شدة عذاب يوم القيامة وصعوبة أهوالها وكثرة الهموم والأحزان فيها صار لبثهم في الدنيا ومدة اعمارهم فيها ساعة واحدة

[سورة الروم (30) : آية 56]

عندهم بل بعضهم قد تخيلوا اقصر منها كَذلِكَ اى مثل ترددهم وانصرافهم عن طول مدة مكثهم في الدنيا في يوم القيامة قد كانُوا يُؤْفَكُونَ يترددون وينصرفون في النشأة الاولى عن طريق التوحيد وسبيل الهداية والرشد من كمال غفلتهم وقسوتهم وَبعد ما سمع منهم المؤمنون الموحدون استقصارهم مدة لبثهم فيها وانصرافهم عن الحق قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اللدني من قبل الحق وَالْإِيمانَ بالمغيبات التي قد أمروا بتصديقها على ألسنة الرسل والكتب سيما يوم البعث والنشور ردا عليهم وتخطئة لهم لَقَدْ لَبِثْتُمْ في الدنيا بمقتضى ما ثبت فِي كِتابِ اللَّهِ ولوح قضائه وحضرة علمه المحيط إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ وحشر الموتى وقيام الساعة فَهذا اليوم الذي أنتم فيه معذبون الآن يَوْمِ الْبَعْثِ الموعود لكم في الدنيا على ألسنة الرسل والكتب وَلكِنَّكُمْ من خبث طينتكم وجهلكم قد كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ولا تؤمنون به ولا تصدقون قيامه بل تنكرونها وتكذبون من اخبر بها من الرسل العظام مع انهم مؤيدون من قبل الحق بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة والمعجزات الباهرة الظاهرة وبالجملة هم بعد ما قد فوّتوا الفرص في دار الاختبار وضيعوا عين العبرة فيها فَيَوْمَئِذٍ اى حين قيام الساعة وانقضاء ايام التفقد والتدارك لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالخروج عن حدود الله والعرض على عذابه مَعْذِرَتُهُمْ وعذرهم ليعتذروا من قصورهم ويتوبوا عن فتورهم متداركين لما فوتوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ولا يطلب منهم العتبى ولا يسمع منهم المعذرة حتى يزول عتابهم بالتوبة والانابة والندم والرجوع إذ قد انقضى نشأة الابتلاء والاختبار فحينئذ لا يقبل منهم التوبة والعبادة أصلا. ثم قال سبحانه على سبيل التأكيد والمبالغة مشيرا الى كمال قسوة اهل الزيغ والضلال وَلَقَدْ ضَرَبْنا وبيّنا لِلنَّاسِ الناسين طريق الوصول الى توحيدنا ووحدة ذاتنا فِي هذَا الْقُرْآنِ المنزل من عندنا لنبين طريق توحيدنا وسلوك سبيل الاستقامة والرشد مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ينبئ لهم عنه وينبههم عليه ويبين لهم كيفية التنبه والتفطن منه ومع ذلك لم يتنبهوا ولم يتفطنوا الا قليلا منهم وَمن غلظة غشاوتهم ونهاية غفلتهم وضلالهم لَئِنْ جِئْتَهُمْ يا أكمل الرسل بِآيَةٍ من آيات القرآن ملجئة لهم الى الايمان لو تأملوا معناها وتدبروا فحواها لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عن الحق وانصرفوا عن توحيده والايمان به على سبيل الحصر والمبالغة بلا مبالاة لهم بك وبآياتك إِنْ أَنْتُمْ وما كنتم في دعواكم هذه ايها المدعون الكاذبون يعنون الرسول والمؤمنين إِلَّا مُبْطِلُونَ مفترون مزورون تفترون على الله ما تختلقونه من تلقاء انفسكم تغريرا وترويجا كَذلِكَ اى مثل طبعهم وختمهم الذي قد شهدت يا أكمل الرسل من هؤلاء الجهلة يَطْبَعُ اللَّهُ الحكيم المتقن في أفعاله ويختمه عَلى قُلُوبِ عموم الكفرة والجهلة الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ الحق ولا يذعنون به لتركب جهلهم في جبلتهم والجهل المركب لا يزول بالقواطع والشواهد قطعا ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور ومتى سمعت يا أكمل الرسل من أحوالهم وأوضاعهم ما سمعت من عدم قابليتهم واستعدادهم الى الهداية والرشد فَاصْبِرْ على أذاهم وثق بالله وبوعده الذي قد وعدك بان يظهر دينك على الأديان كلها إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ وإنجازه لما وعد به حَقٌّ بلا خلف وتردد وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ ولا يحملنك ولا يبعثنك يا أكمل الرسل على الخفة والاضطراب وقلة التصبر وعدم الثقة بالله القوم الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ولا يتصفون باليقين في امر من الأمور أصلا فكيف بالمعارف والحقائق الإلهية إذ هم مجبولون على فطرة الضلال مترددون في بيداء الوهم والخيال لا نجاة

خاتمة سورة الروم

لهم منها في حال من الأحوال. هب لنا من لدنك جذبة تنجينا عن مضيق الجهل والضلال وتوصلنا الى سعة العلم وفضاء الوصال نحمدك على كل حال ونستعيذ بك منك ومن جميع الأهوال خاتمة سورة الروم عليك ايها المحمدي المتحقق بمراتب اليقين العلمي والعيني والحقي مكنك الحق في مقر لاهوتك وجنبك عن لوازم ناسوتك مطلقا ان تتصبر على اذيات اصحاب التقليدات والتخمينات وتتحمل على تشنيعات ارباب الظنون والجهالات المترددين في تيه الجهل والضلال بمتابعة الوهم والخيال وتصفى خاطرك وضميرك عن معارضتهم ومقابلتهم والبغض معهم والالتفات إليهم مطلقا إذ هم قوم قد خذلهم الله واحطهم عن الرتبة الانسانية التي هي التحقق بمقام اليقين والعرفان والتمكن على مرتبة الخلافة والنيابة من الرحمن المستعان والتخلق بخلق الحنان المنان وأسكنهم في مضيق الإمكان مقيدين بسلاسل التقليد وأغلال الحسبان لا نجاة لهم منها ابدا وعليك ان تتوجه بوجه قلبك الى ربك وتفوض أمورك كلها اليه وتتخذه وكيلا وتجعله حسيبا وكفيلا فانه سبحانه يكفيك ويكف عنك مؤنة شرور أعدائك وحاسديك ولك التبتل والانقطاع الى الله في كل الحالات والرجوع نحوه في عموم المهمات والملمات إذ ما من خير يسرك ويفرحك وشر يؤلمك ويضرك إلا منه بدأ وبقدرته ظهر وعلى مقتضى علمه صدر وبموجب حكمته جرى وقدر فلك ان تسترجع اليه وتتضرع نحوه وتستعيذ به منه إذ الكل من عنده لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم [سورة لقمان] فاتحة سورة لقمان لا يخفى على من تحقق بالمرتبة الحكمية العلية من مقامات مسالك التوحيد وتمكن عليها مطمئنا راضيا مداوما على الميل المعنوي والتوجه التام بعموم الجوارح والأركان نحو الحق مسقطا عن نفسه جميع ما يشغله عن التوجه والالتفات الى المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي على الوجه الأتم الأكمل ان الوصول والتحقق بمرتبة التوحيد والهداية الحقيقية الحقية والتمكن في مقر الاطمئنان واليقين والنيل الى شرف الفناء في الله والبقاء ببقائه انما يحصل برفع الموانع ورفض الرسوم والعادات العائقة عن ادراك السعادات ونيل المرادات وذلك لا يتم الا بعد نزع خلعة الناسوت مطلقا وترك مقتضيات الأوصاف البشرية والقوى الجسمانية رأسا وذلك لا يتيسر الا بارتكاب متاعب الطاعات ومشاق التكليفات القاطعة القالعة عرق التعلقات المرتكزة في القوى البشرية واصول اللذات الوهمية اللازمة للنفوس البهيمية والهياكل الهيولانية المستحدثة من خبث الطبيعة المكدرة بادناس الإمكان المفضى بالطبع الى الدناءة والنقصان وانواع الخساسات والخسران والخلاص عن أمثال هذه الموانع والشواغل العائقة لا يتيسر ولا يحصل الا بتوفيق الله وجذب من جانبه وارشاد مرشد نبيه مؤيد من عنده سبحانه بالدلائل والتنبيهات وانواع المعجزات والتبيينات الخارقة للعادات ولهذه المصلحة العلية والحكمة السنية خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما خاطب بعد ما تيمن بذكره الأجل الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي انشأ ينابيع الحكمة في قلوب أنبيائه وأوليائه واجرى على ألسنتهم انهار المعارف والحقائق المنتشئة منها إرشادا لعموم عباده الرَّحْمنِ عليهم بإرسال الرسل المؤيدين من عنده بنزول

الآيات

الكتب والصحف تتميما لمكارم أخلاقهم ومحاسن أطوارهم وشيمهم ليستعدوا لقبول دلائل التوحيد ونزول سلطان الوحدة على قلوبهم الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى مبدئهم الأصلي ومنشئهم الحقيقي بعد رفع تعيناتهم ونفى هوياتهم الباطلة [الآيات] الم ايها الإنسان الأكمل الأليق لفيضان لوامع لطائف أنوار الوجود الإلهي ولوائح آثار جوده المكرم المؤيد من عنده بمزيد اللطف والكرم الممتاز المتخلص من بين عموم مظاهره بالمرتبة الجامعة المستجمعة لجميع المراتب العلية تِلْكَ الآيات المتلوة عليك يا أكمل الرسل امتنانا لك واختصاصا بشأنك آياتُ الْكِتابِ اى نبذ من آيات الكتاب الْحَكِيمِ المشتمل على الحكمة المتقنة المنبعثة عن اجتماع القدرة الكاملة والارادة الخالصة المترتبتين على العلم الكامل الإلهي الذي لا يغيب عن حضرة حضوره ذرة من ذرائر ما لاحت عليه شمس الوجود ولجمعيته وشموله وصدق نزوله من عند الله قد اتصف بوصفه سبحانه تأكيدا ومبالغة ولكونه نازلا من عنده سبحانه بمقتضى الحكمة البالغة لتأييد أكمل الرسل المبعوث الى كافة الأمم قد صار هُدىً عاما ورشدا تاما كله للممتثلين بما فيه من الأوامر والنواهي والاحكام والقصص والتذكيرات والعبر والرموز والإشارات وَرَحْمَةً خاصة نازلة من عنده سبحانه لِلْمُحْسِنِينَ الذين لا يرون غير الله في الوجود ولا يعبدون سواه من الوسائل ولا ينسبون الحوادث الكائنة في الآفاق الى الأسباب العادية والمحسنون المرضيون عند الله الراضون بما جرى عليهم من نفوذ القضاء هم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويواظبون عليها في جميع أوقاتهم وحالاتهم سيما الأوقات المحفوظة المكتوبة وَيُؤْتُونَ وينفقون جميع ما في أيديهم من الرزق الذي يسوق الحق إليهم في سبيله طلبا لمرضاته سيما الزَّكاةَ المفروضة عليهم من عنده سبحانه تزكية لظواهرهم عن التفات الى ما يشغلهم عن الحق وَمع ذلك لا يقتصرون أولئك السعداء المقبولون بتهذيب الظاهر والباطن بل هُمْ بِالْآخِرَةِ المعدة لتنقيد الأعمال وجزاء الأفعال هُمْ يُوقِنُونَ علما وعينا وحقا وبالجملة أُولئِكَ السعداء المتصفون بالخصائل السنية والأخلاق المرضية عَلى هُدىً صريح صحيح فائض نازل إياهم مِنْ رَبِّهِمْ تفضلا عليهم وامتنانا لهم وَأُولئِكَ الأمناء المقبولون المرضيون عند الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ المقصورون على الفوز والفلاح لا خوف عليهم ولا هم يحزنون جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم وَمِنَ النَّاسِ المجبولين على كفران نعم الله ونسيان حقوق كرمه وجوده مَنْ يَشْتَرِي ويستبدل آيات الكتاب المشتمل على انواع الفضائل والكمالات واصناف الهدى والكرامات لَهْوَ الْحَدِيثِ اى يستبدل الآيات الإلهية ويختار بدلها من الأراجيف الكاذبة ما يلهى النفوس ويشغلها عما يعنيها ويقربها الى ما لا يعنيها بل يضرها ويرديها وما ارتكب ذلك الضال المضل بما ارتكب من الاشتراء والاستبدال الفاسد الا لِيُضِلَّ ويصرف عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ من يميل اليه ويتوجه نحوه ليتدين بدين الله وينقاد لنبيه على مقتضى الفطرة الاصلية مع انه قد صدر عنه هذا الصرف والمنع رغبة ورضاء من تلقاء نفسه بِغَيْرِ عِلْمٍ يتعلق به نقلا او عقلا بل عن جهل مرتكز في جبلته وحميته مركوزة في خبث طينته وخسة طبيعته وَبسبب ذلك الجهل الجبلي يَتَّخِذَها اى الآيات الموصلة الى طريق الحق وتوحيده هُزُواً اى محل استهزاء وسخرية لجهله وغفلته عن السرائر المودعة فيها والحكم المكتومة في مطاويها والأسرار المكنونة في فحاويها أُولئِكَ البعداء المجبولون على الغواية والضلالة أصلا وفرعا تابعا ومتبوعا لَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ مُهِينٌ

[سورة لقمان (31) : آية 7]

يهينهم فيها بدل ما استهانوا بكتاب الله واستهزؤا برسله ظلما وزورا بلا تدرب وتدبر وَمن شدة شكيمته وبغضه بالله ورسوله وكتابه ونهاية عتوه وعناده إِذا تُتْلى عَلَيْهِ وقرئ عنده آياتُنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وَلَّى عنها واعرض عن استماعها وانصرف عن قبولها حال كونه مُسْتَكْبِراً عليها متجافيا كشحه عنها كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها مع انها تتلى عليه مرارا قصدا لاستماعه ولم يلتفت إليها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً صمما يعوقه عن السماع والاستماع فَبَشِّرْهُ يا أكمل الرسل بعد ما اعرض عن كتاب الله واستنكف عن استماعه واصغائه مستحقا عليه مستحقرا إياه بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم في غاية الشدة والألم ثم عقب سبحانه وعيد الكفرة الهالكين في تيه الغي والضلال بوعد المؤمنين بمقتضى سنته المستمرة فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله وصدقوا رسله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المرضية له سبحانه المقبولة عنده بمقتضى ما نزل عليهم من الآيات الواردة من لدنه سبحانه إياهم المصفية لظواهرهم وبواطنهم لَهُمْ في النشأة الاخرى جزاء ما أتوا به من الايمان والعمل الصالح في النشأة الاولى جَنَّاتُ النَّعِيمِ متنزهات مملوة بأنواع النعم واصناف الجود والكرم لا يتحولون منها أصلا بل يصيرون خالِدِينَ فِيها مترفهين بنعيمها لا يمسهم فيها نصب ولا وصب وَعْدَ اللَّهِ الذي قد وعد لخلص عباده من عنده بمقتضى علمه وارادته لا بد له ان ينجزه حَقًّا صدقا بلا خلف وتردد وَكيف يخلف سبحانه في وعده مع انه سبحانه هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على جميع ما دخل في حيطة حضرة علمه المحيط وارادته التامة الْحَكِيمُ المتقن في إيجاده وإظهاره على الوجه الذي أراد وشاء ومن جملة حكمته المتقنة المتفرعة على حضرة علمه المحيط وقدرته الشاملة وارادته الكاملة انه قد خَلَقَ واظهر السَّماواتِ وعالم الأسباب بِغَيْرِ عَمَدٍ وأسانيد وأسطوانات على الوجه الذي تَرَوْنَها معلقة على الأرض بلا استناد واتكاء وَكذا قد أَلْقى فِي الْأَرْضِ التي هي عالم المسببات رَواسِيَ شامخات وجبالا راسيات كراهة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وتميل عليكم وقت ترددكم وتحرككم عليها وَبَثَّ فِيها وبسط عليها ونشر مِنْ كُلِّ دابَّةٍ تتحرك عليها متبادلة متقابلة كيف اتفق لتستقر وتمكن لان طبيعتها في حد ذاتها كانت على الحركة والاضطراب إذ هي محفوفة بالماء السائل المجبول على الحركة والسيلان وهو بالهواء المتموج بالطبع وهي بالنار المضطربة وهي بالأفلاك المتحركة بطبقاتها وَبعد ما مهدناها وألقينا عليها من الرواسي العظام تتميما لتقريرها أَنْزَلْنا مِنَ جانب السَّماءِ ماءً مستحدثا من الابخرة والادخنة المتصاعدة المتراكمة المستحيلة بالماء بمجاورة الكرة الزمهريرية فَأَنْبَتْنا فأخرجنا بانزال الماء عليها فِيها اى في الأرض المنبسطة اليابسة بالطبع مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف من النباتات مزدوج مع شاكلته كَرِيمٍ كثير المنافع والفوائد مصلح للامزجة مقوم لها لتعيشوا عليها مترفهين متنعمين شاكرين لنعمنا غير كافرين بمقتضيات جودنا وكرمنا. ثم قال سبحانه من مقام العظمة والكبرياء وكمال المجد والبهاء على سبيل الإسكات والتبكيت لمن أشرك معه غيره عنادا ومكابرة هذا الذي سمعتم ايها المجبولون على السمع والإصغاء خَلْقُ اللَّهِ القادر القوى المقتدر ذي الحول والقوة الغالبة والطول العظيم فَأَرُونِي ايها المشركون المسرفون المفرطون في دعوى الشرك معه سبحانه ماذا خَلَقَ وأى شيء اظهر وأوجد شركاؤكم الَّذِينَ تعبدونهم وتدعون نحوهم في الخطوب والمهام وتذعنون انهم آلهة مِنْ دُونِهِ سبحانه مستحقة للعبادة

[سورة لقمان (31) : آية 12]

والرجوع قادرة على لوازم الألوهية والربوبية فسكتوا بعد ما سمعوا ما سمعوا تائهين وانقلبوا حينئذ صاغرين بَلِ الظَّالِمُونَ المجبولون على الظلم والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية سيما بدعوى الشركة واتخاذ اله سواه العياذ بالله منه فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية ظاهرة وطغيان عظيم. أعاذنا الله وعموم عباده من أمثاله. ثم قال سبحانه على سبيل اظهار الفضل والامتنان والتفرد بمقتضى الألوهية والربوبية وَلَقَدْ آتَيْنا من مقام عظيم لطفنا وجودنا لُقْمانَ ابن باعورا ابن ناخور بن آزر وكان ابن اخت أيوب عليه السلام او خالته وعاش الى ادراك داود عليه السلام فأخذ منه العلم والْحِكْمَةَ وهي عبارة عن اعتدال الأوصاف الجبلية الموعودة في النفوس البشرية بمقتضى الفطرة الاصلية والتخلق بالأخلاق المرضية المنتشئة من الأوصاف الذاتية الإلهية وقلنا له بعد ما قد أنعمنا عليه نعمة الحكمة واعددناه لقبول فيضان انواع اللطف والكرامات أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ واصرف بمقتضى الحكمة الموهوبة لك من عندنا عموم ما أعطيناك من النعم العظام على ما جبلناها لأجله لتكون أنت من زمرة الشاكرين المواظبين على أداء حقوق جودنا وكرمنا ومن جملة المطيعين بمقتضيات حكمتنا وأحكامنا وَاعلم ايها المجبول على الحكمة الفطرية انه مَنْ يَشْكُرْ نعمنا عادا على نفسه عوائد كرمنا فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ إذ فائدة شكره انما هي عائدة اليه مزيدة لنعمنا إياه مستجلبة لانواع لطفنا وإحساننا معه وَمَنْ كَفَرَ لنعمنا من خبث طينته واعرض عن أداء حقوق كرمنا إياه فوبال كفرانه وطغيانه ايضا عائد اليه إذ عندنا الشكر والكفران سيان ونحن منزهون عن الربح والخسران فَإِنَّ اللَّهَ المتجلى على عموم الأنفس والآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق غَنِيٌّ مطلقا بذاته عن جميع صور احسان عباده معه حَمِيدٌ حسب أوصافه وأسمائه الذاتية الظاهرة آثارها على صفائح الأكوان والمكونات المتوجهة نحو مبدعها المثنية له سبحانه حالا ومقالا سرا وجهارا وَاذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين تذكيرا لهم وعظة عليهم وقت إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ المسمى بأنعم او اشكم او ماثان قولا ناشئا عن محض الحكمة المتقنة الموهوبة له من عنده سبحانه وَهُوَ يَعِظُهُ ويقصد تهذيب ظاهره وباطنه عن الأخلاق الردية والملكات الدنية الغير المرضية مناديا إياه مصغرا على سبيل التحنن والتعطف وكمال الترحم والتلطف مضيفا الى نفسه ليقبل منه ما أوصاه يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ المنزه عن الشريك والشبيه والكفو والنظير واعلم ان أجل اخلاقك وأعز اوصافك التوحيد وتنزيه الحق عن التشبيه والتعديد وأخس اوصافك وأرذل اخلاقك وأردأ ما جرى في خلدك وضميرك الشرك بالله إِنَّ الشِّرْكَ واعتقاد التعدد والاثنينية في حق الحق الحقيق بالحقية الوحيد بالقيومية الفريد بالديمومية المستحق بالالوهية والربوبية استحقاقا ذاتيا لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لا ظلم أعظم منه وافحش أعاذنا الله وعموم عباده منه. ثم قال سبحانه على سبيل التوصية والمبالغة تأكيدا وتحقيقا على ما قد وصى به لقمان ابنه من النهى عن الشرك والزجر عنه وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ والزمنا عليه أولا بعد ما قد أظهرناه قابلا لحمل التكاليف المكملة لذاته لائقا للكمالات المعدة له في خزانة كرمنا وجودنا بِوالِدَيْهِ اى باطاعتهما وبحفظ آداب المعاشرة والمصاحبة معهما ورعاية حقوقهما على ما ينبغي ويليق بلا فوت شيء من حقوقهما سيما والدته المتحملة لأجله انواع المحن والمشاق إذ قد حَمَلَتْهُ أُمُّهُ بواسطة حمله في بدء وجوده وَهْناً عَلى وَهْنٍ وضعفا على ضعف إذ كلما ازداد نشوه ونماؤه في بطنها قد ازداد ضعفها الى ان انفصل عنها وبعد انفصاله تداوم لحفظه وحضانته الى فطامه

[سورة لقمان (31) : آية 15]

وَفِصالُهُ فطامه انما هو فِي عامَيْنِ وبعد ما انفطم تلازم ايضا على حفظه الى وقت بلوغه وبعد ما قد بلغ سن التكليف قلنا له أَنِ اشْكُرْ لِي ايها المكلف المتنعم بأنواع النعم منى اصالة وتسببا لأني قد خلقتك واظهر تك من كتم العدم ولم تك شيأ وَاشكر ايضا لِوالِدَيْكَ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة لإقامتهما على حفظك وحضانتك الى ان كبرت وبلغت مرتبة اشدك وكمال عقلك ورشدك واعلم ان شكرك إليهما راجع إِلَيَّ ايضا إذ انا قد اقدرتهما ومكنتهما على حفظك وألقيت انا المحبة بالنسبة إليك في قلبهما وبالجملة الى الْمَصِيرُ والمرجع في عموم الأفعال الصادرة من العباد ظاهرا إذ هم وما صدر عنهم من الأفعال والأعمال مستندون إلينا أولا وبالذات كيف لا تستند أفعالهم إلينا إذ جميع ما صدر من العباد ظاهرا تابع لوجوداتهم مترتب عليها والحال انه ليس لهم وجود في أنفسهم بل وجوداتهم انما هي رشحة من رشحات وجودنا الحق وفيء من اظلال اوصافنا وأسمائنا الذاتية وَبعد ما قد أكدنا عليكم ايها المكلفون حفظ حقوق والديكم وبالغنا فيه إِنْ جاهَداكَ يعنى والديك ايها المكلف واجتهدا في شانك وبالغا في الجهد والسعى الى ان قاتلا معك وأرادا مقتك وهلاكك عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي وتعتقد ربا سواي وتعبده مثل عبادتك إياي مع انك أنت في نفسك خالي الذهن ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ يتعلق بنفي الشريك ولا بإثباته ايضا فَلا تُطِعْهُما بحال من الأحوال في أمرهما هذا وسعيهما فيه إذ اصل فطرتك مجبولة على التوحيد من لدنا سواء تعلق علمك به او لم يتعلق فلك ان لا تطيعهما بل تنصرف عن أمرهما هذا وَمع انصرافك عن أمرهما هذا صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا وان كانا مشركين مَعْرُوفاً مستحسنا عقلا وشرعا ومروة حفظا لحقوقهما وَبالجملة لا تتبع بشركهما وكفرهما مطلقا بل اتَّبِعْ في الدين والملة سَبِيلَ مَنْ أَنابَ ورجع إِلَيَّ ودين من توجه نحوي موحدا إياي بريئا من الشرك مطلقا وبالجملة امض على التوحيد واسلك طريقه ما دمت في دار الابتلاء ثُمَّ اعلم انكم بعد ما انقرضت النشأة الاولى إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ تابعا ومتبوعا موحدا ومشركا أصلا وفرعا فَأُنَبِّئُكُمْ حينئذ وأخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بتفاصيل أعمالكم التي قد صدرت عنكم في دار الاختبار واجازيكم على مقتضاها ان خيرا فخير وان شرا فشر وبعد ما قد سجل لقمان على ابنه توحيد الحق بنفي ضده على وجه المبالغة والتأكيد أراد ان ينبه عليه بانه لا بد له ان يحفظ على نفسه الأدب مع الله في كل الأحوال بحيث لا يصدر عنه شيء يخالف توحيده ولا يلائمه ولو كان مقدار ذرة حقيرة إذ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه المحيط من أفعاله شيء فقال ايضا مناديا يا بُنَيَّ إِنَّها اى الخصلة الذميمة التي قد أتيت أنت بها المنافية للتوحيد او الخصلة الحميدة الملائمة له لا يعزب كلاهما عن علم الله المحيط مطلقا بعموم الكوائن والفواسد الكائنة في الأنفس والآفاق وبالجملة إِنْ تَكُ أنت فرضا وكذا ما جئت به من الخصلة الذميمة او الحميدة في صغر الجثة او الوزن والمقدار مِثْقالَ حَبَّةٍ واحدة مقدرة كائنة مِنْ خَرْدَلٍ إذ هي مثل في الحقارة والصغر فَتَكُنْ تقع وتحصل أنت بعد ما جئت بها فِي صَخْرَةٍ اى في جوفها وهي أخفى الموضع واستر الأمكنة أَوْ فِي أعلى السَّماواتِ وفوقها وهو ما وراء الفلك الأطلس أَوْ فِي أسفل الْأَرْضِ وقعرها وبالجملة ان كنت في أخفى الأماكن واحفظها يَأْتِ بِهَا اى بك وبخصلتك التي قد صدرت عنك اللَّهُ الرقيب عليك في جميع حالاتك ويجازيك بمقتضاها ان

[سورة لقمان (31) : آية 17]

تعلق ارادته ومشيته سبحانه باتيانك وإحضار ما صدر عنك من الأفعال والآثار وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المطلع على مطلق السرائر والخفايا لَطِيفٌ لا يحجبه حجب ولا يمنعه سدل خَبِيرٌ ذو خبرة تامة يعلم كنه الأشياء وان دقت ورقت ولا يكتنه ذاته مع انه اظهر وأبين في ذاته من عموم مظاهره ومصنوعاته بل ظهور عموم المظاهر فرع ظهوره وعكس نوره وبعد ما سمعت يا بُنَيَّ وصف ربك وحيطة علمه وشمول قدرته ولطافة اطلاعه وخبرته أَقِمِ الصَّلاةَ وأدم ميلك نحوه بجميع أركانك وجوارحك مخلصا في ميلك ورجوعك اليه سبحانه محرما على نفسك جميع ما يشغلك عن ربك مجردا مصفيا عاريا قلبك عن عموم منسوباتك ومقتضيات بشريتك ولوازم هويتك وَأْمُرْ يا بنى على بنى نوعك أولا ان قصدت تكميلهم وإرشادهم الى مقصد التوحيد بِالْمَعْرُوفِ المستحسن عقلا وشرعا وكلم معهم على قدر عقولهم بلا إغراء ولا إغواء ولا تفش عليهم سر التوحيد ما لم يستحقوا لفهمه وحفظه ولم يستعدوا لقبوله وَانْهَ ايضا عَنِ الْمُنْكَرِ المستهجن عقلا وشرعا عادة ومروءة ونبههم على وجوه القبيح والهجنة والطف معهم في تبيينه لعلهم يتفطنون بقبحه بمقتضى فطرتهم وفطنتهم التي قد فطروا عليها في بدء الأمر وَبالجملة اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ في تمشية سلوك التوحيد وتقوية طريقه وكن متحملا على مشاق الطاعات ومتاعب العبادات وارض من ربك بجميع ما جرى عليك وثبت لأجلك في لوح قضائه وحضرة علمه إِنَّ ذلِكَ المذكور اى كل واحد من الأمور المذكورة والخصائل المأمورة لك انما هو مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ اى من الأمور التي قد عزم الحق عليها وأوجبها على ذوى العزائم الصحيحة من خلص عباده إرشادا لهم الى وحدة ذاته وزلال هدايته الصافية عن كدر مطلق الضلالات والجهالات وَكن يا بنى في تمدنك ومعاشرتك مع بنى نوعك لينا ملينا بشاشا بساما ولا تُصَعِّرْ اى لا تمل ولا تعرض ولا تصرف بحال من الأحوال ووقت من الأوقات خَدَّكَ وصفحة وجهك التي بها مواجهتك لِلنَّاسِ ولا تلو عنقك عنهم كبرا وخيلاء كما يفعله ارباب النخوة من الجهلة المستكبرين المتفوقين على الأقران المفتخرين بما عندهم من المال والجاه والثروة والسيادة النسبية ولا سيما اصحاب العلوم الرسمية والفضائل الكسبية من الاعتبارات الحكمية والعويصات الفلسفية والحيل الفقهية على الفقراء والضعفاء الفاقدين لها العارين عن تلك المكدرات الظلمانية مع ان صفاء قلوب هؤلاء الفقراء اكثر وأوفر من قلوب أولئك المتكبرين المفتخرين بما معهم من موجبات النخوة وَبالجملة لا تَمْشِ يا بنى فِي الْأَرْضِ التي قد بسطت للتذلل والانكسار مَرَحاً ذا فرح وسرور مفتخرا بما عندك من الحطام الفانية او العلوم الرسمية الدينية او الرياسة النسبية إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ يمشى على وجه الأرض خيلاء بحيث يتبادر منه الكبر والنخوة في بادى النظر فَخُورٍ بما عنده من الحسب والنسب والجاه والمال بطر بها مباه بسببها وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وتوسط يا بنى واعتدل في مشيك بين الاسراع المذهب بهاء المؤمن ووقاره وبين الدبيب الموجب للعجب والخيلاء وَاغْضُضْ ايضا مِنْ صَوْتِكَ وانقص منه ولا ترفع وان كان حسنا يستحسنه السامعون فإنك بقصدك رفعة صوتك مبالغا فيها تشبه الحمار إذ هو مخصوص من بين سائر الحيوانات بترفيع الصوت والمبالغة فيه ومن بالغ في رفع صوته وان كان حسنا مرغوبا مقبولا فقد أشبه نفسه به ولا شك ان صوت الحمار

[سورة لقمان (31) : آية 20]

منكر عند جمهور العقلاء بل عند عموم الحيوانات ايضا حتى ان الكلب يتأذى من صوته ويفزع منه عند سماعه من غاية تأثر وتألم به وبالجملة إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ وأوحشها واقرعها الآذان لَصَوْتُ الْحَمِيرِ وكيف تشبهون انفسكم ايها المجبولون على الشرف والكمال الى أدون الحيوانات وأرذل المخلوقات وأنزلها رتبة. ثم أشار سبحانه الى شرف الإنسان وعلو رتبته وسمو مكانته فقال أَلَمْ تَرَوْا ولم تعلموا ايها المجبولون على الدرية والدراية أَنَّ اللَّهَ الحكيم المتقن في عموم أفعاله قد سَخَّرَ لَكُمْ وسهل عليكم تتميما لفضلكم وكرامتكم جميع ما فِي السَّماواتِ اى العلويات التي هي علل واسباب وفواعل وان كانت معلولات في أنفسها ومسببات في حدود ذواتها وَكذا عموم ما فِي الْأَرْضِ اى السفليات التي هي مسببات عن العلويات وقوابل لما يفيض عنها بطريق جرى العادات الإلهية ليحصل من امتزاجها ما يعيشون به مترفهين متنعمين من انواع الفواضل والنعم وَبالجملة قد أَسْبَغَ اكثر وأوفر سبحانه عَلَيْكُمْ ايها المجبولون على الكرامة الفطرية والكمال الجبلي نِعَمَهُ ظاهِرَةً تدركون بها ظواهر الآيات من المبصرات والمسموعات والملموسات والمشمومات والمذوقات وَباطِنَةً تدركون بها سرائر المعلومات واسرار المعقولات وتنكشفون بها الى المعارف والحقائق الفائضة على قلوبكم التي قد اودعها الله العليم الحكيم في بواطنكم كل ذلك ليسع فيها وينزل عليها سلطان وحدته الذاتية السارية في ظواهر الأكوان وبواطنها الكائنة ازلا وابدا مع انه سبحانه لا يسع في سعة السموات والأرض وان فرض لها أضعاف أضعاف وآلاف آلاف من السعة بل يسع في قلب عبده العارف المؤمن الموقن المنكشف بوحدته الذاتية الظاهرة المتجلية على صفائح عموم ما ظهر وبطن وغاب وشهد وَمع ظهور وحدته سبحانه في ذاته واستقلاله في اظهار المظاهر الكامنة ازلا وابدا مِنَ النَّاسِ المجبولين على الجدال والنسيان المنهمكين في بحر العناد والطغيان مَنْ يُجادِلُ فِي توحيد اللَّهَ المتوحد المتفرد بالالوهية والربوبية المستقل بالتصرف في ملكه وملكوته ارادة واختيارا ويثبت له شريكا سواه ويعبده كعبادته مع ان جداله هذا ما يستند الى سند يصلح للاستناد بل بِغَيْرِ عِلْمٍ ودليل عقلي فاض عليه يمكن التوصل به الى اثبات ادعائه بطريق النظر والاستدلال وَلا هُدىً وكشف صريح لدنى قد نبع من قلبه بلا افتقار الى مقدمات الوسائل العادية التي يستنتج منها المطالب وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ودليل نقلي ينور خلده ويعده لفيضان المعارف والحقائق من المبدأ الفياض بل ما نشأ عموم ما نشأ منه من الدعاوى والمجادلات الا من محض التقليد والتخمين الحاصل من متابعة القوى الوهمية والخيالية الغالبة المستولية على القوى العقلية الفطرية التي هي من بدائع الودائع الإلهية المودعة في قالب الإنسان المصور على صورة الرحمن وَلذلك إِذا قِيلَ لَهُمُ على سبيل العظة والتذكير امحاضا للنصح اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ المصلح لأحوالكم من الدين والكتاب المشتمل على انواع الرشد والهداية والنبي المؤيد من عنده المبعوث إليكم لهدايتكم وإصلاحكم قالُوا في الجواب ما نتبع بمفترياتكم المستحدثة التي قد ابتدعتموها أنتم من تلقاء انفسكم ونسبتموها الى الله تغريرا وترويجا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا إذ هو مستمر قديم فنحن بأثرهم متبعون وبدينهم راضون متخذون قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا أَيتبعون آباءهم أولئك الضالون المسرفون وَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ المغوى المضل إياهم يَدْعُوهُمْ وآباءهم ايضا الى الباطل ليصرفهم عن

[سورة لقمان (31) : آية 22]

الحق ويوصلهم إِلى عَذابِ السَّعِيرِ قد أعد سبحانه له ولمتابعيه ولمن يقتفى اثره ويقبل منه دعوته ووسوسته. ثم قال سبحانه وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ الذي يلي الحق إِلَى اللَّهِ ويخلص في توجهه نحوه سبحانه وَالحال انه هُوَ مُحْسِنٌ مع الله نفسه بتوفيق الله وتيسيره ناظر الى الله سبحانه مطالع بوجهه الكريم فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بل تمسك وتشبث بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى التي لا انفصام لها ألا وهي حبل الله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات ومن تمسك بها فقد فاز بكنف حفظه وجواره وأمن من شر الشيطان وغوائله وتضليلاته عن طريق الحق وصراطه المستقيم وَكيف لا إِلَى اللَّهِ المستجمع لجميع الأسماء والصفات المظهرة المرتبة لما في الكائنات لا الى غيره من الوسائل والاظلال العادية عاقِبَةُ الْأُمُورِ ومصيرها ومن تشبث بحبل الله مخلصا فقد لحق بخلص أوليائه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وَمَنْ كَفَرَ واعرض عن التشبث بحبل توفيقه سبحانه وانصرف عن الاستمساك بدلائل وحدته وشواهد استقلاله في آثاره فَلا يَحْزُنْكَ يا أكمل الرسل كُفْرُهُ واعراضه عنا وعن مقتضى الوهيتنا وربوبيتنا إذ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ومصيرهم كما ان منا مبدأهم ومنشأهم فَنُنَبِّئُهُمْ ونخبرهم ونفصل عليهم بِما عَمِلُوا بعد ما رجعوا إلينا ونجازيهم على مقتضاه بلا فوت شيء مما صدر عنهم وكيف لا يجازون بأعمالهم ولا يحاسبون عليها إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم ما ظهر وبطن من ذرائر الأكوان عَلِيمٌ يحيط حضرة علمه المحيط بِذاتِ الصُّدُورِ وخفيات الأمور وان دقت ولطفت بحيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا لا يغتروا بامهالنا وتمتيعنا إياهم وعدم التفاتنا نحوهم وعدم انتقامنا منهم ولا يحملوا امهالنا على الإهمال إذ نُمَتِّعُهُمْ زمانا قَلِيلًا ومدة يسيرة تسجيلا للعذاب عليهم وتغريرا لهم ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ بعد بطشنا إياهم إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ لا عذاب أشد منه لغلظ غشاوتهم وقساوتهم وَكيف لا نأخذ أولئك المكابرين المعاندين مع انهم لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ سؤال اختبار والزام مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وأوجد العلويات وما فيها من الكواكب والبروج وانواع الفجاج وَالْأَرْضَ ومن عليها وما عليها مما لا يعد ولا يحصى لَيَقُولُنَّ في الجواب مضطرين حاصرين مخصصين اللَّهُ إذ لا يسع لهم اسناد خلقها وإيجادها الى غير سبحانه لظهور الدلائل والشواهد المانعة من الاسناد الى غيره سبحانه قُلِ يا أكمل الرسل بعد ما اعترفوا بان الموجد للعلويات والسفليات ليس الا الله سبحانه بالأصالة والاستقلال الْحَمْدُ لِلَّهِ قد اعترفتم بتوحيد الله مع انكم اعتقدتم خلافه وبالجملة قد لزمكم بقولكم هذا توحيد الحق بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ لزومه ولا يفهمون استلزامه لذلك ينكرون له ويشركون معه غيره عنادا واستكبارا تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا وكيف لا يعلمون ويفهمون مع انه لِلَّهِ الواحد الأحد المستحق للالوهية والربوبية وفي حيطة حضرة علمه وقبضة قدرته وتحت تصرفه عموم ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى العلويات والسفليات والممتزجات سواء علموا وحدته واستقلاله في ملكه او لم يعلموا واعتقدوا توحيده او لم يعتقدوا إذ لا يرجع له سبحانه نفع من اعتقادهم وضر من عدمه بل نفع اعتقادهم وايمانهم انما يرجع إليهم وضر كفرهم وشركهم ايضا كذلك إذ هو سبحانه منزه في ذاته عن ايمان المؤمن وكفر الكافر وكذا عن فسق العاصي وزهد المطيع إِنَّ اللَّهَ المستغنى عن عموم ما ظهر وما بطن هُوَ الْغَنِيُّ المقصور على الغنى الذاتي بالاستحقاق الذاتي الْحَمِيدُ بمقتضى أوصافه الذاتية وأسمائه الحسنى التي بها ظهر ما ظهر

[سورة لقمان (31) : آية 27]

وبطن ما بطن سواء نطقت بجملته ألسنة مظاهره واظلاله أو لم تنطق إذ هو في ذاته متعال عن النقص والاستكمال واستجلاب النفع وإجلال الغير مطلقا ثم لما أمرت اليهود وفد قريش بان يسئلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى وما أوتيتم من العلم الا قليلا كيف قال سبحانه هذا مع انا قد انزل إلينا التوراة وفيها علم كل شيء ظاهرا وباطنا رد الله عليهم حصرهم علم الحق بالتوراة بل بعموم الكتب والصحف المنزلة من عنده على عامة الرسل وكافة الأنبياء إذ كل ما دخل في حيطة الإنزال والإتيان متناه وحضرة علمه سبحانه في نفسه غير متناه ولا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي بل علمه سبحانه بالنسبة الى معلوم ومقدور واحد مشخص معين باعتبار شئونه وتطوراته غير متناه فكيف بعموم المعلومات والمقدورات فقال سبحانه بمقتضى استعداد من على الأرض وحسب قابليتهم وبقدر عقولهم مبينا لهم عدم نهاية حضرة علمه منبها عليهم وَلَوْ أَنَّ جميع ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ وهي كل ماله ساق من هذا الجنس أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ المحيط الذي هو عبارة عن كرة الماء الكائن الطائف حول الأرض يَمُدُّهُ ويصير مدادا لها وحبرا لثبتها ومدها بل فرض ايضا مِنْ بَعْدِهِ اى بعد نفاد البحر المحيط سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مثلا محيطات كذلك تشيعه وتمد مده فكتبت بهذه الأقلام والمداد المذكورة على الدوام كلمات الله العليم العلام القدوس السلام ما نَفِدَتْ وما تناهت وما تمت مطلقا كَلِماتُ اللَّهِ وتنفد المداد والأقلام المذكورة بل وان فرض أمثالها واضعافها وآلافها ابدا مدادا وأقلاما كذلك إذ الأمور الغير المتناهية لا تقدر بمقدار متناه ولا تكال بمكيال مقدر وكيف يكال ويقدر علمه سبحانه إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء عَزِيزٌ غالب قادر على ما جرى في حضرة علمه المحيط مع انه لا نهاية لمعلوماته حَكِيمٌ لا ينتهى حكمته وقدرته بالنسبة الى مقدور دون مقدور بل له التصرف في كل واحدة من مقدوراته ومراداته الى ما لا يتناهى ازلا وابدا إذ لا يكتنه طور علمه وخبرته وحكمته وقدرته مطلقا ومن جملة مقدوراته الصادرة منه سبحانه بمقتضى حكمته ارادة واختيارا خلقكم وايجادكم أولا على سبيل الإبداع بمقتضى اللطف والجمال واعدامكم ثانيا على مقتضى القهر والجلال واعادتكم وبعثكم ثالثا إظهارا للحكم الموعود في هوياتكم وأشباحكم والمصلحة المندرجة في ايجادكم واظهاركم والمحجوبون المقيدون بسلاسل الازمنة والساعات والآنات يتوهمون بين الأطوار الثلاثة والنشآت المتعاقبة أمدا بعيدا وازمنة متطاولة وعند الله بعد ما تعلق ارادته ونفذ قضاؤه وصدر عنه الأمر بقوله كن يكون الكل مقضيا بلا تراخ ومهلة في اقصر مدة من آن وطرفة ولمحة إذ لا يشغله سبحانه شأن عن شأن ولا يقدر أفعاله زمان ومكان لذلك قال سبحانه ما خَلْقُكُمْ واظهاركم في فضاء الوجود في النشأة الاولى وَلا بَعْثُكُمْ وحشركم في المحشر في النشأة الاخرى بعد ما انقرضتم عن الاولى إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ يعنى ايجادكم جملة أولا وبعثكم ثانيا كذلك في جنب قدرتنا وارادتنا كايجاد نفس واحدة بلا تفاوت إذ متى صدر عنا قولنا كن اشارة منا الى خلقكم وبعثكم جملة فيكون الكل مقضيا في الحال ككون نفس واحدة إِنَّ اللَّهَ المطلع لسرائر ما ظهر وبطن سَمِيعٌ لعموم ما صدر عن ألسنة استعدادتهم وقابلياتهم بَصِيرٌ بعموم ما قد لاح عليهم من اشراق نور الوجود وكيف لا يطلع سبحانه بجميع الكوائن والفواسد أَلَمْ تَرَ ايها الرائي المتأمل المتدبر أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ ويدخل اللَّيْلَ اى أجزاء منه فِي النَّهارِ ويطيله بها في الربيع تتميما لتربية أرزاقكم واقواتكم

[سورة لقمان (31) : آية 30]

وَيُولِجُ ايضا في الخريف النَّهارِ اى اجزاءه فِي اللَّيْلِ ويطيله بها تقوية وتعميرا واعدادا للأرض لتربية ما حدث منها ونبت عليها وَبالجملة قد سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لمصلحة معاشكم وتربية نفوسكم الى حيث كُلٌّ يَجْرِي ويدور بامره وتتم دورته بحكمه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قد عينه الله سبحانه وسماه من عنده بمقتضى حكمته تربية لعباده وتقويما لأمزجتهم ليشتغلوا على ما جبلوا لأجله وَاعلموا ايها المجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد أَنَّ اللَّهَ المراقب عليكم في عموم حالاتكم بِما تَعْمَلُونَ اى بجميع ما صدر عنكم من الأعمال والأفعال خَبِيرٌ لا يعزب عن خبرته ذرة من ذرائر ما لمع عليه نور الوجود وانما ظهر منه سبحانه كل ذلِكَ الذي قد سمعت ايها المجبول على فطرة الدراية والعرفان والمترصد لانكشاف سرائر التوحيد والإيقان من بدائع القدرة الإلهية ومن عجائب العلم والارادة وغرائب الشئون والأطوار اللامعة من لوايح لوامع شروق شمس الذات الاحدية ليدل بِأَنَّ اللَّهَ المتجلى على عروش الأنفس والآفاق بالأصالة والاستحقاق هُوَ الوجود المطلق الْحَقُّ الثابت المثبت ازلا وابدا القيوم المطلق الدائم الباقي بلا انقضاء ولا انصرام وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ويدعون الوجود له من العكوس والاظلال الهالكة في شروق شمس الذات هو الْباطِلُ المقصور المنحصر على العدم الصرف والبطلان المستهلك في مضيق الإمكان بأنواع الخذلان والحرمان وَبالجملة اعلموا ايها المتأملون في آثار الوجود الإلهي المتحققون بوحدة ذاته وكثرة شئونه وتطوراته حسب أسمائه وصفاته أَنَّ اللَّهَ المستقل بالالوهية والربوبية المستحق لانواع التذلل والعبودية إياه هُوَ الْعَلِيُّ بذاته لا بالإضافة الى غيره إذ لا غير معه الْكَبِيرُ في شئونه وتطوراته حسب تجلياته الجمالية والجلالية واللطفية والقهرية وكيف لا يستقل سبحانه بتصرفات ملكه وملكوته أَلَمْ تَرَ ايها الرائي المعتبر المستبصر أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ حاملة بِنِعْمَتِ اللَّهِ المنعم المفضل عليكم بمقتضى لطفه وسعة جوده لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ الدالة على توحيده لتتفطنوا منها الى وحدة ذاته إِنَّ فِي ذلِكَ الإجراء والإمداد بالرياح المعينة لجريها والحفظ من الغرق والهلاك لَآياتٍ دلائل قاطعات وشواهد ساطعات لِكُلِّ صَبَّارٍ قد صبر على متاعب ما جرى عليه من القضاء شَكُورٍ لما وصل اليه من الآلاء والنعماء وَمن كمال صبرهم وشكرهم إِذا غَشِيَهُمْ وغطاهم أحيانا مَوْجٌ عظيم هائل واستعلى مغلقا عليهم كَالظُّلَلِ المغطية إياهم من الجبال والسحب دَعَوُا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد المنجى لهم عن أمثاله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حاصرين التوجه والانقياد نحوه بلا ميل منهم الى الأسباب والوسائل العادية متضرعين نحوه داعين اليه بلا رؤية الوسائل في البين على ما هو مقتضى فطرة التوحيد فَلَمَّا نَجَّاهُمْ سبحانه بفضله عن احوال البحر ومضيقة وأوصلهم إِلَى الْبَرِّ وسعة فضائه سالمين غانمين فَمِنْهُمْ حينئذ مُقْتَصِدٌ معتدل في قصده نحو الحق غير مائل الى طرفي الإفراط والتفريط ومنهم مائل عن الاعتدال منحرف عنه ساع الى تحصيل ما يضاده ويخالفه وَبالجملة ما يَجْحَدُ وينكر منهم بِآياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ غدار ناقض للعهد الفطري والميثاق الجبلي كَفُورٍ للآلاء والنعماء المترادفة المتدالية صروف لها الى ما لا يعنى الله ولا يأمره يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الكفران والنسيان المشغوفون على البغي والعدوان اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذي قد أظهركم من

[سورة لقمان (31) : آية 34]

كتم العدم ولم تكونوا شيأ مذكورا واحذروا عن بطشه وانتقامه فان بطشه شديد وعذابه لعصاة عباده اليم مزيد وَاخْشَوْا يَوْماً اىّ يوم هو يوم لا يَجْزِي لا يسقط ولا يحمل والِدٌ مع كمال عطفته ورأفته عَنْ وزر وَلَدِهِ شيأ حقيرا قليلا وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ متحمل قاض عَنْ وزر والِدِهِ شَيْئاً بل كل نفس يومئذ رهينة بما كسبت ضمينة بما اكتسبت بمقتضى ما وعد الله لها وكتب وبالجملة إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الذي قد وعده لعباده حَقٌّ لا ريب في إنجازه ولا خلف في وقوعه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ ايها المجبولون على الغفلة والغرور الْحَياةُ الدُّنْيا بتغريراتها وتلبيساتها من مالها وجاهها ولذاتها الفانية الغير القارة وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ وعفوه وغفرانه وسعة رحمته وجوده الْغَرُورُ اى الشيطان المبالغ في الغرور والتغرير بان يجبركم على المعاصي اتكالا على عفو الله وغفرانه. ثم لما اتى الحرث بن عمرو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال متى تقوم الساعة وانى قد ألقيت بذرا على الأرض فمتى تمطر السماء وامرأتى ذات حمل وحملها ذكر أم أنثى وما اعمل انا غدا وفي اين أموت وادفن فنزلت إِنَّ اللَّهَ المستقل باطلاع الغيوب عِنْدَهُ وفي حيطة حضرة علمه ولوح قضائه عِلْمُ السَّاعَةِ وتعيين وقت قيامها ولم يطلع أحدا عليها سوى انه سبحانه قد اخبر بوقوعها وقيامها في جميع الكتب المنزلة من عنده سبحانه على رسله وَايضا هو سبحانه يُنَزِّلُ الْغَيْثَ حسب اطلاعه ولم يطلع أحدا بوقت نزوله وَيَعْلَمُ ايضا هو سبحانه حسب علمه الحضوري ما فِي الْأَرْحامِ ولم يطلع أحدا عليه وَايضا ما تَدْرِي وما تعلم نَفْسٌ من النفوس الخيرة والشريرة مطلقا ماذا تَكْسِبُ وأى شيء تعمل غَداً وان تدبرت وتدربت وبذلت جهدها وسعيها لا تفوز الى دراية احوال غدها بل يومها بل ساعتها ولحظها وطرفتها بل ما هي ايضا في نفسها الا من جملة المغيبات التي قد أحاط بها علمه سبحانه خاصة بلا اطلاع احد عليها وَما تَدْرِي وما تعلم نَفْسٌ ايضا وان بالغت في السعى وبذل الجهد والطاقة بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ بل هو ايضا من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المستقل بالالوهية والربوبية المستجمع لجميع أوصاف الكمال عَلِيمٌ لا يعزب عن حيطة حضرة علمه المحيط ذرة خَبِيرٌ لا يخرج عن حيطة خبرته طرفة وان كان لا يكتنه لمية علمه وخبرته والله اعلم بحقائق أسمائه وصفاته وبدقائق معلوماته ورقائق آثاره ومصنوعاته المترتبة عليها. ربنا زدنا بفضلك وجودك علما منك ينجينا عن الجهل بك وباسمائك واوصافك انك على ما تشاء قدير وبانجاحه حقيق جدير خاتمة سورة لقمان عليك ايها الموحد المتحقق بمقام التوحيد المتمكن في مقعد الصدق خاليا عن امارات التخمين والتقليد ان لا تتأمل ولا تتمنى بل لا تتخمن في نفسك حصول ما لا يسع في وسعك وطاقتك من الأمور التي ليس في استعدادك وقابليتك حصولها وانكشافها دونها إذ الإنسان وان سعى وبذل جهده في طريق العرفان بعد ما وفقه الحق وجذبه نحوه لا يبلغ الا الى التخلق بأخلاق الله تعالى والفناء في ذاته منخلعا عن لوازم ناسوته بقدر ما يمكن له ويسع في قابليته واستعداده واما الاطلاع على جميع معلوماته سبحانه والانكشاف بالمغيبات التي قد استأثر الله في غيب ذاته فأمر لا يحوم حوله ادراك احد من الأنبياء والرسل والكمل من ارباب الولاء والمحبة الخالصة بل لا ينبغي ولا يليق ان يتفوه

سورة السجدة

به احد من خلص عباده أصلا إذ هو خارج عن استعداداتهم مطلقا واما امر المعجزات والكرامات الخارقة للعادات الصادرة عن خواص عباد الله من الأنبياء والأولياء فما صدرت ايضا منهم هذه الأمور الا باطلاع الله إياهم وتوفيقهم عليها وهم مجبورون مضطرون في ظهور أمثال تلك الكرامات عنهم مع ان بعض ارباب المحبة والولاء الوالهين بمطالعة جمال الله وجلاله قد تحزنوا وتغمموا عند ظهور أمثاله كثيرا كما يشاهد من بعض بدلاء الزمان ادام الله بركته على معارف اهل الايمان والعرفان وبالجملة لا بد ان يكون الموحد في عموم أحواله وأوقاته متمسكا بحبل الرضاء والتسليم راضيا بما جرى عليه من صولجان القضاء بلا تطلب منه وترقب لشيء. جعلنا الله ممن تمكن بمقام الرضاء ورضى بجميع ما ثبت له بلا ترقب نحو شيء لا يرد عليه بل له ان يترصد في جادة الرضاء منتظرا بعموم ما يرد عليه من القضاء الحق في لوح القضاء [سورة السجدة] فاتحة سورة السجدة لا يخفى على اهل العناية الموفقين من عند الله باستكشاف ما في طي كتابه من المعارف والحقائق المتعلقة بسرائر التوحيد والمسترشدين منه بقدر ما يسر الله لهم من الأخلاق الإلهية المودعة فيهم ان أمثال هذه الأسرار والرموز والإشارات المندرجة في هذا الكتاب لا يليق الا بجناب الحكيم الوهاب المطلع على سرائر ما ظهر وما بطن من آثار الوجود غيبا وشهادة دنيا وعقبا إذ لا يسع لبشر ان يتفوه بهذه الحكم والاحكام على هذا النهج والنظام الأبلغ الأكمل وليس في طاقتهم واستعدادهم الوقوف على المغيبات التي قد تخصص بها سبحانه وبالاحاطة بالأمور التي تعلقت بالنشأتين وترتبت على المنزلتين ومن له ادنى درية بأساليب الكلام ودراية في اتساقه وانتظامه وترتيب ألفاظه وكلماته وتطبيق معانيه وترصيف محاويه ومبانيه جزم انه خارج عن طور البشر ومعلوماته إذ لا مناسبة لعقولهم به وبما فيه من الرموز والإشارات الخارجة عن طور البشر وطوقه. ثم لما بلغ المرتابون في قدحه وطعنه ونسبته الى الاختلاق والافتراء مجادلة ومراء رد الله سبحانه عليهم على ابلغ وجه وآكده مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم متيمنا باسمه الكريم بِسْمِ اللَّهِ الذي قد انزل على عباده الكتاب ليبين لهم طريق الصدق والصواب في سلوك سبيل التوحيد والعرفان الرَّحْمنِ لهم بإرسال الرسول الهادي الى دار السلام وروضة الجنان الرَّحِيمِ لهم يشرفهم فيها بلقاء الرحمن [الآيات] الم ايها الإنسان الكامل الأعلم للوازم لوامع أنوار الوجود اللائح على صفائح الأكوان بمقتضى الجود الملاحظ المطالع لها بتوفيق الله الملك الودود تَنْزِيلُ الْكِتابِ الجامع لما في الكتب السالفة المبين لأحكام دين الإسلام المنزل عليك يا أكمل الرسل لتأييدك وترويج دينك لا رَيْبَ فِيهِ انه نازل من الله الجامع لجميع الأسماء والصفات كما ان مرتبتك جامعة لجميع مراتب اهل العلم وأنت مبعوث الى كافة الأمم هكذا قد صار كتابك نازلا مِنْ الله رَبِّ الْعالَمِينَ أيشكون ويترددون في نزوله من عنده سبحانه وتعالى أولئك الطاعنون الضالون أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ واختلقه من تلقاء نفسه ونسبه الى الله افتراء ومراء تغريرا وتلبيسا لا تحزن يا أكمل الرسل عليهم ولا تلتفت الى قولهم هذا بَلْ هُوَ الْحَقُّ الثابت المحقق المثبت نزوله مِنْ رَبِّكَ الذي رباك بأنواع الكرم واصطفاك من بين البرايا بالرسالة العامة قد أنزله إليك مشتملا على الإنذارات الشديدة والتخويفات البليغة لِتُنْذِرَ أنت بوعيداته قَوْماً قد انقطع عنهم آثار النبوة والرسالة لبعد العهد إذ ما أَتاهُمْ بعد عيسى صلوات الله عليه وسلامه مِنْ نَذِيرٍ انذرهم

[سورة السجده (32) : آية 4]

عن الباطل وأرشدهم الى طريق الحق مِنْ قَبْلِكَ يا أكمل الرسل بل هم كانوا على فترة من الرسل فارسلك الحق إليهم لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بهدايتك وارشادك الى توحيد الحق واتصافه بأوصاف الكمال وكيف لا يوحدونه سبحانه ولا يؤمنون بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته مع انه اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي خَلَقَ وأوجد بقدرته الكاملة السَّماواتِ اى العلويات وَالْأَرْضَ اى السفليات وَما بَيْنَهُما اى الممتزجات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وساعات وآنات منبسطة في عموم الأقطار والجهات الست ثُمَّ بعد ما قدتم التمهيد والبسط اسْتَوى واستولى وتمكن سبحانه عَلَى الْعَرْشِ اى قد انبسط وامتد اظلاله على عروش عموم ما ظهر وبطن من الأنفس والآفاق بالاستقلال التام والتصرف العام مع صرافة وحدته الذاتية بلا شوب شركة وطرق كثرة لذلك ما لَكُمْ ايها الاظلال المنعكسة من شمس ذاته مِنْ دُونِهِ سبحانه مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم ويتصرف فيكم وَلا شَفِيعٍ ينصركم ويعاون عليكم سواه سبحانه أَتشكون وتترددون في وحدته وولايته سبحانه ايها المنهمكون في بحر الغفلة والضلال فَلا تَتَذَكَّرُونَ ولا تتعظون بمواعظه وتذكيراته مع انه قد كررها مرارا وكيف لا هو الذي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ اى عالم الأمر المنبئ عن الإيجاد والإظهار بانزال الملائكة الذين هم مظاهر أوصافه وأسمائه مِنَ السَّماءِ اى سماء الأسماء المتعالية عن الأقطار والجهات مطلقا إِلَى الْأَرْضِ اى عالم الطبيعة والهيولى القابلة لقبول آثارها وانما أنزلهم واهبطهم سبحانه ليعد ويستعد حسب حكمته خلاصة المظاهر والمصنوعات لقبول فيضان سلطان توحيده ثُمَّ بعد ما تم على الوجه الابدع والنظام الأتم الأبلغ يَعْرُجُ ويصعد إِلَيْهِ سبحانه عموم ما يترتب على عالم الأمر من المعارف والحقائق والأسرار الكلية في سريان الوحدة الذاتية بعد انقراض النشأة الاولى فِي يَوْمٍ معد لعروجه وصعوده كانَ مِقْدارُهُ اى مقدار ذلك اليوم في الطول والامتداد أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ في هذه النشأة من الأيام والأعوام وانما دبر سبحانه ما دبر من المعارف والحقائق المترتبة على الإيجاد والإظهار وقدر للعروج والصعود ما قدر لحكم ومصالح قد استأثر بها سبحانه في غيبه ولم يطلع أحدا عليها إذ ذلِكَ الذات البعيد ساحة عز حضوره عن ان يحوم حوله ادراك احد من مظاهره ومصنوعاته عالِمُ الْغَيْبِ الذي لم يتعلق به علم احد سواه وَالشَّهادَةِ المنعكسة منه حسب تجلياته الجمالية والجلالية الْعَزِيزُ الغالب القادر على جميع ما دخل في حيطة حضرة علمه المحيط بان يتصرف فيه كيف يشاء ارادة واختيارا الرَّحِيمُ الَّذِي وسعت رحمته كل ما لاحت عليه بروق تجلياته لذلك قد أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وقدر وجوده بعد ما دخل في حيطة حضرة علمه وقدرته وارادته وَبَدَأَ من بينه خَلْقَ الْإِنْسانِ يعنى آدم وقدر وجوده أولا مِنْ طِينٍ إذ هو اصل في عالم الطبيعة قابل لفيضان آثار الفاعل المختار مستعد لها استعدادا اصليا وقابلية ذاتية ثُمَّ بعد ما تعلق ارادته سبحانه بابقاء نوعه جَعَلَ نَسْلَهُ اى قدر بصنعه وجود ذرياته المتناسلة المتكثرة المتخلفة المستخلفة منه على سبيل التعاقب والترادف والتوالي مِنْ سُلالَةٍ وفضلة منفصلة منه كائنة حاصلة مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ممتهن مسترذل مستقذر لخروجه عن مجرى الفضلة ثُمَّ بعد ما قدر خلقه أولا من الطين وثانيا من الماء المهين قد سَوَّاهُ سبحانه إظهارا لقدرته وعدّ له وقوّم أركانه على احسن التقويم وَبعد تسويته وتعديله قد نَفَخَ فِيهِ سبحانه مِنْ رُوحِهِ ووجوده وحياته المضافة الى ذاته المستجمع

[سورة السجده (32) : آية 10]

لجميع أوصافه وأسمائه تتميما لرتبة خلافته ونيابته واستحقاقه لمرآتية الحق وقابلية انعكاس شئونه وتطوراته ولياقته للتخلق بأخلاقه وَبالجملة قد جَعَلَ وهيأ لَكُمُ ايها المجبولون على فطرة المعرفة والتوحيد السَّمْعَ لتسمعوا بها آيات التوحيد ودلائل اليقين والعرفان وَالْأَبْصارَ لتشاهدوا بها آثار القدرة والارادة الكاملة المحيطة بذرائر الأكوان وَالْأَفْئِدَةَ المودعة فيكم لتتأملوا بها سريان الوحدة الذاتية على هياكل الأشباح الكائنة والفاسدة وتتفكروا بها في آلاء الله ونعمائه المتوالية المتوافرة ومع وفور تلك النعم العظام والفواضل الجسام قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ وتؤدون حقها وتصرفونها الى مقتضياتها التي قد جبلها الحق لأجلها وَمن غاية كفرانهم بنعم الله ونهاية عمههم وسكرتهم فيه قالُوا اى ابىّ ومن معه من المنافقين بعد ما سمعوا امر البعث والحشر ويوم العرض والجزاء مستبعدين مستفهمين مكررين على سبيل المبالغة في الإنكار أَإِذا ضَلَلْنا وقد اضمحللنا وغبنا فِي الْأَرْضِ وصرنا من جملة الهباآت المنبثة المتلاشية المتناثرة التي لا تمايز فيها أصلا أَإِنَّا بعد ما قد كنا كذلك ايها العقلاء المجبولون على فطرة الدراية والشعور لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ووجود مجدد معاد مثل ما كنا عليه قبل موتنا كلا وحاشا مالنا عود الى الدنيا سيما بعد ما متنا وصرنا ترابا وعظاما وايضا ما يقتصرون بمجرد قولهم هذا بَلْ هُمْ من غلظ غشاوتهم وغطائهم بِلِقاءِ رَبِّهِمْ الذي رباهم بأنواع النعم وأفاض عليهم سجال اللطف والكرم في النشأة الاخرى وبقبض ملك الموت أرواحهم بأمر الله إياه في النشأة الاولى كافِرُونَ منكرون جاحدون قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا بعد ما سمعت قولهم وانكارهم هذا يَتَوَفَّاكُمْ ويستوفى اجلكم أولا ايها المنهمكون في الغفلة والضلال مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ باذن الله لقبض أرواحكم ثُمَّ بعد ما قبضتم في النشأة الاولى وبعثتم من قبوركم احياء في النشأة الاخرى إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ للعرض والجزاء وَلَوْ تَرى ايها المعتبر الرائي يومئذ بعد ما قد بعث الخلائق وعرضوا على ربهم حيارى سكارى تائهين هائمين إِذِ الْمُجْرِمُونَ المنكرون بالبعث والنشور والعرض وبشرف اللقاء حينئذ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ من غاية الخجالة والحياء قائلين من نهاية اضطرارهم واضطرابهم مناجين معه سبحانه رَبَّنا يا من ربانا بأنواع الكرامة فكفرناك وأرسلت إلينا رسلا فكذبناهم عنادا وأنكرنا عليهم وعلى دعوتهم مكابرة فاليوم قد أَبْصَرْنا ما هو الحق المطابق للواقع وَسَمِعْنا منك حقا صدق رسلك وجميع ما جاءوا به من عندك فَارْجِعْنا بفضلك ولطفك الى الدنيا مرة بعد اخرى وكرة بعد اولى نَعْمَلْ فيها عملا صالِحاً مرضيا عندك مقبولا لديك بمقتضى ما ابصرتنا واسمعتنا الآن وبالجملة إِنَّا مُوقِنُونَ اليوم بعموم ما قد جاء به رسلك ونطق به كتبك فيما مضى لو رأيت ايها المعتبر الرائي حالهم هذا وسمعت مناجاتهم هذه حينئذ لرأيت امرا فظيعا فجيعا ثم نودوا من وراء سرادقات العز والجلال الآن قد مضى وقت الاختبار والابتلاء وانقرض زمان التدارك والتلافي وَلَوْ شِئْنا وتعلق ارادتنا ومشيتنا بهدايتكم أولا لَآتَيْنا في دار الابتلاء كُلَّ نَفْسٍ منكم هُداها ووفقكم عليها كما قد آتينا لخلص عبادنا ويسرنا لهم الهداية والرشد ووفقناهم عليها وَلكِنْ قد حَقَّ صح وثبت الْقَوْلُ والحكم مِنِّي حسب حكمتى ومصلحتي لَأَمْلَأَنَّ انا بمقتضى عزى وجلالي جَهَنَّمَ المعدة لأصحاب الشقاوة الازلية مِنَ الْجِنَّةِ التي هي جنود إبليس وَمن النَّاسِ الناسين بمقتضى العهود الفطرية والمواثيق الجبلية بتغريرات شياطين

[سورة السجده (32) : آية 14]

نفوسهم الامارة بالسوء أَجْمَعِينَ وبالجملة ما يبدل القول الذي لدىّ ولا معقب لحكمي فَذُوقُوا اى قلنا لهم بعد ما لم نستجب دعوتهم ذوقوا اليوم ايها الضالون المسرفون بِما نَسِيتُمْ اى بشؤم نسيانكم وطغيانكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا مع ان الرسل قد بالغوا باخباره إياكم والكتب قد نطقت بتبيينه عليكم على ابلغ وجه وآكده وأنتم قد أصررتم على الإنكار غافلين ناسين مكابرين وبالجملة إِنَّا قد نَسِيناكُمْ اليوم في انواع العذاب والنكال كما نسيتم أنتم إيانا فيما مضى وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ اى المخلد المؤبد بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفران الدائم والنسيان المستمر في النشأة الاولى أعاذنا الله وعموم عباده من ذلك. ثم قال سبحانه بمقتضى سنته المستمرة إِنَّما يُؤْمِنُ ويذعن بِآياتِنَا الدالة على وحدة ذاتنا وبكمالات أسمائنا وصفاتنا الموحدون المخبتون الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها اى بالآيات تبشيرا وانذارا خَرُّوا وسقطوا سُجَّداً متذللين مستقبلين مبادرين لقبولها وامتثال ما فيها من الأوامر والنواهي والعبر والتذكيرات الواردة في محاويها وَمع ذلك قد سَبَّحُوا ونزهوا ربهم عما لا يليق بجناب قدسه قائلين بِحَمْدِ رَبِّهِمْ عادّين نعمه على أنفسهم مواظبين على شكرها خاضعين خاشعين أذلاء واضعين جباههم على تراب المذلة تواضعا واسقاطا للكبر والخيلاء المذمومين عقلا وشرعا وَهُمْ حينئذ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادة الله وعن الانقياد بأوامره وأحكامه الواردة الموردة في كتابه ومن كمال اطاعتهم وانقيادهم تَتَجافى اى تتخى وترتفع جُنُوبُهُمْ وضلوعهم عَنِ الْمَضاجِعِ والبسط والوسائد التي هم رقدوا عليها في الليل يعنى قد بعدوا في خلال الليالى عن مواضع رقودهم واستراحتهم يَدْعُونَ رَبَّهُمْ حينئذ خَوْفاً من بطشه واخذه حسب قهره وجلاله وَطَمَعاً لمرضاته وسعة رحمته وجوده ومغفرته حسب لطفه وجماله وَهم لا يقتصرون بمجرد قيام الليل وصلاة التهجد فيه بل مِمَّا رَزَقْناهُمْ وسقناهم نحوهم من الرزق الصوري والمعنوي يُنْفِقُونَ في سبيلنا على الطالبين المتوجهين إلينا منقطعين عن لذائذ الدنيا ومزخرفاتها سوى سد جوعة وستر عورة وهم بارتكاب هذه المتاعب والمشاق ما يريدون الا وجه الله وما يطلبون الا رضاه سبحانه موثرين رضاء الله على أنفسهم مخلصين فيه وبالجملة فَلا تَعْلَمُ ولا تعرف ولا تأمل نَفْسٌ منهم كيفية ما أُخْفِيَ وأعد لَهُمْ من قبل الحق قُرَّةِ أَعْيُنٍ ألا وهي فوزهم بشرف لقائه ورؤية وجهه الكريم بلا كيف واين ووضع وجهة واضافة. اللهم ارزقنا لقاءك وجنبنا عما سواك وانما أعد لهم سبحانه ما أعد لهم جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ على وجه الإخلاص من إيثارهم جانب الحق على أنفسهم أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً يعنى أتظنون ايها الظانون المسرفون الجاحدون المنكرون ان من كان مؤمنا موقنا بوحدانية الله متصفا بالأعمال الصالحة المؤيدة لإيمانه كَمَنْ كانَ فاسِقاً خارجا عن ربقة الايمان والإخلاص وعن عموم حدود الشرائع والأديان الواردة لحفظ الايمان كلا وحاشا انهم لا يَسْتَوُونَ في الشرف والكمال والفوز والنوال بل أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدانية الحق وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم على وجهها مع كونهم مخلصين فيها خاشعين خاضعين فَلَهُمْ في النشأة الاخرى بعد ما انقرضوا عن دار الدنيا جَنَّاتُ الْمَأْوى اى المتنزهات المعدة لأرباب المحبة والولاء تأوى إليها نفوسهم على الرغبة الكاملة والطوع التام لتكون نُزُلًا لهم ومنزلا يسكنون فيه ويستريحون بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعنى بمقابلة ما يتحملون من المتاعب والمشاق في طريق التوحيد والعرفان

[سورة السجده (32) : آية 20]

وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا وتركوا الايمان بالله وخرجوا عن مقتضيات الأوامر والنواهي الموردة في كتبه سبحانه وعلى ألسنة رسله فَمَأْواهُمُ مرجعهم ومثواهم في النشأة الاخرى النَّارُ المعدة لأهل الشقاوة الازلية هم فيها خالدون مخلدون مؤبدون لا نجاة لهم منها أصلا بل كُلَّما أَرادُوا وأملوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها حيث امهلهم الخزنة الموكلون عليهم الى ان يصلوا الى شفيرها ثم بعد ذلك أُعِيدُوا فِيها زجرا وقهرا تاما مهانين صاغرين وَقِيلَ لَهُمْ اى قال لهم الزبانية الموكلون بالهام الله إياهم ذُوقُوا ايها المنكرون المصرون عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ حين أخبركم به الرسل والكتب وأنذركم به النبيون المنذرون. ثم أشار سبحانه الى رداءة فطنة اصحاب الضلال وخباثة طينتهم فقال على سبيل المبالغة والتأكيد مقسما وَالله لَنُذِيقَنَّهُمْ ولنصبن عليهم في دار الابتلاء مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى الأنزل الأسهل مثل القحط والطاعون والوباء والقتل والسبي والزلزلة وانواع المحن والبليات التي هي أسهل وأيسر بمراحل دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ عند عذاب الآخرة الذي هو في غاية الشدة ونهاية الألم والفظاعة وانما أخذناهم بما أخذناهم في النشأة الاولى لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ مما هم عليه من الكفر والشقاق ويتفطنون عنها الى كمال قدرتنا واقتدارنا على اضعافها وآلافها ومع ذلك لم يتفطنوا ولم يرجعوا عن غيهم وضلالهم بل قد أصروا واستكبروا عدوانا وظلما وَمَنْ أَظْلَمُ على الله وأسوأ أدبا معه سبحانه مِمَّنْ قد ذُكِّرَ ووعظ بِآياتِ رَبِّهِ ليهتدى بها الى الايمان والتوحيد ويمتثل بمقتضاها ليتخلص عن الكفر والشرك ثُمَّ بعد ما قد سمعها أَعْرَضَ عَنْها فجاءة بلا تفكر وتأمل في معناها وأنكر على مقتضاها واستكبر على ما انزل الله اليه فكذبه ونسبه بما لا يليق بشأنه وأصر على ما هو عليه عنادا ومكابرة وبالجملة إِنَّا من مقام قهرنا وجلالنا مِنَ الْمُجْرِمِينَ المصرين على جرائمهم وآثامهم مُنْتَقِمُونَ يعنى قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا بعد ما قد بالغوا في الإنكار والإصرار نحن منتقمون منهم على ابلغ وجه وأشده من عموم المجرمين الظالمين فكيف هو أجرم واظلم منهم وأصر على البغي والعناد فانا ننتقم عنهم ونخلدهم في عذاب النار مهانين إذ لا عذاب أسوأ منه وأشد أعاذنا الله وعموم عباده منها وَلا تظنن أنت يا أكمل الرسل انا لا ننجز وعدنا الذي قد وعدنا معك في كتابك من انا ننتقم من اهل الشرك والكفر واصحاب الإنكار والإصرار على ابلغ وجه وآكده بل لك ان تتيقن وتذعن انجاز وعدنا إياك مثل ما قد أنجزنا مواعيدنا مع أخيك موسى الكليم إذ لَقَدْ آتَيْنا من مقام جودنا أخاك مُوسَى الكليم الْكِتابَ اى التوراة مثل ما قد آتيناك الفرقان وواعدنا فيه معه مثل ما قد وعدنا معك في كتابك هذا من انتقام اهل الفساد والعناد بل قد وعدنا هذا الوعد مع كل نبي ورسول آتيناه الكتاب والصحف وبالجملة ما ارتاب وتردد موسى عليه السلام ولا احد من الرسل في انجاز وعدنا فَلا تَكُنْ أنت ايضا يا أكمل الرسل بل أنت أحق منهم بعدم الارتياب فِي مِرْيَةٍ اى شك وارتياب مِنْ لِقائِهِ اى من انجاز هذا الموعود وإتيانه على الوجه الذي قد وعدناك به ومن ملاقاتك إياه وَكيف يرتاب كليمنا وحبيبنا أنت يا أكمل الرسل في وعدنا هذا مع انا قد جَعَلْناهُ اى التوراة هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ هاديا لهم في المعالم الدينية والمعارف اليقينية والحقائق العلية والمكاشفات السنية كما قد جعلنا كتابك هذا لأمتك هكذا بل هذا أكمل من ذاك وَكيف لا وهم اى بنو إسرائيل من خواص عبادنا وخلصهم إذ قد جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً أمناء هادون مهديون مهتدون مقتدون

[سورة السجده (32) : آية 25]

يَهْدُونَ الناس بِأَمْرِنا ووحينا إياهم والهامنا إليهم الى ديننا وتوحيدنا وانما أعطيناهم ما أعطيناهم من الكرامات لَمَّا صَبَرُوا وحين وطّنوا أنفسهم على تحمل ما لحقهم في إعلاء كلمة الحق وافشاء اعلام الدين ومعالم التوحيد واليقين وانتشارها في الأقطار من المتاعب والمكروهات المؤدية الى إتلاف النفس وبذل المهج وانواع المصيبة وَهم قد كانُوا في أنفسهم بِآياتِنا النازلة إياهم الدالة على كمال قدرتنا الواردة في إيجاد اىّ شيء أردناه يُوقِنُونَ يذعنون لا يترددون فيها ولا يتذبذبون وأنت يا أكمل الرسل اولى وأحق منهم بإيقان آياتنا واذعانها إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك بأنواع الكرامات وايدك بأصناف الخوارق والمعجزات هُوَ بذاته وحسب حكمته المتقنة وأحكامه المبرمة يَفْصِلُ ويقضى بَيْنَهُمْ اى بين المحقين والمبطلين ويميز كلا منهم عن صاحبه يَوْمَ الْقِيامَةِ المعد للقطع والفصل وتنفيذ الاحكام واجراء الحكومات فيومئذ يظهر لهم الحق فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الأمور الدينية والمعارف اليقينية أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ اى اهل مكة الى سبيل الرشد ولم يوقظهم عن هجعة الغفلة ورقاد العناد كَمْ أَهْلَكْنا اى كثر إهلاكنا واستيصالنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اهل الْقُرُونِ الماضية الهالكة المغرورين أمثالهم بالكبر والخيلاء بما عندهم من المال والجاه والثروة مع ان هؤلاء المعاندين يَمْشُونَ ويمرون فِي مَساكِنِهِمْ الخربة ودورهم المندرسة الكربة وقت ترحالهم نحو متاجرهم وما يعتبرون منها إِنَّ فِي ذلِكَ المرور والعبور وفي رؤية تلك المنازل والاطلال المغمورة والبلاد المقهورة لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على كمال قدرتنا واختيارنا وشدة انتقامنا وقهرنا أَفَلا يَسْمَعُونَ مقتضيات الآيات ولا يتدبرون حق التدبر والتفكر حتى يتخلصوا عن اودية الضلالات واغوار الجهالات ويتصفوا بأنواع الهدايات والكرامات أَوَلَمْ يَرَوْا ولم يبصروا أولئك المعاندون المنكرون على كمال قدرتنا ووفور حكمتنا واختيارنا أَنَّا من مقام لطفنا وجودنا كيف نَسُوقُ الْماءَ بالتدابير العجيبة والحكم البديعة في تصعيد الابخرة والادخنة وتراكم السحب منها وتقاطر المطر من فتوقها وخلالها إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ التي قد انقطع نباتها من غاية يبسها وجمودها فَنُخْرِجُ بِهِ اى بالماء الذي سقنا إليها منها زَرْعاً وأنواعا من الأوراق والحبوب تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ أوراقه وتبنه وَأَنْفُسُهُمْ حبوبه وثمرته أَفَلا يُبْصِرُونَ أولئك المصرون المنكرون هذه القدرة العجيبة فيستدلوا بها على قدرتنا الكاملة وحكمتنا البديعة البليغة البالغة وَبعد ما سمعوا منك يا أكمل الرسل ان ربك يفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون يَقُولُونَ مستهزئين معك متهكمين مَتى هذَا الْفَتْحُ والفصل الذي قد وعدتم به أخبرونا وقته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم نتهيأ له ونتزود لأجله ونؤمن به كما آمنتم قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم يَوْمَ الْفَتْحِ هو يوم القيامة المعدة لتنقيد الأعمال والحساب فيومئذ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا في النشأة الاولى مدة اعمارهم إِيمانُهُمْ فيها وَلا هُمْ يومئذ يُنْظَرُونَ ولا يمهلون حتى يتداركوا ما فوّتوا على أنفسهم طول عمرهم من الايمان بالله والامتثال بأوامره والاجتناب عن نواهيه وتصديق الرسل والكتب وجميع معالم الدين وشعائر الإسلام وبعد ما قد تمادوا في الغفلة والضلال وبالغوا في العتو والعناد فَأَعْرِضْ يا أكمل الرسل عَنْهُمْ ولا تلتفت الى هذياناتهم واصرف عنان عزمك عن هدايتهم وإرشادهم بعد ما تاهوا في تيه الغي والضلال وأصروا عليه وَانْتَظِرْ النصر والظفر والغلبة عليهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ايضا ليغلبوا عليك ويظفروا. وقل ربنا افرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين

خاتمة سورة السجدة

خاتمة سورة السجدة عليك ايها السالك القاصد سلوك سبيل التوحيد والناسك المجاهد مع أعدى عدوك الذي بين جنبيك اعانك الله ونصرك على عدوك ان تتصبر على متاعب العبودية ومشاق التكاليف الواقعة في إتيان المأمورات الشرعية وترك المألوفات الطبيعية سيما ما أشكل امره عليك ودفعه عندك من انقهار امارتك وانزجارها وانتقامك عنها مفوضا أمورك كلها الى ربك منتظرا الى ان يغلبك الحق عليها بعد ما قد وعدك به بان يجعل سلطانه امارتك مأمورة لك مطمئنة بحكمك راضية بجميع ما جرى عليها من سلطان القضاء بلا امتناع وإباء فلك ان تتمكن في مقام الرضا والتسليم حتى تصير مطمئنتك فانية مضمحلة متلاشية بحيث لا يبقى فيها من هوية ناسوتها شيء بل قد فنيت هويتها في هوية الحق واضمحلت في عالم اللاهوت مطلقا فحينئذ قد فزت بدوام أبدى وبقاء سرمدي بلا عروض انقضاء وانصرام ولحوق انتهاء وانخرام. هب لنا من لدنك جذبة تنجينا من هوية ناسوتنا وتفنينا في هوية لاهوتك يا ارحم الراحمين [سورة الأحزاب] فاتحة سورة الأحزاب لا يخفى على من تحقق بمقام التقوى وخلص عن مهلكات الهوى ورجع نحو المولى متزهدا عن الدنيا وغرورها وامانيّها مطلقا ان الموحد المتحقق بمقام التمكن والرضا لا بد وان تكون همته منحصرة على التوجه نحو الحق مطمئنا به راضيا بما جرى عليه من سلطان القضاء متوكلا على الله في السراء والضراء والمنح والعطاء والمحن والبلاء مترصدا للوحى الإلهي مترقبا لالهاماتها الغيبية إذ كل من تجرد عن جلباب الناسوت مخلصا فقد تستر بخلعة اللاهوت ووقع اجره على حضرة الرحموت ورجع امره اليه وعاد شأنه على ما كان عليه في بدء الأمر فصار محفوظا في كنف حفظ الحق وجواره فله ان يتخذه سبحانه وكيلا ويجعله حسيبا وكفيلا ويفوض أموره كلها اليه فيصير منتظرا لوحيه والهامه مترصدا لموائد افضاله وانعامه إذ هو سبحانه بذاته عليم بحاله وحاجاته حكيم في تربيته وإرشاده وماله الا الإطاعة والتسليم والمتابعة لما يوحى اليه من عند الله العليم الحكيم ماحيا عن لوح قلبه الالتفات الى غيره كما امر سبحانه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم تربية له وتأديبا اليه وليتأدب به من تابعه وتخلق به من آمن له مخلصا فقال مناديا إياه متلطفا معه متيمنا باسمه بِسْمِ اللَّهِ الذي اصطفى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم من بين البرايا بالخلق العظيم الرَّحْمنِ عليه في النشأة الاولى بإضافة انواع الكمالات اللائقة على سبيل التبجيل والتكريم الرَّحِيمِ له في النشأة الاخرى بتمكينه في مقعد الصدق والمقام المحمود الذي هو مقام الرضا والتسليم [الآيات] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد من عند العليم الحكيم مقتضى نبوتك التي قد صرت بها خاتما لدائرة النبوة والرسالة متمما لمكارم الأخلاق مكملا لأمر التشريع والتديين التقوى والتحفظ عن مقتضيات الآراء الباطلة والأهواء الفاسدة والتحصن بالله والثقة اليه وجعله وقايتك عند نزول البلاء وهجوم الأعداء اتَّقِ اللَّهَ حق تقاته واجتنب عما لا يرضى به ربك مطلقا وَلا تُطِعِ بحال من الأحوال الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ الذين قد خاصموا معك في أسرارهم واعلانهم ولا تتبع أهواءهم الفاسدة وآراءهم الكاسدة الباطلة وابتغ فيما آتيك الله من مقتضيات استعدادك فيما تفضل عليك امتنانا

[سورة الأحزاب (33) : آية 2]

لك رضاء الله والفوز بشرف لقائه إِنَّ اللَّهَ المصلح لأحوال عباده قد كانَ عَلِيماً حسب حضرة علمه الحضوري بقابليتك وبمقتضياتها حَكِيماً في افاضة ما يعنيك وينبغي لك ويليق بشأنك وأمرك وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ تأييدا لك وتدبير أمورك واحوالك ولا تلتفت الى هذيانات من عاداك ولا تبال بمكرهم وحيلهم إِنَّ اللَّهَ الرقيب المراقب عليك وعليهم قد كانَ بِما تَعْمَلُونَ من المخائل الفاسدة والتلبيسات الباطلة المتعلقة لمقتك وهلاكك خَبِيراً يكفيك ويكف عنك مؤنة شرورهم ومكرهم ويغلبك عليهم ويظهر دينك على الأديان كلها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ايها المتحصن بكنف حفظه وجواره وثق بكرمه ولطفه وَكَفى بِاللَّهِ اى كفى الله المراقب على عموم احوالك وحالاتك وَكِيلًا لك يراقبك ويحفظك من شرور من قصد مقتك وهجومهم عليك ومكرهم معك وكن في نفسك متوجها الى ربك مخلصا فيه مائلا بوجه قلبك الى قبلة وجهه الكريم ولا تلتفت الى من سواه ولا تخطر ببالك غيره إذ لا يسع في القلب الواحد الا هم واحد ولهذه الحكمة العلية ما جَعَلَ وخلق اللَّهُ العليم الحكيم المتقن في أفعاله لِرَجُلٍ واحد مِنْ قَلْبَيْنِ مشعرين مدركين فِي جَوْفِهِ حتى لا يتفتت ميله ولا يتعدد قبلة مقصده ومرماه وان خلق له عينين وأذنين ويدين وغيرها وَكذا ما جَعَلَ الله العليم الحكيم أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ وتقولون لهن اى كل منكم لزوجته ايها المؤمنون المكلفون أنت على كظهر أمي أُمَّهاتِكُمْ حقيقة لتترتب عليها احكام الأمهات من تحريم القربان والفراش معها وغيرهما وَما جَعَلَ ايضا سبحانه أَدْعِياءَكُمْ اى الأجانب الذين تدعونهم أنتم أبناء من افراط المودة أَبْناءَكُمْ حقيقة او حكما حتى تترتب عليهم احكام الأبناء من أخذ الميراث والمحرمية وحرمة زوجتهم وابنتهم وغير ذلك من الاحكام ذلِكُمْ اى الأمور الثلاثة المذكورة قَوْلُكُمْ اى مجرد قول قد صدر عن ألسنتكم وتلفظتم أنتم بِأَفْواهِكُمْ لا حقيقة لها سوى الاشتهار في المحبة والمودة وَاللَّهُ المدبر لأموركم المصلح لأحوالكم يَقُولُ الْحَقَّ اى الحكم المطلق الثابت المتحقق عنده سبحانه المترتب عليه أحكامه إرشادا لكم وإصلاحا لحالكم وَكيف لا هُوَ بمقتضى ألوهيته وربوبيته يَهْدِي السَّبِيلَ السوى والصراط القويم المستقيم عباده الذين انحرفوا عن سبل السلامة وطرق الاستقامة في الوقائع والاحكام وبعد ما قد سمعتم حقيقة القول والحكم في ادعيائكم وحقيته ادْعُوهُمْ وسموهم أدعياءكم بأسمائهم وانسبوهم حين دعائكم وندائكم إياهم لِآبائِهِمْ المولدين لهم حقيقة لا الى الداعي ان علمتم آباءهم الاصلية النسلية هُوَ اى انتسابهم الى آبائهم الاصلية أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ واقرب بين المؤمنين الى الصدق وابعد عن الكذب والفرية إذ كثيرا ما قد اشتهر دعىّ باسم من تبناه فأراد ان يأخذ منه الميراث فعليكم ايها المؤمنون ان لا تنسبوهم الا الى آبائهم الحقيقية فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ لتنسبوهم إليهم فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ يعنى فهم إخوانكم في الدين واولياؤكم فيه كسائر المؤمنين فخاطبوهم مثل خطاب بعضكم بعضا فقولوا له يا أخي او يا صاحبي او يا وليي في الدين وغير ذلك وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون جُناحٌ اثم ومؤاخذة فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ اى بقولكم هذا ونسبتكم هذه إذا صدرت عنكم هفوة على سبيل الخطأ والنسيان سواء كان قبل ورود النهى او بعده وَلكِنْ تؤاخذون أنتم في ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وقد صدرت عنكم هذه قصدا إذ قصدكم به يؤدى الى الافتراء وتضييع حقوق المؤمنين وَكانَ اللَّهُ

[سورة الأحزاب (33) : آية 6]

غَفُوراً في حق من اخطأ ونسى ثم ذكر وتاب رَحِيماً عليه يقبل توبته ويغفر زلته. ثم أشار سبحانه الى تأديب كل من الأمم مع نبيه المؤيد من عنده سبحانه بأنواع التأييدات والمعجزات الخارقة للعادات المبعوث إليهم لإرشادهم وتكميلهم وأمرهم بحسن الأدب معهم والمحافظة على خدمتهم وحرمتهم وكيف لا يحسنون الأدب مع الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم إذ كل نبي بالنسبة الى أمته كالأب المشفق العطوف بالنسبة الى ابنه بل هو خير آبائهم يرشدهم الى ما هو أصلح لدينهم الذي هو عبارة عن الحقيقة لهم فلهم ان يكونوا معه في مقام التذلل والانكسار التام والانخفاض المفرط بأضعاف ما وجب عليهم من حقوق الوالد النسبي إذ آثاره تربية الأنبياء مؤبدة مخلدة وآثار تربية هؤلاء متناهية منقطعة وان ترتب على تأديبهم وانخفاضهم معهم من المثوبة الاخروية فإنما هي راجعة ايضا الى تربية نبيهم ولا شك ان نبينا صلّى الله عليهم أفضل الأنبياء واكملهم في التربية والإرشاد فيكون أبوته ايضا أكمل واشفاقه ومرحمته لامته التي هي أفضل الأمم أتم وأوفر لذلك قال سبحانه النَّبِيُّ يعنى هذا النبي المبعوث الى كافة الأمم المتمم لمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم المكمل لمعالم الدين ومراسم المعرفة واليقين أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ وأحق لهم ان يرجحوا جانبه على أنفسهم ويختاروا غبطته مِنْ غبطة أَنْفُسِهِمْ إذ نسبة تربيته الى أشباحهم وأرواحهم كنسبة تربية الأب المشفق المحافظ ابنه عن جميع ما لا يعنيه المراقب له في عموم أحواله ليوصله الى الحياة الابدية والبقاء الأزلي السرمدي ونسبة تربية نفوسهم المدبرة لأبدانهم وان كانت هي ايضا بتوفيق الله واقداره انما هي مقصورة الى حفظ أجسامهم لئلا تنهدم وتنخرم ولا تزول عنها الحياة المستعارة وشتان ما بين النسبتين والتربيتين وَأَزْواجُهُ ايضا أُمَّهاتُهُمْ يعنى بعد ما قد ثبت ان تربيته صلّى الله عليه وسلّم شاملة وأبوته كاملة صارت أزواجه اللاتي في حجوره صلّى الله عليه وسلّم وتحت حضانته أمهات المؤمنين في الدين وجرمتهن أعظم واولى من حرمات أمهاتهم النسبية إذ هن اتباع له صلّى الله عليه وسلّم واهل بيته فيسرى الأدب معه إليهن وهن ايضا في انفسهن من الكاملات اللائقة لانواع الحرمات والمكرمات ومن جملتها لياقتهن بشرف صحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم فعليكم ايها المؤمنون ان لا تنكحوا أزواجه ابدا إذ هن أمهاتكم وَبعد ما سمعتم ايها السامعون المؤمنون ان النبي خير آبائكم في الدين وأزواجه فضليات أمهاتكم ايضا فيه وسائر المؤمنات والمؤمنين إخوانكم وأخواتكم في الدين لا تظنوا ان حكم أبوته صلّى الله عليه وسلّم وامومتهن رضى الله عنهن واخوة المؤمنين تسرى في احكام الميراث والعصوبة ايضا بل أُولُوا الْأَرْحامِ وذوو القرابة المنتمون إليكم بالقرابة النسبية على تفاوت طبقاتهم ذكورا كانوا او إناثا بَعْضُهُمْ أَوْلى وأحق شرعا بِبَعْضٍ اى بأخذ الميراث من بعض يعنى هم اصحاب الفروض والعصبات يأخذون متروكات المتوفى عنهم ويحرزونها لقرابتهم النسبية بمقتضى سهامهم المقدرة فِي كِتابِ اللَّهِ المنزل عليكم المطابق لما في حضرة علمه المحيط ولوح قضائه الشامل الجامع مِنْ النبي وأزواجه وأجانب الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ وهم وان كانوا إخوانا وآباء وأمهات في الدين لا يأخذون شيأ من أموالهم ومواريثهم بلا قرابة سببية إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا ايها المؤمنون وتخرجوا أموالكم وصية على الوجه المشروع المستحسن إِلى أَوْلِيائِكُمْ في الدين مع كونهم أجانب لكم مَعْرُوفاً وصية مشروعة مستحسنة عقلا وشرعا غير مؤدية الى احراز التركة وحرمان الورثة وهي التي لا تكون أزيد من ثلث المال قد كانَ ذلِكَ اى إخراج الوصية على الوجه المعروف

[سورة الأحزاب (33) : آية 7]

فِي الْكِتابِ الذي يتلى عليكم وفيما قبله ايضا من الكتب المنزلة على الأمم الماضية مَسْطُوراً مثبتا فللموصى له ان يأخذها على مقتضى ما ثبت في حكم الله وكتابه وَكيف لم يحسنوا الأدب أولئك المؤمنون الماضون السابقون مع أنبيائهم وهؤلاء اللاحقون معك مع انا ما بعثنا الأنبياء والرسل الى أممهم الا لإرشادهم وهدايتهم الى توحيدنا وإيصالهم الى زلال تفريدنا على ذلك قد أخذنا العهود والمواثيق المؤكدة من عموم الأنبياء والرسل تأكيدا وإلزاما اذكر يا أكرم الرسل لمن تبعك من المؤمنين ليحافظوا على ما أمروا وقت إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ المبعوثين الى الأمم الماضية مِيثاقَهُمْ وعهودهم الوثيقة المؤكدة وَلا سيما مِنْكَ يا أكمل الرسل وَمِنْ نُوحٍ المنجى وَإِبْراهِيمَ الخليل وَمُوسى الكليم وَعِيسَى الصفي الخالص عن كدر الناسوت من قبل الأب لأنه ابْنِ مَرْيَمَ لم يمسها ذكر من بنى نوعها بل انما ولدته بلا أب إرهاصا لها ومعجزة لابنها خص سبحانه هؤلاء الكرام بالذكر اهتماما بشأنهم صلوات الله عليهم وسلامه وَأَخَذْنا مِنْهُمْ كرره تأكيدا ومبالغة اى من كل واحد منهم وممن لم نذكر أساميهم من ذوى العزائم الخالصة مِيثاقاً غَلِيظاً وعهدا وثيقا محكما مؤكدا على ان لا تتهاونوا ولا تتكاسلوا في ارشاد العباد وابعادهم عن الجور والفساد وإيصالهم الى ما أعددنا لهم من المراتب العلية والدرجات السنية وقد أنزلنا عليهم الكتب والصحف المشتملة على الأوامر والاحكام المقربة لتوحيدنا والعبر والنواهي المبعدة عن الكفر والضلال وامرناهم ايضا بتبيين الأوامر والنواهي الى أممهم وتنبيها عليهم ليتفطنوا على فطرتهم التي هم جبلوا عليها في عالم الغيب وليتميز عندهم الحق الحقيق بالاتباع عن الباطل الزاهق الزائل كل ذلك لِيَسْئَلَ سبحانه في النشأة الاخرى عن الأنبياء ورسله صلوات الله عليهم من احوال العباد الصَّادِقِينَ الممتثلين بأوامر الله المجتنبين عن نواهيه عَنْ صِدْقِهِمْ وإخلاصهم في أعمالهم ونياتهم فيها وعن أحوالهم ومواجيدهم واعتقاداتهم وتلقيهم لقبول الحق والمحافظة عليه ليشهد الأنبياء لهم فيفوزوا الى ما قد أعد لهم وهيّئ لأجلهم من المراتب والمقامات وانواع السعادات والكرامات مع ان علمه سبحانه بحالهم يغنى عن شهاداتهم وليسأل ايضا سبحانه عن عناد العباد المصرين على الجور والفساد المجترئين على الله بالخروج عن حدوده ومقتضيات أحكامه ليشهدوا صلوات الله عليهم فيساقوا صاغرين مهانين الى ما قد أعد الله لهم من الدركات الهوية الجهنمية وَاعلموا ان الله سبحانه قد أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ الجاحدين لأوامر الله ونواهيه المنزلة في كتبه على رسله عَذاباً أَلِيماً لا عذاب أشد ايلاما منه. ثم نادى سبحانه المؤمنين الموحدين المواظبين على الطاعات بامتثال الأوامر واجتناب المنهيات كي تصلوا الى ما قد أعد لهم ربهم من المثوبات والمكرمات فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم تعداد نعم الله عليكم وإحصاء فواضله المتوالية المتتالية المتسعة اذْكُرُوا في عموم أوقاتكم وأحوالكم نِعْمَةَ اللَّهِ الفائضة عَلَيْكُمْ على تعاقب الأزمان وتلاحق الآنات والأحيان سيما نعمة انجائكم من أعدائكم ونصركم عليهم مع كونكم آيسين مأيوسين منه اذكروا يا اهل يثرب وقت إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ متعددة واحزاب متعاقبة متلاصقة قاصدين لمقتكم واستئصالكم وهم قريش وغطفان ويهود بنى قريظة وبنى النضير وكانوا زهاء اثنى عشر الفا وأنتم قليلون فخفرتم الخندق على المدينة ثم خرجتم تجاه الأعداء وأنتم ثلاثة آلاف والخندق بينكم وبينهم فقعدتم متقابلين وقد مضى عليها قريب شهر لا حرب بينكم الا

[سورة الأحزاب (33) : آية 10]

بالترامي بالنبل والحجارة فاضطررتم بل اضطربتم وقد اوجستم في انفسكم خيفة خفية منهم وصرتم مذبذبين متزلزلين لا الى الفرار ولا الى القرار وبعد ما قد ابصرناكم كذلك واطلعنا على قلوبكم أمددناكم بإرسال الريح وإنزال الملائكة اعانة لكم وتأييدا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً يعنى الصبا وهبت عليهم عاصفة بحيث تقلع أوتادهم وتسقط الخيام عليهم وتطفئ نيراتهم وتكفئ قدورهم وتجيل خيولهم وكانت هذه في ليلة شاتية باردة في غاية البرودة وَأرسلنا عليهم ايضا جُنُوداً من الملائكة قد ظهروا جوانب معسكرهم بحيث لَمْ تَرَوْها جنودا مثلها أصلا فقال حينئذ صناديدهم وكبراؤهم النجا النجا فان محمدا قد بدا بالسحر فانهزموا من غير قتال فنجوتم سالمين عناية من الله وانجازا لوعده ومعجزة لرسوله صلّى الله عليه وسلم وَكانَ اللَّهُ المطلع لأحوال عباده بِما تَعْمَلُونَ أنتم من حفر الخندق والتزلزل والتذبذب والرعب الخفى وبما يعملون ايضا أولئك المسرفون من التحزب والتوافق على استئصالكم بَصِيراً رائيا عليما منكم امارات التذبذب والتزلزل وكيف لا تزلزلون أنتم وقت إِذْ جاؤُكُمْ وهم غطفان مِنْ فَوْقِكُمْ اى من أعلى الوادي من قبل المشرق وَقد جاؤكم القريش مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ اى من أسفل الوادي من قبل المغرب واضطررتم وليس معكم من يقابل احد الجانبين حينئذ فكيف بكليهما وَاذكر وقت إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ حينئذ منكم ومالت عن مستوى نظرها وتقلقلت واضطربت حيرة وشخوصا وَقد اضطربتم في تلك الحالة بحيث قد بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ يعنى قد بلغت من غاية الرعب والخوف قلوبكم حناجركم لان ريتكم قد انتفخت من الرعب المفرط فارتفع القلب بارتفاعها الى رأس الخنجرة وهي عبارة عن منتهى الحلقوم الذي هو مدخل الطعام والشراب وَحينئذ كنتم تَظُنُّونَ ايها الظانون المرعوبون بِاللَّهِ الذي قد وعدكم بالنصر والغلبة على الأعداء وبإظهار دينكم واعلائه على الأديان كلها الظُّنُونَا اى أنواعا من الظنون بعضها صحيح وبعضها فاسد على تفاوت طبقاتكم في الإخلاص وعدمه فمنكم من يظن ان الله منجز وعده الذي قد وعده لرسوله من إعلاء دينه ونصره على أعدائه إذ لا خلف لوعده سبحانه ومنكم من يتردد ويتحير بين الأمرين الى حيث لا يرجح أحدهما لذلك يخاف من ضعف وثوقه بالله وعدم رسوخه في الايمان وبالجملة هُنالِكَ في تلك الحالة قد ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وجربوا واختبروا كي يتميز المخلص منهم من المنافق والثابت الراسخ من المتردد المتزلزل وَلذلك قد زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً من شدة الفزع والهول المفرط بحيث كاد ان يخرج أرواحهم من اجسادهم وَاذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ حينئذ وَالمؤمنون الَّذِينَ قد بقي فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ من امارات الشقاق ولم يصفوا بعد لحداثة عهدهم حتى يتمكنوا على الوفاق ويتمرنوا بالاتفاق ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من الظفر على الأعداء وانتشار هذا الدين في الأقطار والأنحاء إِلَّا غُرُوراً باطلا زورا زاهقا زائلا وبالجملة قد بالغوا في ذلك حيث قال معقب بن قشير يعدنا محمد بفتح فارس والروم واحدنا لا يقدر ان يتبرز للقتال مع هؤلاء الفرق فظهر ان وعده ما هو الا غرور باطل وَاذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ اى من منافقي المدينة والذين في قلوبهم مرض وضعف اعتقاد ويقين وهم يعدون أنفسهم من المؤمنين يا أَهْلَ يَثْرِبَ واصحاب المدينة لا مُقامَ لَكُمْ ولا يحسن اقامتكم الآن ومقاومتكم في مقابلة هذه الأحزاب ذوو عدد وعدد كثيرة وأنتم شرذمة قليلون بالنسبة إليهم فَارْجِعُوا عن دين محمد وانتشروا عن

[سورة الأحزاب (33) : آية 14]

حوله حتى تسلموا من يد الأعادي وَبعد ما سمع المؤمنون قول أولئك المنافقين الآمرين بالارتداد والرجوع صاروا مترددين متزلزلين في دينهم وأدّى أمرهم في التزلزل والتذبذب الى حيث يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ حيث يَقُولُونَ معتذرين معللين للرجوع والذب عن حول النبي صلّى الله عليه وسلم إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ غير حصينة خالية من المحافظ المراقب فأذن لنا حتى نرجع الى بيوتنا ونستحفظها وَالحال ان بيوتهم ما هِيَ بِعَوْرَةٍ بل هي حصينة محفوظة لا خلل فيها بل إِنْ يُرِيدُونَ وما يقصدون من هذا القول المزور إِلَّا فِراراً عن الزحف واعراضا عن الدين القويم وَمن غاية ضعفهم في الدين وعدم تثبتهم ورسوخهم في الاعتقاد واليقين لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ المدينة وحبست مِنْ أَقْطارِها وحصنت من جميع جوانبها بحيث لم يمكن الظفر عليها لا لهؤلاء الأحزاب ولا لغيرهم ايضا من عساكر الأعادي بل من أضعافهم وآلافهم ثُمَّ بعد ما تحصنت عليهم بيوتهم كذلك وصاروا آمنين من ظفر العدو مطلقا سُئِلُوا الْفِتْنَةَ اى ان طلب احد منهم إيقاع الفتنة بين المؤمنين والهزيمة والفرار من الزحف والارتداد عن الايمان والإسلام وعن النصر للمؤمنين لَآتَوْها البتة هؤلاء الجهلة الضعفة المتمائلون الى الكفر ومواخاة الكفرة عن صميم فؤادهم وجاءوا بالفتنة والفرار وبالردة عن الدين وبالقتال مع المسلمين على الفور وَما تَلَبَّثُوا وتوقفوا بها اى بإتيان الفتنة والردة بعد ما سئلوا عنها وطولبوا بِها إِلَّا يَسِيراً اى آنا واحدا لا زمانا بل مقدار ما يفهمون سؤال السائل ومقصوده منه وكيف لا يؤتونها وَهم في أنفسهم لَقَدْ كانُوا يعنى بنى حارثة وبنى سلمة منهم قد عاهَدُوا اللَّهَ عهدا وثيقا مؤكدا مِنْ قَبْلُ اى قبل حفر الخندق وذلك في يوم احد حين أرادوا ان يفشلوا عن رسول الله وقد تخلفوا عنه يوم بدر فلما رأوا ما اعطى الاحديون والبدريون من الكرامة العظيمة عاجلا وآجلا قالوا معاهدين لئن اشهدنا الله قتالا فلنقاتلن وحلفوا غليظا شديدا لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أصلا فالآن قد تذبذبوا وتضعضعوا وكادوا ان يولوا وَلم يعلموا انه قد كانَ عَهْدُ اللَّهِ الذي قد عهدوا معه سبحانه من قبل مَسْؤُلًا عنه وعن نقضه ووفائه وهم مجزيون بمقتضى ما ظهر منهم من النقض والوفاء قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد تحقق عندك قصد فرارهم وانهزامهم وذبهم عنك لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ ابدا بل إِنْ فَرَرْتُمْ من ضعف يقينكم ووهن اعتقادكم مِنَ الْمَوْتِ حتف الأنف كما يفر عوام الناس من الطاعون والوباء والزلزلة وغير ذلك من الابتلاءات الإلهية أَوِ الْقَتْلِ في يوم الوغاء وَإِذاً يعنى بعد ما تفرون حينئذ لا تُمَتَّعُونَ تمتيعا كثيرا مؤبدا بل ما تمتعون إِلَّا قَلِيلًا في زمان قليل إذ لكل منكم أجل مقدر عنده سبحانه ولكل أجل قضاء وانقضاء ومضاء ولا دوام الا لمن هو متعال عن مطلق الأجل والقضاء والانقضاء منزه عن توهم الابتداء والانتهاء وعن الإعادة والإبداء مقدس عن تعديد الازمنة وتحديد الأمكنة مطلقا وان جادلوا معك يا أكمل الرسل وعاندوا بالفرار والتحصن للنجاة من العدو وإهلاكه بحيث لا تبقى لهم يد علينا قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التبكيت والإلزام مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ اى يحفظكم ويحرزكم مَنْ قهر اللَّهِ المنتقم الغيور وعذابه إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً واصابة بلاء وشدة ومحنة أَوْ من ذا الذي يمنع عنكم لطفه سبحانه ان أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً عطفا ومحبة وَبالجملة لا يَجِدُونَ أولئك المتذبذبون المتضعضعون لَهُمْ اى لأنفسهم

[سورة الأحزاب (33) : آية 18]

مِنْ دُونِ اللَّهِ المراقب عليهم في عموم أحوالهم وَلِيًّا يتولى امور تحصنهم وتحفظهم وَلا نَصِيراً ينصرهم على أعدائهم وبالجملة جميع اعمال العباد وأفعالهم مفوضة الى الله أولا وبالذات مقهورة تحت قدرته الكاملة فلهم ان يفوضوا اليه ليسلموا عن غوائل العناد والإصرار وان اعتذروا بك وتبرؤا عما كانوا وصاروا عليه قل لهم يا أكمل الرسل قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ بحضرة علمه المحيط الحضوري الْمُعَوِّقِينَ المثبطين مِنْكُمْ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المتخلفين عنه في الحروب والمعارك ألا وهم المنافقون وَيعلم ايضا الْقائِلِينَ منكم ايها المنافقون من اهل المدينة لِإِخْوانِهِمْ ممن في قلوبهم مرض من المؤمنين هَلُمَّ إِلَيْنا من المخاوف والمهالك وَبعد ما سمعوا منكم إخوانكم قولكم هذا لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ الحرب والقتال إِلَّا قَلِيلًا اى اتيانا قليلا بل يثبطون ويسوفون ويعتذرون بالأعذار الكاذبة وبالجملة هم اى المنافقون المثبطون ما أتوا ما أتوا الا أَشِحَّةً بخلاء عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون المخلصون بما معكم من المعاونة والنفقة في سبيل الله او خوف الظفر وفوت الغنيمة عنهم او من خوف العاقبة وانما فعلوا ذلك قبل القتال فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ وظهر امارات الوغاء وهاج امواج الفتن والحرب ولمع بروق الفناء وتشعشع صوارم القضاء رَأَيْتَهُمْ ايها الرائي حين يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ من شدة خوفهم وخشيتهم تَدُورُ تتحرك وتضطرب أَعْيُنُهُمْ احداقهم في آماقهم كَالَّذِي يُغْشى يحل ويدور عَلَيْهِ مِنَ امارات الْمَوْتِ وظهر عليه علامات السكرات فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ وزال الرعب والخشية وانهزم العدو واجتمعت الغنائم سَلَقُوكُمْ وجاؤكم متسلقين متسلطين عليكم بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ ذرابة قاطعة باسطين أيديهم الى الغنائم وقت قسمتكم صائحين عليكم قائلين لكم لستم أنتم اولى منا وأحق بهذه الغنائم مع انا قد شهدنا القتال معكم بل نحن لا نقصر وأنتم قاصرون مقصرون فبم ترجحون أنتم علينا وانما سلقوكم بها لكونهم أَشِحَّةً بخلاء عَلَى الْخَيْرِ الذي وصل إليكم من الغنائم العظام وبالجملة أُولئِكَ البعداء الهالكون في تيه النفاق والشقاق لَمْ يُؤْمِنُوا بتوحيد الله ولم يخلصوا الايمان به وبرسوله وكتابه قصدا وعزما بل انما آمنوا واعترفوا باللسان لحقن الدماء والأموال خداعا ومكرا ولذلك قد مكر الله المطلع على نياتهم بهم فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ الصالحة وأبطلها عليهم بلا ترتيب الجزاء والمثوبات الاخروية كما لاعمال المخلصين من المؤمنين وَكانَ ذلِكَ الإحباط والابطال عَلَى اللَّهِ القادر المقتدر بعموم ما ثبت في لوح قضائه يَسِيراً سهلا غير عسير عنده وان استعسرتم ايها المحجوبون بالحجب الظلمانية الكثيفة ومن كمال غيهم وضلالهم ونهاية جبنهم ورعبهم من الأحزاب يَحْسَبُونَ ان الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا فكيف ان ينهزموا مع انهم قد ذهبوا منهزمين بحيث لم يبق منهم احد وَهم مع كمال محبتهم ومودتهم مع الأحزاب إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ ويكروا بعد الفرار يَوَدُّوا يعنى هؤلاء المنافقون يودون إتيانهم بحيث تمنوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ ظاهرون فِي البدو خلال الْأَعْرابِ الأحزاب اى بينهم خارجون من بين اظهر المسلمين لاحقون بالكفرة معدودون منهم يَسْئَلُونَ كل قادم من قبلكم عَنْ أَنْبائِكُمْ وأخباركم وما جرى عليكم ايها المؤمنون من الوقائع الهائلة والمصيبات المهولة وَمن كمال ودادتهم مع الكفرة لَوْ فرض انهم كانُوا فِيكُمْ وقت كر الكفرة عليكم ما قاتَلُوا اى المنافقون من قبلكم مع أعداءكم إِلَّا قَلِيلًا منهم وهو ايضا على سبيل الرياء والسمعة وبمقتضى ما زعموا من جلب النفع

[سورة الأحزاب (33) : آية 21]

او دفع الضر لا لرضاء الله وإعلاء دينه ونصرة نبيه. ثم قال سبحانه تحريكا لحمية المؤمنين لَقَدْ كانَ لَكُمْ ايها المؤمنون المخلصون الطالبون المتخلقون بأخلاق الله تعالى الهاربون عن اخلاق عدوه فِي رَسُولِ اللَّهِ المبعوث لإرشادكم وهدايتكم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وخصلة حميدة بديعة يجب لكم التأسى والاتصاف بها لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ اى لقاءه ومطالعة وجهه الكريم وَيرجو ايضا الْيَوْمَ الْآخِرَ الموعود فيه هذه الكرامة العظيمة وَبواسطة هذا الرجاء وغلبة هذه الامنية العظيمة في خاطره قد ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً في عموم الأحيان والاحياز لتلذذه بذكره سبحانه حتى ينال ما وعد من الفوز بشرف اللقاء والبقاء ومن كان شأنه كذلك وهمه هكذا فهو مؤتس الى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم في تلك الخصلة المحمودة والديدنة المسعودة المقبولة عند الله التي هي الرضا بجميع ما جرى عليه من القضاء ومن علاماتها الثبات على العزيمة وتحمل الشدائد ومقاساة الأحزان وارتكاب المتاعب والمشاق في إعلاء دين الله وافشاء كلمة توحيده والتوكل نحوه في السراء والضراء وكظم الغيظ عند هجوم الغضب والعناء والعفو عند القدرة عن الأعداء وغير ذلك من الخصلة الحميدة والأخلاق الجميلة المرضية وَمن شدة تأثير هذه الخصائل الجميلة في قلوب المؤمنين لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ المخلصون الْأَحْزابَ حواليهم قالُوا متذكرين لوعد الله متثبتين على دينه متشمرين لإعلاء كلمة توحيده هذا الوقت وقت انجاز ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من النصر والغلبة على الأعداء والفوز بأنواع الغنائم والعطاء آجلا وعاجلا بقوله سبحانه أم حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم الآية. وقوله عليه السلام سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم والعاقبة لكم عليهم وقوله صلّى الله عليه وسلّم انهم سائرون إليكم بعد تسع او عشر وَقد صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ في جميع ما جاءنا من قبل الله وقبل رسوله من الوعد والوعيد وانواع النعم والعطاء والمحن والبلاء وَمن كمال تثبتهم وتفويضهم على الله وتوكلهم نحوه ما زادَهُمْ إلمام الخطوب وحدوث الوقائع وحلول المحن والبليات إِلَّا إِيماناً بالله وبكمال قدرته وعلمه وارادته وسائر صفاته الذاتية والفعلية وَتَسْلِيماً لعموم ما جرى عليهم من صولجان قضائه بلا تلعثم وتذبذب في ايمانهم واعتقادهم ومن غاية خلوصهم في ايمانهم وتسليمهم مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المشمرين لإعلاء دين الله ونصرة رسوله على العزيمة الكاملة الصادقة رِجالٌ ابطال كاملون في الإخلاص والشجاعة والوفاء قد صَدَقُوا في جميع ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وانجزوا جميع مواثيقهم ووفوا عموم عهودهم التي قد عهدوا مع الله ورسوله من الثبات على العزيمة والتصبر في المعركة وعدم التزلزل من المحل الذي قد عين لهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في صف القتال وبالجملة لم يجبنوا ولم يضعفوا أصلا فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ووفى نذره بان قاتل مع اعداء الله بمقتضى ما قد عهد ونذر حتى استشهد ووصل الى مرامه ومبتغاه كحمزة ومصعب بن عمير وانس بن النضر رضوان الله عليهم أجمعين وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة كعثمان وطلحة فقاتلوا مع الأعداء وقتلوهم ونجوا منهم سالمين منتظرين الى قتال آخر ليستشهدوا فيه وَمن كمال تمكنهم وتثبتهم في يقينهم وإخلاصهم في ايمانهم ما بَدَّلُوا وما غيروا من النذور والعهود المنذورة المعهودة التي قد أتوا بها عازمين عليها جازمين ولا اضمروا ايضا في أنفسهم كالمنافقين تَبْدِيلًا وتغييرا قليلا نذرا يسيرا من التبديل والنقض فكيف بالعظيم الكثير بل قد زادوا عليها وأكدوها كل ذلك

[سورة الأحزاب (33) : آية 24]

لِيَجْزِيَ اللَّهُ المجازى لاعمال عباده الصَّادِقِينَ المخلصين منهم بِصِدْقِهِمْ وبمقتضى وفائهم وايفائهم جزاء حسنا يناسب صدقهم وإخلاصهم او بواسطة صدقهم وإخلاصهم وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ منهم ويجازيهم حسب كفرهم ونفاقهم تعذيبا مخلدا مؤبدا إِنْ شاءَ سبحانه وتعلق ارادته ومشيته بتخليدهم في العذاب أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ويوفقهم على الايمان والإخلاص ان تعلق ارادته بانقاذهم من العذاب الأبدي إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على عموم ما أحاط به تحت علمه وقدرته كانَ غَفُوراً ساتر الذنوب ممن وفقهم على التوبة من عصاة عباده رَحِيماً يقبل توبتهم ويرحم عليهم بعد ما أخلصوا فيها وَمن غاية لطف الله على المؤمنين ووفور رحمته وإحسانه عليهم رَدَّ اللَّهُ عنهم كيد أعدائهم الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى الأحزاب المزدحمين حواليهم المتفقين على مقتهم بِغَيْظِهِمْ يعنى مع شدة غيظهم وشكيمتهم في مقت المؤمنين ووفور تهورهم وجرأتهم عليه لذلك طردهم سبحانه خائبين خاسرين بحيث لَمْ يَنالُوا خَيْراً مما أملوا في نفوسهم من الظفر على المؤمنين واستئصالهم وَمن كمال رأفته سبحانه على المؤمنين قد كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ اى أسقط وكف مؤنة قتالهم مع الأحزاب بريح الصبا وجنود الملائكة بحيث لم يقدم احد من المؤمنين لقتالهم فانهزموا الى حيث لم يلتفت احد منهم خلفه ولم يعاون أخاه وَليس ببدع من الله أمثال هذه الكرامات سيما لأنبيائه وأوليائه إذ قد كانَ اللَّهُ المراقب لأحوال عباده قَوِيًّا قديرا في نفسه يقوى أولياءه عَزِيزاً غالبا ينصرهم ويغلبهم على أعدائهم فضلا لهم وكرامة عليهم وَبعد ما قد كفى الله المؤمنين مؤنة الأحزاب أراد ان يكفيهم مؤنة معاونيهم ايضا لذلك قد أَنْزَلَ سبحانه الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ وعاونوهم اى الأحزاب مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعنى يهود قريظة والنضير مِنْ صَياصِيهِمْ اى حصونهم وقلاعهم جمع صئصئة وهي ما يتحصن به من الجبل وغيره وذلك بعد ما انهزم الأحزاب ورجعوا خائبين خاسرين الى بلادهم ورجع صلّى الله عليه وسلّم الى المدينة مع أصحابه وشرع يغسل رأسه والأصحاب قد انتزعوا عن أسلحتهم فجاءه جبرائيل صلّى الله عليه وسلّم معتجرا بعمامة من إستبرق والنقع على ثناياه وعلى فرسه الذي اسمه حيزوم وقال قد وضعتم أنتم السلاح ان الملائكة لم تضع أسلحتها منذ أربعين ليلة ان الله يأمرك بالمسير الى قريظة وانى نزلزل حصونهم وكان صلّى الله عليه وسلّم قد غسل نصف رأسه فعصبه واذن بالرحيل فقال من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر الا في بنى قريظة واعطى رايته عليا كرم الله وجهه فسار بالناس حتى دنى من الحصن فحاصرهم عليه السلام احدى وعشرين او خمسا وعشرين ليلة وأجهدهم الحصار وضعفوا وَقد قَذَفَ الله والقى فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ والخوف مع كونهم متحصنين فأرسل عليه السلام عليهم فقال لهم أتنزلون بحكمي فأبوا فقال على حكم سعد بن معاذ فرضوا بحكمه فنزلوا فحكم سعد بقتل مقاتليهم وسبى ذراريهم ونسائهم فكبر النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لقد حكمت بحكم الله يا سعد من فوق سبعة ارقعة فقتل منهم ستمائة او اكثر وأسر منهم سبعمائة كما قال سبحانه فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَبعد ما استأصلوا بالأسر والقتل قد أَوْرَثَكُمْ الله سبحانه إليكم ايها المؤمنون أَرْضَهُمْ مزارعهم وَدِيارَهُمْ التي يسكنون فيها مع ما فيها من الامتعة والرخوة وَأَمْوالَهُمْ مواشيهم ونقودهم وتجاراتهم تفضلا عليكم وامتنانا وَكذا قد يتفضل عليكم سبحانه ويورثكم أَرْضاً كثيرة لَمْ تَطَؤُها قط ولم تتحركوا عليها بل لم تبصروها ولم

[سورة الأحزاب (33) : آية 28]

تسيروا إليها وهي خيبر او مكة او فارس او الروم او كل ارض يفتح الله الى يوم القيامة وَلا تتعجبوا من كمال فضل الله وسعة جوده من أمثال هذه الكرامات إذ كانَ اللَّهُ المتعزز بالقدرة الكاملة والقوة التامة الشاملة عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته قَدِيراً لا يعسر عنده مقدور دون مقدور بل الكل في جنب قدرته على السواء فارجع البصر هل ترى من فطور في مقدور حكيم قدير ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير. ثم لما اشتكت ازواج النبي صلّى الله عليه وسلّم من العسرة في المأكل والملبس وسألن منه ثياب الزينة والزيادة في النفقة والسعة في المعيشة وليس معه صلّى الله عليه وسلّم من حطام الدنيا ما يكفى مؤنتهن على هذا الوجه اغتم صلّى الله عليه وسلّم وتحزن حزنا شديدا فقال تعالى مناديا له يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المفتخر المباهي بالفقر والفاقة قُلْ لِأَزْواجِكَ حين سألن عنك اسباب التنعم والترفه وسعة العيش على وجه التخيير إِنْ كُنْتُنَّ أيتها الحرائر العفائف تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها مطاعمها الشهية وملابسها البهية فَتَعالَيْنَ وتراضين أنتن أُمَتِّعْكُنَّ انا واعطكن المتعة حسب ما ترضين وَأُسَرِّحْكُنَّ وأطلقكن بعد اعطائها سَراحاً جَمِيلًا طلاقا رجعيا سنيا لا بدعيا بلا ضرر وإضرار وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اى رضاء الله ورسوله وَتطلبن الدَّارَ الْآخِرَةَ والمثوبات المعدة فيها والجنات المعهودة دونها فعليكن ان تصبرن عن لذائذ الدنيا ومشتهياتها وسعة مطعوماتها ولين ملبوساتها حتى تكن من زمرة المحسنات اللاتي تحسن في توجههن نحو الحق واللذة الاخروية مائلات عن امتعة الدنيا وعن عموم لذاتها وشهواتها معرضات عنها وعن أطعمتها وألبستها بالمرة سوى سد جوعة وستر عورة فَإِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده قد أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ المرجحات جانب الله وجانب رسوله على مقتضيات اهوية نفوسهم واللذات الاخروية على لذات الدنيا وما فيها من اللذائذ والزخارف مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً يستحقر دونها الدنيا وما فيها من اللذات الفانية والشهوات الغير الباقية. ثم لما نبه سبحانه عليهن طريق الإحسان وعلمهن سبيل الفوز الى درجات الجنان أراد ان يجنبهن ويبعدهن عن دركات النيران فقال مناديا عليهن ليقبلن الى قبول ما يتلى عليهن يا نِساءَ النَّبِيِّ قد اضافهن سبحانه إياه صلّى الله عليه وسلّم للتعظيم والتوقير من شأنكن التحصن والتحفظ عن مطلق الفحشاء والتحرز عن عموم المحارم والمكاره مطلقا واعلمن مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ وفعلة قبيحة وخصلة ذميمة عقلا وشرعا سيما مُبَيِّنَةٍ بينة ظاهر فحشها بنفسها او ظاهر واضح قبحها شرعا وعرفا على كلتا القرائتين يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ يعنى عذابكن ضعف عذاب سائر الحرائر لا أزيد فيها حتى لا يؤدى الظلم المنافى للعدالة الإلهية كما يضاعف عذاب سائر الحرائر بالنسبة الى الإماء وَكانَ ذلِكَ التضعيف والتشديد عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ليعذبكن البتة ان تأت إحداكن بها وَمَنْ يَقْنُتْ ويطع على وجه الخضوع والخشوع مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ويداوم على إطاعتهما وانقيادهما بإتيان الواجبات وبترك المحظورات وعموم المنكرات والمكروهات وَتَعْمَلْ عملا صالِحاً من النوافل والمندوبات نُؤْتِها أَجْرَها وجزاء أعمالها وطاعاتها في يوم الجزاء مَرَّتَيْنِ مرة على مقابلة الأعمال المأتى بها وبمقتضى الطاعات المرضى عنها ومرة على ترجيحها رضى الله ورضى رسوله على مشتهيات نفسها وأمانيها وَمع ذلك التضعيف قد أَعْتَدْنا لَها وهيأنا لأجلها تفضلا منا إياها وامتنانا عليها وراء ما استحقت بالأعمال والطاعات رِزْقاً كَرِيماً صوريا في الجنة مما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ومعنويا

[سورة الأحزاب (33) : آية 32]

من الحالات الطارئة عليها عند استغراقها بمطالعة جمال الله وجلاله ثم ناداهن سبحانه تعظيما لهن وتنبيها عليهن فقال يا نِساءَ النَّبِيِّ الأفضل الأكمل من عموم الأنبياء والرسل كما انه صلّى الله عليه وسلّم ليس في الكرامة والنجابة كآحاد الناس بل ليس كآحاد الأنبياء والرسل كذلك لَسْتُنَّ أنتن ايضا لنسبتكن اليه صلّى الله عليه وسلم كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ وواحدة منهن إذ فضيلته صلّى الله عليه وسلّم قد سرت إليكن فعليكن ان لا تغفلن عنها ولا تذهلن عن مقتضاها ورعاية حقوقها بل من شأنكن التحصن والتقوى والتحرز مطلقا عن ملهيات الهوى فلكن إِنِ اتَّقَيْتُنَّ يعنى ان تردن ان تتصفن بالتقوى عن محارم الله وعن مقتضيات الهوى فَلا تَخْضَعْنَ ولا تلن ولا تلطفن بِالْقَوْلِ والتكلم وقت احتياجكن الى المكالمة مع آحاد الرجال من الأجانب ولا تجبن عن سؤالهم هينات لينات مريبات مثل تكلم النساء المريدات لانواع الفتن والفسادات مع المفسدين من الرجال فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وميل الى الفجور إليكن بعد ما سمع منكن تلينكن في قولكن وَبالجملة قُلْنَ بعد ما تحتجن الى التكلم معهم عن ضرورة قَوْلًا مَعْرُوفاً مستحسنا عقلا وشرعا بعيدا عن الريبة المثيرة للطمع خاليا عن وصمة الملاينة المحركة للشهوات وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ يعنى يا نساء النبي من شأنكن التقرر والتخلي في البيوت بلا تبرز الى الملأ بلا ضرورة رعاية لمرتبتكن التي هي أعلى من مراتب سائر النساء وَان تحتجن الى التبرز والخروج أحيانا عليكن انه لا تَبَرَّجْنَ ولا تبخترن في مشيكن مظهرات زينتكن مهيجات لشهوات المناظرين تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى مثل تبختر النساء المثيرات لشهوات الرجال في الجاهلية القديمة التي هي جاهلية الكفر والجاهلية الاخرى جاهلية الفسوق والعصيان في الإسلام خض سبحانه الاولى بالذكر وان كانت كلتاهما مذمومتين محظورتين شرعا لأنها افحش وأقبح واظهر فسادا لان النساء فيها يتزين بأنواع الزينة ويظهرن على الرجال بلا تستر واستحياء بل بملاينة تامة وملاطفة كاملة على سبيل الغنج والدلال وانواع الحركات المطمعة للرجال وَبالجملة من حقكن واللائق بشأنكن يا نساء النبي الاجتناب عن مطلق المنكرات والاشتغال بالطاعات والأعمال الصالحات سيما المواظبة على الصلوات النوافل والمفروضات أَقِمْنَ الصَّلاةَ المفروضة المقربة لكن الى الله على الوجه الذي علمتن من النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وَآتِينَ الزَّكاةَ المطهرة لانفسكن عن الشح المطاع وانواع الأمراض العضال المتولدة من حب الدنيا وأمانيها ان بلغ اموالكن النصاب المقدر في الشرع وَبالجملة أَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ اطاعة مقارنة بكمال الخشوع والخضوع والتذلل التام بالعزيمة الصيحة الخالية عن شوب الرياء والرعونات مطلقا في جميع ما امرتن بها ونهيتن عنها وبالجملة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ المراقب المصلح لأحوال عباده الخلص بإتيان أمثال هذه المواعظ والتذكيرات البليغة والتنبيهات العجيبة البديعة لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ويزيل عنكم القذر المستقبح المستهجن عقلا وشرعا بالمرة يا أَهْلَ الْبَيْتِ المجبولين على كمال الكرامة والنجابة والعصمة والعفاف وَيُطَهِّرَكُمْ عن ادناس الطبيعة وإكدار الهيولى المانعة عن الصفاء والنقاء الجبلي الذاتي تَطْهِيراً بليغا وتنظيفا لطيفا متناهيا بحيث لا يبقى فيكم شائبة شين ووصمة عيب ونقصان أصلا. ذكر الضمير لان النبي وعليا وابنيه صلّى الله عليه وعليهم فيهم فغلب هؤلاء الذكور الأشراف السادة على فاطمة وازواج النبي رضوان الله عليهن وَبعد ما قد سمعتن يا نساء النبي ما يليق وينبغي بشأنكن اذْكُرْنَ في عموم الأوقات والحالات ما يُتْلى عليكن لإصلاح احوالكن وتكميلكن في الدين

[سورة الأحزاب (33) : آية 35]

فِي بُيُوتِكُنَّ غير مخرجات لطلبه إذ بيوتكن مهبط الوحى ومحل نزول الآيات المنزلة فلكن ان تلازمن خدمة النبي صلّى الله عليه وسلّم وتشاهدن عليه صلّى الله عليه وسلّم من برحاء الوحى الموجب لقوة الايمان وكمال اليقين والعرفان فليس لكن ان تخرجن من بيوتكن وتتعبن انفسكن في طلب ما يتلى مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على وحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته وَالْحِكْمَةِ المتقنة الدالة على متانة فعله ووثاقة تدبيره إِنَّ اللَّهَ المطلع لعموم السرائر والخفايا كانَ لَطِيفاً يعلم دقائق ما في ضمائر عباده ورقائقه خَبِيراً ذو خبرة تامة كاملة على سوانح صدورهم وخواطر قلوبهم فعليهم ان يخلصوا الله جميع ما أتوا به ويجتنبوا عن مطلق التهاون والتواني في امتثال الأوامر والنواهي الإلهية وينقادوا له ويسلموا اليه مفوضين أمورهم كلها إِنَّ الْمُسْلِمِينَ المسلمين المخلصين المفوضين وَالْمُسْلِماتِ المفوضات المخلصات وَالْمُؤْمِنِينَ الموقنين الموحدين وَالْمُؤْمِناتِ الموقنات الموحدات وَالْقانِتِينَ الخاضعين المتذللين مع الله في عموم الطاعات والعبادات بل في جميع الحالات وَالْقانِتاتِ الخاضعات الخاشعات وَالصَّادِقِينَ في جميع الأقوال المخلصين في عموم الأعمال وَالصَّادِقاتِ كذلك وَالصَّابِرِينَ في البأساء والضراء بجميع ما جرى عليهم من سلطان القضاء وَالصَّابِراتِ ايضا كذلك وَالْخاشِعِينَ المتواضعين المتضرعين نحو الحق بجوانحهم وجوارحهم وَالْخاشِعاتِ ايضا كذلك وَالْمُتَصَدِّقِينَ بما عندهم من فواضل الصدقات طلبا لمرضاة الله وهربا عن مساخطه وَالْمُتَصَدِّقاتِ ايضا كذلك وَالصَّائِمِينَ الممسكين الحافظين نفوسهم مطلقا عما لا يرضى عنه سبحانه وَالصَّائِماتِ الممسكات انفسهن كذلك وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ عن امارات الزنا ومقدمات السفاح مطلقا وَالْحافِظاتِ ايضا كذلك وَالذَّاكِرِينَ المشتغلين بذكر الله باللسان والجنان وعموم الجوارح والأركان المتذكرين اللَّهَ باسمه الجامع الشامل لجميع الأسماء والصفات لا على سبيل التعديد والإحصاء ولا في حين دون حين بل كَثِيراً مستوعبا لعموم الأحيان والأزمان والأمكنة والاحياز وفي جميع الأوقات وعموم الحالات والآنات وَالذَّاكِراتِ ايضا كذلك قد أَعَدَّ اللَّهُ المصلح لأحوالهم المطلع على عموم ما قد جرى في ظواهرهم وبواطنهم من الإخلاص على وجه التذلل والانكسار وهيأ لَهُمْ اى لهؤلاء المتصفين بالصفات المرضية المذكورة والأخلاق المحمودة المقبولة عند الله مَغْفِرَةً سترا وعفوا لما صدر عنهم من الصغائر هفوة ومن الكبائر ايضا بعد ما تابوا وأنابوا عنها وأخلصوا فيها على وجه الندم وَأَجْراً جزيلا جميلا لصالحات أعمالهم عَظِيماً بأضعاف ما استحقوا بحسناتهم تفضلا عليهم وامتنانا. ثم لما أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ان يزوج بنت عمته التي هي اميمة بنت عبد المطلب المسماة بزينب بنت جحش لزيد بن الحارث الذي هو مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعيّه وعتيقه فأبت هي وأمها اميمة وأخوها عبد الله بن جحش فاعرضوا عن تزويجها اليه لئلا يلحق العار عليهم من تزويج الشريفة بالمولى فنزلت وَما كانَ يعنى ما صح وما جاز لِمُؤْمِنٍ اى لواحد من المؤمنين وَلا مُؤْمِنَةٍ واحدة من المؤمنات بعد ما أخلصوا الايمان بالله ورسوله ان يتخلفوا عن حكمهما أصلا سيما إِذا قَضَى اللَّهُ الحكيم المتقن في أفعاله وَقد نفذ ايضا رَسُولُهُ أَمْراً من الأمور المقضية وحكما من الاحكام المحكومة المبرمة أَنْ يَكُونَ اى يثبت ويبقى لَهُمُ الْخِيَرَةُ والاختيار والترجيح بان يختاروا مِنْ أَمْرِهِمْ المحكوم به والمقضى عليه شيأ يخالف الحكم

[سورة الأحزاب (33) : آية 37]

الواقع منهما او يوافقه بل لهم ان يطيعوا وينقادوا لحكم رسول الله الذي هو حكم الله حقيقة وَبالجملة مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سيما بتغيير ما قد حكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلم وادعاء الخيرة والاختيار في المأمور به من قبله صلّى الله عليه وسلم فَقَدْ ضَلَّ به عن طريق الهداية ضَلالًا مُبِيناً وانحرف عن منهج الصواب والرشد انحرافا عظيما وبعد ما قد نزلت الآية رضيت زينب وأمها وأخوها فخطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على زيد ومضى عليها زمان الى ان جاء صلّى الله عليه وسلّم يوما من الأيام الى بيت زيد وليس هو في بيته فرأى زينب فأعجبته فقال صلّى الله تعالى عليه وسلّم متعجبا سبحان الله مقلب القلوب فسمعتها زينب وانصرف صلّى الله عليه وسلّم فلم جاء زيد أخبرته زينب بمجيئه صلّى الله عليه وسلّم وتسبيحه هكذا فالفى زيد في نفسه كراهتها فاتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أريد ان اطلق صاحبتي فقال صلّى الله عليه وسلّم أرى بك منها شيء قال والله ما رأيت منها الا خيرا ولكنها قد تترفع على بمقتضى شرافتها ونسبها وَبعد ما قد سمعت يا أكمل الرسل من زيد ما سمعت اذكر وقت إِذْ تَقُولُ أنت لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ إذ قد وفقه للايمان وقبول الإسلام وشرفه بشرف صحبتك يعنى زيدا وَقد أَنْعَمْتَ ايضا عَلَيْهِ حيث أعتقته ودعوته وزوجته أَمْسِكْ يا زيد عَلَيْكَ زَوْجَكَ بعد ما لم ير بك منها شيء وَاتَّقِ اللَّهَ المنتقم الغيور واحذر عن بطشه بطلاق العفيفة والمفارقة منها بلا وصمة عيب ظهرت عنها وسمة نقص لاحت منها وَالحال انه أنت يا أكمل الرسل حينئذ تُخْفِي وتضمر فِي نَفْسِكَ حين قولك لزيد هكذا مَا اللَّهُ المطلع لما في القلوب العليم بما في الصدور مُبْدِيهِ يعنى شيأ وامرا هو سبحانه مظهره ومعلنه وهو ميلك الى زينب ونكاحها وارادتك بطلاق زيد وافتراقه عنها وَما سبب اخفائك هذا وإظهارك ضد مطلوبك الا انك تَخْشَى النَّاسَ من ان يعيروك بمناكحة زوجة عتيقك ودعيّك ويرموك بما لا يليق بشأنك مع انك برئ عنه وَاللَّهُ المطلع على عموم ما ظهر وبطن أَحَقُّ واولى من أَنْ تَخْشاهُ أنت وتستحي منه وتخاف إذ سبحانه غيور ينتقم عمن يشاء ويأخذه على ما يشاء بالإرادة والاختيار وما هذه الآية الا عتاب شديد وتأديب بليغ قالت عائشة لو كتم النبي شيأ مما انزل اليه لكتم هذه الآية البتة وبالجملة قد طلقها زيد ومضت عليها العدة قال صلّى الله عليه وسلم لزيد اذهب فاذكرها على فذهب زيد فقال يا زينب ان نبي الله أرسلني إليك بذكرك قالت ما انا بصانعة شيأ حتى اومر من ربي وقامت الى الصلاة فنزلت فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها اى من زينب وَطَراً ومصاحبته وطلقها باينا ومضت عدتها قد زَوَّجْناكَها يعنى زوجناك يا أكمل الرسل زينب بلا نصب ولى من الجانبين على الرسم المعهود في الشرع بل قد أبحنا لك الدخول عليها بلا عقد معروف وصيرناها زوجتك بلا مهر وعقر لذلك قد كانت تباهي على سائر النساء قائلة ان الله قد تولى نكاحي وأنتن زوجكن اولياؤكن فدخل صلّى الله عليه وسلّم عليها بلا اذن ولا عقد نكاح ولا صداق ولا شهود واطعم الناس خبزا ولحما. ثم قال سبحانه لِكَيْ لا يَكُونَ يعنى قد فعلنا ذلك كذلك لكيلا يكون عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ وضيق واثم فِي تزوج أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ الذين تبنوهم وسموهم أبناء محبة وولاء إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً يعنى بعد ما طلقوهن وسرحوهن سراحا جميلا وَبالجملة قد كانَ أَمْرُ اللَّهِ وحكمه المبرم المثبت في لوح قضائه مَفْعُولًا مقضيا نافذا كائنا على تعاقب الأحيان والأزمان. ثم قال سبحانه تسلية لنبيه وحطا

[سورة الأحزاب (33) : آية 38]

عنه صلّى الله عليه وسلّم العار سيما في أمثال هذه الأفعال الكائنة في قضاء الله المقضية في حضرة علمه المحيط ما كانَ اى ما لحق وما عرض عَلَى النَّبِيِّ المؤيد من عند الله بأنواع التأييدات المنتظر على الوحى والإلهام في ما عنده سبحانه في عموم أحواله واعماله مِنْ حَرَجٍ ضيق واثم وسآمة ووخامة عاقبة فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ صلّى الله عليه وسلّم وما قدر لأجله وما كتب واثبت في لوح قضائه وحضرة علمه المحيط من مطلق الحوادث الكائنة الجارية عليه على تعاقب الأزمان والأوقات أصلا ومن جملتها هذا النكاح وبالجملة ليس أمثال هذا ببدع من الله مخصوص بهذا النبي بل سُنَّةَ اللَّهِ الحكيم العليم المتقن في أفعاله المستمرة القديمة التي قد سنها سبحانه فِي الَّذِينَ خَلَوْا ومضوا مِنْ قَبْلُ من الأنبياء والرسل بان لا حرج ولا جريمة لهم أصلا فيما صدر عنهم من أمثاله وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ المثبت في لوح قضائه وحكمه المبرم المحكوم به في حضرة علمه المحيط قَدَراً مَقْدُوراً حتما مقضيا مبرما محكوما به البتة وكيف لا يقضى ولا يحكم بالسنن المقدرة للأنبياء والرسل وهم الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ المحمولة عليهم من قبل الله بوحي الله والهامه الى من أرسلوا إليهم من الأمم بلا تبديل ولا تغيير وَيَخْشَوْنَهُ وهم يخافون عنه سبحانه في عموم أحوالهم وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ يعنى من ديدنة الأنبياء العظام والرسل الكرام ومن خصلتهم الحميدة ان لا يخافوا من الناس ولا يستحيوا منهم لا من لوم لائم ولا من تعييره وتهديده بالقتل والضرب وغير ذلك بل ما يخافون ولا يخشون الا الله المنتقم الغيور المقتدر على انواع العذاب والعقاب وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً ظهيرا ومعينا لهم يكفى مؤنة أعدائهم ويدفع عنهم شرورهم ويكف عنهم جميع ما قصدوا عليهم من المقت والمكر وانواع الأذى والضرر. ثم لما عير الناس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بانه قد تزوج زوجة ابنه ودعيّه وهو زيد رد الله عليهم تعييرهم هذا وتشنيعهم هكذا فقال ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ايها الأجانب من المؤمنين على الحقيقة سواء كان زيدا او غيره حتى تسرى حكم الحرمة في تزوج زوجته بعد ما قضى الوطر عنها وَلكِنْ كان صلّى الله عليه وسلم رَسُولَ اللَّهِ الهادي لعباده قد أرسله سبحانه إليكم ليهديكم الى طريق الرشد بمقتضى سنته المستمرة في الأمم السالفة وَلكن من شأنه انه قد صار صلّى الله عليه وسلم خاتَمَ النَّبِيِّينَ وختم المرسلين إذ ببعثته صلّى الله عليه وسلّم قد كملت دائرة النبوة وتمت جريدة الرسالة والفتوة كما قال صلّى الله عليه وسلّم بعثت لأتمم مكارم الأخلاق وقال تعالى في شأنه صلّى الله عليه وسلّم اليوم أكملت لكم دينكم يعنى ببعثته صلّى الله عليه وسلّم والسرفيه والله اعلم انه صلّى الله عليه وسلّم قد بعث على محض التوحيد الذاتي وسائر الأنبياء انما بعثوا على التوحيد الوصفي او الفعلى وبعد ما بعث صلّى الله عليه وسلّم على توحيد الذات فقد ختم به امر البعثة والرسالة وكمل قصر الدين القويم إذ ليس وراء توحيد الذات مرمى ومنتهى لذلك قد صار صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين وختم المرسلين وَكانَ اللَّهُ المطلع على جميع ما ظهر وما بطن بِكُلِّ شَيْءٍ وامر قد جرى في ملكه وملكوته وسيجرى عَلِيماً يعلم بعلمه المحيط الحضوري عموم ما قد لمع عليه نور وجوده حسب لطفه وجوده حكيما في بعثة الرسل لتنبيه من وفقه وجبله في سابق قضائه على فطرة التوحيد والايمان مختارا في ختم البعثة وتكميل الدين بعد ما قد وصل غاية كماله وظهوره يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وعرفوه حق معرفته وتوحيده وعرفوا ايضا كمالات أسمائه وصفاته مقتضى ايمانكم وعرفانكم المداومة على ذكره سبحانه اذْكُرُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد

[سورة الأحزاب (33) : آية 42]

الصمد المتصف بجميع أوصاف الكمال المستجمع لعموم الأسماء الحسنى التي لا تعد ولا تحصى ذِكْراً كَثِيراً مستوعبا بجميع أوقاتكم وحالاتكم وازمانكم وآناتكم وبالغوا في ذكره كي تصلوا من اليقين العلمي الى العيني وَسَبِّحُوهُ ونزهوه عن جميع ما لا يليق بشأنه من لوازم الحدوث وأوصاف الإمكان بُكْرَةً وَأَصِيلًا اى في جميع آنات أيامكم ولياليكم طالبين الترقي من اليقين العيني الى الحقي وكيف لا تذكرون الله ولا تسبحون له ايها المؤمنون مع ان شكر المنعم المفضل واجب عقلا وشرعا هُوَ الَّذِي سبحانه يُصَلِّي ويرحم عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون بذاته وبمقتضيات أسمائه وصفاته وَمَلائِكَتُهُ يستغفرون لكم باذنه وانما يفعل بكم سبحانه هذه الكرامة العظيمة لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ ظلمة العدم الأصلي وظلمة الطبيعة والهيولى وظلمة الحجب التعينية إِلَى النُّورِ اى نور الوجود البحت الخالص عن ظلمات التعينات والكثرات مطلقا وَكانَ سبحانه بِالْمُؤْمِنِينَ الموفقين على التوحيد الذاتي رَحِيماً يوفقهم على الايمان حسب رحمته الواسعة ثم يوصلهم الى رتبة التوحيد والعرفان مرقيا من مضيق الإمكان الى سعة فضاء الوجوب عناية لهم وتفضلا عليهم ثم يشرفهم بشرف لقائه بلا كيف ولا اين ولا وضع ولا اضافة محاذات ومقابلة بعد ما انخلعوا عن جلباب الناسوت وتشرفوا بخلعة اللاهوت تَحِيَّتُهُمْ وترحيبهم من قبل الحق يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سبحانه سَلامٌ تسليم وتطهير عن رذائل التعينات ونقائص الأنانيات والهويات المستتبعة لانواع الضلالات والجهالات وَأَعَدَّ لَهُمْ سبحانه نزلا عليهم أَجْراً كَرِيماً وجزاء عظيما مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ثم قال سبحانه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد المختص بأنواع الفضائل والكمالات واصناف الكرامات والمعجزات إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَرْسَلْناكَ الى كافة البرايا وعامة العباد شاهِداً تشهد لهم الحقائق وتحضرهم المعارف وتوصلهم بالتنبيهات الواضحة الى مرتبة الكشف والشهود لكون اصل جبلتهم وفطرتهم مجبولا من لدنا عليها وَمُبَشِّراً تبشرهم بالتوحيد المسقط لعموم الإضافات المستتبعة لانواع الكثرات المشوشة لنفوسهم وقلوبهم وَنَذِيراً تنذرهم عن مقتضيات القوى البهيمية من الشهوية والغضبية الموروثة لهم من عالم الناسوت الجالبة لانواع الخذلان والحرمان وَداعِياً تدعوهم إِلَى توحيد اللَّهِ المنزه عن مطلق التحديد والتعديد دعوة مسبوقة بِإِذْنِهِ سبحانه وبمقتضى توفيقه ووحيه والهامه وَبالجملة قد أرسلناك يا أكمل الرسل الى عموم العباد سِراجاً مُنِيراً تضيء لهم أنت بدعوتك وارشادك وهم يستضيئون منك بتوفيقنا إياهم في ظلمات الضلالات ومهاوي الجهالات المتراكمة من الحجب الظلمانية والكثافات الهيولانية المتولدة من ظلمات الأوهام والخيالات الباطلة الطبيعية الباقية فيهم من ظلمة العدم وَبعد ما سمعت يا أكمل الرسل سبب بعثتك وسره بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بتوحيد الله المترقين من اليقين العلمي الى العيني الطالبين الوصول الى اليقين الحقي بِأَنَّ لَهُمْ اى قد حق وثبت لهم مِنَ عناية اللَّهِ إياهم فَضْلًا كَبِيراً لا فضل اكبر منه واشرف ألا وهو الفوز بشرف اللقاء والرضاء بعموم ما جرى عليهم من القضاء وَبعد ما سمعت وظيفتك مع المؤمنين المسترشدين منك يا أكمل الرسل الطالبين هدايتك وارشادك إياهم وشرف صحبتك معهم لا تُطِعِ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والعناد المجاهرين به وَالْمُنافِقِينَ الذين يخفون كفرهم وضلالهم عنك لمصلحة دنيوية ويظهرون عندك خلاف ما في نفوسهم ولا تجلس معهم ولا تصاحبهم أصلا وَان آذوك في مرورك عنهم وملاقاتك معهم بغتة دَعْ

[سورة الأحزاب (33) : آية 49]

أَذاهُمْ واتركهم ومنازعتهم ولا تلتفت ايضا الى الانتقام عنهم واصبر على بغضهم فان صبرك يقتلهم عن الغيظ ويطفئ لهب غضبهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ المراقب لك في عموم احوالك لدفع شرورهم وثق اليه سبحانه وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حسيبا كافيا يكفى عنك مؤنة أعدائك ويكف أذاهم عناية لك واهتماما بشأنك. ثم لما أشار سبحانه الى ما قد أباح على نبيه صلّى الله عليه وسلّم بلا حرج أراد ان يشير الى ما أباح سبحانه على عموم المؤمنين بلا حرج لهم فيه وضيق فقال سبحانه مناديا لهم على وجه العموم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وصدقوا بعموم أوامره ونواهيه المنزلة من عنده مقتضى ايمانكم إِذا نَكَحْتُمُ وعقدتم الْمُؤْمِناتِ اللاتي هن أكفاء أحقاء بنكاحكم من المسلمات والكتابيات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وتجامعوا معهن فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ يعنى وما لزمكم وما وجب عليكم فيما يتلى عليكم من شعائر الشرع وأحكامه مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها وتحصونها كما للمدخول بهن والمتوفى عنهن من المدة المقدرة في الشرع لاستبراء الرحم محافظة على امتزاج المائين واختلاط النسبين وبعد ما لم تلزم عليهن العدة ايها المطلقون لهن فَمَتِّعُوهُنَّ وأعطوهن المتعة المستحسنة عقلا وشرعا ان لم تكن صدقاتهن مقدرة معينة وان كانت مقدرة فاعطوهن نصف ما قدر من المهر بلا تنقيص ومماطلة وَبعد ما أعطيتموهن المتعة او النصف من المهر المقدر سَرِّحُوهُنَّ واخرجوهن من منازلكم سَراحاً جَمِيلًا إخراجا هينا لينا بلا ضرر واضطرار وتنقيص مما استحققن عليه. ثم أشار سبحانه الى تعداد ما قد أحل وأباح لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم من الأزواج فقال مناديا له تبجيلا وتعظيما يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المفضل المكرم من لدنا على سائر الأنبياء والرسل بالعنايات العلية والكرامات السنية إِنَّا من مقام عظيم جودنا معك قد أَحْلَلْنا وأبحنا لَكَ في شرعك ودينك أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ وأعطيت أُجُورَهُنَّ مهورهن معجلا وَقد أبحنا لك ايضا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من الإماء المردودة إليك مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ المنعم المفضل عَلَيْكَ ورده سبحانه من خيار المسبيات وصيفات المغنم إليك وصيفة رضى الله عنها منهن وَقد أحللنا لك في دينك وشرعك بَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ من مكة حبالك وطلبا لمرضاتك ومرضاة ربك وما أبحنا لك من لم تهاجر معك منهن من المشركات الباقيات على الكفر والشرك وَقد أبحنا لك ايضا خاصة من دون المؤمنين امْرَأَةً مُؤْمِنَةً قيدها لان الكافرة لا تليق بفراشه صلّى الله عليه وسلم إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ تبرعا بلا جعل ومهر فعليه صلّى الله عليه وسلّم بعد الهبة الخيار إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها اى يطلب ان يدخل عليها ويقبلها للفراش احللناها خالِصَةً خاصة لَكَ يا أكمل الرسل تكريما لك وتعظيما لشأنك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ يعنى لم نجها لغيرك من أمتك بل هي من جملة الأمور التي قد اختصصت أنت بها كالتزوج فوق الاربعة وغيرها وانما نخص أمثال هذا لك يا أكمل الرسل ولم نعممها لأمتك لأنا من وفور حكمتنا قَدْ عَلِمْنا بحضرة علمنا المحيط الحضوري من ظواهر احوال المؤمنين وبواطنهم استعدادهم وقابليتهم على ما فَرَضْنا وقدرنا عَلَيْهِمْ حتما فِي حقوق أَزْواجِهِمْ من المهر والولي والشهود وعموم متممات النكاح ومكملاته وَعلمنا ايضا منهم سبب ما قدرنا عليهم في حق ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من المسبيات الزائدة ان لا يدخلوا عليهن الا ان يتملكوا بالقسمة او بوجه آخر لكن قد أنزلنا عليك يا أكمل الرسل بعض ما أبحنا عليهم وما خصصناك به دونهم

[سورة الأحزاب (33) : آية 51]

لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وضيق في تحميلها عليك مع انا نعلم من ظواهرك وبواطنك انك لا تهمل شيأ من حقوق الله ولا من حقوق عباده ولا يقع منك ظلم وجور على احد من خلق الله لذلك لم نضيق عليك امر النكاح تضييقنا على آحاد المؤمنين وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المراقب لأحوال عباده المصلح لمفاسدهم غَفُوراً يستر ويعفو عنهم بعض ما يعسر عليهم التحرز في رعاية حقوق المؤمنين والمؤمنات رَحِيماً يرحم ويعين عليهم في حفظها ورعايتها حسب طاقتهم ثم لما وسّعنا عليك يا أكمل الرسل امر نكاحك وأبحنا لك ما لم نبح لغيرك فلك الخيار في أزواجك تُرْجِي اى تؤخر وتترك مضاجعة مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي تلصق وتضم إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ منهن بلا حرج وضيق بل وَمَنِ ابْتَغَيْتَ وطلبت نكاحها مِمَّنْ عَزَلْتَ وطلقت تطليقا ثلاثا او أقل فَلا جُناحَ ولا اثم عَلَيْكَ ان تعيدها الى نكاحك بلا تحليل وتزويج للغير إذ من جملة خواصك تحريم مدخول بها لك على الغير مطلقا ذلِكَ اى تفويض امورهن إليك أَدْنى واقرب أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ إذ نسبتك إليهن حينئذ على السواء بلا ميل منك وترجيح وَالمناسب لهن ان لا يَحْزَنَّ بعد التفويض بل وَلهن ان يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ إذ لا تتفاوت نسبتك إليهن أصلا لأنك قد جبلت على الخلق العظيم والعدل القويم والصراط المستقيم سيما في حقوق أزواجك المنتسبات إليك كلهن نسبة واحدة وَاللَّهُ المطلع لضمائر عباده يَعْلَمُ ما يجرى فِي قُلُوبِكُمْ وضمائركم ايها المؤمنون من الميل الى بعض النساء دون بعض والنبي صلّى الله عليه وسلّم منزه عن هذا الميل والانحراف وأمثاله وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المراقب لعموم أحوالكم عَلِيماً بما جرى في صدوركم من الميل الى الهوى حَلِيماً ينتقم عنه ولكن لا يعجل. ثم لما خير سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم في امر نسائه وفوض امورهن كلها اليه صلّى الله عليه وسلّم وقد رضين ايضا كلهن بحكمه بلا إباء ومنع أراد سبحانه ان يمنع وينهى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم عن تطليقهن وتبديلهن والزيادة عليهن بعد ما بلغن التسعة فقال لا يَحِلُّ لَكَ يا أكمل الرسل النِّساءُ اى تزوجهن مِنْ بَعْدُ اى بعد ان يتفقن أولئك التسعة على حكمك وأمرك وفوضن امورهن إليك وَلا يحل لك ايضا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ يعنى ان تطلق بعضهن وتبدلهن مِنْ أَزْواجٍ أخر من الاجنبيات وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ يعنى حسن الاجنبيات وبالجملة لا يحل لك التزوج الزائد بعد اليوم كما قد حل لك فيما مضى إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ من الإماء فلا حرج عليك بدخولها وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المطلع على مقادر افعال عباده عَلى كُلِّ شَيْءٍ مما جرى في ملكه وملكوته رَقِيباً يراقبه ويحافظه الى ان يكمل ثم يمنع بمقتضى حكمه المتقنة البالغة. ثم أشار سبحانه الى آداب المؤمنين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في استيذانهم منه ودخولهم عليه صلّى الله عليه وسلّم وتناولهم الطعام عنده وبين يديه وتكلمهم مع أزواجه صلّى الله عليه وسلّم الى غير ذلك من الآداب فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله ورسوله مقتضى ايمانكم رعاية الأدب مع رسولكم صلّى الله عليه وسلّم من قبل بيوته ومحل محارمه ومساكنه عليكم انه لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ بغتة بلا سبق استيذان منكم بل بيوت سائر المسلمين ايضا إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ دعوة إِلى طَعامٍ حاضر عنده صلّى الله عليه وسلّم حال كونكم غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ولا منتظرين الى وقته وَعليكم ان لا تدخلوا بلا دعوة لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا وأطعموا فَإِذا طَعِمْتُمْ

[سورة الأحزاب (33) : آية 54]

فَانْتَشِرُوا واخرجوا على الفور وتفرّقوا وَلا تتمكنوا بعد الطعام عنده صلّى الله عليه وسلم مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ يتحدث بعضكم مع بعض او تسمعونه منه صلّى الله عليه وسلّم او من اهل بيته او بمهم آخر من مهماتكم إِنَّ ذلِكُمْ اى لبثكم عنده صلّى الله عليه وسلّم على وجه من الوجوه المذكورة قد كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي صلّى الله عليه وسلم مِنْكُمْ ان يخرجكم حسب حميته البشرية لأنه صلّى الله عليه وسلّم احيى الناس حليم صبور على اذاكم ولا يخرجكم عنوة وَاللَّهُ المصلح لأحوال عباده المنبه عليهم عموم مصالحهم لا يَسْتَحْيِي مِنَ اظهار كلمة الْحَقِّ التي يجب إيصالها الى المؤمنين المسترشدين لتترسخ في قلوبهم ويتمرنوا عليها ويتصفوا بها وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ يعنى من أزواجه صلّى الله عليه وسلم مَتاعاً وحوائج فَسْئَلُوهُنَّ متسترين مِنْ وَراءِ حِجابٍ بحيث لا يقع نظركم إليهن أصلا ذلِكُمْ اى التستر والتحجب من ازواج النبي أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ من امارات الإثم ومخايل المعصية وسوء الأدب وَقُلُوبِهِنَّ ايضا ترغيما للشياطين وتطهيرا لنفوسكم من غوائلها وتلبيساتها وَبالجملة اعلموا ايها المؤمنون ما كانَ وما صح وما جاز لَكُمْ في حال من الأحوال أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ بشيء يكرهه صلّى الله عليه وسلم ويستنزه عنه مطلقا وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ المدخول عليها مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً سواء كن حرائر أم إماء إِنَّ ذلِكُمْ اى ايذاءه صلّى الله عليه وسلّم ونكاح نسائه بعده قد كانَ عِنْدَ اللَّهِ المنتقم الغيور المقتدر على انواع الانتقام ذنبا عَظِيماً مستجلبا لأليم العذاب وعظيم العقاب واعلموا ايها المؤمنون إِنْ تُبْدُوا وتظهروا شَيْئاً حقيرا مما يتعلق بايذائه صلّى الله عليه وسلّم من أزواجه في حياته او بعد وفاته أَوْ تُخْفُوهُ في انفسكم غير مجاهرين به فَإِنَّ اللَّهَ المطلع في مكنونات صدوركم قد كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ ظهر على ألسنتكم او خطر ببالكم عَلِيماً لا يعزب عن علمه المحيط شيء من الدقائق والرقائق ثم لما نزلت آية التستر والحجاب قيل يا رسول الله الآباء والأبناء والأقارب والعشائر ايضا تكلموا معهن من وراء حجاب نزلت لا جُناحَ ولا اثم ولا ضيق عَلَيْهِنَّ اى على أزواجه صلّى الله عليه وسلم فِي اختلاط آبائِهِنَّ والتكلم معهم بلا سترة وحجاب وَلا أَبْنائِهِنَّ ايضا وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ إذ الكل بعيد عن وصمة التهمة مصون من مطلق الريبة وَلا نِسائِهِنَّ يعنى النساء المؤمنات لا الكتابيات وَلا جناح ايضا في ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ من العبيد والإماء وقيل من الإماء خاصة دون العبيد كما مرّ في سورة النور وَبالجملة يا نساء النبي المحفوظ المصون في ذاته عن ادناس الطبيعة وإكدار الهيولى مطلقا اتَّقِينَ اللَّهَ المنتقم الغيور واحذرن أنتن ايضا عن عموم محارمه ومنهياته مطلقا وامتثلن بأوامره ومندوباته حتى تشابهن وتشاركن معه صلّى الله عليه وسلّم في أخص أوصافه إِنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر كن قد كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ خلج في خواطركن من الإثم واللمم شَهِيداً حاضرا عنده سبحانه غير مغيب عنه بحيث لا يخفى عليه سبحانه خافية وان رقت ودقت. ثم أشار سبحانه الى تعظيم النبي عليه السلام وتوقيره والاعتناء بشأنه وعلو منزلته ومكانه فقال إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء وَمَلائِكَتَهُ المهيمين عنده الوالهين بمطالعة جماله المستغرقين بشرف لقائه يُصَلُّونَ يعتنون ويهتمون بأنواع الرحمة والكرامة واصناف الاستغفار إظهارا لفضله صلّى الله عليه وسلّم وتبجيلا وتعظيما عَلَى النَّبِيِّ الحقيق لانواع التوقير والتمجيد المستحق لأصناف الكرامة والتحميد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

[سورة الأحزاب (33) : آية 57]

بالله بوسيلة نبيه صلّى الله عليه وسلّم وتحققوا بتوحيده سبحانه بإرشاده صلّى الله عليه وسلم أنتم اولى وأحق بتعظيمه وتوقيره وتصليته وتسليمه صَلُّوا عَلَيْهِ مهما سمعتم اسمه صلّى الله عليه وسلم او ذكرتم أنتم في انفسكم وقولوا اللهم صل على محمد وَسَلِّمُوا له تَسْلِيماً قائلين السلام عليك ايها النبي ورحمة الله وبركاته. والآية تدل على وجوب الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلّم لعموم المؤمنين كلما جرى ذكره في أى حال من الأحوال وأى حين من الأحيان اللائقة للدعاء. ثم لما أشار سبحانه الى علو شأن نبيه صلّى الله عليه وسلّم وسمو برهانه وأوجب على المؤمنين تعظيمه وتوقيره والانقياد له في عموم أوامره ونواهيه أراد ان يشير سبحانه الى ان من قصد أذاه صلّى الله عليه وسلّم وأساء الأدب معه فقد استحق اللعن والطرد فقال إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حيث يأتون بالافعال الذميمة القبيحة المستكرهة عقلا وشرعا عنده صلّى الله عليه وسلّم فيؤذونه صلّى الله عليه وسلّم بهذه ذكر سبحانه نفسه هاهنا تعظيما لشأن حبيبه صلّى الله عليه وسلّم إذ ايذاؤه صلّى الله عليه وسلّم مستلزم لإيذائه سبحانه والا فهو في ذاته منزه عن التأذى والتأثر مطلقا قد لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ المنتقم عنهم وطردهم عن سعة رحمته وجنته وَأَعَدَّ لَهُمْ في النار عَذاباً مُهِيناً مؤلما مزعجا لا عذاب أسوأ منه وأشد ثم اردف سبحانه ايذاءه صلّى الله عليه وسلّم بإيذاء المؤمنين فقال وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بذمائم الأفعال والأقوال وقبائح الأطوار والحركات سيما بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا يعنى بغير جريمة صدرت عنهم واستحقوا الجناية عليها بل افتراء ومراء فَقَدِ احْتَمَلُوا وتحتملوا هؤلاء المؤذين المفترين بُهْتاناً جالبا لانواع العقوبات وَإِثْماً مُبِيناً ظاهرا عظيما مستعقبا مستتبعا لأسوء الجزاء وأشد العقاب والنكال إذ رمى المحصنات من افحش الجنايات وأقبح القبائح والخيانات. ثم أشار سبحانه الى آداب النساء وصيانتهن عن الرجال واستحيائهن منهم ليسلمن من افتراء المفترين ورمى الرامين فقال مناديا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ليبلغ الى أمته وأزواجه صلّى الله عليه وسلّم وأزواجهم ايضا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد من لدنا المبعوث الى ارشاد البرايا ذكورهم وإناثهم قُلْ لِأَزْواجِكَ أولا على سبيل الشفقة والنصيحة وَبَناتِكَ ايضا وَسائر نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ إذا ظهرن وبرزن لحوائجهن أحيانا يُدْنِينَ ويغطين عَلَيْهِنَّ اى على أيديهن وأرجلهن وعلى جميع معاطفهن مِنْ فواضل جَلَابِيبِهِنَّ وملاحفهن بحيث لا يبدو من مفاصلهن واعضائهن شيء سوى العينين بل عين واحدة ليتميزن بها عن الإماء والفتيات المريبات المطمعات لأهل الفجور والفسوق وبالجملة ذلِكَ التستر والتغطى على الوجه الأتم الأبلغ أَدْنى واقرب أَنْ يُعْرَفْنَ ويميزن أولئك الحرائر العفائف من الإماء وعن مطلق المريبات المطمعات وبعد ما عرفن فَلا يُؤْذَيْنَ ولا يفترين ببهتان وَكانَ اللَّهُ المطلع لعموم ما اختلج في جوانحهن وخواطرهن غَفُوراً لهن بعد ما تبن الى الله وانبن رَحِيماً يقبل توبتهن ويرحم عليهن ان اخلصن فيها. ثم قال سبحانه مقسما مبالغا والله لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ ولم ينزجر الْمُنافِقُونَ المفترون الرامون الباهتون عن إيذاء المؤمنات الحرائر المصونات المحفوظات والسرايا العفائف سيما بعد ما تحفظن وتسترن على الوجه المذكور وَلم يكف عنهن المتعرضون الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وضعف ايمان واعتقاد وميل الى الفسوق والفجور وَلا سيما الْمُرْجِفُونَ المجاهرون المترددون فِي الْمَدِينَةِ بأنواع النميمة والأراجيف والاخبار الكاذبة والمفتريات الباطلة الغليظة ويذيعونها

[سورة الأحزاب (33) : آية 61]

فيها عنادا وإفسادا لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ولنأمرنك يا أكمل الرسل بقتالهم واجلائهم ولنسلطنك عليهم بإقامة الحدود الشديدة والتعزيرات البليغة بحيث لا يمكنهم التمكن والاقامة فيها ويضطرون الى الجلاء ثُمَّ بعد ما قد وضعنا الحدود وامرناك بإقامتها وإجرائها لا يُجاوِرُونَكَ فِيها اى لا يستطيعون ولا يقدرون بمجاورتك في المدينة إِلَّا قَلِيلًا زمانا يسيرا يستعدون فيه للبعد والجلاء ويهيئون فيه اسباب الهرب والهزيمة من بين المسلمين والفرار عنهم والى اين يفرون ويهربون أولئك المطرودون المردودون حتى لا يؤاخذون ولا يؤسرون وهم قد كانوا بين المؤمنين مَلْعُونِينَ مطرودين مبعدين عن روح الله وعن كنف جوار رسول الله وجوار المؤمنين لكونهم مؤذين متعرضين لعوارت المسلمين الباهتين المفترين اياهن ببهتان عظيم والمتصفون بهذه الأوصاف المذمومة والديدنة المستهجنة أَيْنَما ثُقِفُوا ووجدوا أُخِذُوا وأسروا وَان لم يمكن اسرهم قُتِّلُوا تَقْتِيلًا شديدا بحيث استوصلوا بالمرة واستئصال أمثال هذه الغواة المطرودين المردودين ليس ببدع من الله بل قد كان هذا سُنَّةَ اللَّهِ القدير الحكيم المستمرة القديمة التي قد سنها سبحانه فِي انتقام مطلق المؤذين المفترين الَّذِينَ خَلَوْا ومضوا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ أنت يا أكمل الرسل لِسُنَّةِ اللَّهِ المستمرة الجارية حسب حكمته المتقنة البالغة تَبْدِيلًا اى لا يبدل حكمه ولا يغير حكمته بل له ان يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ثم نبه سبحانه على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما سيسأل عنه الكافرون تهكما واستهزاء وأشار سبحانه الى جواب سؤالهم تعليما له صلّى الله عليه وسلّم وإرشادا فقال يَسْئَلُكَ يا أكمل الرسل النَّاسُ الناسون عهودهم التي عهدوا مع الله في مبدأ فطرتهم عَنِ السَّاعَةِ التي قد أخبرت أنت بها وبقيامها بمقتضى الوحى الإلهي والهامه كما اخبر بها سائر الرسل الكرام والأنبياء الأمناء العظام صلوات الله عليك وعليهم الى يوم القيام مستهزئين معك سائلين عن تعيين وقتها وقيامها أقريب هي أم بعيد قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اقترحوا عليك عنها إِنَّما عِلْمُها وعلم قيامها وتعيين وقتها وزمان إلمامها عِنْدَ اللَّهِ المطلع العليم الحكيم لا يطلع أحدا عليها من خلقه بل هي من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها في علم غيبه بل قد اخبر واوحى سبحانه بعموم أنبيائه ورسله بوقوعها حتما وأبهم تعيين وقتها عليهم فمجرد تحقق وقوعها يكفى في الخوف من أهوالها وافزاعها وشدائدها وعذابها وَبعد ما قد اخبر سبحانه بوقوعها وأبهم وقتها ما يُدْرِيكَ وما يطلعك ايها المخاطب تعيينها ومن انى لك ان تبعدها او تنكر وقوعها لَعَلَّ السَّاعَةَ المعهودة الموعودة تَكُونُ قَرِيباً تقع عن قريب فلم لم تتزود لها ولم تتهيأ اسبابها ايها المغرور بالدنيا الدنية وأمتعتها الفانية ولذاتها المتناهية وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المنتقم عن عصاة عباده قد لَعَنَ رد وطرد عن ساحة عز حضوره وقبوله الْكافِرِينَ المصرين على انكار يوم الجزاء وعلى تكذيب الأمور الواقعة فيه وَأَعَدَّ لَهُمْ قهرا عليهم وزجرا سَعِيراً مسعرا مملوا من النار المسعرة خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يتحولون عنها أصلا لا بأنفسهم ولا بواسطة شفعائهم إذ يومئذ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يتولى أمرهم وينقذهم منها وَلا نَصِيراً ينصرهم ويعين عليهم لإخراجهم عنها اذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ تُقَلَّبُ وتصرف وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يعنى من جهة الى جهة اخرى تشديدا لعذابهم يَقُولُونَ حينئذ متمنين متحسرين يا لَيْتَنا قد أَطَعْنَا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد بمقتضى ما قد اخبر علينا الأنبياء والرسل وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا المبعوث إلينا المنذر بنا عن أمثال هذه العقوبات

[سورة الأحزاب (33) : آية 67]

التي قد طرأ علينا اليوم حتى لا نبتلى بهذا العذاب المؤبد المخلد وَقالُوا ايضا متضرعين الى الله على سبيل التمني والتناجي رَبَّنا يا من ربانا بأنواع الكرامات واحسن تربيتنا بإرسال الرسل وإنزال الكتب فكذبنا الكتب والرسل وقد أنكرنا عليهما عنادا ومكابرة وبالجملة إِنَّا يا ربنا قد أَطَعْنا في انكار كتبك ورسلك سادَتَنا وَكُبَراءَنا الذين هم اصحاب الثروة والرياسة بيننا فحل عموم أمورنا وعقدها بأيدي أولئك الرؤساء البعداء الضالين المضلين فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا السوى المستقيم الموصل الى توحيدك وتصديق رسلك وكتبك وأنت اعلم منا يا ربنا بانا ما ضللنا الا بإضلال أولئك الطغاة البغاة الضالين المضلين رَبَّنا آتِهِمْ جزاء اضلالهم وضلالهم ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ يعنى آتهم ضعف عذابنا ضعفا لضلالهم وضعفا لإضلالهم وَالْعَنْهُمْ واطرحهم يا ربنا وبعدّهم عن سعة رحمتك لَعْناً كَبِيراً طردا عظيما وتبعيدا بعيدا بحيث لا يرجى نجاتهم ابدا او طردا كثيرا متواليا متتاليا مستمرا على التعاقب والترادف. ثم وصى سبحانه عموم المؤمنين بان لا يكونوا مع نبيهم صلّى الله عليه وسلّم مثل بنى إسرائيل مع موسى الكليم صلوات الرحمن عليه وسلامه ولا يقصدوا أذاه صلّى الله عليه وسلّم كما قصدوا ولا يرموه صلّى الله عليه وسلّم بشيء لا يليق بشأنه كما قد رموا به موسى عليه السلام لان معاشر الأنبياء كلهم معصومون عن الكبائر مطلقا بل عن الصغائر ايضا على رأى صائب فلا بد لمن آمن بهم ان لا يرموهم بمكروه لا يليق بشأنهم مع انه سبحانه قد اظهر براءتهم وطهارة ذيلهم وعصمتهم عن مطلق المعاصي فما بقي الا اثم الافتراء والمراء على المفترين فينتقم سبحانه عنهم منه ويأخذ هم فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقتضى ايمانكم انه لا تَكُونُوا قاصدين أذاه صلّى الله عليه وسلّم بنسبة المكروه والمنكر اليه صلّى الله عليه وسلّم او بتعييره وتشنيعه بأمر صدر عنه ولم تفهموا سره وبالجملة لا تكونوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى صلوات الله عليه وسلامه فاغتم منه وتحزن حزنا شديدا فَبَرَّأَهُ اللَّهُ المطلع على نزاهته ونجابة طينته وطهارة ذيله واظهر سبحانه طهارته وبراءته مِمَّا قالُوا يعنى مما هو مضمون قولهم ومؤداه وذلك ان قارون قد استأجر بغية بجعل كثير من ان ترمى موسى عليه السلام بنفسها فرموه بها ثم أحضروها في المجلس ليفضحوه على رؤس الملأ وأقرت بالهام الله إياها بعصمته عليه السلام وأظهرت ما أعطوها من الجعل فدعا موسى عليه السلام ففعل سبحانه بهم وبما معهم ما فعل من الخسف على الوجه الذي سمعت في سورة القصص او قذفوه بعيب بدنه عليه السلام من برص او ادرة فبرأه الله سبحانه حيث ذهب الحجر بثيابه بين الملأ وهو يمشى على عقب ثيابه عريانا حتى يظهر براءته لهم من العيب وَكيف لا يبرئه سبحانه ولا يظهر طهارته إذ قد كانَ موسى الكليم عليه السلام عِنْدَ اللَّهِ الذي اصطفاه واختاره للنبوة والرسالة والتكلم معه وَجِيهاً في كمال الوجاهة والقربة لذلك اختاره ليسمع كلامه سبحانه بلا واسطة صوت متقاطع وحرف متكيف وكلمة موضوعة وكلام مركب وبعد ما قد سمعتم حكاية ما جرى على أولئك البغاة الغواة المؤذين المفترين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبرسوله اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور ولا تؤذوا رسوله صلّى الله عليه وسلّم بقول وفعل وَقُولُوا له بعد ما تكلمتم معه وفي شأنه قَوْلًا سَدِيداً صحيحا سالما بعيدا عن وصمة الأذى والتهمة والافتراء والجدال والمراء حتى لا يلحقكم ما لحق على قوم موسى ولكم الإخلاص بالله وبرسوله أخلصوا واستقيموا في الأفعال والأقوال معه وأطيعوا في عموم الأحوال يُصْلِحْ لَكُمْ سبحانه

[سورة الأحزاب (33) : آية 72]

أَعْمالَكُمْ لتثمر لكم الثمرات العجيبة البديعة والدرجات العلية الرفيعة عنده سبحانه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ التي صدرت عنكم لو تبتم واخلصتم فيها وَبالجملة مَنْ يُطِعِ اللَّهَ حق أطاعته ويخلص في اعماله وَيطع رَسُولَهُ اطاعة خالية عن وصمة الأذى وعموم الرعونات المؤدية الى انواع المكروهات والمنكرات فَقَدْ فازَ ونال ذلك المطيع فَوْزاً عَظِيماً ألا وهو الدخول بدار الخلود والفوز بلقاء الخلاق الودود. ثم لما أراد سبحانه بمقتضى تجلياته الحبية اللطفية ان يطالع ذاته الكاملة المتصفة بصفات الكمال في مرآة مجلوّة تصير نائبة عنه خليفة له يتراءى فيها عموم أوصافه وأسمائه الذاتية على ما قد أشار اليه الحديث القدسي صلوات الله على قائله عرض سبحانه امانة الخلافة والنيابة على استعدادات المظاهر وقابليات المصنوعات كلها فامتنع الكل وابى عن قبولها وحملها كما قال سبحانه مخبرا إِنَّا بمقتضى تجلياتنا الجمالية المنبعثة عن الشئون الحبية والتطورات اللطفية قد عَرَضْنَا الْأَمانَةَ يعنى امانة الخلافة والنيابة وأردنا ان نحمل أعباء المعرفة والعبودية المشتملة على التخلق بالأخلاق الفاضلة الإلهية المستتبعة للتكليفات الشاقة الطبيعية لتحصل التصفية والتزكية من إكدار الهيولى المانعة عن الوصول الى الملأ الأعلى وعالم اللاهوت عَلَى استعدادات السَّماواتِ العلى وَعلى قابليات الْأَرْضِ السفلى وَكذا على قلل الْجِبالِ السنى وكذا على قوابل الممتزجات من المركبات العظمى والمولدات الكبرى فَأَبَيْنَ وامتنعن بأجمعهن أَنْ يَحْمِلْنَها إذ نحن في سابق حضرة علمنا المحيط ولوح قضائنا المحفوظ ما اودعنا في استعداداتهم وقابلياتهم ما يسع لحمل هذه الامانة العظيمة والكرامة الكريمة وَلذلك قد أَشْفَقْنَ جميعا وخفن وخشين مِنْها ومن حملها مخافة ان لا يقين حقها وَبعد ما قد امتنعن وخفن جميعا عن حملها وقبولها قد حَمَلَهَا وقبلها الْإِنْسانُ المصور على صورة الرحمن المنتخب عن عموم الأكوان بالقوة القدسية المودعة فيه المقتضية لحملها وقبولها وبالجملة إِنَّهُ اى الإنسان حينئذ من كمال شوقه ووفور تحننه وذوقه المنبعث من افراط محبته وعشقه الى مبدئه ومن نهاية تلذذه بجمال معشوقه المعنوي ومحبوبه الحقيقي وغاية ولهه وحيرته بمطالعة وجهه الكريم قد كانَ في حملها ظَلُوماً على نفسه بارتكاب التحميلات البليغة والتكليفات الشديدة العسيرة من قطع المألوفات الطبيعية والمشتهيات الشهية البهيمية وعموم اللذات الحسية الناسوتية ومن غاية تحننه الى مبدئه كان جَهُولًا ذهولا غافلا ايضا عن مقتضيات ناسوته وملائماتها حسب القوى البشرية بالقوة الغالبة الروحانية اللاهوتية الجالبة الجاذبة للسعادات الازلية الابدية على القوى الجسمانية والآلات الطبيعية المستتبعة للشقاوة السرمدية فأين هذا من ذلك. رزقنا الله المنعم المفضل ان لا نظلم نحن على أنفسنا ونمنعها عن مقتضياتها وأمانيها الناسوتية بمنه وجوده. ومن جملة الأمانات المحمولة على الإنسان حفظ السرائر ورعاية الآداب والحقوق الجارية بين ذوى الألباب من الرجال والنساء وانما حمل عليهم سبحانه ما حمل ابتلاء لهم واختبارا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الحكيم المتقن في أفعاله الْمُنافِقِينَ المخفين الساترين كفرهم وشركهم وعموم الخيانات الصادرة عنهم لمصلحة دنيوية وَالْمُنافِقاتِ منهم كذلك وَالْمُشْرِكِينَ المصرين المجاهرين بكفرهم وشركهم وعموم خياناتهم وَالْمُشْرِكاتِ ايضا كذلك تعذيبا شديدا وعقابا أليما مزيدا لعدم وفائهم على حفظ الأمانات المحمولة عليهم وَايضا يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ اى يوفقهم على التوبة والانابة بعد ما صدر عنهم شيء من الخيانات وشائبة

خاتمة سورة الأحزاب

عدم الوفاء بالأمانة التي قد ائتمنوا بها من حقوق الله وحقوق عباده وبعد ما قد تابوا وأنابوا على وجه الندم والإخلاص فقد أدوا حق الامانة ووفوا بها على وجهها وَكانَ اللَّهُ المطلع باخلاصهم وندامتهم غَفُوراً لما صدر عنهم من الخيانة قبل التوبة رَحِيماً يقبل توبتهم ويعفو زلتهم ويرحم عليهم بعد ما تابوا وأخلصوا رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين خاتمة سورة الأحزاب عليك ايها الطالب لرتبة الخلافة والنيابة الفطرية القاصد لحمل الامانة الإلهية المتحمل لأعباء العبودية بالقوة القدسية والقابلية الفطرية القدوسية يسر الله عليك الأداء والوفاء بجميع حقوق الله وعموم عهوده وأماناته ومواثيقه وايضا حقوق جميع عباده ورعاية لوازم الإخاء والمصاحبة معهم واطاقك الحق وأقدرك على حمل عموم التكاليف المنزلة من عند الله في كتب الله من المفروضات وكذا من جميع المسنونات والمندوبات واعانك على التخلق بعموم أخلاقه الفاضلة المرضية ان تتوجه بوجه قلبك الى ربك وتتخذه وكيلا في أمرك وشأنك الذي هو تخلقك بأخلاقه سبحانه ليتيسر لك التحقق والتمكن بمرتبة الخلافة والنيابة فلك ان تعرف أولا شياطينك التي قد عاقك عنها ألا وهي آمالك وأمانيك النفسانية المتولدة من القوى البهيمية المانعة عن الوصول الى الدرجات العلية وتفصيلها وتحصيلها على وجه لا يشذ شيء منها عنك وتلازم على زجرها ومنعها الى ان تصير منزجرة مقهورة للقوى الروحانية بحيث لا تبقى لها قوة مقاومة ومجال مقابلة مع الروحانيات أصلا ثم لك ان تنفى وتفنى جميع اوصافك واخلاقك في أوصاف الحق وأخلاقه الى ان تضمحل أنت نفسك وذاتك وتتلاشى عموم اوصافك واخلاقك في ذاته وصفاته وأخلاقه سبحانه الى حيث يرتفع اسمك ورسمك عن البين ويتصفى عينك عن الغين وشأنك عن الشين فحينئذ لم يبق لك البون والبين بل قد اتصل العين بالعين وحينئذ صرت ما صرت وفزت بما فزت وقد تمكنت في مقعد صدق في الخلافة والنيابة عند مليك مقتدر بلا توهم تغيير وتحويل. رزقنا الله التقدر والتمكن في مقعد الصدق بلا تلوين وتبديل [سورة السبأ] فاتحة سورة السبأ لا يخفى على من انكشف بسعة حضرة العلم المحيط الإلهي اجمالا واعتقد احاطتها وشمولها واستيعابها بعموم ما ظهر وبطن في الاولى والاخرى غيبا وشهادة وكذا بما لا سبيل للعباد إليها لا تعقلا ولا تخيلا ولا توهما تفصيلا ان معلوماته سبحانه أجل من يحيط بها عقول مصنوعاته وخيالاتهم واوهامهم وأحلامهم وعموم مداركهم ومشاعرهم ومن تحقق من السالكين المجاهدين في سبيل الله المشمرين أذيال هممهم نحو الحق بكمال وسعهم وطاقتهم بسعة قلب الإنسان وكمال فسجته فقد انكشف هو في الجملة بسعة حضرة علمه سبحانه وبكثرة معلوماته حسب وجده ووجدانه بسعة قلبه الذي قد وسع الحق فيه لعموم أسمائه وصفاته فلهذا قد وجب الحمد والثناء عليه سبحانه على الوجه الذي انكشف له واستتر عنه ايضا لذلك حمد سبحانه نفسه بنفسه واثنى على ذاته تعليما لعباده وإرشادا لهم الى طريق شكر نعمه وأداء حقوق كرمه بعد ما تيمن باسمه الأعظم الجامع لجميع الأسماء والصفات فقال سبحانه بِسْمِ اللَّهِ المتجلى على عموم ما ظهر وبطن من مظاهره الرَّحْمنِ على عموم مصنوعاته بافاضة رشحات وجوب وجوده عليهم فيوجدهم بها الرَّحِيمِ على خواص عباده بافاضة

الآيات

العقل المنشعب من حضرة علمه المحيط إليهم ليدركوا به احوال مبدئهم ومعادهم [الآيات] الْحَمْدُ المحيط المستوعب لجميع المحامد والاثنية الناشئة من ألسنة عموم ما لمع عليه برق الوجود ثابت حاصل لِلَّهِ المستجمع لجميع الأوصاف والأسماء المربية المظهرة لعموم الأشياء الكائنة غيبا وشهادة المالك الَّذِي قد ثبت لَهُ ملكا وتصرفا إظهارا واعداما إبداء واعادة جميع ما فِي السَّماواتِ اى علويات عالم الأسماء والصفات والأعيان الثابتة في الأزل وَكذا جميع ما فِي الْأَرْضِ اى سفليات عالم الطبعة المنعكسة من العلويات وَكذا ما بينهما من الكوائن والفواسد الممتزجة التي قد برزت بنور الوجود على مقتضى الجود الإلهي من مكمن العدم الى فضاء الظهور بعد ما قد ثبت ان الكل منه بدأ في الابتداء وماليه يعود في الانتهاء ثبت لَهُ الْحَمْدُ والثناء الصادر من ألسنة عموم المظاهر المتوجهة نحو المظهر الموجد طوعا لا لغيره من الوسائل والأسباب العادية إذ منتهى الكل اليه فِي الْآخِرَةِ كما ان مبدأه منه في الاولى فله الحمد في الاولى والاخرى وَكيف لا هُوَ الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله بالاستقلال بلا شريك وظهير الْخَبِيرُ عن كيفية إيجاد المظاهر وإعدامها أولا وآخرا ازلا وابدا إذ هو سبحانه بمقتضى حضرة علمه المحيط الحضوري يَعْلَمُ ما يَلِجُ ويدخل فِي الْأَرْضِ اى ظلمة الطبيعة القابلة لفيضان مطلق الاستعدادات الفائضة من المبدأ الفياض وَما يَخْرُجُ مِنْها من المعارف والحقائق الكاملة المختفية فيها بمقتضى تربية مربيها ومظهرها وَكذا يعلم بعلمه الحضوري ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ اى عالم الأسماء الى ارض المظاهر والمسميات من الفيوضات والفتوحات الشاملة المشتملة على انواع الكمالات وَكذا يعلم ما يَعْرُجُ فِيها ويرتقى متصاعدا من المكاشفات والمشاهدات الحاصلة من تلك الفتوحات الهابطة منها على قلوب كمل المظاهر وخلص العباد وَبالجملة هُوَ الرَّحِيمُ لعباده بافاضة انواع الكرامات حسب رحمته الواسعة الْغَفُورُ الستار لذنوب انانياتهم وتعيناتهم الباطلة العاطلة بعد ما رجعوا اليه وتوجهوا نحوه سبحانه تائبين آئبين مخلصين. رزقنا الله الوصول الى محل القبول وَبعد ما قد اخبر سبحانه بقيام الساعة في كتبه وبألسنه رسله سيما في كتابك يا أكمل الرسل وعلى لسانك قالَ الجاحدون المنكرون الَّذِينَ كَفَرُوا بالحق وستروه بالباطل الزاهق الزائل وكذبوا الرسل وعاندوا معهم سيما معك يا أكمل الرسل مستهزئين متهكمين لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ الموعودة على لسانك ايها المدعى مع انك قد ادعيت الصدق في جميع اخبارك وأقوالك فكيف لا تأتى الساعة التي ادعيت إتيانها واختبرت بها وبوقوعها لعلك قد كذبت وافتريت الى ربك قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما استهزؤا معك ونسبوك الى الكذب والافتراء وأنكروا بإتيان الساعة وقيامها بَلى تأتى الساعة الموعودة علىّ وعلى عموم الرسل والأنبياء بلا شك وريب في إتيانها وقيامها وَبحق رَبِّي القادر المقتدر على انجاز جميع ما وعد به بلا خلف لَتَأْتِيَنَّكُمْ الساعة الموعودة من عنده إذ وعده سبحانه مقضي حتما جزما بلا شائبة شك وطريان غفلة وذهول عليه وسهو إياه وكيف يطرأ عليه سبحانه سهو وذهول مع انه هو بذاته عالِمِ الْغَيْبِ بالعلم المحيط الحضوري بعموم المغيبات حاضرة عنده غير مغيبة عنه إذ لا يَعْزُبُ ولا يغيب عَنْهُ سبحانه وعن حيطة حضرة علمه المحيط مِثْقالُ ذَرَّةٍ ومقدار خردلة لا من الكوائن فِي السَّماواتِ اى العلويات وَلا من الكوائن فِي الْأَرْضِ اى السفليات ولا من المكونات الحادثة بينهما وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ المقدار

[سورة سبإ (34) : آية 4]

وَلا أَكْبَرُ منه إِلَّا وهو مثبت مسطور فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو حضرة علمه المحيط ولوح قضائه المحفوظ انما اثبت واحضر الكل في لوح قضائه لِيَجْزِيَ سبحانه المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيده واعترفوا بتصديق رسوله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة اليه سبحانه المقبولة عنده خير الجزاء ويعطيهم احسن المواهب والعطاء وبالجملة أُولئِكَ السعداء المقبولون عنده سبحانه المستحقون لانواع الكرامات من لدنه لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما تقدم من ذنوبهم تفضلا عليهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ صورى في الجنة ومعنوي عند وصولهم الى شرف لقائه بلا كيف واين وبون وبين وجهة ووجهة ومكان وزمان وشأن وَليجزي سبحانه ايضا أسوأ الجزاء وأشد العذاب والنكال الكافرين الَّذِينَ سَعَوْا واجتهدوا فِي ابطال آياتِنا الدالة على توحيد ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا حال كونهم مُعاجِزِينَ قاصدين عجزنا عن إتيان الآيات البينات منكرين لايجادنا وانزالنا إياها بل لوجودنا في ذاتنا مكذبين لرسلنا الحاملين لوحينا صارفين الناس عن تصديقهم وعن الايمان بنا وبهم وملتهم وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون المبعدون عن روح الله وسعة رحمته المنهمكون في الغىّ والضلال لَهُمْ عَذابٌ عظيم أشد وأسوأ مِنْ كل رِجْزٍ أَلِيمٌ وعقوبة مؤلمة لعظم جرمهم وسعيهم في ابطال آياتنا الناشئة عن كمال قدرتنا ووفور حكمتنا وانما سعوا واجتهدوا في ابطال آياتنا لجهلهم بنا وبها وبما فيها من الهداية العظمى والسعادة الكبرى وعدم تأملهم وتدبرهم في رموزاتها ومكنوناتها لذلك أنكروا بها واجتهدوا في ابطالها وتكذيبها جهلا وعنادا وَيَرَى يا أكمل الرسل العلماء العرفاء الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من قبلنا تفضلا منا إياهم المتعلق بان الكتاب الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ تأييدا لشأنك وترويجا لأمرك هُوَ الْحَقَّ المطابق للواقع الحقيق بالمتابعة والإطاعة الثابت نزوله من عندنا بلا ريب وتردد وَكيف لا يكون حقا مع انه هو يَهْدِي بأوامره ونواهيه وتذكيراته المندرجة فيه عموم الضالين المنصرفين عن جادة العدالة إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الغالب القادر المقتدر على انتقام عموم المنحرفين عن منهج الرشد الْحَمِيدِ المستحق في ذاته لجميع المحامد والكرامات لولا تحميد الناس له وتمجيدهم والأفعال المنبئة عن إسقاط عموم الإضافات ورفع مطلق التعينات وَبعد ما قد سمع المشركون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم احوال الحشر والنشر والمعاد الجسماني واهوال الفزع الأكبر قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا اى بعضهم لبعض على سبيل الاستهزاء والتهكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستفهمين مستنكرين متعجبين هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون الرسول صلّى الله عليه وسلّم وانما نكروه لاستبعادهم قوله وانكارهم على مقوله وانما يتحدثون بينهم به لغرابته يُنَبِّئُكُمْ بالمحال العجيب ويخبركم بالممتنع الغريب معتقدا إمكانه بل جازما بوقوعه ووجوده وهو انكم إِذا مُزِّقْتُمْ وفرقتم كُلَّ مُمَزَّقٍ يعنى تمزيقا وتفريقا بليغا وتشتيتا شديدا بحيث قد صرتم هباء فذهب بكم الرياح إِنَّكُمْ بعد ما صرتم كذلك لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ على النحو الذي كنتم عليه في حياتكم قبل موتكم بلا تفاوت كتجدد الاعراض بأمثالها وبعد ما قد سمعتم قوله كيف تتفكرون في شأنه وهو يدّعى النبوة والرسالة والوحى اليه من عند الله العليم الحكيم مع انه قد صدر عنه أمثال هذه المستحيلات واىّ شيء تظنون في امره وشأنه هذا أَفْتَرى وكذب عن عمد ونسبه عَلَى اللَّهِ كَذِباً تغريرا وتلبيسا على ضعفاء الأنام ليقبلوا منه أمثال هذه الخرافات الباطلة ويعتقدوه رسولا مخبرا عن المغيبات وعجائب الأمور

[سورة سبإ (34) : آية 9]

وغرائبه أَمْ بِهِ جِنَّةٌ خبط واختلال قد عرض دماغه فأفسده فيتكلم بأمثال هذه الهذيانات هفوة بلا قصد وشعور بها كما يتكلم بأمثالها سائر المجانين وسماها وحيا وإلهاما تغريرا وإلزاما. ثم لما بالغ المشركون المفرطون في قدحه وطعنه صلّى الله عليه وسلّم وتجهيله وتخبيطه رد الله عليهم بانه لا افتراء ولا مراء في كلامه صلّى الله عليه وسلّم وفي مطلق اخباره ولا خبط ولا اختلال في عقله ولا جنون له بل هو صلّى الله عليه وسلّم من اعقل الناس وارشدهم وابعدهم عن الافتراء والمراء وأسلمهم عن الكذب وسائر الآراء والأهواء ومن عموم الكدورات الطبيعية مطلقا بَلِ الكافرون الضالون المفرطون الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ولا يعتقدون بالأمور التي قد اخبر الله بها وبوقوعها فيها ولا يصدقون بها ولا يمتثلون بما نطق به الكتب والرسل مطلقا هم يخلدون في النشأة الاخرى فِي الْعَذابِ المؤبد المخلد وَهم متوغلون في الضَّلالِ الْبَعِيدِ عن الهداية بمراحل ابد الآبدين ولا نجاة لهم منها وبالجملة من شدة غيهم وضلالهم تكلموا بأمثال هذه الهذيانات الباطلة سيما بالنسبة الى من هو منزه عن أمثالها مطلقا عنادا ومكابرة. ثم أشار سبحانه الى كمال قدرته سبحانه واقتداره على انتقام عموم المكذبين ليوم الحشر والجزاء والمفترين على رسوله على سبيل المراء من الخبط والجنون وغير ذلك من الأمور التي لا يليق بشأنه صلّى الله عليه وسلّم فقال مستفهما على سبيل التقريع والتوبيخ أَهم قد عموا وفقدوا لوازم أبصارهم وبصائرهم اى أولئك المعاندون المفرطون فَلَمْ يَرَوْا ولم ينظروا ولم يبصروا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ المحيطة بهم خلفا ووراء وَالْأَرْضِ الممهدة لهم بين أيديهم يتمكنون عليها ويتنعمون بمستخرجاتها ومما نزل عليها من السماء وعالم الأسباب ولم يتفكروا ولم يتأملوا ان احياء الموتى أهون من خلق الأرض والسموات العلى والقدرة على ايجادهما أكمل من القدرة على اعادة المعدوم فينكرون قدرتنا عليها مع انهم قد رأوا وشاهدوا منا أمثال هذه المقدورات العظام ولم يخافوا عن بطشنا وانتقامنا ولم يعلموا انا من مقام قهرنا وجلالنا إِنْ نَشَأْ إهلاكهم واستئصالهم نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ كما قد خسفنا على قارون وأمثاله أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً بالتحريك والتسكين على القرائتين اى قطعا مِنَ السَّماءِ فنهلكهم بها إِنَّ فِي ذلِكَ البيان على وجه التقريع والتعيير لَآيَةً دالة على قدرتنا وقهرنا على انتقام من خرج عن ربقة عبوديتنا لِكُلِّ عَبْدٍ تحقق بمقام العبودية وفوض أموره كلها إلينا مُنِيبٍ رجع نحونا هاربا من مقتضيات قهرنا وجلالنا وبعد ما قد عرفت ان الكل منا بدأ وبحولنا وقوتنا ظهر ولاح وقد عاد ايضا كما بدأ إذ منا المبدأ وإلينا المنتهى وليس سوانا مقصد ومرمى وَمن كمال قدرتنا وفور حولنا وحكمتنا لَقَدْ آتَيْنا عبدنا داوُدَ المتحقق بمقام الخلافة والنيابة والحكومة التامة مِنَّا فَضْلًا له وامتنانا عليه مما لم نتفضل بأمثاله الى سائر الأنبياء وهو انا قد أمرنا عموم الجمادات والحيوانات بإطاعته وانقياده الى ان قلنا مناديا لها يا جِبالُ أَوِّبِي ورجعي مَعَهُ التسبيح وسيرى معه حيث سار ولا تخرجي عن حكمه وامره فانقادت له الجبال بحيث متى سبح سمع منها التسبيح والتذكير والى حيث سار قد سارت معه وَكذا قد سخرنا له الطَّيْرَ وصارت تنقاد لحكمه وامره كسائر العقلاء فيحكم عليها ويأمر لها ما شاء وأراد فامتثلت هي بامره واطاعت بحكمه بلا منع وإباء وَمن جملة ما قد فضلنا عليه انا قد أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ بلا نار ومطرقة حيث جعلناه لينا في يده كالشمعة كان يبدله كيف يشاء

[سورة سبإ (34) : آية 11]

بلا تعب ومشقة وبعد ما قد ألنا له الحديد أمرنا له أَنِ اعْمَلْ يا داود بارشادنا وتعليمنا سابِغاتٍ دروعات واسعات وَقَدِّرْ ضيق وكثف فِي السَّرْدِ والنسج بقدر الحاجة بحيث لا يمكن مرور السهام والنصال عنها أصلا وَبعد ما قد آتيناه واتباعه الملك والولاية التامة والنبوة العامة فضلا منا إياه وامتنانا له اصالة ولاتباعه تبعا قلنا لهم تعليما وإرشادا اعْمَلُوا يا آل داود عملا صالِحاً من الأعمال والأخلاق مقبولا عندي مرضيا لدىّ إِنِّي بمقتضى حضرة علمي واطلاعى بِما تَعْمَلُونَ من عموم الأعمال ناقد بَصِيرٌ انقد كلا منها اقبل صالحها وارد فاسدها وَمن مقام فضلنا وجودنا قد سخرنا لِسُلَيْمانَ بن داود عليهما السلام الرِّيحَ العاصفة وجعلناها مسخرة تحت حكمه وتصرفه بحيث تحمل كرسىّ سليمان وهو عليه عليه السلام وجنوده عليها وتسير حيث أشار وشاء غُدُوُّها شَهْرٌ يعنى جريها في الغداة مسيرة شهر وَرَواحُها ورجوعها ايضا شَهْرٌ كذلك وَمع ذلك قد أَسَلْنا وأذبنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ اى النحاس فذاب في معدنه ونبع منها نبوع العيون الجارية في كل شهر ثلاثة ايام قيل اكثر ما في الناس من النحاس من ذلك وَسخرنا له ايضا عناية منا إياه مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ مقهورا تحت حكمه وتصرفه بِإِذْنِ رَبِّهِ قد أمرهم سبحانه بإطاعتهم وانقيادهم إياه بحيث لم ينصرفوا ولم يستنكفوا عن حكمه أصلا وَقد شرط معهم سبحانه تأكيدا لاطاعتهم إياه انه مَنْ يَزِغْ اى يعدل ويمل مِنْهُمْ اى من الجن عَنْ أَمْرِنا وحكمنا المبرم المحكم عليهم وهو اطاعتهم نبينا سليمان عليه السلام نُذِقْهُ في هذه النشأة مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ إذ قد وكل سبحانه على الجن ملكا بيده سوط من نار فمن مال منهم عن حكم سليمان ضربه بها فأحرقه ولا يراه الجنى لذلك قد صاروا مقهورين تحت حكمه وأمرهم عليه السلام ما شاء بحيث يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ مساجد لطيفة وحصون حصينة واماكن منيعة انما سمى بها لأنها قد يحارب عليها ويلتجأ إليها من الشدة ولدى الحاجة. ومن جملة ما قد عملوا له من المساجد الحصينة العجيبة بيت المقدس في غاية الحسن والبهاء ونهاية المنعة والدفاع ولم يزل على عمارته عليه السلام الى ان قد خربه بختنصر وَتَماثِيلَ هي الصور من زجاج ورخام ونحاس وصفر وشبهه فكانوا يعملون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في البقاع الشريفة والمساجد والمعابد ترغيبا للناس في دخولها والعبادة فيها وتنشيطا لهم وقد عملوا له عليه السلام في أسفل كرسيه أسدين وفي فوقه نسرين فإذا أراد الصعود عليه بسط له الأسدان ذراعيهما فارتقى وإذا تمكن عليه اظله النسران بجناحيهما وحرمة التصاوير شرع مجدد وَجِفانٍ اى يعملون له من صحاف عظيمة وقصاع كبيرة وسيعة كَالْجَوابِ والحياض الكبار ومن غاية كبرها يقعد على كل جفنة عند الاكل ألف رجل وَقُدُورٍ راسِياتٍ ثابتات على اثافيهن بحيث لا تنزل عنها لغاية ثقلها وكبرها قيل اثافيها متصلة بها وكان يرتقى إليها ويؤخذ منها ما فيها بالسلاليم وبعد ما قد اعطى آل داود من الجاه والثروة العظيمة ما لم يعط أحدا من العالمين قيل لهم من قبل الحق تنبيها عليهم وحثا لهم على مواظبة الشكر ومداومة الرجوع نحو المفضل الكريم اعْمَلُوا يا آلَ داوُدَ عملا صالحا مرضيا عند الله ولا سيما الشكر اشكروا له شُكْراً مستوعبا لعموم جوارحكم وجوانحكم وفي جميع أوقاتكم وحالاتكم بحيث لا يشذ عنكم نفس ووقت لم يصدر عنكم فيها شكر وَاعلموا انكم وان بالغتم في أداء شكر نعم الله وحقوق كرمه

[سورة سبإ (34) : آية 14]

وبلغتم المرتبة القصوى منه ما أديتم حق شكره إذ قَلِيلٌ نزير يسير في غاية القلة مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ لأنه وان استوفى واستوفر في ادائه بحيث يستوعب عموم أركانه وجوارحه وجوانحه وجميع خواطره وهواجس نفسه وسره ونجواه في عموم أوقاته وساعاته ومع ذلك لا يوفى حقه إذ توفيقه واقداره سبحانه عليه ايضا نعمة اخرى مستحقة للشكر مستدعية إياه وهلم جرا لا الى نهاية ولذا قيل الشكور من يرى نفسه عاجزا عن الشكر إذ لا يمكن الإتيان به على وجه لا يترتب عليه نعمة اخرى مستلزمة لشكر آخر. ثم لما كان داود عليه السلام قد أسس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل إتمامه فوصى بإتمامه الى سليمان عليه السلام فاستعمل الجن فيه فلم يتم ايضا إذ قد اخبر عليه السلام من قبل الحق باجله فتغمم غما شديدا لعدم إتمامه البيت فأراد ان يعمى ويستر على الجن موته ليتموه فأمرهم ان يعملوا له صرحا من قوارير له باب فعملوا صرحا كذلك فدخل عليه على مقتضى عادته المستمرة من التحنث والتخلي للعبادة شهرا وشهرين وسنة وسنتين فاشتغل بالصلاة متكئا على عصاه فقبض وهو متكئ عليها فبقى كذلك حتى ان أكلت الارضة عصاه فخر ثم فتحوا عنه وأرادوا ان يعرفوا وقت موته فوضعوا الارضة على العصا فأكلت يوما وليلة مقدارا منها فقاسوا على ذلك فعلموا انه قد مات منذ سنة وكان عمره حينئذ ثلاثا وخمسين سنة وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ لعمارة البيت لأربع مضين من ملكه وقد اخبر سبحانه في كتابه على هذا الوجه الذي مضى وأوجزه فقال فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ على سليمان عليه السلام الْمَوْتَ فأخبرناه بموته فدعا نحونا بان نعمى على الجن امر موته حتى يتموا عمارة البيت فأعميناهم موته الى ان قد تمت ثم ما دَلَّهُمْ وما هداهم واشعرهم عَلى مَوْتِهِ وما أخبرهم عنه إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ اى الارضة تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ اى عصاه التي هو متكئ عليها فَلَمَّا اكلتها وانكسرت عصاه خَرَّ وسقط عليه السلام على الأرض فحينئذ قد تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ وظهر دونهم وانكشف امر موته عليهم وعلموا بعد ما التبس الأمر عليهم في موته بخروره وسقوطه فظهر حينئذ للانس ان الجن لم يكونوا من المطلعين على عموم الغيوب على ما زعموا في حقهم لأنهم لو كانوا مطلعين الغيب لعلموا موته أول مرة ولم يعلموا مع أَنْ اى ان الجن لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مطلقا لعلموا امر موته حين وقوعه ولو علموا ما لَبِثُوا وما استقروا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ الذي هو العمل المتضمن لانواع المتاعب والمشاق مع انهم لم يرضوا به لكنهم لبثوا وعملوا سنة بعد موته فظهر انهم ما كانوا عالمين بالغيوب كلها وبعد ما قد ذكر سبحانه قصة آل داود وسليمان ومواظبتهم على شكر نعم الله وأداء حقوق كرمه اردفه سبحانه بكفران اهل سبأ على نعمه سبحانه وانكارهم على حقوق كرمه فقال لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ اى لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان فِي مَسْكَنِهِمْ ومواضع سكناهم وهي باليمن يقال لها مأرب بقرب صنعاء مسيرة ثلاثة مراحل آيَةٌ عظيمة ونعمة جسيمة دالة على كمال معطيها وموجدها وعلى اتصافه بالأوصاف الكاملة والأسماء الحسنى الشاملة وهي جَنَّتانِ حافتان محيطتان عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ اى جنة عجيبة عن يمين بلدهم واخرى عن يسارهم وبعد ما قد أعطيناهم هاتين الجنتين العظيمتين المشتملتين على غرائب صنايعنا وبدائع مخترعاتنا قلنا لهم على طريق الإلهام كُلُوا ايها المتنعمون المتفضلون من عندنا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ الذي رباكم بأنواع الكرامات وَاشْكُرُوا لَهُ نعمه وواظبوا على أداء حقوق كرمه مع ان بلدتكم التي أنتم تسكنون فيها بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ماء وهواء بريئة عن مطلق

[سورة سبإ (34) : آية 16]

المؤذيات وَايضا ربكم الذي رباكم فيها بأنواع النعم رَبٌّ غَفُورٌ ستار عليكم عموم فرطاتكم بعد ما اخلصتم في شكر نعمه وأداء حقوق كرمه وبعد ما قد نبهنا عليهم بشكر النعم وبالمداومة عليه لم يتنبهوا ولم يتفطنوا بل قد استكبروا فَأَعْرَضُوا عن الشكر واشتغلوا بأنواع الكفران والإنكار على المفضل المنان والمكرم الديان وبعد ما انصرفوا عنادا عن شكر نعمنا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وهي الحجارة المركومة بالجص والنورة وانواع التدبيرات والترصيعات المحكمة للابنية والأساس وذلك انه قد كان لهم سد قد بنته بلقيس بين الجبلين وقد جعلت لها ثلاث كوات بعضها فوق بعض وقد بنت ايضا دونها بركة عظيمة فإذا جاء المطر اجتمع إليها مياه او ديتهم فاحتبس السيل من وراء السد فيفتح الكوة العليا عند الاحتياج ثم الثانية الوسطى ثم الثالثة السفلى فلا ينفد ماؤها الى السنة القابلة فلما طغوا وكفروا لنعم الله بعد ما أمروا بالشكر على ألسنة الرسل قيل قد أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوا الكل وأنكروا لهم ولهذا قد سلط الله على سدهم الجرد قيل نوع من الفأرة فنقبت في أسفل السد بالهام الله إياها فسال الماء فغرقت جنتهم ودفنت بيوتهم في الرمل وقد كان ذلك من غضب الله عليهم على كفرانهم نعمه وَبعد ما قد اعرضوا عن شكرنا وأرسلنا عليهم من السيل ما أرسلنا بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ المذكورتين المشابهتين للجنة الموعودة الاخروية جَنَّتَيْنِ أخريين سماهما سبحانه جنتين على سبيل التهكم والاستهزاء ذَواتَيْ أُكُلٍ وثمر خَمْطٍ بشيع سمج كزقوم اهل النار وَذواتي أَثْلٍ طرفاء لا ثمر لها ولا ظل وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ نبق قَلِيلٍ النفع والفائدة إذ لا يسمن ولا يغنى من جوع وبالجملة ذلِكَ الجزاء الذي قد جَزَيْناهُمْ من تبديل النعمة عليهم نقمة والجنة جحيما واللذة ألما والفرح ترحا والمنح محنة بِما كَفَرُوا اى كل ذلك بشؤم كفرهم وكفرانهم على نعمنا وغيهم وطغيانهم على رسلنا وكما بدلوا الشكر بالكفران قد بدلنا عليهم الجنان بالنيران والحرمان وانواع الخيبة والخسران وَبالجملة هَلْ نُجازِي بضم النون وكسر الزاى وما ننتقم بأمثال هذا الجزاء إِلَّا الْكَفُورَ المعرض المتناهي في الاعراض عن شكر نعمنا الجاحد على حقوق لطفنا وكرمنا المبالغ في ستر الحق المصر على اظهار الباطل الزاهق الزائل وَمن كمال لطفنا وجودنا إياهم قد جَعَلْنا بَيْنَهُمْ اى بين بلاد اهل سبأ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي قد بارَكْنا فِيها وكثرنا الخير على ساكنيها بتوسعة الأرزاق والفواكه والمتاجر ألا وهي ارض الشأم قُرىً ظاهِرَةً متواصلة متظاهرة يرى كل منها عن الاخرى مترادفة متتالية على متن الطريق تسهيلا لهم ليتجروا نحوها بلا كلفة وتعب وَقد قَدَّرْنا لهم فِيهَا السَّيْرَ اى في تلك القرى المترادفة على قدر مقيلهم ومبيتهم غاديا ورايحا بحيث لا يحتاجون الى حمل زاد وماء لقرب المنازل والخصب والسعة. وبعد ما قد أعطيناهم هذه الكرامات قلنا لهم على ألسنة الرسل المبعوثين إليهم او إلهاما لهم على قلوبهم بلسان الحال سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً على التعاقب والتوالي حيث شئتم لحوائجكم ومتاجركم آمِنِينَ من عموم المؤذيات مصونين من مكر الأعداء شاكرين على عموم الآلاء والنعماء غير كافرين عليها وبعد ما توجه الفقراء الى ديارهم وازدحموا حولها لغاية الخصب والرفاهية والمعيشة الوسيعة وسهولة الطريق فَقالُوا باثين شكواهم عند الله من مزاحمة الفقراء وكثرة إلمامهم عليهم كافرين على نعمة التوسعة والسهولة رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ منازل أَسْفارِنا حتى نحتاج الى حمل الزاد وشد الرواحل والعقل ليشق الأمر

[سورة سبإ (34) : آية 20]

على الفقراء فيتنحوا عنا ولا يزدحموا علينا وَبالجملة قد ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بطلب هذا التعب فأجاب الله دعاءهم وخرب القرى التي بينهم وبين الشأم وانصرف الفقراء عنهم وانقطع دعاؤهم لهم فاشتد الأمر عليهم وتشتتوا في البلاد ولم يبق عليهم شيء من الخصب والتوسعة بل قد صاروا متشتتين متفرقين فَجَعَلْناهُمْ اى قصة امنهم ورفاهيتهم وجمعيتهم بعد ما قد عكسنا الأمر عليهم أَحادِيثَ لمن بعدهم يتحدثون بينهم متعجبين قائلين على سبيل التحسر في أمثالهم قد تفرق أيدي سبأ وَبالجملة قد مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ يعنى فرقناهم في البلاد تفريقا كليا الى حيث قد لحق غسان منهم بالشأم وانمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان إِنَّ فِي ذلِكَ التبديل والتشديد والتشتيت وانواع المحن والنقم بعد النعم لَآياتٍ دلائل واضحات على قدرة العليم الحكيم القادر المقتدر على انواع الانعام والانتقام لِكُلِّ صَبَّارٍ على المتاعب والمشاق الواردة عليه حسب ما ثبت له في لوح القضاء الإلهي ومضى على الرضا بمقتضيات تقدير العليم الحكيم شَكُورٍ لنعم الله الفائضة عليه مواظبا على أداء حقوقها. ثم قال سبحانه مقسما وَالله لَقَدْ صَدَّقَ بالتشديد والتخفيف عَلَيْهِمْ اى على هؤلاء الهالكين في تيه الخسران والكفران إِبْلِيسُ العدوّ لهم المصرّ المستمر على عداوتهم من بدء فطرتهم ظَنَّهُ الذي قد ظن بهم حين قال لأبيهم آدم لأحتنكن ذريته الا قليلا وقال ولا تجد أكثرهم شاكرين وقال ايضا ولأضلنهم ولأمنينهم الى غير ذلك وبعد ما أضلهم عن طريق الشكر والايمان فَاتَّبَعُوهُ وكفروا النعم والمنعم جميعا إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بتوحيد الله المصدقين لرسله المتذكرين لعداوة إبليس وخصومته المستمرة فانصرفوا عنه وعن إضلاله فبقوا سالمين عن غوائله وَالعجب كل العجب انهم قد اتبعوا له وقبلوا اغراءه واغراءه وتغريره مع انه ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ حجة قاطعة قاهرة ملجئة لهم الى متابعته وقبول وسوسته من قبله بل من قبلنا ايضا وبالجملة ما ابتلينا وأغرينا هؤلاء الغواة البغاة الطغاة بمتابعته لعنه الله إِلَّا لِنَعْلَمَ نميز ونظهر تفرقة مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وبجميع المعتقدات الاخروية التي قد اخبر الله بها وفصلها مِمَّنْ هُوَ مِنْها اى من النشأة الآخرة والأمور الكائنة فيها فِي شَكٍّ تردد وارتياب ولهذه التفرقة والتميز اتبعناهم اليه لعنه الله وَلا تستبعد يا أكمل الرسل أمثال هذه الابتلاءات والاختبارات من الله إذ رَبُّكَ الذي قد رباك على الهداية العامة والرشد التام عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته الكائنة والتي ستكون والجارية على سرائر عباده وضمائرهم والتي ستجرى حَفِيظٌ شهيد لا يغيب عنه ايمان مؤمن وكفر كافر وشك شاك واخلاص مخلص. وبعد ما قد اثبت المشركون المصرون على كفران نعم الله أمثال هؤلاء الغواة المذكورين آلهة سوى الله سبحانه وسموهم شفعاء وعبدوا لهم مثل عبادته سبحانه قُلِ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا ادْعُوا ايها الضالون المشركون آلهتكم الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنتم وأثبتم مِنْ دُونِ اللَّهِ ليستجيبوا لكم في مهماتكم ويستجلبوا لكم المنافع ويدفعوا عنكم المضار كما هو شأن الألوهية والربوبية وكيف تدعونهم لأمثال هذه المهام مع انهم في أنفسهم لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ من الخير والشر والنفع والضر لا فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ لا استقلالا إذ هم ليسوا في أنفسهم قابلين للالوهية وَلا مشاركة إذ ما لَهُمْ فِيهِما وفي خلقهما وايجادهما مِنْ شِرْكٍ ومشاركة مع الله الواحد الأحد الفرد الصمد في ألوهيته وربوبيته بل هم من جملة مخلوقاته سبحانه

[سورة سبإ (34) : آية 23]

بل من أدونها وَلا شك انه لا شركة للمخلوق المرذول مع خالقه ولا مظاهرة ايضا إذ ما لَهُ سبحانه مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ يعنى لا منهم ولا من غيرهم ايضا معاون له في ألوهيته وربوبيته إذ هو سبحانه مستقل في عموم تصرفاته منزه عن المعاونة والمظاهرة مطلقا وَكذلك ليس لهم عنده سبحانه شفاعة مقبولة حتى يشفعوا لهم ويخلصوهم عن عذاب الله بعد ما قد حل ونزل عليهم إذ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ سبحانه من احد من عباده إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ سبحانه بالشفاعة لغيره عنده عز وجل لاتصافه بالشرف والكمال كنبينا عليه السلام واذن لبعض العصاة بشفاعة الغير له من الشرفاء المأذونين لاستحقاقه بالكرامة والمرحمة في علم الله وان كان منغمسا بالرذالة والمعصية طول عمره وبعد ما وقعت الشفاعة واذن بها من عنده سبحانه لا بد وان ينتظر الشافعون والمشفعون بعد وقوعها وجلين خائفين مهابة وخوفا من سطوة سلطنة صفات جلاله سبحانه حَتَّى إِذا فُزِّعَ وكشف الفزع وأزيل الخوف والوجل عَنْ قُلُوبِهِمْ اى قلوب الشافعين والمشفعين والمشفوعين قالُوا اى بعضهم لبعض او المشفعون للشافعين ماذا قالَ رَبُّكُمْ في جواب شفاعتكم لنا أيقبلها أم يردّها قالُوا اى الشفعاء القول الْحَقَّ الثابت عنده المرضى دونه وهو سبحانه قد قبل شفاعتنا في حقكم وقد أزال عنكم عذابه بفضله ولطفه وَكيف لا يخافون من الله ولا يهابون من ساحة عز حضوره إذ هُوَ سبحانه الْعَلِيُّ ذاته وشأنه المقصور المنحصر على العلو الأعلى ولا أعلى الا هو الْكَبِيرُ حسب أوصافه وأسمائه إذ الكبرياء رداؤه والعظمة إزاره لا يسع لأحد ان يتردى بردائه ويتأزر بإزاره سواه سبحانه قُلْ لهم ايضا على سبيل التبكيت والإلزام مقرعا إياهم مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ اى عالم الأسباب وَالْأَرْضِ اى عالم المسببات فيبهتون البتة عن سؤالك هذا قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بهتوا اللَّهُ إذ هو متعين للجواب وان سكتوا عنه عنادا او تلعثموا مخافة الإلزام والافحام الا انهم قد اضمروا في قلوبهم هذا إذ لا جواب لهم سواه ولا رازق في الوجود الا هو ولا معطى غيره وَبعد ما قد بهتوا وانخسروا واستولى الحيرة والقلق عليهم قل لهم على سبيل المجاراة والمداراة إِنَّا يعنى نحن فرق الموحدين أَوْ إِيَّاكُمْ يعنى أنتم فرق المشركين اى كل منا ومنكم لَعَلى هُدىً اى على منهج الصدق والصواب الموصل الى الحق المطابق للواقع أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر انحرافه موصل الى الباطل الزاهق الزائل المضاد للحق الحقيق بالمتابعة والانقياد فتربصوا وانتظروا أنتم بنا كما نتربص نحن بكم ثم قُلْ لهم ايضا على سبيل المجاراة والمبالغة في المداراة معهم بحيث تسند الجريمة والمعصية الى انفسكم والعمل إليهم مبالغة في الإسكات والتبكيت لا تُسْئَلُونَ أنتم عَمَّا أَجْرَمْنا وجئنا به من الآثام والمعاصي وَكذا لا نُسْئَلُ نحن ايضا عَمَّا تَعْمَلُونَ من الأعمال بل كل منا ومنكم رهين بما اكتسبنا من العمل فعليكم ما حملتم وعلينا ما حملنا ثم قُلْ يا أكمل الرسل إياهم ايضا على طريق الملاينة والملاطفة في الإلزام والتبكيت يَجْمَعُ بَيْنَنا وبينكم رَبُّنا وربكم يوم نحشر اليه ونعرض عليه جميعا ثُمَّ يَفْتَحُ يحكم ويفصل بَيْنَنا ويرفع عنا نزاعنا بِالْحَقِّ والعدل السوى بلا حيف وميل إذ لا يتصور هذا في شأنه سبحانه فحينئذ يساق المحقون الى الجنة والمبطلون الى النار وَكيف لا يحكم ولا يفصل ولا يفتح سبحانه مع انه هُوَ الْفَتَّاحُ الكشاف لمعضلات الأمور ولمغلقات مطلق القضايا والاحكام الْعَلِيمُ الذي

[سورة سبإ (34) : آية 27]

يكتنه عنده كل معلوم ولا يشتبه عليه شيء من المحسوس والمفهوم قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد أشبعت الكلام الدال على اسكاتهم وإلزامهم أَرُونِيَ وأخبروني ايها المشركون المفرطون الآلهة الباطلة الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ سبحانه وادعيتموهم أنتم من تلقاء انفسكم شُرَكاءَ معه سبحانه مستحقين للعبادة مثله ظلما وعدوانا وأخبروني عن أخص اوصافهم التي بها يستحقون الألوهية والعبودية لا تأمل ايضا في شأنهم وأتدبر في حقهم حتى ظهر عندي ولاح لدى ايضا استحقاقهم للشركة في الألوهية والربوبية. ثم رد عليهم سبحانه ردعا لهم وزجرا عليهم عماهم عليه وإرشادا لهم الى ما هو الحق الحقيق بالاتباع فقال كَلَّا اى ارتدعوا ارتداعا بليغا ايها المشركون المسرفون المفرطون عن دعوى الشركة مع الله الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي ليس له شريك ولا نظير ولا وزير ولا ظهير مطلقا بَلْ هُوَ اللَّهُ الواحد الأحد المستقل بالالوهية والربوبية بل في الوجود والتحقق الْعَزِيزُ الغالب القادر القاهر على من دونه من الاظلال والأشباح الهالكة المستهلكة في شمس ذاته المتشعشعة المتجلية حسب شئون أسمائه وصفاته الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله المترتبة على علمه المحيط وارادته الكاملة وقدرته الشاملة يفعل ما يشاء ارادة واختيارا ويحكم ما يريد استقلالا وانفرادا ليس لاحد ان يتصرف في ملكه وملكوته او يدعى الشركة معه او المظاهرة والمعاونة. تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وَبعد ما قد ثبت ان لا معبود في الوجود سوانا ولا مستحق للعبادة غيرنا فاعلم يا أكمل الرسل انا ما أَرْسَلْناكَ بعد ما قد انتخبناك من بين البرايا واصطفيناك لأمر الرسالة إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ يعنى الا رسالة عامة تامة شاملة لقاطبة الأنام لتكفهم أنت عن جميع الآثام وتمنعهم عن مقتضيات نفوسهم ومشتهيات قلوبهم مما يعوقهم عن سبيل السلامة وطرق الاستقامة وبعد ما قد أرسلناك إليهم هكذا قد صيرناك عليهم بَشِيراً تبشرهم بدرجات الجنان والفوز بلقاء الرحمن وَنَذِيراً تنذرهم وتبعدهم عن دركات النيران ولحوق انواع العذاب والخذلان فيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على الكفران والنسيان لا يَعْلَمُونَ حكمة الإرسال والإرشاد والهداية الى سبيل الصواب والسداد ولذلك عاندوا معك يا أكمل الرسل وكذبوك وأنكروا بكتابك وبجميع ما جئت به من عندنا عنادا ومكابرة وَمن شدة انكارهم وعنادهم يَقُولُونَ لك يا أكمل الرسل منكرين ومتهكمين بعد ما قد وعدتهم بقيام الساعة وبعث الموتى من قبورهم وحشر الأموات من الأجداث مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي قد وعدتنا به عينوا لنا وقت وقوع الموعود إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم ودعواكم هذه يعنون بالخطاب رسول الله صلّى الله عليه والمؤمنين جميعا قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم بعد ما اقترحوا على سبيل الإنكار قد يأتى ويبادر لَكُمْ ايها المنكرون للبعث بغتة مِيعادُ يَوْمٍ اى وعده وزمانه بحيث لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ يعنى لا يسع لكم متى فاجأتكم الساعة الموعودة ان تطلبوا التأخر عنه آنا ولحظة او التقدم عليه طرفة ولمحة وبالجملة قيام الساعة مثل حلول الأجل فكما إذا حل عليكم اجلكم لا يمكنكم طلب التقديم والتأخير فكذلك قيام الساعة إذا حل عليكم لا يمكنكم هذا ولذا قيل الموت هو القيامة الصغرى وقال صلّى الله عليه وسلّم من مات فقد قامت قيامته وَمن كمال غيظ المشركين معك يا أكمل الرسل وشدة انكارهم على كتابك بسبب اشتماله على الأوامر والنواهي الشاقة والتكليفات الشديدة وكذا بواسطة ما اخبر فيه من قيام الساعة واهوال الفزع الأكبر والطامة الكبرى

[سورة سبإ (34) : آية 32]

قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا الحق واعرضوا عن مقتضاه لَنْ نُؤْمِنَ ولن نصدق ابدا نحن بِهذَا الْقُرْآنِ المفترى وبما فيه من الإنذارات والتخويفات سيما حشر الأجساد واعادة المعدوم بعينه وَلا نصدق ايضا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السالفة المشتملة على ذكر القيامة وغيرها وذلك انهم قد فتشوا من احبار اليهود والنصارى ومن جميع من انزل إليهم الكتب والصحف فسمعوا منهم جملة انه قد ذكر في كتابهم نعت محمد صلّى الله عليه وسلم وحليته ووصف كتابه ايضا وذكر الحشر والنشر وعموم المعتقدات الاخروية لذلك قد بالغوا في تكذيب الكتب الإلهية رأسا وصرفوا الناس ايضا عن تصديقها والايمان بها وبمن انزل إليهم سيما بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وَلَوْ تَرى ايها الرائي لرأيت امرا فظيعا فجيعا وقت إِذِ الظَّالِمُونَ الخارجون عن ربقة العبودية بتكذيب الرسل وانكار الكتب وما فيها من احوال النشأة الاخرى سيما القرآن ومحمد صلّى الله عليه وسلم مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ محبوسون للعرض والحساب قد يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يعنى يتحاورون فيما بينهم ويتراجعون في الأقوال ويتلاومون ويتلاعنون فيها حيث يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا من الاتباع والخدمة المتسمين بذل التبعية والفرعية لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا من المتبوعين المتعززين بعزّ الثروة والرياسة لَوْلا أَنْتُمْ موجودون مقتدون بيننا لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ مهتدين موقنين بتوحيد الله مصدقين لكتبه ورسله وبجميع ما جرى على ألسنة الرسل والكتب ثم قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا اى المتبوعون المتعظمون بعز الثروة والرياسة وبشرف الجاه والسيادة لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا اى للاتباع والسفلة أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى يعنى لم نكن نحن صادين صارفين لكم عن الايمان بالرسل والكتب بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ الرسل بالكتب المشتملة على الهدى والبينات ودعوكم الى الايمان بل نحن حينئذ ما صددنا وصرفنا الا أنفسنا بلا تغرير وتضليل منا إياكم بَلْ كُنْتُمْ حينئذ مُجْرِمِينَ تاركين الايمان والهداية تقليدا علينا بلا صد منا وذب من قبلنا وَقالَ الاتباع الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لم يكن اضلالكم وتغريركم علينا منحصرا في الصد والذب باللسان والأركان بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يعنى مكركم وخداعكم في تضليلنا قد كان دائما مستوعبا للأيام والليالى وليس مخصوصا بوقت دون وقت لأنكم رؤساء بيننا اصحاب الثروة والجاه فينا فتخدعون بنا قولا وفعلا وقد مالت قلوبنا الى ما أنتم عليه إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وبتوحيده وننكر رسله وكتبه وَنَجْعَلَ لَهُ اى نثبت ونعتقد لله الواحد الأحد الصمد المنزه عن الشريك مطلقا أَنْداداً شركاء معه سبحانه في استحقاق العبادة والإطاعة والتوجه والرجوع في مطلق الخطوب والمهام وَبالجملة هم قد أَسَرُّوا اى أظهروا او اخفوا النَّدامَةَ على ما قد فات عنهم يعنى لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ النازل عليهم بشؤم ما صدر عنهم في النشأة الاولى أظهروا الندامة تحسرا وتحزنا او اخفوها مخافة التعيير والتقريع وَبعد ما أردنا تعذيبهم قد جَعَلْنَا الْأَغْلالَ الممثلة لهم من تعديهم وظلمهم بالخروج عن مقتضى الحدود الإلهية فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا بوحدة الحق واثبتوا له أندادا وأنكروا لعموم رسله وكتبه تابعين ومتبوعين ضالين ومضلين وقلنا لهم حينئذ توبيخا وتقريعا هَلْ يُجْزَوْنَ ما يعذبون هؤلاء البعداء من ساحة عز القبول إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ يعنى بمقتضى أعمالهم وأفعالهم وبحسبها وطبقها بمقتضى العدل الإلهي وَكيف لا نأخذهم بشؤم أعمالهم وأفعالهم إذ ما أَرْسَلْنا وما بعثنا فِي قَرْيَةٍ من القرى الهالكة مِنْ نَذِيرٍ من النذر المبعوثين لإصلاح مفاسدهم

[سورة سبإ (34) : آية 35]

إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها ورؤساؤها ومتنعموها للرسل من فرط عتوهم وعنادهم اتكاء على ما عندهم من الجاه والثروة على سبيل التأكيد والمبالغة إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وبعموم ما قد جئتم لأجله ايها المدعون للرسالة والهداية والدعوة العامة واقامة الحدود بين الأنام كافِرُونَ جاحدون منكرون لا نقبل منكم أمثال هذه الخرافات وَقالُوا مفتخرين بما عندهم من الجاه والثروة نَحْنُ اولى وأحرى بما ادعيتم من الرسالة والنبوة منكم إذ نحن أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وبالأموال نقتنص عموم المطالب والآمال وبمظاهرة الأولاد ندفع كل ملمة ومكروه وَبالجملة ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ لا في الدنيا لما سمعت من كرامة الأموال والأولاد ولا في الآخرة ايضا ان فرض وقوعها لأنا قوم أكرمنا الله في الدنيا فكذا يكرمنا فيها قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بالغوا في الافتخار والمباهات بما عندهم من حطام الدنيا ومتاعها إِنَّ رَبِّي القادر المقتدر على انواع الانعام والانتقام يَبْسُطُ ويكثر الرِّزْقَ الصوري الدنيوي لِمَنْ يَشاءُ من عباده اختبارا لهم وابتلاء وَيَقْدِرُ اى يقل ويقبض عمن يشاء تيسيرا له وتسهيلا عليه حسابه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على السهو والنسيان لا يَعْلَمُونَ حكمة قبضه وبسطه سبحانه كذلك يفرحون بوجوده ويحزنون بعدمه ولم يتفطنوا ان وجوده يورث حزنا طويلا وعذابا أليما وعدمه يورث انواع الكرامات ونيل المثوبات ورفع الدرجات. ثم قال سبحانه تقريعا على المفتخرين بالأموال والأولاد وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ ايها المغرورون بهما المحرومون عن اللذات الاخروية بسببهما ان تكونا وسيلتين وواسطتين بِالَّتِي اى بالخصلة الحسنى التي تُقَرِّبُكُمْ ايها المأمورون بالتقرب إلينا بالأعمال المقبولة عِنْدَنا زُلْفى يعنى تقريبا مطلوبا لكم مصلحا لأعمالكم وأحوالكم ومواجيدكم إِلَّا مَنْ آمَنَ منكم ايها المتمولون المتكثرون للأولاد وأيقن بتوحيده سبحانه وصدق رسله وكتبه وَمع ذلك قد عَمِلَ عملا صالِحاً مقبولا مرضيا عند الله متقربا به اليه سبحانه بان أنفق ماله في سبيل الله بلا من ولا أذى طلبا لمرضاته او علم أولاده علم التوحيد والاحكام وكذا علم العقائد المتعلقة بدين الإسلام فَأُولئِكَ السعداء المتمولون المقبولون عند الله المبسوطون من عنده بالرزق الصوري في هذه النشأة لَهُمْ في النشأة الاخرى جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا يعنى جزاؤهم من الرزق المعنوي في النشأة الاخرى بأضعاف ما استحقوا بأعمالهم الدنيوية الى العشرة بل الى ما شاء الله من الكثرة وَبالجملة هُمْ فِي الْغُرُفاتِ المعدة لأهل الجنة آمِنُونَ مصونون محفوظون عن جميع المؤذيات والمكروهات. ثم قال سبحانه وَالكافرون المنكرون المكذبون لرسلنا وكتبنا الَّذِينَ يَسْعَوْنَ ويجتهدون فِي قدح آياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وعلى مطلق الاحكام الشرعية الجارية بين عبادنا المتعلقة لأحوالهم في النشأتين حال كونهم مُعاجِزِينَ ساعين قاصدين عجزنا عن اقامة حدودنا بين عبادنا واتخاذنا العهود والمواثيق منهم وعن وضع التكاليف والاحكام والآداب بينهم وبالجملة أُولئِكَ البعداء الطاعنون لآياتنا الكبرى الغافلون عن فوائدها العظمى فِي الْعَذابِ المؤبد المخلد مُحْضَرُونَ لا يتحولون منه ولا يغيبون عنه أصلا قُلْ يا أكمل الرسل للمسرفين المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية متكئين بما عندهم من الأموال والأولاد الفانية الزائلة مفتخرين بها تفوقا وتبجحا إِنَّ رَبِّي العليم المطلع على عموم استعدادات عباده الحكيم المتقن في افاضة ما يليق بهم يَبْسُطُ الرِّزْقَ يزيد ويفيض الصوري لِمَنْ يَشاءُ

[سورة سبإ (34) : آية 40]

مِنْ عِبادِهِ تارة بمقتضى مشيته ومراده وَيَقْدِرُ لَهُ اى ينقص ويقبض الرزق عنه تارة اخرى ارادة واختيارا على حسب حكمته ومصلحته التي قد استأثر بها في غيبه وحضرة علمه المحيط وَبعد ما قد سمعتم هذا اعلموا ايها المبسوطون المنعمون ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ مما قد استخلفكم الله سبحانه عليه من الرزق وأمركم بإنفاقه على فقرائه فَهُوَ سبحانه يُخْلِفُهُ ويعوض عنه بأضعافه وآلافه على وفق الحكمة ان صدر عنكم الانفاق في النشأة الاولى بالاعتدال بلا تبذير وتقتير وَكيف لا يخلف الرزق الصوري سبحانه لخلص عباده مع انه هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ بالرزق الصوري والمعنوي لعباده الخلص وهذا للمخلصين له عن مقتضيات بشريتهم ومشتهيات أهويتهم البهيمية وَاذكر يا أكمل الرسل لمن عبد الملائكة واتخذوهم أربابا من دون الله مستحقين للعبادة والرجوع في الملمات مثله سبحانه وسموهم شفعاء يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ في المحشر جَمِيعاً العابدين والمعبودين ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ على رؤس الاشهاد تفضيحا للعابدين وتقريعا لهم أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ يعنى أهؤلاء المشركون المسرفون يعبدون إياكم ايها الملائكة كعبادتى بل يخصونكم بالعبادة ويهتمون بشأنكم مزيد اهتمام هل تستعبدونهم أنتم وتسترضون بعبادتهم وتوالون معهم أم هم يعبدونكم من تلقاء أنفسهم قالُوا اى الملائكة خائفين من بطشه سبحانه مستحيين منه متضرعين نحو جنابه سُبْحانَكَ ننزهك يا مولانا عما لا يليق بشأنك أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ وأنت المراقب علينا المطلع على سرائرنا وضمائرنا المتولى لعموم ما قد صدر عنا وبالجملة أنت تعلم واعلم منا يا مولانا ان لا موالاة بيننا وبينهم إذ لا يخفى عليك خافية ومن اين يسع لنا ويتأتى منا الرضا بأمثال هذه الجرأة والجريمة العظيمة وأنت اعلم ايضا بمعبوداتهم التي قد اتخذوها وأخذوها هؤلاء الغواة الطغاة الهالكون في تيه الجهل والغفلة بعلو شأنك وبشأن الوهيتك وربوبيتك بَلْ هم قد كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ اى الشياطين الداعين لهم الى عبادتهم الراضين منهم بعد ما قيدوا لهم إذ هم قد يتمثلون بصور الملائكة ويدعون الألوهية والربوبية لأنفسهم ويأمرونهم بالعبادة بل أَكْثَرُهُمْ اى كل المشركين وعموم المتخذين لله أندادا بِهِمْ مُؤْمِنُونَ اى بالشياطين وباغوائهم واغرائهم وتغريرهم عابدون لهم متوجهون نحوهم في عموم مهامهم فَالْيَوْمَ تبلى السرائر وظهر ما في الضمائر وقد لاح سلطان الوحدة الذاتية وانقهر الاظلال والأغيار وظهر ان الأمور كلها مفوضة اليه سبحانه وان كان قبل ذلك ايضا كذلك وقد علمتم الآن انه لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ ايها الاظلال المستهلكة في شمس الذات لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا لا جلبا ولا دفعا ولا لطفا ولا قهرا وَبعد ما قد انقطع عنهم التصرف مطلقا ولم يبق لهم الاختيار لا صورة ولا معنى ولا حقيقة ولا مجازا نَقُولُ بمقتضى قهرنا وجلالنا لِلَّذِينَ ظَلَمُوا وخرجوا عن ربقة عبوديتنا ومقتضيات حدودنا الموضوعة لا صلاح احوال عبادنا ذُوقُوا ايها الضالون المنهمكون في بحر العدوان والطغيان عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ في النشأة الاولى سيما قد أخبرتم على ألسنة الرسل والكتب وَكيف لا نقول لهم ما نقول إذ هم قد كانوا من عدوانهم وظلمهم على الله ورسله وكتبه إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على إصلاح أحوالهم المتعلقة بالنشأتين مع كونها بَيِّناتٍ في الدلالة على أهم مقاصدهم ومطالبهم لو كانوا من ذوى الرشد والهداية قالُوا من شدة شكيمتهم وغيظهم على رسول الله ما هذا المدعى للرسالة والنبوة يعنون الرسول صلّى الله عليه وسلم

[سورة سبإ (34) : آية 44]

إِلَّا رَجُلٌ حقير مستبد برأيه مستبدع امرا من تلقاء نفسه يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ ويصرفكم عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ ويستتبعكم بل يستعبدكم بأمثال هذا التلبيس والتغرير وَقالُوا ايضا في حق القرآن ما هذا الذي جاء به إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً وكذب مختلق غير مطابق للواقع قد افتراه على الله تلبيسا وتغريرا على ضعفاء الأنام وَبالجملة قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ الصريح وستروه بالباطل عدوانا وعنادا لَمَّا جاءَهُمْ وحين عاينوا به وعلموا انه من الخوارق العجيبة وقد اضطروا عن معاوضته خائبين حائرين عن جميع طرق الرد والمنع غير انهم نسبوه الى السحر وقالوا إِنْ هذا ما هذا الذي سماه قرآنا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته عظيم اعجازه. ثم أشار سبحانه الى غاية تجهيل المشركين ونهاية تسفيههم فقال وَما آتَيْناهُمْ وما أنزلنا عليهم مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وفيها دليل الإشراك واثبات الآلهة بل كل الكتب والصحف انما هي منزلة على طريق التوحيد وبيان سلوكه وَكذلك ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ يا أكمل الرسل مِنْ نَذِيرٍ ينذرهم عن التوحيد ويدعوهم الى الشرك المنافى له ثم أشار سبحانه الى تسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتهديدهم بالبطش والأخذ فقال وَكما كذب هؤلاء المكذبون بك يا أكمل الرسل وبكتابك كذلك قد كَذَّبَ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم رسلهم وقد أنكروا الكتب المنزلة إليهم أمثالهم بل وَهم اى هؤلاء الغواة المكذبون لك يا أكمل الرسل ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ وعشر ما قد أعطينا لأولئك المكذبين الماضين من الجاه والثروة والامتعة الدنياوية وطول العمر فَكَذَّبُوا رُسُلِي فأخذناهم مع كمال قوتهم وشوكتهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري وانتقامي إياهم بالتدمير والهلاك بسبب انكارهم وظهورهم على رسلي وكتبي بالتكذيب والاستخفاف نستأخذ هؤلاء المكذبين ايضا ونستأصلهم بأشد من ذلك قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما قد بلغ إلزامهم وتهديدهم غايته إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ يعنى ما اذكر لكم وما أنبه عليكم الا بخصلة واحدة كريمة وهي أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ وحده وتوحدوه عن وصمة الكثرة مطلقا وتواظبوا على أداء الأعمال الصالحة المقربة اليه المقبولة عنده سبحانه وتخلصوها لوجهه الكريم بلا شوب شركة ولوث كثرة وخباثة رعونة ورياء وسمعة وعجب وخديعة وتسترشدوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم مَثْنى اثنين اثنين وَفُرادى واحدا واحدا يعنى متفرقين بلا زحام مشوش للخاطر مخلط للأقوال والأصوات عنده صلّى الله عليه وسلّم حتى يظهر لكم شأنه صلّى الله عليه وسلّم ويتبين دونكم برهانه ثُمَّ بعد ما ترددتم عليه صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التعاقب والتفريق تَتَفَكَّرُوا وتتأملوا فيما لاح عليكم منه صلّى الله عليه وسلّم وتتدبروا حق التأمل والتدبر على وجه الإنصاف معرضين عن الجدل والاعتساف لينكشف لكم ويظهر دونكم انه ما بِصاحِبِكُمْ يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلم مِنْ جِنَّةٍ جنون وخبط يعرضه ويطرأ عليه هو يحمله على ادعاء الرسالة بلا برهان واضح يتضح له وينكشف دونه كما زعم في حقه صلّى الله عليه وسلّم مشركوا اهل مكة خذلهم الله كي يفتضح على رؤس الاشهاد كما نشاهد من متشيخة زماننا احسن الله أحوالهم أمثال هذه الخرافات والمزخرفات بلا سند ومستند واضح صريح سوى التلبيس والتدليس الذي هو من شيم إبليس وبعد ما لم يساعدهم البرهان والكرامة افتضحوا بأصناف اللوم والملامة وهو صلّى الله عليه وسلّم مع كمال عقله ورزانة رأيه ومتانة حكمته كيف يختار ما هو سبب الشنعة والافتضاح تعالى شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما

[سورة سبإ (34) : آية 47]

يقول في حقه الظالمون علوا كبيرا او المعنى ثم بعد ما جلستم عنده صلّى الله عليه وسلّم على الوجه وتكلمتم معه على طريق الإنصاف تتفكروا وتتأملوا هل تجدونه صلّى الله عليه وسلّم معروضا للخبط والجنون أم للأمر السماوي الباعث له صلّى الله على اظهار أمثال هذه الحكم والاحكام والعبر والأمثال التي قد عجزت دونها فحول العقلاء وجماهير الفصحاء والبلغاء البالغين أقصى نهاية الإدراك مع وفور دواعيهم بمعارضتها والتحدي معها بل إِنْ هُوَ وما هذا الرسول المرسل إليكم المؤيد بالبراهين الواضحة والمعجزات اللائحة المثبتة لرسالته إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ من قبل الحق بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ يعنى قبيل وقدام يوم القيامة المعدة لانواع العذاب والنكال على عصاة العباد وان اتهموك يا أكمل الرسل بأخذ الأجر والجعل على أداء الرسالة وتبليغ الاحكام بل قد حصروا ادعاك الرسالة ودعوتك على هذا فقط قُلْ لهم على سبيل الإسكات والإلزام ما سَأَلْتُكُمْ عنكم شيأ من الجعل أصلا وان فرض انى سألت منكم شيأ فاعلموا ان ما سألتكم مِنْ أَجْرٍ على إرشادكم وتكميلكم فَهُوَ لَكُمْ اى هو هبة موهوبة لكم من قبلي مردودة عليكم منى وبالجملة إِنْ أَجْرِيَ وما جعلى على تحمل هذه المشاق والمتاعب الواردة على في تبليغ الرسالة واظهار الدعوة إِلَّا عَلَى اللَّهِ الذي قد أرسلني بالحق وبعثني بالصدق على الصدق وهو المراقب المطلع على عموم أحوالي الحكيم المتقن بافاضة ما ينبغي ويليق بشأنى وحالي وَكيف لا يطلع سبحانه على احوال عباده إذ هُوَ بذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ ظهر من الموجودات ولاح عليه لمعة الوجود وبروق التجليات شَهِيدٌ حاضر دونه غير بعيد عنه ومغيب عليه قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما قد تمادى مراء اهل الضلال وتطاول جدالهم لا أبالي باستهدائكم واسترشادكم ولا أبالغ في تكميلكم ورشادكم بل إِنَّ رَبِّي العليم باستعدادات عباده الحكيم بافاضة الايمان والعرفان على من أراد هدايته وإرشاده يَقْذِفُ بِالْحَقِّ اى يلقيه وينزل على قلوب عباده الذين قد جبلهم على فطرة الإسلام واستعدادات التوحيد والعرفان إذ هو سبحانه عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعلم استعدادات عموم عباده وقابلياتهم على قبول الحق ويميزهم عن اهل الزيغ والضلال المجبولين على الغواية الفطرية والجهل قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما قد بينت لهم طريق الحق كلاما ناشئا عن محض الحكمة خاليا عن وصمة الكذب مطلقا قد جاءَ الْحَقُّ الحقيق بالاتباع وظهر الإسلام الجدير للاطاعة والتسليم فلكم ان تغتنموا الفرصة وتنقادوا له مخلصين وَنبههم يا أكمل الرسل ايضا انه بعد ما قد ظهر نور الإسلام وعلا قدره وارتفع شأنه ما يُبْدِئُ الْباطِلُ الذي قد زهق واضمحل ظلمته بنور الإسلام وغار مناره في مهاوي الجهل واغوار النسيان أصلا وَقد صار بحيث ما يُعِيدُ ابدا في حين من الأحيان فسبحان من اظهر نور الإسلام ورفع اعلامه وقمع الكفر واخفض اصنامه. ثم لما طعن المشركون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعيروه بانك قد تركت دين آبائك واخترعت دينا من تلقاء نفسك فقد ضللت باختيارك هذا وبتركك ذاك عن منهج الرشد وسبيل السداد رد الله سبحانه عليهم قولهم هذا وتعييرهم آمرا للنبي على وجه الامتنان قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد عيروك وطعنوا في شأنك ودينك إِنْ ضَلَلْتُ انا وانحرفت عن سبيل السلامة وجادة الاستقامة فَإِنَّما أَضِلُّ وانحرف عَلى نَفْسِي بمقتضى اهويتها ومشتهياتها وبشؤم لذاتها وشهواتها وَإِنِ اهْتَدَيْتُ الى التوحيد والعرفان ونلت الى اسباب درجات الجنان فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي بسبب وحيه والهامه على

[سورة سبإ (34) : آية 51]

وامتنانه بأنواع الهداية والكرامات وبأصناف اللذات الروحانية والمكاشفات والمشاهدات وبالجملة إِنَّهُ سبحانه سَمِيعٌ قَرِيبٌ يسمع عموم مناجاتي ويقضى جميع حاجاتي على وجهها ان تعلق ارادته ومشيته بها بعد ما قد جرى وثبت في حضرة علمه ومضى عليها قضاؤه في لوح المحفوظ بحيث لا يفوته شيء وَمن غاية قرب الله سبحانه لعباده لَوْ تَرى ايها المعتبر الرائي وقت إِذْ فَزِعُوا يعنى الكفرة والمشركين وقت حلول الأجل ونزول العذاب عليهم في يوم الساعة لرأيت امرا فظيعا فَلا فَوْتَ يعنى حين لا فوت لهم عن الله ولا غيبة عنده سبحانه لا منهم ولا من أعمالهم وأحوالهم شيء وَان تحصنوا بالحصون الحصينة والقلاع المنيعة المتينة والبروج المشيدة بل أُخِذُوا حيثما كانوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من الله ولو كانوا في قعر الأرض او قلل الجبال او في قلب الصخرة الصماء او فوق السموات العلى وفي أى مكان من الأمكنة المخفية وبالجملة قد أخذوا من مكان قريب بالنسبة اليه سبحانه إذ هو سبحانه منزه عن مطلق الأماكن شهيد حاضر في جميعها غير مغيب عنها وَبعد ما قد اضطروا الى الموت والهلاك او العذاب في يوم الجزاء قالُوا حين انقرض وقت الايمان وقد مضى أوانه آمَنَّا بِهِ اى بمحمد صلّى الله عليه وسلم وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ يعنى من أين يتأتى ويحصل لهم تناول الايمان وتلافيه وتداركه يومئذ سيما قد صاروا مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بمراحل عن الايمان إذ قد انقرض مدة التكليف والاختبار وزمان التلافي والتدارك وَحين كانوا قريبا له قادرا على تناوله وتعاطيه لم يختاروه ولم يتصفوا به بل قَدْ كَفَرُوا بِهِ صلّى الله عليه وسلّم وأنكروا على دينه وكتابه مِنْ قَبْلُ في النشأة الاولى او في الصحة وحين الدعوة يعنى قبل ما عاينوا بالعذاب والهلاك وَهم قد كانوا في زمان الايمان به صلّى الله عليه وسلّم وبكتابه يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ يعنى يرمونه صلّى الله عليه وسلّم ويرجمونه رجما بالغيب ويقولون في شأنه على سبيل التخمين والحسبان عدوانا وظلما انه شاعر كاهن مجنون ويقولون في شأن كتابه انه كلام المجانين وأساطير الأولين مع ان أمثال هذه الخرافات بالنسبة اليه صلّى الله عليه وسلّم والى كتابه مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بمراحل عن شأنه العظيم وعن شأن كتابه الكريم وبالجملة ايمانهم في حالة اضطرارهم ابعد عن محل القبول بمراحل ايضا وَبعد ما قد ايسوا عن قبول الايمان وقت الاضطرار قد حِيلَ وحجب بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من الايمان والنجاة المترتبة عليه ففعل بهم حينئذ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أحزابهم وأشباههم مِنْ قَبْلُ من الكفرة الماضين الهالكين الملتجئين الى الايمان وقت اضطرارهم وهجوم العذاب عليهم كفرعون وقارون وهامان وغيرهم إِنَّهُمْ قد كانُوا أمثال هؤلاء الغواة المنهمكين فِي شَكٍّ تردد وغفلة مُرِيبٍ موقع أصحابه في ريب عظيم وكفر شديد وانكار غليظ. أعاذنا الله وعموم عباده عن أمثاله بمنه وكرمه خاتمة سورة السبأ عليك ايها السالك المتدرج في درجات اليقين من العلم الى العين ثم الى الحق وفقك الله أعلى مطالبك واعانك على إنجاحها ان تتمكن في مقعد الصدق الذي هو مرتبة الرضاء معرضا عن الشك والتردد في مقتضيات القضاء ومبرمات الاحكام المثبتة في حضرة العلم المحيط الإلهي وان تتوجه نحوه سبحانه في حالاتك متشبثا بذيل كرم نبيه المؤيد من عنده سبحانه الذي أرشدك الى توحيده الذاتي مسترشدا

سورة فاطر

من آيات الكتاب المنزل على رسوله المبين لسلوك طريق التوحيد واليقين وكذا من أحاديث النبي الموضحة لمغلقات الكتاب المشيرة الى رموزه وإشاراته فلك في كل الأحوال التبتل الى الله والتوكل نحوه والتفويض اليه فاتخذه سبحانه وكيلك في جميع حوائجك وحسيبك في عموم مهامك يكفيك كافيا ومعينا ويكف عنك شرور عموم اعاديك مطلقا وإياك إياك ان تخلط مع اصحاب الغفلة وارباب الثروة والسيادة المفتخرين بما عندهم من المال والجاه والنسب العلى والحسب السنى على زعمهم الذي يباهي به صاحبه ويتفوق على اقرانه ويطلب الرياسة والسيادة بسببه وان أردت ان تجلس مع بنى نوعك وتصاحب معهم فاختر منهم من قطع علاقة الالفة عن الدنيا وأمانيها وتزهد عنها وعن عموم ما فيها سوى سد جوعة وستر عورة وكن يحفظه عن الحر والبرد وصاحب معه مصاحبة الحائر التائه في بيداء لا يدرى اين أطرافها وارجاءها متفكرين متدبرين للخروج منها والخلاص عن أهوالها واغوالها وبالجملة لك ان تتذكر في عموم أوقاتك وحالاتك قول نبيك المختار سيد الأبرار وسند الأحرار والأخيار الناجين المخلصين عن غوائل الدنيا الغرار الغدار وعن سرابها اللماع الخداع المكار وتجعله نصب عينيك في جميع احوالك ألا وهو هذا «كن في الدنيا كأنك غريب او عابر سبيل وعد نفسك من اصحاب القبور» جعلنا الله ممن امتثل به واتعظ بفحواه وعمل بمقتضاه ووجد في نفسه حلاوة معناه بفضله ولطفه [سورة فاطر] فاتحة سورة الفاطر لا يخفى على من تحقق بسعة قدرة الله واحاطة حضرة علمه وارادته وشمول عموم أوصافه وأسمائه الذاتية والفعلية ان مظاهر الحق ومجاليه حسب شئونه وتطوراته لا تكاد تنحصر وتحصى إذ لا يكتنه ذاته ووصفه واسمه فكيف تجلياته وتطوراته إذ لا يشغله شأن عن شأن بل كل آن في شأن لا كشأن وبعد ما كان شأنه سبحانه كذلك كيف يعد ويحصى مظاهره المترتبة على شئونه وتجلياته الغير المحصورة الا انه سبحانه قد حمد لنفسه باعتبار معظم مظاهره ومصنوعاته بالنسبة الى هؤلاء الارضيين تعليما لهم وإرشادا ليواظبوا على أداء حقوق كرمه بقدر وسعهم وطاقتهم فقال سبحانه حامدا لنفسه بعد ما تيمن باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي قد تجلى حسب أوصافه الكاملة وأسمائه العامة الشاملة الرَّحْمنِ لعموم مظاهره ومصنوعاته بافاضة رشحات نور الوجود عليهم بمقتضى الفضل والجود الرَّحِيمِ لخواص عباده باطلاعهم على منشأ الوجود ومنبع خزائن الفيض والجود [الآيات] الْحَمْدُ المحيط المشتمل على جميع الاثنية والمحامد الصادرة عن ألسنة عموم المظاهر والمجالى حالا ومقالا ثابت لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ اى الذي قد فطر وأبدع واظهر الاجرام العلوية من كتم العدم بعد ما شق وفلق ظلمته باشعة نور الوجود المنعكسة من الصفات السنى والأسماء الحسنى الإلهية وَالْأَرْضِ اى الأجسام السفلية ايضا كذلك ليتحقق مرتبتا الفاعل والقابل ويتكون منهما من الكوائن والفواسد ما شاء الله بحوله وقوته لا حول ولا قوة الا بالله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ اى الذي قد جعل وصير الملائكة الذين هم سدنة سدته العلية وخدمة عتبته السنية رُسُلًا وسائل ووسائط بينه سبحانه وبين خواص عباده من الأنبياء والرسل والأولياء المؤيدين من عند الله سبحانه بالرتب العلية والدرجات الرفيعة يبلغون إليهم من قبل الحق جميع ما تفضل بهم سبحانه من الوحى المتعلق بخير الدارين ونفع

[سورة فاطر (35) : آية 2]

النشأتين ولهذا قد صيرهم سبحانه أُولِي أَجْنِحَةٍ متعددة متفاوتة تسرعون بها نحو مصلحة قد بعثهم الله إليها وأمرهم بتبليغها مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يعنى لبعضهم اجنحة اثنين اثنين ولبعضهم ثلاثة ثلاثة ولبعضهم اربعة اربعة الى ما شاء الله بلا انحصار في عدد دون عدد بل يَزِيدُ سبحانه فِي الْخَلْقِ يعنى في جميع مخلوقاته الداخلة تحت قدرته واختياره ما يَشاءُ بلا عد وحد وحصر وإحصاء إذ لا ينتهى قدرته دون مقدور له بل له ان يتصرف فيه الى ما لا يتناهى. كما روى انه صلّى الله عليه وسلّم قد رأى جبرائيل عليه السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح وهذا دليل على ان ذكر العدد هاهنا ليس للحصر فالآية تدل ايضا على ان له سبحانه ان يتصرف في ملكه وملكوته كم شاء وكيف شاء ومتى شاء فيجوز ان يخلق أنواعا لم يخلقها قبل من أى جنس كان ويخلق ايضا في فرد من نوع أمورا عجيبة من الملاحة والصباحة والرشاقة وحسن الصوت والصورة وكمال العقل ورزانة الرأى وفطانة الذهن وخواص غريبة لم يخلقها قبل لافراد أخر من هذا النوع ولهذا يتفاوت اشخاص الإنسان في المعارف والحقائق وجميع الأمور المتعلقة بالعقل المتفرع على الإدراك بحسب الأدوار والأعصار بل في زمان واحد ايضا إذ بعضهم في نهاية البلادة وبعضهم في كمال الجلادة وبعضهم في كمال الحسن واللطافة وبعضهم في نهاية القباحة والكثافة وبالجملة له سبحانه التصرف المطلق في ملكه وملكوته بالاستقلال والاختيار بلا فترة وفتور في علمه وقدرته وارادته إذ هو سبحانه منزه عن المسامحة والملال وأوصافه بريئة عن وصمة الغرة والكلال وبالجملة إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر بالقدرة التامة عَلى كُلِّ شَيْءٍ تعلق به ارادته ومشيته قَدِيرٌ لا بد ان يتكون باختياره بلا خلف عموم ما قد لمع عليه برق ارادته ومن كمال قدرته سبحانه انه ما يَفْتَحِ اللَّهُ المدبر لأحوال عباده لِلنَّاسِ الناسين حقوق تربيته وتدبيره سبحانه مِنْ رَحْمَةٍ فائضة لهم بمقتضى جوده تفضلا عليهم من النبوة والرسالة والولاية والكرامة والعلم والمعرفة والرشد والهداية وغير ذلك من الكمالات الفائضة من عنده سبحانه فَلا مُمْسِكَ لَها ولا مانع يمنعهم عنها وَما يُمْسِكْ ويمنع سبحانه من امر بمقتضى قهره وجلاله فَلا مُرْسِلَ لَهُ يرسل إليهم مِنْ بَعْدِهِ يعنى بعد منعه سبحانه وإمساكه وَكيف يسع لاحد ان يرسل ما يمنعه إذ هُوَ الْعَزِيزُ المقصور المنحصر في ذاته على العزة والغلبة الذاتية إذ لا عزيز دونه الْحَكِيمُ المستقل في المنع والإرسال ارادة واختيارا لا يسأل عن فعله ولا مبدل لقوله ولا معقب لحكمه ثم نادى سبحانه اهل النعمة وخاطبهم ليقبلوا عليه ويواظبوا على شكر نعمه فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ الفائضة عَلَيْكُمْ واشكروا له سبحانه أداء لحقوق كرمه وتفكروا في عموم آلائه ونعمائه وتذكروا هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ المتوحد بوجوب الوجود ودوام البقاء يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ يعنى من امتزاج العلويات بالسفليات واختلاط الفواعل والأسباب مع القوابل والمسببات المسخرة تحت قدرة الحكيم العليم لينكشف لكم ويتبين دونكم انه لا إِلهَ يعبد بالحق ويتوجه نحوه في الخطوب والملمات ويسند الحوادث الكائنة الى حكمه والنعم الفائضة الى فضله وجوده إِلَّا هُوَ الله الحق الحقيق بالاطاعة والرجوع إذ لا مرجع سواه ولا مقصد غيره فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ والى اين تنصرفون عن توحيده وكيف تردون عن بابه ايها الآفكون المجرمون وبعد ما قد بعثت يا أكمل الرسل لإرشاد اهل الحيرة والضلال وتبليغ الرسالة إليهم فلك ان تصبر على عموم المتاعب والمشاق الواردة في حملها وَ

[سورة فاطر (35) : آية 5]

بالجملة إِنْ يُكَذِّبُوكَ هؤلاء الضلال بعد ما دعوتهم الى الحق فتأس بإخوانك الرسل واصبر على أذى تكذيبهم فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ عظام كثيرة مِنْ قَبْلِكَ امثالك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا وَهم قد علموا انه إِلَى اللَّهِ الواحد الأحد القادر المقتدر على الانعام والانتقام لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية تُرْجَعُ الْأُمُورُ الكائنة من التكذيب والتصديق والصبر والأذى وغير ذلك من الحوادث إذ كلها مستند الى الله أولا وبالذات حاضر في حضرة علمه المحيط ثابت في لوح قضائه المحفوظ يجازى كلا من المحقين والمبطلين والمصدقين والمكذبين بمقتضى علمه وخبرته يا أَيُّهَا النَّاسُ المنهمكون في بحر الغفلة والنسيان التائهون في تيه الغرور والطغيان إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الذي قد وعده في النشأة الاخرى لعموم عباده شقيهم وسعيدهم مطيعهم وكافرهم حَقٌّ ثابت لازم محقق إنجازه على الله بلا خلف فلكم ان تتزودوا لأخراكم وتهيئوا لأمر عقباكم كي تصلوا الى ما اعدّ لكم موليكم فَلا تَغُرَّنَّكُمُ ولا تعوقنكم الْحَياةُ الدُّنْيا ولذاتها الفانية وشهواتها الزائلة الغير الباقية عن الحيوة الابدية الازلية والبقاء السرمدي واللذات الروحانية وَبالجملة لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ يعنى لا يلبسن عليكم الشيطان المكار الغرّار الغدار بان يوقع في قلوبكم ان رحمة الله واسعة وفضله كثير ولطفه كبير وان الله سبحانه مستغن عن طاعتكم وعبادتكم وان فعل الإيلام لا يتصور من الحكيم العلام الى غير ذلك من الحيل العائقة لكم عن التقوى وعن التزود للنشأة الاخرى وبالجملة إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ يا بنى آدم عَدُوٌّ قديم مستمر عداوته من زمان أبيكم فَاتَّخِذُوهُ اى الشيطان أنتم ايضا عَدُوًّا لأنفسكم عداوة مستمرة بحيث لا تصغوا اليه ولا تقبلوا منه قوله ولا تلتفتوا الى تغريره وتلبيسه أصلا فانه يواسيكم ويغريكم الى مشتهيات نفوسكم ويوقعكم في فتنة عظيمة كما أوقع أباكم في ما مضى فعليكم ان تجتنبوا عن غوائله حتى لا تكونوا من حزبه إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ على الغواية والضلال البتة ويغريهم الى انواع البغي والعناد لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ المسعرة المعدة لأصحاب الشقاوة الازلية مثل الشيطان وسائر أحزابه واتباعه. نجنا بفضلك من سخطك واعذنا بلطفك من تغرير عدونا وعدوك. ثم قال سبحانه كلاما جمليا شاملا لعموم العباد تذكيرا وعظة مشتملا على الوعد والوعيد لكلا الفريقين الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا الحق واعرضوا عنه في النشأة الاولى عنادا ومكابرة لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ اى إحراقهم بنار القطيعة في النشأة الاخرى جزاء بما اقترفوا في النشأة الاولى إذ لا عذاب أشد من الإحراق وَالَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله وصدقوا رسله المؤيدين من عنده بالصحف والكتب المنزلة إليهم المبينة لسلوك طريق التوحيد والعرفان وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المأمورة لهم في تلك الكتب والصحف لَهُمْ في النشأة الاخرى مَغْفِرَةٌ ستر وعفو لما صدر عنهم من الذنوب قبل الايمان والتصديق وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وجزاء عظيم على ما قد عملوا بعده بمقتضى الأمر الإلهي المبين في الكتب المنزلة من عنده سبحانه أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً يعنى أيزعم الزاعم ان من زين وحسن الشيطان عمله السوء القبيح في الواقع فخيله حسنا بحسب زعمه الفاسد واعتقاده الباطل كمن كان عمله حسنا في الواقع حقا في نفس الأمر واعتقده ايضا كذلك حتى يكونا متساويين في استحقاق الأجر الجزيل والجزاء الجميل كلا وحاشا ان يكونا سيان بل شتان ما بينهما فَإِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء المقتدر على ما يشاء يُضِلُّ عن صراط توحيده حسب قهره وجلاله مَنْ يَشاءُ من عصاة عباده وَيَهْدِي اليه مَنْ يَشاءُ منهم بمقتضى لطفه

[سورة فاطر (35) : آية 9]

وجماله الى مقر وحدته وفضاء وجوبه وبقائه ومتى سمعت يا أكمل الرسل ان الإضلال والضلال والإرشاد والهداية انما هي مستندة أولا وبالذات الى مشية الله وارادته لا مدخل لاحد من خلقه فيها أصلا فَلا تَذْهَبْ أنت نَفْسُكَ اى تتعب ولا تهلك نفسك يا أكمل لرسل عَلَيْهِمْ يعنى على غواية من أردت وأحببت أنت هدايته ورشده حَسَراتٍ حال كونك متحسرا متأسفا تحسرا فوق تحسر وتحزنا غب تحزن على ضلالهم وعدم قبولهم الهداية والمعنى أفمن زين له سوء عمله فحسنة على نفسه واعتقده حقا جهلا وعنادا مع انه باطل في نفسه وبذلك ضل عن طريق الحق وانحرف عن سواء السبيل وبعد بمراحل عن الهداية بسبب هذا الاعتقاد الفاسد وأنت يا أكمل الرسل قد أذهبت وأهلكت نفسك عليهم حسرة وضجرة لم لم تهتدوا ولم تؤمنوا فان الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المراقب على جميع حالاتهم عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ يجازيهم حسب علمه بسوء صنيعهم فلا تتعب نفسك بما يفوتون على أنفسهم من الرشد والهداية وَكيف لا يعلم سبحانه ضمائر عباده واستعداداتهم مع انه اللَّهُ المدبر لأمور عباده المصلح لعموم أفعالهم وأحوالهم وحوائجهم هو الَّذِي أَرْسَلَ بلطفه وبمقتضى جوده الرِّياحَ العاصفة فَتُثِيرُ وتهيج تلك الرياح سَحاباً هامرا مركبا من الابخرة والادخنة المتصاعدة القابلة لان تتكون منها مياه بمجاورة الهوى البارد الرطب فَسُقْناهُ بعد ما قد تم تركيبه وتقاطر منه المطر عناية منا إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ يابس في غاية اليبس بحيث لا خضرة له أصلا فَأَحْيَيْنا بِهِ واخضررنا اى بالمطر الحاصل من السحاب الْأَرْضَ الجامدة اليابسة بَعْدَ مَوْتِها جفافها ويبسها كَذلِكَ اى مثل احيائنا الأرض اليابسة بعد يبسها وجمودها النُّشُورُ يعنى احياؤنا الأموات الجامدة ونشرهم من قبورهم بإعادة الروح المنفصل منهم الى أبدانهم التي قد تفتتت اجزاؤها بإرسال نفحات نسمات لطفنا ورحمتنا لتثير سحاب العناية الماطرة الفائضة قطرات ماء الحياة ورشحات الوجود المسوقة الى أراضي الأبدان اليابسة الجامدة بالموت الطبيعي انما احييناهم من الأجداث إظهارا لقدرتنا وتتميما لحكمتنا واستقلالنا في آثار تصرفاتنا في ملكنا وملكوتنا ولإظهار كمال تعززنا وكبريائنا في ذاتنا وبالجملة مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ التامة الكاملة التي لا يعقبها ذل أصلا فله ان يسترجع الى الله ويتوجه نحو توحيده فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ الذاتية والغلبة الوصفية والسلطنة الاصلية الكاملة والبسطة الشاملة جَمِيعاً ومن أراد ان يتعزز بعزة الله فله في أوائل سلوكه الى الله ان يتذكره سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا الى ان ينتهى تذكره الى التفكر الذي هو آخر العمل وصار حينئذ متفكرا في ذاته مستكشفا عن أستار جبروته سبحانه الى ان صار مستحضرا له مكاشفا إياه مشاهدا آثار أوصافه وأسمائه على صحائف الأكوان بلا مزاحمة الأعيان والأغيار وبالجملة فله ان يشتغل بالتذكر في أوائل الحال إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا غير معه في الوجود يَصْعَدُ ويرقى الْكَلِمُ الطَّيِّبُ من الأسماء الحسنى والأوصاف العظمى الناشئ من ألسنة المخلصين المتفكرين في آلاء الله ونعمائه وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ المقرون بالتبتل والإخلاص يَرْفَعُهُ يعنى يحمل ويرفع العمل المنبئ عن الإخلاص والكلم الطيب ويوصله الى درجات القرب من الله فمن كان إخلاصه في عمله أكمل كان درجات كلماته المرفوعة نحوه سبحانه ارفع وأعلى عند الله وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ مع الله المكرات السَّيِّئاتِ يعنى به سبحانه المكر السيئ الذي قد مكر به المشركون خذلهم الله مع حبيبه صلّى الله عليه وسلم لَهُمْ

[سورة فاطر (35) : آية 11]

في النشأة الاخرى عَذابٌ شَدِيدٌ جزاء بما مكروا به وَان كان مَكْرُ أُولئِكَ الماكرون هُوَ اى مكرهم في نفسه يَبُورُ يفسد ويبطل ويعود وباله ونكاله عليهم بلا اثر لمكرهم بالممكور عليه صلّى الله عليه وسلم وَكيف لا يعود ضرر مكركم إليكم ايها الماكرون المشركون إذ اللَّهُ القادر المقتدر الذي قد قصدتم المكر معه ومع من اختاره واصطفاه قد خَلَقَكُمْ وقدر وجودكم أولا مِنْ تُرابٍ جامد لا حس لها ولا شعور ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ مهينة مستحدثة من أجزاء النبات المتكون من الأرض ثُمَّ جَعَلَكُمْ وصيركم حيوانا ذا حس وحركة ارادية أَزْواجاً ذكورا وإناثا لتتوالدوا وتتكثروا وَبالجملة قد رباكم سبحانه على الوجه الأحسن الأصلح إذ هو سبحانه عليم بعموم حوائجكم وما يعنيكم وما لا يعنيكم وكذا بكل ما جرى ويجرى عليكم في اطواركم ونشآتكم السابقة واللاحقة بحيث ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ حمله إِلَّا بِعِلْمِهِ واذنه سبحانه وبمقتضى مشيته ومراده وهو معلوم له لا يغيب عن حظوره وَبعد ما وضع الحمل ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ قد بلغ عمره نهايته وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ حيث لم يبلغ ولم يصل إليها إِلَّا فِي كِتابٍ يعنى مثبت مسطور في حضرة العلم المحيط الإلهي ولوح القضاء المحفوظ إِنَّ ذلِكَ يعنى حفظه وثبته عَلَى اللَّهِ العليم الحكيم يَسِيرٌ وان كان عندكم عسيرا بل متعذرا ممتنعا إذ لا يسع لكم استحضار احوال آنكم ولحظتكم فكيف احوال يومكم وشهركم وحولكم فكيف احوال طفوليتكم وكونكم اجنة في بطون أمهاتكم ونطفة في أصلاب آبائكم ثم مثل سبحانه كلا الفريقين اى المؤمنين والكافرين بالبحرين العذب والمالح فقال وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ في النفع والفائدة الحاصلة منهما إذ هذا اى المؤمن المصدق كبحر الايمان والعرفان المترشح من بحر الوحدة الذاتية عَذْبٌ حلو في غاية الحلاوة فُراتٌ يكسر غليل أكباد المتعطشين في سراب الدنيا ببرد اليقين سائِغٌ شَرابُهُ سهل انحداره للمجبولين على فطرة التوحيد وَهذا اى الكافر المتوغل في بحر الغفلة والنسيان مِلْحٌ مالح مرّ لا مصلح يصلح من يذوق منه بل أُجاجٌ مرّ مفسد لمزاج من ذاق عنه فقد هلك هلاكا ابديا بحيث لا نجاة له وَالبحر الأجاج له نفع ولا نفع للكفر والضلال أصلا إذ مِنْ كُلٍّ من البحرين تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا مثل السمك وغيرها وَكذا تَسْتَخْرِجُونَ منهما حِلْيَةً أنواعا من الزينة التي تَلْبَسُونَها أنتم ايها المتنعمون المترفهون وَايضا تَرَى ايها الرائي الْفُلْكَ والجواري الجارية فِيهِ اى في كل من البحرين مَواخِرَ يفصل ويشق سطح الماء بجريها وما ذلك الشق والفصل الا لِتَبْتَغُوا وتطلبوا أنتم مِنْ مزيد فَضْلِهِ وطوله سبحانه مما تشتهي انفسكم بالبقلة فيها وَانما أباح لكم سبحانه منافع بره وبحره لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رجاء ان تشكروا نعمته وتزيدوا على انفسكم مزيد كرمه. ومن كمال فضل الله عليكم ورحمته انه يُولِجُ اللَّيْلَ ويدخل ظلمته فِي نور النَّهارِ يطول أجزاء النهار بايلاج أجزاء الليل فيه في فصل الصيف تتميما لمصالح معايش عباده وَكذا في فصل الشتاء يُولِجُ النَّهارَ ويدخل أجزاء منه فِي اللَّيْلِ فيطوله باجزائه تسكينا للقوى النامية وتمكينا لها ليجددها للخدمة المفوضة إليها في وقتها وَبالجملة قد سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ تتميما وتكميلا لمصالح عباده بحيث كُلٌّ منهما يَجْرِي ويدور باذن الله والهامه لِأَجَلٍ مُسَمًّى هي من مبدء دوره الى منتهاه او الى

[سورة فاطر (35) : آية 14]

انقراض نشأة الدنيا وبالجملة ذلِكُمُ المصرف المتصرف بالاستقلال والاختيار المدبّر بكمال العلم والخبرة ووفور الحكمة والدرية هو اللَّهُ رَبُّكُمْ الذي أظهركم من كتم العدم ورباكم بأنواع النعم والكرم وكيف لا يربيكم سبحانه بعد ما أبدعكم إذ لا متصرف في الكائنات سواه ولا اله في الوجود والشهود الا هو لَهُ الْمُلْكُ لا مالك سواه ولا مدبر غيره وَالمحجوبون المحرومون الَّذِينَ تَدْعُونَ ويدّعون مِنْ دُونِهِ سبحانه متصرفا آخر من التماثيل الباطلة والاظلال الهالكة العاطلة تعنتا وعنادا مع ان ما يسمونه أولئك الجاهلون آلهة سواه سبحانه ويسندون الأمور إليهم مكابرة ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ يعنى ليس لهم وفي وسعهم ان يتصرفوا في قشرة رقيقة ملتفة على ظهر النواة وهذه مثل في القلة عند العرب فكيف في غيره إذ الألوهية مسبوقة بوجوب الوجود والصفات الكاملة الذاتية والأسماء الحسنى السنى التي لا تعد ولا تحصى وليس لهؤلاء الاظلال الهلكى وجود في أنفسها ومن اين يتأتى منهم الألوهية وتتيسر لهم بل هم من ادنى الممكنات وأدون المكونات لكونها جمادات لا شعور لها أصلا بحيث إِنْ تَدْعُوهُمْ وتلتجئوا نحوهم لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ إذ ليس لهم قابلية السماع والاستماع وَلَوْ سَمِعُوا يعنى لو فرض انهم سمعوا على سبيل فرض المحال مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ إذ ليس لهم القدرة والارادة والأوصاف الكاملة اللازمة للالوهية والربوبية وَهم مع عدم نفعهم إياكم ايها الجاهلون يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ وينكرون بِشِرْكِكُمْ واشراككم واتخاذكم إياهم شركاء مع الله وهم يتبرّءون عنكم وأنتم عنهم وَبالجملة لا يُنَبِّئُكَ ولا يخبرك ايها المخاطب النبيه الفطن ان كنت من ذوى الهداية والرشد بأحوال النشأة الاخرى وما سيجرى بينهم وبين شركائهم من براءة كلا الجانبين والملاعنة مِثْلُ خَبِيرٍ وهو الله العليم الحكيم الذي لا يعزب عن احاطة حضرة علمه المحيط مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء لا في الاولى ولا في الاخرى وعنده مفاتيح عموم الغيوب ومقاليد جميع الأمور لا يعلمها الا هو. ثم نادى سبحانه عموم عباده على سبيل الاستغناء عنهم وعن أعمالهم وعن محامدهم واثنيتهم الجارية على ألسنتهم فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ الناسون عهود الله ومواثيقه التي واثقتم بها مع ربكم مع انكم تنسون نعمه وتذهلون عن حقوق كرمه اعلموا انكم أَنْتُمُ الْفُقَراءُ المحتاجون بالذات المقصورون على الافتقار إِلَى اللَّهِ الذي أظهركم من كتم العدم ولم تكونوا شيأ مذكورا ورباكم بأنواع النعم سيما العقل المفاض الذي هو مذكركم عن مبدئكم ومنشئكم فلم لم تشكروا نعمة مبدعكم ومربيكم ايها الغافلون الجاهلون مع انكم دائما محتاجون اليه وَاللَّهُ المنزه بذاته عن شكر الشاكرين وطاعة المطيعين وكذا عن كفر الكافرين وعصيان العاصين هُوَ الْغَنِيُّ المنحصر على الغنى الذاتي بحيث لا احتياج له ولا استكمال أصلا إذ كمالاته سبحانه كلها بالفعل بحيث لا ترقب في كمالاته المترتبة على شئونه مطلقا الْحَمِيدُ المحمود في نفسه على الوجه الذي يليق بشأنه إذ لا يأتى عن السنة مصنوعاته الحمد الحقيق بذاته وانما أظهركم ايها الاظلال الهالكة بمقتضى لطفه وجماله لتواظبوا على عبادته وعرفانه كي تصلوا الى زلال توحيده مترقين صاعدين من حضيض الإمكان الى أوج الوجوب الذاتي علما وعينا وحقا فأنتم تتكاسلون وتتمايلون الى اهوية انفسكم البهيمية ومشتهيات قويكم البشرية اما تخافون وما تتأملون ايها المغرورون إِنْ يَشَأْ سبحانه يُذْهِبْكُمْ عن قضاء البروز بالمرة الى خفاء الكمون وَيَأْتِ بدلكم بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وبمخلوق سواكم تتميما لحكمة العبادة والمعرفة وَاعلموا ايها الهالكون في تيه الغفلة انه ما ذلِكَ التبديل

[سورة فاطر (35) : آية 18]

والإتيان عَلَى اللَّهِ القادر المقتدر على اظهار جميع ما لاح عليه برق علمه وارادته بِعَزِيزٍ مشكل متعذر بل عنده وبجنب سرعة نفوذ قضائه سهل يسير وَبعد ما قد عرفتم قدرة الله وسمعتم كمال استغنائه فلكل منكم الإتيان بمأموراته والاجتناب عن منهياته إذ لا تَزِرُ ولا تحمل نفس وازِرَةٌ آثمة عاصية وِزْرَ نفس عاصية أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ وتطلب نفس مُثْقَلَةٌ بالأوزار والمعاصي إِلى حِمْلِها اى حمل بعض من الأوزار المحمولة عليها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ يعنى لا يحمل احد شيأ من أوزاره وان رضى بحملها لا يحمل عليها بمقتضى العدل الإلهي وَلَوْ كانَ المدعو للحمل ذا قُرْبى اى من قرابة الداعي بل كل واحدة من النفوس يومئذ رهينة بما قد اقترفت من المعاصي ما حملت هي الا عليها وما حوسبت بها الا هي. ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم في شأن عباده إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يعنى ما يفيد انذاراتك التي قد تلوت أنت يا أكمل الرسل على هؤلاء الغفلة الغواة الا القوم الذين يخافون من الله ومن عذابه حال كونهم غائبين عنه سامعين له خاشعين من نزوله خائفين من حلوله بغتة وَمع ذلك قد أَقامُوا الصَّلاةَ المأمورة المقربة لهم الى جناب قدسه مخلصين فيها مطهرين نفوسهم عن الميل الى ما سوى الحق وَبالجملة مَنْ تَزَكَّى وطهر نفسه عن الميل الى البدع والأهواء فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ إذ نفع تزكيته عائد اليه مفيد له في أولاه وأخراه وَبعد تزكيته عن لوازم بشريته ومقتضيات بهيميته العائقة عن الوصول الى مبدأ فطرته إِلَى اللَّهِ المنزه عن مطلق النقائص المبرى عن جملة الرذائل الْمَصِيرُ اى المنقلب والمآب يعنى مرجع الكل اليه ومقصده دونه سبحانه ومثواه عنده وَلكن ما يَسْتَوِي في القرب والرتبة بالنسبة اليه سبحانه الْأَعْمى الغافل الجناهل عن كيفية الرجوع والتوجه وَالْبَصِيرُ العارف العالم بأمارات الصعود والعروج وَلَا الظُّلُماتُ المتراكمة المتكاثفة بعضها فوق بعض ألا وهي ظلمة الطبيعة وظلمة الهيولى وظلمة التعينات والهويات الممتزجة المتكاثفة بالامنية الامكانية بحيث تصير حجابا غليظا وغشاء كثيفا يعمى ابصار المجبولين على الأبصار والاستبصار والعبرة والاعتبار على مقتضى الشئون القهرية الجلالية وَلَا النُّورُ المتشعشع المتجلى من وحدة الذات حسب شئونه باللطفية الجمالية وَلَا الظِّلُّ الإلهي المروح لأرواح ارباب المحبة والولاء بنفحات نسمات انواع الفتوحات والكرامات وَلَا الْحَرُورُ اى السموم المهلكة المنتشئة من فوحان الأماني الامكانية الممتزجة بيحموم الطبيعة المتصاعدة من ابخرة الاهوية الفاسدة ونيران الشهوات الملتهبة الموقدة لحطب اللذات الوهمية المورثة من القوى البهيمية وَبالجملة ما يَسْتَوِي عند الله العليم الحكيم الْأَحْياءُ بحياة المعرفة والايمان واليقين والعرفان حياة ازلية ابدية سرمدية لا امر لها حتى تنقضي ولا حدوث لها حتى تنعدم وَلَا الْأَمْواتُ بموت الجهل والضلال وانواع الغفلة والنسيان الهالكين في زاوية الإمكان الخالدين في هاوية النيران بأنواع الخمول والخذلان وبالجملة إِنَّ اللَّهَ العليم الحليم المتقن في عموم أفعاله يُسْمِعُ ويهدى مَنْ يَشاءُ من عباده عناية لهم وامتنانا عليهم الى صراط توحيده وَما أَنْتَ يا أكمل الرسل بِمُسْمِعٍ هاد مرشد مَنْ فِي الْقُبُورِ يعنى انك لا تهدى من كان راسخا متمكنا في هاوية الجهل المركب وجحيم الإمكان وأجداث الغفلة والنسيان إذ هم مجبولون على الغواية الفطرية والجهالة الجبلية لا يتأتى لك هدايتهم وإرشادهم أصلا بل إِنْ أَنْتَ اى ما أنت يا أكمل الرسل إِلَّا نَذِيرٌ لهم من قبلنا فلك ان تبلغ عموم ما

[سورة فاطر (35) : آية 24]

أوحينا إليك من الإنذارات والوعيدات الهائلة الواردة منا إياهم ولا تجتهد في هدايتهم وقبولهم إذ ما عليك الا البلاغ وعلينا الحساب إِنَّا أَرْسَلْناكَ من كمال لطفنا معك ملتبسا بِالْحَقِّ الصدق المطابق للواقع داعيا لعموم عبادنا الى توحيدنا الذاتي بَشِيراً بما قد أعددنا لهم من المراتب العلية والمقامات السنية وَنَذِيراً عليهم ايضا بما أعددنا لهم من دركات النيران الموجبة لزفرات القلوب وحسرات الجنان وَارسالنا لك يا أكمل الرسل ليس ببدع منا بل إِنْ مِنْ أُمَّةٍ وما من فرقة وطائفة من الأمم السالفة إِلَّا قد خَلا ومضى فِيها نَذِيرٌ ينذرهم عما لا يعنيهم وَبعد ما قد سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت إِنْ يُكَذِّبُوكَ أولئك الكفرة المصرون على الشرك والعناد وأنكروا بك وبكتابك لا تبال بهم وبانكارهم فَقَدْ كَذَّبَ الكفرة الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ اى من قبل هؤلاء المشركين رسلهم مع انه قد جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ المبعوثون إليهم مؤيدين مثلك بِالْبَيِّناتِ اى بالدلائل الواضحة المؤيدة بالمعجزات المثبتة لنبوتهم ورسالتهم كذا وَبِالزُّبُرِ والصحف المنزلة إليهم المشتملة على اصول اديانهم وبيان طريقهم وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ المظهر لسرائر التوحيد بحججه وبراهينه القاطعة وحكمه وأحكامه الساطعة آثارها مثل دلائل كتابك وشواهد معجزاتك ثُمَّ بعد ما قد كذبوا رسلهم وأنكروا كتبهم التي قد جاءوا بها من لدنا بمقتضى وحينا وأصروا على كفرهم وشركهم قد أَخَذْتُ بحسب عزتي وقدرتي وبمقتضى جلالي وهيبتي الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عن الحق مستكبرين مصرين على الباطل مستمرين فيه فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري إليهم بالنسبة الى انكارهم الى وإهلاكي إياهم بحيث لم يبق منهم احد يخلفهم ويحيى اسمهم ورسمهم أَلَمْ تَرَ ايها الرائي أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر بالقدرة الكاملة كيف أَنْزَلَ وأفاض مِنَ جانب السَّماءِ اى سماء الأسماء والصفات الذاتية ماءً محييا لأموات الأراضي المائتة الجامدة الباقية على صرافة العدم فَأَخْرَجْنا بِهِ اى بالماء المفاض المترشح من بحر الوجود بمقتضى الجود على ارض الطبيعة ثَمَراتٍ فواكه متنوعة من المعارف والحقائق والخواطف القدسية والواردات الغيبية المختطفة على قلوب ارباب المحبة والولاء حسب حالاتهم ومقاماتهم مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وكيفياتها علما وعينا وحقا وَمِنَ الْجِبالِ التي هي عبارة عن الأوتاد والأقطاب والبدلاء الوالهين بمطالعة ذات الله القابلين بفيضان مطلق الكرامات والفتوحات اللدنية الفائضة عليهم من مبدأ الفياض جُدَدٌ ذوو طرق وسبل موصلة الى كعبة الذات وعرفات الأسماء والصفات بِيضٌ مصفى في غاية الصفاء بلا خلط ومزج لها بألوان التعينات وإكدار الهويات أصلا وَبعضها حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها باختلاف مراتب قربهم وبعدهم عن المرتبة الاولى وَبعضها غَرابِيبُ سُودٌ متناه في السواد والظلمة بحيث لا يبقى فيها شائبة شبه بالمرتبة الاولى بل هي مباين لها مناقض إياها بحيث لا يبقى المناسبة بينهما أصلا. قيل يشير سبحانه بالجدد البيض الى طائفة الصوفية الذين هم قد صفوا بواطنهم عما سوى الحق من الأمور المنصبغة بصبغ الأكوان وألوان الإمكان وبالحمر المختلف الألوان الى طائفة المتكلمين الذين قد بحثوا عن ذات الله وصفاته متشبثين بالدلائل العقلية والنقلية الغير المؤيدة بالكشف والشهود المفيدة للظن والتخمين الا نادرا وبالغرابيب السود الى غلاة فرق الفقهاء وهم الذين قد كثفت حجبهم وغلظت اغشيتهم بحيث لم يبق في فضاء قلوبهم موضع يليق لقبول انعكاس اشعة أنوار الحق بل قد سودوها وصبغوها بلون الباطل المظلم

[سورة فاطر (35) : آية 28]

الى حيث أخرجوها عن فطرة الله التي فطر الناس عليها وَأخرجنا به ايضا اى بآثار تربية الماء واحيائها أموات الأراضي مِنَ النَّاسِ المنهمكين في الغفلة والنسيان وَالدَّوَابِّ المنسلخة من رتبة الإدراك والشعور المتعلق بالمبدأ والمعاد وَالْأَنْعامِ المشغوفة بتوفية اللذات الجسمانية والمشتهيات النفسانية مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ وكذا أجناسه وأنواعه واصنافه واشكاله وهيآته وبالجملة إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ ويخاف من بطشه مِنْ عِبادِهِ الذين قد ابدعهم الحق وأظهرهم من كتم العدم بافاضة رشاشات رشحات بحر وجوده الفائض عليهم بمقتضى جوده الْعُلَماءُ العرفاء بالله وبأوصافه الكاملة وأسمائه الحسنى الشاملة المتحققون بمرتبة التوحيد المنكشفون بسر سريان الوحدة الذاتية على عموم المظاهر إذ أخشى الناس من الله أعرفهم بشأنه ولذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم انى أخشاكم لله وأتقاكم له وكيف لا يخشى العارفون العالمون منه سبحانه إِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء عَزِيزٌ غالب على انتقام من أراد انتقامه من عباده غَفُورٌ ذنوب من تاب الى الله ورجع نحوه عن ظهر القلب. ثم أشار سبحانه الى خواص عباده ونبههم على ما هو المقبول منهم عنده سبحانه من أعمالهم وأحوالهم وحثهم عليه امتنانا لهم فقال إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ المنزل على رسوله وَأَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة المكتوبة لهم في الأوقات المحفوظة في كتاب الله وَأَنْفَقُوا طلبا لمرضاتنا مِمَّا رَزَقْناهُمْ وسقنا نحوهم من الرزق الصوري والمعنوي سِرًّا خفية من الناس اتقاء عن وصمة الرياء والسمعة ومن الفقراء المستحقين ايضا صونا لهم عن ان يتأذوا حين أخذهم وَعَلانِيَةً ايضا بعد ما اقتضى المحل إعلانه ولم يتأت منه الإخفاء يَرْجُونَ من الله بالافعال المذكورة تِجارَةً رابحة من الأحوال والمقامات لَنْ تَبُورَ اى لن تهلك ابدا ولن تفسد وتفنى أصلا وانما فعلوا ذلك لِيُوَفِّيَهُمْ ويوفر عليهم سبحانه أُجُورَهُمْ التي يستحقون بأعمالهم بها وَيَزِيدَهُمْ عليها مِنْ فَضْلِهِ ما لا يعد ولا يحصى من الكرامات امتنانا عليهم وتفضلا وكيف لا يوفيهم ويزيدهم سبحانه إِنَّهُ عز شأنه وجل برهانه غَفُورٌ في ذاته لفرطات عباده يغفر لهم عظيم ذنوبهم شَكُورٌ يقبل منهم يسير طاعاتهم التي قد أتوا بها مخلصين فكيف عسيرها وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل مِنَ الْكِتابِ الجامع بما في الكتب السالفة الحاوي بمعظمات اصول الدين هُوَ الْحَقُّ المنزل من عندنا المثبت في حضرة علمنا مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وكذا ما تقدم عليه من الكتب والصحف المنزلة من عندنا المبينة لحكمنا وأحكامنا وبالجملة إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ مطلع بجميع أقوالهم وأحوالهم وأفعالهم الظاهرة والباطنة حتى ما جرى في استعداداتهم وقابلياتهم بَصِيرٌ بما جرى وسيجرى عليهم في أولاهم وأخراهم ثُمَّ بعد ما قد اصطفيناك يا أكمل الرسل للرسالة العامة وأيدناك بانزال القرآن المعجز الموجز المشتمل على عموم فوائد الكتب السالفة مع زيادات خلا عنها الكل قد أَوْرَثْنَا الْكِتابَ المنزل إليك وابقيناه بعدك بين القوم الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا واخترناهم بإرسالك إليهم وبعثتك بينهم فجعلناهم في اقتباس نور الهداية والتوحيد من مشكاة النبوة والرسالة الختمية الخاتمية المحمدية الحاوية لمراتب عموم الرسل الذين مضوا قبله صلّى الله عليه وسلّم أصنافا ثلاثة فَمِنْهُمْ من كمال شوقهم الى مبدئهم الأصلي وغاية تحننهم نحو الفطرة الجبلية التي فطر الناس عليها في بدء الأمر ظالِمٌ لِنَفْسِهِ البشرية بحيث يمنع عنها جميع حظوظها النفسانية ومقتضيات قواها الجسمانية بحيث قد

[سورة فاطر (35) : آية 33]

اتصل بعضهم من كمال احتمائه ومنع نفسه عن مقتضياتها البهيمية بالملإ الأعلى قبل انقراض النشأة الاولى ألا وهم شطار الأولياء وهم الذين قد صرفوا هممهم العالية بالوصول الى مبدئهم الأصلي وموطنهم الحقيقي بلا التفات منهم الى ما سواه مطلقا وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ معتدل مائل عن كلا طرفي الإفراط والتفريط بحيث لا يمنع نفسه عن ضرورياتها المقومة لها ولا يكثرها عليها بل يمنعها عن الزيادة على الضروري في عموم الحوائج وبالجملة يقتصد على وجه الاعتدال في عموم الأعمال والأفعال والأقوال وجميع الأحوال ألا وهم الأبرار الأخيار من الأولياء المستوين على صراط الاستقامة والاعتدال بلا عوج وانحراف وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ مواظب على الطاعات مشمر ذيل جده وجهده دائما بالأعمال الصالحات وفواضل الصدقات والانفاق على طلب المرضات للفقراء المهاجرين عن بقعة الإمكان السائرين نحو سبيل الوجوب المنصرفين عن الدنيا وما فيها من اللذات والشهوات بِإِذْنِ اللَّهِ وعلى مقتضى ما قد ثبت في كتابه ونطق به لسان رسوله ألا وهم الأخيار المحسنون من الأولياء وان كان لهم ميل الى مزخرفات الدنيا الا انهم ما يقصدون بها ومنها الا وجوه الخيرات والمبرات وبالجملة ذلِكَ الإيراث والتوريث والإعطاء والاصطفاء هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ من الله إياهم في أولاهم والفوز العظيم والنوال الكريم لهم في أخراهم. جعلنا الله من خدامهم ومحبّيهم ومقتفى أثرهم ومن جملة فضل الله إياهم في أخراهم جَنَّاتُ عَدْنٍ معدة لهم نزلا ومنزلا من عند الله يَدْخُلُونَها فرحين مسرورين آمنين فائزين شاهدين فيها ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر يُحَلَّوْنَ فِيها تزينا وتفضلا مِنْ أَساوِرَ جزاء ما اقترفوا بأيديهم من الحسنات متخذة مِنْ ذَهَبٍ خالص في مقابلة إخلاصهم في أعمالهم وَيحلون ايضا لُؤْلُؤاً من انواع اللئالئ بدل ما يتقون ويحفظون أنفسهم من الميل إليها في نشأتهم الاولى وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ بدل ما يلبسون من الخشن في سبيل المجاهدة والسلوك نحو الحق في النشأة الاولى وَبعد ما قد وصلوا الى مقام القرب بل اتصلوا بعد رفع انانياتهم وهوياتهم الباطلة عن البين الى ما اتصلوا ووصلوا قالُوا بألسنة استعدادتهم موافقة لقلوبهم بعد ما عدوا نعم الله الفائضة عليهم وأخذوا بأداء حقوقها الْحَمْدُ اى جنس الحمد والثناء الشامل لمحامد عموم الحامدين قولا وفعلا حالا ومقالا مختص لِلَّهِ المستحق بالاستحقاق الذاتي والوصفي الَّذِي أَذْهَبَ وأزال عَنَّا الْحَزَنَ المورث لنا من لوازم انانياتنا وتعيناتنا المورثة من إمكاننا إِنَّ رَبَّنا الذي ربانا بأنواع الكرامة ونجانا عن مضيق الإمكان المورث لانواع الخذلان والحرمان لَغَفُورٌ لذنوب انانياتنا شَكُورٌ يقبل عنا أعمالنا التي يقربنا الى فضاء وحدته حسب توفيقه وتأييده إذ هو القادر المقتدر الَّذِي أَحَلَّنا وأقامنا حسب فضله ولطفه دارَ الْمُقامَةِ ومنزل الاقامة والخلود مِنْ فَضْلِهِ بنا ولطفه معنا بلا موجب منا يوجب لنا ولا يجب ايضا عليه سبحانه ايصالنا إليها آمنين مترفهين بحيث لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ تعب وعناء مثل ما قد مسنا في دار الابتلاء وَايضا لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ فترة وكلال تعقب الوصب والنصب قد نفى سبحانه اللازم بعد نفى الملزوم مبالغة وتأكيدا. ثم اردف سبحانه وعد المؤمنين بوعيد الكافرين على مقتضى سنته المستمرة في كتابه فقال وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن كتبه ورسله وأنكروا بالبعث والحشر واعادة المعدوم لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ معدة مسعرة ليعذبوا بها في النشأة الاخرى تعذيبا شديدا بحيث لا يُقْضى ولا يحكم عَلَيْهِمْ بالموت من عنده سبحانه

[سورة فاطر (35) : آية 37]

فَيَمُوتُوا ليستريحوا بل كلما قد أشرفوا على الهلاك يعادوا نحو الحياة ويعذبوا باشد من الذي مضى وَبالجملة لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها ابدا ولا يمهلون ساعة حتى يتنفسوا بل صاروا معذبين على التعاقب والتوالي ابدا بلا فرجة وخفة كعذاب أبناء الدنيا في دار الحرمان بنيران الإمكان بحيث يستوعب عموم أوقاتهم وأزمانهم ولا يسع لهم النفس والتفرج أصلا كَذلِكَ مثل ما نجازي أولئك المصرين على الكفر والعناد نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ لحقوق نعمنا منكر بمقتضيات جودنا وكرمنا وَهُمْ من شدة فزعهم وهولهم يَصْطَرِخُونَ فِيها ويستغيثون من الله صارخين متحسرين قائلين من كمال الضجرة والحسرة رَبَّنا يا من ربانا بأنواع اللطف والكرم فكفرنا بك وأعرضنا عنك وعن كتبك ورسلك أَخْرِجْنا واعدنا منها الى الدنيا كرة نَعْمَلْ صالِحاً مقبولا عندك مرضيا لديك غَيْرَ العمل الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فيها عنادا ومكابرة فالآن قد ظهر لنا الحق وبطلان ما قد كنا نعمل من الأعمال الفاسدة الغير المطابقة لكتبك ودين رسلك فلو أخرجتنا منها واعدتنا إليها لآمنا بك وبكتبك ورسلك وصدقنا بعموم ما جاءوا به من عندك وبعد ما قد تمادوا وتطاولوا في بث الشكوى قيل لهم من قبل الحق على سبيل التوبيخ والتقريع أَتطلبون المهلة منا وتستمهلون عنا وَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ونمهلكم ايها المسرفون المفرطون في الدنيا زمانا طويلا بحيث يسع فيه جميع ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ قد أعطيناكم وقتا وسيعا وزمانا طويلا يسع فيه انواع التذكر والتيقظ بالنسبة الى من كان بصدد التذكر والتنبه ألا وهو من وقت البلوغ الى ستين سنة غالبا وَأنتم لم تتذكروا في تلك المدة لا من تلقاء انفسكم مع انكم مجبولون على فطرة التذكر ولا من ارشاد مرشد مذكر وتنبيه منيه نبيه إذ قد جاءَكُمُ النَّذِيرُ المنذر لكم عن أمثال ما أنتم عليه الآن فأنكرتم له ولم تتذكروا ايضا بقوله حتى ظهر عليكم امارات الشيب المخبر للرحيل الى السفر الطويل ومع ذلك لم تتزودوا له فالآن قد انقضى وقت التذكر والتدبر ومضى أوان التدارك والتلافي وقد أخذتم بشؤم ما اقترفتم من الكفر والعصيان أتطلبون العود والخروج هيهات هيهات ان وقت التلافي والتفقد قد فات فَذُوقُوا العذاب المخلد بدل تلك اللذات الوهمية الفانية وبالجملة فَما لِلظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضيات الحدود الإلهية مِنْ نَصِيرٍ ينصرهم في رفع العذاب او يشفع لهم عند الله لتخفيفه عنهم بل هم خالدون مخلدون في النار ابد الآباد لا سبيل لنجاتهم أصلا. ربنا نجنا عن سخطك وغضبك وأحينا وأمتنا حسب ارادتك ورضاك وارزقنا بلطفك لقياك انك على ما قد نشاء قدير وبرجاء المؤمنين جدير وكيف يسع لاحد من المخلوقات ان يشفع عنده سبحانه لعصاة عباده او ينصرهم في الانقاذ عن عذابه بعد ما ثبت جرائمهم في حضرة علمه وتعلق ارادته بأخذهم على ظلمهم إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم ما لاح عليه برق الوجود عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ اى بواطن ما في العلويات وَالْأَرْضِ اى بواطن ما في السفليات ايضا وكيف يخفى عليه سبحانه ما في سرائر عباده وضمائرهم إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بعموم مكنونات الصدور ومضمراتها بل بجميع ما في استعداداتهم وقابلياتهم مطلقا لأنه المراقب لهم حسب حالاتهم وتطوراتهم فكيف تغفلون عنه سبحانه وتذهلون عن تذكره ايها الغافلون مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ عن ذاته وأظهركم على صورته واعطاكم التصرف فِي الْأَرْضِ وقد سلطكم على عموم ما عليها وسخر لكم جميع ما فيها من المواليد والأركان تكريما لكم وتتميما

[سورة فاطر (35) : آية 40]

لخلافتكم وبعد ما قد فعل بكم سبحانه من انواع الكرم والإفضال وحسن الفعال ما فعل فَمَنْ كَفَرَ واعرض عن الايمان به سبحانه وبكتبه ورسله وبما جرى في لوح قضائه المحفوظ وحضرة علمه المحيط فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ اى يحمل عليه وبال كفره واعراضه وينتقم عنه سبحانه على مقتضاه بلا لحوق شين وعيب عليه سبحانه إذ هو في ذاته منزه عن ايمان عباده وكفرهم بل وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ وإصرارهم على الشرك واستنكافهم عن الايمان بالله وبالكتب والرسل عِنْدَ رَبِّهِمْ المطلع على سرائرهم وضمائرهم إِلَّا مَقْتاً غضبا وسخطا شديدا منه سبحانه إياهم وطرد الهم عن ساحة عز القبول وَبالجملة لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ وشركهم في النشأة الاولى إِلَّا خَساراً نقصانا وحرمانا لهم في النشأة الاخرى عما أعد للمؤمنين من انواع الكرامات السنية والمقامات العلية لا خسران أعظم منه قُلْ يا أكمل الرسل للمشركين تقريعا لهم وتبكيتا بعد ما قد سجلنا عليهم المقت والطرد وانواع الخسران والخذلان أَرَأَيْتُمْ وابصرتم ايها المجبولون على الغواية والعناد شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ وتدّعون آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ مشاركين له سبحانه في الألوهية والربوبية انهم متصفون بالخلق والإيجاد أحيانا أَرُونِي وأخبروني ايها المكابرون المعاندون ماذا خَلَقُوا واوجدوا مِنَ الْأَرْضِ يعنى أى شيء خلق أولئك الهلكى في الأرض بالاستقلال والاختيار حتى يتصفوا بالالوهية أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ يعنى أروني ايضا هل لهم مشاركة مع الله فِي السَّماواتِ اى في خلقها وإبداعها أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً يعنى هل أنزلنا عليهم في حقهم وشأنهم كتابا دالا على مشاركتهم معنا في الألوهية والربوبية فَهُمْ اى أولئك المدعون المكابرون مطلعون فائزون عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ اى حجج ودلائل واضحة من الكتاب دالة على شركة أولئك التماثيل العاطلة مع العليم القدير الحكيم الخبير وظاهر انه ما انزل إليهم كتاب كذلك بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ وليس الباعث لهم في ادعاء الشرك أمثال هذه المذكورات من الدلائل العقلية او النقلية بل لا باعث لهم سوى الوعد الكاذب الذي يعد به بَعْضُهُمْ بَعْضاً وبالجملة ما يعد الظالمون الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية بعضهم بعضا إِلَّا غُرُوراً تلبيسا وتغريرا من الشرفاء بالأراذل منهم والرؤساء بالضعفاء وتزويرا من اصحاب الثروة على ذوى الأحلام السخيفة منهم حفظا لجاههم ورئاستهم وبالجملة الله المطلع لجميع حالات عباده يعلم تغريرهم وتلبيسهم ويمهلهم ولا يعاجل بالانتقام عنهم لكمال حلمه وكيف لا إِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء يُمْسِكُ ويضبط السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ويمنعهما من أَنْ تَزُولا بشرك المشركين وافترائهم على الله بإثبات الشركاء له سبحانه وبشؤم عصيانهم وفسوقهم فيما بينهم وَلَئِنْ زالَتا ولم يمسكهما سبحانه إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ يعنى ما أمسكهما عن الزوال احد من بعد الله سبحانه لكنه سبحانه قد أمسكهما ولم يعاجل بانتقام عصاة عباده إِنَّهُ سبحانه قد كانَ في ذاته حَلِيماً لا يعاجل بالانتقام عند ظهور الجرائم والآثام غَفُوراً لمن تاب عنها وأناب الى الله مخلصا ومن كمال حلم الله امهاله على المستوجبين بأنواع المقت والانتقام سيما بعد ما عهدوا مع الله ونقضوا عهودهم وَذلك ان كفار قريش خذلهم الله قد أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعنى اجتهدوا في توكيدها وبالغوافى تغليظها قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سمعوا ان من اهل الكتاب قوما قد كذبوا رسلهم وأنكروا عليهم ولم يقبلوا من الرسل قولهم ودعوتهم مقسمين بالله لَئِنْ جاءَهُمْ يعنى قريشا

[سورة فاطر (35) : آية 43]

نَذِيرٌ مرسل من عند الله ينذرهم عما لا يعنيهم ويرشدهم الى ما يعنيهم لَيَكُونُنَّ في الإطاعة والانقياد للنبي النذير البشير أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ اى كل واحد منا اهدى وارشد من كل واحد واحد من النصارى واليهود وغيرهم من الأمم قد واثقوا عهودهم مع الله على ذلك فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وبشير اى نذير واى بشير هو أكمل من سائر المرسلين المبشرين المنذرين وأفضل منهم يعنى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ما زادَهُمْ مجيئته وبعثته صلّى الله عليه وسلم إِلَّا نُفُوراً نفرة عن الحق واعراضا عن اهله وتباعدا عن قبول قوله ودعوته وانما أنكروا له واعرضوا عنه وعن دينه صلّى الله عليه وسلم اسْتِكْباراً يعنى قد طلبوا بالإعراض والانصراف ان يظهروا ويحدثوا كبرا وخيلاء فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ يعنى قد طلبوا ان يمكروا به المكر السيئ واصل التركيب هذا فعدل الى صورة المضاف الى السيئ اتساعا تأكيدا ومبالغة والمكر السيئ عبارة عن كل عمل قبيح قد صدر عنهم او الشرك او ارادة قتله صلّى الله عليه وسلّم قال صلّى الله عليه وسلّم لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا فان الله يقول وَلا يَحِيقُ اى لا يحل ولا يحيط الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ الا وهو الماكر فلحق وبال الشرك للمشركين وكذا وبال كل قبيح ومكروه عائد الى فاعله فَهَلْ يَنْظُرُونَ ما يمهلون وينتظرون أولئك المشركون يعنى اهل مكة خذلهم الله إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ يعنى سنة الله فيهم بان عذب سبحانه مكذبيهم ومصريهم على الإنكار والتكذيب وبعد ما قد ثبت في علم الله المحيط وكذا في لوح قضائه المحفوظ تعذيبهم فلا بد ان يقع حتما فَلَنْ تَجِدَ أنت يا أكمل الرسل لِسُنَّتِ اللَّهِ وهي نزول العذاب على المكذبين تَبْدِيلًا ان تعلق مشيته به وثبت في لوح قضائه إذ لا يبدل الحكم دونه سبحانه وَايضا لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا بان ينتقل عذاب المكذبين العاصين الى المصدقين المطيعين المنزهين عن العصيان والطغيان أَينكرون سنة الله في الأمم الماضية الهالكة بتعذيب الله إياهم بسبب تكذيب الرسل والإنكار عليهم وَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا بنظرة العبرة والاستبصار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ القوم الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مكذبين لرسلهم وَالحال انهم قد كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ اى من هؤلاء المكذبين لك يا أكمل الرسل قُوَّةً وقدرة واكثر عددا وعددا وشوكة وأموالا واولادا وَمع ذلك ما كانَ اللَّهُ المتعزز برداء العز والعلاء المطلع على عموم ما جرى في ملكه من الأشياء لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ بان يفوت عنه شيء حقير او يعزب عن حضرة علمه المحيط ذرة يسيرة لا فِي السَّماواتِ اى العلويات وَلا فِي الْأَرْضِ اى السفليات وكيف يفوت عن خبرته سبحانه شيء إِنَّهُ في ذاته قد كانَ عَلِيماً لا يعزب عن حضرة علمه المحيط شيء قَدِيراً على اظهار ما في خزانة علمه بلا فترة وفتور وقصور وفطور وَمن كمال علم الله على عباده ونهاية رأفته ورحمته معهم هذا لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ المطلع بجميع ما جرى في ملكه من الجرائم الموجبة للاخذ والانتقام النَّاسَ الذين كلفوا من عنده بترك الجرائم والآثام المانعة من الوصول الى المبدأ الحقيقي بِما كَسَبُوا وبشؤم ما اقترفوا لأنفسهم من المعاصي التي قد منعوا عنها ما تَرَكَ سبحانه البتة عَلى ظَهْرِها اى على ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ متحركة من المكلفين عليها غير مأخوذة بجرم بل بجرائم كثيرة عظيمة إذ قلما ما يخلو انسان عن طغيان ونسيان وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ اى يؤخر سبحانه أخذهم ويمهلهم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معين مقدر للاخذ والانتقام ألا وهو يوم القيامة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ الموعود المعين عند الله المعلوم له سبحانه

خاتمة سورة الفاطر

فقط بلا افشاء واطلاع لاحد من أنبيائه ورسله أخذوا حينئذ بما اقترفوا من الجرائم والمعاصي بلا فوت شيء منها فَإِنَّ اللَّهَ المراقب المحافظ على عموم ما جرى في ملكه وملكوته قد كانَ بِعِبادِهِ في جميع اوقات وجودهم بل باستعداداتهم وقابلياتهم وما جرى عليهم فيها بَصِيراً شهيدا مطلعا يجازيهم بمقتضى بصارته وخبرته بأعمالهم ونياتهم فيها. ربنا أصلح لنا عواقب أمورنا ويسر علينا كل عسير خاتمة سورة الفاطر عليك ايها السالك المتشمر لاعداد زاد يوم المعاد وفقك الله على إتمامه ان تلف شملك وتجمع همك المركوز الى الآخرة التي هي دار الخلود والقرار وتجتهد في رفع الموانع ودفع الشواغل العائقة عن هذا الميل فلك ان تنقطع عن مطلق مألوفاتك ومشتهياتك التي هي اسباب الأخذ والبطش وانواع العقاب والعتاب الإلهي وتنخلع من لوازم تعيناتك المشتملة على انواع الفتن واصناف المحن حسب ما يسر الله عليك معرضا عن الدنيا الدنية ومستلذاتها البهيمية ومشتهياتها الشهية إذ لا قرار لها ولا مدار لما يترتب عليها بل كلها فان زائل وباطل بلا طائل مورث لانواع الحسرات في النشأة الاولى ولأشد العذاب والزفرات في النشأة الاخرى والمؤيد من عند الله بالعقل المفاض المميز بين الصلاح والفساد وبين الفاني والباقي المرشد الهادي نحو فضاء التوحيد وبالجملة المتفطن المتذكر اللبيب الأريب كيف يختار الفاني على الباقي واللذات الجسمانية الزائلة سريعا الجالبة للاخزان الطويلة على اللذات الروحانية القارّة المستتبعة للحالات العلية والمقامات السنية التي لا يعرضها انقراض ولا انقضاء ولا نفوذ ولا انتهاء. رب اختم بفضلك عواقب أمورنا بالخير والحسنى انك على ما تشاء قدير وبرجاء الراجين جدير [سورة يس] فاتحة سورة يس لا يخفى على من ترقى عن حضيض الجهل واودية الضلال الى أوج المعرفة وفضاء الوصال ومن مهاوي الإمكان واغوار التعينات المقتضية لانواع الانحرافات والضلالات الى استقامة الحالات وارتفاع المقامات وعلو الدرجات في سبيل السعادات ونيل المرادات ومن دركات التلون وظلمات التقليد الى درجات اليقين ونور التوحيد ومقر التمكين والتقرر فيه بلا تذبذب وتزلزل ان الوصول والنيل الى مقعد الصدق الذي هو مقصد ارباب المحبة الخالصة والمودة الصادقة انما هو بالاستقامة والاعتدال في عموم الأوصاف والأفعال مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط المذمومين عقلا وشرعا بحيث لا يبقى له انحراف عن صراط الله الأقوم الأعدل ليتيسر له التحقق في مرتبة التخلق بأخلاقه واللياقة برتبة النيابة واخلافه وأكمل المتخلقين وأليقهم للخلافة نبينا صلّى الله عليه وسلّم لذلك ختم بعثته صلّى الله عليه وسلّم امر الرسالة والنبوة وتم به صلّى الله عليه وسلّم مكارم الأخلاق ولم يبق بعثته صلّى الله عليه وسلّم شائبة شبهة في توحيد الذات وسقوط عموم الإضافات ولهذا قد اضمحل دون ظهور شرعه صلّى الله عليه وسلّم جميع الرسوم والعادات لذلك أشار سبحانه الى كمال مرتبته الجامعة بجميع المراتب وخاطبه خطاب تعظيم وتكريم بعد ما تيمن باسمه الجامع لجميع الأسماء والصفات فقال بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم باسمه الجامع الرَّحْمنِ على عموم عباده بإرساله صلّى الله عليه وسلّم إليهم وبعثه عليهم الرَّحِيمِ عليه صلّى الله عليه وسلّم حيث جعله مستويا على صراط مستقيم هو صراط توحيده الذاتي [الآيات] يس يا من تحقق بينبوع بحر

[سورة يس (36) : آية 2]

اليقين وسبح فيه سالما عن الانحراف والتلوين وَحق الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ المحكم نظمه وأسلوبه المتقن معناه وفحواه إِنَّكَ يا أكمل الرسل وخاتم الأنبياء المبعوث الى كافة البرايا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ المتمكنين عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى التوحيد الذاتي بلا عوج وانحراف وكيف لا يكون القرآن العظيم حكيما مع انه تَنْزِيلَ اى منزل من عند الْعَزِيزِ الغالب القادر على جميع المقدورات على الوجه الأحكم الأبلغ الرَّحِيمِ في انزاله على الأنام ليوقظهم عن نوم الغفلة ونعاس النسيان انما انزل الحكيم المنان عليك يا أكمل الرسل هذا القرآن لِتُنْذِرَ أنت قَوْماً لم يبعث فيهم نذير من قبلك بل ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ الأقربون ايضا إذ هم ليسوا من اهل الكتاب وتابعي الملة لتمادى مدة فترة الرسل بعد عيسى صلوات الله عليه وسلامه او المعنى لتنذر قوما بالذي انذر به آباؤهم الأبعدون وبعد ما قد تطاول ايام الفترة انقطع عنهم اثر الإنذار وصار كأن لم يكن شيأ مذكورا وبالجملة فَهُمْ غافِلُونَ اى القوم الذين قد أرسلت إليهم يا أكمل الرسل ذاهلون عن الإنذار والمنذر بل عن مطلق الرشد والهداية إذ هم متولدون في زمان فترة الرسل وكيف لا ينذرهم سبحانه ولا يرسل إليهم من يصلح أحوالهم لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ وسبق الحكم من الله ومضى القضاء منه سبحانه عَلى أَكْثَرِهِمْ اى اكثر اهل مكة بالكفر والعذاب وعدم الوصول الى خير المنقلب والمآب وبعد ما قد ثبت في حضرة علمه سبحانه كفرهم وضلالهم فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالله ولا يصدقون برسوله وكتابه أصلا وكيف يؤمنون أولئك المصرون على الكفر والعناد المقضيون المحكومون عليهم من لدنا بالشقاوة الازلية إِنَّا بمقتضى قهرنا وجلالنا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ التي هي سبب التفاتهم وتمايلهم نحو الحق وآلة انعطافهم للاطاعة والانقياد بالدين القويم أَغْلالًا وصيرناهم مغلولين من الأيدي الى الأعناق بحيث لا يمكنهم الطأطأة والانخفاض أصلا ولا بد للتدين والانقياد من التذلل والخشوع وكيف يمكنهم هذا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ اى اغلالهم منتهية الى لحيهم فَهُمْ مُقْمَحُونَ رافعون رؤسهم مضطرون برفعها بسبب تلك الأغلال الضيقة بحيث لا يسع لهم الالتفات يمنة ويسرة وفوقا وتحتا ألا وهي أغلال الأماني والآمال وسلاسل الحرص والطمع لمزخرفات الدنيا الدنية وما يترتب عليها من اللذات الوهمية والشهوات البهيمية بل وَجَعَلْنا لهم من كمال غضبنا إياهم مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ اى قدامهم سَدًّا حجابا كثيفا وَمِنْ خَلْفِهِمْ ايضا سَدًّا غطاء غليظا فصاروا محفوفين بين الحجب الكثيرة المانعة عن ابصار نور الهداية والتوحيد وبالجملة فَأَغْشَيْناهُمْ اى قد اعمينا عيون بصائرهم وأبصارهم التي هي سبب رؤية الآيات ودرك الدلائل القاطعة والبراهين الساطعة فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ الشواهد الظاهرة والآيات الباهرة حتى ترشدهم الى الهداية والايمان فحرموا عن قبول الحق وانصرفوا عن صراطه فهلكوا في تيه الغواية والضلال. أعاذنا الله وعموم عباده عن ذلك وَبعد ما قد سجلنا عليهم الكفر وحكمنا بشقاوتهم حكما مبرما لا يفيدهم إنذارك يا أكمل الرسل وارشادك إياهم بل سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بك وبدينك وكتابك أصلا إذ قد ختمنا نحن على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة غليظة مانعة عن قبول الحق والتذكر به وابصار علاماته وبالجملة هم مقضيون في سابق علمنا ولوح قضائنا بالعذاب الأليم والضلال البعيد فلا تتعب نفسك يا أكمل الرسل في هدايتهم وإرشادهم انك لا تهدى من أحببت من قرابتك وارحامك ولكن الله يهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ان الله عليم بما يصنعون من الكفر والإصرار

[سورة يس (36) : آية 11]

إِنَّما تُنْذِرُ أنت ويقبل منك الإنذار المصلح والإرشاد المفيد مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ اى سمع القرآن سمع قبول بتوفيق من لدنا وامتثل بأوامره ونواهيه عن تدرب تام وتأمل صادق واتعظ بتذكيراته عن تيقظ خالص واعتبر عن عبره وأمثاله وَمع ذلك خَشِيَ الرَّحْمنَ اى خاف عن قهره وانتقامه واجتنب عن سخطه وغضبه ملتبسا بِالْغَيْبِ اى قبل نزول العذاب وحلوله معتقدا انه سبحانه قادر على عموم انواع الانتقامات فَبَشِّرْهُ يا أكمل الرسل هذا السامع المتدرب بعد ما قد سمع بالآيات سمع قبول ورضى وامتثل بما فيها مخلصا خالصا خائفا راجيا بِمَغْفِرَةٍ لفرطاته المتقدمة وَأَجْرٍ كَرِيمٍ لأعماله الصالحة الخالصة بلا فوت شيء منها بل بأضعافها وآلافها عناية منا إياه وتفضلا عليه وكيف يفوت عن احاطة علمنا شيء من حقوق عبادنا إِنَّا من مقام عظيم جودنا وكمال قدرتنا نَحْنُ نُحْيِ ونهدي حسب اقتضاء تجلياتنا اللطفية الجمالية الْمَوْتى الهلكى الهالكين بموت الجهل والضلال التائهين في بيداء الوهم والخيال حيارى وسكارى مدهوشين محبوسين مسجونين في مضيق الإمكان بحياة العلم والايمان والتوحيد والعرفان وَنَكْتُبُ في لوح قضائنا وحضرة علمنا جميع ما قَدَّمُوا واسلفوا لأنفسهم من خير وشر وحسنة وسيئة بحيث لا يشذ منها شيء لنجازيهم بها على مقتضاها وَنكتب ايضا آثارَهُمْ من السنن المستحسنة والأخلاق المحمودة والآداب المرضية المقبولة وكذا ايضا مما سنوا ووضعوا من أسوأ العادات واخس الأخلاق وأقبحها وَبالجملة كُلَّ شَيْءٍ صدر ويصدر عن عبادنا قد أَحْصَيْناهُ وفصلناه بحيث لا يشذ عن حيطة احصائنا وتفصيلنا شيء من نقير وقطمير بل الكل مكتوب مثبت فِي إِمامٍ مُبِينٍ هو لوح قضائنا المحفوظ وحضرة علمنا المحيط وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا اى مثل يا أكمل الرسل للمشركين المصرين على الشرك والطغيان مثلا من الذين خلوا من قبلهم مصرين على الضلال والعناد أمثالهم بحيث لا ينفعهم إنذار منذر وارشاد مرشد يعنى أَصْحابَ الْقَرْيَةِ المصرين على الشرك والعناد المنهمكين في بحر الغفلة والغرور والقرية هي انطاكية والمبشر المنذر هو عيسى صلوات الرحمن عليه وسلامه اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ جاءَهَا اى الى اهل القرية الْمُرْسَلُونَ تترى من قبل عيسى عليه السلام ليرشدوا أهلها الى الايمان والتوحيد إِذْ أَرْسَلْنا وأمرنا لنبينا عيسى عليه السلام أولا بالإرسال إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ هما يونس ويحيى وقيل غيرهما فلما جاءا إليهم واظهرا دعوتهم الى التوحيد وكانوا من عبدة الأصنام فَكَذَّبُوهُما اى فاجؤا بتكذيبهما بلا تراخ ومهلة وتأمل وتدبر وبعد ما كذبوهما ولم يقبلوا منهما دعوتهما بل ضربوهما وحبسوهما واستهزؤا بقولهما ودعوتهما فَعَزَّزْنا اى قد قوينا وايدناهما بِثالِثٍ اى برسول ثالث وهو شمعون فَقالُوا اى الرسل بعد ما صاروا جماعة إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ من قبل عيسى المرسل من قبل الحق على الحق لترويج كلمة الحق ننذركم بالعذاب الشديد النازل عليكم بشؤم ما أنتم عليه من الباطل الفاسد ألا وهو عبادة الأوثان وندعوكم الى طريق الحق الحقيق بالالوهية والربوبية المستحق للمعبودية والعبودية ونرشدكم ونهديكم الى دينه المنزل عليه من قبل ربه وبعد ما سمع المشركون منهم ما سمعوا قالُوا في جوابهم مستبعدين منكرين ما أَنْتُمْ ايها المدعون للرسالة من عند الله الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد على ظنكم وزعمكم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا مناسبة لكم مع مرسلكم الذي ليس هو من جنس البشر فلا بد من المناسبة بين المرسل والمرسل وَدعواكم الإنزال والإرسال من عند الإله المنزه عن المكان والجهة ما هي

[سورة يس (36) : آية 16]

الا غرور وتلبيس إذ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ المستغنى عن الزمان والمكان المنزه ذاته عن سمة الحدوث والإمكان مِنْ شَيْءٍ إذ أمثال هذه الأفعال انما هي من لوازم الأجسام وأوصاف الإمكان وهو سبحانه على الوجه الذي وصفتم شأنه مقدس عن أمثاله وبالجملة إِنْ أَنْتُمْ اى ما أنتم إِلَّا تَكْذِبُونَ كذبا صريحا يعنى قد ظهر من دعواكم هذه وإسنادكم أمثال تلك الأفعال الى ربكم انه ما أنتم في دعواكم ومدعاكم هذا الا كاذبون مفترون على ربكم ما هو منزه عنه سبحانه وبعد ما قد تفطن منهم الرسل الإنكار والإصرار المؤكد قالُوا في جوابهم ايضا على سبيل المبالغة والتأكيد تتميما لأمر التبليغ والرسالة رَبُّنا الذي قد أرسلنا إليكم بوحيه والهامه يَعْلَمُ بعلمه الحضوري إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ من عنده على مقتضى ارادته واختياره إذ لا يجرى في ملكه الا ما يشاء ولا يقع فيه الا ما يريد وَمالنا شغل بايمانكم وقبولكم ولا بكفركم وطغيانكم بل ما عَلَيْنا بمقتضى وحى الله إلينا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ اى التبليغ الصريح والبيان الواضح الموضح للرسالة بلا فوت شيء منها وتقصير وتهاون منا بأدائها وامر اهتدائكم وايمانكم انما هو مفوض اليه سبحانه وفي مشيته لا علم لنا به وبعد ما سمعوا من الرسل المبالغة والتأكيد انصرفوا عن المقاولة نحو التهديد بالقتل والرجم حيث قالُوا متطيرين متشأمين من نزولهم ومجيئهم مستبعدين دعوتهم منكرين لها إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ اى قد تشأمنا بقدومكم إذ منذ قدمتم ما نزل القطر علينا فاخرجوا من ارضنا وارجعوا الى أوطانكم سالمين وانتهوا عن دعوتكم هذه ولا تتفوهوا بها بعد والله لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عن هذياناتكم ومفترياتكم لَنَرْجُمَنَّكُمْ البتة بالحجارة وَبالجملة لو لم تنتهوا ولم تكفوا عما أنتم عليه من دعوى الرسالة لَيَمَسَّنَّكُمْ وليحيطن عليكم مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وبعد ما سمعتم ايها الغرباء كلامنا هذا فعليكم الإصغاء والقبول والعمل بمقتضاه والا فقد لحق بكم ما لحق من المكروهات التي سمعتم قالُوا اى الرسل بعد ما سمعوا منهم وتفرسوا بغلظتهم وتشددهم في الإنكار والجحود طائِرُكُمْ مَعَكُمْ اى سبب شؤمكم انما هو من انفسكم وبسوء صنيعكم وأعمالكم أَلم تنتهوا ولم تتفطنوا انكم إِنْ ذُكِّرْتُمْ وقبلتم قولنا واتصفتم بما ذكرنا من الايمان والتوحيد لم يلحقكم شيء من المكروه ومتى لم تتعظوا ولم تتصفوا قد لحقكم ما لحقكم من القحط وعدم القطر وسيلحقكم أشد منه بشؤم انفسكم وبالجملة مجاوزون عن الحد في العناد والإلحاد عن سبل الهداية والرشد وايضا من كمال اسرافكم وافراطكم قد تطيرتم بدين الله وبدعوة رسله اليه وَبعد ما سمعوا من الرسل ما سمعوا صمموا العزم الى قتلهم واجتمعوا لرجمهم وانتشر الخبر بين اهل المدينة وسعى من يسمع نحوهم حتى جاءَ حينئذ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ من السامعين وهو حبيب النجار وكان مؤمنا موحدا يعبد الله وكان قد لقى له الرسولان الأولان حين دخلا المدينة أولا فسلم الحبيب عليهما وتكلم معهما فقال لهما من أنتما قالا نحن رسولا عيسى النبي عليه السلام انما أرسلنا إليكم لندعوكم الى توحيد الحق وننقذكم عن عبادة الأوثان فقال أمعكما آية قال نشفى المريض ونبرئ الأكمه والأبرص فجاء بابنه المريض منذ سنين فمسحاه فقام الابن سالما فآمن لهما وصدقهما وانفصل عنهما مؤمنا واشتغل بعبادة الله فدخلا البلد واظهر الدعوة لأهلها وأنكروا عليهما واجتمعوا بقتلهما فأخبر الحبيب بذلك فجاء على الفور حال كونه يَسْعى ويذهب سريعا فلما وصل المجمع ورآهم مجتمعين عليهما فسألهما على رؤس الملأ من أنتما قالا رسولا عيسى ندعوكم الى توحيد الحق قال هل تسألان الأجر والجعل لرسالتكما قالا

[سورة يس (36) : آية 21]

لا ليس اجرنا الأعلى ربنا ثم التفت الحبيب نحو القوم وقالَ يا قَوْمِ ناداهم وأضافهم على نفسه ليقبلوا منه كلامه وكان مشهورا بينهم بالورع والاعتدال الأخلاق اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ المبعوثين إليكم بالحق ليرشدوكم الى طريق الحق وتوحيده وانما جمع المرسلون مع انهما اثنان لان الحبيب منهم حقيقة وبالجملة اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً اى اتبعوا هاديا بالحق على الحق الى الحق خالصا لوجه الحق بلا غرض نفسانى من جعل وغيره كالمتشيخة المزورين الذين يجمعون بتلبيساتهم وتغريراتهم أموالا كثيرة من الضعفاء الحمقى المتماثلين نحو أباطيلهم وتزويراتهم الزائغة وَكيف لا تتبعون ايها العقلاء الطالبون للهداية والصواب إياهم مع انهم هُمْ مُهْتَدُونَ متصفون بالرشد والهداية قولا وفعلا. ثم لما سمع القوم من الحبيب ما سمعوا عيروه وشنّعوا عليه وقالوا له لست أنت ايضا على ديننا ودين آبائنا بل ما أنت الا على دين هؤلاء المدعين وَبعد ما تفرس الحبيب منهم الإنكار عليه ايضا قال كلاما ناشئا عن محض الحكمة والفطنة على وجه العظة والتذكير لنفسه ليتعظوا به على سبيل الالتزام إذ هو اسلم الطرق في العظة والتذكير وادخل في النصيحة والتنبيه ما لِيَ اى أىّ شيء عرض على ولحق لي لا أَعْبُدُ ولا أتوجه على وجه التذلل والانكسار المعبود الَّذِي فَطَرَنِي على فطرة العبودية اى ابدعنى وأظهرني من كتم العدم ولم أك شيأ مذكورا ورباني بأنواع اللطف والكرم وأفاض على من موائد لطفه وإحسانه سيما العقل المفاض المرشد الى المبدأ والمعاد وَكيف لا اعبد ولا أتوجه نحوه إذ إِلَيْهِ سبحانه يعنى الحق الموصوف بالأوصاف والأسماء الحسنى ونعوت الجلال والجمال لا الى غيره من اظلال الأوثان والأصنام الحادثة الهالكة في حدود ذواتها العاطلة عن الأوصاف الكاملة المنحطة عن رتبة الألوهية والربوبية تُرْجَعُونَ أنتم ايها الاظلال الهالكون التائهون في بيداء ظهوره حيارى هائمين رجوع الأضواء الى شمس الذات والأمواج الى بحر الوحدة الذاتية أَأنكر المعبود على الحق المظهر لما في الوجود وأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً باطلة من الأوثان عاطلة عن التصرفات مطلقا منحطة عن رتبة العبودية فكيف عن الربوبية والألوهية واسميهم شفعاء مغيثين لدى الحاجة مع انه إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ القادر المقتدر على اصناف الانعام والانتقام بِضُرٍّ اى مصيبة وسوء يتعلق مشيته سبحانه على انزاله الى لا تُغْنِ ولا تدفع عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً من بأس الله وعذابه بل لا تنفعني شفاعتهم أصلا وَلا يُنْقِذُونِ بالمعاونة والمظاهرة من عذابه سبحانه ايضا وبالجملة إِنِّي بواسطة اتخاذي إياهم شركاء لله شفعاء عنده إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية عظيمة ظاهرة إذ اختيار ما لا ينفع ولا يضر على الضار النافع المعطى المانع او ادّعاء مشاركتهم معه او شفاعتهم عنده سبحانه من أشد الضلالات وأردإ الجهالات وبالجملة إِنِّي بعد ما تفطنت بوحدة الحق وباستقلاله في الوجود والآثار قد آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الذي هو ربي ورب جميع ما في حيطة الوجود وتحت ظله من الأكوان غيبا وشهادة واعترفت بتوحيده واستقلاله بالتصرف في ملكه وملكوته بعد ما كوشفت بوحدة ذاته فَاسْمَعُونِ يا ايها العقلاء السامعون المدركون مضمون قولي واتصفوا بما فيه وتذكروا به ان كنتم تعلمون فلما سمعوا منه توصيته وتذكيره أخذوا في قتله وإهلاكه فوطئوه بأرجلهم الى حيث يخرج امعاؤه من دبره وهو في تلك الحالة قد زاد انكشافه بربه واستولى عليه سلطان الوحدة وجذبته العناية الإلهية وأدركته الكرامة القدسية حيث قِيلَ له من قبل الحق حينئذ اخرج من هويتك وانخلع

[سورة يس (36) : آية 27]

من انانيتك ادْخُلِ الْجَنَّةَ اى فضاء الوحدة التي لا فيها وصب ولا نصب ولا عناء ولا تعب فخرج وانخلع فدخل على الفور واتصل ثم بعد ما وصل الى ما وصل قالَ متمنيا متحسرا لقومه بعد ما قد لحق بفضاء الوصال يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وانكشف علىّ وجذبني نحوه بعد ما ستر عنى انانيتى ومحا منى هويتى وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ المكرمين الآمنين الفائزين المستبشرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وبعد ما قتلوه ظلما وعدوانا ورفعناه مكانا عليا عناية منا إياه وأدخلناه في جنة وحدتنا مغفورا ومسرورا وكشفنا عنه غطاءه كشفا كليّا شوقيا وذوقيا شهوديا قد أخذنا في انتقام قومه منه فأهلكناهم بصيحة واحدة قد صاح بها جبرائيل عليه السلام بأمرنا إياه وَبالجملة ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ اى قوم الحبيب وهم اهل انطاكية مِنْ بَعْدِهِ اى بعد قتله لننتقم عنهم لأجله مِنْ جُنْدٍ مِنَ جنود السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ اى وما ثبت منا وما جرى في لوح قضائنا إنزال الملائكة لإهلاكهم كما جرت سنتا لإهلاك سائر الأمم الهالكة بل إِنْ كانَتْ اى ما كانت علة إهلاكهم وهلاكهم من قبلنا إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً او ما وقعت وصدرت منا لإهلاكهم وهلاكهم الا صيحة واحدة على القراءتين بالرفع والنصب وذلك انا بمقتضى قهرنا وجلالنا قد أمرنا جبرائيل عليه السلام بان يأخذ بعضادتي باب مدنيتهم فأخذ وصاح عليهم مرة واحدة فَإِذا هُمْ خامِدُونَ اى فاجؤا جميعا على الخمود والجمود وبعد ما سمعوا الصيحة الهائلة صاروا كالرماد بعد ما كانوا احياء كالنار المشتعلة الساطعة. ثم قال سبحانه من قبل عصاة عباده المأخوذين بشؤم ما اقترفوا من المعاصي والآثام يا حَسْرَةً وندامة وكآبة عظيمة وحزنا شديدا عَلَى الْعِبادِ المصرين على العناد بعد ما عاينوا العذاب الدنيوي والأخروي النازل عليهم حتما بسبب انكارهم على الرسل والمرسل جميعا وتكذيبهم بجميع ما جاءوا به من عند ربهم وليس لهم حينئذ قوة المقاومة والمدافعة لذلك صاروا حيارى سكارى هائمين متحسرين بلا ناصر ومعين وشفيع حميم من رسول ونبي كريم إذ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ في نشأتهم الاولى يصلح أحوالهم وأعمالهم لئلا يترتب عليها الوبال والنكال الموعود في النشأة الاخرى إِلَّا كانُوا من غاية كبرهم وخيلائهم بِهِ اى بالرسول المصلح المرشد لهم يَسْتَهْزِؤُنَ ويستحقرونه ويستنكفون عن قبول دعوته ودينه وينكرون عليه كهؤلاء المسرفين المشركين معك يا أكمل الرسل أَيستهزؤن معك يعنى اهل مكة وينكرون بدينك وكتابك لَمْ يَرَوْا اى لم يخبروا ولم يعلموا كَمْ أَهْلَكْنا اى كثرة إهلاكنا واستئصالنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الماضية ولم يعتبروا مما جرى عليهم بشؤم تكذيبهم وانكارهم على رسله مع أَنَّهُمْ اى الأمم الهالكة السالفة إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ اى لا يرجعون الى هؤلاء المفسدين المسرفين في تكذيبك وإنكارك يا أكمل الرسل في نشأتهم هذه بل مضوا وانقرضوا الى حيث لم يعودوا الى ما كانوا وهؤلاء ايضا سينقرضون هم وأثرهم فلم لم يتنبهوا ولم يعتبروا مما جرى عليهم مع انهم ان أخذوا هؤلاء ايضا أمثالهم صاروا كأن لم يكونوا شيأ مذكورا أمثالهم وَبالجملة إِنْ كُلٌّ اى ما كل من الفرق والأحزاب المنقرضة عن الدنيا على التعاقب والترادف مردودين إلينا مجتمعين في وقت من الأوقات بل لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ يعنى لا يجتمعون جميعا الا لدينا في يوم العرض والجزاء وفي حضرة علمنا المحيط ولوح قضائنا المحفوظ وبالجملة لا اجتماع لهم بعد انقراضهم ما داموا مسجونين في سجن الإمكان مقيدين بسلاسل التعينات وأغلال الهويات

[سورة يس (36) : آية 33]

والأنانيات بل متى خلصوا عن مضيق الطبيعة وانخلعوا عن لوازمها حضروا واجتمعوا عندنا ورجعوا إلينا بل وصلوا بنا واتصلوا بحضرة وحدتنا وحينئذ لم يبق الفرق وصاروا ما صاروا لا اله الا هو ولا موجود سواه هذا على قراءة لما بالتشديد واما على قراءة من قرأ بالتخفيف كان ان حينئذ مخففة من الثقيلة وما في لما مزيدة للتأكيد واللام للفرق بين المثقلة والمخففة والمعنى انه اى الشأن كل من الأمم الهالكة السالفة مجموعون البتة لدينا محضرون جميعا عندنا في يوم الجزاء او في حضرة لاهوتنا بعد انخلاعهم عن لوازم ناسوتهم وَآيَةٌ عظيمة منا دالة على كمال قدرتنا على جمعهم وإحضارهم يوم الجزاء لَهُمُ ان يستدلوا بها على صدقها الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ اى اليابسة الجامدة التي أَحْيَيْناها وخضرناها في وقت الربيع بانزال قطرات الماء المترشحة من بحر الحياة عليها وَأَخْرَجْنا بها مِنْها حَبًّا اى جنسا من الحبوبات التي يقتاتون بها فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وبه يعيشون ويتنعمون كذلك في يوم النشور نحيى حسب قدرتنا الكاملة الأبدان المائتة الجامدة اليابسة المتلاشية في أراضي الأجداث بانزال الرشحات الفائضة من بحر حياة الوجود بمقتضى الجود فاعدناهم احياء كما ابدعناهم أولا من العدم وَايضا من جملة الآيات التي تدل على قدرتنا انا جَعَلْنا فِيها اى في الأرض جَنَّاتٍ بساتين ومتنزهات مملوة مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ومن سائر ما يتفكهون به تتميما لتنعمهم وترفههم وَفَجَّرْنا اى قد أخرجنا وأجرينا فِيها اى في خلال البساتين مِنَ الْعُيُونِ والينابيع الجارية التي لا صنع لهم في إجرائها وإخراجها عناية منا إياهم إبقاء لنضارتها ونزاهتها لهم كل ذلك لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ اى من ثمر ما ذكر وقوته ويقوموا أمزجتهم بأنواع ما وهبنا عليهم من النعم حتى يقوموا ويواظبوا على شكرها أداء لحقوقنا الواجبة عليهم وَكذا علمناهم واقدرناهم على عموم ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ من إنشاء المزارع والبساتين والعقارات واجراء الأنهار والقنوات وحفر الآبار أَينكرون على كمال قدرتنا ووفور حولنا وقوتنا فَلا يَشْكُرُونَ نعمنا الفائضة إياهم على التعاقب والتوالي ولا ينسبونها إلينا بل الى الوسائل والأسباب العادية جهلا وعنادا طغيانا وكفرانا سُبْحانَ القادر المقتدر القيوم المطلق المنزه المقدس عن الشبيه والنظير المتبرى عن الشريك والوزير المستقل في التصرف والتدبير الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وقدر الأصناف المتوالدة المتزايدة برمتها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من الشجر والنبات باجناسهما وأنواعهما واصنافهما وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ اى ذكورهم وإناثهم أنواعا وأصنافا واشخاصا وكذا من جميع ما يعلمون من أجناس الحيوانات وأنواعها وأصنافها وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ايضا من المخلوقات التي لا اطلاع لهم عليها إذ ما من مخلوق الا وقد خلق شفعا إذ الفردية والوترية والصمدية لوجوب الوجود والقيومية المطلقة من أخص أوصاف الربوبية والألوهية لا شركة فيها للمصنوع المربوب أصلا إذ لا يتوهم التعدد والكثرة في الوجود المطلق الذي هو عبارة عن الواجب قطعا وَايضا آيَةٌ عظيمة منا إياهم حق لَهُمُ ان تتأملوا وتستدلوا بها على كمال قدرتنا وحكمتنا وعلمنا وارادتنا اللَّيْلُ المظلم اى العدم الأصلي حين نَسْلَخُ ننزع ونظهر مِنْهُ اى من الليل المظلم النَّهارَ المضيء اى نور الوجود الفائض منا إياهم حسب امتداد اظلال أسمائنا وصفاتنا عليهم فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ مستقرون في ظلمة العدم لولا افاضة جود الوجود عليهم وَايضا من جملة آياتنا العظام الشَّمْسُ المضيئة المشرقة على صفائح الكائنات كاشراق نور الوجود الفائض منا على هياكل

[سورة يس (36) : آية 39]

الموجودات حسب التجليات الإلهية تَجْرِي وتسرى بلا قرار وثبات بمقتضى أمرنا المحكم وحكمنا المبرم لِمُسْتَقَرٍّ لَها قد قدرناه إياها منتهى ومنزلا حسب حكمتنا المتقنة المترتبة على تجلياتنا الحبية المنتشئة من ذاتنا المتصفة بالأوصاف اللطفية الجمالية ذلِكَ الجري والسراية على هذا النظام الأبلغ الابدع تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ القادر الغالب المقتدر على عموم المقادير الْعَلِيمِ بمطلق الاستعدادات والقابليات وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ وقد عينا ايضا لأجله حسب قدرتنا الغالبة وحكمتنا البالغة مع انه مرآة خالية عن النور الذاتي قابلة لان يكسبه من قرص الشمس حسب المقابلة والمحاذاة بينهما لذلك جعلنا له مَنازِلَ متفاوتة في الوضع مع الشمس فعند تمام المقابلة والمحاذاة يبدو بدرا كاملا بلا نقصان في قرصه أصلا ثم ينقص شيئا فشيئا يوما فيوما حَتَّى عادَ القمر في آخر المنازل الثمانية والعشرين التي وضعت له كما في علم التنجيم والتقويم لاستفادته النور من الشمس كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ اى كعذق النخلة العتيقة التي عليها الشماريخ المعوجة المصغرة من طول المدى وكذا عينا بمقتضى قدرتنا وحكمتنا لسير كل واحد منهما حسب الفصول الاربعة مقدارا من الزمان بحيث لا يتخلف سيرهما عنه لينتظم امر المعاش لذلك لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها اى لا يتيسر ولا يصح لها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ اى تسرع في سيرها الى ان تدرك القمر بل هي بطيئة السير بحيث تقطع البروج الاثنى عشر في سنة والقمر سريع السير يقطعها في شهر وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ اى لا يسع ولا يتيسر له ان يسبق ويدخل في النهار بل لكل منهما مدة مخصوصة مقدرة من عند العليم الحكيم لا يسع له التجاوز عنها وَكذلك كُلٌّ اى كل واحد من الشمس والقمر وسائر السيارات فِي فَلَكٍ مخصوص معين من الأفلاك السبعة يَسْبَحُونَ يسيرون فيه ويدورون على الانبساط والاستقلال بلا توهم السبق والإدراك وَايضا آيَةٌ عظيمة منا إياهم لَهُمْ ان يستدلوا بها على كمال قدرتنا ووفور حكمتنا وحولنا وقوتنا ويواظبوا على شكر نعمتنا وتلك الآية أَنَّا من كمال تربيتنا وتدبيرنا إياهم قد حَمَلْنا أولا عند طوفان نوح عليه السلام ذُرِّيَّتَهُمْ اى آباءهم وأسلافهم فان اسم الذرية كما يطلق على الأبناء كذلك يطلق على الآباء ايضا باعتبار انهم كانوا أبناء لآباء أخر فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملو منهم ومن سائر الحيوانات التي لا تعيش في الماء عناية منا إياهم وإبقاء لنسلهم وَخَلَقْنا لَهُمْ اى قدرنا وجعلنا لهم اليوم بتعليم منا إياهم سفنا مِنْ مِثْلِهِ اى من جنسه وهي ما يَرْكَبُونَ عليها في متاجرهم وأسفارهم في البحار وَإِنْ نَشَأْ افناءهم واستئصالهم بالمرة نُغْرِقْهُمْ بالطوفان فَلا صَرِيخَ لا معين ولا مغيث لَهُمْ حينئذ ينصرهم وينجيهم من الغرق وَلا هُمْ ايضا يُنْقَذُونَ لا بناصرهم ولا بأنفسهم من تلك المهلكة إِلَّا رَحْمَةً ناشئة مِنَّا قد أدركتهم وانجتهم من الغرق وَبعد انجائنا إياهم أمهلنا لهم ليكون مَتاعاً وتمتيعا لهم ولا خلافهم إِلى حِينٍ اى الى قيام الساعة كي نختبرهم هل يصلون الى ما جبلوا لأجله من المعرفة والتوحيد والهداية والايمان مع انا قد أرسلنا إليهم الرسل والأنبياء مبشرين ومنذرين والى أسلافهم ايضا وَ؟؟؟؟؟ هم اى أسلافهم في غاية تعنتهم وعنادهم إِذا قِيلَ لَهُمُ على؟؟؟؟؟ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مما جرى على اسلافكم من الوقائع؟؟؟؟؟ المهائلة والنوائب الشديدة إليهم يشؤم مفاسدهم وطغيانهم على الله وعلى أنبيائه ورسله بالخروج عن إطاعتهما وانقيادهما وَاحذروا عن ما خَلْفَكُمْ من العذاب الموعود

[سورة يس (36) : آية 46]

للعصاة المتمردين الخارجين عن ربقة العبودية المنصرفين عن صراط التوحيد وجادة السلامة بترك مقتضيات الحدود الإلهية لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ من عند الله بتقواكم عن محارمه ومحظوراته وَهم ايضا أمثالكم ايها الأخلاف المفرطون في الاعراض عن الحق وسبيله بل ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مشيرة لهم الى ما يعنيهم ويليق بحالهم رادعة لهم عما لا يعنيهم مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ الصادرة عن محض الحكمة والعدالة إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ مكذبين لها مستهزئين ممن جاء به أمثالكم وَبالجملة هم من كمال قسوتهم وبغيهم أمثالكم إِذا قِيلَ لَهُمْ امحاضا للنصح وتنبيها لهم على محض الخير أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من فواضل نعمكم الى الفقراء الفاقدين لها لتتصفوا بالكرم وتفوزوا بمرتبة الإيثار قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وكذبوا منهم بآيات الله بعد ما سمعوا الأمر الإلهي الوارد على الانفاق من ألسن المرسلين لِلَّذِينَ آمَنُوا اى المصدقين الممتثلين بأوامر الله ونواهيه ايمانا واحتسابا على سبيل الإنكار والاستبعاد أَنُطْعِمُ اى أتأمروننا ايها الجاهلون الضالون ان نعطى ونطعم مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ القادر المقتدر على اطعام عباده جملة أَطْعَمَهُ وبعد ما لم يشأ مع قدرته لم يطعمهم فأنتم من تلقاء انفسكم تأمروننا بالاطعام وبالجملة إِنْ أَنْتُمْ اى ما أنتم بدينكم هذا أوامركم بما لا يشاء ولا يرضى منه سبحانه إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية عظيمة ظاهرة ادّعيتم الايمان بالله وأمرتم بخلاف مشيته وارادته وَمهما سمعوا من المؤمنين أمثال هذه الأوامر الجالبة لروح الله ورحمته في اليوم الموعود يَقُولُونَ على سبيل الاستهزاء والتهكم مَتى هذَا الْوَعْدُ الذي أوعدتمونا به عينوا لنا وقته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم يعنون به صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. ثم قال سبحانه في جواب هؤلاء الضالين المبطلين ما يَنْظُرُونَ وينتظرون هؤلاء المنكرون المعاندون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هائلة تَأْخُذُهُمْ بغتة وَهُمْ حين وقوعها يَخِصِّمُونَ اى يختصمون ويتخاصمون اى بعضهم مع بعض في العقود والمعاملات ومتى ما جاءتهم الصيحة الفظيعة الفجيعة فَلا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون تَوْصِيَةً وإيصاء كما هو المعروف من الناس في حال النزع اى لا يمهلهم الفزع المهلك مقدار ان يأتوا بالوصية وَلا يمهلهم ايضا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ اى ينقلبون الى بيوتهم ويتكلمون مع أهليهم وَبالجملة متى سمعوا الصيحة الاولى ماتوا فجاءة بلا امهال لهم ساعة وطرفة وبعد ما ماتوا بالصيحة الاولى وصاروا كسائر الأموات نُفِخَ فِي الصُّورِ مرة اخرى بعد الصيحة الاولى فَإِذا هُمْ اى جميع الأموات صاروا احياء قائمين هائمين خارجين مِنَ الْأَجْداثِ اى القبور إِلى رَبِّهِمْ الذي يناديهم للعرض والجزاء يَنْسِلُونَ يذهبون ويسرعون طوعا وكرها إذ لا مرجع لهم سواه ولا ملجأ الا هو. ثم لما أفاقوا من ولههم وحيرتهم ورأوا مقدمات العذاب والنكال قالُوا اى بعضهم لبعض متحيرين متحسرين يا وَيْلَنا وهلكنا تعال تعال فهذا أوانك مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا اى قبورنا التي قد كنا مقبورين مستورين فيها يعنى كل منا مستور عن صاحبه وان كان هناك عذاب ايضا لكن لا تفضيح فيه او المعنى من أيقظنا عن نومنا الذي كنا عليه قبل النفخة الثانية المحيية او بعد النفخة الاولى المميتة وبالجملة انما قالوا ما قالوا تحسرا وتحزنا ثم قيل لهم من قبل الحق هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ اى يومكم هذا هو اليوم الموعود الذي قد وعده الرحمن وأخبره على ألسنة رسله وكتبه لينقذكم من عذابه بمقتضى سعة رحمته وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ في جميع ما جاءوا به من قبل ربهم من الأمور المتعلقة بالنشأة الاخرى وأنتم من

[سورة يس (36) : آية 53]

كمال بغيكم وبغضكم على الله ورسله في النشأة الاولى قد انكرتم الرحمن وكذبتم الرسل الكرام فاليوم يلقيكم ما كذبتم به. ثم قال سبحانه تقريعا وتوبيخا على المشركين المنكرين لقدرته وكمال عزته وسطوته واستقلاله في تصرفات ملكه وملكوته وإظهارا لعلو شأنه وسمو برهانه بان أمثال هذه المقدورات في جنب قدرتنا الكاملة في غاية اليسر والسهولة لذلك إِنْ كانَتْ اى ما كانت الفعلة منا في امر البعث وقيام الساعة وحشر الأموات إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً صادرة بأمرنا فجاءة ألا وهي الصيحة الثانية او ما وقعت الفعلة منا وبأمرنا الا صيحة واحدة فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ اى كل الأموات مجموعون لَدَيْنا مُحْضَرُونَ عندنا مع انه ما صدر عنا في إحضارهم وجمعهم الا صيحة واحدة دفعية فَالْيَوْمَ اى بعد ما حضر الكل لدينا واجتمع عندنا للعرض والحساب وتنقيد الأعمال وجزاء الأفعال الصادرة عنهم في دار الاختبار لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ولا تنقص من أجور أعمالها الصالحة وَلا تزاد ايضا على فاسدها على مقتضى عدلنا بل لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بمقتضى عملهم ان خيرا فخير وان شرا فشر ثم فصل سبحانه احوال الأنام في النشأة الاخرى فقال إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ ألا وهم الواصلون الى مقر التوحيد والمعرفة علما وعينا وحقا الْيَوْمَ اى يوم القيامة المعد للجزاء فِي شُغُلٍ عظيم من انواع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات القالعة لعرق التقليدات والتخمينات التي هي من لوازم الإمكان الذي هو من أسفل دركات النيران فاكِهُونَ فرحون متلذذون ابدا بلا انقراض وانقضاء أصلا بل هُمْ في شهودهم وَكذا أَزْواجُهُمْ التي هي نتائج أعمالهم الصالحة متمكنون فِي ظِلالٍ هي ظلال الأسماء والصفات الإلهية عَلَى الْأَرائِكِ اى هم على السرر العلية والدرجات السنية مُتَّكِؤُنَ متمكنون راسخون ثابتون لا يتحولون منها ولا ينقلبون لَهُمْ فِيها عناية منا إياهم فاكِهَةٌ كثيرة من تجددات المعارف والحقائق وتلذذات الكشوفات والشهودات على مقتضى التجليات الإلهية وَبالجملة لَهُمْ فيها ما يَدَّعُونَ ويتمنون من مقتضيات التجليات المتشعشعة حسب الشئون والتطورات الإلهية التي لا نهاية لها بلا تناه وتكرر وقيل لهم من قبل الحق حينئذ سَلامٌ اى تسليم وترحيب لهم وتكريم قَوْلًا ناشئا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ اى مرب مشفق لهم يربيهم بمقتضى سعة رحمته على فطرة التوحيد ويوصلهم الى مقر الوحدة الذاتية بعد ما رفعوا الشواغل المانعة عن التوجه إليها ورفضوا العلائق العائقة عن التمكن دونها والتحلي بها وَقيل حينئذ للمشركين المصرين على الشرك والعناد امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ المفرطون المسرفون في الاعراض عن الله بمتابعة الشيطان المضل المغوى عن طريق توحيده وانصرفوا عن اهل التوحيد واليقين. ثم قرعهم سبحانه وعاتبهم زجرا لهم وطردا على وجه العموم لئلا يأمن ايضا المؤمنون المخلصون مع اطمئنانهم على الايمان ورسوخهم في العرفان أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ ولم آخذ منكم موثقا وثيقا في مبدأ فطرتكم بألسنة استعداداتكم واقوال قابلياتكم أَنْ لا تَعْبُدُوا اى بان لا تعبدوا الشَّيْطانَ ولا تطيعوا امره ولا تقبلوا منه وسوسته وقوله المبعد المحرف لكم عن طريق توحيده وبالجملة انما أحذركم يا ابن آدم عن أطاعته وانقياده إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة والنزاع يريد ان يصدكم عما جبلتم عليه باغرائه واغوائه وَأَنِ اعْبُدُونِي ووحدونى واعتقدوا كمال أسمائي وأوصافي واستقلالى في عموم تدبيراتى وتصرفاتي في ملكي وملكوتي وامتثلوا امرى ولا تشركوا معى في الوجود شيأ من مظاهري ومصنوعاتى هذا الموثوق صِراطٌ

[سورة يس (36) : آية 62]

مُسْتَقِيمٌ موصل الى توحيدي فاتخذوه سبيلا ولا تركنوا الى الذين ضلوا عن طريقي وظلموا أنفسهم بالخروج عن مقتضى حدودي واوامرى واحكامى وحكمى وتذكيراتى وَكيف تعبدون الشيطان وتتبعون اثره وتنقادون امره ايها العقلاء المجبولون في فطرة الهداية والرشد مع انه لَقَدْ أَضَلَّ واغوى هذا المضل المغوى مِنْكُمْ يا بنى آدم جِبِلًّا كَثِيراً وجماعة متعددة من بنى نوعكم فانحرفوا بإضلاله عن سواء السبيل ونقضوا باغوائه واغرائه المواثيق الوثيقة والعهود المعهودة فحرموا بذلك عن الجنة الموعودة لهم فاستحقوا جهنم البعد ونيران الخذلان أَتعبدون الشيطان وتقتفون اثره فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ اى لم تستعملوا عقولكم في فظاعة امره وشدة عداوته ووخامة عاقبة متابعته وفيما يترتب على إضلاله من العذاب المخلد والنكال المؤبد فتختارون متابعته ويقبلون منه تقريره وتتركون طريق الحق أفلا تعقلون ايها المسرفون المفرطون وقيل لهم حينئذ مشيرا الى منقلبهم ومثواهم هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي قد كُنْتُمْ ايها الضالون المغرورون تُوعَدُونَ في النشأة الاولى بألسنة الرسل والكتب اصْلَوْهَا وادخلوها الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ اى بشؤم ما تنكرون بذات الله وبكمال أسمائه وصفاته وبما تكذبون كتبه ورسله وتعرضون عنهم وعن دعوتهم ظلما وعدوانا وبعد ما عاينوا العذاب وانواع النكال وعلموا ان اسبابها ما هي الا أفعالهم الصادرة عنهم في دار الاختبار عزموا الى الإنكار وقصدوا ان يقولوا معتذرين والله ما كنا يا ربنا مشركين لك مكذبين كتبك ورسلك فيقول الله الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ونمنعها عن الكلام والتكلم حتى لا يتفوهوا بالأعذار الكاذبة وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ بما صدر عنهن ظلما وعدوانا وَتَشْهَدُ ايضا أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بها من المعاصي والسعى في طلب المنهيات والمحرمات وبالجملة انطق الله العزيز العليم الخبير الحكيم جميع جوارحهم واركانهم فاعترف كل منها بما اقترف به صاحبه وفي الحديث صلوات الله وسلامه على قائله وحينئذ يقال للعبد كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا ثم قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقى فينطق كل بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول للجوارح بعد ما أقرت واعترفت بعد الكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل انتهى الحديث والسر في إنطاق الله سبحانه الأعضاء والجوارح بما صدر عنها هو الإشارة الى ان الالتفات الى السوى والأغيار مطلقا مضر لذوي الألباب والاعتبار وسبب تفضيح وتخذيل لدى الملك الجبار الغيور القهار فلا تذهب الا الى الله ولا تصحب الا مع الله ولا تعتمد الا بالله ولا تتوكل الا على الله وبالجملة فاتخذ الله وكيلا وكفاك سبحانه حسيبا وكفيلا. رزقك الله وإيانا حلاوة صحبته وجنبك وإيانا عن الالتفات الى غيره بمنه وجوده. ثم قال سبحانه اظهار الكمال قدرته واختياره وَكما ختمنا على أفواههم حينئذ وطبعنا على قلوبهم قبل ذلك حين لم يقبلوا دعوة الرسل لَوْ نَشاءُ ان نعميهم ونذهب بأبصارهم لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ وصيرناهم مطموسة ممسوجة كسائر أعضائهم بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق فَاسْتَبَقُوا وبادروا الصِّراطَ والطريق المعهود لهم وهم قد مروا عليها مرارا كثيرة فَأَنَّى يُبْصِرُونَ فكيف يبصرونه بعد ما صاروا مطموسين بل وَلَوْ نَشاءُ ان نسقطهم عن رتبة التكليف ودرجة الاعتبار لَمَسَخْناهُمْ واخرجناهم عن الرتبة الانسانية الى الحيوانية بل عن الحيوانية الى الجمادية ايضا الى ان صاروا جامدين خامدين عَلى مَكانَتِهِمْ كالجمادات الاخر بحيث لا يسع لهم ان يتحولوا عنها أصلا فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ يعنى لو نشاء مسخهم

[سورة يس (36) : آية 68]

وإخراجهم عن رتبة الخلافة والنيابة وفطرة التكليف والتوحيد لصيرناهم جمادات لا قدرة لها على الذهاب والإياب أصلا وبالجملة هم بسبب أعمالهم الفاسدة وأفعالهم القبيحة واوصافهم الذميمة وأخلاقهم الغير المرضية أحقاء ان يفعل بهم ما ذكرنا لكن لقد سبقت رحمتنا واقتضت حكمتنا ان نمهلهم زمانا الى ان يتنبهوا او يتولد منهم من يتنبه ويتفطن وَكيف لا نقدر على الطمس والمسخ مع انا بمقتضى قدرتنا وقوتنا مَنْ نُعَمِّرْهُ منهم ونطول عمره في الدنيا نُنَكِّسْهُ ونضعفه فِي الْخَلْقِ بالآخرة الى ان نرده الى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيأ ثم نميت الكل ونصيرهم ترابا وعظاما ولا شك ان من قدر على الأحياء والاماتة والتطويل والتنكيس فهو قادر على المسخ والتطميس فمن اين يتأتى لهم ان ينكروا قدرتنا واختيارنا في أفعالنا واستقلالنا في تصرفات ملكنا وملكوتنا أَفَلا يَعْقِلُونَ ولا يتأملون آثار قدرتنا الغالبة الكاملة الظاهرة على الآفاق والأنفس أولئك العقلاء المتأملون حتى يتفطنوا ويتيقنوا بها. ثم لما قال كفار مكة خذلهم الله ان محمدا شاعر وما جاء به مفترى الى ربه من جملة الاشعار والقياسات المخيلة المشتملة على الترغيبات والتنفيرات والمواعيد والوعيدات وادعاء النبوة والوحى والمعجزة ما هو الا قول باطل وزور ظاهر رد الله عليهم قولهم هذا على وجه المبالغة والتأكيد فقال وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ اى ما جعلنا فطرته الاصلية واستعداده الجبلي قابلة على القياسات الشعرية المبتنية على محض الكذب والخيال المرغب والمنفر بل ما جعلناها الا منزهة عنها بريئة عن أمثالها طاهرة عن ادناس الطبيعة مطلقا خالصة عن شوائب الإمكان ولوث الجهل والتقليد متحلية باليقين والبرهان المنتهى الى الكشف والعيان ثم الى الحق الذي هو منتهى الأمر في باب العرفان وَما يَنْبَغِي لَهُ ويليق بشأنه وبشأن كتابه المنزل عليه ان ينسب هو وهو الى الشعر والشعراء الذين هما ابعد بمراحل عن ساحتي عز جلالهما بل إِنْ هُوَ اى ما الكلام المنزل على خير الأنام إِلَّا ذِكْرٌ عظة وتذكير ناشئ عن العلم والحكمة المتقنة الإلهية مشيرا الى التوحيد الذاتي منبها عليه وَقُرْآنٌ مُبِينٌ مشتمل على احكام ظاهرة وآيات واضحة وبينات لائحة محتو على الأوامر والنواهي الإلهية والحدود والقوانين الموضوعة بالوضع الإلهي بين عباده ليوصلهم الى طريق توحيده منزل على رسوله المستعد لحمله وقبوله لِيُنْذِرَ أنت يا أكمل الرسل بالتبليغ ان قرئ على صيغة الخطاب او القرآن ان قرئ على الغيبة مَنْ كانَ حَيًّا بحياة الايمان موفقا من عندنا باليقين والعرفان معدودا عن عداد السعداء في حضرة علمنا ولوح قضائنا وَالا يَحِقَّ الْقَوْلُ ويصدر الحكم منا بلحوق العذاب حتما عَلَى الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والعناد المائتين بموت الجهل والإنكار أَينكرون أولئك المنكرون المشركون توحيدنا ويكفرون نعمنا الفائضة عليهم على التعاقب والتوالي وَلَمْ يَرَوْا ولم يعلموا أَنَّا بمقتضى جودنا خَلَقْنا لَهُمْ بمحض قدرتنا وحكمتنا مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا بلا صنع لهم وتسبب ومظاهرة أَنْعاماً أجناسا وأنواعا وأصنافا فَهُمْ لَها مالِكُونَ متصرفون فيها ضابطون لها قاهرون عليها وَكيف لا يملكون ولا يتصرفون فيها بأنواع التصرفات مع انا قد ذَلَّلْناها وسخرناها اى أجناس الانعام مع كمال قوتها وقدرتها لَهُمْ ولم نجعلها آبية وحشية عنهم بل مقهورة لهم مذللة لحكمهم لذلك فَمِنْها رَكُوبُهُمْ اى مراكبهم التي يركبون عليها كالإبل والخيل وَمِنْها يَأْكُلُونَ من لحومها وشحومها وَمع ذلك لَهُمْ فِيها اى في الانعام مَنافِعُ كثيرة من أصوافها واوبارها واشعارها ونتائجها وَمَشارِبُ من ألبانها أَفَلا يَشْكُرُونَ

[سورة يس (36) : آية 74]

النعم الفائضة عليهم المهمة لهم المقوية لأمزجتهم وَمن علامة كفرانهم بنعم الله ونسيانهم حقوق كرمه انهم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية اولياء وسموهم آلِهَةً مستحقة للعبادة والرجوع في المهمات وكشف عموم الملمات لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ بهم وبشفاعتهم عن بأس الله وبطشه مع انهم جمادات لا يَسْتَطِيعُونَ ولا يقدرون نَصْرَهُمْ اى نصر عابديهم بل وَهُمْ اى العابدون لَهُمْ اى للمعبودين جُنْدٌ مُحْضَرُونَ حولهم حافظون لهم مزينون إياهم بأنواع التزيينات وبالجملة هم اى العابدون منسلخون عن مقتضى العقل بعبادتهم إياهم واتخاذهم اولياء شفعاء وتسميتهم آلهة دون الله وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل حالهم وحال معبوداتهم فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ لك بانك شاعر او مجنون وبان كتابك شعر او من أساطير الأولين وبانك كاذب في دعوى الرسالة والنبوة وبان اخبارك بالبعث زور باطل إِنَّا نَعْلَمُ بحضرة علمنا الحضوري عموم ما يُسِرُّونَ ويضمرون في صدورهم وضمائرهم من الكفر والإنكار بتوحيدنا وباستقلالنا في ملكنا وملكوتنا وَايضا نعلم جميع ما يُعْلِنُونَ من الفسوق والعصيان والخروج عن مقتضى الحدود ظلما وعدوانا فنجازيهم على مقتضى علمنا بهم وبأعمالهم. ثم لما بالغ الكفرة المنكرون المصرون في انكار البعث وتكذيبه وجادلوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم على وجه العناد والمكابرة حتى اتى ابى بن خلف بعظم بال وفته عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال متعجبا على سبيل الإنكار مستبعدا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما كذلك انا لمخرجون مبعوثون هيهات هيهات لما توعدوننا رد الله عليهم وعلى عموم من أنكر قدرته على البعث فقال أَينكر المنكر المصر قدرتنا على اعادة الروح الى الأبدان وَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ المجبول على الدراية والشعور ولم يتذكر ولم يعلم أَنَّا خَلَقْناهُ وقدرنا وجوده أولا مِنْ نُطْفَةٍ مهينة وهي أرذل من التراب وانزل رتبة فَإِذا هُوَ اليوم بعد ما قد سويناه رجلا كاملا في العقل والرشد خَصِيمٌ مُبِينٌ مجادل مكابر زعيم ظاهر المراء والمجادلة معنا منكرا لقدرتنا مع انه قد كان جمادا أرذل في نهاية الرذالة والخساسة وَما يستحيى منا ومن قدرتنا حتى ضَرَبَ لَنا مَثَلًا موضحا لنفى قدرتنا وَقد نَسِيَ خَلْقَهُ اى خلقنا إياه ومن كمال نسيانه وضلاله قالَ متعجبا مستبعدا على سبيل الإنكار مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ البالية وَالحال انه هِيَ رَمِيمٌ بال في غاية البلى بحيث تفتت اجزاؤها وتطيرت بالرياح قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم بعد ما قد بالغوا في الإنكار والاستبعاد يُحْيِيهَا اى العظام ويعيد الروح إليها القادر المقتدر الَّذِي أَنْشَأَها اى أوجدها وابدعها أَوَّلَ مَرَّةٍ من كتم العدم إنشاء إبداعيا بلا سبق مادة ومدة وَان استبعدوا واستحالوا جمع الاجزاء المنبثة المفتتة الممتزجة بعضها مع بعض الى حيث يستحيل امتيازها وافتراقها أصلا قل هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ ومخلوق من نقير وقطمير عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يغيب عن حيطة حضرة علمه ذرة ولا يشتبه عليه شيء من معلوماته فله سبحانه ان يميز أجزاء كل شخص شخص ويركبها على الوجه الَّذِي كان عليه في النشأة الاولى ثم يعيد الروح اليه فصار حيا كما كان وما ذلك على الله بعزيز وكيف لا يقدر العليم الحكيم على امتياز أجزاء الأنام والتيامها واعادة الروح إليها إذ هو القادر المقتدر الذي جَعَلَ لَكُمْ ايها المكلفون حسب علمه وقدرته مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ الرطب الذي يتقاطر منه الماء ناراً مع ان بين الماء والنار من التضاد وكيف تنكرون إخراج النار من الشجر الرطب فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ

[سورة يس (36) : آية 81]

حينا كثيرا قال ابن عباس رضى الله عنهما شجرتان معروفتان يقال لأحدهما المرخ وللآخر العفار فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنتين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما ماء فيسحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار باذن الله تعالى ولهذا قال الحكماء لكل شجر نار الا العناب. ثم أشار سبحانه ايضا الى كمال قدرته واختياره فقال أَينكر المنكرون قدرتنا على البعث وحشر الموتى وَلَيْسَ القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ أوجد واظهر السَّماواتِ اى العلويات وما فيها وَالْأَرْضَ اى السفليات وما عليها بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ويعيدهم احياء كما كانوا بَلى من قدر على خلق السموات العلى والأرضين السفلى قادر على بعث الموتى وحشرهم في النشأة الاخرى بالطريق الاولى وَكيف لا هُوَ الْخَلَّاقُ المبالغ في تكثير الخلق والإيجاد ابداعا وإبداء واعادة الْعَلِيمُ بعموم المعلومات والمقدورات ازلا وابدا على التفصيل بحيث لا يخرج عن حيطة حضوره ذرة من ذرائر ما كان ويكون بل الكل عنده ممتاز محفوظ وبالجملة لا تستبعدوا ايها الجاهلون بالله وبعلمه وقدرته وسائر أوصافه الكاملة وأسمائه العامة الشاملة أمثال هذا بل بالنسبة اليه سبحانه سهل يسير وكيف لا يسهل عليه سبحانه أمثال هذا إِنَّما أَمْرُهُ وشأنه انه إِذا أَرادَ شَيْئاً اى تعلق ارادته بتكوين شيء من معلوماته ومقدوراته أَنْ يَقُولَ لَهُ بعد ما تعلق عليه ارادته كُنْ المؤدى لأمره وحكمه فَيَكُونُ المأمور المحكوم على الفور بلا تراخ ومهلة والتعقيب انما ينشأ من العبارة والا فلا تأخير ولا تعقيب في سرعة نفوذ قضائه سبحانه وبالجملة إياك إياك ومحتملات الألفاظ ومنطوقات العبارات فإنها بمعزل عن ادراك كيفية امر الله وشأن حكمه ومضاء قضائه على وجهه ومتى سمعت ما سمعت من كمال قدرة الله ومتانة حكمه وحيطة علمه وقدرته وشمول ارادته واستقلال اختياره فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وله التصرف بالاستحقاق والاستقلال في ملكه وملكوته يعنى تنزه وتقدس ذات من في يده وقبضة قدرته مقاليد الملك ومفاتيح الملكوت من ان يعجز عن اعادة الأموات احياء سيما بعد ما ابدأهم من العدم كذلك ولم يكونوا حينئذ شيأ مذكورا تعالى شأنه عما يقول الظالمون في حقه علوا كبيرا وَكيف لا يقدر سبحانه على البعث والأحياء إذ إِلَيْهِ لا الى غيره إذ لا غير معه في الوجود ولا اله سواه موجود مشهود تُرْجَعُونَ رجوع الأمواج الى الماء والأضواء الى الذكاء سبحان من لا يجرى في ملكه الا ما يشاء خاتمة سورة يس عليك ايها السالك المتدبر المتأمل في كيفية رجوع الكائنات الى الوحدة الذاتية وارتباط عموم المظاهر والمصنوعات الى المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي أزال الله عن بصر بصيرتك سبل الحول واعانك على رفع الحجب وكشف العلل ان تصفى باطنك عن الميل الى الغير والسوى مطلقا بحيث يصير باطنك مملوا بمحبة الله فتترسخ تلك المحبة فيه وتتمرن الى ان قد خفى عليك جميع خواطرك وهواجس نفسك سواها ثم تسرى من باطنك الى ظاهرك فتشغلك عن عموم مشتهياتك ومستلذاتك ومقتضيات جوارحك وقواك وبالجملة يمتلئ بها ظاهرك وباطنك فحينئذ لم يبق لك التفات الى الغير مطلقا فصرت حيرانا مدهوشا مستغرقا بمطالعة وجه الله الكريم وبعد ما صرت كذلك قد جذبك الحق عنك نفسك وستر عليك رمسك الى ان قد غبت فيه وفنيت

سورة الصافات

فحينئذ حق لك ان تقول بلسان استعدادك بعد ما فنيت رسومك وآثارك في الله انا لله وانا اليه راجعون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون [سورة الصافات] فاتحة سورة الصافات لا يخفى على ارباب الصفوة من المنجذبين نحو الحق المنكشفين بانبساط وحدته الذاتية حسب شئونه وتطوراته المنتشئة من أسمائه وصفاته الذاتية على صفائح المظاهر والمجالى الغير المحصورة والعكوس والاظلال الغير المتناهية ان الوحدة الحقيقية الحقية لما أرادت ان تتجلى بالتجلى الحبى لإظهار الكمالات المندمجة في ذاتها المقتضية للظهور والجلاء والاستجلاء تنزلت أولا من مرتبة الاحدية والعماء الذاتي الذي لا يتصور فيها الشعور والإدراك مطلقا الى الواحدية ثم منها الى ما شاء الله فظهرت المراتب والكثرات فأول كثرة ظهرت منها هي الأسماء الحسنى والصفات العليا الغير المنحصرة الموسومة عند ارباب الأذواق بالملائكة المهيمين الوالهين بمطالعة وجهه الكريم الصافين حول عرشه العظيم ثم ظهرت من تلك الأسماء والصفات كثرة الآثار والاظلال المنعكسة منها ثم ترتبت على تلك العكوس والاظلال اللوازم والعوارض والإضافات والتعلقات الفائتة للحصر والإحصاء وبعد ما قد بلغت الكثرة نهايتها تكونت الطبائع والهيولى والجواهر والاعراض وحدثت الفتن والأمراض واختلفت المذاهب والأغراض وتشعبت الطرق والأحزاب وتكثرت الملل والنحل وتزاحمت الأفكار والآراء وتعارضت الأماني والأهواء فحينئذ اقتضت الحكمة الإلهية وضع الحدود والقوانين وتحميل التكاليف الشافة على العباد وتشريع الطاعات والعبادات عليهم وإرسال الرسل والأنبياء المؤيدين من عند الله بالكتب المنزلة الفارقة بين الحق والباطل من السبل والاحكام المبينة للأمم براهين التوحيد وحجج اليقين ليتميز المحق من المبطل والموحد من الملحد والمؤمن العارف من الكافر الجاهل ولهذا المطلب العلى والمقصد السنى الذي هو التوحيد الذاتي اقسم سبحانه بأعظم مخلوقاته وأقربها الى صرافة الذات ألا وهم الملائكة الصافون حول الذات الاحدية المهيمون عند سرادقات العز والجلال بمطالعة الجمال فقال تبارك وتعالى مفتتحا بعد ما تيمن باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى على ملائكته الحافين لذاته الصافين حول عرشه العظيم الرَّحْمنِ عليهم بعموم فيضه وشمول رحمته الرَّحِيمِ لهم يأمرهم بعكوف بابه ويقربهم عند جنابه [الآيات] وَالصَّافَّاتِ اى وحق الأسماء والصفات الإلهية الصافين حول الذات الاحدية المنتظرين لشئونه وتجلياته إذ هو سبحانه في كل آن في شأن ولا يشغله شأن عن شأن صَفًّا مستقيما مستويا بحيث لا يتحولون عنه أصلا بل هم هائمون دائمون والهون مستغرقون منتظرون بماذا يأمرهم ربهم من التدبيرات المخزونة في حضرة علمه المحيط والتصويرات المثبتة المكنونة في لوح قضائه المحفوظ ومتى تعلق ارادته بمقدور من مقدوراته ومراداته المأمورة إياهم وهم حينئذ زاجرات فَالزَّاجِراتِ المدبرات على الفور لما يأمرهم الحق من التدبيرات المتعلقة بنظام الكائنات غيبا وشهادة زَجْراً تاما وتدبيرا كاملا حسب المأمور والمقدور بلا فتور وقصور وبعد ما صدر امره سبحانه وجرى قضاؤه بقوله كن فهم حينئذ التابعات الطالبات لامتثال الأمر المقضى بلا فترة وتسويف فَالتَّالِياتِ التابعات لإنفاذ قضائه سبحانه القارأت المبلغات ذِكْراً منه ووحيا من لدنه سبحانه لمن أمرهم الحق بتبليغه إياهم ألا وهم الأنبياء والرسل المؤيدون بالوحي والإلهام المصطفون من بين البرايا والعباد

[سورة الصافات (37) : آية 4]

بالخلافة والنيابة عن الله المتحملون لا عباء النبوة والرسالة يعنى وبحق هؤلاء الملائكة الذين هم من سدنة باب اللاهوت وخدمة عتبة حضرة الرحموت المنتظرون لما صدر عنه سبحانه من الأمور المتعلقة بالملك والملكوت إِنَّ إِلهَكُمْ الذي أظهركم وأبدعكم من كتم العدم ولم تكونوا ايها العكوس المستهلكة في شمس الذات شيأ مذكورا لا حسا ولا عقلا ولا خيالا ولا وهما لَواحِدٌ احد صمد فرد وتر ليس له شريك في الوجود ولا نظير في الظهور والشهود فهو بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته رَبُّ السَّماواتِ العلى وَالْأَرْضِ السفلى وَما بَيْنَهُما من الكوائن والفواسد الممتزجة الى ما لا يتناهى لا مربى للمذكورات سواه ولا مظهر للكائنات الا هو وَكيف لا وهو سبحانه رَبُّ الْمَشارِقِ اى الاستعدادات القائلة لشروق شمس ذاته المتأثرة من اشعة أسمائه وصفاته وبعد ما ثبت وحدة ذاتنا واستقلالنا في تصرفات ملكنا وملكوتنا ولاهوتنا وجبروتنا إِنَّا من مقام عظيم جودنا وكمال قدرتنا قد زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا اى القربى لكم ايها المكلفون حيث ترون ما فيها بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ اى برينة هي الكواكب او بدل على كلتا القراءتين بتنوين وبلا تنوين تحلية وتزيينا تبتهجون بها حين تنظرون إليها وتتأثرون منها سعدا ونحسا إقبالا وإدبارا وَجعلناها حِفْظاً اى بعد ما قد زينا السماء بها صيرناها صائنة حفظا لها مِنْ وصول كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ خارج عن اطاعة الله مائل عن توحيده كي لا يَسَّمَّعُونَ اى مردة الشياطين ولا يصغون إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى اى الى الاذكار والاستغفار وسائر السرائر والأسرار الجارية على ألسنة الملائكة إذ هم اى الشياطين والجن أشبه المخلوقات الى الملائكة وانما منعهم سبحانه عن الإصغاء إليهم لأنهم من غاية عداوتهم مع بنى آدم يعكسون عليهم ما يسمعون فيضلوهم عن الصراط المستقيم إذ يدعون الألوهية والربوبية لأنفسهم ويحتجون بما يستمعون من الملائكة ترويجا وتغريرا ويلبسون الأمر على ضعفة الأنام فيحرفونهم عن جادة التوحيد والإسلام وَلذلك يُقْذَفُونَ ويطرحون أولئك الماردون مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جوانب السموات وآفاقها دُحُوراً طردا بليغا وزجرا شديدا وَمع ذلك الطرد والزجر لَهُمْ اى الشياطين عَذابٌ نازل مستمر في النشأة الاخرى واصِبٌ مؤبد دائم لا ينفك عنهم في حين من الأحيان إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ اى يطردون الماردون حتى لا يستمعوا الا من اختطف منهم فاختلس من الملائكة الخطفة على سبيل الاستراق فَأَتْبَعَهُ اى تبعه ولحقه على الفور حين اختطافه واختلاسه شِهابٌ ثاقِبٌ اى كوكب مضيء كجذوة النار يثقب الجنى فيقتله او يحرقه او يخبله. والقول بان الشهاب من الأشياء الكائنة في الجوّ لا من الكواكب قول تخمينى ابتدعها الفلاسفة من تلقاء نفوسهم لا يعضده عقل ولا يوافقه نقل فاما قولهم في خبط الحركات الفلكية والاجرام العلوية وتقويم الكواكب والبروج وتقدير الأشكال والصور الى غير ذلك من الأمور المنتهية الى الحس ربما يؤدى الى اليقين واما في طبائع المكونات وحقائق الموجودات وكيفية تراكيب الماهيات وغير ذلك من الأمور الحقيقية التي لا مجال للحس فيها ولا للعقل ما هو الا تخمين زائل وزور باطل إذ لا يعرف كنه الأشياء الا خالقها ومظهرها لا يسع لاحد ان يتفوه عنها وعن كيفيتها وكميتها وكيفية التيامها على ما هي عليه وتركيباتها الحقيقية وهم اى مردة الشياطين بمجرد تلك الخطفة المختلسة يضلون كثيرا من الناس الى حيث يستعبدونهم ويأمرونهم بالاطاعة والانقياد الى أنفسهم والعبادة إياهم باتخاذهم اولياء وآلهة من دوننا جهلا فَاسْتَفْتِهِمْ اى

[سورة الصافات (37) : آية 12]

المشركين المتخذين الشياطين اولياء آلهة من دوننا واستخبرهم يا أكمل الرسل على سبيل التبكيت والتعيير تنصيصا على غيهم وتصريحا بكفرهم واستحقاقهم العذاب المؤبد والنكال المخلد أَهُمْ اى آلهتهم وشياطينهم أَشَدُّ خَلْقاً اى إيجادا وتأثيرا أَمْ مَنْ خَلَقْنا وأظهرنا بمقتضى قدرتنا الكاملة من المخلوقات المذكورة التي هي الملائكة الصافات والسموات المطبقات والكواكب السيارات المتفاوتة في التأثيرات والأرض وما عليها من البسائط والمركبات والمواليد وما بينهما من الممتزجات وغير ذلك من الاستعدادات القابلة لشروق شمس الذات سيما إِنَّا خَلَقْناهُمْ وقدرنا هؤلاء المتخذين لغيرنا أربابا أولا مِنْ طِينٍ لازِبٍ لاصق منتن مهين لازم النتن والهوان ثم ربيناهم بأنواع التربية الى ان سويناهم رجالا عقلاء ليعترفوا بنا وبتوحيدنا والوهيتنا وربوبيتنا ويواظبوا على شكر نعمتنا فعكسوا الأمر واتخذوا اولياء من دوننا واعتقدوهم آلهة سوانا وبالجملة قد انقلبوا خاسرين خائبين او المعنى فاستفتهم اى سلهم اى المشركين أهم في أنفسهم أشد خلقا وأعظم مخلوقا أم من خلقنا من المخلوقات المذكورة سابقا مع انهم لم يتخذوا الها سوانا ولم يعبدوا غيرنا وهؤلاء الحمقى كيف اتخذوا من دوننا أولياء ويسمونهم آلهة شفعاء مع انهم أضعف بالنسبة إليهم مخلوقون من أدون الأشياء وارذلها انا خلقناهم وقدرنا وجودهم أولا من طين لازب مسترذل منتن تستكرهه الطبائع ومتى سمعت يا أكمل الرسل قولهم وانكارهم التوحيد واشراكهم بالله أدون الأشياء مع ضعف خلقهم وتأملت حالهم فقد استبعدت منهم هذا بَلْ عَجِبْتَ أنت وعجبت انا على القرائتين منهم أمثال هذا مع انهم مجبولون على فطرة الدراية والشعور موهوبا لهم العقل المفاض المشير لهم الى التوحيد وتصديق البعث والحشر وجميع الأمور الاخروية وَهم مع هذا يَسْخَرُونَ بك مهما سمعوا منك الاخبار والآيات الواردة في امر البعث والحشر بل وَهم من شدة قسوتهم وغاية عمههم وسكرتهم في غيهم وغفلتهم إِذا ذُكِّرُوا ووعظوا بالإنذارات البليغة والتخويفات الشديدة المتعلقة للآخرة لا يَذْكُرُونَ ولا يتأثرون ولا يتعظون ولا يقتصرون على عدم القبول والتذكر بل وَإِذا رَأَوْا اى علموا وسمعوا آيَةً معجزة نازلة في شأن البعث والنشور يَسْتَسْخِرُونَ بها ويستهزؤن بك يا أكمل الرسل عنادا واستكبارا وَقالُوا من شدة بغضهم وضغينتهم معك يا أكمل الرسل ومع كتابك إِنْ هذا اى ما هذا الذي قد جاء به هذا المدعى مفتريا على ربه إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ اى سحرية ما جاء به ظاهرة وهو في نفسه ساحر ماهر لكن كلامه زور باطل أَنبعث ونحيى إِذا مِتْنا وانفصل عنا روحنا سيما وَقد كُنَّا تُراباً وَعِظاماً بالية رميمة أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بعد ما صرنا كذلك أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الأقدمون يبعثون ويحشرون هيهات لما توعدون ان هي الا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما بالغوا في انكار البعث واستحالة نشأة النشور نَعَمْ تبعثون أنتم ايها الضالون المنكرون والى ربكم تحشرون وعن أعمالكم تسئلون وعليها تحاسبون والى جهنم تساقون وَأَنْتُمْ فيها داخِرُونَ داخلون دائمون صاغرون مهانون وكيف تنكرون قدرتنا على البعث وقيام الساعة فَإِنَّما هِيَ اى الساعة والبعث بعد ما تعلقت مشيتنا زَجْرَةٌ واحِدَةٌ اى صيحة واحدة ناشرة منشرة لهم من قبورهم سائقة زاجرة لهم نحو المحشر زجر الراعي الصائح للغنم وبعد ما سمع الأموات الصيحة اى النفخة الثانية في الصور فَإِذا هُمْ قيام يَنْظُرُونَ حيارى وسكارى تائهين والهين وَقالُوا بعد ما قاموا كذلك

[سورة الصافات (37) : آية 21]

متحسرين متمنين الهلاك والويل يا وَيْلَنا وهلكنا أدركنا هذا اليوم يَوْمُ الدِّينِ والجزاء الذي قد وعدنا الله به على ألسنة رسله وكتبه في النشأة الاولى فنحن قد كنا ننكره ونكذبه ونستهزئ بمن جاء به واخبر عنه عنادا ومكابرة فالآن رأيناه وابتلينا به يا حسرتنا على ما فرطنا في ترك الايمان به وتصديق مخبره وبعد ما قالوا ما قالوا قيل لهم من قبل الحق على سبيل التقريع والتعيير إظهارا لكمال القدرة هذا يَوْمُ الْفَصْلِ والقضاء بالعدل الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ايها الضالون المنكرون المصرون على التعنت والعناد. ثم امر سبحانه للملائكة المترصدين لأمره القائمين بحكمه احْشُرُوا وسوقوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالخروج عن مقتضى الحدود الإلهية واجمعوهم للمحشر وَأَزْواجَهُمْ اى أشباههم وأمثالهم وقرناءهم الذين اقتدوا بهم واقتفوا أثرهم معهم وَاحضروا معهم ايضا ما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ظلما وعدوانا اى معبوداتهم الباطلة تتميما لإلزامهم فَاهْدُوهُمْ اى قدموهم ودلوهم جميعا إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وبالجملة سوقوهم بأجمعهم عابدا ومعبودا الى نيران الطرد وسعير الخذلان وَقِفُوهُمْ واحبسوهم في الموقف ساعة إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن أعمالهم التي جاءوا بها في نشأتهم الاولى محاسبون عليها وبعد ما سئلوا وحوسبوا جوزوا عليها بمقتضاها ثم سوقوا الى النار والسر في السؤال والحساب والله اعلم تسجيل العذاب عليهم وتنصيصه إياهم لئلا ينسب سبحانه الى الظلم والعدوان ظاهرا ولئلا يجادلوا معه سبحانه إذ كان الإنسان المجبول على الكفر والنسيان اكثر شيء جدلا ثم قيل لهم من قبل الحق توبيخا وتقريعا ما لَكُمْ اى ما شأنكم وأى شيء عرض عليكم ايها الضالون المضلون لا تَناصَرُونَ اى لا ينصر بعضكم بعضا اى معبوداتكم لا تنصركم ولا تشفع بتخليصكم مع انكم اتخذتموهم أولياء واعتقدتموهم آلهة شفعاء فلم لا ينصرونكم ولا ينقذونكم من عذابنا ولم لا يمكرون ولا يحيلون بأنواع الحيل والخداع ولم لا يعتذرون بالأعذار الكاذبة لإنقاذكم من عذابنا كما كنتم تزعمون في النشأة الاولى وهم حينئذ من شدة الهول هائمون حائرون بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون خاضعون ومن اشتداد العذاب عليهم خائفون خاشعون وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ حين يساقون نحو النار يَتَساءَلُونَ ويتخاصمون ويتلاومون حيث قالُوا اى السفلة الضعفاء منهم لرؤسائهم إِنَّكُمْ ايها الضالون المضلون قد كُنْتُمْ من شدة شغفكم وحرصكم على تضليلنا ومنعنا عن تصديق الرسل وقبول دعوتهم تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ اى عن أقوى جوانبنا او عن أقوى الطرق الموصلة الى مطلوبكم منا ألا وهو المال وحطام الدنيا فتعطوننا منه وتحرفوننا عن طرق السلامة وسبل الاستقامة قالُوا اى الرؤساء في جواب الضعفاء ما قولكم هذا الا افتراء منكم علينا ومراء كيف يتيسر لنا ويتأتى منا ان نؤثر نحن في قلوبكم بحيلنا ومكرنا واعطائنا المال إياكم والإحسان عليكم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ مع ان الأيمان انما هو من افعال القلوب بل لم تكونوا في انفسكم مؤمنين مصدقين فتميلون على ما كنا وكنتم عليه طبعا وهواء فتفترون اليوم علينا فرية ومراء وَان ادعيتم اكراهنا إياكم حينئذ فقد كذبتم إذ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ استيلاء وغلبة سيما على قلوبكم الى حد تخافون أنتم عن قهرنا وإهلاكنا إياكم لو لم تكفروا بَلْ قد كُنْتُمْ في انفسكم كما كنا قَوْماً طاغِينَ قد طغيتم وبغيتم على الله كما طغينا وبغينا وبالجملة انا وإياكم تابعا ومتبوعا لفي ضلال مبين فَحَقَّ اى لزم وثبت وجرى عَلَيْنا وعليكم قَوْلُ رَبِّنا وحكمه المبرم المثبت في لوح قضائه المحفوظ في

[سورة الصافات (37) : آية 32]

حضرة علمه المحيط بانا وأنتم من الأشقياء المردودين مستحقون لانواع العذاب والنكال وبالجملة إِنَّا بأجمعنا لَذائِقُونَ اليوم ما كتب الله لنا من العذاب وبالجملة سلمنا انا قد اضللناكم عن الهدى بمكرنا وخداعنا فَأَغْوَيْناكُمْ عن الايمان والتوحيد إِنَّا كُنَّا ايضا غاوِينَ أمثالكم فلحق بنا ما لحق بكم الى متى تعيروننا وتخاصموننا وبعد ما تمادى وتطاول بينهم جدالهم وتخاصمهم قيل لهم من قبل الحق فَإِنَّهُمْ بأجمعهم ضالا ومضلا تابعا ومتبوعا يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ المؤبد المخلد مُشْتَرِكُونَ كما قد كانوا مشتركين في أسبابه وموجباته في النشأة الاولى وبالجملة إِنَّا من غاية قهرنا وجلالنا كَذلِكَ اى مثل الفعل الهائل المهول الذي هو سوقهم جميعا الى النار نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ اى بعموم المتخذين لنا شركاء من دوننا الخارجين عن ربقة عبوديتنا بالالتفات والتوجه الى غيرنا وكيف لا نفعل مع المجرمين المشركين كذلك إِنَّهُمْ من شدة عتوهم وعنادهم قد كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ تذكيرا وتنبيها لا إِلهَ في الوجود يعبد له ويرجع اليه في الخطوب إِلَّا اللَّهُ الواحد الأحد الصمد الوتر الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد هم يَسْتَكْبِرُونَ ويعرضون عن كلمة التوحيد ومقتضاها ويمتنعون عنها وعن معناها وَيَقُولُونَ حينئذ من غاية تعنتهم وإصرارهم على الشرك على سبيل الإنكار والاستبعاد أَإِنَّا مع كمال عقلنا ورشدنا لَتارِكُوا آلِهَتِنا الذين قد كنا نحن وآباؤنا وأسلافنا لها عابدين عاكفين سيما لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يتكلم بكلام المجانين بمجرد ما قد جاءنا بأباطيل من تلقاء نفسه مشتملة على أساطير الأولين يعنون الرسول صلّى الله عليه وسلم. ثم لما تمادوا في طعنه والطغيان وبالغوا في القدح في الرسول والقرآن وإنكاره رد الله عليهم على ابلغ وجه وافصح بيان فقال سبحانه على سبيل الإضراب عن قولهم بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ داعيا على الحق هاديا الى الحق وَعلامة حقيته وصدقه انه قد صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ المنزلين من عندنا على الحق اليقين وبالجملة إِنَّكُمْ ايها الضالون المكذبون به صلّى الله عليه وسلّم وبكتابنا المنزل اليه من عندنا لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ المعد لكم ولأمثالكم في قعر الجحيم وَاعلموا انكم ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بمقتضى ما عملتم واقترفتم لأنفسكم بلا زيادة عليه ولا نقصان منه عدلا منا وقهرا على من انحرف عن جادة توحيدنا إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ على الايمان والأعمال الصالحة خالصا لوجه الله الكريم أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله المرضيون لديه سبحانه لَهُمْ من فضل الله عليهم ولطفه معهم رِزْقٌ مَعْلُومٌ معد معين من عنده سبحانه صوريا ومعنويا علميا وعينيا كشفيا وشهوديا على مقتضى ما عملوا من صالحات الأعمال والأخلاق والحالات بل لهم تفضلا منا عليهم ومزيدا لتكريمهم فَواكِهُ كثيرة يتلذذون بها حسب ما يشتهون وَبالجملة هُمْ مُكْرَمُونَ عند ربهم متنعمون فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ المشتملة على الرزق الصوري والمعنوي متكئين كل منهم مع قرينه عَلى سُرُرٍ رفيعة حسب رفعة درجاتهم في الايمان والعرفان والكشف والعيان مُتَقابِلِينَ متواجهين كل منهم مع قرينه يُطافُ عَلَيْهِمْ تشويقا لهم وتجديدا لذوقهم وحضورهم بِكَأْسٍ مملو مِنْ مَعِينٍ هو عبارة عن خمر الجنة سميت به لأنها قد عانت ونبعت من بحر اللاهوت وترشحت من عين الحياة المنتشئة من حضرة الرحموت بَيْضاءَ يعنى في غاية الصفاء والضياء بحيث لا لون لها حتى يدركها النظر ويخبر عنها الخبر لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ اى لذيذة للعارفين المتعطشين بزلال التوحيد وبرد اليقين لا يدرك

[سورة الصافات (37) : آية 47]

كيفيها الا من يذوقها لا يظمأ منها ابدا ولا يروى سرمدا ولا نخرج نشوتها عنه ابدا بل يطلب دائما مزيدا إذ لا فِيها غَوْلٌ اى غائلة خمار وصداع يترتب عليها كما يترتب على خمور الدنيا وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون الى حيث تذهب عقولهم وتفسد أمزجتهم وتختل خواطرهم وينسون مطالبهم ويضلون عن مقاصدهم كما في خمر الدنيا بل يزيد منها شوقهم وذوقهم ويتكامل طلبهم وَعِنْدَهُمْ من الأزواج المزدوجة معهم المقبولة عندهم قاصِراتُ الطَّرْفِ عليهم مقصورات النظر إليهم لا يلتفتن الى غيرهم عِينٌ حسان الأعين متناسب الحواجب والأجفان والاماق كَأَنَّهُنَّ في صفاء البدن وبياضه بَيْضٌ مَكْنُونٌ مصون محفوظ عن الغبار مخلوط بادنى صفرة كلون الفضة وهو احسن ألوان جسد الإنسان وبعد ما يشربون من المعين وشملتهم الكيفية أخذوا يتحدثون فَأَقْبَلَ والتفت بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ ويتقاولون عما جرى عليهم في نشأة الدنيا وكذا عما ادخروا فيها للنشأة الاخرى من المعارف والحقائق والأعمال والأحوال والمواجيد والأخلاق والعبر والأمثال قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ على سبيل التذكير والتحاكى عن انكار المنكرين ليوم البعث والنشور إِنِّي قد كانَ لِي قَرِينٌ في دار الدنيا منكر لهذه النشأة وانا معتقد لها منتظر لقيامها يَقُولُ لي يوما على سبيل النصح مستنكرا مستبعدا أَإِنَّكَ ايها المجبول على فطرة الدراية والشعور لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ المعتقدين الموقنين أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً تعتقد أنت وتصدق أَإِنَّا لَمَدِينُونَ اى مجزيون بأعمالنا التي قد كنا نعمل مسئولون عنها محاسبون عليها كلا وحاشا ما حياتنا الا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين في النشأة الاخرى ثم قالَ لقرنائه في الجنة مستفهما عن حال قرينه المنكر للبعث هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ يعنى هل أنتم تريدون وتطلبون ايها المسرورون في الجنة ان تطلعوا على حال ذلك القرين في النار قالوا له أنت أحقنا بالاطلاع على حاله منا إذ هو مصاحبك وقرينك فَاطَّلَعَ هو بعد ما نظر وابصر من الكوى التي فتحت في الجنة نحو النار فَرَآهُ اى قرينه المنكر مطروحا فِي سَواءِ الْجَحِيمِ اى وسطه معذبا بأنواع العذاب والنكال قالَ له بعد ما رآه في النار مقسما على سبيل التأكيد والمبالغة تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ يعنى والله انك ايها الجاهل المفرط قد قاربت من إهلاكي باغرائك واغوائك ونصحك الى وتذكيرك على بما يدل على انكار البعث وتكذيب يوم الجزاء واستدلالك على استحالته وَبالجملة لَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي وتوفيقه إياي بالعصمة والثبات على عزيمة الايمان والتوحيد لَكُنْتُ مثلك مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك في وسط الجحيم يعنى كنت انا ايضا من جملة اهل النار مثلك ثم أخذ يباهى ويفتخر على قرينه بالنعيم المقيم واللذة المستمرة بلا طريان موت وعروض عذاب فقال مستفهما أَتعلم ايها المفسد المفرط انا في الجنة مخلدون منعمون فَما نَحْنُ ابدا بِمَيِّتِينَ مائتين متحولين عنها بل لا موت لنا فيها ابد الآبدين إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي قد متنا عن الدنيا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أصلا أمثالكم إِنَّ هذا الخلود والتنعم والسرور بلا طريان ضد عليه لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والكرم الجسيم من الله العلى الحكيم إيانا ثم قيل من قبل الحق ترغيبا للمؤمنين على الطاعات وحثا لهم على الإتيان بالأعمال الصالحات وتطييبا لقلوبهم بترتب هذه الحسنات على أعمالهم وأخلاقهم ومواجيدهم وحالاتهم وبالجملة لِمِثْلِ هذا الفوز العظيم والنوال الكريم فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ في النشأة الاولى لا للحظوظ الفانية واللذات الزائلة الدنياوية المستتبعة لانواع الآلام والحسرات. ثم قال

[سورة الصافات (37) : آية 62]

سبحانه أَذلِكَ المذكور من الرزق المعلوم واللذة المستمرة والنشوة الدائمة بلا صداع ولا خمار والحياة الابدية والمسرة السرمدية خَيْرٌ نُزُلًا لأهل الجنة العلية أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ لأهل النار ألا وهي ثمرة شجرة مرة كريهة الرائحة والطعم يستكرهه طباع اهل النار ألا انهم يتناولون منها للضرورة ثم لما عبر سبحانه عن نزل اهل الجحيم بالزقوم فسمعها كفار مكة قالوا كيف يكون في النار شجرة وثمرة ومن شأنها إحراق ما يجاورها فاستهزءوا برسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش ان محمدا يخوفنا بالزقوم والزقوم بلسان بربر الزبد والتمر فأدخلهم ابو جهل في بيته فقال يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد صلّى الله عليه وسلّم فرد الله سبحانه قولهم واستهزاءهم بقوله إِنَّا جَعَلْناها اى الشجرة المذكورة فِتْنَةً وابتلاء لِلظَّالِمِينَ وسببا لازدياد العذاب واشتداد النكال عليهم إذ هم يتقاولون فيها ويحملونها الى لغة اخرى ويتخذون لها محملا جيدا ويستهزؤن بها مع النبي صلّى الله عليه وسلم فيستحقون أسوأ العذاب والعقاب ويطعمون منها حين دخولهم في النار وبالجملة إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ وتنبت فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ اى منبتها في قعرها وأغصانها في دركاتها طَلْعُها اى ثمرتها التي تطلع منها وتحصل كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ في القبح والهجنة هذا من قبيل تشبيه المحسوس بالمتخيل كتشبيه الطيور الحسنة بالملائكة يعنى تستكره من رؤيتها الطباع استكراهها من رؤس المردة من الجن المصورة على أقبح الصور وأهولها فَإِنَّهُمْ اى أولئك المنكرين المستهزئين وجميع من في النار من الكافرين لَآكِلُونَ مِنْها إذ لا مأكول لهم فيها سواها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ اى يملؤون بطونهم منها لشدة الجوع او يجبرون ويكرهون لأكلها زجرا عليهم وتشديدا لعذابهم إذ هي احر من النار وأبرد من الزمهرير ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ بعد ما ملئوا بطونهم منها إذ لا مأكول مع كمال حرارتها واشتداد العطش عليهم عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ اى خلطا ومزجا من ماء حار في غاية الحرارة بعد ان تخرجهم الخزنة من الجحيم وتوردهم إليها ورود البهائم الى الماء فيشربون منها فيقطع أمعاءهم ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ بعد ما اصدرتهم الخزنة وأخرجتهم من الماء لَإِلَى الْجَحِيمِ البتة إذ لا مرجع لهم سواها وانما ابتلوا بما ابتلوا به من العذاب المؤيد والعقاب المخلد إِنَّهُمْ أَلْفَوْا اى قد صادفوا ووجدوا آباءَهُمْ ضالِّينَ منحرفين عن سبل السلامة وجادة الاستقامة التي هي التوحيد والإسلام فَهُمْ اى هؤلاء الأخلاف الأجلاف بعد ما وجدوا أسلافهم كذلك عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ يسرعون على الفور ويعملون مثل عملهم تقليدا لهم بلا تدبر وتأمل وَبالجملة لَقَدْ ضَلَّ وانحرف عن جادة العدالة قَبْلَهُمْ اى قبل قومك يا أكمل الرسل أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ من الأمم السالفة وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ بعد ما ضلوا وأضلوا عن صراط الحق وجادة توحيده مُنْذِرِينَ مثل ما أرسلناك الى هؤلاء الضالين المنصرفين عن الطريق المستبين بالإنذارات البليغة والتخويفات الشديدة فلم يفدهم انذاراتهم كما لم يفد إنذارك الى هؤلاء المسرفين المفرطين فأخذناهم بغتة واستأصلناهم مرة فَانْظُرْ ايها المعتبر المستبصر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ بعد ما انذروا بالإنذارات البليغة الواصلة إليهم من الرسل ولم يتنبهوا منها الى الطريق المستبين بل التزموا الضلالة جاسرين فانقلبوا صاغرين إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين تنبهوا منها الى الصراط المستقيم بل تفطنوا الى الحق اليقين فصرفوا عن العذاب الأليم الى النقيم المقيم لذلك انقلبوا بنعمة من الله وفضل عظيم. ثم أخذ سبحانه في تعداد اهل

[سورة الصافات (37) : آية 75]

الضلال الجاحدين على الرسل المنذرين بعد ما أجمل فقال وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ حين أردنا إهلاك قومه بالطوفان نداء مؤمل ضريع لاستخلاصه واستخلاص من آمن معه من قومه فأجبنا له فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ نحن لأوليائنا المخلصين وَلهذا نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ اى من آمن معه مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ اى من الغم الذي لحقه دائما من أذى قومه وضربهم ومن انواع زجرهم وشتمهم إياه او من كرب الطوفان وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ اى من تناسل منه ومن ابنائه هُمُ الْباقِينَ الى قيام الساعة. روى انه مات بعد ما نزل في السفينة من كان معه من المؤمنين ولم يبق الا هو وبنوه وأزواجهم فتناسلوا الى انقراض الدنيا كما قال سبحانه وَتَرَكْنا عَلَيْهِ اى أبقينا عليه ذكرا جميلا وثناء جزيلا فِي الْآخِرِينَ اى في الأمم المتخلفة عنه فهم يذكرونه بالخير ويقولون تكريما وترحيبا سَلامٌ اى تسليم وتكريم من الله ومن خواص عباده عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ اى في النشأة الاولى والاخرى إِنَّا بمقتضى لطفنا وجودنا لخلص عبادنا كَذلِكَ اى مثل ما جزينا نوحا على إحسانه وإخلاصه نَجْزِي جميع الْمُحْسِنِينَ من عبادنا لما أنابوا إلينا وتوجهوا نحونا على وجه الإخلاص وكيف لا نبقى له ذكرا جميلا ولا نجزيه جزاء جزيلا إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بتوحيدنا المتوكلين علينا المفوضين أمورهم كلها إلينا المخلصين في عموم ما جاءوا به من الأعمال والأفعال ثُمَّ انا بمقتضى لطفنا فعلنا معه ما فعلنا من الانعام والإحسان ونجيناه عن كرب الطوفان قد أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ اى كفار قومه واستأصلناهم الى حيث لم نبق منهم أحدا على وجه الأرض سوى اشياعه واصحاب سفينته اى المؤمنين به ومن تشعب وتناسل منهم وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ اى من جملة من شايعه في التوحيد والايمان بل من اجلة من تابعه في اصول الدين ومعالم التوحيد واليقين لَإِبْراهِيمَ المتصف بكمال العلم والحلم والمعرفة وان طال الزمان بينهما قيل كان بين نوح وابراهيم عليهما السلام الفان وستمائة وأربعين سنة اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سالم عن جميع الميول الباطلة والآراء الفاسدة واذكر ايضا وقت إِذْ قالَ جدك ابراهيم الخليل الجليل صلوات الله عليه وسلامه لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ حين انكشف بالتوحيد الإلهي وتمكن في مرتبة الشهود العيني والحقي مستفهما على سبيل الإنكار والتوبيخ غيرة على الله وإظهارا لمقتضى الخلة ماذا تَعْبُدُونَ اى لأي شيء تعبدون هذه الأصنام الباطلة العاطلة عن لوازم الألوهية والربوبية ايها الجاهلون بتوحيد الله وبكمال أوصافه وأسمائه أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ اى أتريدون ايها المعاندون ان تثبتوا آلهة متعددة سوى الله الواحد الأحد الصمد القيوم المطلق المستحق للالوهية والربوبية استحقاقا ذاتيا ووصفيا على سبيل الإفك والمراء والكذب والافتراء فَما ظَنُّكُمْ وزعمكم ايها الجاهلون المكابرون بِرَبِّ الْعالَمِينَ أتظنون ان له شريكا في الوجود اوله نظيرا في الشهود او سواه موجودا والله ما ظنكم هذا الا الخيال الباطل والزيغ الزائل وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا انصرفوا عنه وأنكروا عليه وعلى ربه فأراد عليه السلام ان يكايدهم في أصنامهم ويخادع معهم في كسرها وقد قرب حينئذ يوم عيدهم وكان من عادتهم الإتيان بالقرابين والهدايا عند أصنامهم ومعابدهم فيتقربون بها ويتخذون منها أنواعا من الأطعمة فيطبخونها عندها في ليلة العيد ثم يخرجون صبح العيد الى الصحراء فيتعيدون فيها بأجمعهم ثم ينصرفون منها فينزلون الى معابدهم وعند أصنامهم ويمهدون موائد كثيرة من الأطعمة المهيئة فيأكلون منها ويتبركون بها وكان عادتهم كذلك ثم لما اجتمعوا في المعبد عند الأصنام

[سورة الصافات (37) : آية 88]

على عادتهم المستمرة وأرادوا الخروج قالوا له عليه السلام اخرج أنت ايضا معنا غدا يا ابراهيم الى الصحراء نعيد فيها ونرجع فَنَظَرَ ابراهيم عليه السلام حينئذ نَظْرَةً فِي دفتر النُّجُومِ وهم قد كانوا يعملون بالاحكام النجومية يومئذ ويعتقدون لها وهو عليه السلام مشهور بضبطها فَقالَ لهم اليوم إِنِّي سَقِيمٌ الآن او سأسقم عن قريب بالطاعون وهم قد يفرون من المطعون فرارهم من الأسد فَتَوَلَّوْا عَنْهُ وانصرفوا من بعد ما سمعوا منه القول الموحش مُدْبِرِينَ رهبة ورعبا فخرجوا من الغد الى الصحراء ولم يخرج عليه السلام معهم ثم لما بقي محل الأصنام خاليا عن الخدام وقد طبخ عندها انواع من الطعام فَراغَ اى مال وانصرف إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أولا على سبيل التهكم والاستهزاء أَلا تَأْكُلُونَ ايها المعبودون عن هذه الأطعمة المطبوخة المرغوبة المهياة عندكم. ثم قال ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ اى ما عرض ولحق لكم ما تتكلمون ايها الآلهة المستحقة للعبادة والرجوع إليكم في المهمات وبعد ما استهزأ عليه السلام مع هؤلاء الأصنام الصم البكم الجامدين بما استهزأ فَراغَ عَلَيْهِمْ اى مال إليهم وذهب نحوهم فضربهم ضَرْباً بِالْيَمِينِ اى بشدة القوة والغلظة فكسرها تكسيرا وفتت اجزاءها تفتيتا ثم لما أخبروا بانكسار أصنامهم وانفتاتها حين كانوا في الصحراء ظنوا بأجمعهم بل جزموا انه ما فعل بآلهتهم هذه الفعلة الا ابراهيم فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ عازمين جازمين على تمقيته وانتقامه يَزِفُّونَ اى يعدون ويسرعون ويتبخترون ثم لما وصلوا اليه حصروا عن التكلم معه من غاية غيظهم ونهاية زفرتهم فسبقهم عليه السلام بالتكلم حيث قالَ مقرعا عليهم أَتَعْبُدُونَ ايها الجاهلون الضالون ما تَنْحِتُونَ وتصنعون بأيديكم وتعتقدونه الها خالقا موجدا مظهرا لكم من كتم العدم وتعبدونه ظلما وزورا فمن اين لهؤلاء الجمادات العاطلة الباطلة لوازم الخلق والإيجاد والإظهار أفلا تعقلون بل وَاللَّهُ الواحد الأحد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية قد خَلَقَكُمْ بالإرادة والاختيار وَخلق ايضا عموم ما تَعْمَلُونَ اى جميع أعمالكم وأفعالكم التي صدرت عنكم ومن جملتها صنعكم ونحتكم للأصنام والأوثان ومن هنا ظهر ان جميع افعال العباد مثل ذواتهم مستندة الى الله أولا وبالذات ان في ذلك لذكرى لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد ثم لما سمعوا منه عليه السلام ما سمعوا انصرفوا عن مكالمته ومقاولته وهموا العزم الى قتله ومقته وقالُوا اى بعضهم لبعض حين كانوا مشاورين في كيفية قتله بعد ما قر رأيهم عليه ابْنُوا لَهُ بُنْياناً واملئوه بالنار فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ والسعير المسعر حين تنتقمون عنه فبنوا حائطا من الحجر سمكه ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون وملؤه من الحطب واوقدوا فيه نارا فنفخوا فيه بالمنافخ حتى تسعرت وتلهبت ثم طرحوه بالمنجنيق فيها وبالجملة فَأَرادُوا بِهِ وقصدوا لمقته كَيْداً لينتقموا عنه مستعلين عليه فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ المقهورين الخاسرين الخائبين بما فعلوه به عناية منا وتفضلا وامتنانا عليه حيث جعلنا ما سعروه بردا وسلاما عليه فانقلبوا لما رأوا نجاته صاغرين محزونين وبعد ما خرج الخليل صلوات الله عليه وسلامه منها اختار الجلاء والخروج من بينهم بوحي الله إياه والهامه وَلهذا قالَ حين خروجه إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي والى كنف حفظه وجواره وسعة رحمته سَيَهْدِينِ بلطفه الى منزل يمكنني التوجه فيه اليه ويطمئن قلبي فيه فذهب الى الشأم بالهام الله إياه وتوطن في الأرض المقدسة وبعد ما توطن ناجى مع الله وطلب منه سبحانه الولد الخلف له المحيي لاسمه فقال رَبِّ يا من رباني

[سورة الصافات (37) : آية 101]

بأنواع النعم والكرامات هَبْ لِي ولدا صالحا مرضيا لك مقبولا عندك معدودا مِنَ عبادك الصَّالِحِينَ الموفقين من عندك على الصلاح والفوز بالفلاح وبعد ما تضرع نحونا راجيا من رحمتنا فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ هو إسماعيل عليه السلام حَلِيمٍ ذي حلم كامل وتصبر تام على متاعب العبودية وشدائد الاختبارات الإلهية ثم لما ولد له إسماعيل عليه السلام ورباه الى ان ترقى من مرتبة الطفولية وظهر منه الرشد الفطري والفطنة الجبلية الى ان بلغ سبع سنين او ثلاث عشرة وهي أول الحلم وعنفوان الشباب وبالجملة فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ للحوائج والمهمات المتعلقة لأمور المعاش وصار يذهب ويجئ مع ابنه الى الاحتطاب وسائر الاشغال وكان أبوه ينتصر به في الأمور ويستظهر وكان مشفقا له عطوفا عليه بحيث لا يفارقه أصلا من كمال عطفه ثم لما بالغ ابراهيم في عطف ولده وارتباط قلبه به مع انه متمكن في مقام الخلة مع ربه قد غار عليه سبحانه فاختبر خلته حتى رأى في المنام بإلقاء الله في متخيلته ان الله يأمره بذبح ولده إظهارا لكمال خلته واصطبار ولده على بلاء الله واظهار حلمه عند المصيبة فانتبه عن منامه هولا من رؤية الواقعة الهائلة فخيلها من أضغاث الأحلام فاستغفر ربه وتعوذ نحوه من الشيطان ثم نام فرأى ايضا كذلك ثم استيقظ كذلك خائفا مرعوبا ثم استغفر ونام فرأى ثالثا مثل ما رأى فتفطن بنور النبوة انه من الاختبارات الإلهية فأخذ في امتثال المأمور خائفا من غيرة الله وكمال حميته وجلاله يعنى كيف يطيق احد ان يتخذ محبوبا سواه ويختار خليلا غيره سيما من اختار الله لخلته واصطفاه لمحبته فأمر ابنه بان يأخذ الحبل والسكين ليذهبا الى شعب الجبل للاحتطاب كما هو عادتهما فذهبا وقد اشتعل في صدره نار المحبة والخلة الإلهية فشرع يظهر رؤياه لابنه ليختبره كيف هو قالَ يا بُنَيَّ ناداه وصغره تحننا عليه وتعطفا إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ بأمر الله إياي تقربا منى اليه سبحانه وهديا نحوه فَانْظُرْ أنت يا بنى وتأمل ماذا تَرى اى اىّ امر تفكر وتفتي في هذه الواقعة الهائلة أتصبر أنت على بلاء الله أم لا وبعد ما سمع من الرؤيا ما سمع قالَ معتصما بحبل التوفيق راضيا بما جرى عليه من قضاء الله مستسلما نحوه ومقبلا عليه مناديا لأبيه لينبئ عن كمال أطاعته وانقياده لحكم ربه يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ به من قبل الحق فاذبحنى في سبيل الله تقربا منك نحوه وطلبا لمرضاته ولا تلتفت الى لوازم الأبوة والنبوة وكن صابرا لبلاء الله بذبح ولدك بيدك باذنه سبحانه وفي سبيله سَتَجِدُنِي ايضا إِنْ شاءَ اللَّهُ وتعلق ارادته بان اصبر على بلائه الذي هو ذبح ابى إياي بيده مِنَ الصَّابِرِينَ المتمكنين على تحمل المصيبات الآتية من قبل الحق وبعد ما تشاورا وتقاولا فوضا الأمر اليه سبحانه وانقادا لحكمه ورضيا بقضائه طوعا ورغبة فَلَمَّا أَسْلَما اى سلما واستسلما اى كل منهما سلم امره الى ربه ووصلا الموقف والمنحر توجه الخليل نحو الحق ناويا التقرب اليه سبحانه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ اى صرع ابنه على شقه الأيمن امتثالا لأمر ربه مثل صرع الضحايا عند الذبح وشد بالحبل يده ورجله فأخذ الشفرة بيده فامرّها على حلق ابنه فلم تمض ولم تعمل فأخذ حجر المحد فأحدها ثم امرّها ولم تمض ايضا وهكذا فعل مرارا فلم تعمل شيئا فتحير عليه السلام في امره قال له ابنه حينئذ يا أبت أكبنى على وجهى فاذبحنى من القفا لئلا يمنعك من ذبحي رؤيتك وجهى ففعل كذلك فلم تمض وَبعد ما قد جربناهما ووجدناهما على كمال التصبر والرضاء بما جرى عليهما من القضاء نادَيْناهُ من مقام عظيم جودنا إياه ولطفنا معه أَنْ يا إِبْراهِيمُ اى بان قلنا له مناديا يا ابراهيم المختص بخلتنا الراضي لمصيبتنا قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا وامتثلت بالمأمور ورضيت بذبح ولدك لرضانا واختبرناك

[سورة الصافات (37) : آية 106]

به فوجدناك متمكنا على مرتبة الخلة والتوحيد فقد أتيت مخلصا بما طلبنا منك لذلك كان لك من الفضل والعطاء منا جزاء لفعلك ما لم يكن لاحد من بنى نوعك لإخلاصك في أمرك وصحة عزيمتك وخلوص طويتك في نيتك. ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير بعموم عباده إِنَّا بمقتضى عظيم جودنا كَذلِكَ اى مثل ما جزينا خليلنا ابراهيم ونجيناه من الكرب العظيم نَجْزِي جميع الْمُحْسِنِينَ المخلصين في حسناتهم ونياتهم وفي جميع أعمالهم وحالاتهم. ثم قال سبحانه إِنَّ هذا الأمر المأمور به لإبراهيم الاواه الحليم من ذبح ولده في طريق الخلة مع ربه لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الظاهر صعوبته وشدته على عموم المكلفين وبعد ما قد عزم على أمرنا بالعزيمة الصادقة الخالصة واقدم على امتثاله من محض الاعتقاد وصميم الفؤاد بحيث لو لم نمنع مضاء شفرته مع انه قد بالغ في امراره بقوة تامة واحدها مرارا لذبحه البتة وَبعد ما ظهر إخلاصه لدينا قد منعناها وبعد ما منعنا مضاء شفرته قد فَدَيْناهُ اى الذبيح الذي هو ابنه بِذِبْحٍ اى بما يذبح به ليتم تقربه إلينا وينال من لدنا ما نعدله من التواب والجزاء المترتب على تقربه عَظِيمٍ اى عظيم القدر إذ ما يفديه الحق لنبي من الأنبياء أعظم البتة مما يفديه الناس قيل بعد ما سمع ابراهيم عليه السلام نداء الهاتف التفت فإذا هو جبريل عليه السلام ومعه كبش أملح اقرن فقال له هذا فداء ابنك بعثه الله إليك فاذبحه وتقرب دونه وهذا الكبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا لتلك المصلحة فأخذ ابراهيم الكبش واتى به المنحر من منى فذبحه عنده وفاز بمبتغاه من الله ما فاز عاجلا وآجلا مما لا مجال للعبارة والإشارة اليه وَمن جملة ما جزينا على ابراهيم عاجلا انا من كمال خلتنا معه قد تَرَكْنا عَلَيْهِ وأبقينا له فِي الْآخِرِينَ اى في الأمم الذين يلون ويأتون بعده الى قيام الساعة ثناء حسنا وذكرا جميلا حيث يقولون دائما سَلامٌ وترحيب منا وبركات من الله ورحمة نازلة دائما مستمرا عَلى إِبْراهِيمَ ثم قال سبحانه حثا للمؤمنين كَذلِكَ اى مثل ما جزينا ابراهيم بأحسن الجزاء في الدنيا والآخرة نَجْزِي عموم الْمُحْسِنِينَ ان أحسنوا وأخلصوا في نياتهم وحسناتهم وكيف لا نجزى خليلنا إِنَّهُ مِنْ خلص عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الموحدين الموقنين بوحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وباستقلالنا في ملكنا وملكوتنا وَبعد ما قد ابتليناه أولا بذبح الولد وفديناه عن ولده عناية منا إياه والى ولده ثانيا قد بَشَّرْناهُ ثالثا بولد أخر مسمى بِإِسْحاقَ وجعلناه نَبِيًّا من الأنبياء معدودا مِنَ زمرة الصَّالِحِينَ لمرتبة الكشف واليقين وَبالجملة بارَكْنا عَلَيْهِ اى كثرنا الخير والبركة على ابراهيم وَكذا عَلى ابنه إِسْحاقَ وَكثرنا نسلهما الى ان جعلنا مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ في الأعمال والأخلاق والأحوال ذو نفع كثير على عباد الله وفقراء سبيله وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ اى تارك لحظوظ نفسه من الدنيا مطلقا مُبِينٌ ظاهر مبالغ في الترك الى حيث يمنع عنها ضرورياتها ايضا منجذبا الى عالم اللاهوت منخلعا عن لوازم الناسوت مائلا نحو الحق بجميع قواه وجوارحه طالبا الفناء فيه والبقاء ببقائه ومنهم النبي صلّى الله عليه وسلّم والمرتضى كرم الله وجهه وابناه وأولادهما بطنا بعد بطن صلوات الله عليه وسلامه عليهم أجمعين إذ لم يلتفتوا الى حطام الدنيا ومزخرفاتها الا مقدار سد جوعة ولبس خرقة خشن وَمن ذريتهما المكرمين المؤيدين من لدنا موسى وهارون لَقَدْ مَنَنَّا ايضا عَلى مُوسى وَهارُونَ أخيه منة عظيمة وَذلك انا قد نَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما اى من آمن لهما من بنى إسرائيل مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ

[سورة الصافات (37) : آية 116]

الذي هو غلبة فرعون وذلك بان اغرقناه باليم وَنَصَرْناهُمْ اى هما وقومهما على فرعون وملائه فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ عليهم بعد ما صاروا مغلوبين منهم وَبعد ما صيرناهم غالبين آتَيْناهُمَا اى موسى وهارون الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ وهو التورية الذي هو أبين الكتب وأوضحها في ضبط الاحكام الإلهية المتعلقة بنظام الظاهر وَهَدَيْناهُمَا ايضا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الموصل الى الحق اليقين في مراتب التوحيد وَمن كمال تكريمنا إياهما قد تَرَكْنا عَلَيْهِما وأبقينا ذكرهما بالخير فِي الْآخِرِينَ اللاحقين لهما من الأمم حيث يقولون في حقهما عند ذكرهما سَلامٌ من الله وتحية منا عَلى مُوسى وَهارُونَ وذلك من جملة امتناننا عليهما وتكريمنا إياهما إِنَّا من كمال جودنا ولطفنا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ المخلصين في حسناتهم وجميع حالاتهم وكيف لا نجزيهما خير الجزاء وأحسنه إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الموقنين بتوحيدنا المصدقين لاستقلالنا واختيارنا في ملكنا وملكوتنا وَإِنَّ إِلْياسَ ابن ياسين من أولاد هارون أخ موسى لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ من عندنا المؤيدين بوحينا والهامنا اذكر يا أكمل الرسل إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ حين انحرفوا عن سبل السلامة وطرق الاستقامة بالظلم على عباد الله والخروج عن مقتضيات حدوده أَلا تَتَّقُونَ وتحذرون عن بطش الله ايها المفسدون المفرطون في الإشراك بالله والدعوة الى غير الله أَتَدْعُونَ ايها الجاهلون بَعْلًا اى صنما مسمى به وترجعون نحوه في المهمات والملمات وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اى تتركون الدعوة والرجوع الى الحق الحقيق بالاطاعة والانقياد المستحق للعبودية والرجوع اليه في الخطوب والملمات اللَّهَ بالرفع على الاستيناف وبالنصب على البدل وكذلك رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بنصب البائين ورفعهما على الخبر والبدل على القرائتين اى مربيكم ومظهركم من كتم العدم ومربى اسلافكم ايضا أفتعدلون عن عبادته وتعبدون الى ما لا ينفعكم ولا يضركم ظلما وزورا وبعد ما قد سمعوا منه دعوته الى التوحيد ورفض عبادة آلهتهم وقدحه إياها فَكَذَّبُوهُ تكذيبا بليغا ولم يلتفتوا الى قوله ودعوته بل طروده وعزموا ان يقتلوه فَإِنَّهُمْ بشؤم تكذيبهم رسول الله وإبائهم عن دعوته الى التوحيد واتخاذهم الأصنام والأوثان آلهة دون الله شركاء معه في استحقاق العبادة والرجوع اليه في الوقائع لَمُحْضَرُونَ في العذاب الأليم مؤبدون في نار الجحيم ابد الآبدين إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ منهم المبادرين الى الايمان والتصديق بعد ما سمعوا دعوة الرسول بلا ميل منهم الى الإنكار والتكذيب وَتَرَكْنا عَلَيْهِ اى على الياس ايضا ذكرا جميلا فِي الْآخِرِينَ حيث يقولون حين ثنائهم عليه وتكريمهم إياه سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ وهو لغة في الياس كجبرين في جبريل إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ المستحفظين على عموم حدودنا وأحكامنا ومقتضيات أوامرنا ونواهينا وكيف لا نجزيه احسن الجزاء إِنَّهُ مِنْ جملة عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ المتمكنين في مقر التوحيد واليقين الفائزين بمقام الكشف والشهود وَإِنَّ لُوطاً ايضا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الفائزين بمرتبة حق اليقين اذكر يا أكمل الرسل المعتبرين من المؤمنين وقت إِذْ نَجَّيْناهُ اى لوطا وَأَهْلَهُ اى أولاده واهل بيته أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً وهي امرأته قد بقيت فِي زمرة الْغابِرِينَ الهالكين بالعذاب المنزل عليهم لشؤم فعلتهم الشنيعة المتناهية في القبح والشناعة ثُمَ بعد ما نجيناه واهله دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ من قومه وأهلكناهم أجمعين وَإِنَّكُمْ يا اهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ اى على اطلالهم ومنازلهم المنقلبة عليهم بشؤم فعلتهم وقت ترحالكم الى الشأم وهي على متن الدرب مُصْبِحِينَ

[سورة الصافات (37) : آية 138]

ان كنتم سائرين في اسفاركم في الليالى وَبِاللَّيْلِ ان كنتم سائرين في أيامكم يعنى ان سرتم ليلا تصبحون عندها وان سرتم نهارا تمسون دونها وبالجملة هي على طريقكم ايها المجبولون على العبرة والعظة أَفَلا تَعْقِلُونَ تتفكرون وتتأملون فيما جرى عليهم بشؤم تكذيبهم وانكارهم على رسل الله لتعتبروا منهم ومن اطلالهم ورسومهم المندرسة المنكوسة حتى لا تفعلوا مثل أفعالهم وَإِنَّ يُونُسَ ابن متى ايضا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ من عندنا المؤيدين بوحينا والهامنا اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ أَبَقَ وهرب من نزول العذاب الموعود على قومه حين دعاهم الى الايمان والتوبة فلم يقبلوا منه دعوته ولم يجيبوا له فدعا عليهم وبعد ما قرب حلول العذاب عليهم خرج من بينهم هاربا حتى لا يلحقه ما لحقهم فلما وصل البحر ركب إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملوّ من الناس والأحمال والأثقال فاحتبست السفينة على أهلها فاضطروا فقال البحارون ان في السفينة عبدا آبقا فبادروا الى القرعة على ما هو عادتهم في أمثاله وبعد ما خرج القرعة باسم واحد من أهلها طرحوه في الماء فأخذت السفينة في الجري والذهاب فَساهَمَ اى قارع حينئذ أهلها فخرج باسم يونس فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ المغلوبين المغرقين بمقتضى القرعة وبعد ما خرجت القرعة باسمه تفطن يونس عليه السلام انه من الاختبارات الإلهية فقال انا العبد الآبق فرمى نفسه في الماء خوفا من غضب الله ومن شدة غيرته وحميته وتوطينا لنفسه على مقتضى قضاء الله مفوضا امره اليه سبحانه وبعد ما وصل الى جوف الماء فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ بالهام الله إياه على الفور وابتلعه وَهُوَ حينئذ مُلِيمٌ نفسه نادم على فعله الذي فعله بلا نزول وحى من ربه لذلك أخذ حينئذ يسبح ربه عما لا يليق بشأنه وبالجملة فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ المنكشفين بوحدة الحق وبكمال تنزهه عن سمة الكثرة مطلقا لَلَبِثَ واستقر فِي بَطْنِهِ اى بطن الحوت إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وصار بطن الحوت له كالقبر لسائر الأموات وبالجملة لا نجاة له من بطنه ابدا ثم لما كان يونس عليه السلام من اهل التسبيح والتقديس ومن المنكشفين بوحدتنا واستقلالنا في شئوننا وتطوراتنا فَنَبَذْناهُ وطرحناه من بطنه بِالْعَراءِ اى البادية الخالية عن مطلق الغطاء والغشاء الذي يظله من شجرة وغيرها عناية منا إياه ونجاة له وذلك بان ألهمنا الحوت أولا حين سقوطه في البحر بالتقامه فالتقمه بلا لحوق ضرر من الماء ثم الهمناه ان يخرج رأسه من الماء حتى يتنفس هو في بطنه الى ان يبلغ الساحل قيل لبث في بطنه يوما او بعض يوم وقيل ثلاثة ايام او سبعة وعشرين او أربعين فلما بلغ الساحل أخرجه الحوت من بطنه ولفظه الموج الى الساحل العاري عن الظل والشمس في غاية الحرارة وَهُوَ حينئذ سَقِيمٌ ضعيف قد صار بدنه كبدن الطفل حين يولد وَبعد ما لم يكن له متعهد وليس هناك مظلة ولا شيء يحفظه من الحر والذباب قد أَنْبَتْنا عَلَيْهِ في الحال من كمال رحمتنا إياه وعطفنا معه شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وهي شجرة تنبسط على وجه الأرض ولها أوراق عظام بلا ساق تقوم عليه قيل هي الدباء فغطيناه بأوراقها وربيناه بظلها إذ ظلها من احسن الاظلال وأكرمها هواء وألهمنا ايضا الى وعلة وهي المعز الوحشي حتى جاءت وحضرت عنده صباحا ومساء وهو يشرب من لبنها الى ان قوى وتقوم مزاجه على الوجه الذي كان عليه وَبعد ما ربيناه كذلك أَرْسَلْناهُ مرة اخرى إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ اى في بادى الرأى والنظر يعنى قد حكم الناظر عليهم على سبيل الظن والتخمين بأنهم مائة ألف او اكثر وهؤلاء الذين قد أرسل إليهم أولا وهرب منهم وهم اصحاب نينوى هي قرية

[سورة الصافات (37) : آية 148]

من قرى الموصل فَآمَنُوا له وقبلوا منه دعوته بعد ان أرسل إليهم ثانيا فَمَتَّعْناهُمْ مؤمنين مصدقين موحدين إِلى حِينٍ اى الى انقضاء آجالهم ثم لما اثبت مشركوا مكة خذلهم الله المنزه عن مطلق الأشباه والأنداد ولدا بل أوضع الأولاد وأدناها وهي الأنثى ونسبوا الملائكة الذين هم من اشرف المخلوقات وأكرمها المنزهون عن لوازم الأجسام مطلقا الى الأنوثة التي هي من أخسها وأدونها وهم ابعد بمراحل عنها حيث قالوا ان الملائكة بنات الله ولم يكن له ابن وتمادوا على هذا الى حيث اتخذوا هذه العقيدة مذهبا وبالغوا في ترويجه رد الله عليهم على ابلغ وجه وآكده حيث امر حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالاستفتاء والاستفسار عن قولهم هذا ونسبتهم هذه فقال فَاسْتَفْتِهِمْ وسلهم اى كفار مكة يا أكمل الرسل واستخبرهم على سبيل التوبيخ والتقريع أَيثبتون لِرَبِّكَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد الْبَناتُ اى أوضع الأولاد وأردئها وَلَهُمُ الْبَنُونَ اى لأنفسهم أكرمها وأحسنها تعالى سبحانه عما يقولون أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ اى أيظنون ويعتقدون انا قد خلقنا الملائكة الذين هم من سدنة سدتنا السنية وخدمة عتبتنا العلية إِناثاً وَهُمْ حين خلقناهم شاهِدُونَ حاضرون ليشهدوا انوثتهم ويبصروها مع انها لا مجال للعقل الى الاطلاع بانوثتهم ولم ينقل منا احد من الرسل والأنبياء هذا مع ان الحواس الاخر معزولة عن دركها مطلقا سوى البصر ومن اين يتأتى لهم الحضور معهم حتى يبصروا انوثتهم. ثم قال سبحانه على سبيل التنبيه والاستبعاد أَلا اى تنبهوا ايها المؤمنون الموقنون بوحدة الله وبوجوب وجوده وتقدسه عن لوازم الإمكان مطلقا إِنَّهُمْ اى أولئك الضالين المغمورين في الجهل والطغيان مِنْ غاية إِفْكِهِمْ ونهاية غيهم وطغيانهم وعدوانهم لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ الواحد الأحد المستغنى لذاته عن الأهل والولد قولا باطلا ظلما وزورا وَبالجملة إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في عموم ما يقولون وينسبون الى الله المنزه عن أمثاله مطلقا مقصورون على الكذب المحض بلا مستند عقلي او نقلي أَصْطَفَى الْبَناتِ اى اتعتقدون ايها الجاهلون بقدر الله ووحدة ذاته المستغنية عن مطلق المظاهر والمجالى فكيف عن لوازم الحدوث والإمكان الذي هو من امارات الاستكمال والنقصان انه سبحانه مع كمال تعاليه وتقدسه قد اصطفى واختار لنفسه البنات المسترذلة الدنية عَلَى الْبَنِينَ الذين هم اشرف بالنسبة إليهن وأكمل خلقا وخلقا كمالا وعلما رشدا ويقينا ما لَكُمْ اى ما شأنكم وما لحق بكم ايها المفسدون المفرطون كَيْفَ تَحْكُمُونَ على الله ما لا يرتضيه العقل ولا يقتضيه النقل أَفَلا تَذَكَّرُونَ لا تتذكرون فانه سبحانه منزه عن اشرف الأولاد فكيف عن اردئها أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ حجة وبرهان نقلي مُبِينٌ واضح لائح في الدلالة على مدعاكم هذا فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ النازل عليكم من قبل الحق المثبت لدعواكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَمن افراطهم في حق الله وجهلهم بكمال ذاته وصفاته وأسمائه قد جَعَلُوا واثبتوا بَيْنَهُ سبحانه وَبَيْنَ الْجِنَّةِ الذين هم مخلوقون من النار نَسَباً اى نسبة بالمصاهرة ويزعمون العياذ بالله انه سبحانه قد تزوج منهم امرأة فحصلت منها الملائكة وَالله لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ ايضا إِنَّهُمْ اى أولئك المفترين على الله بأمثال هذه المفتريات البعيدة عن جنابه سبحانه المستحيلة بذاته مراء وافتراء لَمُحْضَرُونَ في العذاب المخلد والنكال المؤبد بقولهم هذا ونسبتهم هذه وبالجملة سُبْحانَ اللَّهِ وتقدس ذاته عَمَّا يَصِفُونَ به هؤلاء المهاندون الجاهلون إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ

[سورة الصافات (37) : آية 161]

منهم وهم الذين ينكشفون بقدر الله ووحدة ذاته واستقلاله بوجوب الوجود ولوازم الألوهية والربوبية بلا شائبة شركة وتوهم مظاهرة وبعد ما قد ثبت تنزهه سبحانه عن مضمون ما تنسبون بذاته ايها المفترون المفرطون فَإِنَّكُمْ ايها المعزولون عن مقتضى العقل الفطري والرشد الجبلي وَكذا ما تَعْبُدُونَ من دون الله من الأصنام والأوثان وسائر المعبودات الباطلة ما أَنْتُمْ وآلهتكم عَلَيْهِ سبحانه بِفاتِنِينَ اى مفسدين معرضين صارفين عموم الناس عن عبادته وأطاعته سبحانه باغوائكم واغرائكم ضعفة الأنام وتغريركم إياهم بعبادة الأصنام إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ اى الا المفسدين الذين قد حق عليهم القول من لدنه وجرى حكمه سبحانه ومضى قضاؤه بأنهم من اصحاب النار واهل الجحيم لا بد لهم بان يصلوها ويدخلوها بلا تردد وتخلف يعنى ما يفيد اضلالكم واغراؤكم الا هؤلاء المحكومين عليهم بالنار في أزل الآزال دون المجبولين على فطرة الإسلام والتوحيد ثم لما اتخذ بعض المشركين الملائكة آلهة واعتقدوهم بنات الله وعبدوا لهم كعبادته سبحانه رد الله عليهم حاكيا عن اعتراف الملائكة وَكيف يليق بنا ان نرضى بما افترى المشركون علينا من استحقاق العبادة والشركة في الألوهية إذ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ في العبودية والتوجه نحو الحق مَعْلُومٌ معين مقدر من عنده سبحانه لا يسع له ان يتجاوز عنه بلا اذن منه سبحانه بل يلازم كل منا مقامه المقدر له بتقدير ربه متوجها اليه سبحانه منتظرا لأمره وحكمه بلا غفلة وفترة وَإِنَّا معاشر الملائكة لَنَحْنُ الصَّافُّونَ على الاستقامة حول عرش الرحمن صفوف الناس في المساجد والعساكر عند السلطان لا يسع لاحد منا ان يتعدى مستقبلا او مستدبرا وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ المنزهون المقدسون لله الواحد الأحد الصمد عن توهم الكثرة والشركة مطلقا الراسخون المتمكنون في مرتبة التنزيه والتقديس فكيف يتأتى منا ان نرضى بمفتريات اهل الزيغ والضلال بنا. عصمنا الله وعموم عباده عن زيغ الزائغين وضلالهم واضلالهم وَإِنْ كانُوا اى قد كان أولئك الضالون المنهمكون في بحر الغفلة والضلال يعنى كفار قريش خذلهم الله لَيَقُولُونَ على سبيل التمني والتحسر تشنيعا وتعييرا على من مضى من الأمم السالفة لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ونزل علينا ذِكْراً كتابا مِنَ الْأَوَّلِينَ من جنس كتبهم اى كتابا سماويا من عند الله مثل كتبهم لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أخلصنا العبادة له ولا نتجاوز عن مقتضى ما جاءنا من عنده في كتابه ولا نتعدى مطلقا عن حكمه وحدوده وأحكامه ولا نهمل شيأ عن عظته وتذكيراته بل نعتبر من قصصه وأمثاله وبالجملة نعامل معه احسن المعاملة كمعاملة سائر اصحاب الكتب مع كتبهم ثم لما نزل عليهم من عند الله ما هو أكمل الكتب مرتبة ورشدا وهداية وأشملها حكما وأتمها فائدة وأبلغها حكمة وبرهانا وأوضحها بيانا وتبيانا فَكَفَرُوا بِهِ وأنكروا عليه وعلى نزوله ومنزله وعلى من انزل اليه واعرضوا عنه وعن أحكامه واستهزؤا بمن انزل اليه وكذبوا رسالته وبالجملة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ آجلا وعاجلا جزاء ما يفعلون ويستهزؤن ويذوقون وبال ما ينكرون ويعرضون الا انهم هم المفسدون لأنفسهم ولكن لا يشعرون فسيعلمون اى منقلب ينقلبون وَكيف لا يعلمون ولا يذوقون العذاب أولئك المسرفون المفرطون لَقَدْ سَبَقَتْ اى قد حقت وثبتت وصدرت على سبيل الوجوب منا كَلِمَتُنا المشتملة على الوعد والنصر لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ وهي قوله سبحانه كتب الله لأغلبن انا ورسلي وقوله ايضا إِنَّهُمْ اى الرسل والأنبياء لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ المقصورون على النصر والغلبة على الأعداء البتة القاهرون

[سورة الصافات (37) : آية 173]

القادرون على من غلبهم وظلمهم واستهزؤا معهم عنادا ومكابرة وكيف لا يغلب أولئك الأولياء على تلك الأعداء مع انهم من جندنا وحزبنا إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ القاهرون على جنود الأعداء وأحزابهم المسلطون عليهم وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل مضمون وعدنا على عموم الأولياء من الرسل والأنبياء فَتَوَلَّ عَنْهُمْ اى كفار قريش واعرض عن مما رأتهم ومخاصمتهم حَتَّى حِينٍ الى حين حلول العذاب الموعود المعهود من لدنا إياهم وَأَبْصِرْهُمْ العذاب إذا نزل عليهم عاجلا وهو عذاب يوم البدر فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ آجله في يوم الجزاء بأضعاف ما لحقهم عاجلا أَينكرون قدرتنا على العذاب الآجل مع نزول العذاب العاجل عليهم يوم بدر فَبِعَذابِنا الآجل في يوم الجزاء يَسْتَعْجِلُونَ ويقولون متى هذا بعد ما سمعوا فسوف يبصرون آجله زيادة في يوم الجزاء بأضعاف ما لحقهم مع ان سوف للوعيد لا للبعيد اما يستحيون من الله فيستعجلون عذابه ولم يتفطنوا مما جرى عليهم وعلى أمثالهم عاجلا ولا يخافون من نزوله وحلوله بغتة فَإِذا نَزَلَ وحل العذاب الآجل الموعود لهم بِساحَتِهِمْ وفناء دارهم وعرضتها وهذا كناية عن قربه وإلمامه بغتة فَساءَ وبئس الصباح حينئذ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ إذ أصبحوا معاجلين على انواع العذاب والنكال فلم يستعجلون بها أولئك الحمقى الجاهلون الهالكون في تيه الضلال والطغيان وَبعد ما قد تمادوا في الغفلة والعدوان وبالغوا في العتو والعصيان تَوَلَّ عَنْهُمْ وانصرف عن مكالمتهم يا أكمل الرسل حَتَّى حِينٍ اى حين إلمام العذاب الموعود وَأَبْصِرْ إياهم بعد ما الم ونزل بساحتهم فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ اى شيء يترتب على انكارهم وتكذيبهم يوم الجزاء أولئك الضالون المسرفون وانما كرره سبحانه تأكيدا ومبالغة في التهديد والتوعيد وتسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ثم أخذ سبحانه في التنزيه على نفسه مضافا الى حبيبه فقال سُبْحانَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وتنزه ذاته عن مقتضيات التشبيه مطلقا وما نسبوا اليه سبحانه من امارات الإمكان وعلامات النقصان وكيف ينسبون الى رَبِّ الْعِزَّةِ والقدرة والغلبة والكبرياء والاستقلال التام والاستيلاء العام المنزه ذاته عن الاحاطة وصفاته عن العد والإحصاء تعالى عن التحديد والتوصيف سيما عَمَّا يَصِفُونَ به أولئك المسرفون المفرطون من اثبات الولد والإيلاد والاستيلاد وَسَلامٌ من الله وبركاته عَلَى عباده الْمُرْسَلِينَ من عنده لتبيين توحيده وتقديسه وتعاليه عن احاطة مطلق المدارك والعقول وَالْحَمْدُ والثناء من ألسنة جميع من يتأتى منه الحمد والثناء حالا ومقالا ثابت لِلَّهِ الواحد الأحد الصمد المنزه عن اتخاذ الأهل والولد رَبِّ الْعالَمِينَ يعنى الذين ظهروا من شئونه وتطوراته حسب أسمائه وصفاته ورباهم ايضا على حسبها اظهار الكمال قدرته وعموم احاطته. وعن المرتضى الأكبر المتحقق بمقام التسليم والرضا كرم الله وجهه انه قال من أحب ان يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه عن مجلسه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين خاتمة سورة الصافات عليك ايها السالك المتحقق بجلال الحق وبكمال كبريائه واستغنائه عن عموم مظاهره ومصنوعاته واستيلائه على جميع ما ظهر وبطن من الأمور الكائنة المنعكسة ببروق تجلياته حسب أسمائه وصفاته المندرجة في شمس ذاته ان تلاحظ شئون الحق على هياكل الموجودات وتطالع ظهور كمالاته على

سورة ص

صحائف الكائنات التي هي بالحقيقة كالمرايا لظهور آثار الأسماء والصفات الإلهية وتتفكر في خلق العلويات والسفليات وتتأمل في كيفية ارتباطاتها ورجوعها الى الوحدة الحقيقية وكيفية سريان الوحدة الذاتية عليها بلا حلول واتحاد واتصال وانفصال وحصول وانتقال وكذا عن كيفية انبساط اظلال الوجود الإلهية على ذرائر الأكوان وامتداداتها على مرايا الاعدام على سبيل التجدد والتقضي بلا طريان ضد وحلول فترة وانقطاع أصلا ومن تأمل ظهور الحق في الآفاق والأنفس على الوجه الذي تلى فقد تحقق بعزته وانكشف له الوحدة المحتوية على عموم الكثرات بلا توهم كثرة في ذاته المستغنى عن التعدد مطلقا فحينئذ قد ارتفع عن بصر شهوده غير الحق وشئونه ولا يرى في فضاء الوجود سوى الله موجودا ومشهودا فتمكن حينئذ في مقام التوحيد وأخذ في التنزيه والتقديس والتسليم والتكبير والتمجيد قائلا بلسان استعداده سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين المنبهين على مرتبة التوحيد والحمد لله رب العالمين [سورة ص] فاتحة سورة ص لا يخفى على من تحقق بوحدة الحق واحاطته وشموله على عموم ما لاح عليه بروق شئونه ولوامع تجلياته الغير المحصورة ان الحقيقة الحقية المنزهة عن لوث التعينات وشوب الإضافات مطلقا وذلك انه لما أراد سبحانه ان يتجلى لذاته بذاته ويطالع أسماءه الحسنى وصفاته العليا التي قد اتصف بها ذاته على التفصيل حتى ينقلب ويصير حضوره شهودا وعلمه عينا تنزلت من مرتبة الاحدية المستهلكة دونها الكثرات مطلقا المتلاشئة عندها الإشارات والإضافات رأسا فالتفتت نحو العدم بعد ما أفاضت عليه خلعة الاستعداد والقبول فانعكس فيه من شئون الحق واشعة أنوار شمس ذاته ما لا يتناهى ابد الآباد من الصور والآثار الغير المتكررة فيتراءى هذا النظام المشاهد المحسوس من تلك الآثار والاظلال المنعكسة من شمس الذات وانبسط عليها بالاستقلال التام بلا مشاركة ولا مظاهرة فيوجد الكل به وله وفيه ويرجع الكل اليه رجوع الأضواء الى الشمس والأمواج الى البحر فمن خرج عن ربقة عبوديته بعد ما سمع كيفية ظهوره فقد لحق بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا وما ذلك الا بسبب جهلهم وضلالهم وما الباعث على خروجهم عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة بينهم بالوضع الإلهي المنبه به على السنة الأنبياء العظام والرسل الكرام الا من استكبارهم وتغررهم الحاصل لهم بتغرير سلطان اماراتهم عليهم وتضليلها إياهم وتلبيسها عليهم لذلك اقسم سبحانه بكتابه المجيد المنزل من عنده المشتمل على فوائد الكتب السالفة المنزلة من لدنه بان كفرهم وانكارهم بتوحيد الله وتصديق رسله وكتبه انما نشأ من استكبارهم في أنفسهم واستعلائهم على عباد الله وتفوقهم عليهم عدوانا وظلما ابتلاء من الله إياهم وافتتانا لهم على مقتضى أسمائه المقتضية للاذلال والإضلال إظهارا للقدرة الكاملة والحكمة الباعثة على وضع التكاليف المستلزمة للثواب والعقاب والإحسان والخذلان والانعام والانتقام فقال مخاطبا لحبيبه الذي اختاره لرسالته الى كافة البرايا بالدعوة العامة والتشريع التام الكامل للكمل المتمم لمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم المتعلقة لسلوك طريق التوحيد بعد ما تيمن باسمه العظيم الجامع لجميع الأسماء والصفات بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى لحبيبه صلّى الله عليه

الآيات

وسلّم بمقتضى عموم أسمائه وصفاته فأرسله الى عموم البرايا وكافة الأمم وختم ببعثته امر التشريع والتكميل الرَّحْمنِ عليهم ببعثته صلّى الله عليه وسلّم وإرساله إليهم رحمة للعالمين الرَّحِيمِ عليه بإيجاده وخلقه على خلق عظيم [الآيات] ص ايها الصفي الصافي مشربه عن الأمور المنافية لتوحيد الحق وصرافة وحدته الذاتية الصدوق الصادق في ادعاء الرسالة والنبوة بمقتضى الوحى الإلهي والهامه الصبور الصابر على متاعب الدعوة والتبليغ وحمل أعباء الرسالة وَحق الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ والبيان وانواع الدلائل والبرهان المنزل من عندنا عليك يا أكمل الرسل لتبيين احكام دين الإسلام وتحقيق شعائر التوحيد والايمان والتنبيه على مراتب الإحسان المنتهى الى الكشف والعيان ما الكفار المنكرون بك وبكتابك ودينك مطلعون عليك بعيب ونقصان وما لهم حجة يتشبثون بها او دليل يستدلون به على ما يشينك فيتبعونها بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عنا وعنك وعن كتابك لا سند لهم أصلا لا عقلا ولا نقلا بل هم في أنفسهم مغمورون مستغرقون فِي عِزَّةٍ كبر وخيلاء عند أنفسهم وَشِقاقٍ خلاف وجدال لنا ولك بعيد بمراحل عن توحيدنا وتصديقك وبعد ما قد سمعت يا أكمل الرسل حالهم لا تبال بهم وبخلافهم ومرائهم وكبرهم وخيلائهم أصلا اذكر كَمْ اى كثيرا أَهْلَكْنا أمثالهم مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ اهل قَرْنٍ مغمورين في الكبر والخيلاء منهمكين في الخلاف والشقاق أمثالهم فَنادَوْا واستغاثوا متضرعين إلينا راجين منا عفونا إياهم حين أخذناهم بظلمهم بغتة وَلاتَ حِينَ مَناصٍ اى ليس حين الهلاك وقت تأخير ونجاة لهم وخلاص إياهم فلم نجبهم لذلك بمضى وقت الاختبارات والاعتبارات بل قد أهلكناهم واستأصلناهم ان في ذلك لعبرة لأولى الأبصار وَمن شدة شقاقهم ونفاقهم قد عَجِبُوا بل تعجبوا اى اهل مكة من أَنْ جاءَهُمْ وأرسل إليهم رسول مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ومن جنسهم وبنى نوعهم يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلم وَقالَ الْكافِرُونَ من كمال تعجبهم وشدة انكارهم هذا ساحِرٌ اى محمد صلّى الله عليه وسلّم وليس جميع ما اتى به وما أظهره في صورة المعجزة الخارقة للعادة الا سحر يسميه معجزة تغريرا وتلبيسا وفيما قد نسبه الى الوحى والإنزال كَذَّابٌ مبالغ في الكذب مستغرق فيه ثم لما اسلم عمر بن الخطاب رضى الله عنه فشق ذلك على قريش وفرح المؤمنون فازدحم صناديدهم عند ابى طالب فقالوا له أنت شيخنا وسيدنا وقد علمت ما فعل هؤلاء فاتيناك لتقضى بيننا وبين ابن أخيك فأرسل ابو طالب الى النبي صلّى الله عليه وسلم فاحضره معهم فقال يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل أنت كل الميل عن قومك فقال صلّى الله عليه وسلّم وماذا يسئلون قالوا له ارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك وعلى هذا نتعاهد معك عند عمك فقال صلّى الله عليه وسلم أتطيعوني في كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال ابو جهل أنطيعكها وعشر أمثالها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قولوا لا اله الا الله الواحد فنفروا من ذلك جميعا وقاموا قائلين على سبيل الإنكار والاستبعاد أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً فمتى يسع الا له الواحد للخلق الكثير إِنَّ هذا الذي يطلب هذا المدعى لَشَيْءٌ عُجابٌ اى عجيب بديع ابتدعه من تلقاء نفسه وَبعد ما تنفروا من قوله وتعجبوا من طلبه انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ اى اشرافهم قائلين أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا اى اثبتوا وتمكنوا عَلى عبادة آلِهَتِكُمْ وتصالحوا معه إِنَّ هذا الذي قد حدث بيننا وابتدع فينا لَشَيْءٌ يُرادُ بنا من شؤم الزمان وريبه ومالنا الا الصبر والثبات الى ان يتجلى

[سورة ص (38) : آية 7]

