الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات
عثمان ابن جامع
الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات تأليف عثمان بن عبد اللَّه بن جامع الحنبلي . . . - 1240 هـ تحقيق الدكتور عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم الجزء الأول
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات 1
بسم اللَّه الرحمن الرحيم غاية في كلمة مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1424 هـ - 2003 م جميع الحقوق محفوظة 2003 م. لا يُسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكِّن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن مسبق من الناشر.
مقدمة التحقيق [جـ 1، 2]
مقدمة: إن الحمد للَّه نحمده ونستعيه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد فقد يسر اللَّه تعالى لي، ولأخي الشيخ الدكتور عبد اللَّه بن محمد البشر، الانتهاء من تحقيق كتاب: "الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات" لمؤلفه الشيخ عثمان بن عبد اللَّه بن جامع الحنبلي، وذلك لنيل درجة الدكتوراة في الفقه المقارن، من المعهد العالي للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد حظينا في هذا العمل بإشراف صاحب الفضيلة الشيخ العلامة عبد العزيز ابن عبد اللَّه آل الشيخ -مفتي عام المملكة العربية السعودية- حفظه اللَّه ونفع بعلومه. وقد كان نصيبي من تحقيق هذا الكتاب: قسمه الأول، من أوله إلى آخر باب الهبة. وأكمل أخي الشيخ الدكتور عبد اللَّه البشر الكتاب إلى آخره. ورغبة منا في عموم نفع الكتاب، أقدمنا على طباعته، مع مراعاة حذف لبعض التعليقات، وتصحيح لبعض الأخطاء. وسأقتصر في هذه المقدمة على الحديث عن المؤلِّفِ ومؤلَّفِه. أسأل اللَّه أن ينفع بهذا الكتاب، وأن يجزي مؤلفه ومحققيه خير الجزاء. وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد.
الفصل الأول: مؤلف الكتاب
الفصل الأول: مؤلف الكتاب، وفيه عشرة مباحث: المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده. المبحث الثاني: نشأته وطلبه للعلم. المبحث الثالث: أهم أعماله. المبحث الرابع: صفاته. المبحث الخامس: عقيدته ومذهبه. المبحث السادس: وفاته ورثاء الناس له. المبحث السابع: شيوخه. المبحث الثامن: تلاميذه. المبحث التاسع: مكانته العلمية. وفيه مطلبان: المطلب الأول: الجوانب العلمية. المطلب الثاني: وصفه من حيث التقليد والاجتهاد. المبحث العاشر: مؤلفاته عامة ومنهجه فيها.
المبحث الأول اسمه، ونسبه، ومولده
المبحث الأول اسمه، ونسبه، ومولده هو عثمان بن عبد اللَّه بن جمعة بن جامع بن عبد ربه، الأنصاري، الخزرجي. وعبد ربه هذا، عُرفَ باسم: عُبَيْد. وأصل هذه الأسرة من المدينة المنورة، قدِمَ جَدُّهم: جامع بن عبد ربه هو وأخوه من المدينة إلى بلدة القصب من إقليم نجد، ثم انتقلا من القصب إلى بلدة جلاجل، وفيها وُلد ابنه: جمعه، فلما كبر جمعة رحل إلى الشام لطلب العلم، فطلب حتى أصبح عالمًا، وهو: جدُّ المؤلف الشيخ عثمان (¬1). أما عن مولده، فلم أر من ذكر تاريخ ولادته، ولا مكانها، وأظنها في "الأحساء" حيث هو معدود في أهلها، على ما سيأتي. المبحث الثاني نشأته، وطلبه للعلم أسرة آل جامع أسرة عِلم، حيث فيها علماء كثر: فجدُّهم جمعة من العلماء الذين رحلوا إلى الشام من نجد للاستفادة، وقد رافقه في هذه الرحلة ابن عم له هو: عبد الرحمن للغرض نفسه (¬2). كان لهذه الأسرة أثر كبير على تَدَيُّن الشيخ عثمان وحبه للعلم. ¬