الغياهب وترتفع النوائب مع انا ما سَمِعْنا بِهذا اى بالتوحيد الذي يقوله هذا المدعى فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ التي هي النصرانية إذ النصارى يقولون بالأقانيم الثلاثة ولم ينقل منهم توحيد الإله ولا من الذين مضوا من ارباب الملل السالفة وبالجملة إِنْ هذا اى ما هذا التوحيد الذي ظهر به هذا المدعى إِلَّا اخْتِلاقٌ اى كذب قد اخترعه من تلقاء نفسه ونسبه الى الوحى افتراء ومراء قاصدا به التغرير والتلبيس على ضعفة الأنام أَتعتقدون ايها العقلاء المتدربون بان أُنْزِلَ عَلَيْهِ اى على يتيم ابى طالب الذِّكْرُ اى الوحى والقرآن مِنْ بَيْنِنا مع انه مثلنا ومن بنى نوعنا بل هو أدون منا وأدنانا ونحن اشرف منه واكبر سنا واكثر أموالا واولادا وأكرم جاها وثروة وأعلى رئاسة وسيادة انما يقولون هذا على سبيل الإنكار والاستبعاد لا انهم معتقدون على الوحى والإنزال بل على وجه الفرض والمراء بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ وريب عظيم مِنْ ذِكْرِي ووحيي اليه والهامى إياه بل الى عموم المرسلين وانى هو بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ اى انما قالوا هذا وشكوا في الوحى وارتابوا فيه لأنهم لم يذوقوا عذابي ولو انهم ذا قوة لما قالوا فمن اين يحكمون هذا ويقولون ان الوحى لو نزل لنزل على رؤسائنا وساداتنا أهم يعلمون الغيب أَمْ عِنْدَهُمْ اى عند أولئك البعداء المنهمكين في بحر الغفلة والضلال خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ يا أكمل الرسل ومقاليد نعمه ومفاتيح كرمه ليكون لهم الخيرة في امره سبحانه فيعطونها من يشاء ويمنعونها عن من يشاء فكيف يحكمون على الْعَزِيزِ الغالب على امره في تصرفات ملكه وملكوته بالاستقلال والاختيار الْوَهَّابِ على من شاء وأراد بلا مشاورة ومظاهرة أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما اى أيدعون ان لهم التصرف في العلويات والسفليات والممتزجات وان ادعوا ذلك لأنفسهم فَلْيَرْتَقُوا وليصعدوا فِي عالم الْأَسْبابِ والسموات التي هي معارج الوصول الى منشأ الوحى والإلهام ومنبع النزول والإنزال فليأتوا بالوحي الى من أرادوا واختاروا وبالجملة من اين يتأتى لأولئك الكفرة الفجرة المقهورين الصاغرين الخيرة في امره سبحانه وحكمه بمقتضى قضائه حتى يتفوهوا عنه وعن أفعاله وأحكامه إذ لا يسع لاحد من أقوياء عباده ان يسأل عن فعله سبحانه مع ان أولئك الحمقى جُنْدٌ ما شرذمة قليلة في غاية القلة هُنالِكَ اى في محل ومقام قد وضعوا ونصبوا أنفسهم بمعاداتك يا أكمل الرسل وصاروا متمكنين في ابعد الأمكنة وأعلى المرتبة على زعمهم مع انه هم في أنفسهم مَهْزُومٌ مغلوب مِنَ جميع الْأَحْزابِ إذ هم بالنسبة الى الكفرة الذين تحزبوا على رسل الله وأنبيائه في غاية القلة والضعف وهم مع كمال شدتهم وقوتهم ووفور شوكتهم وصولتهم قد انهزموا واستؤصلوا الى حيث لم يبق منهم احد على وجه الأرض فكيف هؤلاء اذكر يا أكمل الرسل وقت إذ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ مع شدة قوتهم وقدرتهم أخاك نوحا عليه السلام فأغرقناهم أجمعين بالطوفان وَكذا كذبت عادٌ مع نهاية عتوهم وعنادهم أخاك هودا عليه السلام فأهلكناهم بالريح العقيم وَكذبت فِرْعَوْنُ اى هو وقومه مع انهم ذُو الْأَوْتادِ اى اصحاب الدولة الثابتة الراسخة التي قد ادعى فرعون بها الألوهية لنفسه أخاك موسى عليه السلام فأغرقناه وجنوده في اليم وَايضا قد كذبت ثَمُودُ المتناهون في القوة والشدة أخاك صالحا عليه السلام فأهلكناهم بالصيحة الهائلة وَقَوْمُ لُوطٍ المتبالغون في الجحود والإنكار على الله وحدوده قد كذبوا أخاك لوطا عليه السلام فقلبنا عليهم ديارهم وأمطرنا عليهم حجارة فأهلكناهم بها وَكذبت أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أخاك شعيبا

[سورة ص (38) : آية 14]

فاستأصلناهم كذلك وبالجملة أُولئِكَ البعداء المنحرفون عن صوب السداد والصواب هم الْأَحْزابُ الذين قد كذبوا الرسل وتحزبوا عليهم وقاتلوا معهم مع كونهم أشداء أقوياء فانهزموا عنهم بنصرنا إياهم فغلبوا هنا لك وانقلبوا صاغرين وبالجملة إِنْ كُلٌّ اى ما كل من الأمم السالفة الهالكة المذكورة إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ المذكورين فَحَقَّ اى لزم وثبت لذلك ولحق عليهم عِقابِ اى انواع عذابي ونكالي عاجلا وآجلا وَبالجملة ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ المعاندون المنكرون لدينك المكذبون لرسالتك وكتابك إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ينفخها اسرافيل في الصور باذن منا فيسمع هؤلاء الضالون فيموتون على الفور بلا توقف إذ ما لَها اى لتلك الصيحة واهلاكها وافنائها السامعين مِنْ فَواقٍ قرار ووقوف مقدار خروج النفس ورجوعه وهذا كناية عن سرعة نفوذ قضاء الله حين حلول عذابه عليهم الى حيث لا يسع فيه تميز التقدم والتأخر أصلا بل ينزل بغتة وَبعد ما سمع كفار مكة أوصاف اهوال يوم الجزاء وافتراق الناس فيها فرقا وأحزابا بعضهم اصحاب يمين وبعضهم اصحاب شمال فيعطى لكل فرد كتاب قد كتبت فيه أعمالهم الصالحة والفاسدة فيحاسب كل على اعماله فيجازى على وفقها قالُوا مستهزئين متهكمين يعنى اهل مكة بعد ما سمعوا اهوال يوم الجزاء وافزاعها رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا اى قسطنا وحظنا ونصيبنا من العذاب المترتب على أعمالنا المثبتة في صحيفتنا المكتوبة فيها قَبْلَ حلول يَوْمِ الْحِسابِ ونحن نرضى بها وبالعذاب المستتبعة لها بلا حساب وبعد ما قالوا كذلك واستهزؤا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم وضحكوا من قوله ونسبوه الى الخبط والجنون امر سبحانه حبيبه بالتصبر على مقاساة ما جاءوا به مما لا يليق بشأنه فقال اصْبِرْ يا أكمل الرسل عَلى ما يَقُولُونَ لك وفي شأنك أولئك الجاهلون عنادا ومكابرة ولا تلتفت الى هذياناتهم ولا تحزن من أباطيلهم المستهجنة فعليك يا أكمل الرسل ان توطن نفسك على الصبر المأمور ولا تتجاوز عن مقتضاه ولا تتعب نفسك بالقلق والاضطراب والمجادلة معهم والمخاصمة إياهم الى ان نكف عنك شرورهم ولا تلتفت الى هواجس نفسك حتى لا تقع في محل الخطاب والعتاب وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ وما جرى عليه من العتاب الإلهي من عدم حفظ نفسه عن مقتضياتها ومشتهياتها حتى ابتلاه الله سبحانه بما ابتلاه مع انه كان ذَا الْأَيْدِ اى صاحب القدرة والقوة التامة الكاملة في الإطاعة والعبادة وحفظ النفس عن محازم الله ومنهياته وكيف لا يكون كذلك إِنَّهُ أَوَّابٌ رجاع الى الله والى مرضاته سبحانه في جميع حالاته ومن كمال رجوعه إلينا وحفظه لمرضاتنا إِنَّا من مقام عظيم جودنا إياه قد سَخَّرْنَا الْجِبالَ له وجعلناها تحت حكمه الى حيث سارت مَعَهُ حيث شاء يُسَبِّحْنَ بمتابعته وموافقته حين صبح ونزه بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ اى بالليل والنهار يعنى ما دام يميل ويتوجه الى ربه مالت الجبال معه ازديادا لثوابه وتكثيرا لفوائده وَكذا سخرنا له الطَّيْرَ اى جنس الطيور يجتمعن حوله مَحْشُورَةً على فنائه مسخرة لحكمه على قراءة النصب والطير محشورة عنده محكومة لأمره يسبحن بمتابعته بالغدو والآصال كتسبيح الجبال على قراءة الرفع وبالجملة كُلٌّ اى كل واحد من داود وكذا من الجبال والطيور بمتابعته لَهُ أَوَّابٌ اى لأجله رجاع الى الله مسبح له سبحانه مقدس عما لا يليق بشأنه على سبيل الاستمرار والدوام وَمن كمال لطفنا وجودنا معه قد شَدَدْنا له مُلْكَهُ الظاهر اى قوينا استيلاءه وسلطناه على الأنام وألقينا هيبته وابهته على قلوبهم الى حيث لم يقدروا ان يخرجوا

[سورة ص (38) : آية 21]

عن مقتضيات الحدود الإلهية الموضوعة في شرعه خوفا من اطلاعه وسبب هيبته انه تحاكم عنده رجلان فادعى أحدهما على الآخر بانه غصب منه بقرة عدوانا وظلما فأنكر الآخر ولم يكن للمدعى بينة فاريناه في منامه غاية مناه إياه وتأييدا ان يقتل المدعى عليه ويحكم بالبقرة للمدعى فلما استيقظ كذب حلمه واستغفر فنام فاريناه مثل ذلك واستيقظ فاستغفر ثانيا فنام فرأى ثالثا مثل ذلك فتيقن انه من الله فهم ان يقتله تنفيذا لما الهم اليه فقال المدعى عليه أتقتلني بلا بينة فقال عليه السلام نعم والله لأنفذن حكم الله فيك فلما تفطن الرجل منه الجزم في عزمه اضطر الى الاعتراف حيث قال لا تعجل يا نبي الله حتى أخبرك والله ما أخذتني بهذا الذنب ظلما وزورا ولكني قد قتلت والد هذا المدعى اغتيالا وخداعا فقتله عليه السلام حدا وعظمت هيبته في قلوب الناس حتى انزجروا عن مطلق المحرمات والمنهيات خوفا من اطلاعه وقالوا لا نعمل شيأ الا وقد علمه فيقضى علينا حسب علمه هذا تقويتنا وتأييدنا إياه بحسب الظاهر وبمقتضى السلطنة الصورية وَاما بحسب الباطن والحقيقة قد آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ البالغة المتقنة التي يتصرف بها في حقائق الأمور ويطلع على سرائرها بنور النبوة والولاية الموروثة له من اسلافه الكرام الموهوبة إياه من الحكيم العلام تأييدا له وتقوية لشأنه وَقد آتيناه ايضا فَصْلَ الْخِطابِ اى قطع الخصومات على التفصيل الذي قد وقع بين المتخاصمين بلا حيف وميل الى جانب احد على ما هو مقتضى العدل الإلهي بالخطاب المفصل الموضح الواضح المقتصد بلا اختصار مخل واطناب ممل وبالجملة بلا إغلاق يشتبه مضمونه على المتخاصمين وَهَلْ أَتاكَ وقد حصل عندك يا أكمل الرسل نَبَأُ الْخَصْمِ اى حديث الملكين المصورين بصورة الخصمين اللذين جاءا للحكومة عند أخيك داود عليه السلام حين اعتكف في محرابه للعبادة معتزلا عن الناس على ما هو عادته من تقسيم أيامه ثلاثة اقسام يوم لعيش النساء ويوم للحكومة وقطع الخصومة بين الأنام ويوم للتوجه نحو الحق والمناجاة معه سبحانه في محرابه وقد كان يوما في محرابه والباب مغلق عليه والحراس على الباب فجاء الملكان على صورة رجلين متخاصمين على الباب فمنعهما البواب فأخذا مستعليين المحراب اذكر خبر وقت إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ اى صعدوا على حائط المحراب واستعلوا على سوره بقصد الدخول عليه ثم اذكر إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ من غير الباب بان شق لهم الجدار فَفَزِعَ داود مِنْهُمْ واستوحش من دخولهم لا من الطريق المعهود وبعد ما تفرسوا منه الرعب والفزع قالُوا له تسلية وتسكينا لا تَخَفْ منا ولا تحزن عن إلمامنا إياك إذ نحن خَصْمانِ تحاكمنا إليك حتى تقضى بيننا قد بَغى اى ظلم وتعدى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ اى أحدنا على الآخر فَاحْكُمْ ايها الحاكم العادل العالم بَيْنَنا بِالْحَقِّ اى بالعدل السوى وَلا تُشْطِطْ اى لا تمل ولا تتجاوز عن مقتضى القسط الإلهي وَبالجملة اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ اى اعدل الطرق وأقوم السبل في سلوك طريق الحق ثم أخذا في تقرير المسألة وتحرير الدعوى فقال أحدهما إِنَّ هذا أَخِي في الدين ورفيقي في سلوك طريق التوحيد واليقين لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وهي الأنثى من الضأن قد كنى بها العرب عن المرأة وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فقط فَقالَ لي عدوانا وظلما أَكْفِلْنِيها واجعلنى كافلا لها ومالكا إياها حتى تصير نعاجى مائة ولم تبق لك نعجة وَمع ذلك لم يقتصر على مجرد القول بل قد عَزَّنِي وغلب على فِي مضمون هذا الْخِطابِ المذكور بحجج لا اقدر على دفعه ولا اسع المقاومة معه وبعد ما سمع عليه السلام كلام المدعى وتأمل في تقريره قال

[سورة ص (38) : آية 24]

للمدعى عليه هل تصدقه فيما ادعاه عليك قال بلى ثم التفت عليه السلام نحو المدعى متعجبا مستبعدا عما جرى عليه من الظلم والعدوان حيث قالَ تالله لَقَدْ ظَلَمَكَ هذا الظالم ظلما صريحا بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ هذه ليأخذها منك ويضيفها إِلى نِعاجِهِ ليكثرها بها ويخالطها معها حرصا منه الى تكميل مشتهيات نفسه الامارة بالسوء وَبالجملة لا تستبدع هذا الأمر ولا تستبعد منه هذا بل إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الذين خلطوا أموالهم وتشاركوا فيها لَيَبْغِي اى يظلم ويتعدى بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ظلما وزورا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله من الخلطاء واستقاموا على صراطه الموضوع من عنده على العدالة والاستقامة وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المرضية عنده سبحانه سيما في الأمور المتعلقة لحقوق عباده وَلكن قَلِيلٌ ما هُمْ اى هم قليل في الدنيا في غاية القلة والندرة وما مزيدة زيد لتأكيد القلة والإبهام ثم التفت عليه السلام الى المدعى عليه فقال له بعد ما سمع منه اعترافه ان رمت وقلت هذا هكذا مرة اخرى قد ضربنا وقطعنا منك هذا وأشار الى طرف انفه فقال المدعى عليه أنت ايها الحاكم أحق بذلك الضرب فنظر عليه السلام ولم ير أحدا وَحينئذ ظَنَّ بل تيقن داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ وابتليناه بالذنب الذي صدر عنه فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ عما جرى عليه من افتتان الله إياه وَخَرَّ سقط ساجدا من خشية الله بعد ما كان راكِعاً مكسور الظهر منكوس الرأس عن ارتكاب الذنب وَأَنابَ إلينا على وجه الندم والخجل مستحييا عنا مستوحشا عن سخطنا وغضبنا إياه فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ الذنب بعد ما قد أخلص في الانابة والرجوع إلينا بل جميع ذنوبه التي صدرت عنه هفوة وَكيف لا نغفر إِنَّ لَهُ اى لداود عليه السلام عِنْدَنا وفي ساحة قربتنا وحضرة عزتنا لَزُلْفى لقربة ومنزلة رفيعة وَحُسْنَ مَآبٍ اى خير مرجع ومنقلب من مقامات القرب ودرجات الوصول ثم لما عاتب سبحانه داود عليه السلام بما عاتب وقبل توبته بعد ما استغفر وأثاب أراد سبحانه من كمال خلوصه في توبته ورجوعه نحو الحق عن صميم طويته ان يشرفه بخلعة الخلافة فقال مناديا له إظهارا لكمال اللطف والكرم معه يا داوُدُ المتأثر عن عتبنا التائب إلينا المنيب نحونا عن محض الندم والإخلاص إِنَّا بعد ما طهرناك عن لوث بشريتك وغفرنا لك ما طرأ عليك من لوازم هويتك ولو أحق ناسوتك قد جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ التي هي محل الكون والفساد وانواع الفتن والعناد فلك ان تستخلف عليها نيابة عنا فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ المستحكمين منك المترددين إليك في الوقائع والخطوب ملتبسا بِالْحَقِّ السوى بلا ميل الى كلا طرفي الإفراط والتفريط على الوجه الذي وصل إليك في كتابنا صريحا واستنبطت أنت منه ضمنا وقياسا وَعليك انه لا تَتَّبِعِ الْهَوى مطلقا في حكوماتك وقطعك للخصومات بين الأنام يعنى عليك ان تراجع في عموم الاحكام الى كتابنا ولا تميل في حال من الأحوال الى ما تهويه نفسك ويقتضيه رأيك ويشتهيه قلبك مما يخالف الكتاب وان اتبعت اليه بعد ما نهيناك فَيُضِلَّكَ اتباعك إياه عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الموصل الى توحيده المبنى على القسط الصرف والعدالة الخالصة الحقيقية الحقية وبالجملة إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الفرد الذي قد استوى وتمكن على عروش عموم ما لمعت عليه بروق تجلياته بالقسط والاستقامة لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ يوم يرجعون الى الله ويحشرون الى عرصات العرض عليه بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ اى بسبب نسيانهم فطرتهم الاصلية وعهدهم الذي عهدوا مع الله فيها وانكارهم على تنقيد الحق أعمالهم في يوم البعث والجزاء

[سورة ص (38) : آية 27]

وضلالهم عن الايمان به وبجميع ما فيه من الأمور الاخروية وَكيف لا نبعث الأموات ولا نحاسبها أعمالهم التي أتوا بها في دار الاختبار إذ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وجميع من فيها وما فيها وَالْأَرْضَ وجميع من عليها وما عليها وَكذا ما بَيْنَهُما من الممتزجات الكائنة فوق الأرض وتحت السماء باطِلًا عبثا بلا طائل ولا مصلحة تقتضيها الحكمة الباعثة على إظهارها مع انا ما كنا من العابثين اللاعبين وما يليق بشأننا ان ينسب أفعالنا الى العبث والبطلان والخلو عن الحكمة وبالجملة ذلِكَ القول ببطلان أفعالنا وخلوها عن الفائدة وعرائها عن الحكمة والمصلحة ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالحق العليم الحكيم واعرضوا عن الايمان به وأنكروا توحيده فاستحقوا بذلك الظن الفاسد أسوأ العذاب وأشد النكال فَوَيْلٌ عظيم وعذاب اليم لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ إذ هم في أوحش امكنة جهنم وأهولها واغورها أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ المسرفين فِي الْأَرْضِ اى بل ظنوا وزعموا من غاية جهلهم وسخافة فطنتهم ورأيهم انا نسوى في الرتبة بين ارباب الهداية والايمان واصحاب الضلالة والطغيان أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ بل زعموا واعتقدوا مساواة اهل المغفرة والتقوى مع اصحاب الغفلة والهوى في اودية الضلالات بمتابعة اللذات والشهوات. ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم على سبيل العظة والتذكير هذا كِتابٌ جامع لفوائد الكتب السالفة مشتمل على زوائد خلت عنها تلك الكتب قد أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ ايها النبي الجامع لجميع مراتب الوجود من مقام عظيم جودنا معك ومع من تبعك من المؤمنين مُبارَكٌ كثير الخير والبركة على من امتثل بأوامره واجتنب عن نواهيه وانكشف بما فيه من الرموز والإشارات المنبهة الى التوحيد وإسقاط الإضافات والتخلق بصفات الحق وأخلاقه والاتصاف بمقتضيات أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى انما أنزلناه لِيَدَّبَّرُوا اى ليتدبروا المتدبرون المتفكرون في أساليب آياتِهِ الكريمة واتساق تراكيبه البديعة واقتضائها المعاني العجيبة المنتشئة المترشحة من بحر الذات حسب شئون الأسماء والصفات الظاهرة آثارها على وفق التجليات الحبية وَلِيَتَذَكَّرَ ويتعظ بعد ما تأمل وتدبر أُولُوا الْأَلْبابِ المستكشفون عن حقائق الموجودات ولباب الكائنات والفاسدات معرضين عن قشورها مطلقا وَبعد ما كرمنا بتشريف خلعة الخلافة قد وَهَبْنا لِداوُدَ ولدا خلفا عنه وارثا لملكه وخلافته محييا اسمه ومراسم دينه ومعالم ملته يعنى سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ سليمان إذ هو مقبول عندنا مقرب في حضرتنا مكرم لدينا وكيف لا يكون كذلك إِنَّهُ أَوَّابٌ رجاع إلينا ملتجئ نحونا في عموم الأوقات وشمول الحالات على وجه الخلوص والتفويض التام اذكر يا أكمل الرسل كمال رجوعه وإخلاصه فيه وقت إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ وهو مشمر الى الغزو وعازم عليه مهيّأ لأسبابه متمكن على كرسيه بضبط العسكر وتهيئة آلات القتال الصَّافِناتُ من الخيل وهي التي تدور سريعا كالرحى على طرف حافر من حوافره ان أراد الراكب تدويره وهي من أجمل أوصاف الخيل وأكملها عند اصحاب القتال إذ المبارز كثيرا ما يحتاج الى تدوير فرسه يوم الوغا الْجِيادُ سريعة الجري والعدو وذلك انه قد جلس على كرسيه يوما بعد ما فرغ من ورده في الظهيرة لاعداد اسباب القتال الذي قصد الخروج اليه يومئذ وجمع عدده فأمر بعرض الخيول عليه فعرض فاشغله الالتفات والتوجه نحو الخيول عن ورد عصره فتذكر والشمس قد غربت فاغتم غما شديدا وتحزن حزنا بليغا بحيث لم يطرأ عليه مثله فَقالَ من شدة أسفه وضجرته متأوها

[سورة ص (38) : آية 33]

لائما نفسه إِنِّي من غاية غفلتي عن ربي أَحْبَبْتُ الخيل حُبَّ الْخَيْرِ اى مثل حب الخير والتوجه المقرب نحو الحق لذلك الهانى الخيل عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ وفات عنى وردى الذي قد كنت عليه قبل غروب الشمس وبعد ما وقع من الغفلة ما وقع وفات ما فات من الورد تسارع الى التدارك والتلافي فأخذ يقطع عرق الباعث الى الإلهاء والاغفال فقال للشرطة رُدُّوها اى الخيول الصافنات عَلَيَّ وكرّوها الىّ كرة اخرى فاعادوها عارضين ثانيا فَطَفِقَ وقرب سليمان عليه السلام وأخذ السيف الصارم بيده يمسح ويمضى مَسْحاً وإمضاء وملاصقا بِالسُّوقِ وهي جمع ساق وَالْأَعْناقِ يعنى أخذ بقطع قوائم الخيول ورؤسها ليزول حبها عن قلبه ويتصدق بها طلبا لمرضاة ربه وجبرا لما انكسر من ورده وعن المرتضى المجتبى كرم الله وجهه ان الضمير في ردوها راجع الى الشمس يعنى امر سليمان عليه السلام الموكلين على الشمس باذن الله ووحيه إياه ان يردوا بعد ما غربت ليأتى سليمان عليه السلام بورده فردوها واتى بما اتى وذلك من كمال كرم الله معه ولطفه إياه وَمع كونه مقبولا عندنا ممدوحا لدينا لَقَدْ فَتَنَّا وابتلينا سُلَيْمانَ بفتنة عظيمة وَبعد ما فتناه بفتنة عظيمة أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ وأجلسنا بدله عليها جَسَداً تمثالا وصورة لا حقيقة لها ثُمَّ بعد ما ابتليناه بما ابتلينا قد أَنابَ وتاب إلينا مخلصا متضرعا فقبلنا توبته عناية منا إياه حيث قالَ في مناجاته معنا وعرض حاجاته إلينا رَبِّ يا من ربيتني بمقتضى لطفك وجودك وأعطيتني من مواهبك ما لم تعط أحدا من خلقك اغْفِرْ لِي ذنبي فاعف عنى زلتى وارحمني بسعة رحمتك وجودك وَبعد ما غفرتنى ومحوت عنى معصيتي هَبْ لِي مُلْكاً كما وهبتني قبل هذا وخصصنى به بمقتضى جودك وإحسانك علىّ إذ لا يَنْبَغِي ولا يليق بشأنك وبمزيد لطفك وإحسانك ان تعطيه لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إذ لا راد لفضلك ولا مانع لعطائك إِنَّكَ أَنْتَ المحسن الْوَهَّابُ المنحصر المقصور على إعطاء عموم المواهب والكرامات بلا عوض ولا غرض إذ لا معطى سواك ولا مفضل غيرك وبعد ما توجه إلينا وتضرع نحونا على وجه الانابة والخضوع والتذلل والخشوع آتينا ملكه وأجرينا حكمه كما كان فَسَخَّرْنا لَهُ بدل ما مسح من الصافنات الجياد لتعظيم أمرنا وقوة حكمنا الرِّيحَ بعد ما ابتليناه وقبلنا توبته وجعلناها مقهورة له محكومة بحكمه بحيث تَجْرِي بِأَمْرِهِ منقادة له رُخاءً لينة هينة بلا تضعضع وتزعزع يتعب منه الراكب حَيْثُ أَصابَ اى تجرى الريح بامره الى أىّ صوب أراد وجانب قصد وَايضا قد سخرنا له الشَّياطِينَ وجعلناهم منقادين لحكمه كُلَّ بَنَّاءٍ منهم سيبنى له ابنية عجيبة وقصورا مشيدة منيعة وحصونا محكمة بحيث لا يسع للانس ان يعمل مثلها وَكذا كل غَوَّاصٍ منهم ليغوص لأجله في لجج البحار ويستخرج بخزانته من اللئالئ النفيسة ما لا يعد ولا يحصى وَآخَرِينَ من الشياطين وهم المردة الممتنعون عن الإطاعة والانقياد قد جعلناهم مُقَرَّنِينَ مشدودين محبوسين فِي الْأَصْفادِ اى القيود والأغلال المضيقة بمقتضى امره وحكمه. ثم قال سبحانه امتنانا عليه وتنبيها على تعظيمه وتكريمه هذا المذكور من الحكومة والخلافة والتسخيرات السالفة عَطاؤُنا عليك يا من اصطفيناك لوراثة النبوة والخلافة فَامْنُنْ منه لمن شئت واجعل حق المستحقين موضعه أَوْ أَمْسِكْ لنفسك

[سورة ص (38) : آية 40]

ولا تعط أحدا يعنى لك الخيار والاختيار في المنع والإعطاء بِغَيْرِ حِسابٍ منا عليك وسؤال عن فعلك إذ امره مفوض إليك وَكيف لا إِنَّ لَهُ اى لسليمان عليه السلام عِنْدَنا وفي ساحة عز حضورنا لَزُلْفى قربة ودرجة قريبة من درجات الوصال وَحُسْنَ مَآبٍ اى خير مرجع ومنقلب من مراتب التمكن في التوحيد والتقرب في مقر القبول وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل عَبْدَنا أَيُّوبَ هو ابن عيص بن اسحق وامرأته ليا بنت يعقوب اضافه سبحانه الى نفسه لكمال رضاه منه ولطفه معه حيث صبر على عموم ما مضى عليه من بلائه وجرى عليه من قضائه وشكر على جميع نعمائه وآلائه ولم ينقص من إخلاصه حالتي السراء والضراء شيء واذكر يا أكمل الرسل كمال تصبر أخيك أيوب وإخلاصه في توجهه إلينا للمتذكرين المعتبرين من أمتك كي يتذكروا من قصته ويتخلقوا من تصبره وتمكنه في مقر التفويض والتسليم إِذْ نادى رَبَّهُ الذي رباه بين الخوف والرجاء وانواع العناء والعطاء اختبارا لكمال اصطباره ووقاره بما جرى عليه من مقتضيات الإمكان حين اضطراره الى الالتجاء نحو ربه والتضرع اليه أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ اى قد نفخ اللعين في فىّ وأحاط ضرر نفخه جميع أجزاء بدني بحيث لم يبق منى عضو لم يلحقه ضرر من شؤم نفخه وعذاب شديد مؤلم مزعج وبالجملة قد اضطرني هجوم العناء ونزول انواع المحن والبلاء الى بث الشكوى نحوك يا مولاي فانا عبدك وعلى عهدك ما استطعت وما توفيقي الا بك وما ثقتي الا عليك فارحمني بسعة رحمتك إذ لا راحم سواك ولا مغيث غيرك وبعد ما استغاث بنا مخلصا مضطرا راجيا الاجابة والقبول قد أدركته العناية وشملته الرحمة والكرامة من لدنا حيث قلنا له ملهمين إياه ارْكُضْ واضرب بِرِجْلِكَ على الأرض فركض امتثالا للأمر الوجوبي فنبعت عين جارية ثم قلنا له تعليما وتنبيها هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ يبرد ويبرئ ظاهر جسدك وجلدك من الحرارة العارضة لبدنك من شؤم نفث عدوك الذي خلق من عنصر النار وَشَرابٌ شاف لباطنك من الداء الذي عرض عليك من انحراف مزاجك بسبب خروج اخلاطك عن الاعتدال الفطري بشؤم نفخه وبعد ما سمع أيوب ما سمع اغتسل منه فشرب وبرئ من المرض ظاهرا وباطنا وَبعد ما قد حصل له الصحة والنظافة عناية منا إياه وسقط ساجدا نحونا حامدا لنا شاكرا لأنعمنا مناجيا معنا مخلصا متضرعا وَهَبْنا لَهُ تتميما لكمال لطفنا إياه وعنايتنا معه أَهْلَهُ اى جميع من مات من أولاده بسقوط السقف وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ يعنى بل وهبنا له إحسانا عليه وامتنانا منا إياه مثل اهله مع اهله وانما فعلنا معه كذلك بعد ما قد ابتليناه واختبرناه ليكون رَحْمَةً مِنَّا إياه وعظة وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ الذين يتذكرون بقصته بعده ويتخلقون بأخلاقه ليفوزوا بما فاز به وَبعد ما صححناه من الأسقام ووهبنا له اهله وماله وزدنا عليه مثله تفضلا منا إياه أمرناه ثانيا تعليما له بان يتدارك قسمه وحلفه الذي قد حلف في مرضه حين ذهبت امرأته ليا او رحمة بنت أفرائيم بن يوسف لحاجة لها فابطأت قائلا ان برئت عن مرضى لأضربنك مائة جلدة وقلنا له تعليما خُذْ بِيَدِكَ لتدارك حلفك ضِغْثاً حزمة مشتملة على مائة اغصان صغار فَاضْرِبْ بِهِ اى بالضغث امرأتك مرة بحيث وصل اثر جميع ما في الحزمة من الاغصان إليها وَلا تَحْنَثْ حينئذ في حلفك فحللنا يمينك بها عناية منا لك ولا مرأتك فصارت هذه رخصة شرعية باقية في شرائع الأديان الى الآن وكيف لا نزيل شكواء ولا نحسن اليه ولا نجزيه احسن الجزاء إِنَّا وَجَدْناهُ

[سورة ص (38) : آية 45]

اى أيوب عبدا صابِراً لجميع ما هجم عليه من انواع البلايا المتعلقة بماله وأولاده وبدنه وبالجملة نِعْمَ الْعَبْدُ عبدنا أيوب الصبور الصبار المسلم المفوض بلا جزع وتزعزع فكيف يجزع إِنَّهُ أَوَّابٌ رجاع إلينا متشمر نحونا في عموم أوقاته وحالاته طالب للفناء فينا والبقاء ببقائنا وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل عِبادَنا الذين هم أجدادك واسلافك إِبْراهِيمَ وَابنه إِسْحاقَ وَسبطه يَعْقُوبَ واذكر من شمائلهم الجميلة وخصائلهم الحميدة ليتعظ من سماعها ذوو العبرة والاعتبار من المؤمنين ويقتدون بمآثرهم لأنهم قد كانوا أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ اى ذوى القوة في الطاعة والبصيرة في مراسم الدين ومعالم التوحيد واليقين ولهم التمكن في مقر المعرفة والوصول الى درجات التجريد والتفريد ولا بد للذين يلونهم ان يقتدوا بهم ويسترشدوا من أخلاقهم وآثارهم ويتصفوا باوصافهم كي يفوزوا بمعارفهم وينكشفوا بمكاشفاتهم ومشاهداتهم لأنهم قدوة اصحاب التوحيد وزبدة ارباب الكشف والشهود وكيف لا إِنَّا من مقام عظيم جودنا معهم أَخْلَصْناهُمْ وجعلناهم مخصوصين بِخالِصَةٍ اى بخصلة خالصة عن كدر التعلقات الناسوتية خالية عن شوب مقتضيات القوى البشرية العائقة عن التحقق بمرتبة اللاهوتية ألا وهي ذِكْرَى الدَّارِ الآخرة التي هي مقام التمكن في مقر التوحيد ومحل الانكشاف بسرائر الوحدة الذاتية وسريانها في ملابس الأسماء والصفات المقتضية للتعدد والتكثر وَبالجملة إِنَّهُمْ اى أولئك الأنبياء العظام الساعين لطلب الخير في طريق الدين ورتبة اليقين عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ المختارين المنتخبين لحمل أعباء الرسالة الْأَخْيارِ المنتخبين الصالحين للاتصاف بسرائر التوحيد واليقين وَاذْكُرْ ايضا يا أكمل الرسل جدك إِسْماعِيلَ ابن ابراهيم الخليل وتذكر تصبره ورسوخه في مقام التفويض والتسليم راضيا بما جرى عليه من مقتضيات حكم ربه مع انه لم يبلغ الحلم وَاذكر ايضا الْيَسَعَ هو ابن اليحطوب استخلفه الياس النبي عليه السلام على بنى إسرائيل ثم استنبئ وَذَا الْكِفْلِ هو ابن عم اليسع المذكور او بشر بن أيوب قيل انما لقب به لأنه فرّ اليه مائة نبي من بنى إسرائيل فآواهم وكفلهم وَكُلٌّ اى كل واحد من الأنبياء المذكورين معدود عندنا مِنَ الْأَخْيارِ الأبرار مثبت في حضرة علمنا ولوح قضائنا من زمرتهم هذا الذي تلى عليك من الأمر بتذكير أولئك الثقات الكرام ذِكْرٌ جميل واثبات شريف وكمال لهم انما ذكرناهم وأمرنا بذكرهم يا أكمل الرسل تنبيها على جلالة قدرهم وعظم شأنهم وَبالجملة إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ المجتنبين عن محظوراتنا المتصفين بمأموراتنا الطالبين لمرضاتنا الهاربين عن مساخطنا وانتقاماتنا لَحُسْنَ مَآبٍ عندنا وخير منقلب ومتاب في كنف حفظنا وجوارنا وساحة عز قبولنا جَنَّاتِ عَدْنٍ عطف بيان لحسن مآب وهي عبارة عن درجات القرب الى الوحدة الذاتية وتجددات التجليات الشهودية على ارباب الكشف والعيان ولكمال تحفظهم عن مقتضيات القوى ومشتهيات الهوى وخلوصهم في التوجه نحو المولى قد صارت الجنات المذكورة مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ مفتوحة الطرق واضحة السبل بالنسبة إليهم يدخلون فيها من كل باب بلا منع وحجاب وبعد دخولهم فيها وتحققهم دونها قد صاروا مُتَّكِئِينَ فِيها متمكنين على ارائك القبول وسرر الإخلاص ولهم فيها ما تشتهي قلوبهم من المعارف المتجددة بتجدد التجليات الحبية المنبعثة من حضرة الرحموت إذ يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ من انواع ما يتفكهون ويتلذذون علما وعينا وحقا وَشَرابٍ يشربون من رحيق الحق وكأس التحقيق ولا يردون وَ

[سورة ص (38) : آية 53]

يصور عِنْدَهُمْ من أعمالهم المقبولة وأحوالهم المرضية ومقاماتهم العلية في سلوك طريق التوحيد ازواج أبكار قاصِراتُ الطَّرْفِ عليهم بحيث لا ينظرن الى غيرهم أَتْرابٌ احداث كلهن مستويات في السن ليس فيهن تفاوت لصغر ولا كبر بل كلهن على كمال اللطافة والعدالة إذ كل ما فيها انما هو على كمال الاعتدال وبعد ما تمكنوا فيها وترفهوا بنعمها قيل لهم من قبل الحق امتنانا عليهم وتشويقا هذا الذي بين أيديكم من النعم المقيمة واللذة الدائمة ما تُوعَدُونَ بألسنة الكتب والرسل لِيَوْمِ الْحِسابِ اى لأجله او فيه إذ لا وصول إليها الا بعد الحساب. ثم قال سبحانه إظهارا لكمال قدرته على عموم الانعام والانتقام إِنَّ هذا المذكور لَرِزْقُنا المعد لخواص عبادنا المنجذبين إلينا بانخلاعهم عن لوازم هوياتهم الباطلة وعن مقتضيات تعيناتهم العاطلة من المآكل والمشارب والمناكح الفانية فنستبدل لهم بدلها رزقا معنويا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ اى لا انقطاع له أصلا خذ هذا ايها المتشمر نحو الحق والراغب الى ما عنده من موائد الانعام والإفضال وكما تفضلنا على المطيعين بأنواع التعظيم والتنعيم وكرمناهم بأصناف الكرامة والتكريم قد انتقمنا ايضا عن العاصين الجاحدين وَبالجملة إِنَّ لِلطَّاغِينَ الذين طغوا علينا بالخروج عن مقتضيات حدودنا الموضوعة فيهم المنبهة الى مبدأهم ومعادهم لَشَرَّ مَآبٍ وأسوأ منقلب ومتاب على عكس المطيعين المتقين يعنى جَهَنَّمَ البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان يَصْلَوْنَها ويدخلون فيها بأنواع الحسرات والزفرات بين اصناف العقارب والحيات وانواع الهوام والحشرات المصورة لهم من سيئات أعمالهم التي قد أتوا بها في دار الاختبار ونشأة الاعتبار وبالجملة فَبِئْسَ الْمِهادُ والفراش مهد اصحاب الجحيم وفراشهم هذا منقلبهم ومآبهم ثم لما دخلوا في النار قيل في حقهم من قبل الحق مخاطبا لخزنة جهنم فَلْيَذُوقُوهُ اى كل واحد واحد منهم نزلا لهم شرابا وهو حَمِيمٌ اى الماء الحار الذي يشوى وجوههم ويحرق أمعاءهم قد سخنه نيران شهواتهم التي أتوا بها على خلاف ما امر الله وحكم عليه وَغَسَّاقٌ اى الماء البارد الزمهريرى الذي ينجمد في فيهم بل في أجوافهم قد برده واجمده كمال بلادتهم وجهلهم بالله الحكيم العليم وغفلتهم عما وضع سبحانه من بينهم الحدود والاحكام الصادرة عن محض الحكمة المتقنة المتعلقة لإصلاح احوال عباده وَآخَرُ مفردا ايضا مِنْ شَكْلِهِ اى من جنس الشراب المذوق ومثله او أخر جمعا من أنواعه واصنافه على القرائتين أَزْواجٌ اصناف وانواع بعضها أسوأ من بعض ليكون عذابا فوق عذاب ثم لما اقتحم القادة من اصحاب النار وادخلوا أنفسهم عليها خوفا من الموكلين الذين يسوقونهم نحوها بمقامع من حديد وازدحم عقيبهم اتباعهم على الفور فضيقوا على القادة مكانهم فصرخوا على الخزنة من تضييقهم قال الخزنة لهم بعد ما سمعوا صراخهم وصيحتهم هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ معقبين مضيقين عليكم فالتفتوا أثرهم فقالوا هؤلاء اتباعنا لا مَرْحَباً بِهِمْ ولا يوسع عليهم إِنَّهُمْ ايضا صالُوا النَّارِ اى داخلوها أمثالنا ثم لما سمع الاتباع قول القادة والرؤساء هذا قالُوا على سبيل المعارضة والمخاصمة بَلْ أَنْتُمْ ايها الضالون المضلون أحقاء ان يقال لكم لا مَرْحَباً بِكُمْ إذ أَنْتُمْ بشؤم اضلالكم واغرائكم قد قَدَّمْتُمُوهُ لَنا اى الكفر الذي هو سبب دخول النار وابدعتموه أنتم أولا بيننا ثم اغويتمونا أنتم بتغريركم وتضليلكم حتى كفرنا نحن مثلكم بسعيكم وابتلينا بها أمثالكم فَبِئْسَ الْقَرارُ اى بئس مقرنا ومقركم اليوم جهنم الطرد وسعير الحرمان وبعد ما بالغ الاتباع في تعيير القادة وتشنيعهم تضرعوا نحونا داعين على

[سورة ص (38) : آية 61]

رؤسهم حيث قالُوا رَبَّنا يا من ربانا على فطرة التوحيد وأشركنا بك بشؤم هؤلاء المشركين المضلين نرجو اليوم من عدلك مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا ودلنا عليه بتغريره وتضليله فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً اى ضعف عذابنا فِي النَّارِ إذ نحن ضالون وهم الضالون المضلون وَقالُوا اى الرؤساء القادة بعد ما قد توغلوا في انواع العذاب على سبيل التحسر والتقريع على أنفسهم ما لَنا أى شيء عرض لنا ولحق بأبصارنا حيث لا نَرى رِجالًا فقراء ارذالا أذلاء بيننا قد احاطتهم انواع الفاقة والعناء لذلك قد كُنَّا نَعُدُّهُمْ ونخصهم مِنَ جملة الْأَشْرارِ الأرذال الساقطين عن درجة الاعتبار وكنا قد بالغنا في طردهم وذبهم وزجرهم حيث (2) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا واستهزأنا بهم تهكما وتقرعا وبالجملة لا نرى اليوم منهم أحدا في النار أهم ما يدخلون النار كما هو زعمهم ودعواهم أَمْ هم ايضا داخلون لكن قد زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ اى قد مالت عن رؤيتهم أبصارنا من شدة اهوالنا واحتجبوا منا يعنون فقراء المسلمين الذين قد استرذلوهم واستهزؤا بهم. ثم قال سبحانه على سبيل المبالغة والتأكيد إِنَّ ذلِكَ الذي قد حكينا لك يا أكمل الرسل من اهل النار لَحَقٌّ صدق ثابت مطابق للواقع لا بد ان يتكلموا به حين دخولهم فيها وبالجملة ما هذا الذي سمعت الا تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ في النار على الوجه الذي ذكر ثم لما بالغ سبحانه في حقية ما حكى من اهل النار امر حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بان بلغ للأنام التوحيد المبعد لهم عن النار والعذاب المؤبد فيها فقال قُلْ يا أكمل الرسل للمشركين المستحقين لعذاب النار انقاذا لهم عنها ان قبلوا منك قولك إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ لكم باذن الله ووحيه عن أمثال ما ذكر من العذاب في النشأة الاخرى وَاعلموا انه ما مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق ويرجع اليه في الخطوب ويلتجأ نحوه في النوائب والمصائب إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لا شريك له في الوجود ولا شيء غيره في الشهود الْقَهَّارُ للاغيار مطلقا إذ كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون رجوع الاظلال الى الشمس والأمواج الى البحر وكيف لا هو سبحانه بتوحده واستقلاله رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا اى مظهر كل ما في العلو والسفل وكذا ما في حشوهما والمحاط بهما إذ الكل منه بدأ واليه يعود وكيف لا وهو الْعَزِيزُ الغالب على امره في خلقه وحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد الْغَفَّارُ الستار المحاء لهويات الأغيار وهياكل الاظلال الغير القار قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما قد بينت لهم توحيد الحق واستقلاله في تصرفاته وتدبيراته هُوَ اى الذي قد بلغت لكم بوحي الله من احاطة الحق وشموله بجميع ما لمعت عليه بروق تجلياته نَبَأٌ عَظِيمٌ وخبر خطير قد أخبركم به الحق ونبهكم عليه من كمال أعطافه واشفاقه لينقذكم به عن عذابه المترتب على كفركم وشرككم أَنْتُمْ من كمال توغلكم في الجهل والضلال عَنْهُ مُعْرِضُونَ مع انه انفع لكم وأصلح بحالكم وهو سبحانه اعلم بشأنكم منكم وبمقتضى علمه بحالكم انزل كتابه عليكم ليرشدكم الى جهة معرفته ووجهة توحيده وما على الا تبليغ ما اوحى الى كسائر الرسل إذ ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ اى ما حصل عندي وما ثبت لدى من علم متعلق منى بِالْمَلَإِ الْأَعْلى اى الملائكة السماويين سيما وقت إِذْ يَخْتَصِمُونَ في خلافة آدم ونبوته ونيابته بل قد الهمنى الله بوحيه عموم ما جرى بينهم من الحجج والمعارضات الواقعة في تلك الحالة وفي افحامهم بعد جدا لهم واصطفاء الله إياه وأمرهم بسجوده تعظيما له وتكريما وبالجملة إِنْ يُوحى اى ما يوحى إِلَيَّ من عند ربي إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ

[سورة ص (38) : آية 71]

اى لانما انا منذر لكم من ان يفتنكم الشيطان وجنوده المرتكزة في هياكلكم فيضلونكم عن سبل السلامة وطرق الاستقامة الموصلة الى وحدة ذات الحق وكمال أسمائه وصفاته اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ رَبُّكَ الذي رباك على مقتضى الجمعية المنتهية الى الوحدة الذاتية التي قد جئت أنت لإظهارها وإيضاح منهجها لِلْمَلائِكَةِ المهيمين بمطالعة وجهه الكريم على سبيل المشورة معهم ليظهر كرامة آدم وجلالة قدره إِنِّي بمقتضى بدائع صنعتي وغرائب حكمتى وقدرتي خالِقٌ اى مظهر موجد بَشَراً اى جسدا متخذا مِنْ طِينٍ ليكون مرآة لي يتراءى عموم أوصافي وأسمائي فَإِذا سَوَّيْتُهُ وعدلت قالبه على الوجه الذي جرى في حضرة علمي ولوح قضائي وَنَفَخْتُ فِيهِ بعد تسويته وتعديله مِنْ رُوحِي اى أفضت من حياتي ومن مقتضيات أسمائي وصفاتي ليستحق بخلافتى ونيابتي ويظهر فيه ومنه أسمائي وصفاتي فَقَعُوا لَهُ وخروا عنده أنتم ايها الملائكة تعظيما له وتكريما ساجِدِينَ متذللين له واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان دونه ثم لما سمع الملائكة منه سبحانه ما سمعوا فَسَجَدَ له الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ امتثالا للأمر الوجوبي إِلَّا إِبْلِيسَ المعدود من عدادهم المنخرط في سلكهم قد اسْتَكْبَرَ عن سجوده وتعظيمه وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ بترك الانقياد للأمر الوجوبي الإلهي ثم لما امتنع إبليس عن اطاعة آدم وتعظيمه مع ورود الأمر الوجوبي من قبل الحق قالَ سبحانه معاتبا عليه مناديا له سائلا عن سبب امتناعه يا إِبْلِيسُ المستكبر المتخلف عن أمرنا ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ اى أى شيء منعك عن السجود المأمور به لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وصورته بقدرتي وبمقتضى حكمتى وبكمال حولي وقوتي ليكون مرآتى ويليق بخلافتى وخلتي أَسْتَكْبَرْتَ أنت عن اطاعة حكمنا وامتثال أمرنا أَمْ كُنْتَ أنت قد احتسبت نفسك مِنَ الْعالِينَ المعتوقين المتفوقين عليه بحيث لا تجوز لنفسك ان تذلل عنده وتنقاد له وبعد ما سمع اللعين منه سبحانه ما سمع من الخطاب الهائل المشتمل على انواع العتاب قالَ اللعين بعد ما اختار الشق الثاني من الترديد أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ صورة ومادة إذ قد خَلَقْتَنِي أنت بكمال قدرتك مِنْ نارٍ هي أعلى العناصر وارفعها قدرا ومكانا وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ هو أسفل العناصر وارذلها قدرا وأدناها مكانا والأمر بسجود الأفضل الأعلى للارذل الأدنى غير موافق ومطابق لحكمتك المتقنة يا ربي ثم لما قد خرج إبليس عن ربقة الإطاعة التعبدية واتى بالحجة الاقناعية الجدلية قالَ سبحانه مغاضبا عليه من كمال غيرته وقهره من اين يطيق احد من مظاهره ومصنوعاته ان يخالف امره ويحتج عليه اذله الحجة البالغة فَاخْرُجْ مِنْها من رتبة الملكية وأعلى مرتبة العبودية فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مرجوم مطرود عن سعة رحمتنا وشرف عز حضرتنا وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي اى طردي وتبعيدى عن ساحة عز قربتي مستمرة عليك إِلى يَوْمِ الدِّينِ وبعد ذلك عذابك مؤبد في النار وأنت مخلد فيها ابد الآبدين ثم لما قنط إبليس عن روح الله ومن سعة رحمته قالَ بعد ما ايس مناجيا رَبِّ يا من رباني على فطرة الإطاعة والانقياد فعصيت أمرك بشؤم عجبي ونخوتى فَأَنْظِرْنِي وأمهل على بعد ما قد بعدتنى عن كنف قربك وجوارك وطردتني عن محل كرامتك وجودك إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ سبحانه فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو وقت النفخة الاولى وبعد ما انظره سبحانه وأنجح مسئوله قالَ إبليس مقسما مبالغا في التهديد لبنى آدم فَبِعِزَّتِكَ وجلالك لَأُغْوِيَنَّهُمْ اى لأضلن بنى آدم عن جادة التوحيد وصراط العدالة

[سورة ص (38) : آية 83]

أَجْمَعِينَ إذ لا يسع لهم وليس في وسعهم ان يسدوا سنن مداخلى فيهم وطرق مخادعتي إياهم إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ألا وهم المؤمنون الموقنون المخلصون الذين قد أخلصوا في عموم أعمالهم وأحوالهم معك واعتصموا بحبل توفيقك راجين من رحمتك ورضوانك هاربين مرعوبين عن مقتضى سخطك وغضبك بلا ميل لهم الى ما يلهيهم ويشغلهم عنه قالَ سبحانه في جوابه اظهار الكمال الاستغناء والقدرة فَالْحَقُّ الثابت المثبت ما قلت لك في هذه النشأة يا ملعون من الطرد والتبعيد وانظارك فيما بينهم للاختبار والاعتبار وَالْحَقَّ أَقُولُ اى أقول الحق ايضا فيما يترتب على اغرائك واغوائك إياهم واتباعهم لك في هذه النشأة وكذا ما يترتب على متابعتهم إياك في النشأة الاخرى والكل هو هذا والله بمقتضى عزتي وجلالي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ المعدة لأصحاب الشقاوة الازلية من المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية الضالين عن الصراط السوى مِنْكَ اى من جنسك الذي هو الجن وَايضا مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ اى من جنس الانس أَجْمَعِينَ تابعا ومتبوعا ضالا ومضلا قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بلغت ما يوحى إليك من الحق الصريح على وجهه بلا خبط وخلط وبلا زيادة ونقصان كلاما ناشئا عن محض الحكمة والعدالة ما أَسْئَلُكُمْ ولا اطلب وأطمع منكم ايها المكلفون عَلَيْهِ اى على تبليغى إياكم ما أمرت بتبليغه من ربي مِنْ أَجْرٍ اى جعل ومال على عادة اصحاب التلبيس من المتشيخة الذين هم من اعونة إبليس وانصاره وَما أَنَا ايضا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ المتصنعين بخصائل ليس في أمثالهم على سبيل التلبيس والتدليس بل إِنْ هُوَ اى ما هو اى القرآن المنزل على إِلَّا ذِكْرٌ اى عظة وتذكير لِلْعالَمِينَ من الثقلين المجبولين على فطرة الدراية والإيقان المكلفين بطرق الهداية والايمان وسبل التوحيد والعرفان وَلَتَعْلَمُنَّ أنتم أيها المتذكرون الوحى والقرآن العظيم والمعرضون عنه نَبَأَهُ اى صدق اخباره وحقية مواعيده ووعيداته وما يترتب عليها وعلى قصصه المذكورة وأحكامه الموردة فيه وكذا ما ينكشف عندكم ولاح لديكم من حكمه ورموزه وإشاراته ومعارفه وحقائقه بَعْدَ حِينٍ اى بعد انخلاعكم من لوازم ناسوتكم بالمرة واتصافكم بخلعة اللاهوت في النشأة الاخرى حين تبلى السرائر وتكشف الضمائر وارتفعت الحجب والأستار فاعتبروا الآن يا اولى الأبصار وذوى الاعتبار بما فيه من السرائر والأسرار خاتمة سورة ص عليك ايها السالك المتدبر في رموزات القرآن والمتأمل المتدرب في درك إشاراته الخفية تحت أستار ألفاظه وأحكامه المتعلقة لتهذيب الظاهر والباطن وتصفية السر عن التوجه نحو الغير مطلقا ان تعرف أولا ما في نفسك من اعونة الشيطان وجنوده الامارة بالسوء المزعجة لك الى قبول مأموراتها المقتضية للبعد عن جادة العدالة التوحيدية الإلهية التي هي صراط الله الا قوم وتجاهد معها مهما أمكنك واعانك الحق ومكنك ووفقك لتسخيرها الى ان صارت مغلوبة لك مقهورة تحت قهرك حسب ما يسر الله ووفقك على غلبتك إياها ثم بعد ذلك نبع من صدرك ينابيع الحكم المترشحة من بحر الوحدة الذاتية وجرى على لسانك ما أراد الله وشاءه بعد ما افناك عنك وابقاك ببقائه وصار سبحانه قلبك وسمعك وبصرك وجميع قواك وحينئذ قد اجتمع الفرق وارتبق الفلق واتحد الظهور والبطون وانطوى الأزل والأبد واتصل الاول والآخر والظاهر والباطن وبالجملة هو بكل شيء عليم ليس كمثله شيء ولا معه حي وهو الحي القيوم وحده وهو السميع العليم لا غير معه

سورة الزمر

[سورة الزمر] فاتحة سورة الزمر لا يخفى على الموحدين المحمديين المتدرجين من سفل الإمكان وحضيض التقييد الى أوج الوجوب وذروة الإطلاق التي هي الوحدة الذاتية المنطوية دونها الكثرات مطلقا ان الوصول الى هذا المطلب الأعلى والمقصد الأسنى انما هو بتوفيق الحق على متابعة كتبه واطاعة رسله المرسلين من عنده سبحانه لتبيين ما في كتبه من الحكم والاحكام والمعارف والحقائق المرموزة فيها ولا شك ان أفضل الكتب وأكمل الرسل هو القرآن ونبينا عليه الصلاة والسلام فمن امتثل بمقتضيات القرآن وتمسك بسنن صدرت من معدن الرسالة وأحاديث شاعت من مشكاة النبوة والولاية فقد أفاض عليه الحق من سجال فضله ولطفه ما أفاض وفاز بما جبل لأجله بمقتضى الحكمة لذلك اخبر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلم وأوصاه بامتثال ما في كتابه المنزل عليه وبتبليغه الى من وفق بمتابعته وجبل من زمرته وهدى بإرشاده وهدايته فقال بعد ما تيمن باسمه الأعظم المشتمل على كل أسمائه الحسنى وصفاته العليا بِسْمِ اللَّهِ الذي انزل كتابه معربا عما فصله في حضرة علمه ولوح قضائه الرَّحْمنِ لعموم عباده بانزال الكتاب إليهم ليهديهم الى درجات جنابه الرَّحِيمِ لخواصهم يوصلهم الى وحدة ذاته بعد ما أفناهم من مقتضيات تعيناتهم المقتضية للكثرة [الآيات] تَنْزِيلُ الْكِتابِ المبين لطريق التوحيد المنبه على وحدة الحق وكمالات أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى مِنَ اللَّهِ المدبر لعموم ما جرى في ملكه وملكوته إذ لا منزل في الوجود سواه سبحانه الْعَزِيزِ الغالب في امره بالاستقلال والاختيار الْحَكِيمِ المتقن في فعله حسب علمه المحيط وقدرته الشاملة وإرادته الكاملة وبعد ما بين سبحانه امر التنزيل عموما أشار الى التنزيل المخصوص المتمم المكمل لأمر الإنزال والتنزيل مطلقا فقال مشيرا الى عظم قدر المنزل اليه وجلالة شأنه ورفعة رتبته ومكانه إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تأييدا لك وتعظيما لشأنك الْكِتابَ الجامع لجميع ما في الكتب السالفة مع زوائد خلا عنها كلها ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع بلا شوب شك وريب في نزوله منا وبالجملة فَاعْبُدِ اللَّهَ الذي اصطفاك لرسالته وخصصك بكتابه هذا حال كونك شاكرا لنعمه مؤديا لحقوق كرمه مُخْلِصاً في عبادتك وعبوديتك إياه مجتنبا عن مداخل الشرك ورعونات الرياء مطلقا لَهُ الدِّينَ والانقياد خاصة ولا مستحق للاطاعة الخالصة والاتباع الصافي الا هو سبحانه ولا يعبد بالحق الا هو وبعد ما امر سبحانه حبيبه بالعبادة والإخلاص في الإطاعة والانقياد نبه على عموم عباده بالإخلاص في الطاعة والخلوص في نيات العبادات فقال أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ اى تنبهوا ايها المجبولون على فطرة التوحيد ان الدين الذي كلفكم الحق عليه وأوجبه عليكم هو الدين الخالص عن امارات الشرك ومقتضيات الهوى الصافي عن شوب السمعة وشين الرياء وَبعد ما وضح ان الدين الخالص لله ولا مستحق له سواه الَّذِينَ اتَّخَذُوا وأخذوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اى المشركون الذين ادعوا الولاية لغير الله واستحقاق الإطاعة والانقياد لسواه قالوا في تعليل اتخاذهم حين سئلوا عنه وبخوا عليه ما نَعْبُدُهُمْ اى هؤلاء الغرانيق العلى التي هي الأصنام والأوثان وجميع ما عبد من دونه سبحانه إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى اى تقريبا كاملا إذ هم كملة مقبولون عنده مكرمون لديه سبحانه فنتوسل بهم حتى نصل الى قرب الحق وجواره لا تبالوا ايها الموحدون المتمسكون لحبل التوفيق الإلهي بقولهم هذا ولا تلتفتوا الى أباطيلهم الزائغة

[سورة الزمر (39) : آية 4]

إِنَّ اللَّهَ المطلع لما في ضمائرهم من الشرك والعناد والإلحاد عن سبيل الرشد والسداد يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ وبينكم بمقتضى علمه وخبرته فِي ما هُمْ فِيهِ من الشرك يَخْتَلِفُونَ معكم ايها الموحدون بان يدخلهم في النار بأنواع المذلة والهوان ويوصلكم الى الجنة بالمغفرة والرضوان وكيف لا يدخل سبحانه المشركين النيران بأنواع الخزي والهوان إِنَّ اللَّهَ الحكيم المتقن في أفعاله لا يَهْدِي اى لا يوفق على الهداية والرشد مَنْ هُوَ كاذِبٌ سيما في حق الله وفي مقتضى ألوهيته وربوبيته واستقلاله في ملكه وملكوته كَفَّارٌ بنعمه الموهوبة له من فضله وكرمه حيث اثبت له سبحانه شريكا وولدا مع انه لَوْ أَرادَ اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في الألوهية والوجود المنزه عن الأهل والولد أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ويختار صاحبة لَاصْطَفى واختار مِمَّا يَخْلُقُ اى من بين سائر مخلوقاته في جميع شئونه وحالاته ما يَشاءُ اولى وانسب له وأليق بشأنه من مريم وعيسى فكيف من الأصنام والأوثان سُبْحانَهُ تعالى شأنه وتنزه ذاته الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد عن اتخاذ الصاحبة والولد بل هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ من جميع الوجوه المستقل بالالوهية والوجود الْقَهَّارُ لعموم السوى والأغيار مطلقا قطعا لعرق الشركة عن أصله بمقتضى توحيده سبحانه وقهره مطلقا الغير والسوى ولإظهار كمالاته المندمجة في وحدة ذاته باعتبار شئونه وتطوراته اللازمة للحي الأزلي الأبدي قد خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى قدر وأعد الأسماء الذاتية الفعالة المنعكسة من شئونه الذاتية والأوصاف القابلية المنفعلة من تلك الأسماء المظهرة لآثارها ملتبسا بِالْحَقِّ المطابق للواقع لا ينبغي ان يرتاب فيه احد من اهل التوحيد سيما بعد انكشافه بسرائر الوجود واسرار التوحيد بحسب الجود الإلهي وبمقتضى هذه الازدواجات المعنوية الجارية بين الأوصاف والأسماء الذاتية الإلهية ايضا يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ اى يغشى ويغيب سبحانه على سبيل التلفيف والتخليط اضواء الأسماء والصفات بظلام الهيولى والتعينات العدمية في النشأة الاولى فكذلك يغطى ويغيب في النشأة الاخرى حجب الطبائع واظلال الهويات الهيولانية الكثيفة الظلمانية الجسمانية باشعة أنوار الذات المنتشئة منها بمقتضى الشئون والتطورات المثبتة للأسماء والصفات الإلهية وَبعد ما قد كمل سبحانه امر الظهور والإظهار وانبسط على عروش عموم ما ظهر وما بطن بالاستيلاء والاستقلال سَخَّرَ الشَّمْسَ اى جذب وقبض نحوه سبحانه بمقتضى الجاذبة المعنوية الحبية الكاملة الوجود العامّ المطلق الفياض من لدنه سبحانه على هياكل عموم الموجودات المنعكسة من الأسماء والصفات الإلهية وَالْقَمَرَ اى الهويات القابلة لانعكاس شمس الذات المستخلفة عنها إظهارا لكمال قدرته ومتانة حكمته لذلك كُلٌّ من اهل العناية يَجْرِي يكون ويدوم في مكانه ومكانته من التعيّنات موقوفا لِأَجَلٍ مُسَمًّى اى حلول أجل معين مقدر من عند ربه بمقتضى جذبه وعنايته فإذا حل الأجل المسمى انقطع الجري والسير وارتفع السلوك أَلا اى تنبهوا ايها الاظلال الهالكة في شمس الذات هُوَ اى الموصوف بهذه الصفات الكاملة الله الْعَزِيزُ المنيع ساحة عز ذاته عن ان يحوم حول سرادقات عزه وجلاله ادراك العقول المتحيرة والأوهام المدهوشة المقهورة الْغَفَّارُ الستار لغيوم تعيناتكم باشراق شمس الذات وانقهار جميع ما لمع عليه نور الوجود على مقتضى جلاله وتفرده في نعوت كماله وكيف لا وقد خَلَقَكُمْ اى أظهركم وأوجدكم سبحانه بالتجليات الجمالية مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهي طبيعة العدم القابلة لانعكاس اشعة نور الوجود المنعكسة فيها

[سورة الزمر (39) : آية 7]

أبوكم آدم على سبيل الظلية والاستخلاف ثُمَّ جَعَلَ واظهر منعكسا مِنْها زَوْجَها إبقاء للتناسل وتتميما للازدواجات الغير المتناهية حسب رقائق الأسماء والصفات المتقابلة الإلهية إظهارا لكمال القدرة وتتميما للحكمة المتقنة البالغة وَبعد ما أتم سبحانه امر ايجادكم واثباتكم أَنْزَلَ لَكُمْ اى قسم وقضى لاجلكم تتميما لأمور معاشكم عناية منه وتكريما مِنَ الْأَنْعامِ المناسبة لتغذيتكم وتقوية امزجتكم ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ذكرا وأنثى بمقتضى جبلتكم لتدوم بدوامكم وهي الأصناف المذكورة في سورة الانعام هذا بحسب ظهوركم وبروزكم في عالم الشهادة وفي عالم الغيب والبطون يَخْلُقُكُمْ ويقدر موادكم فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ اى تقديرا بعد تقدير اعجب واغرب من سابقه بان قدركم أولا نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم سواكم جسدا انسانيا ثم نفخ فيكم روحا من روحه وبالجملة قد أظهركم في عالم الشهادة بعد ما اخفاكم مدة فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ هي أصلاب آبائكم وحجب تعيناتكم وبطون أمهاتكم وبالجملة ذلِكُمُ الذي قد فعل بكم هذه الأفعال الجميلة المتقنة هو اللَّهُ المستقل بالالوهية والتصرف في ملكه وملكوته وهو رَبُّكُمْ الذي رباكم واحسن تربيتكم لا مربى لكم سواه إذ لَهُ الْمُلْكُ والملكوت خاصة لا يشارك في ملكه ولا ينازع في سلطانه وشأنه فظهر انه لا إِلهَ يعبد له ويرجع اليه في الخطوب والملمات إِلَّا هُوَ الواحد الأحد الصمد الحقيق بالحقية المستحق للالوهية والربوبية فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وكيف تعدلون ايها المشركون المنحرفون عن جادة توحيده مع انكم ايها الاظلال المنهمكون في بحر الحيرة والضلال إِنْ تَكْفُرُوا بالله وتنكروا ظهوره واستيلاءه على عموم ما ظهر وبطن بالاستقلال فَإِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء غَنِيٌّ عَنْكُمْ وعن ايمانكم وإطاعتكم وكفركم وعصيانكم وَغاية ما فيه انه عز شأنه وجل برهانه لا يَرْضى ولا يحب لِعِبادِهِ الذين هم قد ظهروا منه سبحانه حسب اظلال أوصافه وأسمائه الْكُفْرَ والجحود بذاته سبحانه عطفا لهم وترحما عليهم لأنهم انما جبلوا على فطرة المعرفة ومصلحة الايمان والإيقان والا فهو سبحانه في ذاته أعز وأعلى من ان يفتقر الى ايمان احد وأطاعته او يتضرر بكفره وإنكاره وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ اى وكذا غنى عنكم وعن شكركم نعمه الفائضة عليكم إذ لا يعلل فعله سبحانه بالأغراض والأعواض مطلقا لكن يرضى عنكم لو شكرتم نعمه ويزيد عليكم بأضعافها لإتيانكم بالمأمور وامتثالكم امره سبحانه مع ان نفع شكركم انما يعود إليكم وَبالجملة لا بد لكل احد من المكلفين ان يمتثلوا بما أمروا به من عنده سبحانه حتى يصلوا الى ما وعدوا من المثوبات والكرامات ويجتنبوا ايضا عما نهوا عنه ليخلصوا من المهالك والدركات المعدة الموعودة لهم إذ لا تَزِرُ ولا تحمل نفس وازِرَةٌ عاصية مرتكبة بحمل أثقال الأوزار والآثام الحاصلة لها وِزْرَ نفس أُخْرى كما لا تتصف بحسناتها ايضا ثُمَّ بعد انقضاء النشأة الاولى إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ كافة كما ان منشأكم منه جميعا فَيُنَبِّئُكُمْ ويخبركم سبحانه بعد رجوعكم اليه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بعموم ما جرى عليكم من سيئاتكم وحسناتكم بلا فوت شيء منها ويجازيكم على مقتضاها وكيف لا يخبركم ولا يجازيكم بأعمالكم سبحانه إِنَّهُ بذاته عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بجميع الأمور الكائنة المكنونة في صدور عباده بعموم ما خفى في ضمائرهم ونياتهم فكيف بما صدر عن جوارحهم وآلاتهم وبعد ما نبه سبحانه الى احوال عباده شرع بعد مساويهم وأخلاقهم الذميمة الناشئة من بشريتهم وبمقتضى بهيميتهم فقال وَإِذا مَسَّ

[سورة الزمر (39) : آية 10]

الْإِنْسانَ ضُرٌّ اى لحقه شيء من اماراته ولاح عليه اثر من آثاره دَعا رَبَّهُ متضرعا نحوه مُنِيباً إِلَيْهِ إذ لا مرجع له سواه ملحا لكشفه وإزالته ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ سبحانه وأزال عنه ضره وكربه وأعطاه وأفاض عليه نِعْمَةً فائضة مِنْهُ سبحانه موهوبة له متعهدا إياه متفقدا حاله تعظيما له وتكريما نَسِيَ شكره لخالقه ونبذ وراء ظهره ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ سبحانه مِنْ قَبْلُ عند شدة ضره وسورة كربه وَمع ذلك لم يقتصر على النبذ والنسيان بل جَعَلَ اى قد أخذ واثبت لِلَّهِ الصمد المنزه عن الضد والند أَنْداداً وادعاهم شركاء له سبحانه وانما جعل وفعل كذلك لِيُضِلَّ الناس الناسين عهود ربهم عَنْ سَبِيلِهِ ويحرفهم عن طريق توحيده ساعيا في اغوائهم واضلالهم مجتهدا فيه قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا مهددا إياهم تَمَتَّعْ ايها الضال المضل بِكُفْرِكَ هذا في نشأتك هذه قَلِيلًا اى زمانا قليلا ومدة يسيرة إِنَّكَ أنت البتة في النشأة الاخرى مِنْ أَصْحابِ النَّارِ اى من ملازميها وملاصقيها ومن جملة من فيها. ثم قال سبحانه أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ أيتعجب المشرك المثبت لنا شريكا بل شركاء وأندادا من تهديدنا إياه بالنار وعذابها فيظن ظنا كاذبا ان من هو قائم على أداء العبادات مواظب عليها آناءَ اللَّيْلِ اى في خلاله وأطراف النهار وساعاته ساجِداً متذللا واضعا جبهته على تراب المذلة من خشيتنا وَقائِماً على قدميه مدة متطاولة تعظيما لأمرنا ومع ذلك يَحْذَرُ الْآخِرَةَ اى من العذاب اللاحق له فيها حسب قهرنا وجلالنا وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ على مقتضى لطفه وجماله كهؤلاء الكفرة بالله الجهلة بشأنه المتخذين له أندادا ظلما وزورا مع تعاليه عنه سبحانه وبعد ما تفرست يا أكمل الرسل هذا الظن والتسوية منهم قُلْ لهم على سبيل التبكيت والإلزام مستفهما إياهم على سبيل التقريع والتوبيخ هَلْ يَسْتَوِي المكلفون الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الحق بذاته وأسمائه وأوصافه ويعبدونه سبحانه حسب علمهم به وبأوامره ونواهيه وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ذاته ولا شيأ من أوصافه وأسمائه ولا يعبدون له ايضا كلا وحاشا من اين يتأتى المساواة فشتان ما بين العالم والجاهل والعابد والعاصي الا انه إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ اى ما يتذكر ولا يتعظ بأمثال هذه المواعظ والتذكيرات المنبهة على سرائر الوحدة الذاتية الا أولوا الباب الناظرون الى لب الأمور المعرضون عن قشوره قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا مناديا منا لخلص عبادنا يا عِبادِ أضافهم الى نفسه اختصاصا وتكريما الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة ذاتى وبظهورى حسب شئوني وتطوراتى وبمقتضى أسمائي وصفاتي مقتضى ايمانكم التقوى عن مقتضيات الهوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ واجتنبوا عن محارمه ومنهياته واتصفوا بمأموراته واعلموا انه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الأدب منكم مع الله فِي هذِهِ الدُّنْيا التي هي نشأة الاختبار والاعتبار حَسَنَةٌ بأضعافها وآلافها في الآخرة التي هي دار القرار فاعتبروا يا ذوى البصائر واولى الأبصار فعليكم الإتيان بالإحسان في كل حين وأوان ولا تخلوا عنه في كل زمان ومكان وَلا تفتروا عنه وعن المواظبة عليه بتفاقم الأحزان وتلاطم امواج الفتن في الأماكن والأوطان إذ أَرْضُ اللَّهِ المعدة لأداء العبادات والاشتغال بالطاعات واسِعَةٌ فسيحة فعليكم الجلاء لأجل الفراغ والخلاء فتهاجروا إليها متحملين عموم ما لحقكم من الشدائد والمتاعب في الانتقال والارتحال صابرين على مفارقة الأوطان والخلان ومصادفة الكروب والأحزان وبالجملة إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ المتحملون لانواع الشدائد والمشاق في طريق الايمان وسلوك سبيل العرفان أَجْرَهُمْ ويوفر عليهم الحسنات وانواع المثوبات

[سورة الزمر (39) : آية 11]

والكرامات بِغَيْرِ حِسابٍ اى توفية وتوفيرا لا يمكن ضبطه بالعد والإحصاء تفضلا عليهم وتكريما. وفي الحديث صلوات الله على قائله انه ينصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون بها أجورهم ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر حتى يتمنى اهل العافية في الدنيا ان اجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به اهل البلاء من الفضل والعطاء. ثم قال سبحانه آمرا لحبيبه بالتوصية والتبليغ لعموم عباده كلاما ناشئا عن محض الحكمة خاليا عن رعونات الرياء متمحضا للنصح والتكميل قُلْ يا أكمل الرسل إِنِّي أُمِرْتُ من قبل ربي أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ حق عبادته وأطيعه حق أطاعته مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ والانقياد الصادر منى لا تسبب باطاعتى وانقيادي على وجه الإخلاص ان أعرفه حق معرفته ويفيض على قلبي زلال توحيده وكرامته وَأُمِرْتُ ايضا من عنده لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ اى اسبق المسلمين المفوضين أمورهم كلها اليه منخلعين من لوازم بشريتهم ومقتضيات اهوية هويتهم ثم قُلْ يا أكمل الرسل إِنِّي مع كمال وثوقى بكرم الله وسعة رحمته ووفور فضله وجوده على أَخافُ خوفا شديدا إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي وخرجت عن عروة أطاعته وربقة انقياده عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فظيع فجيع لعظم ما فيه من الجزاء المترتب على الجرائم العظام وبعد ما بلغت يا أكمل الرسل ما بلغت قُلِ على وجه الحصر والتخصيص اللَّهَ أَعْبُدُ لا غيره إذ لا غير معه مُخْلِصاً لَهُ دِينِي وانقيادي حسب وسعى وطاقتي فَاعْبُدُوا ايها المنهمكون في بحر الغي والضلال ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ سبحانه بمقتضى اهويتكم الفاسدة وآرائكم الكاسدة واعلموا ان ما يترتب على عبادة غير الله ليس الا الخيبة والخسران قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بعبادة غير الله والانحراف عن جادة التوحيد وَمع ذلك قد خسروا أَهْلِيهِمْ ايضا بالإغواء والإضلال يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة لجزاء الأعمال يعنى حرموهم عن الفوائد الاخروية المترتبة على ايمانهم وأعمالهم الصالحة في يوم القيامة والنشأة الاخرى أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ والحرمان العظيم نعوذ بك منك يا ذا القوة المتين وكيف لا يكون خسران المشركين مبينا وحرمانهم عظيما لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ وأطباق مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ كذلك بالنسبة الى من في الطبقة السفلى لان دركات النيران مثل دركات الإمكان متطابق بعضها فوق بعض فيكون سكانها ايضا كذلك ذلِكَ العذاب الذي سمعت وصفه يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ في دار الاختبار ويحذرهم عنه ثم ناداهم ليقبلوا اليه ويعتبروا من تخويفه فقال يا عِبادِ فَاتَّقُونِ واحذروا من بطشى وتعذيبى إياكم في يوم الجزاء وَبالجملة المؤمنون الموحدون الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ المبالغ في الطغيان والعدوان ألا وهي الشيطان المضل المغوى والنفس الضالة الغوية واستنكفوا أَنْ يَعْبُدُوها ويقبلوا منها وسوستها ويصغوا الى اغوائها واغرائها وَمع ذلك قد أَنابُوا ورجعوا إِلَى اللَّهِ في النشأة الاولى على وجه الإخلاص والخضوع نادمين عن عموم ما صدر عنهم من الجرأة على الجريمة لَهُمُ الْبُشْرى في النشأة الاخرى بالدرجة العليا والمثوبة العظمى فَبَشِّرْ عِبادِ يا أكمل الرسل الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ الحق الذي قد صدر منا ولا يمترون فيه بل فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ على الوجه الأحسن الادقّ ويمتثلون بما أمروا به ويجتنبون ايضا عما نهوا عنه أُولئِكَ السعداء الموفقون على استماع القول الحق والامتثال به هم الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ الى طريق توحيده ووفقهم الى الفناء فيه والبقاء ببقائه وَبالجملة أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ الواصلون الى

[سورة الزمر (39) : آية 19]

لب اللباب. ثم قال سبحانه على سبيل التنبيه والتأديب أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ يعنى اتسعى وتجتهد أنت يا أكمل الرسل في تخليص من قد ثبت منا في سابق قضائنا وحضرة علمنا الحكم بتعذيبه يعنى أبا لهب وولده واتباعه أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ اى أتظن أنت وتعتقد لنفسك انك تقدر على إنقاذ من هو مخلد في نار جهنم حسب قهرنا وغضبنا إياه كلا وحاشا فلا تتعب نفسك فيما ليس في وسعك إذ لا يبدل القول لدينا ولا يغير الحكم المبرم منا عندنا لكِنِ المؤمنين الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ في جميع شئونهم وحالاتهم خائفين من قهره وغضبه راجين رحمته لَهُمْ عند ربهم غُرَفٌ ودرجات علية مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ ودرجات أعلى منها كأنها منازل مَبْنِيَّةٌ على الأرض بعضها فوق بعض على تفاوت طبقاتهم في مراتب القرب تَجْرِي على التعاقب والتوالي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المترشحة من بحر الذات على مقتضى استعداداتهم الفطرية الموهوبة لهم بمقتضى الجود الإلهي وما كان ذلك الا حسب ما وَعْدَ اللَّهِ الذي وعدها لخلص عباده الذين سلكوا في سبيل توحيده متعطشين الى زلال لقائه فله ان ينجزه سبحانه حتما إذ لا يُخْلِفُ اللَّهُ القادر المقتدر على عموم ما شاء وأراد الْمِيعادَ الذي وعده للعباد سيما لأهل العناية منهم أَتتعجب وتستبعد من الله انجاز المواعيد الموعودة من عنده ولَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي أَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر بالإرادة والاختيار قد أَنْزَلَ وأفاض بمقتضى جوده المعهود ووعده الموعود مِنَ السَّماءِ اى عالم الأسماء والصفات ماءً اى حياة مترشحة من عين الوجود وبحر الذات فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ اى قد ادخله في ينابيع التعينات وعيون الهويات المنعكسة من تلك الأسماء والصفات وأجراه فِي الْأَرْضِ اى ارض الطبيعة القابلة لقبول الآثار الفائضة عليها ثُمَّ بعد اجرائه عليها يُخْرِجُ بِهِ بمقتضى حكمته المتقنة زَرْعاً اى هياكل وتعينات أنواعا وأصنافا مثمرة ثمرات انواع العقائد والمعارف والحقائق مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ حسب اختلاف الاستعدادات الفائضة عليها من عنده ثُمَّ يَهِيجُ اى بعد ما ظهر منها ما ظهر وترتب عليها ما ترتب يجف وييبس الى حيث يذهب نضارتها ورواؤها المترتبة على الإمداد الإلهي فَتَراهُ حينئذ مُصْفَرًّا مشرفا على الاضمحلال والانعدام ثُمَّ يَجْعَلُهُ يقبض ما فيه من رشاشات الحياة حُطاماً لتاتا رفاتا تذروه رياح الآجال وتعيده الى ما عليه من العدم إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ اى تذكيرا بليغا وبرهانا قاطعا شاطعا على وجوب وجود من هو منيع عموم الكرم والجود ومبدأ جميع الموجود لا يطرأ عليه زوال ولا يعرضه تحول وانتقال ليس كمثله شيء وهو السميع البصير الا انه لا يتذكر به ولا يتنبه منه الا أولوا الألباب الناظرون بنور الله على لب الأمور المعرضون عن قشوره. ثم قال سبحانه أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يعنى أيستوى من وسع الله قلبه لنزول سلطان توحيده ووفقه لقبول شعائر الإسلام ومعالم الدين المبين له دلائل التوحيد واليقين فَهُوَ بواسطة شرح الله صدره وتوفيقه إياه عَلى نُورٍ انكشاف تام ويقين كامل مِنْ رَبِّهِ بحيث قد فنى فيه وبقي ببقائه ونظر بنوره حيث نظر ورأى آيات ربه الكبرى في عموم ما ابصر ورأى ومن طبع الله على قلبه وختم على سمعه وبصره فأعماه عن ابصار آيات وجوب وجوده وأصمه عن استماع دلائل توحيده كلا وحاشا مساواة ذا مع هذا بل فَوَيْلٌ عظيم وعذاب اليم معد لِلْقاسِيَةِ المضيقة المكدرة قُلُوبُهُمْ مِنْ سماع ذِكْرِ اللَّهِ واستماع ما نزل من عنده من الآيات العظام

[سورة الزمر (39) : آية 23]

الدالة على وحدة ذاته ووجوب وجوده وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون المطرودون عن ساحة عز القبول والحضور فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وجهل عظيم وغفلة شديدة وغشاوة غليظة لا نجاة لهم منها وبالجملة لا ترتفع عن عيون بصائرهم حجبهم الكثيفة أصلا ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور فكيف يتيسر لاحد ان يعرض عن ذكر الله وينصرف عن استماع كلامه مع انه اللَّهُ الذي دبر امور عباده وارشدهم الى طريق معاده حيث نَزَّلَ تتميما لتربيتهم وإرشادهم أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وأبلغه في الإفادة والبيان وجعله كِتاباً جامعا لما في الكتب السالفة مُتَشابِهاً بعض آياته ببعض في حسن النظم واتساق المعنى مَثانِيَ إذ قد ثنى وكرر سبحانه الاحكام فيه تأكيدا ومبالغة امرا ونهيا وعدا ووعيدا ثوابا وعقابا عبرا وأمثالا قصصا وتذكيرا وجعله في كمال الإيجاز ونهاية الاعجاز والتأثير بحيث تَقْشَعِرُّ اى تنقبض وتضطرب على وجه الاشمئزاز مِنْهُ اى من سماعه على وجه التأمل والتدبر جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ في جميع حالاتهم خوفا من سطوة سلطنته وجلاله ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَتطمئن قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ رجاء من سعة رحمته بمقتضى لطفه وجماله وبالجملة ذلِكَ الكتاب الرفيع الشأن الواضح البرهان هُدَى اللَّهِ الهادي لعباده يَهْدِي بِهِ ويوفق على الهداية والرشد بمقتضى ما فيه مَنْ يَشاءُ من عباده ويضل به عن الاستفادة بما فيه من يشاء ارادة واختيارا وَبالجملة مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بمقتضى قهره وجلاله فَما لَهُ مِنْ هادٍ إذ لا يبدل القول لديه ولا ينازع حكمه بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد أَفَمَنْ يَتَّقِي اى يصلى ويدخل بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ اى أشده وأسوئه إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل في أيديهم يسحبون نحو النار بحيث لا يصلى منهم إليها أولا الا وجوههم مثل من أمن منها وسلّم عن مطلق المكاره كلا وحاشا بل وَقِيلَ حينئذ لِلظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية ظلما وعدوانا على سبيل التوبيخ والتقريع ذُوقُوا ايها المنهمكون في بحر الغفلة والشهوات جزاء ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ في دار الاختبار بمقتضى اهويتكم الفاسدة وآرائكم الباطلة وليس هذا التكذيب والجزاء المترتب عليه مخصوصا بهؤلاء الكفرة المكذبين لك يا أكمل الرسل بل كل ممن كَذَّبَ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من المشركين رسلهم المبعوثين إليهم فَأَتاهُمُ الْعَذابُ الموعود عليهم فجاءة في النشأة الاولى مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ اماراته أصلا فسيأتيهم مثله بل أمثاله وآلافه في النشأة الاخرى وبالجملة فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ المنتقم عنهم الْخِزْيَ اى الذل والهوان والخيبة والخسران فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ المعد لهم فيها أَكْبَرُ اى أشد وأفزع لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شدته وفظاعته لما ارتكبوا ما يئول اليه ويوقعهم فيه وَالله لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ الناسين عهودنا ومواثيقنا فِي هذَا الْقُرْآنِ المتكفل لهداية عموم الضالين مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ينبههم على معالم الدين ومراسم التوحيد واليقين لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ رجاء ان يتعظوا بما فيه ويتفطنوا بسرائره ومرموزاته مع انا انما جعلناه قُرْآناً عَرَبِيًّا أوضح بيانا وأعظم شأنا وأجل تبيانا وبرهانا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ اى بلا اختلال واختلاف في معناه موجب للتردد والالتباس فيه مستلزم للشك والارتياب لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ عن محارمنا ويحذرون عما نهيناهم عنه ومع ذلك لم يتقوا بل لم يتنبهوا ولم يتفطنوا أصلا ولهذا قد ضَرَبَ اللَّهُ المطلع على جميع ما في استعدادات عباده وقابلياتهم مَثَلًا واضحا موضحا لحال الموحد منهم والمشرك

[سورة الزمر (39) : آية 30]

وشبه سبحانه كلتا الطائفتين برجلين مملوكين رَجُلًا مملوكا فِيهِ شُرَكاءُ اى له ملاك وارباب متشاركون فيه كلهم مُتَشاكِسُونَ بالنسبة اليه متخالفون في استخدامه متنازعون في شأنه يتجاذبونه على مقتضى اهويتهم وأمانيهم بكمال الاستيلاء والغلبة هذا مثل المشركين بالنسبة الى معبوداتهم الباطلة وَرَجُلًا اى مملوكا آخر سَلَماً لِرَجُلٍ اى مسلما مخصوصا لمالك ورب فقط بلا شوب شركة فيه ونزاع في امره هذا مثل الموحد بالنسبة الى ربه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا تعدد فيه ولا كثرة أصلا هَلْ يَسْتَوِيانِ ويتماثلان مَثَلًا هذان الرجلان المملوكان الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي لا شركة في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله بل في تحققه ووجوده ولا نزاع لاحد في حكمه وامره بل يفعل ما يشاء بالإرادة والاختيار ويحكم ما يريد بالاستقلال والاستحقاق بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وحدته واستقلاله في الوجود والتصرفات الواردة فيه باعتبار شئونه وتطوراته لذلك يشركون له غيره ظلما وعدوانا جهلا وطغيانا. ثم قال سبحانه إِنَّكَ مَيِّتٌ يعنى كيف لا يستقل سبحانه بالوجود والآثار المترتبة عليه مع انك يا أكمل الرسل واشرف الكائنات وأفضلهم معطل في ذاتك وفي نشأتك هذه عن اسناد ما ظهر وصدر منك ظاهرا إليك إذ لا وجود لك من ذاتك وَإِنَّهُمْ اى غيرك من الأشخاص بالطريق الاولى مَيِّتُونَ مائتون معطلون عن آثار الوجود مطلقا في هذه النشأة بل كلكم أنت وعموم العباد مسخرون مقهورون تحت حكمه سبحانه وامره وما عليك وعليهم الا الامتثال والانقياد ثُمَّ إِنَّكُمْ ايها الموحدون والمشركون جميعا يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة للحساب والجزاء عِنْدَ رَبِّكُمْ المطلع على عموم ما جرى عليكم تَخْتَصِمُونَ بعضكم مع بعض في ما أنتم عليه في نشأتكم الاولى ثم تحاسبون وتجازون بمقتضاه فستعلمون حينئذ اىّ منقلب تنقلبون. ثم قال سبحانه على سبيل الاستبعاد والتقريع فَمَنْ أَظْلَمُ وأضل طريقا مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وأنكر وجوده واستقلاله فيه وفي الآثار المترتبة عليه وَكَذَّبَ ايضا بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ يعنى بالقرآن الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم مبينا لتوحيد الحق واستقلاله في الوجود أَلَيْسَ يبقى فِي جَهَنَّمَ البعد والحرمان مَثْوىً لِلْكافِرِينَ الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق الظاهر في الآفاق بالاستقلال والاستحقاق مع ان هذا العذاب معد لهؤلاء المردة المطرودين عن ساحة عز القبول وَبالجملة الموحد المحق الَّذِي جاءَ من قبل ربه بِالصِّدْقِ بلا افتراء ومراء وَصَدَّقَ بِهِ ايمانا واحتسابا بلا شوب شك وتردد فيه أُولئِكَ السعداء الصادقون المصدقون هُمُ الْمُتَّقُونَ الذين يحفظون نفوسهم عن الميل الى ما لا يرضى منه سبحانه وبسبب اتصافهم بالتقوى عن محارم الله لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من اللذات اللدنية الروحانية عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي رباهم بأنواع الكرامة ووفقهم على الهداية الى جنابه والعكوف حول بابه تفضلا عليهم وتكريما ذلِكَ الذي سمعت من الكرامة جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله بحسب ظواهرهم وبواطنهم ويأخذون ما نزل من عنده من الأوامر والنواهي على وجه العزيمة الخالصة عن شوب الرياء والرعونات المنافية المباينة لإخلاص العبودية وليس تلك الكرامات العلية الا لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بسبب إخلاصهم في عزائمهم أَسْوَأَ العمل الَّذِي عَمِلُوا فكيف أسهله وأصغره وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ اى يعطيهم جزاء أعمالهم في الآخرة بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ اى احسن من حسناتهم وأوفر منها لخلوصهم فيها

[سورة الزمر (39) : آية 36]

أَلَيْسَ اللَّهُ القدير العليم بِكافٍ عَبْدَهُ المتوكل عليه المفوض امره اليه ليكفيه ما ينفعه ويكف عنه ما يضره وَهم من جهلهم بالله وبكمال علمه وقدرته يُخَوِّفُونَكَ يا أكمل الرسل يعنى قريشا بِالَّذِينَ اى بأصنامهم الذين يدعونهم آلهة مِنْ دُونِهِ سبحانه جهلا وعنادا ويقولون لك على سبيل النصح لا تذكر آلهتنا بسوء فانا نخاف عليك ان يخبلوك ويفسدوا عقلك وما ذلك الا من نهاية جهلهم بالله وغوايتهم عن طريق توحيده وَبالجملة مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بمقتضى قهره وجلاله فَما لَهُ مِنْ هادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ إذ هو سبحانه فاعل على الإطلاق بالاختيار والاستحقاق لا يجرى في ملكه الا ما يشاء أَلَيْسَ اللَّهُ العليم القدير بِعَزِيزٍ غالب على امره ذِي انْتِقامٍ شديد على من أراد انتقامه من أعدائه. ثم أشار سبحانه الى توضيح دلائل توحيده تعريضا على المشركين وتسجيلا على غوايتهم وغباوتهم فقال مخاطبا لحبيبه وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا أكمل الرسل يعنى كفار قريش مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى العلويات والسفليات وما بينهما من الممتزجات ومن أوجدها وأحدثها واظهر ما فيها من العجائب والغرائب لَيَقُولُنَّ البتة اللَّهُ المتفرد بالخلق والإيجاد المتوحد بالالوهية والربوبية إذ لا يسع لهم العدول عنه لغاية ظهوره قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما سمعت قولهم هذا إلزاما وتبكيتا أَفَرَأَيْتُمْ وابصرتم عيانا او سمعتم بيانا ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ اى من هؤلاء المعبودات الباطلة التي أنتم تدعونها آلهة سوى الله شركاء معه في أخص أوصافه الهم قوة المقاومة وقدرة المخاصمة معه سبحانه مثلا إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ وجرى حكمه على ان يمسني بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ اى آلهتكم هذه كاشِفاتُ ضُرِّهِ سبحانه عنى على سبيل المعارضة أَوْ أَرادَنِي الله بِرَحْمَةٍ فائضة من عنده علىّ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ حيث يمنعونها عنى ويدفعون وصولها الى وبعد ما بهتوا وسكتوا عند سماع هذه المقالة نادمين قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض التوحيد واليقين خاليا عن امارات الريب والتخمين حَسْبِيَ اللَّهُ الواحد الأحد الكافي لمهام عموم الأنام الرقيب عليهم في جميع حالاتهم إذ عَلَيْهِ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ المؤمنون المفوضون أمورهم كلها اليه حيث يتخذونه وكيلا ويعتقدونه كافيا وكفيلا قُلْ لهم ايضا على سبيل التوبيخ والتهديد يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ اى على حالكم وشأنكم ما شئتم من الأعمال إِنِّي عامِلٌ ايضا على مكانتى وحالي ما شئت فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مآل ما تعملون وغايته واعلموا ان مَنْ يَأْتِيهِ منا ومنكم عَذابٌ يُخْزِيهِ ويرديه في الدنيا وَهو دليل على انه يَحِلُّ عَلَيْهِ ويلحق به في الآخرة عَذابٌ مُقِيمٌ دائم مؤبد مخلد فتربصوا حتى يأتى الله بامره ونحن نتربص ايضا. ثم قال سبحانه على وجه العظة والتأديب لحبيبه صلّى الله عليه وسلم إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَنْزَلْنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل الْكِتابَ الجامع المشتمل على عموم مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم لتكون أنت هاديا لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ مبلغا لهم جميع ما فيه من الوعد والوعيد فَمَنِ اهْتَدى ووفق على قبول ما فيه من الأوامر والنواهي فَلِنَفْسِهِ اى نفع هدايته واهتدائه عائد الى نفسه وَمَنْ ضَلَّ ايضا فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ويلحق وبال ضلالها كذلك وَبعد ما وضح الأمر لديك لا تتعب نفسك في هدايتهم إذ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ضمين لهدايتهم وتكميلهم بل ما عليك الا البلاغ وعلينا الحساب وكيف لا يكون حساب العباد على الله ولا يكون في قبضة

[سورة الزمر (39) : آية 42]

قدرته سبحانه إذ اللَّهُ المستوي على عروش عموم ما ظهر وبطن بالاستيلاء التام والقدرة الكاملة الشاملة يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ ويقطع حبل إمداده عليه حسب النفس الرحمانى حِينَ مَوْتِها اى حين تعلق ارادته سبحانه بقطع علقة إمداده عنها وإرجاعها الى ما كانت عليه من العدم وَكذا يتوفى الأنفس الَّتِي لَمْ تَمُتْ بعد اى لم يحكم عليها بقطع العلقة والإمداد عنها فِي مَنامِها اى يفرق ويفصل عنها ما هو مبدأ الآثار والأفعال وما يترتب عليها من التمييز والشعور من القوى والآلات بحيث يبقى رمق منها فيها فَيُمْسِكُ ويقبض سبحانه بعد الفصل والتوفي الأنفس الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ في سابق قضائه وحضرة علمه وَيُرْسِلُ الْأُخْرى ويعيدها الى أبدانها مرة بعد اخرى ويمهلها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معين مقدر عنده بقطع الإمداد والارتباط. وعن المرتضى الأكبر الأكرم كرم الله وجهه يخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجسد فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عاد الروح الى جسده بأسرع من لحظة ولهذا قيل ان أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله فإذا أرادت الرجوع الى الأجساد امسك الله أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأحياء الى أجسادها وبه ورد الحديث صلوات الله على قائله إذا أوى أحدكم الى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره فانه لا يدرى ما خلفه عليه ثم يقول باسمك ربي وضعت جنبي وبك ارفعه ان أمسكت نفسي فارحمها وان أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين إِنَّ فِي ذلِكَ التوفي والفصل والإمساك والإرسال لَآياتٍ ودلائل واضحات وشواهد لائحات على قدرة الصانع الحكيم القدير العليم لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في مقدوراته سبحانه ويشاهدون آثار قدرته عليها ويعتبرون منها وبعد ما سمع قريش كمال قدرة الله واستقلاله بالتصرفات الواقعة في ملكه وملكوته حسب ارادته واختياره ينبغي لهم ان يوحدوه سبحانه ويتخذوه وكيلا ويجعلونه حسيبا وكفيلا ومع ذلك لم يتخذوه ولم يوحدوه أَمِ اتَّخَذُوا بل أخذوا من تلقاء أنفسهم مِنْ دُونِ اللَّهِ اولياء من الأصنام والأوثان ظلما وزورا وسموه شُفَعاءَ عنده سبحانه لذلك يعبدونهم كعبادته قُلْ لهم يا أكمل الرسل إلزاما وتبكيتا أَوَلَوْ كانُوا اى أتتخذونهم شفعاء ايها الحمقى وتستشفعون منهم وتعبدون لهم ولو كانوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً من جلب النفع ودفع الضر وَلا يَعْقِلُونَ ولا يدركون مقاصدكم أصلا وبالجملة ما عبادتكم هذه إياهم الا وهم باطل وزور ظاهر بل خروج عن مقتضى العقل الفطري والفطنة الجبلية قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد لاح دونك غيهم وغباوتهم على وجه العظة والتذكير لعلهم يتنبهوا لِلَّهِ الواحد الأحد المحيط بالكل الشَّفاعَةُ جَمِيعاً اى مطلق الشفاعة مختصة لله مستندة اليه اصالة كائنة ناشئة فائضة من عنده بحيث لا يسع لاحد من اهل العناية ان يشفع بمجرم عنده سبحانه الا باذنه وكيف لا يكون كذلك إذ لَهُ وفي قبضة قدرته مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى عموم ما ظهر من العلويات والسفليات وما بينهما من الممتزجات فله التصرف فيها بالاستقلال والاختيار بلا مزاحمة أنداد واغيار ثُمَّ لو وقعت شفاعة من احد ممن اذن له الرحمن ورضى له قولا فإنما هي آئل ايضا اليه سبحانه إذ إِلَيْهِ لا الى غيره من العكوس والاظلال تُرْجَعُونَ رجوع الأضواء الى الشمس والأمواج الى البحر وَمن شدة قساوة المشركين وجهلهم بالله إِذا ذُكِرَ اللَّهُ الواحد الأحد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية وَحْدَهُ على ما كان عليه بلا مشاركة احد معه في الثبوت والوجود اشْمَأَزَّتْ اى انقبضت وضاقت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ

[سورة الزمر (39) : آية 46]

بالانكشاف التام في النشأة الاخرى المفنى لأظلال السوى والعكوس مطلقا وَإِذا ذُكِرَ آلهتهم الَّذِينَ يدعونهم مِنْ دُونِهِ سبحانه إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ اى فاجؤا واسرعوا عند ذكر آلهتهم الباطلة الى البسط والاستبشار قُلِ يا أكمل الرسل عند يأسك عنهم وعن ايمانهم وتنبههم مسترجعا الى ربك مفوضا الأمور كلها اليه سبحانه سيما امور هؤلاء الضلال المعاندين اللَّهُمَّ يا فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ومظهرهما من كتم العدم بالإرادة والاختيار يا عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ على التفصيل بحيث لا يعزب عن حيطة علمك مثقال ذرة من ذرات ما لمع عليه برق وجودك بمقتضى كرمك وجودك أَنْتَ بذاتك حسب شئونك وتطوراتك تَحْكُمُ وتقضى بَيْنَ عموم عِبادِكَ سيما هؤلاء الضالين وبيني فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ معى في امر الدين القويم المنزل على من عندك والكتاب الكريم المبين طريق توحيدك. ثم قال سبحانه تسجيلا على عدم قابليتهم واستعدادهم لقبول الحق وفيضان اسرار التوحيد وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بعد ما جبلوا على فطرة التوحيد من عند الله الحكيم واستبدلوا بالشقاوة لو حق وثبت لهم ملك ما فِي الْأَرْضِ من الامتعة والزخارف الامكانية جَمِيعاً بل وَمِثْلَهُ مَعَهُ بل أضعافه وآلافه معه لَافْتَدَوْا بِهِ في سبيل الله راجين النجاة مِنْ سُوءِ الْعَذابِ المعد لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ جزاء لاعمالهم لما حصل لهم هذا ولا نجاة لهم منه أصلا إذ لا يبدل القول منا ولا يغير الحكم لدينا بل وَبَدا لَهُمْ وظهر عليهم مِنَ اللَّهِ الحكيم ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ من قبله إذ هم عند الإتيان بفواسد الأعمال والعبادات على معبوداتهم زاعمون ترتب جزاء الخير عليها وقد العكس الأمر عليهم وَحين ظهر عليهم عكس المطلوب بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا اى تحقق عندهم كون أعمالهم التي قد أتوا بها سيئات كلها وَحينئذ حاقَ وأحاط بِهِمْ حجالة ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من الأمور الدينية والمعتقدات الاخروية الجارية على ألسنة الرسل والكتب في النشأة الاولى ولم ينفعهم الندم والخجالة حينئذ لانقضاء زمان إمكان التدارك والتلافي. ثم أشار سبحانه الى تزلزل الإنسان وعدم ثباته على العزيمة الخالصة نحو ربه فقال فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ ولحقه على وجه المساس ليكون منها له موقظا إياه عن سنة الغفلة ونوم النسيان ومذكرا له للتوجه والتحنن إلينا دَعانا لكشفه واستكشف عنا على وجه الإلحاح والاقتراح ثُمَّ بعد كشفنا عنه ضره إِذا خَوَّلْناهُ ووسعنا عليه نِعْمَةً تفضلا مِنَّا إياه وتكريما لنختبر كيف يشكر على حصول النعمة ودفع النقمة قالَ حينئذ على سبيل الكفران والطغيان إِنَّما أُوتِيتُهُ من النعم عَلى عِلْمٍ منى بوجوه كسبه وطرق جمعه وارباحه واخذه والمعنى ما أوتيت وأعطيت بما أوتيت الا بسبب سعيي وعلمي بوجوه جمعه وتحصيله لا من حيث لا احتسب وبالجملة هكذا يقول من الكلمات الدالة على الكفران والطغيان مع ان نعمته ما هي نعمة في أنفسها بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ابتلاء واختبار منا إياه لننظر أيشكر أم يكفر وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ولا يفهمون فتنتنا واختبارنا لذلك ينهمكون في بحر الكفران والطغيان وليس هذا القول مخصوصا لهؤلاء الكفرة التائهين في تيه الغفلة والكفران بل قَدْ قالَهَا اى الكلمة المخصوصة التي هي جملة انما أوتيته على علم عموم الكافرين المسرفين الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مثل قارون وغيره وبالجملة فَما أَغْنى ودفع عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الزخارف الدنياوية شيأ من عذاب الله حين أحاط بهم ونزل عليهم العذاب فكذا ما اغنى عن هؤلاء ايضا أمتعتهم شيأ من عذاب الله حين

[سورة الزمر (39) : آية 51]

أحاط بهم ونزل عليهم وحين حلوله بل فَأَصابَهُمْ اى الكفرة الماضين وأحاط بهم في النشأة الاولى سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا مثل الخسف والكسف والغرق ونحوها وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ المستخلفين عنهم القائلين بقولهم يعنى قريشا خذلهم الله سَيُصِيبُهُمْ عن قريب سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أمثال أولئك الهالكين وَما هُمْ اى هؤلاء المسرفون المفسدون بِمُعْجِزِينَ الله القادر المقتدر على انواع التعذيب والانتقام فقتل صناديدهم يوم بدر وقحطوا سبع سنين. ثم وسع سبحانه عليهم الرزق ليتنبهوا ان مقاليد الأمور بيده او خزائن الرزق عنده ومع ذلك لم يتفطنوا أَوَلَمْ يَعْلَمُوا ولم يتنبهوا أَنَّ اللَّهَ المتكفل لأرزاق عباده يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ من عباده ويوسع عليه وَيَقْدِرُ اى يقبض عن من يشاء ارادة واختيارا على مقتضى علمه بتفاوت استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية الفائضة عليهم من الحكيم الوهاب إِنَّ فِي ذلِكَ القبض والبسط المستلزمين لانواع الدقائق والرقائق الغير المحصورة في الأمور الإلهية لَآياتٍ وبراهين واضحات على حكمة القدير العليم لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بذات الله وكمال أوصافه وأسمائه وبعد ما تنبهوا على حقية الحق وتفطنوا بدلائل توحيده قُلْ لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا مناديا لهم على وجه الاختصاص مضيفا لهم إلينا عطفا ورفقا ولطفا يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ طول دهرهم قبل انكشاف الاغطية والسدل عن عيون بصائرهم لا تَقْنَطُوا وتيأسوا مِنْ فيضان رَحْمَةِ اللَّهِ عليكم سيما بعد كشف الغطاء ورفع الحجب والغشاء إِنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر عباده وعموم نياتهم يَغْفِرُ ويستره الذُّنُوبَ التي صدرت عنكم وقت غفلتكم جَمِيعاً وكيف لا يغفرها سبحانه إِنَّهُ بمقتضى ذاته وأوصافه وأسمائه هُوَ الْغَفُورُ المقصور على الستر والعفو لعموم عباده سيما على اهل التوحيد منهم الرَّحِيمُ لهم يوصلهم بعد رفع الحجب الى مقر التجريد والتفريد وَبعد ما قد سمعتم سعة رحمة الحق وجميل عفوه ومغفرته أَنِيبُوا اى تقربوا وتوجهوا ايها المجبولون على فطرة الإسلام إِلى رَبِّكُمْ الذي رباكم لمصلحة المعرفة والتوحيد وَأَسْلِمُوا لَهُ وانقادوا لأوامره واجتنبوا عن نواهيه بالعزيمة الخالصة عن كدر الرعونات وشين الشهوات والغفلات مطلقا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ الموعود في يوم الجزاء ثُمَّ بعد نزوله وإتيانه لا تُنْصَرُونَ اى حينئذ لا يسع لكم التدارك والتلافي لانقضاء زمان التوبة والرجوع وَبالجملة ان أردتم النجاة من العذاب اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ايها المكلفون على الدين المستبين ألا وهو القرآن الكريم المنزل على خير الأنام وأفضل الرسل الكرام وامتثلوا بجميع ما فيه من الأوامر والنواهي على وجه العزيمة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً فجاءة وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ من علاماته حتى تتداركوا وتحذروا منها وبالجملة احذروا من يوم هائل مهول مخافة أَنْ تَقُولَ في حلوله وألمامه نَفْسٌ وازرة منكم مقصرة عن الانابة والرجوع حين حلول العذاب عليها يا حَسْرَتى ويا ندامتا عَلى ما فَرَّطْتُ وقصرت فِي جَنْبِ اللَّهِ ورعاية جانبه وحقه في أطاعته وانقياده وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ اى فرطت في حقه سبحانه والحال انى قد كنت من الساخرين بالأنبياء الهادين والعلماء الراشدين المنبهين علىّ وبالجملة فندمت يومئذ فما ينفع الندم أَوْ تَقُولَ متحسرة على كرامة اهل العناية لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي ووفقني على التوبة والانابة نحوه كسائر أوليائه لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ المتحفظين نفوسهم عن الإفراط في

[سورة الزمر (39) : آية 58]

حق الله ورعاية جانبه أَوْ تَقُولَ متمنية مستبعدة حِينَ تَرَى الْعَذابَ يحل عليها لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً ورجوعا الى الدنيا مرة اخرى فَأَكُونَ حينئذ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله ويصدقون رسله وكتبه وانما تقول حينئذ ما تقول من كمال تحسرها على ما فات منها ومن شدة هول ما نزل عليها ثم قيل لها من قبل الحق ردا لقولها لو ان الله هداني لكنت من المتقين بَلى قد هداك الله فلم تهتد إذ قَدْ جاءَتْكَ آياتِي لهدايتك وارشادك على ألسنة رسلي فَكَذَّبْتَ بِها وبهم وَاسْتَكْبَرْتَ عليها وعليهم وَكُنْتَ حينئذ بسبب تكذيبك واستكبارك عليهم مِنَ الْكافِرِينَ الذين ستروا الحق الحقيق بالاطاعة والاتباع وأظهروا الباطل الزاهق فاتخذوه معبودا وعبدوا له ظلما وزورا عنادا واستكبارا وَبالجملة لا تبالوا ايها الموحدون بعتوهم واستكبارهم في هذه النشأة إذ يَوْمَ الْقِيامَةِ التي تبلى السرائر فيها تَرَى ايها المعتبر الرائي الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بإثبات الولد والشريك له افتراء ومراء وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ اى تراهم حال كونهم مسودي الوجوه إذ هم حينئذ ملازمو النار وملاصقوها وأنت ايها المعتبر الرائي تستبعد وتتعجب حينئذ عن حالهم هذا وبالجملة أَلَيْسَ يبقى فِي جَهَنَّمَ البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ الذين يتكبرون على الله وعلى أوليائه بأنواع الفسوق والعصيان والكذب والطغيان مع ان جهنم ما هي الا معدة لهؤلاء البغاة الطغاة الهالكين في تيه الكبر والعناد وَيُنَجِّي اللَّهُ المحسن المتفضل بمقتضى لطفه وجماله من اهوال يوم القيامة وافزاعها الَّذِينَ اتَّقَوْا عن محارم الله بِمَفازَتِهِمْ اى بفوزهم وفلاحهم المورث لهم فتح أبواب السعادات وانواع الخير والبركات لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ اى ينجيهم بحيث لا يعرضهم شيء يسوءهم في النشأة الاخرى وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فيها أصلا وكيف لا ينجى سبحانه أولياءه إذ اللَّهُ المحيط بعموم ما ظهر وبطن خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ومظهره من العدم بامتداد اظلال أسمائه وصفاته عليه وَهُوَ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مظاهره ومصنوعاته وَكِيلٌ يتولى امره ويحفظ عما يضره وكيف لا يكون كذلك إذ لَهُ سبحانه وفي قبضة قدرته وتحت حفظه وارادته مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مفاتيح العلويات والسفليان وما يتولد بينهما يتصرف فيها بالإرادة والاختيار ما شاء بلا منازع وخاصم وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وأنكروا دلائل توحيده واستقلاله في الآثار الصادرة منه سبحانه باختياره أُولئِكَ الأشقياء الضالون عن طريق التوحيد المنحرفون عن جادة العدالة هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الأبدي والحرمان السرمدي لا يرجى نجاتهم منه أصلا. ثم ان أرادوا يعنى قريشا خذلهم الله ان يخدعوك ويلبسوا عليك الأمر بان امروك باستلام بعض آلهتهم ليؤمنوا بإلهك قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل التعبير والتوبيخ أَفَغَيْرَ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الحقيق بالاطاعة والعبادة تَأْمُرُونِّي اى تأمروننى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ بالله وباستحقاقه للعبادة والانقياد بالأصالة وبكمال التوحيد والاستقلال. ثم قال سبحانه مقسما على سبيل التأكيد والمبالغة في التأديب تحريكا لحمية حبيبه صلّى الله عليه وسلّم وتثبيتا له على محبته وَالله لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل وَكذا قد اوحى ايضا إِلَى الرسل الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ أنت مع كمال ودادك ومحبتك وخلتك وكذا كل واحد منهم ايضا مع كمال محبتهم وخلوصهم في عباداتهم وأتيت أنت وكل منهم بشيء يلوح منه الإشراك المنافى للتوحيد

[سورة الزمر (39) : آية 66]

لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وعملهم وليضيعن البتة صالح عملك الذي جئت به ليفيدك وَلَتَكُونَنَّ حينئذ مِنَ الْخاسِرِينَ خسرانا مبينا فعليك ان لا تصاحب مع المشركين بحال ولا تقبل منهم قولهم ولا تمتثل أمرهم بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ اى بل إذا أردت العبادة والإطاعة المفيدة لك فاعبد الله خالصة خاصة ولا تلتفت الى غيره وَكُنْ في شأنك هذا مِنَ الشَّاكِرِينَ الصارفين لنعم الله الى ما خلق لأجله إذ هم اى الشاكرون انما جبلوا على فطرة العبادة والعرفان بالنسبة اليه سبحانه حتى اتخذوه وكيلا حسيبا وَاعلم يا أكمل الرسل ان المشركين الذين اتخذوا اولياء من دونه سبحانه وادعوا الوجود لهم وشركتهم معه سبحانه ما قَدَرُوا اللَّهَ اى ما وسعوا الحق باعتبار ظهوره بهذا الاسم المخصوص المستجمع لجميع الأسماء والصفات المعبر به عن الذات الاحدية كاسمه العليم لذلك لم يعرفوا حَقَّ قَدْرِهِ وقدر ظهوره وبطونه ولو وسعوا له وعرفوا حق قدره كما هو حقه لما اثبتوا له شريكا إذ كل من تحقق بوحدة الحق وكيفية سريانه على هياكل الاظلال والعكوس المنعكسة من أسمائه وأوصافه لم يبق عنده شائبة شك في ان لا تعدد في ذاته سبحانه ولا تكثر بل يتجلى ويتجدد في كل آن بشأن ولا شك ان كل ما ظهر من آثار الشئون المرئية المدركة بمشاهدة العيون فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وَمن جملة ما انعكس من بعض شئونه سبحانه الْأَرْضُ جَمِيعاً اى جميع ما يتراءى فيها وما يتولد عليها من الطبيعة والهيولى المنعكسة من التجليات الإلهية حسب اقتضاء آثار أسمائه الحسنى وأوصافه العليا ويتكون فيها قَبْضَتُهُ اى جميعها انما هي مقبوضة في كف قدرته يَوْمَ الْقِيامَةِ التي هي الطامة الكبرى التي قد انقهرت دونها اظلال السوى مطلقا وصارت مندكة في نفسها معدومة في حد ذاتها إذ لا وجود لها وَكذا السَّماواتُ انما هي يومئذ مَطْوِيَّاتٌ معطلات عن مقتضياتها التي هي الأفعال والحركات ساقطات في زوايا العدم على ما قد كانت عليها ازلا وابدا مقبوضات بِيَمِينِهِ وبقبضة قدرته الغالبة وبالجملة سُبْحانَهُ اى تنزه ذاته وتقدس أسماؤه تنزيها وتقديسا بديعا وَتَعالى شأنه عَمَّا يُشْرِكُونَ له غيره ظلما وزورا وَاذكر يا أكمل الرسل للمشركين يوم نُفِخَ فِي الصُّورِ لرد الأمانات التي هي الوجودات الباطلة الظلية الاضافية المترشحة من بحر الذات على هياكل الهويات فَصَعِقَ اى قد خر وسقط حينئذ مغشيا عليه من شدة فزعه وهو له عموم مَنْ فِي السَّماواتِ اى جميع العلويات وَكذا عموم مَنْ فِي الْأَرْضِ اى جميع السفليات خوفا من انقطاع الإمداد الإلهي حسب النفس الرحمانى إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ من المعتبرين الفانين في الله الباقين ببقائه فإنهم قد قامت قيامتهم على كل حال وفي كل شأن بلا ترتب وانتظار ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ايقاظا لهم عن سنة الغفلة ونعاس النسيان فَإِذا هُمْ قِيامٌ اى فاجؤا على القيام بعد ما صاروا مغشيا عليهم يَنْظُرُونَ حينئذ حيارى سكارى مبهوتين هائمين كأنهم صرعى مخبولين وَبعد ذلك قد أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها اى صارت الطبيعة والهيولى منورة بنور الله على ما كانت عليه قبل النفخ وَحينئذ عرضوا على الله ووُضِعَ الْكِتابُ اى مكتوب اعمال كل من النفوس الزكية والخبيثة بين أيديهم وحوسبوا حسب ما فيه وَبعد ما تم حسابهم وتنقيد أعمالهم جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ المبعوثين كل منهم الى امة من الأمم ليشهدوا على أممهم بما كانوا عليه في النشأة الاولى وَالشُّهَداءِ اى جئ بالشهداء العدول ايضا يعنى قد انطق الله عموم اركانهم وجوارحهم التي أتوا بها ما أتوا من خير وشر فيشهدن

[سورة الزمر (39) : آية 70]

عليهم وَبعد انكشاف أحوالهم وضبط أعمالهم قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وحكم على مقتضى العدالة الإلهية بلا حيف وميل وَهُمْ يومئذ لا يُظْلَمُونَ بالزيادة ولا بالنقصان ثوابا وعقابا بل يزاد ثوابهم ايضا ويضاعف حسناتهم تفضلا وامتنانا وَبالجملة قد وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ جزاء ما عَمِلَتْ من خير وشر وَكيف لا يوفى إذ هُوَ سبحانه أَعْلَمُ واحفظ منهم بِما يَفْعَلُونَ اى بعموم أفعالهم وأعمالهم الصادرة منهم صالحها وفاسدها نقيرها وقطميرها وَبعد ذلك سِيقَ سوق البهائم الى المسلخ عنفا وزجرا الَّذِينَ كَفَرُوا في النشأة الاولى بالإعراض عن الحق واهله إِلى جَهَنَّمَ الطرد والخذلان زُمَراً فوجا بعد فوج وطائفة اثر طائفة حَتَّى إِذا جاؤُها يعنى جهنم فُتِحَتْ لهم أَبْوابُها اى أبواب اودية النيران المعدة لأصحاب الكفر والطغيان على تفاوت طبقاتهم وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها حينئذ على سبيل التوبيخ والتقريع أَلَمْ يَأْتِكُمْ ايها الضالون المستحقون لهذا الوبال والنكال رُسُلٌ مِنْكُمْ ومن بنى نوعكم مبعوثون إليكم من قبل الحق يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ الدالة على وحدة ذاته وكمال قدرته على وجوه الانعام والانتقام وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا اى يحذرونكم ويخوفونكم عن لقاء هذا اليوم الهائل الذي تدخلون أنتم فيه النار بأنواع الحسرة والحرمان والخيبة والخذلان وبعد ما سمعوا منهم ما سمعوا قالُوا متحيرين متأسفين بَلى قد جاءنا رسل ربنا بالحق وتلوا علينا آياته المشتملة على انواع الإنذار والتبشير وَلكِنْ لم يفدنا إنذارهم وتبشيرهم إذ حَقَّتْ اى قد صدرت وثبتت حقا منه سبحانه في حضرة علمه وسابق قضائه حتما كَلِمَةُ الْعَذابِ وهي قوله سبحانه لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين عَلَى الْكافِرِينَ المعرضين عن الحق وآياته وعن من بلغها إليهم باذنه لذلك أعرضنا عنها وعنهم فوجبت لنا النار وبالجملة أتوا بالعذر وما ينفعهم بل قِيلَ لهم حينئذ من قبل الحق من وراء سرادقات العز والجلال ادْخُلُوا ايها الضالون المجرمون أَبْوابَ جَهَنَّمَ اى كل فرقة منكم بباب يخصها في سابق قضائنا وكونوا خالِدِينَ فِيها بحيث لا نجاة لكم منها ابدا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ اى الكافرين المستكبرين جهنم الخذلان وجحيم الحرمان والخسران. أعاذنا الله وعموم المؤمنين منها بفضله العظيم وَسِيقَ ايضا سوق الحمام الى المسرح سرورا وفرحا الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ يعنى عن محارمه بمقتضى أوامره ونواهيه الجارية على ألسنة رسله وكتبه إِلَى الْجَنَّةِ المعدة لفيضان انواع اللذات الروحانية على أهلها زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فرحين مسرورين وتحننوا نحوها سابقين وصادفوها مشتاقين وجدوها وَقد فُتِحَتْ لهم أَبْوابُها عناية من الله إياهم وَقالَ لَهُمْ حينئذ خَزَنَتُها ترحيبا وتكريما سَلامٌ عَلَيْكُمْ ايها المهديون المهتدون الذين قد طِبْتُمْ وطهرتم انفسكم في نشأة الاختبار ودار العبرة والاعتبار عن ادناس الشهوات وإكدار اللذات البهيمية العارضة للنفوس الخبيثة من المألوفات الطبيعية فَادْخُلُوها اى الجنة المشتملة على انواع الكرامات واصناف السعادات وكونوا خالِدِينَ فيها ابد الآبدين بلا نقل ولا تحويل اى الى ما شاء الله لأهل العناية من الدرجات العلية التي لا تكتنه ولا توصف وَبعد ما تمكنوا في مقر العز والحضور قالُوا مسترجعين الى الله عادين موائد انعامه وإحسانه على أنفسهم مواظبين مقيمين لأداء حقوقها الْحَمْدُ والمنة لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ اى جميع ما وعدنا الله به في النشأة الاولى بوحيه النازل على ألسنة أنبيائه ورسله

[سورة الزمر (39) : آية 75]

من المعتقدات الاخروية وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ اى المقر المعهود الذي قد بشرنا به الرسل الكرام ألا وهي ارض الجنة لأهل العناية من سوابق الايمان والمعرفة والأعمال الصالحة الصادرة منهم في دار الاختبار ومكننا فيه بحيث نَتَبَوَّأُ وننزل مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ يعنى ينزل ويستريح كل منا حيث شاء وأراد من المقامات البهية والدرجات العلية بلا مضايقة وممانعة فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ المخلصين المخلصين نفوسهم عن اغوار الجهالات واودية الضلالات بنور الآيات البينات الواصلين الى روضة الرضا وجنة التسليم. رب اجعلنا بلطفك من ورثة روضة النعيم وَبعد ما قد تقرر اهل النار في النار واهل الجنة في الجنة تَرَى ايها المعتبر المنكشف بكمال عظمة الله وجلاله الْمَلائِكَةَ اى الأسماء والصفات الإلهية عبر عنها سبحانه بالملائكة المهيمين المستغرقين بمطالعة وجهه الكريم حَافِّينَ صافين محدقين محلقين مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ اى حول عرشه العظيم المستغنى عن عروش مطلق المظاهر والمجالى الكائنة في عالمي الغيب والشهادة إذ هو سبحانه بذاته غنى عن مطلق التعينات الطارية على شئونه وتطوراته لذلك يُسَبِّحُونَ وينزهون أولئك المهيمون ذاته سبحانه عن سمات الحدوث والإمكان مطلقا دائما ويواظبون بِحَمْدِ رَبِّهِمْ على ما وهب لهم المعرفة بعلو شأنه وسمو برهانه وباستغنائه في ذاته عن مطلق مظاهر أسمائه وأوصافه جميعا وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ اى هم يحمدونه ويثنون عليه سبحانه ايضا على عموم قضائه وحكمه وأحكامه الجارية بين عباده كلها بالحق بمقتضى العدل القويم وَبالجملة قِيلَ من قبل كل من يتأتى منه الرجوع اليه سبحانه والتوجه نحوه طوعا على الوجه الذي امر به ونبه عليه الْحَمْدُ المطلق المستوعب لعموم الاثنية والمحامد الصادرة عن ألسنة عموم المظاهر ثابت لِلَّهِ اى للذات المستجمع بجميع أوصاف الكمال بالاستحقاق والاستقلال رَبِّ الْعالَمِينَ بمقتضى توحده وانفراده فيكون جميع محامدهم مختصة به سبحانه إذ لا مربى لهم سواه ولا موجد لهم غيره. حققنا بكرمك بحق قدرك وبقدر حقيتك يا ذا القوة المتين خاتمة سورة الزمر عليك ايها المحمدي القاصد المتحقق المدرك بكمال عظمة الله وجلاله ان تتأمل في هذه السورة سيما في أواخرها وتتعمق فيها وفي كشف سرائرها ومرموزاتها وإشاراتها الخفية وعباراتها المنبهة على وحدة الحق وحقيته لينكشف لك انه لا يشغله شأن عن شأن ولا يقدر تحققه وقيوميته زمان ومكان بل هو كائن على ما قد كان في كل آن وشأن بلا مكيال زمان وآن واحياز ومكان وحين وأوان [سورة المؤمن] فاتحة سورة المؤمن لا يخفى على من ترقى من حضيض التقليد الى ذروة التوحيد ومن اودية الجهالات اللازمة للتعينات الامكانية الى أقصى درجات الإدراك وأعلاها ان أجل المعلومات وأولاها وأدق المعارف وأخفاها هو الاطلاع على وحدة الحق وتوحده في الذات والوجود وتكثره حسب الأسماء والصفات المقتضية للشؤن والتطورات الغير المحصورة كذلك اوحى سبحانه حبيبه بما اوحى من دلائل التوحيد وأوصاه بحفظ ما نزل عليه من الآيات المبينة لتلك الدلائل ليكون على ذكر منها فقال سبحانه مخاطبا له بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المعرب المفصح عن الذات الاحدية باعتبار التسمية ونشأة العبارة الرَّحْمنِ

الآيات

الدال على ثبوت عموم الأسماء والصفات لتلك الذات المؤثرة بها آثارا بديعة لا تعد ولا تحصى الرَّحِيمِ الدال على رجوع الكل إليها رجوع الاظلال الى الأضواء [الآيات] حم يا حامل الوحى ويا حاميه ويا ماحي الغير والسوى عن لوح الضمير ومانعه مطلقا تَنْزِيلُ الْكِتابِ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إليك يا أكمل الرسل تأييدا لك في أمرك وشأنك مِنَ اللَّهِ اى من الذات المعبر بهذا الاسم الجامع المحيط بعموم الأسماء والصفات الْعَزِيزِ المنيع الغالب ساحة عز حضوره عن ان يحوم حول وحيه شائبة الريب والتخمين الْعَلِيمِ الذي لا يعزب عن حيطة علمه شيء مما جرى عليه سابق قضائه غافِرِ الذَّنْبِ اى ساتر ذنوب الأنانيات الظاهرة من الهويات الحاصلة من انصباغ التعينات العدمية بصبغ الأسماء والصفات المنبسطة وَقابِلِ التَّوْبِ اى التوبة والرجوع على وجه الإخلاص والندم على اثبات الوجود لغيره سبحانه شَدِيدِ الْعِقابِ على من خرج عن ربقة عبوديته باسناد الحوادث الكائنة الى نفسه والى مثله في الحدوث والمخلوقية ذِي الطَّوْلِ والغنى الذاتي عن توحيد الموحد والحاد المشرك الملحد لأنه في ذاته لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ولا موجود سواه يعبد له ويرجع اليه في الخطوب إذ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ اى مرجع الكل اليه ورجوعه نحوه سواء وحده الموحدون وألحد في شأنه الملحدون المشركون أم لا. ثم قال سبحانه توضيحا وتصريحا لما علم ضمنا ما يُجادِلُ ويكابر فِي آياتِ اللَّهِ وفي شأن دلائل وحدته واستقلاله في الآثار المترتبة على شئونه وتجلياته إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وستروا ظهور شمس الذات وتحققها في صفحات الكائنات بغيوم هوياتهم الباطلة وتعيناتهم العاطلة فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ اى لا يغررك يا أكمل الرسل امهالنا إياهم يتقلبون في بلاد الإمكان وبقاع الهيولى والأركان عن امهالنا إياهم وعدم انتقامنا عنهم بالطرد الى هاوية العدم وزاوية الخمول وان كذبوك يا أكمل الرسل في دعوتك وشأنك وعاندوا معك في برهانك فاصبر على أذاهم وتذكر كيف كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ أخاك نوحا وكيف صبر هو على اذياتهم مدة مديدة حتى ظفر عليهم حين ظهر أمرنا وجرى حكمنا بأخذهم واستئصالهم بالمرة وَانظر ايضا كيف كذبت الْأَحْزابُ والأمم الكثيرة مِنْ بَعْدِهِمْ اى بعد قوم نوح رسلهم المبعوثين إليهم للهداية والإرشاد وَبالجملة قد هَمَّتْ وقصدت كُلُّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية بِرَسُولِهِمْ المرسل إليهم لِيَأْخُذُوهُ ويأسروه بل ليقتلوه او يستحقروه ويهينوه وَجادَلُوا أولئك الهالكون المنهمكون في تيه الكبر والعناد مع الأنبياء والرسل بِالْباطِلِ الزاهق الزائل في نفسه لِيُدْحِضُوا ويزيلوا بِهِ الْحَقَّ الحقيق بالاطاعة والاتباع فَأَخَذْتُهُمْ واستأصلتهم بعد ما أمهلتهم زمانا يعمهون في طغيانهم ويترددون في بنيانهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ إياهم حين حل عليهم ما حل من العذاب وَبالجملة كَذلِكَ ومثل ذلك قد حَقَّتْ ثبتت ونزلت كَلِمَةُ رَبِّكَ يا أكمل الرسل في حضرة علمه ولوح قضائه عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا اى على عموم الكفرة الجهلة المعاندين بك وبدينك وكتابك ايضا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ اى ملازموها وملاصقوها ابد الآباد ولا نجاة لهم منها فلا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون. ثم أشار سبحانه الى حث المؤمنين الموحدين على مواظبة الايمان ومداومة الشكر على الانعام فقال الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ألا وهم الكروبيّون الذين سبقوا بحمل العرش الإلهي وحفظ ما انعكس فيهم من تجلياته الجمالية والجلالية بدوام المراقبة والمطالعة

[سورة غافر (40) : آية 8]

بوجهه الكريم وَكذا مَنْ حَوْلَهُ من الملائكة الذين يطوفون حول العرش ويقتفون اثر أولئك الحملة السابقين كلهم سابقا ولا حقا يُسَبِّحُونَ وينزهون الحق عن سمات الحدوث والإمكان ويقدسونه عن وصمة السهو والنسيان إذ كمال ما يدرك المدرك منه سبحانه انما هو التسبيح والتقديس والا فالامر أعز وأعلى من ان يحيط به الآراء ويحوم حول سرادقات عزه وعلائه الأهواء ويواظبون بِحَمْدِ رَبِّهِمْ على ما أولاهم نعمة التوجه اليه والتحنن نحوه وَبالجملة يُؤْمِنُونَ بِهِ سبحانه وبوحدة ذاته ويعتقدون بأوصافه العليا وأسمائه الحسنى وان عجزوا عن درك كنه ذاته وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا اى يطلبون الستر والعفو منه سبحانه لذنوب إخوانهم الذين آمنوا بوحدة الحق وبكمالات أسمائه وصفاته مثل ايمانهم سواء كانوا سماويين او ارضيين مناجين مع ربهم حين استغفارهم قائلين رَبَّنا يا من ربانا على فطرة تسبيحك وتقديسك ومداومة حمدك وثنائك أنت بذاتك وبمقتضى كرمك وجودك قد وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً اى وسعت رحمتك وأحاطت حضرة علمك على كل ما لمع عليه بروق تجلياتك وشروق شمس ذاتك فَاغْفِرْ بسعة رحمتك وجودك لِلَّذِينَ تابُوا اى عموم عبادك الذين رجعوا وأنابوا نحو بابك نادمين وامح عن عيون بصائرهم سدل رؤية الغير والسوى في جنب جنابك وَمع رجوعهم وانابتهم نحوك اتَّبَعُوا بالعزيمة الصادقة الخالصة حسب حولك وقوتك سَبِيلَكَ الذي قد أرشدتهم اليه وهديتهم نحوه بوحيك على رسلك وَقِهِمْ بلطفك واحفظهم بسعة رحمتك وجودك عَذابَ الْجَحِيمِ المعد لأصحاب الخذلان والخسران رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ بفضلك ولطفك جَنَّاتِ عَدْنٍ اى منزهات العلم والعين والحق الَّتِي وَعَدْتَهُمْ في كتبك بعموم ارباب العناية من عبادك وَادخل ايضا مَنْ صَلَحَ من عندك بفيضان جودك وإحسانك مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ التي قد تناسلت منهم على فطرة التوحيد وحلية الايمان والعرفان إِنَّكَ بذاتك وأسمائك وصفاتك أَنْتَ الْعَزِيزُ المنيع ساحة عز حضورك عن ان يحوم حوله شائبة وهم احد من مظاهرك ومصنوعاتك الْحَكِيمُ المتقن في عموم افعالك الصادرة منك على كمال الاحكام والإتقان وَقِهِمُ بمقتضى حكمتك المتقنة السَّيِّئاتِ عن مطلق الجرائم والآثام المستتبعة لإدخالهم الى دركات النيران وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ اى ومن تحفظه بمقتضى لطفك وتوفيقك عن المعاصي في النشأة الاولى فَقَدْ رَحِمْتَهُ البتة في النشأة الاخرى وَذلِكَ اى وقايتك وحفظك إياهم عن اسباب الخذلان والحرمان هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والكرم العميم واللطف الجسيم. ثم أشار سبحانه الى تفضيح من كفر بالله وكذب بما نزل من عنده من الأوامر والنواهي الجارية بمقتضى وحيه على ألسنة رسله وكتبه في النشأة الاولى فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأنكروا بوحدة ذاته وسريان هويته الوحدانية الذاتية على جميع مظاهر الكائنات حسب شئون الأسماء والصفات بان أشركوا فيه سبحانه واثبتوا وجود الغير وادعوا ترتب الآثار عليه يُنادَوْنَ في الطامة الكبرى والنشأة الاخرى حين ظهر الحق واستقر على مقر العز والتمكين بكمال الاستقلال والاستحقاق وانقهر الباطل الزاهق الزائل واضمحل التلوين والتخمين لَمَقْتُ اللَّهِ اى طرده وتحريمه وتخذيله لكم اليوم أَكْبَرُ واقظع مِنْ مَقْتِكُمْ وتخذيلكم وتحريمكم أَنْفُسَكُمْ عن موائد لطفه وإحسانه سبحانه وقت إِذْ تُدْعَوْنَ أنتم بألسنة الأنبياء والرسل باذن الله ووحيه إِلَى الْإِيمانِ به وبتوحيده

[سورة غافر (40) : آية 11]

فَتَكْفُرُونَ أنتم بالله حينئذ وتسترون شروق شمس ذاته بغيوم هوياتكم الباطلة جهلا وعنادا بل تشركون له في الألوهية وتعبدون لغيره كعبادته سبحانه وبعد ما سمعوا من النداء الهائل المهول قالُوا بألسنة استعداداتهم متحسرين متضرعين رَبَّنا يا من ربانا على فطرة معرفتك وتوحيدك فكفرنا بك وأشركنا معك غيرك وقد ظهر لنا اليوم حقية ما ورد علينا من قبل لكن بعد ما قد أَمَتَّنَا وافيتنا في هويتك اثْنَتَيْنِ مرة في النشأة الاولى بانقضاء الأجل المقدر من عندك ومرة في النشأة الاخرى بعد النفخة الاولى وَكذا قد أَحْيَيْتَنَا وابقيتنا ببقائك مرتين اثْنَتَيْنِ مرة عند حشرنا من أجداث طبائعنا ومرة بعد النفخة الثانية للعرض والجزاء وبعد ما قد لاح علينا من دلائل توحيدك وكمال قدرتك وقوتك ما لاح فَاعْتَرَفْنا الآن بِذُنُوبِنا التي قد صدرت عنا من غاية غفلتنا ونهاية جهلنا بك وبقدرتك ووحدة ذاتك واستقلالك في عموم آثارك الصادرة عنك بالإرادة والاختيار وبالجملة قد صدر عنا ما صدر وقد وقع ما وقع فَهَلْ يبقى لنا اليوم مجال إِلى خُرُوجٍ مِنْ عذابك الذي أعددت لنا في سابق قضائك بمقتضى عدلك حسب جرائمنا وآثامنا من سَبِيلٍ موصل الى الخلاص والنجاة منه ثم بعد ما تضرعوا من شدة هولهم وفظاعة أمرهم ما تضرعوا نودوا من وراء سرادقات القهر والجلال ذلِكُمْ اى العذاب الذي أنتم فيه اليوم ايها الضالون بِأَنَّهُ اى بسبب انه إِذا دُعِيَ وذكر اللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء عندكم وَحْدَهُ اى على صرافة وحدته واستغنائه عن العالم وما فيه قد كَفَرْتُمْ به وانكرتم وجوده وبكمال أوصافه وأسمائه الذاتية وكذبتم رسله المبعوثين إليكم للتبليغ والتبيين وَقد كنتم أنتم من شدة بغيكم وعنادكم إِنْ يُشْرَكْ بِهِ ويثبت له شركاء دونه ظلما وزورا تُؤْمِنُوا وتقروا البتة بالشركاء وتعتقدوا وجودها وتصدقوا من تفوه بها فَالْحُكْمُ المحكم والقضاء المحتم المبرم اليوم ثابت لِلَّهِ المنزه ذاته عن ان يتردد في وحدته فكيف ان يشرك به الْعَلِيِّ الغنى شأنه عن ايمان المؤمن وكفر الكافر الْكَبِيرِ المتعالي وحدة ذاته عن ان يحوم حوله اقدام الإقرار والإنكار وكيف تنكرون سبحانه وتشركون معه غيره ايها المفسدون المفرطون مع انه سبحانه هُوَ الله الكامل في الألوهية والربوبية الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ الدالة على وحدة ذاته وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ اى سماء الأسماء المربية لأشباحكم من لدنه رِزْقاً صوريا ومعنويا تتميما لتربيتكم وتكميلكم وَما يَتَذَكَّرُ ويتعظ منكم بآياته إِلَّا مَنْ يُنِيبُ اليه ويرجع نحوه طالبا الترقي من حضيض التقليد والتخمين الى ذروة التحقيق واليقين وإذ سمعتم كمال تربيته وتكميله سبحانه فَادْعُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد وتوجهوا نحوه واعبدوه حق عبادته ايها المكلفون بمعرفته وتوحيده حال كونكم مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ اى حاصرين مخصصين له الإطاعة والانقياد بلا رؤية الوسائل والأسباب العادية في البين وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ المكابرون إطاعتكم إياه ورجوعكم اليه هذا على وجه الإخلاص والاختصاص وكيف لا يدعون ولا يعبدون له سبحانه مع انه هو في ذاته رَفِيعُ الدَّرَجاتِ يعنى درجات قربه ووصوله رفيعة وساحة عز حضوره منيعة لا يسع لكل قاصد ان يحوم حولها الا بتوفيق منه سبحانه وجذب من جانبه ذُو الْعَرْشِ العظيم إذ لا ينحصر مقر استيلائه وظهوره بمظهر دون مظهر ومجلى دون مجلى بل له مجالي ما شاء الله وكيف لا وهو سبحانه بمقتضى تجليه الجمالي يُلْقِي الرُّوحَ على وجه الامانة ويمد ظلال أوصافه

[سورة غافر (40) : آية 16]

وعكوس أسمائه مِنْ عالم أَمْرِهِ بمقتضى حبه الذاتي عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ اى اى على استعدادات مظاهره المستظلين تحت ظلال أسمائه وصفاته الممدودة المنبسطة عليهم وبعد القائه ومده إياهم قد كلفهم بما كلفهم من الأوامر والنواهي المصححة للعبودية اللازمة للالوهية والربوبية وانما كلفهم بما كلفهم لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ اى ليخوفهم ويحذرهم عن خجالة زمان الوصول والرجوع الى ربهم في النشأة الاخرى والطامة الكبرى التي تردّ فيها الأمانات الى أهلها على وجهها إذ هو يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ خارجون عن أجداث اجسادهم منخلعون عن خلعة تعيناتهم راجعون الى الله جميعا بأرواحهم محشورون عنده معروضون عليه بحيث لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ المحيط بهم مِنْهُمْ شَيْءٌ لا من أعيانهم وذواتهم ولا من أعمالهم وأحوالهم ونياتهم وبعد ما قد برزوا لله ورجعوا نحوه صائرين اليه فانين فيه قيل حينئذ من قبل الحق بعد فناء الكل فيه إظهارا لكمال قدرته واستقلاله في حوله وقوته وسطوة سلطنته وبسطته حسب وحدته لِمَنِ الْمُلْكُ اى ملك الوجود والتحقق والثبوت فأجيب ايضا من قبله بعد ما تحقق ان الْيَوْمَ لا موجود فيه سواه ولا شيء غيره حتى يجيب لِلَّهِ الْواحِدِ الأحد من كل الوجوه الْقَهَّارِ المعدم المحيّاء لنقوش السوى والأغيار وعكوس عموم الاظلال والأمثال عن دفتر الوجود ومشهد الشهود وبعد ما قد استقر واستوى سبحانه على الملك المطلق بالأصالة والاستحقاق وعلى عروش عموم ما قد كان ويكون في أزل الآزال وابد الآباد أشار الى سرائر ما ظهر منه من الأوامر والنواهي في النشأة الاولى فقال الْيَوْمَ اى يوم الجزاء والنشأة الاخرى تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ اى طبق ما كسبت واقترفت في النشأة الاولى التي هي نشأة التكليف والاختبار بلا ازدياد عليه ولا تنقيص عنه إذ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ اى يوم الجزاء لأنه انما وضع لتظهر فيه العدالة الإلهية والقسط الحقيقي بل تجزى فيه كل من النفوس حسب ما صدر عنها خيرا وشرا نفعا وضرا إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم ما ظهر وبطن من احوال عباده سَرِيعُ الْحِسابِ عليهم بلا فترة وتلبس إذ لا يشغله شأن عن شأن ولا يطرأ عليه سهو ونسيان وَبالجملة أَنْذِرْهُمْ وحذرهم يا أكمل الرسل يعنى عموم المكلفين يَوْمَ الْآزِفَةِ اى القرب والمشارفة على العذاب الأبدي حين احضروا على شفير جهنم للطرح فيها إِذِ الْقُلُوبُ اى قلوب أولئك المحضرين ترتفع وتعلو حينئذ لَدَى الْحَناجِرِ يعنى تلتصق يومئذ قلوبهم بحلاقيمهم من شدة هولهم واضطرابهم وقد كانوا حينئذ كاظِمِينَ مملوين من الكآبة والحزن المفرط وانواع الغموم والخذلان وبالجملة ما لِلظَّالِمِينَ المفسدين المسرفين حينئذ مِنْ حَمِيمٍ قريب قرين يدركهم ويتولى أمرهم ويسعى في استخلاصهم وَلا شَفِيعٍ لهم يُطاعُ اى يسمع شفاعته لأجلهم ويقبل منه مع انه سبحانه يَعْلَمُ منهم بعلمه الحضوري خائِنَةَ الْأَعْيُنِ اى خيانتهم التي يتغامزون بعيونهم نحو محارم الله بلا خيانة صدرت عنهم ظاهرا فكيف بما أتوا بها جهرا وعلانية وَبالجملة يعلم سبحانه منهم عموم ما تُخْفِي الصُّدُورُ اى صدورهم من ميل الشهوات المحرمة بلا مباشرة الآلات وَبالجملة اللَّهُ المطلع بظواهرهم وضمائرهم يَقْضِي ويحكم بهم ويجازى عليهم بمقتضى علمه وخبرته من أعمالهم وأحوالهم بِالْحَقِّ على الوجه الأعدل الاقسط بلا حيف وميل إظهارا لكمال عدالته وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ سبحانه من الأصنام والأوثان لا يَقْضُونَ ولا يحكمون لا لهم ولا عليهم يعنى آلهتهم بِشَيْءٍ من نفع وضر وخير وشر إذ هي جمادات هلكى لا شعور لها إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر

[سورة غافر (40) : آية 21]

على انواع الانعام والانتقام هُوَ السَّمِيعُ لجميع ما صدر من ألسنة استعداداتهم الْبَصِيرُ بعموم ما لاح وظهر على هياكلهم وهوياتهم. ثم أشار سبحانه الى تقريع اهل الزيغ والضلال وتفضيح اصحاب العناد والجدال فقال مستفهما مستبعدا مستنكرا إياهم أَينكرون أولئك المعاندون المفرطون قدرتنا على أخذهم وانتقامنا عنهم وَلَمْ يَسِيرُوا ولم يسافروا فِي الْأَرْضِ الموروثة لهم من أسلافهم الذين قد أسرفوا على أنفسهم أمثالهم فَيَنْظُرُوا بنظر التأمل والاعتبار ليظهر عندهم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المفسدين المسرفين الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ مستقرين عليها متمكنين فيها مترفهين أمثالهم بل قد كانُوا هُمْ اى أسلافهم أَشَدَّ مِنْهُمْ اى من هؤلاء الأخلاف الأجلاف قُوَّةً وقدرة واكثر أموالا وَآثاراً فِي الْأَرْضِ حصونا وقلاعا وأخاديد وغير ذلك مما صدر من ذوى الأحلام السخيفة المقيدين بسلاسل الحرص وأغلال الآمال الطويلة أمثال انباء زماننا هذا ومع ذلك ما اغنى عنهم مخايلهم وأموالهم شيأ من غضب الله وعذابه حين حل عليهم لا دفعا ولا منعا بل فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ المنتقم الغيور منهم بِذُنُوبِهِمْ التي صدرت عنهم على سبيل البطر والغفلة فاستأصلهم بالمرة وَبالجملة ما كانَ لَهُمْ حينئذ مِنْ عذاب اللَّهُ المقتدر الغيور وبطشه مِنْ واقٍ حفيظ لهم يمنع عذاب الله عنهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ اى ما ذلك البطش والانتقام الا بسبب انهم من شدة عتوهم وعنادهم قد كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ من قبل الحق مؤيدين بِالْبَيِّناتِ الواضحة والبراهين القاطعة من انواع الآيات والمعجزات الساطعة فَكَفَرُوا بالله وبهم أمثال هؤلاء التائهين في بيداء الغفلة والغرور وأنكروا على حججهم وبيناتهم ونسبوها الى السحر والشعبذة ولهذا قد أظهروا على رسل الله بأنواع المكابرة والعناد فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ القدير الحكيم الحليم العليم بكفرهم وعتوهم بعد ما امهلهم زمانا يترددون فيما يرومون ويقصدون فيه وكيف لا يأخذهم سبحانه إِنَّهُ قَوِيٌّ مطلق ومقتدر كامل سيما على من ظهر عليه وخرج عن ربقة عبوديته شَدِيدُ الْعِقابِ صعب الانتقام اليم العذاب على من كذب وتولى عن رسله الكرام وَاذكر يا أكمل الرسل لَقَدْ أَرْسَلْنا من مقام عظيم جودنا أخاك مُوسى الكليم وأيدناه بِآياتِنا القاطعة الساطعة الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ اى بحجة واضحة دالة على صدقه في رسالته ودعوته إِلى فِرْعَوْنَ الباغي الطاغي الذي قد بالغ في العتو والعناد حيث تفوه بكلمة أنا ربكم الأعلى وَهامانَ المصدق لطغيانه المعاون على عتوه وعدوانه وَقارُونَ المباهي بالثروة والغنى على اقرانه وعموم اهل عصره وزمانه وبعد ما قد بلغ الكليم الدعوة إليهم واظهر المعجزة عندهم وعليهم فَقالُوا بلا مبالاة وبلا تردد وتأمل فيما سمعوا وشاهدوا منه ما هذا المدعى الا ساحِرٌ في عموم بيناته كَذَّابٌ في جميع دعوته يعنى فاجؤا على التكذيب والإنكار بلا مبالاة به وبشأنه وأصروا على ما هم عليه من العتو والاستكبار فَلَمَّا جاءَهُمْ موسى ملتبسا بِالْحَقِّ مؤيدا مِنْ عِنْدِنا وآمن له بنوا إسرائيل حين عاينوا منه الآيات الكبرى والبينات العظمى قالُوا يعنى فرعون اصالة وملئه تبعا لأعوانهم واتباعهم اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يعنى أعيدوا على بنى إسرائيل الزجر الشنيع الذي قد كنتم تفعلون معهم من قبل وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ للزواج والوقاع تعييرا عليهم وتقريعا مستلزما لانواع الاهانة والاستحقار يعنى انهم قد قصدوا المقت والمكر على أولئك المؤمنين بقولهم هذا وَ

[سورة غافر (40) : آية 26]

هم ما فطنوا انهم هم الممقوتون الممكورون حقيقة إذ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ وما مكرهم وحيلتهم حيث كادوا ومكروا على اهل الحق إِلَّا فِي ضَلالٍ اى هلاك وبوار وضياع وخسار لذلك لم ينالوا على ما قصدوا وأملوا بل قد عاد عليهم ولحق بهم تلك الوبال والنكال بأضعاف ما قصدوا إياهم ومكروا لأجلهم وَبعد ما قد ظهر شأن موسى الكليم وعلا قدره وانتشر بين الناس حجته وبرهانه قالَ فِرْعَوْنُ لملائه وهم الذين قد قالوا له حين ظهر غلبة موسى على سحرته فقصد قتله لا تقتله حتى لا يظهر مغلوبيتك منه عند الناس مع انك تدعى الألوهية ذَرُونِي واتركوني على حالي أَقْتُلْ مُوسى الآن وحدي وَلْيَدْعُ رَبَّهُ لان يمنعني عن قتله او لأجله يعنى انا لا أبالي به وبربه بل إِنِّي أَخافُ عليكم انه لو لم اقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ وانقيادكم على بسحره أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ اى النهب والغارة في أطراف المملكة واكناف البلاد وان لم يقدر على تغيير دينكم وعقائدكم وَبعد ما قد وصل الى موسى الكليم ما قصد له العدو اللئيم قالَ مُوسى متوكلا على الله مفوضا عموم أموره اليه إِنِّي عُذْتُ والتجأت بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ الواحد الأحد الفرد الصمد المراقب على حفظ عباده الخلص ايها المؤمنون سيما مِنْ شر كُلِّ مُتَكَبِّرٍ متناه في الكبر والخيلاء بمقتضى اهويته الباطلة وآرائه الفاسدة إذ هو لا يُؤْمِنُ ولا يصدق بِيَوْمِ الْحِسابِ حتى يرتدع من أمثال هذه الجرأة على رسل الله وعلى خلص عباده فانه سبحانه يكفى عنى مؤنة شره وضره وَبعد ما قد صمم فرعون العزم لقتل موسى وجزم لمقته وهلاكه قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ موحد ما كان له اعتقاد بالوهية فرعون وان كان هو مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ومن شيعته وأقوامه لكن كان يَكْتُمُ إِيمانَهُ منهم أَتَقْتُلُونَ ايها المتكبرون المسرفون المفرطون رَجُلًا موحدا بمجرد أَنْ يَقُولَ بالله حقا رَبِّيَ اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشريك والنظير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وَالحال انه قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحة والمعجزات اللائحة مِنْ قبل رَبِّكُمْ الذي أوجدكم من كتم العدم وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ اى وبال كذبه عائد عليه ونكاله آئل اليه وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ البتة بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ به بمقتضى وحى الله والهامه إياه وبالجملة إِنَّ اللَّهَ الهادي لعباده الى سبيل الرشد لا يَهْدِي ولا يوفق على الهداية كل مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في فعله كَذَّابٌ في قوله فلا حاجة الى قتله ودفعه إذ قد يزهق عن قريب ان كان كاذبا ثم ناداهم وخاطبهم مضيفا لهم الى نفسه امحاضا للنصح واشتراكا معهم في يوم الوبال النازل عليهم فقال يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ اى ملك العمالقة مختصة لكم اليوم بلا منازع ولا مخاصم مع كونكم ظاهِرِينَ غالبين فِي اقطار الْأَرْضِ على عموم الناس الحمد لله والمنة فلا ترتكبوا فعلا جالبا لغضب الله عليكم بل اتركوا قتله والا بعد ما قد قتلتموه عدوانا وظلما فَمَنْ يَنْصُرُنا وينقذنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ المنتقم الغيور وعذابه إِنْ جاءَنا ونزل علينا بقتل هذا الصديق الصادق الصدوق في الدعوى والرسول المرسل من عند الله تبارك وتعالى لو نزل بنا كيف نرفعه وندفعه قيل هذا القائل المؤمن هو ابن عم فرعون وهو عنده من المقربين. ثم لما سمع فرعون كلامه المشتمل على محض العظة والنصيحة قالَ فِرْعَوْنُ على سبيل الطرح والتعريض ما أُرِيكُمْ وأشير إليكم في دفع هذا المدعى المفسد إِلَّا ما أَرى بموافقة عقلي واستصوبه رأيى واستقر عليه فكرى وهو ان نقتله لندفع شره وَاعلموا

[سورة غافر (40) : آية 30]

ايها الملأ ما أَهْدِيكُمْ بقولي هذا وهو امرى بقتله إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ الموصل الى نجاتكم وخلاصكم من مفسدة هذا المدعى الساحر وَبعد ما قد أكد فرعون امر القتل وبالغ في تصميم العزم قالَ الرجل الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ ناداهم وأضافهم الى نفسه إظهارا لكمال الاختصاص والشفقة إِنِّي بمقتضى عقلي أَخافُ عَلَيْكُمْ عذاب يوم هائل شديد مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ الهالكين المستأصلين بحلول عذاب الله عليهم فيه لان دأبكم وديدنتكم في الخروج عن حدود الله ومقتضيات امره وأحكامه والظهور على رسله وتكذيبكم إياهم ليس الا مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَمثل سائر المكذبين المسرفين المفرطين الَّذِينَ قد ظهروا على الرسل وكفروا به سبحانه مِنْ بَعْدِهِمْ فلحقهم من العذاب ما لحقهم وكذلك يحل عليكم مثل ما قد حل عليهم لو تقتفوا أثرهم بالخروج عن مقتضى الحدود الإلهية وَالا مَا اللَّهُ العليم الحكيم يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ المتحرزين عن مطلق الجرائم والآثام المنافية للحدود الإلهية فلا يعاقب من لا ذنب له ولا يحل عليه عذابه ثم ناداهم القائل الموحد ايضا على سبيل التأكيد والمبالغة تتميما لما يخفى في صدره من ترويج الحق وتقوية الرسل المرسلين به فقال وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ اى العذاب الموعود في يوم القيامة سميت به لتفرق الناس فيه وفرار كل منهم من أخيه وأبيه وامه وبنيه وأخاف ايضا يَوْمَ تُوَلُّونَ وتنصرفون عن موقف العرض والحساب مُدْبِرِينَ قهقرى هاربين فارين من كثرة الآثام والجرائم الجالبة لانواع العذاب وبالجملة تخيلوا ايها المسرفون وتخمنوا في نفوسكم ما لَكُمْ يومئذ مِنَ غضب اللَّهِ المنتقم الغيور ومن حلول عذابه عليكم مِنْ عاصِمٍ يعصمكم ويدفع عنكم عذابه وَبالجملة اعلموا انه مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ المضل حسب قهره وجلاله ويحمله على ما لا ينبغي له ولا يرضى منه سبحانه بل انما ابتلاه وحمله عليه فتنة واختيارا فَما لَهُ مِنْ هادٍ اى قد ظهر انه ما له هاد يهديه الى ما يعنيه ويليق بحاله ويرضى منه سبحانه ثم قال القائل المذكور تسجيلا على غيهم وضلالهم وَكيف تستبعدون نبوة هذا المدعى ورسالته من عند الله مع انه ليس ببدع منه بل لَقَدْ جاءَكُمْ على آبائكم واسلافكم يُوسُفُ بن يعقوب رسولا مِنْ قَبْلُ اى من قبل هذا المدعى مؤيدا من عند الله سبحانه بِالْبَيِّناتِ المبينة الموضحة لدعواه ورسالته مثل هذا المدعى المؤيد فَما زِلْتُمْ قد كنتم دائما مستمرا سلفا وخلفا فِي شَكٍّ وتردد مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من امر الدين وشأن التوحيد واليقين حَتَّى إِذا هَلَكَ ومات يوسف عليه السلام وانقرض زمانه قُلْتُمْ من شدة تعنتكم وعنادكم على سبيل الجزم بلا دليل وبرهان لاح عليكم لا نقلا ولا عقلا لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ ولن يرسل مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا مع انكم قد كنتم شاكين في رسالته ايضا بل في مطلق الرسالة والإنزال والاخبار من الله الواحد القهار كَذلِكَ اى مثل ضلالكم هذا يُضِلُّ اللَّهُ المضل حسب قهره وجلاله عموم مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في الخروج عن مقتضى الحدود الموضوعة لحفظ القسط الإلهي والاعتدال الحقيقي مُرْتابٌ متردد شاك فيما تثبته البينات الواضحة والمعجزات اللائحة وبالجملة المسرفون المكابرون الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده واستقلاله بالتصرفات الواقعة في ملكه وملكوته مع ان جدالهم هذا قد صدر عنهم بِغَيْرِ سُلْطانٍ اى بلا حجة قاطعة وبرهان واضح أَتاهُمْ على وجه الإلهام او الوحى والبيان وبالجملة قد كَبُرَ وعظم

[سورة غافر (40) : آية 36]

حالهم وشأنهم هذا مَقْتاً اى ليكون سببا لمقتهم وهلاكهم عِنْدَ اللَّهِ اصالة وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وبكمال قدرته على انواع الانعام والانتقام تبعا كَذلِكَ اى مثل ما سمعت يا أكمل الرسل من الإصرار والاستكبار يَطْبَعُ ويختم اللَّهِ العليم الحكيم عَلى كُلِّ قَلْبِ مجبول على الشقاوة والضلال في أزل الآزال مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ يمشى على الأرض خيلاء ويضر باهلها وانما امهله سبحانه هكذا ليوفر عليه العذاب المعد له ويخلده في نار القطيعة والحرمان ابدا الآباد وَبعد ما ظهر امر موسى وانتشر دينه بين الناس ودعوته الى الله الواحد الأحد الموجد للسموات العلى والأرضين السفلى ومالت النفوس اليه حسب فطرتها الاصلية لوضوح براهينه وسطوع معجزاته قالَ فِرْعَوْنُ مدبرا في دفع موسى متأملا في شأنه مشاورا مع وزيره آمرا له مناديا إياه يا هامانُ قد وقع ما نخاف منه من قبل ابْنِ لِي صَرْحاً بناء رفيعا ظاهرا عاليا من جميع الابنية والقصور لَعَلِّي بالارتفاع اليه والعروج نحوه أَبْلُغُ الْأَسْبابَ المؤيدة لأمر موسى يعنى أَسْبابَ السَّماواتِ والمؤثرات العلوية فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى واسأل منه امره أهو صادق في دعواه او كاذب وَإِنِّي بمقتضى عقلي ورأيى وفراستي لَأَظُنُّهُ كاذِباً ساحرا مفتريا على ربه ترويجا لسحره وتغريرا لضعفاء الأنام قيل امر ببناء رصد ليطلع على قوة طالع موسى وضعفه وَكَذلِكَ اى مثل ما سمعت قد زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ اى حسن الله له تدبيره الذي تأمل في دفع موسى ابتلاء منه سبحانه إياه وتضليلا وَصُدَّ وانصرف فرعون بأمثال هذه الأفكار الفاسدة عَنِ السَّبِيلِ السوى الموصل الى توحيد الحق وَبالجملة ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ ومكره الذي دبره لدفع موسى ما وقع إِلَّا فِي تَبابٍ هلاك وخسار وَبعد ما قد الزمهم القائل المذكور بأنواع الإلزام وأسكتهم بالدلائل القطعية واضطروا وتحيروا في شأن موسى ودفعه قالَ القائل الَّذِي آمَنَ له وكتم إيمانه منهم يا قَوْمِ ناداهم لينقلبوا اليه بكمال الرغبة اتَّبِعُونِ واستصوبوا رأيى واقبلوا قولي أَهْدِكُمْ انا سَبِيلَ الرَّشادِ وطريق الصدق والسداد يا قَوْمِ ما شأنكم وأمركم في دار الفتن والغرور ومنزلة الغفلة والثبور ومخايلكم بشأنها وما قراركم عليها وثباتكم فيها واعلموا إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ مستعار بلا قرار ومدار وبلا ثبوت واعتبار وَإِنَّ الْآخِرَةَ المعدة لذوي البصائر واولى الأبصار هِيَ دارُ الْقَرارِ واعلموا ايها المجبولون على فطرة التكليف ان مَنْ عَمِلَ في النشأة الاولى سَيِّئَةً جالبة لغضب الله مستتبعة لعذابه فَلا يُجْزى في النشأة الاخرى إِلَّا مِثْلَها بمقتضى العدل الإلهي وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مستجلبا لنعم الله مريدا لموائد كرمه سواء كان مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَالحال انه هُوَ مُؤْمِنٌ موقن بتوحيد الله مصدق لرسله وكتبه فَأُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ في النشأة الاخرى يُرْزَقُونَ فِيها رزقا صوريا ومعنويا رغدا واسعا بِغَيْرِ حِسابٍ اى بلا تقدير وموازنة مثل أرزاق الدنيا وقال القائل المذكور ايضا على سبيل الملاينة والمجاراة في صورة المناصحة والمقابلة ايقاظا لهم من سنة الغفلة بمقتضى المرحمة وتتميما للغرض المسوق له الكلام وَيا قَوْمِ ما لِي اى أى شيء عرض علىّ ولحق بي أَدْعُوكُمْ انا من كمال عطفي ومرحمتى إياكم إِلَى النَّجاةِ من عذاب الله ومن حلول قهره وغضبه عليكم والى دخول الجنة المشتملة على انواع اللذات الجسمانية والروحانية المعدة لأهل التوحيد والايمان وَأنتم تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ

[سورة غافر (40) : آية 42]

المعدة لأصحاب الخيبة والخذلان إذ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ الواحد الأحد الصمد المتفرد بالالوهية وأنكر وجوده واستقلاله فيه وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ اى أشرك به سبحانه شيأ لم يتعلق علمي بألوهيته وشركته مع الله لا يقينا ولا ظنا ولا وهما إذ هو جماد لا شعور له وَأَنَا أَدْعُوكُمْ بمقتضى الوحى الإلهي المنزل على رسل الله المؤيدين بالعقل الفطري المفاض لهم من لدنه ليرشدوا به خواص عباده سبحانه إِلَى الْعَزِيزِ القادر الغالب في امره بلا فتور وقصور الْغَفَّارِ الستار لنقوش السوى والأغيار مطلقا لا جَرَمَ قد حق وثبت حقا حتما ثابتا أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وتميلوننى نحوه لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ اى لا يتأتى منه لا الدعوة ولا الهداية ولا الإرشاد لا فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ إذ لا يتيسر للجماد دعوة الإنسان وتكليمه مطلقا وَبعد ما اتضح امر آلهتكم وعدم لياقتهم بالالوهية والربوبية قد ظهر أَنَّ مَرَدَّنا ومرجعنا يعنى انا وأنتم وسائر العباد والمظاهر عموما وخصوصا إِلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد الحقيق بالحقية اللائق بالالوهية والربوبية بلا توهم الشركة والنزاع رجوع الاظلال الى الأضواء والأمواج الى الماء وَقد ظهر ايضا أَنَّ الْمُسْرِفِينَ الخائضين في توحيده سبحانه بالهذيانات التي تركبها اوهامهم وخيالاتهم بلا تأييد من وحى الهى وعقل فطري هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها وملاصقوها لا نجاة لهم منها ابد الآباد وبالجملة فَسَتَذْكُرُونَ أنتم ايها الممكورون الممقوتون حين تعاينون وتدخلون النار ما أَقُولُ لَكُمْ على وجه النصح من شأن العذاب الموعود لكم في النشأة الاخرى وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا من الوعيدات الهائلة اضمروا في نفوسهم عداوته والإنكار عليه وقصدوا مقته ضمنا وَلما تفرس هو ايضا منهم السوء قال مسترجعا الى الله متوكلا عليه متحننا نحوه أُفَوِّضُ أَمْرِي اى امر حفظي وحضانتى من شروركم إِلَى اللَّهِ المراقب على محافظة عباده المتوكلين عليه المتوجهين نحو جنابه يكفى بمقتضى لطفه وجوده مؤنة شروركم عنى واساءتكم على إِنَّ اللَّهَ المقتدر العليم بَصِيرٌ بِالْعِبادِ الخلص وما تكنّه ضمائرهم من الإخلاص والاختصاص قيل قد فرّ منهم الى جبل فأرسل فرعون جماعة لطلبه فلحقوه وهو في الصلاة والوحوش حوله صافين حافين يحرسونه عما يضره فلم يظفروا عليه فرجعوا خائبين فقتلهم فرعون أجمعين وبالجملة فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا اى حفظه الله الرقيب المراقب عليه من شدائد مكرهم وإساءتهم عليه وَحاقَ وأحاط بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ النازل عليهم من عند الله العزيز الغيور ألا وهي النَّارُ المعدة لتعذيب اصحاب الشقاوة الازلية الابدية ولهذا يُعْرَضُونَ عَلَيْها يعنى فرعون وآله على النار حال كونهم في برزخ القبر ايضا غُدُوًّا وَعَشِيًّا دائما في جميع الأزمان والأحيان قبل انقراض النشأة الاولى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يحشرون من قبورهم صرعى مبهوتين قيل لهم حينئذ من قبل الحق بلا سبق كشف وتفتيش عن حالهم أَدْخِلُوا يا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ اى افزعه وأفظعه وأخلده او قيل للملائكة الموكلين عليهم لتعذيبهم ادخلوا ايها الملائكة آل فرعون أشد العذاب وأسوأ النكال والوبال وهو تخليدهم في نار القطيعة على القرائتين. ثم قال سبحانه وَاذكر يا أكمل الرسل للمعتبرين من المكلفين وقت إِذْ يَتَحاجُّونَ ويتخاصمون اى اصحاب النار فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ منهم من الأراذل والاتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لرؤسائهم ومتبوعيهم المستكبرين عليهم المستتبعين لهم في النشأة الاولى إِنَّا قد كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً في الدنيا بل أنتم اضللتمونا عن

[سورة غافر (40) : آية 48]

متابعة الرسل الهادين فَهَلْ أَنْتُمْ اليوم مُغْنُونَ دافعون مانعون عَنَّا نَصِيباً جزأ وشيأ قد صار حظنا مِنَ النَّارِ النازلة علينا بسبب اتباعنا إياكم واقتفائنا اثركم وتديننا بدينكم وخصلتكم قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا اى الرؤساء المتبوعون إِنَّا اى نحن وأنتم كُلٌّ منا معذبون فِيها اى في النار لا يتيسر لاحد منا ومنكم ان يدفع شيأ منها إِنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور قَدْ حَكَمَ بَيْنَ عموم الْعِبادِ بان ادخل بعضا منهم في الجنة بمقتضى فضله وبعضا في النار حسب عدله وبالجملة لا معقب لحكمه هذا وهو شديد المحال وَاذكر يا أكمل الرسل لأصحاب العبرة والاستبصار ما قالَ الَّذِينَ كفروا حال كونهم فِي النَّارِ محزونين صاغرين لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ وهي اعمق اماكن النار واغورها ادْعُوا رَبَّكُمْ ايها الخزنة حسبة لله واستشفعوا منه سبحانه لأجلنا وان لم يغفر لنا ولم يعف عن جرائمنا ولم يخرجنا من النار يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً اى مقدار يوم واحد مِنَ الْعَذابِ الدائم المستمر حتى نتنفس فيه ونستريح قالُوا اى الخزنة في جوابهم تهكما وتوبيخا على وجه التجاهل أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ ايها الحمقى الهالكون في تيه البعد والضلال رُسُلُكُمْ المبعوثون إليكم بِالْبَيِّناتِ الواضحة الدالة على قبول الإنذارات الصادرة من الله اصالة ومنهم تبعا وبعد ما سمعوا من الخزنة ما سمعوا قالُوا متأوهين متأسفين متحسرين بَلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء ان أنتم الا تكذبون قالُوا اى الخزنة بعد ما سمعوا ان أنتم الا في ضلال مبين فَادْعُوا على حالكم بلا استشفاع منا إذ نحن لا نجترئ بالشفاعة عنده والاستغفار منه سبحانه لأمثالكم إذ لا يقبل الدعاء منا ومنكم في مثل هذه الجرائم الكبيرة وَبالجملة ما دُعاءُ الْكافِرِينَ المصرين على كفرهم في النشأة الاولى التي هي دار الاختبار لاستخلاصهم في النشأة الاخرى التي هي دار القرار إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع وخسار بحيث لا يسمع من احد أمثال هذا الدعاء ولا يجاب له ولا يقبل منه. ثم قال سبحانه وعدا للمؤمنين وحثا لهم على تصديق رسل الله وكتبه إِنَّا من مقام عظيم جودنا ولطفنا لَنَنْصُرُ ونعاون رُسُلَنا الذين هم حملة وحينا وحفظة ديننا وَكذا المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا بهم واسترشدوا منهم طريق الهداية واجتنبوا بسببهم عن الغي والضلال فِي الْحَياةِ الدُّنْيا التي هي نشأة الفتن والاختبارات الإلهية بتوفيقهم على العمل الصالح وردعهم عن المفاسد والمنكرات وَننصرهم ايضا نصرة تامة يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ اى يوم القيامة التي يقوم فيها الشهود العدول من الملائكة والنبيين والمؤمنين لنصرة المؤمنين ومقت الكافرين وذلك يَوْمَ اى يوم لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية في النشأة الدنيا مَعْذِرَتُهُمْ التي أتوا بها يومئذ إذ قد انقضى حينئذ وقت التلافي والتدارك ومضى زمان الاختبار وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ يومئذ نازلة والطرد والتبعيد عن ساحة عز الحضور حاصل وَبالجملة لَهُمُ يومئذ سُوءُ الدَّارِ المعدة لأصحاب الخسار والبوار ألا وهي جهنم البعد والخذلان. أعاذنا الله وعموم عباده عنها. ثم قال سبحانه تسلية لحبيبه وتوطينا له على تحمل أعباء الرسالة الجالبة لانواع المكروهات من النفوس المجبولة على الشقاوة والضلال والتصبر على اذياتهم وَالله لَقَدْ آتَيْنا من كمال فضلنا وجودنا أخاك مُوسَى الكليم الْهُدى اى الشرائع والمعجزات الدالة على كمال الهداية والإرشاد الى سبيل الرشد والسداد وَبعد انقراض موسى قد أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ اى التوراة المنزل عليه وابقيناه بينهم ليكون هُدىً لهم هاديا الى ما هديهم موسى

[سورة غافر (40) : آية 55]

من الأمور الدينية وَليكون ذِكْرى اى عظة وتذكيرا يتذكرون بها الى ما يرومونه من المقاصد الدينية والمعالم اليقينية لا لكل احد من العوام بل لِأُولِي الْأَلْبابِ الألباء المستكشفين عن سرائر الأمور الدينية بمقتضى العقول المستقيمة المفاضة لهم من المبدأ الفياض ومع ذلك قد سمعت يا أكمل الرسل قصص أولئك الهالكين في تيه العتو والعناد وما جرى بينهم وبين الرسل المبعوثين إليهم من التحارب والتنازع المفضى الى أذى الأنبياء العظام والرسل الكرام فصبروا على أذاهم الى ان ظفروا عليهم بنصر الله إياهم وإعلاء دينه المنزل عليهم من لدنه سبحانه فَاصْبِرْ أنت ايضا يا أكمل الرسل على ما اصابك من اذيات هؤلاء الجهلة المستكبرين المعاندين معك وانتظر الى ما وعدك الحق من النصر والظفر وإعلاء دين الإسلام وإظهاره على الأديان كلها إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ العليم القدير الحكيم الخبير حَقٌّ ثابت محقق إنجازه ووفاؤه الا انه مرهون بوقته فسينصرك ويغلبك على عموم أعدائك عن قريب ويبقى آثار هدايتك وارشادك بين أوليائك الى النشأة الاخرى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ واشتغل في عموم أوقاتك بالاستغفار لفرطاتك ليكون استغفارك هذا سنة سنية لأمتك وَسَبِّحْ ايضا بِحَمْدِ رَبِّكَ في جميع أوقاتك وحالاتك إذ كل نفس من أنفاسك يستلزم شكرا منك سيما بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ اى في أول النهار وآخرها إذ هما وقتان خاليان عن تزاحم الاشتغال وتفاقم الآمال وبالجملة كن مع ربك في عموم احوالك واطوارك يكف عنك مؤنة جميع من عاداك وعاندك ويكف عنك إذا هم. ثم قال سبحانه إِنَّ المشركين المعاندين الَّذِينَ يُجادِلُونَ ويخاصمون معك يا أكمل الرسل فِي آياتِ اللَّهِ المنزلة عليك لتأييد دينك وشأنك على وجه المكابرة والعناد بِغَيْرِ سُلْطانٍ اى بلا حجة وبرهان أَتاهُمْ وفاض عليهم من قبل ربهم على طريق الوحى والإلهام بل إِنْ فِي صُدُورِهِمْ اى وما في قلوبهم شيء يبعثهم على المجادلة ويغريهم إليها إِلَّا كِبْرٌ وخيلاء منهم مركوز في جبلتهم ثقة لثروتهم ورئاستهم على زعمهم الفاسد مع انهم ما هُمْ بِبالِغِيهِ على مقتضى ما جبلوا في نفوسهم إذ هم سيغلبون عن قريب في هذه النشأة الاولى ويحشرون في الاخرى الى جهنم البعد والخذلان وبالجملة فَاسْتَعِذْ أنت ايها النبي الصادق الصدوق بِاللَّهِ القادر القوى والتجئ اليه سبحانه عن غدر كل غادر إِنَّهُ سبحانه هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْبَصِيرُ بنياتهم ويكفيك مؤنة ما يقصدون عليك بمقتضى آرائهم الباطلة واهوائهم الفاسدة ومن أعظم ما يجادلون فيه أولئك المعاندون المكابرون امر الساعة والمعاد الجسماني وبعث الموتى من قبورهم وحشرهم نحو المحشر والله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى اظهار العلويات والسفليات من كتم العدم على سبيل الإبداع في النشأة الاولى أَكْبَرُ وأعظم مِنْ خَلْقِ النَّاسِ واعادتهم احياء في النشأة الاخرى وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ عظم قدرة الحق وكمال اقتداره على عموم ما دخل في حيطة علمه الشامل وارادته الكاملة لقصور نظرهم عن ادراك الحق وصفاته الكاملة الكافية في ذاته ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. ثم أشار سبحانه الى تفاوت طبقات عباده في العلم بالله والجهل به وبصفاته فقال وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى الغافل الزاهل عن ظهور ذات الحق وتجليه بمجالى الأنفس والآفاق بمقتضيات أوصافه العظمى وأسمائه الحسنى وَالْبَصِيرُ العارف المكاشف بوحدة الحق وظهوره سبحانه على هياكل عموم ما ظهر وبطن حسب شئونه وتطوراته الذاتية وَلا المصلحون المحسنون الَّذِينَ آمَنُوا بالله واعتقدوا توحيده وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقبولة عنده سبحانه من الأعمال والأفعال

[سورة غافر (40) : آية 59]

المترتبة على الايمان واليقين وَلَا الْمُسِيءُ اى الذين يسيئون الأدب مع الله وهم الكفرة الذين لا يؤمنون بالله ولا يتصفون بتوحيده بل هم يسترون شروق شمس ذاته بغيوم هوياتهم الباطلة واظلال انانياتهم الزائلة المضمحلة في شمس الذات لذلك عملوا عملا سيّئا حسب ما تهواه أنفسهم الخبيثة وأحلامهم السخيفة لكن قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ اى ما تتذكرون وتتفطنون على عدم المساواة الا تذكرا قليلا ولهذا تنكرون البعث والحشر وكيف تنكرونه إِنَّ السَّاعَةَ الموعودة على ألسنة عموم الأنبياء والرسل لَآتِيَةٌ البتة بحيث لا رَيْبَ فِيها اى في مجيئها ووقوعها بوضوح الدلائل العقلية الدالة على إمكان اعادة المعدوم مع انها مؤيدة بالوحي والإلهام الإلهي على عموم الأنبياء والرسل الكرام وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ بها ولا يصدقون بوقوعها وقيامها لانحطاطهم عن مرتبة الخلافة المترتبة على فطرة التوحيد واليقين وَبعد ما أشار سبحانه الى مرتبة كلا الفريقين الموحد والمشرك أشار الى من توجه نحوه سبحانه متحننا وقصد تجاه توحيده مجتهدا ودعا اليه متضرعا فأجاب له وأنجح مطلوبه حيث قالَ رَبُّكُمُ الذي رباكم على فطرة التوحيد والعرفان ادْعُونِي ايها المكلفون بمقتضى العقل المفاض حق دعوتي وتوجهوا الى مخلصين بلا رؤية الوسائل والأسباب العادية في البين أَسْتَجِبْ لَكُمْ دعوتكم وأوصلكم الى مقصدكم ومقصودكم الذي هو توحيد الذات فعليكم ان لا تستكبروا عن عبادتي وإطاعتي وبالجملة إِنَّ المسرفين الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ ويستنكفون عَنْ عِبادَتِي حسب آرائهم الباطلة واهوائهم الفاسدة سَيَدْخُلُونَ في يوم الجزاء جَهَنَّمَ الحرمان والخذلان داخِرِينَ صاغرين ذليلين مهانين وكيف يستنكفون ويستكبرون عن عبادة الفاعل على الإطلاق المنعم بالاستقلال والاستحقاق مع انه اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المتصف بصفات الكمال ونعوت الجلال والجمال هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ مظلما باردا لِتَسْكُنُوا وتستريحوا فِيهِ بلا ضرر وعناء وَايضا قد جعل لكم النَّهارَ مُبْصِراً لتكسبوا فيه معايشكم وتجمعوا حوائجكم وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المنعم المفضل على عباده لَذُو فَضْلٍ عظيم وكرامة كاملة شاملة عَلَى عموم النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على فطرة النسيان والكفران لا يَشْكُرُونَ نعمه ولا يواظبون على أداء حقوق كرمه جهلا منهم بالله وعنادا مع رسله الهادين اليه ذلِكُمُ اللَّهُ الذي قد أفاض عليكم موائد بره وإحسانه واظهر عليكم مقتضيات ألوهيته وربوبيته رَبُّكُمْ الذي رباكم بأنواع اللطف والكرم بعد ما أوجدكم من كتم العدم وهو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ومظهره من العدم إظهارا إبداعيا بمقتضى اختياره واستقلاله فلكم ان تتوجهوا اليه وتحننوا نحوه مخلصين إذ لا إِلهَ يعبد له بالاستحقاق ويرجع نحوه في الخطوب على الإطلاق إِلَّا هُوَ الله اى الذات الواحدة المتحدة المتصفة بالصفات الكاملة المربية لجميع ما في الكون من العكوس والاظلال المنعكسة منها فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وكيف تنصرفون عن عبادته ايها الآفكون المنصرفون فأين تذهبون من بابه ايها الذاهبون الجاهلون ما لكم كيف تحكمون ايها الضالون المحرومون كَذلِكَ اى مثل ما سمعت من المجادلة والمكابرة بلا برهان واضح وتبيان لائح يُؤْفَكُ ويصرف عن طريق الحق عموم المسرفين الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ ودلائل توحيده يَجْحَدُونَ وينكرون بلا تأمل ولا تدبر لينكشف لهم ما فيها من المعارف والحقائق المودعة فيها فكيف تجحدون في آيات الحكيم العليم ايها الجاحدون الجاهلون

[سورة غافر (40) : آية 64]

مع انه سبحانه هو الصمد المتفرد بالالوهية والربوبية إذ اللَّهُ الواحد الأحد الصمد الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ اى عالم الطبيعة والهيولى قَراراً تستقرون عليها حسب هويتكم وَرفع لكم السَّماءَ اى عالم الأسماء والصفات بِناءً اى سقفا رفيعا منيعا تستفيضون منها الكمالات اللائقة لاستعداداتكم وقابلياتكم الموهوبة لكم من عنده سبحانه وَبالجملة قد صَوَّرَكُمْ حسب لطفه وجماله من الآباء العلويات والأمهات السفليات فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بان خلقكم على اعدل الأمزجة واحسن التقويم لتكونوا قابلين لائقين لخلافة الحق ونيابته وَبعد ما صوركم كذلك فأحسن صوركم هكذا قد رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ الصورية والمعنوية تقوية وتقويما لأشباحكم وأرواحكم وبالجملة ذلِكُمُ اللَّهُ الذي سمعتم نبذا من أوصافه الكاملة ونعمه الشاملة رَبُّكُمْ الذي أظهركم من كتم العدم بمقتضى لطفه فانى تصرفون عنه وعن توحيده وعبادته ايها المسرفون الضالون المفرطون مع انه لا رب لكم سواه سبحانه فَتَبارَكَ اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد العلى بذاته الجلى بحسب أسمائه وصفاته رَبِّ الْعالَمِينَ على الإطلاق بكمال الاستقلال والاستحقاق لا يعرضه زوال ولا يطرأ عليه انقراض وانتقال بل هُوَ الْحَيُّ الأزلي الأبدي الدائم المستغنى عن مقدار الزمان ومكيال المكان مطلقا لا إِلهَ في الوجود سواه ولا موجود يعبد له بالحق إِلَّا هُوَ وبعد ما سمعتم ايها المكلفون خواص أسمائه وأوصافه سبحانه فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ واعبدوه مخصصين لَهُ الدِّينَ اى العبادة والانقياد إذ لا مستحق للاطاعة والعبادة الا هو سبحانه وبعد ما رجعتم نحوه مخلصين وعبدتم له سبحانه مخصصين قولوا بلسان الجمع الْحَمْدُ المستوعب لجميع الاثنية والمحامد الناشئة من ألسنة عموم المظاهر ثابت لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ بانفراده بالالوهية واستقلاله في الربوبية بلا توهم الشركة والمظاهرة ويا أكمل الرسل قُلْ لعموم المشركين على سبيل التنبيه والإرشاد بعد ما وضح امر التوحيد واتضح سبيل الهداية والرشد إِنِّي نُهِيتُ من قبل ربي الذي سمعتم استقلاله في ألوهيته وربوبيته أَنْ أَعْبُدَ وانقاد الآلهة الباطلة الَّذِينَ تَدْعُونَ أنتم وتعبدون لها مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الفريد في الألوهية الوحيد بالربوبية سيما لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ اى حين نزل علىّ الآيات المبينة الموضحة مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ من لدنه سبحانه أَنْ أُسْلِمَ اى اعبد وانقاد على وجه التسليم المقارن بالإخلاص والاختصاص بلا رؤية الوسائل والأسباب لِرَبِّ الْعالَمِينَ إذ هو سبحانه منزه عن التعدد والتكثر مطلقا ورجوع الكل اليه أولا وآخرا وكيف لا يعبدونه سبحانه ولا ينقادون اليه ولا يتوجهون نحوه مع انه هُوَ الخالق المبدع المصور الَّذِي خَلَقَكُمْ وقدر صوركم أولا مِنْ تُرابٍ مهين مرذول إظهارا لقدرته الغالبة الكاملة ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ مهينة مستحدثة من أجزاء التراب ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ خبيثة متكونة من النطفة ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ من بطون أمهاتكم طِفْلًا سويا كائنا من أجزاء العلقة مع الروح المنفوخ فيها من لدنه سبحانه ثُمَّ يربيكم بأنواع اللطف والكرم لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ اى كمال قوتكم وحولكم نظرا وعملا ثُمَّ أمهلكم وأعمركم زمانا لِتَكُونُوا شُيُوخاً منحطين منسلخين عن كلتا القوتين المذكورتين معا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ويموت مِنْ قَبْلُ اى قبل بلوغه الى أشده او شيخوخته وَانما فعل سبحانه كل ما فعل من الأطوار المتعاقبة والأحوال المتواردة المترادفة لِتَبْلُغُوا أَجَلًا معينا مقدرا مُسَمًّى عنده سبحانه بلا اطلاع احد عليه لقبضكم نحوه ورجوعكم اليه

[سورة غافر (40) : آية 68]

وَالحكمة الباعثة على جميع ذلك لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وتفهمون ان مبدأكم ومنشأكم منه سبحانه ومعادكم اليه فتعبدونه حق عبادته كي تعرفوه حق معرفته وكيف لا تعبدونه سبحانه ولا تعرفونه ايها العقلاء المجبولون على فطرة الدراية والشعور مع انه هُوَ الَّذِي يُحْيِي بامتداد اظلال أسمائه على كل ما لاح عليه بروق وجوده بمقتضى جوده وَيُمِيتُ بقبض تلك الاظلال نحو ذاته بالإرادة والاختيار وبالجملة فَإِذا قَضى أَمْراً اى تعلق ارادته ومشيته باحداث ما ظهر في عالم الأمر فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ بعد تعلق مشيته كُنْ فَيَكُونُ بلا تراخ وتعاقب مفهوم من منطوق هذه الآية على ما هو المتبادر من أمثاله بل كل ما لمع عليه برق ارادته وصدر منه سبحانه ما يدل على نفوذ قضائه تكون المقضى بغتة بحيث لا يسع بين القضاء والمقضى توهم المهلة والتراخي والترتيب مطلقا ومع سرعة نفوذ قضاء الله وظهور هذه الآثار العظيمة من قدرته الكاملة على الوجه المذكور أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي إِلَى المشركين المسرفين الَّذِينَ يُجادِلُونَ ويكابرون فِي آياتِ اللَّهِ الدالة على كمال علمه وقدرته ومتانة حكمه وحكمته أَنَّى يُصْرَفُونَ اى الى اين ينصرفون عن عبادته ويعرضون عن ساحة عز جنابه ووحدته الذاتية سيما هؤلاء المكابرون الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ اى بالقرآن الجامع الكامل الشامل المنزل عليك يا أكمل الرسل وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا اى بعموم ما أرسلنا الى رسلنا الذين مضوا من قبلك من الكتب والصحف المنزلة عليهم فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أولئك الضالون المكذبون وبال جدالهم وتكذيبهم في النشأة الاخرى وقت إِذِ تكون الْأَغْلالُ الثقيلة معقودة فِي أَعْناقِهِمْ بسبب انصرافهم عن آيات الله وعدم التفاتهم الى رسله الحاملين لوحيه سبحانه وَايضا تكون السَّلاسِلُ الطوال مشدودة في أيديهم وأرجلهم لعظم جرائمهم وآثامهم الباعثة على أخذهم وانتقامهم يُسْحَبُونَ ويجرون هؤلاء على وجوههم فِي الْحَمِيمِ اى في الماء الحار المسخن بالنار المعدة لهم قبل تعذيبهم بالنار الملهبة ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ يوقدون ويطرحون فيها طرح الحطب الوقود للنار ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ من قبل الحق توبيخا وتقريعا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ اى اين أصنامكم واوثانكم وعموم معبوداتكم التي أنتم قد ادعيتم شركتها مع الله في الألوهية وسميتموها آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ لم لا تنقذكم من عذاب ولم لا يشفعون لكم عنده سبحانه حسب ما زعمتم في شأنهم وعللتم عبادتكم بها وبعد ما سمعوا ما سمعوا من التوبيخ والتقريع قالُوا متحسرين متأوهين قد ضَلُّوا وغابوا عَنَّا آلهتنا الهلكى وشفعاؤنا الهالكة المستهلكة التي قد كنا ندعو إليهم ونستشفع منهم بَلْ قد ظهر لنا اليوم انا لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ في النشأة الاولى شَيْئاً ينفعنا ويدفع عنا من غضب الله بل كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ المنتقم المضل الْكافِرِينَ الضالين بحيث لا يتنبهون بضلالهم الا وقت حلول العذاب عليهم ثم قيل لهم مبالغة في توبيخهم وتعييرهم ذلِكُمْ اى إضلال الله إياكم بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ وتمشون عليها خيلاء بطرين مسرورين مستكبرين عن قبول آيات الله المنزلة على رسله مكذبين لهم مستهزئين بهم بِغَيْرِ الْحَقِّ اى بلا دليل قطعى عقلي او سمعي اقناعى او ظني بل بمجرد الوهم الناشئ من كبركم وخيلائكم وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ اى تتوسعون وتتوقرون على انفسكم الفرح والسرور بمخالفتكم بترككم سنن حدود الله وبترككم سنن أنبيائه ورسله عنادا ومكابرة ثم قيل لهم بعد تفضيحهم على رؤس الاشهاد ادْخُلُوا ايها المسرفون الضالون أَبْوابَ جَهَنَّمَ

[سورة غافر (40) : آية 77]

اى دركاتها واغوارها الهوية النيرانية المعدة لكم بدل ما فوتم أنتم على انفسكم من الدرجات العلية الجنانية وكونوا خالِدِينَ فِيها ابد الآباد فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ومأواهم جهنم البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان. أعاذنا الله وعموم المؤمنين منها وبعد ما قد ظهر واتضح مآل حال الكفرة المستكبرين وعاقبة أمرهم فَاصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل على أذاهم وانتظر الى مقتهم وهلاكهم الموعود وثق بالله في انجاز وعده إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ المقتدر الحكيم باهلاك المشركين المكذبين المسرفين حَقٌّ ثابت محقق إنجازه ووقوعه البتة بلا خلف منه سبحانه إذ الله لا يخلف الميعاد مطلقا الا ان وعده سبحانه مرهون بأجل مقدر عنده فلا تحزن من تأخير الموعود ولا تعجل بحلول الأجل المعهود فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ اى فان نرك ونبصرك زيدت ما في أول الفعل والنون في آخره للتأكيد والمبالغة بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من القتل والسبي والجلاء فذاك وتحقق وعدنا إياك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ونميتنك قبل حلول أجل إهلاكهم وتعذيبهم فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يعنى لا تحزن من تأخير الموعود بعد توفيك ايضا إذ نحن نعذبهم وننتقم عنهم بعد رجوعهم إلينا في النشأة الاخرى بأضعاف ما في النشأة الاولى وآلافها وَبالجملة بعد ما قد وعدنا لهم العذاب لانحرافهم عن سبيل الرشد مصرين على المكابرة والعناد ننجز الموعود البتة سواء كان عاجلا او آجلا فعليك ان لا تتعب نفسك بتعجيل العذاب عليهم قبل حلول الأجل المقدر من عندنا إذ لَقَدْ أَرْسَلْنا من مقام جودنا رُسُلًا كثيرين مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا قصصهم عَلَيْكَ في كتابك هذا وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ولم نذكر قصتهم في كتابك إذ ما يعلم قصص جنودنا وما جرى عليهم من تفاصيل أحوالهم الا نحن وَبالجملة ما كانَ اى ما صح وما جاز لِرَسُولٍ من الرسل أَنْ يَأْتِيَ ويعجل بِآيَةٍ مقترحة او غير مقترحة من تلقاء نفسه إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ووحيه وبمقتضى مشيته وارادته سبحانه بل له ان ينتظر الوقت الذي قد عين سبحانه ظهورها فيه إذ جميع الآيات والمعجزات الباهرات موهوبة من الله مقسومة بين أنبيائه ورسله بمقتضى قسمته سبحانه في حضرة علمه ولوح قضائه لا يسع لاحد منهم ان يعجل بها او يؤخر عن وقتها بل فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ العليم الحكيم بتعذيب المشركين واثابة الموحدين قُضِيَ بِالْحَقِّ جميع المقضيات الإلهية سواء كانت من جنس المثوبات او العقوبات وَبالجملة كما خَسِرَ وخاب هُنالِكَ اى عند وقوع المقضى وظهوره الْمُبْطِلُونَ المستوجبون لانواع العذاب والنكال قد ربج ونال حينئذ المحقون المستحقون لأصناف المثوبات واللذات الروحانية وكيف لا يكون كذلك إذ مقاليد عموم الأمور كلها بيد الله وفي قبضة قدرته إذ اللَّهُ المتفرد بالالوهية والربوبية هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ مسخرة مقهورة لكم محكومة تحت أمركم وحكمكم لِتَرْكَبُوا مِنْها ما يليق بركوبكم تتميما لتربيتكم وحضوركم وَايضا قد جعل لكم مِنْها اى من الانعام ما تَأْكُلُونَ لتقويم امزجتكم وتقوية بنيتكم وَجعل لَكُمْ فِيها ايضا مَنافِعُ كثيرة كالالبان والاصواف والاشعار والأوبار وغير ذلك وَلِتَبْلُغُوا اى لتصلوا وتنالوا بالحمل والركوب عَلَيْها اى على الانعام حاجَةً مطلوبة لكم مركوزة فِي صُدُورِكُمْ ونفوسكم ولولا ركوبكم وحملكم عليها لم تصلوا إليها الا بشق الأنفس وَبالجملة عَلَيْها اى على الانعام في البوادي والبراري وَعَلَى الْفُلْكِ في البحار تُحْمَلُونَ يعنى قد سهل عليكم سبحانه

[سورة غافر (40) : آية 81]

معاشكم في اقامتكم وترحالكم تتميما لتربيتكم وحفظكم لتواظبوا على شكر نعمه وتلازموا لعبادته وعبوديته بالتبتل الخالص والإخلاص التام لهذارِيكُمْ ايها المغمورون المستغرقون في بحار افضاله وجوده اتِهِ الدالة على وجوب وجوده ووحدة ذاته واستقلاله في الآثار الصادرة منه سبحانه حسب أسمائه وصفاته وبالجملةأَيَ آية من اتِ اللَّهِ الدالة على كمال ألوهيته وربوبيته نْكِرُونَ ايها المسرفون المشركون أَينكر المشركون المصرون على الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية كمال قدرته سبحانه على انواع الانتقام والعذاب فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ التي هي محل الكون والفساد فَيَنْظُرُوا عليها معتبرين من البلاقع الخربة والاظلال المندرسة الكربة كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الأمم الهالكة المسرفة الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مع انهم قد كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ عددا وعددا وَأَشَدَّ قُوَّةً وقدرة وبسطة واستيلاء وَاحكم آثاراً فِي الْأَرْضِ اى ابنية في القصور وقلاعا وحصونا مشيدة مرفوعة ومع ذلك فَما أَغْنى فما دفع وما أزال ورفع عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ويصنعون من الأمور المذكورة شيأ من غضب الله وعذابه بل قد لحقهم ما لحقهم من العذاب بحيث لا شعور لهم باماراته ومقدماته أصلا فاستأصلهم بالمرة فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ اى فهم قد كانوا في عتوهم وعنادهم يعمهون أمثال هؤلاء المسرفين لما جاءتهم رسلهم المبعوثون إليهم بالمعجزات والآيات الواضحات المبينة لطريق التوحيد لم يلتفتوا إليها ولم يلقوا اسماعهم نحوها تعنتا واستكبارا بل هم قد فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ اى الجهل المركب المركوز في طباعهم من تقليد آبائهم على وجه الإصرار بلا التفات منهم الى ما قد ظهر من الوحى الإلهي المنزل على رسلهم بل كذبوهم واستهزؤا بهم وَلهذا قد حاقَ وأحاط بِهِمْ وبال ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ حين دعوة الرسل وإرشادهم الى طريق الحق بأنواع الوعد والوعيد وهم قد كانوا على ما هم عليه من العناد مصرين مستكبرين فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا اى بطشنا وعذابنا قد حل عليهم وأحاط بهم قالُوا حينئذ متذكرين دعوة رسلهم متحسرين على ما فوتوا على أنفسهم آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ على الوجه الذي هدانا اليه رسله وَكَفَرْنا بِما قد كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ من قبل من الأصنام والأوثان وسائر ما عبدنا من دونه سبحانه وبالجملة فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا إذ حينئذ قد انقضى زمان التدارك والتلافي وبالجملة قد كانت هذه الديدنة المستمرة سُنَّتَ اللَّهِ العليم الحكيم الَّتِي قَدْ خَلَتْ ومضت فِي عِبادِهِ المستكبرين عن طاعته وانقياده حين دعوة الرسل وإرشادهم إياهم وَبعد حلول او ان البأس ونزول العذاب قد خَسِرَ وخاب خيبة مؤبدة هُنالِكَ عنده ودونه الْكافِرُونَ المصرون على الإنكار والاستهزاء خسرانا عظيما في الدنيا وفي الآخرة أعظم منه وأدوم. أعاذنا الله وعموم عباده من بأسه وبطشه بمنه وجوده خاتمة سورة المؤمن عليك ايها المحمدي القاصد نحو الحق المتوجه الى توحيده وفقك الله الى إنجاح مهامك وأوصلك الى منتهى مقصدك ومرامك ان تكون أنت في عموم أوقاتك وحالاتك على خبرة كاملة من آيات الله النازلة من عنده سبحانه لهداية عباده التائهين في فضاء وجوده وعبرة تامة من سريان وحدته الذاتية على عموم هياكل ما لمع عليه بروق تجلياته الجمالية والجلالية المنتشئة من ذاته حسب شئونه

سورة فصلت

وتطوراته المتفرعة على أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى فلك ان لا نغفل في عموم احوالك عن مطالعة جمال الله وجلاله في كل ذرة من ذرائر الأكوان على وجه الاستبصار والاعتبار بلا شائبة شك وانكار وتردد واستكبار لئلا تلحق بالأخسرين الذين يؤمنون بالله وبتوحيده حين لم يك ينفعهم ايمانهم لانقضاء نشأة التلافي والاختبار وذلك حين يعرضون على الملك الجبار ويساقون نحو النار بأنواع الخسار والبوار. ربنا آتنا من لدنك رحمة وقنا عذاب النار [سورة فصلت] فاتحة سورة فصلت لا يخفى على المستبصرين المستكشفين عن سرائر الكتب الإلهية واسرار الآيات المنزلة من عنده سبحانه على رسله وأنبيائه المؤيدين من لدنه بتكميل مرتبتي الولاية والنبوة المتفرعتين على اسمى الظاهر والباطن والاول والآخر ان سر الإنزال والإرسال اللذين قد جرت عليه السنة السنية الإلهية واقتضت حكمته البالغة العلية وعلمه الشامل ورحمته العامة الواسعة انما هو لتنبيه اهل الحيرة والضلال من المترددين في فضاء الوجود بلا شعور منهم الى مبدأهم ومعادهم لاحتجابهم بالقرب المفرط المعمى عيون بصائرهم وأبصارهم حتى يتفطن منهما ويتذكر بهما من كان له قلب يقلبه الرحمن بأصابع أسمائه وصفاته كيف يشاء او القى السمع وهو وان كان محجوبا بهويته شهيد حاضر القلب غير مغيب عن الله وعن آثار ألوهيته وربوبيته ليفنى كل من سمع وتذكر عن هويته الباطلة ويبقى بهوية الله الغير الزائلة ولهذا خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ورمز في خطابه بعد ما تيمن بأمهات أسمائه التي هي مقاليد كنوز الوجود ومفاتيح خزائن مطلق الفيض والجود حيث قال سبحانه بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور عموم مظاهره بمقتضى استعداداتها الفائضة عليها حسب جوده الرَّحْمنِ عليها بإخراجها عن مكمن العدم الى فضاء الوجود الرَّحِيمِ بخواص عباده بايصالهم الى الحوض المورود والمقام المحمود [الآيات] حم يا حافظ وحى الله المؤيد من عنده لحفظ حدوده حسب أوامره ونواهيه هذا القرآن الجامع لمصالح عموم المظاهر والأكوان تَنْزِيلٌ وارد صادر ناش مِنَ الرَّحْمنِ اى من الذات الاحدية بمقتضى اسمه الرحمن المستوي به على عروش عموم الأكوان لإصلاح حال كل ما لاحت عليه شمس ذاته تتميما لتربيته إياه إذ ما من رطب ولا يابس الا هو سبحانه مشتمل عليه متكفل لتدبيره وتربيته الرَّحِيمِ بانزاله لخواص عباده ليتنبهوا من رموزه وإشاراته الى وحدة الحق وكمالات أسمائه وصفاته. وانما صار القرآن جامعا بين مرتبتي الظاهر والباطن والاول والآخر إذ هو كِتابٌ كامل شامل فُصِّلَتْ بينت وأوضحت آياتُهُ المشتملة على دلائل التوحيد وشواهد القصص والاحكام ومنبهات العبر والحكم ومحاسن الأخلاق والأعمال ومقابيح المناهي والمنكرات من الأفعال والأحوال في النشأة الاولى والاخرى ولهذا صار قُرْآناً فرقانا واضحا موضحا بيانا وتبيانا عَرَبِيًّا نظما وأسلوبا إذ لا لغة احسن منه واشتمل وأفضل وأكمل وانما فصلت وأوضحت آيات هذا الكتاب لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اى يوفقون من لدنه سبحانه على العلم اللدني والفطرة الاصلية التي هي المعرفة والتوحيد ولهذا ايضا قد صار بَشِيراً يبشر اهل العناية والسعادة بالفوز العظيم الذي هو تحققهم بمقام الرضا والتسليم وَنَذِيراً ينذر اصحاب الشقاوة والحرمان عن خلود النيران والعذاب الأليم ومع علو شأنه ووضوح تبيانه وبرهانه فَأَعْرَضَ عنه وانصرف عن قبوله

[سورة فصلت (41) : آية 5]

وسماعه سمع تدبر وتأمل أَكْثَرُهُمْ اى اكثر المكلفين المأمورين من عنده سبحانه بامتثال ما فيه من الأوامر والاحكام وباتصاف ما ذكر فيه من الأخلاق والأعمال وما رمز اليه من المعارف والأحوال فَهُمْ من شدة قساوتهم وغفلتهم لا يَسْمَعُونَ ولا يلتفتون نحوه عتوا وعنادا فكيف عن فحصه وقبوله ودراية ما فيه من الرموز والإشارات وَمن غاية عمههم وسكرتهم ونهاية عتوهم واستكبارهم عن استماع كلمة الحق والالتفات إليها قالُوا على وجه التهكم والتمسخر قُلُوبُنا التي هي وعاء الايمان والاعتقاد فِي أَكِنَّةٍ واغطية كثيفة وغشاوة غليظة مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ أنتم من المعرفة والتوحيد لا نتنبه به ولا نتفطن بحقيته وَايضا فِي آذانِنا التي هي وسائل قبول العظة والتذكير وَقْرٌ صمم مانع عن استماع آياتك الدالة على صدقك في دعواك المثبتة لمدعاك وَبالجملة قد حال مِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ ايها الموحد المؤيد بالوحي والإلهام حِجابٌ عظيم يمنعنا عما تدعونا اليه بحيث لا يتيسر لنا رفعه ولا نقدر نحن على كشفه فَاعْمَلْ ايها المدعى حسب ما اوحاك إليك ربك وألهمك عليه إِنَّنا ايضا عامِلُونَ بما تيسر لنا ووفقنا عليه آلهتنا واربابنا إذ كل ميسر لما خلق له وبعد ما استنكفوا واستكبروا عليك وعلى دينك وكتابك قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض اليقين والتوحيد خاليا عن وصمة التخمين والتقليد إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ اى ما أنا الا بشر مثلكم وما ادعى الملكية لنفسي غاية ما في الباب انه يُوحى إِلَيَّ اى يوحى ربي الى بمقتضى سنته السنية المستمرة في سالف الزمان أَنَّما إِلهُكُمْ الذي أظهركم من كتم العدم وأخرجكم الى فضاء الوجود إِلهٌ واحِدٌ احد صمد فرد وتر لا تعدد فيه بوجه من الوجوه فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وتوجهوا نحوه موحدين مخلصين وَاسْتَغْفِرُوهُ لفرطاتكم التي صدرت عنكم بمقتضى بشريتكم ليغفر لكم ربكم ما تقدم من طغيانكم وبهيميتكم وَعليك ان لا تشركوا معه سبحانه شيأ من مظاهره ومصنوعاته إذ وَيْلٌ وعذاب اليم معد عنده سبحانه لِلْمُشْرِكِينَ له الخارجين عن مقتضى توحيده واستقلاله في ألوهيته ظلما وزورا والمشركون المستكبرون عن آيات الله هم الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ المفروضة لهم من أموالهم تطهيرا لنفوسهم عن رذالة البخل ولقلوبهم عن الميل الى ما سوى الحق وَسبب امتناعهم عن التخلية والتطهير انه هُمْ بمقتضى اهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة بِالْآخِرَةِ المعدة لتنقيد اعمال العباد هُمْ كافِرُونَ منكرون جاحدون لذلك يمتنعون عن قبول التكاليف الشرعية وعن الامتثال بالأوامر الدينية المنزلة على مقتضى الحكمة الإلهية. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية إِنَّ الموحدين الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وباستقلاله في ألوهيته وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ اى أكدوا ايمانهم بصوالح أعمالهم مخلصين فيها بمجرد امتثال امر العبودية بلا ترقب منهم الى ما يترتب عليها من المثوبات لَهُمْ عند ربهم بدل إخلاصهم وتخصيصهم أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ اى بلا منة مستتبعة للثقل والأذى بل يحسن ويتفضل عليهم سبحانه من محض اللطف والرضا قُلْ يا أكمل الرسل لمن أشرك بالله وجحد توحيده على سبيل التوبيخ والتقريع أَإِنَّكُمْ ايها الجاحدون المسرفون لَتَكْفُرُونَ وتنكرون بِالَّذِي اى بالقادر العليم الحكيم الذي خَلَقَ الْأَرْضَ اى عالم الطبيعة والهيولى فِي يَوْمَيْنِ يوما لاستعداداتها القابلة لانعكاس اشعة نور الوجود ألا وهو يوم الدنيا والنشأة الاولى ويوما لاتصافها بها بمقتضى الجود الإلهي ألا وهو يوم العقبى والنشأة الاخرى وَمن كمال غفلتكم وضلالكم عن توحيد الحق

[سورة فصلت (41) : آية 10]

وتوحده في ذاته تَجْعَلُونَ وتتخذون لَهُ أَنْداداً وتثبتون له شركاء في الوجود مشاركين معه سبحانه في الآثار والتصرفات الواقعة في الكائنات وتتوجهون نحوهم في الخطوب والملمات مع انه لا رب لكم سواه سبحانه ولا مرجع لكم غيره بل ذلِكَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ذكر نبذ من أخص أوصافه وأسمائه رَبُّ الْعالَمِينَ اى موجد عموم ما لاح عليه برق الوجود وهو مربى الكل بمقتضى الجود وَكيف تنكرون وحدة الحق واستقلاله في ملكه وملكوته مع انه قد جَعَلَ بمقتضى حكمته فِيها اى في الأرض التي هي عالم الطبيعة والأركان رَواسِيَ اقطابا وأوتادا رفيعة الهمم عالية القدر مستمدة مِنْ فَوْقِها اى من عالم الأسماء والصفات وَلهذا قد بارَكَ فِيها وكثر الخير والبركات عليها بيمن هممهم العالية وَمن كمال حكمته سبحانه قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها اى قدر واظهر في عالم الطبيعة جميع ما يحتاج اليه أهلها من الرزق الصوري والمعنوي تتميما لتربيتهم وتكميلا لهم حسب نشأتهم كل ذلك صدر منه سبحانه فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يومين للنشأة الاولى المتعلقة بالظهور والبروز حسب استعدادها واتصافها ويومين للنشأة الاخرى المتعلقة بالكمون والبطون كذلك ولهذا قد كانت الأيام المذكورة سَواءً اى سبيلا سويا وطريقا مستقيما لِلسَّائِلِينَ المستكشفين عن مدة بروز عالم الطبيعة عن مكمن الغيب في النشأة الاولى وكذا عن ظهور النشأة الاخرى والطامة الكبرى عند رجوع الكل الى مبدئه ثُمَّ اى بعد ما هبط ونزل من عالم الأسماء الى مهبط الطبيعة والهيولى متنازلا وصعد منها إليها متصاعدا اسْتَوى واستولى إِلَى السَّماءِ اى سماء الأسماء وتمكن عليها مستعليا مستغنيا فارغا عن الصعود والهبوط وَالحال انه هِيَ اى عالم الأسماء والصفات في أنفسها ايضا دُخانٌ حجاب بالنسبة الى صرافة الوحدة واطلاق الذات إذ لا يخلو عن شوب الكثرة المستلزمة لنوع من الكدورة وبعد ما استقر عليها سبحانه وتمكن فَقالَ لَها اى لسماء الأسماء والصفات وَلِلْأَرْضِ اى للطبيعة والهيولى إظهارا للقدرة الغالبة والسلطنة الشاملة ائْتِيا وتوجها نحو جنابنا منسلختين عن هوياتكما الباطلة ووجوداتكما العاطلة الزائلة طَوْعاً أَوْ كَرْهاً يعنى طائعتين او كارهتين حسب النشأتين المركوزتين في فطرتكما الاصلية إذ لا وجود لكما في أنفسكما وبعد ما سمعتا من النداء الهائل ما سمعتا قالَتا على وجه التضرع والتذلل حسب استعداداتهما النظرية وقابلياتهما الجبلية أَتَيْنا نحو بابك يا ربنا طائِعِينَ من اين يتأتى منا الكراهة لحكمك يا من لا وجود لنا الا منك ولا تحقق الا بك نعبد لك ونستعين منك على عبادتك إذ لا معبود لنا سواك ولا مقصود لنا غيرك وبعد ما اعترفتا بالعبودية طوعا والتزمتا بالاطاعة والانقياد رغبة فَقَضاهُنَّ اى قدر وقضى سبحانه لإمدادهما سَبْعَ سَماواتٍ على عدد الصفات السبع التي هي أمهات الأسماء الإلهية فِي يَوْمَيْنِ اى يومى الظهور والبطون يوما لتحصيل المادة ويوما لتكميل الصورة وَبعد ما حكم وقضى سبحانه قد أَوْحى والهم فِي كُلِّ سَماءٍ من الأسماء أَمْرَها اى أمورها التي طلب منها ووضع لأجلها وَقال سبحانه بعد ما رتبها تتميما لتربيته وتكميلا للقدرة الكاملة الشاملة قد زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا اى القربى اى عالم الشهادة المشتملة على الآثار والأعمال الصادرة من المظاهر والاظلال بِمَصابِيحَ مقتبسة مسرجة من اشعة أنوار الذات وَجعلناها حِفْظاً اى وقاية ورقيبا واقيا لأرباب العناية من وساوس شياطين الأوهام والخيالات المترتبة

[سورة فصلت (41) : آية 13]

على القوى الطبيعة المائلة بالذات الى السفل ذلِكَ الذي سمعت من الخلق والإيجاد على النظام البديع والترتيب العجيب تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الحكيم الغالب القادر على إيجاد عموم ما دخل في حيطة ارادته الْعَلِيمِ بإظهاره على جميع الصور الممكنة الظهور وبعد ما ظهر من دلائل توحيد الحق ما ظهر ولاح من آثار قدرته الكاملة ما لاح فَإِنْ أَعْرَضُوا اى الكفرة الجهلة المستكبرون عنك يا أكمل الرسل وعن جميع ما اوحيت به من الآيات البينات المبينات لدلائل توحيد الذات وكمالات الأسماء والصفات الإلهية فَقُلْ لهم على وجه التحذير والتنبيه قد أَنْذَرْتُكُمْ ايها التائهون في تيه الغفلة والضلال وخوفتكم اتى بالماضي تنبيها على تحقق وقوعه صاعِقَةً اى بلية عظيمة نازلة عليكم من شدة قساوتكم وأعراضكم عن الحق واهله كأنها في الهول والشدة صاعقة مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وقت إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ المبعوثون إليهم لتكميلهم وإرشادهم المبلغون لهم الوحى الإلهي مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ اى في حضورهم وغيبتهم بواسطة وبغير واسطة المنبهون عليهم القائلون لهم عليكم ايها المجبولون على فطرة التوحيد أَلَّا تَعْبُدُوا ولا تتوجهوا بالعبودية الخالصة إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الحقيق بالاطاعة والانقياد إذ لا معبود لكم سواه ولا مقصود الا هو وبعد ما سمعوا قالُوا متهكمين مستهزئين لَوْ شاءَ رَبُّنا الذي ادعيتم ربوبيته وألوهيته بالانفراد والاستقلال لَأَنْزَلَ بمقتضى قدرته الكاملة التي قد ادعيتم أنتم له مَلائِكَةً سماويين يخرجوننا من اودية الجهالات وبادية الضلال والغفلات وبالجملة فَإِنَّا بأجمعنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ اى بجميع ما قد جئتم به وادعيتم الرسالة فيه كافِرُونَ منكرون جاحدون إذ ما أنتم الا بشر مثلنا فلا مزية لكم علينا ومن اين يتأتى لكم هذا ثم فصل سبحانه ما أجمل بقوله فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا على عباد الله فِي الْأَرْضِ التي هي محل الاختبارات الإلهية بِغَيْرِ الْحَقِّ اى بلا اطاعة وانقياد وسابقة دين ونبي يرشدهم الى طريق الحق وَهم من شدة تعنتهم وبطرهم قد قالُوا على سبيل الشرف والمباهات مَنْ أَشَدُّ على وجه الأرض مِنَّا قُوَّةً واكثر عددا وعددا وأتم بسطة واستيلاء وانما قالوا هذه حين تخويف الرسل إياهم بإلمام العذاب عليهم وهم قد كانوا أعظم الناس جسامة وأوفرهم قوة وقدرة لذلك اغتروا بما عندهم من الثروة والرياسة فكذبوا الرسل وقالوا لهم نحن ندفع العذاب الذي ادعيتم نزوله ايها الكاذبون المفترون بوفور حولنا وقوتنا أَيغترون على قوتهم وجسامتهم وينكرون كمال قدرة الله وشدة انتقامه وَلَمْ يَرَوْا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ العزيز القدير الَّذِي خَلَقَهُمْ وأظهرهم من كتم العدم ولم يكونوا شيأ مذكورا هُوَ سبحانه بعلو شأنه وبكمالات أسمائه وصفاته أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وأتم حولا وقدرة واحكم بطشا وانتقاما وَلكن قد كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وينكرون بحسب الظاهر عنادا ومكابرة واغترارا بما معهم من الثروة والجسامة وبعد ما تمادوا على غيهم وأصروا على عتوهم وضلالهم فَأَرْسَلْنا بمقتضى قهرنا وجلالنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً باردة شديدة عقيمة من المطر تعميهم بنقعها وغبارها وتصمهم بصرصرها فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لا سعود فيها يعنى بدلنا مسعودات ايامهم بالمنحوسات لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ اى المذلة والهوان اللازم على العذاب حيث كان ونزل فِي الْحَياةِ الدُّنْيا التي هم مغرورون فيها مسرورون بلذاتها وشهواتها وَالله لَعَذابُ النشأة الْآخِرَةِ المعدة للجزاء والانتقام أَخْزى اى أشد خزيا وأتم تذليلا وتصغيرا إذ هو

[سورة فصلت (41) : آية 17]

بأضعاف عذاب الدنيا وآلافها وَبالجملة هُمْ لا يُنْصَرُونَ ولا يشفعون فيها لا يدفع العذاب عنهم طرفة ولا يخفف لمحة بل يخلدون في العذاب الأليم ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ بإرسال الرسل إياهم ليرشدوهم الى طريق النجاة وينقذوهم عن الضلال وبعد ما بلغهم الرسل من آيات الهداية وامارات الرشد كذبوهم وأنكروا على هدايتهم وإرشادهم فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى والضلال حسب عمههم وغفلتهم عَلَى الْهُدى المنزل إليهم من لدنا على ألسنة رسلنا وبعد ما أصروا على ما هم عليه من الغواية فَأَخَذَتْهُمْ بغتة صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ المخزى المذل النازل من نحو السماء على صورة الصاعقة السريعة الجري والحركة فاستأصلهم بالمرة بِما كانُوا يَكْسِبُونَ اى بشؤم ما يقترفون من المعاصي والآثام الجالبة إياهم شدة غضب الله وعذابه وَمن كمال قدرتنا على الانعام والانتقام نَجَّيْنَا من تلك الصاعقة المهولة المهلكة القوم الَّذِينَ آمَنُوا برسلنا واهتدوا بهدايتهم مع انهم قد كانوا فيهم مجاورين معهم وَسبب تخليصنا إياهم انهم قد كانُوا يَتَّقُونَ عن محارمنا ومنهياتنا مع كونهم متصفين بكمال الايمان والتوحيد وَاذكر يا أكمل الرسل لمن عاندك من المشركين يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ بعد العرض والحساب إِلَى النَّارِ المعدة لجزائهم فَهُمْ حينئذ يُوزَعُونَ اى يذبون ويدفعون يعنى يحبس اولهم ومقدمهم على آخرهم لئلا ينقطع ائتلافهم وتلاحقهم حَتَّى إِذا ما جاؤُها اى حضروا النار وازدحموا حولها مجتمعين كالحين فزعين مجادلين منكرين بصدور اسباب العذاب عنهم مع انهم يحاسبون أولا ثم يساقون نحو النار ولإسكاتهم وتبكيتهم عن الجدال والمراء شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ اى اعترفت جوارحهم وقواهم بإنطاق الله إياها بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ويقترفون بها من المعاصي والمحرمات والمنهيات وَبعد ما سمعوا من اركانهم وقواهم ما سمعوا من الاعتراف قالُوا موبخين مقرعين لِجُلُودِهِمْ وجوارحهم المعترفة بذنوبهم لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا مع انا لا نعذب الا بكم ومعكم من اين تجترءون على نفوسكم بالعرض على العذاب المؤبد ايها الحمقى الجهلاء قالُوا اى الجوارح والقوى ما كنا مختارين في هذه الشهادة والاعتراف بل قد أَنْطَقَنَا اللَّهُ القادر المقتدر الحكيم العليم الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ بآيات وجوب وجوده ودلائل وحدته بمقتضى جوده وليس بعجب من قدرته سبحانه انطاقنا بما اقترفتم بنا من المعاصي والآثام المخالفة لأمره وحكمه غيرة منه سبحانه وقهرا على من خرج عن ربقة عبوديته بترك أوامره وأحكامه وَكيف لا يغار ولا يقهر سبحانه عليكم ايها المفسدون المسرفون مع انه هُوَ بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته خَلَقَكُمْ وأظهركم من كتم العدم خلقا إبداعيا أَوَّلَ مَرَّةٍ بلا سبق مادة ومدة وشركة من احد ومظاهرة وَإِلَيْهِ ايضا آخر مرة كذلك تُرْجَعُونَ رجوع العكوس والاظلال الى الأضواء والأمواج الى الماء فمن اين تستنكفون عن عبوديته وتخرجون عن حكمه وامره. ثم قال سبحانه تذكيرا لما هم عليه عند ارتكاب المعاصي توبيخا لهم وتقريعا وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ يعنى لم تكونوا متسترين مستترين عند ارتكاب الفواحش والمحظورات مخافة أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ عند الله في يوم الجزاء لإنكاركم به وبما فيه بل انما تستترون وتكتمون معاصيكم وقبائحكم مخافة فضاحتكم واشتهاركم بين بنى نوعكم بالمذامّ والمقابح وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ بالله ظن السوء وهو أَنَّ اللَّهَ المطلع بسرائر الأمور وخفياتها لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ

[سورة فصلت (41) : آية 23]

في خلواتكم لذلك اجترأتم على اقتراف المعاصي وارتكاب المحرمات وَذلِكُمْ اى هذا الذي نسبتم الى الله بقولكم هذا ظَنُّكُمُ السوء وزعمكم الفاسد الَّذِي ظَنَنْتُمْ به بِرَبِّكُمْ العليم الخبير بجميع ما صدر عنكم وبالجملة هذا الظن الفاسد والوهم الكاسد أَرْداكُمْ وأهلككم في تيه الجهل والضلال وبعد ما قد فوتم على انفسكم اسباب السعادة والهداية وأصررتم على ما يوجب الشقاوة والضلال فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ زمرة الْخاسِرِينَ وانقلبتم صاغرين مهانين فصرتم في النار خالدين وبعد ما ادخلوا في النار المسعرة بأنواع المذلة والهوان فَإِنْ يَصْبِرُوا على فوحاتها والتهاباتها الشديدة فَالنَّارُ مَثْوىً ومنزلا لَهُمْ ابد الآباد ولا نجاة لهم منها أصلا وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا ويبثوا الشكوى والعتبى ويظهروا الكآبة وعدم الطاقة فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ المجابين بازالة العتبى والشكوى بل كلما يظهروا العتاب يضاعف لهم العذاب وَكيف يزال عتابهم ولا يضاعف عليهم عذابهم إذ قد قَيَّضْنا وقدرنا لَهُمْ فيما هم عليه من الكفر والشقاق وانواع الفسوق والنفاق قُرَناءَ إخوانا وأخلاء من الشياطين يوحون إليهم ما يبعدهم عن الحق واهله فَزَيَّنُوا لَهُمْ وحسنوا لطباعهم ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من اتباع الشهوات وارتكاب المناهي والمحظورات وَانكار ما خَلْفَهُمْ من الأمور الاخروية مواعيدها ووعيداتها وَبسبب ارتكاب المعاصي واصغائهم قول قرنائهم قد حَقَّ وثبت عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وصدرت كلمة العذاب المؤبد من لدنا إياهم وما يبدل القول لدينا وليس هذا مخصوصا بقوم دون قوم بل قد جرت ومضت سنتنا كذلك فِي كل أُمَمٍ مفسدة مشركة قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِمْ اى قبل هؤلاء المشركين المسرفين سواء مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ اى المكلفين منهما وانما استحقوا العذاب المؤبد والنكال المخلد إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ خسرانا مبينا لاستبدالهم اسباب السعادة والهداية بالشقاوة والضلال وَمن شدة غيهم وضلالهم المفضى الى الخسران العظيم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبدينك وكتابك يا أكمل الرسل حين تلاوتك وتبليغك عليهم آيات القرآن لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ولا تلتفتوا الى محمد حين قراءته بل وَالْغَوْا فِيهِ بالصياح وإنشاد الاشعار وخلط الأصوات وسائر الخرافات لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ محمدا وتدفعون قراءته وتخجلونه فيسكت وبالجملة هم من شدة شكيمتهم وغيظهم وان بالغوا في تخجيلك وتخذيلك يا أكمل الرسل لا تبال بهم وبفعلهم هذا فَلَنُذِيقَنَّ لهؤلاء المفرطين المسرفين الَّذِينَ كَفَرُوا بك وأساءوا الأدب معك عَذاباً شَدِيداً منتقمين عنهم في النشأة الاولى وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ في النشأة الاخرى أَسْوَأَ اى أشد وأقبح من الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ معك بأضعافها وآلافها ذلِكَ العذاب الأسوء الأشد جَزاءُ اعمال أَعْداءِ اللَّهِ الذين عاندوا معك يا أكمل الرسل واستهزؤا بك وبكتابك بطرين بما معهم من الجاه والثروة ألا وهي النَّارُ المسعرة المعدة لدخولهم ونزولهم فيها بل لَهُمْ فِيها اى في النار دارُ الْخُلْدِ والاقامة على وجه الخلود وانما صارت كذلك ليكون جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وينكرون بها ويكذبون بمن انزل اليه ويستهزؤن وَبعد ما استقر اهل النار في النار بأنواع السلاسل والأغلال قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبرسله وكتبه في النشأة الاولى متحسرين متأسفين متضرعين الى الله مناجين له رَبَّنا يا من ربانا على فطرة الإسلام والتوحيد فكفرنا بك وأشركنا معك غيرك في الوهيتك بإضلال قرنائنا الضالين المضلين أَرِنَا وبصرنا حسب لطفك وجودك الشيطانين

[سورة فصلت (41) : آية 30]

الَّذِينَ قد أَضَلَّانا عن طريق توحيدك وتصديق كتبك ورسلك الكائنين مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ اى المضلين اللذين قد أضلانا من هذين الجنسين بأنواع الوساوس والتلبيسات والتغريرات نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لننتقم عنهم جزاء ما قد فوتوا عنا سعادة الدارين وفلاح النشأتين وانما نرجو منك هذا يا مولانا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ التابعين لنا كما قد كنا كذلك بالنسبة إليهم في النشأة الاولى وبالجملة انما قالوا ما قالوا تحسرا وتضجرا. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته في كتابه إِنَّ الموحدين الَّذِينَ قالُوا في السراء والضراء وفي السر والعلن رَبُّنَا اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد ثُمَّ اسْتَقامُوا وثبتوا على ما اعترفوا وأقروا بأعمالهم وأحوالهم ونياتهم المترتب عليها عموم أفعالهم تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ وعلى اعانتهم وشرح صدورهم وتهذيب أخلاقهم الْمَلائِكَةُ المترصدون لأمر الله القائمون لحكمه قائلين لهم مبشرين إياهم أَلَّا تَخافُوا على فرطاتكم التي صدرت عنكم قبل انكشافكم بسرائر التوحيد واليقين وَلا تَحْزَنُوا بما جرى عليكم من مقتضيات بشريتكم وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بألسنة انبيائكم ورسلكم الهادين المهديين وكما وفقناكم على انكشاف سرائر توحيدنا والتخلق باخلاقنا نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ نتولى عموم أموركم كذلك بحيث نكون سمعكم وبصركم وجميع قواكم وجوارحكم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا حسب اسمنا الظاهر وَفِي الْآخِرَةِ ايضا كذلك حسب اسمنا الباطن وَبالجملة لَكُمْ منا وراء ذلك تفضلا من لدنا وإحسانا فِيها اى في الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ من اللذات الروحانية حسب استعداداتكم الفطرية وقابلياتكم الجبلية الفائضة عليكم حسب جودنا الواسع وَبالجملة لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ تطلبون وتتمنون وقت دعائكم في نشأة الدنيا حسب عقولكم وهوياتكم كل ذلك قد صار نُزُلًا معدا لكم قبل نزولكم فيها تفضلا عليكم وإحسانا مِنْ غَفُورٍ ستار لأنانياتكم محاء لذنوب هوياتكم رَحِيمٍ موصل لكم بمقتضى سعة رحمته وجوده الى زلال توحيده وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا وأصلح عملا وأكمل ايمانا واعتقادا وأتم معرفة وتوحيدا مِمَّنْ دَعا اى ارشد وهدى إِلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية المتفرد بالوجود والديمومية وَمع ذلك قد عَمِلَ عملا صالِحاً مطابقا موافقا لصفاء مشرب التوحيد مجتنبا عن رعونات العجب والرياء وتخمينات التقليد والهوى وَبالجملة قالَ بعد ما نال الى ما نال وفنى إِنَّنِي مِنَ زمرة الْمُسْلِمِينَ المسلمين المنقادين المفوضين الى الله جميع ما لاح عليهم من بروق تجلياته الجمالية والجلالية ومالي ايضا الا التسليم والرضاء بعموم ما مضى عليه القضاء. ثم قال سبحانه على سبيل التعليم والإرشاد لعموم العباد وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ اى لا يستوي جنس الحسنات بل هي متفاوتة في الحسن والبهاء وَلَا السَّيِّئَةُ وكذا لا يستوي جنس السيئات ايضا كذلك إذ بعضها أسوأ من بعض ادْفَعْ ايها السالك القاصد سلوك طريق التوحيد من جادة العدالة المنكشفة لأكمل الرسل وأفضل الأنبياء الهادين المرشدين الى بحر الوحدة الذاتية من جداول الأسماء والصفات المترشحة منها حسب تموجاتها وتطوراتها المتفرعة على شئوناتها الذاتية بِالَّتِي اى بالخصلة الحسنة التي هِيَ أَحْسَنُ الحسنات أسوأ السيئات وداوم عليها وتخلق بها حتى تستوي وتستقيم أنت على جادة العدالة الإلهية وبعد استقامتك وتحققك في هذه المرتبة فَإِذَا الَّذِي قد كان بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ مستمرة ناشئة من القوى البهيمية من كلا الطرفين

[سورة فصلت (41) : آية 35]