المبحث الثالث أهم أعماله
ولم تحدثنا مصادر ترجمته عن بداية نشأته. إلا أنه أخذ العلم في مدينة الأحساء عن علمائها الكبار، الشيخ محمد بن فيروز (¬1)، وأبيه الشيخ عبد اللَّه بن فيروز، لازم الأول ملازمة تامة، حتى تخرج على يديه، وعرف بالتتلمذ عليه، بل أجازه شيخه إجازة مدح تحصيله فيها، وأثنى على فهمه وإدراكه، حيث قال فيها: (وقرأ على الوالد قليلًا من "مختصر المقنع" ثم اشتغل على يد الفقير في الفقه، والفرائض، والعربية، ففتح اللَّه عليه، وأدرك إدراكًا تامًا، مع حسن السيرة، والورع، والعفاف، والكرم، والعبادة، والصلاح. . .) اهـ (¬2) كما أنه رحل رحلات لطلب العلم: فقد رحل إلى مكة المكرمة، والمدينة المنورة، حيث درس فيهما على العلماء: الفقه، والمواريث، والحساب، والأدب (¬3). كما سافر إلى الشام، وحلب (¬4). المبحث الثالث أهم أعماله 1 - القضاء: تولى القضاء في البحرين، وفي الزبير. أما قضاؤه في البحرين فقد باشره سنين عديدة، إلى أن توفي بها، سنة 1240 هـ. ولم يذكر من ترجمه متى كان ذهابه إلى البحرين. لكن وقفت على وثيقة وقف وثقها هو، مهرها بخاتمه، في 27 ربيع الأول سنة 1236 هـ. جاء فيها: (حرره عثمان بن عبد اللَّه بن جامع الحنبلي، القاضي في محروسة ¬
البحرين عفا اللَّه عنه وعن جميع المسلمين بمنه وكرمه. حرر في 27 ربيع 1 سنة 1236) (¬1). وقد نص المترجمون للمؤلف على أن توليه قضاء البحرين كان بطلب من أهلها، وجهوه إلى شيخه ابن فيروز، فأرسله إليهم. قال ابن حميد (¬2): ثم طلبه أهل البحرين من شيخه المذكور، ليكون قاضيًا لهم، ومفتيًا، ومدرسًا، فأرسله إليهم، فباشره سنين عديدة، بحسن السيرة، والورع والعفة والديانة والصيانة، وأحبه عامتهم وخاصتهم. اهـ أما قضاؤه في الزبير، فقد أشار إليه عثمان بن سند في كتابه "سبائك العسجد" (¬3) فقال: سكن الزبير وتولى القضاء فيه. اهـ فلعل ذلك كان قبل توليه قضاء البحرين. 2 - الإفتاء، والتدريس: أثبت ذلك ابن حميد في "السحب الوابلة" (¬4) وقد باشر ذلك في البحرين. 3 - الإمامة والخطابة: تولى الإمامة والخطابة في مسجد "النجادى" بالزبير. وقام بهذه الوظيفة خير قيام (¬5). ¬
المبحث الرابع صفاته
وجامع "النجادى" لا يتولى إمامته وخطابته إلا من تولى القضاء والإفتاء وتدريس علوم الشريعة (¬1). المبحث الرابع صفاته أما صفاته الخَلْقيَّه: فلم أقف على من ذكرها من مترجميه. أما صفاته الأخرى: فإن اجتهاده في العبادة صفة تستوقف من ترجمه، مما يعني أن الرجل كان مجتهدًا في الطاعة، حريصًا على كثرة العبادة، ولما مدحه عثمان بن سند في ترجمته، قال فيه شعرًا منه: إذا قرأ القرآن سالت دموعه ... ولاح على الخدين منه خشوعه إذا اسودَّ جنح الليل قام مصليًا ... وقعقع من خوف الإله ضلوعه (¬2) كما وصفه شيخه الشيخ محمد بن فيروز في إجازته له، فقال: وأدرك إدراكًا تامًّا، مع حسن السيرة، والورع، والعفاف، والكرم، والعبادة، والصلاح. اهـ (¬3). وقال ابن حميد (¬4) في ترجمته: الفقيه، النبيه، الورع، الصالح. اهـ ووصفه عثمان بن سند في "سبائك العسجد" (¬5) بأنه تصدر في السادة ¬