قد صار صديقك وخليلك الى حيث كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حفيظ لك رقيب على حضانتك عن جميع ما يؤذيك ويرديك فكيف يتأتى منه ان يؤذيك إذ هو حَمِيمٌ مشفق كريم رؤف رحيم لك لا يخاصمك أصلا وَلكن ما يُلَقَّاها اى تلك الخصلة الحميدة الحسنة التي هي دفع الإساءة بالإحسان والمكروه بالمعروف والقهر باللطف إِلَّا الرجال الابطال المتحملون الَّذِينَ صَبَرُوا على كظم الغيظ وتحمل المتاعب والمشاق المتعاقبة على نفوسهم لتحققهم بمقام الرضاء والتسليم بما مضى عليهم من القضاء وتمكنهم في مقر التوحيد المسقط للاضافات المستلزمة لانواع الاختلافات والانحرافات وَبالجملة ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ونصيب كامل من الكشف والشهود باسرار الوجود بمقتضى الجود الإلهي وبعد ما ارشد سبحانه عموم عباده الى طريق النجاة وعلمهم الخصلة المحمودة المخلصة لهم عن اودية الضلالات واغوار الجهالات وأوصاهم بما أوصاهم به من الصبر والثبات على تحمل المشاق والمكروهات خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما خاطب حثا له ولمن تبعه واسترشد منه على دفع ما يمنعهم عن الاتصاف بتلك الخصائل الحميدة ويعوقهم منها بالإضلال والإغواء فقال وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ويعرضن عليك يا أكمل الرسل مِنَ الشَّيْطانِ المضل المغوى نَزْغٌ نخس يحرك غضبك وحمية بشريتك ويوقعن فيك بوسوسته فتنة تبعثك على الانتقام ممن أساء بترك تلك الخصلة المحمودة فَاسْتَعِذْ اى بادر على الاستعاذة واللجأ بِاللَّهِ المقلب للقلوب وفوض أمورك كلها اليه سبحانه على وجه التبتل والإخلاص لتأمن من غوائله وتلبيساته إِنَّهُ سبحانه هُوَ السَّمِيعُ لمناجاتك الْعَلِيمُ بعموم حاجاتك وبخلوص نياتك فيها. ثم قال سبحانه ردا على المشركين المتخذين شركاء لله من مظاهره ومصنوعاته ظلما وزورا يعبدونهم كعبادته وَمِنْ آياتِهِ اى من جملة الدلائل الدالة على قدرة الصانع الحكيم اللَّيْلُ المظلم وَالنَّهارُ المبصر المضيء وَكذا الشَّمْسُ المشرقة في النهار وَالْقَمَرُ المنير في الليل قل لهم يا أكمل الرسل على سبيل التنبيه والتذكير لا تَسْجُدُوا اى لا تعبدوا ولا تتذللوا ايها الاظلال الهالكة المستهلكة في شمس الذات لِلشَّمْسِ الهالكة المستهلكة أمثالكم في شروق ذاته سبحانه وَلا لِلْقَمَرِ المستفيد منها بالطريق الاولى بل وَاسْجُدُوا وتذللوا بوضع جباهكم وجوارحكم على تراب المذلة والهوان لِلَّهِ الواحد الأحد المقتدر العزيز الَّذِي خَلَقَهُنَّ اى اوجدهن واظهرهن من كنتم العدم على سبيل الإبداع بلا سبق مادة وزمان بل بمجرد امتداد اظلال أسمائه وبسط عكوس أوصافه على مرآة العدم فعليكم الإطاعة والانقياد اليه والتوجه نحوه على وجه الإخلاص والاختصاص فاعبدوه إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ سبحانه تَعْبُدُونَ ايها العابدون المخلصون وبعد ما بلغت إليهم يا أكمل الرسل ما بلغت من الحق الحقيق بالقبول والاتباع فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا واستنكفوا عن سجود الله وأصروا على ما هم عليه من سجود غيره اعرض عنهم وعن نصحهم ولا تبال بهم وبشأنهم فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل من الملائكة المهيمين المستغرقين بمطالعة جماله وجلاله الموحدين المفنين هوياتهم في هوية الله يُسَبِّحُونَ لَهُ ويقدسون ذاته عن شوب الشركة مطلقا قولا وفعلا خاطرا وناظرا بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ اى في عموم الأوقات والحالات وَهُمْ من غاية شوقهم وتحننهم لا يَسْأَمُونَ اى لا يملون ولا يفترون منها أصلا ومع ذلك هو سبحانه غنى عن عبادتهم فكيف عن عبادة هؤلاء الحمقى المنغمسين في بحر الجهل التائهين في تيه الضلال وَايضا مِنْ جملة آياتِهِ

[سورة فصلت (41) : آية 40]

الدالة على وحدة ذاته وكمال أسمائه وصفاته أَنَّكَ يا أكمل الرسل انما وجه سبحانه أمثال هذه الخطابات للنبي صلّى الله عليه وسلّم مع انه يصلح لعموم الناس لكمال لياقته بمطالعة آيات الله وخبرته منها تَرَى الْأَرْضَ اى الطبيعة العدمية الجامدة اليابسة خاشِعَةً ذليلة ساقطة عن درجات الاعتبار فَإِذا أَنْزَلْنا من مقام جودنا ورششنا عَلَيْهَا الْماءَ المحيي المترشح من بحر الوجود الذي هو الحي الأزلي والقيوم الأبدي السرمدي اهْتَزَّتْ اى تحركت وارتعدت اهتزازا شوقيا وَرَبَتْ اى زادت ونمت مع انها لا شعور فيها بل لا وجود لها أصلا وبالجملة إِنَّ القادر المقتدر الحكيم الَّذِي أَحْياها مع انها لم تكن في ذاتها شيأ مذكورا لَمُحْيِ الْمَوْتى مرة اخرى بعد ما كانت احياء بالطريق الاولى وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة علمه وارادته قَدِيرٌ بلا فتور وقصور. ثم قال سبحانه تهديدا على منكري الآخرة وقدرة الله على اعادة الموتى وحشر الأجساد إِنَّ المسرفين الَّذِينَ يُلْحِدُونَ اى يميلون وينحرفون فِي آياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمال قدرتنا على انواع الانتقام لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا اى لا يشتبه حالهم علينا بل نحن عالمون بهم وبجميع ما جرى في ضمائرهم وخلج في خواطرهم من الميل والانحراف فنجازيهم بمقتضى الحادهم وانحرافهم باشد العذاب وأسوأ الجزاء أَفَمَنْ يُلْقى ويطرح فِي النَّارِ خَيْرٌ اى قل لهم يا أكمل الرسل على وجه التوبيخ والتقريع أمن يلقى في النشأة الاخرى في النار المسعرة بأنواع المذلة والهوان خير عندهم أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً من العذاب مسرورا يَوْمَ الْقِيامَةِ مقرونا بأنواع الفتوحات والكرامات الموهوبة له من ربه تفضلا عليه وإحسانا وبالجملة قل يا أكمل الرسل للملحدين المصرين على الميل والانحراف على سبيل التبكيت والتهديد اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ من الخوض في آيات الله والميل عن دلائل توحيده إِنَّهُ سبحانه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ اى بعموم ما تعملون وتأملون خبير يجازيكم عليه بلا فوت شيء منه ثم اعرض عنهم ودعهم في خوضهم يلعبون. ثم قال سبحانه على وجه التخصيص بعد التعميم إِنَّ المشركين المفرطين الَّذِينَ كَفَرُوا وأنكروا بِالذِّكْرِ الشامل لما في الكتب السالفة المنزل على أكمل الرسل تفضلا منا إياه وتكريما لَمَّا جاءَهُمْ اى حين جاءهم به الرسول المؤيد من لدنا المرسل إليهم ليرشدهم به الى سبيل الهداية والرشد هم يعاندون في تكذيبه ويكابرون في إنكاره وقدحه عتوا واستكبارا وَكيف يفرطون في علو شأنه سبحانه ويكابرون في سمو برهانه إِنَّهُ اى القرآن لَكِتابٌ عَزِيزٌ منيع ساحة عزته ورتبته وعلو قدره ومكانته عن ان يحوم حوله شائبة الجدل والعناد إذ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ الزائغ الزائل في خلال أوامره وأحكامه لا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ بان يتصف حكمه وأحكامه حين نزوله وظهوره بعدم المطابقة لما في الواقع وبما في علم الله ولوح قضائه وَلا مِنْ خَلْفِهِ بان يلحقه نسخ وتبديل كالكتب السالفة إذ هو تَنْزِيلٌ منزل مِنْ حَكِيمٍ كامل في الإتقان والاحكام عليم بأساليب الحكم والاحكام حَمِيدٍ في ذاته يحمده كل الأنام على ما أفاض عليهم من موائد الإفضال والانعام. ثم أخذ سبحانه ليسلى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ويزيل عنه أذى الكفرة الجهلة المعاندين معه بمقتضى آرائهم الباطلة واهويتهم الفاسدة العاطلة فقال ما يُقالُ لَكَ اى ما يقول لك كفار قومك ليس إِلَّا مثل ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ الذين مضوا مِنْ قَبْلِكَ من قبل قومهم فصبروا على أذاهم حتى ظفروا عليهم فانتصروا فاصبر أنت ايضا أذى هؤلاء المعاندين حتى تظفر عليهم وبعد ما ظفرت يؤمنوا بك او

[سورة فصلت (41) : آية 44]

يصروا في عنادهم إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ على المؤمنين بك يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر ان أخلصوا في ايمانهم وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ على من تولى واستكبر وأصر على كفره ولم يؤمن وبعد ما قدح كفار مكة في شأن القرآن وقالوا هلا نزل بلغة العجم كالكتب السالفة مع انه لم يعهد منه سبحانه إنزال كتاب بلغة العرب قط رد الله عليهم قولهم هذا بقوله وَلَوْ جَعَلْناهُ اى الذكر المنزل عليك يا أكمل الرسل قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا في شأنه من شدة بغضهم وشكيمتهم معك لَوْلا فُصِّلَتْ وهلا أوضحت وبينت آياتُهُ بلسان نفقهها وندكرها نحن مع انه انما انزل إليك وإلينا ونحن وأنت لا نفهم لغة العجم ثم يأخذون في القدح والاستهزاء بوجه آخر ويقولون على سبيل التعجب والاستبعاد أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ يعنى أينزل كلام اعجمى من قبل الحق على سبيل الوحى على بنى عربي لا شعور له بكلام العجم أصلا ليرشد العرب به ويبين لهم ما فيه كلا وحاشا ما هذا الا كذب مفترى وبالجملة لا يسكتون أولئك المعاندون عن القدح والطعن فيه بحال وبعد ما أوضح الحق حالهم في التعنت والعناد قال لحبيبه قُلْ يا أكمل الرسل كلاما خاليا عن وصمة المراء والجدال هُوَ اى القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا به وامتثلوا بأوامره واجتنبوا عن نواهيه وتنبهوا من رموزه وإشاراته واعتبروا من عبره وأمثاله وقصصه واخباره هُدىً يهديهم الى الحق الصريح ويوصلهم الى محض اليقين والتحقيق وَشِفاءٌ لما في النفوس المراض من الجهل والضلال وسائر الأمراض العضال الموروثة لهم من تقليدات آبائهم وتخمينات اوهام صناديدهم ورؤسائهم وَالمكابرون الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ به ولا يصدقون نزوله بل يكذبونه ويستهزؤن مع من انزل اليه هو بالنسبة إليهم فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ مستقر وصمم شديد يصمهم عن استماع آياته الدالة على تهذيب الظاهر والباطن بل وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى يعمى عيون أبصارهم وبصائرهم عن رؤية الحق الظاهر في الأنفس والآفاق وبالجملة أُولئِكَ البعداء عن ساحة عز الحضور يُنادَوْنَ الى مقصد التوحيد مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بمراحل عن الوصول يعنى هم وان جبلوا على نشأة التوحيد صورة الا انهم قد احطوا أنفسهم عنها وألحقوها بالمراتب التي هي مرتبة البهايم بل صاروا انزل منها وابعد لذلك ينادون من مكان بعيد ان نودوا وَبالجملة ان عاندوا معك يا أكمل الرسل واختلفوا في كتابك بالتصديق والتكذيب لا تبال بهم وبردهم وقبولهم فانا لَقَدْ آتَيْنا من كمال فضلنا وجودنا أخاك مُوسَى الكليم الْكِتابَ العظيم التورية المشتمل على ضبط ظواهر الاحكام وبواطنها حفظا لهم وضبطا لأمور معاشهم ومعادهم ومع ذلك فَاخْتُلِفَ فِيهِ وخولف في شأنه فقبله بعضهم ورده الآخر مثل ما يفعل هؤلاء الغواة مع كتابك هذا وبالجملة ليس هذه الديدنة ببدع من هؤلاء الجهلة بل هي من جملة العادات القديمة والشيم المستمرة وَبالجملة لَوْلا كَلِمَةٌ موعودة معهودة سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ من أخذ الظالم منهم على ظلمه في يوم الجزاء لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وحكم بأخذهم بمقتضى ظلمهم في يومهم هذا واستئصالهم بالكلية بلا امهال لهم لاستئصالهم واستحقاقهم بالأخذ والانتقام لكن قد ثبت حكمه سبحانه على ما قد وعد وقضى إذ ما يتبدل القول لديه وَإِنَّهُمْ من غاية تماديهم في الغفلة والاعراض عن الحق واقتداره على وجوه الانتقام لَفِي شَكٍّ عظيم مِنْهُ اى من قضاء الله وحكمه المبرم في يوم الجزاء مُرِيبٍ فيه ريبا منتهيا الى الإنكار والتكذيب وبالجملة لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبريبهم وانكارهم وطغيانهم فاعلم انه مَنْ عَمِلَ من عبادنا عملا صالِحاً فَلِنَفْسِهِ اى صلاحه عائد الى

[سورة فصلت (41) : آية 47]

نفسه راجع الى إصلاح حاله في معاشه ومعاده وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها اى رجع وبال اساءتها ايضا على نفسها وَبالجملة ما رَبُّكَ المنزه في ذاته عن اطاعة المطيع وعصيان العاصي بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اى لا ينقص من أجور المطيعين ولا يزيد على جزاء العاصين بل يتفضل على اهل الطاعة فوق ما استحقوا بأعمالهم أضعافا وآلافا عناية منه وفضلا ويقتصر على اصحاب المعصية والضلال بجزاء ما اقترفوا لأنفسهم عدلا منه وقهرا وكيف لا يتفضل سبحانه على ارباب العناية ولا يعدل على اصحاب الغواية إذ إِلَيْهِ لا الى غيره من اظلال الوسائل والأسباب يُرَدُّ ويرجع عِلْمُ السَّاعَةِ اى العلم المتعلق بوقت قيامها وكيفية ما جرى فيها من الأهوال والافزاع إذ هي من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها وَايضا يرجع على علمه سبحانه ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ اى أجناس الثمار مع اختلاف أنواعها وأصنافها حتى تخرج مِنْ أَكْمامِها اى أوعيتها التي فيها أنوارها وازهارها الحاصلة منها الأثمار إذ هي ايضا من جملة الأمور الغيبية المستأثر بها سبحانه وَكذا ما تَحْمِلُ وتحبل مِنْ أُنْثى اى قوابل الحمل والحبل وَلا تَضَعُ حملها بمكان من الأمكنة إِلَّا بِعِلْمِهِ سبحانه وحضوره إذ هو العالم لا غيره بما في الأرحام وبمدة بقائه فيها وخروجه منها لا اطلاع لاحد عليها وَاذكر يا أكمل الرسل لمن أشرك بالله واثبت الوجود لغيره وأجاز الشركة في ألوهيته وربوبيته عدوانا وظلما يَوْمَ يُنادِيهِمْ الله حين أراد الانتقام عنهم موبخا لهم ومقرعا إياهم أَيْنَ شُرَكائِي الذين تزعمون أنتم شركتهم معى وشفاعتهم لدى احضروهم لينجوكم من عذابي ويشفعوا لكم عندي وبعد ما سمعوا النداء الهائل المهول قالُوا متأسفين متحزنين آذَنَّاكَ وقد أعلمناك يا مولانا اليوم وان كنت أنت اعلم منا بحالنا انا ما مِنَّا اى ما احد منا اليوم مِنْ شَهِيدٍ ليشهد على شركة شركائنا الذين قد ادعينا شركتهم معك ظلما وزورا وَبعد ما تقولوا من شدة الأسف ونهاية الحسرة والضجرة قد ضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عن بصائرهم وأبصارهم ما كانُوا يَدْعُونَ ويعبدون اليه مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا بل تيقنوا حينئذ ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب ومخلص من عذاب الله وبالجملة تندموا وما ينفعهم الندم ورجعوا الى الله حينئذ وما يفيدهم رجوعهم لانقضاء نشأة التدارك والاختبار ومن العادة القديمة والديدنة المستمرة انه لا يَسْأَمُ اى لا يمل ولا يفتر الْإِنْسانُ المجبول على جلب الإحسان مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ لنفسه وجذب المنفعة نحو ذاته بل صار ابدا حريصا عليها مولعا لاقتنائها وجمعها وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ ولحق به الضر في حين من الأحيان فَيَؤُسٌ من قدرة الله على رفع الضر عنه وجلب النفع إياه مع انه قد أزال عنه مرارا قَنُوطٌ من فضل الله ومن سعة رحمته وجوده وَمن غاية يأس الإنسان وشدة قنوطه عن مقتضى فضلنا وجودنا لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً ووفرناها عليه بحيث تسرى في جميع اجزائه مع كونها تفضلا مِنَّا إياه بلا استحقاق من جانبه واقتراف من لدنه غاية ما في الباب انها فائضة عليه موهوبة إياه مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ولحقت إياه اوائلها إذ المساس يحصل بمجرد الملاقاة لَيَقُولَنَّ معرضا عن الله هذا لِي وانا استحق بها لاحتمالى الشدائد ولكمال فضلي ووفور عملي او هذالى بمقتضى ذاتى وَبالجملة ما أَظُنُّ السَّاعَةَ الموهومة الموعودة قائِمَةً آتية وَلَئِنْ فرضت وقوعها وقيامها على الوجه الذي زعم الرسل المدعون ونطقت به الكتب المزورة المفتراة ورُجِعْتُ إِلى رَبِّي كما زعموا إِنَّ لِي قد حق وثبت لي عِنْدَهُ

[سورة فصلت (41) : آية 51]

سبحانه لَلْحُسْنى اى الحالة التي هي احسن الحالات وأكرم الكرامات لاستحقاقى بها واقتضاء ذاتى إياها وبالجملة انما يقول على سبيل الاستهزاء والتهكم فَلَنُنَبِّئَنَّ ولنخبرن حين الجزاء الكافرين الَّذِينَ كَفَرُوا بوفور قدرتنا وقوتنا على وجوه الأخذ والانتقام بِما عَمِلُوا من الجرائم العظام وكبائر الآثام وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ مؤلم فظيع فجيع لا يمكنهم الخلاص عنه وَمن شدة طغيان الإنسان ونهاية كفرانه وعدوانه إِذا أَنْعَمْنا وأكرمنا من مقام جودنا عَلَى الْإِنْسانِ المجبول على الكفران والنسيان أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ اى تباعد عنا ولم يشكر على نعمنا ولم يلتفت الى موائد كرمنا وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ ولحقه الضر فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ كثير ممتد عرضا وطولا وهو كناية عن الحاحهم ولجاجهم في طلب الكشف والتفريج من الله عند نزول البلاء وإلمام المصيبة قُلْ يا أكمل الرسل لمنكري القرآن والقادحين فيه على سبيل الظلم والعدوان أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ القرآن منزلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بحسب الواقع مع انه لا شك في نزوله من عنده ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ بلا تأمل وتدبر في دلائل صدقه وبراهين اعجازه لفظا ومعنى مَنْ أَضَلُّ سبيلا ورأيا وطريقا مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وخلاف شديد عن الحق وقبوله وبالجملة من أضل منكم حينئذ ايها القادحون الطاعنون المنكرون له مع وضوح محجته وسطوع برهانه. ثم أشار سبحانه الى وحدة ذاته وكمال ظهوره حسب أسمائه وصفاته في عموم مظاهره ومصنوعاته وحيطته عليها وشموله إياها ليكون دليلا على حقية كتابه وصدوره منه فقال سَنُرِيهِمْ اى المجبولين على فطرة التوحيد المخلوقين على نشأة الايمان والعرفان الموفقين على كمال الكشف والعيان آياتِنا اى دلائل توحيدنا الدالة على وحدة ذاتنا الظاهرة فِي الْآفاقِ اى ذرات الأكوان الخارجة عن نفوسهم المدركة بآلاتهم وحواسهم سميت بها لطلوع شمس الحقيقة منها وظهورها عليها وَفِي أَنْفُسِهِمْ اى ذواتهم التي هي أدل دليل على معرفة الحق ووحدته لذلك قال اصدق القائلين وأكمل الكاملين من عرف نفسه فقد عرف ربه وانما نريهم ما نريهم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ ويظهر دونهم وينكشف عليهم أَنَّهُ اى الأمر الظاهر والشأن المحقق المتحقق في الأنفس والآفاق هو الْحَقُّ الحقيق بالتحقق والثبوت بالاستقلال والاستحقاق بمقتضى صرافة وحدته الذاتية والقرآن المعجز ايضا من جملة مظاهره وآثار صفاته الذاتية. ثم لما أشار سبحانه الى وحدة ذاته بالنسبة الى عموم عباده أراد ان ينبه على المستكشفين من ارباب المحبة والولاء الوالهين بمطالعة وجهه الكريم فخاطب لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم إذ هو الحرى بأمثال هذه الخطابات العلية فقال مستفهما على سبيل التعجب والاستبعاد إذ هو ادخل في التنبيه والتنوير أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ اى أيشكون أولئك المكلفون الشاكون في وجود مربيك الذي هو مربيهم ايضا يا أكمل الرسل ويترددون في تحققه وظهوره ولم يكف لهم دليلا أَنَّهُ بذاته وبعموم أسمائه وصفاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ مما لاح عليه برق وجوده ورشاشة نوره شَهِيدٌ حاضر غير مغيب عنه وبالجملة او لم يكف لهم دليلا على تحقق الحق حضوره مع كل شيء من مظاهره ثم نور سبحانه ما نبه عليه على سبيل التعجب والتلويح تأكيدا ومبالغة وزيادة إيضاح وتوضيح فقال أَلا إِنَّهُمْ بعد ما أضاء لهم شمس الذات من مرايا الكائنات فِي مِرْيَةٍ شك وارتياب مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ فيها ومن مطالعة وجهه الكريم أَلا إِنَّهُ بذاته حسب شئونه وتطوراته المتفرعة على أسمائه وصفاته بِكُلِّ شَيْءٍ من مظاهره ومصنوعاته مُحِيطٌ بالاستقلال والانفراد احاطة ذاتية بلا شوب شركة وشين كثرة إذ لا وجود سواه ولا موجود غيره ولا اله الا هو

خاتمة سورة فصلت

خاتمة سورة فصلت عليك ايها السالك المترقب لشهود الحق من ذرائر عموم المجالى والمظاهر الظاهرة في الأنفس والآفاق ان تصفى سرك وضميرك أولا من وساوس مطلق الأوهام والخيالات العائقة عن التوجه الى صرافة الوحدة الذاتية وتخلى خلدك عن مطلق الإضافات الصارفة عن ذلك بان تكون في نفسك متوجها الى ربك الذي هو عبارة عن حصة لاهوتك ونشأة جبروتك خاليا عنك وعن لوازم ناسوتك وعوارض بشريتك بالمرة بحيث لا شعور لك بما جرى على هويتك أصلا وبالجملة كن فانيا في الله باقيا ببقائه ناظرا بنوره الى وجهه الكريم تفز بنعيم الجنات وعظيم اللذات مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر [سورة الشورى] فاتحة سورة الشورى لا يخفى عليك وعلى من تحقق بمرتبة التوحيد وتمكن عليها بلا تردد وتلون ان عموم مراتب الأنبياء والرسل ومشارب الأولياء التابعين لهم المقتفين أثرهم انما هي على صرافة الوحدة الذاتية المسقطة لعموم الكثرات والإضافات وان ما انزل الله على سبيل الوحى والإلهام من الكتب والصحف انما هو لبيان الطرق الموصلة إليها ولهذا نبه سبحانه حبيبه على طريق توحيده بعد ما خاطبه متيمنا باسمه العظيم بِسْمِ اللَّهِ الذي به ظهر على ما ظهر وبطن بصرافة وحدته الذاتية المحيطة بالكل الرَّحْمنِ على عموم الكائنات بافاضة الوجود الذي هو منشأ جميع الكمالات الرَّحِيمِ على خواصها وخلاصتها بالإيصال الى منبع ماء الحياة الذي هو وحدة الذات المسقطة لمطلق الإضافات [الآيات] حم عسق يا حامل وحى الله وما حي الوجود عن غيره وعالم سرائر قدره وعارف سر سريان وحدته الذاتية على قلوب خلص عباده من الأنبياء والأولياء كَذلِكَ اى مثل ما ذكر في هذه السورة من سرائر التوحيد والأخلاق المرضية يُوحِي إِلَيْكَ يا أكمل الرسل في كتابك هذا وَكذا إِلَى الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِكَ من الأنبياء والرسل في كتبهم وصحفهم اللَّهُ المتوحد بذاته المحيط بعموم مظاهره ومصنوعاته المستقل بأمر الإرسال والإنزال والوحى والإلهام الْعَزِيزُ الغالب في امره وشأنه الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله وتدبيراته الجارية في ملكه وملكوته إذ لَهُ مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وتصرفا إيجادا واعداما إبداء واعادة وَبالجملة هُوَ الْعَلِيُّ المستقل بالعلو في مطلق ملكه وملكوته الْعَظِيمُ في شأنه وامره لا عظمة ولا علو الا له ولا حول ولا قوة الا به ولا حكم ولا حكمة الا منه ومن كمال عزته وعظمته تَكادُ السَّماواتُ السبع يَتَفَطَّرْنَ بالياء التحتاني والتاء الفوقاني او بالياء التحتاني والنون معناه على كلتا القرائتين يتشققن مِنْ فَوْقِهِنَّ اى من فوق السموات ومن فوق الأرضين السبع من كمال خشية الله ورهبته خوفا من تجليه عليهن باسمه القهار المفنى لعموم الأغيار مطلقا وَالْمَلائِكَةُ ايضا من خشيتهم عن قهر الله وغضبه يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ تعديدا لنعمه المتوالية المترادفة إليهم مع اضافة الشعور والإدراك وأداء لحقوق ربوبيته ومقتضيات ألوهيته وشكرا على إعطاء التمكن والاقتدار على مواظبة عبوديته ومشاهدة آثار سلطنته وعظمته وَيَسْتَغْفِرُونَ ايضا باذنه وبمقتضى امره لِمَنْ فِي الْأَرْضِ من خلص عباده الموحدين المجبولين على صورته المجعولين

[سورة الشورى (42) : آية 6]

لمصلحة خلافته ونيابته أَلا اى تنبهوا ايها الاظلال المنهمكون في بحر الحيرة والضلال إِنَّ اللَّهَ الذي أظهركم من كتم العدم ورباكم بأنواع اللطف والكرم هُوَ الْغَفُورُ الستار لذنوب انانياتكم المحاء لآثام هوياتكم ان تبتم واخلصتم فيها الرَّحِيمُ بكم يقبل منكم توبتكم ويغفر زلتكم ويوصلكم الى ما جبلتم لأجله. ثم قال سبحانه تهديدا على المشركين المتخذين لله المتوحد في ذاته المستقل في وجوده أندادا وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ سبحانه أَوْلِياءَ يوالونهم كولايته سبحانه ويتوجهون نحوهم مثل توجهه لا تلتفت يا أكمل الرسل إليهم ولا تبال بشأنهم إذ اللَّهُ المحيط بذواتهم وأفعالهم وصفاتهم حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ عليم بأعمالهم ونياتهم فيحاسبهم عليها ويجازيهم بمقتضاها وَبالجملة ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ كفيل تخلصهم عن مفاسد أعمالهم ومقابح أفعالهم بل ما أنت الا مبلغ ونذير وبعد ما بلغت وأنذرت لم يبق من أمرك شيء وَكَذلِكَ اى مثل ما أوحينا وأنزلنا الى من قبلك من الأنبياء والرسل كتبا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل ايضا قُرْآناً عَرَبِيًّا نظما وأسلوبا لِتُنْذِرَ بانذاراته أُمَّ الْقُرى يعنى اهل مكة شرفها الله وَمَنْ حَوْلَها من أقطارها وانحائها كما انذر الأنبياء الماضون اقوامهم عن مطلق الأمور المنافية لسلوك طريق التوحيد وسبيل الهداية والرشد وَتُنْذِرَ خاصة عن الأهوال والأحزان الحاصلة لهم يَوْمَ الْجَمْعِ والحشر والاجتماع على المحشر والموقف بين يدي الله الذي لا رَيْبَ فِيهِ اى في إتيانه ووقوعه وبعد ما اجتمعوا فيه حيارى وسكارى تائهين هائمين يساقون بعد ما يحاسبون نحو الجنة والنار فَرِيقٌ منهم فِي الْجَنَّةِ مسرورون مقبولون وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ محزونون مطرودون وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الهادي لعباده وأراد هدايتهم جميعا لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً مقتصدة معتدلة على مقتضى صرافة الوحدة الذاتية واعتدالها الحقيقي وَلكِنْ راعى سبحانه مقتضيات أوصافه وأسمائه المتقابلة وشئونه المتخالفة لذلك يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ويوصله الى فضاء وحدته حسب جوده وحكمته عناية منه وفضلا وولاية لهم ونصرا وَالظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى العناية الإلهية وولايته حسب قهره وانتقامه إياهم إظهارا لكمال قدرته ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ يواليهم ويشفع لهم عنده سبحانه وَلا نَصِيرٍ ينقذهم من عذابه فظهر ان لا ولاية ولا نصرة الا لله ولا غالب الا هو وان زعموا آلهة سواه أَمِ اتَّخَذُوا بل أخذوا واثبتوا مِنْ دُونِهِ سبحانه أَوْلِياءَ واعتقدوهم شركاء له سبحانه او شفعاء لهم عنده سبحانه فانه لا تنفعهم موالاتهم واتخاذهم هذا بل تضرهم وتغويهم فَاللَّهُ المستقل بالالوهية والربوبية هُوَ الْوَلِيُّ المقصور على الولاية لأولى في الوجود سواه وَهُوَ بكمال قدرته يُحْيِ الْمَوْتى ويميت الأحياء بالإرادة والاختيار لا فاعل في الوجود الا هو وَبالجملة هُوَ باستقلاله واختياره عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مقدوراته ومراداته قَدِيرٌ بلا فتور وقصور وَبعد ما ثبت ان الولاية المطلقة والقدرة المحققة ثابتة لله منحصرة له لا فاعل في الوجود سواه فاعلموا ايها المكلفون بسلوك طريق الحق وتوحيده ان مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ اى من شعائر الدين ومعالم التوحيد واليقين واختلافكم فيه انه هل هو مفيد لكم في سلوككم أم مفسد فَحُكْمُهُ مفوض إِلَى اللَّهِ وامره موكول الى كتبه ورسله فعليكم التعبد والامتثال بما أمرتم به ونهيتهم عنه على ألسنة الكتب والرسل إذ لا مدبر لأموركم سواه ولا متصرف في الوجود الا هو ذلِكُمُ اللَّهُ الذي سمعتم نبذا من وصفه واستقلاله في ملكه وملكوته رَبِّي وربكم فاعبدوه حق عبادته وفوضوا أموركم كلها اليه وان خوفتمونى بغيره مع انه لا غير في الوجود معه فانا عَلَيْهِ

[سورة الشورى (42) : آية 11]

لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية تَوَكَّلْتُ واتخذته وكيلا يدفع عنى مؤنة جميع من عاداني وَإِلَيْهِ لا الى الوسائل والأسباب أُنِيبُ وارجع في مطلق الخطوب والملمات وكيف لا أتوكل عليه ولا أنيب نحوه إذ هو بذاته حسب شئونه وتطوراته فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مظهرهما وموجدهما من كتم العدم ومدبر ما يتكون بينهما من الطبائع والهيولى وصور المواليد والأركان ومن جملة تدبيراته سبحانه انه جَعَلَ وخلق لَكُمْ ايها المجبولون على فطرة التوحيد إبقاء لتناسلكم وتوالدكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ ومن بنى نوعكم أَزْواجاً من جنسكم وصنفكم وجعل بينكم مودة ورحمة إبقاء لنسلكم وَمِنَ الْأَنْعامِ ايضا أَزْواجاً تربية لكم وتتميما لمعاشكم وبالجملة يَذْرَؤُكُمْ يبثكم ويكثركم فِيهِ اى في عالم الظهور ونشأة الشهادة بهذا التدبير البديع كل ذلك لتعلموا وتعرفوا يقينا انه لَيْسَ كَمِثْلِهِ اى ليس مثله سبحانه شَيْءٌ يناسبه في الوجود ويماثله في التحقق والثبوت والمراد بالمثل المنفي هو ذاته اى لا يماثله ذاته فكيف غيره مثل قولهم مثلك لا يبخل بمعنى أنت لا تبخل والمراد به نفى التعدد عنه سبحانه مطلقا على سبيل المبالغة والتأكيد فثبت حينئذ ان لا موجود سواه ولا تحقق لغيره وَمتى ثبت هذا ظهر انه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ اى هو بذاته المنحصر على صفتي السمع والبصر وجميع الأوصاف الذاتية الكاملة الشاملة آثارها في عالمي الغيب والشهادة ونشأتى الاولى والاخرى إذ لَهُ لا لغيره من الوسائل والأسباب العادية الظاهرة في اظلال المظاهر والمجالى مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مفاتيح خزائن العلويات من الأسماء والصفات وكذا مفاتيح السفليات من مظاهر الطبائع ومرايا الاعدام القابلة لانعكاس اشعة شمس الذات من مشكاة الأسماء والصفات إذ هو بذاته يَبْسُطُ ويفيض الرِّزْقَ الصوري والمعنوي لِمَنْ يَشاءُ من ظلاله وعكوسه وَيَقْدِرُ يقبض عن من يشاء منهم وبالجملة إِنَّهُ سبحانه بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته بِكُلِّ شَيْءٍ دخل تحت ظل وجوده حسب فضله وجوده عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يعزب عن حضوره شيء مما ظهر وبطن وغاب وشهد ومن كمال توحده واستقلاله في تدبير ملكه وملكوته وحيطة علمه وشمول قدرته شَرَعَ لَكُمْ اى قد قضى ووضع لكم ايها الاظلال المنهمكون في بحر الحيرة والضلال مِنَ الدِّينِ القويم والطريق المستقيم الموصل الى توحيده ما وَصَّى بِهِ نُوحاً اى دينا قد شرعه ووضعه سبحانه على نوح إذ هو أول من ظهر على نشأة التدين والتشرع في طريق التوحيد ألا وهو توحيد الأفعال وَهذا الدين الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل هو الدين الموصل الى توحيد الذات لذلك ختم ببعثك امر الرسالة والتشريع وبعد ما عين سبحانه مبدأ التوحيد ومنتهاه أشار الى ما بينهما من المراتب فقال وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى اى الأديان التي قد وضعناها على هؤلاء المشاهير وغيرهم من جماهير الأنبياء والرسل المتشرعين هي الأديان الموصلة الى توحيد الصفات وبالجملة قد وصينا لعموم ذوى الأديان أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ المنزل إليهم واستقيموا في الإطاعة والامتثال بأوامر الأديان ونواهيها وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ اى لا تختلفوا في اصل الدين الذي هو التوحيد الإلهي بحال وان كانت الطرق والمناهيج نحوه مختلفة باختلاف ذوى المراتب المترتبة بحسب اختلافاتهم في شئون الحق وتجلياته فلك يا أكمل الرسل ان تدعو الناس الى توحيد الذات المتضمن المستلزم لتوحيد الصفات والأفعال وان كان كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ اى قد شق وعظم عليهم ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اى دعوتك إياهم الى التوحيد الذاتي

[سورة الشورى (42) : آية 14]

إذ لم يعهد هذا من غيرك من الأنبياء الماضين والرسل السابقين لذلك شق عليهم حسدا وغيظا فكيف يحسدون ويغيظون عليك وبشأنك يا أكمل الرسل إذ اللَّهُ العليم الحكيم المطلع على استعدادات العباد وقابلياتهم يَجْتَبِي إِلَيْهِ اى يختار ويجذب نحو التوحيد الذاتي مَنْ يَشاءُ من المجبولين على فطرة التوحيد وَيَهْدِي إِلَيْهِ ويوفق عليه ويرشد نحوه مَنْ يُنِيبُ اليه سبحانه انابة صادرة عن محض الإخلاص والتبتل والتفويض والتوكل وَبعد ما ثبت ان اصل الأديان كلها هو التوحيد وان الأنبياء والرسل انما جاءوا بأجمعهم لإظهاره وتبيينه وإعلاء كلمته ظهر ان الأمم الهالكة ما تَفَرَّقُوا وما اختلفوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً واقعا بَيْنَهُمْ عدوانا وظلما اعراضا عن الحق واهله وبالجملة ما ظهر بينهم ما ظهر من العداوة والبغضاء الا على سبيل المراء والافتراء وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وهي امهال انتقامهم وتأخيره إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وحكم عليهم حين اختلافهم ويوم تفرقهم فاستوصلوا فيه بالمرة حتما وَإِنَّ المختلفين المتفرقين الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ المنزل على أسلافهم مِنْ بَعْدِهِمْ اى من بعد انقراض أسلافهم لَفِي شَكٍّ مِنْهُ اى من الكتاب أمثال أولئك الاسلاف الضلال مُرِيبٍ موقع لهم في الريب والضلال لذلك اختلفوا معك يا أكمل الرسل وأنكروا على دينك وكتابك ولو كان لهم علم بكتابهم ما ظهروا عليك وما طعنوا في دينك وكتابك إذ الايمان والتصديق بكتاب من كتب الله ودين من اديانه ورسول من رسله يوجب الايمان بجميع الكتب والرسل والأديان بناء على الأصل الذي سمعت من التوحيد فَلِذلِكَ الأصل الذي هو التوحيد الذاتي المسقط لعموم الاختلافات والإضافات فَادْعُ أنت يا أكمل الرسل من تدعوه من المجبولين على فطرة التوحيد والإسلام وَاسْتَقِمْ أنت في نفسك على جادة التوحيد كَما أُمِرْتَ من قبل ربك وثبت اقدام عزمك عليها معتدلا حنيفا مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ اى اهوية اصحاب الخلاف والاختلاف الضالين المترددين في اودية الجهالات واغوار الأوهام والخيالات المنافية لصفاء فضاء التوحيد وَقُلْ يا أكمل الرسل بعد ما قد صفا سرك وخلا خلدك عن مطلق الأوساخ والاكدار الموجبة للاختلاف والخلاف آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ اى بجميع ما انزل الله مِنْ كِتابٍ مبين موضح لطريق الحق وتوحيده وَقل بعد ذلك ايضا إظهارا لدعوتك إياهم أُمِرْتَ من قبل ربي لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ وأبين لكم طريق العدالة الإلهية حسب وحى الله والهامه إياي وبالجملة أنا مأمور من عنده بتبليغه وتبيينه إياكم لتربيتكم وتكميلكم إذ اللَّهُ المدبر لأمور عموم عباده رَبُّنا الذي ربانا لمصلحة الإرشاد والتكميل وَرَبُّكُمْ أراد ان يربيكم بالهداية والرشد وان لم نكن نحن معاشر الرسل والأنبياء مأمورين من عنده سبحانه لإصلاحكم وإرشادكم ما لنا معكم إذ لَنا أَعْمالُنا اى جزاء صالحها وفاسدها وَلَكُمْ ايضا أَعْمالُكُمْ كذلك إذ كل منا ومنكم مجزىّ بما كسب وعمل لا حُجَّةَ اى لا غلبة ولا خصومة بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ بعد ما بلغناكم ما أمرنا بتبليغه وأوضحنا لكم سبيل الحق وصراطه السوى وبالجملة اللَّهُ اى الذات الجامع المستجمع لجميع الأسماء والصفات يَجْمَعُ بَيْنَنا وبينكم ان تعلق مشيته بجمعنا وَكيف لا يجمع بيننا سبحانه إذ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ اى رجوع الكل نحوه كما ان صدوره منه سبحانه وَبعد وضوح محجة الحق ومنهج المعرفة واليقين الَّذِينَ يُحَاجُّونَ يجادلون ويخاصمون متشبثين بأذيال المجادلات والمغالطات الواهية

[سورة الشورى (42) : آية 17]

الزائغة فِي توحيد اللَّهِ سيما مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ اى قبله العقل والنقل والكشف الصريح والذوق الصحيح حُجَّتُهُمْ اى عموم حججهم وتمسكاتهم التي قد تمسكوا بها على وجه العناد والمكابرة كلها داحِضَةٌ زائلة باطلة عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي رباهم لمصلحة المعرفة والتوحيد وَعَلَيْهِمْ بسبب عنادهم وجدالهم بالحق الصريح غَضَبٌ نازل من الله وَلَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ شَدِيدٌ لا عذاب أشد منه وأفزع وأفظع وبالجملة كيف يحاجون ويكابرون المعاندون في توحيده سبحانه مع انه هو اللَّهُ المدبر المصلح لأمور عباده الَّذِي أَنْزَلَ لإصلاحهم وإرشادهم الْكِتابَ اى جنس الكتاب النازل من عنده لتبيين مناهيج توحيده كلها ملتبسة بِالْحَقِّ الصريح المعرى عن الباطل الزاهق الزائل مطلقا وَانزل ايضا على طبق الكتاب موافقا له الْمِيزانَ اى جنس الاحكام والشرائع والأديان التي توزن بها اعمال الأنام وإخلاصهم فيها وثباتهم بها على جادة التوحيد ومنهج الإسلام فعليك يا أكمل الرسل وعلى من تبعك في عموم الأحوال والأوقات وجميع الحالات والمقامات امتثال عموم ما امر ونهى من احكام كتابك وان تزن أنت ومن معك أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم واطواركم كلها بميزان الشرع القويم والدين المستقيم وَبالجملة ما يُدْرِيكَ وما يعلمك ايها المجبول على فطرة الدراية والشعور لَعَلَّ السَّاعَةَ الموعودة التي قد تعذر دونها التدارك والتلافي قَرِيبٌ إتيانها وقيامها وعند قيامها تتندمون وما ينفعكم الندم حينئذ وان كان يَسْتَعْجِلُ بِهَا وبقيامها استهزاء ومراء المنكرون الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ولا يصدقون بِهَا عنادا ومكابرة ويزعمون انه لا يلحقهم ما يوعدون فيها من العذاب الروحاني والجسماني وَالمؤمنون الَّذِينَ آمَنُوا بها وبعموم ما فيها من المواعيد والوعيدات الهائلة هم مُشْفِقُونَ خائفون مِنْها ومن إلمامها بغتة قبل تهيئة الزاد والاعداد وَذلك انهم يَعْلَمُونَ يقينا أَنَّهَا الْحَقُّ المحقق إتيانها وقيامها بلا مرية وريب أَلا تنبهوا ايها المؤمنون بكمال قدرة الله ووفور حكمته إِنَّ المسرفين الَّذِينَ يُمارُونَ ويشكون فِي قيام السَّاعَةِ الموعود إتيانها من قبل الحق مراء ومجادلة لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ بمراحل عن الهداية الموصلة الى مقر التوحيد إذ هم محجوبون بالأغشية الكثيفة الامكانية والاغطية الغليظة الهيولانية عن سريان الهوية الإلهية في عموم الهويات الغيبية والشهادية عن تجلياتها اللطفية والقهرية والجمالية والجلالية على مطلق المظاهر والمجالى حضورا وشهودا مع انه اللَّهُ المنزه ذاته عن سمة الحدوث والإمكان المقدس أسماؤه وصفاته عن وصمة العيب والنقصان لَطِيفٌ بِعِبادِهِ الخلص من رق الأكوان بحيث يصير سمعهم وبصرهم وعموم قواهم وآلاتهم الى حيث أفناهم في ذاته وأبقاهم ببقائه يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ منهم بالرزق المعنوي الموصل الى مبدئهم ومعادهم ترحما عليهم وتلطفا معهم وَكيف لا إذ هُوَ الْقَوِيُّ القادر القدير المقتدر على عموم مقدوراته الصادرة منه بمقتضى حكمته الْعَزِيزُ الغالب على مطلق مراداته الجارية منه حسب اختياره. ثم لما أشار سبحانه الى كمال تنزهه وتقدس ذاته عن وصمة النقصان مطلقا والى كمال ترحمه وتلطفه مع خلص عباده قال مَنْ كانَ منهم يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ اى يزرع في النشأة الاولى بذور الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة ليحصد ما يترتب عليها من المثوبات والكرامات في النشأة الاخرى نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ونضاعف ثوابها لأجله ونعطه من اللذات الروحانية ما لا مزيد عليه تفضلا منا عليه وتكريما له وَمَنْ كانَ

[سورة الشورى (42) : آية 22]

منهم يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا ونوى نماء بزوره فيها نُؤْتِهِ مِنْها كمال مبتغاء ومتمناه فيها إذ لكل امرئ ما نوى وَلكن ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ من اللذات الجسمانية والروحانية الباقية مِنْ نَصِيبٍ لاختياره لذات الدنيا وشهواتها الفانية على ما في الآخرة من اللذات الروحانية الباقية لذلك ما له حظ في الآخرة من لذاتها أهم بأنفسهم وعلى خيالهم يحرمون نفوسهم من اللذات الاخروية والفتوحات الروحانية أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ من شياطين الجن والانس قد ظاهروهم عليه وصرفوهم نحوه حيث شَرَعُوا وزينوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ الباطل والديدنة الزائغة ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ الحكيم المتقن في أفعاله المدبر لعموم مصالح عباده على مقتضى حكمته ومراده ولم يأمر بوضعه واتخاذه لا بالوحي ولا بالإلهام بل انما أخذوا ما أخذوا من تلقاء أنفسهم وعلى مقتضى اهويتهم الباطلة ظلما وعدوانا لذلك لم يثمر لهم سوى الخيبة والخذلان والحسرة والحرمان وَبالجملة لَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ والقضاء صادرة عن الله بتأخير أخذهم بظلمهم وامهال انتقامهم الى يوم الجزاء لَقُضِيَ وحكم اليوم بَيْنَهُمْ اى بين اهل الهداية والضلال فيلحق لكل منهم جزاء ما اقترفوا من الحسنات والسيئات وَبالجملة إِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية بمتابعة آرائهم وإخوانهم من الشياطين لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في النشأة الاخرى ألا وهو حرمانهم عما أعد لنوع الإنسان المصور على صورة الرحمن من الكرامات السنية والمقامات العلية لا عذاب أشد منه وأفزع ومن كمال حرمانهم وخسرانهم حينئذ تَرَى الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية عدوانا وظلما مُشْفِقِينَ خائفين مرعوبين مِمَّا كَسَبُوا اى من لحقوق وبال ما اكتسبوا من المعاصي والآثام وَالحال انه هُوَ واقِعٌ بِهِمْ لاحق لهم وما ينفعهم الإشفاق وعدمه لانقضاء نشأة التدارك وزمان التلافي. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية المستمرة وَترى ايضا ايها المعتبر الرائي المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق حين أخبرهم الرسل ودعاهم اليه حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية وَمع ايمانهم بالله قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ اى قد أكدوا ايمانهم وتوحيدهم الذاتي بصوالح الأعمال والأخلاق ليدل ايضا على توحيد الصفات والأفعال هم في النشأة الاخرى لكمال اطاعتهم وانقيادهم متنعمون فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ اى متنزهات اليقين العلمي والعيني والحقي ولهذا قد حصل وحضر لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من اللذات المتجددة والفيوضات المترادفة وانواع الفتوحات والكرامات عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي أوصلهم الى كنف قربه وجواره وبالجملة ذلِكَ الفضل الذي أعد لأرباب العناية والتوحيد هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ والفوز العظيم الذي يستحقر دونه عموم اللذات والكرامات وبالجملة ذلِكَ المذكور من الفوز والفضل هو الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ المنعم المفضل به عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة ذاته وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المفضية الموصلة لهم الى توحيد الأفعال والصفات قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بينت لهم طريق الهداية والضلال وبلغت ما يوحى إليك للإرشاد والتكميل إياهم لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغى وتبشيرى إياكم أَجْراً جعلا منكم ونفعا دنيويا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى اى ما اطلب منكم نفعا دنيويا بل ما اطلب منكم الا محبة اهل بيتي ومودتهم ليدوم لكم طريق الاستفادة والاسترشاد منهم إذ هم مجبولون على فطرة التوحيد الذاتي وفطنة المعرفة الذاتية مثلي روى انها لما نزلت قيل يا رسول الله من قرابتك قال على وفاطمة وابناهما وكفاك شاهدا على ذلك ظهور الائمة الذين هم من أكابر اولى العزائم في طريق الحق وتوحيده صلوات الله وسلامه على أسلافهم

[سورة الشورى (42) : آية 24]

وعليهم وعلى اخلافهم ما تناسلوا وتوالدوا بطنا بعد بطن وَبالجملة مَنْ يَقْتَرِفْ ويكتسب بمتابعة الرسول واهل بيته حَسَنَةً دينية حقيقية نَزِدْ لَهُ فِيها اى فيما يترتب عليها من الكرامات الاخروية حُسْناً اى زيادة حسن تفضلا منا وإحسانا إِنَّ اللَّهَ المطلع بضمائر عباده ونياتهم غَفُورٌ لذنوب من أحب حبيبه واهل بيته لرضاه سبحانه شَكُورٌ يوفى عليهم الثواب ويوفر عليهم انواع الكرامات. ثم قال سبحانه أينكرون مطلق رتبة النبوة والرسالة أولئك المنكرون المعاندون أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى محمد عليه الصلاة والسلام عَلَى اللَّهِ كَذِباً واختلق آيات مفتريات ترويجا لمدعاه وما قولهم هذا وزعمهم بك يا أكمل الرسل وأمثاله إلا قول باطل وزعم زاهق زائغ زائل فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ الغنى بذاته عن عموم مظاهره ومصنوعاته يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ كما ختم على قلوبهم ويضلك عن طريق توحيده كما أضلهم وَكذلك ان يشاء الله العليم الحكيم يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ لو تعلق مشيته وَيُحِقُّ ويثبت الْحَقَّ الحقيق بالاطاعة والاتباع بِكَلِماتِهِ التي هي آيات القرآن بلا سفارتك ورسالتك وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بعلمه الحضوري بِذاتِ الصُّدُورِ فيظهر عليهم ومن أفواههم ما هو مكنون في صدورهم وضمائرهم ويجازيهم بمقتضاه وَكيف لا يعلم سبحانه مكونات صدورهم مع انه سبحانه هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الصادرة عن محض الندم والإخلاص اللذين هما من افعال القلوب عَنْ عِبادِهِ المسترجعين نحوه بكمال الخشية والخضوع وَبعد قبول التوبة عنهم يَعْفُوا ويتجاوز عَنْ مطلق السَّيِّئاتِ الصادرة عنهم على سبيل الغفلة وَبالجملة يَعْلَمُ منكم سبحانه عموم ما تَفْعَلُونَ بظواهركم وبواطنكم على التفصيل بلا شذوذ شيء وفوت دقيقة ولا شك انكم لا تعلمونه كذلك وَيَسْتَجِيبُ اى يجيب ويقبل توبة المؤمنين الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ترحما وإشفاقا بعد ما رجعوا نحوه تائبين نادمين عما فعلوا وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بدل إخلاصهم واستحيائهم منه سبحانه من الكرامات ما لا يكتنه وصفه وَالْكافِرُونَ الساترون بأباطيل هوياتهم وما صدر منها من الجرائم والآثام شمس الحق الحقيق بالكشف والظهور لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ حين رجعوا الى الله وحشروا نحوه مهانين صاغرين وبالجملة كفر عموم الكفرة واستكبارهم وضلالهم انما نشأ من كفرانهم بنعم الله وطغيانهم لأجلها على الله وعلى خلص عباده كما أشار اليه سبحانه بقوله وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ الصوري المستجلب المستتبع لانواع العتو والاستكبار لِعِبادِهِ المجبولين على الكفران والنسيان بمقتضى بشريتهم وبهيميتهم لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ بغيا فاحشا واستكبروا على عباد الله استكبارا مفرطا وظهروا على أوليائه ومشوا على وجه الأرض خيلاء مفتخرين بما لهم من الجاه والثروة والرياسة فسرى بغيهم واستكبارهم على الله وعلى أنبيائه ورسله فكفروا لذلك ظلما وعدوانا وَلكِنْ جرت سنته سبحانه واقتضت حكمته على انه يُنَزِّلُ ويفيض بِقَدَرٍ اى بمقدار وتقدير ما يَشاءُ على من يشاء بمقتضى حكمته ومشيته وبالجملة إِنَّهُ سبحانه بِعِبادِهِ اى باستعداداتهم وعموم أحوالهم خَبِيرٌ بَصِيرٌ يعلم منهم ما خفى عليهم وما ظهر دونهم وَكيف لا يعلم سبحانه سرائر عباده وضمائرهم إذ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ حسب علمه وحكمته مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وايسوا من نزوله وَبتنزيله وامطاره يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ الواسعة على جميع اقطار الأرض وأرجائها عناية منه سبحانه الى سكانها من أجناس المواليد وأنواعها وأصنافها وَكيف لا يرحم سبحانه على مظاهره إذ هُوَ الْوَلِيُّ المتولى لعموم أمورهم

[سورة الشورى (42) : آية 29]

المنحصرة عليه ولايتهم إذ لا ولاية الا له الْحَمِيدُ المستحق لجميع المحامد بذاته إذ عموم المظاهر وذرائر الأكوان حامدة له سبحانه طوعا ورغبة حالا ومقالا وَمِنْ آياتِهِ الدالة على كمال ولايته وتدبيره وتربيته خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى اظهار الكائنات العلوية والسفلية بامتداد اظلال أسمائه وصفاته عليها وَكذا خلق ما بَثَّ وبسط فِيهِما وركب منهما مِنْ دابَّةٍ ذي حياة وحركة وَبالجملة هُوَ سبحانه عَلى جَمْعِهِمْ اى جمع الاظلال والعكوس الى شمس الذات وقبضهم عليها بعد بثهم وبسطهم منها إِذا يَشاءُ ويريد قَدِيرٌ بلا فترة وتقصير وَاعلموا ايها الاظلال الهالكة في أنفسها ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ مضرة مؤلمة فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ اى بسبب اقترافكم المعاصي والآثام وَمع ذلك يَعْفُوا سبحانه عَنْ كَثِيرٍ من المعاصي لا يعقبها بمصيبة تخفيفا لكم وتسهيلا وَلو أراد سبحانه تعقيب كل معصية بمصيبة حسب عدله بلا غفر وتخفيف ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ له فِي الْأَرْضِ اى ليس لكم ان تفوتوا شيأ مما قضى سبحانه عليكم من المصائب المستتبعة لجرائمكم وآثامكم ان شاء وَالحال انكم عاجزون في انفسكم مقهورون تحت قبضة قهره وقدرته سبحانه إذ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يتولى أموركم ويحفظكم عما يضركم وَلا نَصِيرٍ ينصركم على أعاديكم ويدفع عنكم ما يؤذيكم ويعينكم على ما مسكم وَايضا مِنْ جملة آياتِهِ الدالة على ولايته الكاملة وتدبيراته الشاملة الْجَوارِ اى السفن الجارية فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ اى كالجبال الرواسي في الثقل والعظمة إِنْ يَشَأْ سبحانه يُسْكِنِ الرِّيحَ المجرية لهن فَيَظْلَلْنَ ويبقين تلك السفن حينئذ رَواكِدَ سواكن عَلى ظَهْرِهِ اى على ظهر البحر ولججه فضاع جميع من فيها وما فيها إِنَّ فِي ذلِكَ الإجراء والإرسال لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على تولية الحق وتدبيره لِكُلِّ صَبَّارٍ حبس نفسه في مقام الرضا بما قسم له ربه شَكُورٍ بما ظهر عليه من آلائه ونعمائه أَوْ ان يشاء يرسلهن إرسالا عنيفا بالرياح العاصفة حتى يُوبِقْهُنَّ او يغرقهن ويهلك بعض من فيهن بِما كَسَبُوا اى بشوم أعمالهم التي اقترفوها من البخل والحسد والحرص المفرط والأمل الطويل وغير ذلك من الأخلاق المذمومة وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ اى ومع ذلك يتجاوز سبحانه عن إهلاك أكثرهم وينجيهم عن ورطة الهلاك لحسن أعمالهم وخلوص نياتهم تفضلا منه سبحانه إياهم وتكريما لهم كل ذلك ليختبر سبحانه عباده وينتقم عنهم ويميز منهم اهل الرضا والتسليم عن غيرهم وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ اى يعلم المجادلون المكابرون فِي آياتِنا ومقتضياتها عدوانا وعنادا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب ومخلص من عذابنا ان تعلقت ارادتنا بانتقامهم وإهلاكهم وان استظهر اهل الحدال بالأموال والأولاد واستكبروا بها وافتخروا عليها قل لهم يا أكمل الرسل نيابة عنا فَما أُوتِيتُمْ وأعطيتم مِنْ شَيْءٍ حقير قليل ما هي الا من حطام الدنيا ومتاعها فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فانية بفنائها تتمتعون بها فيها مدة يسيرة ثم تمضون مع حسرة كثيرة وندامة طويلة وَما عِنْدَ اللَّهِ من اللذات الروحانية والكرامات المعنوية خَيْرٌ من الدنيا وما فيها بل من آلافها واضعافها وَأَبْقى اقدم وأدوم لِلَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وانكشفوا بكمالات أسمائه وأوصافه وتحققوا بشهود شئونه وتجلياته وَهم بعد ما تمكنوا في مقام الرضاء والتسليم وتوطنوا في أعظم سواد الفقر وأعلى درجات عالم اللاهوت عَلى رَبِّهِمْ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية يَتَوَكَّلُونَ يفوضون أمورهم

[سورة الشورى (42) : آية 37]

ويسلمون غاضين عيون بصائرهم وأبصارهم عن الالتفات الى ما سوى الحق مطلقا لذلك ما يرون بنوره من مرايا مظاهره ومجاليه الا لمعات وجهه الكريم وَبالجملة هم الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وهي الآثام والجرائم المؤدية الى الشرك الجلى والخفى وَالْفَواحِشَ اى الصغائر المنتهية الى الكبائر بالرسوخ والإصرار وَايضا من جملة اخلاق هؤلاء المؤمنين المحسنين انهم إِذا ما غَضِبُوا من مكروه هُمْ يَغْفِرُونَ ويبادرون الى العفو والستر وكظم الغيظ وإصلاح ذات البين وإخراج الغل والحقد عن نفوسهم وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا اى أجابوا واقبلوا دعوة من دعاهم الى الطاعات والعبادات ومطلق الخيرات والحسنات لا لغرض دنيوى بل لِرَبِّهِمْ طلبا لمرضاته وهربا عن مساخطه وانتقاماته وَمع ذلك أَقامُوا الصَّلاةَ اى اداموا الميل والرجوع الى الله في جميع حالاتهم وَأَمْرُهُمْ اى عموم أمورهم المتعلقة لمعاشهم ومعادهم شُورى بَيْنَهُمْ اى هم متشاورون فيها مع إخوانهم بلا استبداد لهم فيها برأيهم ولا انفراد بعقلهم وَمن معظم أخلاقهم انهم مِمَّا رَزَقْناهُمْ وأبحنا لهم وأضفنا لهم من الرزق الصوري يُنْفِقُونَ في سبيلنا للفقراء والمساكين طالبين منا مرضاتنا ومثوباتنا وَمن جملة أخلاقهم وأجلها انهم هم الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ ولإخوانهم الْبَغْيُ والعدوان من باغ ظالم وعدو عاد هُمْ يَنْتَصِرُونَ يبادرون الى الغلبة والانتصار غيرة على دين الله وحمية لحمى حدوده الموضوعة على مقتضى العدالة القويمة الإلهية عن طريان الظلم والعدوان وإظهارا لما أودع في صدورهم من فضله من خصلة الشجاعة المحمودة عند الله وعند عموم ارباب المروات من الأنبياء والأولياء إذ كلا طرفيها وهما الجبن والتهور مذمومان عقلا وشرعا والشجاعة المقتصدة بينهما محمودة جدا. ثم قال سبحانه تعليما لعباده طريق هدايته وإرشاده وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ قد اصابتك من احد من بنى نوعك سَيِّئَةٌ مِثْلُها لا أزيد منها اى إذا أساءك احد بسيئة فأنت ايها المكلف تسيئه بمثلها جزاء وعقوبة سمى الجزاء سيئة للازدواج والمشاكلة هذا بحسب الرخصة الشرعية واما بحسب العزيمة فَمَنْ عَفا وتجاوز عن المسيء والجاني خالصا لوجه الله وطلبا لمرضاته وَأَصْلَحَ بالصلح والإحسان ما أفسده بالجناية والإساءة فَأَجْرُهُ قد وقع عَلَى اللَّهِ وجزاؤه مفوض الى كرمه يجازيه بمقتضى فضله وجوده ما شاء الله وبالجملة إِنَّهُ سبحانه حسب عدالته الذاتية لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن الحدود الإلهية سيما في العقوبات والجنايات وَلَمَنِ انْتَصَرَ وغلب على الظالمين بَعْدَ ظُلْمِهِ اى بعد ما ظلم منه منتقما عليه فَأُولئِكَ المنتصرون المنتقمون ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ بالمعاتبة والمعاقبة لأنهم منتقمون بالرخصة الشرعية بل إِنَّمَا السَّبِيلُ بهما عَلَى المسرفين الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ اى يبتدئون بالظلم ويظهرون بينهم بالعدوان والطغيان وَيَبْغُونَ ويطلبون بظلمهم وطغيانهم فسادا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ بلا رخصة شرعية أُولئِكَ البعداء المتجاوزون عن الحدود الشرعية لَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ أَلِيمٌ هو إحراقهم بنار القطيعة لا عذاب أشد منه وأفزع وَلَمَنْ صَبَرَ من المظلومين ولم ينتصر من الظالم ولم ينتقم منه كظما وهضما وَغَفَرَ اى عفا عنه وتجاوز مسترجعا الى الله طالبا الأجر منه سبحانه إِنَّ ذلِكَ العفو والصفح عند القدرة والرخصة لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ اى من الأمور التي آثرها أولوا العزائم الصحيحة من ارباب العناية ألا وهم الذين يرون من الله جميع ما يرون منحا ومحنا وفرحا وترحا ويوطنون نفوسهم على التسليم والرضاء بعموم ما جرى عليهم

[سورة الشورى (42) : آية 44]

من القضاء وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بمقتضى قهره وجلاله عن طريق توحيده فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ سواه ينصره او يدفع ما يؤذيه ويخذله مِنْ بَعْدِهِ اى بعد إضلال الله إياه واذلاله وَبعد ما ردهم سبحانه الى دار الانتقام بأنواع الخيبة والخسران تَرَى ايها الرائي الظَّالِمِينَ المغرورين بما هم عليه من الجاه والثروة والمفاخرة بالأموال والأولاد في دار الدنيا لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ النازل عليهم المحيط بهم من جميع جوانبهم يَقُولُونَ حينئذ اى بعضهم لبعض من شدة اضطرابهم واضطرارهم هَلْ إِلى مَرَدٍّ رجعة الى الدنيا وعود إليها مِنْ سَبِيلٍ حتى نعود ونستعد ليومنا هذا وَهم في هواجس نفوسهم يتكلمون بهذا الكلام تحسرا وتضجرا تَراهُمْ ايها الرائي يُعْرَضُونَ ويساقون عَلَيْها اى على النار خاشِعِينَ خاضعين مِنَ الذُّلِّ والهوان المفرط الشامل لهم يَنْظُرُونَ حينئذ نحو النار مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ اى بنظرة خفية من تحت الاهداب بلا تحريك الأجفان من شدة رعبهم وخشيتهم منها كنظر من يؤمر بقتله الى سيف الجلاد وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا حين رأوا أعداءهم معذبين إِنَّ الْخاسِرِينَ المفسدين هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالظلم والضلال وَأَهْلِيهِمْ بالصد والإضلال لذلك استحقوا العذاب المخلد يَوْمَ الْقِيامَةِ والوبال المؤبد فيها أَلا اى تنبهوا ايها الابطال الاظلال المستظلون تحت لواء العدالة الإلهية إِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضاها باغواء الغوائل الامكانية والتسويلات الشيطانية معذبون فِي عَذابٍ مُقِيمٍ وعقاب دائم أليم وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وينقذونهم من عذابه والحال انه قد أضلهم الله بمقتضى قهره وجلاله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ المنتقم الغيور فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ الى الهداية والنجاة ولا الى الخروج من وبال ما يترتب على غيهم وضلالهم وبالجملة اسْتَجِيبُوا ايها المكلفون بالاجابة والقبول لِرَبِّكُمْ الذي رباكم على فطرة التوحيد وتوجهوا نحوه مخلصين وأجيبوا داعيه محمدا صلّى الله عليه وسلم مصدقين مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ يحل فيه العذاب عليكم مع انه لا مَرَدَّ لَهُ اى لا دفع ولا رد للعذاب النازل فيه مِنَ اللَّهِ وبعد ما قد قضى سبحانه وحكم بتعذيبكم حتما ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ سواه وقد جرى حكمه بالعذاب وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ اى ما يتيسر لكم حينئذ انكار اسباب العذاب وموجباته إذ تشهد عليكم يومئذ جوارحكم وقواكم بما اقترفتم بها من الجرائم والآثام وبالجملة قل يا أكمل الرسل على سبيل العظة والتذكير لهم أمثال هذه المواعظ والتذكيرات نيابة عنا فان امتثلوا وقبلوا فقد اهتدوا فَإِنْ أَعْرَضُوا عنها ولم يلتفتوا إليها عنادا ومكابرة فَما أَرْسَلْناكَ اى فاعلم انا ما أرسلناك يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ حَفِيظاً كفيلا يحفظهم عن جميع ما يضرهم ويغويهم بل إِنْ عَلَيْكَ اى ما عليك إِلَّا الْبَلاغُ وقد بلغت وبعد تبليغك ما بقي عليك من حسابهم من شيء. ثم أشار سبحانه الى وهن عزائم الإنسان وضعف عقائده فقال وَإِنَّا من مقام عظيم جودنا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ تفضلا مِنَّا إياه وتكريما بلا سبق استحقاق منه رَحْمَةً شاملة محيطة بعموم أعضائه وجوارحه قد فَرِحَ بِها وانبسط بحلولها وَإِنْ تُصِبْهُمْ حينا من الأحيان سَيِّئَةٌ من السيئات مؤلمة لهم مع انها بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وبشؤم ما اقترفوا لأنفسهم من المعاصي والآثام الجالبة لانواع المضرات فَإِنَّ الْإِنْسانَ المجبول على النسيان حينئذ كَفُورٌ مسرع الى الكفران مبادر الى الكفر والنسيان كأنه لم ير منا الانعام والإحسان قط فكيف تكفرون بوفور نعمة الحق

[سورة الشورى (42) : آية 49]

وشمول رحمته مع انه لِلَّهِ المحيط بكل المظاهر الموجد المظهر لها مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى التصرف على وجه الاستقلال في العلويات والسفليات وما بينهما من الممتزجات لذلك يَخْلُقُ ما يَشاءُ فيها ارادة واختيارا حيث يَهَبُ بمقتضى فضله وجوده لِمَنْ يَشاءُ من عباده إِناثاً محضا من الأولاد وقدمهن للتدرج من الأدنى الى الأعلى ونكرهن لان النكارة مطلوبة في حقهن وَيَهَبُ ايضا لِمَنْ يَشاءُ منهم الذُّكُورَ الخلص عرفهم لأنهم اولى بالتعريف وأحرى بالمعرفة أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ويخلط لهم ذُكْراناً وَإِناثاً مجتمعين ممتزجين وَايضا يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ منهم عَقِيماً بلا ولد وايلاد إظهارا لكمال قدرته واشعارا بانه لا تأثير للوسائل والأسباب العادية حتى ينسب توالدهم وتناسلهم الى اجتماع الأزواج والزوجات منهم كما هو المتبادر الى الأحلام السخيفة وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ باستعدادات عباده وقابلياتهم قَدِيرٌ على افاضة ما ينبغي لمن ينبغي كما ينبغي بمقتضى كرمه وجوده ارادة واختيارا بلا إيجاب والتزام من جانبه سبحانه. ثم لما شنع اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعيروه وطعنوا في نبوته مستهزئين به حيث قالوا له تهكما هلا تكلم الله معه ولم لم ينظر موسى الى الله تعالى إذ هو سبحانه أجل وأعلى من ان ينظر اليه العيون او يدركه الأبصار او يحيط به الآراء والأفكار انزل سبحانه هذه الآية تصديقا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم فقال وَما كانَ اى ما صح وما جاز لِبَشَرٍ اى لجنسه وليس في وسعه واستعداده أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ مشافهة بلا سترة وحجاب إذ لا مناسبة بين المحدود والمحبوس في مضيق الابعاد والجهات وبين غير المحدود المستغنى عن الحدود والجهات مطلقا حتى تقع المكالمة بينهما إِلَّا وَحْياً اى الا تكلما ناشئا عن وحى الهامى او منامي أَوْ تكلما مسموعا مِنْ وَراءِ حِجابٍ اى وراء تعين من التعينات كما سمع موسى كلامه من وراء حجاب الشجر فكذلك يسمع العارف المتحقق بمقام الفناء في الله كلامه سبحانه دائما من وراء عموم المظاهر الناطقة بتسبيحه وتقديسه سبحانه حالا ومقالا أَوْ تكلما بالسفارة والترجمان بان يُرْسِلَ رَسُولًا من سدنة ذاته التي هي الملائكة الحاملون لكمالات أسمائه وصفاته فَيُوحِيَ الملك بِإِذْنِهِ سبحانه ما يَشاءُ ويسمعه من كلامه سبحانه لمن يشاء سبحانه من عباده وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلِيٌّ في شأنه المختص به وكمالاته اللائقة له منزه متعال عن ان يحوم حول سرادقات عز سلطانه احد من خلقه فكيف ان يتكلموا معه بلا سترة وحجاب حَكِيمٌ في كمال تمنعه وكبريائه ونهاية تعززه وترفعه حيث تكلم تارة بالوحي والإلهام وتارة من وراء الحجاب والأستار وتارة بطريق السفارة والرسالة وَكَذلِكَ اى مثل ما أوحينا الى من تقدم منك من الأنبياء والرسل وتكلمنا معهم بإحدى الطرق الثلاثة قد أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل ايضا لنتكلم معك رُوحاً منا تكريما لك وتعظيما لشأنك وتخصيصا لك من بين سائر الأنبياء لظهورك على نشأة التوحيد الذاتي مِنْ أَمْرِنا المتعلق لتدبيراتنا وتصرفاتنا في ملكنا وملكوتنا ألا وهو القرآن المنتخب من حضرة علمنا ولوح قضائنا سميناه روحا لأنا نحيى به أموات مطلق التعينات وخصصناك به مع انك ما كُنْتَ تَدْرِي وما تعلم وما تعرف قط قبل نزوله مَا الْكِتابُ المبين للاحكام المتعلقة بتهذيب الظاهر والباطن وَلَا الْإِيمانُ والاعتقاد المتعلق لتوحيد الحق وعرفانه لكونك اميا عاريا من طرق الاستفادة

[سورة الشورى (42) : آية 53]

والتعلم مطلقا وَلكِنْ من محض جودنا وفضلنا إياك قد اصطفيناك لرسالتنا واجتبيناك بخلافتنا ونيابتنا لذلك أنزلناه إليك وبعد نزوله قد جَعَلْناهُ نُوراً تلألأ وتشعشع على وجه السطوع بعد ظهور نشأتك نَهْدِي بِهِ الى توحيدنا مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا المجبولين على فطرة الإسلام وَإِنَّكَ ايضا بمقتضى خلافتك ونيابتك عنا لَتَهْدِي به عموم عبادنا وتدعوهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا عوج فيه ولا انحراف أصلا صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ اى العلويات والسفليات وما ظهر منهما وفيهما وعليهما وبالجملة عموم ما ظهر وبطن وغاب وشهد مقهور تحت قهره إذ هو سبحانه آخذ بقبضة القدرة الغالبة بناصية الكل يجذبه نحوه ويقبضه اليه أَلا تنبهوا ايها الاظلال المستمدون من الله في كل الأحوال إِلَى اللَّهِ اى الى وجهه الكريم القديم لا الى غيره من وجوه الأسباب والوسائل العادية تَصِيرُ الْأُمُورُ اى تصير وترجع الى وجهه سبحانه وجوه عموم الصور المرئية بعد ارتفاع الوجوه المستحدثة الهالكة عن البين واضمحلال الرسوم الباطلة عن العين خاتمة سورة الشورى عليك ايها الطالب المتحقق في صراط الحق والراكن نحوه بحزائمك الأقصى وعزائمك الأوفى ان تجعل قبلة مقصدك توحيد ربك وتستقيم على جادة الدين القويم المحمدي والسبيل السوى المصطفوى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وتقتفى اثر من سلف من خلص اتباعه الذين اهتدوا بمتابعته الى مقر التوحيد واليقين ووصلوا الى عالم اللاهوت وتمكنوا في مقر التمكين بلا تذبذب وتلوين بعد ما تجردوا من جلباب ناسوتهم بالمرة بتوفيق من الله وجذب من جانبه وببركة ارشاد حبيبه صلّى الله عليه وسلم [سورة الزخرف] فاتحة سورة الزخرف لا يخفى على المحققين المتحققين بحيطة الحق على عموم المظاهر وشمول أسمائه وأوصافه الذاتية عليها ان من جملة أسمائه الحسنى وصفاته السنى اسم المتكلم وصفة الكلام المنزل من عنده على كل امة من الأمم حسب اللغة الموضوعة فيهم بوضع الهى إذ واضع الألفاظ واللغات كلها هو الله سبحانه ولا شك ان القرآن المنزل على خير الأنام انما هو من أمهات الكتب الإلهية وأصولها لكونه منتخبا من الحضرة العلية العلمية الإلهية منتزعا من لوح محفوظ القضاء على الوجه الأتم الأبلغ ولهذا اقسم سبحانه بكتابه هذا بعد ما خاطب على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما خاطب ثم من عليه بما من ورمز بما رمز تأييدا وتعضيدا له على حمل أعباء الرسالة وتبليغ الوحى المنزل عليه من عنده باللغة الفصيحة العربية المعجز نظمه ومعناه لكافة البرية وعامة الرعية ليكون رحمة للعالمين وخاتما للنبيين بعد ما تيمن باسمه المبين بِسْمِ اللَّهِ المنزل للرسل والكتب للهداية والإرشاد وتبيين طريق الرشد ومنهج السداد لعموم عباده الرَّحْمنِ عليهم بإرسال رسول كل قوم من جنسهم وإنزال الكتاب عليهم على لغتهم الرَّحِيمِ لهم يوصلهم بتبليغ الرسل وتبيين الكتب الى مبدئهم ومعادهم [الآيات] حم يا حارس دين الله وملازم طريق توحيده وَحق الْكِتابِ الْمُبِينِ العظيم الذي قد انتخبناه من حضرة علمنا المحيط ولوح قضائنا المحفوظ إِنَّا من

[سورة الزخرف (43) : آية 4]

كمال فضلنا وجودنا قد جَعَلْناهُ قُرْآناً فرقانا بيانا وتبيانا عَرَبِيًّا أسلوبا ونظما لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وتفهمون ما فيه من الأسرار العجيبة والحكم البديعة والرموز والإشارات التي قد خلت عنها الكتب السالفة وَإِنَّهُ اى الشأن المندرج فيه والمرموز اليه في مخافيه من جملة ما هو كائن مثبت فِي أُمِّ الْكِتابِ الذي هو حضرة العلم ولوح القضاء ولا يمكنكم الاطلاع عليه والاستفادة منه الا بوسائل الألفاظ لكونه محفوظا لَدَيْنا محروسا عندنا لا يتيسر لكم الوصول إلينا ما دمتم محبوسين في مضيق الإمكان مقيدين بسلاسل الزمان والمكان إذ ساحة عز حضورنا لَعَلِيٌّ منيع متعال عن ان يحوم حول سرادقات عزنا احد من خلقنا ونحن حَكِيمٌ في تلك المنعة والدفاع ولا نطلعكم على سرائرنا الا من وراء الحجب والأستار ثم استفهم سبحانه مهددا مقرعا مشيرا الى ما أودعه سبحانه في استعدادات عباده من قابلية الهداية والرشد بقوله أَنهملكم ايها المجبولون على فطرة الهداية ولم نرسل إليكم رسولكم يرشدكم الى ما جبلتم لأجله من قابلية الانكشاف بسرائر توحيدنا فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ اى القرآن المبين لكم ما في نشأتكم وفطرتكم من الاطلاع والشعور على شئوننا وتجلياتنا الذاتية وبالجملة انعرض نحن عنكم صَفْحاً اى اعراضا وانصرافا كليا مع انا قد فطرناكم على فطرة الصلاح والفوز بالفلاح أَنْ كُنْتُمْ اى انهملكم ان كنتم وصرتم قَوْماً مُسْرِفِينَ منحطين عن الاعتدال الفطري والقسط الجبلي الذي قد جبلناكم عليه حسب حكمتنا المتقنة البالغة او المعنى انهمل مقتضيات حكمتنا المودعة فيكم ان كنتم في انفسكم قوما مسرفين في التمرد والاعراض وَكَمْ أَرْسَلْنا اى مع انا كثيرا قد أرسلنا مِنْ نَبِيٍّ هاد مرشد فِي الْأَوَّلِينَ اى في الأمم الماضين المسرفين المفرطين في التمرد والاعراض أمثالكم وَهم من شدة تعنتهم وإصرارهم ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أمثال هؤلاء المستهزئين معك يا أكمل الرسل وبعد ما تمادوا في الغفلة والعناد وبالغوا فيها مغرورين فَأَهْلَكْنا اى قد أخذناهم بذنوبهم واستأصلناهم أجمعين مع كونهم أَشَدَّ مِنْهُمْ اى من هؤلاء المسرفين المستهزئين بك يا أكمل الرسل بَطْشاً حولا وقوة واكثر أموالا واولادا واكبر جاها وشدة وَبعد ما قد مَضى وجرى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ على ما جرى ومضى من قصصهم ووقائعهم الهائلة المهولة وسيمضى ويجرى عن قريب على هؤلاء ايضا مثلهم بالطريق الاولى وكيف لا يجرى عليهم ما جرى على أسلافهم مع انهم أعظم جرما واكبر إنكارا منهم وَمن أعظم انكارهم انهم لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ اى مشركي مكة يا أكمل الرسل مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ومن أوجدهما واظهرهما من كتم العدم لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر على مطلق الخلق والإيجاد الْعَلِيمُ المطلع على سرائر ما أوجد واظهر ومع اعترافهم بأخص أوصاف الفاعل المختار وإقرارهم باستناد الأمور المتقنة الى أوصافه وأسمائه أنكروا وحدة ذاته وأشركوا معه غيره عتوا وعنادا قل لهم يا أكمل الرسل بعد ما بالغوا في الإنكار والإصرار كيف تنكرون وحدة الحق ايها الجاحدون الجاهلون مع انه الله الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً تستقرون فيها وتتوطنون عليها مترفهين متنعمين وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لمعاشكم تطلبون منها حوائجكم وطرقا تصلون منها الى معادكم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ بها الى وحدة ربكم وَكيف تنكرون وجود موجدكم الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ اى من عالم الأسباب ماءً محييا لأموات المسببات بِقَدَرٍ معتدل معتاد فَأَنْشَرْنا بِهِ اى أحيينا وأحضرنا بإجراء الماء المحيي

[سورة الزخرف (43) : آية 12]

بَلْدَةً مَيْتاً جافة يابسة لا نبات فيها ولا خضرة لها كَذلِكَ اى مثل اخراجنا النبات من الأرض اليابسة بانزال الماء تُخْرَجُونَ وتنشرون أنتم حال كونكم موتى من قبوركم بنفخ الروح فيكم تارة اخرى وَكيف تجحدون وتنكرون وجود الصانع الحكيم ووحدته مع انه الله القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ واظهر الْأَزْواجَ كُلَّها اى جميع اصناف المخلوقات مزدوجات ممتزجات وَقد جَعَلَ لَكُمْ ايضا تتميما لأمور معاشكم وتسهيلا لها مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ اى ما تركبونه لِتَسْتَوُوا وتتمكنوا عَلى ظُهُورِهِ اى ظهور ما خلق لكم من المراكب ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وبالجملة كما أفاض عليكم سبحانه من النعم أصولها وفروعها وجب عليكم ان تواظبوا على شكرها أداء لحق شيء منها وَلكم ان تَقُولُوا عند استوائكم عليه شكرا لنعم الله وأداء لحقوق كرمه سُبْحانَ الَّذِي اى تنزه وتقدس عن سمة النقص والاستكمال تنزها تاما وتقدسا كاملا ذات القادر العليم الحكيم الذي قد سَخَّرَ لَنا هذا المركوب وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ مطيقين لنستسخره لولا اقرانه وتسخيره سبحانه لنا وَبالجملة إِنَّا في عموم اوصافنا وأحوالنا وذواتنا إِلى رَبِّنا الذي أظهرنا بمد اظلال أسمائه الحسنى وبسط عكوس صفاته العليا علينا وربانا بمقتضى لطفه بالنعم الأوفى لَمُنْقَلِبُونَ راجعون اليه سائرون نحوه بعد انخلاعنا عن لوازم ناسوتنا وارتفاع اغشية تعيناتنا عنا وانما اوصى به تنبيها على ان العبد العارف لا بد ان يكون في عموم انقلاباته وحالاته مسترجعا الى الله عازما بالعزيمة الصادقة الصافية عن مطلق الرياء والرعونات نحو الفناء فيه متذكرا لموطنه الأصلي ومقره الحقيقي عنده سبحانه وَهم من غاية غفلتهم عن الحق ومن نهاية جهلهم بحقوق ألوهيته وربوبيته قد جَعَلُوا لَهُ سبحانه وأخذوا بعضا مِنْ عِبادِهِ وادعوه جُزْءاً له سبحانه وسموه ولدا ناشئا منه تعالى حيث قالوا الملائكة بنات الله وعزير ابن الله والمسيح كذلك وبالجملة إِنَّ الْإِنْسانَ المجبول على الجهل والنسيان لَكَفُورٌ متناه في الغفلة عن الله والكفران لنعمه وحقوق كرمه مُبِينٌ ظاهر البغي والطغيان على الله والإلحاد عن دينه وطريق توحيده ومن شدة ظهور بغيهم وطغيانهم ونهاية غفلتهم وعداوتهم قد اثبتوا له اولادا أَمِ اتَّخَذَ اى بل قالوا قد اتخذ وأخذ سبحانه وتعالى شأنه مِمَّا يَخْلُقُ اى من مظاهره ومصنوعاته بل من أخسها وأدونها اعنى بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ اى فضلكم وخصصكم انفسكم بِالْبَنِينَ وكيف يثبتون أولئك المثبتون المفرطون لله الواحد الأحد الفرد الصمد بنات وَيختارون لأنفسهم بنين مع انه إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا وهو اثبات البنات له سبحانه يعنى لو بشر احد منهم بولادة البنت له قد ظَلَّ وصار وَجْهُهُ مُسْوَدًّا من كمال ضجرته وكآبته وَهُوَ حينئذ كَظِيمٌ مملو من الغيظ والكرب فكيف يثبت أمثال هذه المكاره لله المنزه عن أمثالها مطلقا مع ان أخص أوصافه انه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا اى أتثبتون للصمد المنزه عن الأهل والولد ولدا ناقصا يربى ويزين فِي الْحِلْيَةِ والزينة لعدم كماله الذاتي وَالحال انه هُوَ فِي الْخِصامِ اى المجادلة والمحاورة غَيْرُ مُبِينٍ معرب مظهر لما يدعيه لنقصان عقله وركاكة رأيه وفهمه ألا وهن البنات الناقصات عقلا ودينا وخلقة وبالجملة اثبتوا لله ما ينزهون أنفسهم عنه ويغتمون منه عند حصوله لهم وَهم من فرط جهلهم وركاكة رأيهم قد جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ المستغرقون الوالهون بمطالعة وجهه الكريم

[سورة الزخرف (43) : آية 20]

المستغفرون بعموم عباد الله من سعة رحمته وجوده إِناثاً ناقصات العقل والدين منحطات عن زمرة الكاملين مع انهم هم من اعزة عباد الله واجلتهم متمكنون عند كنف قربه وجواره مسبحون له في عموم الأوقات والحالات أَشَهِدُوا وحضروا أولئك الحمقى خَلْقَهُمْ اى خلق الله إياهم في بدء الأمر إذ الأنوثة والذكورة من جملة الأمور التي لا اطلاع لاحد عليها الا بالمشاهدة أم يشهدون رجما بالغيب ظلما وزورا وبالجملة سَتُكْتَبُ في النشأة الاخرى شَهادَتُهُمْ التي شهدوا بها على خلص عباد الله وافتراؤهم على الله الصمد المنزه من الاستيلاد وَبالجملة يُسْئَلُونَ يوم القيامة عن جميع ما أتوا به من المعاصي سيما عن هذه الشهادة المزورة والافتراء الباطل ثم يجازون بمقتضاها وَبعد ما قد سفه المسلمون اهل الشرك والضلال وعيروهم باتخاذ الملائكة والأوثان والأصنام وعموم المعبودات الباطلة آلهة من دون الله شركاء له في ألوهيته مع كونهم منحطين عن رتبة الربوبية والألوهية مطلقا قالُوا مستدلين على أخذهم واتخاذهم لَوْ شاءَ وأراد الرَّحْمنُ عدم اتخاذنا وعبادتنا إياهم ما عَبَدْناهُمْ البتة لكن أراد سبحانه عبادتنا فعبدناهم إذ لا يبدل قوله سبحانه ولا يغير حكمه ومشيته. انما قالوا ما قالوا تهكما واستهزاء على زعم المؤمنين لا عن اعتقاد ويقين بمشية الله وتقديره وعدم تغير مراده سبحانه لذلك جهلهم سبحانه بقوله ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ اى ما صدر عنهم هذا الاستدلال عن علم بمقدماته واعتقاد بنتيجته بل إِنْ هُمْ اى ما هم في قولهم هذا واستدلالهم إِلَّا يَخْرُصُونَ يتمحلون تمحلا باطلا ويتزورون زورا ظاهرا أهم يدعون دليلا عقليا سواه على مدعاهم أَمْ يدعون دليلا نقليا بانا آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن مشتملا على اتخاذهم وادعائهم المذكور فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ متمسكون به في دعواهم هذه بَلْ ليس لهم لا هذا ولا ذاك سوى انهم قالُوا على سبيل الحسبان والتقليد إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ طريقة معينة معهودة وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ الى ما اهتدوا تقليدا لهم واقتفاء باثرهم وَكَذلِكَ اى ومثل ما قال هؤلاء التائهون في تيه التقليد والضلال ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا أكمل الرسل فِي قَرْيَةٍ من القرى الهالكة مِنْ نَذِيرٍ من النذر الاولى إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها ومتنعموها على سبيل البطر والمفاخرة إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ اى طريقة معهودة معينة وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ لا نترك ديدنة آبائنا بما اخترعتموها أنتم من تلقاء انفسكم ايها المدعون قالَ لهم يا أكمل الرسل بعد ما سمعت منهم هذا كلاما خاليا عن وصمة المراء والمجادلة عاريا عن امارات التقليد والتخمين أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ يعنى أتقلدون وتتبعون آباءكم ايها المقلدون المسرفون ولو جئتكم بِأَهْدى اى بدين هو اهدى وانفع لكم في اولاكم واخراكم مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ اى من أديان آبائكم وتقليداتهم فتتركون الهداية وتتبعون الضلال ايها الحمقى العمى وبعد ما سمعوا منك هؤلاء المقلدون المسرفون المفرطون ما سمع أسلافهم من النذر الاولى من الهداية والرشد قالُوا مصرين على ما هم عليه إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ اى بعموم ما جئتم به ايها المدعون للرسالة كافِرُونَ منكرون جاحدون وبالجملة لا نقبل منكم أمثال هذا ولا نترك دين آبائنا ومتابعتهم بمجرد ما ابتدعتموه أنتم مراء ونسبتموه الى الله افتراء وبعد ما أصروا على ضلالهم وتقليداتهم الموروثة لهم من آبائهم ولم ينفعهم ارشاد الرسل وهدايتهم فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فأخذناهم مهانين صاغرين فَانْظُرْ ايها المعتبر الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ المصرين على التكذيب

[سورة الزخرف (43) : آية 26]

والعناد مع رسل الله وذوى الخطر من خلص عباده والى اين أدى مآل أمرهم فسيئول امر هؤلاء ايضا الى أمثاله وَاذكر يا أكمل الرسل لمشركي مكة وقت إِذْ قالَ جدك إِبْراهِيمُ الخليل صلوات الله عليه وسلامه لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ المغمورين في تقليدات آبائهم الموروثة لهم بعد ما انكشفت حقية الحق ووحدته وبطلان الالهة الباطلة التي قد أثبتوها شركاء لله ظلما وزورا إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ اى أنا برئ من معبوداتكم التي أنتم تعبدونها من دون الله الواحد الأحد الصمد المستحق للعبادة والإطاعة إِلَّا الَّذِي اى ما اعبد معبودا سوى المعبود الذي فَطَرَنِي اى أوجدني وأظهرني من كتم العدم بمقتضى حوله وقوته وعلمه ووفور حكمته فَإِنَّهُ سبحانه بمقتضى سعة رحمته وتوفيقه سَيَهْدِينِ ويثبتني على جادة الهداية بأزيد مما هداني اليه من اجراء كلمة التوحيد على لساني وَجَعَلَها سبحانه هذه الكلمة كَلِمَةً باقِيَةً مستمرة فِي عَقِبِهِ اى أولاد ابراهيم وذرياته الى يوم القيامة موروثة لهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ الى الله بكرامة هذه الكلمة ويوحدونه حق توحيده لذلك ما خلا زمان من الازمنة من موحدى هذه الذرية وممن يدعو منهم الى الحق وطريق توحيده وان كان منهم ايضا من يشرك بالله كمشركي قريش خذلهم الله كما قال سبحانه في شأنهم بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ المسرفين المعاندين معك يا أكمل الرسل وَكذا متعت آباءَهُمْ كذلك بأنواع النعم واصناف الكرم حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ اى الطريق الموصل الى التوحيد الذاتي وَرَسُولٌ مرشد كامل مُبِينٌ مظهر موضح لهم طريق الهداية والرشد وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ الحقيق بالاتباع قالُوا من فرط تعنتهم وعنادهم هذا الذي جاء به هذا المدعى يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلم سِحْرٌ او شعر قد اختلقه من تلقاء نفسه ونسبه الى ربه افتراء وتغريرا وَبالجملة إِنَّا بِهِ وبدينه كافِرُونَ منكرون جاحدون وَقالُوا من شدة شكيمتهم وغيظهم معك يا أكمل الرسل ومن غاية انكارهم بكتابك لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ ان كان نزوله من عند الله حقيقة عَلى رَجُلٍ ذي ثروة وجاه لائق بمرتبة النبوة والرسالة كائن مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ اى من احدى القريتين يعنى مكة والطائف عَظِيمٍ عند الناس بكثرة الأموال والأولاد والاتباع ليكون له اليد والاستيلاء على سائر الناس إذ منصب النبوة منصب عظيم يحتاج الى ثروة ووجاهة ومكنة تامة ورئاسة ظاهرة ولم يفهموا ان رتبة النبوة والولاية عبارة عن الغنى الذاتي المسقط لعموم الإضافات المنافية لصرافة الوحدة الذاتية وهو لا يكون الا بالتعري عن ملابس الأكوان ولوازم الإمكان بالمرة وبالتخلق بالأخلاق المرضية الإلهية أَهُمْ باحلامهم السخيفة وتدبيراتهم الركيكة يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل ويضعون رتبة النبوة والرسالة الى من يقتضيه اوهامهم وخيالاتهم الباطلة وترتضيه نفوسهم الخبيثة العاطلة بل نَحْنُ بوفور حكمتنا قد قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ التي يحتاجون إليها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ومع تدبيرنا إياهم ومصالح معاشهم لا يحسنون تدبيرها فيما بينهم ليصلح امر ائتلافهم وتمدنهم فيها فكيف يخوضون في مصالح المعاد وتدبيراتها ومن اين يتأتى لهم التفوه في الأوضاع الألوهية والتدبيرات الربوبية الناشئة عن كمال العلم والحكمة والارادة الكاملة والقدرة الشاملة وَمن غاية قصورهم ونقصانهم عن تدبيرات معاشهم قد رَفَعْنا حسب حكمتنا وتربيتنا إياهم بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ بان فضلنا بعضهم على بعض في العقل الجزئى والرزق الصوري وغيره ليكون لهم الكبرياء والاستيلاء على البعض الآخر ولِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا اى يستعمل البعض العقلاء الأغنياء اجراء من البعض

[سورة الزخرف (43) : آية 33]

الفقراء الأغبياء فيأمروهم بما قصدوا من الحوائج ليتم امر النظام والتمدن والتضامّ وَبالجملة رَحْمَتَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل ألا وهي رتبة النبوة والرسالة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية لاشتمالها على ضبط الظواهر والبواطن المتعلقة بالنشأة الاولى والاخرى. ثم أشار سبحانه الى دناءة زخارف الدنيا وأمتعتها ورداءة ما فيها من اللذات الوهمية وما يترتب عليها من الشهوات البهيمية فقال وَلَوْلا مخافة أَنْ يَكُونَ النَّاسُ المجبولون على الكفر والنسيان أُمَّةً واحِدَةً مائلة الى الكفر منحرفة عن الايمان لَجَعَلْنا وصيرنا البتة لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ اى بسطنا على الكافرين من الزخارف الدنيوية ووفرناها عليهم الى حيث يتخذون لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مصنوعة متخذة مِنْ فِضَّةٍ وَكذا يعملون مَعارِجَ ومراقى منها عَلَيْها اى على سطوح بيوتهم يَظْهَرُونَ يصعدون ويعلون بتلك المعارج المعمولة من الفضة وَكذا يعملون لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً منها بدل الألواح من الأخشاب وَكذا يتخذون منها سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ ترفها وتنعما وَبالجملة لوسعنا عليهم حطام الدنيا الى حيث جعلنا لهم زُخْرُفاً وزينة وافرة كثيرة متخذة من الفضة والذهب يتزينون بها ويتلذذون بلذاتها الفانية وشهواتها الزائغة الزائلة المبعدة عن اللذات الباقية الاخروية كما نشاهد أمثال هذه من أبناء زماننا هذا احسن الله أحوالهم مع انهم يعدون أنفسهم من المؤمنين الموحدين لكن لو فعلنا كذلك لمال إليها المسلمون وتحسروا بما نالوا فضعف رأيهم في اتباع الدين القويم والتمشى على الصراط المستقيم وَبالجملة إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الفانية لإقرار ولا مدار لما عليها من اللذات والشهوات الوهمية البهيمية الغير القارة وَبالجملة النشأة الْآخِرَةُ اى حظوظ النشأة الآخرة الباقية الدائمة لذاتها ازلا وابدا مستقرة عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل حاصلة لِلْمُتَّقِينَ الذين يحفظون نفوسهم عن التلطخ بقاذورات الدنيا الدنية والركون الى مزخرفاتها الفانية سوى سد جوعة ولبس خرقة وكسوة يدفعون بها ضرر الحر والبرد ولا يميلون الى ما سواها طلبا لمرضاة الله وهربا عن مساخطه وَمَنْ يَعْشُ اى يعرض وينصرف عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ اى القرآن المبين له طريق الايمان والعرفان لفرط انهماكه باللذات والشهوات الفانية الدنيوية نُقَيِّضْ لَهُ ونسلط عليه شَيْطاناً يضله ويغويه ويوسوس عليه ويرديه وبالجملة فَهُوَ اى الشيطان لَهُ قَرِينٌ دائما يزين عليه المعاصي والمقابح ويغريه عليها الى ان يدخله في نار القطيعة والحرمان وَإِنَّهُمْ اى جنود الشياطين واتباعه لَيَصُدُّونَهُمْ اى يذبونهم ويصرفونهم اى اتباعهم من الناس عَنِ السَّبِيلِ السوى الموضوع بالوضع الإلهي الموصل الى توحيده وَهم يَحْسَبُونَ من فرط عمههم وسكرتهم أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ بهداية قرنائهم من الشياطين مع انهم الغاوون الضالون باغوائهم واضلالهم بلا هداية ورشاد أصلا ولم يعلموا اضلالهم حَتَّى إِذا جاءَنا اى الأعشى الأعمى وعلم ضلاله عنا وغوايته عن طريقنا قالَ متحسرا متأسفا لقرينه المضل المغوى متمنيا يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ اى بعد ما بين المشرق والمغرب فَبِئْسَ الْقَرِينُ أنت ايها المضل المغوى قد أضللتني عن الطريق القويم وابتليتني بالعذاب الأليم وَقيل لهم حينئذ من قبل الحق لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ تمنيكم واسفكم إِذْ قد ظَلَمْتُمْ انفسكم في نشأة التدارك والتلافي والآن قد انقرضت أَنَّكُمْ وقرناءكم اليوم فِي الْعَذابِ المؤبد المخلد مُشْتَرِكُونَ كما انكم قد كنتم مشتركين في الأسباب الجالبة له في النشأة

[سورة الزخرف (43) : آية 40]

الاولى. ثم لما كان صلّى الله تعالى عليه وسلّم يبالغ في ارشاد عشائره ويتعب نفسه في هدايتهم رد الله سبحانه عليه على وجه الاستبعاد والتأديب ردعا له عما كان عليه من المبالغة فقال مستفهما أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ اى أأنت تتخيل لنفسك انك تقدر على إسماع من جبل على الصمم في اصل فطرته أَوْ أنت تَهْدِي الْعُمْيَ المجبولين على العمى في مبدأ خلقته وَبالجملة انك لا تهدى مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية عظيمة جبلية فكيف تسعى أنت لهدايته وتبالغ في طلب المحال في إرشاده وتكميله إذ ليس في وسعك تغيير الخلقة وانما عليك البلاغ فليس في وسعك الا الإنذار والتبليغ فقط فقد أنذرت وبلغت الى متى تتعب نفسك وتسعى. ثم سجل سبحانه على أخذ المشركين والانتقام عنهم بقوله معرضا على حبيبه على وجه التأديب والتنبيه فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ اى ان نتوفينك يا أكمل الرسل ونخرجنك عن الدنيا قبل انتقامنا عنهم وأخذنا إياهم فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ البتة بعد مماتك ووفاتك أَوْ نُرِيَنَّكَ العذاب الموعود الَّذِي وَعَدْناهُمْ للاعراض عنك وعن دينك وكتابك وبالجملة فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ قادرون على وجوه الانتقام عنهم حال حياتك او بعدها فلك ان لا تسعى في هدايتهم وإرشادهم وبعد ما قد أكد سبحانه انجاز الوعيد الموعود عليهم وبالغ فيه امر حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالتمكن والتثبت على مقتضى الوحى المنزل من عنده سبحانه فقال فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ من القواعد الشرعية الموضوعة بالوضع الإلهي واعتمد عليه ولا تلتفت إليهم ولا تبال باعراضهم إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل الى توحيد ربك وَإِنَّهُ اى القرآن لَذِكْرٌ اى عظة وتذكير لَكَ وَلِقَوْمِكَ فعليكم ان تتعظوا به وبما فيه من الحكم والاحكام والعبر والأمثال والرموز والإشارات وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ عن قيامكم به وامتثالكم بما فيه وان عاند المشركون معك واستهزؤا بك وبكتابك ونسبوا دينك الى البدعة والاختلاق فلا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون وينسبونك اليه وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا اى احبار قومهم وعلمائهم وفتش أحوالهم عن آثارهم واخبارهم وكتبهم الباقية بعدهم أَجَعَلْنا وأثبتنا في الكتب النازلة من لدنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ المنزه في ذاته عن الشركة والتعدد مطلقا آلِهَةً يُعْبَدُونَ اى هل حكمنا لهم وامرناهم باتخاذ آلهة سوى الحق الحقيق بالعبادة يعبدونهم كعبادة الله بل ما اتخذوا الآلهة المتخذة الزائغة الا بمقتضى آرائهم الباطلة واهويتهم الفاسدة وبالجملة ما عبدوا بعموم ما عبدوا الا ظلما وعدوانا وبغيا وطغيانا وَلَقَدْ أَرْسَلْنا أخاك مُوسى بِآياتِنا الدالة على توحيدنا إِلى فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي المستعلى على من في الأرض وَمَلَائِهِ المعاونين له في طغيانه وعدوانه فَقالَ لهم موسى باذن منا وبمقتضى وحينا إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ قد أرسلني إليكم لأرشدكم الى طريق توحيده وأوضح لكم سبيل المعاد فَلَمَّا جاءَهُمْ موسى مؤيدا بِآياتِنا اى بالخوارق والمعجزات الدالة على صدقه إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ اى فاجؤا على الضحك والاستهزاء أول رؤيتهم بالآيات بلا تأمل وتدبر فيها وَالحال انه ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من الآيات إِلَّا هِيَ اى الآية اللاحقة المرئية في الحال أَكْبَرُ واظهر دلالة على كمال قدرتنا وصدق نبينا مِنْ أُخْتِها اى من الآيات السابقة عليها ومع ذلك أنكروا على الكل واستهزؤا به عدوانا وظلما وَبعد ما بالغوا في العتو والعناد قد أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ العاجل من القحط والطاعون وغيرها لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ رجاء ان يرجعوا من انكارهم وإصرارهم عليه وَمع ذلك لم يرجعوا

[سورة الزخرف (43) : آية 50]

بل قالُوا عند نزول البلاء وهجوم العناء بدعاء موسى عليه السلام مسترجعين نحوه متهكمين معه يا أَيُّهَا السَّاحِرُ الماهر في السحر والشعبذة ادْعُ لَنا رَبَّكَ الذي زعمت ان لا منزل للمصيبة سواه ولا كاشف لها ايضا الا هو بِما عَهِدَ عِنْدَكَ اى بمقتضى ما وعد لك وعهد معك ان لا يعذب من آمن بك وصدقك فان انكشف الضر بدعائك ف إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ بهدايتك مؤمنون لك مصدقون بنبوتك ورسالتك وبجميع ما دعوتنا اليه فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ بعد دعاء الأنبياء والرسل وتضرعهم نحونا راجين منا مناجين إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ اى هم قد فاجؤا على نقض ما عاهدوا بغتة مبادرين على الإنكار والعناد بلا تراخ وتأخير وَمن كمال عتو فرعون الطاغي الباغي ونهاية عناده واستكباره نادى فِرْعَوْنُ بنفسه يوما من الأيام حين كان فِي مجمع قَوْمِهِ مباهيا بما معه من الجاه وسعة المملكة حيث قالَ يا قَوْمِ ناداهم ليسمعوا منه ويصغوا اليه سمع قبول أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ مع كمال وسعته وفسحته وكثرة مملكته وَهذِهِ الْأَنْهارُ الثلاثة المنشعبة من النيل هي نهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس تَجْرِي مِنْ تَحْتِي اى تحت تصرفى وملكي أَفَلا تُبْصِرُونَ ايها المجبولون على البصارة أَمْ أَنَا اى بل انا خَيْرٌ مِنْ هذَا الساحر المدعى الَّذِي هُوَ مَهِينٌ رذل مهان لا عزة له ولا مقدار وَمع رذالته وسفالته لا يَكادُ يُبِينُ اى لا يقرب ان يظهر ويعرب كلامه للكنة في لسانه فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ اى فلو كان مؤيدا من عند الله ومكرما لديه كما زعم هلا القى عليه اسورة مِنْ ذَهَبٍ تدل على عزته وكرامته عنده وسيادته عند الناس إذ العادة حينئذ ان اهل الرياسة والسيادة يسورون ويطوقون بأسورة متخذة من ذهب أَوْ هلا جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ من عند ربه مُقْتَرِنِينَ مجتمعين يعينونه فيما يعنيه فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ يعنى قد استخف فرعون قومه حيث لبس عليهم وسفههم وضعف أحلامهم بأمثال هذه الهذيانات فَأَطاعُوهُ وقبلوا منه جميع ما قال عتوا واستكبارا وبالجملة إِنَّهُمْ في أنفسهم قد كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن مقتضى العدالة الإلهية لذلك انحرفوا عن سواء السبيل واتبعوا ذلك الفاسق الطاغي وبالجملة فَلَمَّا آسَفُونا وحملونا على القهر والغضب وحركوا الغيرة الإلهية بأمثال هذه الجرائم الفاحشة انْتَقَمْنا مِنْهُمْ بمقتضى قهرنا وجلالنا فَأَغْرَقْناهُمْ في اليم أَجْمَعِينَ ومحونا رسومهم عن وجه الأرض فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قدوة واسلافا قديمة للهالكين من هؤلاء المسرفين المفرطين وَصيرناهم مَثَلًا لِلْآخِرِينَ من اخلافهم المؤمنين الموحدين يمثلون بهم وبوقائعهم فيتعظون وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا يعنى لما ضرب ابن الزبعرى مثلا بعيسى عليه السلام حين نزلت كريمة انكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم قال مجادلا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انك تزعم ان النصارى من اهل الكتاب وانهم يعبدون عيسى ويعتقدونه ابن الله والملائكة اولى بالمعبودية من عيسى فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والقوم لما سمعوا مجادلته ورأوا سكوت الرسول صلّى الله عليه وسلّم من كلامه فهموا منه الزام الرسول وافحامه فأوجسوا في نفوسهم اعراضا كما حكى عنهم سبحانه بقوله إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ اى من كلام ابن الزبعرى يَصِدُّونَ يعرضون وينصرفون عنك فرحا بانك قد صرت ملزما من كلامه وَبعد ما اعرضوا عنك واعتقدوا إلزامك من ذلك الطاغي قالُوا اى قال بعضهم لبعض آلِهَتُنا التي قد كنا نعبد نحن وأسلافنا ايضا إياهم خَيْرٌ أَمْ هُوَ يعنون اله محمد الذي ادعى الرسالة من عنده وانما قالوا ما قالوا له تهكما

[سورة الزخرف (43) : آية 59]

واستهزاء كما قال سبحانه ما ضَرَبُوهُ لَكَ مثلا إِلَّا جَدَلًا مجادلة ومراء بَلْ هُمْ في أنفسهم قَوْمٌ خَصِمُونَ مجادلون مكابرون في الخصومة واجراء الباطل مجرى الحق وترويجه جدلا ومغالطة بل إِنْ هُوَ اى ما عيسى إِلَّا عَبْدٌ من جملة عبادنا قد أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بمقتضى فضلنا وجودنا وأظهرنا على يده من المعجزات الباهرة والخوارق الظاهرة الدالة على كمال قدرتنا وَجَعَلْناهُ مَثَلًا عجيبا وشأنا بديعا لِبَنِي إِسْرائِيلَ يسير بينهم امر وجوده بلا أب وظهور الخوارق الغريبة عنه سيما في حال صباه وإرهاصات امه كالمثل السائر كل ذلك من كمال قدرتنا وعلمنا ومتانة حكمتنا وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ ايضا وانشأنا بدلكم مَلائِكَةً يسكنون فِي الْأَرْضِ مكلفين بالعبادة والعرفان أمثالكم وإذا انقرض طائفة منهم يَخْلُفُونَ أمثالهم أمثالكم الى ما شاء الله يعنى لا تتعجبوا من شأن عيسى وظهوره على الوجه الأبدع الأغرب بل تأملوا وتدبروا في كمال قدرة المبدع ووفور حكمته وجوده إذ هو سبحانه قادر على اظهار امور عجيبة وشئون شتى بديعة لا تعد ولا تحصى ومن جملتها ظهور عيسى وما صدر عنه من الخوارق بل كل من وصل بعالم القلب وحصل دون الكشف والشهود واليقين الحقي مترقيا من المشاهدات العادية والمحسوسات الالفية ظهر له ولاح عليه ان كل ما لمع عليه برق الوجود وتشعشع منه بمقتضى الجود انما هو على وجه غريب وشأن عجيب ثم قال سبحانه وَإِنَّهُ اى شأن الظهورات المنبه عليها والتطورات المشار بها لَعِلْمٌ اى دليل لائح وبرهان واضح لِلسَّاعَةِ الموعودة المعهودة فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وبقيامها ووقوعها وَبالجملة اتَّبِعُونِ في جميع ما أنزلت لكم في كتبي وعلى ألسنة رسلي وأطيعوا امرى وأمرهم واعلموا ان هذا الذي قد اشرناكم اليه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فاسلكوا فيه لعلكم تهتدون الى توحيدي وتفوزون بالفوز العظيم وَعليكم محافظة الحدود الشرعية والمعالم الدينية حتّى لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ ولا يصرفنكم عنها ولا يوقعنكم في فتنة عظيمة وبلية شديدة إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة شديد الخصومة يضلكم عن جادة التوحيد ويوقعكم في العذاب الشديد. أعاذنا الله وعموم عباده من فتنته وَكيف لا يكون عيسى عبدا من عبادنا اذكر لهم يا أكمل الرسل لَمَّا جاءَ عِيسى الى بنى إسرائيل من عندنا مؤيدا بِالْبَيِّناتِ الباهرة الظاهرة التي ما ظهر مثلها من نبي من الأنبياء قالَ مظهرا لهم الدعوة الى طريق الحق وتوحيده قَدْ جِئْتُكُمْ من عند ربي بِالْحِكْمَةِ المتقنة البالغة وَانما جئتكم لِأُبَيِّنَ أوضح واظهر لَكُمْ طريق العبودية والعرفان سيما بَعْضَ الَّذِي اى بعض المعالم الدينية الذي أنتم تَخْتَلِفُونَ فِيهِ وفي نزوله في كتب الله وعدم نزوله فيها فَاتَّقُوا اللَّهَ أولا حق تقاته وَأَطِيعُونِ فيما جئت لكم إِنَّ اللَّهَ المتوحد المتفرد بالالوهية والربوبية هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ دبر امرى وأمركم وبينه في كتابه فَاعْبُدُوهُ بمقتضى وحيه وانزاله واعلموا ان هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ موصل الى توحيده الذي أنتم لأجله جبلتم ان كنتم مؤمنين موقنين وبعد ما تم امر الدعوة والتبليغ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ وتفرقوا تفرقا ناشئا مِنْ بَيْنِهِمْ اى من بين قومه المبعوث إليهم بعد ما دعاهم الى طريق الحق وتوحيده وهداهم الى صراط مستقيم فَوَيْلٌ عظيم وعذاب شديد يتوقع لِلَّذِينَ ظَلَمُوا خرجوا عن مقتضى العبودية المأمورة لهم بالوحي الإلهي مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم في غاية الإيلام هَلْ يَنْظُرُونَ اى ما ينظرون وينتظرون أولئك المفسدون المفرطون إِلَّا السَّاعَةَ الموعود

[سورة الزخرف (43) : آية 67]

قيامها أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فجاءة بلا سبق مقدمة وامارة وَهُمْ من غاية اشتغالهم بالملاهي الدنيوية لا يَشْعُرُونَ إتيانها الا وقت وقوعهم في أهوالها الْأَخِلَّاءُ والأحباء يَوْمَئِذٍ من شدة الهول والفزع بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إذ يتذكرون حينئذ ما جرى بينهم من المعاونة والمشاركة في الاعراض عن الله وكتبه ورسله وعدم الانقياد والإطاعة للدين إِلَّا الْمُتَّقِينَ اى الا الأحباء الذين تحابوا في الله وتشاركوا في طريق توحيده سبحانه مع خلص عباده الذين اتقوا عن محارمه طلبا لمرضاته ثم التفت سبحانه الى الخطاب لخلص عباده فقال مناديا لهم على رؤس الاشهاد يا عِبادِ ناداهم سبحانه وأضافهم الى نفسه اختصاصا لهم وتكريما لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ لخوفكم عن مقتضى قهرنا وجلالنا في النشأة الاولى وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ اليوم لتصبركم على الشدائد ومقاساة الأحزان في طريق الايمان في دار الابتلاء وهؤلاء البررة المبشرون هم الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا المنزلة على رسلنا وامتثلوا بمقتضاها وَبالجملة قد كانُوا مُسْلِمِينَ منقادين مطيعين مفوضين أمورهم كلها الى الله راضين بعموم ما قضى عليهم وكتب لهم من المنح والمحن لذلك نودوا حينئذ من قبل الحق على سبيل البشارة والكرامة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ المعدة لخلص أوليائنا الذين قد اتخذونا وكيلا واخذونا رقيبا وكفيلا أَنْتُمْ اصالة وَأَزْواجُكُمْ اى نساؤكم المؤمنات المتوكلات الراضيات المرضيات بما قسم لهن المجتنبات عن محارم الله تبعا لكم حال كونكم تُحْبَرُونَ تبتهجون وتسرون فيها على وجه يظهر اثر البهجة والمسرة على وجوهكم ويلوح من سيماكم وبعد ما تقرروا في مقام العز والتكريم وتمكنوا في مكان التبجيل والتعظيم يُطافُ عَلَيْهِمْ اى يطوف حولهم خدمة الجنة بِصِحافٍ جمع صحفة وهي القصعة الكبيرة المتخذة مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ جمع كوب وهو الكوز الذي لا عروة له ايضا متخذة منه وَبالجملة لهم فِيها اى في الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من اللذات والشهوات المدركة بآلاتها وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ اى من المحسوسات التي استحسنتها العيون فيها واستلذذن بها وَبالجملة أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون لا تتحولون منها ابد الآبدين وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أنتم تفوزون بها قد أُورِثْتُمُوها أنتم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الأعمال المصورة بها الناتجة لها المأمورة لأجلها وبالجملة لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ من المستلذات الروحانية والجسمانية مِنْها تَأْكُلُونَ ومنها تتفكهون وتتلذذون جزاء بما كنتم تعملون. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية المستمرة إِنَّ الْمُجْرِمِينَ المنهمكين في بحر الجرائم والمعاصي فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ على عكس خلود اصحاب الجنة في الجنة بحيث لا يُفَتَّرُ ولا يخفف عَنْهُمْ من عذابها بل وَهُمْ فِيهِ اى في العذاب الدائم المستمر مُبْلِسُونَ آيسون من الخلاص والنجاة وَبالجملة ما ظَلَمْناهُمْ بانزال العذاب عليهم واستمراره وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أنفسهم المقصورين على الخروج والعدوان عن مقتضى الحدود الموضوعة فيهم لتحفظهم من العذاب والنكال وَمن شدة العذاب وقلة التصبر وفرط الفزع والجزع نادَوْا صارخين صائحين يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ اى سل ربك ان يقضى علينا بالمقت والهلاك إذ لا طاقة لنا اليوم بالعذاب وهوله وشدته ثم لما بثوا شكواهم هكذا مرارا وصاحوا صارخين فزعين تكرارا قالَ قائل مجيبا لهم من قبل الحق على سبيل الاستبعاد والتأبيد هيهات هيهات إِنَّكُمْ ماكِثُونَ لا نجاة لكم عنها لا بالموت ولا بالخلاص والتخفيف بل كلما نضجت جلودكم بدلنا لكم جلودا غيرها وعذبناكم باشد العذاب وكيف لا نعذبكم

[سورة الزخرف (43) : آية 78]

ايها الجاحدون المسرفون لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ اى بالسبيل السوى والطريق الحق الثابت الحقيق بالاطاعة والاتباع فانصرفتم عنه وانكرتم عليه ولم تلتفتوا اليه بل وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ بعد ما تفطنوا لِلْحَقِّ وتنبهوا بحقيته كارِهُونَ لقبوله والامتثال لمقتضاه وهم مع كمال كراهتهم للحق وانصرافهم عنه لا يقتصرون عليها أَمْ أَبْرَمُوا اى بل احكموا وقطعوا أَمْراً حكما مبرما مكرا وخديعة لرد الحق وتكذيب اهله فَإِنَّا ايضا حسب قهرنا وجلالنا مُبْرِمُونَ حاكمون حكما قطعيا بانزال العذاب المخلد عليهم جزاء لمكرهم وخداعهم أيشكون ويترددون انا لا نقدر على أخذهم وانتقامهم أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ ولا نعلم ولا ندرك سِرَّهُمْ الذي يخفونه في ضمائرهم وَنَجْواهُمْ الذي هم يتناجون به في هواجس نفوسهم بَلى انا عالمون بعموم ما جرى ويجرى في سرائرهم وضمائرهم مطلعون بجميع ما صدر من استعداداتهم وقابلياتهم وَمع احاطة علمنا بهم وبأحوالهم رُسُلُنا لَدَيْهِمْ وحفظتنا عندهم يَكْتُبُونَ جميع ما صدر عنهم نقيره وقطميره حتى نحاسبهم عليه ونجازيهم بمقتضاه. ثم لما شاع قول اليهود والنصارى بولدية عزير وعيسى ومال نحوه أولوا الأحلام الضعيفة منهم ومن غيرهم رد الله عليهم على ابلغ وجه وآكده بأن امر حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالقول على سبيل الفرض والتقدير قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما بالغوا في هذه القرية البعيدة بمراحل عن الحق المستحيلة في نفسها إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ اى ان صح وجاز ان يكون له ولد متصف ببنوته فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ لابنه إذ أنا اعلم الناس بلوازم الألوهية واحفظهم بحقوق الربوبية ان كان له سبحانه ولد أنا أحق بعبوديته وتعظيمه من جميع بريته سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ اى تنزه وتعالى شأن من هو مربى العلويات والسفليات المتصف بالاحاطة التامة والاستيلاء الكامل الشامل على عروش عموم المظاهر بالاستقلال والانفراد عَمَّا يَصِفُونَ به أولئك الواصفون المكابرون من نسبة الولد والمولود له سبحانه تعالى شأنه عما يقول الظالمون علوا كبيرا وبعد ما انكشفت أنت يا أكمل الرسل بحقية الحق ووحدته وصمديته فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في أباطيلهم ويستغرقوا في ضلالهم وغفلاتهم وَيَلْعَبُوا بمقتضيات اوهامهم وخيالاتهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ بملاقاته وبلحوق ما فيه من انواع العقوبات والنكبات وَكيف يتخذون له سبحانه ولدا ويثبتون له شريكا مع انه سبحانه هُوَ الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي فِي السَّماءِ اى عالم الأسماء والصفات إِلهٌ يعبد له ويرجع اليه مع صرافة وحدته الذاتية وَفِي الْأَرْضِ اى عالم الطبيعة والهيولى إِلهٌ كذلك بلا تعدد وتغير في ذاته وَبالجملة هُوَ الْحَكِيمُ على الحكمة المتقنة البالغة لا حاكم سواه الْعَلِيمُ المقصور على العلم الكامل الشامل المحيط بعموم ما لاح عليه بروق تجليات الوجود وشروق شمس الذات وَتَبارَكَ وتعالى اى تعاظم وتعالى ذات القادر العليم الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى العلويات والسفليات وَما بَيْنَهُما من المركبات والممتزجات ان يكون معروضا للتعدد ومحلا للشركة والمظاهرة بل له ان يتصرف في ملكه وملكوته ويدبر فيهما تدبيرا وتصرفا على وجه الاستقلال بالإرادة والاختيار وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الموعود قيامها من لدنه سبحانه وَبالجملة إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في النشأة الاخرى رجوع الاظلال الى الأضواء والأمواج الى الماء وَبعد ما ثبت وحدة الحق واستقلاله في ملكه وملكوته لا يَمْلِكُ ولا يقدر الآلهة الباطلة الَّذِينَ يَدْعُونَ ويعبدون لهم أولئك المشركون

[سورة الزخرف (43) : آية 87]

مِنْ دُونِهِ سبحانه الشَّفاعَةَ عنده سبحانه ولا تقبل من آلهتهم الذين زعموا انهم شفعاؤهم عند الله إِلَّا مَنْ شَهِدَ اى الا شفاعة من أقر بِالْحَقِّ واعترف بتوحيده وَهُمْ مع إقرارهم واعترافهم يَعْلَمُونَ وينكشفون بوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته وَالله يا أكمل الرسل لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ اى المشركين مَنْ خَلَقَهُمْ وأوجدهم من كتم العدم ومن اظهر أشباحهم منه لَيَقُولُنَّ اللَّهُ الموجد المظهر للكل إذ لا يمكنهم المكابرة والعناد في أمثال هذه الظواهر فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ والى اين يصرفون بعد ما اعترفوا باستقلاله سبحانه في الخلق والإيجاد وكيف يشركون معه غيره في استحقاق العبادة والرجوع اليه في الخطوب والمهمات وَقِيلِهِ يعنى لا بد وان يكون من جملة قوله ومقوله صلّى الله عليه وسلّم في مناجاته مع ربه في شأن قومه حين ايس عن ايمانهم بعد ما بالغ في إرشادهم وتكميلهم مناديا متضرعا الى الله متعجبا من كمال قسوتهم وانهماكهم في البغي والضلال يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ البعداء عن جادة الهداية والرشد قَوْمٌ متناه في الغفلة والاعراض عنك لا يُؤْمِنُونَ بك وبتوحيدك ولا يقبلون منى دعوتي ولا يسمعون قولي وبعد ما قد تضرع وناجى صلّى الله عليه وسلّم مع ربه قيل له من قبل الحق على طريق الوحى والإلهام فَاصْفَحْ عَنْهُمْ يا أكمل الرسل واعرض عن هدايتهم وانصرف عن إرشادهم وتربيتهم فإنهم مجبولون على الغواية مطبوعون بالكفر والضلال وَبعد ما أيست منهم بأسا كليا قُلْ على سبيل التوديع والمتاركة سَلامٌ وتسليم منا على ما جاءنا من الحق فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أنتم ايها المسرفون وبال ما تعملون وتدخرون لنفوسكم من الزخائر الجالبة لانواع العقوبات. نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له خاتمة سورة الزخرف عليك ايها الموحد القاصد لتحقيق الحق الحقيق بالاطاعة والاتباع ان تصفى هممك في عموم حالاتك عما سوى الحق وتخلى خلدك عن مطلق الشواغل العائقة عن التوجه الحقيقي نحوه وتستقيم على صراط التوحيد مستويا مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط مقتصدا معتدلا إذ مرجع جميع الطرق والسبل السوية الى العدالة الإلهية الفائضة منه سبحانه على أراضي استعدادات عموم القوابل والمجالى حسب قابلياتهم الفطرية التابعة للتجليات الإلهية وشئونه المتفرعة على أسمائه وصفاته الذاتية وتقتفى في تهذيبك وتصفيتك هذا اثر النبي المجبول على العدالة الإلهية وعلى فطرة خلافته ونيابته وعليك ان تعرض عمن اعرض عن الحق واهله وانحرف عن سواء السبيل. جعلنا الله وعموم عباده من زمرة اهل الهداية واليقين وجنبنا من الضلال عن الطريق المستبين بمنه وجوده [سورة الدخان] فاتحة سورة الدخان لا يخفى على ارباب الكشف والشهود من المنجذبين نحو الحق في عموم أوقاتهم وحالاتهم سيما في أوائل ايام الطلب والارادة المنبعثة عن المحبة الغالبة الجالبة للميل والركون الى المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي ان الحالات الطارية على ارباب الطلب والارادة في تلك الأوقات متفاوتة قبضا وبسطا تلذذا وتحزنا تلونا وتمكنا وبالجملة لا طمأنينة للسالك في تلك الأوقات المتواردة عليه الى ان تصفو له الحالات

الآيات

وينزل على سلطان قلبه التمكن والوقار والتمرن والقرار. ثم لما وصل صلّى الله عليه وسلّم الى ذلك المقام واستولى وغلب على قلبه سلطان المحبة والعشق المفرط الإلهي وكان ورود تلك الحالة العلية اليه صلّى الله عليه وسلّم في ليلة القدر او البراءة على اختلاف الرواية انزل سبحانه عليه بعض آيات القرآن الفرقان الفارق بين نشأتى التلون والتمكن ليتقرر في مقر الكشف والشهود ويتمكن في مقعد الصدق والمقام المحمود فقال مناديا مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم بعد ما تيمن باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى بعموم أسمائه الحسنى الرَّحْمنِ على عموم مظاهره بافاضة الوجود والرزق الأوفى بمقتضى الكرم والجود الرَّحِيمِ لخواصهم بايصالهم الى الحوض المورود والمقام المحمود [الآيات] حم يا حافظ حدود الله ومراقب وحيه والهامه في عموم حالاتك وأوقاتك وَحق الْكِتابِ الْمُبِينِ الذي هو القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم إِنَّا من مقام عظيم جودنا أَنْزَلْناهُ اى ابتدأنا انزاله إليك تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ كثيرة الخير والبركة هي ليلة القدر او البراءة وانما أنزلناه مشتملا على الاحكام والمواعظ والعبر والأمثال والقصص والتواريخ والرموز والإشارات المنبهة على المعارف والحقائق إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ مخوفين بانزال ما فيه من الأوامر والنواهي والوعيدات الهائلة على من انصرف عن جادة العدالة الإلهية وانحرف عن الصراط المستقيم وانما أنزلناه إليك في ليلتك هذه إذ فِيها يُفْرَقُ يميز ويفصل عندك يا أكمل الرسل بعد ما تمكنت في مقر العز والتمكين كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ اى محكم صادر عن محض الحكمة المتقنة الإلهية ولهذا صار عموم ما ذكر في كتابك هذا أَمْراً محكما مبرما نازلا مِنْ عِنْدِنا بمقتضى حضرة علمنا وكمال قدرتنا ووفور حكمتنا ليكون هداية لك وإرشادا لعموم عبادنا المتابعين لك المهتدين بهدايتك إِنَّا قد كُنَّا في عموم الأوقات والحالات مُرْسِلِينَ رسلا مبشرين ومنذرين ومنزلين عليهم كتبا مبينة مصلحة لأحوال عبادنا بعد ما أفسدوا على أنفسهم وصار ذلك الإرسال والإنزال رَحْمَةً نازلة مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وسنة سنية بين عموم عباده حين ظهر الفساد فيهم وفشا الجدال فيما بينهم وبالجملة إِنَّهُ سبحانه هُوَ السَّمِيعُ لمناجاة عباده نحوه بألسنة استعداداتهم وقابلياتهم الْعَلِيمُ بحاجاتهم ونياتهم فيها وكيف لا يرحمهم ولا يصلح أحوالهم مع انه سبحانه هو بذاته (5) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما من الكوائن المركبة منهما يعنى مربى الكل ومظهره هو بالاستقلال والانفراد إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ اى من ارباب المعرفة واليقين فاعرفوه كذلك ووحدوه هكذا إذ لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ بصرافة وحدته وتنزهه عن وصمة الشرك مطلقا هو يُحْيِي وَيُمِيتُ اى يظهر ويوجد عموم ما يوجد وكذا يعدم عموم ما يعدم بمد ظله اليه وقبضه عنه ارادة واختيارا وكيف لا وهو سبحانه رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ لا مربى لكم ولهم سواه وبالجملة لو تأمل عموم العباد في دلائل توحيده ونظروا في آيات ألوهيته وربوبيته لعرفوا يقينا وحدة ذاته بَلْ هُمْ اى أكثرهم فِي شَكٍّ في غفلة وتردد يَلْعَبُونَ ويترددون في اودية الظنون والجهالات حسب آرائهم الفاسدة واهويتهم الباطلة بالنسبة اليه سبحانه فَارْتَقِبْ يا أكمل الرسل وانتظر لهم مترقبا بإلمام البلاء عليهم بعد ما قد أصروا على كفرهم وشركهم واذكر يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مظلم مُبِينٍ عظيم يَغْشَى النَّاسَ اى يحيط بهم وينزل عليهم بحيث تيقنوا ان

[سورة الدخان (44) : آية 12]

هذا عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم مقطع قد ألم بهم فيتضرعون حينئذ نحو الحق صارخين قائلين رَبَّنَا اكْشِفْ بفضلك وجودك عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا بعد ما كشفت عنا عذابنا مُؤْمِنُونَ موقنون بوحدانيتك مصدقون بكتابك ورسولك. وذلك ان قريشا لما بالغوا في الاستهزاء بالرسول والتهكم معه صلّى الله عليه وسلّم ومع ضعفاء المؤمنين دعا عليهم صلّى الله عليه وسلّم فقال اللهم اعنى عليهم بالسبع الشداد كسبع يوسف عليه السلام فأجاب الله دعاءه فاخذهم بالقحط فأكلوا الميتة والجيف وهلك كثير منهم فيغشاهم يومئذ دخان عظيم يسمع كل منهم كلام صاحبه ولا يراه من ظلمة الدخان فقالوا صارخين متضرعين هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب انا مؤمنون وقد كانوا عليه حتى جاء ابو سفيان الى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال انك قد جئت بصلة الرحم وان قومك قد هلكوا من الجهد فدعا لهم فكشف الله عنهم جهدهم ومع ذلك لم يوفوا بعهدهم الذي عهدوا بعد الكشف لذلك رد الله عليهم بقوله أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى اى من اين يتأتى منهم التذكر والاتعاظ وَقَدْ جاءَهُمْ لتكميلهم وإرشادهم رَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الفضل والعظم أكمل من كل الرسل ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ مدبرين واعرضوا عن دعوته ودينه مصرين على ما هم عليه وَلم يقتصروا على مجرد التولي والاعراض بل قالُوا في شأنه صلّى الله عليه وسلّم كلا ما لا يليق بعلو مكانه حيث قال بعضهم انه مُعَلَّمٌ يعلمه بعض الأعجمين مع انه صلى الله عليه وسلم أمي وقال البعض الآخر انه مَجْنُونٌ مخبط مختل العقل يتكلم بكلام المجانين مع انه اعقل الناس وارشدهم. ثم قال سبحانه على سبيل الاخبار والتنبيه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم بعد ما أخذ يدعو لهم بالكشف والتفريج إِنَّا من مقام عظيم جودنا معك يا أكمل الرسل كاشِفُوا الْعَذابِ المحيط بهم بدعائك زمانا قَلِيلًا في دار الاختبار الا انهم لم يوفوا بعدهم الذي عهدوا معك لصرافتهم وانهماكهم في الكفر ثم خاطبهم سبحانه مخبرا إياهم بما سيصدر عنهم فقال إِنَّكُمْ وان كشفنا العذاب عنكم ايها الضالون المكذبون لأنتم عائِدُونَ راجعون الى كفركم وضلالكم غب الكشف والفرج مبادرون على ما قد كنتم عليه ونحن حينئذ منتقمون عنكم مجازون لكم بأسوء الجزاء وأشد العذاب والنكال اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى اى يوم نأخذهم وننتقم عن جرائمهم وآثامهم في يوم القيامة والطامة الكبرى كيف ينقذون أنفسهم من عذابنا الذي لا مرد له يومئذ وبالجملة إِنَّا مُنْتَقِمُونَ منهم البتة حينئذ على الوجه الأشد الأفظع. ثم قال سبحانه تسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم وتسكينا لقلبه عما أهمه وأحزنه من استهزاء قومه معه واستخفافهم عليه وَكما امتحنا وجربنا قريشا بإرسالك إليهم مع انا نعلم منهم انهم لم يؤمنوا بك ولم يهتدوا بهدايتك أصلا بل اوقعناهم في فتنة عظيمة وبلية فظيعة لَقَدْ فَتَنَّا وامتحنا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ كذلك بإرسال أخيك موسى الكليم إليهم وَقد جاءَهُمْ رَسُولٌ مرسل من لدنا كَرِيمٌ مكرم لدينا بأنواع الكرامات مؤيد من عندنا بالمعجزات الباهرة مبلغ لهم بمقتضى الوحى الإلهي قائلا لهم أَنْ أَدُّوا اى بان أدوا إِلَيَّ حق الله وأرسلوا معى عِبادَ اللَّهِ بنى إسرائيل وبالجملة إِنِّي لَكُمْ من قبل ربي وربكم رَسُولٌ أَمِينٌ مأمون مصون عن الكذب والافتراء غير متهم به لدلالة ما عندي من المعجزات على صدقى في دعوى الرسالة وَعليكم أَنْ لا تَعْلُوا ولا تكبروا عَلَى اللَّهِ وعلى قبول وحيه وتصديق رسوله في دعوته الى وحدته ولا تنكروا له ولا تكذبوه إِنِّي آتِيكُمْ

[سورة الدخان (44) : آية 20]

بِسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة واضحة دالة على صدقى في دعواي وَمع وضوح الحجة وسطوع البرهان ان تظهروا على بالعناد والمكابرة اتكالا على شوكتكم وكثرتكم فانا لا أبالي بكم وبشوكتكم واستيلائكم بل إِنِّي عُذْتُ يعنى قد التجأت انا وثقت بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ من أَنْ تَرْجُمُونِ وتضربوني بالحجارة او تشتموني باللسان وَبالجملة إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي ولم تقبلوا منى قولي ودعوتي فَاعْتَزِلُونِ وابعدوا عنى لا علىّ ولا لي ولا لكم ولا عليكم وبعد ما قد كذبوه بل قصدوا مقته وقتله فَدَعا رَبَّهُ وتضرع نحوه بقوله أَنَّ هؤُلاءِ المفسدين المسرفين قَوْمٌ مُجْرِمُونَ منهمكون في الغي والضلال لا ينفعهم نصحى ولا يؤثر فيهم قولي ودعوتي يا ربي وبعد ما ايس عن ايمانهم بل خاف عن مكرهم وطغيانهم قلنا له ان كان الأمر كذلك فَأَسْرِ بِعِبادِي اى سر معهم لَيْلًا على سبيل الفرار منهم وبعد ما علموا خروجك إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ اى يتبعكم فرعون وجنوده ليلحقوا بكم ويستأصلوكم وبعد ما وصلتم الى البحر غدوة وهم على اثركم مدركون بكم فاضرب حينئذ بعصاك البحر فإذا انفلق من ضربك البحر وتفرق من كمال قدرتنا وهيبتنا فادخل أنت اصالة ومن معك تبعا لك بلا خشية وخوف من الغرق فاعبروا سالمين وَاتْرُكِ الْبَحْرَ بعد عبوركم رَهْواً ذا فجوة وانفلاق ولا تقصد الى اجتماعه ولا تدع بجمعه خوفا من عبورهم ولا تضربه بالعصاء ليجتمع كما ضربته بها لانفلاقه وبالجملة لا تخف من ضررهم واضرارهم إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ بعد دخولهم البتة فلا تخف منهم ومن ادراكهم ولا تحزن من اقتحامهم على الفور ففعل موسى عليه السلام كذلك فعبروا سالمين وترك البحر على هيئته فاقتحمه فرعون وجنوده بأجمعهم اغترارا بعبورهم وبافتراق البحر وانفلاقه فلما دخلوا جميعا مزدحمين اتصل البحر فغرقوا بالكلية وبعد ما هلكوا كَمْ تَرَكُوا اى كثيرا تركوا مِنْ جَنَّاتٍ متنزهات بهية وَعُيُونٍ جاريات فيها وَزُرُوعٍ كثيرة في حواليها وَمَقامٍ كَرِيمٍ اى محافل مزينة ومنازل حسنة في خلالها وَنَعْمَةٍ وافرة اى اسباب تنعم وترفه من الامتعة والنسوان قد كانُوا فِيها اى في الجنات فاكِهِينَ متنعمين مترفهين كَذلِكَ فعلنا معهم من كمال قدرتنا بعد ما أردنا إهلاكهم وانتقامهم بسبب تكذيبهم واستكبارهم على رسولنا وهكذا نفعل مع كل مكذب متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وَبعد ما تركوا الكل على ما كان وهلكوا قد أَوْرَثْناها اى تلك الجنات وما يتفرع عليها من المستلذات المتروكات قَوْماً آخَرِينَ لا قرابة بينهم نسبا ودينا وهم بنوا إسرائيل وبعد ما هلكوا واستؤصلوا فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ اى لم تبكيا ولم تعتدا بهلاكهم واستئصالهم مثل اعتدادهما لهلاك المؤمنين وفقدهم قال صلّى الله عليه وسلّم ما من عبد مؤمن الا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل منه عمله فإذا مات فقداه وبكيا عليه وعن المرتضى الأكبر كرم الله وجهه إذا مات المؤمن بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء وَهم من غاية انهماكهم في الغي والضلال واستيحالهم بالمقت والهلاك ما كانُوا مُنْظَرِينَ ممهلين مؤخرين الى وقت آخر بل اخذتهم العزة باثمهم بحيث لا يمهلهم الله ولا يسوف عليهم ساعة وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ وهو استعبادهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم استذلالا بهم واستهانة عليهم وانما نجيناهم كرامة منا إياهم وامتنانا عليهم وكيف لا يهينهم العذاب النازل عليهم الناشئ مِنْ فِرْعَوْنَ الطاغي المتجبر المتكبر على الأرض إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ عموم الْمُسْرِفِينَ المفسدين

[سورة الدخان (44) : آية 32]

في الأرض متبالغا في العتو والعناد والغلبة على العباد أقصى الغاية وَبالجملة لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ اى بنى إسرائيل واصطفيناهم من بين سائر الأمم المعاصرين معهم عَلى عِلْمٍ متعلق منا إياهم بأنهم أحقاء بالرياسة والسيادة وانواع الثروة والجاه عَلَى الْعالَمِينَ لكثرة ظهور الأنبياء والرسل فيهم ومنهم وَبعد ما اخترناهم آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ العظام الدالة على كمال اختصاصهم بمزيد الشرف والكرامة ما فِيهِ بَلؤُا واختبار مُبِينٌ ظاهر نختبر به إخلاصهم ورسوخهم على الايمان. ثم لما أوضح سبحانه تفضيح حال المجرمين المكذبين لرسل الله قال إِنَّ هؤُلاءِ المسرفين المكذبين لك يا أكمل الرسل يعنى قريشا خذلهم الله لَيَقُولُونَ من غاية انكارهم بقدرة الله وبما اخبر به الرسول ونطق به الكتاب من الأمور المتعلقة بالنشأة الآخرة إِنْ هِيَ اى الموتة التي تعرض لنا إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى التي تطرأ علينا في دار الدنيا وتزيل حياتنا عنا وَبالجملة ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ مبعوثين من قبورنا احياء ثم نحشر للحساب والجزاء كما زعمتم ايها المفترون الكاذبون وان أردتم تصديقنا إياكم في هذه الدعوى فَأْتُوا بِآبائِنا الذين قد انقرضوا وأسلافنا الذين مضوا احياء كما كانوا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم وبالجملة انما قالوا ما قالوا تهكما واستهزاء وبعد ما قد أصروا على عنادهم وبالغوا في انكارهم رد الله عليهم على ابلغ وجه وآكده بقوله مستفهما على سبيل التقريع والتوبيخ أَهُمْ يعنى قريشا خذلهم الله خَيْرٌ مالا وجاها وثروة وسيادة أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ اسم لمن ملك الحمير ككسرى لملوك الفارس وقيصر لملوك الروم والمراد ابو كرب (5) سعيد بن منيل آمن بنبينا قبل مبعثه فتنحى عنه قومه معللين انك قد تركت ديننا وأرادوا مقته فاخذهم الله بجرمهم هذا فاهلكهم وَالَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الهالكة كعاد وثمود أَهْلَكْناهُمْ مع شدة قوتهم وبسطتهم وكثرة شوكتهم وبالجملة إِنَّهُمْ بأجمعهم قد كانُوا أقواما مُجْرِمِينَ بالجرائم العظام الموجبة للمقت والهلاك أمثال جرائمكم ايها المجرمون المسرفون وَبالجملة ما خَلَقْنَا وأظهرنا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من الممتزجات لاعِبِينَ عابثين بلا طائل بل ما خَلَقْناهُما واظهرناهما على هذا النمط والنظام العجيب المشتمل على انواع التغيرات من الكائنات والفاسدات إِلَّا بِالْحَقِّ ليستدلوا بها على وحدة ذاتنا وكمال علمنا وقدرتنا ومتانة حكمتنا واستقلالنا في تدبيراتنا وتصرفاتنا في ملكنا وملكوتنا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لقصور نظرهم عن ادراك الحكم والأسرار الإلهية لا يَعْلَمُونَ ولا يشعرون الا المحسوسات العادية وبالجملة ما أولئك الحمقى الهلكى القاصرون عن النظر والاستدلال القانعون باللذات الوهمية البهيمية من هذا النظام العجيب الا كالأنعام والهوام بل هم أضل سبيلا وأسوأ حالا منها اذكر لهم يا أكمل الرسل إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ الذي يمتاز فيه المحق عن المبطل والهادي المهتدى عن الضال المضل مِيقاتُهُمْ وموعد جزائهم وقطع خصوماتهم أَجْمَعِينَ فيجازى كل منهم حسب ما حوسب ان خيرا فخير وان شرا فشر واذكر ايضا يَوْمَ لا يُغْنِي لا يدفع ولا يرفع مَوْلًى عَنْ مَوْلًى قرابة عن قرابة شَيْئاً من الإغناء والدفع مما كتب له من الجزاء ثوابا كان او عقابا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ اى لا ينصر بعضهم ببعض على سبيل المظاهرة والمعاونة إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ بمقتضى فضله وجوده او قبل شفاعة احد في حق احد عناية منه وعفوا إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عموم مراداته الرَّحِيمُ المشفق على عباده عند انابتهم ورجوعهم نحوه فانه يقبل توبتهم ويعفو زلتهم. ثم قال سبحانه إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ المعدة

[سورة الدخان (44) : آية 45]

لذوي الغفلة والضلال طَعامُ الْأَثِيمِ المنهمك في الجرائم والآثام ألا وهو ابو جهل اللعين ومن هو مثله في العتو والعناد وهي في الحرقة والبشاعة كَالْمُهْلِ اى الذهب المذاب او دردى الزيت الأسود وهو من شدة حرقته وحرارته يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ اى كالماء الحار إذا أشد غليانه في المرجل كيف هو وهو مثله يغلى في بطون اهل النار قال صلّى الله عليه وسلّم اتقوا الله حق تقاته ولو ان قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لأمرت على اهل الدنيا معيشتهم ما داموا فيها فكيف حال من هو طعامه هي دائما ولم يكن له غذاء سواها. أعاذنا الله منها ومن أمثالها. وبالجملة هم مبتلون بهذا العذاب الى حيث قطع أمعاءهم ومع ذلك العذاب الهائل يقال من قبل الحق للزبانية الموكلين عليهم على الدوام خُذُوهُ اى المسرف الأثيم فَاعْتِلُوهُ اى ادفعوه وسوقوه بشدة العنف والزجر المفرط إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ اى وسطه ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مثل ما في جوفه مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ ليستغرقوا بالعذاب الشديد استغراقا تاما وقولوا له عند صبكم وتعذيبكم على وجه التهكم والتوبيخ ذُقْ ايها المتجبر الطاغي طعم العذاب الهائل إِنَّكَ في نفسك وعلى مقتضى زعمك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ الغالب المقصور على الغلبة والكرامة بين اهل الوادي ثم قولوا لهم بعد تشديد العذاب عليهم تفظيعا لهم وتفضيحا إِنَّ هذا العذاب والنكال الذي أنتم فيه الآن ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تمارون وتشكون في النشأة الاولى ثم ذكر سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه مقر المؤمنين المتقين ومنزلتهم في النشأة الاخرى فقال إِنَّ الْمُتَّقِينَ المجتنبين عن محارم الله في عموم أوقاتهم وحالاتهم بعد ما انقرضوا عن نشأة الاختبار والابتلاء فِي مَقامٍ أَمِينٍ اى مقر مأمون مصون عن طريان التغير والانتقال محروس عن وصمة الغفلة والضلال وبالجملة متمكنون جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق عُيُونٍ جاريات من انواع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات اللدنية ومن كمال تلذذهم وترفههم باللذات الروحانية يَلْبَسُونَ من البسة ارباب الكشف والشهود المترقين في مراقى درجات القرب والوصول مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ اى مما رق وغلظ من عروض المعارف والحقائق الى ان صاروا مُتَقابِلِينَ في المحبة متماثلين في الوجد والحضور كَذلِكَ ينكشف لهم الأمر بعد انقراضهم عن نشأة الدنيا وعالم الحجاب وَمع ذلك القرب والوصول والوجد والحضور زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ مصورات من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية والخصائل السنية التي تأدبوا بها مع ربهم في النشأة الاولى يَدْعُونَ اى يطالب بعضهم بعضا حين تمكنهم واستقرارهم فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ ملذة لأرواحهم وأشباحهم من الفواكه الحاصلة لهم من شجرة اليقين العلمي والعيني والحقي آمِنِينَ عن غوائل الشيطان وتسويلاته وتزييناته كما في النشأة الاولى وبالجملة هم احياء عند ربهم بحياته الازلية الابدية باقون ببقائه السرمدي بحيث لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ اى طعم مرارة الموت المعطل عن التلذذ باللذات اللدنية الروحانية إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى التي قد ذاقوها عند افتراقهم عن لوازم نشأة الإمكان وانقطاعهم عن مقتضيات عالم الناسوت وانفطامهم منها وَبالجملة بعد ما وصلوا الى فضاء الوجوب وحصلوا في عالم اللاهوت وَقاهُمْ وحفظهم ربهم عَذابَ الْجَحِيمِ اى من عذاب بقعة الإمكان ونشأة الناسوت والأركان وبالجملة انما اعطوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وامتنانا منه سبحانه عليهم بلا استحقاق منهم واستجلاب بطاعاتهم ذلِكَ الذي بشر الله به عباده المتقين هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل الكريم لا فوز أعظم منه

[سورة الدخان (44) : آية 58]

وأعلى فَإِنَّما يَسَّرْناهُ وسهلناه اى ما هو المذكور في القرآن من المعارف والحقائق والرموز والإشارات التي قد خلت عنها سائر الكتب بِلِسانِكَ وبيناه على لغتك لَعَلَّهُمْ اى العرب يَتَذَكَّرُونَ اى يفهمون ويتعظون بما فيه كي يتفطنوا الى كنوز رموزه وهم من شدة شكيمتهم وقساوتهم لم يؤمنوا بك ولم يصدقوا بكتابك فكيف الاتعاظ والتذكر بما فيه والتيقظ من أحكامه واسراره وبالجملة فَارْتَقِبْ وانتظر أنت يا أكمل الرسل على ما سينزل عليهم من العذاب الموعود إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ منتظرون ايضا بما ينزل عليك من القهر والغضب على زعمهم الفاسد. جعلنا الله من زمرة المتذكرين الفائزين من عنده سبحانه بالفوز العظيم خاتمة سورة الدخان عليك ايها السالك المراقب المتعرض لنفحات الحق ونسمات لطفه المهبة من عالم قدسه في عموم احوالك ان تلازم بالتقوى عن محارم الله والاجتناب عن منهياته المنافية لآداب العبودية وتداوم على التخلق بالأخلاق المرضية الإلهية والاشتغال بالطاعات المقربة نحوه والاعراض عن الملاهي الملهية عن التوجه اليه لتكون من جملة المتقين المتعينين الفائزين من عنده سبحانه بالفوز العظيم واللطف العميم [سورة الجاثية] فاتحة سورة الجاثية لا يخفى على ارباب العبرة المتحققين بمقتضيات الفطرة الاصلية التي هم فطروا عليها بالمعرفة واليقين ان المظاهر العلوية والسفلية من الآفاق والأنفس والغيب والشهادة انما ظهرت وبرزت من مكمن الغيب وعالم العماء ليستدل ويستشهد الوالهون المستغرقون بمطالعة جمال الله وجلاله من صحائف الكائنات وصفائح المكونات على شئون الحق وتطوراته لذلك نبه سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلم مخاطبا على ذلك بعد ما تيمن باسمه الكريم فقال بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على ما ظهر بمقتضى حكمته الرَّحْمنِ على عموم بريته بسعة رحمته الرَّحِيمِ بخواصهم بمزيد عطيته التي هي إيصالهم الى ينبوع وحدته وفضاء صمديته [الآيات] حم يا حاوى الوحى والإلهام ويا مزيل الشبه الحادثة من اوهام ذوى الأحلام تَنْزِيلُ الْكِتابِ الجامع لجميع مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم على الإطلاق مِنَ اللَّهِ المحيط بعموم الأنفس والآفاق الْعَزِيزِ المنيع ساحة عز حضوره عن ان يحيط به الإدراك الْحَكِيمِ المتقن في أفعاله بحيث لا يكتنه حكمته أصلا تنبهوا ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة في شمس الذات إِنَّ فِي خلق السَّماواتِ ورفعها وتنظيمها مطبقة وَفي خفض الْأَرْضِ وبسطها ممهدة لَآياتٍ دلائل واضحات وشواهد لائحات على كمال قدرة الصانع الحكيم ومتانة حكمته وعموم تدبيراته لِلْمُؤْمِنِينَ الموقنين بوحدة الحق وكمالات أسمائه وصفاته هذا في خلق الآفاق وَفِي خَلْقِكُمْ خاصة اى في خلق انفسكم وايجادكم من كتم العدم وَكذا في خلق ما يَبُثُّ ينتشر ويتفرق على الأرض مِنْ دابَّةٍ مركبة من العناصر متحركة على وجه الأرض من انواع الحيوانات والحشرات وأصنافها آياتٌ دلائل وشواهد واضحات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وحدة الحق وينكشفون بشئونه وتجلياته التي لا تعد ولا تحصى وَكذا في اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وايلاجهما

[سورة الجاثية (45) : آية 6]

وازديادهما وانتقاصهما في الفصول الاربعة حسب الأوضاع الفلكية وأشكالها وبحسب ارتفاع الشمس وانحطاطها وَكذا في ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر لأمور عباده مِنَ جانب السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ مطر مبشر مؤذن لحصول الرزق بعد تصعيد الابخرة والادخنة وتراكمها سحبا وصيرورتها ماء في غاية الصفاء فَأَحْيا بِهِ اى بانزال المطر الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يبسها وجفافها وَكذا في تَصْرِيفِ الرِّياحِ السائقة للسحب الى الأراضي الميتة اليابسة بعد ما تعلق ارادته سبحانه باحيائها آياتٌ اى انواع من الدلائل القاطعة والبراهين الساطعة على وحدة القادر العليم الحكيم لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ويستعملون عقولهم في كيفية انبعاث هذه الأوضاع والحركات وارتباط بعضها مع بعض وترتب الأمور الغير المحصورة عليها وانشعاب الحوادث الغير المتناهية منها وتفرعها عليها وبالجملة تِلْكَ الآيات المجملة الكلية آياتُ اللَّهِ اى بعض من آياته الدالة على نبذ من كمالاته اللائقة لذاته سبحانه والا فلا يفي درك احد من عباده لتفصيل كمالاته كلها نَتْلُوها ونقصها عَلَيْكَ يا أكمل الرسل تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك ملتبسة بِالْحَقِّ بلا ريب فيه وتردد وانما نتلوها عليك يا أكمل الرسل لتبين أنت لمن تبعك من المؤمنين الموحدين طريق توحيدنا وتنبههم على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا فَبِأَيِّ حَدِيثٍ اى فهم بأى كلام وقول بَعْدَ نزول كتاب اللَّهِ وَآياتِهِ المنزلة من عنده المبينة لتوحيده يُؤْمِنُونَ يذعنون ويوقنون وبعد ما قد وضح محجة الحق واتضح دلائل توحيده وَيْلٌ عظيم وهلاك شديد لِكُلِّ أَفَّاكٍ مفتر كذاب أَثِيمٍ منغمس في الإثم والعدوان مغمور في العناد والطغيان الى حيث يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ الدالة على عظمة ذاته حين تُتْلى عَلَيْهِ سيما مع كمال وضوحها وسطوعها ثُمَّ يُصِرُّ يقوم ويدوم على ما هو عليه من الكفر والضلال مُسْتَكْبِراً بلا علة وسند سوى العناد والاستكبار ويصر من شدة عتوه وعناده حين يسمعها كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها اغترارا بما عنده من الجاه والثروة وبالجملة فَبَشِّرْهُ يا أكمل الرسل جزاء إصراره وعناده بِعَذابٍ أَلِيمٍ في غاية الإيلام ألا وهو انحطاطه عن رتبة الخلافة الانسانية إذ لا عذاب عند العارف أشد من ذلك وَمن نهاية استكباره واغتراره إِذا عَلِمَ بعد ما بلغ مِنْ آياتِنا الدالة على ضبط الظواهر وتهذيب البواطن شَيْئاً اى آية قد اتَّخَذَها وأخذها من غاية تكبره وتجبره هُزُواً محل استهزاء وسخرية يستهزئ بها ويتهكم عليها أُولئِكَ البعداء الأفاكون الضالون المنحرفون عن منهج الحق وصراطه لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ في الدنيا بإعلاء كلمة الحق واظهار دين الإسلام على الأديان كلها وإغواء الكفر والكفران في مهاوي الهوان ومفاوز الخزي والخسران ومع تلك الاهانة العاجلة مِنْ وَرائِهِمْ اى قدامهم جَهَنَّمُ العبد والخذلان وسعير الطرد والحرمان وَبالجملة لا يُغْنِي ولا يدفع عَنْهُمْ يومئذ ما كَسَبُوا وجمعوا من الأموال والأولاد والجاه والثروة شَيْئاً من الدفع والإغناء من غضب الله عليهم وَكذا لا ينفعهم مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد المستقل بالالوهية المتفرد بالربوبية أَوْلِياءَ من الأصنام والأوثان يدعون ولايتهم كولاية الله ويعبدونهم كعبادته سبحانه عدوانا وظلما بل وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ بشؤم اتخاذهم لا عذاب أعظم منه وبالجملة هذا الذي ذكر في كتابك يا أكمل الرسل هُدىً من الله يبين طريق الهداية والرشد لأهل العناية والتوفيق وَالمسرفون الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ المنزلة في كتابك

[سورة الجاثية (45) : آية 12]

هذا والتي نزلت في الكتب السالفة لَهُمْ عَذابٌ نازل ناش مِنْ رِجْزٍ وغضب عظيم من الله المقتدر على انواع الانتقام أَلِيمٌ مؤلم أشد إيلام وكيف تكفرون ايها الجاحدون المسرفون بآيات المنعم المفضل الكريم مع انه سبحانه اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ وسهل عليكم العبور عنه حيث جعله أملس مستوى السطح ساكنا على هيئته لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ اى بمقتضى حكمه وحكمته وتسخيره وَأنتم تركبون عليها لِتَبْتَغُوا وتطلبوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة والصيد والغوص وغير ذلك من الأغراض وَانما سخر وسهل لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمه وتواظبون على أداء حقوق كرمه وَبالجملة قد سَخَّرَ لَكُمْ وهيأ لتربيتكم وتدبير معاشكم مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً إذ أنتم زبدة الكائنات وخلاصة الموجودات كل ذلك منتشى مِنْهُ سبحانه مستند اليه أولا وبالذات فعليكم ان لا تسندوه الى الوسائل والأسباب العادية إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في تتابع آلاء الله وترادف نعمائه وكيفية ظهور العالم منه سبحانه وصدوره عنه وارتباطه له واستمداده منه على الدوام. ثم قال سبحانه على سبيل العظة قُلْ يا أكمل الرسل نيابة عنا لِلَّذِينَ آمَنُوا تذكرة للمؤمنين وتهذيبا لأخلاقهم اغفروا واصفحوا واعفوا ايها المؤمنون الموقنون عن عموم الأنام سيما عن المسيئين منهم ليكون العفو والغفران ديدنة راسخة في نفوسكم حتى يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ اى للكافرين المسرفين المفرطين الذين لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ اى لا يأملون ولا يخطر ببالهم انعكاس الدول وتقلبها عليهم اغترارا بما عندهم من الثروة والجاه. وانما امر سبحانه المؤمنين بالصفح والعفو عن المسيئ لِيَجْزِيَ سبحانه جزاء حسنا قَوْماً من المتخلقين بالعفو عند القدرة وكظم الغيظ عند الغضب بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الإحسان بدل الإساءة لان مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ اى يعود نفعه اليه وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وبال إساءته ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ جميعا يحاسبكم على أعمالكم ويجازيكم بمقتضاها لكن ما أخذ الله سبحانه عباده الا بعد ان يرسل عليهم رسلا مبشرين ومنذرين وينزل عليهم كتبا مبينة لهم طريق الهداية والرشد فان اهتدوا فقد فازوا بصلاح الدارين وان اعتدوا فقد ضلوا عن سواء السبيل واستحقوا بالعذاب الأليم كما اخبر سبحانه حكاية عن ضلال بنى إسرائيل وانحرافهم عن سواء السبيل وَلَقَدْ آتَيْنا حسب فضلنا وجودنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ اى التوراة المبينة لهم طريق الهداية والرشد وَالْحُكْمَ اى الحكمة المنبئة عن العدالة الإلهية في قطع الخصومات وَالنُّبُوَّةَ إذ اكثر الأنبياء بعث منهم وأرسل إليهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اى الرزق الصوري والمعنوي وَبالجملة قد فَضَّلْناهُمْ بافاضة النعم الجليلة عليهم عَلَى الْعالَمِينَ من اهل عصرهم وَمع ذلك قد آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ دلائل مبينات موضحات لهم مِنَ الْأَمْرِ المعهود الموعود يعنى التوحيد الذاتي الذي أنت يا أكمل الرسل بعثت عليه وعلى تبيينه وبالجملة فَمَا اخْتَلَفُوا في شأنك إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ والدليل القطعي في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم بانك وكتابك ودينك يا أكمل الرسل بأحق على الحق لتبيين الحق وبالجملة ما أنكروا ذلك الا بَغْياً وطغيانا وعدوانا ناشئا بَيْنَهُمْ حسدا وغيظا عليك بلا مستند عقلي او نقلي فاصبر يا أكمل الرسل على مضضهم وغيظهم إِنَّ رَبَّكَ الذي اصطفاك بكرامته واجتباك لرسالته يَقْضِي ويحكم بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعنى في شأنك ودينك وكتابك سيما بعد ما عرفوا صدقك وحقية كتابك

[سورة الجاثية (45) : آية 18]

بالدلائل العقلية والنقلية بأنواع المؤاخذة والمجازاة وبأصناف العقاب والعقبات ثُمَّ اعلم يا أكمل الرسل انا من مقام فضلنا وجودنا معك قد جَعَلْناكَ تابعا مقتديا مقتفيا عَلى شَرِيعَةٍ وطريقة منبئة موضحة مِنَ الْأَمْرِ والشأن الذي أنت تظهر عليه وأتيت لتبيينه ألا وهي الحقيقة المتحدة التي هي عبارة عن الوحدة الذاتية الإلهية والهوية الشخصية السارية في عموم المكونات فَاتَّبِعْها اى تلك الشريعة الموصلة الى الحقيقة بالعزيمة الخالصة وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ القوم الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ولا يؤمنون بها فكيف ينكشفون بسرائرها وحكمها ولا تقبل منهم أباطيلهم الناشئة من آرائهم الفاسدة وأحلامهم السخيفة الكاسدة وبالجملة إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا ولن يدفعوا عَنْكَ مِنَ غضب اللَّهِ شَيْئاً ان تعلقت مشيته بمقتك وطردك بسبب موالاتهم ومتابعتهم وَإِنَّ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية المنحرفين عن جادة العدالة الفطرية بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لكمال مناسبتهم وموالاتهم إذ الجنسية علة التضام وعلقة الالتيام بينهما فعليك الاعراض والانصراف عنهم وعن موالاتهم وَاللَّهُ المطلع على عموم ما في ضمائر عباده وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الذين يتقون ويحذرون عن محارم الله ويوالون اولياء الله لله وفي الله هذا الذي ذكر في كتابك من الأخلاق المرضية المنبهة على القسط الحقيقي والعدل الإلهي بَصائِرُ لِلنَّاسِ يبصرهم طريق الهداية والرشد ويوصلهم الى التوحيد الذاتي ان استقاموا عليها بالعزيمة الصادقة الصحيحة الصافية عن كدر الرياء والرعونات وَهُدىً يهديهم الى سواء السبيل وَرَحْمَةٌ نازلة من قبل الحق لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ويوفقون على الايمان والإيقان والكشف والعيان. ثم قال سبحانه أَمْ حَسِبَ الغافلون الضالون المسرفون الَّذِينَ اجْتَرَحُوا واكتسبوا طول عمرهم السَّيِّئاتِ المبعدة لهم عن طريق الحق وسبيل الهداية والرشد أَنْ نَجْعَلَهُمْ ونصيرهم بعد ما رجعوا إلينا كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى الحق وتوحيده اى مثلهم بلا مزية لهم عليهم بل ظنوا انهم هم (3) سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ يعنى حياة المشركين ومماتهم عندنا كحياة الموحدين المخلصين ومماتهم ايضا كذلك كلا وحاشا ساءَ ما يَحْكُمُونَ اى حكمهم هذا وما حكموا به لأنفسهم أولئك الجاحدون الجاهلون وَكيف يحكم المتقن في عموم أحكامه وأفعاله بمساواة المطيع والعاصي مع انه قد خَلَقَ اللَّهُ المستوي بالعدل القويم على عروش عموم المظاهر السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ملتبسة بِالْحَقِّ اى بالعدالة الصورية المنبئة عن العدالة المعنوية الحقيقية الحقية وَانما خلقها كذلك لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من خير وشر بعد ما امر الحق بما امر ونهى بما نهى وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ في أجور أعمالهم وجزائها لا زيادة ولا نقصانا الا تفضلا وإحسانا في جزاء المحسنين أَفَرَأَيْتَ وأبصرت متعجبا ايها المعتبر الرائي الى مَنِ اتَّخَذَ اى الى الجاحد المسرف والجاهل المعاند الذي قد أخذ واتخذ إِلهَهُ هَواهُ اى ما يهواه وكيف أطاع الى ما يتمناه وعبد الى ما يحبه ويرضاه ولم يفوض امره الى مولاه بل نبذه الى ما وراه واتبع هواه وَما ذلك الا انه قد أَضَلَّهُ اللَّهُ العليم الحكيم باسمه المذل المضل مع انه أظهره سبحانه عَلى عِلْمٍ اى صوره بصورة ذي علم وجبله على فطرة اى معرفة وتوحيد وَمع إظهاره وخلقه كذلك قد خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ لئلا يسمع كلمة الحق من اهله وَقد ختم ايضا على قَلْبِهِ لئلا يتفكر في آيات الله ودلائل توحيده وَقد جَعَلَ ايضا عَلى

[سورة الجاثية (45) : آية 24]

بَصَرِهِ غِشاوَةً غليظة وغطاء كثيفا لئلا يعتبر من عجائب مصنوعاته سبحانه وغرائب مخترعاته وبعد خلقه سبحانه كذلك فَمَنْ يَهْدِيهِ ويرشده اى ينقذه من الضلال ويهديه الى فضاء الوصال مِنْ بَعْدِ إضلال اللَّهُ إياه واذلاله أَفَلا تَذَكَّرُونَ وتتعظون من تبدل أحواله ايها العقلاء المجبولون على فطرة العبرة وفطنة العظة والتذكرة وَمن غاية غوايتهم وضلالهم عن مقتضى كمال قدرة الله وعدم تنبههم وتفطنهم بوحدة ذاته وبكمالات أسمائه وصفاته واستقلاله في تدبيراته وتصرفاته قالُوا منكرين للحشر والنشر ما هِيَ اى ما الحال والحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا التي نحن نَمُوتُ وَنَحْيا فيها لا منزل لنا سواها ولا مرجع لنا غيرها وَبالجملة ما يُهْلِكُنا وما يميتنا ويعدمنا فيها إِلَّا الدَّهْرُ اى مر الزمان وكر الدهور والأعوام لا فاعل لنا سواه ولا متصرف فينا غيره وَالحال انه ما لَهُمْ بِذلِكَ الذي صدر عنهم مِنْ عِلْمٍ عقلي او نقلي او كشفى بل إِنْ هُمْ اى ما هم باعتقادهم هذا إِلَّا يَظُنُّونَ ظنا على وجه التقليد والتخمين بلا سند لهم يستندون اليه سوى الالف بالمحسوسات والتقليد بالرسوم والعادات وَمن نهاية جهلهم وغفلتهم عن الله ومقتضى ألوهيته وربوبيته إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على كمال تربيتنا إياهم مع كونها بَيِّناتٍ مبينات لهم طريق الهداية والرشد ومنبهات على ميعاد المعاد ما كانَ حُجَّتَهُمْ ودليلهم حين سمعوها إِلَّا أَنْ قالُوا على سبيل الإنكار والاستبعاد ائْتُوا بِآبائِنا وأسلافنا الذين مضوا وانقرضوا احياء كما كانوا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الحشر والنشر والمعاد الجسماني والروحاني وبعد ما اعرضوا عن الحق وانصرفوا عن الآيات البينات مكابرة وعنادا وتشبثوا بأذيال أمثال هذه الحجج الواهية والتخمينات الغير الوافية قُلِ لهم يا أكمل الرسل كلاما يحرك سلسلة حميتهم الفطرية ومحبتهم الجبلية لو ساعدهم التوفيق والعناية من لدنا اللَّهُ المظهر للكل المحيط به المتصرف فيه على الإطلاق بالاختيار والاستحقاق يُحْيِيكُمْ ويبعثكم في النشأة الاخرى كما أوجدكم وأظهركم من كتم العدم أولا في النشأة الاولى بمد ظله ورش نوره عليكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ويعدمكم بقبضه عنكم ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ مع من انقرض منكم ومن آبائكم واسلافكم إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ الذي لا رَيْبَ فِيهِ وفي وقوعه ووقوع ما فيه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على الكفران والنسيان لا يَعْلَمُونَ وقوعه وقيامه بل يكذبونه وينكرون عليه لاعتيادهم بالأمور الحسية وقصورهم عن مدركات الكشف والشهود وَكيف ينكرون جمع الله عباده في النشأة الاخرى أولئك المكابرون المعاندون إذ لِلَّهِ المتوحد بالالوهية والربوبية مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وناسوتهما وملكوتهما وجبروتهما ولاهوتهما جميعا وله التصرف المطلق في عموم مظاهره ومجاليه مطلقا بكمال الاستحقاق والاستقلال ارادة واختيارا وَبالجملة يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ المعدة للحشر والجزاء يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ المنكرون حين يشاهدون أرباح المحقين المؤمنين بقيام الساعة وبحقية جميع ما فيها من الوعد والوعيد وَتَرى ايها المعتبر الرائي حين تقوم الساعة ويحشر الناس الى المحشر للحساب كُلَّ أُمَّةٍ من الأمم جاثِيَةً مجتمعة مستوحشة باركة على الركب جالسة على رؤس الأصابع من شدة دهشتهم وخوفهم كُلَّ أُمَّةٍ اى كل فرد من افراد الأمم تُدْعى إِلى كِتابِهَا بين يدي الله اى صحيفة أعمالهم التي قد كتب فيها عموم أحوالهم وأفعالهم الكائنة الحاصلة منهم الجارية في النشأة الاولى فيقال لهم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ كل منكم ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

[سورة الجاثية (45) : آية 29]

في نشأتكم الاولى ان خيرا فخير وان شرا فشر وبالجملة هذا كِتابُنا الذي قد فصلنا فيه أعمالكم على حدة بلا فوت شيء منها يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ ويذكركم بِالْحَقِّ على الوجه الذي صدر عنكم بلا زيادة ونقصان إِنَّا بعد ما كلفناكم على امتثال أوامرنا والاجتناب عن نواهينا قد كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ونأمر الملائكة الموكلين عليكم المراقبين لأحوالكم وأعمالكم ان يكتبوا عموم ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على التفصيل حسناتها وسيئاتها صغائرها وكبائرها على وجوهها وبعد ما تحاسبون حسب صحائفكم وكتبكم فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا اى قد أذعنوا وأيقنوا بوحدة الحق وصدقوا رسله وكتبه وَمع كمال ايمانهم ويقينهم قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الأخلاق والأفعال تقربا الى الله وتأدبا معه سبحانه بما يليق بعبوديته وتعظيم شأنه فَيُدْخِلُهُمْ اليوم رَبُّهُمْ الذي يوفقهم على الايمان والتوحيد فِي سعة رَحْمَتِهِ وفسحة وحدته بفضله ولطفه ذلِكَ الذي بشر به سبحانه عباده المؤمنين المخلصين هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ والفضل العظيم لا فوز أعظم منه وأعلى وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأنكروا وحدة ذاته بل اثبتوا له شركاء ظلما وزورا يقال حينئذ من قبل الحق مستفهما على سبيل التوبيخ والتقريع أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ ايها المفسدون المسرفون المفرطون يعنى ألم يأتكم رسلي ولم يتلوا عليكم آياتي الدالة على عظمة ذاتى وكمالات أسمائي وصفاتي ووفور قدرتي وقوتي على انواع الانتقامات والوعيدات التي أخبرتم بها فكذبتم بها وبهم جميعا بل فَاسْتَكْبَرْتُمْ علىّ وعلى رسلي ومن قبول الآيات وتصديقها وَبالجملة قد كُنْتُمْ أنتم في انفسكم قَوْماً مُجْرِمِينَ مستكبرين ليس عادتكم الا الاجرام والعدوان وَقد كنتم أنتم من نهاية استكباركم واغتراركم بما عندكم من الجاه والثروة إِذا قِيلَ لكم امحاضا للنصح إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الذي قد وعدكم به على ألسنة رسله وكتبه حَقٌّ ثابت محقق مطابق للواقع لا بد وان يقع الموعود منه سبحانه البتة بلا خلف في وعده وَلا سيما السَّاعَةُ الموعودة آتية لا رَيْبَ فِيها وفي قيامها ووقوعها وأنتم إذا سمعتم هذا قُلْتُمْ على وجه الاستبعاد والاستكبار وانواع الكبر والخيلاء ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ الموعودة وما معنى قيامها ووقوعها وما الايمان بها إِنْ نَظُنُّ اى ما نظن بها وبشأنها إِلَّا ظَنًّا ضعيفا بل وهما مرجوحا سخيفا وما لنا علم بها سوى السماع والاستماع من أفواه الناس وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ بها وبشأنها حتى نؤمن بها وبقيامها ونصدق بما فيها من المواعيد والوعيدات وَبالجملة قد بَدا لَهُمْ وظهر ولاح وانكشف عندهم بعد ما تبلى السرائر وتكشف الحجب والأستار سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا مصرين عليه وعرفوا وخامة عاقبته وَحينئذ قد حاقَ وأحاط بِهِمْ جزاء ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ على رسل الله وخلص عباده وَقِيلَ لهم حينئذ من قبل الحق الْيَوْمَ نَنْساكُمْ نترككم في النار خالدين مخلدين كَما كنتم أنتم قد نَسِيتُمْ ونبذتم وراء ظهوركم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا بل قد انكرتم لقياه مطلقا وكذبتم الرسل المبلغين لكم وأحباركم المنذرين لكم من أهواله وَبالجملة مَأْواكُمُ مرجعكم ومثواكم النَّارُ أبدا مخلدا لا منزل لكم سواها ولا مقام لكم غيرها وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ منقذين لكم منها بعد ما استوجبتم بها بمفاسد أعمالكم ومقابح أفعالكم وبالجملة ذلِكُمْ الذي قد وقعتم فيها وابتليتم بها بِأَنَّكُمُ اى بسبب انكم قد اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ الدالة على الرشد والهداية هُزُواً محل استهزاء واستهزأتم بها بلا مبالاة بشأنها وانكرتم عليها بلا تأمل

[سورة الجاثية (45) : آية 36]

وتفكر في برهانها وَبالجملة ما سبب استهزائكم وعدم مبالاتكم بها الا انه قد غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ولذاتها وشهواتها الوهمية الفانية الدنية بحيث لا تلتفتون الى العقبى ولذاتها الباقية الابدية بل تنكرون عليها عنادا ومكابرة فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها اى من النار المترتبة على ذلك الاتخاذ والغرور أصلا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ اى لا يمكنهم ان يعتذروا عند الله ويتداركوا ما فوتوا على أنفسهم بالتوبة والانابة إذ قد انقرض ومضى زمانه وبعد ان ثبت ان مرجع الكل الى الله ومحياه ومماته بيده وله ان يثيب ويعاقب عباده بمقتضى فضله وعدله فَلِلَّهِ على سبيل الاختصاص والتمليك لا لغيره من الوسائل والأسباب العادية الْحَمْدُ المستوعب بجميع الاثنية والمحامد الصادرة من ألسنة ذرائر مظاهره رَبِّ السَّماواتِ اى العلويات وَرَبِّ الْأَرْضِ اى السفليات وكذا رب ما يتركب بينهما من الممتزجات وبالجملة رَبِّ الْعالَمِينَ اى مربى الكل هو بذاته علوا وسفلا بسيطا ومركبا غيبا وشهادة وَلَهُ الْكِبْرِياءُ والعظمة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تدبيرا وتصرفا حلا وعقدا إذ ظهور الكل انما هو من آثار أوصافه وأسمائه وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على عموم تدابيره وتقاديره وتصاريفه وتصاويره ارادة واختيارا الْحَكِيمُ المتقن في عموم مقدوراته على الوجه الأبلغ الأحكم استحقاقا واستقلالا فعليكم ايها المجبولون على فطرة العبودية والعرفان ان تحمدوا له وتكبروا ذاته وتشكروا نعمه كي تؤدوا شيأ من حقوق كرمه ان كنتم مخلصين مخصصين. جعلنا الله من زمرة الحامدين لله المخلصين له الدين خاتمة سورة الجاثية عليك ايها السالك المتحقق بمقام الرضاء والتسليم والناسك المنكشف بكمال عظمة الله وكبريائه وبعلو شأنه وبهائه ان تواظب على أداء الشكر له سبحانه دائما ملاحظا نعمه الفائضة المترادفة المتجددة في قيد هويتك وانانيتك الناسوتية قبل فنائك في لاهوتية الحق وبقائك ببقائه إذ علامة العارف الواصل الى ينبوع بحر الوحدة ان لا يرى في ملكة الوجود وعرصة الشهود سواه سبحانه موجودا فلا يتكلم الا به وعنه ومعه وفيه وله ولا يسرى الا نحوه واليه ولا اله الا هو ولا نعبد الا إياه [سورة الأحقاف] فاتحة سورة الأحقاف لا يخفى على من انكشف بسلطنة الحق واستيلائه التام على عروش عموم مظاهره ان اثبات الوجود لما سواه سبحانه وادعاء التحقق والثبوت لغيره من الاظلال الهالكة في شمس ذاته انما هو زور ظاهر وقول باطل بلا طائل بل ما ظهر ما ظهر الا من انعكاس اشعة أسمائه وآثار أوصافه الذاتية الصادرة منه سبحانه حسب شئونه وتجلياته الحبية ليستدل به من جبل على فطرة الدراية والشعور على وحدة ذاته وكمال أسمائه وصفاته لذلك خاطب سبحانه حبيبه بما خاطبه به وأوصاه بعد ما تيمن باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ المنزل للكلم مفصحا عما عليه قضاؤه وارادته الرَّحْمنِ لعموم عباده يصلح أحوالهم على مقتضى حكمته الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى منبع رحمته وفضاء وحدته [الآيات] حم يا من حمل أعباء الرسالة بحولنا وقوتنا ومال الى جناب قدس وحدتنا بالميل الذاتي الحقيقي بعد مساعدة توفيقنا وجذب من لدنا تَنْزِيلُ الْكِتابِ الذي انزل إليك لتأييد أمرك وضبط شرعك ودينك مِنَ اللَّهِ المطلع بعموم ما في استعدادات عباده الْعَزِيزِ الغالب على جميع ما دخل

[سورة الأحقاف (46) : آية 3]

في حيطة قدرته وارادته الْحَكِيمِ المتقن في مطلق تدابيره الصادرة منه بضبط مصالح عباده ثم التفت سبحانه تهويلا وتفخيما لحكمه فقال ما خَلَقْنَا وأظهرنا من كتم العدم السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات الذاتية وَالْأَرْضَ اى عالم الاستعدادات القابلة لانعكاس اشعة أنوار الذات الفائضة عليها حسب الشئون والتطورات الجمالية والجلالية وَكذا ما بَيْنَهُما من الآثار المتراكمة المتكونة من امتزاج آثار الفواعل والمؤثرات الاسمائية مع المتأثرات الناشئة من قوابل المسميات والهيولى إِلَّا بِالْحَقِّ اى خلقا ملتبسا بالحق المطابق للواقع وَقدرنا بقاء ظهورها الى أَجَلٍ مُسَمًّى اى وقت مقدر من لدنا محفوظ في خزانة حضرة علمنا ولوح قضائنا لا نطلع أحدا عليه فإذا جاء الأجل المسمى انعدم الكل بلا تخلل تقدم وتأخر وَالَّذِينَ كَفَرُوا وأنكروا كمال قدرتنا على إيجاد الأشياء وإعدامها وابدائها وإعادتها عَمَّا أُنْذِرُوا من اهوال يوم القيامة المعدة لانعدام الكل وانقهار الاظلال الهالكة في شروق شمس الذات مُعْرِضُونَ منصرفون لذلك لا يتزودون له ولا يهيئون أسبابه ولا يستعدون بحلوله قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما افرطوا في الاعراض عن الله وعن توحيده واثبتوا له شركاء ظلما وزورا مستفهما على سبيل الإلزام والتبكيت أَرَأَيْتُمْ أخبروني ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وتتخذونهم آلهة سواه وتعتقدونهم شركاء معه سبحانه في الأرض أَرُونِي وبصرونى ماذا خَلَقُوا وأى شيء اوجدوا وأظهروا مِنَ الْأَرْضِ حتى اتصفوا بالخالقية واستحقوا بالمعبودية والربوبية وايضا أخبروني هل تنحصر شركتهم مع الله بعالم العناصر والمسببات أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ ايضا فِي السَّماواتِ وعالم الأسباب والمؤثرات وبالجملة ائْتُونِي بِكِتابٍ نازل مِنْ قَبْلِ هذا القرآن الفرقان قد أمرتم فيه باتخاذ هؤلاء الهلكى آلهة سوى الله مستحقة بالعبادة أَوْ أَثارَةٍ يعنى ائتوني ببقية مِنْ عِلْمٍ دليل عقلي او نقلي قد بقي لكم من اسلافكم يدل على إيثارهم واختيارهم آلهة شركاء معه سبحانه في ألوهيته وبالجملة ائتوني بسند صحيح إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الشركة مع الله المنزه عن التعدد مطلقا وَبالجملة مَنْ أَضَلُّ طريقا وأسوأ حالا وأشد سفها وحماقة مِمَّنْ يَدْعُوا ويعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ السميع العليم البصير الحكيم القدير الخبير المستقل في تصرفاته بالإرادة والاختيار مَنْ لا يَسْتَجِيبُ اى أصناما وأوثانا لا تسمع دعاءه ولا تجيب لَهُ ولا تعلم حاله ولا تدبر امره وان دعاه وتضرع نحوه إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ اى ابدا ما دامت الدنيا بل وَهُمْ اى معبوداتهم الباطلة عَنْ دُعائِهِمْ وتضرع عابديهم نحوهم غافِلُونَ ذاهلون لا شعور لهم حتى يفهموا ويجيبوا وَهم قد عبدوهم معتقدين نفعهم ولم يعلموا انهم إِذا حُشِرَ النَّاسُ واجتمعوا في المحشر للحساب والجزاء كانُوا لَهُمْ أَعْداءً اى المعبودون للعابدين بل وَكانُوا اى المعبودون بِعِبادَتِهِمْ اى العابدين لهم كافِرِينَ منكرين جاحدين وَبالجملة هم قد كانوا من شدة غيهم وضلالهم عنا وعن توحيدنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا مع كونها بَيِّناتٍ واضحات مبينات لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ الصريح الصحيح البين لَمَّا جاءَهُمْ اى حين جاءهم ليهديهم ويبين لهم طريق الحق وتوحيده هذا المتلو ما هو الا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر كونه سحرا باطلا وما هذا التالي له الا ساحر عظيم انما قالوا هكذا ونسبوا القرآن لما نسبوا لعجزهم عن إتيان مثله مع انهم من ارباب اللسن

[سورة الأحقاف (46) : آية 8]

ووفور دواعيهم لمعارضته أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بل انصرفوا عن نسبته الى السحر الى افحش من ذلك وهو الافتراء فيقولون في حقه قد اختلقه هذا المدعى من تلقاء نفسه ونسبه الى ربه تغريرا وترويجا قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما نسبوا كتابك الى الفرية كلاما مفصحا لهم عن حقيقة الأمر وحقيته لو تأملوا فيه إِنِ افْتَرَيْتُهُ واختلقته انا من عندي ونسبته الى الله زورا وبهتانا فيأخذنى رب العزة بالإثم والافتراء البتة وان أخذني فَلا تَمْلِكُونَ ولا تدفعون لِي مِنَ عذاب اللَّهِ شَيْئاً حين أخذني وانتقم منى وبالجملة هُوَ سبحانه أَعْلَمُ بعلمه بِما تُفِيضُونَ وتخوضون أنتم فِيهِ اى في كتابه بما لا يليق به وبشأنه من نسبته الى السحر والافتراء وتكذيبه بأنواع وجوه المراء كَفى بِهِ اى كفى الله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ اى بيننا يجازينا على مقتضى علمه وخبرته بي وبكم وَهُوَ الْغَفُورُ المبالغ في الستر والعفو لمن استغفر له الرَّحِيمُ لمن تاب ورجع نحوه نادما عما صدر عنه يقبل توبته ويمحو زلته قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما اقترحوا عليك من الآيات التي تهواها نفوسهم ليلزموك ويعجزوك ما كُنْتُ بِدْعاً اى رسولا بديعا مبتدءا مِنَ بين الرُّسُلِ مبتدعا امرا يديعا غريبا مدعيا الإتيان بعموم المقترحات بل وَالله ما أَدْرِي وما اعلم من حال نفسي ما يُفْعَلُ بِي وكيف يصنع معى وَلا بِكُمْ اى وكيف يصنع بكم إِنْ أَتَّبِعُ اى ما اتبع إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ من قبل ربي ويطلعني عليه وَبالجملة ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ من قبل الحق مُبِينٌ مبين موضح مظهر لكم باذنه ما اوحى الى من وحيه وما على الا التبليغ والإنذار والتوفيق من الله العليم الحكيم قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما أقر رأيهم على ان القرآن مختلق من عندك قد افتريته أنت على الله وسحر نسبته أنت اليه سبحانه تغريرا وترويجا أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ العليم العلام وَكَفَرْتُمْ بِهِ أنتم بلا مستند لكم في تكذيبه وإنكاره وَالحال قد شَهِدَ شاهِدٌ حبر ماهر مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عالم بالتوراة عَلى مِثْلِهِ اى مثل ما في القرآن أقر واعترف عبد الله بن سلام انه قد قرأ في التوراة أوامر واحكاما مثل ما في القرآن ووجد ايضا فيها من أوصاف القرآن ما يلجئه الى الايمان به فَآمَنَ به وصدق من انزل اليه وامتثل بما فيه وَقد اسْتَكْبَرْتُمْ أنتم عن الايمان والقبول بل كذبتم به وانكرتم عليه الستم ظالمين وبالجملة ما أنتم في انفسكم الا قوم ضالون ظالمون إِنَّ اللَّهَ المطلع على ما في استعدادات عباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى حدوده الموصلة الى زلال هدايته وتوحيده وَمن شدة شقاقهم ونفاقهم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اى لأجلهم وفي حقهم لَوْ كانَ الايمان بمحمد وبما أتى به من الدين خَيْراً مما نحن فيه ما سَبَقُونا إِلَيْهِ بأنواع الكرامة والجاه والثروة والسيادة إذ هو ومن تبعه كلهم اراذل سقاط رعاة فقراء فاقدين لوجه الكفاف ونحن اغنياء ذوو الخطر بين الناس انما قالته قريش حين افتخروا على المؤمنين وقصدوا اضلالهم وإذلالهم وَبالجملة لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبعنادهم بك وبكتابك إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ اى بالقرآن ولم ينكشفوا بحقيته بل فَسَيَقُولُونَ من جهلهم وضلالهم هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ وأساطير الأولين وَعليك ان لا تلتفت مطلقا الى هذياناتهم وأباطيلهم الزائغة إذ قد جاء مِنْ قَبْلِهِ اى قبل كتابك كِتابُ مُوسى اى التوراة حال كونه إِماماً مقتدى لقاطبة الأنام وَرَحْمَةً شاملة فوائدها على كافة الخواص والعوام فكذبوه وأنكروا أحكامه وَهذا الكتاب الذي نزل

[سورة الأحقاف (46) : آية 13]

عليك يا أكمل الرسل كِتابٌ مُصَدِّقٌ لجميع ما مضى من الكتب السالفة لِساناً عَرَبِيًّا أسلوبا ونظما انما جاء كذلك (3) لِيُنْذِرَ بما فيه من الوعيدات الهائلة الَّذِينَ ظَلَمُوا اى خرجوا عن مقتضى العدالة الإلهية بمتابعة آرائهم الباطلة المنحرفة عن صراط الحق الحقيق بالاطاعة والاتباع وَليصير بُشْرى بما فيه من انواع المواعيد الذالة على كرامة الحق وإحسانه لِلْمُحْسِنِينَ من خلص عباده وكيف لا إِنَّ المحسنين الَّذِينَ قالُوا بعد ما تحققوا بمقام العبودية رَبُّنَا اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية ثُمَّ بعد ما تمكنوا في مقر التوحيد وتمرنوا عليه اسْتَقامُوا فيه ورسخوا على محافظة الآداب الشرعية والعقائد الدينية الموضوعة لتأييد ارباب المعرفة وتمكينهم على جادة التوحيد لئلا يطرأ عليهم التزلزل والانحراف عن صراط الحق وسواء السبيل فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بعد ما وصلوا الى مقر التمكين وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عن التردد والتلوين وبالجملة أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله أَصْحابُ الْجَنَّةِ المعدة لأرباب العناية خالِدِينَ فِيها بلا تبديل ولا تحويل وانما جوزوا جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإحسان مع الله بمراعاة الأدب معه سبحانه وبملازمة الطاعات والعبادات على وجه الإخلاص والتسليم ومع عموم عباده بحسن المعاشرة والمصاحبة وأداء حقوق المواخاة والموالاة. ثم أشار سبحانه الى معظم اخلاق المحسنين المستحقين بخلود الجنة وبالفوز العظيم فيها فقال وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ اى ومن جملة ما الزمنا على الإنسان الاتصاف به والمحافظة عليه حتما إكرامه بِوالِدَيْهِ إِحْساناً لهما وحسن الأدب معهما أداء لحقوق تربيتهما وحضانتهما له وكيف لا يحسن إليهما مع انه قد حَمَلَتْهُ أُمُّهُ حين حبلت به كُرْهاً مشقة عظيمة وألما شديدا وحملا ثقيلا وَحملت ايضا حين وَضَعَتْهُ كُرْهاً أشد من مشقة الحمل واكثر ألما منها وَمع ذلك ليست مشقتها ومقاساتها زمانا قليلا بل حَمْلُهُ اى مدة حمل امه إياه في بطنها وَفِصالُهُ اى مدة فطامه عن لبنها كلاهما ثَلاثُونَ شَهْراً وهي مدة طويلة وبعد فطامه ايضا تلازم حفظه وحضانته حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وكمال عقله ورشده وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إذ القوة العاقلة انما تكاملت دونها ولذا لم يبعث نبي الا بعد الأربعين الا نادرا قالَ بعد ما تذكر نعم الحق الفائضة عليه من بدء فطرته الى أوان رشده وكمال عقله مناجيا مع ربه مستمدا منه رَبِّ أَوْزِعْنِي اى أولعني وحرصنى بتوفيقك أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ طول دهري وأواظب على أداء حقوقها حسب طاقتي وقوتي وَكذا اشكر نعمتك التي أنعمت عَلى والِدَيَّ إذ أداء حقوقهما وما لزم عليهما من حقوق نعمك اللازم أداؤها عليهما واجب علىّ وَكذا وفقني بمقتضى كرمك وجودك أَنْ أَعْمَلَ عملا صالِحاً مقبولا عندك على الوجه الذي تَرْضاهُ منى وَبالجملة أَصْلِحْ لِي بمقتضى كرامتك علىّ عملي واجعل بفضلك صلاحي ساريا فِي ذُرِّيَّتِي ليكونوا صلحاء مثلي وارثين عنى مستحقين لكرامتك وعنايتك بهدايتهم وصلاحهم وبالجملة إِنِّي تُبْتُ ورجعت إِلَيْكَ عن عموم مالا يرضيك ولا يقبل عندك يا ربي من عملي إذ أنت اعلم منى بحالي وَإِنِّي إليك يا رب مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لك المطيعين لحكمك المفوضين أمورهم كلها إليك إذ لا مقصد لهم غيرك ولا مرجع سواك وبالجملة أُولئِكَ السعداء المولعون على شكر نعم الله وأداء حقوق الوالدين وحسن المعاشرة معهما والإحسان إليهما هم الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ (5) بقبول حسن أَحْسَنَ ما

[سورة الأحقاف (46) : آية 17]

عَمِلُوا مخلصين فيه طالبين رضاء الله مجتنبين عن سخطه وَنَتَجاوَزُ سبحانه عَنْ سَيِّئاتِهِمْ بعد ما تابوا ورجعوا نحوه نادمين وبالجملة هم فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ مصاحبون معهم آمنون فائزون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون انجازا لما وعد لهم الحق وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ في النشأة الاولى وبعد ما وصى سبحانه من رعاية حقوق الوالدين وما يترتب عليها من الفوز العظيم عقبه بضده وهو عقوق الوالدين وما يترتب عليه من العذاب الأليم فقال وَالَّذِي اى والمسرف المفرط المتناهي الذي قالَ لِوالِدَيْهِ من فرط سرفه وعصيانه وشدة عقوقه عليهما حين دعواه الى الايمان والتوحيد واجتهدا ان يخلصاه من الشرك والتقليد وعن اهوال يوم القيامة وافزاعها أُفٍّ لَكُما وهذه الكلمة كناية عن الضجرة المفرطة والردع المتناهي أَتَعِدانِنِي وتخوفانني من العذاب والنكال بعد أَنْ أُخْرَجَ من قبري حيا وَالحال انه قد خَلَتِ ومضت الْقُرُونُ الماضية مِنْ قَبْلِي ولم يخرج احد منهم من قبره حيا فانا ايضا لا اخرج أمثالهم وبالجملة هو من شدة قساوته ونهاية شقاوته يصر على هذا وَهُما من غاية ترحمهما وتحننهما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ ويطلبان الغوث والتوفيق منه سبحانه لأجله قائلين له على وجه المبالغة في التخويف وَيْلَكَ اى ويل لك وهلاك ينزل عليك ايها المسرف المفرط لو لم تؤمن آمِنْ بالله وبجميع ما جاء من عنده في النشأة الاولى والاخرى إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بعموم المواعيد والوعيدات الصادرة منه سبحانه على ألسنة رسله وكتبه حَقٌّ لا خلف فيه وسينجزه الله القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام فَيَقُولُ بعد ما سمع من شدة إصراره وإنكاره ما هذا الذي أنتما جئتما به على سبيل العظة والتذكير إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى أباطيلهم الزائغة الزائلة الزاهقة التي قد سطروها في كتبهم ودواوينهم بمجرد الترغيب والترهيب وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون عن ساحة عز القبول هم الَّذِينَ حَقَّ قد ثبت وتحقق عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ والحكم من الله المطلع بما في صدور عباده من الغل والغواية الراسخة بأنهم اصحاب النار معدودون فِي زمرة أُمَمٍ هالكة مستحقة للعذاب والبوار قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ اى من جنسهما وبالجملة إِنَّهُمْ بأجمعهم قد كانُوا خاسِرِينَ مضيعين على أنفسهم الكرامة الانسانية ورتبة الخلافة الإلهية المودعة في نشأتهم وَاعلموا انه لِكُلٍّ من المحقين والمبطلين دَرَجاتٌ من الثواب والعقاب متفاوتة شدة وضعفا رفعة ودناءة منتشئ كلها مِمَّا عَمِلُوا مترتبة عليه خيرا كان او شرا حسنات او سيئات وَكل منهم متعلق بعمله ومشاكل معه مجزى بمقتضاه وما ذلك الا لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ ويوفر عليهم جزاءها المترتب عليها درجات كانت او دركات وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لا بالزيادة ولا بالنقصان على أجور ما كسبوا وَاذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يُعْرَضُ المسرفون الَّذِينَ كَفَرُوا بالحق واعرضوا عنه وعن اهله عَلَى النَّارِ المسعرة المعدة للكافرين المعرضين فيقال لهم حينئذ على سبيل التوبيخ والتشنيع أنتم قد أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ من اللذائذ وتلذذتم بها فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فيها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ بدلها عَذابَ الْهُونِ المهين المذل بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ على عباد الله بِغَيْرِ الْحَقِّ يعنى بدل تعززكم وتعظمكم بها في دار الدنيا وكبركم وخيلائكم على ضعفاء العباد وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ تخرجون عن مقتضى الحدود الإلهية ظلما وزورا وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل أَخا عادٍ اى اذكر

[سورة الأحقاف (46) : آية 23]

لمشركي مكة خذلهم الله قصة قوم عاد مع أخيك هود عليه السلام وقت إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ امحاضا للنصح لهم وهم يسكنون بِالْأَحْقافِ اى الرمال المعوجة المستوية على شاطئ البحر وَالحال انه قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ والرسل المنذرون مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ اى قبل هود عليه السلام وَمِنْ خَلْفِهِ اى بعده عليه السلام كلهم متفقون في المنذر به ألا وهو أَلَّا تَعْبُدُوا اى ان لا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الحقيق بالاطاعة والعبادة ولا تشركوا به شيأ من مصنوعاته ولا تتوجهوا ولا تسترجعوا في الخطوب الا اليه وانصرفوا من عبادة غيره إِنِّي بسبب عبادتكم غير الله واتخاذكم آلهة سواه أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هائل شديد وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا من التوحيد 22 قالُوا متهكمين معه مشنعين عليه أَجِئْتَنا مدعيا ملتزما لِتَأْفِكَنا وتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا اى عن عبادتهم واطاعتهم ونؤمن بك وبإلهك وبالجملة نحن لا نؤمن بك ولا نصدقك في قولك فَأْتِنا بِما تَعِدُنا وتخوفنا من العذاب على الشرك الآن إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك انه آت لا محالة وبعد ما استهزؤا به واستعجلوا بالعذاب الموعود قالَ هود عليه السلام انى اعلم بمقتضى الوحى الإلهي انه لآت البتة ولكن لا اعلم متى يأتى إذ لم يوح الى وقت إتيانه بل إِنَّمَا الْعِلْمُ بوقت حلوله وإتيانه عِنْدَ اللَّهِ المستقل باطلاع عموم الغيوب وَانما أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وأمرت بتبليغه من لدنه سبحانه إذ ما على الرسول الا البلاغ وَلكِنِّي أَراكُمْ بسبب أعراضكم عن الحق واهله وإصراركم على الشرك الباطل والضلال الزاهق الزائل قَوْماً تَجْهَلُونَ عن كمال عظمة الله وعزته وعن مقتضيات قوته وقدرته وبالجملة قال هود عليه السلام ما قال وهم قد كانوا على شركهم واضرارهم كما كانوا فَلَمَّا رَأَوْهُ يوما من الأيام عارِضاً سحابا إذا عرض على الأفق مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ اى متوجها لأمكنتهم التي قد كانوا متوطنين فيها وكانوا حينئذ مجدبين قد حبس عليهم القطر قالُوا فرحين مستبشرين هذا عارِضٌ مطر مبارك توجه نحو بلادنا مُمْطِرُنا مطرا عظيما وهم استدلوا من سواد لونه الى كثرة مائه وبعد ما استبشروا فيما بينهم قال لهم عليه السلام مضربا عن قولهم معرضا لهم بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ واستبشرتم باستقباله رِيحٌ عاصفة لا راحة فيها بل فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ لا عذاب أشد ايلاما منها إذ تُدَمِّرُ وتهلك كُلَّ شَيْءٍ ذي حياة بِأَمْرِ رَبِّها وبمقتضى مشيته وإراداته وبعد ما وصلت الريح إليهم وأحاطت باماكنهم وحواليهم دمرتهم تدميرا بليغا وأهلكتهم إهلاكا كليا الى حيث استأصلتهم بالمرة فَأَصْبَحُوا وصاروا لا يُرى منهم إِلَّا مَساكِنُهُمْ اى سوى دورهم الخربة واطلالهم المندرسة الكربة وبالجملة ليس هذا مخصوصا بهم بل كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ الخارجين عن ربقة عبوديتنا بارتكاب الجرائم والآثام. ثم أشار سبحانه الى توبيخ مشركي مكة خذلهم الله ومجرميهم على وجه التأكيد والمبالغة فقال سبحانه مقسما وَالله يا اهل مكة لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ واقدرناهم اى عادا فِيما اى في الأمور التي إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ اى ما مكناكم واقدرناكم كما مكناهم واقدرناهم فيه من كثرة الأموال والأولاد والحصون المشيدة والقلاع المرتفعة المنيعة والقصور الرقيعة والمنازل الوسيعة وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً ليسمعوا به بآياتنا الدالة على وحدة ذاتنا وَأَبْصاراً ليشهدوا بها آثار قدرتنا ومتانة حكمتنا الدالة على كمال علمنا وَأَفْئِدَةً لينكشفوا بها على وحدة ذاتنا ويتفطنوا بها باستقلالنا في تدبيراتنا وتصرفاتنا ومع ذلك فَما أَغْنى وما دفع عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ اى

[سورة الأحقاف (46) : آية 27]

شيأ من الإغناء اى ما أفاد لهم هذه الآيات العجيبة الشأن شيأ من الفائدة التي هي إنقاذهم عن الجهل بالله وعن الضلال في طريق توحيده إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ وينكرون بمقتضى جهلهم المركب المركوز في جبلتهم أمثالكم ايها الجاحدون بِآياتِ اللَّهِ ودلائل توحيده ويستهزؤن بها وبمن أنزلت اليه من الرسل وَلذلك قد حاقَ وأحاط بِهِمْ وبال ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ عاجلا وسيحيقهم وينزل عليهم وعليكم ايضا ايها المسرفون المفرطون آجلا بأضعافه وآلافه وَبالجملة لَقَدْ أَهْلَكْنا وخربنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى الهالكة كعاد وثمود وغيرهما لتعتبروا منها وتتعظوا بما لحق باهلها من انواع العذاب والبليات وَبالجملة قد صَرَّفْنَا الْآياتِ الدالة على كمال قدرتنا واختيارنا وكررناها مرارا وتلوناها عليهم تكرارا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلينا منخلعين عن مقتضيات وجوداتهم الباطلة وهوياتهم العاطلة ومع ذلك لم يرجعوا ولم ينخلعوا فَلَوْلا نَصَرَهُمُ اى هلا نصرهم ومنعهم من الهلاك والإهلاك شفعاؤهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الفرد وقت يوالونهم قُرْباناً مع انهم قد اعتقدوهم آلِهَةً شركاء مع الله في الألوهية والربوبية لذلك تقربوا إليهم وتوجهوا نحوهم في عموم الملمات مع انه ما ينفعونهم لدى الحاجة إليهم والى نصرهم بَلْ ضَلُّوا وغابوا عَنْهُمْ فأنى ينصرونهم ويدفعون عنهم ما يضرهم وَبالجملة ذلِكَ الذي اعتقدوا في شأنهم هكذا ما هو الا إِفْكُهُمْ اى صرفهم عن الحق واعراضهم عنه وميلهم الى الباطل وإصرارهم فيه وَما كانُوا يَفْتَرُونَ اى ليس الا افتراؤهم على الله بإثبات الشريك له والمشاركة معه تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وَاذكر يا أكمل الرسل لمن عاندك وكذبك إلزاما لهم وتبكيتا وقت إِذْ صَرَفْنا وأملنا إِلَيْكَ يا أكمل الرسل تأييدا لك ولشأنك نَفَراً جماعة مِنَ الْجِنِّ حال كونهم يَسْتَمِعُونَ منك الْقُرْآنَ حين قرأته في خلال صلواتك وتهجداتك في خلواتك فَلَمَّا حَضَرُوهُ اى القرآن وسمعوه وتعجبوا من حسن نظمه وسياقه وسوقه وكمال بلاغته وفصاحته قالُوا اى قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا ولا تخالطوا أصواتكم ايها المستمعون حتى نسمع على وجهه إذ هو كلام عجيب في أعلى مرتبة البلاغة والبراعة فَلَمَّا قُضِيَ وتم قراءته وفهموا معناه وفحواه وَلَّوْا وانصرفوا ورجعوا إِلى قَوْمِهِمْ حال كونهم مُنْذِرِينَ ومبشرين بما يفهمون منه من التبشيرات والإنذارات والمواعد والوعيدات القوم الذين قد بلغوا حد التكليف من إخوانهم فينذرونهم بها عن الضلال والانحراف عن طريق الحق ويبشرونهم بها الى ما يوصلهم اليه حيث قالُوا اى النفر المستمعون مبشرين لإخوانهم يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً عجيبا سماويا عربيا نظما وأسلوبا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ كتاب مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ اى جميع الكتب السالفة السماوية شأنه انه يَهْدِي إِلَى توحيد الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يوصل الى وحدة ذاته بلا عوج وانحراف وهذا الكتاب العجيب الشأن الجلى البرهان منزل الى داع من العرب منتشئ من بنى عدنان اسمه محمد عليه الصلاة والسلام يدعو قاطبة للأنام الى دين الإسلام بوحي الله العليم العلام القدوس السلام يا قَوْمَنا أَجِيبُوا أنتم ايضا داعِيَ اللَّهِ يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلّم وقبلوا منه دعوته الى توحيد الحق ودين الإسلام وَآمِنُوا بِهِ وبكتابه الذي انزل اليه لتبيين دينه وتأييد امره يَغْفِرْ لَكُمْ سبحانه مِنْ ذُنُوبِكُمْ اى جميعها ان تبتم ورجعتم نحوه مخلصين وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ هو عذاب النار إذ لا عذاب

[سورة الأحقاف (46) : آية 32]

أشد منها وأفزع وَبالجملة مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ ولم يؤمن به سبحانه وبجميع ما جاء به الداعي من عنده بل كذب الداعي من عنده وأنكر دعوته ولم يقبل منه فَلَيْسَ هو اى المنكر بِمُعْجِزٍ لله فِي الْأَرْضِ حتى يهرب عن انتقامه سبحانه ويفر من غضبه من مكان الى مكان او يستر عنه سبحانه ويخفى نفسه في اقطار الأرض بل له سبحانه الاحاطة والاستيلاء بعموم الأمكنة والأنحاء علما وعينا شهودا وحضورا وَلَيْسَ لَهُ اى للمنكر والمعاند مِنْ دُونِهِ سبحانه أَوْلِياءُ يوالونه وينقذونه من غضب الله وعذابه بعد ما قد حل عليه ونزل وبالجملة أُولئِكَ المنكرون المكابرون الذين لا يجيبون داعي الله ولا يقبلون منه دعوته عنادا ومكابرة فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية ظاهرة يجازيهم سبحانه حسب ما صدر عنهم من الغي والضلال. ثم أشار سبحانه الى توبيخ منكري الحشر والنشر واعادة الموتى احياء وتقريعهم فقال مستفهما على سبيل التبكيت والإلزام أَوَلَمْ يَرَوْا يعنى أيشكون ويترددون أولئك الشاكون المترددون في قدرة الله على اعادة المعدوم ونشر الأموات احياء من قبورهم وحشرهم نحو المحشر للحساب والجزاء ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ العليم الحكيم القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ اظهر وأوجد السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى العلويات والسفليات خلقا إبداعيا اختراعيا من كتم العدم وَمع ذلك لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ اى لم يفتر بإظهارهن ابتداء مع غاية عظمتهن وسعتهن بِقادِرٍ يعنى أليس القادر المقتدر على الإبداع والاختراع والإبداء بقادر عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ويعيدهم احياء بعد ما أماتهم بَلى إِنَّهُ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة علمه وارادته قَدِيرٌ بلا فتور ولا قصور وَاذكر يا أكمل الرسل لمنكر الحشر يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالبعث والجزاء عَلَى النَّارِ المعدة لتعذيبهم فيقال لهم حينئذ تفضيحا وتهويلا وتوبيخا وتقريعا أَلَيْسَ هذا العذاب الذي أنتم فيه الآن وقد كذبتم به من قبل في نشأة الاختبار بِالْحَقِّ قالُوا متأسفين متحسرين بَلى هو الحق وَحق رَبِّنا الذي ربانا على فطرة الإسلام وأنذرنا عن إتيان هذا العذاب في هذه الأيام فكفرنا نحن به ظلما وزورا وأنكرنا عليه عنادا ومكابرة وبعد ما اعترفوا وندموا في وقت لا ينفعهم الندم والاعتراف قالَ لهم قائل من قبل الحق فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إذ لم يفدكم اعترافكم هذا بعد ما انقضى نشأة التدارك والتلافي وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل حال الكفرة السفلة الجهلة المصرين على العتو والعناد وعاقبة أمرهم فَاصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل على أعباء الرسالة ومتاعب التبليغ والإرشاد وعلى اذيات اصحاب الزيغ والضلال كَما صَبَرَ عليها وعلى أمثالها أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ العازمين عليها وعلى تبليغها بالعزيمة الخالصة الثابتة والثبات الدائم ليبينوا للناس طريق التوحيد ويرشدوهم الى سبيل الاستقامة والرشد وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ اى للمعاندين من قريش بحلول العذاب الموعود عليهم فانه سينزل عليهم حتما عند حلول وقته حتى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب من نهاية شدته وكثرة هوله وغاية طول يومه تذكروا واستحضروا في أنفسهم فجزموا انهم لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً واحدة فقط مِنْ نَهارٍ يعنى هم قد استقصروا مدة لبثهم في الدنيا وقاسوها في طول يوم القيامة وخيلوها ساعة بل اقصر منها هذا الذي ذكر من المواعظ والتذكيرات في هذه السورة بَلاغٌ كاف لأهل الهداية والإرشاد ان اتعظوا بها وتذكروا منها وان لم يتعظوا بها هلكوا في تيه الجهل والجحود وبيداء الغفلة والغواية

خاتمة سورة الأحقاف

مثل سائر الهالكين فَهَلْ يُهْلَكُ وما يستأصل بالقهر الإلهي إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية النازلة من عنده على أنبيائه ورسله المبعوثين للهداية والتكميل. جعلنا الله ممن تذكر بما في كتابه من المواعظ والتذكيرات وامتثل بعموم ما فيه من الأوامر والنواهي خاتمة سورة الأحقاف عليك ايها العارف الحازم العازم على سلوك طريق التوحيد ان تقصد نحوه بالعزيمة الخالصة الصافية عن كدر الرياء ورعونات الهوى مطلقا وتتصبر على مشاق التكاليف ومتاعب الطاعات والرياضات القالعة لمقتضيات القوى البشرية بجملتها ومشتهياتها الحظوظ البهيمية برمتها فلك ان تقتدى في سلوكك هذا اثر اولى العزائم من الرسل الكرام والأنبياء الأمناء العظام والكمل من الأولياء العرفاء الذين هم ورثة الأنبياء لتفوز بالدرجة القصوى والمرتبة العليا [سورة محمد] فاتحة سورة محمد صلّى الله عليه وسلم لا يخفى على الفائزين من التوحيد الذاتي المحققين بانكشاف كيفية سريان الهوية الذاتية الإلهية في اعيان المظاهر الكونية والكيانية ان أكمل من تحقق بهذه الشهود وأتم من اتصف بهذا الانكشاف هو الحضرة الختمية الخاتمية المحمدية التي لا مرتبة أعلى واجمع من مرتبته صلّى الله عليه وسلّم ولذا ما بعث الى كافة الأمم وعامة البرايا احد سواه صلّى الله عليه وسلّم ولهذا ختم ببعثه صلّى الله عليه وسلّم امر الإرشاد والتكميل فمن كفر به صلّى الله عليه وسلّم وأنكر عليه فقد كفر بعموم مراتب الوجود وضل عن جميع الطرق الموصلة الى كعبة الذات وقبلة المقصود ومن آمن له صلّى الله عليه وسلّم فقد اهتدى بما هو المقصد والمرمى وليس وراء الله المنتهى لذلك اخبر سبحانه عن ضلال الكافرين به صلّى الله تعالى عليه وسلّم وانكار المنكرين عليه وعن إحباط أعمالهم وضياعها بعد ما تيمن باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى على المرتبة الختمية المحمدية بعموم أسمائه الحسنى وصفاته العليا الرَّحْمنِ لعموم عباده بإظهار مرتبته صلّى الله عليه وسلّم لتكون قبلة جميع مراتبهم ومشاربهم الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى وحدة ذاته بهدايته وإرشاده صلّى الله عليه وسلم [الآيات] الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبتوحيده وأنكروا على نبوة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ورسالته من عنده عنادا ومكابرة وَمع كفرهم وانصرافهم عن الهداية بأنفسهم قد صَدُّوا وصرفوا سائر الناس ايضا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وطريق توحيده الذي قد هدى اليه صلّى الله عليه وسلم وبعث لتبيينه وارشاد عموم عباده نحوه حسدا عليه صلّى الله عليه وسلّم وعلى من تبعه قد أَضَلَّ أحبط وأضاع سبحانه أَعْمالَهُمْ اى صوالحها التي قد أتوا بها طمعا للكرامة والمثوبة من لدنه سبحانه بعد ما كفروا به سبحانه وبرسوله صلّى الله عليه وسلّم إذ لا يثمر الأعمال الصالحة الا بالإيمان والتصديق بالله وبرسوله وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله وبرسوله وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى الله وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ اى بعموم ما نزل عليه وَصدقوا ان جميع ما نزل اليه صلّى الله عليه وسلّم من عند ربه هُوَ الْحَقُّ الصدق المطابق للواقع النازل مِنْ رَبِّهِمْ بلا شك وتردد قد كَفَّرَ وأزال سبحانه عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ اى وبالها وعذابها اللاحق بها المستتبع إياها وَبالجملة أَصْلَحَ بالَهُمْ واحسن حالهم في الدين

[سورة محمد (47) : آية 3]

والدنيا بحسب النشأة الاولى والاخرى فيجازيهم احسن الجزاء ذلِكَ اى إضلال الكفرة وإصلاح المؤمنين بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وتركوا الحق الحقيق بالاتباع وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ النازل عليهم مِنْ رَبِّهِمْ لإصلاح حالهم في النشأتين وان يرشدهم الى ما هو خير لهم في الدارين كَذلِكَ اى مثل ذلك الذي سمعت من الإضلال والإصلاح بالنسبة الى كلا الفريقين يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ ويبين لهم أحوالهم المتواردة عليهم في أولاهم وأخراهم وبعد ما سمعتم ايها المؤمنون وخامة عاقبة الكفرة وضياع أعمالهم واحباطها فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا اى على أى وجه وحال فَضَرْبَ الرِّقابِ اى فعليكم ان تضربوا رقابهم مهما أمكن وان تقتلوهم بلا مبالاة بهم وبدمائهم سيما بعد رفع الهدنة والمصالحة فصيرورة أمرهم اما الى السيف واما الى الإسلام حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ اى اغلظتم وبالغتم في قتلهم فاسرتم بقاياهم فَشُدُّوا الْوَثاقَ والنكال على أسرائهم واحفظوهم مقيدين موثقين فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً اى تمنون عليهم منا فتطلقونهم رجاء ان تؤمنوا بدل ما تحسنون إليهم او تفدون منهم فداء على إطلاقهم وتخلون سبيلهم وبالجملة افعلوا ايها المؤمنون مع المشركين كذلك حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها اى تضع اهل الحرب من كلا الجانبين آلات الحرب والقتال وذلك لا يحصل الا بالمواخاة والايتلاف التام وتدين الجميع بدين الإسلام ذلِكَ اى الأمر من الله ذلك فافعلوا معهم كذلك لينال كل منكم ايها المؤمنون من الأجر والثواب مقدار ما قد اجتهدوا في ترويج الدين القويم وَالا لَوْ يَشاءُ اللَّهُ القادر المقتدر على انواع الانتقام لَانْتَصَرَ وانتقم مِنْهُمْ اى من المشركين بلا قتالكم وحرابكم وَلكِنْ انما يأمركم سبحانه بالقتال معهم لِيَبْلُوَا ويختبر سبحانه بَعْضَكُمْ ايها الناس المؤمنون بِبَعْضٍ اى بقتال بعض منكم وهو الكافرون لينال المؤمن بقتالهم وجهادهم الثواب الجزيل والأجر الجميل ويستوجب الكافر بمعاداة المؤمن العقاب العظيم والعذاب الأليم كل ذلك انما هو بتقدير العليم الحكيم. ثم قال سبحانه تبشيرا على المؤمنين الذين استشهدوا في سبيل الله وَاعلموا ايها المؤمنون الَّذِينَ قُتِلُوا مع اعداء الله فِي سَبِيلِ اللَّهِ لترويج دين الله او قتلوا منكم في سبيل الله باذلين مهجهم في ترويج دينه سبحانه على القراءتين فَلَنْ يُضِلَّ ولن يضيع سبحانه أَعْمالَهُمْ التي أتوا بها طلبا لمرضاة الله وتثبيتا لقلوبهم على الايمان بما نزل من عنده سبحانه بل سَيَهْدِيهِمْ سبحانه ويرشدهم بعد ما جاهدوا واستشهدوا في سبيله الى زلال هدايته وتوحيده وَيُصْلِحُ بالَهُمْ بايصالهم الى غاية ما جبلوا لأجله في النشأة الاولى وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ التي قد عَرَّفَها لَهُمْ حين أمرهم بالجهاد ألا وهي الحياة الازلية الابدية الإلهية الموعودة للشهداء من عنده سبحانه بقوله ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يعنى دينه ورسوله يَنْصُرْكُمْ سبحانه على أعدائكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في جادة توحيده وصراط تحقيقه وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالله واعرضوا عن نصر دينه ورسوله فَتَعْساً اى زلقا وعثورا وانحطاطا وسقوطا لَهُمْ عن الرتبة الانسانية وعن جادة العدالة الإلهية وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ واضاعها بحيث لا يفيدهم شيأ أصلا ذلِكَ العثور والانحطاط لهم بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا اى أنكروا واستكرهوا مستكبرين عموم ما أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر المصلح لأحوال عباده في كتابه من الأوامر والنواهي المهذبة لظواهرهم وبواطنهم فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ بسبب كفرهم وكراهتهم أَينكرون قدرة الله على الإحباط والإضلال فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ

[سورة محمد (47) : آية 11]

التي هي محل الاختبارات الإلهية وانتقاماته فَيَنْظُرُوا بنظر العبرة والاستبصار ليبصروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المجرمين الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مع انهم كانوا ذوى ثروة كبيرة ورئاسة عظيمة ووجاهة كاملة كيف دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ واستأصلهم بحيث لم يبق منهم على وجه الأرض احد وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها اى سيئول ويعود عاقبة هؤلاء الكفرة المعاندين معك يا أكمل الرسل إليها والى أمثالها بل الى أفظع منها وأشد البتة كل ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ المطلع على ضمائر عباده مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وتحققوا في مقر توحيده لذلك يواليهم وينصرهم على أعاديهم ويحفظهم عما لا يعنيهم وَأَنَّ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والعناد لا مَوْلى لَهُمْ لينصرهم ويدفع عنهم ما يرديهم وبالجملة إِنَّ اللَّهَ العليم الحكيم يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ متنزهات من المعارف والحقائق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الجارية من العلوم اللدنية المنتشئة من منبع الوحدة الذاتية يتلذذون تلذذا معنويا حقيقيا وَالَّذِينَ كَفَرُوا بوحدة الحق وكمالاته المترتبة على شئونه وتجلياته يَتَمَتَّعُونَ بالحطام الدنيوية ويتلذذون باللذات البهيمية وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ ويتلذذون بلا شعور لها باللذة الاخروية وَبالآخرة النَّارُ المعدة المسعرة مَثْوىً لَهُمْ ومحل قرارهم واستقرارهم وَكَأَيِّنْ اى كثيرا مِنْ قَرْيَةٍ من القرى الهالكة هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً اى أهلها واكثر أموالا واولادا مِنْ اهل قَرْيَتِكَ الَّتِي قد أَخْرَجَتْكَ يا أكمل الرسل أهلها منها أَهْلَكْناهُمْ واستأصلناهم بسبب إخراجهم رسل الله من بينهم وتكذيبهم والاستكبار عليهم فَلا ناصِرَ لَهُمْ يظاهرهم او يدفع انتقامنا عنهم حين أخذنا إياهم فكذا انتقم عن هؤلاء المشركين المستكبرين عليك يا أكمل الرسل المخرجين إياك وقومك من بينهم ظلما وزورا يعنى مشركي مكة خذلهم الله ونغلب المؤمنين عليهم ونظهر دينك على كل الأديان وكيف لا ننصر ولا نظهر دينك أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ حجة واضحة آتية له مِنْ رَبِّهِ مبينة له امر دينه كَمَنْ زُيِّنَ اى حبب وحسن لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ بلا مستند عقلي او نقلي بل وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بمقتضى آرائهم الباطلة وأمانيهم الزائغة الزائلة بتغرير الشيطان واغوائه إياهم كلا وحاشا بل مَثَلُ الْجَنَّةِ وشأنها العجيب الَّتِي قد وُعِدَ الْمُتَّقُونَ بها المجتنبون عن محارم الله المحترزون عن مساخطه على الوجه الذي بينهم الكتب وبلغهم الرسل الممتثلون بعموم ما أمروا من عنده سبحانه ونهوا عنه ايمانا واحتسابا عند ربهم هكذا لهم فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ هي العلوم اللدنية المحيية لهم بالحياة الازلية الابدية غَيْرِ آسِنٍ اى خالص عن كدر التقليدات والتخمينات الحادثة من مقتضيات القوى البشرية المنغمسة بالعلائق الجسمانية وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ من المحبة الذوقية والمودة الشوقية الإلهية المنتشئة من الفطرة الاصلية التي هم فطروا عليها في بدأ فطرتهم وظهورهم بحيث لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وذوقه بالميل الى الهوى والالتفات الى مزخرفات الدنيا وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ جذبة الهية وخطفة غيبية وشوق مفرط مسكر لهم محير لعقولهم من غاية استغراقهم بمطالعة جمال الله وجلاله بحيث لا يكتنه لهم وصفها لكونها من الأمور الذوقية الوجدانية التي لا يمكن التعبير عنها لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ حسب تفاوت اذواقهم ومواجيدهم وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ هي عبارة عن اليقين الحقي الذي لا شيء احلى منه وألذ عنه عند العارف المحقق المتحقق به مُصَفًّى عن شوب الاثنينية اللازمة لمرتبتى اليقين العلمي والعيني وَبالجملة لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ المستلزمة لانواع اللذات الروحانية وَاكبر من الكل

[سورة محمد (47) : آية 16]

وهو لهم فيها مَغْفِرَةٌ ستر ومحو لأنانياتهم الباطلة ناشئة مِنْ رَبِّهِمْ الذي رباهم على الكرامة من عنده بعد ما جذبهم تحت قباب عزه ومكنهم في كنف جواره أهؤلاء المكرمون بهذه الكرامة العظمى والمقامة العليا كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ اى كالكافر الباغي الطاغي الذي قد خرج عن ربقة العبودية بمتابعة اهوية الامارة وأمانيها وظهر على الحق واهله بأنواع الإنكار والاستكبار وبسبب هذا قد صار مخلدا في نار القطيعة مؤبدا فيها لا نجاة له عنها وَهم من شدة عطشهم وحرقة أكبادهم إذا استسقوا سُقُوا ماءً حَمِيماً حارا في غاية الحرارة فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ بعد ما شربوا منه جرعة وذلك لعدم الفهم واعتيادهم بالعلوم اللدنية وبرد اليقين العلمي والعيني والحقي وَمِنْهُمْ اى من المستوجبين بخلود النار ابد الآباد مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يا أكمل الرسل حين دعوتك وتذكيرك وجلسوا في مجلسك صامتين مبهوتين حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ وانصرفوا عن مجلسك قالُوا من كمال غفلتهم وذهولهم عنك وعن كلامك وكلماتك وعدم ادراكهم بما فيها واصغائهم إليها لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اى أصحابك المتذكرين عن كلامك الموفقين من عند الله على التصديق والإذعان بك وبكتابك ماذا قالَ اى أىّ شيء قال صاحبكم آنِفاً في هذا المجلس مع انهم معهم أُولئِكَ الأشقياء البعداء عن ساحة عز القبول هم الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وختم على سمعهم وأبصارهم وَلهذا قد اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وتركوا هدايتك يا أكمل الرسل ولم يقتبسوا النور من مشكاة النبوة ولم يلتفتوا الى هداية القرآن بل استهزؤا معه ومع الرسول عليه السلام المنزل اليه وَالمؤمنون الَّذِينَ اهْتَدَوْا بهدايته صلّى الله عليه وسلّم قد زادَهُمْ استماع القرآن هُدىً على هدى وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ وبين لهم ما يعينهم على سلوك طريق التوحيد ويجنبهم عما يغويهم عن منهج الحق وصراط التحقيق وبالجملة فَهَلْ يَنْظُرُونَ وما ينتظرون أولئك المطرودون المطبوعون في عموم أوقاتهم وحالاتهم إِلَّا السَّاعَةَ الموعودة أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فجاءة وكيف لا تأتيهم الساعة فَقَدْ جاءَ وظهر أَشْراطُها اى بعض اماراتها وعلاماتها التي من جملتها بعثة الحضرة الختمية الخاتمية المحمدية إذ ظهوره متمما لمكارم الأخلاق ومكملا لأمر التشريع والإرشاد من دلائل انقضاء نشأة الكثرة وطلوع شمس الوحدة الذاتية من آفاق ذرائر الكائنات وكيف ينتظرون الساعة ولا يهيئون اسبابها قبل حلولها وان تأتهم بغتة فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ اى كيف يفيد التذكر والاتعاظ وقت إذا جاءتهم الساعة فجاءة ومن اين يحصل لهم التدارك والتلافي حينئذ وبعد ما سمعتم حال الساعة وحلولها بغتة فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ اى فاثبت أنت يا أكمل الرسل على جادة التوحيد الذاتي والتمكن على صراط الحق في عموم أوقاتك وحالاتك واشهد ظهور شمس الذات على صفائح عموم الذرات وشاهد انقهار جميع المظاهر والمجالى في وحدة ذاته واهد جميع من تبعك من المؤمنين الى هذا المشهد العظيم الذي هم فطروا عليه وجبلوا لأجله وَاسْتَغْفِرْ في عموم أوقاتك لِذَنْبِكَ الذي صدر عنك أحيانا من الالتفات الى ما سوى الحق من العكوس والاظلال وَاستغفر ايضا لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إذ أنتم كفيلهم وهاديهم الى طريق التوحيد وأمرهم ايضا بالاستغفار والاستعفاء لعل الله يغفر لهم ويوصلهم الى فضاء قربته وجنة وحدته وَبالجملة اللَّهُ المحيط بعموم أحوالكم ونشأتكم يَعْلَمُ بعلمه الحضوري مُتَقَلَّبَكُمْ اى موضع تقلبكم وانقلاباتكم في دار الاختبار ونشأة التلون والاعتبار وَمَثْواكُمْ اى موضع اقامتكم وتمكنكم في دار الاقامة

[سورة محمد (47) : آية 20]

والقرار فعليكم ان تستعدوا لأخراكم في اولاكم وتهيئوا اسباب اخراكم وعقباكم في دنياكم وَمن معظم زاد يوم المعاد الجهاد مع جنود اعداء الله في الأنفس والآفاق لذلك يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا من شدة حرصهم وشغفهم على القتال وترويج كلمة التوحيد وإعلاء دين الإسلام لَوْلا وهلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ مشتملة على الأمر بالجهاد حتى نجاهد في سبيل الله ونبذل غاية وسعنا في ترويج دينه فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ بمقتضى ما تمناها المخلصون وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ اى امر به فيها على البت واستبشر المؤمنون المخلصون بنزولها واستعدوا لامتثالها وقبول ما فيها رَأَيْتَ يا أكمل الرسل حينئذ المنافقين الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ راسخ وضعف مستقر مستمر يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ حين تلاوتك وتبليغك إياهم ما يوحى إليك من ربك نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ يعنى قد صاروا حين سمعوا الأمر بالقتال من كمال نفاقهم وشقاقهم كأنهم قد أشرفوا على الموت وظهرت عليهم اماراته بحيث قد شخصت أبصارهم من أهواله جبنا من القتال وبغضا وحسدا على غلبتك وظهور دينك وبالجملة فَأَوْلى لَهُمْ اى قد قرب لهم ويلهم وحاق وأحاط بهم ما يكرهون ويخافون منه أولئك الأشقياء المردودون مع ان الأليق والاولى بحالهم في هذه الحالة طاعَةٌ اى انقياد واطاعة وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ مقبول مستحسن عند ذوى العقول والمروات وارباب الفتوات لو صدر عنهم هذا لكان خيرا لهم وأليق بحالهم لو كانوا مؤمنين موقنين وبالجملة فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ اى جد ولزم امر القتال لأصحابه وجزموا له فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ المطلع بما في ضمائرهم ونياتهم فيما أظهروا من الحرص والجرأة على القتال مثل المؤمنين المخلصين لَكانَ الصدق والثبات على العزيمة خَيْراً لَهُمْ في أولاهم وأخراهم ولما لم يصدقوا ولم يثبتوا على ما أملوا من طلب القتال فقال فَهَلْ عَسَيْتُمْ وما يتوقع منكم وما يلوح من ظاهر حالكم وما قاربتم أنتم ايها المنافقون المسرفون الكاذبون انكم إِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عن الإسلام واستوليتم على الأنام أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ المعدة للصلاح والسداد وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ من المؤمنين المجبولين على فطرة التوحيد والإسلام مع انكم مجبولون على القطع وعدم الوصلة حقيقة وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المعرضون عن الهداية والرشد الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ العليم الحكيم وطردهم عن ساحة عز حضوره فَأَصَمَّهُمْ لهذه الحكمة والمصلحة عن استماع دلائل توحيده وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ ايضا عن مشاهدة آيات ألوهيته وربوبيته الظاهرة على صفحات الأنفس والآفاق أَيصرون أولئك المسرفون المصرون على الاعراض والانصراف عن الهدى فَلا يَتَدَبَّرُونَ ولا يتصفحون الْقُرْآنَ ولا يتأملون ما فيه من المواعظ والتذكيرات المفيدة لهم الموصلة الى الهداية والنجاة عن اهوال يوم القيامة حتى ينزجروا عن ارتكاب المعاصي وينصرفوا عن الميل إليها أَمْ عَلى قُلُوبٍ يعنى بل مختومة على قلوبهم أَقْفالُها مطبوعة عليها آثامها وآثارها لذلك لا تأثر لهم من القرآن ومواعيده مع انهم آمنوا له قبل نزوله على ما وجدوا في كتبهم نعته ونعت من انزل اليه وعرفوا أحكامه ومع ذلك أنكروا عليه وارتدوا عنه عنادا ومكابرة وبالجملة إِنَّ المسرفين المفسدين الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ سيما مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ ولاح لَهُمُ الْهُدَى والرشد وجزموا بحقيته وحقية ما فيه من الاحكام والعبر والمواعظ الشَّيْطانُ المغوى قد سَوَّلَ لَهُمْ اى حسن وزين لهم الارتداد عن الحق تغريرا وتلبيسا سيما بعد ما وضح لهم حقيته وَأَمْلى لَهُمْ بتسويلاته خلاف ما ظهر عليهم من ألسنة كتبهم ورسلهم ذلِكَ

[سورة محمد (47) : آية 27]

التسويلات والتعريرات وما يترتب عليه من الاعراض والانصراف عن الحق بِأَنَّهُمْ اى بسبب ان اليهود والنصارى قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا اى للمنافقين الذين كرهوا ما نَزَّلَ اللَّهُ من السور المشتملة على امر القتال حثا لهم على المخالفة سَنُطِيعُكُمْ وتعاون عليكم فِي بَعْضِ الْأَمْرِ لو أظهرتم المخالفة يعنى ان عاتبوكم اى المسلمون وقصدوا الانتقام عنكم نحن نعاون. ما قالوا ما قالوا في خلواتهم وَاللَّهُ المطلع لعموم أحوالهم يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ كما يعلم اعلانهم هذا من جملة ما احتالوا ومكروا مع الله ورسوله ليردوا ضعفاء المؤمنين عن دينهم فَكَيْفَ يحتالون ويمكرون إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ المأمورون لقبض أرواحهم يَضْرِبُونَ حينئذ وُجُوهَهُمْ جزاء ما توجهوا بها نحو الباطل وَأَدْبارَهُمْ جزاء مما انصرفوا بها عن الحق ذلِكَ التوفي على وجه العبرة بِأَنَّهُمُ قد اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الاعراض عن طريق الحق ومتابعة اهله وَكَرِهُوا بمقتضى اهويتهم الفاسدة رِضْوانَهُ اى ما رضى عنه سبحانه من الأوامر والنواهي المنزلة على ألسنة رسله وكتبه وبعد ما خالفوا امر الله وامر رسله فَأَحْبَطَ سبحانه بمقتضى قهره وجلاله أَعْمالَهُمْ اى صوالح أعمالهم بحيث لا يترتب عليها الجزاء الموعود كما يترتب على صالحات اعمال المطيعين أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مستقر وحسد مؤبد وشكيمة شديدة مع الله ورسوله والمؤمنين أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ ولن يبرز ويظهر ابدا أَضْغانَهُمْ وأحقادهم التي اضمروها في نفوسهم وَلم يعلموا انا لَوْ نَشاءُ تفضيحهم لَأَرَيْناكَهُمْ وبصرنا عليك يا أكمل الرسل عموم ما اضمروا في نفوسهم فَلَعَرَفْتَهُمْ أنت حينئذ بِسِيماهُمْ بمجرد ابصارك إياهم لظهور ما في صدورهم من الغل عن وجوههم وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ أنت نفاقهم وشقاقهم فِي لَحْنِ الْقَوْلِ الباطل الذي قد صدر عنهم مغشوشا مزخرفا وبعد ما نزل هذه الآية لا يتكلم منافق عند النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا عرفه ويستدل بكلامه على ما في ضميره من الفساد والنفاق وَبالجملة اللَّهُ المطلع بعموم احوال عباده يَعْلَمُ منكم أَعْمالَكُمْ ونياتكم فيها ومقاصدكم عنها فيجازيكم على مقتضى علمه. ثم قال سبحانه مقسما وَالله لَنَبْلُوَنَّكُمْ ونختبرنكم ايها المجبولون على فطرة الإسلام بالتكاليف الشاقة والأوامر الشديدة حَتَّى نَعْلَمَ اى نفرق ونميز الْمُجاهِدِينَ المجتهدين مِنْكُمْ ببذل الوسع والطاقة على امتثال المأمور به وَالصَّابِرِينَ المرابطين قلوبهم بحبل الله وتوحيده الموطنين نفوسهم بالرضاء بجميع ما جرى عليهم من القضاء وَنَبْلُوَا ايضا أَخْبارَكُمْ التي صدرت عنكم وقت تكليفنا إياكم إذ الاخبار منتشئة عن الضمائر والأسرار وبالجملة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الله واعرضوا عن مقتضيات تكاليفه الصادرة عن الحكمة البالغة الإلهية وَمع كفرهم وضلالهم في أنفسهم قد صَدُّوا وصرفوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ضعفاء عباده وَمع ذلك شَاقُّوا اى قد خالفوا وخاصموا الرَّسُولَ المرسل من عنده سبحانه المبعوث إليهم للإرشاد والتكميل لا عن شبهة صدرت عنه تدل على كذبه وافترائه بل مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى وثبت عندهم هدايته عقلا ونقلا ومع ظهور صدقه وهدايته كذبوه وانا وظلما وبواسطة هذه الجرأة على الله ورسوله لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ المنزه في ذاته عن ان يكون معروضا للنفع والضرر شَيْئاً من الضر والإضرار بل وَسَيُحْبِطُ ويضيع سبحانه بأمثال هذه الجرائم والآثام أَعْمالَهُمْ الصادرة عنهم لتثمر لهم الثواب فانقلب الأمر عليهم فتثمر لهم العقاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

[سورة محمد (47) : آية 34]

مقتضى ايمانكم اطاعة الله واطاعة رسوله أَطِيعُوا اللَّهَ المظهر لكم من كتم العدم المنعم عليكم بأنواع النعم واصناف الكرم وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ الهادي المرشد لكم الى توحيد الحق لكمالات أسمائه وأوصافه وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بالإعراض عن الله والانصراف عن متابعة رسوله وبالجملة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا وصرفوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَالحال انه هُمْ كُفَّارٌ مصرون معاندون على ما هم عليه طول عمرهم فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ابدا لاشراكهم بالله وخروجهم عن ربقة عبوديته بمتابعة اهويتهم الباطلة وآرائهم الفاسدة وبعد ما أطعتم الله ورسوله ايها المؤمنون واخلصتم في إطاعتكم وانقيادكم ثقوا واعتصموا بحبل توفيقه ونصره فَلا تَهِنُوا ولا تضعفوا عن الجهاد والمقاتلة وَلا تَدْعُوا ولا تركنوا إِلَى السَّلْمِ والصلح معهم وَبالجملة لا تجبنوا ولا تفتروا أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الغالبون الأغلبون ايها الموحدون المحمديون إذ الحق يعلو ولا يعلى عليه وكيف لا تتصفون أنتم بصفة العلو والغلبة وَاللَّهُ المحيط بكم مَعَكُمْ لا على وجه المقارنة والاتحاد ولا على سبيل الحلول والامتزاج بل على وجه البروز والظهور ورش النور وامتداد اظلاله عليكم وانعكاسكم منهما وَبعد ما صار الحق معكم على الوجه المذكور لَنْ يَتِرَكُمْ ولن يضيع عليكم أَعْمالَكُمْ التي قد جئتم بها مخلصين طلبا لمرضاة الله وهربا عن مساخطه إذ الموحد المعتدل دائما بين الخوف والرجاء وكيف لا يكون كذلك إذ هو مستو على متن الصراط المستقيم الموضوع بالوضع الإلهي المبنى على العدالة الذاتية الإلهية التي هي أدق وارق من كل دقيق ورقيق. وبعد ما قد سمعت صفة صراط ربك يا أكمل الرسل فاعلم ان موانع العبور عنه والاستقامة عليه ليس الا الدنيا ومزخرفاتها إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا اى ما اللذة المستعارة فيها الا لَعِبٌ يلعب بها أبناء بقعة الإمكان وهم غافلون عن حقيقتها وَلَهْوٌ يلهى ويحير قلوبهم في تيه الغفلة والضلال وهم تائهون فيه ساهون ذاهلون عما ظهر وترتب عليها وَبعد ما سمعتم ايها المكلفون نبذا من أوصاف دنياكم إِنْ تُؤْمِنُوا بوحدة الحق وبكمالات أسمائه وصفاته الظاهرة آثارها على هياكل الهويات المستحدثة في الكائنات وتتوكلوا عليه مفوضين أموركم كلها اليه وتتخذوه وكيلا وتأخذوه كفيلا وتعتصموا بحبل توفيقه ثقة عليه واعتمادا له وَتَتَّقُوا يعنى وان تحفظوا نفوسكم من الميل الى ما سوى الحق من الأماني العاطلة الامكانية والآمال العائقة الدنية الدنياوية المثمرة لغضب الحق بمقتضى قدرته الجليلة يُؤْتِكُمْ حسب ارادته الجميلة أُجُورَكُمْ التي استوجبتم أنتم بصوالح أعمالكم ويزد عليكم من لدنه سبحانه تفضلا وإحسانا ما لا مزيد عليه من اللذات الروحانية وَمع ذلك العطية العظيمة والكرامة الكريمة الكبيرة لا يَسْئَلْكُمْ ولا يطلب منكم بمقابلة ما أفاض عليكم من الكرامات أَمْوالَكُمْ اى جميعها بل مقدار ما يزكى بها نفوسكم ويطيب قلوبكم من الشح المفرط والميل المتبالغ الى الدنيا ومزخرفاتها كي تتصفوا بالجود والكرم الذي هو من الأخلاق الإلهية المأمور لكم التخلق بها فكيف إِنْ يَسْئَلْكُمُوها ويطلب منكم سبحانه جميعها فَيُحْفِكُمْ ويبالغ عليكم في طلب جميع ما اقترفتم تَبْخَلُوا أنتم البتة ولا تعطوها على الله ورسوله بل تضمروا الحقد والإنكار بل وَيُخْرِجْ اى يبرز ويظهر بخلكم وحقدكم هذا أَضْغانَكُمْ وشكائمكم التي أنتم تضمرونها في نفوسكم بالنسبة الى الله ورسوله وبالجملة ها أَنْتُمْ ايها الحمقى الغافلون عن مقتضى الألوهية والربوبية هؤُلاءِ البخلاء المغرورون بحطام الدنيا الدنية المغمورون في لذاتها وشهواتها الفانية العائقة عن اللذات الاخروية انما تُدْعَوْنَ

خاتمة سورة محمد صلى الله عليه وسلم

لِتُنْفِقُوا مما أنتم مستخلفون فيه فِي سَبِيلِ اللَّهِ كي تفوزوا بالمثوبة العظمى والكرامة الكبرى عنده سبحانه وتصلوا الى ما جبلتم لأجله وبعد ما وصل الدعوة إليكم فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ اى يمنع ولم يعط بل يظهر ما يضمر في نفسه من الحقد والضغن وَبالجملة مَنْ يَبْخَلُ من ماله بعد ما امر بإنفاقه فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ إذ نفع الانفاق وضرر البخل كلاهما عائدان الى نفسه وَبالجملة اللَّهُ الْغَنِيُّ المستغنى بذاته عن عموم صدقاتكم وزكواتكم بل عن مطلق طاعاتكم وعباداتكم وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ المقصورون على الفقر والاحتياج الذاتي الى ما عنده سبحانه من انواع الانعام والإحسان وَبعد ما قد بلغت لهم يا أكمل الرسل ما بلغت من مقتضيات الوحى والإلهام الإلهي قل لهم إِنْ تَتَوَلَّوْا وتنصرفوا عن الايمان والامتثال لعموم المأمورات يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ اى يهلككم ويقم بدلكم قوما يؤمنون ويقومون بامتثال عموم الأوامر والنواهي ثُمَّ لما علم المستبدلون منكم واعتبروا مما جرى عليكم وشاهدوا مقتكم وهلاككم بأمثال هذا التولي والانصرافات لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ كافرين بالله كفارا لنعمه مضيعين لحقوق كرمه. جعلنا الله من زمرة الشاكرين الممتثلين بأوامره المجتنبين عن نواهيه بمنه وجوده خاتمة سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم عليك ايها القاصد نحو طريق التوحيد العازم على سلوك سبيل الفناء في الله المثمر للبقاء الذاتي أوصلك الله الى غاية مبتغاك ونهاية متمناك ان تعدل في عموم اوصافك واخلاقك سيما في احوالك التي تتعلق بالإنفاق المأمور عليك بمقتضى الحكمة والعدالة الإلهية الناشئة من الله عن محض الارادة والرضا إياك إياك البخل والتقتير فانه الجالب لحلول غضب الله ونزول انواع سخطه حسب قهره وجلاله فعليك الامتثال بالمأمور والاتكال على الملك الرحيم الغفور [سورة الفتح] فاتحة سورة الفتح لا يخفى على ارباب السكينة والوقار من الفائزين بسرائر التوحيد المنكشفين باسرار الربوبية والإلهية ان من استقام على طريق الحق متوكلا عليه مفوضا أموره كلها اليه مخلصا في جميع اعماله وأحواله مستويا على منهج العدالة المأمورة من قبل ربه فقد فتح عليه سبحانه أبواب اصناف الفتوحات الغيبية وأفاض عليه انواع الكرامات السنية القدسية وأوصله الى الدرجات العلية اللاهوتية وأنقذه من الدركات الهوية الناسوتية الامكانية الجهنمية لذلك قد من سبحانه على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بالفتح والظفر على عموم ما يسر الله له ووفقه عليه من انواع الخيرات والكرامات المنتظرة له واصناف السعادات العاجلة والآجلة متيمنا باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي فتح على خلص عباده أبواب المعارف واليقين الرَّحْمنِ عليهم بافاضة التسليم والعقل المنشعب من حضرة علمه ليهديهم الى صراط مستقيم الرَّحِيمِ عليهم يوصلهم الى مقر التوحيد ليتمكنوا في روضة الرضاء وجنة التسليم [الآيات] إِنَّا من مقام عظيم فضلنا وجودنا معك يا أكمل الرسل قد فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ظاهرا عظيما بان ألهمنا عليك وأوضحنا لك طريق الخروج عن مضيق الإمكان الى سعة فضاء الوجوب ويسرنا لك الترقي والعروج من حضيض الجهل واودية الضلال الى ذروة العلم وأوج الوصال وانما فتحنا لك ما فتحنا لِيَغْفِرَ لَكَ ويستر عليك اللَّهُ المحيط بعموم احوالك وشئونك ما تَقَدَّمَ مِنْ

[سورة الفتح (48) : آية 3]

ذَنْبِكَ الذي قد عرض عليك ولحق بك حسب بشريتك وإمكانك قبل انكشافك بسرائر الوحدة الذاتية كما ينبغي وعلى وجهها وَكذا ما تَأَخَّرَ بعده من تلويناتك في بعض الأحوال السارة والمؤلمة بحسب النشأة البشرية وَبالجملة يُتِمَّ نِعْمَتَهُ الموعودة لك حسب استعدادك ويوفرها عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً موصلا الى مقصد التوحيد الذاتي وَبالجملة يَنْصُرَكَ اللَّهُ الوكيل الكفيل عليك في عروجك وترقيك عن بقعة الإمكان نَصْراً عَزِيزاً غالبا منيعا بحيث لم يغلب عليك بعد انكشافك بسرائر التوحيد جنود امارتك وعونة بشريتك مطلقا وكيف لا ينصر ربك يا أكمل الرسل مع انه هُوَ القادر المقتدر الراقب المحافظ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ اى الطمأنينة والوقار فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بك المقتبسين من مشكاة نبوتك نور الولاية اللامعة المتشعشعة من شمس الوحدة الذاتية لِيَزْدادُوا بهدايتك وارشادك إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ بانك على الحق المبين وَكيف لا يزدادون ايمانا بك يا أكمل الرسل مع انك قد فزت بالفوز العظيم من الوحدة الذاتية وصرت مصونا محفوظا في كنف الحق وجواره منصورا على عموم أعدائك إذ لِلَّهِ وفي حيطة قدرته الغالبة جُنُودُ السَّماواتِ اى مؤثرات الأسماء والصفات وَكذا جنود الْأَرْضِ اى قوابل الأركان والطبائع التي هي حوامل آثار العلويات والمتأثرات منها وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المطلع لعموم ما في استعدادات عباده وقابلياتهم عَلِيماً بحوائجهم لدى الحاجة حَكِيماً في تدبيرات أمورهم على وفق الحكمة المتقنة والمصلحة المستحكمة كل ذلك لِيُدْخِلَ سبحانه حسب سعة رحمته وجوده الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ من امة حبيبه وصفيه المستخلف منه سبحانه في بريته وعموم خليقته جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى جداول المعارف والحقائق المترشحة من بحر الذات خالِدِينَ فِيها بلا تلوين وتحويل وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ اى يمحو عن عيون بصائرهم أشباح انانياتهم وامواج هوياتهم المستحدثة على بحر الوجود من نكبات التعينات وصرصر الإضافات وَكانَ ذلِكَ الإدخال والإيصال والمحو والتكفير عِنْدَ اللَّهِ المتعزز برداء العظمة والكبرياء فَوْزاً عَظِيماً واجرا جميلا لا فوز أعظم منه وأعلى وَكما يدخل سبحانه المؤمنين والمؤمنات في روضات الجنات تفضلا وإحسانا يُعَذِّبَ ايضا الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وهم الذين قد اخرجوا أعناقهم عن عروة العبودية الإلهية بمتابعة الاهوية الفاسدة والآراء الباطلة وأظهروا الايمان على طرف اللسان بلا مقارنة اخلاص وإذعان وَايضا الْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وهم الذين جحدوا في الله الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشركة مطلقا واثبتوا له سبحانه شركاء ظلما وزورا الظَّانِّينَ بِاللَّهِ المستقل بالربوبية والألوهية ظَنَّ السَّوْءِ وهو انه سبحانه لا ينصر أولياءه الباذلين مهجهم في طريق توحيده بحيث ينتظرون لمقتهم وهلاكهم بلا نصر من الله إياهم بل تدور عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ويحيط بهم وبال ما يظنونه على اولياء الله كيف وَقد غَضِبَ اللَّهُ المطلع على ما في ضمائرهم عَلَيْهِمْ بل وَلَعَنَهُمْ اى طردهم عن ساحة عز قبوله وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ الطرد والحرمان وَساءَتْ مَصِيراً منزلا ومقيلا عليهم مع انهم يظنون بالله ظن السوء ويعتقدونه عاجزا عن نصر أوليائه وَمع انه لِلَّهِ وفي حيطة قدرته وتحت تصرفه جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وله ان يأمرهم ما يشاء نصرا لمن يشاء ويغلبهم على من يريد ارادة واختيارا وَالحال انه قد كانَ اللَّهُ المتوحد

[سورة الفتح (48) : آية 8]

بالعظمة والكبرياء عَزِيزاً غالبا على عموم مراداته ومقدوراته بلا معاونة احد ومظاهرته حَكِيماً في أفعاله المتقنة يدبرها بالاستقلال وفق حكمته البالغة كيف يشاء. ثم قال سبحانه في مقام الامتنان لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم إظهارا لكمال قدرته الشاملة وحكمته الكاملة إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَرْسَلْناكَ يا أكمل الرسل شاهِداً على عموم عبادنا تشهد لهم عند عموم ما صدر عنهم من الصالحات الجالبة لانواع المثوبات والكرامات وَمُبَشِّراً تبشرهم برفع الدرجات والفوز بالسعادات وَنَذِيراً تنذرهم عن الدركات العائقة عن الوصول الى جنة الذات التي دونها تجرى بحر الحياة كل ذلك لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وتذعنوا بتوحيده وَرَسُولِهِ اى تصدقوا برسوله الذي قد أرسل إليكم من عنده سبحانه وَبعد اتصافكم بكمال الايمان والإذعان تُعَزِّرُوهُ وتعظموه سبحانه اى تعتقدوا ان الحول والقوة لله جميعا بحيث لا حول ولا قوة لسواه مطلقا وَبعد ما اعتقدتموه كذلك تُوَقِّرُوهُ وتعظموه حق تعظيمه وتكريمه وَبعد ما وقرتموه وعظمتموه كما ينبغي ويليق بشأنه تُسَبِّحُوهُ وتنزهوه عما لا يليق بجنابه بُكْرَةً وَأَصِيلًا اى في عموم أوقاتكم واصيلاتكم إذ لا يتأتى منكم بالنسبة الى جنابه سبحانه الا التفويض والتعظيم والتنزيه والتقديس والا فما للتراب ورب الأرباب ان يتكلموا عن ذاته وصفاته سوى ان يخوضوا في لجة بحر توحيده ويبهتوا في ببداء ألوهيته حتى يفنوا في فضاء صمديته إذ لا اله الا هو ولا شيء سواه وكل شيء هالك الا وجهه. ثم قال سبحانه بلسان الجمع على سبيل الإرشاد والتكميل إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يا أكمل الرسل ويختارون متابعتك ويستهدون من هدايتك وارشادك إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ الذي استخلفك عليهم وجعلك نائبا عن ذاته فيما بينهم فعليهم ان لا ينقضوا العهد والبيعة التي عهدوا معك ابدا وكيف يسع لهم المنقض مع ان يدك يَدُ اللَّهِ وقبضتك قبضة قدرته الغالبة ولا شك انها فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مستعلية عليهم فَمَنْ نَكَثَ ونقض البيعة والعهد مع رسوله فَإِنَّما يَنْكُثُ وينقض عَلى نَفْسِهِ اى ما يعود وبال نقضه الا عليه وَمَنْ أَوْفى وحفظ بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ ألا وهو معاهدتهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخلافته صلّى الله عليه وسلّم عنه سبحانه فَسَيُؤْتِيهِ جزاء للوفاء أَجْراً عَظِيماً هو الفوز بشرف اللقاء والتحقق لدى المولى سَيَقُولُ لَكَ يا أكمل الرسل على سبيل الاعتذار الْمُخَلَّفُونَ اى المنافقون الناقضون للعهود المتخلفون عن الجهاد مِنَ الْأَعْرابِ المجبولين على الكفر والنفاق قد شَغَلَتْنا عن متابعتك ومشايعتك أَمْوالُنا وَأَهْلُونا إذ ليس لهم متعهد سوانا لذلك قد حرمنا عن صحبتك وعن اجر الجهاد فَاسْتَغْفِرْ لَنا يا رسول الله عند الله حتى يغفر لنا ما صدر عنا من التخلف لا تبال يا أكمل الرسل بهم وباعتذارهم هذا واستغفارهم فإنهم من شدة شكيمتهم وغيظهم وضعف عقيدتهم يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تغريرا وتلبيسا قُلْ لهم على سبيل التفضيح والتبكيت فَمَنْ يَمْلِكُ اى يدفع ويمنع لَكُمْ مِنَ اللَّهِ القادر المقتدر شَيْئاً من مقتضى غضبه سبحانه إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ شيأ من مقتضيات لطفه ورحمته ان أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً وبالجملة لا راد لفضله ولا معقب لحكمه بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً يجازيكم على مقتضى خبرته بَلْ ظَنَنْتُمْ ايها المتخلفون المثقلون أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ ولن يرجع الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً بل يستأصلهم العدو بالمرة فلن يرجع منهم احد من سفرهم هذا بل وَزُيِّنَ اى حبب وحسن ذلِكَ الاستئصال وعدم الرجوع وتمكن فِي قُلُوبِكُمْ من

[سورة الفتح (48) : آية 13]

كثرة تطيركم وتشأمكم وَقد ظَنَنْتُمْ بزعمكم هذا ظَنَّ السَّوْءِ بالله ورسوله والمؤمنين وَبالجملة قد كُنْتُمْ ازلا وابدا قَوْماً بُوراً هالكين في تيه الجهل والعناد مصرين على انواع الجهل والجور والفساد وَبالجملة مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اى لم يجمع بين الايمان بالله وتصديق الرسول المستخلف منه سبحانه فَإِنَّا بمقتضى قهرنا وجلالنا قد أَعْتَدْنا وهيأنا لِلْكافِرِينَ المصرين على الكفر والتكذيب سَعِيراً نارا مسعرة ملتهبة تحيط بهم جزاء ما قد اوقدوا في نفوسهم نيران الفتن والطغيان لأولياء الله وَكيف لا ينتقم سبحانه مع انه لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وله التصرف فيهما بالاستقلال والاختيار يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ فضلا وإحسانا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ عدلا وانتقاما وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المتصف بكمال اللطف والمرحمة غَفُوراً لمن تاب وآمن وعمل عملا صالحا رَحِيماً يقبل توبة التائبين ويعفو عن زلاتهم. ثم لما سمع المخلفون من الاعراب يوم الحديبية ان الله قد وعد للمؤمنين فتح خيبر وخص لهم الغنائم قصدوا الخروج نحوها طامعين من الغنائم لذلك اخبر الله سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بقصدهم هذا فقال سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ المذكورون وقت إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ التي قد وعدت لكم خاصة لِتَأْخُذُوها وتسهموا منها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ بغزوتكم هذه وننصركم مع انهم لا يقصدون الرفاقة والوفاق في نفوسهم ونياتهم بل ما يُرِيدُونَ ويقصدون بقولهم هذا الا أَنْ يُبَدِّلُوا ويغيروا كَلامَ اللَّهِ الدال على تخصيص غنائم خيبر لمن حضر الحديبية بدل غنائم مكة قُلْ لهم يا أكمل الرسل على وجه التأكيد في النفي لَنْ تَتَّبِعُونا ابدا كَذلِكُمْ اى مثل ما سمعتم من النفي المؤكد قالَ اللَّهُ المطلع على ما في نفوسهم من النفاق والشقاق المستمر المؤكد مِنْ قَبْلُ اى قبل تهيئكم ايها المؤمنون للخروج الى الخيبر فَسَيَقُولُونَ بعد ما سمعوا النفي على وجه التأكيد في نفوسهم حسب ما في قلوبهم من الزيغ والضلال ما أمركم الله هذا بَلْ تَحْسُدُونَنا عن أخذ الغنيمة يعنى ما حملهم على هذا النفي المؤكد المؤبد الا الحسد والشح بَلْ هم قوم جاهلون قد كانُوا لا يَفْقَهُونَ ولا يفهمون مراد الله العليم الحكيم عن منعهم هذا إِلَّا قَلِيلًا منهم وهم المصدقون بالله ورسوله في سرائرهم ونجواهم قُلْ يا أكمل الرسل لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ بعد ما ايسوا من الخروج الى خيبر سَتُدْعَوْنَ عن قريب إِلى غزوة قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وشوكة عظيمة تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ اى مآل أمرهم اما القتل واما الإسلام لا غير إذ قد رفعت الهدنة والمصالحة بيننا فصار الأمر هكذا فَإِنْ تُطِيعُوا حينئذ ولا تتخلفوا كما تخلفتم يوم الحديبية يُؤْتِكُمُ اللَّهُ المطلع بنياتكم أَجْراً حَسَناً في الدنيا والآخرة وَإِنْ تَتَوَلَّوْا وتنصرفوا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يوم الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً لتضاعف جرمكم وشدة شقاقكم ونفاقكم. ثم أخذ سبحانه في تعداد ما يرخص لهم التخلف والقعود على سبيل الاضطرار فقال لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ اى ليس لهؤلاء المذكورين وزر ومؤاخذة ان تخلفوا عن القتال وأمثال هذه الاعذار انما تقبل ان كانوا من اهل الإطاعة والايمان وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ على وجه الإخلاص والوفاق بلا بطانة ونفاق يُدْخِلْهُ سبحانه بمقتضى فضله وسعة رحمته وجوده جَنَّاتٍ متنزهات الكشوف والشهود تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة من المعارف والحقائق المتجددة بتجددات

[سورة الفتح (48) : آية 18]

التجليات الإلهية المنتشئة من النفسات الرحمانية وَمَنْ يَتَوَلَّ اى يعرض وينصرف عن مقتضى العدالة الإلهية بمتابعة الآراء الفاسدة والأهواء الباطلة يُعَذِّبْهُ بمقتضى قهره عَذاباً أَلِيماً في نيران الإمكان واودية الخذلان لا عذاب أشد ايلاما منه. ثم قال سبحانه على سبيل التحريض والترغيب للمؤمنين مقسما والله لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين في الإطاعة والانقياد وقت إِذْ يُبايِعُونَكَ يا أكمل الرسل تَحْتَ الشَّجَرَةِ يوم الحديبية بيعة الرضوان والشجرة هي السمرة او السدرة فَعَلِمَ سبحانه بعلمه الحضوري ما فِي قُلُوبِهِمْ من الرغبة والإخلاص فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ اى الطمأنينة والوقار عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ بعد ما ايسوا عن فتح مكة ورجعوا من حديبية فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر بعيد رجوعهم منها وَرزق لهم خاصة مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها من خيبر بدل غنائم مكة وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المراقب لأحوال عباده عَزِيزاً غالبا مقتدرا على عموم مقدوراته حَكِيماً مراعيا مقتضى الحكمة في جميع تدبيراته الجارية بين عباده ومن مقتضيات الحكمة البالغة الإلهية انه وَعَدَكُمُ اللَّهُ ايها المؤمنون المخلصون في اطاعة الله وتصديق رسوله مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها من أيدي الكفرة الى قيام الساعة إذ يظهر دينكم على الأديان كلها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ اى غنائم خيبر وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ اى اهل خيبر وأوليائهم وقد كفى كذلك سبحانه وكف مؤنة عموم من قصد السوء على أموالكم وذراريكم وَانما فعل بكم سبحانه ذلك لِتَكُونَ هذه الكفة والغنيمة آيَةً علامة وامارة لِلْمُؤْمِنِينَ الذين يلونكم ويقتفون اثركم دالة على ان المؤمن المخلص في جوار الله وفي كنف حفظه وحضانته وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الثقة بالله وبكرامته ونصره لأوليائه وَكذا قد عجل لكم عناية من الله إياكم مغانم أُخْرى مع انكم لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها لشوكة الأعداء وغلبتهم وكثرة عددهم وعددهم بل قد فررتم أنتم منهم مرارا وانهزمتم عنهم تكرارا قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وأباحها عليكم بالنصر والغلبة عليهم مع انكم خائفون وجلون منهم وهي غنائم هوازن وفارس وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة علمه وارادته قَدِيراً لا يعجز عنه ولا يفتردونه إذ القدرة من أمهات الأوصاف الذاتية الإلهية التي لا تفتر ولا تضعف بحال وَمن كمال قدرته سبحانه ونصره لأوليائه انه لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وقابلوا اليوم معكم للقتال مع انكم قد فررتم منهم وجبنتم عنهم مرارا فيما مضى لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ عنكم البتة بنصر الله إياكم ثُمَّ بعد ما ولوا عنكم لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يتولى أمورهم وَلا نَصِيراً ينصرهم وينقذهم من أيديكم ولا تستبعد يا أكمل الرسل من قدرة الله أمثال هذا لكونها سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ اى مضت واستمرت مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ أنت ابدا لِسُنَّةِ اللَّهِ التي قد جرت منه سبحانه بمقتضى حكمته تَبْدِيلًا ولا لحكمه الصادر منه سبحانه بالإرادة والاختيار تغييرا وتحويلا وَكيف يبدل سنة الله ويغير حكمه وحكمته مع انه هُوَ القادر القاهر المقتدر الَّذِي كَفَّ ومنع أَيْدِيَهُمْ اى أيدي كفار مكة خذلهم الله عَنْكُمْ حين استيلائهم عليكم وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ حين غلبتم عليهم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ وأظهركم عَلَيْهِمْ وذلك ان عكرمة بن ابى جهل خرج مع خمسمائة الى الحديبية فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد على جند فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ العليم الحكيم بِما تَعْمَلُونَ من خير وشر بَصِيراً

[سورة الفتح (48) : آية 25]

خبيرا لا يعزب عنه شيء مما جرى عليكم يجازيكم على مقتضى بصارته وخبرته وكيف لا يجازى الكفرة سبحانه بأسوء الجزاء إذ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله ظلما وعدوانا وَلم يقتصروا على الكفر فقط بل صَدُّوكُمْ اى حصروكم وصرفوكم عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عام الحديبية وَالحال انه أنتم قد اهديتم الْهَدْيَ اى الذبائح والقرابين التي قد سقتم نحو البيت وصار مَعْكُوفاً محبوسا قريبا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ اى مذبحه الذي قد عينه الله لذبح الضحايا ألا وهو المنى وَبالجملة لَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ بينهم وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ في خلالهم لم يكف سبحانه أيديكم عنهم بل نصركم عليهم واستأصلتموهم بالمرة لكن لما كان بينهم من المؤمنين والمؤمنات لذلك كف سبحانه أيديكم عنهم كراهة انكم لَمْ تَعْلَمُوهُمْ اى المؤمنين المخلوطين بهم ولم تميزوهم من الكفار أَنْ تَطَؤُهُمْ وتدوسوهم فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ اى من أجل المؤمنين المخلوطين بالكافرين ومن جهتهم مَعَرَّةٌ اى مضرة ومكروه من لزوم دية او كفارة او اثم عظيم عند الله وتعيير شديد من المسلمين وغير ذلك من المنكرات مع انه انما صدر منكم الوطاءة والدوس يومئذ لو صدر بِغَيْرِ عِلْمٍ وبلا خبرة وانما كف أيديكم عنهم حين أظفركم عليهم لِيُدْخِلَ اللَّهُ المطلع بما في استعدادات عباده من الايمان والكفر فِي رَحْمَتِهِ التي هي التوحيد والإسلام مَنْ يَشاءُ منهم حتى لَوْ تَزَيَّلُوا اى تفرقوا وتميزوا اى المؤمنون من الكافرين يومئذ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً في غاية الإيلام من السبي والجلاء وانواع المصيبة والبلاء اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ الانفة والغيرة لا على وجه الحق بل حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ وذلك انه صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحديبية فهم بقتال اهل مكة بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص ليرجع صلّى الله عليه وسلّم من عامه هذا وتخلى له مكة من العام القابل ثلاثة ايام فقال صلّى الله عليه وسلّم لعلى اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما صالح عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اهل مكة فقالوا ما نعرف هذا اكتب باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وقال صلّى الله عليه وسلم اكتب ما يريدون فكتب فهم المؤمنون ان يبطشوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ووقاره عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذ هم أحقاء بالطمأنينة والوقار وكظم الغيظ وتوطين النفس عند المكاره وَبالجملة قد أَلْزَمَهُمْ سبحانه كَلِمَةَ التَّقْوى واختار لهم صون النفس عن التهور والغلظة وَكانُوا أَحَقَّ بِها من غيرهم وَأَهْلَها اى كانوا أهلا لحفظها ورعايتها وَبالجملة قد كانَ اللَّهُ المراقب لعموم أحوالهم بِكُلِّ شَيْءٍ يليق بهم وينبغي لهم عَلِيماً يوفقهم عليه ويسهل عليهم الاتصاف به. ثم لما رأى صلّى الله عليه وسلّم في منامه انه وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا فقص صلّى الله عليه وسلّم الرؤيا على أصحابه فرحوا وظنوا ان ذلك في عامهم هذا فلما تأخر بالصلح والمعاهدة قال بعضهم والله ما حلقنا وما قصرنا وما رأينا البيت فنزلت لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا اى قد جعل سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم صادقا فيما رأى ملتبسا بِالْحَقِّ والله ايها المؤمنون لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ من العدو إذ ما أريناه صلّى الله عليه وسلّم عموم ما أريناه الا بالحق مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ على الوجه المتعارف وَمُقَصِّرِينَ كما هو عادة الحجاج يحلق بعضهم ويقصر بعضهم وبالجملة لا تَخافُونَ بعد ذلك إذ الله معكم فَعَلِمَ منكم سبحانه ما لَمْ تَعْلَمُوا أنتم من انفسكم ولا تستعجلوا الفتح إذ هو مرهون بوقته فَجَعَلَ

[سورة الفتح (48) : آية 28]

مِنْ دُونِ ذلِكَ اى فتح مكة فَتْحاً قَرِيباً هو فتح خيبر ليطمئن به قلوبكم الى ان يتيسر لكم الفتح الموعود الذي اخبر به نبيكم الصادق الصدوق وكيف لا يصدقه سبحانه مع انه هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ملتبسا بِالْهُدى والإرشاد الى سبيل توحيده وَدِينِ الْحَقِّ الفارق بين الباطل والضلال ووعد له لِيُظْهِرَهُ اى دينه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ اى جنس الأديان النازلة من عنده بان نسخ الجميع وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً اى كفى الله شهيدا على صدقه صلّى الله عليه وسلّم في رؤياه وكذا في دعوته ونبوته وفي ظهور انواع المعجزة بيده حيث قال سبحانه مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ حقا مرسل من عندنا صدقا مبعوث الى كافة البرايا من عبادنا ليهديهم الى توحيدنا الذاتي وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين له المصدقين لدعوته المتعطشين بزلال مشربه أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة هوية الحق الظاهر في الآفاق والأنفس يدفعون مؤنة كثراتهم الوهمية بترويج الحق على الباطل وإعلاء كلمة التوحيد وتقديم الدين القويم وإظهاره على سائر الأديان رُحَماءُ فيما بَيْنَهُمْ متواضعون مع اهل الحق وارباب التوحيد لذلك تَراهُمْ في عموم أوقاتهم رُكَّعاً وسُجَّداً راكعين ساجدين متذللين خاضعين خاشعين بلا رعونة ولا رياء ولا سمعة ولا هواء بل ما يَبْتَغُونَ وما يطلبون بتذللهم هذا الا فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً من لدنه سبحانه وبالجملة سِيماهُمْ سمتهم وعلاماتهم الدالة على نجابة طينتهم وكرامة فطرتهم وذكاء فطنتهم لائحة ظاهرة فِي وُجُوهِهِمْ وجباههم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ وكثرة التذلل والخشوع نحو الحق ذلِكَ المذكور في اوصافهم مَثَلُهُمْ وصفتهم العجيبة المذكورة فِي التَّوْراةِ وَكذا مَثَلُهُمْ هكذا فِي الْإِنْجِيلِ وبالجملة مثل اصحاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في نشوهم ونماهم في بدء ظهورهم وخروجهم أولا في غاية الضعف والنحافة واشتدادهم وغلظهم على الأعداء ووفور رأفتهم ورحمتهم على الأولياء ثانيا كَزَرْعٍ كمثل زرع وحبة مزروعة مبذورة وقع على الأرض ضعيفا وبرز منها نحيفا. ثم ظهر عليها ونبت قويا يوما فيوما الى حيث أَخْرَجَ شَطْأَهُ اى أفراخه وأغصانه دقيقا دقيقا فَآزَرَهُ قومه وقواه آنا فآنا بالمعاونة فَاسْتَغْلَظَ وعاد غليظا بعد ما رباه واحسن تربيته فَاسْتَوى واستقام بعد ذلك عَلى سُوقِهِ اى قصبه وساقه على وجه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ عند رؤيتهم بكمال كثافته وغلظته ونضارته ولطافته وانما رباهم سبحانه وقواهم وأظهرهم على عموم من عاداهم على ابلغ وجه وأحسنه لِيَغِيظَ وليتحسر ويتحسد بِهِمُ الْكُفَّارَ المخالفون المخاصمون لهم من كمال تشددهم وترقيهم وبالجملة قد وَعَدَ اللَّهُ المطلع على ما في استعدادات عباده من الإخلاص والتفويض الَّذِينَ آمَنُوا بالله بكمال المحبة والتسليم وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى الله مِنْهُمْ اى من جنسهم مَغْفِرَةً سترا ومحوا لأنانياتهم الباطلة وهوياتهم العاطلة في هوية الحق وَأَجْراً عَظِيماً هو الفوز بشرف اللقاء والوصول الى سدرة المنتهى وليس وراء الله مرمى رزقنا الله الوصول اليه والوقوف بين يديه خاتمة سورة الفتح عليك ايها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات مكنك الله في مقعد الصدق ووطنك في مقر التوحيد ان تعتدل أنت في عموم اوصافك واخلاقك وأعمالك مجتنبا عن كلا طرفي الإفراد والتفريط معرضا

سورة الحجرات

عن قشور مطلق التخمين والتقليد مقتصدا في جميع اطوارك وشئونك مقتفيا في جميع اخلاقك اثر نبيك الهادي الى سواء السبيل حتى ينفتح لك أبواب عموم الكرامات والسعادات ويغلق ذلك مداخل انواع المكروهات والمنكرات وإياك إياك ان تختلط مع اهل الغفلة واصحاب الجهالات المترددين في اودية البغي ومهاوي الضلال ليتيسر لك التحقق الى فضائل الوصال. جعلنا الله من زمرة أوليائه المقتصدين الذين ثبتوا على الصراط المستقيم [سورة الحجرات] فاتحة سورة الحجرات لا يخفى على ارباب المحبة والولاء المتحققين بمقام التأديب والتسليم مع الله في عموم أحوالهم وأفعالهم ان كمال العبودية والإخلاص انما يظهر بحسن الأدب والمحافظة على أداء حقوق الربوبية والوفاء على مقتضيات عهود الألوهية وذلك انما يحصل برعاية حقوق من اختاره الله لرسالته واصطفاه لخلته إذ هو الوسيلة الموصلة لعباد الله الى الله وهو الهادي المرشد لهم في جناب قدرته لذلك اوصى سبحانه خلص عباده بمحافظة الأدب مع الله ورسوله فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المراقب احوال عباده الرَّحْمنِ عليهم بتعليم الأدب إياهم الرَّحِيمِ لهم بتلقين الرضاء والتسليم [الآيات] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم مراعاة الأدب مع الله ورسوله فعليكم ان لا تُقَدِّمُوا ولا تتقدموا في امر من الأمور وحكم من الاحكام بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لا تبادروا بإمضاء الاحكام ما لم تشاوروا بكتاب الله وسنة رسوله ولم يعرضوها عليهما وَاتَّقُوا اللَّهَ المقتدر الغيور المطلع على ما في ضمائركم ونياتكم واحذروا عن المسابقة والمبادرة في الأقوال والاحكام بمقتضى اهويتكم وآرائكم إِنَّ اللَّهَ المراقب عليكم في عموم أحوالكم سَمِيعٌ بأقوالكم عَلِيمٌ بنياتكم فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من خصائص ايمانكم بالله وبرسوله ان لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ وقت التكلم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ بل لكم ان لا تخلطوا أصواتكم مع صوته صلّى الله عليه وسلّم بل وَعليكم ان لا تَجْهَرُوا لَهُ صلّى الله عليه وسلّم بل في حضوره ومجلسه صلّى الله عليه وسلم بِالْقَوْلِ مطلقا كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ إذ الجهر بالقول معه مخل بحرمته صلّى الله عليه وسلّم وتعظيمه وانما نهاكم سبحانه عما نهاكم كراهة أَنْ تَحْبَطَ وتضيع أَعْمالُكُمْ اى الصالحات منها وَان أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ حبوطها وضياعها وبالجملة إِنَّ المؤمنين المحسنين الَّذِينَ يَغُضُّونَ ويحفظون أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مراعاة لتعظيمه وحفظا للأدب معه صلّى الله عليه وسلم أُولئِكَ السعداء المقبولون هم الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ المجرب لإخلاص عباده قُلُوبَهُمْ التي هي اوعية الأيمان والإخلاص ليجعلها مقرا لِلتَّقْوى المثمرة لانواع اللذات الروحانية لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ستر وعفو من مقتضيات بشريتهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ هو تحققهم بمقام الرضاء والتسليم. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة إِنَّ المسرفين المسيئين الَّذِينَ يُنادُونَكَ يا أكمل الرسل مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ حين كنت مستريحا في خلوتك فارغا في همك عن مقتضيات النبوة متوجها الى ربك حسب حصة ولايتك أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ولا يفهمون خلوتك مع ربك ومنزلتك عنده سبحانه ولا يتفطنون باستغراقك بمطالعة وجهه الكريم إذ لو كان لهم عقل يوقظهم عن منام الغفلة لارشدهم البتة الى مراعاة الأدب معك يا أكمل الرسل

[سورة الحجرات (49) : آية 5]

وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حين احتياجهم إليك وارادتهم صحبتك حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لهدايتهم وإرشادهم بمقتضى شفقة النبوة لَكانَ خَيْراً لَهُمْ واولى من مبادرتهم الى النداء وَاللَّهُ المطلع بما في ضمائرهم من الإخلاص غَفُورٌ يغفر زلتهم ان وقعت منهم أحيانا رَحِيمٌ يرحمهم ان كانوا من ذوى الإخلاص مع الله ورسوله. ثم نادى سبحانه عموم المؤمنين المخلصين نداء ارشاد وتعليم تهذيبا لأخلاقهم عما لا يليق بشأن المؤمنين الموحدين فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم بالله حسن الظن بإخوانكم المؤمنين فعليكم انكم إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ منحرف عن عدالة الايمان خارج عن مقتضى التوحيد والعرفان بِنَبَإٍ وخبر على وجه الافتراء والمراء فَتَبَيَّنُوا اى عليكم ان تتفحصوا وتستكشفوا عنه ولا تبادروا الى تصديقه كراهة أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً سوأ واذية بمجرد الظن الكاذب مع انكم متصفون بِجَهالَةٍ اى كنتم جاهلين بحالهم فَتُصْبِحُوا وتصيروا بعد ما أصبتم القوم البرآء عَلى ما فَعَلْتُمْ من اذياتهم نادِمِينَ محزونين مغتمين كلما تذكرتم تغممتم وَاعْلَمُوا ايها المؤمنون أَنَّ فِيكُمْ وبين أظهركم رَسُولَ اللَّهِ وسنته السنية الموروثة له من ربه في حياته وبعد مماته فعليكم الإطاعة والمراجعة اليه حين حياته والى سنته وشرعه بعد مماته صلّى الله عليه وسلّم في مطلق الأمور والخطوب والعرض عليه وعليها والمشاورة معه ومعها فعليكم ان لا تكلفوه صلّى الله عليه وسلم الى قبول ما قد حسنت لكم نفوسكم من الأمور والاحكام والخطوب الواقعة بينكم فانه لَوْ يُطِيعُكُمْ ويقبل منكم قولكم فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أثمتم أنتم وهلكتم في الإثم البتة واستغرقتم فيه إذ من مقتضى ايمانكم وانقيادكم له ان تفوضوا أموركم كلها اليه وتستصوبوها منه صلّى الله عليه وسلّم فان صوبها فبها والا فلا تكلفوه إذ منصب النبوة ومقتضى الحكمة يأبى عن ذلك وَلكِنَّ اللَّهَ الحكيم العليم قد حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ يعنى لا تعتذروا في رمى البرئ بمجرد القول الباطل والظن الفاسد بمحبة الايمان وكراهة الكفر فانه سبحانه وان حبب إليكم الايمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ المؤدى اليه وَالْعِصْيانَ المستلزم له لكنه لما حبب الايمان حببه على مقتضى الإخلاص والصدق والعدالة وكره الكفر الناشئ عن قصد واختيار لا ان ينسب اى ينسب عن بهتان وزور فانه سبحانه لا يرضى لعباده أمثال ذلك وبالجملة أُولئِكَ المؤمنون المجتنبون عن الزور والتهمة هُمُ الرَّاشِدُونَ المقصورون على الرشد والهداية الى صراط مستقيم هو صراط التوحيد المعتدل بين كلا طرفي الإفراط والتفريط وانما صار رشادهم هذا فَضْلًا ناشئا مِنَ اللَّهِ المطلع بعموم استعدادات عباده وقابلياتهم وَنِعْمَةً موهوبة لهم من عنده وَاللَّهُ المحيط بعموم افعال عباده عَلِيمٌ بحوائجهم المصلحة لهم حَكِيمٌ في افاضتها حسب المصلحة وَمن جملة أخلاقكم ايها المؤمنون المعتدلون في مقتضى الايمان إِنْ كانت طائِفَتانِ كلتاهما مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا وتقاتلوا عن ثوران اللقوة الغضبية وهيجان الحمية الجاهلية من كلا الجانبين بسبب الخصومة المستمرة والعصبية المؤبدة فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما مهما أمكن الصلح على وفق الحكمة والعدالة فَإِنْ بَغَتْ اى غوت وغلبت إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى بحيث ادى بغيها الى الإفراط والظلم الخارج عن مقتضى العدالة الإلهية فَقاتِلُوا أنتم ايها المصلحون بأمر الله مظاهرين على الطائفة المغلوبة مع الطائفة الغالبة والفئة الباغية الَّتِي تَبْغِي وتغوى

[سورة الحجرات (49) : آية 10]

حَتَّى تَفِيءَ وترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ العادل الحكيم وترضى بحكمه المترتب على محض القسط والعدالة فَإِنْ فاءَتْ ورجعت عن بغيها وطغيانها فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بعد ما وقع ما وقع بِالْعَدْلِ المنبئ عن الحكمة ورعاية القسط بين الجانبين وَبالجملة أَقْسِطُوا واعدلوا ايها المؤمنون في عموم أحوالكم واحكامكم إِنَّ اللَّهَ المستوي على العدل القويم يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ من عباده وكيف لا تصلحون بينهما ايها المؤمنون المصلحون إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الموقنون بوحدة الحق المصدقون لرسوله المبين لطريق توحيده إِخْوَةٌ في الدين القويم فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ بمقتضى العدل والإنصاف وَاتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور في إصلاحكم هذا عن الميل والانحراف لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لأجل عدالتكم وتقواكم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ترك المراء والاستهزاء من بنى نوعكم وإخوانكم بحيث لا يَسْخَرْ قَوْمٌ منكم ايها الرجال القوامون المقيمون لحدود الله مِنْ قَوْمٍ أمثالكم في القيام والتقويم اى لا يسخر أقوياؤكم ورساؤكم من أراذلكم وضعفائكم عَسى أَنْ يَكُونُوا اى المسخور بهم المرذولون خَيْراً مِنْهُمْ اى من الرؤساء الساخرين عند الله وَكذا لا يسخر منكم نِساءٌ عاليات متعززات مِنْ نِساءٍ سافلات مستضعفات عَسى أَنْ يَكُنَّ اى المستضعفات خَيْراً مِنْهُنَّ اى من العاليات الساخرات عند الله وكن اقرب الى رحمته منهن وَلا تَلْمِزُوا ايها المؤمنون ولا تعيبوا أَنْفُسَكُمْ اى بعضكم بعضا إذ المؤمنون كنفس واحدة فما لحق لهم وعليهم انما لحق بهم وعليهم جميعا وَعليكم ايضا ان لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ اى لا يدع بعضكم بعضا باللقب السوء الدال على القبح والذم فان النبز انما يستعمل في اللقب السوء وبالجملة انما نهيتم ايها المؤمنون عن عموم ما نهيتم عنه لأنه من جملة الفسوق والعصيان المستلزمين لانواع الخيبة والحرمان المسقطين للمروة والعدالة المترتبة على الحكمة الإلهية وبالجملة بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ المنبئ عن الخروج والانحراف عن صراط الحق سيما بَعْدَ الْإِيمانِ اى بعد الاتصاف بالإيمان المبنى على كمال الاعتدال وَبالجملة مَنْ لَمْ يَتُبْ ولم يرجع الى الله بعد ما صدر عنه أمثال هذه الجرائم المذكورة هفوة فَأُولئِكَ البعداء المصرون على الغواية والطغيان هُمُ الظَّالِمُونَ المقصورون على الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم بالله متابعة اليقين في عموم الأحوال والمقامات وترك الظنون والجهالات في جميع الحالات الا ظن الخير بالله وبخلص عباده من الأنبياء والأولياء المستبعدين بمراحل عن التهمة والتعزير اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ المورث لكم المجادلة والمراء مع الله ورسوله وعموم المؤمنين وبالجملة إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ ألا وهو الملقى إليكم من قبل الشيطان المزور المغوى إِثْمٌ خروج وفسوق عن مقتضى الحدود الإلهية وَايضا لا تَجَسَّسُوا اى من جملة أخلاقكم المحمودة ترك التجسس والتفحص سيما عن جلائل بنى نوعكم مطلقا فعليكم ان لا تبحثوا عن عورات المؤمنين وغيرهم سيما بما يوجب هتك حرماتهن من المفتريات الباطلة الشنيعة وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً اى من جملة أخلاقكم المحمودة ايها المؤمنون القاصدون لسلوك طريق التوحيد بل من أجلها ترك الغيبة وهي ان يذكر بعضكم بعضا منكم في غيبته بشيء لو كان حاضرا عندكم ليشق عليه ويكرهه البتة وسئل عليه السلام عن الغيبة فقال ان تذكر أخاك بما يكرهه فان كان فيه فقد اغتبته وان لم يكن فقد بهتّه وكلاهما خارجان عن اعتدال اهل الأيمان ثم أكد سبحانه هذا النهى على وجه

[سورة الحجرات (49) : آية 13]

المبالغة في التوبيخ كأنه استدل عليه وصرح بنهيه وتقبيحه على سبيل المبالغة فقال أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ ويرضى لنفسه أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ سيما حال كونه مَيْتاً ولو فرض عرض هذا عليكم فَكَرِهْتُمُوهُ البتة إذ لا يمكنكم انكار كراهته وغيبة أخ المؤمن اكره وأقبح من هذا وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور عن ارتكاب الغيبة المحرمة وتوبوا اليه عنها وعن أمثالها إِنَّ اللَّهَ المطلع على ما في ضمائركم من الندم والإخلاص تَوَّابٌ يقبل منكم توبتكم ان اخلصتم فيها رَحِيمٌ يمحو عنكم زلتكم بعد ما تبتم ورجعتم نادمين عما فعلتم. ثم أكد سبحانه ايضا هذا الحكم على وجه التفصيل فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ الناسون المنشأ الأصلي والفطرة الجبلية إِنَّا خَلَقْناكُمْ اى اوجدناكم وأخرجناكم جميعا مِنْ ذَكَرٍ هو آدم المصور بصورتنا حسب حصته اللاهوتية المجبول على خلافتنا في عالم الناسوت وَأُنْثى هي حواء المنشعبة من آدم باعتبار حصة ناسوته وَبعد ما صيرناهما زوجين ممتزجين مزدوجين من حصتي اللاهوت والناسوت قد جَعَلْناكُمْ وصيرناكم شُعُوباً متكثرة من اصل واحد هو آدم وَقَبائِلَ مختلفة متحزبة من تلك الشعوب إذ الشعب هي الجمع المتكثر المنشعب عن اصل واحد والقبيلة هي الفرق المختلفة الحاصلة من الشعب والعمارة هي الطائفة المتفرعة عن القبيلة والبطن الجمع المتفرع عن العمارة والفخذ متفرع عن البطن والفصيل عن الفخذ فحزيمة مثلا شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصى بطن وهاشم فخذ وعباس فصيل وانما جعلناكم كذلك لِتَعارَفُوا اى يعرف بعضكم بعضا ويؤدى بكم تعارفكم الى التلاحق في المنشأ لا للتفاخر والتغالب والمظاهرة إذ لا تفاخر بينكم الا بالكرامة والنجابة المترتبة على حصة اللاهوت وبالجملة إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وأحذركم عن لوازم الناسوت ولواحق الهيولى إِنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده عَلِيمٌ خَبِيرٌ بما في ظواهرهم وبواطنهم يوفقهم على مقتضى علمه وخبرته بهم ومن عدم امتثالهم واتصافهم بأمر التعارف والتلاحق المأمور والموصى إليهم قالَتِ الْأَعْرابُ التي هي المتوغلة في اللدد والعناد على سبيل التغالب والتفاخر حين قدموا المدينة في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين لا عن عزيمة خالصة وقصد صادق بل على وجه الخداع والنفاق ولهذا كانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم على سبيل الامتنان قد آتيناك بالأحمال والأثقال ولم نقاتل معك كما قاتل بنو فلان آمَنَّا بك بلا سبق خصومة منا معك وبالجملة يمنون عليك يا أكمل الرسل بايمانهم الواهية وصدقاتهم الغير الوافية قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما أظهروا خلاف ما اضمروا في نفوسهم من المنة والغلول المنافى للإخلاص والايمان لَمْ تُؤْمِنُوا ايها الاعراب الأجلاف بمجرد قولكم آمنا إذ الايمان انما هو من افعال القلوب الصافية عن كدر المن والأذى مطلقا وَلكِنْ قُولُوا بدل قولكم آمنا أَسْلَمْنا اى قد دخلنا في السلم وصالحنا معكم على ان لا تخاصم بيننا وبينكم ولا نزاع وكيف تقولون آمنا وَالحال انه لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ اى لم يدخل الإذعان والقبول الملازم للايمان بل الايمان ليس الا الإذعان فِي قُلُوبِكُمْ التي هي أوعيته وهو من افعالها وَبالجملة إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ حق إطاعتهما وانقيادهما مخلصين لا يَلِتْكُمْ ولا ينقصكم مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً قليلا من اجورها وجزائها ان اخلصتم في ايمانكم وإطاعتكم وجئتم بهما بلا من وأذى إِنَّ اللَّهَ المطلع على نيات عباده غَفُورٌ لمن تاب عن فرطاته رَحِيمٌ يرحمه ويقبل

[سورة الحجرات (49) : آية 15]

توبته وبالجملة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ المخلصون هم الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وأخلصوا في ايمانهم وإذعانهم ليصلوا الى مرتبة التوحيد المسقط لعموم الإضافات ثُمَّ بعد ما آمنوا وأخلصوا لَمْ يَرْتابُوا ولم يشكوا قط فيما آمنوا وَمع ذلك جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع اعداء الله أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله هُمُ الصَّادِقُونَ المقصورون على الصدق والإخلاص الفائزون عند ربهم بأنواع الفوز والفلاح المتمكنون في مقعد صدق عند مليك مقتدر على عموم الانعام والإفضال قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما أظهروا الايمان الجعلى بألسنتهم ولم يواطئ عليه قلوبهم أَتُعَلِّمُونَ وتخبرون ايها الجاهلون اللَّهَ المطلع لعموم السرائر والخفايا بِدِينِكُمْ وايمانكم هذا وَالحال انه اللَّهَ سبحانه يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع ما فِي السَّماواتِ من الغيوب والشهادات وَجميع ما فِي الْأَرْضِ ايضا كذلك وَبالجملة اللَّهَ المحيط بالكل بِكُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة الوجود عَلِيمٌ لا يعزب عن حضرة علمه شيء مما لمع عليه برق الوجود بمقتضى الجود. ثم قال سبحانه تعليما لحبيبه وإرشادا يَمُنُّونَ عَلَيْكَ يا أكمل الرسل أَنْ أَسْلَمُوا اى بإسلامهم ودخولهم في السلم مع انهم ليسوا في أنفسهم مؤمنين مذعنين قُلْ يا أكمل الرسل في جوابهم إلزاما وتبكيتا لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ اى بإسلامكم هذا ولا تعدوا انفسكم من جملة المؤمنين بمجرد ما تفوهتم بالإيمان بَلِ اللَّهُ العالم بعموم السرائر والخفايا يَمُنُّ عَلَيْكُمْ على أَنْ هَداكُمْ وأرشدكم لِلْإِيمانِ المثمر للعرفان المستلزم للكشف والعيان إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ايمانكم وفي اذعانكم ومواطأة قلوبكم مع ألسنتكم ومطابقتها لها مع انكم لستم كذلك ايها الحمقى الهلكى التائهون في تيه الكفر والنفاق وبالجملة إِنَّ اللَّهَ المطلع بما في ضمائر عباده من الثقة والإخلاص يَعْلَمُ بحضرة علمه الحضوري غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بحيث لا يغيب عن حضوره وشهوده شيء منها وَبالجملة اللَّهَ المراقب بعموم أحوالكم واطواركم بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال خيرا كان او شرا يجازيكم بمقتضى بصارته وعلمه. جعلنا الله من زمرة المؤمنين المخلصين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون خاتمة سورة الحجرات عليك ايها الموحد المحمدي المتحقق بمقام التوحيد الذاتي مكنك الله في مقر عزتك وتمكينك ان تترفع بنفسك عن مطلق الرذائل المتعلقة بالأهوية الفاسدة والأماني الكاسدة سيما عن المن والأذى في الانفاق وغيره وعن رعونات السمعة والرياء في مطلق الطاعات والعبادات وإياك إياك ان تتفوق على احد من بنى نوعك واخوانك في عموم حالاتك وازمانك فانه من شيم اصحاب النخوة والكفران المورث لهم انواع الخيبة والخسران واصناف الخذلان والحرمان فلك ان تلازم التواضع والانكسار مع عموم المظاهر والمجالى الإلهية والاعتزال عن مطلق اصحاب الجاه والاعتبار وعليك بالقناعة مع الكفاف والعزلة مع العفاف والاجتناب عن الخلطة والائتلاف والاتصاف بالانصاف وبترك الأوصاف. جعلنا الله ممن ثبت على منهج الصدق والصواب واجتنب عما ينافيه بتوفيق من لدنه وتيسيره

سورة ق

[سورة ق] فاتحة سورة ق لا يخفى على من تنور قلبه بأنوار الوحدة الذاتية المتشعشعة من مشكاة النبوة والولاية المترتبتين على نشأة الإنسان المصور بصورة الرحمن إذ أكمل المظاهر وأوليها لقبول التجليات الإلهية وأحراها لرتبة الخلافة والنيابة عنه سبحانه وأليقها للتخلق بأخلاق الحق هو الإنسان الكامل القابل لانعكاس اشعة شمس الذات الاحدية المستهلك دونها عموم الكثرات والإضافات فظهر ان لا مظهر اجمع من الإنسان وأكمل منه واشرف هذا النوع وأكمله وأتمه علما وعينا كشفا وشهودا هو نبينا صلوات الله وسلامه عليه فمن تعجب عن رسالته وخلافته صلّى الله عليه وسلّم عتوا وأنكر إرشاده وهدايته لبنى نوعه عنادا وإنزال الله الوحى اليه مكابرة فقد ضل وغوى ولم يهتد الى ما هو الرشد والهدى لذلك انزل سبحانه على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ما انزل وخاطبه بما خاطب واقسم بما اقسم تأكيدا ومبالغة لإثبات هدايته وإرشاده صلّى الله عليه وسلّم وكمال لياقته لخلافة الحق ونيابته فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المرسل للرسل المنزل للكتب لتبيين طريق توحيده الرَّحْمنِ بعموم عباده يدعوهم الى دار السلام الرَّحِيمِ لخواصهم يوصلهم الى أعلى المقامات بأنواع الانعام والإكرام [الآيات] ق ايها الإنسان الكامل القابل لخلعة الخلافة والنيابة الإلهية القيم القائم لتبليغ الوحى والإلهام المنزل عليه من عنده سبحانه على عموم الأنام القائد لهم الى توحيد الملك العلام القدوس السلام ذي القدرة والقوة الكاملة الشاملة على عموم الانعام والانتقام وَحق الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ العظيم المنزل من المجيد العظيم انك يا أكمل الرسل لمرسل الى كافة الخلق من الحق على الحق لتبيين طريق الحق وتوحيده. ولما لم يجد المنكرون الجاحدون لعلو شأنك فيك يا أكمل الرسل شيأ وشينا يبعثهم ويدعوهم الى إنكارك وتكذيبك صريحا اضطروا الى العناد والمكابرة بَلْ عَجِبُوا على سبيل الاستبعاد والاستنكار أولئك الحمقى الجاهلون الجاحدون أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ اى بان بعث إليهم رسول من جنسهم وبنى نوعهم ينذرهم عن اهوال يوم القيامة وافزاعها مع انهم منكرون للحشر وإرسال البشر جميعا فَقالَ الْكافِرُونَ المستكبرون بعد ما سمعوا منك الدعوة والإنذار من شدة انكارهم واستبعادهم هذا اى إرسال البشر الى البشر والإنذار من الحشر المحال كل منهما شَيْءٌ عَجِيبٌ وامر بديع ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ثم فصلوا ما اجملوا على سبيل التعجب والإنكار فقالوا فيما بينهم مستفهمين مستبعدين أَإِذا مِتْنا اى أنرجع ونعود احياء كما كنا إذا متنا وَكُنَّا تُراباً وهباء منبثا ذلِكَ العود والرجوع رَجْعٌ بَعِيدٌ عن الوقوع وقبول العقول. ثم قال سبحانه ردا عليهم وردعا لهم كيف تستبعدون وتنكرون عنا قدرتنا على بعث الموتى واعادتهم احياء كما كانوا مع انا قَدْ عَلِمْنا على وجه التفصيل والتحقيق ما تَنْقُصُ تأكل الْأَرْضُ مِنْهُمْ اى من اجزائهم وعظامهم واوصالهم وكيف لا نعلم وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ حاصر لتفصيل عموم الأشياء حافظ لها ألا وهو حضرة علمنا الحضوري ولوح قضائنا المحفوظ المصون عن عدم الضبط والشذوذ بَلْ هم من غاية عمههم وسكرتهم ونهاية غيهم وغفلتهم كَذَّبُوا بِالْحَقِّ المطابق للواقع المؤيد بالبرهان الساطع والدليل القاطع وهو نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم لَمَّا جاءَهُمْ وحين بعث إليهم من الحق بالحق على الحق لتبيينه وتمييزه عن الباطل لذلك أنكروا

[سورة ق (50) : آية 6]

البعث الذي جاء صلّى الله عليه وسلّم لتبيينه وللانذار بما فيه من انواع العقبات والعقوبات وبالجملة فَهُمْ بمقتضى أحلامهم السخيفة مغمورون فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب مخلوط حيث يلتبس عليهم حقيته صلّى الله عليه وسلّم وحقية عموم ما جاء به لذلك يترددون في شأنه ويقولون تارة انه شاعر وتارة انه ساحر وتارة كاهن وتارة مجنون مخبط يتكلم بكلام المجانين الى غير ذلك من المفتريات الباطلة أَفَلَمْ يَنْظُرُوا ولم يتفكروا ولم يتفطنوا حين أنكروا البعث والحشر إِلَى السَّماءِ المطبقة المعلقة فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها ورفعناها بلا اعمدة وأساطين وَكيف زَيَّنَّاها بالكواكب المتفاوتة في الإضاءة والتنوير وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ نتو وفتوق بل قد خلقناها ملساء متوازية السطوح متلاصقة الطباق وَلم ينظروا ايضا الى الْأَرْضَ ولم يتدبروا فيها كيف مَدَدْناها ومهدناها بكمال قدرتنا وحكمتنا وَأَلْقَيْنا فِيها وعليها رَواسِيَ جبالا ثوابت شامخات وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف من انواع النباتات بَهِيجٍ حسن كريم تبهج عيون الناظرين وتسر قلوبهم وبالجملة ما خلقنا عموم ما خلقنا من العجائب والغرائب الا لتكون تَبْصِرَةً وَذِكْرى اى عظة وعبرة دالة على كمال قدرتنا ومتانة حكمنا وحكمتنا لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ رجاع إلينا متوجه نحونا بكمال التبتل والتفويض ليتذكر بها ويتفطن منها على كمال اقتدارنا واختيارنا في خلق عموم مرادتنا ومقدوراتنا ومن جملتها حشر الأموات وبعثهم من قبورهم احياء وَكيف يسع لأولئك الحمقى الهالكين في تيه العناد والجحود انكار قدرتنا على البعث والإعادة مع انا قد نَزَّلْنا مِنَ جانب السَّماءِ ماءً مُبارَكاً كثير الخير والبركة فَأَنْبَتْنا بِهِ بعد انزاله وتنزيله على الأرض اليابسة الميتة جَنَّاتٍ اى حدائق ذات بهجة وبهاء ونزاهة وصفاء وَلا سيما حَبَّ الْحَصِيدِ من البر والشعير وسائر الحبوب المحصورة للتقوت والتعيش وَقد أنبتنا به خصوصا النَّخْلَ وجعلناها باسِقاتٍ طوالا متحملات لَها طَلْعٌ ثمر ذو عنقود نَضِيدٌ منضود منضد بعضه فوق بعض من غاية كثرته وكثافته وانما انبتناها لتكون رِزْقاً لِلْعِبادِ يرزقون بها ويواظبون على شكر منعمها ومبدعها وَبالجملة قد أَحْيَيْنا بِهِ اى بالماء المنزل من جانب السماء بَلْدَةً مَيْتاً يابسة جدبة لا كلأ فيها ولا ماء كَذلِكَ الْخُرُوجُ اى خروجهم من قبورهم احياء بقدرتنا مثل ذلك فمن اين ينكرون وأنى يستبعدون أولئك الحمقى الجاهلون الجاحدون بقدرة العليم الحكيم وليس هذا التكذيب والإنكار ببدع من هؤلاء المكذبين المنكرين يا أكمل الرسل بل قد كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ مثل تكذيبهم وانكارهم قَوْمُ نُوحٍ أخاك نوحا صلّى الله عليه وسلّم حين بعث إليهم وانذرهم ونهاهم عماهم عليه من الكفر والجحود والخروج عن مقتضى الحدود وَكذلك كذبت أَصْحابُ الرَّسِّ وهو بئر كانوا يسكنون حوله أخاك حنظلة بن صفوان عليه السلام وَكذا قد كذبت ثَمُودُ أخاك صالحا عليه السلام فعقروا الناقة المقترحة وَعادٌ أخاك هودا عليه السلام وَقد كذب فِرْعَوْنُ وملاؤه أخاك موسى الكليم وَإِخْوانُ لُوطٍ أخاك لوطا عليه السلام سماهم إخوانه لأنهم اصهاره وَكذبت ايضا أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أخاك شعيبا عليه السلام وَكذبت قَوْمُ تُبَّعٍ وهو تبع الحميرى واسمه اسعد ابو كريب علماءهم وأئمتهم المصلحين لمفاسدهم وبالجملة كُلٌّ منهم قد كَذَّبَ الرُّسُلَ المبعوثين إليهم لهدايتهم وإرشادهم فَحَقَّ اى قد حل ولحق عليهم وَعِيدِ الموعود لهم بتكذيبهم وإصرارهم

[سورة ق (50) : آية 15]

فهلكوا واستوصلوا فكذا هؤلاء المكذبون المسرفون سيهلكون ويستأصلون عن قريب فاصبر يا أكمل الرسل على أذاهم ولا تستعجل لهم فسيرون ما يوعدون. ثم قال سبحانه على سبيل الإنكار والاستبعاد على المنكرين المستبعدين بالحشر والبعث أَفَعَيِينا اى أينكرون قدرتنا على الإعادة ويظنون انا قد صرنا عاجزين بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ اى الإبداء الابداعى عن الخلق الثاني الأعادي ويزعمون ان قدرتنا تضعف وتفتر عند الخلق الاول بل تنتهي دونه ولم يعلموا ان قدرتنا بل عموم اوصافنا وأسمائنا لا تتصف بالانتهاء والفتور ولا بالانقضاء والقصور حتى يفهموا ويتفطنوا ان تعلق قدرتنا لكل مقدور من المقدورات في كل آن من الآنات على شأن الشئون الكمالية بحيث لم يمض مثله ولا يأتى شبهه بَلْ لهم ان يتفطنوا بمقتضى الفطرة الاصلية ان هُمْ في أنفسهم وفي حدود ذواتهم دائما مستمرا فِي لَبْسٍ وخلعة مِنْ توارد خَلْقٍ جَدِيدٍ منا وإيجاد متجدد من لدنا في كل زمان وآن حسب قدرتنا واختيارنا وَبالجملة لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وقدرنا وجوده واستعداده في حضرة علمنا وأثبتناه في لوح قضائنا وأظهرناه من كتم العدم وَنحن نَعْلَمُ منه حينئذ ما تُوَسْوِسُ وتحدث بِهِ نَفْسُهُ وتخطر بباله الآن من أمثال هذه الأوهام والخيالات الباطلة المترتبة على حصة ناسوته المقيدة بسلاسل الرسوم وأغلال العادات الموروثة له من العقل الفضول الممتزج بالوهم الجهول وَكيف لا نعلم منه هواجس نفسه إذ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ اى وريده وهو مثل في القرب المفرط كما قال الموت ادنى لي من الوريد واضافة الحبل اليه للبيان وبالجملة نحن اقرب اليه من الوريدين وهما العرقان المنبثان من مقدم الرأس المتنازلان من طرفي العنق المتلاصقان عند القفا المنتهيان الى آخر البدن وهما قوام البدن وعليهما مداره إذ هما أقوى دعائم هيكل الإنسان وبالجملة نحن بحسب روحنا المنفوخ فيه من عالم اللاهوت اقرب اليه من ناسوته لا على توهم المسافة وعلى سبيل التركب والاتحاد والحلول والامتزاج بل على وجه الظلية والانعكاس ومع غاية قرب الحق اليه وكمال احاطته إياه وكل عليه الحفظة من الملائكة ليراقبوا أحواله ويحافظوا عليه إلزاما للحجة عليه لدى الحاجة يوم القيامة اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ الموكلان عليه عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ اى قاعد كل من الموكلين عن يمينه وشماله مترقبين على عموم أحواله واعماله وأقواله بحيث ما يَلْفِظُ ولا يتلفظ مِنْ قَوْلٍ يتفوه به ويرميه من فيه إِلَّا لَدَيْهِ وعنده رَقِيبٌ حفيظ عليه عَتِيدٌ مهيأ معد حاضر عنده غير مغيب عنه يرقبه ويحفظه على وجه لا يفوت عنه شيء من ملتقطاته مطلقا خيرا كان او شرا وَهما يحفظانه ويرقبان عليه الى حين جاءَتْ وحضرت سَكْرَةُ الْمَوْتِ شدته وغمرته بِالْحَقِّ والحقيقة وحضرت علاماته وانكشفت عليه أهواله واماراته قيل له حينئذ من قبل الحق ذلِكَ اى الموت الذي ينزل عليك الآن ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ هو الموت الذي قد كنت أنت تميل وتفر عنه فيما مضى وَبعد ما ذاق الإنسان مرارة العذاب وقت سكرات الموت فتكون تذكرة أنموذجا عنده من العذاب الموعود في يوم القيامة نُفِخَ فِي الصُّورِ للبعث والحشر فإذا هو قائم هائم حائر ينظر حيران سكران قيل له من قبل الحق على سبيل التهويل ألست تنظر وتتحير يا حائر الهائم ذلِكَ اليوم الذي أنت فيه الآن يَوْمُ الْوَعِيدِ الموعود لك في دار الدنيا وأنت حينئذ لم تؤمن به ولم تخف من أهواله حتى وقعت فيه وذقت من عذابه وقت موتك وخروجك من الدنيا وَبعد ما بعث الأموات من أجداثهم

[سورة ق (50) : آية 22]

وحشروا للجزاء جاءَتْ وحضرت كُلُّ نَفْسٍ من النفوس الطيبة والخبيثة مَعَها سائِقٌ موكل يسوقها الى المحشر للعرض والجزاء وَشَهِيدٌ من حفظة أعمالها وأحوالها يشهد لها او عليها وبعد ما حضر الكل بين يدي الله قيل لكل منهم من قبل الحق على وجه الخطاب والعقاب لَقَدْ كُنْتَ ايها المغرور فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا اليوم وانكار عظيم من وقوعه كذلك كذبت بالرسل وكنت استهزأت من الهداة الثقاة واستكبرت عليهم فَكَشَفْنا اليوم عَنْكَ غِطاءَكَ الذي هو سبب غفلتك وإنكارك وعلة تعاميك واستكبارك من الآيات والنذر ألا وهو تفكرك المحسوسات العادية وإنكارك على الأمور الغيبية الخارجة عن حيازة حواسك وقواك فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ يعنى قد صار بصرك بعد انكشافك بهذا اليوم حادا حديدا نافذا الا انه لا ينفعك الآن حدة بصرك وانكشافك بعد ما انقرضت نشأة الاختبار والاعتبار وَقالَ له حينئذ قَرِينُهُ من الحفظة المراقب عليه في النشأة الاولى هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ اى هذا الذي سمعت الآن من الخطاب والعتاب هو الذي حفظته لك عندي وكتبته في صحيفة عملك قبل وقوعك فيه في النشأة الاولى وبعد ما جرى بين كل من العصاة وبين قرينهم ما جرى قد امر من قبل الحق للسائق والشهيد امرا وجوبيا حتما أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ واطرحا فيها كُلَّ كَفَّارٍ مبالغ في الكفر والإنكار عَنِيدٍ متبالغ متناه في العناد والاستكبار مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مبالغ في المنع عن الانفاق المأمور به مُعْتَدٍ متجاوز عن الحق مائل نحو الباطل مُرِيبٍ موقع لعباد الله في الشك والشبهة في دينه القويم وصراطه المستقيم الذي أنزله سبحانه الى رسوله المتصف بالخلق العظيم وهذا المسرف المفرط هو الَّذِي جَعَلَ اى أخذ واثبت مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد المنزه عن الشرك مطلقا إِلهاً آخَرَ واعتقده موجدا مثله شريكا معه في عموم أفعاله وآثاره وبالجملة فَأَلْقِياهُ ايها الموكلان هذا الطاغي الباغي المتناهي في التعدي والعدوان فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ بدل ما تجاوز عن التوحيد الإلهي وأصر على التشريك والتعديد في حقه سبحانه. وبعد ما أراد الموكلان ان يبطشاه ويجراه نحو النار أخذ يصرخ وينسب شركه وضلاله الى الشيطان المضل المغوى وهو حاضر عنده سامع قوله وبعد ما سمع الشيطان منه ما سمع قالَ له قَرِينُهُ اى الشيطان متضرعا الى الله مناجيا معه رَبَّنا يا من ربانا لاختبار اخلاص عبادك في أعمالهم ما أَطْغَيْتُهُ وما أضللته انا وَلكِنْ كانَ في نفسه فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ بمراحل عن الهداية والرشد حسب اهويته وأمانيه الفاسدة وآماله الطويلة الكاسدة وبعد ما اختصم الكافر وقرينه عند الله قالَ الله سبحانه لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ولا تنازعوا عندي إذ لا نفع لكم الآن في الخصومة والنزاع وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ في كتبي وعلى ألسنة رسلي بِالْوَعِيدِ الهائل والعذاب الشديد على اهل الشرك والطغيان والكفر والكفران فالحكم على ما جرى بلا تبديل وتغيير إذ ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ والحكم لَدَيَّ بل ما هو المقدر في علمي كائن على ما ثبت وكان بمقتضى العدالة والقسط الحقيقي وَبالجملة ما أَنَا في حال من الأحوال وشأن من الشئون بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اى ليس من شأنى الظلم والتعدي على عبيدي بل هم يظلمون أنفسهم فيستحقون العقوبة على قدر عصيانهم. اذكر يا أكمل الرسل للعصاة والكفرة المشركين المصرين على العناد والإنكار يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ المعدة لجزائهم سؤال تخييل وتصوير حين طرحت عليها أفواج الكفرة والعصاة هَلِ امْتَلَأْتِ يا جهنم وَتَقُولُ

[سورة ق (50) : آية 31]

جهنم من شدة تلهبه وتسعره بإنطاق الله إياها هَلْ مِنْ مَزِيدٍ على المطروح حتى يطرح. ثم يطرح ما بقي من أهلها الى ان امتلأت انجازا لما وعد لها الحق بقوله لا ملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وَاذكر ايضا يا أكمل الرسل للمؤمنين المطيعين يوم أُزْلِفَتِ وقربت الْجَنَّةُ الموعودة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ بل بحيث يرون منازلهم فيها من غاية قربها قبل دخولهم ويتمنون الوصول فيقال لهم حينئذ هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ رجاع نحو الحق في عموم ملماته تواب الى الله من عموم زلاته ومطلق فرطاته في نشأة الاختبار حَفِيظٍ لتوبته على وجه الندم والإخلاص بلا توهم عود ورجوع إليها أصلا وبالجملة مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ واجتنب عن عموم محارمه ومنهياته خائفا من سخطه راجيا من سعة رحمته حال كونه في نشأة الاعتبار والاختبار قبل انكشاف السرائر والأستار وحلول النشأة الاخرى ورضى بالتكالف الإلهية ووطن نفسه لامتثال عموم الأوامر والنواهي وبمطلق الاحكام الجارية على ألسنة الرسل والكتب وَمع ذلك قد جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ الى الله مقبل نحوه طوعا ورغبة مخلص في طاعة الله واطاعة رسوله قيل لهم حينئذ من قبل الحق على وجه التبشير ادْخُلُوها اى الجنة المعدة لأرباب التقوى بِسَلامٍ حال كونكم سالمين آمنين من العذاب لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ذلِكَ اليوم الذي أنتم فيه الآن يَوْمُ الْخُلُودِ في الجنة الموعودة لأرباب العناية والشهود. جعلنا الله من زمرتهم بمنه وجوده وبالجملة لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها من اللذات الحسية والعقلية المحاطة بمداركهم وآلاتهم بل وَلَدَيْنا مَزِيدٌ على ما يسألون وما يأملون بحسب استعداداتهم مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ثم قال سبحانه تهديدا على من اعرض عن دينه ونبيه وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ اى قبل قومكم يا أكمل الرسل مِنْ قَرْنٍ اى اهله يعنى أقواما كثيرة وامما شتى قد أهلكنا قبلهم مع انه هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً قوة وقدرة واكثر أموالا واولادا كعاد وثمود وفرعون وغيرهم فَنَقَّبُوا اى انصرفوا وانقلبوا وساروا فِي الْبِلادِ متمنين هَلْ يجدون مِنْ مَحِيصٍ مهرب ومخلص من بطش الله وحلول عذابه عليهم فلم يجدوا بعد ما استحقوا الأخذ والتعذيب والإهلاك وبالآخرة هلكوا واستؤصلوا حتما فكذا هؤلاء المسرفون المعاندون سيهلكون كما هلكوا وبالجملة إِنَّ فِي ذلِكَ القرآن العظيم الذي نزل عليك يا أكمل الرسل لَذِكْرى اى عظة وتذكيرا وعبرة وتنبيهما لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ يتفطن من تقلبات الأحوال وتطوراتها الى شئون الحق وتجلياته الجمالية والجلالية حسب اقتضاء الذات بالإرادة والاختيار وكمالات الأسماء والصفات الذاتية أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ اى يكون من ارباب الارادة الصادقة الخالصة عن شوائب السمعة ورعونات الرياء بحيث القى سمعه الى استماع كلمة الحق من اهله وَهُوَ حينئذ شَهِيدٌ حاضر القلب فارغ الهم حديد الفطنة صحيح الارادة خالص العزيمة مترقب لان ينكشف له ما انكشف لأرباب القلوب فيكون منهم. ثم لما قالت اليهود ان الله خلق العالم في ستة ايام من الأسبوع وبعد ما عيى من الخلق والإيجاد استلقى على العرش في يوم السبت للاستراحة رد الله عليهم فقال وَلَقَدْ خَلَقْنَا وأظهرنا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من الكوائن الممتزجة منهما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ على عدد الأقطار والجهات وَمع ذلك ما مَسَّنا وما عرض علينا وما لحق بنا مِنْ لُغُوبٍ وصب وتعب وعياء وفتور كما زعم هؤلاء المسرفون المفرطون إذ ذاتنا المتعالية متنزهة عن طريان أمثال هذه

[سورة ق (50) : آية 39]

النقائص الامكانية فَاصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل عَلى ما يَقُولُونَ وينسبون الى الله الصمد المقدس عن أمثال هذه المفتريات الباطلة الناشئة من جهلهم المفرط بالله وبمقتضى ألوهيته وربوبيته وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حسب توحيدك وتمجيدك إياه ونزه ذاته عن عموم ما يقول الظالمون الجاهلون الجاحدون بعلو شأنه وسمو برهانه وتوجه نحوه سبحانه في عموم أوقاتك وحالاتك سيما قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ يعنى كلا طرفي النهار إذ هما أوان الفراغ عن مطلق الاشغال وَمِنَ آناء اللَّيْلِ اى في خلال تهجداتك فَسَبِّحْهُ وَبالجملة سبحه أَدْبارَ السُّجُودِ اى عقيب كل صلاة ذات ركوع وسجود. ثم قال سبحانه آمرا لحبيبه صلّى الله عليه وسلم وَاسْتَمِعْ يا أكمل الرسل لما أخبرك الحق من اهوال يوم القيامة وافزاعها سيما النداء الهائل يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ من قبل الحق لقيام الساعة والبعث مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ بكل احد بحيث يسمع نداءه بلا كلفة وشبهة فيقول أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة ان الله يأمركن ان تجتمعن للحساب والجزاء وهم يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ اى النفخة الثانية ملتبسة بِالْحَقِّ تحققوا وعلموا يقينا ان ذلِكَ اليوم يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور ويوم البعث والنشور وبالجملة يقول الله سبحانه مخاطبا لعباده إِنَّا بمقتضى كمال قدرتنا وحكمتنا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ في النشأة الاولى بالإرادة والاختيار وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ اى مصير الكل ومرجعه إلينا في النشأة الأخرى. اذكر يا أكمل الرسل لمن أنكر الحشر والمعاد يَوْمَ تَشَقَّقُ وتتخرق الْأَرْضُ عَنْهُمْ ويخرجون منها سِراعاً مسرعين ذلِكَ اى إخراجهم وخروجهم كذلك حَشْرٌ بعث وجمع عَلَيْنا يَسِيرٌ سهل لا تستبعدوا ولا تستعسروا عن قدرتنا الكاملة أمثال هذا إذ نَحْنُ أَعْلَمُ واحفظ بِما يَقُولُونَ اى بعموم ما يقول المنكرون المشركون في سرائرهم ونجواهم وَما أَنْتَ يا أكمل الرسل عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ تردعهم وتزجرهم عماهم عليه من الإنكار والإصرار بل ما أنت الا مذكر نذير فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ اى بوعيداته وانذاراته مَنْ يَخافُ وَعِيدِ إذ لا ينفع تذكيرك الا للخائف المتذكر منهم ومن لم يخف ليس لك عليهم سلطان ليزعجهم الى الايمان ويلجئهم الى قبول الإسلام إذ ما عليك الا البلاغ والتذكير والتوفيق من الله العليم الخبير خاتمة سورة ق عليك ايها المحمدي المترقب لتوفيق الحق في عموم احوالك وفقك الله على سلوك طريق توحيده ان تفرغ همك عما سوى الحق وتصفى سرك عن مطلق الشواغل المنافية لصرافة الوحدة الذاتية وكن في نفسك وجلا خائفا من غضب ربك راجيا من عفوه وغفرانه في عموم أعمالك التي جئت بها تقربا اليه سبحانه مفوضا أمورك كلها الى مشيته وبالجملة عليك ان تتذكر بوعيدات القرآن ومواعيده المستلزمة لصلاح الدارين وفلاح النشأتين وإياك إياك الاعراض عن الحق واهله والانحراف عن معالم الدين القويم المنزل من عنده سبحانه لتبيين مسالك توحيده. جعلنا الله وإياكم من زمرة الراسخين المتمكنين في معالم الدين القويم بمنه وجوده [سورة الذاريات] فاتحة سورة الذاريات لا يخفى على الموحدين المنكشفين بظهور الحق في مطلق المظاهر بوحدته الذاتية المتصفة بجميع الأوصاف

الآيات

الكاملة والأسماء الشاملة المحيط كل منها بعموم ما ظهر وبطن وغاب وشهد من ذرائر المظاهر والمجالى ان كل مظهر من مظاهر الحق باعتبار ظهور الحق فيه بذاته قابل لان يقسم به ويتيمن منه كما اقسم سبحانه في هذه السورة بما اقسم تنبيها وتعليما لعباده بظهوره في عموم مظاهره فقال بعد ما تيمن باسمه الأعظم الأعلى الذي هو بِسْمِ اللَّهِ المتجلى في الرياح المروحة لنفوس ارباب الطلب والارادة شوقا الى لقائه الرَّحْمنِ لهم يوقظهم عن سنة الغفلة الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى فضاء الوحدة [الآيات] وَالذَّارِياتِ اى وحق النسمات الروحانية المهبة من النفسات الرحمانية على وفق العناية الازلية بحيث تذرى وتبعث النفوس الخيرة الموفقة المجبولة على نشأة التوحيد ذَرْواً نوعا من الذرو والبعث المنبعث من محض المودة والمحبة على سبيل الشوق والتحنن نحو المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي فَالْحامِلاتِ من القوى والآلات الحامل كل منها وِقْراً حملا ثقيلا خطيرا من أعباء الوحى والإلهامات الإلهية المنتشئة من العلوم اللدنية والإدراكات الكشفية المنشعبة من حضرة العلم الحضوري الإلهي ولوح القضاء المحفوظ المتعلق بالمعارف والحقائق الإلهية الفائضة لبعض النفوس الزكية من ارباب العناية فَالْجارِياتِ اى سفن النفوس الزكية القدسية المشتملة على انواع المدارك والمشاعر الجارية في بحر الوجود يُسْراً سهلا بلا تثاقل وتكاسل أصلا فَالْمُقَسِّماتِ من الأسماء والصفات الإلهية الموسومات بالملائكة المقسمة لقوابل المظاهر أَمْراً اى عموم امور أرزاقهم ومطلق أجناس حظوظهم وانصبائهم من الفتوحات الصورية والمعنوية الفائضة الموهوبة لهم من قبل الحق حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية إِنَّما تُوعَدُونَ أنتم ايها المكلفون المجبولون على فطرة التوحيد والعرفان من البعث والحشر والحساب والجزاء وغير ذلك من المعتقدات الاخروية المترتبة على حضرة العلم المحيط الإلهي وحضرة قدرته الغالبة وارادته الكاملة لَصادِقٌ ثابت محقق وقوعه بلا شك وشبهة وَإِنَّ الدِّينَ والجزاء المعبر بهما عن الطامة الكبرى الموعود لكم في النشأة الاخرى المتفرع على أعمالكم وأفعالكم التي قد صدرت عنكم في النشأة الاولى لَواقِعٌ محقق وقوعه كائن قيامه وإتيانه بلا تردد وارتياب. ثم لما اقسم سبحانه بما يتعلق بعالم الأمر أراد ان يقسم بما يتعلق بعالم الخلق تتميما للتأكيد والمبالغة بالقسم باعتبار كلا العالمين فقال وَالسَّماءِ اى وحق السماء الرفيعة البديعة النظم العجيبة التركيب ذاتِ الْحُبُكِ اى الحسن والزينة وكمال الصفاء والبهجة والبهاء مع اشتمالها على الكواكب المضيئة المشيرة الى الطرق الموصلة الى كمال قدرة الصانع القديم ومتانة حكمة الحكيم العليم ان اليوم الموعود لبعثكم وجزائكم لآت البتة إِنَّكُمْ ايها الشاكون المترددون في شأنه وشأن من اخبر به بمقتضى الوحى والإلهام الإلهي وفي شأن ما نزل لتبيينه من الكتاب المبين لاعداد الزاد له وطريق النجاة عن أهواله وافزاعه لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ تنكرون له وتكذبون المخبر الصادق وتنسبونه وكتابه الى ما لا يليق بشأنهما من المفتريات الباطلة حيث تقولون انه سحر او من أساطير الأولين او كهانة اختلقها هذا الساحر الشاعر او كلام المجانين يتكلم به هذا المجنون يُؤْفَكُ ويصرف عَنْهُ صلّى الله عليه وسلّم وعن دينه وكتابه مَنْ أُفِكَ صرف عن الحق وقبوله ومال الى الباطل وسعى نحوه وبسبب إفكهم وذبهم عن طريق الحق والامتثال به قد قُتِلَ اى طرد ولعن على ألسنة عموم اهل الحق الْخَرَّاصُونَ المنكرون الكذابون المكذبون المسرفون من اصحاب القول المختلف ألا وهم الَّذِينَ هُمْ من شدة

[سورة الذاريات (51) : آية 12]

انصرافهم عن الحق واهله مغمورون فِي غَمْرَةٍ غفلة عظيمة وجهل متناه ساهُونَ عن الله وقدر ألوهيته وحقوق ربوبيته ومن كمال غفلتهم وشدة عمهم وسكرتهم يَسْئَلُونَ على سبيل التهكم والاستهزاء أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ اى متى يوم الجزاء والقيامة يا محمد وفي أى آن يأتينا عذاب الساعة وأهوالها قال الله تعالى سبحانه في جوابهم يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ اى يأتى عليهم العذاب والجزاء في يوم هم يحرقون فيه في النار ويطرحون عليها صاغرين مهانين ويقول لهم الموكلون حين طرحهم فيها توبيخا وتقريعا ذُوقُوا ايها المجرمون المسرفون فِتْنَتَكُمْ التي أنتم تستعجلون بها في دار الدنيا على سبيل الاستهزاء والمراء وبالجملة هذَا الَّذِي وقعتم فيه وحبستم عليه الآن من العذاب قد كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أنتم في سالف الزمان على سبيل الإنكار والاستكبار. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه إِنَّ الْمُتَّقِينَ الممتثلين بأوامر الله المجتنبين عن نواهيه الموردة في كتبه الجارية على ألسنة رسله الحافظين لنفوسهم عن الإفراط في الرخص والمباحات وكيف عن تفريط المحظورات والمحرمات المتلذذون باللذات الروحانية متمكنون فِي جَنَّاتٍ العلم والعين والحق وَعُيُونٍ جاريات من الحكم والمعارف اللدنية المستخرجة من ينابيع قلوبهم المترشحة إليها من بحر الوجود على مقتضى الجود الإلهي حسب استعداداتهم الفائضة لهم من لدنه سبحانه آخِذِينَ ما آتاهُمْ واعطاهم رَبُّهُمْ تفضلا عليهم وتكريما على وجه الرضاء بجميع ما جرى عليهم من مقتضيات القضاء إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ الفضل واللطف في النشأة الاولى مُحْسِنِينَ الأدب مع الله ورسله ومع خلص عباده عاكفين ببابه متوجهين نحو جنابه في عموم أوقاتهم وحالاتهم ومن جملة إحسانهم انهم قد كانُوا في دار الدنيا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ اى يرقدون قليلا من ساعات الليل وذلك ايضا بسبب ان لا يعرض لهم الكلال العائق من مواظبة الطاعات ومداومة العبادات وَهم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم وخشوعهم بِالْأَسْحارِ المعدة للتوجه والاستغفار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ دائما كأنهم يرون أنفسهم قاصرة عن رعاية حقوق العبودية على ما ينبغي ويليق بجناب الألوهية لذلك يبالغون في الانابة والاستغفار وَمع ذلك قد كان فِي أَمْوالِهِمْ وأرزاقهم المسوقة لهم من قبل الحق حَقٌّ حظ ونصيب مفروض مفروز مقدر مخرج هم يوجبونه على أنفسهم لِلسَّائِلِ السائر في سبيل الله المتعرض للسؤال مقدار ما يحتاج اليه وَالْمَحْرُومِ المتعفف عن ذل السؤال المتمكن في زاوية التوكل والتفويض. ثم أشار سبحانه الى حيطة وحدته الذاتية وشمولها على عموم ما ظهر وبطن في الآفاق والأنفس بالاستقلال والانفراد والى سر سريان هويته الذاتية على ذرائر الكائنات تنبيها للمريد المستبصر وايقاظا عن سنة الغفلة ونعاس النسيان فقال وَفِي الْأَرْضِ اى عالم المسببات والقوابل والاستعدادات المعبر عنها بالآفاق المعدة لظهور آثار القدرة الكاملة الإلهية عليها من العجائب والغرائب المتفرعة عن كمال العلم الحضوري الإلهي ووفور الحكمة المتقنة آياتٌ دلائل واضحات وشواهد لائحات دالة على قدرة الصانع الحكيم ووحدة ذاته واختياره في عموم تصرفاته واستقلاله في مطلق حكمه ومصالحه لِلْمُوقِنِينَ المنكشفين باليقين العلمي والعيني والحقي بل وَفِي أَنْفُسِكُمْ ايضا ايها المستبصرون المستكشفون عن سرائر الألوهية واسرار الربوبية شواهد ظاهرة تشهد على حقية الحق وتوحده في ظهوره ووجوده أَفَلا تُبْصِرُونَ ايها المجبولون على فطرة

[سورة الذاريات (51) : آية 22]

الكشف والشهود وَكذا فِي السَّماءِ اى عالم الأسماء والفواعل والأسباب المعبر عنها بالأعيان الثابتة رِزْقُكُمْ اى أرزاقكم الصورية والمعنوية المبقية لأشباحكم وأرواحكم وَكذا ما تُوعَدُونَ أنتم من الآجال المقدرة والاجزئة المترتبة على الأعمال والأفعال الصادرة عن هوياتكم الباطلة في نشأتكم الاولى والاخرى وحالاتكم الواقعة فيهما بطريق اللف والنشر. ثم اقسم سبحانه تأكيدا لما اومأ فقال فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ اى وبحق موجدهما ومربيهما على هذا النمط البديع والنظم الغريب العجيب إِنَّهُ في عموم ما يستدل بإيجاده وإظهاره على وجوده سبحانه وكمال علمه وقدرته ووفور حكمته ومتانة حكمه لَحَقٌّ ثابت محقق بل هو حق حقيق بالحقية وحيد بالقيومية فريد بالديمومية لا يعرض له زوال ولا يعتريه فترة وكلال وهو سبحانه في حقيته وتحققه مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ اى كما لا شبهة لكم في نطقكم وتلفظكم بالكلمات المنطوقة كذلك لا شبهة في حقية الحق وظهوره بل هو اظهر من كل ظاهر واجلى من كل جلى بل الكل انما يظهر به وبظهوره الا انكم بغيوم تعيناتكم الباطلة وظلام هوياتكم العاطلة تسترون شمس الحق الظاهر في الأنفس والآفاق بكمال الكرامة والاستحقاق. ثم ذكر سبحانه قصة ابراهيم الخليل المتحقق بمقام الكشف والشهود الفائض له من عنده سبحانه كمال المحبة والإخلاص والخلة والاختصاص مع ضيفه من الملائكة المكرمين فقال مستفهما لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم على سبيل العبرة والتذكير هَلْ أَتاكَ أو قد وصل إليك يا أكمل الرسل حَدِيثُ ضَيْفِ جدك إِبْراهِيمَ وقصة إلمام الملائكة عليه ونزولهم عنده على صورة الأضياف الْمُكْرَمِينَ لكرامتهم وحسن صورتهم وسيرتهم مع كمال كرامتهم ونجابتهم وحسن أدبهم سلموا وقت إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ وحضروا عنده بلا استيذان منه فَقالُوا سَلاماً ترحيبا وتكريما له اى نسلم سلاما عليكم يا خليل الله قالَ ابراهيم عليه السلام في جوابهم ظاهرا وان أنكر عليهم باطنا بدخولهم بلا استيذان سَلامٌ عليكم عدل الى الرفع لقصد الدوام والثبات ليكون رده أكمل من تسليمهم وهو عليه السلام وان بادر الى رد سلامهم الا انه قد أضمر في نفسه إنكارا عليهم لذلك قال في سره هؤلاء قَوْمٌ مُنْكَرُونَ لا اعرف نفسهم ولا أمرهم ولا شأنهم فَراغَ اى عدل ومال عنهم فجاءة إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ إذ كان اغلب مواشيه البقر فذبحه وطبخه فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ نزلا لهم فأبوا عن اكله فعرض عليهم وحثهم على الاكل كما هو عادة ارباب الضيافة حيث قالَ أَلا تَأْكُلُونَ منه فلم يأكلوا بعد العرض والاذن ايضا وبعد ما رأى منهم ابراهيم ما رأى من الآباء عن طعامه فَأَوْجَسَ وأضمر الخليل في نفسه مِنْهُمْ خِيفَةً خوفا ورغبا ظنا منه انهم انما امتنعوا عن طعامه ليقصدوا له سوأ. ثم لما تحسسوا ما تحسسوا من الرعب المفرط قالُوا له ازالة لرعبه لا تَخَفْ منا ولا تحزن عن امتناعنا من الاكل انا لسنا ببشر بل نحن ملائكة منزهون عن الاكل مرسلون من عند ربك لأمر عظيم قيل مسح جبرئيل العجل المشوى فحيي فقام يدرج ويدب حتى لحق بامه وبعد ما رأى ابراهيم منهم ما رأى وسمع ما سمع أمن منهم وَبعد ما امنوه وأزالوا عنه رعبه بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ إذ لم يكن له ابن مخلف عنه وكانت امرأته عجوزا عقيما عَلِيمٍ في كمال الرشد والفطنة وهو اسحق عليه السلام وبعد ما سمع الخليل منهم البشرى اخبر امرأته ثم لما سمعت استحالت واستبعدت فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة إليهم فِي صَرَّةٍ اى صرير وصيحة فَصَكَّتْ ولطمت

[سورة الذاريات (51) : آية 30]

وَجْهَها بأطراف أصابعها على ما هو عادة النسوان في إلمام الخطوب وَقالَتْ مشتكية انا عَجُوزٌ عَقِيمٌ عاقر كيف ألدا بنا بعد انقضاء أوانه وانصرام زمانه ثم لما شاهدوا منها ما شاهدوا قالُوا لها كَذلِكَ اى مثل الذي نخبرك ونبشرك قالَ رَبُّكِ وما علينا الا البلاغ والأمر بيد الله إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ في عموم أفعاله وآثاره الْعَلِيمُ بمطلق تدابيره وتقاديره وبعد ما جرى منهم ما جرى أخذ ابراهيم عليه السلام يسأل عن سبب نزولهم وارسالهم حيت قالَ فَما خَطْبُكُمْ اى أمركم وشأنكم الذي جئتم لأجله أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ أقبح الجرائم وافحش المنكرات يعنون قوم لوط المبالغين في الفعلة الشنيعة والديدنة القبيحة المتناهية في القبح والفحش وانما أرسلنا إليهم لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً متحجرة مِنْ طِينٍ يريد بها السجيل المركب من الحجر المسحوق مع الطين مُسَوَّمَةً اى معلمة كل منها باسم من رمى بها عِنْدَ رَبِّكَ ليكون جزاء لِلْمُسْرِفِينَ الذين قد أسرفوا في الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية سيما عن الطريق المعتاد لحكمة الإيلاد والاستيلاد ثم لما أردنا رجمهم وإهلاكهم فَأَخْرَجْنا باذن ربنا مَنْ كانَ فِيها اى في تلك القرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدقين بنبوة لوط ودينه الممتثلين بالأوامر والنواهي الإلهية الجارية على لسانه فَما وَجَدْنا وصادفنا فِيها اى تلك القرى بعد ما فتشنا وكشفنا عن أهلها غَيْرَ بَيْتٍ اى سوى اهل بيت فقط مِنَ الْمُسْلِمِينَ المتصفين الجامعين بين الايمان والتسليم وهو اهل بيت لوط عليه السلام وَبالجملة أهلكنا الكل وتَرَكْنا آثار هلاكهم واستئصالهم فِيها اى في الأرض التي تلك القرى فيها آيَةً امارة وعلامة مستمرة الى يوم القيامة لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ يعنى للقوم الذين يلونهم ويرون آثار العذاب النازل على اهل الجرائم والآثام فيمتنعون عنها ويعتبرون بها وَكذا قد تركنا ايضا فِي إهلاك مكذبي مُوسى الكليم آية عظيمة للمتذكرين المعتبرين اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ أَرْسَلْناهُ اى موسى اصالة وأخاه هارون معه تبعا له إِلى فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي المبالغ في العتو والعناد وقد أيدناه وقويناه عناية منابه بِسُلْطانٍ مُبِينٍ وحجة واضحة ظاهرة وبرهان لائح فَتَوَلَّى فرعون واعرض عن دعوته الى الايمان مستظهرا بِرُكْنِهِ اى بملائه وجنوده الذين يتقوى بهم ويركن إليهم في الخطوب والملمات وَقالَ في جوابه من كمال بطره وعناده هو ساحِرٌ في عموم ما اتى من الخوارق أَوْ مَجْنُونٌ يعمل له الجن جميع ما يظهر منه من الارهاصات الخارقة للعادات وبالجملة قد كذب وأنكر عليه ونسب معجزاته الى السحر واعمال الجن َخَذْناهُ غيرة منا عليه وتقوية وتأييدا لرسولنا جُنُودَهُ المظاهرين له نَبَذْناهُمْ وأغرقناهم ي الْيَمِّ وَهُوَ اى فرعون حينئذلِيمٌ نفسه بما يلام هو عليه من الكفر والعناد وانواع العتو والفساد نادم عن جميع ما صدر عنه وما ينفعه الندم حينئذ وَقد تركنا ايضا آية عظيمة للمعتبرين فِي إهلاك قوم عادٍ اذكر وقت إِذْ أَرْسَلْنا وسلطنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ لا يثمر نفعا سوى العقم والهلاك على وجه الاستئصال مع انهم قد أملوا نفعا عظيما فيها إذ ما تَذَرُ وتترك مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ وهبت عَلَيْهِ من الأنفس والماشي إِلَّا جَعَلَتْهُ وصيرته كَالرَّمِيمِ اى اليابس البالي من النبات وأوراق الأشجار وبالجملة قد صيرتهم هباء منثورا تذروه الرياح حيث شاءت وَكذا فِي ثَمُودَ وإهلاكهم قد تركنا آية عظيمة

[سورة الذاريات (51) : آية 44]

لأهل العبرة والاستبصار اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قِيلَ لَهُمْ على لسان نبيهم حين أردنا أخذهم وإهلاكهم تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ اى تمتعوا وترفهوا ثلاثة ايام فكذبوا المخبر وأنكروا عليه خبره فَعَتَوْا واستكبروا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وما تندموا وما تضرعوا مع ان المناسب لهم حينئذ هذا فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ الهائلة المهولة صبيحة اليوم الرابع وَهُمْ يَنْظُرُونَ إتيانها عيانا ولا يقدرون على دفعها بل فَمَا اسْتَطاعُوا وما قدروا مِنْ قِيامٍ ونهوض وحركة عن أمكنتهم التي كانوا متمكنين فيها عند ظهورها وَبالجملة ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ممتنعين من عذابنا منتقمين منا أصلا وَمثل ما أهلكنا المذكورين قد أهلكنا ايضا قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ اى قبل إهلاك هؤلاء الهلكى إِنَّهُمْ ايضا أمثال هؤلاء الطغاة البغاة الهالكين في تيه العتو والعناد قد كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن مقتضيات الحدود الإلهية بأنواع الكفر والفسوق والعصيان لذلك أهلكناهم بالطوفان وما كانوا منتصرين. ثم قال سبحانه إظهارا لكمال قدرته على انواع الانعام والانتقام وَالسَّماءَ بَنَيْناها يعنى كيف يسع لهم الآباء والامتناع عن مقتضيات قدرتنا والخروج عن ربقة انقيادنا واطاعتنا ومطلق عبوديتنا مع انا قد بنينا السماء المرفوعة المحفوظة بِأَيْدٍ غالبة وقدرة كاملة وَبالجملة إِنَّا لَمُوسِعُونَ قادرون غالبون بالاستقلال والاختيار على عموم الأفعال بحيث لا يعارض فعلنا ولا ينازع أمرنا وحكمنا مطلقا وَالْأَرْضَ ايضا قد فَرَشْناها ومهدناها بالاستقلال والاستيلاء التام فَنِعْمَ الْماهِدُونَ الباسطون نحن بلا مشاركة ومظاهرة وَمثل ما خلقنا العلويات فواعل مؤثرات والسفليات قوابل متأثرات مِنْ كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء الظاهرة الكائنة في بقعة الإمكان وعرصة الأزمان والمكان قد خَلَقْنا زَوْجَيْنِ صنفين مزدوجين لَعَلَّكُمْ ايها المجبولون في فطرة المعرفة والتوحيد المؤيدون بالعقل المفاض المنشعب من العقل الكل تَذَكَّرُونَ فتعلمون وتنكشفون ان الكل منا بدا وإلينا يعود ولا شيء سوانا موجود وبعد ما قد ثبت عندكم ايها الموحدون المحققون ان ظهور الكل منه ورجوعه اليه سبحانه فَفِرُّوا ايها العارفون الموحدون إِلَى اللَّهِ المسقط لعموم الإضافات عن مقتضيات عالم الناسوت وانخلعوا وتجردوا عن لوازم هوياتكم الباطلة وانانياتكم العاطلة وقل لهم يا أكمل الرسل على مقتضى شفقة النبوة إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ سبحانه نَذِيرٌ أنذركم عما يعوقكم من سلوك طريق توحيده مُبِينٌ مظهر لكم آداب الطريقة الموصلة الى مقصد الحقيقة التي هي الوحدة الذاتية الإلهية وَبالجملة لا تَجْعَلُوا اى لا تتخذوا ولا تعتقدوا مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الكثرة والتعدد مطلقا إِلهاً آخَرَ مستحقا للاطاعة والرجوع مستقلا في الوجود وما يترتب عليه من الآثار إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ أنذركم من الوعيدات الهائلة العاجلة والآجلة اللاحقة عليكم بالشرك والإشراك وانواع الفسوق والعصيان كَذلِكَ اى الأمر والحكم مثل ذلك يا أكمل الرسل انذرهم وبلغهم على وجهه بلا مبالاة باعراضهم واستهزائهم إذ ما أَتَى الضالين المسرفين الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ من الرسل الكرام إِلَّا قالُوا لهم وفي حقهم حين دعوتهم الى الايمان والتوحيد ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ مثل ما يقول هؤلاء الحمقى في شأنك يا أكمل الرسل. ثم قال سبحانه على سبيل التعجب والإنكار أَتَواصَوْا بِهِ أي أوصى بعضهم بعضا اى أسلافهم لا خلافهم بهذا القول والتكذيب فتواطؤوا عليه جميعا مع انه لا يمكنهم هذه التوصية في الازمنة

[سورة الذاريات (51) : آية 54]

الطويلة بَلْ هُمْ اى هؤلاء الأخلاف قَوْمٌ طاغُونَ مشاركون في البغي والطغيان والضلال والعدوان مع أسلافهم في مقتضيات فطرتهم ولوازم جبلتهم لذلك اتصفوا بما اتصفوا لاشتراك أسبابهم وبعد ما قد أصروا على ما هم عليه من العناد ولم ينفعهم الآيات والنذر فَتَوَلَّ عَنْهُمْ واعرض يا أكمل الرسل بعد ما بذلت وسعك في هدايتهم وإرشادهم فان لم يهتدوا فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على اعراضك عنهم وانصرافك عن إرشادهم ودعوتهم بعد التبليغ وَذَكِّرْ للقابلين المستحقين فَإِنَّ الذِّكْرى والعظة تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ الموفقين من لدنا على الايمان المجبولين على فطرة اليقين والعرفان وَاعلم يا أكمل الرسل انى بمقتضى حكمتى ومصلحتي ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وما أظهرت أشباحهم واظلالهم على هذه الهياكل والهويات وما صورتهم على هذه الصور البديعة وما أودعت فيهم ما أودعت من جوهر العقل المفاض إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ويعرفوني ويتحققوا بوحدة ذاتى وكمالات أسمائي وصفاتي وباستقلالى في وجودى وفي عموم تصرفاتي في ملكي وملكوتي وباستحقاقى للاطاعة والعبودية مطلقا بلا شوب شركة ومظاهرة من احد والا ما أُرِيدُ وما اطلب مِنْهُمْ بخلقهم واظهارهم مِنْ رِزْقٍ اى تحصيل رزق صورى او معنوي ارزق به عبادي إذ خزائن ارزاقى مملوة وذخائر رحمتي متسعة وَما أُرِيدُ ايضا منهم أَنْ يُطْعِمُونِ الأعلى الفقراء الذين هم عيالي طلبا لمرضاتى كما جاء في الحديث صلوات الله على قائله يقول الله سبحانه استطعمتك فلم تطعمني اى لم تطعم عبدى الجائع وكيف يريد منهم سبحانه أمثال هذا إِنَّ اللَّهَ المتوحد بالالوهية والربوبية هُوَ الرَّزَّاقُ المنحصر المخصوص في ترزيق عموم العباد إذ لا رازق لهم سواه وهو ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ والطول العظيم وهو الحاكم المقتدر الغالب على عموم مراداته ومقدوراته على وجه الاحكام من الانعام والانتقام وبالجملة فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأنواع التكذيب والإنكار والاستهزاء والاستحقار ذَنُوباً اى حظا وافرا ونصيبا كاملا من العذاب العاجل والآجل مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ اى مثل نصيب أسلافهم من الكفرة المكذبين للرسل الماضين وسيلحقهم مثل ما لحقهم بل أضعافه وآلافه فَلا يَسْتَعْجِلُونِ لحوقه وحلوله أولئك المنكرون وبالجملة فَوَيْلٌ عظيم وعذاب شديد هائل نازل لِلَّذِينَ كَفَرُوا ستروا الحق واعرضوا عنه وأظهروا الباطل وأصروا عليه عنادا مِنْ يَوْمِهِمُ الفظيع الفجيع الَّذِي قد كانوا يُوعَدُونَ به في النشأة الاولى ألا وهو يوم القيامة والطامة الكبرى المعدة لتعذيب العصاة الغواة وتفضيحهم فيها. جعلنا الله من الآمنين الناجين من عذابه بفضله ولطفه خاتمة سورة الذاريات عليك ايها الموحد المجبول على فطرة المعرفة والتوحيد واليقين ان تتفكر في حكمة ظهورك ومصلحة بروزك من كتم العدم وتتدبر في معرفة نفسك في عموم احوالك لينكشف لك من التأمل فيها الاطلاع على موجدها ومظهرها وعلى اتصافه بالأوصاف الكاملة والأسماء الشاملة ثم منها الى توحيده واستقلاله في الوجود وعموم الآثار المترتبة عليه حتى تفوز الى غاية قصواك ونهاية مبتغاك من اليقين والايمان وكمال ما يترتب على ظهورك من التوحيد والعرفان والله المستعان وعليه التكلان

سورة الطور

[سورة الطور] فاتحة سورة الطور لا يخفى على من تحقق بمقام القلب وتمكن في مقعد صدق المغرفة والتوحيد ان ذات الحق وحيطة حضرة علمه وسعة لوح قضائه وشمول قلم تقديره وتدبيره مما لا يكتنه مطلقا لا ذاته ولا أوصافه وأسماؤه بل لا نهاية لحيطتها ولا غاية لحصرها وشمولها لذلك اقسم سبحانه بذاته العظيم وعلمه العميم ووصفه القديم تعليما لعباده وتنبيها لهم نحو مبدئهم ومعادهم فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى في عموم ما تجلى حسب أسمائه الحسنى وأوصافه العليا الرَّحْمنِ عليهم بالرزق الأوفى الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى سدرة المنتهى [الآيات] وَالطُّورِ اى وحق الذات المقدس في ذاته عن الظهور والبطون المنزه في تحققه وثبوته عن البروز والكمون وَكِتابٍ مَسْطُورٍ الذي هو حضرة العلم الإلهي الذي قد سطر بالقلم الأعلى فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ هو لوح القضاء المحفوظ عن التناهى والانقضاء المحروس عن مطلق التغير والانمحاء وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الإلهي الذي هو عبارة عن قلب العارف المحقق المتحقق بمقام الفناء عن الفناء الواصل بدوام التحقق والبقاء ببقاء ذي العظمة والكبرياء المعبر بها عن عالم العماء اللاهوتى الذي هو سواد أعظم الفقر وبيت الله الأعظم الأكبر وَحق السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ الذي هو سماء الأسماء الإلهية والصفات المقدسة المنزهة عن مطلق التعديد والإحصاء إذ الكمالات المترتبة على نشأة الوجود وتجليات الذات غير متناهية وغير منقطعة وغير متكررة قطعا وَحق الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ الذي هو كناية عن مطلق الوجود البحت المحيط بالكل بمقتضى الجود إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل لعصاة عباده لَواقِعٌ نازل عليهم في يوم الحشر والجزاء ما لَهُ مِنْ دافِعٍ لان من قدر على أمثال هذه المقدورات واتصف بهذه الأسماء والصفات بالأصالة والاستحقاق لا يعارض حكمه ولا يدفع قضاؤه اذكر يا أكمل الرسل للمكذبين المنكرين للحشر والنشر كيف حالهم يَوْمَ تَمُورُ تتحرك وتضطرب السَّماءُ مَوْراً اضطرابا غريبا وتحركا بديعا لا على الوجه المعتاد الى حيث قد طويت ولفت كطي السجل للكتاب وَتَسِيرُ الْجِبالُ الرواسي الرواسخ سَيْراً عجيبا غريبا بحيث قد تفتتت وتلاشت اجزاؤها ولم يبق سمكها ورفعتها مطلقا وتصير الأرض قاعا صفصفا بحيث لا ترى فيها عوجا ولا امتا فَوَيْلٌ عظيم وعذاب شديد يَوْمَئِذٍ واقع لِلْمُكَذِّبِينَ المسرفين المصرين الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ في الأباطيل الزائغة يَلْعَبُونَ بآيات الله الدالة على وحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يُدَعُّونَ يطرحون ويدفعون إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا طرحا ودفعا على وجه العنف والزجر المفرط مشدودى الأيدي والأعناق بالسلاسل والأغلال فيقول لهم حينئذ تفضيحا وتوبيخا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وتنكرون الآيات والنذر الواردة في شأنها وتنسبونها الى السحر والكهانة وغير ذلك من الخرافات وأنتم ايها المنهمكون في الضلال والطغيان والكفر والكفران في سالف الزمان قد كنتم نسبتم الوحى والإلهام الى السحر والأوهام تأملوا الآن أَفَسِحْرٌ هذا الذي أنتم تطرحون فيها وتعذبون بها كما زعمتم فيما مضى أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ولا تشعرون بها وبحرها وحرقها كما قد كنتم لا تشعرون بالآيات الواردة في شأنها حينئذ وبالجملة اصْلَوْها وادخلوا فيها وبعد دخولكم فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا وعلى أى وجه تصيرون وتكونون لا مخلص لكم عنها ولا مخرج منها بل

[سورة الطور (52) : آية 17]

سَواءٌ عَلَيْكُمْ الصبر وعدمه اى في عدم النفع والدفع إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى ما تجزون بهذا الجزاء الا بما كسبتم لأنفسكم واعددتم فيلحقكم الآن وبال ما اقترفتم فيما مضى حتما على مقتضى العدل الإلهي فلا ينفعكم الصبر والاضطراب. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه من تعقيب الوعيد بالوعد إِنَّ الْمُتَّقِينَ المتحفظين في النشأة الاولى نفوسهم عن محارم الله المحترزين عن انكار آياته الواردة في الوعد والوعيد متلذذون في النشأة الاخرى فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ أية جنات وأى نعيم رياض الرضاء ونعيم التسليم فاكِهِينَ مترفهين مسرورين فيها مطمئنين راضين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ بمقتضى فضله وسعة جوده ولطفه وَبما وَقاهُمْ وحفظهم رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ اى عن أهوالها وافزاعها فيقال لهم فيها على سبيل التبشير والتفريح كُلُوا وَاشْرَبُوا من الرزق الصوري والمعنوي هَنِيئاً بلا تنقيص وتكليف بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اى بسبب صالحات أعمالكم وحسنات أفعالكم مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ معدة لهم مَصْفُوفَةٍ منضودة وفق أعمالهم وأحوالهم ومواجيدهم ومقاماتهم وَبعد ما تمكنوا على السرر مسرورين زَوَّجْناهُمْ وقرناهم استيناسا منا إياهم بِحُورٍ عِينٍ مصورة من المعارف والحقائق المنكشفة لهم المشهودة بعيون بصائرهم وَقرناهم ايضا عناية منا لهم مع إخوانهم ورفقائهم من الموحدين الَّذِينَ آمَنُوا بالله وانكشفوا بتوحيده وَاتَّبَعَتْهُمْ ايضا ولحقت معهم ذُرِّيَّتُهُمْ اى جميع ما تشعب وتفرع من أولادهم وأعمالهم الصادرة عنهم حال كونهم متصفين بِإِيمانٍ يقيني وتصديق قلبي قبل وصولهم الى اليقين العيني والحقي بل قد أَلْحَقْنا بِهِمْ ايضا ذُرِّيَّتُهُمْ اى مشاهداتهم ومكاشفاتهم الواردة عليهم حسب مواجيدهم ومقاماتهم وحالاتهم بعد اتصافهم باليقين العيني والحقي وَبالجملة ما أَلَتْناهُمْ وما نقصنا عنهم مِنْ جزاء عَمَلِهِمْ الناشئ منهم الصادر عنهم في طريق الهداية والرشد مِنْ شَيْءٍ قليل نزر يسير بل قد وفرنا عليهم جزاء الكل مع مزيد عليهم تفضلا منا وإحسانا من لدنا إذ كُلُّ امْرِئٍ ذي هوية شخصية مجبولة لحكمة المعرفة ومصلحة التوحيد بِما كَسَبَ ومع ما اقترف من الأسباب والوسائل الى درجات الجنان او الى دركات النيران رَهِينٌ مرهون مقرون لا ينفصل عنها ولا ينقطع امدادنا إياهم بل وَأَمْدَدْناهُمْ تفضلا منا عليهم وتكريما لهم بِفاكِهَةٍ من المعارف والحقائق الواردة المتجددة آنا فآنا حسب الشئون الإلهية وتجلياته الجمالية والجلالية وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ومما يتقتون لتقوى به أشباحهم وأرواحهم يَتَنازَعُونَ ويتجاذبون على سبيل الملاطفة والملاينة فِيها كَأْساً من رحيق التحقيق مع انه لا لَغْوٌ فِيها من فضول الكلام وَلا تَأْثِيمٌ من قبح الأفعال المستلزمة لانواع الآثام كما هو عادة الشاربين في الدنيا وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ بكأس التحقيق ورحيق اليقين غِلْمانٌ متعلقة لَهُمْ مصورة من قواهم المدركة المملوكة لهم المسخرة لنفوسهم المطمئنة الراضية المرضية بمقتضيات القضاء الإلهي كَأَنَّهُمْ من غاية الصفاء عن كدر الهوى ورعونات الرياء لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مصون محفوظ في أصداف أشباحهم عن التلطخ بقاذورات الدنيا الدنية وعن التلوث بخبائث الآراء والأهواء الفاسدة وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ بطريق المسرة والانبساط يَتَساءَلُونَ عن أعمالهم وأحوالهم ومواجيدهم ومقاماتهم التي كانوا عليها في نشأة الابتلاء حيث قالُوا اى بعضهم في جواب بعض على وجه المذاكرة والمواساة

[سورة الطور (52) : آية 27]

إِنَّا كُنَّا قَبْلُ اى قبل انكشافنا بسرائر التوحيد فِي أَهْلِنا اى بين أبناء الدنيا مُشْفِقِينَ خائفين عن غضب الله محترزين عن عصيانه وطغيانه مشتغلين بطاعته وجلين عن بطشه وسخطه وعن سطوة سلطنة قهره وجلاله راجين من سعة رحمته وموائد جوده وكرمه فَمَنَّ اللَّهُ المكرم المتفضل عَلَيْنا وهدانا الى طريق التوحيد ووفقنا للعروج الى معارج العناية والتحقيق وَوَقانا بلطفه عَذابَ السَّمُومِ اى عن عذاب النار المحرقة النافذة في عموم المسامات مثل السموم إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا قبل حلول الساعة وقيام القيامة نَدْعُوهُ سبحانه ونتضرع نحوه ونسأل منه الحفظ والوقاية من عذابه ونكاله سبحانه في هذا اليوم الهائل الموعود وكيف لا نسأل منه إِنَّهُ سبحانه هُوَ الْبَرُّ المحسن المخصوص المنحصر على الإحسان والانعام الرَّحِيمُ كثير الرحمة والامتنان سيما على السائلين المؤملين المستحقين فأجاب سبحانه سؤالنا وأنجح آمالنا بمقتضى سعة رحمته وجوده وبعد ما قد سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت من فضل الله ولطفه وسعة رحمته وجوده مع أوليائه فَذَكِّرْ واثبت أنت على العظة والتذكير لعموم عباد الله وبلغهم عموم ما اوحى إليك من لدنا ولا تبال باعراضهم وانصرافهم عنك وبقولهم الباطل في حقك فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ التي هي الآيات المنزلة إليك الملهمة لك من ربك بِكاهِنٍ مبتدع مجترئ على الاخبار عن المغيبات بلا وحى من قبل الحق والهام من جانبه وَلا مَجْنُونٍ مختل العقل مخبط الرأى كما يزعم في شأنك المسرفون المفترون المفرطون أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ يعنى بل لا تلتفت يا أكمل الرسل ايضا الى قولهم بانك شاعر فصيح بليغ قد بلغت الى درجة أعلى من البلاغة بحيث قد عجز عن معارضتك اقرانك من البلغاء فنحن نَتَرَبَّصُ وننتظر بِهِ اى بانقضائه وهلاكه رَيْبَ الْمَنُونِ اى مر الأيام وكر الشهور والأعوام الى ان يموت فنتخلص يومئذ من فتنته وشدته قُلْ لهم يا أكمل الرسل على سبيل المجاراة بعد ما سمعت منهم ما سمعت تَرَبَّصُوا وانتظروا لمقتي وموتى ايها المفسدون المفرطون فَإِنِّي ايضا مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ المنتظرين لمقتكم وهلاككم والأمر بيد الله والحكم مفوض الى مشيته موكول الى ارادته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد أَمْ يكابرون في هذه الاحكام المتناقضة مجادلة ومراء إذ ينسبونك مرة الى الكهانة المتضمنة لكمال الفطانة ومرة الى الجنون المنبئ عن نهاية البلادة وتارة الى الشعر المستلزم لحفظ الوزن والقافية مع ان ما جئت به من الكلام عار عن الوزن خال عن القافية مطلقا بل تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ السخيفة المستمدة من اوهامهم الضعيفة بِهذا القول الباطل الزاهق الزائل أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ باغون متناهون في العتو والفساد والعناد وقد صدر عنهم أمثال هذه الهذيانات بلا تأمل وتدبر بمقتضى عتوهم وثروتهم وكبرهم وخيلائهم كما هو عادة ارباب النخوة واصحاب الجاه والثروة خذلهم الله واهلكهم بها أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ واختلقه من تلقاء نفسه ونسبه الى الوحى والإلهام تغريرا وتزويرا بَلْ معظم أمرهم وقصارى رأيهم ومآل شأنهم انهم لا يُؤْمِنُونَ لا به ولا بك يا أكمل الرسل لذلك يتفوهون بأمثال هذه المطاعن والقوادح من شدة شكيمتهم وغلظ غيظهم وضغينتهم معك وبعد ما قد بالغوا في القدح والطعن وبلغوا غاية الإنكار والإصرار قل لهم يا أكمل الرسل على وجه التعجيز والتبكيت فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ أولئك المسرفون المفرطون إِنْ كانُوا صادِقِينَ في زعمهم ومفترياتهم مع انهم لم يأتوا بل لا يتأتى منهم الإتيان ايضا وان

[سورة الطور (52) : آية 35]

تظاهروا وتعاونوا بعموم من في الأرض إذ هو خارج عن طور البشر ومشاعره مطلقا أيصرون أولئك الحمقى المصرون على انكار الخالق مع انهم مخلوقون أَمْ اعتقدوا انهم قد خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ وبلا فاعل خارج موجد مؤثر أَمْ اعتقدوا نفوسهم انهم هُمُ الْخالِقُونَ المستقلون في إيجاد هياكلهم بلا مؤثر خارجى أيحصرون حينئذ خالقيتهم لأنفسهم فقط أَمْ اعتقدوا انهم قد خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ اى العلويات والسفليات والممتزجات جميعا وبالجملة هم حينئذ لا ينكرون حدوث الأشياء واستنادها الى المحدث المؤثر إذ هي من اجلى البديهيات بَلْ لا يُوقِنُونَ ولا يتصفون باليقين في اثبات الموجد القويم وتوحيده أهم يثبتون مرتبة النبوة من تلقاء أنفسهم ويختارون لها من يريدون ويرجحون حسب آرائهم الباطلة العاطلة أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ فيحكمون منها ما يحكمون أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ الغالبون المقتدرون على عموم مقاصدهم ومطالبهم فيفعلون عموم ما يأملون بالإرادة والاختيار أَمْ ادعوا علم الغيب بالاستماع من الملاء الأعلى أم لَهُمْ سُلَّمٌ ومرقاة يصعدون بها الى مكان من السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ من الملائكة ما يظهرون به على تكذيب الرسول وقدح القرآن وغير ذلك من مزخرفاتهم فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ وحجة واضحة ومعجزة ساطعة قاطعة كما اتى بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم أأنتم العقلاء المتصفون بكمال الرشد والرزانة ايها المسرفون المفرطون أَمْ أنتم السفهاء المنحطون عن زمرة العقلاء مع ان دعواكم بانه لَهُ سبحانه الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ تدل على سفاهتكم وانحطاطكم عن مقتضى العقل إذ اثبات الولد مطلقا للواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الأهل والولد بعيد بمراحل عن مقتضى العقل فكيف اثبات اخس الأولاد له سبحانه تعالى عما يقولون علوا كبيرا فثبت ان أولئك الحمقى سفهاء ساقطون عن رتبة العقلاء وعن اهل العبرة والذكاء فلا يسمع منهم مطلق الدعوى سيما في الأمور الضرورية أينكرون رسالتك ويظنون لحقوق الضرر إياهم منك أَمْ يظنون انك بسبب تبليغك إياهم الوحى والإلهام الإلهي تَسْئَلُهُمْ وتطلب منهم أَجْراً جعلا عظيما فَهُمْ حينئذ مِنْ مَغْرَمٍ والتزام غرامة عظيمة مُثْقَلُونَ متحملون الثقل لذلك قد شق عليهم الأمر الى حيث انكروك وانصرفوا عن الايمان بك وعن تصديقك ليتخلصوا عنه وبالجملة أينكرون رسالتك يا أكمل الرسل من تلقاء أنفسهم وحسب قرائحهم الركيكة أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ اى لوح القضاء المثبت فيه عموم الأشياء فَهُمْ يَكْتُبُونَ المغيبات منه ويظهرون بها أَمْ يُرِيدُونَ ويقصدون كَيْداً لرسول الله في دار الندوة فَالَّذِينَ كَفَرُوا وقصدوا مكرا عليه صلّى الله عليه وسلم هُمُ الْمَكِيدُونَ الممكورون المقصورون على كيدهم ومكرهم لا يتجاوز عنهم وباله وبالجملة أينكرون توحيد الحق مكابرة أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعبدونه كعبادته ويطيعون له مثل أطاعته ويستعينون منه في الخطوب والملمات مثل اسئلتهم من الله وبالجملة سُبْحانَ اللَّهِ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ له من أدون مخلوقاته واخس مصنوعاته وَبعد ما قد الحوا واقترحوا بقولهم فاسقط علينا كسفا من السماء إِنْ يَرَوْا كِسْفاً قطعا مِنَ السَّماءِ ساقِطاً عليهم حسب اقتراحهم يَقُولُوا من شدة عنادهم وفرط انكارهم وتركب جهلهم المركوز في جبلتهم ما هذا الا سَحابٌ مَرْكُومٌ قد تراكم بعضه على بعض فيسقط وبالجملة فَذَرْهُمْ يا أكمل الرسل واتركهم على ما هم عليه من العدوان والطغيان حَتَّى يُلاقُوا ويصلوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يموتون ويهلكون بالمرة وهو عند

[سورة الطور (52) : آية 46]

النفخة الاولى ثم يحشرون ويعذبون يَوْمَ اى يومئذ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ولا يدفع كَيْدُهُمْ الذي أتوا به في دار الندوة والابتلاء شَيْئاً من الدفع والإغناء في رد عذاب الله وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ولا يمنعون حينئذ من بطشه وعذابه بل هم مع ذلك لا يمهلون الى العذاب الآجل ايضا بل يعذبون في العاجل والبرزخ ايضا بأنواع العذاب والنكال كما قال سبحانه وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ العذاب الأخروي الموعود لهم ألا وهو وقوعهم في نيران الإمكان بأنواع الخيبة والخسران وتقيدهم فيها بسلاسل الآمال الطوال وأغلال الأماني وأنكال اللذات والشهوات المتواردة عليها والمصيبات المتعاقبة إياهم في عموم الأوقات والساعات بحيث لا يسع لهم التنفس لحظة خلصنا الله وعموم عباده عن أمثاله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ولا يفهمون المها مع انها من أشد العذاب ايلاما وأصعب الوبال والنكال انتقاما أعاذنا الله وعموم عباده منها وَبالجملة اصْبِرْ يا أكمل الرسل لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم الى قيام الساعة وابقاءك فيما بينهم بأنواع التعب والعناء ولا تستعجل لمقتهم وهلاكهم ولا تخف من مكرهم وكيدهم معك وغدرهم عليك فَإِنَّكَ محفوظ بِأَعْيُنِنا وكنف حفظنا ووفور حراستنا وحضانتنا نكفيك ونكف عنك مؤنة شرورهم ولا تلتفت إليهم ولا تبال بمكرهم وكيدهم ولا تشتغل عنا بهم وبمخاصمتهم ونزاعهم وَسَبِّحْ اى نزه ربك عن ان يعجز عن أخذهم وانتقامهم او عن انجاز ما وعد لك من تعذيبهم وكن مشغولا بِحَمْدِ رَبِّكَ في عموم أوقاتك وحالاتك سيما حِينَ تَقُومُ من منامك وَمِنَ اللَّيْلِ حين استراحتك فيه فَسَبِّحْهُ لتكون على ذكر من ربك حين رقودك وركود حواسك ليكون ذكرك حينئذ توصية منك بمتخيلتك وإرشادا لها وتعليما إياها وَسبحه ايضا إِدْبارَ النُّجُومِ اى وقت دبور النجوم وغبورها وظهور ضياء الشمس من الشرق وشروقها فان كلا الوقتين وقت فراغ البال عن مطلق التشتت والاشغال العائقة عن التوجه جعلنا الله ممن خفف أثقاله وقلل آماله بمنه وجوده خاتمة سورة الطور عليك ايها المحمدي المتوجه نحو المقام المحمود الذي هو مرتبة الكشف والشهود هداك الله الى سواء السبيل ووقاك عن مطلق التغير والتبديل ان تخلى خلدك عن الركون الى ما سوى الحق وعن الالتفات الى عموم ما يشغلك عن التوجه اليه والتحنن نحوه وعليك الاشتغال بالتسبيح والتقديس في عموم أوقاتك وحالاتك سيما في أثناء صلواتك وتهجداتك في خلال خلواتك وإياك إياك الميل الى مزخرفات الدنيا ولذاتها وشهواتها والاختلاط مع ابنائها المنغمسين بقاذوراتها فان التلطخ بزخرفة الدنيا يكل الأبصار ويعمى القلوب التي في الصدور. خفف عنا بلطفك ثقل الأوزار وارزقنا بفضلك وجودك عيشة الأبرار واصرف عنا بمقتضى كرمك شر الأشرار التي هي عبارة عن زخرفة الدنيا الغدار الغرار [سورة النجم] فاتحة سورة النجم لا يخفى على المتحققين بمقام الكشف والشهود والمنجذبين نحو الحق بشراشرهم بلا تلعثم وتلوين ان من تمكن في مرتبة المعرفة وتقرر في مقر التوحيد مصفيا سره وسريرته عن مكدرات التخمين والتقليد بحيث قد صار فانيا في الله باقيا ببقائه متكلما بكلامه متخلقا بأخلاقه متصفا بأوصافه سبحانه

الآيات

حسب ما يسر الله له ويفيض عليه ويظهرها منه ويحكمها عليه ومن كان شأنه هذا وامره هكذا كان فانيا في الله باقيا ببقائه مستغرقا بمطالعة لقائه فلا بد وان يكون صادقا صدوقا هاديا مهديا مترصدا منتظرا في طريق الحق مترقبا للوحى والإلهام الإلهي مستنشقا من نسمات نفسات الرحمن متعرضا لنفحات الروح والريحان من رياض الجنان متشوقا الى لقاء الحنان منسلخا عن لوازم الناسوت منجذبا نحو فضاء اللاهوت فجرى عليه عموم ما جرى على وفق التسليم والرضاء بجميع ما قد ثبت له في لوح القضاء لذلك اخبر سبحانه عن استغراق حبيبه صلّى الله عليه وسلّم وانجذابه بالمرة نحو مبدئه واتصاله بعالم اللاهوت وحضرة الرحموت بعد كمال انخلاعه عن كسوة عالم الناسوت واقسم سبحانه بما اقسم تأييدا لأمره وتعظيما لشأنه فقال بعد ما تيمن باسمه العلى الأعلى بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا على حبيبه صلّى الله عليه وسلم الرَّحْمنِ بعموم عباده بإظهار مرتبته صلّى الله عليه وسلّم فيما بينهم الرَّحِيمِ لخواصهم المهتدين بهدايته وإرشاده صلّى الله عليه وسلم حيث يوصلهم الى مرتبة حق اليقين [الآيات] وَالنَّجْمِ إِذا هَوى يعنى وبحق الجذبات العلية الإلهية المتشعشعة اللامعة كالنجوم الثواقب الهوية والخطفات القوية النازلة لقلوب ارباب الارادة الصافية والعزيمة الخالصة المختلفة لهم من قبل عالم اللاهوت ليهتدوا بها في ظلمات التعينات الى فضاء الوحدة الذاتية وشمس الحقيقة الحقية ما ضَلَّ اى ما انحرف وما عدل صاحِبُكُمْ يعنى رسولكم المؤيد من عند الله المستوي على صراط العدالة الإلهية عن طريق التوحيد والتحقيق وَما غَوى اى ما ضل وما انصرف في سلوك سبيل الله نحو الباطل الزاهق الزائغ وَما يَنْطِقُ وما يتكلم ويتفوه بالقرآن المعجز عَنِ الْهَوى الناشئ من ظلمات الطبيعة والهيولى بل إِنْ هُوَ اى وما القرآن الذي ينزل اليه صلّى الله عليه وسلّم ويتكلم هو صلّى الله عليه وسلّم به إِلَّا وَحْيٌ يُوحى اليه من عند ربه بلا تصنع له فيه وتكلف من جانبه بل قد عَلَّمَهُ عناية به وتكريما له وتأييدا لشأنه صلّى الله عليه وسلّم وتعظيما له شَدِيدُ الْقُوى اى الحق الذي لا حول ولا قوة في الوجود الا منه وبه وله إذ لا موجود غيره ولا اله سواه وهو سبحانه ذُو مِرَّةٍ قوة كاملة وقدرة شاملة ذاتية محيطة لعموم ما ظهر وبطن من المظاهر والمجالى وبعد تعليم الحق له وتقويته وتأييده إياه صلّى الله عليه وسلم فَاسْتَوى واعتدل صلّى الله عليه وسلّم على صراط العدالة وتمكن في مرتبة الخلافة والنيابة الإلهية وَهُوَ من كمال تربية الحق وتأييده إياه قد تمكن واستعلى بِالْأُفُقِ الْأَعْلى الذي هو أفق عالم اللاهوت ومطلع شمس الذات الاحدية من مشرق عالم العماء الذي هو نور على نور وحضور في حضور لا يطرأ عليه افول ودبور وغروب وغبور ثُمَّ دَنا وتقرب صلّى الله عليه وسلّم الى ربه فَتَدَلَّى ولحق وتعلق صلّى الله عليه وسلّم به سبحانه نوع تعلق وتحقق الى حيث تحقق فَكانَ قرب ما بينهما قابَ قَوْسَيْنِ اى مقدار قوسي الوجوب والإمكان الحافظين لمرتبتى الربوبية والعبودية أَوْ أَدْنى واقرب منهما لفناء حصة الناسوت مطلقا في حصة اللاهوت وبقائها ببقاء حضرة الرحموت وبعد ما صار صلّى الله عليه وسلّم ما صار وقرب الى حيث قرب فَأَوْحى والهم سبحانه إِلى عَبْدِهِ صلى الله عليه وسلّم الذي هو سبحانه اقرب اليه من نفسه ما أَوْحى من المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات اللدنية الفائضة عليه من لدنه سبحانه الخارجة عن طور ناسوته وطوق بشريته مطلقا فرأى صلّى الله عليه وسلّم حينئذ ما رأى وانكشف ووجد ما وجد وذاق ما ذاق وبالجملة ما كَذَبَ

[سورة النجم (53) : آية 12]

الْفُؤادُ اى فؤاده صلّى الله عليه وسلّم الذي هو من مقتضيات عالم اللاهوت المتمكن في قلوب ذوى العناية واولى الألباب على وجه الوديعة من قبل الحق ما رَأى وشهد حين وصوله ولحوقه بالأفق الأعلى اللاهوتى أَتنكرون انكشافه وشهوده صلّى الله عليه وسلم ايها المحجوبون المحرومون عن وجد الوجود وذوق الشهود فَتُمارُونَهُ وتجادلون معه على سبيل المكابرة والمراء عَلى ما يَرى يعلم وينكشف له من الذوقيات والوجدانيات التي قد تأبى عنها عقولكم وتعمى بصائركم وأبصاركم ولا يمكن القاؤها وكشفنا إياها لكم وكيف تنكرون وتستبعدون منه صلى الله عليه وسلّم أمثال هذا وَالله لَقَدْ رَآهُ ما رأى من الشهودات التي تدهش منها عقول العقلاء وتتحير عندها اوهامهم وخيالاتهم نَزْلَةً أُخْرى مرة قبل عروجه ووصوله الى الأفق الأعلى والمقام الأدنى الذي هو اليقين الحقي وتلك النزلة الاخرى والوقعة العظمى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى التي ينتهى إليها ودونها اليقين العلمي والعيني إذ عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى التي يأوى إليها ارباب العناية شوقا الى لقاء الله ألا وهو موعد الرؤية والعيان ومقام التوحيد والعرفان الموعود على اهل العيان عند الحق المنان إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ المعهودة اى يغطى الموعد الموعود ويحيط به ما يَغْشى ويستر من السبحات الجلالية ومن التجليات الإلهية المتشعشعة حسب الشئون المتجددة المحيرة للعيون النواظر من ارباب المحبة والولاء الوالهين بمطالعة وجه الله الكريم وبالجملة ما زاغَ الْبَصَرُ اى ما مال وما انحرف بصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند تعاقب التجليات الإلهية وترادف شئوناته الغيبية وتجدد تطوراته الجمالية والجلالية وتشعشع شمس ذاته حسب أسمائه وصفاته العلية عن شهود وحدة ذاته ولم يشغله صلّى الله عليه وسلّم شيء منها عن استغراقه صلّى الله عليه وسلّم بمطالعة وجه الله الكريم وَما طَغى وما مال وما انحرف بصره وقت رؤيته ونظره او ما خرج نفسه صلّى الله عليه وسلّم عند رؤية ما رأى من العجائب عن ربقة الرقية وعروة المربوبية أصلا بل قد التزم وتمكن حينئذ بقيام ما لزم من آداب العبودية ولوازم الإطاعة والانقياد اكثر مما التزمها قبل انكشافه والله لَقَدْ رَأى صلّى الله عليه وسلّم في ليلة الإسراء مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى التي هي من آيات ربه الذي رباه على رؤية آياته الكبرى ما لا يراه احد من المكاشفين ولا ملك مقرب ولا نبي مرسل من بنى نوعه أَتنكرون ايها الجاهلون الجاحدون بوحدة الحق عز شأنه وجل برهانه وبانكشاف حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بوحدته وبلوازم ألوهيته وربوبيته وبرسالته من عنده سبحانه الى عموم بريته وكافة خليقته ليرشدهم الى الايمان بالله والى توحيده فَرَأَيْتُمُ أثبتم وأخذتم الأصنام العاطلة الباطلة شركاء لله مشاركين معه في ألوهيته وربوبيته يعنى الاولى اللَّاتَ والثانية الْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى مع ان هؤلاء الهلكى ما هي الا جمادات لا شعور لها ولا يصدر شيء منها وأعظم من ذلك انكم قد أثبتم له سبحانه الأولاد بل أخسها وأدونها أَلَكُمُ الذَّكَرُ الأشرف الأكرم ايها الحمقى العمى المفرطون وَلَهُ سبحانه مع كمال تنزهه عن نقيصة اتخاذ الولد المترتب على القوة الشهوية الْأُنْثى المرذولة المستهجنة عندكم والله تِلْكَ القسمة التي قد جئتم بها أنتم مع استحالتها في حقه سبحانه إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى اى فلو فرض في شأنه سبحانه على سبيل فرض المحال الأولاد لكانت قسمتكم هذه قسمة عوجاء جائرة مائلة عن العدالة منحرفة عن جادة الاعتدال إذ أنتم ايها الحمقى تستنكفون عن الأنثى وتثبتونها لله المنزه عن الأهل والولد المقدس عن مطلق امارات الحدوث وعلامات النقصان وبالجملة إِنْ هِيَ

[سورة النجم (53) : آية 24]

اى ما آلهتكم التي أنتم اثبتموها واعتقدتم شركتها مع الله إِلَّا أَسْماءٌ اى ما هي في أنفسها الا اسماء لا مسميات لها أصلا بل قد سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ تبعا وَآباؤُكُمْ اصالة من تلقاء انفسكم إذ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ برهان واضح وحجة قاطعة بل إِنْ يَتَّبِعُونَ اى ما يتبع سلافكم الحمقى إِلَّا الظَّنَّ والخيال الناشئ من اوهامهم وأحلامهم السخيفة أمثالكم ايها الأخلاف الحمقى الجاهلون وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ اى ما يتبعون الا ما تهويه وتشتهيه نفوسهم أمثالكم وَمع ذلك لَقَدْ جاءَهُمْ ونزل عليهم ايضا على ألسنة رسلهم مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى الموصل الى مرتبة التوحيد فتركوه ظلما وعدوانا ولم يتبعوه أمثالكم ايها الحمقى أتطمعون الشفاعة من تلك الهياكل الهلكى وتأملون معاونتهم ومظاهرتهم إياكم ايها الجاهلون المائلون المنحرفون عن مقتضى العقل الفطري المفاض لكم من المبدأ الفياض أَمْ تعتقدون وتظنون ان يحصل لِلْإِنْسانِ عموم ما تَمَنَّى وأمل من اللذات والشهوات المأمولة كلا وحاشا بل فَلِلَّهِ وفي قبضة قدرته وتحت تصرفه الْآخِرَةُ وَالْأُولى اى عموم ما جرى في النشأة الاولى والاخرى من الكرامات يمن بها عن من يشاء ويصرفها عن من يشاء ارادة واختيارا لا يحكم عليه ولا ينازع في سلطانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يزيد وانه سبحانه في ذاته حكيم حميد مريد مجيد. ثم قال سبحانه تسجيلا على غاية غباوتهم ونهاية بلادتهم وحماقتهم في اتخاذهم الأصنام آلهة واعتقادهم شفعاء وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ اى كثيرا من الملائكة المقبولين عند الله المهيمين بمطالعة وجهه الكريم وهم مع ذلك القرب والشرف لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً من الإغناء عند الله لكمال استغنائه وغنائه سبحانه عن العالم وما فيه إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لهم ان يشفعوا عنده سبحانه لِمَنْ يَشاءُ سبحانه خلاصهم من عباده وَيَرْضى بشفاعة أولئك الشفعاء عنده سبحانه لاستخلاص بعض العباد باذن منه سبحانه وهؤلاء الحمقى يدعون الشفاعة لأولئك الهلكى ويعتقدونها آلهة متشاركين مع الله في الألوهية والربوبية ظلما وعدوانا بلا حجة وبرهان ومن غاية عدوانهم ونهاية غيهم وطغيانهم يهينون الملائكة المقربين ويستحقرونهم حيث ينسبونهم الى الأنوثة المستلزمة لغاية النقصان وبالجملة إِنَّ المفسدين المسرفين المفرطين الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وبعموم ما جرى فيها من تنقيد الأعمال والحساب عنها والجزاء عليها لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ المنزهين عن سمات النقص مطلقا اى كل واحد منهم ظلما وزورا تَسْمِيَةَ الْأُنْثى يسمونهم بنات الله ظلما على الله بإثبات الولد له وعليهم بنسبة نقص الأنوثة إياهم وَالحال انه ما لَهُمْ بِهِ اى بتسميتهم وقولهم هذا مِنْ عِلْمٍ لا يقيني ولا ظني ولا مستند من عقل او نقل بل إِنْ يَتَّبِعُونَ وما يستندون ويتكؤن في قولهم هذا إِلَّا الظَّنَّ والتخمين الناشئ من تقليد آبائهم المنسوبين الى الجهل والعناد أمثالهم وَبالجملة إِنَّ الظَّنَّ والتخمين المستند الى الجهل والتقليد لا يُغْنِي ولا يفيد مِنَ الْحَقِّ الصريح الحقيق بالاتباع شَيْئاً من الإغناء والإفادة وبعد ما سمعت حالهم وقولهم فَأَعْرِضْ أنت يا أكمل الرسل وانصرف بنفسك عَنْ مَنْ تَوَلَّى واعرض وانصرف عَنْ ذِكْرِنا الصائن الصارف له عن أمثال هذه الهذيانات الباطلة ولا تبال بشأنه ولا تبالغ في دعوته وإرشاده وَكيف لا وهو من غاية اعراضه وانصرافه عن الحق واهله لَمْ يُرِدْ لم يختر من السعادات المنتظرة والكرامات الموعودة المعدة للإنسان إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ولذاتها وشهواتها ولم يهتم الا بشأنها واقتصر على جميع حطامها ومزخرفاتها مع كمال غفلة وانكار وذهول تام ونسيان متناه عن الكرامات الروحانية واللذات الاخروية ذلِكَ

[سورة النجم (53) : آية 31]

الذي سمعت يا أكمل الرسل من ميلهم الى الدنيا والتفاتهم نحوها مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ والشعور المودع فيهم المتشعب من العلم اللدني الفائض عليهم من حضرة العلم الإلهي وبالجملة عليك يا أكمل الرسل ان تعرض عنهم وعن دعوتهم وإرشادهم بعد ما امرتهم به حسب العقل المفاض لهم وبالغت في تبليغهم وإرشادهم فلم يهتدوا إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك بكمال الكرامة واصطفاك للرسالة والنيابة هُوَ أَعْلَمُ بعلمه الحضوري منك بِمَنْ ضَلَّ وانحرف عَنْ سَبِيلِهِ من عباده وبمن مال عن جادة توحيده وَهُوَ أَعْلَمُ ايضا بِمَنِ اهْتَدى منهم بهدايتك وارشادك وَكيف لا يعلم سبحانه الضالين والمضلين والهادين والمهتدين من عباده إذ لِلَّهِ خاصة ملكا وتصرفا وخلقا وإيجادا احاطة وشمولا مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وكذا في ما بينهما من الكوائن والفواسد الكائنة لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بأعمالهم وأقوالهم بِما عَمِلُوا اى بمقتضى عدله سبحانه بلا زيادة ونقصان وَيَجْزِيَ ايضا الَّذِينَ أَحْسَنُوا ايضا كذلك بِالْحُسْنَى وزاد عليهم فوق ما استحقوا بصوالح أعمالهم ومحاسن أخلاقهم وأحوالهم تفضلا عليهم وامتنانا إليهم والمحسنون هم الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ اى يحترزون عن الآثام الكبيرة المستجلبة لغضب الله المستتبعة لعذابه ونكاله في النشأة الاخرى والمستلزمة المقتضية للحدود والكفارات بحسب الشرع الشريف في النشأة الاولى وَالْفَواحِشَ اى يحفظون ايضا نفوسهم عن الفواحش المسقطة للمروة الجالبة لانواع النكبات والوعيدات الهائلة الإلهية المقتضية للخلود في دركات النيران إِلَّا اللَّمَمَ الطارئ عليهم من الصغائر بغتة فجبروه بالتوبة دفعة فانه معفو عن مجتنبى الكبائر والفواحش قبل التوبة ايضا وكيف لا يغفر سبحانه لأصحاب اللمم لممهم إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل واسِعُ الْمَغْفِرَةِ سريع العفو شامل الرحمة هُوَ سبحانه أَعْلَمُ بِكُمْ منكم وبعموم أحوالكم واطواركم ايها المجبولون على فطرة التكليف وكيف لا يعلم سبحانه أحوالكم إِذْ هو سبحانه قد أَنْشَأَكُمْ وأظهركم مِنَ الْأَرْضِ بمقتضى سعة فضله وجوده وَرباكم بأنواع التربية وقت إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ لا شعور لكم محبوسون فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ وبالجملة يعلم منكم سبحانه جميع أحوالكم واطواركم وعموم حوائجكم الماضية والآتية فَلا تُزَكُّوا اى فعليكم ان لا تنزهوا ولا تطهروا أَنْفُسَكُمْ إذ لا علم لكم بتفاصيل أحوالكم وأعمالكم مطلقا بل هُوَ سبحانه أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى منكم وحفظ نفسه عن محارمه ومساخطه سبحانه واحترز عن منهياته. ثم قال سبحانه عبرة على المستبصرين وتوبيخا على المستكبرين أَفَرَأَيْتَ ايها المعتبر الرائي الطاغي الباغي الَّذِي تَوَلَّى وانصرف عن اتباع الحق بعد ما آمن واسلم وأصر على اتباع الباطل عنادا ومكابرة بعد ما نوى ووعد التصدق من ماله وقت إيمانه وإسلامه ليكون كفارة لذنوبه وَأَعْطى قَلِيلًا منه رياء وسمعة وَأَكْدى اى قطع عطاء الباقي بعد ذلك وما وفي جميع ما وعد ونذر ثم ارتد والعياذ بالله وندم على شيء قليل تصدق ايضا فأصر على ما كان عليه من الكفر والجحود ومع ذلك الردة والرجعة زعم انه برئ من الذنوب بتصدقه. نزلت في الوليد بن المغيرة كان يتبع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعيره بعض المشركين وقال تركت دين الأشياخ وضللتهم فقال أخشى عذاب الله فضمن القائل ان يتحمل عنه العذاب ان أعطاه بعض ماله وبعد ما سمع من القائل شرط العطاء فارتد والعياذ بالله عن الدين ومتابعة الرسول الأمين فاعطى بعض المشروط رياء وسمعة ثم بخل بالباقي ولم يتمه ومع ذلك كان يزعم البراءة من الذنوب لذلك عيره سبحانه

[سورة النجم (53) : آية 35]

بقوله أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى بان التصدق او تحمل الغير وتضمنه يدفع عنه العذاب أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ ولم يخبر بِما فِي صُحُفِ مُوسى وهي ألواح التوراة المنصوص فيها خلاف ذلك وَكذا لم ينبأ ايضا بما في صحف إِبْراهِيمَ الَّذِي يدعى متابعته بل وراثته والتدين بدينه مع ان الخليل صلوات الله عليه وسلامه هو الذي وَفَّى ووفر وأتم جميع ما التزمه أوامر به وبالغ في وفاء عموم ما عهد والتزم طلبا لمرضاة الله والمدعى الكاذب يدعى متابعته ولم يوف بما التزم من العهود وكيف يحمل الغير عنه الوزر او يسقط بالتصدق مع ان مضمون ما في الصحفين هو أَلَّا تَزِرُ اى انه لا تحمل نفس وازِرَةٌ آثمة وِزْرَ نفس وازرة آثمة أُخْرى وذنبها ولا تؤاخذ هي عليها بل كل نفس من النفوس الخيرة والشريرة رهينة بما كسبت ان خيرا فخير وان شرا فشر وَكذا منصوص في الصحفين المذكورين أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ المجبول على فطرة العرفان اى لكل واحد من اشخاصه إِلَّا ما سَعى واقترف لنفسه وأعد لمعاشه ومعاده وَكذا قد ثبت فيهما أَنَّ سَعْيَهُ اى سعى كل واحد من افراد الإنسان خيرا كان او شرا سَوْفَ يُرى في النشأة الاخرى مصورة بالصورة الحسنة او القبيحة بمقتضى الدرجات العلية الجنانية او الدركات الهوية النيرانية ثُمَّ بعد ما حوسب عليه عموم مساعيه يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى اى يوفر عليه من الجزاء على مقتضى سعيه في صالحات اعماله مع زيادة عليها تفضلا منه سبحانه ويجزى على فاسداتها جزاء مثلها سواء معها عدلا منه سبحانه وَايضا قد ثبت فيهما أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى اى منتهى الكل اليه كما ان مبدأه منه إذ ليس وراءه مرمى ومنتهى وَايضا منصوص فيهما أَنَّهُ سبحانه هُوَ أَضْحَكَ من اضحك وَكذا أَبْكى من ابكى وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا إذ لا قادر عليهما سواه ولا اله غيره وَأَنَّهُ سبحانه من كمال قدرته ووفور حكمته خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ المزدوجين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى من كل صنف ونوع وجنس وقدر وجود الزوجين مِنْ نُطْفَةٍ مهينة مرذولة حاصلة منهما وقت إِذا تُمْنى اى تصب وتراق من كلا الجانبين في الرحم على وجه الدفق ويقدر ويخلق منها الولد وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى اى عليه سبحانه اعادة الأموات احياء في النشأة الاخرى كما ان عليه الإبداء والإبداع في النشأة الاولى وَأَنَّهُ سبحانه هُوَ بذاته لا بسبب الوسائل والوسائط العادية إذ الكل يرجع اليه حقيقة أَغْنى عموم ما اغنى بإعطاء الأموال له وبسط الأرزاق عليه وَكذا أَقْنى سبحانه ايضا عموم من اقنى بالهام القنية والحفظ والادخار عليه وانما فعل سبحانه معهم ما فعل من الإغناء والإقناء ليشكروا له ولا يشركوا معه غيره ولا يعبدوا سواه ومع ذلك لم يشكروا له بل أشركوا معه فعبدوا الشعرى وَلا شك أَنَّهُ سبحانه هُوَ رَبُّ الشِّعْرى وهي كواكب قد عبدها بعض الصابئين منهم ابو كبشة احد أجداد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لذلك يكنى بكنيته وَأَنَّهُ سبحانه بمقتضى قهره وقدرته قد أَهْلَكَ عاداً الْأُولى لشركهم بالله وخروجهم عن مقتضيات حدوده وصفهم بالأولى لأنهم أول قوم قد اهلكهم الله بعد إهلاك قوم نوح وَانه سبحانه قد أهلك ايضا ثَمُودَ فَما أَبْقى أحدا من كلا الفريقين وَقد أهلك ايضا بمقتضى قدرته الكاملة قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ اى قبل إهلاك المذكورين إِنَّهُمْ اى قوم نوح كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى اى اظلم الناس على الله وعلى اهله واطغاهم وأغواهم عن سبيل الهداية والرشد وَانه سبحانه قد أهلك الْمُؤْتَفِكَةَ اى أهلك القرى المنقلبة

[سورة النجم (53) : آية 54]

وهي قرى قوم لوط الى حيث أَهْوى اى أسقط عليهم دورهم وأماكنهم بعد ما رفعها نحو السماء فقلبها عليهم بحيث جعل عاليها سافلها فَغَشَّاها حينئذ ما غَشَّى اى قد غطاها وسترها بما غطاها بامطار الحجارة عليها وإنزال انواع المصيبات إليها والعاهات والنكبات نحوها وبالجملة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ واصناف نعمائه المتوالية المتتالية من انتقام الأعداء وانعام الأولياء تَتَمارى وتتدافع على وجه الجدال والمراء ايها المحجوب الجاحد لوحدة الحق وتوحده واستقلاله في عموم تصرفاته في ملكه وملكوته بكمال الارادة والاختيار والفاقد عين العبرة وبصر البصيرة المستلزمة لانواع التأمل والاعتبار وبالجملة اعلموا ايها المجبولون على فطرة التكليف المثمرة للمعرفة والتوحيد ان هذا اى رسولكم الذي أرسل إليكم من لدنا ليرشدكم الى توحيد الذات مؤيدا بالكتاب المبين المبين لمقدمات التوحيد مشتملا على الأوامر والاحكام المؤدية اليه وكذا على النواهي العائقة عنه والعبر والتذكيرات المصفية لنفوسكم عن الركون الى ما ينافيه من المزخرفات الدنية الدنياوية الجالبة لانواع اللذات والشهوات الجسمانية المورثة لكم من شياطين نفوسكم وقواكم البهيمية الظلمانية المتفرعة على الطبيعة والهيولى الامكانية والغواشي الاركانية التي هي من نتائج التعينات العدمية الناسوتية المانعة من الوصول الى صفاء عالم اللاهوت نَذِيرٌ لكم أكمل مِنَ النُّذُرِ الْأُولى إذ هم منذرون عن الشواغل المنافية لتوحيد الصفات والأفعال ونذيركم هذا صلّى الله عليه وسلّم ينذركم من موانع توحيد الذات المستلزم لتوحيد الصفات والأفعال واعلموا يقينا انه بعد بعثته صلّى الله عليه وسلم قد أَزِفَتِ الْآزِفَةُ اى دنت القيامة الموعودة واقتربت الساعة المعهودة مع انها لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ اى ليست نفس قادرة على كشفها وتعيين وقت وقوعها وقيامها سوى الله تعالى إذ هي من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها. ثم وبخ سبحانه على منكري القرآن ويوم القيامة ومكذبيهما وقرعهم فقال أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ الصحيح والحق الصريح الذي هو القرآن المعجز المبين لأمر الساعة بأنواع الحجج والبرهان تَعْجَبُونَ تعنتا واستكبارا وجحودا وإنكارا ايها المتعجبون المستكبرون المفرطون وَتَضْحَكُونَ منه استهزاء ومراء وَلا تَبْكُونَ من سماع الوعيدات الهائلة المذكورة فيه تلهفا وتأسفا على ما قد فرطتم لأنفسكم وأفرطتم عليها مع ان الاولى والأليق بحالكم التلهف والبكاء وَبالجملة أَنْتُمْ ايها الحمقى العمى الجاهلون الجاحدون سامِدُونَ لاهون ساهون متكبرون عما فيه من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد تجاهلا وتغافلا مكابرون عليها عتوا وعنادا وان أردتم التلافي والتدارك فَاسْجُدُوا لِلَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل في الألوهية والوجود وتذللوا له حق التذلل وعظموه حق التعظيم والتبجيل وَاعْبُدُوا له حق عبادته خاشعين خاضعين ضارعين تائبين آئبين كي تصلوا الى زلال معرفته وتعرفه وتوحيده آمنين فائزين. جعلنا الله من جملة عباده العابدين المتذللين الخاضعين الخاشعين الآمنين الفائزين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون خاتمة سورة والنجم عليك ايها المريد القاصد لسلوك طريق التوحيد عصمك الله عن آفات التخمين والتقليد واعانك على التبتل والتجريد ان تلازم المجاهدة والانكسار المفرط والتذلل التام والافتقار اللازم مع دوام

سورة القمر

العزلة والفرار عن اصحاب الثروة والاستكبار صارفا عنان عزمك نحو إسقاط عموم الإضافات ومطلق الاعتبار طالبا للتجرّد عن ملابس الحياة المستعارة ملازما لسبيل الفناء المثمر للبقاء الأبدي والحياة الازلية السرمدية حتى تتخلص من اودية الضلال وتصل الى فضاء الوصال بتوفيق من لدنه وجذب من جانبه [سورة القمر] فاتحة سورة القمر لا يخفى على من ترقى عن حضيض الإمكان ووصل الى ذروة وجوب الوجود وتمكن في مقام الكشف والشهود مجردا عن جميع القيود والحدود المنافية لصرافة الوحدة الذاتية ان ظهور الخوارق من المعجزات والكرامات وانواع الارهاصات الصادرة من النفوس الزكية القدسية الواصلة الى المبدأ الحقيقي الفانية فيه المضمحلة دونه انما هو بمقتضى الشئون الإلهية المترتبة على الأسماء والصفات الذاتية الإلهية ولا شك ان أكمل ارباب الوصول وأفضلهم انما هو نبينا الكامل المكمل المتحقق بمرتبة الخلة والخلافة صلوات الله وسلامه عليه ولهذا قد صدر عنه صلّى الله عليه وسلّم بحيث اشارته اللطيفة الشريفة ما صدر من المعجزات سيما انشقاق القمر ليلة البدر حسب اقتراح المنكرين عليه بإظهار الآيات والحاحهم إياه صلّى الله عليه وسلّم فصار انشقاقه هذا من امارات اقتراب الساعة الموعودة والنشأة الآتية المعهودة كما اخبر سبحانه عنه بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بالقدرة الكاملة على عموم مقدوراته الرَّحْمنِ لجميع مخلوقاته في النشأة الاولى بافاضة الوجود عليها بمقتضى الجود الرَّحِيمِ لنوع الإنسان حيث يوقظهم من منام الغفلة ويوصلهم الى مقام الوحدة ويطلعهم على قيام الساعة والطامة الكبرى التي قد انقهرت دونها نقوش الأغيار والسوى مطلقا [الآيات] اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وقد دنت القيامة الموعود قيامها ومن جملة علاماتها الموضوعة لها في علم الله انشقاق القمر ليلة البدر وَقد انْشَقَّ الْقَمَرُ باشارة الحضرة الختمية الخاتمية المحمدية صلّى الله عليه وسلّم معجزة له وامارة للساعة وقيامها باخبار الله إياها وقد وقع منه صلّى الله عليه وسلّم هذا الانشقاق وتواتر خبر وقوعه وَالمنكرون المصرون على الإنكار والتكذيب المقيدون بعقال العقل الفضول المغلولون بأغلال الأحلام المشوبة بالخيالات والأوهام إِنْ يَرَوْا آيَةً معاينة دالة على قدرة الصانع الحكيم والقادر العليم يُعْرِضُوا عنها لعدم مطابقتها وموافقتها بعاداتهم واعتقاداتهم وبمقتضيات اوهامهم وخيالاتهم وَيَقُولُوا من شدة انكارهم وعنادهم هذا الذي صدر منه على خلاف العادة ما هو الا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ من زمان وقوعه لا مختلق مبتدع منه فقط وَبالجملة قد كَذَّبُوا الآية الخارقة للعادة وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ المعتادة الفاسدة الموروثة لهم من آبائهم الضالة المضلة المسرفة وَهكذا كُلُّ أَمْرٍ رسخ وتمكن في نفوسهم سواء كان خيرا او شرا طاعة او معصية ولاية وعداوة مُسْتَقِرٌّ ثابت متمكن في مكانه بعد ما تقرر وتمرن بحيث لا يتعداه أصلا وَمن نهاية تمكنهم ورسوخهم في الكفر والعناد وتمرنهم على البغي والفساد لَقَدْ جاءَهُمْ في القرآن المرشد لهم الى الهداية والعرفان مِنَ الْأَنْباءِ والاخبار والقصص والحكايات الجارية على القرون الماضية المصرة على العتو والعناد أمثالهم ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ اى وعيدات هائلة موجبة للانزجار الكامل والارتداع المتبالغ لأصحاب العبرة والاستبصار إذ هي كلها حِكْمَةٌ متقنة بالِغَةٌ نهايتها في الاحكام

[سورة القمر (54) : آية 6]

والإتقان ومع ذلك فَما تُغْنِ النُّذُرُ وما تفيدهم انذاراتهم أصلا إذ هم اى أولئك الضالون المسرفون المفرطون مجبولون على الغواية والبلادة المتناهية أمثال هؤلاء الغواة الطغاة المصرين على انواع العتو والعناد معك يا أكمل الرسل وبالجملة فَتَوَلَّ عَنْهُمْ واعرض عن دعوتهم وإرشادهم وانتظر يَوْمَ يَدْعُ ويناد الدَّاعِ المنادى ألا وهو اسرافيل عليه السلام ودعاؤه كناية عن نفخه في الصور للبعث والحشر إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ فظيع فجيع تنكره النفوس إذ لم يعهد مثله ألا وهو هول يوم القيامة المعدة للحساب والجزاء بعد ما سمعوا النداء الهائل والصداء المهول خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ اى شاخصة ذليلة كالتائه الهائب الهائل يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ اى قبورهم التي هم مدفونون فيها في عالم البرزخ ويتحركون على الأرض كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في الكثرة والانتشار الى الأماكن فيتوجهون مُهْطِعِينَ مسرعين إِلَى الدَّاعِ المنادى مادين أعناقهم نحوه من شدة خوفهم وهولهم ليعلموا لم يدعوهم ومن شدة تلك الساعة وأهوالها وفظاعتها يَقُولُ الْكافِرُونَ في نجواهم وفي هواجس نفوسهم هذا يَوْمٌ عَسِرٌ صعب في غاية الصعوبة والفظاعة. ثم قال سبحانه تسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم حين اغتم من تكذيب قومه إياه حاكيا له صلّى الله عليه وسلّم عن احوال الأنبياء الماضين وما جرى عليهم من اقوامهم تفريجا لهمه وازالة لحزنه كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ اى قبل قومك يا أكمل الرسل قَوْمُ نُوحٍ أخاك نوحا عليه السلام يعنى لا تحزن يا أكمل الرسل من تكذيب هؤلاء الجهلة المكذبين ولا تغتم من اذياتهم إذ ما هي ببدع منهم بالنسبة إليك بل تذكر قصة قوم نوح فَكَذَّبُوا عَبْدَنا اى كيف كذبوا أخاك نوحا وَقالُوا له حين دعاهم الى الايمان على سبيل الاستهانة والاستهزاء هذا مَجْنُونٌ مخبط العقل مختل الرأى وَازْدُجِرَ وزجر لأجل دعوته وتبليغه إياهم الوحى الى حيث قد لطمه كل من يصل اليه ورماه بالحجارة كل من يمر عليه فصبر على أذاهم وبالغ في دعوته إياهم وبعد ما بلغت الاذية غايتها والاهانة نهايتها فَدَعا رَبَّهُ دعاء مؤمل ضريع فجيع أَنِّي اى بانى على قراءة الفتح او قال انى بالكسر مَغْلُوبٌ قد غلبني هؤلاء الغواة ولم يقبلوا منى دعوتي وهدايتي فَانْتَصِرْ على يا ربي وانتقم عنى منهم وما دعا عليهم الا بعد يأسه عن ايمانهم. روى انه كان يدعو كل واحد منهم جميعا وفرادى فيضربونه ويخنقونه حتى يخر مغشيا عليه ثم لما أفاق قال اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وبعد ما قنط وبلغ الزجر غايته تضرع نحونا مشتكيا من قومه فَفَتَحْنا بعد ما أردنا هلاكهم وانتقامهم أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ منصب كأنه يجرى من جانب السماء على وجه الجري والتوالي بلا تقاطر وَكذا فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً اى قد فجرنا عيون الأرض وصيرناها كأنها عيون كلها بل عين واحدة فَالْتَقَى الْماءُ الحاصل من كلا الجانبين وبلغا عَلى أَمْرٍ شأن واحد قَدْ قُدِرَ اى قدره الحق في حضرة علمه ولوح قضائه لإهلاك أولئك الطغاة البغاة وإغراقهم وَبعد ما طغى الماء وطاف حول الأرض قد حَمَلْناهُ اى نوحا ومن تبعه عَلى ذاتِ أَلْواحٍ اى سفينة ذات أخشاب عراض طوال وَدُسُرٍ مسامير مطولة وصيرناها بحيث تَجْرِي السفينة بِأَعْيُنِنا وبكنف حفظنا وحضانتنا وانما فعلنا مع نوح وقومه ما فعلنا ليكون جَزاءً حسنا له وسيئا لِمَنْ كانَ كُفِرَ بنعمة هدايته وإرشاده ولم يؤمن بدينه ولم يصدقه في تبليغه وَلَقَدْ تَرَكْناها اى السفينة وقصتها او الفعلة التي فعلناها مع المكذبين لرسلنا المجترئين علينا بالإنكار والكفران آيَةً دالة

[سورة القمر (54) : آية 16]

على قدرتنا ومكنتنا على انواع الانعام والانتقام فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يدكر بها ويعتبر منها وبالجملة فَكَيْفَ كانَ عَذابِي للمنكرين المضرين على الإنكار والتكذيب وَنُذُرِ اى إنذاري وتخويفى على من يعتبر منهم ومما جرى عليهم من العقوبات وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ سهلناه لِلذِّكْرِ اى لانواع التذكيرات والمواعظ والعبر والأمثال فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يتعظ به ويتذكر مما فيه ويعتبر وايضا قد كَذَّبَتْ عادٌ كذلك لهود عليه السلام فَكَيْفَ كانَ عَذابِي إياهم وَنُذُرِ وإنذاري لمن بعدهم بما جرى عليهم وبالجملة إِنَّا بمقتضى عظم قهرنا وجلالنا قد أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ اى على عاد حين أردنا انتقامهم وإهلاكهم رِيحاً صَرْصَراً باردة شديدة الجري والصوت فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم منحوس مُسْتَمِرٍّ شؤمه ونحوسته عليهم الى ان يستأصلوا بما فيه بالمرة ومن شدة جريها وحركتها تَنْزِعُ وتقلع النَّاسَ من أماكنهم مع انهم قد دخلوا في الحفر وتشبثوا بالأثقال كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ اى أصولها مُنْقَعِرٍ منقلب عن مغارسه ساقط على الأرض يعنى هم سقطوا على الأرض جميعا موتى بلا روح فَكَيْفَ كانَ عَذابِي إياهم وَنُذُرِ لمن بعدهم وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ المعجز المشتمل لانواع البرهان والتبيان لِلذِّكْرِ والاتعاظ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متذكر يتعظ به وكذا قد كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ اى بعموم الإنذارات الصادرة من لسان صالح عليه السلام بمقتضى الوحى والإلهام الإلهي فَقالُوا في تعليل تكذيبهم على الرسول وانذاراته مستفهما مستبعدا أَبَشَراً ناشئا مِنَّا كائنا من جنسنا مع كونه واحِداً منفردا لا رهط له ولا تبع نَتَّبِعُهُ نؤمن به ونقلد له نحن مع انه لا مزية له علينا لا بالحسب ولا بالنسب والله إِنَّا ان فعلنا هكذا واتبعنا له إِذاً لَفِي ضَلالٍ عظيم وغواية بعيدة عن مقتضى العقل والدراية وَسُعُرٍ اى قد كنا حينئذ في جنون عظيم بمتابعة هذا الرذل المفضول ثم استفهموا فيما بينهم على وجه الإنكار والاستهزاء من غاية الاستبعاد والمراء فقالوا أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ الوحى والكتاب سيما من السماء عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا مع نهاية رذالته وردائته والحال ان فينا من هو أحق به واولى منه لو فرض القاؤه ونزوله منها وبالجملة ما هو بمقتضى حاله الا مجنون مخبط مختل العقل والرأى بَلْ هُوَ كَذَّابٌ متناه في الكذب والافتراء غايته أَشِرٌ بطر مبالغ في الشرارة يريد بافترائه واختلاقه هذا ان يتكبر علينا ويتفوق بنا مع تناهيه في الشرارة والرذالة وبالجملة ما هذه الدعوى منه الا من افراط بطره وشدة شرارته وهم كانوا يقولون في حقه ما يقولون من أمثال هذه الهذيانات والمفتريات الباطلة العاطلة الا انهم سَيَعْلَمُونَ ويفهمون غَداً عند نزول العذاب العاجل والآجل عليهم مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ البطر المباهي ببطره حيث اعرض عن الحق وأصر على الباطل أصالح هو أم من كذب وأنكر عليه. ثم قال سبحانه لنبيه صالح عليه السلام بعد ما قد بالغوا في العتو والعناد واقترحوا منه بإخراج الناقة من الصخرة تهكما وتعجيزا إِنَّا بمقتضى كمال قدرتنا وقوتنا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ ومخرجوها من الصخرة المعهودة وباعثوها فِتْنَةً عظيمة واختبارا وابتلاء لَهُمْ واوحيناهم في شأنها ما اوحيناهم فَارْتَقِبْهُمْ أنت يا صالح وانتظر ماذا يفعلون بها وَاصْطَبِرْ على اذياتهم بك واستهزائهم ومرائهم معك وَنَبِّئْهُمْ اى خبرهم وعلمهم منا وبمقتضى وحينا أَنَّ الْماءَ الذي به معاشهم ومعاش مواشيهم قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ اى مقسومة بين الناقة وبينهم ومواشيهم لها يوم ولهم يوم كُلُّ

[سورة القمر (54) : آية 29]

شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ اى كل صاحب شرب يحضر الماء في يومه ولا يحضره غيره فيه على سبيل التوبة بلا تزاحم وتدافع. ثم لما قبلوا هذه القسمة بعد خروج الناقة من الصخرة المعهودة وصاروا عليها زمانا اضطروا وتضجروا من امر الناقة فَنادَوْا صاحِبَهُمْ قدار بن سالف فتشاوروا معه في امر الناقة واضطرارهم ومواشيهم عن هذه القسمة فَتَعاطى اى أخذ سيفه قدار مغاضبا وكان من اجرئهم وأشجعهم في الوقائع والخطوب فَعَقَرَ اى قدار الناقة باتفاق القوم معه واستصوابهم ولم يبال بالقسمة والوصاية الإلهية في شأنها فَكَيْفَ كانَ يعنى انظر ايها الناظر المعتبر كيف وقع وحل عَذابِي عليهم وَلحق نُذُرِ إياهم بعد عقر الناقة وبالجملة إِنَّا بمقتضى قهرنا وجلالنا قد أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً هائلة مهولة فَكانُوا اثر سماع تلك الصيحة الهائلة كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ اى مثل الأشجار اليابسة البالية في حظائر الأموال تتناثر اجسادهم كالتراب وَبالجملة لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ المشتمل على انواع الرشد والهداية لِلذِّكْرِ والعظة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ يتذكر ويهتدى بهدايته وتذكيره كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ ايضا أمثال هؤلاء المكذبين بِالنُّذُرِ الواردة النازلة عليهم بلسان نبيهم لوط عليه السلام وبعد ما أصروا على تكذيبه وإنكاره إِنَّا بمقتضى قهرنا وغضبنا قد أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ من جانب السماء حاصِباً ريحا صرصرا شديدة عظيمة ترميهم بالحصباء اى الأحجار الصغار الى ان هلكوا بالمرة إِلَّا آلَ لُوطٍ هو لوط وبنتاه قد نَجَّيْناهُمْ من هذه الوقعة الهائلة والكرب العظيم بِسَحَرٍ اى وقت الصبح وانما نجيناهم ليكون انجاؤنا إياهم نِعْمَةً منا واصلة ناشئة مِنْ عِنْدِنا ورحمة شاملة نازلة من لدنا عليهم بسبب ايمانهم وعرفانهم كَذلِكَ اى مثل ما فعلنا مع آل لوط نَجْزِي بمقتضى جودنا عموم مَنْ شَكَرَ لنعمنا ولم يكفر بموائد كرمنا وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط عليه السلام بمقتضى وحينا والهامنا إياه بَطْشَتَنا اى عن شدة بطشتنا وأخذنا إياهم بسبب فعلتهم القبيحة وديدنتهم الشنيعة فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ اى كذبوه في انذاراته ووعيداته مراء ومجادلة واستهزؤا معه وبعموم ما أوحينا اليه من الوعيد وَمن شدة مرائهم واجترائهم عليه لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ وترددوا حول بيته حين نزول الملائكة عليه في صورة صبيان صباح ملاح اضيافا وقصدوا فجورهم ويمموا تفضيحهم فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ومسحناها وصيرناها مستوية مع وجوههم فصاروا ممسوحة العيون. روى انه لما دخلوا داره عنوة صفتهم جبرائيل عليه السلام صفقة فأعماهم دفعة فَذُوقُوا اى فقلنا لهم حينئذ ذوقوا عَذابِي وَنُذُرِ المنذر به على لسان نبينا لوط عليه السلام وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ ولحق بهم بُكْرَةً قريبة من الصبح عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ مستمر عليهم الى ان يستأصلهم بالمرة ويسلمهم الى النار فَذُوقُوا عَذابِي اى قلنا لهم حينئذ ذوقوا عذابي ايها المفسدون المسرفون وَذوقوا نُذُرِ ايها المنكرون المكذبون المفرطون وَبالجملة لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ المبين لانواع الوعيدات الهائلة الجارية على اصحاب السرف والفساد لِلذِّكْرِ اى للعبرة والعظة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ معتبر متعظ متيقظ يعتبر من وعيدات القرآن وانذاراته وما ذكر فيه من الحكايات. ثم قال سبحانه وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ اى الإنذارات الواردة من لدنا على لسان كليمنا المؤيد من عندنا بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة وبالجملة كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة من عندنا كُلِّها سيما بعد اقتراحهم والحاحهم عليها ونسبوها

[سورة القمر (54) : آية 43]

الى السحر والشعبذة وانواع الخرافات الباطلة البعيدة عن شأنها بمراحل فَأَخَذْناهُمْ وانتقمنا منهم بعد ما بالغوا في العتو والعناد أَخْذَ عَزِيزٍ قادر غالب لا يغالب مطلقا مُقْتَدِرٍ كامل في القدرة بحيث لا يعجز عن مقدور قط فأغرقناهم واستأصلناهم بحيث لم يبق منهم احد على وجه الأرض ثم خاطب سبحانه كفار مكة على سبيل التوبيخ والتهديد فقال أَكُفَّارُكُمْ يا معشر العرب خَيْرٌ وأفضل مطلقا مِنْ أُولئِكُمْ الكفار المعدودين المذكورين وجاهة وثروة ومالا ومظاهرة ومكنة ومكانة مع انكم لستم أمثالهم وهم مع شدة قوتهم وشوكتهم ما نجوا من عذاب الله أتنجون أنتم ايها الحمقى البطرون أَمْ قد نزل لَكُمْ بَراءَةٌ من العذاب مكتوبة فِي الزُّبُرِ السماوية والكتب الإلهية بان من كفر منكم وخرج عن مقتضى الحدود الإلهية فهو ناج من عذاب الله برئ عن انتقامه أَمْ يَقُولُونَ من شدة حماقتهم وسخافة فطنتهم نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ اى نحن جماعة مجتمعون ومتفقون أمرنا ورأينا متفق ننصر وننتصر بعضنا ببعض بحيث لا نغالب ولا نرام أصلا وهم من غاية بطرهم ونهاية غفلتهم وغرورهم يقولون أمثال هذه الهذيانات الباطلة ولم يعلموا انه سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ويفرد جنس المجموع اى جميعهم على وجه الهزيمة وَهم قد يُوَلُّونَ الدُّبُرَ اى ينصرف كل منهم عن عدوه مستدبرا منه منهزما عنه في الدنيا بَلِ السَّاعَةُ الموعودة مَوْعِدُهُمْ العظيم لتعذيبهم في العقبى وَبالجملة السَّاعَةُ والعذاب الموعود فيها أَدْهى اى أشد واعيى من دواهيها لا دواء لها ولا نجاة عنها وَأَمَرُّ مذاقا من عذاب الدنيا بل هي بأضعاف ما فيها من البليات والمصيبات وآلافها وبالجملة إِنَّ الْمُجْرِمِينَ المتصفين بالجرائم المستلزمة للخروج عن الحدود الإلهية وعن مقتضى الأوامر والنواهي المنزلة من عنده سبحانه فِي ضَلالٍ مبين عن الحق واهله في العاجل وَسُعُرٍ نيران مسعرة معدة لهم في الآجل اذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ يُسْحَبُونَ ويجرون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ صاغرين مهانين فيقال لهم حينئذ ذُوقُوا ايها المفسدون المسرفون مَسَّ سَقَرَ اى مساس جهنم وشدة حرها وحرقها بدل ما تتنعمون في دار الدنيا بلذاتها الشهية وشهواتها البهية البهيمية وكيف لا ندخل المجرمين في نيران القطيعة ولا نجرهم نحوها مهانين صاغرين فإنهم قد خرجوا عن مقتضى تدبيرنا واوضاعنا الناشئة منا على مقتضى الحكمة المتقنة البالغة المعتدلة إِنَّا بمقتضى كمال علمنا وشمول قدرتنا وارادتنا المقتضية للحكم والمصالح قد خلقنا وأظهرنا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ وأظهرناه من كتم العدم مقرونا معلوما بِقَدَرٍ اى بمقدار نقدره في حضرة علمنا ولوح قضائنا ونرتب على المقدار المقدر وجود المقدور المخلوق فنظهره على وفقه وَلا تستبعدوا من حيطة حضرة علمنا الشامل وقدرتنا الكاملة تفاصيل عموم المظاهر والمخلوقات والمقدورات وترتب وجوداتها على مقاديرها المقدرة لها في لوح قضائنا المحفوظ وحضرة علمنا المحيط إذ ما أَمْرُنا وحكمنا المبرم الصادر منا في السرعة والمضاء بالنسبة الى عموم الكوائن والفواسد الواقعة في عموم الازمنة والآنات وبالنسبة الى جميع الخواطر والخواطف والاختلافات الواقعة في حركات العروق الضوارب في هياكل الهويات واشكال الحيوانات بل بالنسبة الى ما في عموم الاستعدادات والقابليات ما هي إِلَّا فعلة واحِدَةٌ صادرة منا بلا توقف وتراخ وبلا تعقيب ومهلة بل كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ اى كنظرة سريعة بالطرف هيهات هيهات والله ما هذا التمثيل لسرعة نفوذ القضاء الإلهي الا بحسب احلام الأنام وبمقتضى افهامهم

[سورة القمر (54) : آية 51]

واوهامهم وإلا فلا يكتنه سرعة قضائه أصلا حتى يمثل بها ويشبه لها. ثم قال سبحانه على سبيل الوعيد والتهديد وَكيف لا تخافون ايها المسرفون المفرطون عن شدة بطشنا وانتقامنا لَقَدْ أَهْلَكْنا واستأصلنا أَشْياعَكُمْ واشباهكم وأمثالكم في الكفر والعناد وانواع الفسوق والفساد بأصناف العقوبات والبليات الهائلة فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متذكر يتعظ من إهلاكهم وهلاكهم ويعتبر مما جرى عليهم من الشدائد وَكما عذبناهم بجرائمهم وآثامهم في النشأة الاولى كذلك بل بأضعافه وآلافه نعذبهم في النشأة الاخرى ايضا بها إذ كُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فيما مضى وصدر عنهم في النشأة الاولى محفوظ مثبت فِي الزُّبُرِ اى كتب الحفظة المراقبين عليهم من لدنا المحافظين على عموم أحوالهم وأفعالهم وأطوارهم وَكيف لا يحفظ إذ كُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ وقليل وكثير على التفصيل مُسْتَطَرٌ اى مثبت مسطور في لوح القضاء أولا وفي صحائف أعمالهم ثانيا وبالجملة لا يعزب عن حيطة حضرة علمه سبحانه شيء من أعمالهم وأقوالهم وأطوارهم وأحوالهم مطلقا ولو طرفة وخطرة. ثم عقب سبحانه وعيد المجرمين بوعد المؤمنين على سنته المستمرة في كتابه فقال إِنَّ الْمُتَّقِينَ المتحفظين نفوسهم عن مطلق المحرمات والمنهيات متنعمون فِي جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق وَنَهَرٍ جداول جاريات من المعارف والحقائق منتشآت من بحر الحياة التي هي العلوم اللدنية المتجددة حسب تجددات التجليات الإلهية متمكنون فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ هو مقام التسليم والرضاء بعموم مقتضيات القضاء عِنْدَ مَلِيكٍ يملك رقابهم يتكفل على عموم أمورهم وحوائجهم مُقْتَدِرٍ على تدابيرها حسب الحكمة البالغة المتقنة. جعلنا الله من زمرة المتقين المتمكنين في مقعد الصدق عند المليك المقتدر العليم الحكيم خاتمة سورة القمر عليك ايها المريد القاصد المتمكن في مقعد الصدق والمتحقق في مرتبة اليقين الحقي وفقك الله للوصول الى غاية مقصدك ومرماك ان تقى نفسك عن مطلق المحظورات والمنهيات المنافية لسلوك طريق الحق وتوحيده سيما من الرياء والرعونات المنتشئة من ظلمات الطبيعة والهيولى المتفرعة عن التعينات العدمية المستلزمة للكثرة الوهمية المنافية لصرافة الوحدة الذاتية الإلهية وتلازم العزلة والفرار عن أبناء الدنيا الدنية وأمانيها مطلقا وتقنع منها بضرورياتها المقومة لهيكل هويتك الظاهرة لمصلحة المعرفة والتوحيد حتى يتيسر لك الوقوف بين يدي ملك مقتدر متوحد في الوجود والقيومية متفرد في الثبوت والديمومية. ثبتنا على منهج اليقين والتمكين وجنبنا بجودك عن امارات التخمين والتلوين بحولك يا ذا القوة المتين [سورة الرحمن] فاتحة سورة الرحمن لا يخفى على من تحقق بفسحة قلب الإنسان المصور على وسعة عرش الرحمن ان حكمة خلق الإنسان على فطرة المعرفة والايمان وتعليم القرآن عليه انما هو للبيان والبرهان على ثبوت خلافته ونيابته للحق وتنبهه برفعة درجته وعلو شأنه ومكانته من بين عموم الأكوان لذلك قال سبحانه في مقام الانعام والامتنان عليه تنبيها له وتعليما بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على قلب

الآيات

الإنسان لينكشف له ذاته سبحانه وكمالات أسمائه وصفاته الرَّحْمنِ عليه بترجمان اللسان والبيان المعرب عما في قلبه ليرشد غيره بما هو عنده ويسترشد به ما ليس عنده الرَّحِيمِ المنزل عليه القرآن المبين له طريق التوحيد والعرفان [الآيات] الرَّحْمنُ اى الذات المحيطة بعموم الرحمة الواسعة المتسعة بمقتضى سعة رحمته ووفور لطفه ورأفته قد عَلَّمَ الْقُرْآنَ لنوع الإنسان حيث نزله على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ليكون مبينا لهم سبيل الكشف والعيان ومنهج التوحيد والعرفان مع انه سبحانه ما خَلَقَ الْإِنْسانَ الا لأجل هذا الشأن البديع البرهان وايضا لهذه الحكمة العلية والمصلحة السنية بعينها قد عَلَّمَهُ الْبَيانَ اى التنطق والتكلم بلغات شتى وعبارات لا تحصى ليستفيد من منطوقات الألفاظ ما هو معناها ويتفطن منها الى ما هو مغزاها ومرماها وغاية قصواها ألا وهي المعارف والحقائق والحكم والأسرار الإلهية المودعة المكنونة في مطاوى المصاحف المشتملة على الكلمات المركبة من الحروف الحاصلة من مقاطع الأصوات المتكونة من النفسات الصورية التي هي من لوازم الحيوانية الحقيقية المترتبة على النفسات الرحمانية والنفثات اللاهوتية للوجود المطلق حسب تجليات الذات الإلهية وعلى مقتضى الأسماء والصفات الكامنة فيها المتجلية عليها بمقتضى شئون الكمالات المتجددة الغير المتكررة الى ما لا يتناهى ازلا وابدا ليظهر الإنسان من سر الظهور والبطون والغيب والشهادة الواردة على الوحدة الذاتية الإلهية ولهذه الحكمة والمصلحة ايضا قد ظهر في العلويات الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ اى يجريان ويدوران بحساب مقدر من عنده سبحانه معلوم في حضرة علمه مكتوب في لوح قضائه ليكونا دليلين شاهدين على ظهور مرتبتي النبوة والولاية المتفرعة على العدالة الذاتية الإلهية وَايضا قد ظهر في السفليات لتلك المصلحة السنية النَّجْمُ اى النبات الذي لا ساق له وَالشَّجَرُ وهو الذي له ساق يَسْجُدانِ يخضعان ويتذللان له سبحانه دائما من كمال الإطاعة والانقياد وَبالجملة السَّماءَ اى عالم الأسباب والأقدار رَفَعَها في أعلى المكان والمكانة وَوَضَعَ فيها الْمِيزانَ المعتدل المنبئ عن القسطاس المستقيم الإلهي الواقع بين الأسماء والصفات الذاتية وبين المقادير والآجال المقدرة لجريها ورتبها على دوراتها وانقلاباتها الواقعة فيها على وفق الحكمة المترتبة على العدالة الإلهية وانما رتبها على مقتضى الحكمة والعدالة كذلك أَلَّا تَطْغَوْا اى ان لا تعتدوا ولا تتجاوزوا ايها المجبولون لمصلحة التكليف والعرفان عن مقتضى الوضع الإلهي المترتب على الحكمة البالغة المتقنة فِي الْمِيزانِ الموضوع بمقتضاها في الأرض ألا وهي الشرع الشريف المصطفى وَبعد ما سمعتم حال العلويات والسفليات وما فيهما من الموازين المعتدلة الموضوعة بالوضع الإلهي أَقِيمُوا ايها المكلفون فيما بينكم الْوَزْنَ الموضوع بالوضع الإلهي واعتدلوه بِالْقِسْطِ والإنصاف وَلا تُخْسِرُوا ولا تنقصوا الْمِيزانَ إذ هو موضوع على العدل السوى وَاعلموا ان الْأَرْضَ انما وَضَعَها ومهدها سبحانه لِلْأَنامِ ليعتدلوا عليها ويستقيموا في عموم أخلاقهم وأطوارهم فيها حتى يستعدوا لان يفيض عليهم طلائع سلطان الكشف والشهود فيفوزوا بمقر التوحيد ويتمكنوا في مقعد صدق التفريد والتجريد لذلك أعدلهم تفضلا عليهم وتكريما فِيها اى في الأرض فاكِهَةٌ كثيرة يتفكهون بها من انواع الفواكه الصورية والمعنوية تقويما لأمزجتهم وتقوية لها وَلا سيما النَّخْلُ التي هي ذاتُ الْأَكْمامِ والاوعية المشتملة على التفكه والتقوت وسائر الأغراض الحاصلة منها وَالْحَبُّ

[سورة الرحمن (55) : آية 13]

(5) اى وكذا أعدلهم سبحانه فيها جنس الحبوب التي تقوت بها نوع الإنسان ذُو الْعَصْفِ اى التبن والقشور إذ هو محفوظ فيها مربى معها الى ان يستوي وينضج فيتقوت به الإنسان ويعصفه المواشي وَكذا اظهر لهم فيها بمقتضى جوده سبحانه الرَّيْحانُ اى جنس الرياحين المشمومة المقوية لدماغ الإنسان المصفية عن الروائح الخبيثة والنفحات الكريهة. ثم لما عد سبحانه نبذا من نعمه الشاملة على عموم البرايا خاطب المكلفين منهم على سبيل الامتنان وهما الثقلان المجبولان على فطرة التوحيد واستعداد الايمان والعرفان فقال فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما ونعماء موجدكما ومربيكما تُكَذِّبانِ ايها المغموران في نعمه المستغرقان في بحار جوده وكرمه وكيف يسع لكما الكفران لنعم الله والطغيان عليه سبحانه مع انه سبحانه قد خَلَقَ الْإِنْسانَ مصورا بصورة الرحمن قد خلقه أولا مع غاية كرامته ونجابته مِنْ صَلْصالٍ طين يابس له صلصلة وصوت كَالْفَخَّارِ اى كالخزف المتخذ من التراب الموقد بالنار ومع دناءة منشائه وخباثة مادته قد رفعه الحق ورباه الى حيث جعله خليفة لذاته نائبا عنه ومرآة مجلوة قابلة لفيضان كمالات أسمائه وصفاته وَخَلَقَ الْجَانَّ اى الجن وقدر وجوده أولا مِنْ مارِجٍ دخان صاف حاصل مِنْ نارٍ موقدة ملتهبة مشتعلة على وجه الحركة والاضطراب ومع رداءة مادتها وكثافتها جعله شبها بالملإ الأعلى متصلا بهم في كمال اللطافة والصفاء بحيث لا يرى أشباحهم أمثالهم وإذا كان شأن الحق معكما هكذا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وتنكران ايها الثقلان وكيف يليق بشأنه سبحانه الإنكار والتكذيب مع انه سبحانه رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ اى مشرقى الظهور والبروز من عماء العالم اللاهوتى نحو فضاء الأسماء والصفات الإلهي المسمى بالغيب الإضافي والأعيان الثابتة ثم منها الى عالم الشهادة في السير الهابط وَكذا رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ اى مغربي الخفاء والبطون عن عالم الناسوت الى برزخ الأعيان الثابتة ثم عنها الى عالم اللاهوت في السير الصاعد إذ يتوارد دائما على شمس الحقيقة الذاتية باعتبار تجلياتها حسب أسمائها وصفاتها شروق وافول وطلوع وغروب وبالجملة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المظهران الكاملان المجبولان على فطرة الشعور والعرفان ومن أين يتأتى لكما التكذيب في شأنه سبحانه إذ هو بمقتضى قدرته قد مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ اى أرسل واطلق بحرى الوجود والعدم بحيث يَلْتَقِيانِ يتمازجان ويختلطان على وجه لا يتمايزان عند المحجوب الفاقد عين الكشف والشهود ويبقى بَيْنَهُما عناية منه سبحانه وفضلا بَرْزَخٌ هو الإنسان الكامل المتميز المتكيف بكيفية انبساط بحر الوجود العذب على بحر العدم المالح وامتداده عليه وانطباق سطوحهما بحيث لا يتمايزان في بادى الرأى سيما عند المحجوب الفاقد عين العبرة وبصر البصيرة ثم جعل سبحانه برزخ الإنسان الكامل بمقتضى الحكمة المتقنة المعتدلة على وجه لا يَبْغِيانِ اى لا يبغى ولا يغلب كل من بحرى الوجود والعدم على صاحبه في مرتبته ونشأته حتى يتكمل حكمة الظهور والبطون والجلاء والخفأ والألوهية والعبودية وسائر المتقابلات المترتبة على الشئون الإلهية المتفرعة على الأسماء الذاتية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المكلفان المعتبران وكيف لا تعتبران ولا تشكران نعمه مع انه يَخْرُجُ حسب عنايته الازلية مِنْهُمَا اى من البحرين المذكورين اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ اى يخرج لكما ايها الثقلان المجبولان على فطرة العرفان من امتزاج البحرين المذكورين لآلى المعارف والحقائق ومرجان الشهود والإيقان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها الممنونان المغموران المستغرقان في موائد كرمه وجوده وَلَهُ سبحانه تفضلا

[سورة الرحمن (55) : آية 25]

على عباده وامتنانا لهم الْجَوارِ اى سفن الملل والأديان المنزلة من عنده سبحانه على عموم الرسل والأنبياء ليرشدوا بها أممهم الى طريق التوحيد والعرفان الْمُنْشَآتُ المصنوعات المستحدثات فِي الْبَحْرِ اى بحر الوجود كَالْأَعْلامِ اى كالرواسى العظام التي يعلم ويشاربها للتائهين في بيداء الوجود الضالين في صحراء الجحود الى جادة اليقين والعرفان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المكلفان وبالجملة كُلُّ مَنْ عَلَيْها اى على ارض القوابل والهيولى من التعينات المستتبعة لانواع الإضافات الحاصلة من موجات بحر الوجود وتجلياته بمقتضى الكرم والجود انما هو فانٍ لا وجود ولا تحقق لها في ذواتها أصلا سوى انها قد انبسط عليها اظلال الأسماء والصفات الإلهية وَبعد فناء نقوش الأمواج والاظلال بأسرها يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ يا أكمل الرسل بمقتضى صرافة وحدته مستغنيا في ذاته عن عموم مظاهره ومخلوقاته إذ هو سبحانه ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ في حد ذاته لا يشارك في وجوده ولا ينازع في سلطانه فمآل الكل اليه كما ان مبدأه منه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وإذا كان شأنه سبحانه هذا وهكذا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها الاظلال والعكوس الهلكى وبالجملة يَسْئَلُهُ ويستمد منه في كل زمان وآن ويستظل تحت ظل وجوده وجوده كل مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من فواعل المظاهر وقوابلها إذ كُلَّ يَوْمٍ وآن هُوَ سبحانه فِي شَأْنٍ لا يسبقه شأن ولا يلحقه شأن مثله فكل من المظاهر الإلهية في كل آن وطرفة في نزع صورة ولبس اخرى حسب شئون الحق وسرعة نفوذ قضائه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المجبولان على فطرة الدراية والشعور. ثم لما عد سبحانه على عموم المكلفين نبذا من نعمه العظام على سبيل التنبيه والامتنان أراد أن يشير إليهم وينبه عليهم بالقيام على أداء حقوقها ومواظبة شكرها لئلا ينفعلوا من الله ولا يستحيوا عند العرض والحساب في يوم الحشر والجزاء فقال سَنَفْرُغُ لَكُمْ اى نتجرد ونخلو لحساب أعمالكم وتنفيذ جزائكم عليها بمقتضيها أَيُّهَ الثَّقَلانِ المثقلان بشكر نعمتنا وأداء حقوق كرمنا ومتى سألنا كما عن اعمالكما فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وتنكران مع انا ما خفى علينا شيء من أعمالكم مطلقا لا من كفركم وكفرانكم ولا من شكركم وايمانكم. ثم قال سبحانه مناديا لهم على وجه التوبيخ والتهديد يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ المجبولين على فطرة التكليف المثمرة لثمرة المعرفة واليقين عليكم ان تنقادوا وتطيعوا بعموم ما كلفتم به بمقتضى الحكمة البالغة والا إِنِ اسْتَطَعْتُمْ وقدرتم أَنْ تَنْفُذُوا وتخرجوا فارين عن مقتضيات قهرنا وغضبنا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى من جهات العلويات والسفليات وانحائهما فَانْفُذُوا واخرجوا مع انكم لا تَنْفُذُونَ ولا تقدرون على الخروج ان وقع إِلَّا بِسُلْطانٍ منا اى بقدرة وأقدار موهوبة لكم من قبل ربكم إذ لا يصدر منكم مطلق الأفعال والحركات الا باقداره وتمكينه سبحانه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وكيف تنفذون وتفرون من حيطة قهره وجلاله إذ يُرْسَلُ عَلَيْكُما في النشأة الاخرى جزاء لأعمالكم شُواظٌ لهب مشتعل مِنْ نارٍ موقدة مسعرة وَنُحاسٌ اى دخان مظلم حاصل منهما وبالجملة فَلا تَنْتَصِرانِ وتمتنعان عنهما بحولكما وقوتكما الا بعناية ناشئة من الله وفضل يدرككم من لدنه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فعليكم ان تشكروا آلاء الله وتواظبوا على أداء حقوق نعمائه قبل حلول يوم الجزاء فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ واندكت الأرض من خشية الله ورهبته فَكانَتْ السماء من الغضب الإلهي وَرْدَةً حمراء

[سورة الرحمن (55) : آية 38]

مذابة كَالدِّهانِ اى تذوب كالدهن المذاب من شدة الخشية الإلهية فلا يمكنكم حينئذ التدارك والتلافي فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حيث يخبركم بالتهيئة والتدارك قبل حلول الساعة بل فَيَوْمَئِذٍ اى حين انشقاق السماء في يوم الجزاء لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ لا يسئل حينئذ لا عن ذنب الانس ولا عن ذنب الجان ولا يلتفت الى أعمالهما وافعالهما مطلقا بل يبعثون من قبورهم حيارى ويساقون نحو المحشر سكارى تائهين للحساب والجزاء فاعتنى سبحانه بشأنكم ونبهكم على اعداد الزاد لذلك اليوم قبل حلوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وكيف لا تعتدون ولا تتزودون ليومكم هذا إذ يُعْرَفُ ويعلم يومئذ الْمُجْرِمُونَ المهملون لأمر الزاد المتصفون بالجرائم المستلزمة للانتقام بِسِيماهُمْ إذ يظهر حينئذ آثار الحزن والكآبة على وجوههم فَيُؤْخَذُ بعد الخطاب والعتاب على الحساب بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ اى تشد أعناقهم مع أرجلهم بالسلاسل ثم يطرحون في النار بأنواع الهوان والصغار فيخبركم ربكم ايها المكلفون ويعلمكم طريق الخلاص عنها قبل حلول أوانها فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فيقال لهم حين القائهم إليها مشدودين مهانين زجرا لهم وتوبيخا هذِهِ النار التي أنتم تصلون فيها الآن جَهَنَّمُ الموعودة المعدة الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ وقت اخبار الله إياهم على ألسنة رسله وكتبه فالآن يَطُوفُونَ ويترددون بَيْنَها اى بين النار وَبَيْنَ حَمِيمٍ ماء حار آنٍ متناه في الحرارة بحيث يغلب إحراقه وحرارته على النار المسعرة فأراد سبحانه انقاذكم منها فيما مضى بإرسال الرسل وإنزال الكتب فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المجبولان على الكفران والنسيان. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه من تعقيب الوعيد بالوعد وَلِمَنْ خافَ من كلا الفريقين من مكلفى الجن والانس في النشأة الاولى مَقامَ رَبِّهِ اى خاف عن قيامه بين يدي ربه في النشأة الاخرى للعرض والجزاء واشتغل في هذه النشأة لاعداد ذلك اليوم وهيأ أسبابه من اكتساب الحسنات واجتناب السيئات من الأخلاق والاعتقادات وصوالح الأعمال والعبادات وسائر الطاعات المقبولة يومئذ عند الله على مقتضى ما أمرهم الحق ونهاهم عنه بإرسال الرسل وإنزال الكتب جَنَّتانِ معدتان لكل خائف عند ربه جنة جسمانية يتلذذ فيها بدل ما ترك من اللذات الدنياوية وشهواتها الفانية اتقاء عن الله وجنة روحانية عناية من الله وفضلا مما لا عين رأت ولا اذن سمعت الحديث وبالجملة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ والجنتان المذكورتان ذَواتا أَفْنانٍ انواع واصناف من الأثمار البهية والفواكه الشهية وانواع الحدائق من الحقائق والمعارف المثمرة للحالات العلية والمقامات السنية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما اى في تينك الجنتين عَيْنانِ منتشئتان ومترشحتان من بحر الحيات الإلهية متفرعتان على أسمائه وأوصافه الجمالية والجلالية تَجْرِيانِ بين يدي الخائف الملتجئ الى الله على مقتضى تجلياته الحبية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما اى في تينك الجنتين مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان من المعارف والحقائق على مقتضى تربية ماء العينين المذكورتين فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المسخران تحت لطفه وقهره وجلاله وجماله ثم انهم اى اهل الجنتين يتنعمون بما ذكر من النعم العظام حال كونهم مُتَّكِئِينَ متمكنين راسخين عَلى فُرُشٍ من الاعتقادات الراسخة بَطائِنُها اى وجوهها التي تلى قلوبهم وأرواحهم مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وهو الغليظ الصلب من الديباج بحيث لا تخلخل فيها ولا فرج فيها ألا وهو المثال لليقين الحقي الذي

[سورة الرحمن (55) : آية 55]

لا يطرأ عليه التردد والتذبذب مطلقا وَبالجملة جَنَى الْجَنَّتَيْنِ اى ما أخذ منهما والتلذذ والتنعم بثمارهما دانٍ قريب إذ لا ترقب ولا انتظار في اليقين الحقي بل هو اقرب الى العارف المحقق من نفسه بعد ما وصل اليه وحصل دونه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ اى في الجنان المعدة لأرباب العناية والامتنان مخدرات المعارف والحقائق الواردة على قلوبهم حسب استعداداتهم المتفاوتة قاصِراتُ الطَّرْفِ اى كل منهن منحصرة الطرف مقصورة النظر على كل من ترد عليه بحيث لا تتعدى الى غيره لاختلاف قابلياتهم حسب الفطرة الاصلية بمقتضى اختلاف تجليات الحق وشئونه بحيث لَمْ يَطْمِثْهُنَّ ولم يتلذذ معهن إِنْسٌ قَبْلَهُمْ ولا بعدهم وَلا جَانٌّ كذلك إذ مراتب الشهود بمقتضى تجليات الوجود وتطوراته فكما لا تكرر ولا اتحاد بين اثنين في التجليات الإلهية كذلك في مراتب ارباب الشهود القابلين لها المستعدين إليها فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ اى تلك المعارف والحالات من كمال الصفاء والنزاهة والجلاء الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ الساران لأرباب النظر والعيان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وبالجملة هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ في الأعمال والأحوال وعموم الشيم والأخلاق إِلَّا الْإِحْسانُ من الله والرضوان منه سبحانه على سبيل التفضل والامتنان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وهاتان الجنتان المذكورتان مع ما فيهما من المقامات العلية والدرجات السنية للخائفين من الله ومن سطوة قهره وجلاله في عموم أحوالهم وأطوارهم المفوضين المتوكلين عليه سبحانه في مطلق شئونهم وتقلباتهم الراجين منه سبحانه رضاه عنهم بمقتضى لطفه وجماله وَمِنْ دُونِهِما اى من دون الجنتين المذكورتين أدون منهما وانزل رتبة جَنَّتانِ أخريان ايضا المعدتان للأبرار المحسنين بالأخلاق والأعمال المتشبثين بأذيال الأماني والآمال حسب الحوائج والأغراض فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فهاتان الجنتان وان لم تكونا مثل تينك الجنتين المذكورتين في الأثمار والأشجار والمعارف والأسرار الا انهما مُدْهامَّتانِ خضراوان نضارتان بمياه الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة الصادرة من الأبرار الأخيار المحسنين المتمسكين بشعائر الشرع ومعالم الدين المستبين فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هِما اى في هاتين الجنتين المعدتين للأبراريْنانِ منتشئتان من الاعتقاد الصادق والايمان الكامل ضَّاخَتانِ فوارتان منتهيتان الى بحر الحكمة المتقنة الإلهية فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما ايضا فاكِهَةٌ كثيرة يتفكه بها أهلهما وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عطفهما على الفاكهة من قبيل عطف الخاص على العام لمجرد الاعتناء والاهتمام فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ اى في جنات هؤلاء الأبرار ايضا خَيْراتٌ اى ازواج خيرات مصورة من مثوبات الأعمال والطاعات حِسانٌ اى لا قبح معهن بوجه من الوجوه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ومثوبات اعمال الأبرار وأخلاقهم وما يترتب عليها وان لم تكن في الصفاء واللطافة كمخدرات الخائفين الا انهم حُورٌ حسنة الوجوه مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ اى مقصور كل منهن على كل من اتى بالأعمال الصالحة والأخلاق المرضية بحيث لا يتعدى الى الغير إذ كل نفس رهينة بما كسبت خيرا كان او شرا فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها الممنونان المكلفان وهؤلاء ايضا لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ إذ كل منهن مقصورة منحصرة على اعمال كل منهم بلا شركة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ايها المعتبران المستبصران. ثم انهم اى الأبرار يتنعمون بما أعد لهم من النعم العظام مُتَّكِئِينَ متقررين عَلى رَفْرَفٍ وسائد وبسط خُضْرٍ مخضرة بمياه ايمانهم الخالص

[سورة الرحمن (55) : آية 77]

واعتقادهم الصادق وَعَبْقَرِيٍّ عجيب معجب يتعجبون من ترتبها على أعمالهم وحسناتهم حِسانٍ بحيث لا يتبعها قبح وخذلان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فعليك يا أكمل الرسل ان لا تستبعد من الله القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام افاضة أمثال هذه الكرامات العلية على ارباب العناية والغفران وتلك الدركات الهوية على اصحاب الغفلة والكفران إذ تَبارَكَ اى جل وتعاظم وتعالى اسْمُ رَبِّكَ اى عموم اسماء مربيك الذي رباك يا أكمل الرسل محيطا بعموم المراتب الفعالة ومقتضياتها ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ اى ذي العظمة والكبرياء الغالب المقتدر على عموم الانتقام وذي الجمال القادر المقتدر على وجوه الإكرام والانعام خاتمة سورة الرحمن عليك ايها العارف المتحقق بعظمة الحق وجلاله المتعطش بزلال الوصال والجمال ان لا تعزم ولا تقصد في عموم احوالك الى الكذب والإنكار سيما بالنسبة الى الله ولا تنسب الحوادث الجارية الحادثة في عموم الأنحاء والأقطار الا الى الله الملك الجبار العزيز الغفار ذي العظمة وكمال الاقتدار لأصناف الانعام والإفضال وانواع العذاب والنكال فلك ان تلازم على شكر نعمه وأداء حقوق لطفه وكرمه في عموم الأحوال وإياك إياك الغفلة عن الله والاشتغال الى ما سواه وكن في عموم أوقاتك وحالاتك بين يدي الله مترددا بين الخوف والرجاء ولا تيأس من روح الله انه لا ييأس من روح الله الا القوم الخاسرون جعلنا الله من زمرة الخائفين من بطشه [سورة الواقعة] فاتحة سورة الواقعة لا يخفى على ارباب الوصول الى المبدأ الحقيقي من المنكشفين بوحدة الحق الحقيق بالحقية والتحقق ان مراتب عموم العباد في الرجوع نحو المبدأ والمعاد وان كانت على الأنحاء المختلفة وطرق شتى لكن لا تخلو عن ثلاثة فرق بعضهم محجوبون بالحجب الظلمانية الامكانية المعبر عنها بالدنيا مغمورون مستغرقون بلذاتها وشهواتها محرومون عن لذة الوصول والحضور مطلقا ألا وهم اصحاب الشمال والشآمة الازلية الابدية وبعضهم محجوبون بالحجب النورانية المسماة بالآخرة وما فيها من انواع النعم واصناف الكرم من اللذات الروحانية والجسمانية الموعودة لهم فيها تفضلا وتكريما وهم اصحاب اليمين ذو اليمين والبركة والكرامة السرمدية والسعادة الازلية الابدية وبعضهم منجذبون نحو الحق بالكلية منخلعون عن جلباب هوياتهم الناسوتية مطلقا فانون في الهوية الحقية اللاهوتية باقون ببقائه مستغرقون بمطالعة لقائه ألا وهم الشطار السابقون الى الله السائرون نحوه المتجردون عن جلباب بشريتهم بالمرة بلا التفات منهم الى مقتضيات تعيناتهم لا باللذات الدنيوية ولا باللذات الاخروية والى هذه الفرق الثلاث أشار سبحانه في هذه السورة واخبر بها حبيبه عليه الصلاة والسلام ليكون على ذكر منهم ويبلغها على من تبعه من اهل المعرفة والايمان إرشادا لهم وتنبيها. ثم لما كان امتياز هذه الفرق انما يظهر ويلوح في يوم القيامة والطامة الكبرى أشار سبحانه أولا الى تحقق وقوعها بعد ما تيمن باسمه الكريم الأعلى فقال سبحانه بِسْمِ اللَّهِ القادر المقتدر على إبداء عموم ما ابدأ في النشأة الاولى الرَّحْمنِ بعموم ما ظهر وبطن بإظهاره من كتم العدم برش انواره ومد اظلاله الرَّحِيمِ بإعادته في النشأة الاخرى بقبض اظلال أسمائه وصفاته نحو ذاته اذكر يا أكمل الرسل

الآيات

للمعتبرين من المكلفين وقت [الآيات] إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ العظمى الموعودة وحدثت الطامة الكبرى المعهودة من لدنه سبحانه مع انه لَيْسَ لِوَقْعَتِها حين وقوعها نفس كاذِبَةٌ تكذب وقوعها كما تكذب بها الآن وليس ايضا لوقوعها حين وقوعها نفس خافِضَةٌ لها تخفض أمرها بالتردد فيها ولا نفس رافِعَةٌ ترفعها بالجزم بها بل قد وقعت حين وقعت حتما بلا ريب وتردد بلا خفض احد ولا رفع آخر اذكر يا أكمل الرسل لمن أنكر وقوعها وتردد فيها نبذا من اماراتها وأشراطها تنبيها وتوعيدا سيما وقت إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا تحريكا شديدا عنيفا بحيث قد انهدمت واندكت عموم ما عليها من الابنية المحكمة والبقاع المشيدة وَبُسَّتِ الْجِبالُ اى تشتتت وتفتتت اجزاؤها بَسًّا اى تفتتا تاما وتشتتا كاملا بحيث اضمحلت اجزاؤها وتلاشت وصارت كالسويق الملتوت وبالجملة فَكانَتْ الجبال الرواسي يومئذ هَباءً هشيما غبارا مُنْبَثًّا منتشرا متفرقا بحيث قد تلاشت هويات ما على الأرض مطلقا وَكُنْتُمْ حينئذ ايها المكلفون المعتبرون المجبولون على فطرة الدراية والشعور أَزْواجاً أجناسا وأصنافا ثَلاثَةً في النشأة الاولى فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ واليمن والكرامة من الأخيار الأبرار المحسنين بصوالح الأعمال والأحوال ومحامد الأخلاق والأطوار ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ اى ما أعظم شأنهم وأكرمهم واحسن حالهم بينهم وسعادتهم الشاملة لهم حسب اتصافهم بصالحات الأعمال وبالاعتقادات الصحيحة والأخلاق الحميدة المرضية وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ والشمال اى ملازمو الشآمة والملامة والخذلان والندامة من المفسدين المسرفين المصرين على انواع الكفر والفسوق واصناف العصيان والآثام من مفاسد العقائد وطوالح الأعمال ومتخالج الشيم والأخلاق ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ اى ما أقبح حالهم وأشد عذابهم ونكالهم وشآمتهم وشقاوتهم المستمرة عليهم بشؤم مكاسبهم ومفاسدهم وَالسَّابِقُونَ المبادرون نحو الحق من طريق الفناء الباذلون مهجهم في سبيله بالموت الإرادي شوقا الى لقائه هم السَّابِقُونَ المقصورون على السبق والحضور مع الله بلا توجه منهم الى لوازم هوياتهم الباطلة وهياكلهم العاطلة وبالجملة أُولئِكَ السعداء المقبولون هم الْمُقَرَّبُونَ عند الله الواصلون اليه الفانون في فضاء وحدته المتنعمون فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ اى متنزهات التوحيد الذاتي التي هي عبارة عن اليقين العلمي والعيني والحقي وهؤلاء المقربون الواصلون الى مقر الوحدة متفاوتون في القلة والكثرة باعتبار درجاتهم العلية ومقاماتهم السنية حسب مسالكهم ومعارجهم لذلك ثُلَّةٌ اى جماعة عظيمة مِنَ الْأَوَّلِينَ من الأمم السالفة وهم الأبرار المحسنون الذين تقربوا نحو الحق بتوحيد الصفات والأفعال وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ اى جمع قليل بالنسبة الى الأولين من امة محمد صلّى الله عليه وسلم وهم الذين قد وصلوا بل اتصلوا الى الله سبحانه من طريق توحيد الذات المسقط لعموم الإضافات والكثرات وهؤلاء أعز واقل وجودا بالنسبة الى الأمم السالفة لذلك وصفوا بالقلة وبالجملة كل منهم مع تفاوت طبقاتهم في متنزهات الوحدة متنعمون متمكنون عَلى سُرُرٍ مصورة من صفاء عقائدهم وحالاتهم مَوْضُونَةٍ منسوجة مشبكة بالمعارف والحقائق حسب درجاتهم ومقاماتهم حال كونهم مُتَّكِئِينَ عَلَيْها اى على تلك السرر مُتَقابِلِينَ مع عموم كمالاتهم متلذذين بها بلا ترقب وانتظار ومع ذلك يَطُوفُ عَلَيْهِمْ للموانسة والخدمة وِلْدانٌ صباح ملاح مصورون من أعمالهم وأخلاقهم مُخَلَّدُونَ مستمرون على تلك الصور الصبيحة والهياكل المليحة بحيث لا يتحولون ولا يتغيرون منها أصلا

[سورة الواقعة (56) : آية 18]

كتغير ملاح الدنيا بِأَكْوابٍ يعنى يطوفون عليهم بكئوس لا عرى لها وَأَبارِيقَ وهي التي لها عرى مملوة من ماء الحياة المثمرة للعلوم اللدنية لشاربيها وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ اى كأس مملو من رحيق التحقيق وبرد اليقين الذي لا يُصَدَّعُونَ عَنْها ولا يشوشون في تحصيلها كما في تحصيل العلوم الرسمية المكتسبة بأنواع العذاب وَلا يُنْزِفُونَ ولا يسكرون الى حيث ينقطع تلذذهم بها من غاية سكرهم كما في خمور الدنيا وفي سكر العلوم الرسمية بالنسبة الى المتلذذين بها وَفاكِهَةٍ كثيرة مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ اى يختارون وينتخبون لأنفسهم من انواع المعارف والحقائق والأحوال والمقامات التي تتلذذ بها أرواحهم من آثار الأسماء والصفات الإلهية وَلَحْمِ طَيْرٍ يتقوت ويتغذى به أشباحهم مِمَّا يَشْتَهُونَ وَلهم ايضافيها للخدمة والمؤانسة حُورٌ عِينٌ مصورة من اعتقاداتهم الصحيحة الراسخة كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ المصون في أصداف أشباحهم وانما يعطون فيها ما يعطون جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية ومن كمال تنعمهم وامنهم وترفههم لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً باطلا من الكلام بلا طائل وَلا تَأْثِيماً اى كلاما على سبيل الإلزام والافحام موجبا لانواع الجرائم والآثام إِلَّا قِيلًا وقولا من كل جانب سَلاماً سَلاماً على الترحيب والتكريم هذا للمقربين السابقين وَاما أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ اى اصحاب اليمين والكرامة وانواع التعظيم والتكريم فهم ايضا متنعمون فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ اى نبق لا شوك له لخلوص أعمالهم وحسناتهم عن شوك المن والأذى والسمعة والرياء وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ اى شجر موز منضد موفور الثمر مرتب من أسفله الى أعلاه لإيفائهم وتوفيرهم في كسب الحسنات وَظِلٍّ مَمْدُودٍ الهى لا يتقلص ولا ينقص ولا يتفاوت لدوامهم على مواظبة الطاعات وملازمة العبادات وَماءٍ مَسْكُوبٍ مصبوب لهم اين شاءوا وكيف شاءوا بلا تعب وترقب لأنهم صاروا في الإتيان بالأعمال الصالحة كذلك طلبا لمرضاته سبحانه وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ مما يتفكه به أرواحهم وأشباحهم لا مَقْطُوعَةٍ منتهية كفواكه الدنيا وَلا مَمْنُوعَةٍ لتساوى نسبتها الى الكل بلا تفاوت وتمانع لأنهم قد أتوا بصوالح الأعمال والأخلاق على الدوام بلا قطع ومنع وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ ممهدة منضد بعضها فوق بعض لرسوخهم وتمكنهم على الاحكام الإلهية المرفوعة المرتفعة حسب الحكم والأسرار المودعة فيها. ثم قال سبحانه على سبيل الامتنان إِنَّا من مقام عظيم جودنا عليهم قد أَنْشَأْناهُنَّ اى انشأنا لهم في النشأة الاخرى أزواجهم اللاتي كن في حجورهم في النشأة الاولى من صالحات النسوان والأعمال والأخلاق إِنْشاءً بديعا عجيبا فَجَعَلْناهُنَّ فيها أَبْكاراً بحيث لم يمسهن بشر ولم يتصرف بهن احد عُرُباً متحننات لأزواجهن أَتْراباً مستويات السن مع أزواجهن في كمال سن الشباب كل ذلك لِأَصْحابِ الْيَمِينِ من ابرار المحسنين بالأعمال والأخلاق المخلصين فيها ومن هؤلاء الأبرار في الجنات ثُلَّةٌ عظيمة وجماعة مِنَ الْأَوَّلِينَ اى من الأمم الماضية وَثُلَّةٌ عظيمة ايضا مِنَ الْآخِرِينَ اى من امة سيد المرسلين إذ طرق الأعمال والأخلاق مشتركة بين الأولين والآخرين بخلاف طرق الأحوال والمواجيد والمشارب والأذواق وَاما أَصْحابُ الشِّمالِ والشآمة المتصفون بالشقاوة الازلية المنهمكون المتلطخون بالقاذورات الامكانية ما أَصْحابُ الشِّمالِ وما حالهم القبيحة الفضيحة الفظيعة فهم مخلدون فِي سَمُومٍ نار مسعرة في غاية الحرقة والحرارة بحيث تنفذ في مسامات أشباحهم كالريح السموم مثل نفوذ لوازم الإمكان النافذة

[سورة الواقعة (56) : آية 43]

من مسامات اصحاب الغفلة والضلال المنهمكين في اللذات الحسية والشهوات الواهية البهيمية الموقعة لانواع الفتن والطغيان وَحَمِيمٍ اى ماء حار متناه في الحرارة بحيث يقطع أمعاءهم لو شربوا منه شربة بدل ما تلذذوا في النشأة الاولى من الأماني النفسانية والآمال الهيولانية الحاصلة لهم من الجهل المفرط بسرائر التوحيد وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ حاصل من دخان اسود صاعد من نار الجحيم لا بارِدٍ كسائر الاظلال وَلا كَرِيمٍ نافع أمثالها وبالجملة إِنَّهُمْ من شدة سكرتهم وغفلتهم كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في النشأة الاولى مُتْرَفِينَ منهمكين في اودية الضلال واغوار اللذات والشهوات الطبيعية الامكانية وَكانُوا حينئذ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ والذنب الكبير الذي هو الشرك بالله والإنكار لتوحيده وَمن شدة انكارهم بمقتضيات الوحى الإلهي المتعلق بقيام الساعة وبوقوع الطامة الكبرى قد كانُوا يَقُولُونَ فيما بينهم على وجه الاستبعاد والاستنكار أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً بالية أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ مخرجون من قبورنا احياء كما كنا أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ الأقدمون يخرجون من قبورهم احياء مع ان بعثهم وإخراجهم أشد استحالة وامتناعا من بعثنا واخراجنا كلا وحاشا إذ لم يعهد في ما مضى من الازمنة أمثال هذا بل ما هي الازيغ زائل وزور باطل قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما بالغوا في الإنكار والعناد إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ اى الاسلاف والأخلاف لَمَجْمُوعُونَ مجتمعون بكمال قدرة الله وحكمته إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ اى وقت معين ويوم موعود ومعهود قد عينه الله سبحانه في حضرة علمه ولوح قضائه لا بد وان يقع في ذلك الوقت البتة بلا خلف ثُمَّ إِنَّكُمْ بعد اجتماعكم وحشركم أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ المصرون على التكذيب والإنكار لَآكِلُونَ من شدة جوعكم في جهنم البعد والخذلان بعد خلودكم فيها مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ اى شجر مسمى بهذا الاسم فيكون لفظة من الثانية للبيان والاولى للابتداء فَمالِؤُنَ مِنْهَا اى من تلك الشجرة الْبُطُونَ اى بطونكم مع انه لا يدفع الجوع بل يزيده بعد أكلكم منها ملأ بطونكم فَشارِبُونَ عَلَيْهِ اى على الزقوم مِنَ الْحَمِيمِ اى من الماء المسخن المغلى بنار الجحيم لشدة الحرقة وغلبة العطش وبالجملة فَشارِبُونَ من الحميم شُرْبَ الْهِيمِ اى مثل الإبل الذي له داء الهيام وهو مرض في الإبل شبيه باستسقاء الإنسان هذا الذي سمعت ايها الفطن المعتبر نُزُلُهُمْ المعدة لهم حين نزولهم في جهنم يَوْمَ الدِّينِ والجزاء وإذا كان نزلهم فيها هذا فما ظنكم بعذابهم فيها وبزجرهم بعد حساب أعمالهم. ثم خاطبهم سبحانه إظهارا للاستيلاء التام والبسطة الغالبة الكاملة توبيخا لهم وتقريعا نَحْنُ خَلَقْناكُمْ واظهرناكم من كتم العدم حسب حولنا وقوتنا فَلَوْلا وهلا تُصَدِّقُونَ بقدرتنا على الإعادة والبعث ايها الجاهلون المكابرون أَفَرَأَيْتُمْ اى أخبروني ايها المنكرون للبعث والجزاء ما تُمْنُونَ وتصبون في الأرحام من النطف أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ وتجعلونه بشرا سويا سالما قابلا صالحا لانواع العلوم والإدراكات الكلية والجزئية أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ المقصورون على الخلق والتسوية ومع شهود أمثال هذه المقدورات العجيبة البديعة منا كيف تنكرون قدرتنا على البعث والحشر مع انا نَحْنُ بمقتضى علمنا وقدرتنا وحكمتنا قد قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ والأجل بان قد عينا لموت كل واحد منكم وقتا معينا وأجلا معهودا بحيث لا يسع لكم في وقت حلوله لا التقديم منه ولا التأخير عنه وَمع ذلك ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ مغلوبين من احد منكم أصلا بان يغلب علينا بتقديم الأجل المعين المقدر من لدنا

[سورة الواقعة (56) : آية 61]