المبحث الخامس عقيدته، ومذهبه
الحنبلية، وفاق مشايخه بلا ارتياب. اهـ كما أن المؤلف شاعر، شعره شعر الفقهاء، وبينه وبين الشاعر المعروف: عبد الجليل ياسين، مساجلات شعرية (¬1). ومما نقل من شعره: إلهي بعفو يا رب أطمع ... فلا تخزني يومًا به الخلق تجمع وخذ بيدي ذات اليمين وأعطني ... كتابي باليمنى فعفوك أوسع (¬2) المبحث الخامس عقيدته، ومذهبه أما مذهبه الفقهي فهو المذهب الحنبلي. أثبت ذلك هو بخط يده في عنوان كتابه "الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات" حيث جاء فيه: جمع الفقير إلى عفو ربه الغني عثمان بن عبد اللَّه بن جامع النجدي الحنبلي. عفا اللَّه عنه وعن جميع المسلمين بمنه وكرمه (¬3). اهـ وكذا جاء في بعض الوثائق التي حررها بيده (¬4). وقد اتفق من ترجمه على ذلك (¬5). أما عقيدته: فهو مناوئ للدعوة الإصلاحية دعوة الحق التي قام بها الشيخ الإمام ¬
شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب -رحمه اللَّه تعالى رحمة واسعة- كيف لا يكون كذلك وشيخه ابن فيروز ألدُّ أعداء الدعوة، وحامل لواء الطعن فيها. ومن ثمراته في ذلك: المؤلف -عفا اللَّه عنهما- فقد تأثر بشيخه، حتى كان غيضه على الدعوة وأهلها ليفيض في عبارته التي جاءت في ثنايا مؤلَّفه هذا، فشانه بها، حيث قال في كتاب الصلاة (ص 207) عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (طاغية العارض) وقد رددت عليه هناك، فأغنى عن إعادته. وهذا يدل على خلل في العقيدة عنده، لأن المعارضة للشيخ محمد بن عبد الوهاب إنما هي معارضة لما وضحه وقرره من عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة، فالطعن فيه دلالة على سوء عقيدة الطاعن. وهذا منهج للسلف -رضي اللَّه عنهم- يعرفون سوء عقيدة المرء بطعنه في علماء السنة وقدحه فيهم. أخرج اللالكائي في "السنة" (¬1) عن أحمد بن عبد اللَّه بن يونس أنه قال: امتحن أهل الموصل بمعافى بن عمران، فإن أحبوه فهم أهل السنة، وإن أبغضوه فهم أهل بدعة، كما يمتحن أهل الكوفة بيحيى. وعن قتيبة أنه قال: إذا رأيت الرجل يحب أهل الحديث مثل يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه -وذكر قومًا آخرين- فإنه على السنة. ومن خالف هؤلاء فاعلم أنه مبتدع. قلت: محمد بن عبدالوهاب في زمنه كأحمد بن حنبل في زمنه. ومما يكشف عقيدة المؤلف أنه ذكر في الكتاب (ص 205، 206) عبد القادر الجيلاني، فقال: شيخنا. ويعني بذلك أنه على الطريقة الصوفية المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني -رحمه اللَّه تعالى- وهي مشتملة على ¬
المبحث السادس وفاته، ورثاء الناس له