او بتأخيره وإذا قدرنا على تقدير الأجل للموت على الوجه المذكور قدرنا ايضا عَلى أَنْ نُبَدِّلَ ونحيى اسلافكم الذين ماتوا وانقرضوا احياء أَمْثالَكُمْ من العدم يعنى كما قدرنا على انشائكم من العدم إنشاء إبداعيا قدرنا ايضا على احياء اسلافكم من القبور على سبيل الإعادة إذ هي أهون من الإبداع وَبالجملة قدرنا على ان نُنْشِئَكُمْ ونظهركم بعد موتكم فِي ما لا تَعْلَمُونَ في النشأة الاولى وعالم الدنيا لا تحيطون به علما ولا تفهمونه فهما كما لا تعلمون نشأتكم التي قد مضت عليكم قبل نشأتكم هذه لخروج أمثال هذه المعلومات عن طوق البشر وطور العقل ومقتضاه وَكيف يتأتى لكم انكار الإعادة مع انكم لَقَدْ عَلِمْتُمُ علما يقينيا النَّشْأَةَ الْأُولى اى قدرتنا على الخلق والإيجاد في النشأة الاولى فَلَوْلا هلا تَذَكَّرُونَ منها قدرتنا على الإعادة في النشأة الاخرى مع ان من قدر على الإبداء قادر على الإعادة بالطريق الاولى أَفَرَأَيْتُمْ أخبروني ايها المسرفون المفرطون ان ما تَحْرُثُونَ تبذرون وتطرحون الحبة في التراب أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ وتنبتونه أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ المقصورون على الإنبات بالاستقلال والاختيار بلا مشاركة ولا مظاهرة مع انا لَوْ نَشاءُ ونختار عدم إنباتها ونمائها لَجَعَلْناهُ اى الزرع النابت حُطاماً يابسا هباء هشيما فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ اى صرتم حينئذ تتعجبون وتتأسفون من يبسها وضياعها وليس لكم حينئذ سوى الأسف والحسرة وانواع التلهف والتحزن بل تقولون من شدة التضجر والتحزن إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ملزمون بتضييع البذور وإهلاك النفقة بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قد حرمنا عن بذورنا وأعمالنا وريعنا بالمرة أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ العذب القراح الفرات السائغ الَّذِي تَشْرَبُونَ تستروحون وتبردون أكبادكم به أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ اى السحاب الهامر الهاطل أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ بكمال قدرتنا وقوتنا وحكمنا وحكمتنا مع انا لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ بدلناه وصيرناه أُجاجاً مرا مالحا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ وهلا تواظبون على أداء حقوق أمثال هذه النعم العظام والفواضل الجسام ايها المجبولون على الكفران والنسيان والجرائم والآثام أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ وتقدحون أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها اى الشجرة التي يتخذ منها الزناد أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ المستقلون بانشائها وبالجملة نَحْنُ اليوم قد جَعَلْناها اى النار تَذْكِرَةً وتبصرة لأمر البعث والنشر وأنموذجا من نار القطيعة الجهنمية وعظة للمتقين المتذكرين منها ليتزودوا بالتقوى ويتخلصوا من نيران الهوى ودركات اللظى وَقد جعلناها ايضا مَتاعاً ومنفعة عظيمة لِلْمُقْوِينَ المنزلين في القفر والبيداء جائعين خالية بطونهم عن الطعام فيطبخون بها وبالجملة فَسَبِّحْ يا أكمل الرسل بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ الذي هو أعز وأجل من ان يطرأ عليه شيء من النقائص او يحوم حول حمى قدسه شائبة العجز والقصور وإذا كان شأن الحق هذا وامتنانه على عموم عباده هكذا فَلا حاجة الى القسم لإثبات عظمة شأنه وجلالة سلطانه وعلو قدره ومكانته بل أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ اى بموارد وقوع نجوم القرآن ونزولها في قلوب الكمل من ارباب العزائم والعرفان وَإِنَّهُ اى القسم بالقرآن وموارده لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ وتعرفون قدره عَظِيمٌ شأنه عال خطره رفيع قدره وكيف لا يكون القرآن عظيم الشأن رفيع القدر والمكان إِنَّهُ لَقُرْآنٌ فرقان بين الكفر والايمان موضح مبين لطريق المعرفة والإيقان كَرِيمٌ كثير الخير والنفع لحامليه وممتثلى ما فيه من الأوامر والنواهي مصون مثبت فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ

[سورة الواقعة (56) : آية 79]

محفوظ مستور عن نظر المحجوبين ألا وهو حضرة العلم المحيط الإلهي ولوح قضائه المحفوظ لذلك لا يَمَسُّهُ ولا يتصف بمقتضاه إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ من أوساخ التقليدات والتخمينات وإكدار الأوهام والخيالات العائقة عن الوصول الى صفاء مشرب التوحيد المسقط لعموم الإضافات وكيف يمسه غير اهل الكشف والطهارة الحقيقية مع انه تَنْزِيلٌ منزل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي هو في ذاته منزه عن شوائب النقص وسماته مطلقا أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ العظيم الشأن المنبئ عن محض الحكمة والعرفان أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ متهاونون ايها المسرفون المفرطون وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ حظكم ونصيبكم من إرشاده وهدايته أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ به جهلا وعنادا اتسرفون وتفرطون في الاجتراء على الله وتكذيب كلامه ورسوله المرسل من عنده ايها المسرفون المفرطون فَلَوْلا تذكرون وهلا تتعظون به ولأى شيء تضيعون الفرصة ولا تغتنمونها ايها الضالون المضيعون اما تخافون وقت إِذا بَلَغَتِ النفس الْحُلْقُومَ اى لكل منكم ايها المكلفون بأمر الله وحكمه وَالحال انه أَنْتُمْ ايها الحاضرون حول المحتضر حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ له ولا تعلمون حاله ولا تفهمون ما جرى عليه من سكرات الموت وغمراته وأهواله وافزاعه وَنَحْنُ حينئذ أَقْرَبُ إِلَيْهِ اى الى المحتضر مِنْكُمْ واعلم بحاله وشغله لا قرب الحلول فيه ولا قرب الاتحاد معه بل قرب ذي الظل الى ظله وذي الصورة الى عكسه ومثاله وَلكِنْ أنتم لا تُبْصِرُونَ ولا تدركون قربنا لا اليه ولا إليكم ايها المحجوبون المحرومون ولا تدركون ايضا ما يجرى عليه من الافزاع والأهوال في وقت الترحال فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ اى أنتم لو لم تكونوا مضطرين مملوكين مجبورين تحت قهرنا وقدرتنا تَرْجِعُونَها اى فهلا ترجعون النفس المخرجة البالغة الى الحلقوم الى محلها ولا تمنعونها عن الخروج إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى الاستبداد والاستقلال وعدم المبالاة بالصانع القديم الحكيم العليم فهلا تدفعون الأرواح الى الأبدان بعد بلوغها الحلقوم بل وهلا ترضون بوصولها الى الحلقوم فَأَمَّا بعد خروج الروح من البدن إِنْ كانَ المتوفى مِنَ الْمُقَرَّبِينَ السابقين من الفرق المشار إليها في أول السورة فَرَوْحٌ اى موته له راحة ورحمة وإيصال له فوحة ونفحة من نفحات عالم اللاهوت وازالة زحمة عنه عارضة عليه متعلقة به من كسوة ناسوته وَرَيْحانٌ يشمه من فوائح نفس الرحمان وَجَنَّةُ نَعِيمٍ دائم التنعم والترفه في المقام المحمود والحوض المورود في جوار الخلاق الودود وَأَمَّا إِنْ كانَ المتوفى مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ اى من الأبرار الموصوفين باليمن والكرامة الموروثة له من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية فَسَلامٌ لَكَ يا ذا اليمن والكرامة مِنْ قبل أَصْحابِ الْيَمِينِ امثالك ترحيبا لك وتكريما وَأَمَّا إِنْ كانَ المتوفى من اصحاب الشمال والشآمة الازلية والشقاوة الجبلية يعنى مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بيوم الدين الضَّالِّينَ المنحرفين عن جادة الاستقامة ومحجة اليقين الموصلة الى دار المقامة ومنزل الكرامة فَنُزُلٌ اى فله نزل معد مِنْ حَمِيمٍ بدل ما لم يتعطش في النشأة الاولى الى شربة من زلال برد اليقين ولم يشرب جرعة من رحيق التحقيق ورشحة من حلاب المعرفة والتوحيد وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ اى إدخال نار عظيمة فظيعة بدل ما يتلذذ بنيران الشهوات وبالميل الى المحرمات والمكروهات وبالجملة إِنَّ هذا الذي ذكر في حق هؤلاء الفرق الثلاث لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ بالنسبة الى ارباب الكشف والشهود المطلعين بمراتب الوجود باليقين العلمي والعيني والحقي فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ اى نزه وقدس يا سيد ارباب الشهود والحضور ذات

خاتمة سورة الواقعة

ربك عن شوب مطلق الريب والتخمين بذكر اسمه العظيم المستجمع لعموم أسمائه الحسنى وصفاته العليا فإنك يا أكمل الرسل متمكن على مرتبة الحق اليقين في مطلق اسماء الله وصفاته. جعلنا الله ممن اتصف بحق اليقين وخلص عن امارات الريب والتخمين وسلّم من التردد والتلوين بمنه وجوده خاتمة سورة الواقعة عليك ايها السالك القاصد لانكشاف مراتب الوجود بطريق الكشف والشهود والاطلاع على ما فيها من شوائب الكفر والجحود والانحراف عن الطريق المعهود الذي نزل بتبيينه الكتب والرسل ان تتأمل في عموم أوقاتك وحالاتك بما في هذه السورة العظيمة الشأن البديعة البرهان وتعرض على نفسك دائما احوال الفرق الثلاثة المذكورة فيها وتذكرها عليها حتى يظهر لك انك مع من هو من هؤلاء الفرق اما من السابقين المقربين المقبولين أم من اصحاب اليمين الموفقين المحسنين أم من المكذبين الضالين المعذبين وبالجملة اعبد ربك حتى يأتيك اليقين [سورة الحديد] فاتحة سورة الحديد لا يخفى على من تحقق بوحدة الحق وانكشف بقضاء صمديته وسعة مملكته واستيلاء بسطته وسلطنته الغالبة ان عموم ما ظهر وبطن غيبا وشهادة انما هي من الذاتية وتجلياته الجمالية والجلالية المترتبة على أسمائه وصفاته الذاتية والفعلية لذلك نطقت بوحدته ألسنة عموم مظاهره ومصنوعاته ونزهته عما لا يليق بشأنه كما اخبر سبحانه عن تسبيحهم تنبيها وإرشادا لعباده وحثا لهم الى التوجه والرجوع نحو بابه فقال بعد ما تيمن باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على عموم ما ظهر وبطن بمقتضى التجلي الحبى الرَّحْمنِ عليهم بسعة رحمته ووفور جوده وإحسانه الرَّحِيمِ لخواص عباده يوصلهم الى فضاء توحيده [الآيات] سَبَّحَ لِلَّهِ الواحد الأحد الصمد المستقل بالقيومية والبقاء المتفرد بالتحقق والثبوت على وجه الديمومية الحي الحقيق بالالوهية والرب اللائق بالربوبية مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الكوائن العلوية والسفلية الغيبية والشهادية ونزهه عن مطلق النقائص المنافية لوجوب وجوده وصرافة وحدته الذاتية بعد ما اعترفت ألسنة استعدادات الكل بربوبيته طوعا واشتغلوا بلوازم عبوديته رغبة وَكيف لا يسبحونه ولا يعظمونه سبحانه مع انه هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام الْحَكِيمُ المتقن في ايجادهما وإظهارهما على وفق الارادة والاختيار لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مؤثرات الفواعل العلوية التي هي عبارة عن آثار الأسماء والصفات الإلهية المعبرة بالأعيان الثابتة ومتأثرات القوابل السفلية التي هي عبارة عن استعدادات الطبائع والهيولى المنفعلة منها إذ هو سبحانه بتوحده واستقلاله يُحْيِي وَيُمِيتُ اى يتصرف في ملكه وملكوته بالاحياء والاماتة والنزع واللبس بالإرادة والاختيار وَبالجملة هُوَ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة حضرة علمه ولوح قضائه قَدِيرٌ بالقدرة التامة الكاملة مع انه لا يعزب عن حيطة حضرة علمه الحضوري ذرة مما لمع عليه برق وجوده الوحدانى حسب جوده الفردانى وكيف لا يقدر سبحانه على التصرف بالاستقلال والاختيار في ملكه وملكوته إذ هُوَ الْأَوَّلُ الأزلى السرمدي السابق في الوجود والتحقق وَكذا هو ايضا الْآخِرُ الأبدي الدائم المستمر فيه بلا انقضاء

[سورة الحديد (57) : آية 4]

ولا انتهاء وَكذا هو الظَّاهِرُ المتحقق في الشهادة والعيان وَهو ايضا الْباطِنُ المكنون في عموم الأكوان فانظر ايها الناظر المعتبر هل بقي لغيره وجود ولسواه عين وشهود وَبالجملة هُوَ بذاته بِكُلِّ شَيْءٍ ظهر من امتداد اظلاله وانعكاس اشعة نور وجوده عَلِيمٌ بحضرة علمه الذي هو عين ذاته وحضوره غير مغيب عنه مطلقا ومن كمال علمه وارادته ووفور حكمته وقدرته هُوَ الَّذِي خَلَقَ وقدر ظهور السَّماواتِ المطبقة المعلقة وَالْأَرْضَ المفروشة الممهدة فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ حسب عدد الأقطار والجهات ومقدارها ثُمَّ بعد ما كمل الكل قد اسْتَوى وتمكن عَلَى الْعَرْشِ اى على عروش مطلق المظاهر بالاستيلاء التام والاستقلال الكامل بحيث يَعْلَمُ بعلمه الحضوري ما يَلِجُ ويدخل فِي الْأَرْضِ من حبات البذور وفي أراضي الاستعدادات من بذور المعارف والحقائق وحبوب العلوم اللدنية وَيعلم ايضا ما يَخْرُجُ مِنْها من انواع النباتات ومن اصناف المكاشفات والمشاهدات المترتبة على بذور المعارف والحقائق وصالحات الأعمال ومطلق الخيرات والحسنات وَكذا يعلم بعلمه الحضوري ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ اى عالم الأسباب من السحب والأمطار او من سماء الأسماء الذاتية والصفات الإلهية من مياه العلوم اللدنية والإدراكات الكشفية المحيية لأراضي الاستعدادات وَكذا يعلم ما يَعْرُجُ فِيها من الابخرة والادخنة او الكلمات الطيبة الصاعدة الجالبة لفيضان اليقين والعرفان من المبدأ الفياض وَبالجملة هُوَ سبحانه مَعَكُمْ ايها المظاهر أَيْنَ ما كُنْتُمْ لا معية ذاتية ولا زمانية لا بطريق المقارنة والمخالطة ولا بطريق الاتحاد والحلول بل بطريق الظهور والظلية والحضور ورش النور وَبالجملة اللَّهُ المحيط بكم المظهر لأشباحكم بمد ظله عليكم بِما تَعْمَلُونَ من مطلق الأعمال والأفعال وعموم الحركات والسكنات وجميع الحالات بَصِيرٌ عليم يجازيكم عليها بمقتضى علمه وبصارته في يوم العرض والجزاء إذ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يتصرف فيهما إيجادا أولا واماتة واعداما ثانيا واعادة وبعثا ثالثا وَبعد البعث والإعادة إِلَى اللَّهِ لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية تُرْجَعُ الْأُمُورُ اى رجوع عموم الأمور اليه سبحانه في المعاد والمآل كما ان ظهوره منه في المبدأ والمنشأ إذ منه الابتداء واليه الانتهاء ومن تصرفاته المتقنة في ملكه على وفق حكمته انه يُولِجُ ويدخل اللَّيْلَ اى بعض اجزائه فِي النَّهارِ في فصل الربيع والشتاء وَيُولِجُ النَّهارَ اى بعض اجزائه ايضا فِي اللَّيْلِ في فصل الصيف والخريف حكمة ومصلحة لمعاش عموم الحيوانات ومحافظة لها عن كلى طرفي الإفراط والتفريط وَبالجملة هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بمكنونات ضمائركم ومقتضيات استعداداتكم وبعد ما علم واطلع سبحانه منكم ومن استعداداتكم وقابلياتكم ما ليس لكم به علم آمِنُوا اى انقادوا وأطيعوا حق الإطاعة والانقياد بِاللَّهِ المطلع على عموم مصالحكم وَرَسُولِهِ المستخلف منه النائب عنه سبحانه المبعوث من لدنه لإرشادكم وتكميلكم وَبعد ايمانكم وإطاعتكم أَنْفِقُوا بمقتضى الأمر الوجوبي الإلهي المنبئ عن محض الحكمة والمصلحة مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ اى من أموالكم ومنسوباتكم التي قد استخلفكم الحق سبحانه عليها إذ هي كلها لله إذ العبد وما في يده لمولاه حقيقة لا لكم كما زعمتم فعليكم الامتثال بعموم الأوامر الإلهية سيما امر الانفاق والإيثار الذي يزكى نفوسكم من الميل الى مزخرفات الدنيا العائقة عن الوصول الى جنة المأوى التي هي

[سورة الحديد (57) : آية 8]

مقام التسليم والرضاء فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وأكدوا ايمانهم بالإخلاص في عموم الأعمال والأفعال والأخلاق وَأَنْفِقُوا بلا شوب المن والأذى وشين السمعة والرياء لَهُمْ بسبب ايمانهم وانفاقهم على وجه الإخلاص أَجْرٌ كَبِيرٌ لا اجر اكبر منه وأعلى. ثم قال سبحانه على طريق الحث والإلزام المشعر بالوعيد وَما لَكُمْ اى أى شيء عرض عليكم ولحق بكم ايها المكلفون حتى لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستحق للاطاعة والايمان وَلا سيما الرَّسُولُ المبلغ الكامل في الهداية والتكميل يَدْعُوكُمْ بمقتضى الوحى والإلهام الإلهي المنزل من عنده لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ مع انه صلّى الله عليه وسلّم مؤيد بالمعجزات الساطعة والحجج القاطعة الدالة على صدقه في دعوته من عنده ودعواه في رسالته الى كافة الأنام وَالحال انه قَدْ أَخَذَ الله العليم العلام باستعداداتكم منكم مِيثاقَكُمْ وعهدكم بالإيمان في سالف الزمان اى في مبدأ فطرتكم ومنشأ جبلتكم مع انه سبحانه قد جبلكم حين قدر خلقكم وانشأ فطرتكم على جبلة التوحيد والايمان فماذا يمنعكم عنه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بسبب وموجب فهذا موجب عظيم لا مزيد عليه إذ هُوَ سبحانه الحكيم العليم الَّذِي يُنَزِّلُ من مقام فضله وجوده عَلى عَبْدِهِ محمد صلّى الله عليه وسلم آياتٍ بَيِّناتٍ مبينات واضحات لِيُخْرِجَكُمْ الله سبحانه اصالة ورسوله تبعا وإرشادا مِنَ الظُّلُماتِ المتراكمة المتكاثفة من لوازم الطبيعة ولواحق الهيولى إِلَى النُّورِ اى نور الوجود البحت الخالص عن مطلق القيود وَاعلموا ايها المكلفون إِنَّ اللَّهَ الرقيب المحافظ عليكم مشفق بِكُمْ منكم لأنفسكم بارادة إخراجكم من ظلمات الجهل الى نور اليقين وانه لَرَؤُفٌ عطوف رَحِيمٌ متناه في الرحمة والرأفة وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا اى أى شيء يمنعكم عن الانفاق فِي سَبِيلِ اللَّهِ من مال الله تقربا اليه وطلبا لمرضاته وامتثالا لأوامره وَكيف لا يكون أموالكم لِلَّهِ الغنى بذاته المستغنى عن مطلق مظاهره ومصنوعاته مع انه له سبحانه مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى عموم ما في العلويات والسفليات والممتزجات والحال انه هو غنى بذاته عن انفاقكم وبذلكم الا انه لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ اى أنفق قبل فتح مكة شرفها الله ممتثلا لأمر الله مجتهدا في تقوية دين الإسلام وترويجه وظهوره على الأديان الباطلة وتكثير اهل الحق وتغليبه وَمع إنفاقه على المقاتلين في سبيل الله لإعلاء كلمة توحيده قد قاتَلَ هو ايضا بنفسه وسعى ببذل المال والروح في طريق الحق وترويجه وبالجملة أُولئِكَ السعداء المنفقون المقاتلون هم أَعْظَمُ دَرَجَةً وأكرم مثوبة ومقاما عند الله مَنْ المؤمنين الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ اى بعد فتح مكة وغلبة المسلمين وظهور دين الإسلام على عموم الأديان وَقاتَلُوا بعده مع كثرة المقاتلين وَبالجملة كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى اى قد وعد الله كلا من المسلمين المبادرين والمبطئين الموعدة الحسنى والدرجة العليا والمثوبة العظمى حسب سعيهم واجتهادهم في تقوية الشرع وترويج الدين القويم وَبالجملة اللَّهِ المطلع بسرائر عباده بِما تَعْمَلُونَ اى بعموم أعمالكم وأحوالكم خالصا ومشوبا صالحا وطالحا خَبِيرٌ بصير لا يعزب عن خبرته شيء منها يجازيكم على مقتضى خبرته. ثم قال سبحانه على سبيل الحث والترغيب مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ وينفق في سبيله من أكرم أمواله قَرْضاً حَسَناً بلا شوب المن والأذى وشين السمعة والرياء طلبا لمرضاته سبحانه فَيُضاعِفَهُ لَهُ اى يضاعف له اعواضه واخلافه في الدنيا كرامة عليه وفضلا

[سورة الحديد (57) : آية 12]

وَمع ذلك لَهُ في الآخرة أَجْرٌ كَرِيمٌ وفوز عظيم لا فوز أعظم منه وأكرم ألا وهو التحقق بمقام الرضاء والتسليم والاستغراق بمطالعة وجه الله الكريم اذكر يا أكمل الرسل على سبيل التبشير يَوْمَ تَرَى ايها المعتبر الرائي الْمُؤْمِنِينَ الموحدين الموقنين المخلصين وَالْمُؤْمِناتِ ايضا كذلك يَسْعى نُورُهُمْ اى نور يقينهم وعرفانهم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ اى امامهم وقدامهم وَبِأَيْمانِهِمْ إذ إتيان الكرامة انما هو من هاتين الجهتين فيقول لهم حينئذ من يتلقاهم من الملائكة بُشْراكُمُ الْيَوْمَ دخول جَنَّاتٌ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق لا بحسب وقت دون وقت بل خالِدِينَ فِيها دائمين ذلِكَ اى الخلود في الجنة الموعود هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والنوال الكريم لا فوز أعظم منه عند المكاشفين المشاهدين. ثم عقب سبحانه وعد المؤمنين بوعيد المنافقين فقال ايضا على وجه العظة والتذكير يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ المبطلون المستمرون على النفاق والشقاق مع اهل الحق وَالْمُنافِقاتُ ايضا كذلك لِلَّذِينَ آمَنُوا حين يرونهم يسعى نورهم بين أيديهم وبايمانهم انْظُرُونا ايها السعداء المحقون والتفتوا نحونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ إذ نحن في ظلمة شديدة قِيلَ لهم من قبل الحق على سبيل التوبيخ والتقريع ارْجِعُوا وَراءَكُمْ اى الى دار الاعتبار والاختبار فَالْتَمِسُوا نُوراً واقتبسوه من مشكاة النبوة والولاية بامتثال الأوامر والنواهي الموردة من عنده سبحانه على رسله بالحكم والأسرار الصادرة من السنة اولى العزائم الصحيحة المنجذبين نحو الحق من طريق الفناء فيه بالموت الإرادي. واعلموا ان اكتساب النور واقتباسه انما هو في دار العبرة والغرور لا في دار الحضور والسرور وبعد ما جرى بينهم ما جرى فَضُرِبَ وحيل حينئذ بَيْنَهُمْ اى بين المؤمنين والمنافقين بِسُورٍ حائط حائل لَهُ اى للسور بابٌ مفتوح يدخل منه المؤمنون باطِنُهُ اى باطن الباب فِيهِ الرَّحْمَةُ النازلة من قبل الحق بمقتضى اسم الرحمن على اهل الايمان والعرفان وَظاهِرُهُ اى ظاهر الباب مِنْ قِبَلِهِ سبحانه بمقتضى اسمه المنتقم الْعَذابُ النازل على اهل النفاق والطغيان يُنادُونَهُمْ اى المنافقون المؤمنين حال ستروا عن أعينهم وبقوا في الظلمة والعذاب محرومين قائلين متضرعين أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ايها الرفقاء في دار الدنيا مسلمين منقادين لأحكام الإسلام ممتثلين بأوامر الكلام الإلهي ونواهيه أمثالكم قالُوا اى المؤمنون في جوابهم من السور الحائل بَلى أنتم معنا ظاهرا وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بالنفاق والشقاق حسب باطنكم وَمع ذلك قد تَرَبَّصْتُمْ وانتظرتم بالمؤمنين المقت والدوائر وَارْتَبْتُمْ ترددتم وشككتم في حقية الدين القويم وظهوره على الأديان كلها وَبالجملة قد غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ والاهوية الفاسدة والآراء الباطلة مدى العمر فانتظرتم بالمؤمنين ريب المنون وقد كنتم أنتم على أمانيكم هذه وتطيراتكم حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ الذي هو الموت فمتم منافقين مخادعين وَبالجملة قد غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الذي هو شياطين امارتكم وأمانيكم وتسويلات نفوسكم وقواكم وبعد ما قد وقع ما وقع فَالْيَوْمَ الذي تبلى السرائر فيه لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ ايها المنافقون المخادعون فِدْيَةٌ تفتدون بها لتخليصكم من العذاب لا منكم ايها المنافقون وَلا مِنَ إخوانكم الَّذِينَ كَفَرُوا مجاهرين مصرين على ما هم عليه بلا مبالاة بالدين والدعوة وبالجملة مَأْواكُمُ ومحل رجوعكم وقراركم اليوم جميعا النَّارُ المعدة المسعرة لكم ايها المنافقون بالكفر والمجاهرون به هِيَ

[سورة الحديد (57) : آية 16]

مَوْلاكُمْ اى النار اولى بكم وأليق بحالكم وَبالجملة بِئْسَ الْمَصِيرُ والمرجع النار المعدة للكفار الأشرار. ثم قال سبحانه على سبيل الحث والترغيب والتشويق أَلَمْ يَأْنِ اى لم يقرب الوقت ولم يحضر الأوان لِلَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وبكمالات أسمائه وصفاته أَنْ تَخْشَعَ اى تخضع وتلين وترق قُلُوبُهُمْ التي هي وعاء الايمان والعرفان لِذِكْرِ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستجمع لعموم الأسماء والصفات الإلهية المسقط لجميع الإضافات وَما نَزَلَ في كتابه المبين لطريق توحيده مِنَ الْحَقِّ الحقيق بالامتثال والاتباع اى من الأوامر والنواهي المعدودة فيه لتهذيب الظاهر والباطن والرموز والإشارات المصفية للسر عن الالتفات الى ما سوى الحق وَبالجملة لا يَكُونُوا ايها المؤمنون في الاعراض عن كتاب الله والانصراف عما فيه من الحكم والمصالح كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ وهم اليهود والنصارى فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ ومضى الازمنة والأوان بينهم وبين أنبيائهم فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ عن الايمان مع ان الكتب بين أظهرهم وَلا تفيدهم بل كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن مقتضيات الأوامر والنواهي والحدود والاحكام المذكورة في كتبهم وما هي الا من فرط قساوتهم وغفلتهم فعليكم ايها المؤمنون ان لا تكونوا أمثالهم مع نبيكم ودينكم وكتابكم اعْلَمُوا ايها المؤمنون الموحدون المحمديون أَنَّ اللَّهَ المطلع على قابليات عباده واستعداداتهم الفطرية يُحْيِ الْأَرْضَ اى أراضي استعداداتكم بمياه المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات بَعْدَ مَوْتِها بالجهل والغفلة الناشئة من ظلمات الطبيعة والهيولى وبالجملة قَدْ بَيَّنَّا وأوضحنا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على هدايتكم وتكميلكم في القرآن العظيم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ رجاء ان تتأملوا فيها وتتعظوا بها وتفهموا إشاراتها وتعتبروا منها وتتفطنوا بما فيها من السرائر المرموزة والحكم المكنونة ومن علامات تعقلكم واتعاظكم التصدق والانفاق من مزخرفات الدنيا والتقرب بايثارها نحو المولى إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ اى المتصدقين وَالْمُصَّدِّقاتِ اى المتصدقات وَهم الذين قد أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً خالصا عن شوب المن والأذى طلبا لمرضاته سبحانه يُضاعَفُ لَهُمْ صدقاتهم في النشأة الاولى وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ في النشأة الاخرى وَبالجملة الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وأخلصوا في ايمانهم وأكدوه بصوالح أعمالهم وإحسانهم وَرُسُلِهِ المبعوثين إليهم الهادين لهم الى الايمان أُولئِكَ السعداء المقبولون هُمُ الصِّدِّيقُونَ المبالغون في الصدق غايتها المقصورون على الإخلاص المتمكنون في منهج اليقين الحقي وَالشُّهَداءُ المكاشفون الحاضرون عِنْدَ رَبِّهِمْ المستغرقون بمطالعة لقائه الكريم لَهُمْ في النشأة الاخرى أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ الموعود لهم من قبل الحق على وجه لا مزيد عليه وَالمسرفون المفرطون الَّذِينَ كَفَرُوا بوحدة ذاتنا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على استقلالنا في عموم تصرفاتنا عتوا وعنادا أُولئِكَ الأشقياء البعداء المردودون هم أَصْحابُ الْجَحِيمِ اى ملازموها وملاصقوها بحيث لا نجاة لهم منها أصلا اعْلَمُوا ايها المكلفون المعتبرون أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا اى ما الحياة المستعارة الدنياوية وما حاصلها وجل متاعها الا لَعِبٌ مزخرف باطل عاطل في نفسها يلعب بها اهل الغفلة والحجاب ويتعبون بها نفوسهم طول دهرهم بلا طائل وَلَهْوٌ يلهيهم عما يهمهم ويعنيهم من الحياة الازلية الابدية ولوازمها وَزِينَةٌ قد زينها لهم شياطين قواهم وأمانيهم من المطاعم الشهية والملابس البهية واللذات الوهمية والشهوات البهيمية وَتَفاخُرٌ

[سورة الحديد (57) : آية 21]

بَيْنَكُمْ بالمال والجاه والثروة والسيادة وبالاحساب والأنساب وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ بالمظاهرة والمعاونة وتكثير العدد والعدد والعقارات والتجارات والمواشي والزراعات الى غير ذلك من المزخرفات الفانية التي لإقرار لها ولا مدار بل مثلها كَمَثَلِ غَيْثٍ قد نزل وأنبت إنباتا بحيث قد أَعْجَبَ الْكُفَّارَ اى الحراث نَباتُهُ من كثرته ونضارته وكثافته ثُمَّ يَهِيجُ يجف وييبس بآفة وعاهة فَتَراهُ مُصْفَرًّا منكرا مكروها بعد ما كان مخضرا في كمال النزاهة والنضارة ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً هشيما تذروه الرياح حيث شاءت بلا فائدة ولا عائدة وَمع هذه الخسارة والحرمان في النشأة الاولى لأهل الغفلة والخذلان يكون لهم فِي النشأة الْآخِرَةِ المعدة للجزاء عَذابٌ شَدِيدٌ بسبب اشتغالهم بالدنيا وما فيها وَبالجملة مَغْفِرَةٌ ستر ومحو لذنوب اصحاب المعاملات ناشئة مِنَ اللَّهِ الغفور الرحيم بمقتضى لطفه وسعة رحمته وجوده وَرِضْوانٌ منه سبحانه لأرباب القلوب والمكاشفة خير من الدنيا وما فيها بل من اضعافها وآلافها عند من تحقق برتبة الإنسان وسعة قلبه المصور على صورة الرحمن وَبالجملة مَا الْحَياةُ الدُّنْيا عند الأحرار الأبرار البالغين بدرجة الاعتبار والاستبصار إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ومخايل الخديعة والزور ومن اغتربها ولحق بما فيها فقد استحق الويل والثبور وحرم عليه الحضور والسرور. ومتى سمعتم ايها المؤمنون المعتبرون حال الدنيا ومآلها وحال العقبى وما يترتب عليها سابِقُوا سارعوا بادروا بوفور الرغبة والرضاء إِلى تحصيل اسباب مَغْفِرَةٍ مرجوة مِنْ رَبِّكُمْ الذي رباكم على فطرة الهداية والتوحيد وَوسائل دخول جَنَّةٍ وسيعة فسيحة عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بحسب متفاهم العرف وإلا فلا يكال سعة الجنان وعرش الرحمن وقلب الإنسان الكامل كما يشهد به قلب العارف المحقق المتحقق بمقام القلب الذي هو وعاء الحق المنزه عن مطلق المقادير والتقادير قد أُعِدَّتْ وهيئت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ على وجه الإخلاص وأكدوا ايمانهم وإخلاصهم بالرضاء والتسليم بعموم ما جرى عليهم من القضاء وفوضوا أمورهم كلها الى المولى حتى صار علمهم منتهيا الى العين وعينهم الى الحق ذلِكَ التحقيق والانتهاء فَضْلُ اللَّهِ بلا سبق شيء يوجبه ويجلبه وعبودية تستحقه بل يُؤْتِيهِ ويعطيه مَنْ يَشاءُ عناية منه سبحانه وإحسانا ناشئا من محض الارادة والاختيار كيف وَاللَّهُ الغنى بذاته المستغنى مطلقا عن عبادة مظاهره واظلاله ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ والكرم العميم يمن على من يشاء من عباده مما يمن بمقتضى سعة رحمته وجوده حسب علمه المحيط باستعداداتهم وقابلياتهم إذ ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ اى ما حدث من حادثة مفرحة او موحشة كائنة فِي الْأَرْضِ اى في اقطار الآفاق من الخصب والرخاء والزلزلة والوباء الى غير ذلك من المفرحات والموحشات الحادثة في الأنحاء والارجاء وَلا كائنة فِي أَنْفُسِكُمْ من العوارض السارة والشهوات الملذة او من الأمراض المردئة والملمات المؤلمة إِلَّا قد ثبت حدوثها في ساعة كذا في آن كذا على وجه كذا فِي كِتابٍ اى في حضرة العلم المحيط الإلهي ولوح قضائه على اختلاف العبارات مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها نخلقها ونظهرها اى ثبت حدوث الحادثة في وقتها في كتابنا قبل ان تخلق الحادثة بزمان لا يعلم احد مقداره الا نحن ولا تستبعدوا من قدرتنا أمثال هذا إِنَّ ذلِكَ الثبت والتقدير السابق وان كان عندكم عسير عَلَى اللَّهِ القادر المقتدر الغالب على عموم المقدورات يَسِيرٌ في جنب قدرته والحكمة في ثبتها قبل خلقها لِكَيْلا تَأْسَوْا ولا تحزنوا ايها المجبولون

[سورة الحديد (57) : آية 24]

على فطرة الكفران والعصيان عَلى ما فاتَكُمْ من اللذات والشهوات وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ منها ليكون فرحكم سببا لكبركم وخيلائكم على ضعفاء الأنام وعدم قراءة السلام وَبالجملة اللَّهُ المطلع على ما في استعدادات عباده من النخوة والاستكبار لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ ذي كبر وخيلاء منهم فَخُورٍ مفاخر مباه بسبب المال والجاه والثروة والسيادة على اقرانه وأبناء جنسه وإذا كان الأمر كذلك فلا تسندوا الأمور مطلقا الى الأسباب والوسائل العادية ولا الى انفسكم بل فوضوها كلها الى الله وأسندوها اليه سبحانه بالأصالة فلا تفرحوا ولا تحزنوا بل أفنوا في الله وابقوا لتتمكنوا في مقعد صدق عند مليك مقتدر والمختالون المفتخرون هم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ويمسكون عن التصدق والانفاق ويجمعون من حطام الدنيا مقدار ما يفتخرون بها ويتفوقون على اقرانهم بسببها وَمن غاية بخلهم وامساكهم يَأْمُرُونَ النَّاسَ ايضا بِالْبُخْلِ لئلا يلحق عار البخل بهم خاصة وليعرضوا وليصرفوا ضعفاء الأنام عن امتثال امر الله بالإنفاق شحا وبخلا حتى لا ينالوا المثوبة العظمى والكرامة الكبرى في النشأة الاخرى من عنده سبحانه وَبالجملة مَنْ يَتَوَلَّ ويعرض عن الله ولم يشكر بنعمه ولم يواظب على أداء حقوق كرمه فلا يضره سبحانه ولا ينقص شيأ من علو شأنه وسمو برهانه فَإِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء هُوَ الْغَنِيُّ بذاته عن اطاعة عباده وانفاقهم وكذا عن عصيانهم وكفرانهم الْحَمِيدُ حسب أسمائه وصفاته الذاتية بلا افتقار له الى محامد مظاهره ومصنوعاته. ثم قال سبحانه على سبيل الامتنان لعموم عباده إرشادا لهم الى سبيل السلامة والسداد وحثا لهم الى التزام الطاعات والعبادات المقربة لهم الى فضاء الوحدة لَقَدْ أَرْسَلْنا من مقام عظيم جودنا رُسُلَنا المبعوثين الى هداية العباد وإرشادهم الى سبيل السداد وايدناهم بِالْبَيِّناتِ المعجزات الواضحات وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ المشتمل على الآيات الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا وَأنزلنا ايضا معهم الْمِيزانَ الموضوع للقسط والعدالة كل ذلك لِيَقُومَ النَّاسُ المجبولون على الغفلة والنسيان بِالْقِسْطِ والعدل السوى فيصيرون مستقيمين على صراط الله الأعدل الأقوم الذي هو الشرع القويم والدين المستقيم المنزل على الرسول المبعوث بالخلق العظيم وَأَنْزَلْنا ايضا الْحَدِيدَ لزجر المنحرف العنيد إذ فِيهِ اى في السيف الصارم الحديد المتخذ من الحديد بَأْسٌ شَدِيدٌ للمائلين عن جادة الشريعة والمترددين عن الدين القويم وَان كان ايضا فيه مَنافِعُ كثيرة لِلنَّاسِ لتوقف عموم الحرف والصنائع عليه وانما أرسل سبحانه وَانزل معه ما انزل لِيَعْلَمَ اللَّهُ اى يظهر ويميز من عباده مَنْ يَنْصُرُهُ سبحانه وَينصر رُسُلَهُ المرسلين من لدنه اى من ينصر دينه المنزل على كل واحد من رسله المبعوثين من عنده لإظهاره وترويجه بِالْغَيْبِ اى قيام الساعة وانكشاف السرائر وما ذلك الإرسال والإنزال منه سبحانه الا لابتلاء العباد واختبارهم والا فهو سبحانه منزه في ذاته عن اعانتهم ونصرهم إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على انواع الانعام والانتقام قَوِيٌّ على إهلاك من أراد إهلاكه عَزِيزٌ غالب على عموم مقدوراته بلا مظاهرة ومعاونة وانما امر سبحانه بالجهاد لينالوا بامتثاله أعظم المثوبات. ثم قال سبحانه على سبيل التخصيص بعد التعميم للاعتناء والاهتمام بشأن المذكورين وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً الى قومه حين فشا الجدال والمراء بينهم وشاع ميلهم وانحرافهم عن المنهج القويم وَإِبْراهِيمَ حين ظهر الشرك وعبادة الأوثان

[سورة الحديد (57) : آية 27]

والأصنام بين قومه وَمن كمال تعظيمنا وتكريمنا إياهما جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ابدا فَمِنْهُمْ اى بعض قليل من ذريتهما مُهْتَدٍ وَبعض كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن جادة العدالة والقسط الإلهي ثُمَّ قَفَّيْنا وعقبنا عَلى آثارِهِمْ وبعد انقراضهم بِرُسُلِنا تترى وايدناهم بالكتب والصحف وانواع الآيات والمعجزات وَبعد ما انقرضوا ايضا قد قَفَّيْنا الكل بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وأيدناه بروح القدس وَمن كمال صفوته ونجابة عرقه وطينته قد جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وآمنوا له وتدينوا بدينه رَأْفَةً عطفا ولينا بالنسبة الى عموم العباد الى حيث يعفون عن القاتل ولا يضربون الضارب والشاتم وَرَحْمَةً يرحمون بها عموم خلق الله وَمن شدة محبتهم ومودتهم بالنسبة الى الله قد اخترعوا رَهْبانِيَّةً وتزهدا يبالغون بها في عموم العبادات الى حيث لا يطعمون ولا يشربون أياما كثيرة ولا ينكحون في مدة اعمارهم قط ولا يختلطون مع الناس بل يوطنون نفوسهم في شعب الجبال وقلب الكهوف والاغوار وانما ابْتَدَعُوها كل ما ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بلا رخصة ووحى منا إياهم إذ ما كَتَبْناها اى الرهبانية وما فرضناها وما قدرناها عَلَيْهِمْ حتما في دينهم وكتابهم بل ما اختاروها إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ وطلبا لمرضاته ومع ذلك فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها اى ما وافقت رهبانيتهم بدينهم وبكتابهم إذ قد كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم مع ان الايمان به صلّى الله عليه وسلّم من أعظم معتقدات دينهم وكتابهم فتركوه ظلما وعدوانا وأنكروا عليه صلّى الله عليه وسلّم جهلا وعنادا له فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ بمحمد صلّى الله عليه وسلم أَجْرَهُمْ اى اجر ايمانهم وأعمالهم بأضعاف ما استحقوا وآلافها وَلكن كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن مقتضى دينهم وكتابهم بإنكار محمد صلّى الله عليه وسلم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله على مقتضى دين الرسل الماضين صلوات الله عليهم وسلامه المبعوثين لتبيين طريق توحيد الصفات والأفعال اتَّقُوا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الغيور واحذروا عن بطشه بمخالفة امره وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ المرسل من عنده لتبيين طريق توحيده الذاتي يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ سبحانه نصيب عظيم لأيمانكم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ونصيب آخر لأيمانكم لمن قبله من الرسل وَيَجْعَلْ لَكُمْ سبحانه ببركة ايمانكم بمحمد صلّى الله عليه وسلم نُوراً مقتبسا من مشكاة النبوة والرسالة المخصوصة بالحضرة الختمية الخاتمية المحمدية تَمْشُونَ بِهِ اى بذلك النور الى المحشر وَيَغْفِرْ لَكُمْ سبحانه ببركته ذنوبكم وَبالجملة اللَّهَ الفرد الصمد العليم الحكيم غَفُورٌ لذنوب عباده رَحِيمٌ لهم يرحمهم ويقبل توبتهم ان أخلصوا فيها وانما فعل بهم سبحانه ما فعل من الكرامات المضاعفة لِئَلَّا يَعْلَمَ اى ليعلم يقينا أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ اى ان الشأن والأمر انهم لا يستطيعون عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ المكرم المفضل وثوابه بان يجلبوه بايمانهم وأعمالهم لو لم يرد سبحانه إتيانه لهم تفضلا وإحسانا وَيعلمون ايضا يقينا أَنَّ الْفَضْلَ المطلق والانعام العام والإحسان الكامل التام بِيَدِ اللَّهِ المتصرف بالاستقلال في ملكه وملكوته بالإرادة والاختيار وفي قبضة قدرته وتحت حكمه وحكمته يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده ارادة واختيارا وَبالجملة اللَّهِ المتعزز برداء العظمة والكبرياء ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ والطول العميم والكرم الجسيم سيما على ارباب العناية من عباده. جعلنا الله ممن تفضل عليه الحق حسب جوده وكرمه

خاتمة سورة الحديد

خاتمة سورة الحديد عليك ايها المحمدي المترقب للفضل الإلهي وسعة لطفه وجوده ان تلازم على أداء ما افترض عليك من الطاعات والعبادات وتداوم على الاتصاف بالآداب السنية والأخلاق المرضية المقتبسة من كتاب الله المنزل من عنده للإرشاد الى منهج الرشد والى نيل عموم السعادات وكذا من سنن سيد السادات وسند ارباب الولاية والكرامات وتقتقى بآثار السلف المجتازين في مضمار المعارف والمكاشفات والمشاهدات وإياك إياك الالتفات الى مزخرفات الدنيا الدنية وما فيها من اللذات والشهوات الوهمية العائقة عن التوجه الى المولى والوصول الى سدرة المنتهى وان الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم [سورة المجادلة] فاتحة سورة المجادلة لا يخفى على الموحدين المتحققين بمقام الرضاء والتسليم ان من توكل على الله وفوض الأمور كلها اليه ورجع في عموم الخطوب والملمات نحوه سبحانه متضرعا خاشعا خاضعا متذللا سائلا منه سبحانه مطلوبه داعيا اليه لأجله فان الله يجيب له ويصيبه الى مطلوبه ان كان سؤاله منبعثا عن صدق العزيمة وخلوص النية إذ السؤال والدعاء على هذا المنوال انما هو من امارات الاجابة والقبول وإنجاح المأمول إذ جريان الحوادث كلها انما هو بتوفيق الله وتيسيره وصدور المسئول عن كمال الحضور والخضوع وعن محض التبتل والتوكل انما هو من علامات القبول كما صدر مثل هذا عن المرأة المجادلة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين بثت وبسطت شكواها الى الله متضرعة نحوه راجية منه الإنجاح والقبول ومن كمال إخلاصها وخضوعها قد أجاب الله دعاءها حيث اوحى سبحانه الى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم في شأنها ما اوحى بعد ما تيمن باسمه الأعلى فقال بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بعموم كمالاته على قلوب المخلصين الرَّحْمنِ عليهم يوفقهم على الإخلاص في مطلق العزائم المهمة لهم المتعلقة بدينهم الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى ما وفقهم عليه [الآيات] قَدْ سَمِعَ اللَّهُ السميع المجيب لمناجات عباده العليم لحاجاتهم قَوْلَ الَّتِي اى دعاء الامرأة التي تُجادِلُكَ يا أكمل الرسل فِي حق زَوْجِها حين وقع بينهما ظهار. روى ان خولة بنت ثعلبة قد ظاهر عنها زوجها أوس بن الصامت وكان الظهار والإيلاء حينئذ من عداد الطلاق فاستفتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال في جوابها قد حرمت عليه فقالت ما طلقني فقال صلّى الله عليه وسلّم قد حرمت عليه فكررها مرارا فأجاب صلّى الله عليه وسلّم كذلك وَبعد ما أيست أخذت تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ العليم الحليم متضرعة خاشعة فجيعة أذلها أولاد صغار ولا متعهد لهم سواها فقالت مناجية الى الله مشتكية اللهم انى اشكو إليك وأتضرع نحوك فانزل على نبيك ما يؤلف بيني وبين زوجي وترحم على أولادي المعصومين المرحومين فأوحى سبحانه الى رسوله صلّى الله عليه وسلّم قد سمع الله الآية وَبالجملة اللَّهُ المطلع على عموم ما جرى بينكما يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما وتراجعكما في الكلام وكيف لا إِنَّ اللَّهَ العليم بالسرائر والقضايا سَمِيعٌ لأقوال عباده بَصِيرٌ بأحوالهم ونياتهم فيها ثم بين سبحانه حكم الظهار فقال الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ والظهار في اصطلاح الفقهاء هو ان يقول الرجل لامرأته

[سورة المجادلة (58) : آية 3]

عند الخصومة أنت على كظهر أمي يعنى يشبهها بامه المحرمة عليه فكانت حينئذ محرمة عليه الحكم هكذا في عادة الجاهلية إذ الحرمة قد سرت إليها بمجرد التشبيه فصارت هي بمنزلة الام فرد الله سبحانه عليهم أمرهم هذا بقوله ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ بمجرد هذا القول الباطل إِنْ أُمَّهاتُهُمْ اى ما أمهاتهم إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ فلا يشبه بهن في الحرمة غيرهن الا ما ورد الشرع بتحريمهن مثل أمهات الرضاع وازواج النبي صلّى الله عليه وسلّم اللاتي هن أمهات المؤمنين حكما وَإِنَّهُمْ من شدة افراطهم وطغيانهم لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ مردودا في الشرع وَزُوراً باطلا منحرفا عن الحق في نفسه إذ لا تشبه الزوجة بالأم وَإِنَّ اللَّهَ المطلع لضمائر عباده ونياتهم لَعَفُوٌّ لفرطات القائلين غَفُورٌ لذنوبهم ان تابوا واستغفروا وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ للتلافى والتدارك مناقضين لِما قالُوا نادمين عنه راجعين فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ اى لزمهم في الشرع تحرير رقبة في كل مرة ليكون زجرا وردعا لهم وكفارة لقولهم المنكر الباطل ذلك مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا اى يستمتعا ويجتمعا اى المظاهر والمظاهر عنها ذلِكُمْ اى الزام الكفارة عليكم تُوعَظُونَ بِهِ وترتدعون عنه خوفا من الغرامة إذ ليس هو من شيم اهل الايمان بل ما هي إلا من ديدنة الجاهلية الاولى وَبالجملة اللَّهُ المراقب على عموم أحوالكم وأعمالكم بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بجميع أعمالكم ونياتكم فيها فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ولم يقدر على تحرير الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ اى كفارة ظهاره صيام شهرين مُتَتابِعَيْنِ متصلين متوالى الأيام فان فصل وأفطر يوما استأنف وانما اشترط التتابع والتوالي لتنزجر نفسه وترتدع عنه ولا يفعله قط ولا يتكلم به مرة اخرى ذلك ايضا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ويتجامعا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ولم يقدر للصوم لهرم او مرض او شبق مفرط فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً يعطى كل مسكين مدا من الطعام ذلِكَ اى لزوم الصوم والإطعام عند فقدن التحرير المذكور لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ اى تؤمنوا بالله في عموم الاحكام الدينية وتصدقوا رسوله في جميع ما جاء به من عند ربه من الأوامر والنواهي الإلهية الجارية على لسانه وتتركوا عموم ما أنتم عليه من الرسوم والعادات الجارية بينكم في جاهليتكم الاولى وَبالجملة تِلْكَ الحدود المذكورة حُدُودُ اللَّهِ المصلحة لأحوالكم انما وضعناها بينكم لتصلحوا بها ما أفسدتم على انفسكم بمقتضى اهويتكم الفاسدة وآرائكم الباطلة وَاعلموا انه لِلْكافِرِينَ الجاحدين الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية والاحكام الشرعية عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا والآخرة. ثم قال سبحانه على سبيل الوعيد والتهديد إِنَّ المسرفين المفرطين الَّذِينَ يُحَادُّونَ ويعادون اللَّهَ وَرَسُولَهُ حيث يصنعون حدودا مبتدعة مخالفة لحدود الله وحدود رسوله بل هم يبتدعونها من تلقاء أنفسهم مراء ومجادلة ومعاداة لرسوله كُبِتُوا اى قد أكب والم وأحاط عليهم العذاب النازل من الله فهلكوا بالمرة كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم الماضية وَكيف لا نهلكهم ولا نستأصلهم قَدْ أَنْزَلْنا لإصلاح أحوالهم وأخلاقهم وعموم أطوارهم آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات مشتملات على حكم ومصالح لا تحصى فأبوا عنها ولم يقبلوها بل كذبوها وأنكروا عليها وعلى من أنزلت اليه عتوا وعنادا وَبالجملة لِلْكافِرِينَ المستكبرين بما عندهم من الثروة والرياسة عَذابٌ مُهِينٌ حيث يبدل عزهم ذلا ونخوتهم وخيلاءهم لعنة وطردا اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ

[سورة المجادلة (58) : آية 7]

من قبورهم جَمِيعاً بحيث لا يشذ منهم احد فَيُنَبِّئُهُمْ ويخبرهم بِما عَمِلُوا اى بعموم أعمالهم وأفعالهم تفضيحا لهم وتشهيرا على رؤس الاشهاد بحيث قد أَحْصاهُ اللَّهُ المحصى العليم وفصله عليهم على وجه لا يغيب عن حيطة علمه وإحصائه شيء من عملهم وَهم قد نَسُوهُ لكثرة تهاونهم به وَكيف لا يحصى سبحانه عليهم أعمالهم إذ اللَّهُ بمقتضى ألوهيته وحيطة ذاته وأوصافه عَلى كُلِّ شَيْءٍ من مظاهره شَهِيدٌ حاضر غير مغيب عنه أَتستبعد شهادته سبحانه وحضوره عند عموم مظاهره ومصنوعاته ولَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي ولم تعلم أَنَّ اللَّهَ المحيط بالكل بالالوهية والظهور يَعْلَمُ بعلمه الحضوري عموم ما فِي السَّماواتِ اى الكائنات العلوية وَما فِي الْأَرْضِ اى الكائنات السفلية كلياتهما وجزئياتهما محسوساتهما ومعقولاتهما بحيث ما يَكُونُ يوجد ويقع مِنْ نَجْوى وسر معهود بين ثَلاثَةٍ يسرون بها ويضمرونها في نفوسهم إِلَّا هُوَ سبحانه رابِعُهُمْ بل هو اعلم منهم بنجويهم واعرف بما في ضمائرهم منهم بل هو العالم حقيقة وَلا خَمْسَةٍ وكذا لا يقع نجوى بين خمسة مكنونة في ضمائرهم مصونة عن من سواهم إِلَّا هُوَ سبحانه سادِسُهُمْ بل علمه بها أتم وأكمل من علمهم وَبالجملة لا يقع أَدْنى مِنْ ذلِكَ الجمع المذكور وَلا أَكْثَرَ منه إِلَّا هُوَ سبحانه مَعَهُمْ بل هو العالم بذاته وبمقتضى وحدته الا انه قد ظهر في أشباحهم وهوياتهم لا على سبيل المقارنة الذاتية والزمانية ولا على سبيل الاتحاد والحلول بل بطريق معية الظل مع ذي الظل ومعية الأمواج مع الماء والصور مع ذي الصورة في المرايا ولا يقيد ايضا معيته بالمكان بل أَيْنَ ما كانُوا قد كان معهم لاستواء عموم الأمكنة والازمنة بلا تحيز وحلول وقيام ونزول وبالجملة يعلم سبحانه منهم جميع ما صدر عنهم لكن لم يطلعهم بعلمه إياهم لئلا يبطل حكمة التكاليف الواقعة منه سبحانه بالنسبة الى عموم عباده ثُمَّ بعد انقضاء أوان التكليف وانقراض نشأة الاختبار يُنَبِّئُهُمْ سبحانه بِما عَمِلُوا اى يخبرهم بعموم أعمالهم يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة لتنقيد الأعمال وترتيب الجزاء الموعود عليها تفضيحا لهم وتقريرا لما يستحق ويليق بهم من العذاب والنكال لئلا يكون لهم على الله حجة ولا ينسبونه سبحانه الى الظلم حين الأخذ إذ الإنسان مجبول على الجدال والمراء بل هو اكثر شيء جدلا وبالجملة أَنَّ اللَّهَ المطلع على عموم ما كان ويكون غيبا وشهادة ظاهرا وباطنا بِكُلِّ شَيْءٍ لمع عليه برق الوجود عَلِيمٌ بعلمه الحضوري لا يعزب عن حيطة علمه شيء. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للمنافقين أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي إِلَى المنافقين الَّذِينَ نُهُوا ومنعوا عَنِ النَّجْوى والتغامز فيما بينهم بالعيون والحواجب حين جلسوا في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع المؤمنين فمنعهم صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ إصرارا ومكابرة وَهم يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ الموجب للحد الشرعي وَالْعُدْوانِ عن الأوضاع الشرعية الموضوعة على منهج العدالة وَمَعْصِيَةِ- الرَّسُولِ وتكذيبه والاعراض عنه وعن دينه مهما أمكن لهم وَبالجملة هم من شدة شكيمتهم وغلظ غيظهم وضغينتهم إِذا جاؤُكَ يا أكمل الرسل حَيَّوْكَ على وجه النفاق بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ فيقولون السام عليك او أنعم صباحا مع ان الله سبحانه يقول سلام على عباده الذين اصطفى وَبعد ما حيوك حسب اهوائهم الفاسدة وقصدوا مقتك في تحيتهم يَقُولُونَ حينئذ فِي أَنْفُسِهِمْ ونجواهم على سبيل التهكم والاستهزاء

[سورة المجادلة (58) : آية 9]

لَوْلا هلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ لو كان محمد نبيا فظهر من عدم تعذيب الله إيانا انه ليس بنبي قيل لهم حينئذ من قبل الحق حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذابا يَصْلَوْنَها ويدخلون فيها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم جهنم البعد والخذلان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عليكم إِذا تَناجَيْتُمْ فيما بينكم فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ مثل مناجاة أولئك الأشقياء المردودين بل وَتَناجَوْا ان تتناجوا بِالْبِرِّ الموجب لانواع الخيرات الجالب لأصناف المثوبات وَالتَّقْوى من محارم الله ولا سيما عن عصيان الرسول المستلزم لانواع الخسران والحرمان وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ في يوم النشور ونحوه تبعثون من الأجداث والقبور. ثم قال سبحانه إِنَّمَا النَّجْوى والأسرار بالإثم والعدوان ومعصية الرسول انما تنشأ مِنَ الشَّيْطانِ المضل المغوى انما يحملهم عليها لِيَحْزُنَ عن نجويهم بهذه الأوزار والآثام الَّذِينَ آمَنُوا ويغتموا بها وَالحال انه لَيْسَ الشيطان وما يلقنهم من التناجي بالسوء بِضارِّهِمْ اى المؤمنين شَيْئاً من الضرر إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وبمقتضى مشيته وارادته وَبالجملة عَلَى اللَّهِ المراقب الحافظ لعموم عباده فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ الرابطون قلوبهم بالله في عموم أحوالهم المفوضون أمورهم كلها اليه اصالة فانه سبحانه يكفى لهم مؤنة شرور أعدائهم ونجويهم إياهم بالسوء والعدوان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى أخلاقكم الحسنة المورثة لكم عن ايمانكم وعرفانكم بالله إِذا قِيلَ لَكُمْ وقت التضيق والتجسس في المجالس تَفَسَّحُوا وتوسعوا فِي الْمَجالِسِ اى مطلق المجالس والمحافل المشتملة على الازدحام والغلبة فَافْسَحُوا ووسعوا مبادرين بلا مطل وتحرج وتضجر يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ويوسع عليكم في عموم ما تريدون الوسعة فيه بل وَإِذا قِيلَ لكم انْشُزُوا وانهضوا واخرجوا من المضائق والمجالس فَانْشُزُوا واخرجوا طائعين راغبين طالبين الثواب من الله بتوسيعكم على إخوانكم ولا تتوهموا الإذلال بالنشوز وانكسار الحرمة بل يَرْفَعِ اللَّهُ القادر المقتدر على وجوه الانعام الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ونشزوا عن المضائق لمصلحة إخوانهم طوعا درجات من القرب والمكانة مع ان المؤمن الموحد العارف المتمكن في مرتبة اليقين الحقي لا يتفاوت عنده المدح والذم والإعزاز والإذلال والمضرة والمسرة والمنح والمحن والفرح والترح مطلقا وَبالجملة الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اللدني المنشعب من حضرة العلم المحيط الإلهي دَرَجاتٍ لا يكتنه وصفها ولا يمكن حصرها وَاللَّهُ المطلع بضمائركم وقلوبكم بِما تَعْمَلُونَ من الاستكبار والاستكراه وتوهم الإذلال والاستنكاف عن الامتثال خَبِيرٌ يجازيكم على مقتضى خبرته. ثم أشار سبحانه الى تعظيم رسوله صلّى الله عليه وسلّم وتأديب من تبعه من المؤمنين المسترشدين منه صلّى الله عليه وسلّم فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم بالله وتصديقكم برسوله انكم إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ وأردتم المناجاة معه والاستفادة منه صلّى الله عليه وسلم فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ اى قدام مناجاتكم وعرض حاجاتكم اليه صلّى الله عليه وسلم صَدَقَةً تصدقا لفقراء الله وإنفاقا لعياله سبحانه ذلِكَ التصدق بمحبة رسول الله خَيْرٌ لَكُمْ في أولئكم وأخراكم وَأَطْهَرُ لنفوسكم من الميل الى زخارف الدنيا فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ما ينفقون فَإِنَّ اللَّهَ المطلع على قصدكم ونياتكم غَفُورٌ رَحِيمٌ على من فقد وجه الصدقة. ثم قال سبحانه على سبيل الرخصة أَأَشْفَقْتُمْ وخفتم الفقر والفاقة من أَنْ تُقَدِّمُوا وتصدقوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ اى

[سورة المجادلة (58) : آية 14]

قدام مناجاتكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم صَدَقاتٍ اى لكل نجوى صدقة ولو كلمة طيبة منبئة عن كمال المحبة والوداد فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ولم تصدقوا بسبب الإشفاق من الفقر وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اى قبل منكم توبتكم ان صدر عنكم على وجه الندم والإخلاص عن جريمة الإشفاق والتحسر على ما فوتم وبالجملة عفا الله عنكم وتجاوز عن جريمتكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ الموقتة المكتوبة لكم وَآتُوا الزَّكاةَ المفروضة المقدرة من أموالكم وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في عموم الأوامر والنواهي على وجه الإخلاص وَاللَّهُ المطلع بضمائركم ونياتكم خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ اى بعموم أعمالكم وإخلاصكم فيها. ثم أشار سبحانه الى تفضيح المنافقين وتوبيخهم فقال أَلَمْ تَرَ ايها المعتبر الرائي إِلَى المنافقين الَّذِينَ تَوَلَّوْا اى والوا وتحابوا قَوْماً قد غَضِبَ اللَّهُ المنتقم الغيور عَلَيْهِمْ يعنى اليهود واختاروا موالاتهم وصاحبوا معهم في خلواتهم واشتغلوا بغيبة المؤمنين عندهم مع انهم ما هُمْ اى المنافقون مِنْكُمْ ايها المؤمنون حقيقة وان كانوا منكم ظاهرا وَلا مِنْهُمْ اى ولا من اليهود ظاهرا وان كانوا منهم حقيقة وَمن شدة شقاقهم ونفاقهم يَحْلِفُونَ بالله عَلَى الْكَذِبِ صريحا وهو دعوى الإسلام والإخاء مع المؤمنين وَالحال انهم هُمْ يَعْلَمُونَ كذب أنفسهم ويزورون بحلفهم على المؤمنين تغريرا مع انه لا نفع لحلفهم عند الله ولا يدفع شيأ من عذابه وقت حلوله إليهم إذ أَعَدَّ اللَّهُ المراقب على عموم أحوالهم لَهُمْ اى للمنافقين الحالفين على الكذب عَذاباً شَدِيداً أشد من عذاب اليهود والمجاهر بالكفر بلا زور وتزوير وبالجملة إِنَّهُمْ اى اهل النفاق من خبث طينتهم وشدة شكيمتهم ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من التمرن على النفاق والإصرار بمعاونة اهل الشرك والشقاق مع دعوى المواخاة والوفاق مع المؤمنين. قيل نزلت في عبد الله ابن نبتل المنافق إذ كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسا يوما في حجرة من حجراته فقال صلّى الله عليه وسلّم لجلاسه يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار ينظر بعين شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان ارزق فقال صلّى الله عليه وسلّم علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل ثم جاء بأصحابه فحلفوا جميعا على الكذب وبالجملة اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ الكاذبة جُنَّةً وقاية لدمائهم وأموالهم فَصَدُّوا ومنعوا المؤمنين بسبب حلفهم الكاذب عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو غزوهم وقتالهم في النشأة الاولى فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ في النشأة الاخرى لاستهانتهم بالله بالحلف الكاذب ولا يدفع عنهم الاهانة والعذاب يومئذ أصلا إذ لَنْ تُغْنِيَ ولن تدفع يومئذ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ عذاب اللَّهِ شَيْئاً بل أُولئِكَ الأشقياء البعداء المنصرفون عن منهج الحق أَصْحابُ النَّارِ ملازموها وملاصقوها ابدا هُمْ فِيها خالِدُونَ مخلدون لا يرجى نجاتهم منها أصلا اذكر لهم يا أكمل الرسل على سبيل التوبيخ والتقريع يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ القادر المقتدر على الأحياء والاماتة في الإبداء والإعادة جَمِيعاً مجتمعين فيعاتبهم بما صدر عنهم مثل ما عاتبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فَيَحْلِفُونَ لَهُ سبحانه حينئذ على انهم مسلمون مؤمنون كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ الأن ايها المؤمنون وَيَحْسَبُونَ حينئذ ايضا أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ من جلب نفع ودفع ضر حاصل من حلفهم الكاذب فيتخيلون انهم يروجون بالحلف الكاذب ما يدعون من الكذب على الله كما يروجون عليكم اليوم ولم يعلموا ان الناقد يومئذ خبير بصير والترويج اليه صعب عسير أَلا اى تنبهوا ايها المؤمنون المخلصون أَنَّهُمْ اى المنافقين هُمُ

[سورة المجادلة (58) : آية 19]

الْكاذِبُونَ المقصورون على الكذب والزور والتلبيس والغرور إذ اسْتَحْوَذَ اى قد غلب واستولى عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ المضل المغوى فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ المنقذ عن الضلال الى الهداية وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون حِزْبُ الشَّيْطانِ اى جنوده واتباعه أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران المؤبد والحرمان المخلد عن ربح المعرفة واليقين. أعاذنا الله وعموم عباده عن متابعة الشيطان المضل المغوى. ثم قال سبحانه إِنَّ المفسدين المسرفين الَّذِينَ يُحَادُّونَ ويعادون اللَّهَ وَرَسُولَهُ ويتجاوزون عن الحدود الموضوعة في الشرع بالوضع الإلهي المنزل على رسوله بالوحي والإلهام أُولئِكَ البعداء المتجاوزون المعادون معدودون فِي زمرة الْأَذَلِّينَ اى من جملة من أذل الله وختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة ولهم عذاب اليم وكيف لا يعد المتجاوزون عن الحدود الإلهية من الأذلين إذ قد كَتَبَ اللَّهُ العليم الحكيم واثبت لهم في لوح قضائه بقوله لَأَغْلِبَنَّ البتة أَنَا وَعموم رُسُلِي المرسلين من عندي بالحجج القاطعة ولا يظهر ولا يغلب الا رسله عليهم إِنَّ اللَّهَ المتردي برداء العظمة والكبرياء قَوِيٌّ في ذاته لا حول ولا قوة في الوجود الا منه وبه عَزِيزٌ مقتدر غالب لا يغلب مطلقا في عموم مراداته ومقدوراته. ثم قال سبحانه على سبيل العظة والتذكير لعموم المؤمنين الموحدين لا تَجِدُ قَوْماً صفتهم انهم يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد للحساب والجزاء يُوادُّونَ اى لا تجد ان يتحابوا مَنْ حَادَّ اللَّهَ وعاداه وَرَسُولَهُ ايضا وَلَوْ كانُوا اى العادون المعاندون آباءَهُمْ اى آباء المؤمنين أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وأقرباءهم وذوى أرحامهم أُولئِكَ السعداء المقبولون الممتنعون عن ودادة اعداء الله واعداء رسول الله طلبا لمرضاة الله ومرضاة رسوله قد كَتَبَ اى اثبت ومكن سبحانه فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وقد جعله راسخا فيها وَمع ذلك قد أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ فائض مِنْهُ سبحانه محى لهم ابد الآباد بالحياة الابدية والبقاء السرمدي إذ من حي بحياة الايمان والعرفان دامت له الحياة سرمدا ولم يمت ابدا وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المترسحة من بحر الحياة الأزلي الأبدي الذي هو الوجود المطلق الإلهي خالِدِينَ فِيها ابدا لا يتحولون عنها أصلا إذ قد رَضِيَ اللَّهُ المتجلى عليهم بالرضاء عَنْهُمْ وَرَضُوا ايضا عَنْهُ سبحانه بالتسليم والتفويض اليه وبالجملة أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله حِزْبُ اللَّهِ المتعزز برداء العظمة والكبرياء وحوامل آثار أوصافه وأسمائه الذاتية وقوابل عموم تجلياته حسب شئونه وتطوراته أَلا اى تنبهوا ايها الاظلال المستظلون بظل الله الممدود من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون من عنده بالفوز العظيم والفضل الجسيم والكرم العميم خاتمة سورة المجادلة عليك ايها الطالب للفلاح والمترقب على الفوز والنجاح ان تتمكن في مقام التسليم والرضاء بعموم ما جرى عليك من مقتضيات القضاء وتلازم على آداب الخدمة بين يدي الله في عموم أوقاتك وحالاتك فارغا همك وسرك عن مطلق الوساوس والاشتغال العائق عن التوجه نحو المولى وتواظب على الطاعات والعبادات سيما في خلال الخلوات لتكون مصونة عن السمعة والرياء والميل الى العجب

سورة الحشر

والهوى وإياك إياك ان تتلطخ بقاذورات الدنيا ومزخرفاتها الملهية عن اللذات الاخروية المستتبعة للسلاسل والأغلال الامكانية المبعدة عن الوصول الى فضاء الوجوب وصفاء الوحدة الذاتية التي عبر عنها لسان الشرع بالنعيم الموعود والحوض المورود والمقام المحمود. جعلنا الله ممن وصل اليه وتمكن دونه بمنه وجوده [سورة الحشر] فاتحة سورة الحشر لا يخفى على من تحقق بحيطة الحق وشموله على عموم ما ظهر وبطن في الآفاق والأنفس علما وعينا غيبا وشهادة دنيا وعقبا ان عموم المظاهر والمجالى متوجهة الى المبدأ الحقيقي منجذبة نحوه طوعا عابدة إياه رغبة ساجدة له على وجه الخضوع والخشوع والانكسار التام والتذلل المفرط منزهة مسبحة له عن شوب النقص وسمة الحدوث والزوال كما أخبر به سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلم تنبيها وتأييدا لأمره ليكون هو ومن تبعه من المؤمنين على ذكر من ربهم الذي رباهم على فطرة الدراية والشعور بمطلق المراتب الواقعة في الوجود الإلهي ومظاهر وحدته الذاتية المتجلية حسب الشئون والتطورات الغير المتناهية المترتبة على الأسماء والصفات الذاتية الغير المحصورة فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على عموم ما ظهر وبطن بالحكمة المتقنة العلية الرَّحْمنِ لعموم مظاهره بإضافة الوجود المتجلى على الصور البديعة الرَّحِيمِ لهم بالإعادة والإرجاع الى الفطرة الاصلية والمبدأ الحقيقي [الآيات] سَبَّحَ لِلَّهِ ونزهه تنزيها لائقا بجنابه سبحانه مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ طوعا ورغبة وَكيف لا هُوَ الْعَزِيزُ بذاته المتعزز برداء العظمة والكبرياء والمجد والبهاء الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله المدبر لمصالح عباده كيف يشاء بالإرادة والاختيار وبالجملة هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ بمقتضى عزته وحكمته المفسدين المسرفين الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبرسوله ألا وهو اجلاء بنى النضير واضرابهم مع انهم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ المألوفة وأوطانهم المأنوسة زجرا وتذليلا لهم واقعا عليهم لِأَوَّلِ الْحَشْرِ اى في أول حشرهم واجلائهم الطاري عليهم بظهور دين الإسلام وغلبة المسلمين إذ اجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنى النضير أولا من المدينة الى الشأم ثم اجلى بقية الكفرة عمر رضى الله عنه في خلافته انظروا كيف أخرجهم بكمال قدرته وعزته مع انكم ما ظَنَنْتُمْ وزعمتم ايها المؤمنون أَنْ يَخْرُجُوا اى خروجهم وجلاءهم لشدتهم وشوكتهم واستحكام أماكنهم وقلاعهم وَهم ايضا قد ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ اى ظنهم لأنفسهم ان حصونهم تمنعهم مِنْ بأس اللَّهِ المنتقم الغيور وبطشه وان اشتد لكن لم ينفعهم الحصون والقلاع حين حلول العذاب ونزوله بل فَأَتاهُمُ اللَّهُ بالقهر الهائل من لدنه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا اى من صوب وجهة لم يتوقعوها وَذلك انه قَذَفَ والقى سبحانه فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الشديد والخوف العظيم من غير قتال وبسبب ذلك الرعب الهائل أخذوا يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ضنا على المسلمين وإخراج ما فيها من الامتعة وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ايضا فإنهم كانوا يخربون بيوتهم إذلالا لهم وتوسيعا لمضمار الحرب والقتال وبالجملة فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ واتعظوا مما جرى على هؤلاء الغواة الطغاة يثقون بحصونهم ويشيدونها ليتحصنوا بها من بأس الله ثم لما اضطروا أخذوا يخربون بأيديهم ما يعتمدون عليه ويستحفظون به وذلك من كمال قدرة الله ومتانة حكمه

[سورة الحشر (59) : آية 3]

وحكمته وَبالجملة لَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ المصلح لأمور دنياهم وافترض عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ ولم يخرجهم من أوطانهم أذلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل والأسر وانواع الإذلال والصغار كما جرى على الكفرة المتمكنين في أماكنهم بعدهم وَمع ذلك الإصلاح والكرامة لَهُمْ في الدنيا لهم فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ بواسطة إصرارهم على الكفر وانكارهم على الإسلام ذلِكَ الإذلال والصغار لهم في الدنيا والآخرة بِأَنَّهُمْ اى بسبب انهم قد شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بمخالفة أمرهما والخروج عن حكمهما وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ المنعم المتفضل يعاقبه البتة فَإِنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور شَدِيدُ الْعِقابِ صعب الانتقام اليم العذاب على عصاة عباده ارادة واختيارا. ثم لما توجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الى بنى النضير حين نقضوا العهد الذي عهدوا مع الله ورسوله تحصنوا بحصونهم وامتنعوا عن الإسلام فأمر صلّى الله عليه وسلّم بقطع نخلهم وحرق بساتينهم قالوا يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وحرقها فسمع المؤمنون منهم ذلك القول واوجسوا في نفوسهم الكراهة وعدم اللياقة فنزلت ما قَطَعْتُمْ ايها المؤمنون مِنْ لِينَةٍ اى بعض نخلة من النخلات أَوْ تَرَكْتُمُوها بلا قطع شيء منها قائِمَةً عَلى أُصُولِها على ما كانت فَبِإِذْنِ اللَّهِ العليم الحكيم اى القطع والترك كلاهما بأمر الله وحكمه وَانما أمركم بالقطع والحرق لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ اى يرديهم ويذلهم بما يغيظهم ويضيق صدرهم وَاعلموا ايها المؤمنون ان ما أَفاءَ اللَّهُ اى رد الله وأعطاه عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ اى من يهود بنى النضير من الأموال والعقار فهو لرسول الله خاصة خالصة له ان يفعل به حيث شاء بلا حق لكم فيها ليس مثل سائر الغنائم فَما أَوْجَفْتُمْ وما أجريتم عَلَيْهِ اى على تحصيله وجمعه لا مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ نجائب الإبل إذ هم قد مشوا الى بنى النضير رجالا لا فرسانا وقد كانت المسافة ميلين من المدينة ومع ذلك لا يقاتلون معهم مقاتلتهم مع سائر الكفرة وَلكِنَّ اللَّهَ المنتقم الغيور يُسَلِّطُ رُسُلَهُ أحيانا عَلى مَنْ يَشاءُ من المستوجبين الطرد والمقت بلا وسائل القتال والحرب بل يقذف الرعب ويلحق الخوف في قلوبهم وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة الموجبة للهزيمة لا عن شيء وَاللَّهُ القادر المقتدر عَلى كُلِّ شَيْءٍ موجب لقهر أعدائه ونصر أوليائه قَدِيرٌ سواء وافق العادة أولا وبالجملة ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ اموال أَهْلِ الْقُرى الهالكة بالغلبة والاستيلاء بلا مقاتلة وحرب فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ سهم وَلِذِي الْقُرْبى من بنى هاشم وبنى المطلب سهم وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ سهام وانما قسم سبحانه مال الفيء بنفسه كَيْ لا يَكُونَ الفيء الذي حقه ان يصل الى الفقراء دُولَةً متداولة بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ورؤسائكم كما هو عادة الجاهلية الاولى وَبعد ما قسم سبحانه في كتابه لزمكم ان تأخذوا ما آتاكُمُ واعطاكم الرَّسُولُ المستخلف منه سبحانه فَخُذُوهُ بلا مراء ومجادلة معه وَما نَهاكُمْ عَنْهُ باذن الله فَانْتَهُوا ايضا عنه بلا مكابرة وإصرار وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ عن مخالفة امره وامر رسوله النائب عنه واحذروا عن بطشه وانتقامه إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام شَدِيدُ الْعِقابِ على من خرج عن ربقة عبوديته ومقتضى ألوهيته. ثم بين سبحانه مصارف الفيء بعد إخراج سهم الله ورسوله وقدم منهم فقراء المهاجرين اهتماما بشأنهم فقال لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ اى أخرجهم المشركون ونهبوا أموالهم

[سورة الحشر (59) : آية 9]

وسبوا أولادهم والحال انهم في مصائبهم هذه يَبْتَغُونَ ويطلبون فَضْلًا تفضلا وإحسانا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً من لدنه سبحانه لكمال تمكنهم ورسوخهم في مقام الرضا والتسليم وَمع ذلك يَنْصُرُونَ اللَّهَ بترويج دينه وإعلاء كلمة توحيده وَرَسُولَهُ بالمعاونة والمظاهرة وبذل المال والنفس في تقوية دينه أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله الباذلون مهجهم في طريق الحق وصراطه المستقيم ونصرة رسوله الكريم هُمُ الصَّادِقُونَ المقصورون على الصدق والإخلاص ظاهرا وباطنا وَبعد أولئك لفقراء الأنصار وهم الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ اى قد توطنوا وتمكنوا في المدنية ورسخوا على الايمان والإسلام بالعزيمة الصادقة الخالصة مِنْ قَبْلِهِمْ اى قبل هجرة المهاجرين إليها ومع رسوخهم وتمكنهم في الايمان يُحِبُّونَ محبة خالصة مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ من المؤمنين وَمن كمال محبتهم وإخلاصهم لإخوانهم المهاجرين لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ ووجدانهم حاجَةً باعثة لهم الى ان يحسدوا مِمَّا أُوتُوا واعطوا اى المهاجرون من سهام الفيء وسائر الغنائم والصدقات وَذلك من كمال محبتهم ومودتهم بالنسبة إليهم بل يُؤْثِرُونَ اى هم يختارون ويقدمون المهاجرين عَلى أَنْفُسِهِمْ حتى ان من كان له امرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم وبالجملة يختارون ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في أعز ما آثروا لنفوسهم وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ اى حاجة شديدة ومحبة بليغة بالنسبة الى ذلك الشيء وما هو الا من فرط محبتهم وإخلاصهم بالنسبة الى إخوانهم المهاجرين وَبالجملة مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ويخالفها حتى يمنعها عن مقتضاها الذي هو حب المال فأنفق المال في سبيل الله طلبا لمرضاة الله ورعاية بجانب أخيه المسلم فَأُولئِكَ السعداء المنفقون المحافظون على آداب الأخوة والمروءة هُمُ الْمُفْلِحُونَ المقصورون على الفوز العظيم من عنده سبحانه عاجلا وآجلا في العاجل بالذكر الجميل وفي الآجل بالجزاء الجزيل وَبعد فقراء الأنصار أنفقوا للفقراء التابعين لهم وهم الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ مهاجرين عن بقعة الإمكان أمثالهم نحو فضاء الوجوب مقتفين اثر أولئك الكرام مريدين لهم بإحسان مذكرين لهم بغفران حيث يَقُولُونَ في مناجاتهم مع ربهم في خلواتهم وأعقاب صلواتهم رَبَّنَا يا من ربانا على فطرة الإسلام اغْفِرْ لَنا ذنوبنا التي صدرت عنا وَكذا لِإِخْوانِنَا في الدين سيما الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وسلوك طريق العرفان وَبالجملة لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا وقلوبهم يا مولانا غِلًّا حقدا وحسدا لِلَّذِينَ آمَنُوا مطلقا لا للسابقين ولا للاحقين رَبَّنَا يا من ربانا على الإخلاص والتوفيق تقبل منا مناجاتنا واقض لنا حاجاتنا إِنَّكَ رَؤُفٌ عطوف على عموم عبادك سيما المخلصين منهم رَحِيمٌ تقبل منهم توبتهم وتغفر زلتهم ان استغفروا نحوك نادمين عما صدر عنهم. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع أَلَمْ تَرَ ايها الرائي إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا مع المؤمنين حيث يَقُولُونَ في خلواتهم لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وقد كان بينهم صداقة الشرك واخوة الكفر وموالاة البغض مع الرسول ومع المؤمنين لا تخالطوا مع هؤلاء المدعين يعنون المؤمنين وانا معكم والله لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من دياركم عنوة لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ البتة وَلا نُطِيعُ ولا نتبع فِيكُمْ اى في قتالكم وحرابكم أَحَداً أَبَداً سيما مع هؤلاء الأعادي وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ونعاوننكم البتة بلا خلف منا وَاللَّهُ المطلع على عموم أفعالهم وأقوالهم ونياتهم فيها يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم

[سورة الحشر (59) : آية 12]

وعهدهم هذا مع إخوانهم حيث قال سبحانه مقسما والله لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ البتة وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ جزما ووقع ذلك مثل ما قال سبحانه فان ابن ابى وأصحابه عهدوا مع بنى النضير على هذا ثم اخلفوهم وهم قد اخرجوا من ديارهم وهؤلاء لم يخرجوا وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ بالفرض والتقدير ويقاتلوا معكم ايها المؤمنون من جانب عدوكم والله لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ وقت كركم عليهم ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد ذلك لشدة خوفكم ورعبكم في قلوبهم وبالجملة لَأَنْتُمْ ايها المؤمنون أَشَدُّ رَهْبَةً مرهوبية مرعوبية راسخة فِي صُدُورِهِمْ متمكنة في نفوسهم ناشئة من قبلكم والحال ان تلك الرهبة الشديدة الحاصلة منكم ناشئة مِنَ اللَّهِ إذ هو سبحانه قد قذفها في صدورهم من جانبكم وأقدركم عليهم وهم من خباثة كفرهم ونفاقهم لا يتفطنون بها ذلِكَ اى عدم تفطنهم بمنشأها ومبدأها بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ولا يعلمون عظمة الله وحق قدره حتى يخشون منه حق خشيته وبالجملة لا تبالوا ايها المؤمنون بوداد المنافقين مع اليهود واتفاقهم معهم إذ لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً مجتمعين متفقين إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ محصورة ممهدة بالدروب والخنادق أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ يستحصنون به وذلك من فرط رعبتهم وشدة رهبتهم من المؤمنين والا بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ اى حين حارب بعضهم بعضا او مع غير المؤمنين قتالهم شديد وحرابهم عظيم وإذا حاربوا مع المؤمنين تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً مجتمعين ظاهرا في بادى النظر وَلكن قُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرقة مختلفة حقيقة لافتراق عقائدهم واختلاف مقاصدهم ذلِكَ الافتراق والاختلاف بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ولا يفهمون ما هو صلاحهم في الدارين وفلاحهم في النشأتين كَمَثَلِ الَّذِينَ اى مثلهم كمثل اليهود الذين مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً بزمانهم قد ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ في الدنيا من انواع الهوان والخسار وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة التي هي دار البوار بل مثلهم في وخامة العاقبة وقبح المآل كَمَثَلِ الشَّيْطانِ اى مثل المنافقين في إغراء اليهود على قتال المؤمنين كمثل الشيطان وقت إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اى كل فرد من افراد الكفرة اكْفُرْ حتى أعينك على عموم مقاصدك ومرامك وأنصرك على عموم اعاديك فَلَمَّا كَفَرَ الإنسان والعياذ بالله بتغريره قالَ له الشيطان بعد ما كفر إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ لا أعينك على شيء لأنك قد كفرت بالله وصرت عدو الله إِنِّي أَخافُ اللَّهَ القادر المقتدر القاهر الغيور ان ينتقم منى بسبب معاونتك ومظاهرتك لكونه رَبَّ الْعالَمِينَ فلا يجرى التصرف في ملكه بلا اذن منه سبحانه وبعد ما كفر الإنسان بتغرير الشيطان وتلبيسه فَكانَ عاقِبَتَهُما اى صار عاقبة الشيطان والإنسان الذي قد كفر بتغريره أَنَّهُما فِي النَّارِ تابعا ومتبوعا لا زمانا دون زمان بل كانا خالِدَيْنِ فِيها مستمرين ابدا مخلدين وَذلِكَ اى الخلود في النار جَزاءُ الظَّالِمِينَ الخارجين عن ربقة الرقية الإلهية وعروة عبوديته بتلبيس الشيطان وتغريره يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم التقوى عن محارم الله والاجتناب عن منهياته اتَّقُوا اللَّهَ المنتقم الغيور واحذروا عن بطشه وقهره وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ اى كل نفس من النفوس المجبولة على فطرة الدراية والشعور على وجه العبرة والاستبصار ما قَدَّمَتْ وما ادخرت لِغَدٍ اى ليوم القيامة وما تزودت للطامة الكبرى والدفعة العظمى بعد ما كلفت بأنواع التكاليف وأمرت من لدن حكيم عليم باعداد زاد المعاد على سبيل المبالغة والتأكيد وَبالجملة اتَّقُوا اللَّهَ واحذروا عن مخالفة امره وحكمه إِنَّ اللَّهَ المطلع على عموم ما في ضمائر عباده

[سورة الحشر (59) : آية 19]

خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من خير وشر ونفع وضر يجازيكم على مقتضى خبرته وَبالجملة لا تَكُونُوا ايها المؤمنون ك الغافلين الذين نَسُوا اللَّهَ اى ذكره المستلزم المقتضى للايمان والمحبة والعرفان فَأَنْساهُمْ سبحانه أَنْفُسَهُمْ اى ذكرها المستلزم لمعرفة الحق إذ من عرف نفسه فقد عرف ربه وكذا من نسيها نسيه وبالجملة أُولئِكَ البعداء المطرودون عن ساحة عز الحضور هُمُ الْفاسِقُونَ المقصورون على الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية ولوازم العبودية الجاهلون بقدر الألوهية مطلقا واعلموا ايها المكلفون انه لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ منكم وملازموها وهم الذين اقترفوا طول اعمارهم لسيئات الأعمال وذمائم الأخلاق والأوصاف والأطوار مما يستحقون بها دخول النار وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ وهم الذين اتصفوا بمحاسن الأعمال والأحوال ومحامد الأخلاق والأطوار المنتجة لهم انواع المعارف والحقائق والمكاشفات والمشاهدات الفائضة عليهم حسب استنشاقهم من نسائم عالم اللاهوت واسترواحهم بفوائح حضرة الرحموت وبالجملة أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ المفلحون المقصورون بالدرجات العلية والمقامات السنية مما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم وبخ سبحانه نوع الإنسان المجبول على فطرة الايمان والعرفان وقرعهم بغفلتهم عن القرآن المرشد لهم الى طريق التوحيد والعرفان بقوله لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ المنزل عليكم ايها التائهون في تيه الغفلة والنسيان عَلى جَبَلٍ من الجبال العظام والله لَرَأَيْتَهُ اى الجبل ايها المعتبر الرائي خاشِعاً خاضعا مُتَصَدِّعاً متشققا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ القادر الغيور يعنى قد تأثر من الوعيدات القرآنية والإنذارات الشديدة الواقعة فيه على المكلفين مع عدم قابليته للتأثر وأنتم ايها الهلكى الحمقى التائهون الهالكون في تيه الجهل والضلال وبيداء الوهم والخيال مع كمال قابليتكم واستعدادكم للتأثر لا تتأثرون من وعيداته البليغة وانذاراته الشديدة ثم قال سبحانه على سبيل التنبيه والتذكير وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ الناسين مرتبة العبودية من كمال البطر والغفلة لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ويتفطنون منها الى فطرتهم الاصلية المجبولة على التذلل والخشوع والانكسار والخضوع فيشتغلون بما جبلوا لأجله من العبودية والإتيان بالطاعات والعبادات اللائقة لمرتبة الألوهية والربوبية وكيف لا تتذللون له سبحانه ايها الحمقى الهالكون مع انه سبحانه هُوَ اللَّهُ اى الموجود الحق الحقيق الَّذِي لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ على التفصيل الواقع في الواقع بحيث لا يعزب عن حيطة علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ومع ذلك هُوَ الرَّحْمنُ على عموم الأكوان بافاضة الوجود عليهم وتربيتهم وتدبير مصالحهم في النشأة الاولى الرَّحِيمُ على خواصهم يوصلهم الى فضاء وحدته وسعة جنته ورحمته في النشأة الاخرى وكيف لا وهُوَ اللَّهُ المستقل بالالوهية والربوبية في ذاته المتوحد بالقيومية المتفرد بالديمومية الفرد الوحدانى الَّذِي لا إِلهَ يعبد بالحق ويرجع اليه في الخطوب والملمات إِلَّا هُوَ باستقلاله واستحقاقه وصمديته وقيوميته في ملكه وملكوته حسب مقتضيات أسمائه وصفاته إذ هو الْمَلِكُ المتفرد بالحكمة والاستيلاء التام والسلطنة الغالبة والبسطة القاهرة الْقُدُّوسُ البالغ في النزاهة الى أقصى الغاية والنهاية السَّلامُ السليم السالم عن مطلق النقائص ولوازم الاستكمال التي هي من لواحق الإمكان الْمُؤْمِنُ ذو الأمن والامان على عموم الأعيان والأكوان الْمُهَيْمِنُ المراقب المحافظ على مقتضيات استعدادات عموم البرايا بكمال

[سورة الحشر (59) : آية 24]

العدل والإحسان الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر على عموم مراداته ومقدوراته على سبيل الفضل والامتنان الْجَبَّارُ على عموم من خرج عن ربقة رقيته وعروة عبوديته بالإنكار والطغيان الْمُتَكَبِّرُ المتنزه المتعالي عن كل امر يشينه من العجز والنقصان وبالجملة سُبْحانَ اللَّهِ اى تنزه وتعالى شأنه عن مطلق الشين والنقصان سيما عَمَّا يُشْرِكُونَ ويثبتون له المشركون المفرطون علوا كبيرا وكيف يشركون له غيره أولئك المفسدون المسرفون مع انه سبحانه هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المتوحد المستقل بخلق الأشياء وتقديرها وإظهارها من كتم العدم ثم حسب حكمته المتقنة البالغة بالإرادة والاختيار الْبارِئُ الموجد لها بمقتضى اسمه الرحمن بلا تفاوت ونقصان الْمُصَوِّرُ الذي يصور الأشياء وأشكالها وأشباحها وهياكلها على أبدع شأن وابلغ نظام وبالجملة لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي لا تعد ولا تحصى يتجلى سبحانه على مقتضاها في كل آن لا يسبقها شأن مثله ولا يلحقها شأن كذلك وبالجملة لا يشغله شأن عن شأن لذلك يُسَبِّحُ لَهُ مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وينزهه على الدوام عن كل ما لا يليق بشأنه وَبالجملة هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عموم ما أحاط به حضرة علمه المحيط الْحَكِيمُ المدبر المتقن عموم أفعاله وآثاره على مقتضى علمه وإراداته بلا مدافعة احد ومظاهرته. جعلنا الله وإياكم ممن تحقق بوحدة ذاته سبحانه وانكشف بكمالات أسمائه وصفاته بمنه وجوده خاتمة سورة الحشر عليك ايها السالك المتحقق بمقر التوحيد المنكشف بوحدة الذات وبكمالات الأسماء والصفات الذاتية الإلهية مكنك الله في مقر عزك بلا تذبذب وتلوين ان تطالع آثار أسمائه الحسنى وصفاته العليا على صفائح الكائنات الغيبية والشهادية وتعتبر منها حسب استعدادك وقابليتك المودعة فيك من قبل الحق وإياك إياك ان تنحرف عن جادة العدالة الشرعية التي هي منتخبة عن العدالة الإلهية الواقعة بين مقتضيات أسمائه الذاتية وصفاته الفعلية ولك ان تطابق وتوافق عموم أعمالك واخلاقك واطوارك عليها بحيث لا تهمل شيأ من دقائقها ورقائقها إذ بقدر إهمالك من حدودها وأحكامها قد أحطت عن درجة التوحيد ومرتبة ارباب الوحدة الذاتية التي هي مرتبة الإنسان الكامل إذ الشريعة انما هي الوقاية الموضوعة بالوضع الإلهي بين الأنام ليوفقهم الحق بها الى دار السلام التي هي مقعد صدق الرضا والتسليم الذي هو أعلى مقامات العارفين وأقصى حالات الموحدين المكاشفين. هدانا الله وعموم عباده الى سواء السبيل وأعاذنا الله وإياهم عن الانحراف والتحويل بلطفه الجميل وكرمه الجزيل وهو حسبنا ونعم الوكيل [سورة الممتحنة] فاتحة سورة الممتحنة لا يخفى على من تمكن بمقام التوحيد وانكشف بسرائر الوحدة الذاتية مقدار ما يسر الله له ووفقه عليه فضلا منه سبحانه وطولا ان من تقرر في مقر عز الوحدة لا بد ان يجتنب عن اصحاب الغفلة والكثرة المترددين في اودية الضلال بأنواع الحيرة والحسرة ويعيشون في بقعة الإمكان بأنواع الخيبة والخذلان فلا بد لأرباب التمكن والرسوخ من الموحدين المخلصين ان لا يصاحبوا معهم ولا يوالوهم موالاتهم مع الموحدين ولا يلتفتوا إليهم والى عموم أطوارهم وأحوالهم إذ عدوى البليد الى الجليد

الآيات

سريعة ولوازم الإمكان مشتركة وغواشي البشرية سارية وطلسمات الطبيعة البهيمية والقوى البشرية سارقة لذلك اوصى سبحانه خلص عباده المؤمنين الموحدين بما اوصى في هذه السورة ونهاهم عما نهاهم في محبة الأعداء وموالاتهم معهم في السراء والضراء فقال مناديا لهم بعد التيمن باسمه الأعلى بِسْمِ اللَّهِ المصلح لأحوال عبادة في عموم الأحوال الرَّحْمنِ عليهم بحفظهم عن سوء الأخلاق والأعمال الرَّحِيمِ لهم يوقظهم عن منام الغفلة ويوصلهم الى فضاء الوصال [الآيات] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى اتصافكم بالإيمان بالله وبوحدة ذاته وكمالات أسمائه وصفاته انه لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وهم الذين خرجوا عن عروة عبوديتي بإثبات الوجود لغيري وَعَدُوَّكُمْ إذ عداوتهم إياي مستلزمة بعداوتهم إياكم ايضا إذ صديق العدو عدو كعدو الصديق أَوْلِياءَ أحباء بحيث توالون أنتم معهم موالاتكم مع احبائكم من المؤمنين وتظهرون محبتهم ومودتهم بحيث تُلْقُونَ وترسلون إِلَيْهِمْ رسالة مشعرة بِالْمَوَدَّةِ الخالصة المنبئة عن افراط المحبة والإخاء وَالحال انه هم قَدْ كَفَرُوا واعرضوا وانصرفوا بِما جاءَكُمْ اى بعموم ما قد نزل على رسولكم مِنَ الْحَقِّ الحقيق بالاطاعة والاتباع وبالغوا في الاعراض والإنكار الى حيث يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ اصالة وَإِيَّاكُمْ تبعا من بينهم بواسطة أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ الذي رباكم على فطرة التوحيد والايمان وبقبولكم دين الإسلام من النبي المبعوث الى كافة الأنام ليرشدهم الى دار السلام وبالجملة إِنْ كُنْتُمْ ايها المؤمنون الموحدون خَرَجْتُمْ عن أوطانكم وبقاع إمكانكم جِهاداً اى لأجل الجهاد والقتال فِي سَبِيلِي اى لتقوية طريق توحيدي وترويج ديني وإعلاء كلمة توحيدي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي في امتثال امرى واطاعة حكمى فلزمكم ترك موالاة أعدائي والمواخاة معهم مع انكم أنتم قد تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ وتميلون نحوهم سرا وخفية بِالْمَوَدَّةِ ظنا منكم ان لا اطلع على ما في سرائركم وضمائركم من محبة الأعداء ومودتهم وَالحال انه أَنَا أَعْلَمُ منكم بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ اى بعموم ما تسرون وما تعلنون وَبالجملة مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ اى الاتخاذ المذكور فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ اى قد انحرف عن جادة العدالة الإلهية وانصرف عن الصراط المستقيم الموصل الى مقصد التوحيد وبالغ في الانحراف والانصراف واعلموا ايها المؤمنون انكم وان بالغتم في اظهار المحبة والمودة بالنسبة إليهم لا تنفعكم إذ هم بمكان من العداوة والخصومة بحيث إِنْ يَثْقَفُوكُمْ ويظفروا بكم بالفرض والتقدير يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً البتة بل يظهروا العداوة حينئذ وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ اى بالقتل والأسر وقطع العضو والشتم المفرط وانواع الوقاحة وَكيف لا وهم في أنفسهم دائما قد وَدُّوا وتمنوا لَوْ تَكْفُرُونَ أنتم وترتدون عن دينكم ونبيكم حتى تلتحقوا بهم وتتصفوا بكفرهم وبالجملة عليكم ايها المؤمنون ان لا تبالوا بأقاربكم وأرحامكم من الكفرة ولا تلتفتوا نحوهم إذ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ لا اقرباؤكم وَلا أَوْلادُكُمْ الذين أنتم توالون المشركين لأجلهم وتوادون معهم من جهتهم يَوْمَ الْقِيامَةِ المعدة لتنقيد الأعمال الصادرة عن كل نفس من النفوس خيرة كانت او شريرة إذ الله يَفْصِلُ ويفرق بَيْنَكُمْ يومئذ ويميزكم عنهم فيجازى كلا منكم حسب ما كسب واقترف خيرا كان او شرا وَاللَّهُ المطلع على عموم افعال عباده بِما تَعْمَلُونَ من الحسنات والسيئات بَصِيرٌ يجازيكم عليه بمقتضى بصارته وخبرته ولا تستنكفوا عن حكم الله إياكم بقطع أرحامكم الكفرة وأقاربكم المشركين إذ قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ وقدوة حَسَنَةٌ

[سورة الممتحنة (60) : آية 5]

صالحة لائقة لان يؤتسى ويقتدى بها وقد كانت لكم تلك القدوة نازلة فِي شأن إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين المسترشدين منه المتدينين بدينه وقد كانوا يقولون بمقتضى تلك الأسوة الحسنة وقت إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ الذين هم أقاربهم وأرحامهم الكفرة وعبدة الأوثان إِنَّا بعد ما كوشفنا بوحدة الحق بُرَآؤُا مِنْكُمْ من انفسكم ومما ينتمى إليكم من ذوى ملتكم نحن بريئون عن مودتكم وخلطتكم مبرئون عن موانستكم ومواخاتكم مطلقا لانهماككم في الشرك والطغيان وَنحن ايضا برآء مِمَّا تَعْبُدُونَ وبعموم ما ترجعون نحوه في الخطوب والملمات مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والأوثان الباطلة العاطلة وبالجملة نحن قد كَفَرْنا بِكُمْ وبمعبوداتكم الباطلة العاطلة مطلقا وَبعد اليوم قد بَدا وظهر بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً لا نصالح ولا نواسى معكم أصلا إذ لا مناسبة بيننا وبينكم حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وتتبرءوا عن معبوداتكم الباطلة مطلقا مثل تبرئنا فعليكم ايها المؤمنون اليوم ان تأتسوا وتقتدوا لجميع ما قال ابراهيم عليه السلام ومن تبعه لقومهم فيما مضى إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ عليه السلام لِأَبِيهِ الكافر لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ من الله الغفور يا ابى وبالجملة اقتدوا ايها المؤمنون بعموم اطوار ابراهيم عليه السلام وأقواله سوى هذا القول لأبيه حال كونه معتذرا منه بقوله وَما أَمْلِكُ لَكَ اى ما اقدر وما ادفع منك يا ابى مِنْ غضب اللَّهِ المنتقم الغيور مِنْ شَيْءٍ قد نزل عليك من العذاب بمقتضى قهره وسخطه سبحانه سوى الاستغفار والشفاعة لأجلك ان قبل الملك الغفار منى وايضا انما صدر هذا القول من الخليل عليه السلام قبل ورود النهى له عن ودادة اهل الكفر او صدر عنه عليه السلام هذا القول انجازا لموعدة وعدها إياه وبعد ما أمرتم أنتم ايها المؤمنون الموحدون المحمديون بمحبة الله وبمحبة رسوله والذين آمنوا له وتدينوا بدينه ونهيتم عن مودة الأعداء وموالاتهم وعن مواساة أخلاقهم وأطوارهم قولوا مسترجين الى الله مناجين معه رَبَّنا يا من ربانا على فطرة التوحيد والإسلام عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا في كل الأمور بلا رؤية الوسائل والأسباب العادية في البين ثقة بك واعتمادا عليك وَإِلَيْكَ أَنَبْنا قد عدنا ورجعنا في الخطوب وعموم الملمات إليك لا الى غيرك من الأسباب العادية وَوبالجملة إِلَيْكَ الْمَصِيرُ اى مرجع كل الوسائل والأسباب إليك كما ان مصدره منك إذ لا موجود سواك ولا مقصد غيرك وبعد ما مكنتنا في مقر توحيدك يا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا بان تسلطهم علينا فيفتنوا بنا ويصيبونا بعذاب لا طاقة بحمله وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا ما فرطنا بمقتضى بشريتنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام الْحَكِيمُ المتقن في تدبير مصالح العباد وفي عموم ما جرى عليهم في المعاش والمعاد. ثم بالغ سبحانه في توصية تلك التأسى والاقتداء بملة ابراهيم عليه السلام وقدوته فقال مؤكدا بالقسم والله لَقَدْ كانَ لَكُمْ ايها المؤمنون فِيهِمْ اى في ملة ابراهيم وأخلاقه واخلاق من آمن له وتدين بدينه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وقدوة صالحة لان يؤتسى بها ويقتدى عليها لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ اى تحقق برضاه والتسليم بقضاه وَايضا يرجو الْيَوْمَ الْآخِرَ ليتمكن فيه عند مولاه ويصل بعموم ما أعد له ربه وهيأه وَمَنْ يَتَوَلَّ ويعرض عن الله ولم يؤمن بالوقوف بين يدي الله فلن يضر الله شيأ فَإِنَّ اللَّهَ المتعزز برداء العظمة والكبرياء هُوَ الْغَنِيُّ المستغنى بذاته لا احتياج له الى رجاءات الراجين ومناجاتهم إياه الْحَمِيدُ حسب أسمائه وصفاته الكاملة الكائنة في ذاته بلا افتقار له الى حمد

[سورة الممتحنة (60) : آية 7]

الحامدين وشكر الشاكرين. ثم لما ورد النهى الإلهي على وجه المبالغة والتأكيد عن موالاة ذوى الأرحام والأقارب من الكفرة تبرأ المؤمنون عن أقاربهم وعشائرهم المشركين حتما وعادوا معهم ظاهرا الا انهم قد اضمروا في نفوسهم حزنا وتغمموا غما فوعد لهم سبحانه ايمان أقاربهم تسلية لهم وازالة لحزنهم فقال عَسَى اللَّهُ المنعم المفضل أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ ايها المؤمنون وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً صادقة ومحبة خالصة جامعة بينكم وبينهم ألا وهي الإسلام المسقط لعموم الآثام والاجرام وَاللَّهُ المطلع على ما في استعدادات عباده قَدِيرٌ على ذلك الجمع المستلزم للمودة الخالصة والمحبة الحنيفية وَبالجملة اللَّهُ القادر المقتدر على عموم المقدورات غَفُورٌ لفرطاتكم التي صدرت عنكم ايها المكلفون رَحِيمٌ يقبل منكم توبتكم ويرحمكم بمقتضى سعة رحمته وجوده ثم لما تحرج المؤمنون عن موالاتهم مع اقربائهم الكفرة وذوى أرحامهم المشركين بحيث قد قدمت قبيلة بنت عبد العزى مشركة على بنتها اسماء بنت ابى بكر بهدايا فلم تأذنها بالدخول ولم تقبل منها هديتها فنزلت لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ العليم الحكيم عَنِ مخالطة المشركين الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ولم يأمر عليكم أَنْ تَبَرُّوهُمْ وتحسنوا إليهم وتميلوا نحوهم إذ لا سبب للنهى عن ودادة هؤلاء وَعليكم ان تُقْسِطُوا وتميلوا إِلَيْهِمْ بمقتضى القسط والعدل الإلهي الموضوع بينكم بالوضع الإلهي إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ المعتدلين في عموم الأحوال والأطوار سيما على ذوى القربى بل إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ العليم الحكيم عَنِ موالاة اقربائكم الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ يعنى مكة شرفها الله وَينهاكم ايضا عن موالاة أقاربكم الذين قد ظاهَرُوا أعانوا ونصروا عَلى إِخْراجِكُمْ منها وان لم يباشروا بجوارحهم لكن قد عاونوا على المباشرين المخرجين بالقول والمال وإيقاع الفتنة لذلك نهاكم سبحانه أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وتختلطوا معهم وتوالوهم اى مع المخرجين والمعاونين وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ منكم بعد ورود النهى فَأُولئِكَ المؤمنون الموالون معهم هُمُ الظَّالِمُونَ الخارجون عن مقتضى النهى الإلهي الوارد من لدنه سبحانه على وجه المبالغة والتأكيد فيستحقون الويل والعذاب الأليم بسبب خروجهم عن مقتضى النهى الإلهي. ثم قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ المذعنات للايمان حال كونهن مُهاجِراتٍ من قبل الكفار فَامْتَحِنُوهُنَّ واختبروهن وانظروا نحوهن بنور الله المقتبس من نور الايمان متفرسين هل تجدون مواطئة قلوبهن بألسنتهن مع انه اللَّهُ المطلع على ما في قلوبهن أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ وبعد ما تفرستم فيهن فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ وظننتموهن مُؤْمِناتٍ مخلصات فَلا تَرْجِعُوهُنَّ ولا تردوهن إِلَى الْكُفَّارِ حتى لا يصرن مرتدات وبالجملة بعد ظهور الايمان منهن لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ اى الأزواج الكفار وَلا هُمْ اى الأزواج الكفار يَحِلُّونَ لَهُنَّ لاختلافهما في الدين وَبعد ما حفظتموهن وحكمتم عليهن بالإيمان ان جاء أزواجهن في طلبهن آتُوهُمْ واعطوهم اى أنتم ايها المؤمنون لأزواجهم ما أَنْفَقُوا أولئك الأزواج الكفار في حقهن من مهورهن وَبعد ما أتيتم وأعطيتم مهورهن لأزواجهن لا جُناحَ اى لا ضيق ولا حرج عَلَيْكُمْ ايها المؤمنون أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ اى مهورهن مرة اخرى مثل مهور سائر المؤمنات يعنى لا تحسبوا عليهن ما أعطيتم لأزواجهن من المهور وَبعد ما ثبت انه لا رخصة لكم في دينكم لرد المؤمنات المهاجرات الى الكفار لا تُمْسِكُوا ولا تبقوا ايضا أنتم ايها المؤمنون

[سورة الممتحنة (60) : آية 11]

أزواجكم الكافرات بِعِصَمِ الْكَوافِرِ اى لا تقيموا ولا تديموا عقود أزواجكم الكافرات الملحقات الى الكفار بل خلوا سبيلهن وطلقوهن وَسْئَلُوا منهن ما أَنْفَقْتُمْ لهن من المهور بعد ما لحقن بالكفار وَلْيَسْئَلُوا اى الكفار ايضا ما أَنْفَقُوا من المهور لأزواجهم المؤمنات المهاجرات الملحقات بكم منكم ايها المؤمنون ذلِكُمْ اى جميع ما ذكر في هذه الآية حُكْمُ اللَّهِ المدبر لمصالحكم يَحْكُمُ بهذا الحكم بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يحكم بما يقتضيه علمه وحكمته وَإِنْ فاتَكُمْ ايها المؤمنون شَيْءٌ مِنْ مهور أَزْواجِكُمْ بعد ما لحقن إِلَى الْكُفَّارِ ولم يؤدوا جميع مهورهن إليكم فَعاقَبْتُمْ بعد ذلك وغلبتم على الكفار المتمردين عن الأداء وأخذتم الغنائم منهم فآتوا واعطوا ايها الحكام المؤمنون قبل قسمة الغنائم ما بقي من حقوق المؤمنين الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ الى الكفار مِثْلَ ما أَنْفَقُوا في مهور أزواجهم الكافرات الملحقات الى الكفار وَاتَّقُوا ايها الحكام المؤمنون اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ولا تضيعوا حق أخيكم المؤمن. ثم قال سبحانه مناديا لنبيه على سبيل الإرشاد والتعليم يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ويعاهدن معك ويقبلن منك مطلق الحقوق والحدود المعتبرة في الشرع سيما عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ الواحد الأحد الصمد المنزه عن الشريك والولد شَيْئاً من الإشراك وَلا يَسْرِقْنَ من حرز انسان ماله وَلا يَزْنِينَ سواء كن محصنات او غير محصنات وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ كاسقاط الجنين ووأد البنات وغيرهما وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ يعنى لا تأتى المرأة بشيء فاحش بحيث تقذف بولدها بانه ليس من زوجها بسبب ذلك الشيء الذي صدر عنها وبهت الناس بسببه ووقعوا في الافتراء لأجله وَبالجملة يبايعنك على ان لا يَعْصِينَكَ يا أكمل الرسل فِي مَعْرُوفٍ قد استحسنه العقل والشرع تأمرهن به إصلاحا لهن وإذا بايعن معك على ترك هذه الخصائل المذمومة فَبايِعْهُنَّ ايضا وعاهد معهن وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ الغفور الرحيم بما صدر منهن قبل البيعة إِنَّ اللَّهَ المطلع على ما في نياتهن من الإخلاص غَفُورٌ يغفرهن بعد ما اخلصن في الانابة رَحِيمٌ يقبل توبتهن. ثم لما واصل بعض فقراء المسلمين اليهود لينتفعوا من ثمارهم نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ترك مواصلة اليهود ومصاحبتهم لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً قد غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بمقتضى قهره وجلاله يعنى عامة الكفرة والمشركين إذ هم قَدْ يَئِسُوا وقنطوا مِنَ الْآخِرَةِ مطلقا لذلك لم يؤمنوا بها وبما فيها من المواعيد والوعيدات الهائلة كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ يعنى مثل يأسهم من البعث واحوال الآخرة كيأسهم من حياة اصحاب القبور وخروجهم عنها احياء فعليكم ان لا تصاحبوا معهم ان كنتم مؤمنين مصدقين بها جعلنا الله من المصدقين الموقنين بيوم الدين وبعموم ما فيه خاتمة سورة الممتحنة عليك ايها الموحد المحمدي مكنك الله في مقر عز التوحيد واليقين وحفظك الله عن طريان التردد والتلوين ان لا تصاحب اهل الغفلة واصحاب الجهالات المنهمكين في بحار الأوهام والخيالات المورثة لهم من مقتضيات الإمكان المستلزم لانواع الخذلان فلك ان تلازم زاوية الخمول بالعفاف قانعا من الدنيا بالكفاف مجتنبا عن مخايل اصحاب الجزاف متوكلا على الصمد المعين متوجها نحوه في كل تحريك وتسكين راضيا بعموم ما جرى عليك من القضاء مطمئنا بما وصل إليك من الآلاء والنعماء شاكرا

سورة الصف

لنعم الله في السراء والضراء مقتصدا بين الخوف والرجاء مفوضا عموم أمورك الى المولى متعطشا في جميع احوالك الى شرف اللقاء وما هذا الا التقوى والوصول الى الجنة المأوى وسدرة المنتهى. رزقنا الله وعموم عباده الوصول إليها والتحقق دونها بمنه وجوده [سورة الصف] فاتحة سورة الصف لا يخفى على من تحقق بمرتبة اليقين الحقي وتمكن عليها بعد ترقيه عن اليقين العلمي والعيني وخلص عن مطلق التلوين والتخمين وخاض في لجة بحر الوجود متصفا بأنواع الكشف والشهود وروى عن الحوض المورود ووصل الى المقام المحمود ان جميع ما صدر من أمثال هؤلاء الواصلين من الأعمال والأقوال وعموم المعاملات والأحوال انما هو على مقتضى الاعتدال مائلا عن كلا طرفي الإفراط والتفريط إذ الواصلون انما هو المتخلقون بأخلاق الله المتصفون بأوصافه المعتدلة وأسمائه الغير المتبدلة والمؤمنون المخلصون لا بد وان يكون عموم مقاصدهم منتهيا الى الوصول بالوحدة الحقيقة الحقية والتحقق بالتخلق بعموم الأوصاف الذاتية بل توجه جميع المظاهر وتسبيحهم وتحننهم لأجل هذا المطلب الأعلى والمقصد الأقصى حقيقة ولكن لا يفقهون تسبيحهم الا قليلا لذلك اخبر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بتوجه عموم مظاهره نحوه طوعا ثم نادى المؤمنين بما نادى إرشادا لهم وإصلاحا لحالهم فقال بعد ما تيمن باسمه العزيز بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى على ما تجلى بمقتضى العدالة الرَّحْمنِ عليهم بوضع الميزان الموصل لهم الى دار السلام الرَّحِيمِ يوصلهم الى فضاء الوجوب بعد انخلاعهم عن لوازم الإمكان قد [الآيات] سَبَّحَ لِلَّهِ وتوجه نحوه بكمال التقديس والتنزيه عموم ما ظهر فِي السَّماواتِ اى فواعل العلويات وَما ظهر فِي الْأَرْضِ اى قوابل السفليات وَكذا المركبات والممتزجات الكائنة بينهما وكيف لا يتوجه نحوه عموم الموجودات إذ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على مطلق المرادات والمقدورات الْحَكِيمُ المتقن في جميع التقديرات والتدبيرات. ثم لما عاهد المسلمون مع الله عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا لو علمنا أحب الأعمال الى الله لبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا فنزل ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله الآية فولوا يوم احد مدبرين منهزمين ولم يوفوا بعهدهم فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم الوفاء بالعهود لِمَ تَقُولُونَ وقت المعاهدة والميثاق مع الله ما لا تَفْعَلُونَ ولا توفونه وقت الوفاء واللقاء واعلموا ايها المؤمنون انه قد كَبُرَ مَقْتاً وعظم جريمة وذنبا عِنْدَ اللَّهِ المنتقم الغيور أَنْ تَقُولُوا وتعاهدوا معه سبحانه ما لا تَفْعَلُونَ في وقته ولا تنجزون المعهود والموعود وكيف لا إِنَّ اللَّهَ المفضل العليم الحكيم يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ لترويج دينه وإعلاء كلمة توحيده صَفًّا مصطفين متظاهرين متعاونين كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ منضد محكم مضموم بعضها مع بعض بحيث لا فرج فيها ولا شقوق ثم اعلموا ان عدم وفائكم بالعهود لا ينقص شيأ من عظمة الله كما ان وفاءكم بها لا تزيد فيها لكن نقضكم الميثاق يؤذى النبي وإيذاء النبي مستلزم لإيذاء الله وهو يستلزم بغضه سبحانه وأذاه ومقته وغضبه على المؤذى وَاذكر يا أكمل الرسل للمناقضين قصة تأذى أخيك موسى الكليم صلوات الله عليه من قومه وقت إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ حين رموه بالبغية وعيروه بالادرة يا قَوْمِ ناداهم وأضافهم الى نفسه على مقتضى ملاينة ارباب الرسالة مع أممهم لينزجروا عن سوء الأدب لِمَ تُؤْذُونَنِي بأمثال

[سورة الصف (61) : آية 6]

هذه المفتريات الباطلة البعيدة بمراحل عن الصدق وَالحال انه قَدْ تَعْلَمُونَ أنتم يقينا بما جئت به من المعجزات الساطعة الدالة على صدقى في دعواي أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ المرسل من عنده بمقتضى وحيه إِلَيْكُمْ لأرشدكم الى سبيل الهداية الموصل الى معرفة الحق وتوحيده ومقتضى علمكم هذا ان لا تؤذوننى فلم تؤذوننى فَلَمَّا زاغُوا ومالوا عن الحق وانصرفوا عن مقتضى الفطرة الاصلية أَزاغَ اللَّهُ المقلب للقلوب قُلُوبَهُمْ وصرفها عن قبول الحق والميل اليه فانحرفوا نحو الباطل فضلوا عن سواء السبيل واستحقوا الويل العظيم والعذاب الأليم وَبالجملة اللَّهِ العليم الحكيم لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مقتضى الفطرة الاصلية التي هي التحقق بمقام المعرفة والتوحيد وَاذكر لهم يا أكمل الرسل ايضا وقت إِذْ قالَ أخوك عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مناديا لقومه يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ قد أرسلني نحوكم لأرشدكم الى طريقه وصراط توحيده ولأكون انا في نفسي مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ المنزل من عنده سبحانه لضبط ظواهر الاحكام والأخلاق المستتبعة لتهذيب الباطن عن مطلق الزيغ والضلال المنافى لصفاء مشرب التوحيد وَمُبَشِّراً ايضا أبشركم بِرَسُولٍ اى ببعثة رسول كامل في الرسالة متمم لمكارم الأخلاق يَأْتِي مِنْ بَعْدِي مظهرا للتوحيد الذاتي خاتما لأمر النبوة والرسالة والتشريع اسْمُهُ أَحْمَدُ سمى به صلّى الله عليه وسلم لكون حمده أتم واشمل من حمد سائر الأنبياء والرسل إذ محامدهم لله انما هو بمقتضى توحيد الصفات والأفعال وحمده صلّى الله عليه وسلّم انما هو بحسب توحيد الذات المستوعب لتوحيد الصفات والأفعال وبعد ما اظهر عيسى صلوات الله عليه وسلامه دعوته طالبوه بالبينة الدالة على صدقه فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ الواضحة والمعجزات الساطعة التي هي اكبر من معجزات موسى عليه السلام ورأوا منه الخوارق التي ما اظهر مثلها من سائر الأنبياء بادروا الى تكذيبه مكابرة وعنادا حيث قالُوا هذا اى عيسى او ما جاء به من المعجزات سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر كونه سحرا او كامل في السحر الى حيث كأنه قد تجسم منه وليس تكذيبهم إياه صلوات الله عليه سيما بعد وضوح البرهان ونسبته الى شيء لا يليق بشأنه الا خروج عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة لأداء العبودية وَمَنْ أَظْلَمُ وأشد خروجا عن مقتضى الحدود الإلهية مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الحكيم المتقن في أفعاله الْكَذِبَ ونسب ما أنزله سبحانه من المعجزات الدالة على صدق رسوله المؤيد من عنده بالنفس القدسية المبعوث الى الناس ليرشدهم الى طريق توحيده وَالحال انه هُوَ اى المفترى الظالم يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ المتقدس عن جميع الآثام لو قبله وصدقه وامتثل بما فيه من الأوامر والنواهي وهو من غاية عتوه وعناده في موضع الاجابة ومحل القبول يرده ويكذبه وينسب معجزات الداعي الى السحر والشعبذة مراء وافتراء عدوانا وظلما وَبالجملة اللَّهِ المطلع على ما في استعدادات عباده لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الفطرة الاصلية الإلهية التي قد فطر الناس عليها ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون لذلك يخرجون وبالجملة ليس غرضهم عن هذا الافتراء والتكذيب بعد ثبوت الحجج والبراهين القاطعة الا انهم يُرِيدُونَ بفتنتهم هذه لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المتشعشع نوره من مطالع عموم الكائنات ومشارق جميع الذرات ألا وهو دين الإسلام المنزل على خير الأنام ليبين لهم توحيد الذات بِأَفْواهِهِمْ اى بمجرد قولهم الباطل الرهق الزائل بلا مستند عقل

[سورة الصف (61) : آية 9]

او نقلي فكيف عن كشفى وشهودي وَاللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء مُتِمُّ نُورِهِ مبالغ في اشاعة شرعه واذاعة دينه واشراقه غايتها وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ظهوره وشيوعه ارغاما لهم وإذلالا وكيف لا يتم سبحانه شيوع نور وحدته الذاتية مع انه هُوَ سبحانه المدبر الحكيم الَّذِي قد أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وسلّم لمصلحة هذا التتميم والتكميل وأيده بِالْهُدى والقرآن العظيم وَدِينِ الْحَقِّ القويم والملة الحنيفية السمحة البيضاء الموروثة له من جده ابراهيم الخليل الجليل صلوات الله عليهما وعلى اخوانهما من النبيين والصديقين والصالحين وانما أيده لِيُظْهِرَهُ ويغلبه اى الدين القويم المبين لصراط الحق وطريق توحيده الذاتي عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ اى على عموم الملل والأديان الواردة لبيان توحيد الصفات والأفعال وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ظهور توحيد الحق على هذا الوجه لما فيه من قطع عرق الشرك مطلقا عن أصله جليا كان او خفيا. ثم قال سبحانه بعد ما أشار الى ظهور دين الإسلام وإعلاء كلمة التوحيد حثا على المؤمنين وترغيبا لهم الى ترويج الدين القويم الذي هو الصراط المستقيم الموصل الى مرتبة حق اليقين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ كأنه قيل ما التجارة المنقذة المنجية قال سبحانه لبيانه تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مع اعداء الله سيما مع أعدى عدوكم الذي هو جنود امارتكم لترويج دينه وإعلاء كلمة توحيده بِأَمْوالِكُمْ اى ببذلها في الخطوب والملمات وَأَنْفُسِكُمْ بالاقتحام على الحروب في المقاتلات ذلِكُمْ الذي ذكر من الايمان والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ ونفعه عائد إليكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما هو أصلح لكم وانفع في نشأتكم الاولى والاخرى وان تؤمنوا بالله وتصدقوا رسله وتجاهدوا في سبيله يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ التي صدرت عنكم قبل ذلكم وَبعد ما غفر سبحانه ذنوبكم يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى انهار المعارف والحقائق المترشحة من بحر الحياة التي هي حضرة العلم المحيط الإلهي وَمَساكِنَ طَيِّبَةً من الحالات والمقامات السنية والدرجات العلية فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ التي هي المعرفة واليقين مصونة عن شوب الشك وريب التخمين ذلِكَ الستر والإدخال هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ والفضل الكريم على ارباب المعرفة واليقين من الله العزيز العليم وَلكم ايضا ايها المعتبرون المجاهدون في ترويج دين الحق عنده سبحانه نعمة أُخْرى من النعم التي تُحِبُّونَها أنتم ألا وهي نَصْرٌ نازل مِنَ اللَّهِ العزيز الحكيم عليكم بحيث يغلبكم على عموم أعدائكم وَفَتْحٌ قَرِيبٌ في العاجل وَبالجملة بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ المجاهدين يا أكمل الرسل بأنواع البشارة الدنيوية والاخروية. ثم قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم نصرة دين الله وتقوية رسوله كُونُوا بأموالكم وانفسكم أَنْصارَ اللَّهِ وأنصار رسول الله وقولوا في مقابلة النبي عليه السلام كما قال الحواريون في مقابلة عيسى عليه السلام وحكاه الله عنهم بقوله كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مختبرا إخلاصهم واختصاصهم ومحبتهم ونهاية مرتبتهم في اليقين ودرجتهم في أعلى عليين مَنْ أَنْصارِي وأعواني في توجهي إِلَى اللَّهِ والى انتشار توحيده بين اظلاله المستمدين من اظلال أوصافه وأسمائه وبعد ما سمعوا قالَ الْحَوارِيُّونَ من كمال انكشافهم بالله وبتوحيده ومن تحققهم في مقام الشهود وتمكنهم فيه نَحْنُ الفانون في الله الباقون ببقائه المستغرقون بمطالعة لقائه أَنْصارَ اللَّهِ واحباؤه إذ لا مرجع لنا سواه ولا مقصد الا إياه والحواريون

خاتمة سورة الصف

هم أول من آمن بعيسى عليه السلام من الحور وهو البياض وهم اثنا عشر سموا به لصفاء عقائدهم عن التردد والتلوين وبعد ما اظهر عيسى عليه السلام دعوته بين الأنام فَآمَنَتْ به عليه السلام طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ به عليه السلام طائِفَةٌ اخرى منهم وبعد وقوع الخلاف والاختلاف فَأَيَّدْنَا وغلبنا الطائفة الَّذِينَ آمَنُوا منهم عَلى عَدُوِّهِمْ يعنى الطائفة الذين كفروا به عليه السلام فَأَصْبَحُوا وصاروا اى الطائفة المؤمنون ظاهِرِينَ غالبين على الطائفة الكفرة بالحراب والزام الحجة ألا ان حزب الله هم الغالبون خاتمة سورة الصف عليك ايها الموحد المحمدي المنجذب نحو الحق المنخرط في سلك ارباب التوحيد الملقبين بأنصار الله المهاجرين عن كورة بقعة الناسوت نحو مدينة الوحدة اللاهوتية وسواد أعظم الفقراء اعانك الله الى ان تصل أقصى مرامك وأعلى مطلبك ومقامك ان تجمع همك وتشمر ذيلك لسلوك سبيل الفناء من طريق الموت الإرادي المثمر للفناء المطلق عن الفناء ايضا لتفوز بالبقاء الأزلي السرمدي ألا وهي طريقة الحضرة الختمية المحمدية المبعوث الى كافة البرية لبيان طريق التوحيد الذاتي المسقط بجميع الكثرات والإضافات مطلقا فلك ان تصفى سرك وضميرك عن نقوش مطلق المعتقدات وصور عموم الرسوم والعادات المنافية لصرافة الوحدة الذاتية وتقتفى اثر نبيك صلّى الله عليه وسلّم أمثال الحواريين اثر نبيهم عليه السلام بلا شوب شك وريب وتقليد وتخمين لينكشف لك طريق المعرفة واليقين بعد توفيق الله وجذب من جانبه وطول خدمته الشريفة النبوية والنواميس المصطفوية وإياك إياك الالتفات الى الدنيا الدنية وما فيها من اللذات البهية البهيمية ليمكن لك التصفية والتخلية التي هي مقدمة الكشف والشهود. هدانا الله الى سبيل توحيده بمنه وجوده [سورة الجمعة] فاتحة سورة الجمعة لا يخفى على من انكشف له سرائر مرتبتي النبوة والولاية المنشعبتين عن حضرة العلم ولوح قضائه المشتمل على عموم ما كان ويكون وقلم تقديره المصور لنقوش عموم العكوس والاظلال الظاهرة على مرآة العدم حسب الارادة الكاملة والحكمة البالغة الباهرة الإلهية المقتضية لها ان ظهور هاتين المرتبتين انما هو بالوهب الإلهي وبمقتضى الفضل والعطاء بلا وسائل الاكتساب بالآلات والأسباب على مقتضى جرى العادة في تحصيل العلوم الرسمية الحاصلة باستعمال القوى المدركة الانسانية لذلك اخبر سبحانه عن كمال قدرته على بعث الرسول الأمي الأكمل من جميع الرسل على الأميين بلا وسائل الإملاء والإنشاء وختم ببعثته صلّى الله عليه وسلّم امر الإرشاد والتكميل الذي هو المقصود الأصلي من مرتبة النبوة والرسالة. فقال سبحانه بعد ما نبه على اهل التوحيد برجوع عموم الكائنات نحوه سبحانه بكمال التسبيح والتقديس عما لا يليق بشأنه بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي اظهر جميع الأشياء بكمال قدرته من كتم العدم بلا سبق مادة ومدة الرَّحْمنِ على عموم الأكوان ببعث الرسل من نوع الإنسان المصور بصورة الرحمن الرَّحِيمِ لهم يهديهم الى روض الجنان ويشوقهم بلقاء الحنان المنان لذلك [الآيات] يُسَبِّحُ ويقدس لِلَّهِ الواحد الأحد المنزه عن مطلق التعدد والتحديد مظاهر ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ

[سورة الجمعة (62) : آية 2]

تسبيحا مقرونا بكمال التذلل والخضوع الْمَلِكِ المتسلط بالاستيلاء التام والسلطنة القاهرة الغالبة على مملكة الوجود الْقُدُّوسِ المطهر المنزه ذاته عن سمة الحدوث ووصمة الإمكان الْعَزِيزِ الغالب على عموم المقدورات بكمال الاستيلاء والاستقلال الْحَكِيمِ المتقن في مطلق التدابير الجارية في عالم التصاوير بلا فتور وقصور هُوَ الَّذِي بَعَثَ حسب قدرته الكاملة وحكمته البالغة فِي الْأُمِّيِّينَ المنسلخين عن مطلق الإملاء والإنشاء المشعر بالتدبر والتفكر بمقتضى العقل الفطري الموهوب لهم من لدن حكيم عليم رَسُولًا اميا أمثالهم منتشأ مِنْهُمْ وأيده بروح القدس بعد ما صفاه عن دنس الجهل واصطفاه من بين الملل وفضله على عموم ارباب النحل وكمله في المعارف والحقائق الإلهية بحيث يَتْلُوا عَلَيْهِمْ عموم آياتِهِ الدالة على وحدة ذاته وعلى كمالات أسمائه وصفاته وَيُزَكِّيهِمْ عن مطلق النقائض والآثام المنافية لدين الإسلام المبين للتوحيد الذاتي وَبالجملة يُعَلِّمُهُمُ بمقتضى الوحى الإلهي الْكِتابَ اى القرآن الجامع لما في الكتب السالفة من الحكم والاحكام على ابلغ بيان وأبدع نظام وَالْحِكْمَةَ اى الاحكام الشرعية المنتشئة من الحكمة المتقنة الإلهية المنزلة من عند الحكيم العلام وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ اى وانهم قد كانوا قبل بعثته صلّى الله عليه وسلم لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وغواية ظاهرة لأنهم كانوا على فترة من الرسل وَلم يختص بعثته صلّى الله عليه وسلّم بالأميين من الاعراب الموجودين عند مبعثه صلّى الله عليه وسلّم بل تعم آخَرِينَ مِنْهُمْ اى عموم المكلفين لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ حين يتبعون بالأولين هكذا واقتفوا أثرهم الى يوم القيامة إذ قد ختم ببعثته صلّى الله عليه وسلّم امر البعثة وكمل عند ظهوره صلّى الله عليه وسلم بنيان الدين القويم الذي هو صراط التوحيد الذاتي وَهُوَ سبحانه الْعَزِيزُ الغالب على عموم التقادير الْحَكِيمُ المطلق في جميع الأفعال والتدابير ذلِكَ اى التوحيد الذاتي الذي ظهر به صلّى الله عليه وسلّم رحمة للعالمين فَضْلُ اللَّهِ العزيز الحكيم يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده بلا سبق الوسائل والأسباب العادية وَبالجملة اللَّهِ المتعزز برداء العظمة والكبرياء ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي لا يكتنه وصف فضله وطوله أصلا. ثم قال سبحانه تعريضا على الكفرة المنكرين لنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم مع انه قد ورد في كتبهم المنزلة عليهم حليته صلّى الله عليه وسلّم وهم مؤمنون بها مصدقون بجميع ما فيها سوى بعثته صلّى الله عليه وسلّم وما جاء فيها من أوصافه صلّى الله عليه وسلّم الدالة على علو شأنه ورفعة قدره ومكانه وبالجملة مَثَلُ القوم الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ اى علموها وكلفوا بما فيها من الأوامر والنواهي ومطلق الاحكام والمعتقدات المذكورة فيها ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ولم ينتفعوا بها ولم يصدقوا بما فيها سيما نعوت الحضرة الختمية الخاتمية المحمدية مثلهم في حمل التوراة وعدم امتثالهم بما فيها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً كتبا من العلم يجهلها ويتعب بثقلها ولا ينتفع بها أصلا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ الدالة على عظمة ذاته ومتانة حكمه وحكمته في عموم مأموراته ومنهياته وَبالجملة اللَّهِ العليم الحكيم المتقن في عموم أفعاله لا يَهْدِي الى توحيده الذاتي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الخارجين عن عروة عبوديته بمتابعة شياطين اماراته قُلْ يا أكمل الرسل على سبيل التبكيت والإلزام نيابة عنا لليهود الذين يدعون محبته وولايته بقولهم نحن اولياء الله واحباؤه مناديا لهم متهكما معهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا وتهودوا إِنْ زَعَمْتُمْ وظننتم أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ

[سورة الجمعة (62) : آية 7]

فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ المقرب لكم الى الله إذ الانتقال من دار الغرور الى دار السرور يقرب العباد الى الرحيم الغفور إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى المحبة والولاية فتمنوه وَالله يا أكمل الرسل لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً اى لا يتمنى احد منهم الموت أصلا وما سبب اعراضهم وانصرافهم عن الموت المقرب منه تعالى الا بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ اى بشؤم ما قدموا واقترفوا بأنفسهم من الكفر والعصيان وانواع الفسوق والطغيان وَبالجملة اللَّهُ المطلع بما في استعدادات عباده عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ منهم وبما في ضمائرهم من محبة الحياة والقساوة المفرطة يجازيهم على مقتضى علمه قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما قد اعرضوا عن تمنى الموت وابتغائه طلبا لمرضاة الله وشوقا اليه سبحانه ايضا على وجه التبكيت والإلزام إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ وتخافون ان تمنوه بألسنتكم مخافة ان لا يلحقكم بل تفرون عن مجرد التلفظ به فكيف عن لحوقه فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ وملاصقكم ولاحق بكم حتما إذ كل نفس ذائقة كأس الموت وكل حي بالحياة لا بد وان يموت سوى الحي الحقيقي الذي لا يموت ولا يفوت ثُمَّ بعد ما تموتون تُرَدُّونَ تحشرون وتساقون نحو المحشر وتعرضون إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بعلمه الحضوري يعنى بما صدر منكم وما خفى في ضمائركم ونياتكم فَيُنَبِّئُكُمْ ويخبركم يومئذ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير وشر فيجازيكم عليه. ثم لما تهاون المسلمون في امر الجمعة وتكاسلوا في الاجتماع قبل الصلاة بل انفضوا وانصرفوا عن الجامع حين خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما سمعوا صدا الملاهي المعهودة لمجيء العير على ما هو عادتهم دائما عاتبهم الله سبحانه وانزل عليهم الآية وناداهم نداء عتاب وخطاب حيث قال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم المبادرة الى مطلق الطاعات والعبادات سيما إِذا نُودِيَ واذن لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ اى في يوم الجمعة الا وهو الأذان المعهود قبيل الخطبة فَاسْعَوْا مجيبين مسرعين إِلى سماع ذِكْرِ اللَّهِ في الخطبة والتذكيرات الواردة فيها وَذَرُوا الْبَيْعَ واتركوا المبايعة بعد سماع الأذان ذلِكُمْ اى ترك البيع والسعى نحو المسجد والانصراف اليه خَيْرٌ لَكُمْ وانفع في عقباكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ صلاحكم وفسادكم في اولاكم واخراكم فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ المكتوبة لكم يوم الجمعة مع الامام وأديت على وجهها فَانْتَشِرُوا فِي اقطار الْأَرْضِ وَابْتَغُوا واطلبوا حوائجكم مِنْ فَضْلِ اللَّهِ المنعم المتفضل يعطكموها حسب إحسانه وسعة جوده وانعامه وَاذْكُرُوا اللَّهَ ذكرا كَثِيراً في عموم أحوالكم وأعمالكم ولا تحصروا ولا تقصروا ذكره سبحانه في الصلاة المفروضة فقط بل اشتغلوا بذكره وشكره في عموم الأوقات والحالات بالقلب واللسان وسائر الجوارح والأركان إذ ما من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم الا قليلا وواظبوا عليه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون بخير الدارين وصلاح النشأتين وَهم من غاية حرصهم على مقتضيات القوى البهيمية بعد ما كانوا في الجامع والخطيب على المنبر إِذا رَأَوْا وسمعوا تِجارَةً حاضرة يدور الناس حولها أَوْ سمعوا لَهْواً طبلا مخبرا لهم عن مجيء العير انْفَضُّوا إِلَيْها اى مالوا وانصرفوا نحوها مسرعين فخرجوا من الجامع سوى اثنى عشر رجلا وامرأة وَتَرَكُوكَ يا أكمل الرسل قائِماً على المنبر وبالجملة ما هي الا ثلمة قد حدثت في الدين المبين موجبة مقتضية للتهاون باحكام الشرع المتين قُلْ لهم يا أكمل الرسل ازالة لها ولما يتفرع عليها ما عِنْدَ اللَّهِ من المثوبات الاخروية الموجبة للدرجات العلية والمقامات السنية خَيْرٌ لكم

خاتمة سورة الجمعة

وأصلح بحالكم وأعظم نفعا وأبقى فائدة مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ إذ لا نفع لهما عند اهل الحق وان فرض فهو متاه زائل عن قريب بخلاف الكرامة الاخروية فإنها تدوم ابدا وَان عللوا انفضاضهم وخروجهم بتحصيل الرزق الصوري قل لهم يا أكمل الرسل اللَّهِ المظهر لكم من كتم العدم المدبر المربى لأشباحكم بما ليس في وسعكم خَيْرُ الرَّازِقِينَ يرزقكم من حيث لا تحسبون ان توكلتم عليه مخلصين وفوضتم أموركم كلها اليه سبحانه واثقين بكرمه العميم وجوده العظيم خاتمة سورة الجمعة عليك ايها الموحد الخائض في لجج بحر الوجود المتحقق بمقام الكشف والشهود مكنك الله في مقر عز الوحدة وجنبك عن الزيغ والضلال ان تتوكل على الله وتتخذه وكيلا وتفوض أمورك كلها اليه وتجعله حسيبا وكفيلا فعليك ان لا تشتغل في آن وشأن ولا تغفل عنه في حين من الأحيان سيما في امر الرزق الصوري المقدر من عند الله المدبر الحكيم لكل من دخل في حيطة الوجود وظهر على صورة الموجود فانه يصل على من يصل حسب ارادة الله ومشيته وإياك إياك ان تطلبه وتعتقده بالتجارة او السؤال بل لك ان تستعمل آلاتك الموهوبة لك من الله العليم الحكيم الى ما قد جبلت لأجله لتكون من زمرة الشاكرين المتوكلين وبالجملة الرزق على الله ولا تكن من القانطين واعبد ربك واشكره على آلائه ونعمائه حتى يأتيك اليقين وكن في عموم احوالك من الشاكرين المتوكلين [سورة المنافقين] فاتحة سورة المنافقين لا يخفى على من وصل الى مرتبة حق اليقين وتمكن في مقعد الصدق مع الموقنين الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ان الكذب والافتراء والجدال والمراء الواقع بين اصحاب الضلال والآراء الفاسدة الحادثة في عالم الكون والفساد انما هو من عدم الوصول الى كعبة الوجود وقبلة الواجد والموجود ومن عدم التمكن والتحقق والرسوخ التام في مقام الرضاء والتسليم الحاصل من كمال المعرفة واليقين والا فلا يصدر من ارباب الوصول واليقين أمثال هذه الجرائم المنبئة عن النفاق والشقاق المستلزم للجهل والغفلة عن الله الظاهر المتجلى في الأنفس والآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق ولهذا اخبر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما اخبر من اخبار اهل النفاق ونبهه على ما نبه عليه من ضلالهم فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي قد أحاط علمه بما لا يتناهى من المعلومات الرَّحْمنِ على عموم عباده بأمر المعروف ونهى المنكرات الرَّحِيمِ لهم يهديهم الى سبيل السلامة وطريق النجاة [الآيات] إِذا جاءَكَ يا أكمل الرسل الْمُنافِقُونَ على وجه الملاينة والخداع تغريرا لك ولمن تبعك من المؤمنين حيث قالُوا مبالغين في اظهار الايمان مؤكدين نَشْهَدُ نقر ونعترف عن محض الوداد وصميم الفؤاد إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ قد أرسلك الحق على الحق بالحق لتبيين الحق وَبعد ما قد أكدوا شهادتهم بأنواع التواكيد بالغوا ايضا في التأكيد لتشييد تغريرهم وتزويرهم حيث قالوا اللَّهِ المطلع على عموم السرائر والخفايا يَعْلَمُ ويشهد إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَبالجملة هم وان بالغوا في شهادتهم الكاذبة على سبيل التلبيس والتزوير اللَّهِ المطلع على ما في ضمائرهم من النفاق والشقاق

[سورة المنافقون (63) : آية 2]

يَشْهَدُ حتما إِنَّ الْمُنافِقِينَ المصرين على ما هم عليه من الكفر والإنكار لَكاذِبُونَ في شهادتهم المزورة الصادرة منهم على وجه المبالغة والتأكيد وبالجملة اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ المغلظة الحاصلة من شهادتهم المؤكدة بها جُنَّةً وجعلوها وقاية لأموالهم وأنفسهم فَصَدُّوا وصرفوا غزاة المسلمين بسبب ذلك الحلف الكاذب عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي هو قتالهم واسرهم ونهبهم وبالجملة إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الصد والنفاق والإصرار على الشقاق ذلِكَ اى اجتراؤهم على تلك الشهادة على وجه المراء والنفاق وإصرارهم على الكفر والشقاق بِأَنَّهُمْ آمَنُوا اى بسبب انهم آمنوا أولا بالله ورسوله وأقروا بألسنتهم بما ليس في قلوبهم على وجه النفاق صونا لأموالهم ودمائهم ثُمَّ كَفَرُوا بعد ما أمنوا من مكر المؤمنين فَطُبِعَ الكفر حينئذ عَلى قُلُوبِهِمْ ورسخ فيها واستحكم وبعد الطبع والتمرن فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ولا يفهمون حقية الايمان ولذته وصحته ولا باطلية الكفر وفساده وَبالجملة هم من غاية غفلتهم عن الله ونهاية عرائهم وخلوهم عن نور الايمان إِذا رَأَيْتَهُمْ يا أكمل الرسل تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ اى سمنها وضخامتها وَإِنْ يَقُولُوا ايضا كلاما تَسْمَعْ أنت لِقَوْلِهِمْ لفصاحتهم وحلاوة نظمهم الا انهم لخلوهم عن العلم اللدني والرشد الجبلي والصفاء الفطري الذاتي الذي هي عبارة عن نقود ارباب المحبة والولاء كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ يابسة فاقدة للقابلية الفطرية مُسَنَّدَةٌ على جواهر الجهل والبلادة ومع ذلك يَحْسَبُونَ يظنون ويترقبون من شدة شكيمتهم وغيظهم على المؤمنين كُلَّ صَيْحَةٍ واقعة عَلَيْهِمْ مسموعة لهم هُمُ الْعَدُوُّ يصيح عليهم ليهلكهم وبعد ما صار بغضهم مع المؤمنين ووهمهم ومخافتهم من العدو بهذه الحيثية فَاحْذَرْهُمْ يا أكمل الرسل واترك مصاحبتهم واحترز من غيلتهم وطغيانهم إذ الخائن الخائف ربما يصول بلا سبب وداع عليه وقل في شأنهم دعاء عليهم قاتَلَهُمُ اللَّهُ المنتقم الغيور أَنَّى يُؤْفَكُونَ وكيف يصرفون ومن اين ينحرفون عن الحق الصريح الى الباطل الغير الصحيح مع انه لا ضرورة تلجئهم اليه وَمن شدة بغضهم وضغينتهم مع المؤمنين المخلصين إِذا قِيلَ لَهُمْ امحاضا للنصح تَعالَوْا هلموا ايها المسرفون المفرطون الى مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ويطلب المغفرة لكم من العفو الغفور لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وعطفوا أعناقهم عن القبول معتذرين باعذار كاذبة مخافة وصونا وَرَأَيْتَهُمْ ايها الرائي حينئذ في وجوههم التي هي عنوان بواطنهم وقلوبهم آثار الكفر والعناد ظاهرة لذلك يَصُدُّونَ ويعرضون عن المؤمنين مسرعين معتذرين وَهُمْ في أنفسهم مُسْتَكْبِرُونَ عن القبول والاعتذار وبالجملة سَواءٌ عَلَيْهِمْ يا أكمل الرسل أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ من الله المنتقم الغيور أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ العليم الحكيم المتقن في عموم الأفعال ابدا إِنَّ اللَّهَ المطلع على ما في استعدادات عباده لا يَهْدِي ولا يرشد الى جادة توحيده الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ منهم الخارجين عن مقتضى الحدود الاسلامية وكيف يهديهم ويغفر لهم سبحانه مع انهم هُمُ القوم المسرفون الَّذِينَ يَقُولُونَ للأنصار من نهاية عداوتهم وبغضهم مع الرسول والمؤمنين لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ يعنون فقراء المهاجرين حَتَّى يَنْفَضُّوا وينتشروا بعد ما اضطروا من حوله وَلم يعلموا هؤلاء الغفلة الضالون والجهلة الهالكون في تيه الجهل والعناد ان لِلَّهِ وفي قبضة قدرته وتحت ضبطه وملكته خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى الكنوز المكنونة المطوية في ضمن العلويات

[سورة المنافقون (63) : آية 8]

والمدفونة المخزونة في السفليات وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ المصرين على الكفر والعناد لا يَفْقَهُونَ كمال قدرة الله وسعة خزائن كرمه وجوده ومن نهاية غفلتهم عن الله وعداوتهم مع المؤمنين يَقُولُونَ على سبيل التهور والتهديد لَئِنْ رَجَعْنا من سفرنا هذا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ يريدون أنفسهم مِنْهَا اى المدينة الْأَذَلَّ يريدون المؤمنين وذلك ان أعرابيا من المهاجرين نازع أنصاريا في بعض الغزوات على ماء فضرب الأعرابي رأسه بخشبة فشكى الى ابن ابى وملائه فقالوا حينئذ لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا وإذا رجعنا الى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وَلم يعلموا أولئك الغواة الطغاة الضالون في تيه العتو والعناد انه لِلَّهِ الْعِزَّةُ والقوة والغلبة اصالة وَلِرَسُولِهِ تبعا وَلِلْمُؤْمِنِينَ بمتابعة الرسول وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ عزته وعزة اهل الله لفرط جهلهم وغرورهم بأموالهم وأولادهم لذلك يحصرون العزة والقوة لأنفسهم. ثم قال سبحانه تسلية للمؤمنين مشتملة على نوع من التعريض والحث والترغيب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم ان لا تلتفتوا لعزة الدنيا ولا تغتروا بكثرة الأموال والأولاد فيها لا تُلْهِكُمْ ولا تشغلكم أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعن التوجه نحوه والركون اليه في مطلق الأحوال وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ والتفت الى مزخرفات الدنيا وشغل بها عن الله فَأُولئِكَ البعداء المشغولون بالخسيس الأدنى عن الشريف الأعلى هُمُ الْخاسِرُونَ المقصورون على الخسران الكلى والحرمان الحقيقي لاستبدالهم الباقي بالفاني والزاهق الزائل بالقار القديم وَبعد ما سمعتم مآل أموالكم وما يتفرع عليها من الحرمان والخسران أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ وسقنا نحوكم من اموال الدنيا وزخارفها مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعنى أنفقوا قبل حلول الأجل وظهور امارات الموت وعلامات الفزع فَيَقُولَ المحتضر منكم حينئذ متحسرا متمنيا رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي وهلا أمهلتني يا رب إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وأمد غير بعيد فَأَصَّدَّقَ وأتصدق من مالي هذا على الوجه المأمور طلبا لمرضاتك وَبعد التصدق أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ المنفقين الممتثلين لأمرك المقبولين عندك يا ربي وَاعلموا ايها المؤمنون يقينا انه لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ الحكيم العليم نَفْساً ولن يمهلها ابدا إِذا جاءَ أَجَلُها وحل ما قدر لها من الوقت الذي قدر فيه رد الامانة وكذا لن يقدمها عليه أصلا فعليكم التدارك والتلافي قبل حلول الأجل وَبالجملة اللَّهُ المراقب عليكم في عموم أحوالكم خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ في ايام حياتكم من خير وشر فيجازيكم على مقتضى خبرته بلا فوت شيء من عملكم خيرا كان او شرا خاتمة سورة المنافقين عليك ايها المحمدي المنكشف برجوع العكوس والاظلال الظاهرة الحادثة الى ما منه بدت وظهرت ألا وهي شمس الوحدة الذاتية ان تعرف ان اظهار المظاهر وبسط الظل عليها وامتداده فيها انما هو بغتة بلا سبق مادة ومدة وآلة ومقدمة كذلك القبض والإخفاء انما يكون كذلك فلك ان تكون في مدة ظهورك على ذكر من ربك بحيث لا يشغلك عن ذكره شيء ساعة ولا تغفل عنه وعن التوجه نحوه لحظة وطرفة فإنك ما تدرى متى يحل الأجل فإذا حل لم يمكنك التدارك والتلافي. جعلنا الله من زمرة المستيقظين في عموم الأحوال بمنه وجوده

سورة التغابن

[سورة التغابن] فاتحة سورة التغابن لا يخفى على من تحقق بحيطة الحق وشمول أسمائه وصفاته على عموم المظاهر والمجالى ان رجوع عموم الكوائن والفواسد الغير المحصورة في فضاء الإمكان اليه سبحانه وتوجه الكل نحوه طوعا ورغبة إذ ما من موجود الأولة حب ذاتى وميل جبلي الى دوام نشأته التي هو عليها بمقتضى هويته ولا شك ان له نحوا من الشعور بحدوثه ومسبوقيته بالعدم فثبت ان له شعورا بفاعله المظهر لهويته فبمقتضى حبه نشأته يكون له رجوع الى مبدئه يستمد منه ويحمد له كما اخبر سبحانه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى فيما تجلى بمقتضى سعة رحمته وجوده الرَّحْمنِ على عموم المظاهر والأكوان بالامداد عليها في كل آن وشأن الرَّحِيمِ على نوع الإنسان حيث اطلعهم على سرائر توحيده وصورهم بصورته [الآيات] يُسَبِّحُ لِلَّهِ ويقدس ذاته عن مطلق النقائص على وجه الإطلاق بعد ما لم يبلغ كنه أسمائه وصفاته ممن لا يعد ولا يحصى السنة ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من ذرائر عموم الأكوان وكيف لا يقدسه جميع الأعيان إذ لَهُ الْمُلْكُ والملكوت على سبيل الحصر والتخصيص لا مالك سواه ولا متصرف فيه ولا مستولى عليه الا هو وَلَهُ الْحَمْدُ ايضا كذلك إذ لا مستحق للحمد بالاستحقاق الا هو ولا مفيض للنعم على الآفاق غيره ولا مقدر للارزاق سواه وَبالجملة هُوَ بذاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة جود وجوده قَدِيرٌ لا ينتهى قدرته عند مقدور وارادته دون مراد وكيف لا يكون سبحانه قديرا لعموم المقدورات ومريدا لجميع المرادات مع انه هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ وأظهركم وقدر خلقكم من كتم العدم على وجه الإبداع والاختراع بلا سبق مادة ومدة وفصلكم بعد ما أظهركم فَمِنْكُمْ كافِرٌ ساتر للحق موفق عليه محجوب بغيوم هوياته الباطلة الامكانية عن شمس الحقيقة وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ موفق على الايمان مجبول على فطرة التوحيد والعرفان ميسر لها لذلك يصير إيمانه عيانا وعيانه حقا وبيانا وَبالجملة اللَّهُ المطلع على ما في استعدادات عباده بِما تَعْمَلُونَ من عموم الأعمال في جميع الشئون والأحوال بَصِيرٌ فيعامل معكم حسب أعمالكم واعلموا ايها المكلفون قد خَلَقَ الله سبحانه واظهر بكمال قدرته السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ مظاهر ما في العلويات والسفليات ملتبسة بالحكمة المتقنة البالغة في الاحكام والإتقان جدا لا يبلغ كنهه احلام الأنام وبعد ما رتبها بحكمته على هذا النظام الأبلغ الابدع انتخب من مجموع الكائنات ما هو زبدته وخلاصته وَصَوَّرَكُمْ ايها المجبولون على فطرة التوحيد والتحقيق منها فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ إذ خلقكم على صورته قابلا لخلافته لائقا للتخلق بأخلاقه والاتصاف بصفوة أوصافه وجعل فطرتكم علة غائية مرتبة على عموم مظاهره ومصنوعاته وَكيف لا يصوركم بصورته ولا يحسن صوركم إذ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ اى مصير الكل نحوه ومرجعه لديه ومبدأه منه ومعاده اليه يَعْلَمُ بعلمه الحضوري جميع ما فِي السَّماواتِ اى عالم الأسماء والصفات من الكمالات اللائقة للظهور والبروز وَكذا ما في الْأَرْضِ اى عموم ما في استعدادات قوابل الطبائع والأركان من الماديات والمجردات وَيَعْلَمُ ايضا ما تُسِرُّونَ ايها المكلفون وَما تُعْلِنُونَ مما تعملون من عموم الأعمال في جميع الشئون وَبالجملة اللَّهُ المحيط بالكل بمقتضى تجليه وظهوره

[سورة التغابن (64) : آية 5]

عليه المطلع على ما في استعدادات عباده عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ إذ لا يخفى عليه خافية ولا يعزب عن حيطة علمه ذرة. ثم قال سبحانه توبيخا على من خرج عن ربقة عبوديته أَلَمْ يَأْتِكُمْ ايها الكافرون المنكرون بظهور الحق وثبوته وتحققه في الأنفس والآفاق بالاستقلال والاستحقاق نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ كقوم نوح وهود وصالح عليهم السلام فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ يعنى كيف ذاقوا ضرر كفرهم وشركهم من العذاب النازل عليهم في النشأة الاولى بعد ما أصروا على ما هم عليه ولم يهتدوا بإرشاد الأنبياء والرسل وَلَهُمْ في النشأة الاخرى عَذابٌ أَلِيمٌ لا عذاب أشد ايلاما من ذلك ألا وهو حرمانهم عن ساحة عز القبول الإلهي ذلِكَ الويل والوبال عليهم في النشأة الاولى والاخرى بِأَنَّهُ اى بسبب ان الشأن والأمر فيما بينهم هكذا قد كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ مؤيدين من عند الله بِالْبَيِّناتِ الواضحة والمعجزات الباهرة اللائحة فَقالُوا بعد ما عجزوا عن معارضة معجزاتهم الساطعة وحججهم القاطعة على سبيل التعجب والإنكار أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا كلا وحاشا ان يكون بشر هاديا للبشر وبالجملة فَكَفَرُوا بالرسل والمرسل والمرسل به جميعا وَتَوَلَّوْا واعرضوا مستنكفين عن التدبر والتفكر في الحجج والبينات وَالحال انه قد اسْتَغْنَى اللَّهُ عن كل شيء فضلا عن هدايتهم وطاعتهم وَاللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء غَنِيٌّ في ذاته عن مطلق مظاهره ومصنوعاته فكيف عن عبادتهم واطاعتهم حَمِيدٌ أوصافه وأسماؤه مستغن عن حمد عموم الحامدين ومن كمال جهلهم بالله وإصرارهم على انكار قدرة الله بعموم المقدورات زَعَمَ بل ادعى العلم واليقين المسرفون المعاندون الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وأنكروا قدرته سبحانه على الحشر والنشر أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا من قبورهم ولن يحشروا الى المحشر للحساب والجزاء وأصروا على هذا الزعم الفاسد والجهل الظاهر بل اعتقدوه حقا وتخيلوه صدقا مكابرة وعنادا قُلْ لهم يا أكمل الرسل بعد ما بالغوا في انكار البعث بَلى تبعثون أنتم ايها المنكرون الجاحدون وَحق رَبِّي الذي رباني قابلا لوحيه والهامه وجعلني مهبطا لعموم أحكامه المنزلة من عنده لَتُبْعَثُنَّ أنتم البتة ثُمَّ بعد البعث والحشر لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ اى بعموم ما اقترفتم في النشأة الاولى ولتحاسبن عليه ولتجازون بمقتضاه بحيث لا يشذ شيء منه وَذلِكَ التفصيل والإحصاء عَلَى اللَّهِ العليم البصير يَسِيرٌ وان كان عندكم صعبا عسيرا وبعد ما سمعتم ما سمعتم من كمال قدرة الله واحاطة علمه وخبرته فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ المستخلف منه وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا معه تأييدا له وتبيينا لدينه يعنى القرآن الفارق بين الحق والباطل وَاللَّهُ المطلع على ما في استعداداتكم بِما تَعْمَلُونَ بمقتضى القرآن وتمتثلون بأوامره ونواهيه وبما تذبون عنه او تعرضون عن قبوله منكرين لما فيه من الأوامر والنواهي والعبر والاحكام والمعارف والحقائق والرموز والإشارات خَبِيرٌ يجازيكم على مقتضى خبرته اذكروا ايها المكلفون يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ الله العليم القدير لِيَوْمِ الْجَمْعِ والحشر لأجل الحساب والجزاء إذ يجتمع فيه الملائكة والثقلان ايضا اعلموا انه ذلِكَ اليوم يَوْمُ التَّغابُنِ اى يوم ظهور الخسران والغرور الواقع في نشأة الاختبار والابتلاء وَبالجملة مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ويقر بوحدانيته سبحانه وَيَعْمَلْ عملا صالِحاً ليزيد به الايمان حتى يصير علمه عيانا وعيانه حقا وبيانا يُكَفِّرْ عَنْهُ سبحانه سَيِّئاتِهِ ويمحها عن صحيفة اعماله وَيُدْخِلْهُ حسب فضله ولطفه جَنَّاتٍ متنزهات

[سورة التغابن (64) : آية 10]

العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المملوة بمياه المعارف والحقائق المترشحة من بحر الحياة الأزلي الأبدي بحيث لا يتحولون من التلذذ بها والتحقق دونها أصلا بل يصيرون خالِدِينَ فِيها أَبَداً وبالجملة ذلِكَ التكفير والإدخال لأرباب العناية والإفضال هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ واللطف الجسيم لا فوز أعظم منه وأكمل. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعد بالوعيد وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا أُولئِكَ الأشقياء المردودون أَصْحابُ النَّارِ وملازموها خالِدِينَ فِيها لا نجاة لهم منها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصير اهل النار أعاذنا الله وعموم عباده منها. ثم قال سبحانه على سبيل التقرير والتثبيت لأرباب المعرفة والإيقان على جادة التفويض والتوكل ما أَصابَ على من أصاب وما أصاب مِنْ مُصِيبَةٍ اى حادثة مفرحة او مؤلمة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ المدبر الحكيم وبمقتضى ارادته وتقديره وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ويفوض امره اليه ويتخذه سبحانه وكيلا ويجعله حسيبا وكفيلا يَهْدِ قَلْبَهُ وينور خلده ويبصره على امارات التوحيد وعلامات اليقين وَبالجملة اللَّهِ المطلع على عموم ما غاب وشهد بِكُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة قدرته عَلِيمٌ بعلمه الحضوري بحيث لا يعزب عن علمه شيء مطلقا وَبالجملة أَطِيعُوا اللَّهَ المظهر الموجد لكم من كتم العدم يا معاشر المكلفين وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ المبلغ لكم طريق الهداية والرشد المبين لكم سبل السلامة والسداد في يوم المعاد فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ وأعرضتم عن دعوته بعد تبليغه وإرشاده فلا بأس عليه فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا حسب وحينا وأمرنا الْبَلاغُ والتبليغ الْمُبِينُ الظاهر الواضح وبعد تبليغه على وجهه لم يبق عليه شيء بل علينا حسابكم وجزاؤكم بمقتضاه وكيف يتأتى منكم الاعراض ايها المعرضون المبطلون مع انه اللَّهُ الواحد الأحد المستقل بالالوهية والربوبية لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ بتوحيده واستقلاله وَعَلَى اللَّهِ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ في عموم حوائجهم ومهماتهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وأيقنوا وحدة الحق واستقلاله في الوجود إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ اعرضوا عنهم حتى لا يشغلوكم عن طاعة الله وعن التوجه نحوه والتوكل عليه بالتقريع والتشنيع ولا يردوكم ولا يلجؤكم ولا يضطروكم في امر المعاش وتحصيله الى المعاتب والمهالك حتى تسئلوا من كل غنى غبى وبخيل دنى فتسترزقوا منهم وترزقوا إليهم فلا تثقون بالله ولا تتوكلون عليه ولا تعتمدون بكفالته سبحانه وترزيقه وتزل بذلك نعلكم عن طريق خالقكم ورازقكم وتزلق قدمكم عن التشبث في صراط التوكل والتفويض وبالجملة فَاحْذَرُوهُمْ اى عن الأولاد والأزواج ولا تأمنوا عن مكرهم وغوائلهم وَمع ذلك إِنْ تَعْفُوا عن جرائمهم وتشنيعاتهم وتوصلوهم الى ما أملوا وترقبوا منكم وَتَصْفَحُوا وتعرضوا أنتم عن أغراضهم بعدم الالتفات الى حالهم وَتَغْفِرُوا اى تمحوا وتستروا ما صدر منهم من التقريع والتشنيع فتشتغلوا الى إنجاح أغراضهم وأمانيهم فَإِنَّ اللَّهَ المطلع على ما في ضمائركم من مراعاة جانب الأولاد والأزواج غَفُورٌ لذنوبكم الذي صدرت عنكم متعلقة بمعايش أولادكم ان كانت برخصة شرعية رَحِيمٌ عليكم يرحمكم ويمحو زلتكم ان كان سعيكم للكفاية والقناعة الضرورية لا للقصور والفراغة والجاه والثروة كما نشاهد في زماننا هذا من أبناء زماننا احسن الله أحوالهم وبالجملة َّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ عظيمة وابتلاء شديد

[سورة التغابن (64) : آية 16]

لكم فعليكم ان لا تغتروا بهما فإنهما من شباك الشيطان وحباله يريد ان يصدكم عن سبيل الله بتزيينهما إليكم وتحبيبهما في قلوبكم لتشتغلوا بهما عن الله فتحطوا عن زمرة المخلصين المتوكلين اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ للمخلصين المتوكلين المجتنبين عن الالتفات الى الغير مطلقا وبالجملة فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ واتخذوه وكيلا واجعلوه سبحانه وقاية لنفوسكم عن تغرير الشيطان وفتنته وَاسْمَعُوا قول الله بسمع الرضا والقبول وَأَطِيعُوا امره ونهيه ولا تخرجوا عن مقتضى حكمه وأحكامه مطلقا وَأَنْفِقُوا مما رزقكم الله واستخلفكم عليه امتثالا لأمره وطلبا لمرضاته وافعلوا جميع ما أمركم الحق سيما الإيثار والانفاق ليكون امتثالكم وانفاقكم خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ في اولاكم وذخرا لكم في اخراكم ومن معظم فوائد الانفاق صون النفس عن الشح المطاع وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ بالبذل والانفاق فَأُولئِكَ السعداء المتصفون بالكرم والسخاء هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون من الله بالمثوبة العظمى والدرجة العليا وبالجملة إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ المنعم المتفضل ايها المنفقون المحسنون قَرْضاً حَسَناً مقرونا بالإخلاص والرضا ومصونا عن وصمة المن والأذى يُضاعِفْهُ لَكُمْ إحسانكم أضعافا كثيرة وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم وان عظمت وكثرت وَبالجملة اللَّهَ المطلع على اخلاص عباده في أعمالهم ونياتهم فيها شَكُورٌ يحسن المحسن جزاء إحسانه أضعافا مضاعفة ويزيد عليها تفضلا وامتنانا حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبة المسيء رجاء ان يعود ويتوب ويعتذر لما يصدر عنه من الذنوب وكيف لا وهو عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعلم بعلمه الحضوري منهم عموم ما في استعداداتهم وقابلياتهم من الإخلاص والانفاق وغيرهما الْعَزِيزُ الغالب القادر على وجوه الانعام والانتقام الْحَكِيمُ المتقن في عموم الأفعال والجزاء المترتب على الأعمال خاتمة سورة التغابن عليك ايها الموحد المتحقق بمقام الفناء في الله المستخلف منه سبحانه في عموم الأفعال والآثار الصادرة منك صورة ان تمتثل بمطلق الأوامر والنواهي الواردة عليك من عند ربك بمقتضى التكاليف المنبئة عن محض الحكمة المتقنة الإلهية الجارية على وفق المصلحة المصلحة لأمور العباد في معاشهم ومعادهم وتواظب على أداء الفرائض والواجبات الموجبة للعبودية بكمال التسليم والرضاء وتلازم على الإتيان بالنوافل والمندوبات المقربة الى الله المستلزمة لمزيد الفضل والعطاء فلك التبتل والإخلاص المقارن بالخضوع والخشوع والتذلل التام والانكسار المفرط في عموم ما جئت به من الطاعات والعبادات فاعلم ان الناقد بصير وحبائل الشيطان في حواليك كثير فلا تغفل عن غوائله فان إضلاله إياك سهل يسير واتكل على الله في عموم أوقاتك واستعذ به سبحانه من غوائله فانه سميع بصير. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير [سورة الطلاق] فاتحة سورة الطلاق لا يخفى على من تمكن في مقام العبودية وتقرر في محل التكاليف الإلهية من المنكشفين بسرائر الاحكام الحقيقة الحقية ان سر الزواج والازدواج الواقع في عالم الكون والفساد المنبئ عن المناسبات المعنوية والارتباطات الحبية الغيبة المترتبة على كمال الاعتدال والائتلاف بين الأسماء والأوصاف

الآيات

الذاتية الإلهية الباعثة على الظهور والبروز في فضاء الكمال انما هو بمقتضى التجليات والشئون الإلهية وتطوراته المتوافقة والمتخالفة حسب القبض والبسط والجمال والجلال الظاهر آثارها في الأزمان والأدوار الصادرة من الملك الجبار حسب الارادة والاختيار ومن جملة الآثار الواقعة في الأقطار امر النكاح والطلاق المترتبين على المناسبة والمخالفة المتفرعتين على القبض والبسط المتفرعين على صفتي الجمال والجلال لذلك نبه سبحانه عباده وبين لهم احكام النكاح والطلاق الصوريين ووضع لهما حدودا وقواعد مضبوطة حتى لا يتجاوزوا عن الاعتدال والقسط الإلهي المتفرع على الحكمة المتقنة البالغة فقال بعد ما تيمن باسمه الأعلى مناديا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم إذ هو صلّى الله عليه وسلّم لائق بالخطابات الإلهية سيما في أمثال هذه الاحكام بِسْمِ اللَّهِ الذي احكم مطلق الاحكام الشرعية على مقتضى الحكمة والعدالة الرَّحْمنِ لعموم عباده بوضع الحدود الشرعية بينهم الرَّحِيمِ لخواصهم بتنبيههم على سرائر تكاليفه وحكم حدوده المتفرعة على حكمته البالغة والمصلحة الكاملة [الآيات] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المبعوث الى كافة البرايا ليرشدهم ويصلح أحوالهم فاعلم أنت يا أكمل الرسل اصالة والمؤمنين تبعا انكم إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ وقصدتم رفع رابطة العلقة بالرخصة الشرعية ايضا فَطَلِّقُوهُنَّ وارفعوا عنهن قيد الالفة المقتضية للزوجية لِعِدَّتِهِنَّ اى في اثنائها ووقتها الذي هو مدة الطهر قبل وقوع الوقاع فيه وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ الكاملة اى الاطهار الثلاثة مع الطلقات الثلاث حتى تقع كل طلقة في طهر وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ المنتقم الغيور الذي رباكم بمقتضى العدالة فعليكم ان لا تتجاوزوا عنها فلا تزيدوا على عدتهن بالمراجعة عليهن ثم تطليقهن وعليكم انه لا تُخْرِجُوهُنَّ بالتعدي بعد إيقاع الطلاق مِنْ بُيُوتِهِنَّ اى مساكنكم التي قد كن فيها قبل الفرقة حتى تنقضي عدتهن فيها وَلا يَخْرُجْنَ ايضا بأنفسهن بعد الفرقة من مساكنهن بلا رضى منكم إذ فوائد العدة والاستبراء انما هي عائدة إليكم ايها الأزواج المطلقون بل لا بد لهن ان يعتددن فيها إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ هي زنا يشهد له شهود على الوجه الذي اعتبر في الشرع فحينئذ يخرجن لإجراء الحد عليهن فيصح هذا الاستثناء على كلا الحكمين السابقين وَتِلْكَ الحدود المذكورة حُدُودُ اللَّهِ العليم الحكيم الصادرة عنه بمقتضى الحكمة المتقنة البالغة المقتضية للعدالة الكاملة وَمَنْ يَتَعَدَّ ويتجاوز حُدُودُ اللَّهِ المنتقم الغيور فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بالعرض على عذاب الله عاجلا وآجلا إذ لا تَدْرِي ولا تعلم نفس المطلق المتجاوز عن الحد الشرعي بالتطويل في العدة والتهاون على المرأة او نفس المرأة المطلقة بإتيان الفاحشة في أوان العدة وغيرها لَعَلَّ اللَّهَ المقتدر المنتقم يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ التفريق والبينونة أَمْراً بان يجعل للمطلق بدل تلك الزوجة المطلقة زوجة سليطة عليه او يجعل للمطلقة زوجا أشد ايلاما منه وبالجملة فَإِذا بَلَغْنَ اى المطلقات أَجَلَهُنَّ شارفن على انقضاء العدة فَأَمْسِكُوهُنَّ وراجعوا إليهن بِمَعْرُوفٍ مستحسن عقلا وشرعا ومروءة نادمين على ما صدر عنكم من الطلاق والسراح والفراق معطين لهن على وجه الإحسان من الامتعة جبرا لما كسرتم أَوْ فارِقُوهُنَّ بعد ما لم يبق بينكم وبينهن رابطة المحبة وعلاقة الالفة بِمَعْرُوفٍ مستحسن مرضى مقبول له اى الشارع محمود ومعهود عند عموم ارباب المروات بلا ضرر ولا إضرار وبلا أخذ شيء مما يتعلق بهن من الامتعة المنسوبة إليهن عرفا بل أعطوهن شيأ آخر معتدا به ليعترفن بثنائكم وشكركم دائما ويدعوا لكم بدل ما يدعون عليكم

[سورة الطلاق (65) : آية 3]

ابدا وَأَشْهِدُوا ايها المؤمنون عند اختيار الرجعة او بالفرقة ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ قطعا لعرق الخصومة والنزاع وبعدا عن التهمة وَأَقِيمُوا ايها الشهود الشَّهادَةَ الموكولة لكم لِلَّهِ طلبا لمرضاته سبحانه وحافظوا عليها كي تؤدوها لدى الحاجة ذلِكُمْ الذي سمعتم من محافظة الحدود واقامة الشهادة لحفظ الحقوق وبالعهود من جملة المواعظ والتذكيرات التي قد وضعها الحق بمقتضى حكمته المتقنة بين عباده ليحافظوا بها على آداب العبودية وانما يُوعَظُ ويتذكر بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ويوقن بوحدة ذاته ويصدق برسله المبعوثين من عنده المؤيدين من لدنه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ المعد لتنقيد الأعمال وترتيب الجزاء عليها فان غير هؤلاء السعداء الأمناء هم التائهون في تيه الضلال بأنواع الوزر والوبال وهم لا يتعظون بها وبأمثالها وَبالجملة مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ويتحفظ نفسه عن قهره وغضبه ويحافظ على رعاية حدوده الموضوعة من لدنه لحفظ حقوق عباده سيما حقوق الزوجية والائتلاف من كلا الطرفين ويتوكل عليه في عموم أحواله ويفوض أموره كلها اليه يَجْعَلْ لَهُ سبحانه مَخْرَجاً عن مضيق الإمكان المورث لانواع الخذلان والخسران وَيَرْزُقْهُ ويسق اليه جميع حوائجه المحتاج إليها في معاش عياله مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ اى من مكان لا يترقبه ولا ينتظره وَكيف لا مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ مخلصا له مفوضا اليه امره فَهُوَ سبحانه حَسْبُهُ كافيه يكفيه جميع المؤنة المحتاج إليها في النشأة الاولى والاخرى وكيف لا إِنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على عموم المقادير بالِغُ أَمْرِهِ بعد ما فوض اليه سبحانه بالإخلاص والتسليم الى ما قد قدر الله له في حضرة علمه ولوح قضائه إذ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ القدير الحكيم لِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء الظاهرة حسب اظلال الأسماء والصفات الإلهية قَدْراً اى مقدارا معينا من الكمال في عموم أفعاله على مقتضى الاستعداد الفطري والقابليات الجبلية هذه المذكورات من الحدود والآداب في طلاق ذوات الأقراء من المعتدات وَاللَّائِي يَئِسْنَ وقنطن مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ لكبرهن إِنِ ارْتَبْتُمْ اى شككتم وترددتم في تعيين عدتهن فَعِدَّتُهُنَّ بعد ما طلقتموهن ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ اى مضيها. روى انه لما نزلت والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلثة قروء قيل فما عدة النساء اللاتي يئسن من المحيض فنزلت وَكذا ايضا مضى ثلاثة أشهر عدة النساء اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ بعد لصغر سنهن او لمرض وَأُولاتُ الْأَحْمالِ من المطلقات أَجَلُهُنَّ ومنتهى عدتهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ سواء كان الوضع بعد الفرقة بزمان كثير او قليل وهذا الحكم متناول للمطلقة والمتوفى عنها زوجها وانما لم يعين الشارع لاولات الأحمال حدا معينا من اقراء او أشهر لان المقصود الأصلي من التزام المدة والعدة حفظ الماء واستبراء الرحم لئلا ينجر في خلط النسب وبالوضع يحصل المقصود على الوجه الأتم ولهذا لم يحد لهن سوى الوضع وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ويحفظ نفسه عن سخطه وطلق امرأته على الوجه المسنون ولم يركن الى الطلاق البدعى أصلا يَجْعَلْ لَهُ سبحانه مِنْ أَمْرِهِ الذي هو فراق زوجته يُسْراً اى يسهل عليه التزوج الآخر ويحسنها له ويحبله عليها ذلِكَ المذكور من الاحكام أَمْرُ اللَّهِ العليم الحكيم قد أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ ايها المكلفون يصلح به مفاسدكم المتعلقة بأمر الطلاق وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ المنتقم الغيور ولم يتجاوز عن مقتضى امره المبرم وحكمه المحكم يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ بتغليب حسناته عليها وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً بتضعيف حسناته أضعافا كثيرة أَسْكِنُوهُنَّ اى المطلقات

[سورة الطلاق (65) : آية 7]

مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ايها المطلقون مِنْ وُجْدِكُمْ اى من وسعكم ومقتضى طاقتكم من ملك او اجارة او اعارة وَلا تُضآرُّوهُنَّ في السكنى لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ حتى يضطررن الى الخروج وَإِنْ كُنَّ اى المطلقات أُولاتِ حَمْلٍ منكم ايها المطلقون فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فيخرجن من العدة وهذا الحكم اى الانفاق على المعتدة مخصوص باولات الأحمال من المعتدات إذ الانفاق حقيقة انما هو لاولات الأولاد دون غيرهن من المعتدات إذ لا سبب يوجبها وإذا وضعن فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أولادكم بعد رفع رابطة النكاح فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على الإرضاع مثل سائر المرضعات الاجنبيات ولا تعللوا بكونهن أمهات الرضيع وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ اى ليأمر بعضكم بعضا ايها المؤمنون في إرضاع المطلقة ولدها من المطلق بِمَعْرُوفٍ مستحسن مقبول شرعا من إعطاء الاجرة الكاملة والزيادة عليها مراعاة للمروءة وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ وتضايقتم في الاجرة عليها فَسَتُرْضِعُ لَهُ امرأة أُخْرى غيرها الا ان المروءة تأبى ان تعرض الام عن إرضاع ولدها إذ هي اولى به من غيرها لِيُنْفِقْ المعتدة الحاملة ذُو سَعَةٍ ويسر مِنْ سَعَتِهِ ومقدار وسعه وطاقته على مقتضى نفقتها قبل الفرقة وَمَنْ قُدِرَ وضيق عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ من الرزق الصوري بلا جبر وتحميل إذ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ المنعم الحكيم نَفْساً إِلَّا مقدار ما آتاها وساق لها من الرزق الصوري إذ سَيَجْعَلُ اللَّهُ المنعم المتفضل بَعْدَ عُسْرٍ دنياوي يُسْراً حقيقيا أخرويا فاليسر في الآخرة اولى من الدنيا وما فيها. ثم قال سبحانه على وجه الوعيد للموسرين المقترين وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ اى كثيرا من اهل قرية قد عَتَتْ اى أعرضت واستكبرت عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَعن متابعة رُسُلِهِ المرسلين من عنده اتكالا على ما عندهم من المال والثروة والتفاخر على الأقران والتفوق عليهم بأنواع النخوة والعدوان فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً اى عن القليل والكثير والنقير والقطمير وَبعد ما حاسبناها كذلك قد عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً منكرا فجيعا فظيعا والمراد حساب النشأة الاخرى وعذابها عبر بالماضي لتحقق وقوعها فَذاقَتْ حينئذ وَبالَ أَمْرِها اى اعراضها عن الله واهله ذوقا محيطا بها بحيث لا يخلو من العذاب شيء من اعضائها واجزائها وَبالجملة قد كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها الذي كانت عليه في النشأة الاولى خُسْراً في النشأة الاخرى واى خسر أشد منها واكبر ألا وهو حرمانهم عن ساحة عز القبول الإلهي وانحطاطهم عن رتبة الخلافة والنيابة الانسانية وبالجملة قد أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً في العاجل والآجل فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ واعتبروا مما جرى على أولئك الغواة الطغاة الهالكين في تيه العتو والعناد من وخامة عاقبتهم ورداءة خاتمتهم واعلموا ايها المعتبرون الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وصدق رسله قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ المدبر لمصالحكم إِلَيْكُمْ ذِكْراً ناشئا منكم مذكرا لكم اصل مبدئكم ومنشئكم وكذا مرجعكم ومعادكم وقد جعله سبحانه رَسُولًا مرسلا من عنده إليكم لإرشادكم وتكميلكم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ الدالة على وحدة ذاته مُبَيِّناتٍ مشروحات واضحات كل ذلك لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله على وجه الإخلاص وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المؤكدة لإيمانهم مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ اى الظلمات الحاصلة لهم من تراكم الكثرات وتتابع الإضافات الناشئة من الأوهام والخيالات الباطلة الى نور الوجود الذي هو الوحدة الذاتية القاطعة لعموم الإضافات مطلقا وَبالجملة مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ويوقن بوحدته وَيَعْمَلْ

[سورة الطلاق (65) : آية 12]

عملا صالِحاً طالبا لمرضاته يُدْخِلْهُ سبحانه بمقتضى فضله ولطفه جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ المترشحة دائما من البحر المحيط الذي هو حضرة العلم الإلهي ولوح قضائه المحفوظ المشتمل على عموم الكوائن والفواسد الجارية في فضاء الوجود مطلقا خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يتحولون منها أصلا وبالجملة قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً صوريا ومعنويا وكيف لا يحسن سبحانه مع انه اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ اى اظهر وقدر حسب قدرته الكاملة سَبْعَ سَماواتٍ علويات مطبقات على عدد الأوصاف السبعة الذاتية الإلهية وجعلها مسكنا للمجردات من الملائكة والأرواح وَقدر مِنَ الْأَرْضِ السفلى اى عالم العناصر ايضا مِثْلَهُنَّ مطبقات بعضها فوق بعض طبقة الأثير الصرف وطبقة الأثير الممتزجة تحتها وطبقة الزمهرير من الهواء وطبقة الهواء الصرف وطبقة الماء الصرف وطبقة الطين المركب من الماء والتراب وطبقة التراب الصرف على عدد القوى السبع الانسانية الفائضة على أعضائه السبعة وهي الدماغ والكبد والعين والاذن والأنف واللسان وجميع البشرة مع الصانع الحكيم وانما رتبها سبحانه كذلك وطبعها عليها حتى يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ الإلهي بَيْنَهُنَّ يعنى كي تصير السفليات قوابل مستعدات لآثار العلويات يقبلن منها ما يفيض عليهن من الكمالات المترتبة على الأسماء والصفات الذاتية الإلهية كل ذلك لِتَعْلَمُوا ايها المجبولون على فطرة العلم والمعرفة أَنَّ اللَّهَ المستقل بالالوهية والربوبية عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة الوجود ولمع عليه برق الشهود قَدِيرٌ لا ينتهى قدرته عند مقدور وَلتعلموا ايضا أَنَّ اللَّهَ المتصف بالقدرة الكاملة قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة قدرته عِلْماً إذ لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم خاتمة سورة الطلاق عليك ايها السالك المتحقق بمقام القلب وسعته وقابليته لنزول سلطان الوحدة الذاتية الإلهية مع بعد غورها ورفعة طورها عن احلام الأنام مطلقا ان تعرف علما وعيانا بل حقا وبيانا ان الله المتجلى على كل جلى وخفى قدير على مقدورات لا تتناهى ومرادات لا تعد ولا تحصى بمقتضى حيطة علمه بمعلومات لا غاية تحدها ولا نهاية تحيطها فله سبحانه الإعادة والإبداء والاماتة والأحياء وله التصرف في ملكه كيف يشاء حسب اقتضاء الأوصاف والأسماء إذ لا اله الا هو له الأسماء الحسنى وله الحمد في الآخرة والاولى [سورة التحريم] فاتحة سورة التحريم لا يخفى على من رسخ على جادة التوحيد وتمكن في مقعد الصدق بلا تلوين وترديد ان ارباب المحبة والارادة الكاملة من المنقطعين عن غفلة الناسوت رأسا المنجذبين نحو فضاء اللاهوت مطلقا لم يبق لهم ارادة وكراهة وصداقة وعداوة بالنسبة الى كل احد من بنى نوعهم وغيرهم بل هم مستغرقون بالله فارغوا البال من غيره بحيث لا يشوشهم اللذة والألم ولا يزعجهم الرضاء والغضب لذلك خاطب سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلّم على وجه العتاب وناداه ليرشده الى منهج الصواب فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي دبر مصالح عباده على الوجه الأبلغ الأحكم الرَّحْمنِ عليهم لا يكلفهم بما ليس في وسعهم الرَّحِيمِ لهم ينبههم على زلاتهم بعد ما صدرت عنهم ويعلمهم التدارك والتلافي

الآيات

بالتوبة [الآيات] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المؤيد بالوحي والإلهام من عند العليم العلام القدوس السلام مقتضى نبوتك وتأيدك ان لا تخالف حكم الله ولا تبادر الى الخروج عما قضى لِمَ تُحَرِّمُ وتمنع عن نفسك من عندك بلا ورود نهى من قبل ربك ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ واباحه عليك بمقتضى حكمته وعدالته تَبْتَغِي وتطلب أنت بتحريم الحلال على نفسك باستبدادك بلا ورود وحى ونزول الهام مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وتترك رضاء الله بمخالفة حكمه فارتدع عن فعلك هذا واستغفر الله لزلتك وَاللَّهُ المطلع على نيتك وإخلاصك غَفُورٌ يعفو عنك ما صدر منك من تلقاء نفسك رَحِيمٌ يرحمك ويقبل توبتك. روى ان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلا بأمته مارية في يوم حفصة فاطلعت حفصة على ذلك فعاتبته فقال صلّى الله عليه وسلّم قد حرمت مارية على نفسي لأجلك لا تقولي لواحدة من أزواجي واستكتميها عنهن هذا التحريم واعلمي ايضا ان الخلافة بعدي لأبي بكر وبعده لعمر ولا تفش لاحد قط فأخبرت حفصة عائشة بكلا الخبرين بكونهما صديقتين فأخبرت عائشة رسول الله بها فغضب صلّى الله عليه وسلّم وطلق حفصة طلاقا رجعيا وعزل عن نسائه تسعا وعشرين يوما لأجل هذه الواقعة فانزل الله تعالى يا ايها النبي لم تحرم الآية لما نهى سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلّم على وجه المبالغة والتأكيد أراد سبحانه ان يبين كفارة اليمين الواقعة بين المؤمنين في أمثال هذا فقال قَدْ فَرَضَ اللَّهُ المدبر الحكيم وشرع لَكُمْ على سبيل الوجوب تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ اى لتحليل ايمانكم وتكفيرها لتكون كفارة مكفرة عنها وَاللَّهُ المصلح لأحوالكم مَوْلاكُمْ ومتولى أموركم وَهُوَ الْعَلِيمُ بعموم مصالحكم ومفاسدكم الْحَكِيمُ في ضبطها وإصلاحها وَاذكروا واعتبروا ايها المؤمنون وقت إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ يعنى حفصة حَدِيثاً وهو حديث تحريم مارية وحديث خلافة ابى بكر وعمر رضى الله عنهما بعده صلّى الله عليه وسلم فَلَمَّا نَبَّأَتْ وأخبرت حفصة بِهِ عائشة رضى الله عنهما وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ واطلع سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلم عَلَيْهِ اى على افشاء حفصة الحديث المعهود الذي اوصاها صلّى الله عليه وسلّم بالاسرار فغضب صلّى الله عليه وسلم على حفصة لذلك قد عَرَّفَ بَعْضَهُ اى ذكر صلّى الله عليه وسلّم بعض الحديث وهو حديث مارية وطلقها طلاقا رجعيا انتقاما عنها وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ وهو قصة الخلافة ولم يعرفها ولم يذكرها لها لئلا تقع الفتنة بين المسلمين ومع ذلك قد وقعت وبعد ما اطلع الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم على افشاء الحديث المعهود فَلَمَّا نَبَّأَها وخبر حفصة رسول الله صلّى الله عليه وسلم بِهِ اى بإفشاء الحديث معاتبا لها قالَتْ حفصة ظنا منها انه قد صدر هذا من عائشة مَنْ أَنْبَأَكَ وأخبرك هذا الحديث يا رسول الله قالَ صلّى الله عليه وسلّم في جوابها نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ بالسرائر والخفايا الْخَبِيرُ بعموم ما يجرى في ضمائر عباده ونياتهم. ثم قال سبحانه من قبل نبيه صلّى الله عليه وسلّم على وجه الخطاب المنبئ عن العتاب إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ أنتما يا حفصة وعائشة عما صدر عنكما توبة صادرة عن محض الندم والإخلاص منبئة عن كمال الموافقة والمخالصة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد جبرتما بما كسرتما والا فَقَدْ صَغَتْ زاغت ومالت قُلُوبُكُما عن موافقة الرسول ومخالصته فجئتما بما يكرهه صلّى الله عليه وسلم بكراهتكما ما يحبه صلّى الله عليه وسلم وَإِنْ تَظاهَرا وتعاونا عَلَيْهِ اى على ما أنتما عليه من مخالفة الرسول فلن تضراه صلّى الله عليه وسلّم شيأ من الضرر وكيف يلحقه صلّى الله عليه وسلم

[سورة التحريم (66) : آية 5]

ضرر منكما فَإِنَّ اللَّهَ المراقب لعموم أحواله هُوَ مَوْلاهُ وناصره ومعينه وولى عموم أموره وَجِبْرِيلُ رئيس الكروبيين قرينه وملازمه وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ اتباعه وأعوانه وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ الملائكة ظهير له بعد أولئك المظاهرين المعاونين. ثم قال سبحانه على وجه التعريض لعموم ازواج النبي صلّى الله عليه وسلم عَسى رَبُّهُ الذي رباه صلّى الله عليه وسلّم على الكرامة الاصلية والنجابة الجبلية إِنْ طَلَّقَكُنَّ جميعا أَنْ يُبْدِلَهُ بمقتضى قدرته وارادته أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ صورة وسيرة أخلاقا وأعمالا مُسْلِماتٍ في الاعتقاد مسلمات عن العيوب مُؤْمِناتٍ بوحدة الحق مصدقات لعموم ما نزل من عنده قانِتاتٍ راسخات على الطاعات مواظبات على عموم الخيرات خاضعات خاشعات لله في عموم الأوقات تائِباتٍ عن عموم المنكرات والمحظورات عابِداتٍ على وجه التذلل والخضوع وكمال الانكسار والخشوع سائِحاتٍ صائمات ممسكات عن مطلق المحارم او مهاجرات عن بقعة الإمكان نحو فضاء الوجوب شوقا ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً يعنى سواء كن ثيبات او أبكارا. ثم اوصى سبحانه لعموم المؤمنين بما يصلح لهم ويليق بحالهم فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مقتضى ايمانكم حفظ انفسكم عن مطلق المهالك الدينية قُوا أَنْفُسَكُمْ واحفظوها عن ارتكاب عموم المعاصي والالتفات الى مطلق المنكرات والتوجه نحو المحظورات وَأَهْلِيكُمْ اى من في حفظكم وحضانتكم من أزواجكم وأولادكم عن الوقوع في المهالك والفتن وانواع الآثام الموجبة للخذلان والحرمان وبالجملة اتقوا واحذروا ناراً وأي نار نارا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ اى ما يتقد به النار أجسام الأنام والحجارة وذلك من شدة حرارتها وإحراقها بخلاف سائر النيران فان وقودها الحطب ومع ذلك يوكل عَلَيْها مَلائِكَةٌ يوقدونها وهم الزبانية صفتهم انهم غِلاظٌ في أقوالهم وهياكلهم لا يتأتى منهم الملاينة والملاطفة أصلا شِدادٌ في البطش وعموم التعذيب لا يَعْصُونَ اللَّهَ ولا يتجاوزون عن امره سبحانه في عموم ما أَمَرَهُمْ بل يمضونها على الوجه المأمور بلا فوت شيء منها بعذر او شفاعة او شفقة او مروءة بل وَهم يَفْعَلُونَ عموم ما يُؤْمَرُونَ على وجهه خوفا من غيرته سبحانه وغضبه وبعد ما نادى سبحانه عموم المؤمنين بما نادى نادى ايضا عموم الكافرين على مقتضى المقابلة فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وكذبوا رسله المبعوثين إليكم ليرشدوكم الى سبيل الهداية والسلامة فانكرتموهم وجميع ما جاءوا به بلا تأمل وتوقف فعليكم انه لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ بان أعمالكم دون عذابكم وانقص منها بل إِنَّما تُجْزَوْنَ من العذاب على مقتضى ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والإنكار. ثم قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق من شأن ايمانكم تطهير قلوبكم عن مطلق المعاصي والآثام المنافية لصرافة وحدة الذات ولا يتيسر لكم هذا الا بالتوجه والرجوع على وجه الندم والإخلاص تُوبُوا ايها المخلصون المبتلون بفتنة الذنوب إِلَى اللَّهِ الملك القدوس المنزه ساحة حضوره عن سمة الحدوث والإمكان مطلقا تَوْبَةً نَصُوحاً خالصة لوجه الله قالعة لعرق الالتفات الى غير الله وأنتم نادمون على الذنوب الصادرة عنكم فيما مضى مجتنبين عن التي ستأتى وتوبتكم هذه مخلية مصفية لنفوسكم عن مطلق الكدورات المتعلقة بالغير محلية لها بالتقوى عن مطلق الرذائل العائقة عن التوجه الخالص نحو المولى عَسى رَبُّكُمْ بعد ما تبتم ورجعتم نحوه بكمال التبتل والإخلاص أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ويعفو عنكم زلاتكم ولم ينتقم منكم وَيُدْخِلَكُمْ تفضلا عليكم وإحسانا جَنَّاتٍ متنزهات العلم والعين والحق

[سورة التحريم (66) : آية 9]

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ انهار المعارف والحقائق المتجددة المنتشئة الجارية من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات وكيف لا يكفر ولا يدخل سبحانه خلص عباده في جنة وحدته يَوْمَ لا يُخْزِي يعنى سيما في يوم لا يخزى ولا يردى فيه اللَّهِ المنعم المتفضل على خلص عباده المنجذبين اليه سيما النَّبِيَّ المؤيد من عنده بأنواع الكرامة وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ واهتدوا بهدايته مع ان شأنهم هكذا نُورُهُمْ الذي قد اقتبسوه من مشكاة النبوة المصطفوية يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ اى محيطا بهم محفوفا عليهم سيما وقت عبورهم من الصراط. ثم لما تفاوتت أنوارهم بحسب الجلاء والخفأ المترتب على أعمالهم واستعداداتهم الفطرية يَقُولُونَ مناجين رَبَّنا يا من ربانا على فطرة الهداية والرشد أَتْمِمْ لَنا نُورَنا تفضلا علينا ومزيد احسان بنا وَاغْفِرْ لَنا ذنوبنا اى استر ذنوب انانياتنا عن عيون بصائرنا إِنَّكَ بمقتضى جودك عَلى كُلِّ شَيْءٍ يدخل في حيطة علمك وارادتك قَدِيرٌ ثم قال سبحانه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ المبعوث لإعلاء كلمة التوحيد جاهِدِ الْكُفَّارَ الذين ستروا بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق وأنكروا وجودها عنادا ومكابرة وقاتلهم بلا مبالاة بشوكتهم وكثرة عددهم وعددهم وَالْمُنافِقِينَ ايضا مع انك مؤيد من لدنا بالحجج القاطعة والبينات الساطعة وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ بالأقوال والأفعال ولا تكن معهم بعد اليوم ملاينتك كما كانت معهم قبله بل اشدد وطأتك عليهم وشرد بهم فان الله معينك وناصرك وهم سيغلبون عن قريب في الدنيا وَفي الآخرة مَأْواهُمْ المعد لهم جَهَنَّمُ البعد والحرمان وسعير الطرد والخذلان وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم ومرجعهم جهنم وبالجملة قد ضَرَبَ اللَّهُ العليم الحكيم مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ وشبه حال الكفرة الفجرة بحالهما في عدم نفع صحبتهم مع المؤمنين ومحبتهم لهم واختلاطهم بهم شيأ من عذاب الله إياهم إذ تانك المرأتان قد كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ كاملين مِنْ عِبادِنا وهما نوح ولوط عليهما السلام صالِحَيْنِ لقبولنا مصلحين لاعمالهما وأخلاقهما وعموم اطوارهما فَخانَتاهُما اى تانك المرأتان للكاملين المذكورين بالنفاق فَلَمْ يُغْنِيا ولم يدفعا عَنْهُما اى عن تينك المرأتين بشؤم نفاقهما وشقاقهما مِنْ عذاب اللَّهُ المنتقم الغيور شَيْئاً من الإغناء والدفع بل وَقِيلَ لهما في يوم القيامة على وجه الزجر والتعدي ادْخُلَا النَّارَ المعدة للكفار والعصاة مَعَ سائر الدَّاخِلِينَ فيها على سبيل التأبيد والخلود وَضَرَبَ اللَّهُ المدبر الحكيم ايضا مَثَلًا آخر لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ وشبه حال المؤمنين في وصلة الكفرة بحال امرأة فرعون وعدم تضررها منه بل تأكد إيمانها بمصاحبة فرعون ومخالطته اذكر إِذْ قالَتْ امرأة فرعون بعد ما انكشفت بالوحدة الذاتية واسرارها مناجية الى ربها رَبِّ يا من رباني بأنواع الكرامة ووفقني على توحيدك ابْنِ لِي عِنْدَكَ يا ربي بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وذلك لما آمنت رضى الله عنها حين غلب موسى صلوات الله وسلامه عليه على سحرة فرعون فآمنوا له بعد ما غلبوا فقتلهم فرعون وامر بزجرها حتى اوتدها بالأوتاد الاربعة في حر الشمس حتى ترجع عن الايمان والتوحيد ولم ترجع ثم امر اللعين ان يوضع فوقها صخرة عظيمة وقالت حينئذ مناجية مع ربها من كمال تحننها وانكشافها رب ابن لي عندك بيتا في الجنة وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ الخبيث وَعَمَلِهِ السيئ وَبالجملة نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الخارجين عن ربقة عبوديتك بايمانهم وانقيادهم بهذا اللعين الطاغي واعتقادهم بألوهيته وربوبيته فماتت قبل وضع الصخرة وَضرب الله

خاتمة سورة التحريم

مثلا ايضا للذين آمنوا مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي من كمال نجابتها وكرامتها وطهارة ذيلهما وغاية عصمتها وعفتها قد أَحْصَنَتْ فَرْجَها عن مخالطة الرجال وبالغت في التحصن والتحفظ بحيث قد رضى الله عنها وكرمها وأعطاها ما أعطاها من الارهاصات والكرامات التي قد خلت عنها سائر نساء الدنيا بل رجالها ايضا وبعد ما قد كرمناها كذلك فَنَفَخْنا فِيهِ اى في جوفها من جيب درعها مِنْ رُوحِنا الذي قد كنا نفخنا منه في قالب آدم عليه السلام ومن تلك النفخة قد حبلت بعيسى عليه السلام ولهذا صار عيسى في الصفوة كآدم وظهرت منه عليه السلام معجزات لم تظهر من نبي قط وَبالجملة قد صَدَّقَتْ مريم بِكَلِماتِ رَبِّها اى بعموم كلمات مربيها الذي رباها على كمال العفة والكرامة ومن جملة تلك الكلمات التامة خلق عيسى عليه السلام من ذلك النفخ وَصدقت ايضا بجميع كُتُبِهِ المنزلة من عنده على عموم رسله وَمن كمال مجاهدتها في طريق الحق وإخلاصها في الطاعات والعبادات واتكالها على الله في عموم الملمات وكمال توكلها وتفويضها عليه سبحانه وتسليمها اليه قد كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ اى من عداد الكمل من ارباب القنوت المنجذبين الى حضرة الرحموت بكمال الخضوع والخشوع وفي هذين التمثيلين تعريض لازواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وحث لهن الى حسن المعاشرة ومراعاة الأدب معه صلّى الله عليه وسلّم وكمال المصادقة وتبعيد لهن من النفاق والمراء والمجادلة معه صلّى الله عليه وسلم سيما في امر قد اباحه الله له صلّى الله عليه وسلّم بمقتضى حكمته المتقنة البالغة وانما ضرب سبحانه لهن ووعظهن بأمثال هذه الأمثال لينزجرن بها عما جئن به ولتكون عظة وتذكيرا لسائر المؤمنين المتعظين. جعلنا الله منهم ومن زمرتهم وجملتهم بمنه وجوده خاتمة سورة التحريم عليك ايها المحمدي المراقب لكمالات الحق النازلة من عالم الغيب الى الشهادة المتفرعة على الأسماء والصفات الذاتية الإلهية ان تترصد في عموم أوقاتك وحالاتك الى ما سيتجدد ويحدث من عالم الخفأ والكمون الى فضاء البروز والظهور ثم منه الى الغيب والبطون بمقتضى التجليات والنشئات الحبية الإلهية فلا بد لك ان تخلى همك وبالك عن مطلق الاشغال الشاغلة لك عن الالتفات والتوجه الى الله والتفرج على عجائب مصنوعاته وغرائب مخترعاته وإياك إياك ان تغفل عنه سبحانه ساعة فإنها تورثك حسرة طويلة وخسرانا عظيما ان كنت من جملة المستيقظين. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب [سورة الملك] فاتحة سورة الملك لا يخفى على من انكشف بوحدة الحق وكثرة شئوناته وتجلياته المترتبة على أسمائه وصفاته الفائتة للحصر والإحصار ان سعة مملكة الحق وملكه وملكوته انما هو بمقتضى رقائق أسمائه وصفاته الغير المتناهية المتجلية بها الظاهرة على مرآة العدم فيلوح منها هياكل الأشباح التي لا غاية لها ولا نهاية تحيطها بعضها مترتب على البعض وبعضها مقابل للبعض متصفا بالشهادة والجلاء وبعضها بالغيب والخفأ وبالجملة جميع ذرائر الكائنات مربوط بعضها ببعض برقائق المناسبات ودقائق الارتباطات الواقعة في عالم الأسماء والصفات لذلك اخبر سبحانه في كتابه عن عظمة ملكه وملكوته وعن كثرة

الآيات

خيراته واستقلاله في عموم تصرفاته الواقعة في مظاهره ومصنوعاته فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على ما ظهر وبطن بعموم أسمائه وصفاته التي لا تعد ولا تحصى الرَّحْمنِ لعموم مظاهره بالرزق الأوفى الرَّحِيمِ لخواصهم يوصلهم الى جنة المأوى وسدرة المنتهى [الآيات] تَبارَكَ تعاظم وتعالى من كثرة الخيرات والبركات الملك الكامل الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وبقبضة قدرته جميع التدابير والتصاريف الجارية في ملكه وملكوته على وجوه الصور والتقادير وكيف لا وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من متفرعات جود وجوده قَدِيرٌ بالقدرة الشاملة والارادة الكاملة الخالق الموجد الَّذِي خَلَقَ وقدر الْمَوْتَ وَالْحَياةَ حسب قهره ولطفه وجلاله وجماله وادارهما بينكم ايها المكلفون لِيَبْلُوَكُمْ ويختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وأصوبه وأصلحه وأخلصه واعلموا انكم ان لم تحسنوا العمل ولم تصلحوه بعد ما أمركم سبحانه بالإخلاص والإصلاح فينتقم عنكم بمقتضى قهره وغيرته وكيف لا وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر المقتدر على وجوه الانتقام لمن خرج عن ربقة عبوديته الْغَفُورُ المقتدر على وجوه الانعام للمحسنين المخلصين المصلحين وكيف لا وهو الَّذِي خَلَقَ أوجد واظهر سَبْعَ سَماواتٍ على عدد الصفات السبع الذاتية وجعلها طِباقاً متطابقة بعضها فوق بعض وبعضها جوف بعض وجعل تطبيقها ونظمها على وجه احكم ونظام ابلغ وأبدع بحيث ما تَرى ايها المعتبر الرائي فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ المستوي على عروش الأكوان مِنْ تَفاوُتٍ ينبئ عن عدم رعاية الحكمة والمصلحة فيه بل كله على مقتضى الحكمة المتقنة البالغة فان شككت ايها المعتبر الرائي فيه لقصور نظرك عن احاطة ما فيه من الحكم والمصالح في بادى الرأى فَارْجِعِ الْبَصَرَ وكرر النظر ثم بعد ذلك هَلْ تَرى وتجد فيه مِنْ فُطُورٍ خلل وشقوق وقعت فيه لا بمقتضى الحكمة والاحكام ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ ان شئت وشككت كَرَّتَيْنِ مرتين او مرارا كثيرة الى حيث يَنْقَلِبْ ويرجع إِلَيْكَ الْبَصَرُ اى بصرك خائبا خاسرا خاسِئاً بعيدا عن المطلوب الذي هو رؤية الفطور وَهُوَ اى نظرك حين رجوعه إليك حَسِيرٌ كئيب كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة بلا فائدة تترتب عليه وعائدة تفوز بها من ادراك الفطور والقصور وَمن كمال قدرتنا ومتانة حكمتنا لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا اى السماء القريبة من الدنيا او المرئية منها بِمَصابِيحَ اى بكواكب كثيرة مضيئة منيرة في الليل كالسرج هي سبب رؤيتها والا فلا ترى وَمن جملة اختباراتنا الواقعة بين عبادنا انا قد جَعَلْناها اى تلك المصابيح رُجُوماً اى اسباب ظنون وجهالات لِلشَّياطِينِ ألا وهم المنجمون المرجفون الذين يرجمون بالغيب متمسكين بها وبحركاتها وأوضاعها وَبعد ما أضللناهم بها في الدنيا أَعْتَدْنا لَهُمْ في الآخرة عَذابَ السَّعِيرِ اى النار المسعرة جزاء ما اجترءوا على الله بدعوى الاطلاع على المغيبات مع انه من الخصائص الإلهية وما ذلك الا من كفرهم بالله وباستقلاله وتوحده في مطلق التصرفات الواقعة في ملكه وملكوته وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وادعوا معه الشركة في أخص أوصافه وهو علم الغيب عَذابُ جَهَنَّمَ البعد والخذلان والطرد والحرمان وَبالجملة بِئْسَ الْمَصِيرُ مصير اهل الكفر ومأواهم ومن شدة اهوال جهنم وافزاعها انهم إِذا أُلْقُوا فِيها اى قصد الزبانية القاءهم فيها بالعنف والزجر المفرط بعد ما أمرهم سبحانه بإلقائهم زجرا قد سَمِعُوا لَها اى لجهنم حينئذ شَهِيقاً صوتا هائلا مهولا على وجه التغيظ والغلظة كصوت الحمار وَالحال انه

[سورة الملك (67) : آية 8]

هِيَ اى جهنم حينئذ تَفُورُ وتغلى غليان المرجل غيظا وغضبا لأعداء الله ومن شدة غضبها وسخطها تَكادُ وتقرب تَمَيَّزُ وتفترق اجزاؤها مِنَ الْغَيْظِ المفرط كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ اى جماعة وفرقة من المنافقين المجتمعين على ديدنة قبيحة وخصلة ذميمة خارجة عن مقتضى الحدود الإلهية سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها سؤال توبيخ وتقريع أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ يخوفكم عن هذا العذاب الهائل مع ان سنة الله قد جرت على ان لا يدخل عباده فيها الا بعد الإنذار والتخويف قالُوا حينئذ متحسرين بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فانذرنا عنها على ابلغ الوجوه فَكَذَّبْنا النذير وأفرطنا في تكذيبه الى حيث قد نفينا الإنزال والإرسال مطلقا بل قد كفرنا وأنكرنا للحق ولجميع ما جاء به النبي النذير من عنده ونسبنا دعوته ودعواه الى السفه والضلال وَبالجملة قد قُلْنا له حين دعوته وادعائه نزول الكتاب ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ اى ما أنتم ايها المدعون للرسالة إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ عظيم لإضلال أعظم من ضلالكم وَبعد ما قد حكوا للخزنة أولئك الضالون ما حكوا قالُوا من غاية سفههم وحسرتهم على سبيل التمني لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ كلام الرسل المؤيدين بالمعجزات الظاهرة أَوْ نَعْقِلُ نتأمل ونتفكر في حججهم الساطعة ودلائلهم القاطعة ما كُنَّا الآن فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ اى في عدادهم ومن جملتهم وبالجملة فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ وندموا وما ينفعهم الاعتراف والندم لمضى وقته بل فَسُحْقاً طردا وتبعيدا عن ساحة عز القبول وعن سعة رحمة الحق وكنف لطفه ومغفرته لِأَصْحابِ السَّعِيرِ اى لمطلق من دخل بشؤم كفره وإنكاره فيها. ثم اردف سبحانه حال الكفرة بحال المؤمنين تنشيطا للسامع وحثا على التثبت في الايمان فقال إِنَّ المؤمنين الَّذِينَ يَخْشَوْنَ ويخافون رَبَّهُمْ اى عذابه بِالْغَيْبِ اى حال كونهم في النشأة الاولى غائبين غير معاينين له لَهُمْ عند ربهم مَغْفِرَةٌ ستر ومحو لذنوبهم الصادرة عنهم بمقتضى بشريتهم جزاء لإيمانهم بالله وخشيتهم عن عذابه وَأَجْرٌ كَبِيرٌ تصغر دونه الدنيا وما فيها تفضلا عليهم وامتنانا ألا وهو رضاء الله منهم ورضوان من الله اكبر من الآخرة وما فيها فكيف عن الدنيا. ثم لما قال بعض المشركين لبعضهم على سبيل التهكم والاستهزاء أسروا قولكم كي لا يسمعه رب محمد نزلت وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ ايها المشركون أَوِ اجْهَرُوا بِهِ وهما سيان بالنسبة الى علمه المحيط وكيف لا وإِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اى بما في الضمائر قبل ان يعبر عنه ويقصد بتعبيره بل هو عليم بما في استعداداتكم وقابلياتكم من المكنون في عالم الأسماء والصفات قبل ظهوركم في عالم الأشباح أَلا يَعْلَمُ العليم الحكيم مَنْ خَلَقَ وقدر بمقتضى علمه المحيط وقدرته الشاملة وارادته الكاملة وَكيف لا وهُوَ اللَّطِيفُ الواصل آثار علمه الى خفيات الأشياء واسرارها الْخَبِيرُ المحيط خبرته بظواهر المظاهر وبواطنها وبالجملة هُوَ سبحانه القادر المقتدر الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ايها المكلفون بمقتضى سعة رحمته وجوده الْأَرْضَ ذَلُولًا لينة سهلة قابلة للسلوك عليها فَامْشُوا فِي مَناكِبِها جبالها او جوانبها حيث شئتم وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ رغدا واسعا متى أردتم واشكروا المنعم المتفضل ولا تكفروا به وبنعمه وَاعلموا انه إِلَيْهِ لا الى غيره من الوسائل والأسباب العادية النُّشُورُ اى نشور الكل ورجوعه إذ لا مرجع لكم سواه ولا مقصد الا اليه فيسألكم عما أنعم عليكم ويحاسبكم عليه وكيف لا تشكرون نعمه ولا تواظبون على أداء حقوق كرمه أَأَمِنْتُمْ ايها المكلفون المسرفون

[سورة الملك (67) : آية 17]

مَنْ فِي السَّماءِ اى من هو مستعل على سماء الأسماء ان يظهر ويغضب عليكم حسب اسمه المنتقم سيما على من لم يشكر منكم لنعمائه المتوالية وآلائه المتتالية من أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ ويطويكم بها ويغيبكم فيها كما فعل بقارون فَإِذا هِيَ اى الأرض حينئذ تَمُورُ تفتطر وتتحرك وتتزلزل غيظا عليكم أَمْ أَمِنْتُمْ من عذاب مَنْ فِي السَّماءِ ومن أَنْ يُرْسِلَ ويمطر عَلَيْكُمْ حاصِباً حجارة وحصباء من قبل السماء فيهلككم بها كما فعل بقوم لوط فَسَتَعْلَمُونَ حينئذ ايها المسرفون المفرطون في كفران النعم ونسيان حقوق الكرم كَيْفَ نَذِيرِ وإنذاري عليكم وان كذبوك يا أكمل الرسل وبالغوا في تكذيبك وإنكارك لا تبال بهم وبتكذيبهم بل انتظر وترقب الى ما سيئول أمرهم اليه وَبالجملة لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ من الكفرة المكذبين لرسلهم أمثالهم مبالغين في تكذيبهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ وإنكاري إياهم وانتقامي منهم فسيلحق ايضا بهؤلاء الضالين المكذبين لك بأضعاف ما لحقهم أَينكرون قدرتنا على الانتقام منهم وإهلاكهم وَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ باسطات أجنحتهن في الجو عند الطيران وَبعد ما أردن السرعة يَقْبِضْنَ ويضممن أجنحتهن الى جنوبهن استظهارا بها على سرعة الحركة مع ان ميلهن بالطبع الى السفل لثقلهن ما يُمْسِكُهُنَّ في الجو على خلاف الطبع إِلَّا الرَّحْمنُ المستعان الشامل برحمته العامة على كل شيء دخل في حيطة قدرته وارادته وبالجملة إِنَّهُ سبحانه بِكُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة الوجود بَصِيرٌ يدبر امره على وجه يليق به وينبغي له بمقتضى سعة رحمته وجوده. ثم قال سبحانه مستفهما منهم على سبيل الإنكار والتقريع أَمَّنْ هذَا الناصر الظهير الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ وعونتكم يَنْصُرُكُمْ ويعينكم حين بطش الله بكم ايها المسرفون مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ المستوعب بالرحمة العامة على عموم الأكوان مع انه لا شيء في الوجود سواه وبالجملة إِنِ الْكافِرُونَ اى ما هم إِلَّا فِي غُرُورٍ باطل وزور ظاهر لا وثوق لهم ولا اعتماد أَمَّنْ هذَا الرازق المتكفل لأرزاقكم الَّذِي يَرْزُقُكُمْ ويسوق إليكم دائما ما يسد رمقكم إِنْ أَمْسَكَ سبحانه رِزْقَهُ عنكم يعنى ألكم رازق كذلك تتمسكون به وتتقون عليه سواه سبحانه أصلا كلا وحاشا ليس لكم الا هذا بَلْ لَجُّوا اى قد تمادوا وأصروا على اللجاج وصاروا دائما فِي عُتُوٍّ لدد وعناد وَنُفُورٍ عن الحق وقبوله تعنتا واستكبارا. ثم قال سبحانه مستفهما على سبيل التوبيخ أَتعتقدون الآثار الظاهرة في الأقطار من الوسائل والأسباب العادية ولم تنسبوها الى المؤثر المسبب المختار وسلكتم في هذا الطريق بأنواع الإنكار والإصرار فَمَنْ اى فهل من يَمْشِي مُكِبًّا ساقطا عَلى وَجْهِهِ لوعورة طريقه وظلمة سبيله أَهْدى الى مقصده وارشد الى مطلبه أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا مستقيما سالما عن التزلزل والسقوط راكبا عَلى متن صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وطريق واضح بلا عثور وقصور قد مثل بهما سبحانه للمشرك المتشبث بالعقل المنعزل عن الرشد والهداية وللمؤمن المستمسك بالعروة الوثقى التي هي الشرع القويم الموصل الى توحيد الحق قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر وحدة الحق واستقلاله في مطلق التصرفات الواقعة في عالم الكون والفساد هُوَ سبحانه القادر المقتدر الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وأظهركم من كتم العدم إنشاء إبداعيا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لتسمعوا به المواعظ والآثار والاخبار الصادرة عن اولى العزائم الصحيحة المجتازين نحو فضاء اللاهوت بانخلاعهم عن كسوة الناسوت مطلقا وَالْأَبْصارَ لتنظروا بها في ملكوت

[سورة الملك (67) : آية 24]

السموات والأرض فتعبروا منها الى مبدعها العليم الحكيم وَالْأَفْئِدَةَ لتتفطنوا بها الى عجائب حكمته وبدائع قدرته كي تنكشفوا بوحدته وتتشرفوا بوصلته لكن قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ اى الشاكرون الصارفون هذه النعم العظام الى ما خلقت لأجله قليلون في غاية القلة قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر قدرتنا على الحشر والنشر والحساب والجزاء وعلى جميع الأمور الواقعة في النشأة الاخرى هُوَ سبحانه العزيز الغالب ذو القدرة والاختيار الَّذِي ذَرَأَكُمْ اى بثكم وبسطكم بمقتضى قدرته فِي الْأَرْضِ التي هي محل الكون والفساد وكلفكم بالإيمان والأعمال واختبركم بالأوامر والنواهي وَكما أبدعكم أولا بامتداد اظلاله ورشّ انواره على مرآة العدم اعادكم ايضا بقبض اظلاله وانواره الى ذاته فثبت انكم إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء فيجازيكم بمقتضى ما اقترفتم من المأمورات الإلهية وَيَقُولُونَ من كمال استبعادهم مَتى هذَا الْوَعْدُ الموعود الذي قد وعدتم بالجزاء والحساب والثواب والعقاب فيه أخبرونا عن وقوعه في أى زمان وآن إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعنون النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما ألحوا عليك والجأوك الى التعيين إِنَّمَا الْعِلْمُ المتعلق بتعيين وقته عِنْدَ اللَّهِ لا يطلع عليه احد من خلقه وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ بمقتضى الوعيد الإلهي مُبِينٌ مظهر مبلغ ما يوحى الى من عنده سبحانه على وجهه لا طريق لعلمي بوقوع الموعود سوى الوحى ولم يوح الى في تعيينه فأتكلم عنه فعليكم ان لا تستعجلوا وقوعه وبعد ما تحقق قرب وقوعه وحل وقته فَلَمَّا رَأَوْهُ اى العذاب الموعود في الآخرة زُلْفَةً قريبا منهم سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا اى اسودت وقبحت من شدة الكآبة والحزن المفرط وَقِيلَ لهم حينئذ من قبل الحق هذَا العذاب هو العذاب الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ تتطلبون وتستعجلون وقوعه مراء واستهزاء على وجه التهكم فالآن يلحقكم ما تنكرون منه فيما مضى قُلْ يا أكمل الرسل لمشركي مكة بعد ما تطيروا بحياتك وتمنوا بموتك وموت من معك من المؤمنين ليتخلصوا منكم ومن شروركم على زعمهم أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ العليم الحكيم حسب قهره وجلاله وَأهلك ايضا مَنْ مَعِيَ من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا سبحانه بان أخر آجالنا بمقتضى لطفه وجماله ونحن مؤمنون مخلصون له مقرون بوحدته وبانه الفاعل على الإطلاق بكمال الاختيار والاستحقاق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فَمَنْ يُجِيرُ وينقذ الْكافِرِينَ المنكرين الله وارادته واختياره وألوهيته وربوبيته مطلقا مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ نازل عليهم من لدنه سبحانه بشؤم ما اقترفوا من الكفر والعصيان وانواع الفسوق والطغيان قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما قد تمادى نزاعهم وتطاول جدالهم ولم تنفعهم الدعوة والتبليغ كلاما خاليا عن وصمة الجدال والمراء منبعثا عن محض الحكمة والمصلحة هُوَ الرَّحْمنُ المستعان المستوي على عروش عموم الأكوان بكمال الاستيلاء والاستحقاق قد آمَنَّا بِهِ مخلصين مستوثقين بحبل كرمه وجوده وَعَلَيْهِ لا على غيره من الوسائل والأسباب العادية تَوَكَّلْنا وفوضنا أمورنا كلها اليه بالعزيمة الصادقة الخالصة واتخذناه وكيلا واعتقدناه حسيبا وكفيلا فَسَتَعْلَمُونَ ايها المفسدون المسرفون مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أنحن أم أنتم قُلْ يا أكمل الرسل للمنكرين بوجود الصانع الحكيم على سبيل التبكيت والإلزام أَرَأَيْتُمْ أخبروني ايها المسرفون المكابرون إِنْ أَصْبَحَ وصار ماؤُكُمْ غَوْراً غائرا عميقا الى حيث لا يصل اليه السجال والدلاء بحبال طوال وحيل فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ

خاتمة سورة الملك

جار ظاهر سهل المأخذ سوى الله رب العالمين فكيف تنكرون وجوده مع انكم مغمورون بسوابغ نعمه مستغرقون بسوابق كرمه خاتمة سورة الملك عليك ايها المحمدي المتمسك بعروة الشريعة المصطفوية التي لا عروة أوثق منها ولا جادة أقوم واعدل ان تتشبث بها وتعمل بمقتضاها متوكلا على الرحمن المستعان مفوضا أمورك كلها اليه على وجه الإيقان معرضا عن جنود امارتك ومقتضياتها مجاهدا معها مخاصما إياها حتى تصير مطمئنة راضية بعموم ما جرى عليها من مقتضيات القضاء صابرة على ما اصابها من البلاء الى ان تصير فانية عن هوياتها الباطلة باقية بهوية الحق وبقائه. جعلنا الله ممن فنى فيه وبقي ببقائه بمنه وجوده [سورة القلم] فاتحة سورة ن لا يخفى على من تحقق بحيطة الحق وشمول أوصافه الذاتية على عموم مظاهره ومصنوعاته ان قلم تقديره الذي هو أول مصنوع صدر عنه سبحانه قادر غالب على تصويرات لا تتناهى وتشكيلات لا غاية لها فاثبت به سبحانه في لوح قضائه صدور عموم مظاهره ظاهرا وباطنا غيبا وشهادة ازلا وابدا ومن كمال عظمته ورفعة قدره ومكانته اقسم به سبحانه لبراءة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم عما يتهمه الظالمون ويقولون في حقه ما يقولون عنادا ومكابرة أولئك المفسدون المفرطون فقال بعد ما تيمن باسمه مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم على طريق الرمز والإيماء بِسْمِ اللَّهِ المطلع على عموم ما في استعدادات عباده من الفضائل والكمالات الرَّحْمنِ لهم يهديهم الى سبيل الخيرات الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى أعلى الدرجات وارفع المقامات [الآيات] ن ايها النبي النائب عن الحق الناظر بنور الله النقي عن جميع الرذائل والآثام المنافية لمرتبتى النبوة والولاية وَحق الْقَلَمِ الأعلى الذي هو عبارة عن حضرة القدرة الغالبة الإلهية وَبحق ما يَسْطُرُونَ ويكتبون به الملأ الأعلى والاخرى حسب آثار الأوصاف والأسماء الإلهية التي لا تعد ولا تحصى ما أَنْتَ يا أكمل الرسل المبعوث الى كافة البرايا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ الذي رباك على الهداية العامة والولاية المطلقة واعطاك من الفضائل والكمالات المتعلقة بمرتبتى النبوة والولاية مما لا يعد ولا يحصى بِمَجْنُونٍ اى ما أنت بغافل عنها ذاهل عن أداء حقها جاهل بشكر مولاها ومنعمها وَإِنَّ لَكَ يا أكمل الرسل لَأَجْراً عظيما عند الله غَيْرَ مَمْنُونٍ منقطع ابد الآباد إذ ما يترتب على مرتبتك الجامعة من الكرامات البديعة اللائقة لا انقطاع لها أصلا وَإِنَّكَ من كمال تخلقك بالأخلاق الإلهية وتحققك بمقام الخلة والخلافة لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ لا خلق أعظم من خلقك لحيازتك وجمعك خلق الأولين والآخرين حسب جامعية مرتبتك وبالجملة فَسَتُبْصِرُ يا أكمل الرسل وَيُبْصِرُونَ ايضا أولئك المسرفون المفرطون بنسبتك الى الجنون حين تبلى السرائر وينكشف ما في الضمائر وينزل العذاب على اهله بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ اى مع أيكم الفتنة وأيكم يفتن بالجنون المؤمنون المهتدون بهدايتك وارشادك او الكافرون الضالون بغوايتهم وضلالهم وبالجملة إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك على الرشد والهداية هُوَ أَعْلَمُ بعلمه الحضوري بِمَنْ ضَلَّ وانحرف عَنْ سَبِيلِهِ الموصل الى توحيده وَهُوَ ايضا أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ

[سورة القلم (68) : آية 8]

المتمكنين منهم على جادة التوحيد والصراط المستقيم الموصل الى جنة الرضا وروضة التسليم وبعد ما سمعت نبذا من شأنك في نشأتك الاخرى فَلا تُطِعِ ايها النبي المجبول على فطرة الهداية والفلاح الْمُكَذِّبِينَ المجبولين على فطرة الغواية والضلالة يعنى مشركي مكة خذلهم الله فإنهم كانوا يدعونه الى دين آبائه فنهاه سبحانه ان يطيعهم ويقبل منهم دعوتهم فإنهم وان وَدُّوا وأحبوا لَوْ تُدْهِنُ وتلاين أنت معهم وتوافقهم في دينهم فَيُدْهِنُونَ ايضا معك ويلاينونك ويوافقونك ولا يطعنون لدينك حينئذ لكن لا يليق بشأنك هذا وَبعد ما قد صرت يا أكمل الرسل متخلقا بالخلق العظيم ومتصفا بالأوصاف الحميدة الإلهية لا تُطِعْ آراء ذوى الأخلاق الذميمة والأطوار القبيحة مطلقا سيما كُلَّ حَلَّافٍ مبالغ بالحلف الكاذب لترويج الباطل الزاهق الزائل مَهِينٍ مهان عند الناس بسبب الكذب المفرط والحلف الكاذب عليه هَمَّازٍ عياب طعان يغتاب ويطعن بعض الناس عند بعضهم مَشَّاءٍ يدور بين الناس بِنَمِيمٍ اى بنقل حديث بعض عند بعض حتى يوقع بينهم الفتنة والبغضاء مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ شحيح بخيل لا ينفق من ماله على المستحقين ويمنع ايضا صديقه وصاحبه عن الانفاق لئلا يلحق العار والتعيير عليه خاصة مُعْتَدٍ متجاوز الحد في أنواع الظلم واصناف الفسوق والعصيان أَثِيمٍ مبالغ في اقتراف الإثم والعدوان بلا مبالاة بوخامة شأنه عُتُلٍّ غليظ الهيكل قاسى القلب كريه المنظر عريض القفاء متناه في البلادة سيما بَعْدَ ذلِكَ اى بعد الاتصاف بالأوصاف المذمومة المذكورة زَنِيمٍ دعىّ بين القوم لا يكون له نسب معروف ولا حسب مستحسن مقبول ومن كمال دناءته وخساسته أَنْ كانَ ذا مالٍ اى انه كان ذا مال عظيم وَبَنِينَ كثيرة فلا بد له ان يشكر المنعم المتفضل ومع ذلك لم يشكره بل يكفره لأنه إِذا تُتْلى عَلَيْهِ وعنده آياتُنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا قالَ من غاية كفره وكفرانه ونهاية بغيه وعدوانه ما هذا الا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى الأكاذيب القديمة التي سطرها الأولون ودونوها في كتبهم قيل هذا هو الوليد بن المغيرة الذي جمع الله فيه هذه المثالب الذميمة والمساوى القبيحة وبالجملة لا تطعه أنت يا أكمل الرسل ولا تلتفت الى ثروته وسيادته بحال من الأحوال فانا بمقتضى قهرنا وجلالنا سَنَسِمُهُ ونعلمه بالكي عَلَى الْخُرْطُومِ اى على انفه بحيث يعرف ويعلم به في عرصات المحشر إِنَّا بمقتضى جلالنا وقهرنا وانتقامنا من اهل مكة قد بَلَوْناهُمْ اى أصبناهم وابتليناهم بالقحط سبع سنين لكفرانهم بنعمنا التي من معظمها بعثة الرسول الذي هو أكمل الرسل منهم ومن شيعتهم فكذبوه وأنكروا عليه وعلى دينه وكتابه واستهزؤا به كَما بَلَوْنا وأصبنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ التي اسمها ضروان كانت دون صنعاء بفرسخين لصالح قد كان ينادى الفقراء وقت الصرام والقطع فلما مات الصالح قال بنوه ان فعلنا مثل ما كان يفعل أبونا لضاق علينا الأمر فان المال قليل والعيال كثير وكان مال أبينا كثيرا وعياله قليلا فحلفوا فيما بينهم ليصر منها مصبحين خوفا من شدة هجوم المساكين كما حكى عنهم سبحانه إِذْ أَقْسَمُوا يعنى أولاد الصالح وورثته لَيَصْرِمُنَّها وليقطعنها مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح وَلا يَسْتَثْنُونَ اى لا يتكلمون بكلمة ان شاء الله حين تقاولوا وتقاسموا وهم بعد ما اتفقوا على حرمان الفقراء ومع ذلك لم يفوضوا أمورهم الى مشية الله فَطافَ عَلَيْها اى على تلك الجنة طائِفٌ اى بلاء مخصوص بها حيث أحاط جميع جوانبها ولم يضر ما في حواليها من الجنان والبساتين الاخر

[سورة القلم (68) : آية 20]

ناش مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل وَهُمْ حينئذ نائِمُونَ في بيوتهم فَأَصْبَحَتْ الجنة وصارت بعد ما أصاب عليها ما أصاب كَالصَّرِيمِ اى التي صرم ثمارها بحيث لم يبق فيه شيء او صارت كالليل في اسودادها واحتراقها او كالنهار في غاية يبسها وجفافها فَتَنادَوْا اى نادى بعضهم بعضا حال كونهم مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح المعهود للصرام صايحين أَنِ اغْدُوا واخرجوا غدوة ايها الملاك عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ قاصدين الصرم والقطع فخرجوا فَانْطَلَقُوا بأجمعهم نحوها وَهُمْ حين خروجهم يَتَخافَتُونَ ويكتمون ذهابهم عن الناس ويسرون كلامهم فيما بينهم أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَبالجملة غَدَوْا وذهبوا غدوة عَلى حَرْدٍ اى مع قصد تام وسرعة كاملة قادِرِينَ على القطع بلا مشاركة ومعين فَلَمَّا وصلوا إليها رَأَوْها كذلك قالُوا في بادى الرأى ما هي جنتنا هذه بل إِنَّا لَضَالُّونَ طريقها ثم لما تأملوا في اماراتها وجزموا بعلاماتها قالوا على سبيل الإضراب عن القول الاول من غاية الحسرة والأسف بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قد حرمنا عنها وعن ثمارها وخيراتها لخساستنا وخباثة نفوسنا وبعد ما حرموا عنها قالَ أَوْسَطُهُمْ أعدلهم رأيا وعقلا على وجه التقريع والتشنيع لإخوانه أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ وقت مشاورتكم على حرمان الفقراء واتفاقكم على منعهم لَوْلا تُسَبِّحُونَ وهلا تذكرون الله بالخير ولم لا تشكرون نعمه بالإنفاق على الفقراء حتى يزيد عليكم سبحانه نعمه وهو كان قاله هكذا حين عزموا أولا على المنع وشاوروا فيه وبعد ما وقع ما وقع اعترفوا بالظلم والعدوان حيث قالُوا عن غاية الندامة والإنابة سُبْحانَ رَبِّنا ننزهك من ان ننازع في ملكك وسلطانك ونخالف حكمك وشأنك وبالجملة إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ خارجين عن مقتضى أمرك بالإنفاق عارضين أنفسنا على انتقامك تب علينا بفضلك وكرمك انك أنت التواب الرحيم وبعد وقوع الواقعة الهائلة فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ اى يلوم بعضهم بعضا فان منهم من كان استصوب ومنهم من أشار ومنهم من سكت وبالجملة قالُوا اى الكل متحسرين يا وَيْلَنا وهلكتنا ادركينا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ متجاوزين حدود الله مستحقين للويل والثبور وبعد ما أنابوا الى الله وتضرعوا نحوه عن محض الندم والإخلاص قالوا على سبيل التمني والرجاء عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها ببركة التوبة والانابة بالإخلاص والاعتراف بالخطإ والاستغفار بالندم والانكسار التام إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ مائلون راجون منه العفو طالبون الخير والمغفرة. وقد روى انهم قد ابدلوا خيرا منها عناية وفضلا وبالجملة كَذلِكَ الْعَذابُ لمن خرج عن مقتضى الحدود الإلهية في الدنيا وَالله لَعَذابُ الْآخِرَةِ المعدة لأصحاب الغفلة عن الله أَكْبَرُ وأعظم واقطع بل بأضعافه وآلافه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ويعتقدون وقوعه لاحترزوا البتة عما يئول بهم اليه ويوقعهم فيه. ثم قال سبحانه إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الحافظين المتحفظين نفوسهم عن غضب الله المحترزين عن الخروج عن مقتضى الحدود الإلهية عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي وفقهم على صيانة النفس عن المعاصي والمنكرات حين وصولهم الى كنف حفظه وجوار قدسه جَنَّاتِ النَّعِيمِ اى روضة الرضاء وجنة التسليم ولهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها ابدا والله عنده اجر عظيم لمن وصل اليه وتحقق دونه. ثم لما كانت الكفرة يقولون ان صح انا نبعث كما يزعم محمد وأصحابه لا يتفوقون بنا ولا يفضلون علينا أولئك الأراذل هناك ايضا بل نحن هناك ايضا احسن حالا منهم كما