بدع معروفة، وخرافات مرفوضة (¬1). المبحث السادس وفاته، ورثاء الناس له أرَّخ ابن حميد وفاته بسنة (1240 هـ) (¬2) وفي "علماء نجد" (¬3) لابن بسام أن وفاته كانت بالبحرين. المبحث السابع شيوخه أخذ المؤلف العلم في عدة بلدان هي: الأحساء، موطنه، ومكة، والمدينة، وسافر -أيضًا- إلى الشام، وحلب. وقد تلقى عن جماعة من أهل العلم في تلك البلدان. بيد أنه لم يُسَمَّ من شيوخه سوى: 1 - عبد اللَّه بن محمد بن عبد الوهاب بن فيروز، من وهبة تميم، نجدي الأصل، حيث أن آل فيروز انتقلوا من بلدة أشيقر بالوشم إلى الأحساء (¬4). ولد في 6 شعبان سنة 1105 هـ كما ذكر ذلك ابنه محمد (¬5). هو من فحول العلماء، أثنى على معرفته بعقيدة الإمام أحمد: الشيخ محمد بن عبد الوهاب. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في "المقامات" (¬6): ثم إن شيخنا رحمه اللَّه ¬
تعالى -يعني الشيخ محمد بن عبدالوهاب-: رحل إلى الأحساء، وفيها فحول العلماء، منهم عبد اللَّه بن فيروز -أبو محمد الكفيف- ووجد عنده من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ما سُرَّ به، وأثنى على عبد اللَّه هذا بمعرفته بعقيدة الإمام أحمد. . اهـ وقال ابن حميد (¬1): مَهَرَ في الفقه وأصوله، وأصول الدين، وغيرهما، ودرَّس، وأفتى، وأجاب على أسئلة عديدة بأجوبة سديدة، وكان دينًا، صينًا، تقيًّا، نقيًّا، ذا أوراد وتأله وعبادة. اهـ وكانت وفاته في رجب، سنة 1175 هـ، كما أثبته الغزي في "طبقاته" (¬2) ونقل ابن بسام (¬3) عن ابنه محمد أنه توفي فجر يوم الأحد، السادس من رجب، في السنة المذكورة. وقد درس عليه المؤلف الشيخ عثمان، كما أثبت ذلك محمد بن فيروز في إجازته له. حيث قال: وقرأ على الوالد قليلًا من "مختصر المقنع" (¬4) اهـ 2 - محمد بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الوهاب بن فيروز. ابن للسابق، ولد في المبرَّز التابع لمدينة الأحساء في 18 ربيع الأول 1142 هـ وكفَّ بصره بالجدري، وهو ابن ثلاث سنين (¬5). أخذ العلم عن والده، وعن الشيخ محمد بن عفالق، والشيخ محمد حياة السندي المدني، وغيرهم. عالم متقن، سيما في الفقه، درس على يده خلق كثير من أهل الأحساء، وغيرهم، وتخرَّجوا عليه (¬6). ¬
المبحث الثامن تلاميذه
وممن تخرج عليه المؤلف الشيخ عثمان، حيث لازمه ملازمة تامة. قال عنه ابن فيروز: ثم اشتغل على الفقير في الفقه والفرائض والعربية، ففتح اللَّه عليه (¬1). اهـ 3 - قرأ المؤلف على علماء في مكة، والمدينة (¬2)، ولم يسمِّ المترجمون له هؤلاء العلماء. المبحث الثامن تلاميذه نص المترجمون على أن المؤلف قد قام بالتدريس في البحرين، وفي الزبير -أيضًا- (¬3) إلا أنهم لم يسموا أحدًا ممن درس على يده. حتى أنهم لم يذكروا ابنه عبد اللَّه من تلاميذه، بل جاء في ترجمة عبد اللَّه بن عثمان بن جامع: أخذ العلم هو ووالده عن الشيخ محمد بن فيروز (¬4). المبحث التاسع مكانته العلمية، وفيه مطلبان المطلب الأول: الجوانب العلمية. برز المؤلف في علم الفقه، خصوصًا الحنبلي. ومؤلفه هذا يدل على عنايته الفائقة بالفقه الحنبلي، وإدراكه فيه إدراكا جيدًا، وقد أثنى عليه في هذا الجانب جماعة من المتمكنين فيه: فشيخه محمد بن فيروز يثني عليه بقوله: ¬
المطلب الثاني: وصفه من حيث التقليد والاجتهاد.