[سورة القلم (68) : آية 35]

في الدنيا رد الله عليهم زعمهم هذا بقوله أَفَنَجْعَلُ يعنى أيزعم الكفرة المفسدون المفرطون انا نجعل الْمُسْلِمِينَ المتصفين بالإيمان والأعمال الصالحة المنزهين عن مطلق العصيان ولوازمها كَالْمُجْرِمِينَ الموصوفين بأنواع الجرائم والآثام الخارجة عن مقتضى الاحكام الإلهية الجارية على مقتضى الحكمة والعدالة ما لَكُمْ وما عرض ولحق بكم ايها العقلاء حتى أخرجكم عن مقتضى العقل الفطري كَيْفَ تَحْكُمُونَ وتدعون مساواة المسيء مع المحسن فكيف يفضله سيما عند العليم الحكيم المتقن في عموم الأفعال بمقتضى القسط والعدل السوى أتحكمون هذا بمقتضى رأيكم الفاسد ايها الضالون أَمْ لَكُمْ كِتابٌ نازل عليكم من السماء فِيهِ اى في الكتاب المنزل تَدْرُسُونَ وتقرءون هكذا إِنَّ لَكُمْ فِيهِ اى في الكتاب النازل لَما تَخَيَّرُونَ اى ما تختارونه لأنفسكم وتشتهونه من خير ما تجدون فيه أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عهود ومواثيق مؤكدة لازمة عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مشتملة متضمنة لهذا إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ به علينا من ان الخير والكرامة لكم عندنا اكثر مما لهم وبالجملة سَلْهُمْ يا أكمل الرسل وفتش عنهم على سبيل التبكيت والإلزام أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم زَعِيمٌ قائم متكفل يستدل عليه ويصححه أهو اى الزعيم المستدل واحد منهم أَمْ لَهُمْ في هذه الدعوى شُرَكاءُ متشاركون في هذا القول والحكم وهم يقلدونهم فان ادعوا شركاء قل لهم نيابة عنا فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ حتى يثبتوا الدعوى ويصححوها إِنْ كانُوا صادِقِينَ في هذه الدعوى وبعد ما بهتوا اذكر لهم يا أكمل الرسل يَوْمَ يُكْشَفُ الأمور والخطوب عَنْ ساقٍ اى عن أصلها وحقيقتها وتبلى السرائر برمتها وارتفعت حجب الأعيان وسدل الاعتبارات بأسرها وبالجملة ثم لم يبق الا الله الواحد القهار وَيُدْعَوْنَ حينئذ هؤلاء الاظلال الهالكون في تيه الحيرة والضلال إِلَى السُّجُودِ والتذلل على وجه الانكسار لدى الملك الجبار فَلا يَسْتَطِيعُونَ حينئذ لمضى نشأة الاختيار وأوان الاختبار بل قد صاروا خاشِعَةً ذليلة خاسرة أَبْصارُهُمْ هائمة عقولهم وبالجملة تَرْهَقُهُمْ وتلحقهم ذِلَّةٌ عظيمة محيطة بجميع جوانبهم وَكيف لا يكونون كذلك يومئذ إذ هم قَدْ كانُوا في نشأة الاختبار يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ حينئذ سالِمُونَ متمكنون قادرون عليه فلم يفعلوا عنادا ومكابرة فالآن قد انقضى وقت الاختبار فلا ينفعهم التذلل والانكسار سواء قدروا او لم يقدروا وبعد ما بالغ المنكرون المكذبون في قدح القرآن وطعنه وأصروا على العناد والاستكبار فَذَرْنِي اى خلنى يا أكمل الرسل وَفوض على امر مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ يعنى القرآن ولا تتعب نفسك في معارضتهم ومجادلتهم ولا تعجل في أخذهم وانتقامهم فانى انتقم منهم وأكفيك مؤنة شرورهم فاعلم انا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ اى ندنيهم درجة درجة الى أسوأ العذاب بان نهملهم في الدنيا وننعم عليهم ونديم صحتهم ونوفر عليهم اسباب الشقاوة حتى صاروا مغمورين في الكفران والطغيان منهمكين في الضلال والعصيان ثم نبطشهم مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ اى من جهة وطريق لا يفهمون انه جهة الأخذ وطريقه مكرا عليهم وزجرا لهم وَبالجملة أُمْلِي لَهُمْ وامهلهم كيدا عليهم وهم لا يشعرون إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ محكم لا يفهمه احد ولا يدفعه شيء أينكرون ارشادك وتبليغك إياهم عنادا ومكابرة أَمْ يدعون انك تَسْئَلُهُمْ أَجْراً جعلا على ارشادك وتكميلك إياهم فَهُمْ حينئذ مِنْ مَغْرَمٍ اى من أجل غرامة مُثْقَلُونَ بحملها فيعرضون عنك ويكذبونك بسببها أَمْ يدعون الاطلاع على المغيبات ويزعمون انه

[سورة القلم (68) : آية 48]

عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ اى لوح القضاء فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه جميع ما يحكمون به من الإقرار والإنكار وبه يستغنون عن تعليمك وارشادك لذلك يكذبونك وينكرون عليك وهم وان بالغوا في العناد والإنكار فَاصْبِرْ أنت يا أكمل الرسل لِحُكْمِ رَبِّكَ وهو تأخير نصرتك عليهم وإمهالهم زمانا على حالهم ولا تستعجل في مؤاخذتهم وَلا تَكُنْ في الاستعجال كَصاحِبِ الْحُوتِ يعنى يونس بن متى صلوات الله عليه قد استعجل العذاب لقومه حين بالغوا في العصيان عليه وتكذيبه ثم لما ظهر اماراته خرج من بينهم مغاضبا عليهم حتى اقتحم البحر فساهم في السفينة فكان من المدهضين فالتقمه الحوت وهو حينئذ مليم نفسه اذكر إِذْ نادى ربه في بطن الحوت وَهُوَ حينئذ مَكْظُومٌ مملو غضبا وغيظا مبتلى بالبلاء العظيم لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ وأدركته نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعنى لو لم يوفقه سبحانه على نعمة التوبة والانابة والرجوع الى الله على وجه الإخلاص والندامة لَنُبِذَ وطرح هو البتة بِالْعَراءِ اى الأرض الخالية من الشجر وَهُوَ حينئذ مَذْمُومٌ مليم مطرود من الرحمة والكرامة لكن قد أدركته العناية الإلهية وانفتح له باب التوبة والاستغفار على وجه الندم والانكسار فاستغفر ربه وتاب عليه واستجاب له تفضلا وامتنانا فَاجْتَباهُ رَبُّهُ ايضا لمصلحة النبوة وقبله فأرسله مرة اخرى الى قومه فَجَعَلَهُ حسب فضله وطوله مِنَ الصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح الفائزين بالعصمة والفلاح اللائقين لشأن النبوة والهداية والإرشاد والتكميل وَمن غلظ غيظهم معك يا أكمل الرسل وشدة شكيمتهم وضغينتهم بالنسبة إليك إِنْ يَكادُ انه يقرب الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وستروا محامد أخلاقكم ومحاسن شيمكم لَيُزْلِقُونَكَ يا أكمل الرسل ويزيلونك عن الحياة بل يريدون ان يصرعوك ميتا على الأرض بِأَبْصارِهِمْ اى بحدة نظرهم نحوك حسدا عليك لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ اى حين سمعوا منك تلاوة القرآن المعجز معجبين من بدائع نظمه وغرائب أسلوبه وكمال فصاحته وبلاغته ومتانة تركيباته الفائقة على تراكيب عموم اللسن والفصاحة وعجائب معانيه التي قرعت اسماعهم لذلك قد حسدوا عليك خفية وقصدوا مقتك باصابة العين اللامّة وَان كانوا يَقُولُونَ عند الملأ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ يتكلم بكلام المجانين ما هو من جنس كلام الناس تلبيسا على ضعفاء الأنام وتغريرا لهم لئلا يتفطنوا على عظمة شأنك ورفعة قدرك ومكانك وهم في خلواتهم على ضنة تامة وحسد كامل مما صدر منك وظهر عنك من الخوارق وَيقولون لك مجنون وينسبون كلامك الى الجنون ظاهرا مع انه ما هُوَ اى القرآن المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إِلَّا ذِكْرٌ اى محض هداية ورشد وتبصرة كاملة وتذكير شامل لِلْعالَمِينَ اى لعموم المكلفين ممن يوفقهم الحق الى صراط مستقيم. جعلنا الله ممن تذكر به واتعظ بما فيه بمنه وجوده خاتمة سورة ن عليك ايها المريد القاصد لسلوك طريق التوحيد هداك الله الى سواء السبيل ان تتصبر في مشاق الطاعات ومتاعب التكاليف الواقعة في سلوك طريق الفناء وسيما على اذيات اصحاب الزيغ والضلال المائلين عن سبيل الهداية والرشد المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية فعليك ان لا تلتفت نحوهم ولا تبالي بشأنهم ولا تستعجل بانتقامهم فان ربك يكفى لك مؤنة شرورهم وبالجملة فعليك بالوقار والاصطبار والأمر بيد الله الحكيم الجبار القدير القهار فسينتقم قريبا عن اهل البغي والإنكار

سورة الحاقة

[سورة الحاقة] فاتحة سورة الحاقة لا يخفى على من تمكن في مقر التوحيد وانكشف بوقوع الطامة الكبرى التي اندكت دونها الأرض السفلى والسموات العلى وفنيت عندها هياكل الأشباح وهويات الأشياء ان ظهور عموم المظاهر والمجالى انما هي على حسب الأوصاف الذاتية الإلهية والأسماء التي امتدت وانبسطت على مرآة العدم وانعكس من ذلك الانبساط عموم ما انعكس من سراب العالم واظلال السوى والأغيار وبالجملة قد قبض الحق ما أبدى وانقهرت ماهيات الأشياء وتلاشت هوياتها الباطلة ولم يبق الا الحق الحقيق بالحقية الوحيد بالقيومية الفريد بالديمومية بحيث لا يعرضه تغير وزوال ولا يعتريه تبدل وانتقال لذلك اخبر سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم عن وقوع الحاقة الحقيقية الحقية وابهمها عليه صلّى الله عليه وسلّم تهويلا وتفخيما لشأنها فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على عموم ما ظهر وبطن إظهارا لقدرته الغالبة الرَّحْمنِ عليه بامتداد اظلاله للظهور والبروز الرَّحِيمِ عليه بقبضه الى ذاته للخفاء والبطون [الآيات] الْحَاقَّةُ اى النشأة الاخرى التي ظهرت فيها حقية الحق وثبوته وتحقق دونها من على الحق وفاز بمبتغاه واستقر في دار السرور ومن على الباطل ولحق العذاب المعد له واستقر على الويل والثبور ثم استفهم سبحانه عنها تهويلا وتعظيما فقال مَا الْحَاقَّةُ التي قد انقهرت دونها اظلال الأغيار وأشباح العكوس والسوى مطلقا وبرزوا لله الواحد القهار ثم زاد سبحانه على تهويلها بان نفى احاطة علم حبيبه صلّى الله عليه وسلّم الذي قد جاء من عنده رحمة للعالمين إياها حيث قال وَما أَدْراكَ وأى شيء أعلمك وأفهمك يا أكمل الرسل مَا الْحَاقَّةُ الحقية الحقيقية التي طويت دونها عموم المراتب ونقوش مطلق الكثرات والإضافات واضمحلت عندها عكوس الأسماء والصفات رأسا وبالجملة قد انقهرت وقت قيامها رسوم الناسوت ولم يبق الا الحي القيوم اللاهوت وحضرة الرحموت ولا شك انه متعال عن مطلق الإدراك والاطلاع المترتب على نشأة الناسوت بل على نشأتى الملكوت والجبروت. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للمكذبين المنكرين عليها كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ اى بالحاقة المذكورة التي يقرع الأسماع سماع أهوالها ويدهش العقول ذكر افزاعها فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ اى بسبب طغيانهم المتجاوز عن الحد في تكذيبها اهلكوا بصيحة هائلة متجاوزة عن حد الصياح وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ باردة في غاية البرودة عاتِيَةٍ شديدة العصف بحيث لم يقدروا على دفعها وردها اصلاحين سَخَّرَها وسلطها سبحانه حسب قهره عَلَيْهِمْ وانتقامه عنهم بمقتضى سخطه وجلاله لذلك قد أبقى عليهم سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً متتابعة مترادفة قاطعة قالعة فَتَرَى ايها المعتبر الرائي الْقَوْمَ فِيها اى في تلك الأيام ولياليها صَرْعى هلكى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ساقطة عن أصولها لا جوف لها فَهَلْ تَرى لَهُمْ وما ترى منهم بعد تلك الأيام مِنْ باقِيَةٍ يعنى لم يبق منهم بعد تلك الواقعة الهائلة نفس لها حياة قد استؤصلوا بالمرة في تلك الأيام وَبعد انقراض أولئك الغواة الطغاة الهالكين في تيه الجهل والعناد جاءَ فِرْعَوْنُ العتو العتل الطاغي المتجاوز عن الحد في البغي والعدوان وَمَنْ قَبْلَهُ ونقدم عليه من الأمم المكذبة الباغية او ومن معه من ملائه واشرافه على القرائتين وَجاء ايضا الْمُؤْتَفِكاتُ اى قرى قوم لوط والمراد من فيها من المكذبين وبالجملة كلهم جاءوا بِالْخاطِئَةِ

[سورة الحاقة (69) : آية 10]

المعهودة التي هي انكار يوم الحاقة الحقيقية على وجه المبالغة وبعد نزول الوحى ومجيء الرسل إليهم فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ اى عصى كل امة لرسولها المبعوث إليهم ليهديهم الى طريق الرشد فكذبوه واستهزؤا معه وبالغوا في تكذيبه وعصيانه فَأَخَذَهُمْ سبحانه اى كلا منهم أَخْذَةً رابِيَةً زائدة شديدة بمقتضى ما ازدادوا في العصيان والتكذيب اذكر يا أكمل الرسل شدة أخذنا إياهم إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ بعد ما أمرناه بالطغيان في يوم الطوفان الى حيث حَمَلْناكُمْ اى آباءكم الذين آمنوا بنوح عليه السلام وأنتم حينئذ في أصلابهم فِي الْجارِيَةِ السفينة التي قد صنعها نوح عليه السلام بتعليمنا له قبل الطوفان بمدة وأغرقنا الكفرة بأجمعهم بحيث لم يبق على الأرض سوى اصحاب السفينة احد من البشر وانما حملناكم عليها وأنجيناكم بها لِنَجْعَلَها اى هذه الفعلة الجميلة التي هي نجاة المؤمنين من الطوفان العظيم لَكُمْ ايها المستخلفون المكلفون تَذْكِرَةً اى عظة وعبرة وتبصرة دالة على كمال قدرة الصانع الحكيم ومتانة حكمته وَتَعِيَها اى تستحضر وتستحفظ هذه التذكرة والتبصرة الكاملة أُذُنٌ واعِيَةٌ حافظة لعموم العبر والتذاكير المورثة للقلوب الصافية الخائفة خيرا كثيرا ونفعا كبيرا وبعد ما بالغ سبحانه في وصف القيامة وشرح أهوالها وأحوالها وذكر حال من كذب بها ومآل امره أراد أن يشرح ما يظهر فيها من الأمور الهائلة والوقائع العظيمة عند قيامها فقال فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وهي النفخة الاولى التي عندها خراب العالم وَحين سماعها وظهورها حُمِلَتِ ورفعت الْأَرْضُ وَالْجِبالُ من أماكنهما التي قد استقرتا عليها بان امر لهما سبحانه بالحركة والاضطراب على مقتضى القدرة الغالبة القاهرة فَدُكَّتا بعد ما سمعتا الأمر الوجوبي وانكسرتا بحيث اضمحلت اجزاؤهما وتفتتت فصارتا دَكَّةً واحِدَةً اى قاعا صفصفا مسواة ملساء بحيث لا عوج لها ولا أمتا نتوا فَيَوْمَئِذٍ اى حين وقوع هذه الحالة الهائلة قد وَقَعَتِ الْواقِعَةُ العظمى وقامت الطامة الكبرى وَقد انْشَقَّتِ السَّماءُ وانحلت التيامها ونظامها وتضعضعت بنيانها وأركانها فَهِيَ اى السماء يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ منهدمة منحلة الاجزاء والتراكيب وَالْمَلَكُ يومئذ اى جنس الملائكة ينزلون عَلى أَرْجائِها اى أقطارها وانحائها بعد ما كانوا في حافاتها وحواقها وَبعد ما خربت السموات وانهدمت يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل فَوْقَهُمْ اى فوق الملائكة النازلين على الارجاء يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ من الملائكة بعد ما كانوا قبل ذلك اربعة إذ حملة العرش في النشأة الاولى اربعة وفي النشأة الاخرى تكون ثمانية على ما أشار اليه صلّى الله عليه وسلّم في الحديث كأنه أشار بالأربعة الى أمهات الصفات الإلهية التي هي الحياة والعلم والقدرة والارادة وبالثمانية الى مجموع الصفات الثمانية الذاتية وبالجملة يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ أنتم ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة على الله عرض العسكر على السلطان بحيث لا تَخْفى ولا تتستر مِنْكُمْ في يوم العرض خافِيَةٌ اى سر مستور مكتوم على الله حتى يكون العرض للاطلاع والشعور بل الكل في حضرة علمه حاضر غير مغيب ومخفي وانما تعرضون ليظهر كمال القسط والعدل الإلهي بالنسبة الى عموم العباد وحتى يظهر عندهم ان الحجة البالغة الغالبة لله ثم فصل سبحانه احوال العباد في الحساب والجزاء وإتيان صحف أعمالهم ليطالعوا فيها جميع ما اقترفوا في نشأة الاختبار فقال فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ لمن حوله فرحا وسرورا هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ اى تعالوا فاقرؤا كتابي هذا إِنِّي ظَنَنْتُ

[سورة الحاقة (69) : آية 21]

في النشأة الاولى ظنا قريبا الى الجزم واليقين إِنِّي اليوم مُلاقٍ حِسابِيَهْ هكذا على الوجه الأحسن وبواسطة يقيني وجزمى قد كنت قدما أخاف ان يصدر عنى شيء يعاقب على بسببه وبالجملة فَهُوَ حينئذ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ صاحبها لكونها صافية عن مطلق الكدورات متمكنا فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ رفيعة مكانا ومكانة قُطُوفُها وثمارها دانِيَةٌ قريبة لمن ناولها مهما أراد تناولها نالها وناولها بلا تعب ومشقة ويقال لهم حينئذ كُلُوا وَاشْرَبُوا من ثمار الجنة ومائها هَنِيئاً سائغا مريئا كل ذلك بِما أَسْلَفْتُمْ وقدمتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ الماضية في نشأة الاختبار فيصور لكم أعمالكم بهذه الصور البديعة في النشأة الاخرى وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ بعد ما رأى تفصيل المعاصي والقبائح الصادرة منه في نشأة الاختبار متمنيا متحسرا من غاية الضجرة والأسف المفرط يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ ولم اعط كِتابِيَهْ هذا وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ فيه يا لَيْتَها كانَتِ هذه الحالة الآتية على الْقاضِيَةَ الفارقة بيني وبين حياتي بحيث لم أصر حيا بعد هذه الحالة حتى لا افتضح على رؤس الاشهاد. ثم قال متأسفا متحسرا على ما مضى عليه قائلا ما أَغْنى ودفع العذاب عَنِّي مالِيَهْ اى ما نسب الى من الأموال والأولاد والاتباع بل هَلَكَ اى قد ضل وضاع اليوم عَنِّي سُلْطانِيَهْ اى تسلطي على الناس وتفوقى على الأقران وهو في أمثال هذه الهواجس على سبيل الضجرة والحسرة قيل للموكلين من قبل الحق خُذُوهُ فَغُلُّوهُ بالاغلال الضيقة الثقيلة ثُمَّ الْجَحِيمَ المسعر العظيم المعهود الذي يعد لأصحاب الثروة والجاه من الكفرة صَلُّوهُ اطرحوه ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها وقدرها طولا سَبْعُونَ ذِراعاً بذراع لا يعرف قدرها الا الله فَاسْلُكُوهُ أدخلوه ولفوه بها بحيث يصير محفوفا بها لا يقدر على الحركة أصلا ألا وهي أغلال الأماني وسلسلة الآمال الطويلة الامكانية وكيف لا يعذب الكافر كذلك إِنَّهُ من غاية نخوته وتجبره قد كانَ لا يُؤْمِنُ ولا يذعن بِاللَّهِ الْعَظِيمِ المستحق للعبودية والايمان عتوا وعنادا ولا شك ان من تعظم على الله العلى العظيم قد استحق أسوأ العذاب وأشد النكال وَمع هذا الكفر والكفران لا يَحُضُّ اى لا يحث ولا يرضى فيما مضى عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ ان أطعمه احد من ماله فضلا ان يطعمه هو بنفسه عن ماله فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا اى في يوم العرض والجزاء حَمِيمٌ قريب من أقاربه يحميه ويشفع له كما في الدنيا وَلا طَعامٌ يأكله ويشبع منه إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ اى من غسالة اهل النار وما يسيل منهم من القيح والصديد وبالجملة لا يَأْكُلُهُ اى الغسلين إِلَّا الْخاطِؤُنَ اى اصحاب الخطايا والمعاصي العظام والجرائم الكبيرة والآثام وبعد ما شرح سبحانه من احوال يوم القيامة وأهوالها وافزاعها وما جرى فيها من الوعيدات الهائلة والمصائب الشديدة الشاملة فرع عليه قوله فَلا أُقْسِمُ يعنى لا حاجة في اثبات ما ثبت وتبين الى تأييده بالقسم بِما تُبْصِرُونَ من المظاهر والمجالى وَما لا تُبْصِرُونَ منها من المقسمات التي لم نطلع أحدا عليها فعليكم ايها المكلفون ان تتوجهوا الى القرآن المنزل عليكم لأجل التبيان والبيان فتعتقدوا جميع ما فيها حقا صدقا وتمتثلوا باوامرها وتجتنبوا عن نواهيها إِنَّهُ اى القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ نفسه لا يتأتى منه الجرأة والافتراء على الله إذ هو ملك منزه عن أمثال هذه الرذائل المنافية لمنصب الرسالة التي هي مرتبة الخلافة والنيابة عن المرسل الكريم وَما هُوَ اى القرآن بِقَوْلِ شاعِرٍ كما يقول في حقه بعض الكفرة الجاهلين

[سورة الحاقة (69) : آية 42]

بقدره وشأنه لكن قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ بصدقه وحقيته منكم ايها الكافرون لفرط عنادكم واستكباركم وَلا هو بِقَوْلِ كاهِنٍ كما زعم بعضهم ان محمدا كاهن لكن قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ وتتعظون منه ان ما فيه ليس من جنس كلام الكهنة لا لفظا ولا معنى إذ ليس في القرآن من السرائر والاحكام إلا وهي مشعرة بالحكمة المتقنة الإلهية التي هي بمراحل عن احلام الكهنة المنحرفين عن جادة التوحيد والإسلام بل ما هو الا تَنْزِيلٌ صادر ناش مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ لتربية عموم العباد على مقتضى الحكمة المتقنة ليستعدوا بفيضان التوحيد واليقين وَلَوْ تَقَوَّلَ اى اختلق وافترى عَلَيْنا محمد بَعْضَ الْأَقاوِيلِ من تلقاء نفسه بلا وحى منا اليه لَأَخَذْنا البتة وانتقمنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ اى بالقدرة الكاملة كما ننتقم عن سائر العصاة المفترين ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ زجرا عليه وتعذيبا له الْوَتِينَ اى نياط قلبه الذي منه عموم إدراكاته فَما مِنْكُمْ ايها المكلفون مِنْ أَحَدٍ حينئذ عَنْهُ اى عن أخذنا وعذابنا إياه حاجِزِينَ مانعين يمنعوننا عن بطشه وتعذيبه يعنى ان محمدا صلّى الله عليه وسلّم لا يفترى علينا شيأ لاجلكم ايها الكافرون وهو صلّى الله عليه وسلّم يعلم منا انه لو افترى علينا شيأ من تلقاء نفسه ونسبه إلينا ظلما وزورا لعذبناه عذابا شديدا بحيث لا يقدر احد ان يدفع عذابنا عنه وَبالجملة إِنَّهُ اى القرآن لَتَذْكِرَةٌ صادرة منا متعلقة لِلْمُتَّقِينَ المتحفظين نفوسهم عن مقتضيات قهرنا وجلالنا وَإِنَّا لَنَعْلَمُ بحسب علمنا الحضوري أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ للقرآن ولمن انزل اليه ايها المنكرون المسرفون فنجازيكم على مقتضى تكذيبكم وَبالجملة إِنَّهُ اى القرآن لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ في الدنيا والآخرة يتحسرون في الدنيا من نزوله على المؤمنين وان كانوا لا يظهرونه ويتحسرون ايضا في الآخرة بترتب الثواب على من صدقه وآمن به وهم حينئذ يتحسرون ويتندمون على عدم الايمان والتصديق به وَكيف لا يكون القرآن تذكرة وسبب حسرة عظيمة وندامة بليغة على اهل الإنكار والتكذيب إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فائض نازل من الحق على من وصل الى مرتبة اليقين الحقي مترقيا من اليقين العلمي والعيني فَسَبِّحْ يا أكمل من وصل الى مرتبة اليقين الحقي بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ الذي رباك على الخلق العظيم وأوصلك الى روضة الرضا وجنة التسليم بلطفه العميم خاتمة سورة الحاقة عليك ايها الموحد المتحقق بمرتبة حق اليقين مكنك الله فيها عن تذبذب وتلوين ان تتأمل في مرموزات القرآن وتتدبر في كشف السرائر المودوعة فيه بقلب خال عن مطلق الوساوس والأوهام صاف عن جميع الكدورات الحاصلة من تقليدات ذوى الأحلام الحائضين فيه بمقتضى الآراء والافهام الركيكة بلا تأييد من جانب العليم العلام القدوس السلام فلك ان تتوجه نحوه بقلب فارغ عن عموم الاشغال مائل عن مطلق الزيغ والضلال الواقع فيه من اصحاب الظواهر القانعين منه بالقيل والقال حسب تفاهم عرفهم ومقتضى فهمهم وإياك إياك ان تكتفى بمجرد منطوقات الألفاظ وتقتصر عليها بلا خوض في تيار بحاره الزخارات التي هي مملوة بدرر المعارف ولآلى الحقائق الموصلة الى مرتبة حق اليقين وإذا خضت وغصت فيه على الوجه المذكور واستخرجت من درر فرائده بقدر حوصلتك واستعدادك حق لك ان تقول حينئذ انه لحق اليقين وان تكون مرجعا للخطاب الإلهي بقوله فسبح باسم ربك العظيم

سورة المعارج

[سورة المعارج] فاتحة سورة المعارج لا يخفى على من انكشف له الحجب وارتفع عن بصر بصيرته السدل والاغشية المانعة عن الاطلاع والشهود لوجه الحق الكريم ان المراقي والمعارج من حضيض الإمكان الذي هو عبارة عن مضيق عالم الناسوت نحو ذروة الوجوب الذي هو عبارة عن فضاء عالم اللاهوت اكثر من ان تعدو تحصى لكن المنجذبين نحو الحق من ارباب المحبة والولاء هم الذين قد شملت لهم العناية الازلية وأدركتهم الكرامة السرمدية بحيث رفعت عنهم الاغطية والحجب الظلمانية البشرية وطويت دونهم مطلق المسافات الى ان صار سيرهم من عالم مضيق الناسوت نحو فضاء اللاهوت سيرا كشفيا وعروجهم نحوه عروجا معنويا وتحققهم دونه انما هو بالفناء والموت الإرادي عن لوازم الهوية الصورية وبالانسلاخ والانخلاع عن مقتضيات القوى البشرية فمن كان شأنه هذا وحاله هكذا فلا يكال مدارج ترقيه بمكيال الزمان والآن وما يتركب منهما ويتفرع عليهما من مطلق المقادير التي يقدر بها عموم التقادير واما المحجوبون المقيدون بسلاسل الزمان وأغلال المكان المعذبون بنيران الإمكان ولوازم نشأة الناسوت فلا مخلص لهم عن مقتضيات الطبائع والأركان وعن لوازم بقعة الإمكان ولواحق عرصة الأكوان كما اخبر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم حيث قال بعد التيمن والتبرك بِسْمِ اللَّهِ الذي كشف ذاته لأرباب المحبة والولاء بعد رفع الحجب والغطاء الرَّحْمنِ عليهم يوفقهم للصعود نحو عالم الأوصاف والأسماء الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى مرتبة البقاء بعد الفناء [الآيات] سَأَلَ سائِلٌ من اصحاب الفطنة والاعتبار بِعَذابٍ اى عن كيفية عذاب واقِعٍ لِلْكافِرينَ او المعنى جرى على سبيل السيل والطغيان وادي الإمكان مملوا بعذاب اى بأنواع من العذاب الهائل واقع للكافرين الساترين بطبائعهم الكثيفة وهوياتهم الباطلة السخيفة شمس الحق الظاهرة في الأنفس والآفاق بمقتضى الاستقلال والاستحقاق الى حيث لَيْسَ لَهُ دافِعٌ يرده ويدفعه عنهم مِنَ اللَّهِ اى من قبله وجهته لتعلق مشيته المحكمة ومضاء قضائه المبرم على وقوعه لاعدائه ذِي الْمَعارِجِ والدرجات العلية والمقامات السنية من القرب والكرامة لأوليائه تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ اى حوامل آثار الأسماء والصفات الإلهية من مجردات العالم السفلى وَالرُّوحُ الفائض من لدنه سبحانه على هياكل الهويات من ماديات عالم الطبيعة والأركان القابلة لآثار العلويات من الأسماء والصفات المسميات بالأعيان الثابتة إِلَيْهِ اى الى الذات البحت الخالص عن مطلق القيود والإضافات بعد ما جذبهم الحق وأدركتهم العناية الإلهية مترقين من درجة الى درجة فِي يَوْمٍ وشأن لا كأيام الدنيا وشئونها وان قسته الى ايام الدنيا وأضفته الى المسافة الدنية الدنياوية كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ من سنى الدنيا الا انهم يقطعونها بعد ورود الجذبة الإلهية والخطفة الغالبة الغيبية اللاهوتية كالبرق الخاطف في اقصر من لمحة وطرفة وبعد ما انكشف لك الأمر فَاصْبِرْ يا أكمل الرسل على اذيات الأعداء واستهزائهم صَبْراً جَمِيلًا بحيث لا يشوبه قلق واضطراب وضجرة وسآمة واستعجال للانتقام وترقب بالعذاب على وجه الهتك فانه سيصيبهم العذاب الموعود عن قريب إِنَّهُمْ بمقتضى انكارهم وإصرارهم يَرَوْنَهُ اى نزول العذاب بَعِيداً في غاية البعد الى حيث يعتقدونه محالا خارجا عن الإمكان وَنَراهُ قَرِيباً من لمح البصر بل هو اقرب

[سورة المعارج (70) : آية 8]

منه اذكر لهم يا أكمل الرسل كيف يعملون يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ من القهر الإلهي كَالْمُهْلِ اى كالفضة المذابة يسيل من مكانها من غاية الخشية الإلهية وَتَكُونُ الْجِبالُ الملونة بالألوان المختلفة بعد ما شمل النظر القهرى الإلهي كَالْعِهْنِ اى كالصوف المصبوغ المندوف تذروه الرياح حيث شاءت وَيومئذ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً اى لا يسأل قريب عن قريب وصديق عن صديقه بل يومئذ يفر المرء من أخيه وامه وأبيه وبالجملة لا يلتفت احد الى احد من شدة هوله وشغله بحاله بحيث يُبَصَّرُونَهُمْ وينبهون عليهم من حال أقاربهم ليرقوا لهم وهم لا يلتفتون إليهم ولا يرقون لهم بل يَوَدُّ ويحب الْمُجْرِمُ حينئذ متمنيا لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ الذين هم أحب اليه وأعز عليه من نفسه في دار الدنيا وَكيف لا يود ان يفتدى ايضا بأحب الناس اليه بعد بنيه صاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ أقاربه وعشيرته الَّتِي تُؤْوِيهِ اى تضمه الى نفسه وقت حلول الشدائد ونزول الملمات في دار الدنيا بل وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعنى بل يود ويرضى ان يفتدى عن نفسه بجميع من في الأرض من الثقلين لو قدر عليه ثُمَّ يُنْجِيهِ اى نفسه بالفدية المذكورة من عذاب ذلك اليوم الهائل كَلَّا وحاشا ان ينقذ وينجى المجرم بأمثال هذه الافتداءات من عذاب الله بل كل نفس يومئذ رهينة بما كسبت إِنَّها اى النار المسعرة التي اسمها لَظى اى ذات لهب والتهاب تتلظى وتلتهب دائما بحيث تصير نَزَّاعَةً لِلشَّوى اى تنزع من شدة التهابها الأطراف عن أماكنها سيما جلدة الوجه والرأس وبالجملة تَدْعُوا وتجذب الى نفسها مَنْ أَدْبَرَ عن الايمان ولم يقبل الى قبول الدعوة وَتَوَلَّى اى انصرف عن الطاعة واطاعة الداعي وَمع ذلك جَمَعَ مالا عظيما من حطام الدنيا فَأَوْعى اى فجعله في وعائه وكنزه من غاية حرصه وأمله ولم ينفق في سبيل الله لعدم وثوقه بكرم الله وبالجملة إِنَّ الْإِنْسانَ المجبول على الكفران والنسيان خُلِقَ هَلُوعاً شديد الحرص قليل الصبر طويل الأمل بحيث إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ اى الضر والسوء صار جَزُوعاً يكثر الجزع ويلح في كشف الأذى وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ اى الفرح والسرور والسعة والخصب صار مَنُوعاً يبالغ في البخل والإمساك وهؤلاء كلهم هلكى في تيه الحرص والأمل وقلة التصبر على البلوى وكمال التكبر والتجبر عند السراء إِلَّا الْمُصَلِّينَ المائلين المتوجهين الى الله في عموم الأحوال بمقتضى الرضاء والتسليم قانعين بما وصل إليهم من الإحسان والتكريم صابرين على عموم ما أصابهم من العليم الحكيم منفقين في سبيل الله مما استخلفهم عليه سبحانه من الرزق الصوري والمعنوي لمرضاة الله وهربا عن مساخطه الَّذِينَ هُمْ من كمال تحننهم وتشوقهم الى الله عَلى صَلاتِهِمْ وميلهم نحوه دائِمُونَ ملازمون بحيث لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ المنسوبة إليهم المسوقة لهم حَقٌّ مَعْلُومٌ كالزكاة والصدقات الموقتة وغير الموقتة لِلسَّائِلِ يسئل ويفشى فقره وَالْمَحْرُومِ الذي لا يسئل ولا يفشى بل من كمال صيانته وتحفظه واستغنائه يحسب من الأغنياء من كمال التعفف لذلك يحرم وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ ويعتقدون بِيَوْمِ الدِّينِ تصديقا مقارنا لصوالح الأعمال ومحاسن الشيم والأخلاق وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ عاجلا وآجلا مُشْفِقُونَ خائفون وجلون وكيف لا يشفقون إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ اى من شأن المؤمن ان لا يأمن عذاب الله وان بالغ في طاعته وعبادته على وجه الإخلاص وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ لا يتجاوزون عن الحدود الإلهية

[سورة المعارج (70) : آية 30]

إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من السراري فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ عليهن الا ان المؤمن المخلص لو لم يبالغ في اتباع الشهوات المباحة ايضا لكان له خيرا كثيرا واجرا عظيما فَمَنِ ابْتَغى وطلب وَراءَ ذلِكَ الذي ذكر من الأزواج والسراري فَأُولئِكَ المسرفون المفرطون هُمُ العادُونَ المتجاوزون عن مقتضى الحدود الموضوعة لحفظ العفة وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ التي ائتمنوا عليها وَعَهْدِهِمْ الذي وثقوا به راعُونَ لحقوقهما وحفظهما على الوجه الأصلح الاقسط الأحوط وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ المودعة عندهم المتعلقة بحقوق المسلمين قائِمُونَ حافظون مستحضرون الى وقت الأداء على وجهها وَبالجملة المؤمنون المخلصون هم الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ المكتوبة لهم في الأوقات المحفوظة المقدرة يُحافِظُونَ على أوانها على وجهها مع كمال الخضوع والخشوع ورعاية الشرائط والأركان والأبعاض وسائر الآداب والمندوبات المتعلقة بالصلوات أُولئِكَ السعداء المتصفون بهذه الصفات الكاملة مقبولون عند الله متنعمون فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ فيها بأنواع الكرامات تفضلا وإحسانا وبعد ما ظهر وتميز حال المؤمنين وحال الكافرين عند الله في النشأة الاخرى واخبر بها سبحانه عباده قال فما عرض ولحق فمال الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبدينك وكتابك قِبَلَكَ يعنى الذين هم في حواليك وجوانبك مُهْطِعِينَ مترددين مسرعين عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ متفرقين فرقا شتى يترددون حولك فرقة بعد فرقة ويسمعون منك كلامك فوجا بعد فوج أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ بالتردد حولك أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ بلا ايمان واطاعة وتصديق مقارن بالأعمال الصالحة كَلَّا وحاشا ان يحصل لهم هذا بلا سبق الايمان وامتثال الأوامر والاحكام وكيف يدخلون أولئك الخبيثون في منازل القدس بلا تصفية وتزكية بالإيمان وتحلية بالأعمال إِنَّا خَلَقْناهُمْ وقدرنا وجودهم مِمَّا يَعْلَمُونَ ألا وهو النطفة القذرة الخبيثة التي لا نسبة لها بالمقام المقدس عن مطلق الرذائل والكدورات المطهر عن أوساخ الطبيعة وأثقال الهيولى الحاصلة من ظلمة عالم الناسوت فما داموا لم يطهروا نفوسهم بنور الايمان ولم يتصفوا بالعرفان لم يصلوا الى روضة الجنان ولم ينالوا بنعم الألوان فَلا أُقْسِمُ اى لا حاجة لنا الى القسم بإثبات كمال قدرتنا لكن اقسم لتنبيه العباد بِرَبِّ الْمَشارِقِ اى بمربى عموم الذرات التي قد أشرقت عليها شمس الذات باعتبار البروز والظهور وَكذا برب الْمَغارِبِ اى بجميع الذرات التي قد غربت فيها شمس الذات باعتبار الخفأ والبطون إِنَّا لَقادِرُونَ بالقدرة الغالبة الكاملة عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ بان نهلكهم ونستأصلهم بالمرة على وجه الأرض ونأت بدلهم بخلق أفضل منهم وأصلح للايمان وقبول دين الإسلام وَبالجملة ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ مغلوبين من احد فان أردنا هذا التبديل والتغيير وتعلقت مشيتنا به فعلناه البتة وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل كمال قدرتنا على إهلاكهم وتبديلهم فَذَرْهُمْ واتركهم وحالهم يَخُوضُوا في الأباطيل الزائغة والأراجيف الزاهقة وَيَلْعَبُوا بالآيات الواضحات والبينات اللائحات بأنواع الأكاذيب والمفتريات حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ به ألا وهو يوم الحشر وتنقيد الأعمال والحساب عليهم والجزاء بمقتضاه على الوجه الذي وعد في كتبنا وألسنة رسلنا اذكر لهم يا أكمل الرسل على وجه التهويل والتذكير يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ اى القبور بعد نفخ الصور ويسرعون نحو الداعي سِراعاً مسرعين كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ صنم ينصب للزيارة والاستلام يُوفِضُونَ يسرعون يعنى

[سورة المعارج (70) : آية 44]

إسراعهم في تلك الحالة نحو الداعي يشبه إسراعهم نحو الصنم المنصوب للعبادات ورفع الدرجات كما هو عادتهم طول عمرهم في الدنيا فيكونون حينئذ خاشِعَةً ذليلة خاسرة خاسئة أَبْصارُهُمْ بحيث لا يمكنهم ان ينظروا اليه إذ تَرْهَقُهُمْ وتغشيهم حينئذ ذِلَّةٌ عظيمة بدل ما يذلون داعي الله حين دعوته إياهم في النشأة الاولى وبالجملة ذلِكَ الْيَوْمُ العظيم الهائل هو اليوم الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ به في نشأة الاختبار فلم يصدقوا به حينئذ ولم يؤمنوا له الى ان يعاينوه ويلاقوه. جعلنا الله من زمرة المصدقين بيوم الدين خاتمة سورة المعارج عليك ايها الموحد المحمدي ان تعتقد بل تعاين وتشاهد ان كنت من اولى الأبصار وذوى القدر والاعتبار ان النشأة الاخرى هي دار القرار والخلود بل العالم الموجود حقيقة انما هي تلك النشأة الاخروية والنشأة الاولى انما هي اظلال لا وجود لها وعكوس لا ثبوت لها وإضافات لا حقيقة لها ولا ثبات وتعينات لا تحقق لها ولا قرار فعليك ان لا تستقر عليها الا كالعابر ولا تعيش فيها الا كالمسافر اما تدرى يا أخي ان جميع ما عليها ظل زائل وعموم لذاتها وشهواتها سراب بلا طائل الام تتشبث بها وبما فيها ايها المغرور وعلام تستلذ بمزخرفاتها وملاهيها ايها المبهوت فإنك عن قريب ستموت وما تدخر وتجمع فيها سيضيع ويفوت فعليك ان تستعد لأخراك في أولاك وتتزود لعقباك من دنياك وبالجملة فعليك ان تموت عن مزخرفات هذه الدار بالإرادة والاختيار قبل هجوم الموت على وجه الاضطرار فاعلم ان ما هذه الحياة الدنيا الا متاع وان الآخرة هي دار القرار [سورة نوح] فاتحة سورة نوح عليه السلام لا يخفى على من انكشف بسرائر ظهور مرتبتي النبوة والرسالة من ارباب الولاية المقتبسين من مشكاة النبوة ان مقتضى النبوة والرسالة انما هي الدعوة الى دين الإسلام الموصل الى دار السلام المستلزم للقرب والوصول الى كنف جوار الله العليم العلام فلا بد لمن تصدر بها بتكليف الحق إياه واختياره لها ان يبالغ في تبليغها ويجتهد في إظهارها سيما بعد تأييد الحق وتقويته بالمعجزات القاطعة والبراهين الساطعة متحملا على عموم المتاعب والمشاق وانواع الأذيات الواقعة في إظهارها وترويجها كما اخبر سبحانه عن نجيه نوح عليه السلام مع قومه كيف تحمل عنهم الأذى وصبر الى ان ظفر عليهم وانتصر حيث قال سبحانه بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى على أنبيائه ورسله بعموم أسمائه وصفاته ليستخلفهم عن ذاته الرَّحْمنِ على عموم مظاهره بإظهار مرتبة الخلافة والنيابة بينهم الرَّحِيمِ لهم يوصلهم بإرشاد الأنبياء والرسل وهدايتهم إياهم الى زلال توحيده [الآيات] إِنَّا من مقام عظيم جودنا قد أَرْسَلْنا أخاك يا أكمل الرسل نُوحاً صلوات الله عليه وسلامه إِلى قَوْمِهِ حين انحرفوا عن جادة العدالة والقسط الإلهي ووصيناه له أَنْ أَنْذِرْ اى خوف وحذر قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم في غاية الإيلام من قبلنا ألا وهو عذاب يوم الطوفان وبعد نزول الوحى عليه قالَ يا قَوْمِ أضافهم الى نفسه وناداهم ليقبلوا اليه ويهتدوا بهدايته وإرشاده إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ظاهر الإنذار والتخويف باذن العليم الحكيم حيث اوحى لي ربي وأرسلني إليكم أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الفرد الصمد

[سورة نوح (71) : آية 4]

الحق الحقيق بالالوهية والربوبية القادر المقتدر على انواع الانعام والانتقام وَاتَّقُوهُ بالاجتناب عن ارتكاب محارمه ومنهياته وَأَطِيعُونِ فيما بلغت لكم من أوامر الله ونواهيه وامتثلوا بها واعملوا بمقتضاها يَغْفِرْ لَكُمْ سبحانه مِنْ ذُنُوبِكُمْ كلها ان استغفرتم منه سبحانه وتبتم اليه مخلصين نادمين وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أقصى أَجَلٍ مُسَمًّى مقدر عنده سبحانه معين لديه بشرط ان تتصفوا بالإيمان والعمل الصالح إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ المقدر لآجال عباده على مقتضى حكمته المتقنة البالغة إِذا جاءَ على الوجه المقدر المقرر عنده لا يُؤَخَّرُ عن وقته ولا يقدم عليه لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وتعتقدون حكمة الحكيم وكمال قدرته ومشيته لعلمتم يقينا ان الأجل المقدر من عنده لا يبدل ولا يتغير وبعد ما قد بالغ نوح عليه السلام في دعوتهم وإرشادهم فلم يهتدوا بل ما زادوا الا إصرارا وإضرارا وعتوا واستكبارا وبعد ما تمادى ضررهم واضرارهم إياه قالَ نوح عليه السلام مناجيا الى ربه على وجه التضرع والابتهال بعد ما بالغوا في الإنكار والاستكبار رَبِّ يا من رباني على الرشد والهداية إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي حسب وحيك وإلهامك على لَيْلًا وَنَهاراً اى في عموم الأزمان والأحيان بلا مطل ونسيان فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إياهم على الايمان إِلَّا فِراراً عن الانقياد والإطاعة وإصرارا على الكفر والطغيان وَإِنِّي قد صرت زمانا طويلا ومدة ممتدة كُلَّما دَعَوْتُهُمْ على قصد منى ان يقبلوا منى دعوتي لِتَغْفِرَ لَهُمْ أنت يا ربي بمقتضى عفوك وسعة رحمتك عموم ذنوبهم وزلاتهم قد جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ وقت دعوتي إياهم فِي آذانِهِمْ اى هم سدوا مسامع قبولهم عن استماع دعوتي فكيف عن ان يجيبوا ويؤمنوا وَمع ذلك لم يقتصروا على مجرد السد بل اسْتَغْشَوْا اى قد غطوا ولفوا على رؤسهم ثِيابَهُمْ لئلا يروا صورتي ولا يسمعوا قولي ودعوتي من شدة كراهتهم لها ولسماعها ونهاية شكيمتهم وغيظهم على وَبالجملة هم قد أَصَرُّوا على ما هم عليه كانوا وَقد اسْتَكْبَرُوا على اسْتِكْباراً عظيما الى حيث شتموني شتما فظيعا وضربونى ضربا مؤلما فجيعا ثُمَّ بعد ما جرى على منهم ما جرى من الزجر والشتم وانواع الطعن والقدح إِنِّي بمقتضى وحيك وأمرك إياي وحكمك على يا ربي قد كنت دَعَوْتُهُمْ جِهاراً على رؤس الملأ وعند الاشهاد ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وصرحت بدعوتهم في الملأ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ ايضا بالدعوة في الخلوات إِسْراراً على سبيل الكناية والرمز والإشارات وبالجملة قد دعوتهم مرة بعد مرة وكرة بعد كرة في المحافل والخلوات وبالصرائح والكنايات فَقُلْتُ لهم في دعوتي إياهم اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ الذي رباكم على فطرة الايمان وأظهركم قابلا لفيضان اليقين والعرفان وتوبوا اليه عن عموم ما صدر من الكفر والعصيان والكفران والطغيان إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يغفر لكم ذنوبكم ويعفو عن زلاتكم. وقد روى انهم بالغوا في الإصرار والإنكار الى حيث حبس الله عليهم القطر واعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فقال نوح عليه السلام استغفروا ربكم انه كان غفارا يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً بحكم الله وامره عليها بعد ما حبسها عليه زمانا طويلا بشؤم شرككم وكفركم وَيُمْدِدْكُمْ سبحانه بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ بعد ما منعها عنكم سبحانه بكفركم وشرككم وَبعد ما انزل عليكم من السماء مدرارا يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وبساتين متنزهات وَيَجْعَلْ لَكُمْ ايضا في خلالها أَنْهاراً جاريات بمياه العلوم اللدنية وبالجملة ما لَكُمْ وأى شيء عرض عليكم قد أغفلكم عن الله حيث لا تَرْجُونَ ولا تأملون لِلَّهِ

[سورة نوح (71) : آية 14]

المستحق لانواع العبودية والتعظيم وَقاراً توقيرا وتبجيلا لائقا لجلاله وجماله وحسن فعاله معكم وَالحال انه سبحانه قَدْ خَلَقَكُمْ أوجدكم وأظهركم أَطْواراً مختلفة مترقية في الكمال حيث قدر خلقكم أولا من جمادات العناصر ثم ركبكم الى ان صرتم من اغذية الإنسان ثم صيركم اخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ولحوما ثم انشأكم خلقا عجيبا قابلا للخلافة والنيابة ثم بعد ذلك يوصلكم في النشأة الاخرى الى ما يوصلكم وبالجملة فبأى آلاء ربكم تكذبون ايها المكذبون المنكرون مع انه قد وسع عليكم من زوائد النعم وموائد الكرم ما لا مزيد عليه من كمال قدرته ومتانة حكمته أَلَمْ تَرَوْا ايها الراؤن المعتبرون المجبولون على فطرة الفكرة والعبرة كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ بقدرته الكاملة سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مطبقات بعضها في جوف بعض الى حيث ينتهى الكل الى كرة واحدة قد وقعت مظهرا للوحدة الذاتية الإلهية وان كانت كل ذرة من ذرائر الكائنات مستقلة في مظهرية الوحدة الذاتية وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ اى في خلال السموات نُوراً مقتبسا من شمس الذات وَبالجملة قد جَعَلَ الشَّمْسَ المشرقة المنيرة سِراجاً واضحا وهاجا ودليلا لائحا على شروق شمس الذات الإلهية ولمعانها على مظاهر عموم الذرات المنعكسة منها وعلى انقهار الكل وانطوائها فيها بحسب الظهور والبطون وَبالجملة اللَّهُ المتعزز برداء العظمة والكبرياء قد أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ اليابسة نَباتاً اى أنبتكم من الأرض إنباتا إبداعيا وصيركم أنواعا وأصنافا أولا من النبات ورباكم الى ان صرتم ثانيا حيوانا ثم إنسانا قابلا للمعرفة والايمان ثم كلفكم بما كلفكم من التكاليف الشاقة لترتقوا من رتبة البشرية الى مرتبة الخلافة والنيابة الإلهية وتفوزوا بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثُمَّ بعد حلول الأجل المقدر يُعِيدُكُمْ فِيها اى في الأرض مقبورين وَيُخْرِجُكُمْ بعد ذلك منها الى المحشر إِخْراجاً عاديا في النشأة الاخرى لتنقيد ما كلفكم الحق عليه في النشأة الاولى من الأعمال والأخلاق ولترتيب الجزاء عليه تتميما للحكمة المتقنة البالغة وتكميلا لها وَبالجملة اذكروا آلاء الله المترادفة عليكم واشكروا لها إذ اللَّهُ القادر المقتدر الحكيم المدبر قد جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ممهدة تتقلبون عليها وتترددون فيها لِتَسْلُكُوا وتتخذوا مِنْها حيث شئتم سُبُلًا فِجاجاً اى طرقا واسعة متسعة فبأى آلاء ربكم ونعمائه تنكرون وتكذبون ايها المكافرون المكذبون وبالجملة كلما قد بالغ نوح عليه السلام في إرشادهم ودعوتهم فهم ايضا قد بالغوا في العناد والإصرار وبعد الاضطرار قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي في عموم ما بلغت لهم وامرتهم به وبالجملة قد انصرفوا عنى واعرضوا عن دعوتي واستهزءوا بي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً اى اتبعوا سادتهم ورؤساءهم المعروفين المشهورين بينهم بكثرة الأموال والأولاد الموجبة للثروة والوجاهة عند الناس وان كان أموالهم وأولادهم لم يزدهم الا خسارا وبوارا في النشأة الاخرى وَبالجملة قد مَكَرُوا لهم اى لضعفاء الناس أولئك الرؤساء الماكرون مَكْراً كُبَّاراً قد بلغ غاية كبره ونهاية شدته في التلبيس والتغرير وذلك احتيالهم على الناس الى حيث لم يقبلوا دعوة نوح عليه السلام مع كونه مؤيدا بأنواع المعجزات بل سفهوه متمسخرين به وَقالُوا اى قال رؤساؤهم لضعفائهم وعوامهم في نصحهم وتذكيرهم إياهم لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ اى عبادتها أصلا سيما بقول هذا السفيه الطريد المختبط المختل الرأى والعقل وَلا تَذَرُنَّ ولا تتركن

[سورة نوح (71) : آية 24]

خصوصا وَدًّا فانه من أعظم آلهتكم وَلا سُواعاً ايضا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً فإنها كلها غرانيق عظام ترتجى منها الشفاعة لعصاة العباد وبالجملة عليكم ان لا تتركوا عبادة آلهتكم بقول هذا الطريد السفيه وَهم بمكرهم هذا قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً من الناس بتزويراتهم الباطلة وتغريراتهم الهائلة الشاملة لأهل الحيرة والضلال وَبالجملة لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ يا ربي إِلَّا ضَلالًا فوق ضلال وإصرارا غب إصرار. ثم قال سبحانه بعد ما بالغ نوح عليه السلام في الضراعة والمناجاة مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ اى من أجل وفور خطاياهم وكثرتها أُغْرِقُوا بالطوفان أولا فَأُدْخِلُوا ناراً نوعا من عذاب النار عقيب عذاب الطوفان في البرازخ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ حين طغيان الماء وطوافه عليهم مِنْ دُونِ اللَّهِ القادر المقتدر على رفع الموانع ودفع المضار أَنْصاراً شفعاء من الأصنام كما زعموا فلهذا لم ينصرهم الله فهلكوا بالغرق بالمرة وَبعد ما قد يئس نوح عليه السلام عن ايمان قومه وقنط عن فلاحهم وصلاحهم أخذ يدعو عليهم حيث قالَ نُوحٌ رَبِّ يا من رباني على فطرة الهداية والرشد ولا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ التي وضعتها للعبادة والطاعة مِنَ الْكافِرِينَ المصرين على الكفر والعناد والإلحاد عن سبيل الرشد والسداد دَيَّاراً أحدا يدور عليها إِنَّكَ يا ذا الحكمة البالغة إِنْ تَذَرْهُمْ على الأرض على ما كانوا عليه يُضِلُّوا عِبادَكَ المؤمنين بك المصدقين بوحدانيتك وفردانيتك البتة وَمع ذلك لا يَلِدُوا ولا يتناسلوا بعد ذلك إِلَّا فاجِراً خارجا عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة لحفظ القسط والعدالة كَفَّاراً ستارا للحق بترويج الباطل عليه وانما دعا عليهم بهذا بعد ما قد جربهم ألف سنة الا خمسين سنة فعرف منهم جميع خصائلهم المذمومة. ثم نادى ربه لنفسه ولوالديه ولمن اهتدى بهدايته وإرشاده فقال رَبِّ يا من ربيتني بمقتضى كرمك وجودك لمصلحة معرفتك وتوحيدك اغْفِرْ لِي بفضلك وإحسانك وَلِوالِدَيَّ اسم أبيه لمك بن متوشلخ واسم امه شمخا بنت أنوش وكانا مؤمنين موحدين وَاغفر ايضا بفضلك يا ربي لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ سفينتي وحرزي وديني ومذهبي مُؤْمِناً موقنا بارشادى وتكميلى وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ من الأمم السالفة واللاحقة الى يوم القيامة وَبالجملة لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ الخارجين عن عروة عبوديتك وربقة رقيتك إِلَّا تَباراً هلاكا وخسارا وبالا وبوارا. ونحن ندعو ايضا على الكافرين المصرين على كفرهم وشركهم المتوغلين في بحر الحيرة والضلال المتشبثين بأذيال التقليد الظاهرين على ارباب التوحيد والمعرفة بأنواع الجدال والمراء بما دعا به نوح عليه السلام ونرجو ايضا ان نكون من الناجين ببركة دعائه ودعاء نبينا صلوات الله عليه وسلامه على نبينا وعليه وعلى عموم إخوانه من النبيين خاتمة سورة نوح عليه السلام عليك ايها الموحد المحمدي الداخل في سفينة الشريعة المصطفوية المنجية لنفسك عن طوفان القوى البشرية وطغيان اللذة البهيمية المانعة عن التلذذ باللذات المعنوية الروحانية ان تتشبث بذيل همة المرشد الكامل المكمل الذي يرشدك الى سرائر الشريعة وحكم الاحكام الموردة فيها ومصالح الأوامر والنواهي بارادة صادقة وعزيمة خالصة صافية عن شوب مطلق الرياء والرعونات العائقة عن الميل

سورة الجن

الفطري والفطنة الجبلية التي قد جبل الناس عليها إذا خلى وطبعه بلا تصرف من شياطين الوهم والخيال وجنود الامارة والهوى. وفقنا الله لما يحب ويرضى وجنبنا عن الميل الى البدع والأهواء [سورة الجن] فاتحة سورة الجن لا يخفى على من تحقق بمقام القلب وسعته وكمال فسحته ووسعته ان مظاهر الحق وجنوده اكثر من ان يحيط به الآراء ويتفوه عنه ألسنة التعديد والإحصاء او يدرك نهايتها عقول العقلاء ومن جملتها جنود الجن ومن يختلط معهم ويصاحبهم من الانس ممن كان بينه وبينهم مناسبة معنوية مخصوصة توجب ائتلافهم واختلاطهم وذلك من جملة المواهب والإعطاءات الإلهية لبعض النفوس القدسية الزكية عن رذائل الطبيعة وإكدار الهيولى ولا شك ان نبينا صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهم مختلط معهم مرشد لهم هاد الى طريق التوحيد كما اوحى سبحانه اليه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي تجلى بمقتضى كرمه وجوده الرَّحْمنِ لعموم عباده من الثقلين حيث يدعوهم الى الايمان الرَّحِيمِ لخواصهم يوصلهم الى مرتبة اليقين والعرفان [الآيات] قُلْ يا أكمل الرسل لمن أنكر رسالتك على الثقلين وبعثتك إليهما قد أُوحِيَ إِلَيَّ من قبل الحق أَنَّهُ اسْتَمَعَ في بعض الأحيان التي انا تلوت فيها القرآن نَفَرٌ اى طائفة وهو يطلق على ما بين الثلاثة الى العشرة مِنَ الْجِنِّ وهو جنس من جنود الحق ومظاهره مثل جنس الملك لا مناسبة بيننا وبينهم حتى ندركهم ونعرف إنيتهم ولمّيتهم كسائر الأنواع المحسوسة من الحيوانات ومالنا الا الايمان بوجودهم ولوجود أمثالهم إذ لا يعلم جنود الحق الا هو ولا يسع لنا الإنكار سيما بعد ورود القرآن ناطقا بوجودهم وتحققهم وبعد ما سمعوا القرآن رجعوا الى أصحابهم فَقالُوا لهم إِنَّا سَمِعْنا من انسان قُرْآناً وكتابا عَجَباً بديعا نظما وأسلوبا معنى ودلالة حاويا لانواع المعارف والحقائق الإلهية محتويا على دقائق طريق التوحيد والعرفان ما هو من جنس كلام البشر بل هو خارج عن مداركهم مطلقا متعال عن مشاعرهم وعقولهم ومعظم خواصه انه يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ والهداية الموصلة الى مقصد الوحدة الذاتية الإلهية وبالجملة فَآمَنَّا بِهِ واهتدينا بهدايته الى توحيد الحق ووحدته وَلَنْ نُشْرِكَ ابدا بِرَبِّنا الذي وفقنا وهدانا الى توحيده أَحَداً من مظاهره ومصنوعاته إذ المصنوع المربوب لا يصير شريكا للرب الصانع القديم الحكيم وَكيف يكون للرب الواحد الأحد الفرد الصمد شريك مع أَنَّهُ تَعالى اى قد تبارك وتقدس جَدُّ رَبِّنا اى عظمته وكبرياؤه من ان يكون له شريك في ملكه وملكوته إذ هو الصمد الفرد الذي مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً ألا وهو من أخص أوصافه واشرف خواصه الذاتية وكيف يتخذ له شريك في الملك ونظير في الوجود فكبره تكبيرا ونزه ذاته عما يقول الظالمون تنزيها كبيرا كثيرا وَبعد ما آمنا بوحدة الحق وعرفناه وحيدا فريدا بلا شبيه ونظير ولا وزير ولا مشير قد عرفنا أَنَّهُ ما كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا يعنى إبليس المردود المطرود عَلَى اللَّهِ المقدس ذاته عن مطلق المماثلة والمشاكلة في الوجود والقيومية وسائر الصفات الذاتية المصححة للالوهية والربوبية الا قولا شَطَطاً باطلا بعيدا عن الحق بمراحل متجاوزا عن الحد في الإفراط تعالى شأنه عما نسب اليه المبطلون المفرطون وَبالجملة أَنَّا قد كنا قبل انكشافنا بوحدة الحق وتحققنا بمرتبة الكشف والشهود قد

[سورة الجن (72) : آية 6]

ظَنَنَّا أَنْ اى انه لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ اى جنس الانس والجن المجبولين على فطرة العبودية والعرفان عَلَى اللَّهِ المعبود بالحق على الإطلاق وفي حقه وشأنه العلى قولا كَذِباً زورا وباطلا صدر عنهم على قصد الافتراء والمراء لذلك اتبعناهم فيما قالوا ظلما وعدوانا وبعد ما قد ظهر الحق وكوشفنا بحقية الحق ووحدته وحقيقة الأمر تبرأنا عنهم وعن أقوالهم جميعا وتبنا الى الله والتجأنا بكنف حفظه وجواره أعاذنا الله بلطفه من زيغ الزائغين وإضلال الضالين المضلين وَقد كنا قبل انكشافنا بوحدة الحق أَنَّهُ اى الشأن قد كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ ويحرسون بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ عند مرورهم بقفر وهم قد كانوا إذا امسوا فيها يقولون نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ومع استعاذتهم واستعانتهم فَزادُوهُمْ اى الجن الانس رَهَقاً اى كبرا وعتوا فيتحفظون عليهم ويحيطون بهم وَما ذلك الكبر والطغيان منهم بعد ما استعاذوا الا أَنَّهُمْ اى الجن قد ظَنُّوا او زعموا كَما ظَنَنْتُمْ وزعمتم ايها الناس الموسومون بالجهل والنسيان المنسوبون الى الكفر والطغيان أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ القادر المقتدر على الإعادة والإبداء مطلقا أَحَداً من جنس الانس والجن حتى يستوفى عليه حسابه وجزاءه لذلك يجترءون ويزيدون في الارهاق والطغيان سيما بعد الاستعاذة والالتجاء وَأَنَّا قد كنا قبل نزول القرآن لَمَسْنَا السَّماءَ اى طلبنا البلوغ إليها وأردنا الصعود نحوها لنسترق من اخبار الملائكة ونخبر بها الكهنة ونوقع الفتنة في العالم السفلى فَوَجَدْناها اى السماء اليوم عند بعثة هذا النبي المؤيد المبعوث الى كافة البرية من الثقلين قد مُلِئَتْ وامتلأت حَرَساً اى حراسا حافظين شَدِيداً قويا على الحفظ والحراسة وَشُهُباً جمع شهاب وهو المضيء المتراكم من أجزاء النار في الجو نرجم بها ونطرد من حواليها وَبالجملة أَنَّا قد كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها اى من السماء مَقاعِدَ صالحة لِلسَّمْعِ والاستماع فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ بعد نزول القرآن ويقعد في تلك المقاعد يَجِدْ لَهُ وعنده شِهاباً رَصَداً راصدا قاصدا له يرجمه ويمنعه من الاستماع وَأَنَّا اليوم لا نَدْرِي ولا نعلم أَشَرٌّ وفتنة أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ اى بالساكنين عليها بحراسة السماء ومنع اخبارها عنهم أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً يرشدهم ويهديهم الى التوكل والتسليم وتفويض الأمور الى العليم الحكيم بحيث لا يحترزون عما جرى عليهم من قضائه باخبار السماويين بل يفوضون أمورهم كلها الى الله راضين بعموم ما جرى عليهم من القضاء بلا كهانة وتنجيم وَأَنَّا اى نحن المخبرون بالاخبار السماوية قد كنا صنفين مِنَّا الصَّالِحُونَ اى الأبرار المؤمنون والآمنون الأمينون حيث لا يخلطون الاخبار المسموعة بشيء من الأكاذيب وَمِنَّا قوم دُونَ ذلِكَ أدون وانزل ذلك اى لا امانة لهم ولا وثوق بقولهم حتى يؤدوا الاخبار على وجهها بل يوقعون انواع الفتن والمحن بين الناس إذ قد كُنَّا طَرائِقَ اى ذو طرق ومذاهب قِدَداً متفرقة مختلفة لذلك منعنا بأجمعنا عن استراق الاخبار السماوية سيما عند بعثة هذا المؤيد المبعوث وانحصر الأمر بالوحي والإلهام الإلهي على النفوس الزكية القدسية من كلا الجنسين لئلا يختل امر النظام الموضوع على القسط والعدالة وَأَنَّا بعد ما كوشفنا بحقية القرآن وهدايته ورسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم تركنا ما كنا عليه من الضرر والإضرار بعباد الله إذ ظَنَنَّا بل قد علمنا يقينا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ القادر المقتدر على انواع الانتقام كائنين فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ ايضا هَرَباً منه سبحانه الى السماء او الى أى مكان شئنا إذ عموم الأماكن

[سورة الجن (72) : آية 13]

والجهات في جنب قدرته الغالبة سهل يسير بعد ما تعلقت ارادته ببطشنا وانتقامنا وَبالجملة أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى اى القرآن الموضح لطريق التوحيد والعرفان آمَنَّا بِهِ واهتدينا بهدايته فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ ويوقن بوحدانيته فَلا يَخافُ اى فهو لا يخاف بَخْساً نقصا في الجزاء والثواب وَلا رَهَقاً ذلة تذله في الدارين لان من آمن فقد اعتدل ولم يبخس حينئذ حق احد من الخلق ولم يذله بظلم فلذلك هو لا يبخس ولا يظلم وَأَنَّا بعد ما سمعنا الهدى والرشد ما كنا نؤمن ونهتدي جميعا بل مِنَّا الْمُسْلِمُونَ المنقادون لحكم الله وعموم أوامره ونواهيه الواردة في كتابه المسلمون أمورهم كلها اليه سبحانه وَمِنَّا الْقاسِطُونَ الجائرون عنه المائلون عن الهداية القرآنية المنحرفون عن جادة العدالة الإلهية فَمَنْ أَسْلَمَ منا واعتدل وفوض الى الله امره وتوكل عليه فَأُولئِكَ المسلمون المسلمون المتوكلون المفوضون قد تَحَرَّوْا واجتهدوا ففازوا ونالوا رَشَداً وأى رشد رشدا يوقظهم عن سنة الغفلة ويوصلهم الى فضاء الوحدة أَمَّا الْقاسِطُونَ الجائرون الحائرون الضالون التائهون في تيه الطغيان والكفران كانُوا لِجَهَنَّمَ البعد والخذلان وسعير الطرد والحرمان طَباً توقد بهم النار كما توقد بعصاة الانس وطغاتهم. ثم قال سبحانه وَأَنْ اى وان الأمر والشأن انهم اى الجن والانس المجبولين على فطرة التكليف لَوِ اسْتَقامُوا واعتدلوا عَلَى الطَّرِيقَةِ المعهودة التي هي جادة المعرفة والتوحيد لَأَسْقَيْناهُمْ تلطفا لهم وترحما عليهم ماءً محييا لأراضي أجسامهم الميتة بسموم الإمكان وبحموم الأماني والآمال الصاعدة من نيران الطبيعة والشهوات المورثة لهم من الحصة الناسوتية غَدَقاً وافرا كثيرا الى حيث يجعل لهم روضة من رياض الجنة وانما فعلنا معهم ذلك لِنَفْتِنَهُمْ ونختبرهم فِيهِ اى في التنعم والترفه كيف يشكرون لنعمنا وكيف يواظبون على أداء حقوق كرمنا وبالجملة من شكر فإنما يشكر لنفسه ويزيد النعم عليها وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وينصرف عن طاعته وعبادته ويكفر بنعمه ولم يواظب على أداء حقوق كرمه يَسْلُكْهُ يدخله عَذاباً صَعَداً يصعد عليه ويعلو فوقه وبالجملة عذابا شاقا شديدا قاهرا مشرفا عليه غالبا. ثم قال سبحانه على سبيل التوصية والتعليم لخلص عباده المؤمنين والتوبيخ والتعريض للمشركين وَاعلموا ايها المكلفون من الثقلين أَنَّ الْمَساجِدَ المبنية للميل والتقرب نحو الحق مختصة لِلَّهِ خاصة خالصة فَلا تَدْعُوا ولا تعبدوا فيها الا الله ولا تنسبوا الى ما سواه مطلقا وبالجملة لا تشركوا فيها مَعَ اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الشريك والولد أَحَداً من مظاهره ومربوباته وَبعد ما علمتم هذا بتعليم الله إياكم اعلموا أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ اى النبي المؤيد من عنده سبحانه بأنواع العناية والكرامة المستلزمة لانواع العبادة والإطاعة في المسجد الحرام المعد لعبادة العليم العلام القدوس السلام يَدْعُوهُ ويعبده ويتذلل نحوه قد كادُوا وقاربوا اى مشركوا الجن والانس يَكُونُونَ عَلَيْهِ ويزدحمون حوله متعجبين لِبَداً متراكمين كلبدة الأسد وهو صلّى الله عليه وسلّم مستغرق في صلاته مع ربه بلا التفات إليهم الى ان اوحى اليه من قبل ربه بما هم عليه من التعجب والتحير من امره فقيل له من قبل الحق قُلْ يا أكمل الرسل للمزدحمين حولك المتعجبين من أمرك وشأنك إِنَّما أَدْعُوا واعبد وأتوجه الى رَبِّي الذي رباني على فطرة المعرفة والإيقان وأرسلني لان ادعو عموم المكلفين الى توحيده وَلا أُشْرِكُ بِهِ ومعه أَحَداً

[سورة الجن (72) : آية 21]

من مظاهره ومصنوعاته فان قالوا استهزاء متمسخرا هل لك ان تشاركنا معك في عبادتك وخضوعك قُلْ لهم يا أكمل الرسل إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ من تلقاء نفسي لا ضَرًّا اضركم به واعذبكم ان أردت اضراركم وتعذيبكم وَلا رَشَداً أرشدكم به وأهديكم ان أردت هدايتكم ورشادكم بل لا املك لنفسي لا ضرا ولا نفعا فكيف لكم بل ما اتبع انا الا ما يوحى الى والأمر كله بيد الله العليم الحكيم فان قالوا ما فائدة عبادتك وتخصيصها له قُلْ لهم يا أكمل الرسل لم لم اعبد ربي ولم لم اخصصه بالعبادة والإطاعة إِنِّي اعلم منه سبحانه بتعليمه إياي انه لَنْ يُجِيرَنِي ولن يحفظني مِنَ عذاب اللَّهِ المنتقم الغيور أَحَدٌ من مظاهره ومصنوعاته لو أراد عذابي وتعلقت مشيته بمقتى وَبالجملة لَنْ أَجِدَ ابدا مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ملجأ وملاذا ينقذني من بطشه وعذابه لو مضت مشيته عليه فكيف لا أتوجه نحوه ولا أتضرع اليه وبالجملة لا املك لكم ولا لنفسي لا ضرا ولا نفعا إِلَّا بَلاغاً وتبليغا مِنَ اللَّهِ العليم الحكيم ما اوحى الى على وجهه إليكم وَلا املك سوى أداء رِسالاتِهِ التي قد أرسلني وأمرني بها ومالي سوى الإبلاغ والتبليغ باذنه وَمن جملة ما اوحى الى انه مَنْ يَعْصِ اللَّهَ المنتقم الغيور ويعرض عنه وعن عبادته من عباده وَلم يصدق رَسُولَهُ المستخلف منه العالم بامره فَإِنَّ لَهُ اى قد حق وثبت له نارَ جَهَنَّمَ القطيعة والحرمان في النشأة الاخرى وبالجملة قد صار العاصون المعرضون خالِدِينَ مخلدين فِيها أَبَداً لا نجاة لهم منها أصلا وهم قد كانوا في النشأة الدنيا ما زالوا عن عتوهم وعصيانهم لله مستظهرين بما معهم من الجاه والثروة وكثرة الأموال والأولاد مستكبرين على ضعفاء عباد الله متفوقين عليهم كبرا وخيلاء حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ في النشأة الاخرى جزاء ما ارتكبوا في النشأة الاولى فَسَيَعْلَمُونَ حينئذ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أعدد النبي واتباعه أم المشركين ومن معهم وفي زمرتهم وبعد ما سمع المشركون كريمة إذا رأوا ما يوعدون قالوا على سبيل التهكم والإنكار والاستبعاد متى يكون فقيل من قبل الحق قُلْ يا أكمل الرسل انه كائن لا محالة لكن وقته مفوض الى علم الله بحيث إِنْ أَدْرِي وما اعلم انا أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ اى وقوعه وقيامه أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ولوقوعه رَبِّي أَمَداً بعيدا وأجلا طويلا إذ هو من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها إذ هو عالِمُ الْغَيْبِ بذاته وبخصوصه فَلا يُظْهِرُ ولا يطلع عَلى غَيْبِهِ المختص به علمه سيما امر البعث أَحَداً من خلقه إِلَّا ان يطلع على بعض غيوبه حسب حكمته مَنِ ارْتَضى ورضى مِنْ رَسُولٍ مأمون على غيبه له قابلية الخلافة والنيابة عنه سبحانه فَإِنَّهُ سبحانه يطلعه على ما غيبه عنه على سبيل الوحى والإلهام حين يَسْلُكُ ويوكل سبحانه لحفظه وحراسته مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ اى بين يدي الرسول المرتضى وَكذا مِنْ خَلْفِهِ اى من جميع جوانبه وجهاته رَصَداً حرسا من الملائكة يحرسونه ويحفظونه من استراق الشياطين واختطافهم وتخبيطهم وتخليطهم وانما فعل كذلك عند اطلاعه ووحيه الى رسوله لِيَعْلَمَ الرسول الموحى اليه أَنْ اى انه قَدْ أَبْلَغُوا يعنى حوامل الوحى مطلقا رِسالاتِ رَبِّهِمْ على وجهها مصونة محروسة عن اختطاف الشياطين وتخليطاتهم المغيرة لها وَالحال انه سبحانه قد أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ اى لدى الرسل والملائكة جميعا علما حضوريا بل وَقد أَحْصى سبحانه كُلَّ شَيْءٍ دخل في خيطة الحضور والشهود عَدَداً بحيث لا يشذ عن حيطة حضرة علمه وإحصائه شيء مما لمع عليه برق الوجود

خاتمة سورة الجن

خاتمة سورة الجن عليك ايها المحقق المنكشف باحاطة العلم الإلهي ولوح قضائه وقلم تصويره وتخطيطه ان تعتقد وتذعن ان عموم ما جرى في ملكه وملكوته انما هو بمقتضى امره ووحيه ونفوذ قضائه ومضاء حكمه على حسب الحضور بحيث يجتمع ويتحدد عند حضوره الأزل والأبد والاولى والاخرى والغيب والشهادة إذ لا انقضاء دونه ولا انصرام عنده ولا تجدد لديه ولا انخرام بالنسبة الى علمه وحضوره بل الكل بالنسبة الى قدرته وارادته سواء بلا تفاوت وتخالف جعلنا الله من المنكشفين بحضور الحق وشهوده مع كل شيء ودونه بمنه وجوده [سورة المزمل] فاتحة سورة المزمل لا يخفى على ذوى الألباب والآداب من المتحملين لأمانة التوحيد الإلهي ان من تمكن على تلك المرتبة العلية وتقرر في تلك المكانة السنية لا بد ان لا يشغله شيء سواها ولا يلهيه امل دونها سيما المتحملين معها أعباء الرسالة واردية النبوة المشتملة على دعوة عموم المكلفين الى سبيل الوحدة الذاتية وإرشادهم نحوها بالتصبر على اذياتهم وتحمل المتاعب والمشاق في تبليغ الدعوة إليهم وتكميلهم فلا بد للنبي ان يبذل كمال وسعه وطاقته في اجراء احكام الشرع وإعلاء كلمة التوحيد بلا تكاسل وتغافل عنه لمحة وطرفة كما نبه سبحانه على حبيبه صلّى الله عليه وسلم مناديا له على وجه الخطاب المنبئ عن العتاب بعد التبرك بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بعموم كمالاته على من اختاره لرسالته واصطفاه لخلافته الرَّحْمنِ لعموم عباده بإرسال الرسل عليهم ووضع الشرع والدين القويم فيما بينهم الرَّحِيمِ لخواصهم يوصلهم الى سرائر التكاليف الواقعة في طريق التوحيد واليقين [الآيات] يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ اى المتزمل المتغطى والمتلفف بثوبه وقطيفته نائما او مرتعدا عما دهشه من بدء الوحى شأن النبوة والرسالة ما هو هذا ايها المختار شأن النبوة والرسالة قُمِ اللَّيْلَ وداوم على التهجد فيه إِلَّا قَلِيلًا منه للاستراحة والنوم تقوية وتقويما لمركب بدنك وتنشيطا لجوارحك وآلاتك على العبادة يعنى نِصْفَهُ اى قم نصف الليل أَوِ انْقُصْ مِنْهُ اى من النصف قَلِيلًا ليقرب الثلث أَوْ زِدْ عَلَيْهِ اى على النصف حتى يقرب الثلثين وانما خير صلّى الله عليه وسلّم بين هذه الثلاثة لأنه فرض أولا قيام الليل كله ثم لما تحرجوا ومرضوا او شق الأمر عليهم ارحمهم الله فخيرهم في هذه الأوقات المذكورة بناء على تفاوت امزجة الناس في عروض الكلال بالسهر وبعد ما قمت في خلاله تهجد فيه ليكون نافلة لك وَرَتِّلِ في تهجداتك الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا اى بين حروفه وقدرها في مخارجها حيث لا يشتبه على السامع العارف بأساليب الكلام ومنطوقات الألفاظ معانيها وبالجملة اقرأها على تؤدة تامة وطمأنينة كاملة بعزيمة خالصة وارادة صادقة الى حيث تتأثر من ألفاظ القرآن فطرتك وفطنتك التي هي خلاصة وجودك وزبدة أركانك وأس طبيعتك إذ بها توسلك ووصولك الى مقصد التوحيد واليقين وبالجملة إِنَّا من مقام عظيم جودنا سَنُلْقِي عَلَيْكَ يا أكمل الرسل قَوْلًا جزلا سهلا خفيفا على اللسان نظم ألفاظه وكلماته ثَقِيلًا عظيما على القلب رموزه وإشاراته والاتصاف بما فيه والامتثال لمقتضيات أوامره ونواهيه والاطلاع على سرائر الاحكام الموردة فيه والاحاطة بقوادمه وخوافيه وبالجملة

[سورة المزمل (73) : آية 6]

من تأمل فيه على وجه التدبر والتدرب فقد غرق في تيار بحاره الزخار وتخصيص الأمر بالليل وترتيل القرآن فيه حيث إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ اى القراءة التي تنشأ من النفس في جوف الليل حين خلو القلب عن جميع الاشغال والملاهي هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً تأثيرا ووقعا في القلب وتنبيها وتنبها له وان كانت أثقل للنفس واتعب للبدن وَأَقْوَمُ قِيلًا اى اعدل الأقوال بالنسبة الى القلب وارسخها فيه وأقواها أثرا وانتباها بخلاف ما في النهار إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ الذي هو وقت الاشغال وأوان الانتقال وزمان الالتفات نحو المهمات ومحل انواع الملمات والواقعات لذلك عرض لك فيه سَبْحاً طَوِيلًا تقلبا وتصرفا ممتدا شاغلا لأوقاتك مشوشا لعموم حالاتك وبالجملة الفراغ الذي يحصل بالليل لا يحصل في النهار فعليك ان تجتهد في التهجد وتقرأ القرآن فيه سيما عند الفجر لان قرآن الفجر كان شهودا وَبالجملة اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ودم على تسبيحه وتقديسه دائما في عموم أوقاتك وحالاتك على وجه لا تشغلنك عن ذكره مهماتك وَتَبَتَّلْ اى تجرد وانقطع عن عموم المهام إِلَيْهِ سبحانه تَبْتِيلًا بليغا وتجريدا كاملا بحيث لا يخطر ببالك الالتفات لحالك فكيف لحال غيرك وكيف لا تنقطع اليه ولا تتجرد نحوه مع انه هو سبحانه رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ اى مربى جنس المشارق والمغارب التي هي ذرائر الكائنات باعتبار ظهور شمس الحق منها وشروقها عليها وباعتبار بطونها وخفاءها فيها إذ لا إِلهَ ولا موجود في الوجود إِلَّا هُوَ ولا شيء في الشهود سواه فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا سيما بعد ما لم يوجد في الوجود سواه أصيلا وَبعد ما اتخذته وكيلا وجعلته حسيبا وكفيلا اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ اى المشركون المسرفون من الخرافات والجزافات التي لا تليق بشأنك وَان شق عليك الصبر والتحمل اهْجُرْهُمْ وانصرف عنهم هَجْراً جَمِيلًا بحيث تكون أنت حين الانصراف عنهم بشاشا بساما بلا التفات منك الى هذياناتهم الباطلة وبلا مبالاة بهم وبكلامهم وتوكل على الله وفوض امر الانتقام منهم اليه فانه يكفيك مؤنة شرورهم واستهزائهم. ثم قال سبحانه على سبيل التسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلم وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ يعنى لا تلتفت يا أكمل الرسل الى ما قد بالغوا به في قدحك وطعنك بل دعني معهم وفوض امر الانتقام منهم الى فانى انتقم عنهم من قبلك وادفع أذاهم عنك وأغلبك عليهم وان كانوا أُولِي النَّعْمَةِ وذوى الثروة والسيادة واصحاب الترفه والوجاهة يريد صناديد قريش خذلهم الله وَبالجملة لا تستعجل في الانتقام منهم بل مَهِّلْهُمْ امهالا قَلِيلًا او زمانا قليلا ولا تقنط عن مكرنا إياهم إِنَّ لَدَيْنا من المعد لهم أنواعا من العذاب أَنْكالًا ضيقا ثقالا لتثاقلهم وعدم تحملهم وتصبرهم بمتاعب التكاليف الإلهية ومشاق الطاعات والعبادات المأمور بها من قبله سبحانه وَجَحِيماً عظيما بدل ما يتلذذون بنيران الشهوات ويظلمون الناس بأنواع الغضب والطغيان وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ ينشب بالحلق ولا يسمن ولا يغنى من جوع بدل ما يأكلون من السحت والرشى والرباء واموال اليتامى ظلما وعدوانا وَعَذاباً أَلِيماً لا عذاب أشد ايلاما منه وهو حرمانهم عن لقاء الله وخذلانهم عن ما فات عنهم من التحقق والوصول بكنف حفظه وجواره اذكر لهم يا أكمل الرسل وان لم يصدقوا يَوْمَ تَرْجُفُ تضطرب وتتزلزل الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ من شدة الحركة والاضطراب قد اندكت وتناثرت فصارت كَثِيباً رملا مجتمعا مَهِيلًا منثورا تذروه الرياح حيث شاءت كسائر الرمال الآن في البواري والبوادي وكيف لا نأخذ المشركين المجرمين

[سورة المزمل (73) : آية 15]

بظلمهم يومئذ ولا نعذبهم بأنواع العذاب إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يا اهل مكة بعد ما انحرفتم عن جادة العدالة على مقتضى سنتنا القديمة في الأمم السالفة رَسُولًا ناشئا منكم يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلم شاهِداً يشهد عَلَيْكُمْ يوم القيامة بالاجابة والامتناع بعد ما أمرنا له وأوحينا اليه ان يدعوكم الى الايمان ويأمركم بالطاعات والإحسان كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي رَسُولًا يعنى موسى الكليم عليه السلام ليدعوه الى الايمان ويأمره بلوازمه وبعد ما دعاه وامره بما امر به الحق وبالغ في دعوته فَعَصى وتكبر فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ وعتا عليه واستكبر عن دعوته فَأَخَذْناهُ اى فرعون وقومه أَخْذاً وَبِيلًا ثقيلا شديدا الى حيث قد اغرقناه وجنوده في اليم وأورثنا ارضه ودياره وأمواله لموسى ومن معه هذا أخذنا إياهم في النشأة الاولى وفي الاخرى بأضعافها وآلافها فأنتم ايضا يا اهل مكة مثل فرعون عصيتم رسولكم الذي أرسل إليكم يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلّم فنأخذكم مثل ما أخذنا آل فرعون في الدنيا حيث نجعلكم صاغرين مهانين وفي الآخرة مسجونين معذبين بعذاب أليم مخلدين في النار ابد الآبدين. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع تهويلا عليهم وتعريضا فَكَيْفَ تَتَّقُونَ وتحفظون انفسكم عن عذاب الله ايها المنهمكون في انواع الغفلات والجهالات مع انكم إِنْ كَفَرْتُمْ وبقيتم على الكفر الى ان متم عليه مع انكم ستستقبلون يَوْماً وأى يوم يوما يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً من غاية طوله وشدة أهواله واحزانه هذا على سبيل التمثيل والتشبيه بحسب متفاهم العرف والا فلا يكتنه طول ذلك اليوم وهوله وشدته سيما بالوصف والبيان ومن جملة العلامات الدالة على شدة أهواله واحزانه انه السَّماءُ المشيدة المحكمة مُنْفَطِرٌ بِهِ اى متشققة متضعضعة منخرمة بحلول ذلك اليوم ووقوعه بمقتضى قهر الله وجلاله وكيف لا يكون كذلك مع انه قد وعد الله القادر المقتدر على عموم ما دخل في حيطة حضرة علمه وارادته بوقوعه ولا شك انه قد كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا دائما وامره مقضيا ابدا وحكمه مبرما ازلا وقضاؤه نافذا ماضيا سرمدا وبالجملة إِنَّ هذِهِ المقالات الدالة على انجاز وعد الله انما هي تَذْكِرَةٌ وعظة للمتعظين المتذكرين من ارباب العناية والتوفيق فَمَنْ شاءَ ان يتعظ بها اتَّخَذَ وأخذ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بعد ما وفقه الحق وأعانه عليه بالخروج عن لوازم الإمكان وهداه للعروج الى معارج الوجوب مترقيا من درجة الى درجة ومقام الى مقام الى ان وصل الى مبدأ طريق الفناء ثم ترقى منه ايضا من حالة الى حالة الى ان فنى عن الفناء ايضا ثم بعد ذلك صار ما صار وليس وراء الله مرمى ومنتهى وبعد ما امر سبحانه بقيام الليل على الوجه المذكور قد حثه عليه ورغبه اليه على وجه المبالغة والتأكيد بان علله سبحانه بعلمه إياه على أى وجه وقع فقال مخاطبا إِنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل يَعْلَمُ بعلمه الحضوري أَنَّكَ تَقُومُ الى التهجد في زمان أَدْنى واقل مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وأعلى واكثر من نصفه تارة وَتارة اخرى تقوم ادنى من نِصْفَهُ وَتارة اخرى تقوم ادنى من ثُلُثَهُ واكثر من ربعه وهذا ادنى تاراتك واعلها ما هو ادنى من ثلثى الليل إذ هي اقرب الى قيام الكل الذي قد فرض أولا ثم الثانية ثم الثالثة وَطائِفَةٌ يعنى يعلم سبحانه ايضا قيام طائفة مِنْ المؤمنين الَّذِينَ يقومون مَعَكَ ويوافقون لك في تهجدك وقيامك في خلال الليل يعنى سبحانه محيط بهذه الأوقات الثلاثة الواقعة منك ومنهم بخلاف علمكم بها فانه لا يقدر بتعينها على وجهها وَبالجملة اللَّهُ العليم الحكيم الذي يُقَدِّرُ بمقتضى حضرة علمه وارادته اللَّيْلَ وَالنَّهارَ

على وجه التجدد والتتابع والاختلاف طولا وقصرا وإيلاج بعض أجزاء كل منهما في الآخر وإخراجه منه وضبط اجزائهما وساعاتهما وآناتهما انما هي بعلمه لا يعلم غيره من المظاهر والمصنوعات وبالجملة هو سبحانه عَلِمَ بعلمه المحيط منكم ومن استعداداتكم إِنَّ اى انه لَنْ تُحْصُوهُ يعنى ليس في وسعكم وطاقتكم تقدير الأوقات وضبط الأحيان والساعات وإحصاء الآنات الواقعة في الليل والنهار وقيامكم في جميع الليل او بعضه على وجه التعيين والتخصيص وبعد ما ظهر عنده سبحانه عدم وسعكم وطاقتكم فَتابَ عَلَيْكُمْ اى خفف سبحانه عما ألزمكم وأزال عنكم تعبكم بالرخصة في ترك القيام المقدر المعين على الوجوه المذكورة إذ لا يسعكم ضبطها وبعد ما رخصكم سبحانه وخفف عنكم تفضلا عليكم وامتنانا قوموا في خلال الليل مقدار ما ييسر الله لكم ويوفقكم عليه ولو مقدار حلبة غنم على ما ورد في الحديث صلوات الله على قائله فَاقْرَؤُا اى صلوا تهجدكم بقراءة ما تَيَسَّرَ لكم مِنَ الْقُرْآنِ المقرون بصلاتكم قيل كان التهجد واجبا على التخيير المذكور ثم رخص بترك التقدير والتعيين ثم نسخ هذا ايضا بالصلاة الخمس المفروضة المقدرة في الأوقات الخمسة وانما نسخه إذ عَلِمَ سبحانه بمقتضى حضرة علمه وحكمته إِنَّ اى انه سَيَكُونُ بعض مِنْكُمْ مَرْضى من السهر المفرط إذ الأبدان متفاوتة في تحمل المتاعب والمشاق سيما ترك النوم المعد للاسترخاء واستراحة البدن في الليل وَايضا قوم آخَرُونَ منكم يَضْرِبُونَ ويسافرون فِي الْأَرْضِ سفرا مباحا حيث يَبْتَغُونَ ويطلبون بسفرهم مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ومن سعة جوده وكرمه مزيد رزق صورى او معنوي او طلب علم رسمي او حقيقى او صلة رحم او زيارة صديق الى غير ذلك من الاسفار المشروعة المباحة فيتحرجون بقيام الليل والتهجد فيه وَآخَرُونَ ايضا يُقاتِلُونَ لأعداء الله فِي سَبِيلِ اللَّهِ ترويجا لدينه وإعلاء لكلمة توحيده فإنهم لو تهجدوا لضعفوا البتة فشق عليهم حينئذ امر القتال وبعد ما أزال سبحانه عنكم حرجكم وتعبكم حسب حكمته المتقنة البالغة فعليكم ان لا تتركوا التهجد رأسا ولا تنسوه جملة بل قوموا في خلال الليل للتهجد ان استطعتم فَاقْرَؤُا في صلاته ما تَيَسَّرَ لكم مِنْهُ اى من القرآن وَبالجملة أَقِيمُوا الصَّلاةَ المفروضة وواظبوا على قيامها وأدائها حق المواظبة في الأوقات المخصوصة وراعوا أركانها وأبعاضها وهيآتها على وجوهها وبالجملة أدوها على وجه يرضى عنكم مولاكم ولا تهاونوا عنها ولا تقصروا فيها واعلموا ايها المؤمنون ان الفارق بين الايمان والكفر والهداية والضلال انما هي الصلاة التي هي أقوى اعمدة الدين وأقومها وَايضا آتُوا الزَّكاةَ المفروضة عليكم على سبيل الوجوب تزكية لأنفسكم عن الشح والإمساك وأموالكم عن الفضلات وتمرينا لأنفسكم على الانفاق وفعل الخيرات وَبعد أداء الواجب من الزكاة أَقْرِضُوا اللَّهَ القادر المقتدر على وجوه الإنعامات بإعطاء فواضل أموالكم على سبيل الصدقات للفقراء والمساكين واصرفوها على بناء المساجد والرباطات وغير ذلك من الخيرات والمبرات المتعلقة بمصالح المؤمنين المسلمين من المنافع الحاصلة بالمال قَرْضاً حَسَناً بلا شوب المن والأذى والسمعة والرياء والعجب وانواع الهوى والأهواء وَاعلموا ايها المؤمنون ان ما تُقَدِّمُوا وتؤخروا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ موجب لأجر مستلزم لثواب سواء كان ماليا او بدنيا قبل حلول الأجل وهجوم الموت تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ المتفضل المنعم هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وأكرم محلا وأعز درجة ومنزلا

خاتمة سورة المزمل

من الذي تدخرونه او تؤخرونه الى حين الوصية وقت حلول الأجل المقدر وَبالجملة قد جرى عليكم في سالف ازمانكم ما جرى من ترك الاستغفار والانابة وعدم الندامة على ما صدر عنكم من البغي والضلال واصناف الجرائم والمعاصي المستتبعة لانواع العذاب والنكال اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ المتفضل المكرم لعموم ما صدر عنكم واشتغلوا بامتثال أوامره في بقية اعماركم تلافيا لما مضى إِنَّ اللَّهَ المطلع على انابتكم ورجوعكم وعلى نياتكم فيها غَفُورٌ يغفر زلتكم السابقة الماضية ايضا رَحِيمٌ يقبل منكم توبتكم اللاحقة لها التي تأتون بها الآن بمنه وجوده خاتمة سورة المزمل عليك ايها السالك المجاهد لسلوك طريق التوحيد والقاصد المجتهد نحو مقصد الفناء ان تبذل وسعك وطاقتك بل روحك ومهجتك في سبيله فعليك ان تجهد فيه ببدنك ومالك وبجميع احوالك واطوارك وعليك ان تصفى ظاهرك وباطنك وتخلى قلبك وسرك عن شوب مطلق الشواغل العائقة عن التوجه التام والالتفات الخالص والعزيمة الصادقة الصافية وان تلازم العزلة وتداوم الخلوة وتواظب على الاتصاف بالاطوار والأخلاق الموروثة لك من النبي المختار والمأثورة عنه من الآثار وعلى امتثال ما في كتاب الله من الأوامر والنواهي وعموم الاحكام الموردة فيه لتصفية الخاطر عن الميل الى ما سوى الحق من الأغيار الساقطة عن درجة الاعتبار لتكون أنت من الأبرار الأخيار الموسومين بأولى العبرة والأبصار كي تفوز أنت كما فازوا من الرموز والأسرار وإياك إياك ومصاحبة الأشرار المغترين بلذات زخرف الدنيا الغدارة وبشهوات عيش الحياة المستعارة المستلزمة لانواع الخسار والبوار. جعلنا الله الغفور الغفار من ذوى العبرة والاستبصار بفضله وطوله [سورة المدثر] فاتحة سورة المدثر لا يخفى على ارباب الكشف والشهود من المتجردين عن جلباب عالم الناسوت الرافلين في حلل عالم اللاهوت انه من خرج عن بقعة الإمكان مهاجرا الى الله بعد ما جذبته العناية والتوفيق من جانبه سبحانه فحين خروجه وتفرقه عن مألوفات عالم الطبيعة وظهور طلائع سلطان الوحدة الذاتية واستيلائه بنظر شهوده قد تطرأ عليه حينئذ حالات عجيبة وصور بديعة الى حيث ارعدته وأزعجته الى الفرار والالتجاء نحو مألوفات الطبيعة والى التغطى بملابسها وملاحفها فصار فيها مترددا متلونا قلقا حائرا هائما الى ان تمكن في فطرة الوحدة وتمرن عليها بلا خوف ورعدة ان أدركته العناية الإلهية وشملته الجذبة الاحدية هكذا جرى على نبينا صلّى الله عليه وسلّم في أوائل شهوده وانكشافه إذ كان هو صلّى الله عليه وسلّم يوما من الأيام متوجها بحراء الفناء ومتخلصا عن لوازم عالم الناسوت بالمرة حتى ظهرت ولاحت عليه في تلك الحالة علامات عالم اللاهوت من وراء سرادقات عالم الجبروت فنودي حينئذ من قبل فناء الفناء ومن وراء عالم العماء نداء عجيبا وسمع صداء غريبا مهيبا بحيث لم يسمع مثله سمع سره صلّى الله عليه وسلّم قط وقد كان صلى الله عليه وسلّم حينئذ في عالم التلون فنظر بعين شهوده يمنة ويسرة فلم ير شيأ فنظر نحو ذلك العالم فرأى ما رأى وانكشف بما انكشف فرعب رعبا شديدا وارتعد ارتعادا غريبا. ثم رجع هاربا مرعوبا مغلوبا قلقا حائرا هائما حتى وصل الى خديجة الطبيعة وتكلم معها بكلمة دثّرينى بملابسك وجلبابك فدثرته الطبيعة مرة اخرى

الآيات

فأدركه الخطاب الإلهي المشعر بنوع من العتاب فأدبه سبحانه وأخرجه من سجن الطبيعة وملابس الهيولى بالكلية حيث قال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي ربي حبيبه محمدا صلّى الله عليه وسلّم على فطرة المعرفة والتوحيد الرَّحْمنِ عليه حيث أخرجه عن مضيق الإمكان المستلزم لانواع التخمين والتقليد الرَّحِيمِ عليه يوصله الى سماء التجريد ويمكنه الى فضاء التفريد [الآيات] يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ المتدثر المتغطى بملابس الطبيعة وثياب الإمكان المورثة لانواع الخيبة والخسران واصناف الحرمان والخذلان الى متى كنت فيها مقيما قُمْ من عالم الطبيعة واخرج من مضيق بقعة الإمكان وسجن عالم الناسوت سيما بعد انكشافك بطلائع فضاء عالم اللاهوت وبعد ما خلصت من قيود الطبيعة وأغلال الهيولى فَأَنْذِرْ منها عموم بنى نوعك وخوف المحبوسين في سجن الإمكان المقيدين بسلاسل الزمان وأغلال المكان من دركات النيران وعن اودية الضلالات والجهالات المترتبة على الأوهام والخيالات الباطلة الموجبة لانواع الحرمان والخسران في النشأة الاولى والاخرى وَخصص يا أكمل الرسل رَبَّكَ الذي رباك على فطرة المعرفة والإيقان بأنواع التبجيل والتعظيم فَكَبِّرْ ذاته تكبيرا كاملا الى حيث لا يخطر ببالك معه شيء في الوجود إذ هو المتفرد المتعزز برداء العظمة والكبرياء لا شيء سواه ولا اله الا هو وَبعد ما انكشفت بوحدة ربك وكبرته تكبيرا لائقا بشأنه ثِيابَكَ التي هي ملابس بشريتك وملاحف هويتك فَطَهِّرْ أوساخ الإمكان واقذار الطبيعة وإكدار الهيولى فان طهارتك عنها واجبة عليك سيما عند ميلك الى مقصد الوحدة وَالرُّجْزَ اى الرجس العارض لبشريتك من التقليدات المورثة والتخمينات المستحدثة من الآراء الباطلة والأهواء الفاسدة المكدرة لصفاء مشرب التوحيد واليقين من الأخلاق الردية والملكات الغير المرضية الناشئة من الشهوية والغضبية المترتبة على القوى البهيمية الى غير ذلك من القبائح الصورية والمعنوية فَاهْجُرْ اى جانب وافترق ليمكن لك التخلق بأخلاق الله والاتصاف بأوصافه ومن جملة الأخلاق المذمومة بل من معظمها المنة على الله بالطاعة وفعل الخيرات وعلى عباده بالتصدق والانفاق عليهم وَبعد ما سمعت ما سمعت لا تَمْنُنْ على الله مباهيا بطاعتك وعلى عباده تفوقا عليهم وترفعا تَسْتَكْثِرُ وتستجلب نعم الله على نفسك وإحسانه عليك وامتنانه لك بما لا مزيد عليه او المعنى لا تمنن تستكثر اى لا تعط أحدا شيأ على نية ان تستكثر وتستعوض منه بدلا مما أعطيته على مقتضى القراءتين وَبالجملة لِرَبِّكَ الذي رباك على الخلق العظيم فَاصْبِرْ على مشاق التكاليف ومتاعب الطاعات والعبادات وعلى اذيات المشركين حين تبليغ الدعوة لهم وإيصال الوحى إليهم وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت من الوصايا امتثل بها واتصف بمقتضاها اتقاء عن اهوال يوم الجزاء وافزاعها فَإِذا نُقِرَ ونفخ أولا فِي النَّاقُورِ اى الصور المصور لتصويت الأموات ليبعثوا من قبورهم احياء كما كانوا. ثم نفخ ثانيا ليحشروا ويحاسبوا بين يدي الله ثم يجازوا حسب ما يحاسبوا ان خيرا فخير وان شرا فشر فَذلِكَ اى وقت النقر الثاني للحشر والوقوف بين يدي الله يَوْمَئِذٍ اى يوم القيامة يَوْمٌ عَسِيرٌ ووقت صعب وحين مهيب سيما عَلَى الْكافِرِينَ إذ قد عسر عليهم حينئذ الأمر واشتد الهول وتشتتت أحوالهم واضطربت قلوبهم وبالجملة غَيْرُ يَسِيرٍ عليهم حسابهم لذلك قد عسر عليهم وبعد ما تحققت وانكشفت يا أكمل الرسل بقيام يوم القيامة ووقوعها وبتنقيد الأعمال فيها والجزاء عليها لا تستعجل بانتقام المشركين المسرفين ولا تعجل عليهم بل ذَرْنِي واتركني يا أكمل الرسل

[سورة المدثر (74) : آية 12]

وَمَنْ خَلَقْتُ اى مع شخص قد خلقته وَحِيداً فريدا من اهل عصره مفروزا منهم بكثرة الأموال والأولاد وبالجاه والثروة والسيادة والرياسة الى حيث لقب بين قومه بريحانة قريش يعنى وليد بن المغيرة وَجَعَلْتُ لَهُ توسيعا عليه افتتانا له وابتلاء مالًا مَمْدُوداً كثيرا وافرا متزايدا يوما فيوما بالتجارة والنتاج والزراعة وغير ذلك من صور الأرباح وَبَنِينَ شُهُوداً حضورا معه دائما لا ينفصلون عنه زمانا لاستغنائهم عن التجارة والحراثة وسائر الأعمال والمصالح لكثرة خدمهم وحشمهم بحيث لا احتياج في تهيئة الأسباب الى ترددهم بأنفسهم لذلك يحضرون معه في عموم المحافل والمجالس والأندية تكميلا لثروته ووجاهته وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً اى قد جعلت له بسطة واستيلاء بحيث يتحسر من حاله جميع بطون العرب وافخاذه ومع تلك الوجاهة العظمى والكرامة الكبرى الموهوبة له من لدنى لم يشكر لى ولم يرجع الى قط ثُمَّ يَطْمَعُ ويرجو منى أَنْ أَزِيدَ على ما آتيته وأعطيته من النعم العظام مع انه مصر على الكفر والكفران وانواع الفسوق والعصيان كَلَّا اى كيف أزيد عليه مع ان كفرانه وطغيانه يوجب زوال ما اعطى له وكيف لا يوجبه إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا الدالة على كمال عظمتنا واقتدارنا على انواع الانعام والانتقام عَنِيداً معاندا منكرا وعناده هذا امارة زوال ماله وثروته وجاهه وبالجملة سَأُرْهِقُهُ اى سأغشيه وأكلفه بالعنف في النشأة الاخرى صَعُوداً هي عقبة شاقة المصعد والمهوى فاكلفه بالزجر التام على الصعود والهبوط دائما بحيث لا نجاة له منها ابدا. وعنه عليه السلام الصعود جبل من نار يصعد فيه اهل النار سبعين خريفا ثم يهوى فيه كذلك ابدا وهو مثل لما يلقى من الشدائد وكيف لا أكلفه بصعود الصعود وهبوطه إِنَّهُ من شدة شكيمته وخباثة طينته قد فَكَّرَ في آيات القرآن على وجه التدبر فلم يجد فيه قدحا وطعنا وَبعد ما لم يجد فيه مطعنا قَدَّرَ في نفسه بمقتضى خباثته ما يتفوه به ويقول فيه على سبيل القدح والطعن. ثم قال سبحانه على سبيل التعجب من افكه وتقديره فَقُتِلَ اى لعن وطرد هذا الطاغي الباغي المتناهي في البغي والطغيان كَيْفَ قَدَّرَ للقرآن قدحا مع انه منزه عن القدح مطلقا ثُمَّ قُتِلَ وطرد ذلك المعاند الطاغي كَيْفَ قَدَّرَ للقرآن ما هو بعيد عن شأن القرآن بمراحل كرره سبحانه مبالغة في التعجب والاستبعاد ثُمَّ نَظَرَ كرة بعد اولى ومرة بعد اخرى في القرآن ثُمَّ لما لم يجد فيه طعنا مع انه من ارباب اللسان والفصاحة والبيان والبلاغة عَبَسَ اى قطب وجهه وكلح واستكره منه استكراها شديدا وَبَسَرَ اهتم وبالغ في وجدان القدح اهتماما بليغا ومبالغة بليغة فلم يجد وأيس ملوما مخذولا ثُمَّ بعد ما تدبر ذلك مرارا وفكر هكذا تكرارا فلم يجد ما يتمسك به وما يقدح فيه بسببه أَدْبَرَ عن الايمان به وعن تصديقه بعد ما اشرف على الإقبال بالإيمان به وقبوله وَبالجملة ما حمله على الأدبار الا انه قد اسْتَكْبَرَ واستحيا عن اتباعه فَقالَ بعد اللتيا والتي إِنْ هذا اى ما هذا القرآن إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ اى يروى ويتعلم إِنْ هذا وما هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ما هو من الوحى وكلام الله كما ادعاه محمد مفتريا على الله. روى انه مر الوليد بن المغيرة بالنبي عليه السلام وهو يقرأ حم السجدة فسمعه بسمع الرضا متدبرا في أسلوبه ونظمه ثم اتى قومه فقال لقد سمعت من محمد آنفا كلاما والله ما هو من جنس كلام الانس والجن ان له لحلاوة وان عليه لطلاوة وان أعاليه لمثمرة وان اسافله لمغدقة وانه يعلو ولا يعلى عليه ثم خرج فقال قريش والله قد صبأ الوليد ولتصبأن قريش كلهم فقال ابن أخيه ابو جهل انا أكفيكموه فجلس

[سورة المدثر (74) : آية 26]

الى جنبه حزينا فقال الوليد مالي أراك حزينا يا ابن أخي فقال هذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك يزعمون انك زينت كلام محمد لتنال من فضل طعامه فغضب وقال الم تعلم قريش انى أكثرهم مالا وولدا وهل يشبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون لهم فضل ثم قام مع ابى جهل حتى اتى قومه فقال تزعمون ان محمدا مجنون فهل رأيتموه يتجنن قط قالوا اللهم لا ثم قال تزعمون انه شاعر فهل رأيتموه ينطق بالشعر قط قالوا اللهم لا ثم قال تزعمون انه كاهن فهل رأيتموه يتكهن قط قالوا اللهم لا قال تزعمون انه كذاب فهل جربتم عليه شيأ من الكذب قالوا اللهم لا ثم سكت قالت قريش فما هو فتفكر في نفسه وقدر في نحوه ثم قدر فقال ما هو الا ساحر اما رأيتموه يفرق بين المرء واهله وولده ومواليه وما يقوله مفتريا على ربه ليس الا سحر يؤثر فقال تعالى زجرا عليه وجزاء له سَأُصْلِيهِ وادخله سَقَرَ وَما أَدْراكَ وأعلمك يا أكمل الرسل ما سَقَرُ وما شأنها وأمرها ابهمها سبحانه تفخيما وتهويلا وغاية ما يدرك من شأنها انها لا تُبْقِي شيأ يقع فيها بل تمحيه وتهلكه وَمع افنائه وإهلاكه لا تَذَرُ ولا تتركه على هلاكه وفنائه بل يوجده الله بكمال قدرته ثم تهلكه ثم يوجده فتهلكه ابدا كذلك وسرمدا هكذا ومن شأنها ايضا انها لَوَّاحَةٌ مسودة من شدة إحراقها لِلْبَشَرِ اى البشرة التي هي عبارة عن ظاهر الجلد وايضا من شأنها ان قد وكل سبحانه عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ اى من الزبانية الموكلة عليها باذن الله وهم من الملائكة او شبيهة بهم انما اختص هذا العدد لان الأعمال الفاسدة والأفعال القبيحة الموجبة لدخول سقر انما تكتسب بالقوى البهيمية والقوى الطبيعية اما القوى البهيمية فاثنتا عشرة الشهوية والغضبية والحواس الظاهرة والباطنة واما القوى الطبيعية فسبع الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وبالجملة يصور سقر من مقتضيات هذه القوى لذلك يوكل عليها من زواجر الزبانية على عدد مأخذها عدلا منه سبحانه لينزجر كل من القوى بزاجر يناسبها وبعد ما نزلت هذه الآية قال ابو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم يخبر ابن ابى كبشة ان خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم اى الجمع الشجعان أيعجز كل عشرة ان يبطش بواحد منهم وبعد ما قالوا على سبيل التهكم والاستهزاء انزل سبحانه وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ وخزنتها إِلَّا مَلائِكَةً أقوياء قوتهم لا تقاس بقوى البشر بل لا يقاوم جميع من على الأرض من افراد البشر بواحد من الملك في القوة والصولة وَايضا ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ هذه وعددهم هذا إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اختبارا وابتلاء وبسبب افتتان لهم يفتنون بهذا العدد تارة يستقلون وتارة يستبعدون ويتعجبون من مقاومة هؤلاء المعدودين لعموم العباد المستحقين لدخول سقر من الثقلين وبالجملة يستهزؤن بهذا القول ويضحكون منه وانما أنزلنا هذه الآية وخصصنا هذا العدد وهؤلاء المعدودين لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى ليكتسبوا اليقين ويجزموا بنبوة محمد عليه السلام وبصدق القرآن وحقيته وهذا ليس ببدع منا في كتابنا هذا بل قد أنزلنا كذلك في سائر الكتب المنزلة من عندنا وبعد ما وجدوه اى عموم اهل الكتاب موافقا لما في كتبهم تيقنوا البتة بصدق القرآن وبنبوة النبي صلّى الله عليه وسلم وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وتصديقا على ايمانهم وتصديقهم اى يرسخ ايمانهم ويتأكد بتصديق اهل الكتاب كتابهم ونبيهم وَبعد ما استيقنوا واستقاموا على اليقين وتمكنوا فيه لا يَرْتابَ ولا يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ جميعا في حقية هذا الكتاب وهذا النبي المؤيد به وَايضا انما خصصنا هذا العدد في الموكلين على سقر لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وشك في حقية هذا الكتاب

[سورة المدثر (74) : آية 32]

وهذا النبي من اهل النفاق وَالْكافِرُونَ المجاهرون الجاحدون الجازمون في الإنكار والتكذيب صريحا ماذا أَرادَ اللَّهُ العليم الحكيم بِهذا اى شيء أراد بهذا العدد المستغرب المستبعد الى حيث صار في الاستغراب والاستبعاد مَثَلًا سائرا دائرا بين الناس يتداورونه ويتداولونه مستبعدين مستهزئين وبالجملة كَذلِكَ اى مثل ما سمعت يا أكمل الرسل من استيقان البعض واستنكار البعض الآخر بهذا العدد المذكور يُضِلُّ اللَّهُ الحكيم العليم حسب قهره وجلاله مَنْ يَشاءُ إضلاله من عباده ويريد مقته وضلاله وَيَهْدِي ايضا بمقتضى لطفه وجماله مَنْ يَشاءُ منهم إذ هو فاعل على الإطلاق بالإرادة والاختيار وكمال الاستقلال والاستحقاق وَبالجملة ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل اى مظاهر لطفه وقهره وجلاله وجماله إِلَّا هُوَ إذ هو المستقل بالاحاطة والشمول لا يعزب عنه شيء من الفروع والأصول إذ لا سبيل للعباد الى إحصاء أوصافه وأسمائه التي تترتب عليها مظاهره ومصنوعاته ما للعباد ورب الأرباب وَبالجملة ما هِيَ اى ذكر سقر ووصفها وعدة خزنتها إِلَّا ذِكْرى اى عظة وتذكرة نازلة من قبل الحق لِلْبَشَرِ المجبولين على العبرة والنظر المكلفين بجلب النفع ودفع الضرر وبالحذر عن مقتضى القهر والجلال والركون الى مقتضى اللطف والجمال كَلَّا وحاشا ان يتذكر بها هؤلاء الحمقى الا من وفقه الحق وأدركته العناية من جانبه وَحق الْقَمَرِ المنير وَاللَّيْلِ المظلم وكيفية تصاريف القمر المضيء في ظلمة الليل وانمحاء نوره إِذْ أَدْبَرَ اى قد ولى وانصرف ذاهبا يعنى بالقمر نور الايمان المشرق في الليل الذي هو عبارة عن ظلمة عالم الكون والفساد والمترتب على التعينات العدمية الحاصلة من انعكاس شمس الذات وَالصُّبْحِ الذي هو عبارة عن ظهور نور الوجود وطلوع شمس الذات الاحدية التي انمحت وفنيت إِذا أَسْفَرَ اى أضاء وأشرق اظلال التعينات وانتثرت كواكب الهويات وأنطقت شهب العكوس واضمحلت مطلقا الإضافات المترتبة على تلك التعينات إِنَّها اى سقر الطرد والحرمان وسعير الزجر والخذلان والخزنة المعدودين الموكلين عليها بقدرة الله وارادته لَإِحْدَى الْكُبَرِ اى احدى البلايا والمصائب الكبار النازلة لأصحاب الضلال بمقتضى القهر الإلهي وجلاله وانما أنزلها في كتابه واخبر عنها لتكون نَذِيراً لِلْبَشَرِ ينذرهم ويحذرهم عن حر سقر لِمَنْ شاءَ وأراد سبحانه مِنْكُمْ ايها المكلفون المجبولون على الهداية والضلالة أَنْ يَتَقَدَّمَ بالإيمان والأعمال الصالحة وفعل الخيرات وترك المنكرات فيهتدى بطريق النجاة منها أَوْ يَتَأَخَّرَ للكفر وارتكاب المناهي والمنكرات وفعل المحرمات فوقع فيها وازدجر وبالجملة كُلُّ نَفْسٍ من النفوس الخيرة والشريرة بِما كَسَبَتْ واقترفت رَهِينَةٌ مرتهنة مرهونة عند الله بكسبها فكسبها ان كان لأجل الدنيا وما يترتب عليها من اللذات والشهوات البهيمية والوهمية والخيالية من الجاه والثروة والاستكبار والاستعظام بالأموال والأولاد ترتب عليها انواع العقوبات والمصيبات وان كان لأجل الآخرة من الايمان والإسلام وصوالح الأعمال والأفعال واحتمال المتاعب والمشاق في طريق الحق وتوحيده ترتب عليها اصناف المثوبات وانواع الكرامات والدرجات العلية والمقامات السنية من اللذات الروحانية إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ وهم الصائرون الى الله السائرون نحوه بافناء هوياتهم الباطلة في هوية الحق المتجردون عن لوازم عالم الناسوت بالمرة المتلبسون بحلل عالم اللاهوت حسب جود حضرة الرحموت المتمكنون فِي جَنَّاتٍ متنزهات موصوفة

[سورة المدثر (74) : آية 41]

بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ومن كمال تمكنهم وتقررهم في مقر الوحدة يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ على سبيل التعجب والاستبعاد ما سَلَكَكُمْ وأى شيء أدخلكم فِي سَقَرَ الإمكان وسعير الطرد والخذلان قالُوا اى المجرمون في جوابهم متحسرين متأسفين لَمْ نَكُ في دار الاختبار ونشأة الاعتبار مِنَ الْمُصَلِّينَ المتوجهين نحو الحق في الأوقات المكتوبة علينا وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ بمقتضى الأمر الإلهي عطفا ولطفا وَمع ذلك قد كُنَّا نَخُوضُ ونشرع في الباطل الزاهق الزائل ونروجه ونترك الحق ونهمله مَعَ الْخائِضِينَ الشارعين المزورين والمروجين عنادا ومكابرة وَأعظم من الكل انا قد كُنَّا من غاية جهلنا وغفلتنا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ اى بوقوع الطامة الكبرى وقيام الساعة العظمى مقتفين في هذا الإنكار والتكذيب اثر الضالين المضلين مستظهرين بالمعبودات الباطلة مغترين بشفاعتهم العاطلة لدى الحاجة وبالجملة قد كنا مصرين على ما كنا عليه حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ وحل علينا الأجل وظهرت مقدماته وانقرضت نشأة الاختبار وبالجملة فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ حين أخذوا بظلمهم ولو شفعوا لهم اجمعهم فَما لَهُمْ وأى شيء عرض لهم ولحق بهم مع انهم هم المجبولون على فطرة التوحيد واليقين حتى صاروا عَنِ التَّذْكِرَةِ المفيدة التي هي آيات القرآن المبينة لسرائر التوحيد والعرفان مُعْرِضِينَ منصرفين على سبيل الإنكار والاستكبار وبالجملة كَأَنَّهُمْ في هذا الاعراض والنفرة المستتبعة لغاية السخافة ونهاية البلادة حُمُرٌ هي مثل في البلادة المتناهية مُسْتَنْفِرَةٌ من شدة رعبها وخوفها سيما قد فَرَّتْ وهربت مِنْ قَسْوَرَةٍ اسد صائل هائل يريد ان يصول عليها شبه نفرتهم عن التذكر بآيات القرآن حسدا وحمية جاهلية بالحمر المستنفرة من الأسد والجامع بينهما البلادة المتناهية بل هم أسوأ حالا من الحمر إذ الحمر فرت من العدو خوفا من ضرره وهؤلاء قد فروا من الحق المشفق المفيد النافع لهم نفعا صوريا ومعنويا وما حملهم وحداهم على فتنة الاستنفار والاستنكاف الا غيرتهم وحميتهم الجاهلية بان لم يؤمنوا بما نزل على غيرهم بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى له من قبل الحق صُحُفاً قراطيس مدونة مُنَشَّرَةً تنشر وقت القراءة ثم تطوى كالصكوك والسجلات لذلك قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لن نتبعك حتى تأتى كلامنا بكتاب من السماء مكتوب فيه من الله الى فلان اتبع محمدا فانه نبي صادق. ثم قال سبحانه كَلَّا ردا عليهم وردعا لهم عن الاعراض عن الايمان والتذكر لا عن امتناع المقترح فانه لا يستحيل على الله شيء لو تعلق به مشيته بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ ولم يؤمنوا لها لذلك اعرضوا عن التذكرة كَلَّا اى كيف يتأتى لهم الاعراض عن التذكرة إِنَّهُ اى القرآن تَذْكِرَةٌ وآية مذكرة بل هو تبصرة كاملة شاملة نافعة مفيدة فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ اى اتعظ وتذكر به فقد هدى واهتدى الى الله وَغاية ما في الباب انه ما يَذْكُرُونَ اى يتذكرون ويتعظون به إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ تذكرهم وهدايتهم إذ افعال العباد كلها مستندة اليه سبحانه مخلوقة له وكيف لا يفوض الى مشيته سبحانه عموم امور عباده مع انه هُوَ الفاعل المطلق المختار الخالق لها بالإرادة والاختيار وهو ايضا بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته أَهْلُ التَّقْوى وأحق من يتقى من انتقامه وقهره إذ هو القادر المقتدر على وجوه الانتقام وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ حقيق بان يرجى منه العفو والغفران سيما على المتقين المستغفرين إذ هو ايضا القادر المقتدر بالاستقلال على عموم الكرم والانعام. جعلنا الله من زمرة اهل التقوى والمغفرة بمنه وجوده

خاتمة سورة المدثر

خاتمة سورة المدثر عليك ايها المريد المتحقق بسر سريان الوحدة الذاتية الإلهية السارية في عموم المظاهر والمجالى في الوجود وفي جميع الآثار الظاهرة في الأنفس والآفاق ان تذعن وتعرف ان عموم الأفعال الجارية في عالم الغيب والشهادة انما هي مستندة اليه سبحانه صادرة منه اصالة على وفق الارادة والاختيار وانما أظهرها سبحانه في مظاهر أسمائه وملابس صفاته إظهارا لكمال قدرته ومتانة حكمته واحاطة علمه وارادته وعجائب صنعه وصنعته فلك ان تعتقدها على الوجه المذكور وتجزم بها علما الى ان يصير علمك عينا وعينك حقا وبيانا وليس وراء الله مرمى ومنتهى. وفقنا بما تحبه منا وترضى به عنا يا مولانا [سورة القيامة] فاتحة سورة القيامة لا يخفى على من تحقق في مقر التوحيد وتمكن على مقام التجريد والتفريد ان عموم المظاهر والمجالى منقهرة تحت سلطنة الوحدة الذاتية فانية فيها مضمحلة دونها وان التعينات المحسوسة والهويات الغير الموجودة انما هي من اظلال أسمائه وعكوس أوصافه الذاتية المتفرعة على شئونه وتطوراته القبضية والبسطية المترتبة على التجليات الجمالية والجلالية وبعد ما انكشف الأمر على هذا المنوال ثبت ان الكل برزوا لله الواحد القهار الكبير المتعال. ثم لما أراد سبحانه ان ينبه عباده على ظهور هذه الحالة وبروز هذه الواقعة الموعودة في النشأة الاخرى أشار سبحانه الى وقوعها وقيامها على وجه المبالغة والتأكيد بطريق مخصوص من طرق المبالغة والتوكيد واردفها بالإشارة الى النفس اللوامة المعينة على تصديقها وتهيئة ما يناسبها من الأخلاق والأعمال ايضا على طرزها من المبالغة والتأكيد فقال سبحانه بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي استغنى عن عموم مظاهره ومصنوعاته بمقتضى ذاته الرَّحْمنِ عليها في النشأة الاولى حيث أظهرها حسب آثار أسمائه وصفاته الرَّحِيمِ عليها في النشأة الاخرى حيث قهر الكل في وحدة ذاته وأفناها في هويته الذاتية [الآيات] لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ اى بوقوع الطامة الكبرى وتحققها وقيامها إذ هي من غاية ظهورها وجلائها غنية ان يؤكد امر وقوعها وقيامها بالقسم عند العارف المحقق المتحقق بمقام التوحيد واليقين وَلا أُقْسِمُ ايضا بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ اى وكذا لا حاجة الى القسم بظهور النفس اللوامة في عالم الكون والفساد إذ كل نفس من النفوس الكائنة الزكية المؤيدة بالتأييد الإلهي تعلم ان العالم ما هو إلا سراب باطل وعكس زائل عاطل لا قرار له ولا مدار لما فيه وتلوم دائما نفسها عليها الا انها لا تتنبه على سلطنة سلطان الوحدة الذاتية ولا تتفطن بسريانها واستيلائها على عموم ما ظهر وبطن وغاب وشهد حتى تصير لوامته مطمئنة ومطمئنته راضية وراضيته مرضية ومرضيته فقيرة وفقيرته فانية وفانيته باقية ببقاء الله وليس وراء الله مرمى ومنتهى. أدركنا بلطفك يا خفى الألطاف. ثم التفت سبحانه نحو حقيقة الإنسان المجبول على فطرة التوحيد والعرفان حسب حصة لاهوته ووبخه بما وبخه تشنيعا عليه وتقريعا فقال أَيَحْسَبُ ويظن الْإِنْسانُ المجبول على الكفران والنسيان حسب حصة ناسوته أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ يعنى انا لن نقدر مع كمال قدرتنا على ابدائه وابداعه على إعادته وجمع عظامه مرة بعد اخرى وكرة بعد اولى في يوم البعث والجزاء

[سورة القيامة (75) : آية 4]

وعند قيام الطامة الكبرى بَلى نحن نقدر على إعادته وجمع عظامه وتسوية جميع أعضائه على الوجه الذي كان عليه من قبل بل نحن كما كنا في النشأة الاولى نكون قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ اى سلاماه ورؤس أصابعه في النشأة الاخرى خص البنان بالذكر لان جمع اجزائها أصعب من أجزاء سائر الجسد لاشتمالها على دقائق العظام ورقائق العروق والاعصاب والغضاريف والرباطات المعينة على القبض والبسط والأخذ والبطش ولصعوبة الاطلاع على اجزائها قد عجز الأطباء عن تشريحها وبالجملة انا نقدر على جمعها مع صعوبتها فكيف بجمع غيرها بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ المركب من الجهل والنسيان بظنه الباطل وحسبانه الزاهق الزائل لِيَفْجُرَ أَمامَهُ اى يدوم ويمضى دائما على الفجور والفسوق والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية فيما يستقبله من الزمان كما كان عليها فيما مضى لذلك يَسْئَلُ سؤال انكار واستبعاد أَيَّانَ متى يقوم واى آن يقع يَوْمُ الْقِيامَةِ اى يوم تبلى السرائر وتكشف الستائر فيها بين لي ايها المدعى وقت وقوعه حتى اكف وامنع نفسي عن الفجور وأتوب عنها ثقة ويقينا وانما قال ما قال على سبيل الاستهزاء والتهكم وكيف يستهزئ ويصر على الإنكار ذلك المستهزئ المسرف المصر فَإِذا بَرِقَ وتحير الْبَصَرُ اى حاسة عالم الناسوت وجاسوس عالم الطبيعة والهيولى حين ظهور طلائع عالم اللاهوت وبروز مقدماته واماراته فزعا وهولا ودهشا مما يرى من العجائب والغرائب الموعودة التي كان ينكر ويكذب بها في دار الدنيا وبقعة الإمكان وعرصة الزمان والمكان وَمع ذلك خَسَفَ الْقَمَرُ اى قد ذهب ضوء الوجود الإضافي المستعار وانمحى نوره واشرف على الأفول في أفق العدم وَجُمِعَ الشَّمْسُ اى ظهر نور الوجود المطلق المستغنى عن عموم المظاهر والمجالى وَالْقَمَرُ اى اندرج ضوء الوجود المستعار الإضافي المنعكس من الشمس الحقيقية فيها واندمج وصار كما كان بحيث لم يبق كون ولون ولا بين ولا بون وبعد رجوع الكل إليها وانطماسها فيها وانقهارها دونها يَقُولُ الْإِنْسانُ المنعزل عن اليقين والعرفان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ والملجأ حتى افرّ اليه والجأ نحوه كَلَّا وحاشا ان يكون له حينئذ ملجأ ومفر في الوجود حتى يطلبه ويصل اليه إذ لا وَزَرَ اى لا حصن ولا حرز ولا مخلص ولا ملجأ يومئذ بل في عموم الأوقات والأزمان عند العارف غير الحق إذ لا شيء في الوجود سواه فثبت انه إِلى رَبِّكَ يا أكمل الرسل والى كنف حفظه وجواره يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ اى لا مفر ولا مقر يومئذ لعموم العباد الا عنده سبحانه إذ لا مرجع لهم سواه وبعد رجوع الكل اليه سبحانه وحضوره عنده يُنَبَّؤُا ويخبر الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ من الأعمال الصالحة وأتى بها وَ بما أَخَّرَ منها ولم يأت بها وتركها بل قد أتى بأضدادها على التفصيل بلا فوت شيء منها بَلِ لا حاجة حينئذ الى الأنباء والاخبار عما صدر عنه وجرى عليه إذ الْإِنْسانُ له حينئذ عَلى نَفْسِهِ وبما صدر عنه من الأعمال الصالحة والطالحة بَصِيرَةٌ كاملة وبينة واضحة موضحة إذ يشهد له او عليه جوارحه وأركانه التي قد اقترف بها ما اقترف من الحسنات والسيئات وَلَوْ أَلْقى حينئذ مَعاذِيرَهُ اى جميع ما يعتذر به من الاعذار الكاذبة لم يسمع مع حضور الشهود العدول التي هي أعضاءه وجوارحه بل يعامل معه بمقتضى ما يحاسب عليه ان خيرا فخير وان شرا فشر. ثم لما استعجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بادر بالتقاط الوحى من في جبرائيل عليه السلام الى حيث سبق عليه بالتلفظ خوفا من ان ينفلت منه شيء نهى سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم عن

[سورة القيامة (75) : آية 16]

ذلك الاستعجال تأديبا له وإرشادا فقال لا تُحَرِّكْ يا أكمل الرسل بِهِ اى بالقرآن لِسانَكَ حين التقاطك من حامل الوحى قبل ان يتم وحيه وإلقاءه لك لِتَعْجَلَ بِهِ اى لتأخذ منه على عجلة خوفا من انفلات شيء منه عنك وبالجملة لا تعجل يا أكمل الرسل ولا تخف من الانفلات إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في خاطرك وضميرك وَايضا علينا بعد جمعنا قُرْآنَهُ وقراءته على لسانك على وجهه بلا فوت شيء من اجزائه وبالجملة لا تتعب نفسك بالعجلة ولا تستعجل بالالتقاط قبل التمام وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل فاجر عليه واذكر فَإِذا قَرَأْناهُ اى القرآن حين الوحى عليك بلسان حامله فَاتَّبِعْ أنت قُرْآنَهُ وتذكر قراءته ثم تتبع تلاوته وكرر حتى ينتقش في صحيفة خاطرك ويترسخ في ذهنك ثم اجر على لسانك مرارا كذلك ثُمَّ ان بق لك شك وتردد في فحواه ومعناه وفي ما هو مقراه ومرماه إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ اى تبينه وتوضيحه لك وازالة ترددك وإشكالك عنه. ثم قال سبحانه كَلَّا ردعا لرسوله صلّى الله عليه وسلم وكفا لعموم عباده عن العجلة في جميع الأمور مبالغة وتأكيدا إذ الإنسان مجبول على العجلة مطبوع عليها لذلك قد بالغ سبحانه في النهى عنه واردف بهذا النهى حب العاجل على الآجل فقال على سبيل الإضراب بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ يعنى ان بنى آدم كلهم مجبولون على العجلة لذلك يحبون ويختارون اللذة العاجلة الدنياوية مع سرعة انقضائها وزوالها على اللذة الآجلة الاخروية مع بقائها ودوامها وعدم انقضائها أصلا ويتركون الأعمال المقتضية لها لذلك وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ اى يوم قيام الساعة ناضِرَةٌ طرية بهية مشرقة يتلالأ منها أنوار اليقين والعرفان وآثار الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية ألا وهي وجوه ارباب العناية الموفقين على صلاح الدارين وفلاح النشأتين لذلك حينئذ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وبمطالعة لقائه مشرفة مسرورة وَوُجُوهٌ أخر يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ عبوسة كلوحة متغيرة مسودة بحيث تَظُنُّ بل يجزم كل من نظر إليها أَنْ يُفْعَلَ بِها ويعرض عليها فاقِرَةٌ داهية شديدة ومصيبة عظيمة تكسر فقار ظهرها من هولها وشدتها كَلَّا اى كيف تحبون وتختارون اللذة الفانية العاجلة على الباقية الآجلة ايها المشركون المفرطون المسرفون اما تتذكرون إِذا بَلَغَتِ النفس التَّراقِيَ اى اعالى الصدر قريب المخرج وعزمت على التوديع والخروج وَقِيلَ حينئذ في حقه اى قالت الملائكة الموكلون على الموت والاماتة مستفهمين فيما بينهم على سبيل المشورة مَنْ هو راقٍ منا قابض روحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب وَحينئذ ظَنَّ بل قد جزم المحتضر أَنَّهُ الْفِراقُ والافتراق من الدنيا وما فيها من عموم اللذات والشهوات المحبوبة فيها وَبعد ما جزم بفراق الأحبة الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ اى التوت ساقه بساقه من كمال ضجرته وأسفه فلا يقدر على حركتها وتحريكها وبالجملة إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ اى السوق اليه ورجوعه نحوه وحكمه عنده وحسابه عليه وبالجملة إذا سئل الإنسان حينئذ عما امر له ونهى عنه في النشأة الاولى كيف يحسب مع انه فَلا صَدَّقَ على من امر بتصديقه ولا قبل منه ما هو صلاحه في دينه وَلا صَلَّى وما مال الى الله في الأوقات المكتوبة المقدرة المعينة للتوجه والرجوع نحوه سبحانه وَلكِنْ قد عكس الأمر إذ كَذَّبَ على من امر بتصديقه وَتَوَلَّى اى اعرض وانصرف عن الطاعات والعبادات المأمور بها مطلقا ثُمَّ بعد انصرافه واعراضه عن المرشد الداعي ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى ويتبختر فرحانا مسرورا مباهيا بفعله مفتخرا بشأنه

[سورة القيامة (75) : آية 34]

قيل له حينئذ من قبل الحق مخاطبا إياه بالويل والهلاك بسبب فعله هذا ومباهاته به أَوْلى وأليق لَكَ وبحالك وشأنك هذا الويل والهلاك فَأَوْلى لك وبحالك الويل والهلاك ثُمَّ أَوْلى لَكَ الويل والهلاك لذلك فَأَوْلى لك كذلك تأكيدا على ذلك وتشديدا على عذابك ووخامة حالك ومآلك ايها المسرف المفرط المباهي بالإعراض والانصراف عن الايمان والطاعات المراد منه ابو جهل عليه اللعنة. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتهديد أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ المصر على الكفران والطغيان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً مهملا لا يكلف ولا يحاسب بعد التكليف ولا يجازى ولا يعاقب على أفعاله مع انه انما جبل على فطرة التكليف والمعرفة وبمقتضى حسبانه هذا أنكر البعث والجزاء وخرج عن مقتضى الأوامر والنواهي الواردة عليه في نشأة الاختبار مصرا على الكفر والكفران ومن أين يتأتى له الخروج عن ربقة العبودية وأنى له الاعراض والانصراف عن مقتضى الأوامر والنواهي الموردة من لدنا أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مهينة مرذولة حاصلة مِنْ مَنِيٍّ مهين مرذول يُمْنى وينصب في الرحم المرذول ثُمَّ كانَ عَلَقَةً قذرة خبيثة باقية في الرحم كسائر الأقذار فَخَلَقَ اى قدر سبحانه اجزاءه وأعضاءه وعموم أركانه وجوارحه منها وبعد ما قدره وصوره فَسَوَّى اى عدله وقومه سبحانه بحوله وقوته فصار جسدا ذا حس وحركة ارادية وقواه فأقامه فَجَعَلَ وخلق بكمال قدرته ومتانة حكمته وصنعته لمصلحة التناسل والتكاثر وإبقاء النوع مِنْهُ اى من منى الإنسان ونطفته الزَّوْجَيْنِ الصنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى تتميما للحكمة البالغة المتقنة. ثم قال سبحانه موبخا مقرعا على وجه الاستبعاد عن كفران الإنسان وإصراره على انكار البعث والحشر واعادة الأموات احياء كما كانوا أَلَيْسَ ذلِكَ القادر المقتدر الذي قدر على خلق هذه الصور المهينة الخبيثة وتبديلها الى صور عجيبة طيبة قابلة لفيضان انواع الكمالات لائقة للخلافة والنيابة الإلهية بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى مرة بعد اخرى وكرة بعد اولى مع ان الإعادة أهون من الإبداء بلى لك الإعادة والإبداء ايها القادر المقتدر على خلق الأشياء من كتم العدم كيف تشاء بل تفعل أنت ما تشاء وتحكم ما تريد لا تسأل عن فعلك انك حميد مجيد خاتمة سورة القيامة عليك ايها الموحد المتحقق بحيطة الحق وشموله واستقلاله في تصرفات ملكه وملكوته وجبروته ولاهوته ان تعتقد ان قدرته الكاملة لا يعتريها كلال ولا يعرض لها فترة ولا زوال بل له ان يظهر ويوجد بمقتضى قدرته جميع ما قد ثبت وتحقق في حضرة علمه ولوح قضائه من الصور البديعة التي لا يخطر ببالك مطلقا بل له ان يكوّن ويوجد من كل ذرة عوالم ما شاء الله وكذا له ان يدرج العوالم الغير المحصورة في كل ذرة من ذرائر الكائنات وبالجملة من وصل الى سعة قلب الإنسان وساحة صدره ظهر عنده ان المذكورات لا تمتنع ولا تستحيل من قدرته الغالبة وارادته الكاملة بل ما هو بأضعافها وآلافها فهيهات هيهات لو نظرت الى أجزاء العالم بنظرة الاستبصار بل الى دقائق نفسك ورقائق اعضائك وجوارحك ورفعت الالف والعادة عن البين لرأيت في كل شيء وفي كل ذرة من ذرائر العالم عجائب وغرائب لا تعد ولا تحصى غاية ما في الباب ان الفك قد حجبك عن هذا الإدراك وعادتك عاقتك عن رؤية البدائع الإلهية ولو تنور بصر بصيرتك ونظر سرك

سورة الإنسان

وسريرتك بكحل العبرة والاستبصار لرأيت من عجائب قدرة الله ومن بدائع صنعه وحكمته في كل طرفة ولمحة ما بجنبه امر الحشر والنشر والإعادة والأحياء سهل يسير. حققنا بحق حقيتك وبقدر قدرتك وقيوميتك يا ذا القوة المتين [سورة الإنسان] فاتحة سورة الإنسان لا يخفى على من انكشف بحقيقة الإنسان وكيفية تطوراته المتلونة وشئونه المترقية من الخباثة والخساسة الى انواع النجابة والكرامة حتى وصل الى رتبة الخلافة والنيابة الإلهية ان مبنى ترقيه وترفعه من حضيض الإمكان الى أوج الوجوب انما هي بالتربية الإلهية وتكريمه بمقتضى تجليه عليه بعموم أسمائه الكاملة وأوصافه الشاملة ليرشده الى وحدة ذاته ويخلقه بأخلاقه وأوصافه ولا شك ان تربية الدنى المرذول انما هي بتغيير الخصلة المذمومة وتبديل الديدنة المستهجنة الراسخة المستقرة فيه وذلك لا يتيسر الا بوضع التكاليف وتحميل المتاعب والمشاق القالعة المصفية لأقذار الطبائع وإكدار الهيولى اللازمة للقوى البشرية وايضا بتلميظ المعارف والحقائق المشوقة الى اللذات الروحانية والمكاشفات اللدنية المخلصة للنفوس الزكية عن الرسوم العادية مطلقا لذلك أشار سبحانه في هذه السورة العظيمة الشأن الى احوال الإنسان وكيفية ترقيه من شأن الى شأن الى ان وصل الى الهداية والعرفان فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بمقتضى عموم أسمائه الحسنى وصفاته العليا في مظهر الإنسان الرَّحْمنِ عليه بأنواع التربية واصناف الإحسان حتى أوصله وهداه الى طريق الايمان والعرفان الرَّحِيمِ عليه يوصله الى مرتبة الكشف والعيان [الآيات] هَلْ أَتى اى قد سبق ومضى عَلَى الْإِنْسانِ المصور بصورة الرحمن حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ اى شأن محدود من الشئون الغير المحدودة الإلهية بحيث لَمْ يَكُنْ الإنسان فيه شَيْئاً إذ العدم والمعدوم ليس بشيء فكيف كان مَذْكُوراً مسمى باسم يذكر به ويشار اليه إِنَّا خلقنا من مقام عظيم جودنا وبمقتضى كمال قدرتنا وارادتنا ووفور حكمتنا قد خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وقدرنا وجوده بعد ما أخرجناه وأظهرناه من العدم الصرف نحو فضاء البروز وحضرة العلم والأعيان الثابتة ثم صورناه بصور العناصر مِنْ نُطْفَةٍ مهينة مرذولة أَمْشاجٍ مختلطة مجتمعة من الذكر والأنثى وبعد ما قد صورناه هيكلا سويا قابلا واودعنا فيه من روحنا ما اودعنا وسميناه إنسانا مصورا بصورتنا نَبْتَلِيهِ نختبره ونجربه هل يتفطن الى موجده ومظهره أم لا وكيف لا نختبره فَجَعَلْناهُ يعنى انما خلقناه وصيرناه لحكمة الاختبار ومصلحة الاعتبار سَمِيعاً متمكنا قادرا على استماع آياتنا الدالة على وحدة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا بَصِيراً مقتدرا على مشاهدة بدائع صنعنا وغرائب صنعتنا وعجائب حكمتنا ليكون معتبرا منها متوجها الى فاعلها ومع إعطائه تلك الكرامات العظيمة إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ يعنى قد اودعنا فيه العقل الفطري الجزئى المنشعب من العقل الكلى الذي هو حضرة علمنا المحيط بكل ما لمع عليه برق الوجود وبواسطته هديناه إلينا سبيلا بان أرسلنا الرسل المنبهين عليه الموقظين له من نعاس النسيان العارض له من حصة ناسوته المشيرين له الى ما اودعنا فيه من الوديعة البديعة وأيدنا الرسل بالكتب والآيات النازلة من لدنا الدالة على صدقهم في الرسالة وبالبينات الواضحات لسلوك طريق توحيدنا وسبيل شهودنا وتفريدنا وبعد ما وضح الحق واتضح السبيل على وجه الأبلغ الأكمل فله الاختيار

[سورة الإنسان (76) : آية 4]

إِمَّا شاكِراً اى اما ان يكون شاكرا شكورا مشغولا بشكر النعم مواظبا على أداء حقوق الكرم صارفا عنان عزمه الى صوب الهداية والرشد حتى يكون من ارباب العناية والسداد المتنعمين في روضة الرضا وجنة التسليم وَإِمَّا كَفُوراً للنعم كافرا لمنعمها مقتفيا اثر اصحاب الغفلة والعناد واللدد والفساد حتى يكون من زمرة اصحاب الجحيم فهما عندنا سيان غاية الأمر إِنَّا حسب قهرنا وجلالنا قد أَعْتَدْنا وهيأنا لِلْكافِرِينَ الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق الحقيقية المشرقة الظاهرة على صفائح ذرائر الكائنات لذلك خرجوا عن ربقة الرقية وعروة العبودية وانصرفوا عن مقتضيات حدوده الموضوعة بين عباده سَلاسِلَ اى سلاسل الحرص وطول الأمل يقادون ويسحبون بها نحو نيران الإمكان وجحيم الطرد والحرمان بأنواع الخيبة والخسران وَأَغْلالًا يعنى أغلال الأماني والشهوات يغلّون ويقيدون بها طول دهرهم بأنواع الصغار والهوان وَسَعِيراً مسعرا مملوا بنيران الافتقار والاحتياج المترتبة على الأماني والآمال الغير المنقطعة يطرحون فيها ابدا ويعذبون بها خالدا مخلدا ثم اردف سبحانه وعيد الكفرة بوعد المؤمنين على مقتضى سنته المستمرة في كتابه فقال إِنَّ الْأَبْرارَ الأخيار البارين المبرورين ذوى الأيدي والأبصار المستغرقين في بحار المعارف والأسرار يَشْرَبُونَ لدى الملك الغفار خمور الشهود ورحيق الاعتبار مِنْ كَأْسٍ من كؤس ذرائر العالم المستعار لذلك كانَ مِزاجُها اى ما يمزج بها ويخلط كافُوراً هو عبارة عن برد اليقين يعنى عَيْناً معينا معينا هي ينبوع بحر الوجود يَشْرَبُ بِها ومنها عِبادُ اللَّهِ الواصلون الى عالم اللاهوت الفانون عن فنائهم في فضاء الجبروت الباقون ببقاء حضرة الرحموت لذلك يُفَجِّرُونَها ويجرونها تَفْجِيراً واجراء حيث شاءوا وصاروا من كمال وصولهم واتصالهم يُوفُونَ بِالنَّذْرِ ويوفرون على المنذور وَكيف لا يوفون ولا يوفرون أولئك السعداء الموفون الموفرون مع انهم هم يَخافُونَ يَوْماً وأى يوم يوما قد كانَ شَرُّهُ اى شدائده وأهواله مُسْتَطِيراً منتشرا مستفيضا شائعا بين عموم العباد وَمن كمال استغراقهم بمطالعة الوجه الكريم يُطْعِمُونَ الطَّعامَ اى الرزق الصوري والمعنوي المسوق لهم من عنده سبحانه تقوية لهم وتقويما لأمزجتهم عَلى حُبِّهِ اى طلبا لمرضاته سبحانه مِسْكِيناً قد اسكنه الفقر وأزعجته المذلة اى المعاودة للسؤال وَيَتِيماً أدركه الذل وأحوجه الى الافتقار وَأَسِيراً اذله الرق والصغار والهوان وأفقره الى الرعاية والترحم. عن ابن عباس رضى الله عنهما ان الحسن والحسين سلام الله وصلواته على جدهما ووالديهما وعليهما مرضا مرضا هائلا مخوفا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ناس فقالوا لعلى يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك فنذر على وفاطمة على النبي وعليهما وابنيهما الصلاة والسلام وفضة جارية لفاطمة رضى لله عنهما صوم ثلاثة ايام ان برئا فلما برئا صاموا وما معهم شيء فاستقرض على رضى الله عنه من شمعون الخيبرى ثلاثة أصوع من الشعير فطحنت فاطمة رضى الله عنها صاعا وخبزت خمسة اقراص على عدد رؤسهم فوضعوا بين يديهم ليفطروا فجاء على الباب مسكين فأعطوا له وآثروه على أنفسهم وباتوا فلم يذوقوا الا الماء وأصبحوا صياما فلما امسوا فعلوا ايضا كذلك فألم عليهم يتيم فآثروه كذلك فأصبحوا صياما ففعلوا اليوم الثالث مثل ذلك فجاء أسير فأعطوه فباتوا بلا طعام فنزل جبرائيل عليه السلام بهذه الآية فقال هناك الله في اهل بيتك يا نبي الله. ثم لما اضمروا في نفوسهم ونجواهم حين صدور هذا

[سورة الإنسان (76) : آية 9]

الإحسان عنهم طلبا لمرضاة الله وتثبيتا لهم على دينه وطاعته وتشويقا منهم الى لقائه نزل في حقهم وفق ما نووا إِنَّما نُطْعِمُكُمْ اى ما نطعمكم ايها المطعمون المحتاجون الا لِوَجْهِ اللَّهِ الكريم وطلبا لمرضاته إذ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً ليصير عوضا لا طعامنا لا في الدنيا ولا في الآخرة وَلا شُكُوراً بان تدعوا أنتم لنا الأجر بل ما نطعمكم الا من مال الله يا عيال الله خالصا لوجهه الكريم ما لنا مع الشكر والجزاء امر وشأن وكيف يتأتى منا طلب الشكر والجزاء إذ قدرتنا على الإطعام ايضا انما هو باقدار الله إيانا واعطاؤنا انما هو من عطاياه حقيقة وبالجملة إِنَّا نَخافُ بطلب الأجر والجزاء مِنْ غضب رَبِّنا يَوْماً وأى يوم يوما عَبُوساً تعبس فيه مطلق الوجوه من شدة هوله وحزنه بل قد صارت كل الوجوه قَمْطَرِيراً في غاية الشدة والعبوسة سيما على اهل الرياء والسمعة الطامعين بصدقاتهم الذكر الجميل والثناء الجزيل مع انهم انما يعطون من مال الله لعيال الله وبعد ما أخلصوا لله وخافوا من عذابه فَوَقاهُمُ اللَّهُ الحكيم العليم الحفيظ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ اى قد رفع عنهم شره وأبدله لهم خيرا وَلَقَّاهُمْ اى لقى لهم يومئذ نَضْرَةً طراوة وصفاء في وجوههم وَسُرُوراً وبهجة في قلوبهم وَبعد ما فعلوا ما فعلوا خالصا لوجه الله جَزاهُمْ سبحانه بِما صَبَرُوا وحبسوا نفوسهم عن المشتهيات المنهيات والمحرمات بل عن المباحات ايضا وعلى أداء الواجبات وإيثار الأموال والأرزاق المسوقة لهم لطلب المرضات جَنَّةً مصورة من صالحات أعمالهم وحالاتهم ومقاماتهم يتلذذون فيها باللذات الروحانية ابد الآباد وَيلبسون فيها حَرِيراً متخذا من حلل الأسماء والصفات التي لا يتصور فيها الهول والخشونة أصلا مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ يعنى مستظهرين فيها بالألطاف الإلهية مستظلين بكنف حفظه وجواره حيث لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً اى حرارتها المؤذية لهم وَلا زَمْهَرِيراً اى البرودة المضرة بهم بل يعتدل فيها الهواء والأهواء لتعديلهم الأخلاق والأعمال والأحوال وَبالجملة ليس ظلال الجنة المذكورة بعيدة عنهم بل قد كانت دانِيَةً قريبة عَلَيْهِمْ ظِلالُها الموعودة لهم من قبل الحق وَلهم فيها ثمار متجددة متلونة من انواع المعارف والحقائق اللدنية المترتبة على أشجار الأسماء والصفات الإلهية التي قد اتصفوا بها وتخلقوا بمقتضاها ولا تكون تلك الأشجار وأغصانها وأثمارها بعيدة عنهم آبية سيما بعد ما اتصفوا بمقتضاها بل قد ذُلِّلَتْ وسخرت قُطُوفُها وثمارها لهم تَذْلِيلًا بحيث متى أرادوا تلذذوا بها بلا تردد إذ كمالاتها كلها حينئذ بالفعل بلا انتظار لهم إياها وترقب لها وَلتكميل ترفههم وتنعمهم يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ متخذة مِنْ فِضَّةٍ اى من فضة عقائدهم الصافية البيضاء الشفافة الخالصة عن مطلق الكدورات وَأَكْوابٍ اى كيزان لا عروة لها وهي من غاية صفائها وجلائها كأنها كانَتْ قَوارِيرَا في الرقة وأية قَوارِيرَا متخذة مِنْ فِضَّةٍ وهي من غاية صفائها وشفيفها لا يرى لها لون ولا كون بحيث قد اشتبه أمرها عند الرائي في بادى الرأى ولذلك قَدَّرُوها تَقْدِيراً بمقتضى ما رعوا من الاعتدال والأخلاق والأطوار وَهم يُسْقَوْنَ فِيها اى في تلك الجنة الموعودة لهم كَأْساً مملوا من خمور المحبة والمودة قد كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا اى كالزنجبيل في المساغ وسرعة الانحدار يعنى عَيْناً جارية فِيها مملوة بماء الحياة الازلية الابدية السرمدية تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا لهدايتها وارشادها الى مشرب التوحيد وبحر الوحدة الذاتية كأنها تلقى وتلقن تلك العين المترشحة من بحر الحياة الازلية

[سورة الإنسان (76) : آية 19]

الابدية لأرباب العناية بقولها سل ايها الطالب الحائر في بيداء الطلب سبيلا الى الوحدة الحقيقية الحقية واسترح عندها وَايضا يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ثانيا وتصحيبا وِلْدانٌ حسان صباح ملاح مصورون من أعمالهم وأحوالهم مُخَلَّدُونَ دائمون مستمرون على صباحتهم وملاحتهم بحيث إِذا رَأَيْتَهُمْ ايها المعتبر الرائي حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً من صفاء ألوانهم وبهاء هياكلهم واشكالهم وصباحة خدهم ورشاقة قدهم ومن انعكاس اشعة وجوههم ومن كمال اللطافة والطراوة والصفاء المفرط نهاية النظافة وَبالجملة إِذا رَأَيْتَ ايها الفطن الرائي ثَمَّ اى في الجنة المذكورة الموعودة رَأَيْتَ وما أدراك ما رأيت رأيت نَعِيماً وأى نعيم نعيما لا يكتنه غوره وطوره وَمُلْكاً وأى ملك ملكا عظيما كَبِيراً وسيعا فسيحا لا يدرك وسعته وقدره ولا يكتنه طوره وغوره ومع ذلك عالِيَهُمْ اى يعلو عليهم ويحيط بهم فيها تعظيما لهم وتكريما ثِيابُ سُندُسٍ هو رقيق من الديباج خُضْرٌ على لون الحياة إذ حياتهم فيها سرمدية وَإِسْتَبْرَقٌ هو غليظ منه كذلك وَهم قد حُلُّوا فيها أَساوِرَ اى زينوا بأساور متخذة مِنْ فِضَّةٍ صافية عن الغش بصفاء عقائدهم عنه تتميما لتنعمهم وَبالجملة قد سَقاهُمْ رَبُّهُمْ بعد ما تمكنوا في مقعد الصدق عند المليك المقتدر شَراباً من كأس المحبة ورحيق التوحيد والتحقيق طَهُوراً خاليا خالصا عن شوب الثنوية وشين الكثرة مطلقا وبعد ما شربوا منه جرعة سكروا سرمدا ولم يصحوا ابدا ثم قيل لهم من قبل الحق إِنَّ هذا الذي قد فزتم به الآن قد كانَ لَكُمْ جَزاءً موعودا معهودا في مقابلة أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم ومواجيدكم ومعارفكم التي أنتم عليها في النشأة الاولى وَبالجملة قد كانَ سَعْيُكُمْ الذي كنتم عليه في عالم الناسوت مَشْكُوراً مجازا عليه غير مضيع بل مع زيادات تفضلا وامتنانا عليكم. ثم لما جمع سبحانه جميع الفضائل والكمالات الانسانية وعموم المعارف والمشاهدات والمكاشفات اللدنية في المرتبة الجامعة الختمية الخاتمية المحمدية المحيطة المشتملة على عموم المراتب والمناصب العلية خاطبه سبحانه خطاب رحمة وامتنان على سبيل التعطف فقال إِنَّا بمقتضى فضلنا وجودنا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ يا أكمل الرسل تأييدا لأمرك وتعظيما لشأنك الْقُرْآنَ الحاوي لعموم ما في الكتب السالفة من الأوامر والنواهي ومطلق الحكم والاحكام والحقائق والمعارف الموردة فيها المحتوى لجميع الكمالات اللائقة بسائر الأنبياء والرسل المجتازين في سبيل التوحيد تَنْزِيلًا مفرقا منجما على مقتضى الحكمة المتقنة البالغة الباعثة على انزاله حسب طاقتك اليه وانكشافك بما فيه لتتدرج أنت في سلوكك وشهودك وبعد ما سمعت من الكرامة والتعظيم فَاصْبِرْ يا أكمل الرسل لِحُكْمِ رَبِّكَ ولا تستعجل في غلبتك وظهورك على عموم أعدائك من جنود اهل التقليد والضلال سيما كفار مكة خذلهم الله وَبعد ما قد كوشفت بحقية الحق وبوحدته واستقلاله في الوجود ومطلق الآثار لا تُطِعْ مِنْهُمْ اى من اهل التقليد واصحاب الضلال أحدا سواء كان آثِماً متناهيا في الفسوق والعصيان حيث ينتهى إثمه الى الشرك أَوْ كَفُوراً لنعم الله مبالغا في كفران نعمه ونسيان كرمه حيث ينتهى كفرانه الى الكفر. أعاذنا الله وعموم عباده منهما وَبعد ما تحققت يا أكمل الرسل تمام الكشف والشهود اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا اى في عموم أوقاتك وحالاتك وداوم على ذلك دائما مستمرا وَعليك ان تتخذ مِنَ اللَّيْلِ الموضوع للخلوة مع الله ودوام المراقبة والحضور معه

[سورة الإنسان (76) : آية 27]

فَاسْجُدْ لَهُ وتوجه نحوه توجها خالصا مقرونا بكمال الخضوع والخشوع والتذلل التام وَسَبِّحْهُ اى نزه ذاته عن جميع ما لا يليق بشأنه لَيْلًا اى في خلاله وآنائه تسبيحا طَوِيلًا خاليا عن مطلق الشواغل فارغ البال عن تشتت الآمال هكذا آداب اصحاب المآل وديدنة ارباب الوجد والحال إِنَّ هؤُلاءِ اى اصحاب الضلال المنحرفين عن جادة الاعتدال يُحِبُّونَ اللذة الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ اى يتركون امامهم وخلفهم بلا مبالاة منهم يَوْماً ثَقِيلًا شديدا يشتد الأمر فيه عليهم ويصعب ومع ذلك ينكرونه ويكذبونه وكيف يذرونه وينكرونه مع انا نخبر به ونأمر بتصديقه وكيف لا نأمرهم إذ نَحْنُ بمقتضى قدرتنا قد خَلَقْناهُمْ وقدرنا وجودهم أولا من أهون الأشياء وأخسها واخبثها وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ اى قد عدلنا اركانهم وجوارحهم وأحكمنا مفاصلهم واوصالهم وبالجملة قد سويناهم اشخاصا قابلين للتكليف ليترتب عليه الايمان والتصديق بعموم المعتقدات اللدنية وَبعد ما لم يؤمنوا ولم يصدقوا عنادا ومكابرة إِذا شِئْنا وتعلقت مشيتنا على إهلاكهم واستئصالهم أهلكناهم واستأصلناهم وبَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ في الخلقة وجميع لوازمها تَبْدِيلًا حسنا بحيث يكون المبدل خيرا واحسن وأكمل من المبدل منه وبالجملة إِنَّ هذِهِ الآية الدالة على تهذيب الأخلاق والأطوار تَذْكِرَةٌ ناشئة من قبل الحق فَمَنْ شاءَ ان يتعظ بها ويتذكر بما فيها اتَّخَذَ أولا إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا يعنى شرع أولا في مسالك القرب والوصول الى الله فتقرب نحوه بالمعاملات ثم بالأحوال والمقامات وبالجملة ليس وراء الله مرمى ومنتهى وَلكن ما تَشاؤُنَ اى المتقربون الى الله السائرون نحوه حسب التوفيق والتيسير الإلهي إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ الموفق لهم الموجد المقدر لعموم أفعالهم وأعمالهم المنجى لهم عن غياهب الإمكان وظلمات الخيالات والأوهام إِنَّ اللَّهَ المطلع على استعدادات عباده كانَ عَلِيماً بقابلياتهم اللائقة لفيضان الكشف والشهود حَكِيماً في تربيتهم وتكميلهم يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ بهدايته ولطفه فِي رَحْمَتِهِ التي هي سعة وحدته وَلكن الظَّالِمِينَ الخارجين عن مقتضى الحدود الإلهية المحرومين عن نظر العناية والتوفيق مطلقا قد أَعَدَّ لَهُمْ سبحانه عَذاباً أَلِيماً لا عذاب أشد منه ايلاما وأفزع انتقاما ألا وهو حرمانهم عن ساحة عز القبول. نعوذ بك منك يا ذا القوة المتين خاتمة سورة الإنسان عليك ايها المريد المتوحد بمشية الله وتيسيره وفقك الله على ما املك واعانك على انجاحه ان تفرغ همك وتخلى قلبك عن الالتفات الى الدنيا معرضا عن آمالها وأمانيها متوجها الى الآخرة وما فيها متعرضا لنفحات الحق مستنشقا من روائح روحه ورحمته راجيا من سعة لطفه وجوده ان ييسرك ويوفقك في عموم أوقاتك وحالاتك على ما هو خير لك في أولاك وأخراك ويدفع عنك شرور بشريتك ومقتضيات بهيميتك وقواك وبالجملة فاتخذه سبحانه وكيلا وثق اليه واجعله حسيبا وكفيلا وتوكل عليه إذ هو اعلم بما ينبغي لك منك وبما يليق بحالك فلك التفويض والتكلان والأمر بيد الله الحكيم المستعان

سورة المرسلات

[سورة المرسلات] فاتحة سورة المرسلات لا يخفى على من انكشف بوحدة الحق وانجذب نحو مرتبة الكشف والشهود والانجلاء التام المسقط لعموم الاعتبارات والاعتباريات ان الركون اليه سبحانه والانجذاب نحوه انما يحصل بجذبات الهية ونفحات غيبية ونسمات روحانية روحية هابة من نفسات الرحمن ناشئة منتشئة من قبل يمن عالم اللاهوت وحضرة الرحموت ولا شك ان الجذبات الإلهية متفاوتة بتفاوت الاستعدادات والقابليات المترتبة المتفرعة على تربية الأسماء والصفات الإلهية المتفاوتة في أنفسها حسب الشئون الكمالية والتطورات الذاتية الناشئة من التجليات الحبية فمنهم من جذبته العناية وأدركته النفحات والنسمات اللاهوتية كالبرق الخاطف فعصفن ونزعن عنهم ملابس الإمكان بالكلمة واخرجنهم عن سجن الطبيعة والهيولى على الفور بلا تراخ ومهلة ومنهم من نشرت عليهم هينات لينات بحيث يستروحون من هبوبها ويستريحون فيها حتى تترسخ في نفوسهم آثارها فيتدرجون إليها ويتحنون نحوها متشوقين فيتطرقون أثرها حتى يصلوا الى ما وصلوا بل اتصلوا ومنهم من يهببن عليهم ويفرقن في نفوسهم بين الحق والباطل والهداية والضلال على سبيل التدريج فيوقعن بينهم الفتن والبليات وانواع التجارب والاختبارات حتى يتفطن البعض منهم ويتنبه فيكون من اصحاب الجنة والبعض الآخر لا يتفطن ولا يتنبه فيكون من اصحاب النار ومنهم من يلقين لهم بعد هبوبهن عليهم ذكرا فقط حسب فطرتهم الاصلية التي هم فطروا عليها ناشئا من عالم اللاهوت مجردا عن الفكر والفطنة فكيف عن التحنن والشوق فكيف عن السيران والطيران فالاولى اشارة الى طريق الشطار الطائرين الى الله بعد ادراك الجذبة الاحدية كالبرق الخاطف بلا توقف وتأخر والثانية الى طريق الأبرار وارباب المواجيد والواردات الغيبة وذوى الأذواق الصافية المنجذبين نحو الحق من طريق السلوك والمجاهدة والثالثة الى طريق الأخيار واصحاب المعاملات والاستدلالات المتوجهين نحو الحق من طريق التدين والتخلق بالأخلاق الفاضلة والمعاملات الصالحة والرابعة الى طريق العوام القانعين بالذكر والتكرار بلا وجدان وفطنة وذوق ومعرفة لذلك قال سبحانه في شأن العوام أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا. ثم لما أراد سبحانه ان يشير الى هذه الاربعة المذكورة اقسم بحوامل وحيه ونفسات رحمته الفائضة منه سبحانه على عموم عباده على الدوام ليستمدوا منه ويتطرقوا نحوه متذكرين لمبدئهم ومعادهم حسب استعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المظهر لعموم مظاهره بامتداد اظلاله المترتبة على أوصافه الذاتية وأسمائه الحسنى الرَّحْمنِ عليهم بافاضة نسمات روحه ونفسات رحمته الرَّحِيمِ عليهم يوصلهم الى فضاء وحدته بإرسال شمائم روحه وراحته [الآيات] وَحق الْمُرْسَلاتِ اى رياح الجذبات الهابة من قبل يمن عالم اللاهوت المنتشئة من حضرة الرحموت لاسترواح أرواح سكان عالم الناسوت وأشباحهم عُرْفاً لأجل اظهار التعارف والائتلاف الواقع بينهم بحسب الحقيقة والوحدة فَالْعاصِفاتِ النازعات ملابس عالم الناسوت واكسية الإمكان عن أرواح المحبين المجذوبين المنجذبين نحو الحق بالهمم العالية عَصْفاً سريعا شديدا تخليصا لهم عن سجن الطبيعة تفريحا وترويحا وَالنَّاشِراتِ المنتشرات على أراضي استعدادات ارباب الطلب والإرادات المتوجهين نحو الحق بالعزيمة الخالصة نَشْراً لينا هينا بحيث توقظهم عن سنة الغفلة ونعاس النسيان وتخلصهم عن مضيق الضلال وترشدهم الى فضاء

[سورة المرسلات (77) : آية 4]

الوصال فَالْفارِقاتِ الواصلات الى بقعة الإمكان من قبل الرحمن ليفصلن ويفرقن لساكنيها بين الحق والباطل والحرام والحلال والهداية والضلال الواقعة في سلوك طريق الحق وسبيل توحيده فَرْقاً بينا واضحا ليتنبهوا الى مبدئهم ومعادهم فَالْمُلْقِياتِ الملقنات لحوامل أثقال الطبيعة والأركان المسجونين في سجن الإمكان المقيدين بسلاسل الزمان وأغلال المكان المتفرعة على أثقال الطبائع والأركان ذِكْراً حسنا من عالم اللاهوت بحيث يجرونه على ألسنتهم لعلهم يتذكرون به مبدأهم الأصلي ويتفطنون منشأهم الحقيقي ليكون لهم ذكرهم هذا عُذْراً يزيل ويمحو سيئات عالم الناسوت وآثام الإمكان بعد ما تنبهوا به الى عالم اللاهوت وتطرقوا نحوه مهاجرين من بقعة الناسوت أَوْ نُذْراً ينذرهم عن نيران الإمكان وسعير الطرد والخذلان بعد ما تذكروا نعيم عالم اللاهوت وفضاء الجبروت يعنى وبحق هذه المقسمات العظام المكرمات عند الله المنتشآت من لدنه سبحانه حسب حكمته المتقنة البالغة لمصلحة التوحيد والايمان والمعرفة والإيقان إِنَّما تُوعَدُونَ ايها المكلفون من قبل الحق في يوم العرض والجزاء لَواقِعٌ محقق وقوعه وثبوته بلا ريب وتردد واعلموا انه بعد ما قد وقعت الواقعة الهائلة وقامت القيامة المبدلة فَإِذَا النُّجُومُ اى الهويات المحسوسة المرئية في عالم الكون والفساد طُمِسَتْ انمحقت وانمحت وغابت وتلاشت عند ظهور شمس الحقيقة وَإِذَا السَّماءُ اى نظام عالم الكون والفساد فُرِجَتْ صدعت وشقت وانفصمت وتلاشت وَإِذَا الْجِبالُ الرواسي التي هي أوتاد الأرض وهي في الحقيقة عبارة عن الهياكل المحسوسة في عالم الأشباح نُسِفَتْ قلعت من أماكنها ثم ذريت برياح الفناء وَإِذَا الرُّسُلُ المبعوثون للإرشاد ولإصلاح العباد وسداد فسادهم أُقِّتَتْ وقتت اى قد عين لهم وقت الشهادة على أممهم بعد ما أبهم عليهم وقتها في النشأة الاولى كأنه قيل لهم من قبل الحق لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ وأخرت شهادتهم وأجيب ايضا من جانبه سبحانه لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَما أَدْراكَ وأعلمك يا أكمل الرسل ما يَوْمُ الْفَصْلِ أبهمه سبحانه تهويلا وتعظيما وبالجملة وَيْلٌ وهلاك مؤبد وزجر مخلد مستمر يَوْمَئِذٍ اى في يوم الفصل لِلْمُكَذِّبِينَ به المنكرين له في النشأة الاولى سيما بعد اخبار الرسل والكتب وكيف يكذبونه وينكرون عليه أولئك الضالون المكذبون مع انهم قد سمعوا حال المكذبين المنكرين الماضين أَلَمْ نُهْلِكِ المكذبين الْأَوَّلِينَ كقوم عاد وثمود ولم نستأصلهم بسبب انكارهم وتكذيبهم بهذا اليوم الموعود ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ يعنى نتبع ونعقب إهلاك الأولين باهلاك الآخرين كقوم شعيب وموسى وعيسى عليهم السلام وغيرهم ايضا بسبب تكذيب هذا اليوم وتكذيب من اخبر به من الكتب والرسل وبالجملة كَذلِكَ اى مثل ما فعلنا بالمكذبين السابقين والآخرين اللاحقين نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ اى بعموم هؤلاء المجرمين الحاضرين المكذبين على رسول الله وآياته النازلة عليه من عند ربه لذلك وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وكيف تكذبون ايها المكذبون بما أمرتم بتصديقه من لدنا مع انكم قد عرفتم قدرتنا عليه وعلى أمثاله أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ ايها المجبولون على النسيان مِنْ ماءٍ مسترذل مَهِينٍ في غاية المهانة والخباثة وبعد نزوله فَجَعَلْناهُ وصيرناه مستقرا فِي قَرارٍ يعنى مقر الرحم مَكِينٍ متمكن فيه إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ وأجل معين قدره الله العليم الحكيم للولادة وتسوية الخلق والخروج الى عالم الشهادة وبالجملة فَقَدَرْنا على خلقكم وايجادكم من النطفة المهينة المكينة في ظلمة الرحم وعلى إخراجكم واظهاركم منها الى

[سورة المرسلات (77) : آية 24]

فضاء العالم وتربيتكم فيه الى ان صار كل منكم ذا رأى ورشد قابلا لحمل التكاليف المثمرة بثمرة المعرفة والايمان فَنِعْمَ الْقادِرُونَ المقتدرون نحن ايضا على بعثكم وإخراجكم من قبوركم احياء كما كنتم في يوم البعث والجزاء فلم تكذبون به ايها المكذبون مع انكم قد سمعتم من الثقاة العدول ألا وهم الأنبياء والمرسلون انه وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بقدرتنا على الإعادة وكيف تنكرون قدرتنا الكاملة الشاملة على مطلق المقدورات أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ اليابسة كِفاتاً جامعة كافتة ضامة لكم أَحْياءً مرة وَأَمْواتاً اخرى اى تكفت وتجمع الأحياء والأموات من الإنسان على التعاقب والتوالي تارة فيها وتارة عليها وَجَعَلْنا فِيها اى في الأرض اى عليها رَواسِيَ أوتادا واقطابا شامِخاتٍ عاليات متعاليات عن ان ينال بكنه معارفهم وشهوداتهم ادراك احد وَقد أَسْقَيْناكُمْ ايها المكلفون من لدنيات أولئك الأوتاد والأقطاب المتعالية اغوار أطوارهم عن ادراك الأنام وافهامهم ماءً علما لدنيا كشفيا ذوقيا محييا لأموات الجهل فُراتاً عذبا سائغا شرابه لأولى العزائم الصحيحة والمشارب الصافية عن كدر الرعونات مطلقا وبالجملة وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بقدرتنا واقتدارنا على اظهار هذه البدائع التي قد كلّت دونها وصف الألسن والأحلام ودرك العقول والافهام وكيف يسعهم التكذيب والإنكار وقت إذ عاينوه ويقال لهم حينئذ زجرا عليهم وتوبيخا انْطَلِقُوا وادخلوا ايها المكذبون إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ من العذاب والنكال وانواع العقوبات والمكروهات. ثم قيل لهم ايضا تأكيدا وتشديدا على توبيخهم وتقريعهم انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ واى ظل ظل ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ حاصلة منشعبة من القوى البهيمية الوهمية والشهوية والغضبية إذ بهذه الثلاثة تقترف عموم المعاصي وتكتسب جميع الآثام الموجبة لدخول النار لا ظَلِيلٍ إذ لا يدفع ضرر الحرارة العارضة من نيران الغضب والشهوات وَلا يُغْنِي ولا يدفع مِنَ حر اللَّهَبِ الجهنمية وإحراق النيران الامكانية الحاصلة من القوى البشرية وكيف يمكن ان يدفع حر جهنم إِنَّها اى جهنم الطرد والحرمان تَرْمِي بِشَرَرٍ وهو ما يتطاير من النار حين التهابها وسورتها وأى شرر كل شرر منها كَالْقَصْرِ الرفيع في الكبر والعظيم في المقدار كَأَنَّهُ في الكثرة والتتابع والتوالي جِمالَتٌ وابل متسلسلة مترادفة متتابعة صُفْرٌ لونها شبهها بها في عظم أجرامها وتتابعها وصفرة لونها وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بتكذيبهم لهذا العذاب الهائل بعد ما أمروا بتصديقه على ألسنة الرسل والكتب وبعد ما قد ساقهم الخزنة إليها بالزجر التام والعنف المفرط أخذوا يطرحونهم إليها مهانين صاغرين وهم حينئذ يتضرعون صائحين فزعين وقيل لهم تقريعا وتوبيخا هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ إذ نطقهم بالأعذار الكاذبة كلا نطق في عدم الدفع والنفع وَبالجملة لا يُؤْذَنُ لَهُمْ يومئذ فَيَعْتَذِرُونَ إذ لا يسمع منهم العذر لانقضاء نشأة التلافي والتدارك بالأعذار والتوبة وبالجملة وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وأى ويل عظيم ويل لا يكتنه غوره ولا طوره ولا شدة هوله وحزنه. ثم قيل لهم من قبل الحق حينئذ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ بين المحق والمبطل والمسيء والمحسن جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ اى قد جمعنا الآخرين مع الأولين والسابقين مع اللاحقين فيه فَإِنْ كانَ لَكُمْ ايها المكلفون كَيْدٌ ومكر تقاوموننى به وتدفعون به عنكم عذابي فَكِيدُونِ وامكرونى ان استطعتم والا ف وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حتما لازما جزما ومن اين يتأتى منهم المكر والحيلة حينئذ مع الله

[سورة المرسلات (77) : آية 41]

حتى يتخلصوا من عذابه سيما في تلك الحالة وبالجملة هؤلاء الضالون سيقوا نحو النار وطرحوا فيها مهانين وجذبوا إليها صاغرين خالدين. ثم اردف سبحانه وعيد المكذبين بوعد المصدقين فقال إِنَّ الْمُتَّقِينَ المتحفظين على نفوسهم من الشرك ومن عموم المعاصي المصدقين بيوم الذين والجزاء مستغرقون في بحار الانعام والإحسان يومئذ متنعمون بأنواع التنعم والترفه إذ هم حينئذ متمكنون متكؤن فِي ظِلالٍ ممدودة من ظلال البساتين وَعُيُونٍ جارية فيها وَفَواكِهَ كثيرة في حواليها مِمَّا يَشْتَهُونَ ويقال لهم حينئذ تلطيفا وتكريما كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً لكم مريئا كل ذلك بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في النشأة الاولى من الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية المثمرة لتلك الحالات العلية والمقامات السنية وبالجملة إِنَّا كَذلِكَ اى مثل ما أنتم عليه من الترفه والتنعم نَجْزِي عموم الْمُحْسِنِينَ المخلصين في الأعمال والأخلاق الراضين بما جرى عليهم من مقتضيات قضائنا وبالجملة وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ لكم ايها المخلصون المهتدون هذا النعيم المقيم ولهم ذلك العذاب الأليم. ثم يقال على سبيل الفرض والتقدير للمكذبين من قبل الحق زجرا عليهم وتوبيخا لهم بما اختاروا اللذة الفانية على اللذة الباقية كأنهم قد أمروا به في النشأة الاولى وقيل لهم على سبيل التهديد فيما مضى كُلُوا من حطام الدنيا حيث شئتم رغدا واسعا وافرا وَتَمَتَّعُوا بامتعتها زمانا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ بالجرائم العظيمة مؤاخذون عليها بالآخرة في النشأة الاخرى بشؤم تكذيبكم بما أمرتم بتصديقه وبالجملة وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وهم قد عرضوا أنفسهم على العذاب المخلد المؤبد وَكيف لا يؤاخذون أولئك المعاندون المكابرون إذ هم قد كانوا من كمال استكبارهم وعتوهم إِذا قِيلَ لَهُمُ امحاضا للنصح ارْكَعُوا اى تواضعوا لأمر الله واخضعوا له سبحانه وانقادوا لحكمه وصلوا نحوه متذللين وهم لا يَرْكَعُونَ من غاية استكبارهم واستعظامهم ولا يمتثلون لحكم الله وأوامر رسله ولا يطيعونهم تعنتا وعنادا بل يكذبونهم ويستهزؤن بهم لذلك يحل عليهم وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ المستهزئين برسل الله الظاهرين عليهم بالإساءة والاستكبار المنكرين المكذبين بعموم ما نزل عليهم من الكتب المبينة لمعالم الدين ومراسم التوحيد واليقين بعد ما لم يؤمنوا أولئك الضالون المكذبون بهذا الكتاب المبين المبين بطريق الحق ومنهج الصدق والصواب فَبِأَيِّ حَدِيثٍ وكلام مصلح مرشد هادلهم منقذ إياهم من الضلال بَعْدَهُ اى بعد القرآن يُؤْمِنُونَ أولئك المنكرون المعاندون المفسدون المفرطون. جعلنا الله ممن آمن به وامتثل لما فيه وتفطن برموزه وإشاراته بمنه وجوده خاتمة سورة المرسلات عليك ايها الموحد المحمدي القاصد لسلوك طريق الهداية والتوفيق العازم والجازم على التحقق والتمكن في مقعد صدق التوحيد والتحقيق يسر الله عليك مبتغاك وأوصلك الى غاية متمناك ان تتمسك بالحبل المتين القرآنى وتتشبث بأذيال هدايته وإرشاده وتمتثل بما فيه من الأوامر والنواهي والاحكام الموردة كي تتفطن أنت بما رمز فيه وأشير اليه من المعارف والحقائق المصفية لسرك عن الالتفات الى ما سوى الحق المعدة قلبك لفيضان الكشف والشهود فلك ان تتبتل الى الله حسب استعدادك وتتخلق بالأخلاق المحمدية التي هي القرآن المنزل الموروث الموهوب له من ربه

سورة النبإ

مقدار ما يسر الله لك وقدره لأجلك في حضرة علمه والتوفيق بيد الله والهداية من عنده يهدى من يشاء الى صراط مستقيم [سورة النبإ] فاتحة سورة النبأ لا يخفى على من انكشف له سرائر التكاليف الإلهية وحكم الاحكام الموردة من لدنه سبحانه ومصالح الأوامر والنواهي الناشئة من قدس ذاته ان مقتضى الألوهية والربوبية تربية المربوب وتأديبه بتحميل المتاعب والمشاق المانعة عن مقتضيات الهوى ومتابعة شياطين الأوهام والخيالات الباطلة التي هي جنود النفس الامارة بالسوء إياه وبعد ما لم يمتنع من مقتضيات القوى الطبيعية ولم يأت بالطاعات والعبادات المكلفة المأمور بها من قبل مربيه لم يعتدل على صراط العدالة الإلهية ولم يستقم له الوصول الى روضة الرضاء وجنة النعيم فالحكمة الإلهية تقتضي ان يعذبه بالعذاب الأليم ويدخله في نار الجحيم ابدا مؤبدا خالدا مخلدا لذلك وضع سبحانه بمقتضى حكمته نشأتين نشأة الاختبار والابتلاء ونشأة الانتقاد والجزاء فجعل الاولى منزل العبور والاعتبار والاخرى دار الثبوت والقرار فالعاقل العارف لا بد وان يؤمن ويوقن بكلتيهما ويستعد في أولاهما لاخريهما ومن اغتر بالأولى وشغل بها عن الاخرى فقد لحق بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ولكمال ظهور امارات النشأة الاخرى ووضوح براهين وقوعها وقيامها الى حيث يتساءلون مترددين مستبعدين ويتقاولون فيما بينهم بخبر وقوعها وقيامها ويتداولونها على سبيل المراء والاستهزاء فقال سبحانه بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على عموم ما ظهر وبطن حسب النشأتين الرَّحْمنِ للكل حسب النشأة الاولى الرَّحِيمِ لخواص عباده حسب النشأة الاخرى [الآيات] عَمَّ اى عن ما وعن اىّ شأن وامر يَتَساءَلُونَ ويتقاولون فيما بينهم مراء ومجادلة عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ اى هم يختلفون في قيام الساعة الموعودة لتنقيد اعمال العباد والجزاء عليهم على وفقها مع ان امره اظهر من ان يشك فيه ويسأل عنه ويستهزأ به ويختلف فيه وفي وقوعه فلأى شأن وامر يختلفون ويترددون أولئك المسرفون المترددون كَلَّا وحاشا من اين يتأتى لهم إنكاره والتساؤل فيه والتقاول في شأنه على وجه المراء مع انهم سَيَعْلَمُونَ عن قريب قيامه ووقوعه بل قربه اقرب إليهم من رجع الطرف ولمح البصر بل هو اقرب ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ حين ينزل عليهم بغتة وهم لا يشعرون وبالجملة من اين يتأتى لهم انكار يوم البعث والجزاء هل ينكرون قدرتنا الكاملة على أمثاله أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً لهم ممهدة ينتشرون عليها ويستريحون فيها وَنجعل الْجِبالَ عليها أَوْتاداً تقريرا لها وتثبيتا وَخَلَقْناكُمْ اى قدرنا أشباحكم ايها المكلفون أَزْواجاً أصنافا ذكرا وأنثى لتتآنسوا وتتناسلوا وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ في خلال الليالى سُباتاً انقطاعا عن الاحساس والحركة ليحصل إرخاء الاعصاب والفضلات لتستريحوا بسببه ويزول كلال القوى وفتورها فتستمد بالاستراحة وتشتغل بافعالها في النهار بجرأة تامة وقوة كاملة وَبالجملة قد جَعَلْنَا اللَّيْلَ لكم لِباساً غطاء وغشاء تستترون فيه وتختفون به فيما فيه إخفاء مطلوبكم وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً لكم وقتا تطلبون فيه ما تعيشون به من حوائجكم ومطعوماتكم وملبوساتكم وَ

[سورة النبإ (78) : آية 13]

كذا قد بَنَيْنا بكمال قدرتنا ومتانة حكمتنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً طباقا شِداداً أقوياء محكمات مستحكمات لا يتأثرن بمر الدهور وكر الأعصار كسائر الابنية وَجَعَلْنا في خلالها سِراجاً مضيئا متلألأ متشعشعا وَهَّاجاً حارا سخينا في غاية السخونة عند الانعكاس لتنضيج ما تحتاجون اليه في امور معاشكم وَأَنْزَلْنا ايضا تتميما لتربيتكم وتربية معيشتكم مِنَ السحب الْمُعْصِراتِ بالرياح ماءً ثَجَّاجاً مطرا كثير الانصباب متتالى القطر لِنُخْرِجَ بِهِ اى بالماء الماطر حَبًّا تقتاتون به وَنَباتاً تعتلف بها مواشيكم وَجَنَّاتٍ متنزهات لكم وبساتين أَلْفافاً أشجارها وثمارها من كثرتها وكثافتها كل ذلك من المقدورات التي يتفطن منها العاقل المنصف على وقوع الحشر والنشر من الأمور الغيبة الموعودة في يوم الجزاء بل جميع المقدورات الداخلة تحت قبضة القدرة الإلهية إذ نسبة القدرة الكاملة الإلهية الى هذه المقدورات وأمثالها بل الى اضعافها وآلافها وكذا الى الأمور الموعودة فيها على السواء والارادة الكاملة الإلهية ترجح كلا منها عند حلول ما قدر الله له من الوقت والأجل وبالجملة من ترقى إدراكه عن مضيق الالف وخرق حجب الرسوم والعادات وخلص عن ظلمات الأوهام والخيالات العائقة عن الوصول الى وحدة الذات التي هي منبع عموم الخيرات ومنشأ جميع الكمالات قد انكشف له ولاح عنده ان امرى النشأة الاولى والاخرى وأمثالهما بل اضعافهما وآلافهما في جنب القدرة الغالبة الإلهية سهل يسير لكن المحجوب المحبوس في عالم المحسوس المقيد بعقال العقل المبهوت المشوب بالوهم المنحوس والخيال المزور المنكوس قد يتخيل حصر المظاهر والمجالى الإلهية بما لمع له من سراب عالم الطبيعة والهيولى لذلك وقع فيما وقع من البلوى وزلت قدمه في سبيل القرب من المولى. هب لنا من لدنك رحمة تنجينا عن أمثال هذه المهالك انك أنت الوهاب. ثم قال سبحانه إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ الفارق بين اصحاب الحيرة والضلال وارباب العناية والوصال قد كانَ له مِيقاتاً وقتا معينا في حضرة علم الله مقدرا في لوح قضائه لم يطلع أحدا عليه وعلى تعيينه بل أخبرهم باماراته وعلاماته اذكر يا أكمل الرسل يَوْمَ اى يوم إذ حل فيه وقت الفصل وقيام الساعة وحينئذ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ النفخة الاولى لبعث الموتى وإذا وصل لهم ذلك النداء والصداء فيخرجون من قبورهم حيارى وسكارى مبهوتين ثم ينفخ فيه ثانيا للحشر فَتَأْتُونَ المحشر أَفْواجاً فرقا فرقا وزمرا زمرا وَفُتِحَتِ السَّماءُ اى قد خرقت وشقت يومئذ فَكانَتْ الخرق والشقوق لها أَبْواباً وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ اى قلعت عن وجه الأرض وتحركت فطارت اجزاؤها كالهباء نحو الهواء فَكانَتْ أشكالها وهيآتها سَراباً اى كالسراب يلمع ويرى على صورة الجبال ولا حقيقة لها كما هي الآن كذلك عند العارف المكاشف بحقيقتها وبالجملة إِنَّ جَهَنَّمَ يومئذ قد كانَتْ مِرْصاداً مرصدا ومعبرا لعموم العباد يعبر منها اهل الجنة على تفاوت طبقاتهم سرعة وبطأ مترتبين على تفاوت أعمالهم وأحوالهم ومواجيدهم ومقاماتهم ومنهم من لا يلتفت نحوها ولا يدركها اين هي وان عبرها ومنهم من يعبرها كالبرق الخاطف ثم الأمثل فالأمثل فينجون من غوائلها ويسقط فيها اهل النار ويغلون باغلالها وسلاسلها فتصير لِلطَّاغِينَ المصرين على طغيانهم وكفرهم مَآباً مرجعا ومأوى لا يخرجون منها أصلا بل يكونون لابِثِينَ ماكثين فِيها أَحْقاباً وأى احقاب أحقابا لا كاحقاب الدنيا بل لا نهاية لها ولا غاية لحدها فذكرها كناية عن عدم التناهى وهم لا يَذُوقُونَ فِيها في جهنم

[سورة النبإ (78) : آية 25]

البعد وسعير الحرمان بَرْداً لحرمانهم عن لذة برد اليقين في النشأة الاولى وَلا شَراباً لأنهم لم يشربوا في النشأة الاولى من زلال الايمان شربة ولا من رحيق التحقيق والعرفان جرعة لذلك ما يشربون في النشأة الاخرى إِلَّا حَمِيماً ماء حارا يسخن بنيران غضبهم وشهواتهم بحيث يقطع أمعاءهم من شدة حرارته وَغَسَّاقاً صديدا سائلا من جراحات اهل النار بدل ما كانوا يأكلون ويشربون من اموال اليتامى والمظلومين ظلما وعدوانا وبالجملة قد جوزوا فيها جَزاءً وِفاقاً موافقا مطابقا لاعمالهم التي قد أتوا بها في دار الدنيا وبالجملة إِنَّهُمْ كانُوا حين يمموا المعاصي وعزموا على الآثام لا يَرْجُونَ ولا يأملون حِساباً ولا يخافون عذابا وَلهذا قد كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على كمال قدرتنا واقتدارنا على وجوه الانعام والانتقام وعلى رسلنا المنزلة إليهم تلك الآيات كِذَّاباً تكذيبا بليغا وإنكارا شديدا بحيث كانوا يستهزؤن بالآيات والرسل مكابرة وعنادا وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً يعنى وهم وان بالغوا في التكذيب والعناد قد فصلنا نحن أعمالهم وأخلاقهم وجميع خصائلهم المذمومة على صحف أعمالهم التي سيحاسبون عليها على التفصيل ويجازون بمقتضاها وبعد ما يحاسبون ويؤاخذون يقال لهم زجرا عليهم وتوبيخا فَذُوقُوا ايها المسرفون المفرطون فَلَنْ نَزِيدَكُمْ بأعمالكم وتكذيبكم إِلَّا عَذاباً فوق العذاب في الحديث صلوات الله على قائله هذه الآية أشد ما في القرآن على اهل النار. ثم اردف سبحانه بوعيدهم وعد المؤمنين تشديدا لعذابهم وتأكيدا فقال إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الحافظين نفوسهم عن محارم الله خوفا من عذاب الله ورجاء من فضله مَفازاً مخلصا ومنجاة من جميع المكاره اللاحقة للكفار والعصاة في النار حَدائِقَ ذات بهجة وبهاء ونضارة ونزاهة وَأَعْناباً معروشات وَان لهم فيها أزواجا كَواعِبَ نواهد قد استدارت ثديهن مثل الزمان أَتْراباً أبكارا لم يطمثهن انس قبلهم ولا جان وَكَأْساً من خمور المحبة الإلهية دِهاقاً ملآنا وهم لا يَسْمَعُونَ فِيها اى في الجنة عند شرب خمور المحبة لَغْواً فضولا من الكلام وَلا كِذَّاباً اى مكاذبة يكذب بعضهم بعضا كما يقع بين شاربي شراب الدنيا وانما يجازون بما يجازون جَزاءً ناشئا مِنْ رَبِّكَ يا أكمل الرسل عَطاءً من لدنه تفضلا عليهم وإحسانا إذ لا يجب عليه سبحانه شيء حِساباً كافيا وافيا لا ينقصون ولا ينتظرون وكيف لا يتفضل سبحانه على أوليائه مع انه (5) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مربى العلويات والسفليات وَما بَيْنَهُمَا من الممتزجات لا مربى لها سواه الرَّحْمنِ المستوي على عروش عموم المظاهر بالرحمة العامة والاستيلاء التام والسلطنة القاهرة والبسطة الغالبة بالإرادة والاختيار بحيث لا يَمْلِكُونَ ولا يقدرون اى اهل السموات والأرض مِنْهُ سبحانه خِطاباً اى لا يسعهم ان يخاطبوه ويطلبوا منه شيأ من زيادة ثواب او نقص عقاب بل هو بذاته فعال لكل ما يريد من مقتضيات أسمائه وصفاته بالإرادة والاختيار لا يسأل عن فعله انه حكيم حميد وكيف يملكون ويقدرون على خطابه سبحانه هؤلاء الاظلال الهلكى في حدود ذواتهم مع انه يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ المطلق وَالْمَلائِكَةُ اى حوامل الأسماء والصفات الإلهية المجردات المنفصلات عن التعلقات المادية مطلقا صَفًّا صافين مصطفين ساكتين صامتين من كمال دهشتهم عن سطوة سلطنة الذات القاهرة الغالبة بحيث لا يَتَكَلَّمُونَ حينئذ ولا يقدرون على التفوه بالحال او المقال إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ بالشفاعة والسؤال فتكلم باذنه وَقالَ صَواباً مرضيا

[سورة النبإ (78) : آية 39]

عند الله مستجابا وبالجملة ذلِكَ الْيَوْمُ اى يوم الفصل والقيامة هو اليوم الْحَقُّ الثابت الكائن وقوعه بلا خلف ولا ريب فَمَنْ شاءَ ان يأمن من فتنته ويخلص من عذابه اتَّخَذَ وأخذ في النشأة الاولى إِلى رَبِّهِ مَآباً مرجعا ومنقلبا يتوجه اليه ويتحنن نحوه متقربا بصوالح الأعمال ومحاسن الشيم والأخلاق والأطوار وبالجملة َّا أَنْذَرْناكُمْ ايها المعرضون عن الله المنصرفون عن طاعته وعبادته مطلقاذاباً قَرِيباً غريبا فجيعا فظيعا سيلحقكم بغتة وأنتم لا تشعرون باماراته ومقدماته اذكروا الأحوال والافزاع الطارية لكم وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ويرى جميع اقَدَّمَتْ يَداهُ خيرا كان او شرا نفعا كان او ضرا بعد ما قد رأى الكل يومئذ ما رأى من الصوالح والمقابح الصادرة عنه الجارية عليه قُولُ الْكافِرُ الرائي قبائح أفعاله وفواسد اعماله متأسفا متحسرا متمنيا هلاكه على سبيل المبالغةا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً لم اخلق ولم اكلف حتى لا استحق هذا الويل والثبور. هب لنا من لدنك رحمة انك أنت الرحيم الغفور خاتمة سورة النبأ عليك ايها الموحد المحمدي ان تتزود ليوم الجزاء بالتقوى عن محارم الله والاجتناب عن منهياته والامتثال بأوامره والتخلق بأخلاقه حتى لا تستحيي من الله في يوم الجزاء ولا تتمنى مقتك وهلاكك مثل من كفر وعصى فعليك ان تلازم على أداء الواجبات والمسنونات والمستحبات من الصلوات والزكوات وانواع الطاعات وعلى التقرب نحوه بالنوافل من الصلوات والصدقات والخدمة بالجوارح والآلات لعموم عباد الله والسعى الى مطلق الخيرات والمبرات والاجتهاد في طريق الحسنات ومطلق المكفرات وترك السيئات حتى تتخلص عن كؤد العقبات وتصل الى روضات الجنات وتفوز بالفوز والسعادات وانواع الكرامات. جعلنا الله من ارباب الهداية والتوفيق ويسر لنا الوصول الى مقر التوحيد والتحقيق بمنه وجوده [سورة النازعات] فاتحة سورة النازعات لا يخفى على السالكين المتدرجين عن مضيق الطبيعة نحو فضاء الحقيقة مهاجرا عن بقعة الإمكان ولوازمها نحو الوجوب الذاتي ان التخلص والنجاة من سلاسل الأماني وأغلال الآمال مطلقا لا يتيسر إلا بجاذبة الحق ووحيه المفيض من عنده على أسمائه وصفاته الفعالة في عالم الكون والفساد الموسومين المتسمين بالملائكة النازعات المخلصات للأرواح البشرية التي هي من جنود عالم اللاهوت المسجونة في مضيق عالم الناسوت في حصون الهويات الامكانية وقلاع الطبائع والأركان فبعضهم بعد ما هبطوا إليها وتوطنوا الفوا ونسوا موطنهم الأصلي ومنزلهم الحقيقي وبعضهم قد صاروا محبوسين محجوبين متذكرين الموطن الأصلي راجين الخلاص عن ورطة الهلاك وبعضهم مترددون شاكون وبعضهم متحركون مضطربون للخروج ولا يتأتى لهم ولما كان حالهم في سجن الطبيعة وعالم الإمكان هكذا وكل عليهم سبحانه عناية منه وفضلا نوازع نازلة من عالم الجبروت حسب قيوداتهم التي كانوا عليها حتى تخلصوهم من مضيق الناسوت وتوصلوهم الى فضاء اللاهوت ولذلك اقسم سبحانه بحق هذه النوازع العظيمة الشئون لثبوت يوم البعث والجزاء الذي قد انقهر وانعدم عند قيامه وظهوره سراب عالم الناسوت مطلقا ليرتدع المنكرون عن إنكاره وينزجر الملحدون عن الجحود فيه

الآيات

فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المقدر المدبر لأمور عباده حسب ما اقضته الحكمة والمصلحة الرَّحْمنِ عليهم في النشأة الاولى ينبههم عن سنة الغفلة الرَّحِيمِ في النشأة الاخرى يخلصهم عن سجن الطبيعة [الآيات] وَحق النَّازِعاتِ المخلصات أرواح المحبين من محابس الطبائع والأركان غَرْقاً لاستغراقهم في لوازم الناسوت ومقتضياتها المغشية صفاء عالم اللاهوت وَالنَّاشِطاتِ المنزعات المخرجات لنفوس ارباب المحبة والولاء المتشوقين الى عالم العماء وفضاء اللاهوت نَشْطاً رفقا ولطفا بهم لكمال تحننهم وتشوقهم الى الخلاص وَالسَّابِحاتِ المخرجات أرواح الأبرار المحسنين عن أشباحهم هينات لينات بحيث تقبضهم رفقا ثم تمهلهم حتى يستريحوا ثم تقبضهم هكذا الى ان تخلصهم كالسابح في الماء يتحرك ثم يستريح ثم يتحرك سَبْحاً لكونهم سابحين في بحر الحيرة دائما حتى وصلوا الى بحر اليقين فَالسَّابِقاتِ اى النفوس الفانية في الله الباقية ببقائه المبادرة الى الخروج قبل نزول النازعات سَبْقاً لكمال شوقهم وانبعاثهم وتجردهم عن ملابس عالم الناسوت وانتزاعهم عن مقتضيات الطبيعة والأركان قبل حلول الأجل وهجوم المخرجات المخلصات فَالْمُدَبِّراتِ الموكلات على تدابير عموم المظاهر من الأرزاق والآجال وجميع الأمور الجارية في عالم الكون والفساد أَمْراً لكونهم مأمورين بها موكلين عليها بمقتضى حكمة القدير العليم يعنى بحق هذه الحوامل العظام والموكلات الكرام لتبعثن أنتم من قبوركم ولتحاسبن على أعمالكم ايها المكلفون اذكروا يَوْمَ تَرْجُفُ تتحرك وتضطرب الرَّاجِفَةُ المتقررة الساكنة التي لا حركة لها أصلا كالأرض وسائر الجمادات وبعد تحرك هؤلاء الجوامد تَتْبَعُهَا في الحركة والاضطراب والاندكاك الرَّادِفَةُ اى العلويات السائرة المتحركة دائما حيث تتشقق السموات وتنتثر الكواكب وبالجملة تختلط العلويات بالسفليات وتتمازجان بحيث لا علو ولا سفل من شدة الهول ونهاية الفزع قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ قلقة حائرة شديدة الاضطراب أَبْصارُها اى ابصار اصحاب القلوب حينئذ خاشِعَةٌ شاخصة ذليلة من شدة الخوف والهول المفرط مع ان هؤلاء الشاخصين الواجفين قد كانوا يَقُولُونَ في النشأة الاولى حين أخبرهم الرسل بالبعث والحشر على سبيل الاستبعاد والإنكار أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ اى الحالة التي قد كنا عليها يعنى انبعث احياء كما كنا من قبل ثم يزيدون الإنكار بقولهم أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً بالية رميمة نبعث ونحيى كلا وحاشا من اين يتأتى لنا هذا وبعد ما استبعدوا واستكبروا بما استنكروا قالُوا متهكمين مستهزئين تِلْكَ الحالة المفروضة لو وقعت ورددنا الى الحياة بعد الموت كما زعم هؤلاء المدعون يعنون الرسل لحصل لنا ذلك إِذاً كَرَّةٌ عودة ورجعة خاسِرَةٌ اى ذات خسران وخذلان إذ قد كنا نكذب بها ولا نصدق بمن اخبر وبعد ما وقعت قد كنا خاسرين خسرانا عظيما وبعد ما تقولوا من بطرهم وخيلائهم بما تقولوا قيل لهم من قبل الحق مقرعا على استماع استعداداتهم لا تستبعدوا امر الساعة الموعودة المعهودة ايها المسرفون المفرطون ولا تستصعبوها فَإِنَّما هِيَ اى امر الساعة وقيامها عند كمال قدرتنا الغالبة القاهرة زَجْرَةٌ واحِدَةٌ اى ما هي الا نفخة واحدة تنفخ في الصور بأمرنا وحكمنا فإذا نفخت النفخة الثانية فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ اى فاجأت بنى آدم بأجمعهم فصاروا احياء على وجه الأرض كما قد كانوا عليها في النشأة الاولى من الهيآت والأشكال والهياكل والهويات. ثم أشار سبحانه الى تسلية حبيبه صلّى الله عليه وسلّم وحثه على الاصطبار باذيات

[سورة النازعات (79) : آية 15]

اصحاب التكذيب والاستكبار فقال هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى يعنى لما اضطربت أنت بتكذيب قومك وانكارهم عليك واعراضهم عن هدايتك وارشادك يا أكمل الرسل أليس قد أتاك حديث أخيك موسى الكليم حتى يسليك ويزيح كربك ويرشدك الى الصبر والثبات مثل أخيك موسى عليه السلام حتى تظفر على أعدائك مثله وذلك وقت إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بلا وسيلة الملك وسفارة السفير إذ هو حينئذ من افراط المحبة بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ عن رذائل الأغيار وعن الالتفات الى ما سوى الملك الجبار طُوىً اى قد طويت دونه حينئذ مطلق التعينات والنقوش والتموجات الطارية على بحر الوجود من عواصف الإضافات المتموجة والنكبات وبعد ما قد تقرر عليه السلام في مقعد الصدق وتمكن على مكمن اللاهوت امره سبحانه بالالتفات الى عالم الناسوت والرجعة نحوه للإرشاد والتكميل تتميما لقضية الحكمة البالغة المتقنة الإلهية بقوله اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ العالي العاتي الطاغي الباغي إِنَّهُ قد طَغى وتجاوز عن مقتضى العبودية طغيانا فاحشا الى ان قد ادعى الألوهية لنفسه فَقُلْ له مستفهما أولا على طريقة الملاينة اللازمة لمرتبة النبوة والإرشاد هَلْ لَكَ بعد ما انحرفت عن جادة العبودية بهذه الدعوى الكاذبة الباطلة ميل إِلى أَنْ تَزَكَّى تتزكى وتتطهر عن رذائل الكفر ونقيصة الظلم والعدوان وَأَهْدِيَكَ وأرشدك انا باذن الله ووحيه إِلى توحيد رَبِّكَ وتقديس مربيك الذي قد أظهرك من كتم العدم ورباك بأنواع اللطف والكرم وبعد ما تعرف أنت وحدة ربك وتؤمن بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وتصدق أنت بكمال قدرته واقتداره على وجوه الانتقامات والإنعامات باستقلاله في عموم التدبيرات والتصرفات فَتَخْشى حينئذ عن بطشه وقهره وتشتغل بأداء المأمورات وترك المنكرات والمحرمات والاجتناب عن مطلق المنهيات وبالجملة تكون أنت حينئذ من زمرة ارباب العناية والكرامات وتتخلص من نيران الطبيعة ودركاتها وبعد ما ذهب موسى بمقتضى امر الله ووحيه الى فرعون الطاغي الباغي وبالغ في التبليغ واظهار الدعوة والملاينة على وجه الرفق والمداراة فَأَراهُ على سبيل التبيين والتوضيح الْآيَةَ الْكُبْرى يعنى العصا وتقليبها حية او جنس الآيات النازلة عليه وبعد ما سمع فرعون من موسى ما سمع ورأى من الآيات ما رأى استكبر وغوى فَكَذَّبَ موسى واستكبر عليه وَعَصى المولى وزاد بغيا وطغيانا ثُمَّ بعد ما اقبل عليه موسى للإرشاد والتكميل بأمر الله قد أَدْبَرَ واستدبر فرعون عن الإقبال بل اقبل على البغي والضلال لذلك يَسْعى ويجتهد في المعارضة والابطال فَحَشَرَ جنوده وسحرة بلاده فَنادى على رؤس الملأ على سبيل الاستعلاء والاستكبار فَقالَ ذلك المسرف المفرط من كمال البطر والافتخار أَنَا رَبُّكُمُ ومربيكم الأجل الْأَعْلى من كل من يلي أمركم ايها البرايا. ثم لما أفرط اللعين في البغي والطغيان وبالغ في الظلم والعدوان فَأَخَذَهُ اللَّهُ القدير القهار بمقتضى اسمه المضل المذل فجعل سبحانه طغيانه وعدوانه في النشأة الاولى نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى اى سبب الأغلال والسلاسل في النشأة الاخرى وسببا للاهلاك والإغراق ايضا في النشأة الاولى إِنَّ فِي ذلِكَ الشأن الذي قد جرى على فرعون من انواع البلاء في النشأة الاولى والاخرى لَعِبْرَةً وعظة عظيمة وتذكيرا بليغا لِمَنْ يَخْشى من غضب الله وعن مقتضيات قهره وجلاله. ثم أشار سبحانه الى توبيخ مطلق المنكرين للنشأة الاخرى وتقريعهم وتسفيههم بمقتضى عقلهم فقال أَأَنْتُمْ ايها المنكرون المفرطون المسرفون

[سورة النازعات (79) : آية 28]

في امر الحشر والنشر أَشَدُّ وأصعب خَلْقاً وإيجادا على سبيل الإعادة أَمِ السَّماءُ التي هي ارفع الابنية وأعلاها وأشدها نظاما وأقواها بنيانا والتياما إذ هو سبحانه بَناها بقدرته الكاملة واحسن بناءها بحيث رَفَعَ سَمْكَها وسقفها بلا اعمدة وأسانيد وأسطوانات فَسَوَّاها وعدلها بلا قصور وفطور وبعد ما سواها كذلك قد أدارها وحركها على الاستدارة كذلك وَقد رتب على حركاتها المددين حيث أَغْطَشَ واظلم لَيْلَها الحاصل من حركاتها وَأَخْرَجَ اى ابرز واظهر ضُحاها ضوء شمسها في النهار الحاصل من تلك الحركات وَبعد ما رتبها كذلك قد خلق الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ اى بعد خلق السموات واعجب في خلقها بان دَحاها ومهدها اى بسطها لمن يسكن عليها ويستقر فيها وبعد ما بسطها كذلك أَخْرَجَ مِنْها ماءَها حيث فجر فيها عيونا واجرى أنهارا وَاظهر وأنبت ايضا عليها مَرْعاها تقويتا لمن عليها وما عليها وَقد رتب الْجِبالَ الطوال الثقال ايضا عليها حتى أَرْساها أحكمها وأثبتها وانما مهدها وبسطها وأنبت عليها وفجر منها لتكون مَتاعاً لَكُمْ اى ترفها وتمتعا لكم عليها وَكذا لِأَنْعامِكُمْ ومواشيكم ايضا فإنها من لواحق معايشكم ومتمماتها وبعد ما قد فضلكم سبحانه ورباكم عليها بأنواع الخيرات والبركات قابلتموها بالجحود والنسيان فتربصوا فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى اى فاذكروا الداهية العظمى التي هي عبارة عن قيام الساعة الموعودة واذكروا يَوْمَ يَتَذَكَّرُ فيه الْإِنْسانُ عموم ما سَعى واقترف في النشأة الاولى حيث يعطى لهم صحائف أعمالهم الماضية مفصلة فينظرون فيها ويتذكرون بها جميع ما صدر عنهم من الأعمال الصالحة والفاسدة فيجازون بمقتضاها وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ اى قد لاحت وظهرت الجحيم يومئذ لِمَنْ يَرى اى لكل من يتأتى منه الرؤية اى يظهر أمرها بحيث لا يخفى على احد. ثم قسم الناس حينئذ قسمين فَأَمَّا مَنْ طَغى في النشأة الاولى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا اى اختار الحياة المستعارة الدنية الدنياوية ولوازمها من اللذات الوهمية والشهوات الفانية البهيمية على الحياة الاخروية وما يترتب عليها من اللذات اللدنية الباقية فَإِنَّ الْجَحِيمَ المسعرة بنيران غضبهم وشهواتهم هِيَ الْمَأْوى لهم مقصور عليهم إذ لا مأوى سواها وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ اى خاف عن قيامه بين يدي الله ووقوفه في المحشر للحساب وعرض الأعمال عليه سبحانه والجزاء عليها وَمع كمال خوفه وخشيته نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى اى قد كف نفسه عن مقتضياتها التي ترديها وتغويها فَإِنَّ الْجَنَّةَ الموعودة لهم على لسان الكتب والرسل هِيَ الْمَأْوى اى مأواهم مقصور على الجنة وهم فيها ابدا خالدون ولا يتحولون الا الى ما هو اولى منها وأعلى درجة ومقاما من درجاتها ومقاماتها. ثم قال سبحانه يَسْئَلُونَكَ يا أكمل الرسل عَنِ السَّاعَةِ ووقت قيامها الذي هو من جملة الغيوب التي لا نطلع أحدا عليها أَيَّانَ مُرْساها اى متى ارساؤها وإقامتها وأى آن إتيانها وقيامها عين لنا وقتها فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها اى أنت في أى شيء وشأن منها ان تذكر لهم وقتها او تعينها مع انا لا نطلعك على وقتها سوى انا قد أوحينا لك انيتها وثبوتها وتحقق قيامها فما لك الا تبليغ ما يوحى إليك بل إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها اى منتهى علمها وتعيين وقتها انما هو مفوض الى حضرة علم الله موكول الى لوح قضائه إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها اى ما أنت الا نذير لم تبعث الا لإنذار الخائفين الموفقين على الخوف من أهوالها وافزاعها لا من المقدرين المعينين لوقتها وكيف يسع لك هذا التعيين والتقدير إذ هو من

[سورة النازعات (79) : آية 46]

جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها. ثم قال سبحانه تهويلا على المنكرين كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها ويعاينون قيامها يتيقنون حينئذ على سبيل الجزم انهم لَمْ يَلْبَثُوا ولم يمكثوا في دار الدنيا مدة حياتهم فيها إِلَّا عَشِيَّةً اى عشية يوم أَوْ ضُحاها اى ضحى تلك العشية يعنى يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا بالنسبة الى يوم الدين وطولها. نعوذ بك من النار ومما قرب إليها يا غفار خاتمة سورة النازعات عليك ايها المحمدي المحقق الواقف لقيام الساعة وما يترتب عليها من الثواب والعقاب والجنة والنار ان تبذر وتزرع في محرثك هذا ما ستحصده هناك من بذور الأعمال الصالحة والأخلاق المرضية والأطوار المحمودة المحمدية وسائر السنن والآداب المقبولة المأثورة من النبي المختار ومن عترته الأخيار الاطهار ولا بدلك ان تكون دائما على ذكر كامل من قيامها وأهوالها في عموم أوقاتك وحالاتك وإياك إياك الاغترار بالحياة المستعارة والالتفات الى مزخرفات الدنيا الغدارة المكارة فإنها تمكر بك وتغويك وتضلك عن طريق الحق وترديك فعليك ان لا تتبع لغوائلها ولا تنخدع بمخائلها حتى لا تكون من زمرة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين. جعلنا الله من زمرة الآمنين الفائزين المستبشرين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون [سورة عبس] فاتحة سورة عبس لا يخفى على من تمكن بمقر عز الوحدة وتوطن في السواد الأعظم اللاهوتى ان علامة التمكين والتثبيت ان لا يبقى مع الموحد المحقق شيء من لوازم عالم الناسوت بحيث لا يتكبر على من دونه ولا يتحسر على من فوقه بل لم يبق في عين شهوده سدل الاثنينية ورمد الفوقية والتحتية مطلقا بل قد صار الكل في نظر شهوده على السواء بحيث ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت سيما ترجيح اصحاب الثروة والغفلة وذوى البطر والاستكبار والاستنكار على ارباب الارادة والاعتبار وان فقد منهم الحس الظاهر. ثم لما كان صلّى الله عليه وسلّم مشغوفا بإيمان رؤساء مكة شرفها الله تعالى وصناديدهم طالبا لدعوتهم وإرشادهم جلس يوما من الأيام معهم على سبيل الملاينة رجاء ان يوفقوا للايمان ويرغبوا الى قبول الدعوة وكان صلّى الله عليه وسلّم يصاحبهم ويداريهم حتى دخل عليه صلى الله عليه وسلّم ابن أم مكتوم الأعمى رضى الله عنه ولم يدر من هم عنده صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله علمني بما علمك الله ولم يلتفت صلى الله عليه وسلّم واشتغل مع اهل الثروة فناداه بما نادى مرة بعد اخرى حتى غضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقطب وجهه فعبس فجرى في نجواه ما جرى من لحوق العار بان يعيب عليه أولئك الصناديد الأشرار بان اتباعه ما هي الا العجزة والعميان والمساكين وكان عليه صلّى الله عليه وسلّم حتى أوحاه سبحانه معاتبا عليه مؤدبا له فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على قلوب أوليائه بمقتضى سعة رحمته الرَّحْمنِ عليهم بحفظ مرتبتهم الرَّحِيمِ عليهم يوقظهم من غفلتهم قد [الآيات] عَبَسَ وجهه من جهة الكراهة عن المسترشد الفقير الضرير وَتَوَلَّى اى اعرض عنه وانصرف وحول صفحة وجهه منه كارها إياه وذلك وقت أَنْ جاءَهُ المسترشد الْأَعْمى اخرج الكلام سبحانه مع حبيبه

[سورة عبس (80) : آية 3]

صلى الله عليه وسلم على طريق الغيبة إظهارا لكمال الغيرة والحمية الإلهية عن هذه الغفلة الغير المرضية ثم التفت الى الخطاب لكمال التأديب فقال على سبيل التهويل وَما يُدْرِيكَ وأى شيء يكشف لك حاله وقلبه لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يتزكى ويتطهر عن الآثام ويهتدى الى طريق الإسلام بهدايتك وارشادك هذا الأعمى بخلاف أولئك الجهلة الغفلة الذين قد تحننت نحوهم وأحببت دعوتهم فإنهم لا يهتدون ولا يتطهرون أَوْ يَذَّكَّرُ اى يتعظ ويتذكر هذا المريد الفقير الضرير من كلامك فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى والعظة ويتوجه هو بسببها نحو المولى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى عن الله واعرض عن آياته وعن تذكيرك ودعوتك إياه مستكبرا بماله وثروته وسيادته وكمال نخوته فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى يعنى تميل وتتعرض بالإقبال اليه وتتحنن بكمال المحبة نحوه وَما عَلَيْكَ وأى شيء عرض عليك ولحق بك من المكاره الامكانية حتى حجبك وأغفلك أَلَّا يَزَّكَّى اى انه لا يتطهر عن خبائث الآثام وادناس الكفر والعصيان ذلك المعرض المستغنى والمسرف المفسد المستعلى وما سبب اهتمامك حتى يبعثك على الاعراض عن اهل الحق وعدم الالتفات نحوهم مع ان ما عليك الا البلاغ والتبليغ لا الهدى فكيف تحننت نحو اعداء الله وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ من ارباب الطلب والإخلاص يَسْعى ويسرع بطلب الخير والهداية منك في دين الله وَالحال انه هُوَ يَخْشى من غضب الله وهو يرجو من ثوابه مؤملا منك الإرشاد ومن الله الهداية والرشد فَأَنْتَ مع كونك مبعوثا على الهداية والإرشاد الى اصحاب الارادة والقبول عَنْهُ تَلَهَّى تتشاغل وتنصرف كأنك تحقره ولا تبالي بشأنه وإيمانه لرثاثة حاله وفقره. ثم بالغ سبحانه في تأديب حبيبه صلّى الله عليه وسلّم وأكده حيث قال كَلَّا ردع اى ارتدع عن فعلتك هذه ايها المبعوث للرسالة العامة ولا تمل الى اصحاب الزيغ والضلال معرضا عن ارباب الهداية والكمال إذ ليس عليك التمييز والاختيار بل ما عليك الا التبليغ والإنذار إِنَّها اى عموم دعواتك وتذكيراتك إياهم بمقتضى الآيات البينات انما هي تَذْكِرَةٌ نازلة عليك من ربك وأنت مأمور بتبليغها الى الناس من لدنه فَمَنْ شاءَ وأراد سبحانه اتعاظه من عباده ذَكَرَهُ بالقرآن ووعظه به سواء كان فقيرا او غنيا ومن لم يشأ لم يتعظ وكيف لا يوعظ ولم يتعظ به مع انه منزل من عند الله مثبت فِي صُحُفٍ نازلة على رسل الله مُكَرَّمَةٍ عنده سبحانه مَرْفُوعَةٍ مقبولة لديه درجة ومكانا ملقاة من عند الله الى رسل الله مُطَهَّرَةٍ عن تخليطات الوهم والخيال منزهة عن تحريفات الشياطين إذ هي نازلة من عند الله الى رسل الله بِأَيْدِي سَفَرَةٍ اى ملائكة يتوسلون سفراء بين الله ورسله كِرامٍ أعزة عند الله ذوى كرم وكرامة عظيمة على اهل الايمان بَرَرَةٍ أتقياء مبرورين في أنفسهم بارين على عباد الله ومع هذه الكرامة العظيمة الإلهية والإشفاق البليغ من لدنه سبحانه والرحمة العامة قُتِلَ الْإِنْسانُ اى لعن وطرد عن ساحة عز القبول ما أَكْفَرَهُ أى أىّ شيء حداه وبعثه الى الكفر والاعراض عن الله المنعم المفضل والانصراف عن طاعته وعبادته مع انه عالم بكمال كرامته سبحانه عليه معترف ببدائع صنعه وصنعته معه ووفور انعامه وإحسانه عليه متذكر في نفسه مستحضر بشئونه وتطوراته السالفة القذرة الخبيثة الواردة عليه سيما مِنْ أَيِّ شَيْءٍ مسترذل مستنزل خَلَقَهُ وأوجده سبحانه حسب قدرته مِنْ نُطْفَةٍ مهينة خبيثة خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ اى هيأ آلاته وأعضاءه منها فعدله وسوى هيكله كل ذلك ليعرف مبدأه ومعاده ثُمَّ السَّبِيلَ الموضح الموصل الى ربه وموجده

[سورة عبس (80) : آية 21]

الذي هو مبدؤه ومعاده يَسَّرَهُ وسهل عليه وأودع فيه العقل الفطري المنشعب من العقل الكل الذي هو عبارة عن حضرة العلم المحيط الإلهي ثُمَّ أَماتَهُ عن نشأة الابتلاء والاختبار تخليصا وتقريبا الى ربه فَأَقْبَرَهُ في البرزخ ثُمَّ إِذا شاءَ وتعلقت مشيئته للأحياء أَنْشَرَهُ من القبر وحشره الى المحشر فحاسبه فجازاه على مقتضى حسابه خيرا كان او شرا فضلا عنه او عدلا كَلَّا ردع له وويل عليه ما هذا النسيان والكفران لهذه النعم العظام والكرامات الجسام لَمَّا يَقْضِ اى لم يقض ولم يجر من لدن وجوده وظهوره على ما أَمَرَهُ الحق به إذ قلما يخلو افراد الإنسان عن الكفر والكفران والإثم والعدوان الا ان بعضه متدارك متلاف قد جبر بالتوبة والايمان ما كسر بالكفر والكفران وبعضه مغمور في عصيانه ونسيانه وبغيه وطغيانه الى حيث لا يتنبه قط وبالجملة فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ المجبول على الكفران والنسيان إِلى طَعامِهِ المسوق له من لدنا تفضلا عليه وتكريما لتقويته وتقويم بنيته أَنَّا من مقام عظيم جودنا كيف صَبَبْنَا الْماءَ وافضناه من جانب السماء صَبًّا ترويحا له وتهيئة لأسباب معاشه ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ بعد ما صببنا الماء عليها شَقًّا بديعا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا من انواع الحبوب التي يقتات بها نوع الإنسان وَعِنَباً متضمنا لانواع الأدم والمشروبات وَقَضْباً هو نبات يقطع في السنة مرة بعد اخرى مثل النعناع والطرخون والكراث وغيرها مما يعين للأكل وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَبالجملة حَدائِقَ غُلْباً مملوة بأنواع الأشجار والثمار وَفاكِهَةً اى ألوان الفواكه وأنواعها وأصنافها وَأَبًّا علفا لمواشيه ومراكبه التي بها يتم ترفهه وتنعمه وبالجملة قد اعطاكم واحسن إليكم سبحانه ما اعطى واحسن من النعم العظام والكرامات الجسام ليكون مَتاعاً وتمتيعا لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ التي بها يتم ترفهكم وتنعمكم وانما أنعم عليكم سبحانه لتعرفوا المنعم وتواظبوا على شكر نعمه وأنتم ايها المسرفون المفرطون تكفرون للنعم والمنعم جميعا واذكروا فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ الصيحة المقرعة لصماخكم وأسماعكم فحينئذ شق عليكم الأمر وصعب الهول مع انه لا نصر يومئذ ولا مظاهرة ولا اغاثة حينئذ من احد ولا اعانة بل يَوْمَ اى يومئذ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ شقيقه وشفيقه وَمن أُمِّهِ التي يأوى إليها في الوقائع والملمات وَأَبِيهِ الذي يظاهر ويفتخر به وَصاحِبَتِهِ التي هي أحب اليه من عشائره وَبَنِيهِ الذين هم أعز عليه من عموم أقاربه وسبب التفرة والفرار اشتغال كل منهم بحاله بلا التفات منه الى حال غيره إذ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ يشغله عن شئون غيره ويزعجه عن الاهتمام به مع انه لا يكف ولا يكفيه احد منه وكيف لا يكون كذلك إذ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ مضيئة مشرقة منورة بنور الايمان والعرفان ضاحِكَةٌ فرحا وسرورا بلقاء الرحمن مُسْتَبْشِرَةٌ بعلو الدرجات والمقامات وبأنواع السعادات والكرامات وَوُجُوهٌ أخر يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ غبار وكدورة ناشئة من إكدار الكفر والكفران واقذار الآثام والعصيان مظلمة الى حيث تَرْهَقُها وتغشيها قَتَرَةٌ مذلة وصغار وذلة وخسار موجبة لانواع الهلاك والبوار وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء البعداء عن ساحة عز القبول المكدرون بكدورات الكفر والشرك وانواع الفسوق والفجور هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ الخارجون عن مقتضى الحدود الإلهية وعن نور المعرفة والايمان بمتابعة القوى البهيمية من الشهوية والغضبية إذ كلتاهما مناط عموم الشرور والخسران. أعاذنا الله وعموم عباده من شرهما بمنه وجوده

خاتمة سورة عبس

خاتمة سورة عبس عليك ايها المستنشط القاصد لتبشير الحق وتيسيره ان تسمع نداء البشرية والتوفيق من ألسنة عموم رسل الله وكتبه فلك ان تقتفى اثر هؤلاء الكرام وتمتثل بما في كتاب الله العليم العلام من الأوامر والنواهي ومطلق الاحكام والعبر والتذكيرات الموردة فيه المتعلقة لتهذيب الظاهر والباطن عن الميل والإلحاد الى الأمور المؤدية الى إفساد العقائد والعناد فلك الفرار عن اصحاب الزيغ والضلال والانصراف عن مخالطتهم ومصاحبتهم في كل حال حتى تكون أنت من زمرة اصحاب اليمين المتنعمين في جنات النعيم لا من الضالين المكذبين في دركات الجحيم المعذبين بالعذاب الأليم. نسأل منك يا ذا القوة المتين الفوز بدرجات النعيم والعوذ عن دركات الجحيم يا من فضله عظيم وكرمه عميم ولطفه جسيم [سورة التكوير] فاتحة سورة التكوير لا يخفى على المنكشفين بسطوة سلطنة جلال الله وقهره الغالب ان قيام الساعة ووقوع الطامة الكبرى التي انقهرت دونها نقوش السوى مطلقا في جنب القدرة الكاملة الإلهية انما هي في غاية اليسر والسهولة والمنكر المستبعد لها وللأمور الموعودة فيها مكابر لمقتضى عقله سيما بعد ورود الوحى الإلهي وبالجملة ليس انكار المنكر سيما بعد وضوح الآيات وسطوع البينات الا من اعتياده بمزخرفات الوهم والخيال اللذين هما من أقوى اسباب الكفر والضلال ومن خلص عن رقّية تينك القوتين ونجا عن غوائلها وتغريراتهما فقد جزم بعموم ما اخبر الحق به في هذه السورة بلا تردد وارتياب على الوجه الذي نص عليه سبحانه وفصله بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بعموم كمالاته في النشأتين الرَّحْمنِ في النشأة الاولى ببسط اظلاله على عموم الأشياء الرَّحِيمِ في النشأة الاخرى بقبضه الكل الى ما منه البداء [الآيات] إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ يعنى إذا قامت القيامة ولاحت شمس الذات الاحدية عن مكمن العماء وغلبت نشأة اللاهوت على نشأة الناسوت قد كور الوجود الإضافي المنعكس من الوجود المطلق الإلهي المنبسط على صفائح مطلق العكوس والاظلال ولف وطوى بحيث لم يبق له اثر عن ظهور شمس الحقيقة الحقية وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ يعنى قد انقضت واضمحلت حينئذ نجوم الهويات وهياكل الماهيات الحاصلة من الأوضاع والنسب والإضافات العدمية الاعتبارية المحضة لم يبق لها رسم واثر عند ظهور الهوية الذاتية الإلهية الحقية وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ يعنى قد سارت وانقلعت وطارت عن أماكنها جبال الأنواع والأجناس الواقعة في عالم التعينات وَإِذَا الْعِشارُ يعنى السحب الماطرة لمياه المعارف والحقائق الفائضة على أراضي الاستعدادات القابلة لها اللائقة لفيضانها قد عُطِّلَتْ وتركت لاضمحلال محالها وتلاشى قوابلها بانقضاء نشأة الاختبار وَإِذَا الْوُحُوشُ اى النفوس المستوحشة الآبية الوحشية التائهة في بوادي الطبيعة وقفر الهيولى حُشِرَتْ وجمعت الى ما فيه انتشت وبدت وَإِذَا الْبِحارُ اى البحار الحاصلة من اعتبارات الوجود وشئونه الكلية ظاهرا وباطنا غيبا وشهادة دنيا وعقبى قد سُجِّرَتْ جمعت وملئت واتحدت فصار بحر الوجود بحرا واحدا زخارا قهارا لا ساحل له أصلا ولا قعر له حقيقة وَإِذَا النُّفُوسُ يعنى الأرواح

[سورة التكوير (81) : آية 8]

الفائضة على هياكل الأشباح من عالم الأمر زُوِّجَتْ وقرنت يومئذ ببواعثها وموجباتها التي هي الأسماء والصفات الإلهية واسبابها اللاهوتية وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ اى أبكار المعاني والمعارف الإلهية المودعة المدفونة في أراضي الطبائع والأركان مع اتصافها بالحياة الازلية الابدية سئلت من سكان تلك البقاع عن احوال تلك المخدرات الحسان بِأَيِّ ذَنْبٍ وجريمة قُتِلَتْ تركت ودفنت في أراضي الطبائع والأركان مع انها انما حييت وجبلت لكسب انواع الخيرات واقتراف اصناف السعادات والكرامات وَإِذَا الصُّحُفُ اى صحائف تفاصيل الأعمال المشتملة على عموم الأماني والآمال المطوى فيها جميع الأحوال الصادرة من اصحاب الغفلة والضلال نُشِرَتْ قد فرقت وكشفت بين أصحابها وَإِذَا السَّماءُ اى سماء الأسماء والصفات الإلهية المتجلية على شئون الظهور والنزول كُشِطَتْ طويت وأزيلت عن هذه الشئون الى شئون البطون والخفاء وَإِذَا الْجَحِيمُ المعدة لأصحاب الغفلة والضلال التائهين في بوادي الجهالات بمتابعة اهويتهم وآرائهم الفاسدة العاطلة سُعِّرَتْ أوقدت وأحميت بنيران غضبهم وشهواتهم التي هم كانوا عليها في نشأة الاختبار وَإِذَا الْجَنَّةُ المعدة لأرباب العناية والوصال المتصفين بالتقوى عن مطلق المحارم وبالامتثال بمقتضيات الأوامر والنواهي وعموم الاحكام الموردة في الكتب الإلهية المتعلقة بإرشادهم وتكميلهم أُزْلِفَتْ قربت وقرنت بهم بحيث قد فازوا بعموم ما وعدوا من قبل الحق عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ يعنى قد علمت كل نفس من النفوس المودعة في هياكل الهويات لحكمة المعرفة والتوحيد أى شيء أحضرت عند الحساب عليها من الأمور المأمور بها حتى تجازى بها على مقتضاها وبعد ما عد سبحانه احوال القيامة وأهوالها أشار الى ما يدل على التأكيد والمبالغة في وقوعها فَلا أُقْسِمُ اى لا حاجة الى القسم لإثبات هذه المذكورات إذ هي في غاية السهولة والظهور سيما عند القدرة الغالبة الإلهية بل اقسم بِالْخُنَّسِ اى بالنفوس الزكية عن لوث لوازم الناسوت الراجعة المقبلة نحو عالم اللاهوت وفناء حضرة الرحموت قبل قيام الساعة لصفاء مشربها ونظافة طينتها الْجَوارِ الْكُنَّسِ اى النفوس القدسية الفائضة من المبدأ الفياض على الشطار الطائرين الى الله الطائفين حول بابه المختفين تحت قباب عزه وشمس ذاته بحيث لا يعرفهم احد سواه سبحانه وَبحق اللَّيْلِ عالم العماء الإلهي والفضاء الصمداني المتعالي عن ادراك الشعور مطلقا إِذا عَسْعَسَ واقبل ظلامه واشتد بحيث قد اختفى واضمحل وبطن وغاب وشهد وَبحق الصُّبْحِ اى عالم الجلاء والانجلاء المنعكس من تلك العماء اللاهوتى إِذا تَنَفَّسَ اى أضاء وأشرق على اهل الفناء الفانين عن الفناء المتعطشين لزلال البقاء الباقين تحت قباء العز الاحدى الصمدى إِنَّهُ يعنى اقسم سبحانه بهذه المقسمات العظيمة ان القرآن الفارق بين الحق والباطل والهداية والضلال والسعادة والشقاوة لَقَوْلُ رَسُولٍ مرسل من قبل الله كَرِيمٍ متصف بأنواع الكرامة والامانة يعنى العقل المفاض المسمى بجبريل الأمين ذِي قُوَّةٍ غالبة على تحمل الوحى الإلهي عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ العظيم المحيط بعروش عموم المظاهر مَكِينٍ ذي مرتبة سنية ومكانة عظيمة مُطاعٍ ثَمَّ اى في عالم الأسماء والصفات إذ عموم المدارك والقوى تابعة مطيعة للعقل الكل الذي هو عبارة عن حضرة العلم المحيط الإلهي ولوح قضائه المحفوظ أَمِينٍ حفيظ على الوحى الإلهي بحيث لا يشذ عنه شيء من أوامره ونواهيه المأمور بها له وَايضا اقسم سبحانه بتلك المقسمات العظام على انه ما صاحِبُكُمْ اى ليس نبيكم

[سورة التكوير (81) : آية 23]

الذي نزل عليه هذا الأمين بهذا الكتاب المبين يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلم بِمَجْنُونٍ مختل القوى والآلات كما زعمتم إذا زعمكم هذا بالنسبة اليه صلّى الله عليه وسلّم انما هو من غاية انحطاطكم عن رتبته وجهلكم بمكانته والا فهو صلّى الله عليه وسلّم في أعلى طبقات الإدراك وَكيف لا يكون صلّى الله عليه وسلّم في أعلى طبقات الإدراك والمعرفة لَقَدْ رَآهُ يعنى قد علم وعرف صلّى الله عليه وسلّم جبرائيل الذي هو العقل الكل بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ الذي هو حضرة العلم الإلهي ولوح قضائه وَما هُوَ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْغَيْبِ الذي اطلعه الحق عليه من الحقائق والرموز والإشارات المتعلقة بتصفية الظاهر والباطن وتخلية السر والضمير عن الالتفات الى الغير مطلقا بِضَنِينٍ شحيح بخيل سيما بعد ما امره سبحانه بنشرها وتبليغها او ما هو صلّى الله عليه وسلّم على المغيبات التي نطق بها بمقتضى الوحى الإلهي والهامه بضنين متهم يتهمه احد وينسبه على الافتراء المستبعد عن علو شأنه وعن رفعة قدره ومكانه صلّى الله عليه وسلّم بمراحل وَكذا ما هُوَ يعنى القرآن الذي هو صلّى الله عليه وسلّم تكلم به ونزل هو عليه صلّى الله عليه وسلم بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ اى ما هو شعر وكهانة ناشئة من شياطين الوهم والخيال كما زعمه اهل الزيغ والضلال المتردين في اودية الجهل والغفلة وهاوية العناد والجدال وبعد ما قد لاح عظم شأن القرآن ورفعة قدره وعلو مكانته فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ تعدلون وتنصرفون عن جادة العدالة الإلهية المذكورة المبينة في هذا الكتاب المبين ايها الضالون المضلون إِنْ هُوَ اى ما هذا القرآن العظيم إِلَّا ذِكْرٌ عظيم وعظة كبيرة لِلْعالَمِينَ اى بعموم من جبل على فطرة التذكير وقابلية الإرشاد والتكميل لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ اى عظة وتذكير لمن قصد الاستقامة على صراط العدالة الإلهية وتذكر به واتعظ بإرشاده وهدايته وَغاية ما في الباب انه ما تَشاؤُنَ وتختارون طريق الهداية والرشاد لأنفسكم إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لكم هدايتكم ويوفقكم على الاستقامة والرشاد عناية منه وفضلا إذ عموم أفعالكم وأحوالكم وأقوالكم انما هي مستندة الى الله صادرة منه سبحانه اصالة إذ هو سبحانه رَبُّ الْعالَمِينَ لا مربى في الوجود سواه ولا مدبر للعالم في الشهود الا هو ومقتضى تربيته وتكميله ارشاد عباده وتوفيقه الى ما هو أصلح لهم وأليق بحالهم. وفقنا بفضلك وجودك لما تحب وترضى عنا يا مولانا خاتمة سورة التكوير عليك ايها الطالب لتوفيق الحق وتربيته على الوجه الأصلح الأليق ان تفوض عموم أمورك وأعمالك واحوالك كلها الى مشيته وتسلمها اليه سبحانه طوعا ورغبة بلا توهم تخيير واختيار منك وارادة جزئية او كلية إذ ليس لك من الأمر شيء بل الأمور الجارية كلها لله وبمقتضى تقديره وقضائه وليس لك الا التسليم والرضاء بجميع ما جرى عليك من القضاء وإياك إياك الاغترار بالحياة الدنيا الغدارة وما فيها من المزخرفات الخداعة المكارة فإنها دار العبور والاعتبار لا منزل الاقامة والقرار واللائق بحال الفطن الزكي ان لا يتمكن فيها الا على وجه الضرورة والاضطرار لا على سبيل الرضاء والاختيار. جعلنا الله ممن تنبه لبطلان الدنيا الدنية وعموم ما فيها وتحقق عنده عدم ثباتها وقرارها بمنه وجوده

سورة الانفطار

[سورة الانفطار] فاتحة سورة الانفطار لا يخفى على من لاح عليه آثار القدرة الغالبة الإلهية وانكشف دونه غناه سبحانه في ذاته عن عموم مظاهره ومصنوعاته ان جميع ما ظهر وبطن غيبا وشهادة انما هو محكوم حكمه المحكم وقضائه المبرم له سبحانه ان يتصرف فيها ويقلبها كيف يشاء ارادة واختيارا لكنها مرهونة بأوقات ومسبوقة بأمارات مقدرة من عنده سبحانه ومن تلك العلامات ما ذكره سبحانه في هذه السورة بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على ما ظهر وبطن حسب قدرته الكاملة الغالبة الرَّحْمنِ على عموم مظاهره بإعطاء الوجودات الاضافية الرَّحِيمِ عليها بنزعها عنها عند ظهور الوحدة الذاتية على صرافتها [الآيات] إِذَا السَّماءُ المعبر بها عن العلويات المتأثرات عن الأسماء والصفات الإلهية انْفَطَرَتْ انشقت وانخرقت ولم يبق قابليتها للتأثر والاستمداد من الأسماء والصفات الإلهية وَإِذَا الْكَواكِبُ التي قد تعينت عليها بالهويات وتكثرت بالهياكل والماهيات انْتَثَرَتْ تفرقت أوضاعها وتلاشت أشكالها وهيآتها واضمحلت اجزاؤها وَإِذَا الْبِحارُ الكلية المستحدثة من الأمواج المتراكمة المترادفة على بحر الوجود الوحدانى واتصف كل واحد منها بالصفات المتنوعة مثل اللاهوت والناسوت والغيب والشهادة والاولى والاخرى الى غير ذلك من العوالم التي لا تعد ولا تحصى فُجِّرَتْ انفجرت وانفتح بعضها الى بعض وارتفعت صور الأمواج واتصل الكل فصار بحرا واحدا وحدانيا فردانيا على ما قد كان عليه أزلا وابدا وَإِذَا الْقُبُورُ والأجداث اى الهويات والتعينات المندرسة المنعكسة التي لم يبق في أجوافها شيء من امارات عالم الناسوت بل عادت على ما عليه كانت من العدم بُعْثِرَتْ بحثرت وقلبت وخرج عن مطاويها ما فيها من حصة عالم اللاهوت عَلِمَتْ يومئذ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ واقترفت في نشأة الاختبار والاعتبار من صوالح الأعمال ومقابح الأخلاق والأطوار وَما أَخَّرَتْ أهملت وتركت فيها ما من صوالح الأعمال ومحاسن الأخلاق والأطوار. ثم نادى سبحانه للمظهر الإنساني المصور بصورة الرحمن نداء معاتبة وتخجيل على ما عرض عليه من الغفلة والنسيان مع انه قد جبل على فطرة التوحيد والعرفان فقال يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ المنعم عليه بأنواع الإحسان ما غَرَّكَ اى أى شيء خدعك ومكر بك حتى جرأك على الكفر والعصيان بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ اى أوجدك وأظهرك وصورك في احسن تقويم فَسَوَّاكَ اى سوى اعضاءك وجوارحك سليمة عن مطلق العيوب فَعَدَلَكَ اى جعلك معتدل المزاج متناسبة الأعضاء مطبوع الهيكل مقبول الشكل وبالجملة فِي أَيِّ صُورَةٍ حسنة وشكل مطبوع مرغوب ما شاءَ وأراد بك يعنى في أى صورة بديعة عجيبة ممتازة عن صور عموم الحيوانات تعلقت بها مشيته وارادته سبحانه رَكَّبَكَ عليها اى انتخب صورتك من صور جميع المظاهر فركبك عليها وأظهرك فيها لتكون أنت مؤمنا موقنا بوحدة ذاته عارفا موحدا مع انك عصيت وأشركت معه غيره وخرجت عن ربقة عبوديتك مكابرة وعنادا. قيل لفضيل بن عياض قدس سره لو أقامك الله تعالى بين يديه يوم القيامة فقال يا فضيل ما غرك بربك الكريم ماذا كنت تقول قال أقول غرني ستورك المرخاة وقال يحيى بن معاذ قدس سره لو أقامني بين يديه فقال يا يحيى ما غرك بي قلت غرني برك بي سالفا وآنفا يا ربي وقال ابو بكر الوراق قدس سره لو قال لي ما غرك بربك الكريم لقلت كرم ربي الكريم

[سورة الانفطار (82) : آية 9]

وانا الفقير الحقير خادم الفقراء وتراب اقدامهم أقول لو قال لي ربي ما غرّك بربك لقلت كفالتك بي واحاطتك على وكونك سمعي وبصرى وعموم قواي ومشاعري يا ربي. ثم قال سبحانه كَلَّا ردعا للإنسان عن الغفلة والاغترار بإيراد الاعذار الكاذبة بَلْ تُكَذِّبُونَ ايها المغترون المسرفون بِالدِّينِ وبترتب الجزاء على أعمالكم وأخلاقكم من حسناتكم وسيئاتكم لذلك غرتكم الحياة المستعارة الدنياوية ففعلتم ما فعلتم من المفاسد والمقابح بشدة الإنكار والإصرار بلا مبالاة وخشية من القدير العليم وَإِنَّ عَلَيْكُمْ من قبل الحق لَحافِظِينَ رقباء كِراماً أمناء لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها لكونهم كاتِبِينَ مثبتين في صحف أعمالكم يَعْلَمُونَ منكم جميع ما تَفْعَلُونَ فيقررون عليكم وقت حسابكم ثم تجازون على مقتضاها إِنَّ الْأَبْرارَ البارين المبرورين لَفِي نَعِيمٍ مقيم ومسرة دائمة وفوز عظيم وَإِنَّ الْفُجَّارَ المسرفين المفترين لَفِي جَحِيمٍ معذبين بعذاب أليم يَصْلَوْنَها ويدخلون فيها يَوْمَ الدِّينِ والجزاء بعد ما حوسبوا وَبالجملة ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ متحولين مفارقين ابدا بل صاروا فيها خالدين مخلدين. ثم أبهم سبحانه ذلك اليوم على السامعين تعظيما له وتفخيما على سبيل التهويل فقال وَما أَدْراكَ وأعلمك ايها المغرور ما يَوْمُ الدِّينِ وما شأنه الفظيع وما شدة هوله وفزعه ثُمَّ ما أَدْراكَ ايها المغرور الممكور ما يَوْمُ الدِّينِ وما يجرى عليك فيها من الشدائد والأهوال وانواع الهموم والأحزان وبالجملة يَوْمَ وأى يوم يوم لا تَمْلِكُ تنفع وتدفع نَفْسٌ لِنَفْسٍ حميم لحميم وصديق لصديق شَيْئاً مما حكم عليها واستحق لها من الجزاء بل كل نفس رهينة بما كسبت مشغولة بما اقترفت بلا التفات منها الى غيرها من شدة هولها وحزنها وَبالجملة الْأَمْرُ اى عموم امور العباد وما جرى عليهم من الثواب والعقاب كله يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ مختصة به موكولة بمشيته مفوضة الى ارادته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فضلا وعدلا لا يسأل عن فعله انه حكيم حميد. اصنع بنا ما أنت به اهل يا مولانا خاتمة سورة الانفطار عليك ايها المترقب لفضل الحق ولطفه في يوم الجزاء ان تفوض أمورك كلها الى الله في نشأتك هذه وتقوم بين يدي الله في كل الأحوال وتتجرد عن مقتضيات ناسوتك في عموم الشئون والأطوار الطارية عليك على تعاقب الأدوار في مدة حياتك المستعارة وإياك إياك الاغترار بخداع هذه الغدارة المكارة فاعتبر من اهل هذا الدار ان كنت من ذوى العبرة والاستبصار فاعبر عنها فإنها ما هي دار القرار بل منزلة الخبرة والاعتبار فاعتبروا يا اولى الأبصار [سورة المطففين] فاتحة سورة التطفيف لا يخفى على من تمكن في جادة العدالة الإلهية ورسخ قدم عزمه وهمته على صراط الاستقامة الحقيقية الموصلة الى ينبوع بحر الوحدة الذاتية ان الانحراف والميل عن مقتضى القسط والإنصاف الإلهي انما هو من طغيان القوى البهيمية ومن استيلاء شياطين الامارة على جنود المطمئنة وغلبة مقتضيات لوازم الإمكان ولواحق الطبيعة المورثة لانواع الخذلان والخسران على القوى الوجوبية والنواميس الإلهية المسقطة للاضافات المانعة من الوصول الى ينبوع الوحدة الذاتية ولا شك

الآيات

ان طريان هذه الخصال المذمومة انما نشأ من متابعة الهوى والركون الى مزخرفات الدنيا ومن جملتها البخس والتطفيف في المكاييل والموازين الموضوعة لحفظ الاعتدال ومراعات الاتصاف والانتصاف بين المسلمين من عدل عنها مفرطا فقد استحق الويل الأبدي والهلاك السرمدي كما قال سبحانه متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المستوي على صراط العدالة والتقويم الرَّحْمنِ لعموم عباده بوضع القسطاس القويم الرَّحِيمِ لخواصهم يهديهم الى صراط مستقيم [الآيات] وَيْلٌ عظيم وعذاب اليم لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ ينقصون المكيال والميزان ويبخسون حقوق الناس سماهم سبحانه مطففين لأنهم يسرقون من الحقوق طفيفا اى قليلا حقيرا على وجه الدنائة والخساسة وهو من اخس الأفعال الذميمة وأدناها واخبثها. وفي الحديث صلوات الله وسلامه على قائله خمس بخمس ما نقض العهد قوم الا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما انزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ولا طففوا الكيل الا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة الا حبس عنهم القطر والمطففون هم الذين إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ اى أخذوا منهم لأنفسهم يَسْتَوْفُونَ الكيل ويزيدون على المكيال قليلا قليلا ترجيحا لأنفسهم عليهم وَإِذا كالُوهُمْ اى للناس أَوْ وَزَنُوهُمْ لأجلهم يُخْسِرُونَ ينقصون منه قليلا قليلا ترجيحا لغبطتهم عليهم مع ان وضع الكيل والوزن انما هو للتسوية والتعديل. ثم قال سبحانه على سبيل التعجب والتشنيع أَلا يَظُنُّ ولا يزعم ولا يشك أُولئِكَ المسرفون المفرطون بارتكاب هذه الخصلة الذميمة مع ان المناسب لهم ان يجزموا ويستيقنوا أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لعظم ما فيه من الشدائد والأهوال وانواع الافزاع والأحزان سيما على اهل العصيان والفساد إذ هم يومئذ يفتضحون على رؤس الاشهاد يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ بأجمعهم لأجل العرض لِرَبِّ الْعالَمِينَ ليحكم عليهم سبحانه بمقتضى السؤال والحساب اما بالجنة او بالنار. ثم قال سبحانه كَلَّا ردعا للمطففين بفجورهم وخروجهم عن مقتضى الحدود الإلهية الموضوعة فيما بينهم بالقسط والعدالة يعنى كيف يخرجون عن مقتضاها إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ اى ما ثبت فيه من تفاصيل أعمالهم وأفعالهم وأخلاقهم وأطوارهم المذمومة كلها مضبوطة فيه محكوم عليهم من قبل الحق حينئذ بمقتضى ما ثبت في كتبهم وصحائف أعمالهم انهم لَفِي سِجِّينٍ اى مقرهم في الدرك الأسفل من النار ثم أبهمه سبحانه تهويلا وتفخيما فقال وَما أَدْراكَ ايها المسرف المفرط ما سِجِّينٌ ما لم تقع فيه ولم تذق من عذابه ونكاله وبالجملة كتاب الفجار كِتابٌ وأى كتاب كتاب مَرْقُومٌ محرر مسطور بين الرقوم والرسوم يعرفه من نظر اليه ان لا خير فيه ولا نفع في ضمنه بل انما هو في بادى الرأى مشعر بأنواع العذاب والعقاب وبالجملة وَيْلٌ عظيم يَوْمَئِذٍ اى يوم اعطى ذلك الكتاب لِلْمُكَذِّبِينَ له في النشأة الاولى وبواسطة تكذيبهم وانكارهم به يرتكبون من الجرائم والمعاصي ما لا يعد ولا يحصى وبالجملة هؤلاء المسرفون المفرطون الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ والجزاء وبجميع الأمور الاخروية من السؤال والحساب وإعطاء الكتب وسائر المعتقدات الاخروية وَبالجملة ما يُكَذِّبُ بِهِ سيما بعد نزول الآيات القاطعة والبراهين الساطعة الدالة على وقوع يوم القيامة والطامة الكبرى الموعودة من قبل الحق بالحق على اهل الحق إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ متجاوز عن الحد في الإفراط والغلو منكر لكمال قدرة الله واحاطة علمه حتى أنكر القدرة على الإعادة مع ان الإبداء الابداعى

[سورة المطففين (83) : آية 13]

مقدور قدرته الغالبة ايضا أَثِيمٍ متبالغ في الغفلة بارتكاب الشهوات المعمية لعيون بصائره عن ادراك آثار القدرة الغالبة الإلهية الفائتة للحصر والإحصاء مع ان كل واحدة من تلك الآثار دليل مستقل على إمكان الإعادة عند المتأمل المنصف الا ان المنكر مكابر لمقتضى عقله وما اجرأه واغريه على الإنكار والإصرار الا شياطين الأوهام والخيالات الموروثة له من ألف الطبيعة ورسوخ العادات المبنية على التقليدات الراسخة المتقررة في قلوب اصحاب الغفلة والضلال لذلك إِذا تُتْلى وتقرأ عَلَيْهِ آياتُنا الدالة على كمال قدرتنا واختيارنا واستقلالنا في عموم المرادات والتصرفات الواقعة في ملكنا وملكوتنا قالَ من فرط جهله ونهاية غفلته واعراضه عن الحق واهله ما هي الا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اى أكاذيبهم المسطورة في دواوينهم المختلقة المختلفة. ثم قال سبحانه كَلَّا ردعا من هذا الافتراء والمراء على سبيل الإنكار والاستهزاء يعنى ما هذه الآيات البينات من المفتريات الباطلة كما زعمها أولئك البغاة الطغاة الهالكون في تيه البغي والطغيان وبيداء الغي والعدوان بَلْ رانَ يعنى بل قد ظهر وحدث في نفوسهم رين الغفلة وصدأ الجهل والضلال وازداد وغلب حتى علا واحاطه عَلى قُلُوبِهِمْ فكثفها وكدرها الى حيث اظلمها وسوّدها ولم يبق فيها لمعة من بياض نور الايمان وما ذلك الا بسبب ما كانُوا يَكْسِبُونَ من المعاصي والشهوات المذهبة لجودة الفطرة الاصلية والفطنة الجبلية التي فطروا عليها في اصل الخلقة. ثم قال سبحانه كَلَّا ردعا لهم عن ارتكاب اقتراف الرين المصدئ بقلوبهم كيف يكسبونه مع انهم قد جبلوا على فطرة الايمان والتوحيد إِنَّهُمْ أولئك المفسدين المسرفين عَنْ رَبِّهِمْ الذي رباهم لمصلحة المعرفة والايمان يَوْمَئِذٍ اى يوم اقتراف المعاصي الرائنة لَمَحْجُوبُونَ عن الله وعن ظهور نوره اللامع في صفائح الأنفس والآفاق مع انه لا سترة له سبحانه ولا حجاب في حال من الأحوال الا ان خفافيش بقعة الإمكان لا يرون شمس ذاته اللامعة بواسطة غيوم هوياتهم الباطلة وتعيناتهم العاطلة ثُمَّ إِنَّهُمْ بعد ما حجبوا من الله وحرموا عن مطالعة وجهه الكريم لَصالُوا الْجَحِيمِ اى داخلوها وخالدون فيها ابدا ثُمَّ يُقالُ لهم تعييرا عليهم وتشديدا لعذابهم من قبل الحق حينئذ هذَا العذاب هو العذاب الَّذِي قد كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في سالف الزمان مصرين على تكذيبه وإنكاره بل مستهزئين به متهكمين. ثم كرر سبحانه لفظة كَلَّا ردعا لهم بعد ردع تقريعا وتأكيدا وليكون توطئة وتمهيدا لتعقيب وعيدهم بوعد المؤمنين مع ان في هذا التعقيب زيادة زجر وتقريع عليهم لما اقترفوا من الآثام والعصيان المؤدية لهم الى دار الندامة والحرمان فقال إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ اى ما كتب فيه عموم آثارهم الصالحة الصادرة عنهم ايمانا واحتسابا ثقة بالله وخوفا من غضبه محفوظ فيه جميع ما ذكر محكوم عليهم بمقتضى ما فيه انهم لَفِي عِلِّيِّينَ اى هم متمكنون في أعلى درجات الجنان وارفع غرفها ثم أبهمه سبحانه تعظيما وتفخيما فقال وَما أَدْراكَ ايها البار المبرور ما عِلِّيُّونَ وما شأنه الرفيع ومكانة البديع وما فيه من اللذات الروحانية التي من لم يذقها لم يعرفها. رزقنا الله الوصول إليها والحصول دونها وبالجملة كِتابٌ للأبرار كتاب مَرْقُومٌ بين الرقوم والرسوم بحيث يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ اى ارباب العناية والتوفيق فيعلمون من عنوانه ان ما فيه خير كله بمجرد رؤيتهم وشهودهم في بادى النظر وبالجملة إِنَّ الْأَبْرارَ البارين على الله المبرورين بين الناس لَفِي

[سورة المطففين (83) : آية 23]

نَعِيمٍ مقيم متكئين عَلَى الْأَرائِكِ المصورة من صالحات أعمالهم وصفاء عقائدهم وأخلاقهم يَنْظُرُونَ الى ما يسرهم ويفرحهم من الصور الحسنة والمتنزهات البهية البديعة بحيث تَعْرِفُ أنت ايها الرائي فِي وُجُوهِهِمْ في بادى الرأى نَضْرَةَ النَّعِيمِ بهجة التنعم وبريق الرضاء والتسليم ومع ذلك يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ خمر من خمور المحبة والولاء مَخْتُومٍ مطبوع عليه حفظا له عن غيرهم بحيث لا يشمون روائحه أصلا خِتامُهُ مِسْكٌ اى روائحه الواصلة إليهم منه قبل كشفهم عنه كالمسك بلا كراهة وبشاعة كخمور الدنيا وَفِي ذلِكَ اى في رحيق التحقيق وكأس المحبة والتصديق فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ اى فليرغب الرغبون لنفاسته وسرعة سوغانه وانحداره وكمال لذته وذوقه وَمِزاجُهُ اى ما يمزج به ويخلط من ماء المعارف منتشأ مِنْ تَسْنِيمٍ اى من مقام عال هو ينبوع بحر الوجود الذي هو عين الوحدة الذاتية الإلهية فكان عَيْناً وأى عين عينا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ اى يشرب عنه بمائها وفراتها من تقرب نحو الحق باليقين الحقي فإنهم يشربون من عين الوحدة بلا مزج وخلط. أذقنا حلاوة نعيمك وبرد يقينك وشربة تسنيمك يا خير الرازقين إِنَّ المشركين المسرفين الَّذِينَ أَجْرَمُوا بالجرائم العظام الموجبة لانواع الانتقام من جملتها انهم قد كانُوا مِنَ المخلصين الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ويستهزؤن بفقراء المؤمنين وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ متهكمين يَتَغامَزُونَ اى يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم كبرا عليهم وخيلاء وَإِذَا انْقَلَبُوا ورجعوا إِلى أَهْلِهِمُ وأماكنهم دخلوا مع إخوانهم انْقَلَبُوا وصاروا فَكِهِينَ متلذذين متهكمين بما رأوا من شيم المؤمنين من صلواتهم وخشوعهم فيها وضراعتهم واستكانتهم وتواضعهم مع إخوانهم وَهم من شدة شكيمتهم وغيظهم إِذا رَأَوْهُمْ اى المؤمنين قالُوا مستهزئين إِنَّ هؤُلاءِ السفلة المستحسنين أفعالهم لَضالُّونَ منحرفون عن مقتضى الرشد والهداية بمتابعة هذا المجنون يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم وَهم يقولون هكذا من كمال ضلالهم في أنفسهم بل من شدة حسدهم عليهم مع انهم ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ اى على المؤمنين حافِظِينَ يحفظون عليهم أعمالهم ويشهدون بهدايتهم او ضلالهم بل الأمر بالعكس فَالْيَوْمَ اى اليوم الموعود المعهود الذي هو يوم القيامة الَّذِينَ آمَنُوا بالله وصدقوا بالآخرة وبجميع الأمور الموعودة فيها مِنَ الْكُفَّارِ المصرين على العناد والإنكار يَضْحَكُونَ اى يضحك المؤمنون يومئذ من حال الكافرين على عكس ما كانوا عليه في النشأة الاولى إذ يرونهم أذلاء صاغرين مغلولين معذبين في نار القطيعة بأنواع الحسرة وهم اى المؤمنون حينئذ متكؤن عَلَى الْأَرائِكِ المعدة لهم جزاء ما يتكلون على الله ويتكؤن الى فضله وإحسانه مواظبين على أداء المأمورات وترك المنكرات صابرين على متاعب الطاعات ومشاق التكاليف القالعة لعرق مطلق المستلذات الجسمانية والمشتهيات النفسانية يَنْظُرُونَ حينئذ بنور الايمان وصفاء اليقين والعرفان الى وخامة عاقبة اصحاب الكفر والكفران ويشكرون لنعمة الايمان والإحسان هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ وأثيبوا بما عملوا ثوابا والحال انهم قد جوزوا يومئذ بأسوء الجزاء بسبب ما كانُوا يَفْعَلُونَ من الاستهانة والاستهزاء بالمؤمنين ومن ضحكهم بأعمالهم وتغامزهم فيما بينهم بعيونهم تهكما عليهم. جعلنا الله من زمرة من بصرهم سبحانه بعيوب أنفسهم وأعماهم من عيوب غيرهم بمنه وجوده

خاتمة سورة التطفيف

خاتمة سورة التطفيف عليك ايها المحمدي المراقب على تربية النفس المداوم على تهذيب الأخلاق ان تصفى نفسك عن مطلق الرذائل المنافية لصفاء مشرب التوحيد وتخلصها عن عموم القيود الامكانية المتولدة عن طغيان الطبيعة وتحليها بمحاسن الأخلاق والأطوار المناسبة للفطرة الاصلية التي جبلت عليها في مبدأ خلقتك فلك الاتكال على الله والانعزال عن اصحاب الغفلة والضلال وإياك إياك ان تخالطهم وتجالس معهم فان صحبة الأشرار تميت قلوب الأبرار الأحرار وتؤثر في السر وتذهب جودة الفطنة وتكدر صفاء مشرب الوحدة وتزيد الوحشة وتورث النسيان المستلزم لانواع الخسران والحرمان. جعلنا الله ممن اذاقه سبحانه حلاوة خلوته وأنسه مع وحدته واوحشه عن الخلق وكثرته بمنه وجوده [سورة الانشقاق] فاتحة سورة الانشقاق لا يخفى على من سلك عن مضيق الناسوت نحو فضاء اللاهوت وتوجه الى كعبة الوحدة مهاجرا عن عالم الكثرة ان العود والرجوع انما هو على مقتضى البدء والظهور وان الترقي والارتفاع انما هو على طبق التدنى والانحطاط فكلما نزلت نفس الإنسان وهبط روحه في النشأة الاولى من سماء الأسماء المعبر بعالم اللاهوت المقدس عن شوائب النقص وسمات الحدوث مطلقا الى عالم الطبيعة والهيولى المكدرة بأنواع الكدورات كذلك صعدت نحوها منها بعد ما وفقه الحق وأدركته العناية من جانبه وللصعود والعروج علامات واوقات قدرها الله العليم الحكيم في سابق علمه ولوح قضائه ولم يطلع أحدا على وقتها بل قد اخبر سبحانه في هذه السورة عن بعض علاماتها واماراتها فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي ظهر على عموم التعينات في بدأ الوجود بمقتضى الجود الرَّحْمنِ عليها بامدادها وابقائها الى اليوم الموعود الرَّحِيمِ على خواص عباده يوصلهم الى مرتبة الكشف والشهود [الآيات] إِذَا السَّماءُ اى سماء عالم الطبيعة انْشَقَّتْ وانحرقت لتصعد وتعرج الأرواح الفائضة الى الأشباح نحو سماء الأسماء والصفات بعد خرق التعينات ورفع الإضافات وَأَذِنَتْ لِرَبِّها اى اصغت وانقادت لحكم ربها وامره الذي قد مضى منه سبحانه على انشقاقها وَبعد ما أمرت حُقَّتْ لها ولاقت بحالها اى امتثلت بالمأمور وانقادت وَإِذَا الْأَرْضُ اى ارض الطبيعة والهيولى القابلة المجبولة لقبول انعكاس تأثيرات الأسماء والصفات مُدَّتْ قد امتدت وانبسطت وانتشرت مطاويها وَأَلْقَتْ أخرجت وأظهرت ما فِيها من النفوس المودعة القابلة لفيضان أنوار الذات وَتَخَلَّتْ عن حفظ الامانة الإلهية وَأَذِنَتْ لِرَبِّها في الإلقاء والتخلية وَقد حُقَّتْ لها الاستيذان والإصغاء لاقتضاء مرتبة العبودية ذلك فحينئذ قد انكشف لها جزاء ما كسبت واقترفت في نشأة الاختبار. ثم نادى سبحانه الإنسان نداء تنبيه وتخطئة وتحريك حمية فطرية وسلسلة جبلية فقال يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ المصور على صورة الرحمن المنتخب من بين سائر المظاهر لحكمة الخلافة والنيابة ومصلحة المعرفة والتوحيد فاعرف قدرك ولا تغفل عن حقيقتك إِنَّكَ كادِحٌ جاهد للتقرب والوصول إِلى رَبِّكَ كَدْحاً وجهدا وسعيا منتهيا الى افناء هويتك في هوية الحق وبالجملة فَمُلاقِيهِ يعنى أنت ايها الإنسان ملاق ربك بمقتضى سعيك واجتهادك فلك ان لا تفترق عما يوصلك اليه ويفنيك فيه بعد جذب

[سورة الانشقاق (84) : آية 7]

من جانب الحق وتوفيق من لدنه لتكون أنت من ارباب اليمن والكرامة الموسومين باصحاب اليمين الذين لهم صحف أعمالهم من قبل ايمانهم التي هي علامة ايمانهم وعرفانهم فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ الطاوى المشتمل على تفاصيل ما صدر عنه بِيَمِينِهِ التي هو عنوان اليمن وعلامة الكرامة وبرهان الرضوان فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً سهلا سريعا وَيَنْقَلِبُ ويرجع هو بعد الحساب إِلى أَهْلِهِ الذي هم رفقاؤه في سبيل السعادة والكرامة الموصلة الى فضاء عالم اللاهوت وصفاء الوحدة الذاتية التي هي عبارة عن ينبوع بحر الوجود مَسْرُوراً مبسوطا فرحانا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ وشماله التي هو عنوان الشقاوة ودليل العتاب والعقاب وانواع الملالة والندامة فَسَوْفَ يَدْعُوا ويتمنى هو لنفسه ثُبُوراً ويلا وهلاكا لصعوبة حسابه وغلبة سيئاته على حسناته وَبالآخرة يَصْلى يدخل ويطرح صاغرا ذليلا سَعِيراً مسعرة مملوة بنيران الشهوات والغفلات الصادرة منه بمتابعة الأوهام والخيالات وانواع الضلالات والجهالات الناشئة من القوى البهيمية الحاصلة من طغيان الطبيعة وثوران لوازم الإمكان إِنَّهُ قد كانَ فِي أَهْلِهِ في دار الدنيا مَسْرُوراً بطرا فرحانا فخورا بالمال والجاه والثروة والسيادة متفوقا على الأقران يمشى على الأرض خيلاء وانما حمله عليه إِنَّهُ ظَنَّ بل قد تيقن وجزم جهلا مركبا وعنادا أَنْ لَنْ يَحُورَ اى انه لن ينقلب ولن يرجع الى الله ولن يقوم بين يديه سبحانه للحساب والجزاء لذلك اجترأ على ما اجترأ من المعاصي. ثم قال سبحانه بَلى ردعا عما قبله تصديقا لما بعده على سبيل التعريض إِنَّ رَبَّهُ الذي رباه على فطرة المعرفة وجبله على نشأة التوحيد قد كانَ بِهِ بَصِيراً عالما بتفاصيل اعماله الصادرة عنه على وجه الخبرة والبصارة بحيث لا يشذ عن حيطة علمه شيء من اعماله وأحواله فلا يهمله بل يعده عليه ويفصله له ويعيده ويجازيه حسب ما فصله. ثم قال سبحانه فَلا أُقْسِمُ لإتيان يوم القيامة ولا ثبات ما فيها من الثواب والعقاب والجزاء والحساب وغير ذلك إذ هي امور ظاهرة مكشوفة عند ذوى الكشف والشهود من ارباب المحبة والولاء الواصلين الى بحر الوحدة وينبوع الحقيقة بل اقسم بِالشَّفَقِ المنبئ عن الشفقة والترحم الإلهي وهو عبارة عن البياض المعترض من أفق عالم اللاهوت عند انقضاء نشأة الناسوت حين حكم سبحانه بانطواء سجلات عموم التعينات ومطلق الهويات وَاللَّيْلِ اى اقسم ايضا بالليل اى مرتبة العماء الإلهي وَما وَسَقَ اى ما ضم وجمع من الأنوار المنعكسة منها الى هياكل الأشباح وَالْقَمَرِ اى أقسم ايضا بالقمر اى الوجود الظلي الكلى الإضافي المنبسط على مرآة العدم المنعكس من شمس الذات الاحدية المتشعشعة المتجلية من مطالع فضاء العماء اللاهوتية إِذَا اتَّسَقَ تم وعم وشمل الكل وصار بدرا كاملا بلا نقصان لَتَرْكَبُنَّ ايها المكلفون ولتطرحن في نار القطيعة والحرمان طَبَقاً بعد طبق متجاوزا عَنْ طَبَقٍ بعيد عنه متجاوز في شدة الأهوال والافزاع وبعد الغور والطور والحرقة وانواع العذاب والنكال وبالجملة بحق هذه المقسمات العظام لدخلتم أنتم البتة في طبقات النيران لو كفرتم بالله وعصيتم امره وخرجتم عن مقتضى حدوده وأحكامه وبعد ما سمعوا ما سمعوا من الصادق الصدوق فَما لَهُمْ اى أى شيء عرض عليهم ولحق بهم لا يُؤْمِنُونَ ولا يتصفون بالانقياد والتسليم سيما بعد ورود الزواجر من قبل الحق على ألسنة الرسل والكتب وَمن كمال غفلتهم عن الله وضلالهم عن سنن الهداية والرشد إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ المبين لطريق الحق

[سورة الانشقاق (84) : آية 22]

وسبيل الايمان والعرفان لا يَسْجُدُونَ اى لا يخضعون ولا يتذللون له مع انه انما نزل لهدايتهم وإرشادهم بل يكذبونه وينكرون نزوله عنادا ومكابرة فكيف التذلل والخضوع بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ به وبمنزله وبمن انزل اليه جميعا وَبالجملة اللَّهُ المطلع لعموم ما في ضمائر عباده أَعْلَمُ بعلمه الحضوري بِما يُوعُونَ اى بجميع ما يضمرونه في نفوسهم من الكفر والكفران وانواع البغي والعدوان والغفلة والطغيان على مقتضى علمه بهم وبخبرته بما في نفوسهم وبالجملة فَبَشِّرْهُمْ يا أكمل الرسل بشارة على سبيل التهكم والاستهزاء بِعَذابٍ أَلِيمٍ نازل عليهم حين أخذوا بعصيانهم وآثامهم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا منهم وخرجوا عن ورطة الطغيان متمسكين بعروة الايمان متشبثين بحبل القرآن وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقبولة عند الله لَهُمْ عند ربهم أَجْرٌ عظيم غَيْرُ مَمْنُونٍ اى غير مقطوع ومنقوص ان أخلصوا في ايمانهم وإذعانهم. اصنع بنا ما أنت له اهل يا مولانا خاتمة سورة الانشقاق عليك ايها الموحد المحمدي المجبول على فطرة الايمان والعرفان مكنك الله فيما يسر لك وثبتك عليه ان تتمسك بحبل التوفيق الإلهي وتتشبث بأذيال همم ارباب التحقيق من الأنبياء والرسل الهادين المهديين والأولياء الألباء المهتدين بهدايتهم إذ هم خلاصة بحر الوجود وزبدة ارباب الكشف والشهود فلك ان تتخلق بأخلاقهم وتقتفى بآثارهم المأثورة عنهم وتسترشد من المرشد الرشيد الذي هو القرآن المجيد الموصل لأرباب التوحيد المسقط لانواع التقاليد الراسخة في قلوب اصحاب الغفلة والتخمين فلك ان تتأمل ظاهره وباطنه وحده ومطلعه حتى تتوسل بها الى ما فوقها من الرموز التي قد وهبها سبحانه وجادبها لبعض النفوس الزكية القدسية الفانية في قدس الذات الإلهية الباقية ببقائها. جعلنا الله من خدامهم وقرابهم [سورة البروج] فاتحة سورة البروج لا يخفى على من تحقق بسماء الأسماء اللاهوتية المشتملة على بروج عالم الجبروت وقصور مملكة الملكوت الموهوبة لسكانها من حضرة الرحموت ان الوصول إليها والحصول دونها انما يتيسر للمستوحشين عن لوازم الإمكان ومقتضيات نشأة الناسوت المستأنسين بسكان عالم اللاهوت وقطان سواد أعظم الفقر ولا شك ان الاستيناس معهم انما يحصل بجذبة غالبة وخطفة جالبة الهية والجذبة الإلهية مسبوقة بالمحبة المفرطة والمودة المزعجة الى الفناء في المحبوب الحقيقي والمحبة انما تنشأ من الشوق الغالب الجالب والشوق انما ينبعث من الارادة والطلب الصادر عن العزيمة المذكورة الخالصة والعزيمة لا تخلص ولا تصفو عن إكدار الطبيعة الا بالخلوة والعزلة عن الناس ودوام العفة والقناعة ومقارنة الرضاء والتسليم والتفويض والتوكل على وجه التبتل الى الحكيم العليم فالكل مسبوق برفاقة التوفيق والتصبر على متاعب الطاعات ومشاق العبادات والرياضات القالعة لمقتضيات القوى البشرية المورثة له من القوى الطبيعية والمنهمكون في بحر الغفلة والضلال لا يتيسر لهم الاستيناس بالكبير المتعال لذلك لعنوا وطردوا عن ساحة عز القبول والحضور على وجه المبالغة والتأكيد كما قال سبحانه في شأن طردهم ولعنهم مقسما بالأمور العظام متيمنا بِسْمِ اللَّهِ

الآيات

المتجلى في عموم المجالى بمقتضى أسمائه وصفاته إظهارا لقدرته الغالبة الكاملة الرَّحْمنِ للكل تتميما لتربيته الشاملة الرَّحِيمِ لنوع الإنسان تعظيما لحكمته المتقنة ومصلحته المستحسنة المودعة في نشأته [الآيات] وَالسَّماءِ اى بحق سماء الأسماء والصفات المتشعشعة المتجلية في عالم اللاهوت ذاتِ الْبُرُوجِ من النفوس القدسية القابلة لانعكاسها وتشعشعها المستعدة لفيضان أنوارها الذاتية وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ للانجلاء الكامل والانكشاف التام المنعكس عن عالم العماء عند ارتفاع سدول الأسماء والصفات عن البين وَاتحاد شاهِدٍ وَمَشْهُودٍ في العين انكم ايها المحجوبون عن الله المطرودون عن ساحة عز حضوره الملعونون المردودون من كنف قربه وجواره يعنى كفار مكة لعنهم الله لان السورة نازلة في تثبيت المؤمنين على أذاهم كما قُتِلَ ولعن أَصْحابُ الْأُخْدُودِ الخد الشق في الأرض وغيرها روى انه كان لملك ساحر فلما كبر ضم اليه غلاما ليعلمه وكان في طريق الغلام راهب يستمع منه كلاما فرأى في طريقه يوما حية قد حبست الناس فأخذ الغلام حجرا فقال اللهم ان كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها فضربها فقتلها وكان بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص ويشفى المريض فعمى جليس الملك فابرأه فاسلمه فسأله الملك من ابرأك فقال ربي فغضب الملك عليه فعذبه فدل على الغلام فعذبه فدل على الراهب فقده بالمنشار وذهب بالغلام الى جبل ليطرحه من أعلاه فرجف بالقوم فطاحوا ونجا الغلام وذهب به الى سفينة ليغرق فانكفأت السفينة بمن معه ونجا وقال الغلام للملك لست بقاتلي حتى تأخذ سهما من كنانتي وتقول بسم الله رب الغلام ثم ترميني به فرماه فقال بسم الله رب الغلام فأصاب صدغه فوضع عليه يده فمات فآمن الناس برب الغلام وقيل للملك نزل بك ما قد كنت تحذر فأمر بحفر أخاديد فأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم عن دين الغلام طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي رضيع فتقاعست فقال الرضيع بالهام إياه مع انه في غير أوان تكلمه مثل عيسى النبي صلى الله عليه وسلم يا أماه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت في النَّارِ بدل من لفظة الأخدود بدل الاشتمال ذاتِ الْوَقُودِ والحطب الكثير تهويلا عليهم بشدة التهابها وسورتها لينزجروا عما اختاروا ويعودوا عن الإسلام والتوحيد ثم لما طرح المؤمنون فيها التهبت النار التهابا شديدا وخرجت على أطرافها فأحرقت كثيرا من صناديد أولئك الظلمة إِذْ هُمْ عَلَيْها وفي أطرافها قُعُودٌ قاعدون على الكراسي حول النار وَهُمْ اى رؤساؤهم عَلى ما يَفْعَلُونَ اى الموكلون بِالْمُؤْمِنِينَ من الأخذ والافناء شُهُودٌ وعدول مشرفون من قبل الملك أمناء من جانبه اقعدهم حوله لئلا يتهاون الأعونة في إهلاك المؤمنين وطرحهم في النار وَبالجملة ما نَقَمُوا وما انتقموا أولئك الظالمون المنهمكون في بحر الغي والطغيان والعدوان مِنْهُمْ اى من المؤمنين بهذا الانتقام الصعب الهائل إِلَّا انهم كرهوا منهم واستنكروا عليهم أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الواحد الفرد الأحد الصمد الحي القيوم الحقيق بالإيمان والإطاعة الْعَزِيزِ الغالب القاهر على من دونه من السوى والأغيار مطلقا الْحَمِيدِ المستحق لأصناف الاثنية والمحامد استحقاقا ذاتيا ووصفيا وكيف لا يكون سبحانه عزيزا حميدا مع انه القادر الَّذِي لَهُ وفي حيطة قدرته وارادته مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى مظاهر العلويات والسفليات وما بينهما من الممتزجات وَكيف لا هو اللَّهُ المستقل بالالوهية والربوبية عَلى كُلِّ شَيْءٍ مما لمع عليه برق وجوده شَهِيدٌ حاضر غير مغيب عنه وبالجملة إِنَّ المسرفين المفسدين الَّذِينَ فَتَنُوا واحرقوا

[سورة البروج (85) : آية 12]

الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ظلما وعدوانا كراهة هدايتهم وايمانهم ثُمَّ بعد ما فعلوا من الإفراط والإسراف لَمْ يَتُوبُوا الى الله ولم يرجعوا نحوه سبحانه عن ظلمهم ولم يستغفروا نحوه نادمين منه فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ الطرد والحرمان عن حضور الحنان المنان وَلَهُمْ ولحق بهم بسبب كفرهم بالله وانكارهم توحيده عَذابُ الْحَرِيقِ بدل ما فعلوا بالمؤمنين من إحراقهم في الأخاديد. ثم عقب سبحانه وعيدهم بوعد المؤمنين فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وَأكدوا ايمانهم حيث عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقرونة بالإخلاص في القصد والنيات لَهُمْ عند ربهم جزاء لإيمانهم وأعمالهم تفضلا عليهم جَنَّاتٌ متنزهات العلم والعين والحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى جداول المعارف والحقائق المنتشئة من بحر الحقيقة وبالجملة ذلِكَ الْفَوْزُ العظيم الشأن البعيد رفعة مكانته عن افهام الأنام هو الفوز الْكَبِيرُ والفضل العظيم الذي لا فوز أعظم منه وارفع. ثم أشار سبحانه الى تهديد اصحاب الضلال المنحرفين عن جادة الاعتدال مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم فقال إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل واخذه بالعنف لعصاة عباده المائلين عن سبيل سداده وجادة رشاده لَشَدِيدٌ بحيث لا يقاس على شدة بطشه ومضاعف عذابه وانتقامه وكيف يطلق بطشه ويقاوم اخذه وإِنَّهُ سبحانه هُوَ القادر الغالب الذي يُبْدِئُ ويظهر عموم المظاهر والموجودات من كتم العدم بالقدرة الكاملة الغالبة ثم يخفيها ويعدمها كلها ايضا بكمال قدرته وَيُعِيدُ ويخرجها في فضاء الظهور مرة بعد اخرى بمقتضى قدرته واختياره فكيف يقاوم ويقاس شيء مع قدرته سبحانه هذه وكيف يطيق احد ان يقوم بمعارضته تعالى شأنه في حكمه وينازع سلطانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسئل عن فعله انه حكيم مجيد وَهُوَ سبحانه ايضا بمقتضى سعة جوده ورحمته الْغَفُورُ الستار المحاء لذنوب من تاب ورجع نحوه مخلصا نادما وان كبرت وكثرت فان رحمته أوسع منها واشمل الْوَدُودُ المحب لإخلاص المذنبين وتوبة المستغفرين وفراغة الخائبين المخبتين المستحيين من الله النادمين على ما صدر عنهم وقت الغفلة والغرور وكيف لا يود ولا يغفر سبحانه مع انه ذُو الْعَرْشِ إذ هو المستوي على عروش عموم ما ظهر وبطن بالاستيلاء التام والاستقلال الكامل الْمَجِيدُ العظيم في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله إذ لا وجود سواه ولا كون لغيره فظهر انه فَعَّالٌ بالاستقلال والاختيار لِما يُرِيدُ إذ جميع الأفعال الجارية في ملكه وملكوته صادر عنه باختياره بلا شركة فيها ومظاهرة إذ لا يجرى في ملكه الا ما يشاء بمقتضى علمه الشامل وحكمه الكامل سواء كان انعاما او انتقاما. ثم أشار سبحانه الى تسلية حبيبه صلى الله عليه وسلم وحثه على الصبر على اذيات قومه وتكذيبهم إياه مكابرة فقال هَلْ أَتاكَ اى قد أتاك ووصل إليك وثبت ذلك عندك يا أكمل الرسل بالتواتر حَدِيثُ الْجُنُودِ اى اخبار الأمم السالفة وقصة تكذيبهم للرسل السابقة والكتب السالفة وانتقامنا منهم بعد ما بلغت اذياتهم للرسل غايتها سيما حديث فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي وملائه كيف كذبوا أخاك موسى الكليم عليه السلام وكيف قصدوا مقته وإهلاكه مرارا وكيف انتقمنا منهم واستأصلناهم وَثَمُودَ المردود كيف كذبوا أخاك صالحا عليه السلام وكيف انتقمنا منهم تذكر يا أكمل الرسل قصصهم مع رسلهم وما جرى عليهم من لدنا وبالجملة فاصبر يا أكمل الرسل على ما اصابك من قومك فان ذلك من عزم الأمور فسننتقم منهم ايضا مثل ما انتقمنا من الأمم السالفة الهالكة بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبكتابك فِي

[سورة البروج (85) : آية 20]

تَكْذِيبٍ عظيم من تكذيب الماضين لأنهم قد سمعوا قصصهم وما جرى عليهم بشؤم تكذيبهم فلم يعتبروا ولم ينزجروا فسيلحقهم أشد مما لحقهم من العذاب عاجلا وآجلا وَبالجملة اللَّهُ المطلع بعموم ما جرى في ضمائرهم من الكفر والشقاق مِنْ وَرائِهِمْ اى وراء هوياتهم الباطلة وتعيناتهم العاطلة مُحِيطٌ بهم بالاحاطة الذاتية بحيث لا يفوته سبحانه شيء من جرائمهم وآثامهم فسيجازيهم عليها حسب احاطته وخبرته وهم ينكرون احاطته ولذلك ينكرون كتابه الجامع لجميع الكمالات الدنيوية والاخروية الغيبية والشهادية ويسبونه الى الشعر والكهانة وانواع التزويرات والمفتريات الباطلة عنادا ومكابرة مع انه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بَلْ هُوَ قُرْآنٌ فرقان بين الحق والباطل والهداية والضلال مَجِيدٌ عظيم عند الله مبين مبين لأحكام الدين المستبين مثبت مركوز فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ألا وهو حضرة العلم المحيط الإلهي ولوح قضائه المصون عن مطلق التحريف والتغيير. جعلنا الله ممن فاز بنور الايمان وانكشف بحقية القرآن الفرقان بمنه وجوده خاتمة سورة البروج عليك ايها الموحد المحمدي المنكشف بحقية القرآن هداك الله الى حقيقته ان تعتقد ان مطلق الحوادث الجارية في عالم الكون والفساد انما هو مثبت في لوح القضاء المصون عن سمة التبديل والتغيير إذ ما يبدل القول والحكم لدى القادر الحكيم العليم والتصرفات الواقعة في عالم الملك والملكوت انما هي مرقومة مرسومة فيه على وجهها بحيث لا يشذ شيء منها عنه والقرآن المجيد منتخب منه وحاو عموم ما ثبت فيه اجمالا ومن أدركته العناية السرمدية وجذبته الجذبة الاحدية يصل من رموز القرآن الى كنوز الأسرار والمعارف التي فصلها الحق في لوح قضائه وحضرة علمه لكن الواصل الى هذه المرتبة العلية أقل من القليل فكن راجيا من الله الجميل ولا تيأس من روح الله انه لا ييأس من روح الله الا القوم الخاسرون [سورة الطارق] فاتحة سورة الطارق لا يخفى على من تحقق بحيطة الحق وحفظه ورقابته لعموم مظاهره ومجاليه ان كل ما صدر عن من صدر وعلى اى وجه صدر فان الله عليه رقيب عتيد يحافظه ويراقبه سواء كان خيرا او شرا نفعا او ضرا عملا او اعتقادا حالا او مقالا والسر في ذلك ان لا يغفل العبد عن الله بحال من الأحوال ولا في شأن من الشئون وكيف يغفل عنه سبحانه فانه دائما مستمد منه سبحانه في عموم حالاته حسب أنفاسه ولحظاته وخطراته لذلك اقسم سبحانه لإثبات هذا المطلب العظيم العزيز بما اقسم ليكون العبد على ذكر من ربه وحضور عنده بحيث لا يغيب عنه سبحانه لمحة وطرفة حتى لا يصدر عنه ما لا يرضى به سبحانه بمتابعة شياطين القوى الامارة الناسوتية فقال سبحانه متيمنا بِسْمِ اللَّهِ المراقب لأحوال عباده كيلا يوسوس في صدورهم الشيطان الرَّحْمنِ عليهم يحفظهم عن موجبات الندامة والخذلان الرَّحِيمِ لهم يهديهم الى طريق الجنان [الآيات] وَالسَّماءِ اى بحق سماء الأسماء اللاهوتية المصونة عن مطلق التغيير والزوال المتعالية عن مدارك الوهم ومشاعر الخيال وَبحق الطَّارِقِ الذي يتخطف منها على آحاد الرجال بعد ما هاجروا عن بقعة الناسوت متشمرين بالعزيمة الخالصة نحو فضاء اللاهوت بمقتضى الجذب الجبلي والميل الفطري المعنوي ثم أبهمه سبحانه

[سورة الطارق (86) : آية 2]

على حبيبه تعظيما وتفخيما فقال وَما أَدْراكَ ايها المظهر الكامل اللائق لفيضان الطوارق اللاهوتية مَا الطَّارِقُ حين كنت مقيدا في عالم الناسوت حسب هويتك وبعد ما أطلقك الحق عن قيود عالم الناسوت عرفت ان الطارق الذي يطرقك من عالم اللاهوت وفضاء الجبروت انما هو النَّجْمُ الثَّاقِبُ اى الجذبة الاحدية المضيئة اللامعة المتشعشعة الناشئة البارقة من عالم العماء الذي هو محل كمال الجلاء والانجلاء الذاتي والجذوة المتشعشعة المشتعلة الساطعة من نار العشق والمحبة المفرطة الإلهية الى شجرة ناسوتك القابلة ذلك بعد ما أمرك بالتجرد عن كسوة ناسوتك أنا الله لا اله الا أنا فاخلع نعليك واطرح لوازم نشأتك بعد ما سمعت يا أكمل الرسل فاسترح في مقعد صدقك عند ربك انك بالوادي المقدس عن رذائل لواحق نشأة الناسوت طوى أى قد طويت دونك العوائق البشرية مطلقا وأنا اخترتك لمظهرية المعارف والحقائق المستلزمة لرتبة الخلافة والنيابة فاستمع لما يوحى إليك من الآيات البينات لمراسم التوحيد واليقين وبالجملة وبحق هذين القسمين العظيمين إِنْ كُلُّ نَفْسٍ اى ما كل نفس من النفوس الطيبة والخبيثة الكائنة في عالم الكون والفساد لَمَّا اى الا عَلَيْها حافِظٌ من قبل الحق يحفظ لها أقوالها وافعالها وحالاتها حتى يدفعها ويسلمها الى المقادير التي حصلت عنها وصدرت على طبقها حتى جوزيت على مقتضاها وبعد ما سمع الإنسان ما سمع من الحكمة العلية الإلهية فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ المركب من الجهل والنسيان وليتأمل في منشئه مِمَّ خُلِقَ يعنى فليراجع وجدانه ولينظر مبدأه ومنشأه حتى يظهر له من أى شيء قدر وجوده فيعرف قدره ولم يتعد طوره مع انه انما خُلِقَ وقدر مِنْ ماءٍ مهين مسترذل دافِقٍ مدفوق مصبوب في الرحم على وجه التلذذ والاضطراب من كلا الجانبين مع انه يَخْرُجُ ذلك الماء المهين مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ اى من ظهر الرجل وصدر المرأة وبعد ما تأمل الإنسان في مبدئه وعرف اصل نشأته تفطن منه ان وفقه الحق الى قدرة الصانع الحكيم العليم الذي خلقه من هاتين الفضلتين الخبيثتين ورباه الى ان صار بشرا سويا قابلا لفيضان انواع المعارف والحقائق لائقا للخلافة الإلهية مهبطا للوحى والإلهام من لدنه سبحانه وتفطن ايضا بل جزم وتيقن ان من قدر خلقه وإيجاده ابتداء إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ وإعادته وبعثه من القبور لَقادِرٌ البتة فكيف ينكر قدرته سبحانه على البعث والحشر مع ان الإعادة أهون عنده من الإبداء تأملوا ايها المجبولون على فطرة العبرة والتكليف يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ وتكشف الستائر ويظهر ما خفى من الضمائر من الإنكار والإصرار وفواسد النيات والأعمال فَما لَهُ اى للإنسان حينئذ مِنْ قُوَّةٍ يدفع بها عن نفسه ما يترتب على اعماله وأحواله من العذاب والعقاب على وجه الجزاء وَلا ناصِرٍ يدفعه وينصره إذ كل نفس يومئذ رهينة بما كسبت مشغولة بجزاء ما جرت عليه خيرا كان او شرا. ثم اقسم سبحانه بما اقسم لإثبات حقية القرآن وفضله وكونه برئيا عن قدح القادحين وطعن الطاعنين فقال وَالسَّماءِ اى وحق سماء الأسماء اللاهوتية الإلهية التي هي في أعلى درجات الارتفاع ذاتِ الرَّجْعِ والعود إذ تدور على هياكل عالم الناسوت طرفة وترجع في الحال الى عالمها دفعة كالبرق الخاطف ولا تدوم ولا تستقر آثارها الا لأرباب العناية من البدلاء الذين قد بدلت لوازم ناسوتهم بالمرة بخواص اللاهوت وارتفعت البشرية عنهم مطلقا وَالْأَرْضِ اى ارض الطبيعة والهيولى القابلة لانعكاس ما لمع عليه سماء الأسماء ذاتِ الصَّدْعِ اى التأثر والتشقق بقبول اثر مؤثرات عالم اللاهوت يعنى وبحق هذين القسمين العظيمين إِنَّهُ

[سورة الطارق (86) : آية 14]

اى القرآن لَقَوْلٌ فَصْلٌ فاصل فارق بين الحق والباطل والهداية والضلالة وَما هُوَ بِالْهَزْلِ كما زعمه المسرفون المفرطون في شأنه بل هو جد كله صدر عن حكمة متقنة بالغة الهية لمصلحة الهداية والإرشاد لعموم العباد وبالجملة إِنَّهُمْ يعنى طغاة مكة خذ لهم الله يَكِيدُونَ كَيْداً ويمكرون في ابطال القرآن واطفاء نوره الفائض على عموم الأعيان فيرمونه بأنواع القدح والطعن مراء ومكابرة وينسبونه الى ما لا يليق بشأنه عنادا وَأَكِيدُ انا ايضا في أخذهم وانتقامهم بعد ما استحقوا الأخذ والانتقام كَيْداً على سبيل الاستدراج والاستمهال بحيث لا يحتسبون بل يحملون امهالنا إياهم على الإهمال لذلك يغترون ويجترءون في قدحه وطعنه وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أنت ايضا ولا تستعجل بانتقامهم ولا تشتغل بالدعاء عليهم سريعا إذ امهالنا ابتلاء منا لهم وفتنة جالبة لمصيبة عظيمة ومتى تحققت يا أكمل الرسل ما قلنا لك أَمْهِلْهُمْ واعرض عن المراء والمجادلة معهم وانتظر لمقتهم وترقب لهلاكهم رُوَيْداً امهالا يسيرا في زمان قليل وسيظهر عن قريب دينك على عموم الأديان وهم يقهرون ويستأصلون. جعلنا الله ممن صبر وظفر بمبتغاه بمنه وجوده خاتمة سورة الطارق عليك ايها المتوكل على الحق المتبتل نحوه بالعزيمة الخالصة ان تفوض عموم أمورك الى ربك بحيث لا يحظر ببالك ان تلتفت الى تحصيلها باستبدادك وتتخذه كفيلا حسيبا كافيا لجميع حوائجك واشغالك وبالجملة كن فانيا في الله يكفك جميع مؤنك إذ الكل بالله ومن الله وفي الله بل أنت ما أنت بل أنت هو بل هو هو لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون [سورة الأعلى] فاتحة سورة الأعلى لا يخفى على المحمديين الموحدين الواصلين الى مقام التمكين بلا تلعثم وتلوين ان العارف المحقق بعد ما قد وصل الى مقام الفناء في الله وحصل له ذوق التوحيد الذاتي والبقاء السرمدي لم يبق في بصر شعوره من مشهوده سوى الوحدة الذاتية الصرفة الخالية عن تعدد الأسماء والصفات مطلقا إذ تلون الأوصاف وتعدد الأسماء من جملة الحجب والغطاء عند ارباب المحبة والولاء المتحققين بعالم العماء الذي لا يمكن التعبير عنه مطلقا لاضمحلال الحجب والآلات التي بها يتوسل الى التعبير والإشارة والرمز والغمز والإيماء وبالجملة لا يسع حينئذ سوى التقديس والتسبيح إذ لا يحتاج المسبح المقدس الى التوسل مطلقا لذلك امر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بعد ما وصل الى ما وصل من القرب والشهود بالتسبيح ولقنه بالتقديس المقارن لاسمه الأعلى لا على وجه الاسمية والاضافة ولا على وجه الوصفية إذ الاسم والوصف وسائر الاعتبارات المسبوقة بالشعور والإدراك لا يسعه في ذلك المقام ولا على معنى التفضيل ايضا فانه مسبوق بالإدراك والحضور بل على وجه العجز والقصور عن الإدراك والتعبير والإشارة وعن مطلق الوسائل والأسباب المؤدية الى الاخبار عنه سبحانه إذ قد كلت حينئذ ألسنة الاستعدادات عن مطلق الإيماء والإشارات وانحسرت المدارك والعقول عن عموم الإدراكات والشعور فصار الكل مبهوتا حائرا هائما بل فانيا مضمحلا بحيث لم يبق له لا اسم ولا رسم ولا خبر ولا اثر وبعد ما وقع ما وقع ووصل الى ما وصل فقد وقع

الآيات

على الله فأمره بمقتضى علمه وحكمته حسب ارادته ومشيته فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الى ذاته عن احلام الأنام وافهام الخواص والعوام الرَّحْمنِ لعموم عباده يدعوهم الى دار السلام الرَّحِيمِ لخواصهم يهديهم الى ارفع المكانة وأعلى المقام [الآيات] سَبِّحِ لله يا من غرق في تيار البحر الزخار للوجود وتلاشى في لمعات شمس الشهود اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وان لم يبق لك التوسل بمطلق الأسماء بعد ما فنيت في المسمى ثم تذكر بمقتضى حصة عبوديتك نعمه الواصلة إليك بعد ان فزت بحلل البقاء استحضارا وتذكيرا لما جرى عليك من الشئون والأطوار في نشأة ناسوتك إذ هو سبحانه القادر المقتدر الَّذِي خَلَقَ وأوجد عموم ما خلق واظهر فَسَوَّى خلق الكل بحوله وقوته واختياره مع ما يتعلق به ويترتب عليه في معايشه ومعاده وَهو الحكيم العليم القدير الَّذِي قَدَّرَ المقادير ودبر التدابير واحسن التصاوير وأودع فيها ما أودع من الاستعدادات والقابليات الجالبة لانواع الكمالات وبعد ما هيأها وعدلها فَهَدى اى هدى الكل الى ما جبلوا لأجله بوضع التكاليف المشتملة على الأوامر والنواهي والاحكام الواجبة والمندوبة والأخلاق المرضية والآداب السنية ليتمرنوا على الأمور المذكورة ويترسخوا فيها بالعزيمة الخالصة والجزم التام حتى يستعدوا لان تفيض عليهم طلائع سلطان الوحدة الذاتية المنقذة لهم عن ورطة الناسوت الموصلة لهم الى فضاء اللاهوت وَهو سبحانه القادر المقتدر الَّذِي أَخْرَجَ بكمال قدرته واثبت واظهر الْمَرْعى الحاصل في مرتع الدنيا باجناسها وأصنافها تتميما لتربية دواب الطبائع وحوامل الأركان القابلة لتأثيرات عالم الأسماء والصفات ليتقوموا بها ويستعدوا لفيضان المعارف والحقائق وانواع الكمالات اللائقة التي هم جبلوا لأجلها وبعد ما حصل من الكمالات المنتظرة في نشأة الناسوت فَجَعَلَهُ سبحانه مرعى العالم مع كمال نضارتها وبهائها في نظر شهود اولى الألباب الناظرين بنور الله من وراء سدول الأسماء والصفات غُثاءً يابسا بل سرابا باطلا عاطلا وبعد ما تحققوا بمقر التوحيد ورفعوا وسائل الأوصاف والأسماء من البين فصار الكل حينئذ هباء أَحْوى بل عدما لا يبقى اسود موحشا بعد ما كان اخضر مفرحا ثم التفت سبحانه نحو حبيبه صلى الله عليه وسلم على سبيل التفضل والامتنان فقال على طريق الوصاية والتذكير سَنُقْرِئُكَ ونجعلك قارئا يا أكمل الرسل مراقبا على وجوه الوحى والإلهام النازل من لدنا عليك مع انك أمي لم يعهد من مثلك أمثالها فَلا تَنْسى يعنى عليك ان تضبط هذه النعمة وتحفظها على وجهها وتواظب على أداء شكرها بلا فوت شيء منها بزيادة عليها او تحريف فيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ العليم الحكيم نسيانه منك بان نسخ تلاوته او حكمه او كلاهما على مقتضى حكمته المتقنة ومصلحة عباده المستحكمة وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت فدم عليها ولا تغفل عنها سرا وجهرا حالا ومقالا إِنَّهُ سبحانه يَعْلَمُ منك الْجَهْرَ وَما يَخْفى يعنى ظاهرك وباطنك اى يعلم سبحانه منك جميع ما امتثلت بظاهرك من مقتضيات الوحى والإلهام وبباطنك من الإخلاص في النيات والحالات والخلوص في العزائم والمقامات وَاعلم يا أكمل الرسل انا بمقتضى عظيم جودنا معك مراقبون لك في عموم شئونك واطوارك نُيَسِّرُكَ ونوفقك على التدين والتحفظ بمقتضيات الوحى لِلْيُسْرى اى الطريقة والشريعة السهلة السمحة البيضاء وبعد ما يسرنا لك وسهلنا عليك طريق الهداية والإرشاد فَذَكِّرْ بالقرآن وبين الاحكام الموردة فيه للناس إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى اى سواء نفعت عظتك وتذكيرك إياهم او لم تنفع

[سورة الأعلى (87) : آية 10]

إذ ما عليك الا البلاغ وعلينا الحساب ولا تيأس يا أكمل الرسل من مبالغتهم في الاعراض والانصراف عنك وعن تذكيرك واعلم انه سَيَذَّكَّرُ ويتعظ بتذكيرك مَنْ يَخْشى من بطش الله ومن كمال قدرته على وجوه الانتقام سيما بعد التأمل في معاني القرآن مرارا والتدبر في فحاويه تكرارا قد تنبه على حقيته فتذكر به وامتثل بما فيه يَتَجَنَّبُهَا اى يعرض عنها وعن سماعها يعنى سماع الذكرى والعظة التي هي القرآنْ َشْقَى اى الكافر الذي جبل على فطرة الشقاوة وجبلة الجهل والغباوة الَّذِي يَصْلَى ويدخل في النشأة الاخرى النَّارَ الْكُبْرى التي هي أضعاف نار الدنيا في الحرارة والحروقة لذلك قال كبرى او في الدرك الأسفل منها وهو أكبرها ثُمَّ لما دخل في نار القطيعة والحرمان بأنواع الخيبة والخذلان لا يَمُوتُ فِيها حتى يستريح ويخلص وَلا يَحْيى حياة نافعة طيبة كسكان بقعة الإمكان الداخلين في نيران الشهوات ودركات الأماني والآمال بحيث لا يموتون حتى يستريحون ولا يحيون بلا منية الامنية وغل الأمل وسلسلة الحرص والطمع وبالجملة هم معذبون في عموم الأوقات والأحوال لا نجاة لهم فيها ما داموا في قيد الحياة وبعد ما ماتوا بأنواع الحسرات سيصلون في أسفل الدركات وأصعب العقبات. هب لنا جذوة من نار المحبة تنجينا من نيران الإمكان في النشأة الاولى والاخرى. ثم قال سبحانه على سبيل التنبيه قَدْ أَفْلَحَ وفاز بالدرجة القصوى والمرتبة العليا مَنْ تَزَكَّى وتطهر عن ادناس الطبائع وإكدار الهيولى من الميل الى الدنيا وما فيها من اللذات الفانية والشهوات الغير الباقية وتوجه نحو المولى بالعزيمة الخالصة وَذَكَرَ في أوائل الطلب ومبادي الارادة اسْمَ رَبِّهِ اى جنس الأسماء الإلهية متفطنا بمعناها يقظانا بفحواها فرحانا بمضمونها متشوقا الى لقياه سبحانه فَصَلَّى ومال نحوه سبحانه في الأوقات المحفوظة المأمور بالأداء فيها محرما على نفسه عموم مبتغاه من دنياه بَلْ هؤلاء الحمقى الهلكى التائهون في تيه الغفلة والضلال المغلولون بأغلال الأماني والآمال تُؤْثِرُونَ وتختارون الْحَياةَ الدُّنْيا المستعارة الفانية على الحياة الحقيقية الاخروية الباقية وكذلك تجمعون اسباب الفساد والإفساد ولا تتزودون ليوم المعاد وَالْآخِرَةُ اى والحال ان الآخرة وما وعد فيها من اللذات الروحانية الباقية خَيْرٌ مما في الدنيا وأمانيها وَأَبْقى وأدوم بحيث لا انقطاع لها ولا نهاية للذاتها وبالجملة إِنَّ هذا الذي وعظك الحق به يا أكمل الرسل ووصاك بحفظه وبالامتثال به والاتصاف بمضمونه لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى اى مثبت مسطور فيها على وجهه وتلك الصحف هي صُحُفِ جدك يا أكمل الرسل إِبْراهِيمَ الخليل الفائق في الخلة والفلاح على عموم ارباب الصلاح والنجاح وَصحف أخيك مُوسى الكليم الفائز من عند الله بالفوز العظيم ألا وهو مرتبة التكلم والتكليم مع الله العليم. جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم خاتمة سورة الأعلى عليك ايها الطالب للفلاح الأخروي الحقيقي والنجاح المعنوي ان تزكى أولا نفسك عن مطلق الرذائل العائقة عن التوجه الحقيقي نحو الحق وتصفى سرك عن الميل الى مزخرفات الدنيا الدنية وأمانيها الغير المريئة الهنيئة فعليك ان ترغب نفسك عن مقتضيات الإمكان ولا تغريها الى لذاتها وشهواتها فعليك ان تلازم الخلوة والخمول وتجتنب عن اصحاب الثروة والفضول حتى يعينك الحق

سورة الغاشية

على التلقي بالقبول ويوفقك على ما يوصلك الى الفوز والفلاح ويرشدك الى سبيل النجاة والنجاح. ربنا افتح لنا أبواب رحمتك انك أنت الكريم الفتاح [سورة الغاشية] فاتحة سورة الغاشية لا يخفى على المحققين المنكشفين بالنشأة الاخروية المتحققين بظهور الحق حسب النشأتين ان وقوف العباد بين يدي الله وعرض الأعمال عليه سبحانه والحساب عليها والجزاء على مقتضاها مشهودة للعارف المحقق مكشوفة عنده في كل آن وزمان وبعد الحساب والجزاء فرقة منهم رابحون مقبولون عند الله وفرقة خاسرون مردودون فالمقبولون في كنف جوار الله مسرورون متنعمون والمردودون في نار القطيعة والحرمان محزومون مطرودون لذلك اخبر سبحانه في هذه السورة على سبيل المبالغة والتأكيد مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ القادر المقتدر على عموم مقدوراته حسب النشأتين الرَّحْمنِ على عموم عباده ينبههم نحو المرجع والمعاد الرَّحِيمِ لخواصهم يهديهم الى سبيل الرشاد [الآيات] هَلْ أَتاكَ اى قد أتيك ووصل إليك وانكشف لك يا أكمل الرسل حَدِيثُ الْغاشِيَةِ اى الداهية العظيمة التي تغشى الناس وتحيط بهم يوم القيامة بشدائدها حين وقفوا بين يدي الله للعرض والجزاء وهم حينئذ من شدة الهول والفزع حيارى سكارى تائهون هائمون مرعوبون ما يفعل بهم وكيف يحكم عليهم وبعد ما أخذوا للحساب وحوسبوا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ ذليلة شاخصة منكوسة عامِلَةٌ يومئذ باعمال لا تنفعها كالتوبة والتوجه وطلب العفو والمغفرة بعد مضى أوانها ناصِبَةٌ مبالغة في تحمل التعب والمشقة رجاء ان يعفى عنها ويغفر لها مع انها لا ينفعها حينئذ عملها وان اتعب نفسها لانقضاء نشأة الاختبار المأمورة فيها الأعمال بل تَصْلى بالطرح حينئذ ناراً حامِيَةً في نهاية الحر والحرقة تأكيدا وتشديدا لعذابها تُسْقى عند الأشراف على الهلاك عن غاية العطش مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ متناهية في الحرارة والسخونة المفرطة وكيف لا وقد أوقدت حولها نار جهنم منذ خلقت هذا شرابهم ولَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ اى شبرق يابس امر من الصبر وابشع من جميع الأشياء البشيعة ومع نهاية بشاعته ومرارته وشدة حرارته لا يُسْمِنُ حتى يزيد في قوتهم وَلا يُغْنِي ولا يدفع مِنْ جُوعٍ وبالجملة لا يفيدهم أصلا ووُجُوهٌ أخر يَوْمَئِذٍ على عكس ذلك إذ هي ناعِمَةٌ متنعمة مبتهجة مسرورة لِسَعْيِها الذي قد تحملته من انواع المتاعب والمشاق في نشأة الدنيا راضِيَةٌ سيما بعد ما رأت ما ترتب على سعيها من الجزاء وكيف لا ترضى وهي متنعمة يومئذ بسبب ذلك السعى وبالجملة هي متمكنة يومئذ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ متعالية أوصاف نزاهتها ونضارتها عن مدارك العقول ومشاعر الخواص مصفاة عن مطلق المكاره بحيث لا تَسْمَعُ فِيها كلمة لاغِيَةً لا فائدة لها ولتتميم نزاهتها ونضارتها فِيها عَيْنٌ ماؤها في غاية البياض والصفاء جارِيَةٌ في خلالها وكذلك أنهارها ابدا ولتكميل ترفههم وتنعمهم فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ مرتفعة عن الأرض على قوائم طوال وَأَكْوابٌ أوان لا عروة لها مَوْضُوعَةٌ بين أيديهم وَنَمارِقُ وسائد في غاية الصفاء والبهاء متلونة بألوان مطبوعة مَصْفُوفَةٌ مفروش بعضها في جنب بعض وَزَرابِيُّ بسط أخر فاخرة متلونة مَبْثُوثَةٌ مبسوطة مفروشة وبالجملة لا تستبعدوا ولا تستغربوا عن قدرة الله أمثال هذا أَ

[سورة الغاشية (88) : آية 18]

ينكرون ويستبعدون أولئك البعداء المنكرون المفرطون قدرة الله القادر الحكيم على أمثال هذه المقدورات فَلا يَنْظُرُونَ بنظر التأمل والاعتبار إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ على الهيكل الغريب والشكل العجيب تحمل كثيرا وتأكل قليلا وتصير منقادة لكل احد حتى النسوان والصبيان مع عظم جسمها وكمال قوتها وقدرتها وتتحمل على الجوع والعطش مدة وتتأثر من المودة والغرام وتسكر منها الى حيث تنقطع عن الأكل والشرب زمانا ممتدا وايضا قد تتأثر من الأصوات الحسنة والحدى وتصير من كمال التأثر الى حيث تهلك نفسها من سرعة الجري ويجرى الدمع من عينيها عشقا وغراما وشوقا اواما وبالجملة قد ظهر منها حين حدى عليها وصوت لها بأصوات حسنة ونغمات مستحسنة عجائب كثيرة يتفطن بها اهل العبر والاستبصار وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ بلا عمد وأسانيد منثورة عليها الكواكب التي لا ندرك حقائقها وأوصافها وأشكالها وطبائعها ومالنا منها الا الحيرة والنظرة على وجه العبرة وَكذا إِلَى الْجِبالِ الرواسي كَيْفَ نُصِبَتْ على وجه الأرض مشتملة على معادن ومياه وآجام وَإِلَى الْأَرْضِ التي هي مقر انواع الحيوانات واصناف المعادن وانواع النباتات كَيْفَ سُطِحَتْ مهدت وبسطت ومع وضوح صدور أمثال هذه المقدورات العظيمة الشأن من الحكيم الحنان المنان ذي الطول والإحسان ينكرون قدرته سبحانه على المقدورات الاخر الاخروية فالعجب كل العجب ممن شهد وشاهد آثار القدرة الغالبة الإلهية في الأنفس والآفاق فتردد في المقدورات الاخروية وأنكر عليها ظلما وعدوانا وما ذلك الإنكار والإصرار الا من ظلمات الالف والعادات المترتبة على شياطين الأوهام والخيالات الباطلة الطارئة على اهل الغفلة والضلالة المسجونين في سجن الإمكان بأنواع الخيبة والخسران والا فظهور آثار القدرة الغالبة الإلهية أجل وأعلى من ان تتردد فيه الآراء وتنكر عليه الأهواء وبالجملة من لم يجعل الله له نورا فما له من نور وبعد ما سمعت ما سمعت من مقتضيات القدرة الغالبة الإلهية فَذَكِّرْ يا أكمل الرسل بالقرآن حسب ما أمرت به وألهمت إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ مبلغ فلا بأس عليك ان لم ينظروا ولم يعتبروا بل ما عليك الا البلاغ فلا تقصر في تبليغك إذ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ مسلط ملزم مكره للقبول البتة إِلَّا مَنْ تَوَلَّى يعنى لكن من اعرض وبغى بعد تذكيرك وتبليغك وَكَفَرَ وطغى بما سمع منك واستهزأ معك وكذبك فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العزيز الحكيم المقتدر على وجوه الانتقام الْعَذابَ الْأَكْبَرَ الذي لا عذاب أعظم منه وأشد ألا وهو حرمانهم عن رتبة الخلافة وخلودهم في نار القطيعة بأنواع الخذلان والخسران وبالجملة بلغ يا أكمل الرسل جميع ما انزل إليك على كافة البرية ولا تبال باعراضهم وتكذيبهم إِنَّ إِلَيْنا لا الى غيرنا من الوسائل والأسباب العادية إِيابَهُمْ ورجوعهم كما ان منا مبدأهم وصدورهم ثُمَّ بعد ما رجعوا إلينا صاغرين إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ على أعمالهم التي صدرت عنهم في نشأة الاختبار جزيناهم احسن الجزاء ان كانوا من اصحاب اليمين وعذبناهم بأنواع العذاب والنكال ان كانوا من اصحاب الشمال. ربنا يسر حسابك علينا وادفع عذابك عنا انك أنت الرءوف الرحيم خاتمة سورة الغاشية عليك ايها المحمدي المتوجه نحو الحق الحقيق بالتوجه والرجوع ان ترجع الى الله قبل حلول الأجل المقدر للقيامة الصغرى والطامة الكبرى وتفوض أمورك كلها اليه سبحانه بالإرادة والرضا وتنتزع عن

سورة الفجر

لوازم ناسوتك بالمرة ولا تلتفت الى مزخرفات الدنيا بل الى مستلذات العقبى ايضا ان كنت من أهل الله المؤمنين بلقاء الله والوصول الى كنف جواره وبالجملة عليك ان تتصف بالموت الإرادي قبل حلول الأجل الاضطراري الطبيعي حتى تكون أنت عند ربك دائما وفي كنف حفظه وجواره مستمرا بلا انتظار منك الى الطامة الكبرى والى الحساب والجزاء ولا يتيسر لك هذا الا بتوفيق الله وجذب من جانبه فلك السعى والاجتهاد والله الملهم للرشاد والهادي الى سبيل السداد [سورة الفجر] فاتحة سورة الفجر لا يخفى على من ترقى عن حضيض الغفلة وغور الغرور الى ذروة المعرفة وأوج السرور ان الترفع من مضيق الناسوت والترقي نحو فضاء اللاهوت انما يحصل بالجذبة الغالبة الإلهية المفنية للقوى البهيمية المانعة عن مقتضياتها الطبيعية مطلقا المعطلة للوهم والخيال عن التصرف في عالم المثال الرادعة للعقل الفطري المنشعب من حضرة العلم الإلهي المقتبس من مشكاة لوح القضاء عن متابعة القوى الداركة البشرية وآلاتها وكذا عن سفارة الحواس الظاهرة والباطنة له ومعاونة الواهمة والمتخيلة اللتين هما من جنود إبليس الامارة بالسوء ولا شك ان هذا الترقي انما يتيسر بعد الموت الإرادي وبعد التبدل عن مقتضيات الأوصاف البشرية وحصوله انما هو بالميل الفطري المترتب على الرابطة المعنوية والعلقة الحقيقية التى هي مناط التكاليف الإلهية المثمرة لانواع المعارف والحقائق اللدنية المنتشئة عن صفاء مشرب التوحيد لذلك اقسم سبحانه بمسالك ارباب السلوك المهاجرين عن عالم الناسوت نحو فضاء اللاهوت منبها اصحاب اليقظة المترددين في بادية الطلب الساعين فيها لوجدان الارب وابتدأ بفلق صبح الانجلاء اللاهوتى فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور عباده ليخرجهم من ظلمات الطبيعة الى نور الحقيقة الرَّحْمنِ عليهم بوضع التكاليف الشاقة القالعة لعرق الالف والعادة الموروثة لهم من مقتضيات عالم الناسوت الرَّحِيمِ لهم يميتهم بالموت الإرادي عن لوازم بشريتهم الزائلة الاركانية ولواحق هوياتهم الباطلة الامكانية [الآيات] وَالْفَجْرِ اى بحق انفلاق صبح السعادة الازلية المتنفس بالانفاس الرحمانية المتلألئ من سماء العماء وأفق العالم الأعلى اللاهوتى وَلَيالٍ عَشْرٍ اى بحق ليالي الحواس العشر المقبلة الى الأدبار والانمحاء عند انجلاء الفجر اللاهوتى وضياء صبح العماء الذاتي وطلوع الفجر الجبروتى وَالشَّفْعِ اى بحق رفع شفع الملوين وتجدد الجديدين وارتفاعهما عن العين وانمحائهما من البين وَالْوَتْرِ اى بحق الوجود الوحدانى المطلق المنزه عن التعدد والتكثر مطلقا في ذاته وَاللَّيْلِ اى بحق ليل العدم المظلم في ذاته المرأة للوجود المطلق الذي يتراءى منه عموم كمالاته إِذا يَسْرِ وذهبت ظلمته بامتداد اظلال الوجود وشروق شمس الذات عليه هَلْ يحتاج فِي ذلِكَ اى في كل واحد واحد من المقسمات العظيمة الشأن قَسَمٌ ويمين يؤكدها لِذِي حِجْرٍ وعقل فطري خالص عن شوب الوهم والخيال خال عن مزاحمة مطلق الالف والعادات الحاصلة من سلاسل الرسوم وأغلال التقليدات الناشئة من ظلمات الطبيعة وبالجملة قد اقسم سبحانه بهذه المقسمات الرفيعة القدر والمكان انه سبحانه يعذب اصحاب الزيغ والضلال المقيدين بسلاسل الحرص وأغلال الآمال في الدنيا بشهوات الإمكان وفي الآخرة بدركات النيران يعنى كفار مكة خذلهم الله أَاستبعدت أنت ايضا يا أكمل الرسل تعذيبنا إياهم وانتقامنا عنهم ولَمْ تَرَ اى لم تعلم ولم تجزم بالتواتر

[سورة الفجر (89) : آية 7]

الموجب للجزم واليقين كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ يعنى كيف أهلك عادا إِرَمَ اسم لبنائهم وبلدتهم ذاتِ الْعِمادِ اى الأساطين الطوال شديدة الأساس رفيعة السمك عريضة الجدار الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ ولم يوجد مِثْلُها اى مثل بنائهم وبلدتهم فِي الْبِلادِ في الاحكام والرفعة وانواع النزاهة واللطافة وهم قد كانوا اكثر الناس أعمارا واولادا وأموالا وأتمهم جاها وثروة بأضعاف هؤلاء المسرفين المفسدين فاهلكهم سبحانه واستأصلهم بالمرة بعد ما افرطوا في أطوارهم الخارجة عن حد الاعتدال وَثَمُودَ يعنى كيف فعل ربك مع ثمود المردود ايضا ما فعل من الهلاك والإهلاك مع انهم هم البطرون المفرطون الَّذِينَ جابُوا قطعوا ونقبوا الصَّخْرَ اى صخور الجبال بِالْوادِ اى بواد القرى واتخذوا فيها بلادا حصينة منيعة من شدة قدرتهم وقوتهم ومع ذلك قد اهلكهم سبحانه وَكيف فعل مع فِرْعَوْنَ الطاغي الباغي ذِي الْأَوْتادِ اى ذي العسكر الكثير المشتمل على المضارب والخيام المشتملة على الأوتاد والاطناب وهؤلاء المذكورون هم الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ وقد استكبروا على ضعفاء العباد اتكالا واتكاء على ما عندهم من المال والجاه والثروة والسيادة فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ والإفساد فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ اى نوعا من العذاب كأنه يصب عليهم ويمطر كالماء من السحاب وهو كناية عن ترادف موجبات الهلاك وتتابعها وبالجملة قد اهلكهم الله جميعا باشد العذاب وأفظعه. ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم منبها له على كمال قدرته على الانتقام من عصاة عباده إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل على كمال المعرفة واليقين لَبِالْمِرْصادِ اى مراقب محافظ لطرق عباده يرقبهم سبحانه كيف يسلكون نحوه هل هم في سبيل الضلال والفساد او في طريق الهداية والرشاد مع ان الكل مجبولون على فطرة التوحيد لكن الحكمة الإلهية تقتضي الابتلاء والاختبار فَأَمَّا الْإِنْسانُ المذبذب بين الإحسان والكفران إِذا مَا ابْتَلاهُ اختبره وجربه رَبُّهُ بالغنى واليسر فَأَكْرَمَهُ بالجاه والثروة وَنَعَّمَهُ بالأموال والأولاد فَيَقُولُ شكرا لما وصل اليه من النعم ومقتضيات الكرم رَبِّي أَكْرَمَنِ وتفضل على بما أعطاني من الخير والحسنى وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ ربه بالفقر والعسر فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ وقصر على قدر كفايته وحاجته وقوت يومه بحيث لم يزد على مؤنة معاشه فَيَقُولُ مشتكيا الى الله باثا شكواه عنده سبحانه رَبِّي أَهانَنِ وأذلني حيث لم يعط لي ما اعطى وأنعم لفلان وفلان تفضلا وإحسانا مع ان الفقر خير له من الغنى إذ الفقر لو اقترن بالتسليم والرضا لأدى صاحبه الى جنة المأوى وملك لا يبلى والغناء لو لم يقترن بالشكر والانفاق والإحسان لأدى صاحبه الى دركات الجحيم واودية النيران. ثم قال سبحانه كَلَّا ردعا له عن هذا الاعتقاد بان الكرامة باليسرى والتوسعة والاهانة بالفقد والفقر بَلْ الكرامة بالإنفاق والإطعام لفقراء الله طلبا لمرضاته وأنتم ايها الأغنياء الممسكون لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ولا تتفقدونه بالنفقة والكسوة وَلا تَحَاضُّونَ اى لا تأمرون غيركم ايضا عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ او إطعامه وَمع ذلك الشح والبخل أنتم ايها الأغنياء تَأْكُلُونَ التُّراثَ اى ميراث الأيتام التي هي اخطر المحظورات وأخسها واخبثها أَكْلًا لَمًّا اى اكلا على سبيل الجمع بين سهامكم وسهام الأيتام بان تأخذوا وتخزنوا أموالهم لتحفظوا حالهم وتزيدوها لأجلهم فتأكلوا منها ومن نمائها دائما وَما سبب ذلك الا انكم تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا كثيرا مع حرص

[سورة الفجر (89) : آية 21]

شديد وامل كامل ولا تطعمون الفقراء والمساكين خوفا من نفاده. ثم قال سبحانه كَلَّا ردعا لهم عما هم عليه من حب المال والخلط بين الحلال والحرام يعنى كيف تؤدون ايها البخلاء الممسكون حسابها وقت إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ اى كسرت واستوت فصارت دَكًّا دَكًّا وهباء منبثا وَجاءَ يومئذ رَبُّكَ يا أكمل الرسل اى امره وظهرت طلائع هيبته وآثار قهره وجلاله وَصف الْمَلَكُ اى الملائكة الموكلون من عنده سبحانه المأمورون لتنقيد اعمال العباد والحساب والسؤال صَفًّا صَفًّا اى صفا بعد صف بما يؤمرون من قبل الحق وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ اى قد أحضرت وهيأت تهويلا على أصحابها وتفظيعا وبالجملة يَوْمَئِذٍ اى يوم القيامة التي ظهرت فيها هذه الآثار يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ المجبول على السهو والنسيان المبادر على الكفر والكفران معاصيه وقول من كان يمنعه ويزجره عنها وينذره منها فيتندم عليها ويتأسف وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى اى من أين ينفعه التذكر والذكر حينئذ والتندم والتلهف إذ نشأة التلافي والتدارك قد انقضت ومضت وبعد ما قد جزم الإنسان انه لا نفع يومئذ لتذكرة يَقُولُ متمنيا على سبيل الحسرة والندامة يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ في نشأة الاعتبار والاختبار لِحَياتِي ونجاتي في هذا اليوم وبالجملة فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ اى لا يعذب احد من الزبانية إياه مثل ما عذبه هو نفسه بالحسرة والندامة وانواع الكربة والكآبة والحرمان والخذلان وَلا يُوثِقُ ولا يحكم وَثاقَهُ ونكاله ايضا أَحَدٌ مثل ما أوثقه وأحكمه هو على نفسه بأنواع الخيبة والخسران واصناف القطيعة والحرمان إذ العذاب الروحاني الطارئ من الندامة والخذلان لا تقاس شدة تأثيره بسائر العذاب الجسماني. ثم أشار سبحانه الى حسن احوال ارباب العناية والكرامة يومئذ من المؤمنين الذين تزودوا في النشأة الاولى للأخرى واتصفوا بالتقوى ولم يعصوا في مدة اعمارهم للمولى ولم يتبعوا الهوى بل اطمأنوا ووطنوا نفوسهم بما جرى عليهم من مقتضيات القضاء وبالجملة لم يضطربوا مطلقا لا في السراء ولا في الضراء ولم يبالوا لا بالشدة ولا بالرخاء بل قد كان في دار الدنيا قرينهم الرضاء بعموم ما جرى عليهم من القضاء لذلك يقال لهم من قبل الحق يومئذ على سبيل التبشير يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ويا اصحاب النفوس الزاكية والقلوب الصافية المتقررة المتمكنة في مقام التسليم والرضا ارْجِعِي إِلى كنف رَبِّكِ واصعدي على الطريق الذي قد هبطت عنه راضِيَةً متصفة بالرضاء كما كنت راضية بالقضاء في النشأة الاولى مَرْضِيَّةً مقبولة مكرمة عند المولى وبعد ما قد رجعت على الوجه المذكور فَادْخُلِي فِي زمرة عِبادِي الذين وصلوا الى كنف جواري وحصلوا في مقعد الصدق لدى وَبالجملة ادْخُلِي جَنَّتِي اى جنة وحدتي واستريحى في خلدة لاهوتي. جعلنا الله ممن خوطب بهذا الخطاب المستطاب انه هو الملهم للصواب وعنده حسن المآب خاتمة سورة الفجر عليك ايها الموحد المترقب لهذا النداء والمحب المترصد لسماع هذا الصداء ان تكون في عموم أوقاتك على حضور مع ربك بحيث لا يشغلك عنه سبحانه الالتفات الى غيره مطلقا من الميل الى الدنيا وآمالها وأمانيها وعموم ما فيها بل لك ان تكون مطمئنا راضيا بعموم ما جرى عليك من

سورة البلد

القضاء ومفوضا أمورك كلها اليه سبحانه على وجه التسليم والرضا متوجها بالعزيمة الخالصة نحو المولى حتى تكون مخاطبا بهذا الخطاب المستطاب في كل نفس من أنفاسك التي جرت عليك في عموم افعالك وحالاتك وبالجملة لا تغفل عن الله مطلقا تفز بتشريف أمثال هذه الخطابات العلية والكرامات السنية من الحق. جعلنا الله من زمرة المستيقظين المطمئنين بمنه وجوده [سورة البلد] فاتحة سورة البلد لا يخفى على من وصل الى مقام القلب الذي هو عبارة عن البيت الحرام الحقيقي والكعبة المعنوية التي قد دحيت وبسطت من تحتها أراضي مطلق الاستعدادات وعموم القابليات وتوجهت نحوها زوار القوى والآلات من كل فج عميق ومرمى سحيق من بوادي الإمكان واودية الطبائع والأركان ان من وصل اليه وعكف حول بابه وتشرف بطوافه ووقف بين يدي الله ناويا الموت الإرادي محرما عن لوازم الطبيعة ومقتضيات الإمكان من ميقات الطلب والارادة الصادقة مغتسلا بزمزم التوبة والانابة تائبا عن الالتفات الى مطلق السوى والأغيار متجردا عن ثياب الغفلة وجلباب الاغترار ساعيا بين صفاء المحبة ومروة المودة الإلهية بكمال الشوق والذوق متوجها للوقوف الى عرفات اللاهوت متعريا عن عوارض عالم الناسوت ذابحا كبش نفسه تقربا الى الحي الذي لا يموت منخلعا عن جلباب البدن ولوازمه في منا الفناء معاملا مع الله في سوق البقاء طالبا لربح اللقاء حل له ان يقاتل عند الحرم الإلهي جنود الامارة وكفار القوى والآلات المانعة عن الوصول الى كعبة الذات وعن الوقوف عند عرفات الأسماء والصفات الى ان يغلب عليهم ويهلكهم ويصفى البيت العتيق الإلهي الذي هو عبارة عن قلب العارف الكامل عن أصنام مطلق الأحلام وأوثان عموم الأماني والآمال الحاصلة من الخيالات والأوهام لذلك رخص سبحانه لحبيبه صلى الله عليه وسلم القتال في حرم مكة شرفها الله مع ان الحرمة فيها مؤبدة فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي اختار لنفسه بيتا صوريا ليكون قبلة لأصحاب الصورة وبيتا معنويا ليكون وجهة لأرباب القلوب الصافية الرَّحْمنِ لعباده حيث يدعوهم الى كعبة المقصود الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى عرفات الوحدة وبيت معمور الوجود [الآيات] لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ الذي هو كعبة آمال ارباب الارادة والطلب ألا وهو السواد الأعظم اللاهوتى إذ لا حاجة في ثبوته ووضوحه الى القسم بالنسبة الى ارباب المعرفة واليقين بل اقسم لأصحاب الغفلة والضلال بهذا البلد يعنى مكة شرفها الله التي قد وضعت بيتا حراما لا يحل لاحد ان يفعل فيها شيأ من المحظورات والمباحات سيما القتل والصيد وَمن جملة خواصك التي قد اصطفيناك وميزناك بها عن سائر الناس يا أكمل الرسل هي انه أَنْتَ حِلٌّ يعنى أنت لجمعك وكمال جامعيتك وحيازة مرتبتك عموم المراتب مستحل للتعرض خاصة القتل والأسر في الحرم بين عموم الناس لمزيد فضيلتك ومنزلتك عند الله وزيادة خصوصيتك بِهذَا الْبَلَدِ الذي حرم على عموم العباد وانما أحل لك ايضا ما أحل في ساعة من نهار لا أزيد منها وبعد تلك الساعة يحرم لك ايضا وَوالِدٍ اى اقسم ايضا بالوالد الذي هو عبارة عن حقيقة آدم الصفي عليه السلام حسب ثبوته في فضاء عالم اللاهوت وَما وَلَدَ منه في عالم اللاهوت وما ولد منه في عالم الطبيعة بعد هبوطها الى مضيق الناسوت وبالجملة بحق هذه المقسمات العظام لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ اى أظهرنا نشأة ناسوته مغمورا فِي كَبَدٍ تعب ومشقة كثيرة شاغلة لعموم حواسه ومداركه

[سورة البلد (90) : آية 5]

بحيث يستوعب ويحيط بجميع القوى والآلات حوائج المعاش وأسبابه فاشتغل عن الله بسبب ذلك وترك امر معاده ايضا بواسطته فأخذ في كسب الأموال وجمع الحطام والآثام المبعدة عن الحكيم العلام فصار من غاية استغراقه بالدنيا قد نسى العقبى وزلت نعله عن طريق المولى لذلك كذب وتولى واستكبر واستولى واستظهر بأمواله وأولاده واستعلى وترقى امره في الغفلة والغرور الى ان طغى على الله وبغى على عباده وظن انه لا يغلب ولا يعلى عليه. كما قال سبحانه مقرعا عليه مسفها له مستفهما أَيَحْسَبُ الإنسان المجبول على الكفران والنسيان أَنْ لَنْ يَقْدِرَ اى انه لن يستطيع عَلَيْهِ أَحَدٌ فينتقم منه او يأخذه على ما صدر عنه من العتو والعناد ومن كمال بطره وغروره ومفاخرته على بنى نوعه يَقُولُ على سبيل الرعونة والخيلاء والسمعة والرياء قد أَهْلَكْتُ وأنفقت في سبيل الله مالًا لُبَداً مالا كثيرا ملبدا منضدا مجتمعا متراكما أَيَحْسَبُ ويعتقد ذلك الأحمق المباهي أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ اى انه لم يعلم الله إنفاقه ونيته فيه واعتقاده عليه وإبطاله بالمن والأذى كيف يتأتى له انكار اطلاعنا عليه وعلى ما صدر عنه أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ ولم نظهر في جسده حين صورناه حسب حولنا وقوتنا وكمال قدرتنا عَيْنَيْنِ ليبصر بهما عجائب صنعتنا وغرائب حكمتنا وَايضا ألم نجعل له لِساناً ليعرب ويترجم به عموم ما يدور في خلده وَشَفَتَيْنِ معينين على التكلم والاعراب على وجه الإفصاح والتوضيح وَبالجملة قد هَدَيْناهُ بإعطاء هذه النعم العظام النَّجْدَيْنِ اى طريقي الخير والشر والهداية والضلالة واختبرناه بهما وابتليناه بانه أى طريق يختار لنفسه بعد ما وفقناه لكليهما ونبهناه عليهما وبعد ما أعطيناه ما أعطيناه وهديناه بما هديناه فَلَا اقْتَحَمَ وما دخل الإنسان المجبول على الكفران والنسيان الْعَقَبَةَ الكؤدة الوعرة على نفسه الشاقة لها حتى يؤدى شكر ما أعطيناه ثم ابهمها سبحانه تعظيما وتفخيما فقال وَما أَدْراكَ ايها المغرور بالحياة المستعارة الدنياوية ولوازمها مَا الْعَقَبَةُ الكؤدة في طريق اهل الايمان والعرفان ثم بينها بقوله فَكُّ رَقَبَةٍ اى العقبة الكؤدة عبارة عن فك الرقبة المملوكة للنفس الامارة عن رقية الأماني والآمال الطوال أَوْ العقبة الكؤدة إِطْعامٌ لفقراء الله وعجزة عباده فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ اى حاجة شديدة وجوع مفرط يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ اى له رحم وقرابة الى المطعم أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ قد اسكنه الفقر واغبره في تراب المذلة والصغار ثُمَّ بعد ما اقدم على اقتحام العقبة المذكورة قد كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله وأيقنوا ان ما في يدهم لله ومن مال الله وهم منفقون باقدار الله لعيال الله في سبيل الله وَمع ايمانهم بالله واتصافهم بالأعمال الصالحة المؤكدة لإيمانهم قد تَواصَوْا بينهم اى اوصى بعضهم بعضا بِالصَّبْرِ على مشاق التكاليف الإلهية ومتاعب الطاعات المأمور بها لهم وَكذلك تَواصَوْا بينهم بِالْمَرْحَمَةِ والشفقة على عباد الله وتعظيمهم والتحنن نحوهم والإحسان معهم ولو بكلمة طيبة وبالجملة أُولئِكَ الموصوفون بهذه الكرامة العظمى أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ عند الله اى ذوو اليمن والكرامة وانواع اللطف وأعلى الدرجات والمقامات. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة في كتابه وَالَّذِينَ كَفَرُوا وكذبوا بِآياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمالات أسمائنا وصفاتنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ اى ذوو الملامة والندامة المأخوذون بشؤم كفرهم ومعاصيهم المجزيون بفواسد ما اقترفوا من الجرائم والآثام لذلك عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ مطبقة مغلقة مكتوبة محفوفة بحيث لا يمكنهم التنفس فيها أصلا لكونهم

خاتمة سورة البلد

منهمكين في النشأة الاولى في لوازم الإمكان بحيث لا يمكنهم التنفس من لوازمها ومقتضاها أصلا. نعوذ بك من النار ومما قرب إليها يا غفار خاتمة سورة البلد عليك ايها المترقب للكرامة الإلهية والسعادة الابدية يسر الله لك طريق الوصول إليها ان تتصف بصوالح الأعمال وتجتنب عن فواسدها وتكتسب الأخلاق المرضية المقربة الى الله المبعدة عن شآمة اصحاب الزيغ والضلال المنهمكين في بحر الغفلة بأنواع الشهوات واللذات البهيمية والوهمية الفانية العائقة عن الوصول الى اللذات الروحانية الباقية وإياك إياك الاختلاط مع ارباب الثروة المفتخرين بالمال والجاه والمتصفين بالنخوة الحاصلة منهما فان صحبتك معهم تزل قدمك عن منهج التوكل وتميل قلبك عن الرضا والتسليم. ثبت أقدامنا على جادة توحيدك يا ذا القوة المتين [سورة الشمس] فاتحة سورة الشمس لا يخفى على من انكشف بوحدة الوجود وسريان شمس الذات على صفائح ذوات المظاهر والمجالى الإلهية الفائتة للحصر والإحصاء ان انبساط الحق وظهور الوجود انما هو على مقتضى الجود الإلهي وحسب اقتضاء رقائق الأسماء الإلهية والصفات الكاملة المندرجة فيه للظهور والجلاء بمقتضى الحب الذاتي المنبعث من التجلي الجمالي المتجددة على شئون متنوعة واطوار شتى لذلك أقسم سبحانه بكليات الأطوار وابتدأ بظهور شمس الذات الاحدية التي هي ينبوع بحر الوجود فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المنزه عن الظهور والبطون بحسب ذاته الرَّحْمنِ بإظهار كمالات أسمائه وصفاته حسب بسطه الرَّحِيمِ باخفائها في وحدة ذاته حسب قبضته [الآيات] وَالشَّمْسِ اى بحق شمس الذات الاحدية المتلألئة المتجلية من سماء عالم العماء وافق فضاء اللاهوت وَبحق ضُحاها المنبسطة على مرآة العدم القابلة لانعكاسها وَبحق الْقَمَرِ اى الوجود الإضافي الكلى المحيط على مطلق العكوس والاظلال المنعكسة من مرآة العدم التي هي عبارة عن سراب العالم عينا وشهادة إِذا تَلاها اى تبعها ولحقها اى شمس الذات في الاحاطة والشمول وَالنَّهارِ اى بحق نشأة الظهور والبروز المنعكسة من عالم الأسماء والصفات إِذا جَلَّاها اى شمس الذات وفصلت آثار أسمائها وصفاتها الكامنة فيها على صفحات الكائنات وَاللَّيْلِ اى نشأة البطون والخفأ المنعكسة عن عالم العماء وعن السواد الأعظم الذي قد اضمحلت دونه نقوش عموم الكثرات مطلقا وتلاشت آثار الأسماء والصفات جملة لكمال تشعشعها وبريقها ولمعانها المفرطة المسقطة للشعور والإدراك مطلقا ولهذا سمى مرتبة العماء بالسواد الأعظم إِذا يَغْشاها حيث خفيت شمس الظهور من افراط النور ومن كمال تشعشعها ولمعانها في البريق والظهور وَالسَّماءِ اى سماء الأسماء والصفات المزينة بنجوم الآثار والشئون الإلهية المتفرعة عليها وَما بَناها وأظهرها من التجليات الحبية الجمالية والجلالية وَالْأَرْضِ اى استعدادات القوابل السفلية القابلة لانعكاس آثار العلويات وَما طَحاها ونشرها من الآثار المترتبة المتفرعة على الصفات الفعالة الإلهية وَنَفْسٍ اى روح فائض من عالم الأسماء والصفات على هياكل المسميات المحسوسة وقوابل العلويات والسفليات المدركة ليستفيد كل منها بتذكر الموطن الأصلي والنشأة الجبلي وَما سَوَّاها اى عدلها

[سورة الشمس (91) : آية 8]

وركبها ممتزجة من الآثار العلوية والسفلية وبعد ما سواها وعدلها كذلك فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها على مقتضى ما أودع فيها من الآثار العلوية والسفلية وخصص اللاهوت والناسوت ثم كلفها ليتميز المحق من المبطل والضال من الهادي والمؤمن من الكافر تتميما للحكمة المتقنة البالغة الإلهية وإظهارا للقدرة الكاملة. ثم قال سبحانه مجيبا لهذه المقسمات المذكورة على سبيل الكناية والتنبيه قَدْ أَفْلَحَ وفاز عند الله بالدرجات العلية والمقامات السنية مَنْ زَكَّاها اى من طهر نفسه عن الرذائل السفلية ومقتضياتها الامكانية وأمانيها الدنية الدنياوية وَقَدْ خابَ خسر وهلك مَنْ دَسَّاها ونقص عن كمالاتها واضلها عنها حيث حملها على اقتراف انواع المعاصي والآثام المترتبة على سفليات الطبائع والهيولى ورذائل الإمكان المورث لهم انواع الخيبة والخسران واصناف الحرمان والخذلان لذلك كَذَّبَتْ ثَمُودُ المبالغ في إهلاك النفس وتضليلها وتغريرها بمن أرسل إليها وامر لإرشادها حين انحرفت عن جادة العدالة بِطَغْواها اى بسبب طغيانها وتغليبها حظوظ السفليات على حظوظ العلويات وبعدوان القوى الامارة على جنود المطمئنة وبانقهار نشآت اللاهوت بغلبة مقتضيات الناسوت وذلك انهم قد بالغوا في العتو والعناد والتكذيب والإفساد سيما وقت إِذِ انْبَعَثَ اى قام واقدم مسرعا أَشْقاها اى أشقى القبيلة واردؤها واضلها عن طريق الحق وهو قدار بن سالف الى عقر الناقة المعهودة المخصوصة المحفوظة بالوصية الإلهية وبعد تصميم العزم اى العقر فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ باذن الله ووحيه وهو صالح عليه السلام على مقتضى شفقة النبوة ذروا ناقَةَ اللَّهِ واحذروا عن عقرها وَبالجملة لا تمسوها بسوء مطلقا فيأخذكم عذاب عظيم اى لا تعرضوا لها وذروا أيضا لها سُقْياها التي قد عينها الله حسب حكمته ومصلحته ولا تذبوها عن الماء والكلأ فَكَذَّبُوهُ ولم يقبلوا قوله ونصحه واجتمعوا على عقرها فَعَقَرُوها فخرج الرسول من بينهم خوفا من حلول عذاب الله عليهم وسطوة قهره وجلاله وبعد ما ارتكبوا المنهي المحظور فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اى أطبق عليهم الصيحة الهائلة فاهلكهم بها بالمرة بِذَنْبِهِمْ الذي صدر عنهم وهو تكذيب الرسول المرشد لهم من قبل الحق فَسَوَّاها اى سوى البلاء على تلك القبيلة وأعمه عليهم وأشمله بحيث لا ينجو منهم احد وبالجملة قد اقدم العاقر اللعين على عقرها واتفقوا معه وَلا يَخافُ لا هو ولا هم عُقْباها اى ما يعقب عقرها ويتبعه وما يترتب عليه من انواع البلاء والمصيبة والعناء مع ان الرسول قد أخبرهم بها وحذرهم عنها فكذبوه واستهزؤا به لذلك لحقهم ما لحقهم بشؤم أعمالهم الفاسدة. نعوذ بك يا ذا اللطف والجلال من سيئات الأعمال وتشتت الأحوال وتفاقم الأهوال خاتمة سورة الشمس عليك ايها الطالب للفلاح الأبدي والصلاح السرمدي المترتب على العناية الإلهية وفضله ان تصفى نفسك عن مقتضيات الإمكان وظلمات الهيولى والأركان حتى تأمن أنت عن طغيانها وعدوانها فعليك ان تحليها بالمعارف والحقائق الإلهية ومحاسن الشيم والأعمال والأخلاق المرضية الموجبة لفيضان لوامع الكشف والشهود المخلص عن مطلق القيود المنافية لصرافة اطلاق الوحدة الذاتية المسقطة لعموم الكثرات المتفرعة على مطلق الإضافات الطارئة على التعينات العدمية. وفقنا الله لتخلية النفس عن مطلق الرذائل وتحليتها بمحاسن الشيم والخصائل

سورة الليل

[سورة الليل] فاتحة سورة الليل لا يخفى على المنكشفين بنشآت الحق وشئونه الغيبية والشهادية ان تنزلات الحق عن مكمن العماء اللاهوتى نحو فضاء الناسوت على اطوار متفاوتة وشئون شتى حسب اقتضاء رقائق أسمائه الذاتية المقتضية للظهور والجلاء لذلك اقسم سبحانه بنشأتى الغيب والشهادة وبما امتزج منهما واجتمع واختلط في البرزخ الجامع الإنساني المحتوى على نشأتى الغيب والشهادة المتفرعة عليهما التكاليف الإلهية فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المتجلى على عموم شئونه المترتبة على أسمائه الغير المحصورة الرَّحْمنِ لجميع مظاهره حيث يطلعها على ذاته ليتوجه الكل نحوه طوعا الرَّحِيمِ لنوع الإنسان حيث نبه عليه سر سريان وحدته الذاتية على صحائف الكثرات المرئية الموهوبة ليتصف بالخلافة والنيابة الإلهية ويتحلى بحلل التفضيل والتكريم [الآيات] وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى اى بحق الهوية الغيبية الإلهية المتمكنة في مكمن العماء الذاتي المغشى لنقوش الكثرات الموهوبة المترتبة على الأسماء والصفات الذاتية المنعكسة منها من شدة بريقها ولمعانها وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى اى وبحق الهوية الشهادية الإلهية في عالم البروز والجلاء المظهرة لآثار الأسماء والصفات إظهارا للحكمة البالغة التي هي ترتب الايمان والعرفان على تلك الآثار وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى اى وبحق القادر الحكيم العليم الذي قدر وصور برزخ الإنسان المصور على صورة الرحمن الجامع لمراتب عموم الأكوان حيث ركبه وأودع فيه من الحصص اللاهوتية الغيبية والناسوتية الشهادية ثم كلفه بالتكاليف الشاقة ليترقى من حضيض الناسوت الى ذروة اللاهوت لذلك استخلفه واصطفاه وانتخبه من عموم مظاهره وهداه ليترتب على مرتبته هذه المصلحة العلية الحاصلة السنية وانما خلقه زوجا ليدوم ولا يبيد في نشأة الشهادة وجود المرتبة التي هي الغاية القصوى من نشأة الشهادة. ثم قال سبحانه مجيبا للقسم مخاطبا لافراد الإنسان تربية لهم وتنبيها على مقاصدهم ومصالحهم إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى مختلف متفاوت حسب تفاوت ما أودع ربكم فيكم من الحصص المذكورة فَأَمَّا مَنْ أَعْطى منكم للفقراء الفاقدين وجه الكفاف مما ساق له الحق من الرزق الصوري والمعنوي مقارنا للخشوع والخضوع وخلوص النية وصدق العزيمة واتى بأنواع الطاعات والعبادات المأمور بها وَاتَّقى واجتنب عن مطلق المحارم والمنهيات التي قد وردت الزواجر الإلهية فيها وَمع ذلك قد صَدَّقَ بِالْحُسْنى اى صدق بعموم مقتضيات الأسماء الحسنى الإلهية وبجميع آثار صفاته العليا التي لا تعد ولا تحصى فَسَنُيَسِّرُهُ نعده ونوفقه لِلْيُسْرى اى للطريقة السهلة السمحة الموصلة الى مقصد الوحدة والمعرفة المنجية عن غياهب الشكوك وظلمات الأوهام وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ ولم ينفق على مقتضى ما امره الحق وَاسْتَغْنى بلذات الدنيا الدنية عن اللذات الاخروية وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى بعموم مقتضيات الأسماء فَسَنُيَسِّرُهُ نبتليه ونستعده لِلْعُسْرى اى للطريقة العسرة الوعرة التي هي طريق الكفر والمعصية المؤدية الى اودية الشهوات المستلزمة لدركات النيران وَبعد ما نأخذه في النشأة الاخرى بسبب بخله وكفره ما يُغْنِي وما يكف ويدفع عَنْهُ مالُهُ شيأ من غضبنا عليه إِذا تَرَدَّى اى وقت إذ هوى وهلك في قعر جهنم الإمكان وسعير نيران الخيبة والخذلان. ثم قال سبحانه تعريضا للمفرطين المسرفين إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى يعنى ما علينا من إصلاحكم الا الهداية والإرشاد فهديناكم ولم تهتدوا

[سورة الليل (92) : آية 13]

وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى يعنى ما لنا الا التبيين والتنبيه بان الآخرة خير من الاولى فبينا لكم طريق المعاش في النشأة الاولى وطريق التزود والتهيئة للأخرى فلم تقبلوا منا ولم تمتثلوا لما بينا مع انا قد أكدنا هدايتكم وإرشادكم بأنواع الإنذار والتبليغ فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى تتوقد وتتلهب من شدة سورتها وبينا لكم ايضا انها لا يَصْلاها ولا يدخل فيها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ بالكتب الإلهية وما فيها من الحكم والاحكام وَتَوَلَّى اعرض عن الرسل وانصرف عن دعوتهم ومع ذلك لم تقبلوا منا عموم ما أنزلنا وبينا وَكذا قد بينا لكم ايها المكلفون انها سَيُجَنَّبُهَا اى يبعد ويخلص عن عذاب النار المسعرة في دركات الجحيم الْأَتْقَى عن المحارم والمحظورات الشرعية مطلقا الَّذِي يُؤْتِي يعنى ومع ذلك التقوى يتصدق ويعطى مالَهُ في سبيل الله طلبا لمرضاة الله على فقراء الله يَتَزَكَّى ويتطهر عن التلطخ بقاذورات الدنيا الدنية مطلقا بحيث لم يبق في قلبه سوى التوجه الى المولى حتى وصل الى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ومع وجود هذه المبالغات البليغة لم تتنبهوا ولم تتفطنوا وَبالجملة ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى يعنى ما يصح وما ينبغي ويليق لاحد ان يتصدق بماله على طمع الجزاء والعوض والمكافاة بل اللائق بحاله ان لا يعطى لمن يعطى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى يعنى طلبا للقاء الله في يوم الجزاء لا لأجل الجزاء والثناء الدنيوي ولا للثواب والعطاء الأخروي ايضا بل رجاء ان يلقى ربه الرحيم ويطالع وجهه الكريم وَلَسَوْفَ يَرْضى المعطى المذكور عن الله بفوز شرف اللقاء وبكرامة كشف الغطاء. اللهم ارزقنا لقاءك يوم نلقاك خاتمة سورة الليل عليك ايها الطالب لرضاء الله والراجي مطالعة جمال الله وجلاله ان تحسن الأدب مع الله في عموم احوالك في النشأة الاولى وتزكى نفسك عن مطلق الأماني والآمال الشاغلة عن التوجه نحوه فعليك بالتبتل والاجتهاد على وجه الإخلاص وطلب التوفيق من الله ليهديك الى سبيل الرشاد وإياك إياك ان تلتفت الى مزخرفات الدنيا الدنية فإنها تلهيك عن الدرجات العلية الاخروية الوجوبية وتغريك الى الدركات الهوية الجهنمية الامكانية فلك ان تطرحها كلها حتى تتخلص عن رذائلها وتنفرج عنك غوائلها. جعلنا الله ممن تنفر عن الدنيا وما فيها وترك عموم آمالها وأمانيها بمنه وجوده [سورة الضحى] فاتحة سورة الضحى لا يخفى على من دخل تحت قباب العز الإلهي وفنى في هويته وتلاشى في ذاته وغرق في بحر وحدته واضمحل في فضاء صمديته ان عموم احوال العباد وأحلامهم وأطوارهم بعد تجردهم عن لوازم ناسوتهم واتصافهم بأوصاف اللاهوت قد صارت راجعة الى الله مستندة اليه صادرة منه سبحانه اصالة وهم حينئذ في كنف حفظه وحضانته يرقبهم حيث شاء بمقتضى حكمته المتقنة ومصلحته المستحكمة ولا شك ان أفضل من تخلق بأخلاق الله وخير من دخل تحت حيطة حضانته سبحانه وتمكن في مقعد صدق سواد أعظم اللاهوت هو نبينا صلوات الله عليه وسلامه لذلك خاطبه سبحانه خطاب ملاطفة وتكريم وسلاه عما أورده المشركون في شأنه من انه قد قلاه ربه وودعه وبالغ سبحانه في تسليته صلى الله عليه وسلم حيث أقسم بما أقسم بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ

الآيات

الذي ظهر على حبيبه صلى الله عليه وسلم حتى أخرجه عن مضيق الناسوت مهاجرا الى فضاء اللاهوت الرَّحْمنِ لعموم عباده حيث أرسل إليهم حبيبه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين الرَّحِيمِ لخواصهم يرشدهم بمتابعته الى روضة الرضاء وجنة التسليم [الآيات] وَالضُّحى اى بحق شروق شمس الذات الصمدية عند ضحى بعثة الحضرة الختمية الخاتمية الأحمدية وَاللَّيْلِ إِذا سَجى اى وبحق الانجلاء والانكشاف التام المنعكس من عالم العماء اللاهوتى المسمى بالليل السرمدي المغشى لمطلق الأضواء والأنوار المتفاوتة المدركة المرئية في نشأتى الغيب والشهادة المقتبسة من الأسماء والصفات المستتبعة للاضافات المتكثرة في عالم التفصيل ما وَدَّعَكَ ما انقطع قطع المودع عنك رَبُّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل على عينه واصطفاك لنفسه وَما قَلى اى ما أبغضك ربك وما أسخطك يعنى لا تحزن من قول المشركين وزعمهم في حقك يا أكمل الرسل قد ودعك ربك وقلاك ربك في النشأة الاولى بل راعاك في أولاك ولاقاك في أخراك وَلَلْآخِرَةُ التي هي حصة جبروتك ونشأة لاهوتك خَيْرٌ لَكَ وانفع بك مِنَ نشأتك الْأُولى التي هي حصة ملكك في نشأة ناسوتك وكيف لا تكون نشأتك الآخرة خيرا من نشأة الدنيا إذ هي باقية ببقاء الله دائمة بدوامه وهذه محدثة فانية بل هي باطلة زاهقة زائلة بزهوق التعينات وبطلان الأوضاع والإضافات التي هي حاصلة منها وَبالجملة لا تحزن ايها النبي المستوي على جادة العدالة اللاهوتية من هذيانات اهل الكفر والضلال لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ بعد تجردك عن ملابس ناسوتك وملاحف بشريتك من اللذات اللاهوتية التي لا يدرك كنهها الا من اتصف بها وذاق منها فَتَرْضى أنت حينئذ من ربك ويرضى ربك عنك ايضا وبعد ما سمعت يا أكمل الرسل ما سمعت من مواعيد ربك تذكر كرمه معك فيما مضى وترقب بكراماته التي ستأتيك وبالجملة لا تيأس من روح الله ورحمته وكيف تيأس وتقنط أنت ايها النبي المغمور المستغرق في بحار لطفه وجوده عن كرم مربيك الكريم أَلَمْ يَجِدْكَ حين بروزك وتربيتك يَتِيماً متفقدا حالك حين كونك بلا رشد ولا مرشد فَآوى اى قد ضمك سبحانه نحو كنف حفظه وحضانته تحننا وإشفاقا وجذبك عنك اليه وقرن اسمك باسمه وَوَجَدَكَ ايضا ضَالًّا خاليا عن الحكم والاحكام مطلقا محفوفا بلوازم الإمكان كما هو حال الأقران والاخوان فَهَدى اى هداك وأرشدك الى الإسلام وأوصلك الى زلال التوحيد والعرفان وَوَجَدَكَ ايضا عائِلًا فقيرا حسب إمكانك ومقتضيات بشريتك الموروثة لك من نشأة ناسوتك فَأَغْنى اى قد أغناك بغنائه الذاتي بعد ما افناك في ذاته وشرفك بحلل لاهوتك بعد ما اخرجك عن ملابس ناسوتك بالمرة وبعد ما وجدك ربك يا أكمل الرسل يتيما فآواك وصادفك ضالا فهداك ولاقاك فقيرا فأغناك وبالجملة قد كرمك واصطفاك وعظمك واجتباك تذكر عموم ما اعطاك ربك وأولاك وتخلق بأخلاق مولاك فَأَمَّا الْيَتِيمَ الفاقد للرشد والمرشد متى يأوى إليك للرعاية والاسترشاد فَلا تَقْهَرْ اى لا تردعه ولا تزجره وتكلم معه حسب استعداده وبقدر قابليته الى حيث توصله وترشده الى طريق الطلب والارادة وَأَمَّا السَّائِلَ الذي يسألك من مكنونات ضميرك ومن السرائر المودعة فيك من بدائع الودائع اللاهوتية فَلا تَنْهَرْ اى لا تمنعه ولا تخيبه بل احسن اليه كما احسن الله إليك حسب استفاضته واستعداده وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ وهدايته وإرشاده فَحَدِّثْ يا أكمل الرسل مع عموم المسترشدين المستكملين فان حديثك عن سرائر

خاتمة سورة الضحى

الدين واسرار المعرفة واليقين مع المؤمنين المسترشدين والظالمين المستوجبين شكر منك لنعم الله وأداء لحقوق كرمه واستجلاب لمزيد نعمه وفضله خاتمة سورة الضحى عليك ايها المحمدي الملازم لتعديد نعم الحق على نفسك ان تداوم وتواظب على أداء حقوق ما وصل إليك من نعمه العظام وكرمه الجسام فلك ان تحدث في عموم أوقاتك وحالاتك عن كرم مولاك وتشكره على ما أولاك واعطاك من الآلاء والنعماء في أولاك وعدلك في أخراك وبالجملة كن في نفسك من الراجين الشاكرين لنعم الحق ومن المحدثين بحقوق كرمه ولا تكن من القانطين الغافلين في حال من الأحوال وسبح بحمد ربك بالغدو والآصال [سورة الانشراح] فاتحة سورة الانشراح لا يخفى على من شرح الله صدره للإسلام ووسع قلبه لقبول عموم الحكم والاحكام بحيث قد وسع الحق فيه مع عموم شئونه وتطوراته الغير المتناهية المترتبة على أسمائه وصفاته ان تفسيح الصدر وتوسيعه انما هو من علامات العناية الإلهية لخلص عباده إذ مقام الخلة والخلافة انما يترتب على هذا الشرح والتوسيع وهو من أعظم الفتوحات الإلهية وأجل الفيوضات الربانية لذلك خاطب سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم في مقام الامتنان به وعاتبه عليه تنبيها على جلالة شأنه ورفعة مكانه عند الله فقال متيمنا باسمه مستفهما على سبيل التأكيد والتقرير بِسْمِ اللَّهِ الذي شرح صدور عباده لقبول سرائر المعرفة واليقين الرَّحْمنِ عليهم برفع الأوزار والأثقال المانعة عن القبول عنهم بعد هداهم الى الصراط المستبين الرَّحِيمِ لهم يعليهم ويرفع ذكرهم بعد ما أخرجهم عن مقتضيات بشريتهم الى أعلى عليين [الآيات] أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ يا أكمل الرسل ولم نجعل ممن اجتبيناه للخلافة واصطفيناه للنيابة والرسالة ولم نفتح ونوسع خلدك لقبول الآيات الواردة عليك من لدنا وللامتثال لمقتضى الاحكام الموردة من عندنا تفضلا منا إليك وامتنانا عليك مع كونك اميا عاريا خاليا عنها وعن ما يترتب عليها بالكلية وبعد ما قد شرحنا صدرك لشعائر الإسلام ووسعناه لقبول معالم الدين ومراسم التوحيد واليقين قد اخترناك للرسالة والتبليغ الى عموم الأنام وَوَضَعْنا اى قد أزلنا عَنْكَ بعد ما اخترناك للرسالة وأوحينا إليك وِزْرَكَ اى ثقلك الطارئ عليك من أجل أعباء الرسالة وأداء التبليغ الَّذِي من غاية شدته وثقله قد أَنْقَضَ أثقل واتعب ظَهْرَكَ لأنك أمي ذاهل عن مطلق الاحكام المأمور بها لذلك ثقل واشتد وضاق عليك الأمر وَبعد ما وفقناك على تبليغ الرسالة وأيدناك بالآيات الموردة المنزلة في موارد الاحكام من لدنا قد رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ حيث قرننا اسمك باسمنا وخلفناك عنا واخترناك لخلافتنا ونيابتنا لذلك قد أنزلنا في شأنك من يطع الرسول فقد أطاع الله وان الذين يبايعونك انما يبايعون الله الى غير ذلك من الآيات وأى رفعة وكرامة أعلى وأعظم من ذلك وبعد ما كرمناك بأمثال هذه الكرامات العلية لا تيأس من سعة رحمتنا وروحنا واعانتنا إياك وإغاثتنا لك ولا تحزن على أذى قومك واستهزائهم بك وتطاول معاداتهم وعنادهم معك فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ الذي قد عرض عليك ولحق بك من قبلهم أحيانا يُسْراً ناشئا من قبل الحق مقابلا له وأصلا

[سورة الشرح (94) : آية 6]

إليك من حيث لا تحتسب. ثم كرر سبحانه مبالغة وتأكيدا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ الذي ألم بك الآن من قبل أعدائك يُسْراً ناشئا منا مترقبا من عموم الجهات كيف ما اتفق وفي تعريف العسر أولا وإعادته ايضا معرفة وتنكير اليسر أولا وإعادته نكرة ايضا اشعار بقلة طرق العسر وأسبابه وكثرة طرق اليسر وموجباته يعنى لا تيأس من العسر الطارئ عليك أحيانا معهودة معدودة عن يسر ملازم لك في اكثر الأوقات وأغلبها بل مصاحب معك في جميع حالاتك وبعد ما قد امرناك يا أكمل الرسل بتبليغ الرسالة وأرسلناك لنشرها فلك ان تمتثل بالمأمور به على مقتضى الوحى والإلهام فَإِذا فَرَغْتَ عن الدعوة والتبليغ على مقتضى منصب الرسالة ومرتبة النبوة فَانْصَبْ نفسك وأتعبها بالمجاهدات والرياضات القالعة لعرق لوازم الإمكان عن أصلها على مقتضى رتبة الولاية وَبالجملة إِلى رَبِّكَ لا الى غيره من وسائل المظاهر واسبابها فَارْغَبْ في خلواتك وفي خلال سؤلك وصلواتك وفي عموم أوقاتك وحالاتك بلا رؤية الوسائل في البين والوسائط في العين خاتمة سورة الانشراح عليك ايها الطالب الراغب الى الله القاصد المعكوف حول بابه ان تفرغ بالك عن مطلق الأماني والآمال وعموم الاشغال المانعة عن الوصول الى فنائه سبحانه وترغب عن الدنيا وما فيها وتتوجه نحو الحق من طريق الفناء فيه وتطرح لوازم الحياة المستعارة ومقتضيات القوى والهوى عن هويتك بالكلية حتى تصل الى مرتبة الموت الإرادي المستلزم للبقاء الأبدي الأزلي السرمدي. جعلنا الله من زمرة ارباب الرغبة الى المولى وعن الدنيا بمنه وجوده [سورة التين] فاتحة سورة التين لا يخفى على من انكشف عنده رفعة رتبة الإنسان ووضح لديه علو شأنه وسمو برهانه ان من انحط عن الرتبة الانسانية التي هي عبارة عن الخلافة الإلهية وسقط عنها الى مهاوي الإمكان واغوار الطبائع والأركان فقد لحق بأنزل المراتب وادنى المنازل لذا عبر سبحانه عنه بأسفل السافلين واقسم سبحانه بمعظمات مظاهره لإثبات لحوق الإنسان بأسفل دركات النيران بعد ما انحط عن أعلى غرفات الجنان فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي خلق الإنسان في احسن تقويم الرَّحْمنِ عليه بأنواع التعظيم والتكريم الرَّحِيمِ عليه يوصله الى روضات النعيم [الآيات] وَبحق التِّينِ وَالزَّيْتُونِ هما جبلان في الأرض المقدسة يكثر فيهما كلتا الفاكهتين وَبحق طُورِ سِينِينَ اى الجبل الذي قد ناجى عليه مع ربه موسى الكليم وَلا سيما بحق هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ يعنى مكة شرفها الله سماها أمينا لان من دخله مؤمنا محتسبا كان آمنا من العذاب الأليم وبالجملة بحق هذه المقسمات العظام لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ اى جنسه فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وأقوم تعديل إذ لا مظهر اعدل منه وأقوم بحسب الظاهر والباطن لذلك اصطفيناه لخلافتنا من بين خليقتنا واجتبيناه لرسالتنا الى عموم بريتنا ثُمَّ بعد ما تعلقت ارادتنا لرداءة فعله رَدَدْناهُ وحططناه من تلك المرتبة العلية والدرجة السنية أَسْفَلَ سافِلِينَ ألا وهي مقتضيات الإمكان المستلزم لدركات النيران وسلاسل أمانيها وأغلال آمالها الطوال إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق

[سورة التين (95) : آية 7]

وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المخلصة لهم عن قيود الإمكان المقربة لهم الى فضاء الوجوب فَلَهُمْ بعد ما وصلوا الى عالم اللاهوت أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ اى نعم لا تنقطع ولا يمن بها عليهم أصلا وبعد ما نبه سبحانه على ما نبه بأبلغ وجه وآكده حث عموم الإنسان على الايمان ورغبهم الى طريق اليقين والعرفان فقال على وجه التقريع والتوبيخ فَما يُكَذِّبُكَ اى يحملك على الكفر والطغيان والتكذيب والكفران ايها الإنسان المجبول على فطرة التوحيد والعرفان بَعْدُ اى بعد ما قد ظهر الحق ولاحت دلائل التصديق وامارات اليقين بِالدِّينِ والسبيل المستقيم أَلَيْسَ اللَّهُ القادر المقتدر على أمثال هذا الرد والخلق بالإرادة والاختيار بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ على كل ما شاء وأراد سواء كان بدأ او اعادة فله ان يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عن فعله انه حكيم مجيد خاتمة سورة التين عليك ايها المحمدي الطالب للتقرر والثبوت على جادة التوحيد التي هي احسن تقويم للإنسان واعدل طريقة له ان تتأمل في هذه السورة حق التأمل وتدخر لنفسك من فوائدها ما هواهم فعليك بالتوجه الى الله والإتيان بصوالح الأعمال والاجتناب عن فواسدها وإياك إياك ان تتلطخ بقاذورات الدنيا الدنية وتنغمس بامانيها فإنها ترديك وتردك الى ادنى مراتب الإمكان الجالب لاسفل دركات النيران وتغويك فيها بأنواع الخيبة والخذلان [سورة العلق] فاتحة سورة العلق لا يخفى على من أيقظه الحق عن منام الغفلة ووفقه للخروج عن اقطار عالم الإمكان نحو فضاء الوجوب ان علامة العناية الإلهية وامارة كرامته على الموفقين من لدنه المنجذبين نحوه ان يذكرهم ويلقنهم أولا تعديد أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى ويلزمهم المواظبة عليها الى ان ينبع ينبوع الحكمة اللدنية المودعة في قلبه المترشحة من بحر الذات الاحدية ثم يظهر على لسانه وصار حينئذ على ذكر من ربه متمكنا في مرتبة اليقين العلمي ثم يترقى منها الى ان يصير علمه عيانا ثم يصير عيانه حقا وبيانا لذلك امر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم أولا بالقراءة والتذكير بأسمائه وصفاته بعد ما أراد سبحانه تربيته وتكريمه فقال سبحانه بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي دبر امر الإنسان بأحسن تدبير الرَّحْمنِ عليه حيث صوره بأحسن تصوير الرَّحِيمِ عليه حيث هداه الى خير منقلب ومصير [الآيات] اقْرَأْ يا أكمل الرسل وتذكر بعد ما أدركتك العناية الحقية وحطت عليك الكرامة الإلهية بِاسْمِ رَبِّكَ اى داوم على تذكر عموم اسماء مربيك الَّذِي خَلَقَ كل شيء وأظهره من كتم العدم حسب أسمائه وصفاته ورباه بأنواع اللطف والكرم وأباح عليه من جلائل النعم سيما خَلَقَ الْإِنْسانَ وخصه من عموم الأكوان بمزيد الانعام والإحسان مع انه قد خلقه وقدر وجوده مِنْ عَلَقٍ دم معلوق مستنزل مكون من منى مرزول مكون من الدم المسفوح المتكون من أجزاء الاغذية وبعد ما امر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بالقراءة وتعديد الأسماء وإحصائها أولا امره بالقراءة ايضا ثانيا للتأمل والتدبر في معانيها والاستكشاف عن فحاويها بمرموزاتها المطوية في مطاوى ألفاظها وعباراتها فقال اقْرَأْ قراءة تدبر وتعمق واستكشاف

[سورة العلق (96) : آية 4]

لما في مطاويها من البدائع والغرائب المودوعة فيها ولا تنظر الى كونك اميا لست من اهل الإملاء وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الأكمل في الكرامة والهداية لأرباب العناية الَّذِي عَلَّمَ الخط والرقم بِالْقَلَمِ الذي هو بمراحل عن التكلم والتفهم ولا تستبعد من كمال كرامته وعنايته تعليمك يا أكمل الرسل إذ هو سبحانه عَلَّمَ الْإِنْسانَ المصور على صورة الرحمن عموم ما لَمْ يَعْلَمْ من البيان والتبيان وانواع طرق الكشف والعيان فأنت يا أكمل الرسل من أعز افراد الإنسان شأنا وأعلاه شرفا وبرهانا وارفعه قدرا ومكانا. وبعد ما أشار سبحانه الى مبدأ الإنسان ومادته والى منتهاه وغايته تعجب سبحانه من حاله واستبعد ما صدر عنه من الكفران والطغيان والبغي والعدوان مع كمال عناية الله به ووفور كرامته له فقال على سبيل الردع والزجر كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ المستحدث من الأقذار المهانة المترقى الى غاية الكرامة وأعلى المقام حسب فضلنا وجودنا لَيَطْغى ويتجاوز عن حده ويستكبر على ربه وينسى اصل منشئه لأجل أَنْ رَآهُ وعلم نفسه انه اسْتَغْنى اى قد صار غنيا عن الله مستغنيا عن الافتقار اليه مستكبرا على عباده يمشى على وجه الأرض خيلاء بما عنده من حطام الدنيا ومزخرفاتها الفانية وكيف يتأتى لك الطغيان والاستكبار ايها المسترزل المهان المستحدث من الماء المهين إِنَّ إِلى رَبِّكَ الذي أظهرك من كتم العدم وأحدثك من الأمشاج المرذولة الرُّجْعى اى الرجوع المعهود الموعود في النشأة الاخرى فسيجزيك ربك بجميع ما صدر عنك بعد ما حاسبك عليه حسب العدالة والإنصاف. ثم نص سبحانه على ذكر بعض الطاغين المستغنين المستكبرين بما عنده من الجاه والثروة وهو ابو جهل اللعين فقال أَرَأَيْتَ ايها المعتبر الرائي الطاغي الباغي الَّذِي يَنْهى اى يمنع ويكف عَبْداً كاملا في العبودية يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم إِذا صَلَّى وتوجه نحو ربه بجميع أعضائه وجوارحه وأراد ان يصرفه عنها ويعوق عليه وذلك ان أبا جهل لعنه الله قال لو رأيت محمدا ساجدا لأطأن عنقه فرآه ساجدا فجاءه ليطأه ثم نكص واستدبر فقيل له ما لك فقال ان بيني وبينه لخندقا مملوا من النار وهولا واجنحة. ثم خاطب سبحانه هذا الطاغي الناهي خطاب تهديد وتقريع أَرَأَيْتَ اى أخبرني ايها المفسد المتناهي في البغي والعناد إِنْ كانَ العبد المصلى نحو الحق تابعا عَلَى الْهُدى والرشد أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى والاجتناب عن مقتضيات الهوى لتنهاه أنت ايها الطاغي عن فعله هذا وتمنعه عن رشاده وإرشاده البتة أَرَأَيْتَ أخبرني ايضا انك قد نهيته عن الصلاة إِنْ كَذَّبَ على الله وَتَوَلَّى اى اعرض عن مقتضيات أوامره سبحانه ونواهيه وبالجملة نهيته ايها الناهي المتناهي في العتو والعناد عن الصلاة مطلقا سواء كان على الهدى آمرا بالتقوى متجنبا عن الهوى او مكذبا على المولى معرضا عما جرى عليه من القضاء مستنكفا عن مطلق الأوامر والنواهي والاحكام المأمور بها الموردة في الكتب السماوية يعنى ليس سبب نهيك الا العصبية والعناد سواء كان محقا في فعله او مبطلا. ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع لهذا المكابر الناهي أَلَمْ يَعْلَمْ ذلك الناهي المباهي المتناهي في الكبر والخيلاء بِأَنَّ اللَّهَ القادر المقتدر على وجوه الانعام والانتقام يَرى يعلم ويشهد جميع ما صدر عنه من المجادلة والمراء فيجازيه بمقتضى علمه وخبرته. ثم قال سبحانه كَلَّا ردعا للناهى عما عليه من المكابرة والعناد لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الناهي المباهي المتناهي فيما عليه من المكابرة والعناد لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ اى لنأخذن البتة بناصيته ونسحبنه مكبا على وجهه نحو النار المعدة لتعذيب الكفرة الفجار المبالغين في الكفر والكفران

[سورة العلق (96) : آية 16]

على وجه الإصرار والاغترار وأى ناصية ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ اى كاذب خاطئ صاحبها متناه في الطغيان والعدوان وصف الناصية بها للمبالغة والتأكيد وبعد ما نسحبه كذلك ونأخذه على ظلمه هكذا فَلْيَدْعُ وليناد حينئذ نادِيَهُ اهل مجلسه وأعوانه صارخا عليهم مستعينا منهم مستغيثا بهم حتى ينصروه وينقذوه من العذاب النازل عليه بمقتضى القهر الشامل مع انا ايضا سَنَدْعُ ونأمر يومئذ الزَّبانِيَةَ الشرطة الموكلين على جهنم ليجروه نحو النار على وجه الهوان والصغار ثم كرر سبحانه قوله كَلَّا تأكيدا لردعه وتشديدا عليه ثم نهى سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم عن اطاعة ذلك الباغي والإصغاء الى قوله والمؤانسة معه والالتفات اليه بقوله لا تُطِعْهُ اى دم يا أكمل الرسل على صلاتك واثبت عليها ولا تلتفت الى هذياناته الباطلة وَاسْجُدْ لربك على وجه الخضوع والخشوع وَاقْتَرِبْ اليه وتقرب نحوه باطراح لوازم ناسوتك مكبرا إياه محرما على نفسك عموم حظوظك من دنياك مسقطا عنك مقتضيات بشريتك ولواحق مادتك مطلقا وفي الحديث صلوات الله وسلامه على قائله اقرب ما يكون العبد الى ربه إذا سجد وبالجملة سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين خاتمة سورة العلق عليك ايها الطالب للتقرب نحو الحق والوصول الى فضاء اللاهوت اعانك الله في مطلبك هذا وطلبك ان تداوم على عموم الطاعات ومطلق العبادات التي أمرت بها على وجه الإخلاص والتذلل التام والانكسار المفرط إذ ما تقرب العبد الى ربه الا بالاستكانة التامة والضراعة الكاملة بالافناء والفناء عن لوازم نشأة الناسوت وبالاتصاف بالموت الإرادي المورث للحياة الازلية الابدية والبقاء السرمدي. جعلنا الله من المتصفين به بمنه وجوده [سورة القدر] فاتحة سورة القدر لا يخفى على من كوشف بسرائر إنزال الكتب وإرسال الرسل من الموفقين على الاطلاع والوقوف بسر سريان الوحدة الذاتية الإلهية على صفحات الكثرات الفائتة عن الحصر والإحصاء ان المقادير المحفوظة في لوح القضاء والتصاوير المضبوطة في حضرة العلم والقلم الأعلى انما هي في عالم العماء الغيبى المسمى بليلة القدر وانزالها منها نحو فضاء الشهادة ونهار الجلاء انما هو ايضا فيه ولا شك ان سر إنزال مطلق الكتب والصحف الإلهية انما هو لضبط تلك المقادير والاخبار عنها على الوجه الذي ثبت في حضرة العلم ولوح القضاء لذلك اخبر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم في مقام الامتنان بانزال القرآن في ليلة القدر الغيبى التي هي خير من ألف شهر من ازمنة نشأة الشهادة فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي قدر عموم المقادير في حضرة علمه ولوح قضائه الرَّحْمنِ لعباده بانزال القرآن المبين لهم طريق المعرفة والايمان الرَّحِيمِ بايقاظهم عن نوم الغفلة ورقود النسيان [الآيات] إِنَّا من مقام عظيم لطفنا وجودنا لعموم عبادنا قد أَنْزَلْناهُ اى القرآن المبين لهم طريق النجاة عن نيران الجهالات واودية الضلالات فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ الغيبى التي لا اطلاع لاحد عليها الأعلام الغيوب لذلك ابهمها سبحانه على حبيبه صلى الله عليه وسلم فقال وَما أَدْراكَ اى اى شيء أعلمك من مقتضيات بشريتك ولوازم ناسوتك ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ

[سورة القدر (97) : آية 3]

إذ هي خارجة عن مدارك عالم الناسوت ومشاعر سكانه مطلقا ثم بينها سبحانه على مقتضى افهام البشر ومداركهم فقال لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ من ايام عالم الشهادة ولياليه إذ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ اى سكان السواد الأعظم اللاهوتى وَالرُّوحُ الأمين المدبر لأمور أرواح أشباح عالم الناسوت فِيها اى في تلك الليلة ونزولهم فيها انما هو بِإِذْنِ رَبِّهِمْ الذي يأمرهم بالنزول فيها ومع كل منهم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ من الأمور الإلهية الجارية في عالم الشهادة سَلامٌ تفويض وتسليم من قبل الحق يسلم لهم سبحانه حكمه ويفوض إليهم امره حسب حكمته المتقنة ومصلحته المستحكمة ليقوم كل منهم به ويحسن تدبيره على الوجه الذي امر به وبالجملة هِيَ اى حالهم وشأنهم هذا وهكذا حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ اى الى طلوع شمس الذات الإلهية المفنية بأشعتها الذاتية عموم اضواء الاظلال والعكوس المنعكسة منها مطلقا كأن ليلة القدر التي قد سترت في خلال ليالي السنة او في ليالي شهر رمضان او في ليالي العشر الأخير منه على ما قيل هي حاكية ممثلة من تلك الليلة القدرية الغيبية العمائية اللاهوتية لذلك ما عينها الشارع وما عرفها بل ابهمها وأخفاها قيل يقدر في تلك الليلة عموم احوال تلك السنة وجميع ما يجرى فيها من الحوادث الكائنة كما ان في أصلها ومنشئها التي هي ليلة القدر الغيبة قد قدر فيها عموم المقادير الكائنة ازلا وابدا لذلك من وجدها وأحياها فقد فاز بخير الدارين. رزقنا الله وجدها والوصول إليها والتحقق دونها بمنه وجوده خاتمة سورة القدر عليك ايها العازم القاصد لإحياء تلك الليلة والطالب المتشوق لإدراكها ان تشمر ذيلك لإحياء عموم الليالى الآتية عليك في ايام حياتك إذ هي مستترة فيها وبالجملة لا تغفل عن الله في عموم أوقاتك حتى تكون لك لياليك قدرا خيرا من الدنيا وما فيها [سورة البينة] فاتحة سورة البينة لا يخفى على المستكشفين عن سرائر الآيات الموضحة لمعالم الدين ومراسم التوحيد واليقين ان ظهور طريق الحق وسلوك سبيل الهداية انما يحصل ببعثة الرسل وإنزال الكتب إذ تبيين الحق ما هو الا من قبل الحق بل بالحق كما اخبر سبحانه عن حقيقة حال الكفرة في الايمان والكفر والكفران بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المظهر لطريق الحق بإرسال الرسل وإنزال الكتب والآيات الرَّحْمنِ لعموم عباده بإيضاح البينات الرَّحِيمِ لخواصهم بايصالهم الى أعلى المقامات وارفع الدرجات [الآيات] لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعنى اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ اى عبدة الأصنام والأوثان مُنْفَكِّينَ اى لم يكونوا زائلين منفصلين في حين من الأحيان عن الايمان والاعتقاد بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إذ اهل الكتاب آمنوا بنبوته حسب ما وجدوا في كتبهم المنزلة عليهم والمشركون سمعوا من أسلافهم وكهنتهم وصفه ونبوته فاعتقدوا بعثته فآمنوا به ولم يزالوا على هذا الاعتقاد حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ على مقتضى سنة الله فظهرت الحجة الواضحة والبينة والبرهان القاطع الساطع وتلك البينة والبرهان القاطع رَسُولٌ مرسل مِنَ اللَّهِ مؤيد من لدنه بالآيات الواضحة والبينات اللائحة المصححة يَتْلُوا عليهم صُحُفاً وأسفارا

[سورة البينة (98) : آية 3]

محفوظة مسورة معجزة مُطَهَّرَةً عن مطلق الرذائل بحيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إذ هي منزلة من حكيم عليم فِيها اى في خلالها ومطاويها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ اى مكتوبات صادقة حقية مملوة من الأوامر والنواهي والاحكام المتعلقة بدين الإسلام صادقة في نفس الأمر مطابقة للواقع مستقيمة لا عوج لها ولا انحراف فيها ناطقة بالحق الصريح وَبالجملة ما تَفَرَّقَ واختلف في الإنكار والاعتقاد والايمان والكفر الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ يعنى ما تفرق تلك الأمم عماهم عليه من تصديق النبي الموعود الا من بعد ما ظهر الرسول الموعود ولاحت البينة الواضحة الدالة على صدقه في نبوته ودعوته ألا وهو القرآن المعجز المبين لشعائر الإسلام وبالجملة قد اختلفوا في شأنه صلى الله عليه وسلم بعد بعثته فمنهم من آمن به على مقتضى ما وجده في كتابه ومنهم من كفر وأنكر عليه عنادا ومكابرة ولهذا قد حرفوا أوصافه المذكورة في الكتب السالفة مع انهم لم يجدوا في دينه وكتابه ما يخالف احكام كتبهم واديانهم وَالحال انهم ما أُمِرُوا في كتبهم إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الحقيق بالحقية والألوهية مُخْلِصِينَ مخصصين لَهُ الدِّينَ والانقياد بلا اشراك والحاد حُنَفاءَ مائلين عن مطلق الأديان الباطلة وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ المكتوبة لهم في أوقاتها الموعودة المحفوظة وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ المصفية لأموالهم على وجهها وَذلِكَ الذي أمروا به في كتبهم دِينُ الْقَيِّمَةِ يعنى ملة الإسلام المستقيمة التي قد ظهر عليها محمد صلى الله عليه وسلم بلا تغير وانحراف فيه واختلاف وبالجملة هم ما كفروا وأنكروا نبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم الا عنادا ومكابرة بلا مستند صحيح لا عقلي ولا نقلي وبالجملة إِنَّ المكابرين المعاندين الَّذِينَ كَفَرُوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَمن الْمُشْرِكِينَ المعاندين هم داخلون فِي نارِ جَهَنَّمَ التي هي دار الطرد والحرمان خالِدِينَ فِيها ابدا لا يتحولون عنها أصلا الا الى عذاب فوق ذلك العذاب وأشد منه وبالجملة أُولئِكَ الأشقياء المردودون المطرودون عن ساحة عز القبول هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ وأسوأ الخليقة واردؤهم كأنهم مقصورون على الشرارة والرداءة مجسمون منها. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا منهم بوحدة الحق وصدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقبلوا دعوته ودينه حسب ما وجدوا في كتبهم وسمعوا وصفه من أسلافهم بلا تحريف ولا تغيير وَمع ذلك قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ المقربة لهم الى الله المرضية عنده سبحانه أُولئِكَ السعداء المقبولون عند الله هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ واحسن الخليقة جَزاؤُهُمْ اى أجزأتهم الحسنة التي قد استحقوها بايمانهم وأعمالهم عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ متنزهات علم وعين وحق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ اى جداول المعارف والحقائق الممتدة المترشحة من بحر الحقيقة خالِدِينَ فِيها أَبَداً دائمين فيها أمدا سرمدا وبالجملة قد رَضِيَ اللَّهُ المنعم المتفضل العليم الحكيم عَنْهُمْ وعن أعمالهم ونياتهم وإخلاصهم فيها وَرَضُوا ايضا عَنْهُ سبحانه بما قسم الله لهم وأفاض عليهم حسب استعداداتهم وقابلياتهم وبالجملة ذلِكَ الأجر الجزيل والرضاء الجميل لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ وخاف عن سخطه وغضبه وعن القيام بين يديه فامتثل أوامره واجتنب نواهيه واتصف بالتقوى عن مطلق محارمه ومحظوراته. جعلنا الله من زمرتهم وخدامهم

خاتمة سورة البينة

خاتمة سورة البينة عليك ايها المريد القاصد نحو الحق الراجي منه القبول والرضاء ان تصفى سرك عن مطلق الرعونات المنافية للرضاء والتسليم بما جرى به القضاء وتخلى خلدك وضميرك عن الميل الى مطلق البدع والأهواء المبعدة عن التقرب نحو المولى فعليك بالتسليم والرضاء والتبتل الى الحق في السراء والضراء والتوكل عليه في الخصب والرخاء فانه لا يجرى في ملكه الا ما يشاء وما يشاء سبحانه الا على وفق الرضاء تفضلا منه وامتنانا [سورة الزلزال] فاتحة سورة الزلزال لا يخفى على الموحدين المنكشفين بأحوال النشأة الاخرى التي هي نشأة انتقاد الأعمال وجزائها ان الحكمة المتقنة الإلهية الباعثة على إيجاد الموجودات واظهار عموم المخلوقات تقتضي ان تكون نشأة الاختبار والابتلاء سابقة على نشأة الجزاء لتظهر سرائر التكاليف الإلهية وفوائد الأوامر والنواهي والاحكام المنزلة من عنده وتتميز مرتبة الربوبية عن مرتبة العبودية والألوهية عن المألوهية وبعد ما قد اقتضت الحكمة المتقنة الإلهية ترتب النشأة الاخرى على الاولى أشار سبحانه الى امارات النشأة الاخرى وعلاماتها بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور عباده حسب النشأتين الرَّحْمنِ عليهم في النشأة الاولى حيث وضع عليهم التكاليف المثمرة لهم خير الجزاء الرَّحِيمِ لخواصهم في النشأة الاخرى يجزيهم جزاء الأوفى اذكر يا أكمل الرسل لمن كذب بالنشأة الاخرى وأنكر يوم العرض والجزاء كيف وقت [الآيات] إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ اى هاجت واضطربت بعد ما وصل إليها الأمر الإلهي المتضمن للتحريك والتهييج زِلْزالَها الذي قدره الله لها عند النفخة الاولى وَبعد ما هاجت وتحركت قد أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها اى دفائنها ومكنوناتها وما في جوفها من الأموات وَبعد ما رأى الناس زلزالها وإخراجها قالَ الْإِنْسانُ من كمال حيرته وتعجبه ما لَها اى ما عرض على الأرض وما لحق بها حتى اضطرت الى الحركة والاضطراب مع انها ساكنة في حد ذاتها جامدة دائما وبالجملة يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ الأرض بالهام الله إياها أَخْبارَها اى الأعمال التي قد عمل عليها بنو آدم عن ابى هريرة رضى الله عنه انه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية يومئذ تحدث اخبارها قال اتدرون ما اخبارها قالوا الله ورسوله اعلم قال فان اخبارها ان تشهد على كل عبد وامة بما عمل على ظهرها اى تقول عمل على كذا وكذا يوم كذا فهذه اخبارها وذلك بِأَنَّ رَبَّكَ يا أكمل الرسل أَوْحى لَها اى امر لها سبحانه واذن لها بالكلام فحينئذ لتكلمت وتحدثت واذكر يا أكمل الرسل يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ يرجع ويعود النَّاسُ عن موقف العرض والحساب أَشْتاتاً متفرقين متحزبين حسب مراتبهم في الحساب كل منهم مع شاكلته لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أجزأتهم المعدة لهم في الجنة او النار فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ اى مقدار نملة صغيرة ووزنها خَيْراً يَرَهُ اى ير جزاءه في الجنة وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ اى جزاءه في النار هذه الآية احكم آية وأقسطها من الآيات الدالة على كمال العدل الإلهي وأشملها حكما لذلك قال صلى الله عليه وسلم إذا زلزلت تعدل نصف القرآن وقل هو الله احد تعدل ثلث القرآن وقل يا ايها الكافرون تعدل ربع القرآن

خاتمة سورة الزلزال

خاتمة سورة الزلزال عليك ايها المتوجه نحو الحق ان تأتى وتتصف بصوالح الأعمال وتزيد عليها حسب إخلاصك فيها وخشوعك في إتيانها وتجتنب عن فواسدها لترى احسن الجزاء فلك ان تجعل مضمون هذه الآية نصب عينك في عموم احوالك وأعمالك لتكون على ذكر تام وفطنة كاملة مما يترتب على أعمالك من الجزاء. جعلنا الله من زمرة المتذكرين الممتثلين لمقتضى هذه الآية الكريمة بمنه وجوده [سورة العاديات] فاتحة سورة العاديات لا يخفى على المستلشقين من نفحات الحق المستروحين بنسمات النفثات الرحمانية المهبة من قبل اليمن اللاهوتى بإرسال الفيض الرحموتى ان النيل والوصول الى تلك المنازل البهية والمقامات العلية انما هو بعد رفض شواغل الناسوت ورفع موانع بوادي الإمكان وقطع آماله المتسعة وأمانيه المتسلسلة وذلك لا يتيسر الا بجذب الحق وتأييده واجتهاد العبد وبذل جهده ووسعه لذلك اقسم سبحانه بما اقسم من النفوس القدسية المتشوقة وقرن مع القسم ما قرن من كفران الإنسان نعم الحق وخسرانه فيها باشتغاله بما لا يعنيه من لوازم الحجب الناسوتية فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور الإنسان حتى أوصله الى مرتبة اليقين والعرفان الرَّحْمنِ عليه بخلقه على صورته ليليق لخلافته الرَّحِيمِ له يربيه ويهديه الى حيث يوصله الى بحر وحدته [الآيات] وَالْعادِياتِ اقسم سبحانه بالنفوس القدسية الزكية عن مطلق الرذائل الانسية وشبهها في سرعة العدو والجري بالخيول الجياد فكأنها تعدو للمجاوزة عن مضائق بقعة الإمكان ومحابس نشأة الناسوت نحو فضاء الوجوب ومتنزهات عالم اللاهوت شوقا إليها وتحننا نحوها لذلك كلما قطعت عقبة من تلك العقبات الناسوتية تضبح ضَبْحاً والضبح هو صوت أنفاس الفرس عند العدو وتلك النفوس ايضا تضبح حينئذ تشوقا الى مقعد الوجوب وتنفسا عن كروب الإمكان واحزان الهيولى والأركان فَالْمُورِياتِ قَدْحاً اى النفوس المتحننة المسرعة المستعجلة نحو الموطن الأصلي بالميل الجبلي سيما بعد الجذب الإلهي المورى بحوافر مراكب الشوق المسرعة عند عدوها على أحجار الطبائع وجنادل الهيولى والأركان نار المحبة والمودة والغرام المفرط من شدة تشوقها وتلذذها الى النيل والوصول واستنشاقها من نسائم روائح الحضور والقبول فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً اى النفوس التي تغير في المبادرة والمسابقة نحو عالم اللاهوت وتجتهد وتسعى لان تصل اليه قبل كل واحدة من النفوس المبادرة المتوجهة إليها الساعية نحوها فَأَثَرْنَ بِهِ وهيجن وحركن في تلك الأوقات التي وصلن فيها اليه نَقْعاً غبارا وصياحا لتكون علامة دالة على قربهن ووصولهن فَوَسَطْنَ بِهِ اى دخلن وتوسطن بذلك الوقت جَمْعاً من سكان عالم اللاهوت المطلقين عن جميع القيود الناسوتية وبالجملة بحق هذه المقسمات العظام إِنَّ الْإِنْسانَ المجبول على الكفران والنسيان لِرَبِّهِ الذي رباه بأنواع الكرم والإحسان لَكَنُودٌ كفور متبالغ في الكفران والطغيان وَإِنَّهُ اى الإنسان نفسه عَلى ذلِكَ اى على كفوريته وكنوديته لَشَهِيدٌ لظهور آثار الكفران والطغيان عليه دائما وصدور انواع البغي والعدوان عنه مستمرا وبالجملة هو نفسه شاهد على كفره وكفرانه وشركه بالله وطغيانه الى حيث يلوح اثر عصيانه عليه ساعة فساعة وَإِنَّهُ من شدة بغيه وعدوانه وغفلته عن الله وعن إحسانه لِحُبِّ الْخَيْرِ اى المال والجاه والثروة

[سورة العاديات (100) : آية 9]

والسيادة المبعدة له عن كنف مولاه لَشَدِيدٌ قوى مبالغ فيه مباه به حريص في طلبه متعب نفسه في تحصيله وحبه وما هذا الا من غاية كفرانه بنعم الله وحرمانه عن مقتضى كرمه سبحانه وضعف يقينه بفضل الله وموائد انعامه وإحسانه أَفَلا يَعْلَمُ ولا يدرك ولا يشعر الإنسان الكفور الكنود المحب للجاه والمال وقت إِذا بُعْثِرَ اى بعث ونشر وحشر ما فِي الْقُبُورِ من الموتى وَحُصِّلَ اى جمع وميز ما فِي الصُّدُورِ من المكنونات والمضمرات خيرا كان او شرا إِنَّ رَبَّهُمْ الذي أظهرهم من كتم العدم ورباهم بأنواع الكرم بِهِمْ وبعموم ما جرى عليهم من شئونهم وتطوراتهم يَوْمَئِذٍ وهو يوم القيامة التي فيها تبلى السرائر وتكشف الضمائر لَخَبِيرٌ وبصير بعموم ما جرى عليهم في نشأة الاختبار خيرا كان او شرا فيجازيهم على مقتضى علمه وخبرته بلا فوت شيء من ذلك ومع علمه سبحانه بهم وبما صدر عنهم يعملون عملا سيئا يؤاخذون عليه. نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا خاتمة سورة العاديات عليك ايها الإنسان الكامل المجبول على حكمة المعرفة والإيقان ان تشمر ذيلك الى ما جبلت لأجله وتخلى خلدك عن مطلق الاشغال العائقة عن التوجه الحقيقي نحو الحق فلك ان ترى يوم الجزاء بين يديك ونصب عينيك وبالجملة لا تغفل عن الله فانه يرقبك في أولاك وأخراك وفي عموم أوقاتك وازمانك وحالاتك [سورة القارعة] فاتحة سورة القارعة لا يخفى على الموقنين المنكشفين بسرائر النشأتين ان النشأة الاولى ما هي الا لاكتساب المعارف والحقائق الكامنة في مطاوى التكاليف الإلهية المكنونة في سرائر أوامره ونواهيه وحكمه وأحكامه والثانية انما هي للجزاء المترتب على تلك المعارف والحقائق ولا شك ان من تهاون وتقاصر عن ما لزمه في الاولى فقد ضل وغوى واستحق الويل واللظى ولحق بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة يجازون بمقتضاها وللتهويل على اصحاب الغفلة وتقريعهم على ترك ما أوجب عليهم وأمرهم سمى سبحانه يوم القيامة بالقارعة وابهمها تفظيعا وتهويلا فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المتصف بالقهر واللطف حسب النشأتين الرَّحْمنِ على عموم المطيعين من عباده في النشأة الاولى الرَّحِيمِ على المخلصين منهم في النشأة الاخرى يوصلهم الى أقصى درجات النعيم [الآيات] الْقارِعَةُ اى الساعة الموعودة المعهودة التي تقرع الأسماع من هولها وهيبتها وتدهش العقول من شدتها وصولتها ثم ابهمها سبحانه تهويلا فقال مَا الْقارِعَةُ المذكورة وايّة شيء هي ثم ابهمها مرة اخرى مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم تأكيدا لتهويلها ومبالغة على تفظيعها فقال وَما أَدْراكَ وأعلمك يا أكمل الرسل مَا الْقارِعَةُ العجيبة الشأن الفظيعة العظيمة الهائلة المهولة ثم عد سبحانه لوازمها وما يترتب عليها لينتقل منها إليها وانما أشار سبحانه بهذه الطريقة ايضا الى شدة هولها وفظاعتها فيكون تهويلا وتأكيدا على تأكيد ومبالغة غب مبالغة اذكر يا أكمل الرسل لمن تذكر واتعظ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ من نهاية افزاعهم واخوافهم كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ اى كالطير المتهافت المتساقط على النار من شدة اضطرابه يعنى يكون الناس

[سورة القارعة (101) : آية 5]

يومئذ مثل الفراش المتفرق في الجهات من غاية الاضطرار والاضطراب بحيث لا يتمالكون على نفوسهم بل يركب بعضهم فوق بعض ويطأ بعضهم بعضا من غاية خشيتهم ورعبهم وازدحامهم وَتَكُونُ الْجِبالُ يومئذ من كمال قهر الله وغضبه كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ اى كالصوف الملون المندوف تطير في جو الهواء يمنة ويسرة وبالجملة فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ يومئذ مَوازِينُهُ اى رجحت مقادير حسناته على مقادير سيئاته فَهُوَ يومئذ فِي عِيشَةٍ هنيئة مريئة راضِيَةٍ صاحبها عنها وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ يومئذ مَوازِينُهُ اى من خفت حسناته وثقلت سيئاته فَأُمُّهُ اى مستقره ومأواه الذي يأوى اليه يومئذ هاوِيَةٌ هي من اسماء جهنم ثم ابهمها سبحانه تهويلا وتفظيعا فقال وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ اى الهاوية ثم فسرها ليكون ادخل في التهويل فقال نارٌ حامِيَةٌ اى ماهية الهاوية وحقيقتها نار ذات حمى وحرارة بحيث قد انتهت في الحرارة والسخونة غايتها. أعاذنا الله وعموم عباده منها بمنه وجوده خاتمة سورة القارعة عليك ايها الطالب لترجيح الحسنات على السيئات ان ترغب في سرك ونجواك عن مستلذات الدنيا وعن مشتهياتها الفانية وتركن الى اللذات الروحانية من الأحوال والمواجيد الاخروية الباقية المستلزمة للدرجات العلية والمقامات السنية عند الله وإياك إياك الأماني وطول الأمل فإنها توقعك في فتنة عظيمة وبلية شديدة لا نجاة لك منها ولا خلاص لك عنها وعن ما يترتب عليها ابدا. خلصنا الله وعموم عباده من غوائل الدنيا وما فيها [سورة التكاثر] فاتحة سورة التكاثر لا يخفى على من هداه الله الى طريق المعرفة والايمان وكشف لهم سبيل الكشف والعيان وأفاض عليه بلطفه سجال الفضل والإحسان ان الأموال والأولاد ومطلق المزخرفات الدنية الدنياوية ما هي الا اسباب التكاثر والتفاخر وعلل الاستكبار والخيلاء في النشأة الاولى وموجبات العوائق عن الوصول الى روضة الرضا وجنة المأوى في النشأة الاخرى فلا بد لأرباب الارادة والولاء ان يتزهدوا عنها ولا يلتفتوا إليها مطلقا بل يتزودوا فيها للنشأة الاخرى بزاد التقوى فنعم الزاد التقوى والرضا بما جرى عليه القضاء لذلك خاطب سبحانه في هذه السورة اهل المفاخرة والمباهاة بتكاثر الأموال والأولاد وأوعدهم بما أوعدهم تسجيلا على ضلالهم وانحرافهم عن جادة العدالة الإلهية وصراط التوحيد فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بكمالاته في الإنسان ليربيه على نشأة الايمان والعرفان الرَّحْمنِ عليه بأنواع اللطف والإحسان ليتوجه نحوه سبحانه في عموم الأحيان الرَّحِيمِ له يهديه الى مرتبة الكشف والعيان [الآيات] أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ اى شغلتكم المفاخرة والمباهاة بكثرة الأموال والأولاد ايها المنهمكون في بحر الغفلة والضلال عن توحيد ربكم وطاعته وقد كنتم أنتم على هذا طول عمركم حَتَّى زُرْتُمُ ولحقتم الْمَقابِرَ وصرتم فيها أمواتا أمثالهم وبالجملة ما صدر عنكم ما جبلتم لأجله طول دهركم حتى متم وخرجتم عنها بلا ترتب حكمة المعرفة ومصلحة الايمان قال سبحانه ردعا لهم وتهديدا كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ان أمركم وشأنكم ما هذا التكاثر والتفاخر وستعلمون غدا ما يترتب عليه ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ان الأمر ليس كذلك كرره تأكيدا ومبالغة في التهديد والوعيد وتهويلا للموعود ثم سجل عليهم

[سورة التكاثر (102) : آية 5]

سبحانه جهلهم وضلالهم رادعا لهم بقوله كَلَّا يعنى ما تتكاثرون ولا تتفاخرون وتتباهون بهذه الزخرفة الفانية الدنية ايها الجاهلون المكابرون لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ اى لو علمتم يقينا علميا وصدقتم تصديقا قلبيا انكم لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ لما تكاثرتم ولا تفاخرتم بما تفاخرتم وما خطر ببالكم أمثال هذه الخواطر الكاذبة الا انكم جاهلون ذاهلون غافلون عن رؤيتها بل أنتم منكرون لها ايها المسرفون المفرطون لذلك قد كنتم تفتخرون وتتكاثرون بالحطام الدنية الدنياوية وتستلذون بلذاتها الفانية وشهواتها الغير الباقية. ثم كرر سبحانه امر الرؤية تهويلا عليهم وتنصيصا على وعيدهم فقال ثُمَّ لَتَرَوُنَّها اى الجحيم المعدة لتعذيبكم عَيْنَ الْيَقِينِ اى يقينا عينيا حين تعاينونها وترون منازلكم فيها ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ ولتحاسبن ايها الناس الناسون لعهود الحق ومواثيقه يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ الفاني الذي قد شغلكم عن الحق وألهاكم عن طاعته وعبادته وصرفكم عن النعيم المقيم فحينئذ ظهر عندكم خطأ آرائكم وفساد اهوائكم التي قد كنتم عليها في النشأة الاولى ولا يفيدكم ظهورهما لانقضاء زمان التدارك والتلافي. ربنا آتنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب خاتمة سورة التكاثر عليك ايها المحمدي المتصف باليقين العلمي بعموم المعتقدات الاخروية ان تكون على ذكر تام منها واستحضار كامل بحيث يكون علمك بها عينا بل حقا قبل حلولها ونزولها فعليك ان تركن عن الدنيا ومزخرفاتها الفانية ونعيمها الغير الباقية ولذاتها وتقنع بالكفاف وتتصف بالعزوبة والعفاف سيما في هذا الزمان الخوان وبين هذه الاخوان الذين هم اخوان الشياطين مشغولون بتكثير الزخارف والحطام في كل حين وأوان لتحصيل المال والجاه ليتفوقوا على الأقران وبالجملة عليك ان تلازم العزلة والفرار عن اصحاب الثروة والفضول فان صحبة الأشرار يعوقك عن ملاحظة الأسرار ويمنعك عن مشاهدة الأنوار. ربنا هب لنا من لدنك جذبة تنجينا من فضول الكلام وتوصلنا الى دار السلام [سورة العصر] فاتحة سورة العصر لا يخفى على من انكشف له وحدة الحق واستقلاله في الوجود وسريانه في جميع الموجودات والمشهودات الظاهرة في صفحات الكائنات من عكوس أسمائه وصفاته الغير المحصورة ان ما سوى هذه الملاحظات والمشاهدات المتعلقة بكيفية شئون الحق وتطوراته المترتبة على أسمائه الحسنى وصفاته العليا انما هو خسران مبين ونقصان عظيم إذ الفطرة الانسانية انما جبلت لأجلها فمن لم يتصف بها فقد خسر خسرانا مبينا لذلك نبه سبحانه في هذه السورة على خسران الإنسان وحرمانه عن طريق العرفان ما لم يتصف بالإيمان والأعمال الصالحات والطاعات فقال سبحانه مقسما بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي خلق الإنسان على صورته ليتخلق بأخلاقه الرَّحْمنِ عليه حيث أظهره من كتم العدم ورباه بأنواع اللطف والكرم الرَّحِيمِ عليه يهديه الى صراط مستقيم موصل الى توحيده [الآيات] وَالْعَصْرِ اقسم سبحانه بالعصر والدهر الذي هو عبارة عن بقاء الوجود الأزلي الأبدي دوامه السرمدي المنبسط الممتد من أزل الذات الى ابد الأسماء والصفات ألا وهو حبل الله

[سورة العصر (103) : آية 2]

الممدود والعروة الوثقى التي لا انفصام لها في عين الشهود إِنَّ الْإِنْسانَ المجبول على فطرة المعرفة والايمان حسب حصته اللاهوتية لَفِي خُسْرٍ عظيم وخيبة بينة بسبب اشتغاله بما لا يعنيه من لوازم بشريته المتعلقة بحصة ناسوته إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وتفطنوا لاستقلاله سبحانه في التصرفات الجارية في ملكه وملكوته وَهم مع الايمان والإذعان قد عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الدالة على إخلاصهم ويقينهم في ايمانهم ونياتهم وَذلك قد تَواصَوْا بِالْحَقِّ اى اوصى بعضهم بعضا بسلوك طريق الحق وتوحيده إرشادا وتنبيها وَتَواصَوْا ايضا بِالصَّبْرِ على مشاق الطاعات ومتاعب الرياضات الطارئة عليهم من قطع المألوفات الامكانية وترك اللذات والمستلذات البهيمية اللازمة للقوى البشرية. وفقنا الله على قطعها وقلعها بمنه وجوده خاتمة سورة العصر عليك ايها المحمدي القاصد لقطع العلائق الامكانية الطالب الجازم لان يخلص عن الوساوس الشيطانية والعوائق النفسانية الموروثة لك من القوى الطبيعية والمدارك الحيوانية والمشاعر البشرية ان تتصبر على عموم البلوى والمعيبات العارضة لك في نشأتك الاولى وتسترجع الى الله في جميعها وتسندها اليه سبحانه أولا وبالذات بلا رؤية الوسائل في البين والأسباب العادية في العين وتوطن قلبك مع ربك في جميع حالاتك وترضى عن الله في عموم ما جرى عليك من مقتضيات قضائه وبالجملة كن فانيا في الله تفز بخير الدارين وفلاح النشأتين وصلاح المنزلتين [سورة الهمزة] فاتحة سورة الهمزة لا يخفى على الموحدين المستكشفين عن سرائر التوحيد واليقين ان الكمالات الدينية كلها منوطة مربوطة بالتخلق بأخلاق الله والتأدب بآدابه فلا بد لأرباب الارادة والطلب ان يهذبوا ظواهرهم أولا بالشرائع النبوية والنواميس المصطفوية المقتبسة من مشكاة النبوة والولاية وبواطنهم بالخواطف الغيبية والهواتف اللدنية الملهمة إليهم حسب القوى القدسية اللاهوتية المتعلقة باستعداداتهم الفطرية وقابلياتهم الجبلية فمن رغب عنها ولم يتصف بها فما له في الآخرة من خلاق لذلك قد حث وحرض سبحانه في هذه السورة ارباب العناية والتوفيق على كسب الآداب والتخلق بمحاسن الأخلاق والاتصاف بأوصاف الكمال بتوبيخ اصحاب الغفلة والضلال المسيئين الأدب مع الله ومع خلص عباده وبسوء منقلبهم ومآبهم عنده سبحانه فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بعموم كمالاته في مظهر الإنسان الرَّحْمنِ عليه بأنواع الكرم والامتنان الرَّحِيمِ بخواص عباده حيث خلقهم بأخلاقه الحسان ويسر لهم طريق العرفان [الآيات] وَيْلٌ عظيم وهلاك هائل شديد لِكُلِّ فرد من افراد الأقوام هُمَزَةٍ وهو الذي يمشى بين الناس بالهمز وكسر العرض وقد صارت له هذه الديدنة القبيحة عادة راسخة وملكة مستمرة وايضا لكل لُمَزَةٍ وهو الذي يطعن في انساب الأنام وينسبهم الى انواع البغي والآثام افتراء ومراء وما حداه وحمله على هذه الخضلة القبيحة والفعلة المستهجنة الوقيحة الا ثروته وماله وسيادته وجاهه وهو الَّذِي جَمَعَ مالًا وامتعة كثيرة من الزخارف الدنية الدنياوية التي قد مالت قلوب ابنائها إليها بالطبع وَعَدَّدَهُ اى جعل ماله عدة عموم النوائب والنوازل وخيل انه يردها به وقت إلمامها

[سورة الهمزة (104) : آية 3]

بل يَحْسَبُ ويظن أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ اى ادام وأبقى ماله نفسه وجعله مخلدا في الدنيا مستمرا فيها ابدا بحيث لا يطرأ عليه زوال وانتقال أصلا فقد اغتر بماله وجاهه الى حيث قد خيل له الخلود به فيها والدوام عليها بطرا وغرورا. ثم قال سبحانه كَلَّا ردعا له عن حسبانه واغتراره هذا وخطأ رأيه وطغيانه يعنى من اين يتأتى ويتيسر له الخلود والدوام فيها والله لَيُنْبَذَنَّ ويطرحن ذلك المفسد المفرط يوم الجزاء فِي الْحُطَمَةِ اى النار التي من شأنها انها تحطم اى تكسر وتفنى من يطرح فيها ثم ابهمها سبحانه تهويلا فقال وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ المعدة لتعذيبه ثم فسرها لكونه ادخل في التهويل والتفظيع بقوله نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ المسعرة الَّتِي تَطَّلِعُ وتعلو عَلَى الْأَفْئِدَةِ والأكباد اى حرقها وايلامها غير مختص بظواهر الجلود بل يسرى الى الاعماق والبواطن ايضا كما ان اثر الهمز واللمز اللذين هما سبب التعذيب بهذه الخطمة يشمل ظواهر الناس وبواطنهم كذلك الجزاء المترتب عليهما وبالجملة إِنَّها اى النار الموقدة الإلهية عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ اى مطبقة عليهم محيطة بهم حافة بجوانبهم وحواليهم وهم حينئذ مشدودون موثوقون بأيديهم وأرجلهم فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ اى اعمدة وأخشاب طوال مثقوبة مربوطين من أعناقهم بالسلاسل والأغلال ألا وهي مصورة لهم من سلاسل الآمال وأغلال الأماني التي هم مقيدون بها في سجن الإمكان. أعاذنا الله وعموم عباده منها خاتمة سورة الهمزة عليك ايها الموحد المحمدي الوجل الخائف عن مقتضيات القهر الإلهي وموجبات غضبه ان تعدل في عموم اخلاقك واطوارك وتعيش بين بنى نوعك هينا لينا فرحانا سليما يقظانا بلا مماراة ومخاصمة وبلا أغراض نفسانية من شيطنة الشيخية وعجب الدرويشية وكيد الرياء ورعونات الهوى وحفظ الجاه والثروة والسيادة وكثرة التبع والخدم والخيل والخشم بل لك ان تصاحبهم وتداريهم خالصا لله على سبيل الوفاق والملاطفة بلا شوب الشقاق والنفاق وبالجملة ترجحهم جميعا على نفسك في كل الأمور وتراعيهم حسب المقدور فان رعايتك إياهم وترجيح جانبهم يؤدى الى مراعاة جانب الحق وترجيحه وبالجملة احسن إليهم كما احسن الله إليك فكن من المحسنين المتخلقين بالأخلاق الإلهية واعبد ربك في كل ذرة من ذرائر المظاهر حتى يأتيك اليقين [سورة الفيل] فاتحة سورة الفيل لا يخفى على من انكشف بحيطة الأوصاف الإلهية وشمول أسمائه الحسنى وأمهات أوصافه السنى على عموم ذرائر الأكوان ان من جملتها القدرة الغالبة الإلهية المودعة في أجزاء العالم كلها متى تعلقت ارادته سبحانه بإظهار القدرة اظهر من كل ذرة ونملة حسب قدرته الغالبة افعالا عجيبة وآثارا بديعة تدهش العقول وتقرع الأسماع كما اخبر سبحانه في هذه السورة لحبيبه صلى الله عليه وسلم تثبيتا له وتوطينا تتميما لتربيته وتأييده صلى الله عليه وسلم فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ القادر المقتدر على عموم ما دخل في حيطة حضرة علمه المحيط وإراداته الكاملة الرَّحْمنِ لعموم عباده حيث دبر أمورهم حسب الحكمة المتقنة البالغة الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى الدرجة الرفيعة اللاهوتية [الآيات] أَلَمْ تَرَ ولم تعلم يا أكمل الرسل يقينا علميا حاصلا لك من طريق السمع

[سورة الفيل (105) : آية 2]

الى حيث قد وصل الى مرتبة اليقين العيني من كثرة السماع والاستماع من الثقاة العدول وتكرره كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ الذي رباك يا أكمل الرسل لرسالته واظهر دينك على الأديان كلها ونصرك على عموم أعدائك بقدرته الغالبة بِأَصْحابِ الْفِيلِ وهو جيش ابرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل اصحمة النجاشيّ قصد هدم الكعبة عمرها الله فخرج مع جيشه ومعه فيل كثير وفيها فيل عظيم جسيم في غاية الجسامة مسمى بمحمود قد كانوا يأمرون بهدم البنيان العظام فيهدمها في الحال ولذا سموه بهذا الاسم وسبب هذا القصد ان ابرهة بنى كنيسة بصنعاء فسماها القليس فعزم ان يصرف الحاج من مكة إليها فلما انتشر الخبر ذهب رجل من كنانة الى القليس ذات ليلة فتغوط فيها ولطخ بها محاربها فوصل الخبر الى ابرهة فغار غيرة شديدة فحلف والله لاهد من الكعبة فخرج مع جيشه وفيله حتى وصل الى حوالى الحرم وأراد ان يأمر الفيل بهدمها فبرك ولم يبرح فضربوه وشددوا عليه فلم يفدوهم قد كانوا إذا وجهوه الى جهة غير جهة البيت هرول واسرع واما الى نحوها فلا يمشى قط فصاروا متحيرين في شأنه كما قال سبحانه أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ الذي كادوا به لهدم البيت وصرف الزوار عنه نحو بيتهم الذي قد بنوا كيف صار فِي تَضْلِيلٍ ضياع وهلاك وخسار وبوار وَكيف لا يكون سعيهم في الضياع والخسار إذ أَرْسَلَ سبحانه بمقتضى قدرته الغالبة عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ أفواجا كثيرة متفرقة متفوجة من جنس واحد من الطير مع كل واحد منها ثلاثة أحجار تَرْمِيهِمْ يعنى ترمى الطير جيش ابرهة بِحِجارَةٍ متخذة مِنْ سِجِّيلٍ هو معرب سنك وكل فَجَعَلَهُمْ من كثرة ما ترميهم بها كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ اى كتبن يأكله الانعام ويدوس فيه فيفرقه الرياح اى صاروا من شدة غضب الله عليهم هباء منثورا خاتمة سورة الفيل عليك ايها السالك الخائف عن بطش الله المحترز عن مقتضى قهره وجلاله ان تكون في عموم احوالك واطوارك بين الخوف والرجاء عن جلاله وجماله بحيث لا يجرى عليك نفس من أنفاسك وأنت فيه خال عن كلا النقيضين بل لك ان تحيط عموم أوقاتك بهما بلا إهمال وقت منها وبالجملة لا تيأس عن روح الله ولا تتكل على كرمه وحلمه فاعلم انه سبحانه يرقبك في جميع حالاتك ويعلم منك ما لم تعلم أنت من نفسك فكن في نفسك من الموقنين المخلصين ولا تكن من الشاكرين المترددين القانطين فان ناقدك خبير بصير [سورة قريش] فاتحة سورة قريش لا يخفى على من تفطن بسرائر العبودية المستلزمة لانواع التذلل والخضوع والانكسار التام والخشوع المفرط ان الباعث عليها والداعي إليها انما هو الانعام العام والإحسان التام الذي هو القيام بعموم الحوائج اللازمة للهوية الشخصية المقومة لها المبقية لماهيتها كما قيل الإنسان عبيد الإحسان ولا شك ان المتكفل المستقل لحوائج عموم المظاهر والمجالى هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد القادر المقتدر على جميع المقدورات بالاستقلال والاختيار، المربى للكل بأنواع اللطف والكرم فهو المستحق للاطاعة والانقياد استحقاقا ذاتيا ووصفيا وكيف لا إذ لا معبود سواه ولا اله

الآيات

غيره لذلك امر سبحانه في هذه السورة عباده بعبوديته وانقياده فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المظهر للكل من كتم العدم الرَّحْمنِ على الكل بأنواع الكرم الرَّحِيمِ عليهم بالزام العبودية والذمم تعجبوا ايها المعتبرون [الآيات] لِإِيلافِ قُرَيْشٍ اى ائتلافهم وتألفهم فيما بينهم واتفاقهم على ان ينصرفوا عن حوالى بيت الله حين إِيلافِهِمْ واتفاقهم على الظعن والارتحال رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ يعنى يرتحلون في كل سنة مرتين مرة في الشتاء نحو اليمن ومرة في الصيف الى الشام وما كان الباعث على ترحالهم الا فقد الزاد في مكة إذ هي بواد غير ذي زرع فيشق عليهم الأمر فيتجرون في كل سنة مرتين فكره الله منهم هذا وأمرهم بالعكوف والاقامة حول بيته بقوله ْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ وليعتكفوا في حواليه وليتوكلوا عليه ولا يتجروا إذ هو القادر المقتدر الَّذِي أَطْعَمَهُمْ واشبعهم مِنْ جُوعٍ قد شملهم وأحاط بهم حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ لحقهم من أعدائهم مرارا ببركة هذا البيت فلهم ان يسكنوا في حواليه متوكلين على ربهم وهو يكفى لهم مؤنة أرزاقهم ايضا بحوله وقوته فيما سيأتى كما قد كفى لهم فيما مضى خاتمة سورة قريش عليك ايها المتوجه الى الله المتوكل على كرمه وإحسانه ان تمتثل لجميع ما أمرك الحق عليه وتفوض أمورك كلها اليه وترضى بعموم ما جرى عليك من القضاء وتعتقد ان الأمر كله لله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عن فعله انه حكيم حميد [سورة الماعون] فاتحة سورة الماعون لا يخفى على من انكشف له سرائر الدين القويم وحكم الاحكام الموردة في الشرع المستقيم ومصالح التكاليف الواردة من العليم الحكيم ان سر العبودية والتدين والانقياد انما هو التأدب مع الله وحسن القيام على أداء حقوق ربوبيته ومقتضيات ألوهيته ولا شك ان من تقاصر فيه وتهاون عليه فقد انحرف عن جادة العدالة وانصرف عن طريق العبودية والتحق الويل والثبور من الله المنتقم الغيور كما أشار سبحانه في هذه السورة مستفهما على سبيل التعجب والاستبعاد فقال متيمنا بِسْمِ اللَّهِ الذي وضع الدين بين الأنام ليهديهم الى دار السلام الرَّحْمنِ عليهم بانزال التكاليف والاحكام الرَّحِيمِ إليهم يوصلهم الى أعلى المكانة وارفع المقام [الآيات] أَرَأَيْتَ اى هل عرفت وأبصرت يا أكمل الرسل المعاند المكابر الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ اى بيوم الجزاء والحساب الموعود لتنقيد الأعمال والأفعال الجارية في نشأة الاختبار فَذلِكَ المكذب المنكر هو الَّذِي يَدُعُّ ويدفع بالعنف المفرط الْيَتِيمَ الذي جاءه لينفق من ماله الذي قد كان عنده لكونه قيما وصيا له قيل هو الوليد بن المغيرة وقيل غيره وَما ذلك الا من غاية بخله وخساسته وإمساكه المفرط لا يَحُضُّ ولا يحث أحدا عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وإطعامه يعنى هو لا يطعم أحدا ولا يرضى ايضا باطعام الغير إياه من شدة شحه وإمساكه هذا امارة تكذيبه وتكذيب أمثاله بالدين والجزاء بحسب الظاهر واما بحسب الباطن فَوَيْلٌ عظيم وعذاب اليم لِلْمُصَلِّينَ المكذبين بيوم الجزاء المنكرين بمعالم الدين المستبين لأنهم هم

[سورة الماعون (107) : آية 5]

المسرفون المفرطون الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ المفروضة لهم في الأوقات المحفوظة ساهُونَ غافلون لا يحافظون عليها في أوقاتها المعهودة المحفوظة لها ولا يواظبون على إقامتها فيها بل هم المنافقون الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ بها على رؤس الملأ ويتركونها في خلواتهم لعدم اعتدادهم واعتقادهم بها وبما يترتب عليها من الجزاء وَمع تهاونهم وتكاسلهم في الصلاة التي هي من أقوى اعمدة الدين وأعلى مراسم التوحيد واليقين يَمْنَعُونَ الْماعُونَ اى الزكاة المهذبة لنفوسهم عن الشح المستهجن والتقتير المستقبح المسقط للمروات والفتوات المؤدية الى عموم الخيرات والحسنات خاتمة سورة الماعون عليك ايها الطالب لطريق الحق الحقيق بالاطاعة والاتباع ان تهذب ظاهرك وباطنك عن مطلق الرذائل المنافية للعدالة الإلهية وتخلى سرك وسريرتك عن الالتفات الى ما سوى الحق لتكون صلاتك منك ميلا حقيقيا الى الله ومعراجا معنويا موصلا الى توحيده وإياك إياك المراء والمجادلة مع بنى نوعك والاستكبار عليهم واظهار الثروة والسيادة فيما بينهم بالمال والجاه فإنها تميت قلبك وتزيد في هواك وتبعدك عن مولاك وبالجملة تضرك في أولاك وأخراك [سورة الكوثر] فاتحة سورة الكوثر لا يخفى على من وصل الى بحر الحقيقة وورد على الحوض المورود والمقام المحمود الذي هو ينبوع الوجود الإلهي المترشح المنبسط بمقتضى الجود الذاتي الى عموم الموجود ان الوصول الى هذا المطلب الأعلى والمقصد الأقصى الذي هو التوحيد الذاتي المعبر بالحوض الكوثر الذي هو عبارة عن كثرة الخير والبركة ما تيسر هذا الشأن وما اتفق حصوله بحقيقته لجماهير الأنبياء والرسل الا للحضرة الختمية المحمدية صلوات الله عليه وسلامه وهو صلى الله عليه وسلم قد خصص بهذه الكرامة الكبرى والموهبة العظمى لذلك ختم ببعثته امر الإرسال والتشريع وتم بظهوره صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق ولهذا نبه سبحانه في هذه السورة على عظم شأنه صلى الله عليه وسلم وجلالة قدره ومكانته فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المتجلى على حبيبه صلى الله عليه وسلم بعموم كمالاته ليكون هو مرآة له سبحانه كي يتراءى منه صلى الله عليه وسلم آثار جميع أسمائه الحسنى وصفاته العلياء الرَّحْمنِ على عموم الأنام ببعثته صلى الله عليه وسلم إليهم حتى يهديهم الى دار السلام الرَّحِيمِ للخواص منهم يرشدهم الى التوحيد الذاتي الذي هو المنجى من ظلمات الأوهام [الآيات] إِنَّا من مقام عظيم جودنا ومحض كرامتنا أَعْطَيْناكَ يا أكمل الرسل إعطاء وهب وكرامة وفضل وامتنان الْكَوْثَرَ الذي هو عبارة عن التحقيق بوحدة الذات والانكشاف بها والوقوف عليها وبعد ما أعطيناك وخصصناك بالكرامة التي لم نعط أحدا من الأنبياء والرسل الذين مضوا قبلك فَصَلِّ لِرَبِّكَ ودم أنت على التوجه نحونا وأخلص فيه واستقم عليه وَانْحَرْ بدنة ناسوتك بعد ما وصلت الى كعبة الذات وفزت بعرفات الأسماء والصفات تقربا إلينا وتوصلا لحمى قدس لاهوتنا ولا تلتفت في ميلك وتوجهك الى هذيانات من يشينك ويعيبك من الجهلة المكابرين إِنَّ شانِئَكَ الذي يشينك ويبغضك في شأنك وأمرك هذا هُوَ الْأَبْتَرُ المقطوع العقب منقطع الأثر والذكر واثرك يبقى ويدوم الى قيام الساعة

خاتمة سورة الكوثر

خاتمة سورة الكوثر عليك ايها المحمدي القاصد للورود الى الحوض الكوثر والشرب منها ان تتوجه في عموم أوقاتك وحالاتك الى الله على وجه التبتل والإخلاص وتميت بهيمة بدنك بالموت الإرادي وتهذبها في طريق الحق تقربا اليه سبحانه لتنال خير الدارين وفلاح النشأتين [سورة الكافرون] فاتحة سورة الكافرون لا يخفى على ارباب الخبرة والوقوف بأمارات مقصد التوحيد الذاتي وعلامات مسلك الفناء في الله والبقاء ببقائه ان الطريق الى الله متفاوتة والمعارج نحوه متنوعة متخالفة إذ لكل وجهة هو موليها وأكمل الطرق وأشملها وأسلمها وأوضحها هو الذي قد سلكه واستقام عليه بتوفيق الله الحضرة الختمية الخاتمية صلى الله عليه وسلم إذ طريقه صلى الله عليه وسلم مستوعب لعموم الطرق والسبل لكونه مبنيا على التوحيد الذاتي المشتمل على توحيد الصفات والأفعال مطلقا ولا يهتدى اليه احد من الخلق الا بجذب من جانب الحق وتوفيق من لدنه ومن لم يؤيد من قبل الحق ولم تدركه العناية الإلهية ما اهتدى اليه سبحانه سبيلا لذلك امر سبحانه في هذه السورة حبيبه صلى الله عليه وسلم حين دعاه الكفرة ليعبد صلى الله عليه وسلم سنة الى ما عبدوا من آلهتهم الباطلة حتى يعبدوا بعد تلك السنة لله الواحد الأحد الفرد الصمد المستحق للعبودية والتذلل سنة اخرى مجازاة لها ومقابلة إياها بان لا يلتفت صلى الله عليه وسلم الى قولهم الباطل ورأيهم الزائغ الزائل فقال بعد ما تيمن وتبرك بِسْمِ اللَّهِ المطلع لما في ضمائر عموم عباده من الهداية والضلال الرَّحْمنِ عليهم بإرسال الرسل يدعوهم الى سبيل السلامة والرشد الرَّحِيمِ لهم يوصلهم الى خير المنقلب والمآب [الآيات] قُلْ يا أكمل الرسل مناديا لمن دعاك الى عبادة الآلهة الباطلة يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ الساترون شمس الحق الظاهرة في الأنفس والآفاق بغيوم هوياتكم الباطلة لا أَعْبُدُ اى لا انقاد ولا أتوجه انا سيما بعد ما وفقني الله الى توحيده الذاتي وهداني نحو شمس ذاته وشرفني بمطالعة وجهه الكريم وخصصنى من بين عموم مظاهره ومصنوعاته بهذه الكرامة العلية ما تَعْبُدُونَ أنتم ايها الجاهلون من الآلهة الباطلة والاظلال الهالكة العاطلة قد اتخذتموها آلهة من تلقاء انفسكم أنتم وآباؤكم مع انه ما انزل الله بها من سلطان حجة وبرهان بل ما تتبعون أنتم وآباؤكم في اتخاذكم هذا الا الظن وما تهوى الأنفس من غير ورود الهداية والإرشاد من قبل الحق وَلا أَنْتُمْ ايضا عابِدُونَ ما أَعْبُدُ من الحق الوحيد الفريد الحقيق بالاطاعة والعبادة بالاستحقاق إذ لا اله في الوجود معه ولا شيء يماثله حتى يشارك معه في أخص أوصافه التي هي الألوهية والربوبية ووجوب الوجود إذ ليس في وسعكم واستعداداتكم الايمان به والإيقان بوحدته وباستقلاله في ملكه وملكوته ومع ذلك ما وفقكم الحق عليه وما أقدركم به وَبالجملة لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ إذ هي لا يليق بالعبودية والمعبودية حتى اعبد له وَلا أَنْتُمْ ايضا عابِدُونَ ما أَعْبُدُ إذ لا يتيسر لكم الايمان به والاطلاع على وجوده والاتصاف بمعرفته وشهوده فكيف تعبدون أنتم لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد بلا جذب من جانبه وتوفيق من لدنه وانا ايضا لا اعبد لمعبوداتكم الباطلة التي هي بمراحل عن رتبة الألوهية والمعبودية وبالجملة

[سورة الكافرون (109) : آية 6]

لَكُمْ دِينُكُمْ الذي أنتم عليه وطريقكم الذي تتوجهون اليه بعد ما لم يوفقكم الحق على الهداية والايمان وَلِيَ دِينِ الذي انا عليه وبالجملة لا تتركون دينكم بديني وما انا ايضا بتارك ديني بدينكم بل لكم دينكم ولى ديني والتوفيق بيد الله والهداية والضلال خاتمة سورة الكافرون عليك ايها الموحد المحمدي الحنيف المائل عن عموم الأديان والمذاهب الباطلة المنافية لصرافة مشرب التوحيد الذاتي ان لا تجالس مع اهل الغفلة والضلال المترددين في اودية الجهالات بأنواع الخيالات الباطلة والأوهام العاطلة المترتبة على هوياتهم العدمية وتعيناتهم الوهمية ولا تصاحبهم في حال من الأحوال فان صحبتك معهم تبعدك عن الحق وتغريك نحو الباطل فان النفوس الانسانية سارقة طبعا مائلة نحو الباطل قطعا ولهذا صارت اسرع عدوا وأشد ميلا الى البدع والأهواء الفاسدة والآراء الباطلة. أعاذنا الله وعموم عباده منها بمنه وجوده [سورة النصر] فاتحة سورة النصر لا يخفى على من فتح عليه الحق باب العناية وكشف له سبيل الهداية والكرامة ان كل من دخل في كنف حفظ الحق وجواره وتوكل عليه وفوض أموره كلها اليه فقد أعانه الله ونصره على جميع أعاديه وأنجح عموم مطالبه ومآربه وجميع ما قدر له من الكمالات التي اودعها الحق في استعداده الفطري وقابليته الجبلية ولا شك ان أكمل الناس استعدادا وأتمهم قابلية وأفضلهم شرفا وكمالا هو الحضرة الختمية الخاتمية صلى الله عليه وسلم إذ قد طويت المراتب كلها دون مرتبته صلى الله عليه وسلم ولهذا كمل جميع مكارمه وكمالاته المنتظرة له صلى الله عليه وسلم في نشأته الاولى ليكون مقدمة وعنوانا على تكميل كمالاته الاخروية كما نبه سبحانه في هذه السورة بعد التيمن والتبرك بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور حبيبه صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل الأحكم الرَّحْمنِ عليه بنصر أوليائه وقهر أعدائه الرَّحِيمِ له حيث فتح عليه أبواب الفتوحات الغيبية والشهادية والفيوضات اللدنية الفائضة عليه من عالم اللاهوت [الآيات] إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ اى إذا جاءك يا أكمل الرسل وعد الله الذي قد وعدك به ان ينصرك على جميع أعدائك ويظهر دينك على الأديان كلها وقد جاءك ايضا الفتح الذي أخبرك الحق بقوله انا فتحنا لك فتحا مبينا وبعد ما جاءك النصر وَالْفَتْحُ الموعود آن لك وكمل ظهورك واستيلاؤك على عموم الأعادي وظهر دينك على سائر الأديان الباطلة والآراء الفاسدة وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ حينئذ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فوجا فوجا فرقة فرقة بعد ما كانوا يدخلون فيه فرادى فرادى فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ يا أكمل الرسل شكرا لما اعطاك جميع ما وعدك وفتح عليك الآفاق وأتم ببعثتك وظهورك محاسن الشيم ومكارم الأخلاق على الإطلاق وَاسْتَغْفِرْهُ واطلب منه الرجوع الى من عن نوره صدرت لأنك مظهر اسراره وانواره واليه يرجع الأمر كله بعد إظهاره إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً رجاعا لأوليائه الى مستقر قدسه وحضرة أنسه وبعد ما نزلت هذه السورة وامر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم فيها بالحمد والاستغفار اغتم الأصحاب وحزنوا إذ قد فهموا منها ان أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرب فودعه الحق وامره بالحمد والاستغفار وما عاش صلى الله عليه وسلم بعد نزوله الا أياما قلائل لذلك سموا هذه السورة سورة التوديع ايضا

خاتمة سورة النصر

خاتمة سورة النصر عليك ايها الطالب للنجاة الاخروية والراغب الى اللذات اللدنية الروحانية الموعودة ان تسترجع الى الله وتستغفره في عموم أوقاتك وحالاتك وتفوض أمورك كلها اليه وتتخذه وكيلا وتجعله حسيبا وكفيلا فعليك ان تواظب على الطاعات والعبادات وتجتنب عن مطلق المحارم والمنكرات يحفظك الحق عن جميع المصائب والملمات ويوصلك الى عموم المطالب والمهمات بفضله ولطفه [سورة تبت] فاتحة سورة تبت لا يخفى على من كشف له الغناء الذاتي الإلهي وظهر عنده ان الدنيا وما فيها ما هي إلا سراب باطل وظل زاهق زائل لا ثبات لنعيمها ولا قرار لمقيمها وان الاغترار بها وبما يترتب على حطامها وأمتعتها الفانية انما هو من كمال الجهل والغفلة عن الله وعن اللذات الاخروية المعدة عنده سبحانه لأرباب العناية والكرامة كما اخبر سبحانه في هذه السورة عن بعض المسرفين المحتجبين عن الله المشتغلين عن مقتضيات ألوهيته وربوبيته من غاية اغتراره بماله وجاهه وثروته ونخوته وسيادته بين الأنام فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الغنى بذاته عن عموم مظاهره ومصنوعاته الرَّحْمنِ عليهم بافاضة الوجود الرَّحِيمِ عليهم حيث يوصلهم الى مرتبة الكشف والشهود في اليوم الموعود لو أخلصوا في التوجه والطاعات نحو الخلاق الودود [الآيات] تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ اى قد خابت وخسرت خيبة ابدية وخسرانا سرمديا بحيث قد هلكت في نار القطيعة نفس الجهنمى الذي يداه كناية عن نفسه وذلك لأنه من غاية نخوته وغروره وشدة بطره وشروره ظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنواع المنكر والمكروه وعارضه على وجه لا يليق بشأنه صلى الله عليه وسلم اتكالا على ماله وجاهه ورئاسته بين أمته وذلك انه لما نزل الآية الكريمة وانذر عشيرتك الأقربين صعد رسول الله صلى الله عليه ذات يوم الى الصفا فنادى يا بنى فهر يا بنى عدى لبطون قريش حتى اجتمعوا فقال أرأيتم لو أخبرتكم ان خيلا بالوادي يريد ان يغير عليكم أكنتم مصدقي قالوا نعم ما جربنا عليك الا صدقا قال فانى نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال ابو لهب على سبيل الاستهزاء تبا لك يا محمد لهذا جمعتنا فنزلت تبت يدا ابى لهب بمجادلته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرائه معه وقصد استحقاره واستهانته إياه صلى الله عليه وسلم وَقد تَبَّ وهلك ذلك اللعين المفرط على الوجه الذي اخبر الله بهلاكه الى حيث ما أَغْنى ودفع عَنْهُ مالُهُ الذي اتكل عليه واستظهر به شيأ من غضب الله وَما نفع له ونصره ما كَسَبَ وجمع وادخر من الأموال والأولاد والأعوان والاتباع قيل مات بالعدسة بعد وقعة بدر بأيام معدودة وترك ثلاثة ايام حتى أنتن ثم استأجروا بعض السودان حتى دفنوه فهو اخبار عن الغيب وقد وقع هذا على وجهه في النشأة الاولى سَيَصْلى ويدخل ذلك اللعين ناراً ذاتَ لَهَبٍ واشتعال من شدة سورتها والتهابها وصولتها وفظاعتها وَامْرَأَتُهُ التي كانت تمشى بالنميمة بين الناس وتوقد نيران الفتن والعداوة بينهم ايضا معه بل تصير هي حينئذ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ لنار جهنم تحتطب لها من الضريع والزقوم او هي حمالة الحطب فيها على قراءة الرفع يعنى صورت نميمتها التي قد مشيت بها في دار الدنيا بايقاد نار الفتن على هذه الصورة فتلازمها دائما فِي جِيدِها وعنقها

خاتمة سورة تبت

حَبْلٌ اى سلسلة متخذة مِنْ مَسَدٍ مفتول قد فتل من الحديد تحمل بها الحطب مع انها من اشرف قريش اى وزوجها ايضا خاتمة سورة تبت عليك ايها المريد المعتبر المستبصر عصمك الله عن تباب الدارين وخسارهما وبوارهما ان تتأمل في رموزات القرآن من القصص والاحكام والعبر والأمثال فتأخذ حظك منها مقدار ما يسر الله لك وأودعه في وسعك وطاقتك واعلم ان كل ما ذكر في القرآن انما نزل للإرشاد والتكميل فلك ان تأخذ من إشارات هذه السورة حسن المعاشرة وآداب المصاحبة سيما مع الاخوان والجيران وارباب العرفان وتتفطن منها بحقارة مزخرفات الدنيا وما يترتب عليها من اللذات البهيمية الساقطة عن رتبة الاعتبار الزائغة الزائلة بلا قرار ومدار [سورة الإخلاص] فاتحة سورة الإخلاص لا يخفى على من اتصف بالمعرفة الإلهية وانكشف بوحدته واستقلاله سبحانه في الوجود والوجوب الذاتي واستغنائه سبحانه في ذاته عن عموم المظاهر والمجالى وتعاليه عن لوازم الافتقار والاحتياج المؤدى الى وصمة الإمكان وسمة الاستكمال والنقصان ان الذات الاحدية منزهة في ذاته عن مطلق التحديد والتوصيف الذي يصف به الواصفون ذاته سبحانه لذلك بين سبحانه ذاته في هذه السورة ووصفه الذاتي بمقتضى علمه الحضوري بذاته تنبيها وتعليما على عباده وإرشادا لهم فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ الذي لا يكتنه ذاته بمدارك مظاهره ومصنوعاته مطلقا الرَّحْمنِ عليهم بتوصيف ذاته إياهم الرَّحِيمِ لخواصهم حيث يهديهم الى سرائر معرفته وتوحيده [الآيات] قُلْ يا أكمل الرسل لمن يسأل منك بقوله صف لنا ربك الذي تدعونا الى الايمان به وعبادته هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اى هو الذات المتصفة بالالوهية الغيبية والشهادية الجامعة بينهما ظاهرا وباطنا المتعالية عن كليهما بحسب الذات المتصفة بالالوهية والربوبية ووجوب الوجود المستجمعة لجميع شرائط الكمال حسب الأسماء والصفات الكاملة الكامنة في تلك الذات المتصفة بالأحدية المطلقة المنزهة عن التعدد والكثرة مطلقا المستقلة في الوجود والحياة والقيومية المطلقة المستلزمة للديمومية والبقاء الأزلي الأبدي السرمدي لا يكال بقاؤه ودوامه بمطلق الموازين والمقادير ولا يحيط به وبقيوميته مطلق التدابير والتقادير فكيف كان سبحانه محلا للتقدير إذ هو اللَّهُ الصَّمَدُ اى السيد السند الذي يقصد نحوه ويرجع اليه عموم ما ظهر وبطن من الكوائن الفاسدة الكائنة في نشأتى الغيب والشهادة والاولى والاخرى وهو في ذاته مستغن عن جميعها مطلقا وكيف لا يكون مستغنيا إذ هو الله الأحد الفرد الصمد القيوم الذي لَمْ يَلِدْ ولدا إذ الإيلاد انما هو للمعاونة والمظاهرة او للاخلاف وخوف الانعدام والانقضاء وهو سبحانه بمقتضى قيوميته واستقلاله بحوله وقوته ووجوب وجوده ودوام بقائه لا يطرأ عليه أمثال هذه النقائص الامكانية المستلزمة لضبط العاقبة والمآل إذ لا يجرى عليه سبحانه انقضاء وانتقال ولا يلحقه زوال وارتحال وَكذلك لَمْ يُولَدْ لذلك إذ كل ما ظهر وبطن ازلا وابدا انما هو منه واليه وبه وله وفيه وكل ما فرض من الموجود ازلا وابدا ذهنا وخارجا غيبا وشهادة ما هو خارج عن حيطة اظلال أسمائه وعكوس صفاته فكيف يتصور ان

[سورة الإخلاص (112) : آية 4]

يسبقه شيء هو غيره مع انه لا غير في الوجود ولا شيء سواه موجود مطلقا حتى يلده وَبالجملة هو سبحانه منفرد في توحده متوحد في انفراده وتفرده ومستقل في استقلاله بحيث لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ لا قبله ولا بعده ولا معه بل لا اله سواه ولا موجود غيره خاتمة سورة الإخلاص عليك ايها الموحد المحمدي المنكشف بالتوحيد الذاتي مكنك الله في مقر عزك وتمكينك ان تصرف عنان همتك وعزمك بعد ما كوشفت لوحدة ذات الحق وكمالات أسمائه وصفاته نحو سوابغ آلائه ونعمائه الفائضة منه سبحانه حسب رقائق أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى وتشاهد اثار قدرته الغالبة التي تتحير منها العقول والآراء وإياك إياك ان تغفل عن الله طرفة عين فإنها تورثك حسرة طويلة ان كنت من ذوى العبرة واولى الأبصار إذ كل نفس من الأنفاس الإلهية التي قد جرت عليك في اوقات حياتك مشتملة على عجائب صنع الله منصبغة ببدائع حكمته المتقنة البالغة بحيث ما مضى مثلها ازلا ولا سيئاتي شبهها ابدا فعليك ان تغتنم الفرصة وتتعرض للنفحات الإلهية دائما بحيث لا يشغلك شيء منها. جعلنا الله من زمرة المتعرضين لنفحات الحق ومن المستنشقين من نسمات روحه وراحته بمنه وجوده [سورة الفلق] فاتحة سورة الفلق لا يخفى على من اعتصم بالله ودخل في كنف حفظه وجواره مفوضا أموره كلها اليه ان الله سبحانه يراقبه من كل ما يضره ويغويه ويحفظه عن كل ما يرديه ويؤذيه لذلك امر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم حين قصده اعداؤه بالسوء وسخروا له حسدا على ظهوره واستيلائه وانتشار صيته الحسن في الآفاق والأقطار بالاستعاذة والاستلجاء نحوه بكمال الوثوق والخلوص فقال بعد التيمن بِسْمِ اللَّهِ المراقب على محافظة خلص عباده من جميع ما يضرهم ويؤذيهم بعد ما رجعوا اليه وتعوذوا به مخلصين الرَّحْمنِ عليهم بانزال الرقى وتلقين الدعاء الرَّحِيمِ لهم حيث يبرؤهم ويشفيهم بعد ما أخلصوا في التعوذ والالتجاء [الآيات] قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما اصابتك من سحر أعدائك مصيبة وعرضتك بشؤم أعينهم عارضة ازالة لها ودفعا لضررها أَعُوذُ والوذ مخلصا بِرَبِّ الْفَلَقِ اى الذي فلق وشق ظلام الليل المظلم بنور الصبح المنير وفلق ظلمة العدم باشراق نور الوجود مِنْ شَرِّ جميع ما خَلَقَ في عالم الكون والفساد من النفوس الخبيثة وَكذا الوذ به سبحانه مِنْ شَرِّ كل غاسِقٍ مظلم محيل إِذا وَقَبَ دخل وانغمس في ظلامه ليحيل ويمكر وَكذا مِنْ شَرِّ عموم الساحرات النَّفَّاثاتِ النفاخات بريق أفواههن فِي الْعُقَدِ التي يعقدن على الخيط ليسحرن الناس بها وَبالجملة أعوذ برب الفلق مِنْ شَرِّ كل حاسِدٍ إِذا حَسَدَ وقصد ان يحسد فانه سبحانه يكفيك مؤنة شرورهم عنك بحوله وقوته خاتمة سورة الفلق عليك ايها المحمدي الملتجئ الى الله المستعد لفيضان حوله وقوته ان تداوم على ذكر الله وقراءة القرآن وتكرار الاذكار والتسابيح المأثورة من النبي المختار في عموم أوقاتك وحالاتك سيما

سورة الناس

في خلال الليالى والأسحار وفي آناء الليل وأطراف النهار لعل الله يرقبك عن فتنة ما ذرأ وبرأ ويكف عنك شرور من عاداك بالسحر والعين وغيرها بمنه وجوده [سورة الناس] فاتحة سورة الناس لا يخفى على من انكشف له سرائر التوحيد واليقين وانفتح عليه أبواب معالم الدين القويم والصراط المستقيم اى من تمسك بحبل التوفيق الإلهي واستمسك به لا بد وان يحفظ نفسه دائما عن فتنة شياطين القوى الامارة التي توسوس في صدور الأنام بأنواع الوسوسة وتوقعهم في اصناف الفتن والمحن الناشئة من الأوهام والخيالات الباطلة المتعلقة بنشأة الناسوت حتى تزيغ قلوبهم وتضلهم عن الطريق المستبين لذلك لقن سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم الاستعاذة والالتجاء نحوه سبحانه من غوائل الشيطان واغوائه تتميما لتربيته وتكميله وتنبيها على من تبعه من المؤمنين وإرشادا لهم فقال بعد ما تيمن بِسْمِ اللَّهِ المدبر لمصالح عباده بمقتضى جوده الرَّحْمنِ عليهم يحفظهم عما يبعدهم عن كنف حفظه الرَّحِيمِ عليهم ينبههم على ما يضرهم ويغويهم ليتمكنوا في الدين القويم ويترسخوا على الصراط المستقيم [الآيات] قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما مكنك الحق في مقعد التوحيد وهداك للوصول الى ينبوع بحر الحقيقة التي هي الوحدة الذاتية ملتجأ الى الله مستمسكا بعروة عصمته أَعُوذُ والوذ بِرَبِّ النَّاسِ الذي أظهرهم من كتم العدم ورباهم بأنواع اللطف والكرم مَلِكِ النَّاسِ ومتولى أمورهم إِلهِ النَّاسِ إذ ظهور الكل منه ورجوعه اليه ولا مالك لهم سواه ولا اله غيره مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الموسوس المثير للفتن في قلوب الناس الْخَنَّاسِ الدفاع الرجاع للناس عن نور الهداية والفلاح الى ظلمات البدع والضلال الَّذِي يُوَسْوِسُ دائما فِي صُدُورِ النَّاسِ ويلقى في روعهم ما يغويهم عن طريق الحق ويغريهم الى الباطل الزائغ الزائل وهذا الخناس الموسوس في صدور الناس قد يكون مِنَ الْجِنَّةِ اى من جنس الجن يوسوس على الانس من طرق الوهم والخيال فيضله عن الصراط المستقيم وَقد يكون من جنس النَّاسِ ايضا يوسوس من طرق الحواس إذ بعض النفوس الخبيثة الانسية يضل بعض الضعفاء عن طريق الحق ويوقعهم في فتنة عظيمة وعذاب اليم. أعاذنا الله وعموم عباده من شر كلا الفريقين بفضله وجوده خاتمة سورة الناس عليك أيهما المحمدي المعتصم بحبل التوفيق المستمسك بالعروة الوثقى التي هي الدين القويم الإلهي والشرع الشريف المصطفوى ان تواظب على امتثال الاحكام الشرعية والأوامر الإلهية النازلة في القرآن العظيم وتجتنب عن مطلق النواهي والمحظورات الموردة فيه من لدن حكيم عليم فعليك بالإخلاص في كل الأعمال والاتكال على الله في عموم الأحوال وعليك الاشتغال بالطاعات ودوام المراقبة مع الله في عموم الحالات فانه سبحانه يوصلك حسب لطفه وجوده الى أعلى المقامات وارفع الدرجات نعتصم بك يا ذا القوة المتين ونتوكل عليك يا ذا الجود العظيم ونستعيذ بك في عموم الأحوال والأهوال من الشيطان الرجيم. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب وأنت الملهم للصواب والموفق على نيل الثواب منك المبدأ وإليك المآب وعندك أم الكتاب وبعد ما اتفق بتوفيق الله إتمامه وتم بلطفه ختمه وختامه جاء بفضل الله وسعة رحمته وجوده كنزا مملوا بلآلى نفيسة

مستخرجة من بحر اللاهوت موهوبة من حضرة الرحموت مشحونا بلطائف لباب اليقين والتوحيد مصونا عن رذائل قثور التخمين والتقليد حاويا على دقائق سرائر المرتبة الواحدية ودرجات التجريد محتويا على رقائق الحضرة الاحدية ومقام التفريد مقدار ما يسر الله الحكيم الحميد لهذا الفقير الحقير الذي هو احقر من كل العبيد فهيهات هيهات من لم تسبق له العناية الازلية ولم تدركه الولاية الابدية السرمدية ولم تعن القوة القدسية بإظهار ما غاب وإبراز ما بطن كيف يطيق ان يتكلم عنه سبحانه وعن كلامه بأمثاله او يتفوه عنه وعن مقاله لكن المجبور معذور والكائن مقدر والمقدر مقدور اما تدرى يا أخي أزال الله سبل التعنت والعناد عن عين بصيرتك ان الله المطلع الغيور عليم بذات الصدور وان جميع ما يظهر ويلوح في فضاء الوجود انما هو في علم الله مذكور وفي لوح قضائه مثبت ومسطور وإياك إياك كشف الله عنك حجابك وستر عليك جنابك ان تعترض على كرة مقهورة تحت صولجان القضاء وريشة مسكينة ملقاة في فلاة تقلبها الرياح كيف تشاء أفلا تعلم ايها المجبول على فطرة الدراية والشعور ان العبد وعموم ما صدر عنه مستند الى المولى وان لكل اليه يعود كما انه منه بدأ وانه لا يجرى في ملكه الا ما يشاء لينكشف لك ان الأمر أجل وأعظم وأعلى من ان يحيط به الآراء ويتفوه عنه الالسنة والأهواء بل انما هو عماء في عماء ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور لذلك ناهت في بيداء ألوهيته عقول العقلاء وتحيرت في فضاء صمديته شهود الأنبياء والأولياء وانما انزل سبحانه عليهم الكتب وأفاض على قلوبهم ما أفاض من المعارف والحقائق ليتمكنوا بعد الطلب والمجاهدات الكثيرة في مقعد الصدق الذي هو مقام التسليم والرضاء راضين بعموم ما جرى عليهم من سلطان القضاء مستغرقين بمطالعة جمال الله والهين عند وجهه الكريم ربنا اهدنا إليك حسب ما قضيت لنا في لوح قضائك إذ لا معقب لحكمك ولا مبدل لقولك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد لا تسأل عن فعلك انك حكيم رشيد حميد مجيد. الحمد لله على النمام. والصلاة والسلام على سيد الأنام وعلى آله العظام وأصحابه الكرام. وعلى العلماء الفخام.

سبحان من ابرز ما ابرز من مكمن الغيب الى قضاء الوجود. واظهر ما اظهر الى الشهود ليطالع جماله في كل مظهر موجود. وصلاة تامة وسلاما كاملا على من هو أكمل المظاهر والمجالى. واشرف الهداة الى ما هو متجل في الآفاق والأنفس خصوصا الى التوحيد الذاتي. وعلى آله وأصحابه المتخلقين بأخلاق من كان خلقه القرآن. الباذلين مهجهم في إعلاء التوحيد واعلام العرفان. المقتبسين من مشكاة نبوته نور الآية الحقيقة. المستضيئين من لوامعها المتشعشعة من شمس الوحدة الحقية الذاتية" اما بعد" فيقول العبد الضعيف تراب اقدام الفضلاء. قطمير أبواب الأولياء العرفاء. مفتى المعشر الاول من المعسكر الاول ابو نعمة الله (محمد شكرى) بن حسن الانقروى. عفا عنهما وعن جميع المؤمنين العفو العلى. ان التفسير المسمى" الفواتح الغيبية والمفاتح الإلهية" المنسوب الى العالم العارف المحقق الرباني. والشيخ المرشد المتحقق الصمداني. اعنى به شيخ المشايخ نعمة الله بن محمود النخجوانى. قدس الله سره. وأعلى الله في الجنة درجته وقدره. أجل التفاسير قدرا وبيانا في كشف اسرار القرآن. وأكملها إيضاحا وتبيانا بحقائق الفرقان. إذ ما هو الا منبع الحقائق والأسرار. وينبوع اذواق اولى البصائر والأبصار. كنز المعارف والواردات اللاهوتية. وخزينة انواع الكمالات الناسوتية. مقدمته وفواتح سوره مشحونة ببيان سرائر الوجود. وخواتمها ملوة بنصائح مفيدة لأرباب البصائر والشهود. فيا سعادة من وفق بمطالعته. ويا حيرة من تعمق في بحر بياناته. مع مزج عجيب رائق. وأسلوب غريب لائق. لم يكتحل بمثله أعين الزمان. ولم ير نظيره في ميدان البيان. الا انه كان مستورا في مكمن زاوية الخمول والنسيان. ومتروكا تحت منسوجات العناكب في كثير من الزمان بلا عيان. مع كونه مشتاقا لعرض جماله الى انظار محبيه وراغبيه. ومتشوقا الى إبراز مكنوناته لمستفيديه وطالبيه. فلله الحمد والمنة ساعد التوفيق بتحريك همة من هو ذو الهمة العلية. ولله دره وأوصله الى مقاصده الخفية والجلية. ألا وهو ذو العطوفة الحاج (احمد مختار) بك افندى رئيس الدائرة العسكرية سابقا في القسطنطينية. صانها الله عن الآفات والبلية. والمتشرف اليوم يكونه شيخا للحرم النبوي والفاضل الشهير الحاج (محمد حلمي) افندى الطرنوى. شكر سعيهما الغنى القوى. الى طبعه ونشره بين المتعطشين الى زلال وصاله. والمتشوقين أشد التشوق الى رؤية جماله. فحمدا ثم حمدا جاء بارزا بروز الازهار وقت الربيع. وفاح عرفه كالمسك الأزفر الى مشام المستنشقين يفوح بديع. مصححة ألفاظه وعباراته الرائقة بعون الملك المان. مع معاونة بعض الاخوان الخلان من أفاضل الزمان. وان كان الأصل الذي بأيدينا محرفا غاية التحريف وناقصا نهاية النقصان. ولم آل جهدا في إصلاح محرفاته وإكمال نواقصه بقدر الإمكان. بيد ان الإنسان عاجز غير خال عن الخطأ والنسيان. والمسئول من الغفور كثير العطايا والإحسان. ان يغفر لي ولوالدي ولجميع المؤمنين يوم الحشر والميزان. بحرمة جاه سيدنا سيد ولد عدنان. آمين يا مستعان وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله الحمد لله الذي تجلى على قلوب أصفيائه بلطائف العرفان وخصهم من بين عباده بخصائص الإحسان فاستضاءت افئدتهم باشعة لمعاته الانسية وانحلت مرائى ضمائرهم بأنوار تجلياته القدسية فنطقوا بغير الهوى إذ كوشفوا باسرار السموات العلى وما تحت الثرى وطئوا بعلو همتهم بساط الملكوت فتحققوا بحقائق قدس اللاهوت والصلاة والسلام على عروس مملكة الحضرة الإلهية واسطة عقد نظام العوالم السفلية والعلوية وعلى آله الطهر الكرام سفينة النجاة وكهف الأنام وصحبه الزهر الأعلام نجوم الهدى ومصابيح الظلام" وبعد" فلما كان كلام الله المجيد الذي لا يأتيه الباطل من

بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد مدار سعادة الدنيا والدين والسراج المنير لهداية العالمين الى الحق المبين وان تأسس قواعد الإسلام واستنباط الحلال والحرام انما هو على تفسيره وتأويله وبيان اجماله وتفصيله وان علماء الامة الأعلام عليهم رحمة الملك العلام قد كتبوا ودونوا في هذا الشان حسب طاقة الإنسان تصانيف حميدة وتفاسير مقبولة مفيدة بين مطول ومختصر جزاهم الله عن الامة الجزاء الأوفر الا ان الناس قد قصروا جل هممهم على الدنيا ونسوا حظهم من الاخرى وأكثرهم نبذوا كتاب الله الى الوراء وتمسكوا بدلا عنه بآراء السفهاء وهذا لان بعض التفاسير مشحون باسرائيليات كلام الله منها براء والعقول السليمة عنها في مراء وإباء وان كان تفاسير المحققين المؤيدة بالنقل الصحيح والمؤولة بالفكر الصائب الرجيح جامعة لجل الاحكام الدينية والدنيوية كافلة لسعادتهم السرمدية ولكنها في غاية البسط والتبيين حتى بلغ مجلدات بعضها الى ستين او ثمانين. لكن من التطويل كلت الهمم. فصار الاختصار فيه ملتزم وكان من بينها هذا التفسير المسمى ب" الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية" تأليف الكامل المكمل ذي الفيض الرباني والمتحقق بمقام الشهود الاحسانى الشيخ نعمة الله النخجوانى تفسيرا وجيزا للفظ والمبنى جزيل الفحوى والمعنى مع مزج بديع رائق وتلويح لطيف في تناسب الآيات وتلميح شريف الى الدقائق كاشفا عن حقائق الحكم والمعارف التي يعترف بها كل عاقل وعارف صفحاته جنات فهوم عالية قطوفها بسبب فيضها للقاصرين ايضا دانية لا تسمع فيها لاغية القصاص بل تحت كل فقرة منها عظة للعوام والخواص وحكمة لأرباب الاختصاص فبهذه الوجوه الباهرة فاق على التفاسير السائرة الا انه كان مطروحا في زاوية الامتهان قد نسجت عليه عناكب النسيان فالهم الله عبده الصالح البرسامى الهمة عالى القدر المستفيض من بحر فيض الأولياء حضرة ذي العطوفة الحاج (مختار) بك افندى رئيس دائرة نظارة الحربية الجليلة سابقا وشيخ الحرم النبوي لاحقا فنهضت همته العلية واستنهضت همم بعض النفوس الزكية نحو تجلية هذا العروس في منصة الطبع والتمثيل وتداوله في أيدي الإعزاز والتبجيل فلبوا اليه على قدم وساق فبذلوا المال في اقتناء نسخه من الآفاق ثم بذلوا النقد والوقت وفوضوا تصحيحه ومقابلته على عدة نسخ الى جمع من أفاضل العلماء الأعيان وكان ذلك الرئيس الهمام مختار اهل الفضل والعرفان واسطة عقدهم ورابطة مسلكهم ومن اجلاء هؤلاء الأماثل حضرة الأستاذ الأكرم ذي الفضل المحترم (الحافظ محمد) افندى الطرنوى احد أعضاء مجلس التدقيقات الشرعية ومدرس جامع السلطان محمد الفاتح والعالم الفاضل والمدقق الكامل الصالح التقى حضرة الأستاذ (الحاج محمد شكرى) افندى مفتى العساكر الشاهانية وحضرة العالم النحرير صاحب الفكر الصائب (إسماعيل صائب) من مدرس جامع السلطان با يزيد والعالم الفاضل المدقق (احمد رفعت) بن عثمان حلمي المصحح بدار الطباعة العثمانية والعالم الفاضل المدقق الكامل الحافظ (محمد خيرى) المدرس بجامع والده عتيق بمدينة الاسكدار. والعالم الفاضل الكامل (محمد كامل) القرة حصارى المدرس بجامع السلطان با يزيد شكر الله مسعاهم وبارك لهم في محياهم ومأواهم فجاء بحمد الله ولطيف كرمه كتابا مباركا وتفسيرا شريفا يتبختر في حلل الطبع الفاخرة ويجر زيل البهو على النجوم الزاهرة وذلك بالطبعة العثمانية الكائنة في دار الخلافة العلية صانها الله عن الآفات والبلية وكان ختام طبعه وادراك ينعه في أوائل شهر الله رجب المرجب من سنة (1326) ست وعشرين وثلاثمائة وألف من الهجرة المحمدية على صاحبها وآله ازكى الصلاة وآلاف من التحية

قرضه من أفاضل علماء يمن فريد عصره ووحيد دهره مولانا وسيدنا محمد بن حسن دلال الصنعاوى الحمد لله رب العالمين على نعمه التي دقيقها جليلها والصلاة والسلام على حبيبه القائل أمتي كالغيث لا يدرى آخرها خير أم أولها وعلى آله وأصحابه واتباعه الذين أدركوا من العلوم أنوارا لاحت جواهرها وفواصلها وبعد فان مما برز الى الظهور من مكامن خزائن الأسرار وظهر بدرا فاضلا في رابعة النهاء التفسير الشريف الذي عز عن النظار والانظار واستخرجه مؤلفه بصفاء باطنه من خزائن الأسرار فكان روضة زاهية الازهار وجنة تجرى من تحتها الأنهار فلهذا سماه الفواتح الغيبية للواردات الإلهية وصار كما قال رحمه الله مطابقا اسمه معناه وسالما عن كل اعتراض مبناه ولا غرو فمؤلفه البحر الغطمطم والنور المطلسم خاتمة اهل الوراثة مجدد آثار من تقدم العارف بالله العلامة الرباني نعمة الله بن محمود النخجوانى المعروف بعلوان الفائق للاقران ولقد ابرز فيه ما خفى من اسرار القرآن والقى الجواهر للملتقط مناديا بكل احسان رحم الله تعالى مثواه وجعل الجنة مأواه وفهمنا اسرار مبانى كتابه ومعناه وقد بسطت النعمة على الأمة بنشره مطبوعا بهمم عالى الهمم فاتح المقفلات حلال المشكلات المتمسك بأذيال اهل الولايات مولانا الحاج احمد مختار بك الكريدى ثم الاستانبولى حرسه الله تعالى بالآيات وكتب له الأجور المضاعفات فيا من له بالقرآن العظيم شغف عظيم لقد جاءكم تفسير كريم عليه أنوار القبول وآثار الفتوح من رب رحيم فبادروا الى قراءته بتأمل معانيه والتفكه بتلاوة مثانيه ففي كل لفظ منه روض من المنى وفي كل سطر منه عقد من الدر والحمد لله رب العالمين وعلى نبيه وآله وصحبه الصلاة والسلام في كل حين حرره احقر الرجال محمد بن حسن دلال الصنعاوى

§1/1