ثم اشتغل على الفقير -يعني نفسه- في الفقه والفرائض والعربية، ففتح اللَّه عليه، وأدرك إدراكًا تامًّا. اهـ (¬1) وقال عثمان بن سند النجدي ثم البصري (¬2) اهـ: تصدَّر في السادة الحنبلية (¬3). وقال ابن حميد في "السحب الوابلة" (¬4): الفقيه، النبيه، الورع، الصالح. اهـ كما أن المؤلف له إلمام بالفرائض والنحو، كما أشار إلى ذلك شيخه ابن فيروز. كما أن له إلمامًا بعلم الحساب، والأدب. أشار إلى ذلك ابن سند في ترجمته له (¬5). المطلب الثاني: وصفه من حيث التقليد والاجتهاد. ليس المؤلف من أهل الاجتهاد، بل هو مقلدٌ، وكتابه هذا واضح في أن المؤلف متقيد بالمذهب، وليس له اجتهادات فقهية، لا في المذهب، ولا خارج المذهب. المبحث العاشر مؤلفاته عامة ومنهجه فيها لم يذكر المترجمون للمؤلف مؤلفات سوى كتابه: "الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات" وسيأتي الحديث عنه مفصلًا. ¬
الفصل الثاني الكلام عن الكتاب المحقق
الفصل الثاني الكلام عن الكتاب المحقق. وفيه عشرة مباحث: المبحث الأول: إثبات نسبة الكتاب إلى المؤلف، ووصف المخطوطة وبيان مكان وجودها. المبحث الثاني: تعريف موجز بالكتاب. المبحث الثالث: منزلته بين كتب الفقه بعامة وبين كتب مذهبه بخاصة. المبحث الرابع: منهجه في الكتاب. المبحث الخامس: مصادره في الكتاب. المبحث السادس: الكتاب من حيث التبعية والاستقلال. المبحث السابع: اختياراته الفقهية في الكتاب. المبحث الثامن: محاسن الكتاب. المبحث التاسع: الملحوظات على الكتاب. المبحث العاشر: الأبواب والفصول التي يتناولها التحقيق.
المبحث الأول إثبات نسبة الكتاب إلى المؤلف ووصف المخطوطة وبيان مكان وجودها
المبحث الأول إثبات نسبة الكتاب إلى المؤلف ووصف المخطوطة وبيان مكان وجودها كتاب "الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات" ألفه الشيخ عثمان قطعًا. وأدلة ذلك: أن الكتاب بخط مؤلفه. وذلك واضح بعد المقارنة بين خط الكتاب وبعض الوثائق التي كتبها ومهرها بخاتمه. وقد أثبت ذلك الشيخ محمد بن ناصر العجمي في كتابه "نوادر مخطوطات علامة الكويت الشيخ عبد اللَّه بن خلف الدحيان في مكتبة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية" (¬1) حيث قال في وصف النسخة: نسخها المؤلف في يوم الجمعة في غرة ذي الحجة الحرام سنة 1224 هـ بمدينة المبرز في الأحساء، وقد شارك أحد النساخ في بعض الورقات من الكتاب. كما أن الذي جعلني أجزم أنه بخط المؤلف ثلاثة أمور: (أ) خط المؤلف. فقد سبق في مخطوطة "التيسير" للداني (ص 29) تملك له على هذا المخطوط بخطه، وبالموازنة بينهما تبين أنه نفس الخط. (ب) كثرة الضرب بالقلم على بعض السطور والكلمات والتصحيح في الحاشية بنفس الخط. (ب) تاريخ نسخ الكتاب في حياة المصنف. اهـ قلت: وفي بلد المؤلف الأحساء كان النسخ -أيضًا-. وقد أثبت المترجمون له أن هذا الكتاب من تأليفه. نص على ذلك شيخه ابن فيروز، وابن حميد، وابن سند، وابن بسام في "علماء نجد" وغيرهم (¬2). ¬
المبحث الثاني تعريف موجز بالكتاب
وقال ابن حميد في "الدر المنضد في أسماء كتب مذهب الإمام أحمد" (¬1): عثمان بن جامع النجدي: [له] شرح "أخصر المختصرات": جلد كبير. اهـ وهذه المخطوطة منسوخة بخط نسخي مقروء. كتبها المؤلف في الأحساء. وانتهى منها في يوم الجمعة من شهر اللَّه المحرم سنة 1224 هـ. وفي بعض الصفحات خط مغاير لخط المؤلف لعله أحد النساخ يعينه في النسخ. وعدد ورقاتها (375) ورقة. في كل ورقة (25) سطرًا، وطول الورقة في عرضها 22 * 15 سم. وقد كتب المتن والتبويبات بالحمرة. وفي بعض الصفحات أثر بلل من ماءٍ أو ندى. وهي محفوظة في مكتبة الشيخ عبد اللَّه بن خلف الدحيان (¬2). ثم انتقلت إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت. وهي مسجلة عندهم تحت رقم (39) (¬3). المبحث الثاني تعريف موجز بالكتاب اسم الكتاب الذي سماه به مؤلفه: "الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات". ¬
فهو شرح على متن من متون الحنابلة، هو: "أخصر المختصرات في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل" تأليف الشيخ محمد بن بدر الدين بن بلبان الدمشقي الحنبلي. ولد بدمشق سنة 1006 هـ تقريبًا. قال الغزي (¬1): وكان من كبار أصحاب الشهاب أحمد بن أبي الوفا الوفائي المقدم ذكره في الحديث والفقه، ثم زاد عليه في معرفة فقه المذاهب زيادة على مذهبه، فكان يقرئ في المذاهب الأربعة. . انتهت إليه رئاسة العلم بالصالحية بعد وفاة الشيخ علي القبردي. . اتفق أهل عصره على تفضيله وتقديمه. اهـ بتصرف. ألف مؤلفات في المذهب بديعة، منها: 1 - "مختصر الإفادات في ربم العبادات والآداب وزيادات" (¬2). 2 - متن "كافي المبتدي" (¬3) ثم اختصر هذا المتن في: 3 - "أخصر المختصرات" (¬4) وهو الكتاب المشروح بـ "الفوائد المنتخبات" لعثمان بن جامع. وشرح -أيضًا- بكتاب "كشف المخدرات ¬
والرياض المزهرات شرح أخصر المختصرات في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل الشيباني رضي اللَّه عنه" لزين الدين عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن أحمد البعلي (¬1). توفي ابن بلبان -رحمه اللَّه تعالى- ليلة الخميس 9 رجب سنة 1083 هـ (¬2). ومتن "أخصر المختصرات" له مكانة عالية عند الحنابلة. قال العلامة ابن بدران في وصفه (¬3): تأملته فوجدته: سهل العبارة، واضح المعاني. وهو على صغر حجمه إذا تأمله الذكي لا يحتاج في فهمه إلى موقف، وينتفع به الصغير والكبير. وهو من المتون المعتمدة في المذهب. اهـ وقال الغزي (¬4): له مختصر في الفقه في المذهب: صغير الحجم كثير الفائدة. اهـ فبان بذلك أن كتاب "الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات": شرح لمتن مهم جدًا في فقه الحنابلة، لعلو منزلة مؤلفه، وقوة تحريره، وسهولة عبارته. وقد قام المؤلف بشرح غريب هذا المتن، والاستدلال للأحكام الواردة فيه، والعناية بالتعليل، مقتصرًا على بيان مذهب الحنابلة. ويذكر أحيانًا الخلاف في المذهب، وأحيانًا الخلاف بين سائر المذاهب الفقهية الأربعة. وسيأتي بيان ذلك في الحديث عن منهج المؤلف في كتابه. ¬
المبحث الثالث منزلته بين كتب الفقه بعامة، وبين كتاب مذهبه بخاصة
المبحث الثالث منزلته بين كتب الفقه بعامة، وبين كتاب مذهبه بخاصة الكتاب أثنى عليه جماعة، منهم من هو حنبلي المذهب، ومنهم من ليس حنبليًّا، إلا أن ثناءهم عليه مقيد بمدحه بين سائر كتب المذهب الحنبلي. فهذا شيخه ابن فيروز -وهو من المتقنين للمذهب- يقول في إجازته للمؤلف: وشرح أخصر المختصرات للشيخ البلباني شرحًا مبسوطًا، وجمع من الفوائد زبدة كتب المذهب (¬1). اهـ وقال عثمان بن سند، المالكي المذهب، في كتابه "سبائك العسجد" (¬2) عن المؤلف: وشرح "أخصر المختصرات" في المذهب، شرحًا أبان عن فضله وأعرب. اهـ وقال ابن حميد في "السحب الوابلة" (¬3): وصنَّف "شرح أخصر المختصرات" شرحًا مبسوطًا، نحو ستين كراسًا، جمع فيه جمعًا غريبًا. اهـ فثناء هؤلاء العارفين بالمذهب على مؤلفه هذا يدل على أن لكتابه منزلة بين كتب المذهب. ¬
المبحث الرابع منهجه في الكتاب
المبحث الرابع منهجه في الكتاب أشار المؤلف في مقدمة كتابه إلى أن غالب اعتماده في شرحه على: شرحي الإقناع، والمنتهى، وحاشيتيهما. الجميع للعلامة الشيخ منصور البهوتي -رحمه اللَّه تعالى-. وقد اعتمد المؤلف فعلًا على هذه الكتب، خصوصًا "شرح منتهى الإرادات" فقلَّ أن يخرج المؤلف عن عبارته وسياقه. ولذا جعلت "شرح منتهى الإرادات" كالنسخة الأخرى للكتاب، أقابل عليها، وأكشف من خلالها ما لم يتضح لي في المخطوط، سيما بعض الصفحات التي نابها شيء من الماء أو الندى. وإذا خرج المؤلف عن عبارة "شرح المنتهى" فإنه ينقل تقريرًا لشيخه ابن فيروز. كما في (ص 99، 60، 381) وغيرها وهو قليل جدًا. ويبدأ المؤلف بذكر المتن لأخصر المختصرات، مميزًا بلون أحمر، وقد وضعته أنا بين قوسين في هذا المطبوع، ثم يشرح المؤلف عبارة الماتن، وذلك بما يلي: أ - لغويًّا، وهو قليل. ب - يورد الأدلة من الكتاب، والسنة، والآثار. وقلَّ أن يرد مسألة إلا ويستدل لها المؤلف. جـ - يورد التعليلات للأحكام، خصوصًا إذا لم يكن هناك أدلة منصوصة في المسألة. وقد يورد المؤلف خلافًا في المذهب دون ترجيح، كما في (ص 224) (ص 107) وقد يورد الخلاف مرجحًا، كما في (ص 226)، كما أنه يورد
المبحث الخامس مصادره في الكتاب
أحيانًا أقوال بقية الأئمة الأربعة كما في (ص 564). وقد يورد أقوالًا لأئمة المذاهب مخالفة للمذهب وينتصر للمذهب، كما في (ص 770). ويورد الخلاف مطلقًا كما في (ص 9) و (ص 269) و (ص 337) وينقل المؤلف عن بعض العلماء غير الحنابلة، وذلك لتوضيح حديث، أو مسألة لا تتعلق بصلب موضوع الفقه، كما في نقله عن ابن العربي المالكي (ص 8) في موضوع عدد أسماء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وكما في نقله عن النووي في "شرح مسلم" و"التبيان" (ص 8، 284، 343) وغيرها. ويهتم المؤلف بإيراد الإجماعات، منصوصة أحيانًا إلى من حكاها، كما في (ص 336، 444) حيث نقل عن ابن المنذر. و (ص 140، 444) كما نقل عن ابن عبد البر. وأحيانًا يورد الإجماع دون ذكر من حكاه (ص 97، 112). ويعزو المؤلف -أحيانًا- إلى بعض كتب المذهب، كالمغني، والشرح الكبير، والإنصاف، وغيرها، كما في (ص 402، 436، 869، 892) إلا أن المؤلف إنما ينقل عنها بواسطة: "شرح منتهى الإرادات" أو "كشاف القناع". ويورد اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية، تبعًا لما يورده في "شرح منتهى الإرادات" كما في (ص 425). المبحث الخامس مصادره في الكتاب أشار المؤلف في مقدمة كتابه أنه يعتمد غالبًا على أربعة كتب، كلها من تأليف الشيخ العلامة منصور البهوتي -رحمه اللَّه تعالى-: 1 - "كشاف القناع عن متن الإقناع". 2 - "شرح منتهى الإرادات".
المبحث السادس الكتاب من حيث التبعية والاستقلال
3 - "حاشية الإقناع". 4 - "حاشية على المنتهى" المسماة: "إرشاد أولي النهى لدقائق المنتهى". وقد تبين لي -كما قدمت- أن غالب اعتماده على "شرح منتهى الإرادات" من بين هذه الأربعة. وجميع ما ورد من كتب غيرها، كالمغني، والشرح الكبير، والإنصاف، والفروع، والمبدع، وغيرهما، إنما ينقله بواسطة الشيخ منصور البهوتي في أحد كتابيه "شرح منتهى الإرادات" و"كشاف القناع عن متن الإقناع" كما تقدم. المبحث السادس الكتاب من حيث التبعية والاستقلال تبع المؤلف الشيخ منصور البهوتي في عبارته وأسلوبه ومعلوماته التي أودعها كتابه "شرح منتهى الإرادات" ولم يخرج عن ذلك إلا قليلًا نادرًا. فوظيفة المؤلف تنزيل عبارة البهوتي على ترتيب متن "أخصر المختصرات". وهذه إحدى طرق التأليف، سيما عند الفقهاء. فكتاب "شرح منتهى الإرادات" هو مختصر لكتاب "معونة أولي النهى شرح المنتهى" للفتوحي، كما أشار إلى ذلك البهوتي في المقدمة (¬1). حيث قال: ولخصته من شرح مؤلِّفه -يعني "معونة أولي النهى"- وشرحي على الإقناع. اهـ والمؤلف قد ظهرت شخصيته العلمية في القدرة على صياغة العبارة من "شرح منتهى الإرادات" ملائمة لمتن: "أخصر المختصرات" إذ يحتاج إلى تقديم جمُل وتأخير أخرى، وهكذا، ولا يقوى على ذلك إلا من له خبرة ودربة في الفقه. فالكتاب ليس له استقلالية كاملة، بل هو أشبه بالاختصار والتهذيب لكتاب "شرح منتهى الإرادات" وإضافة بعض المعلومات من: "كشاف القناع عن متن الإقناع" و"حاشية المنتهى" و"حاشية الإقناع" الجميع للعلامة منصور البهوتي. ¬
المبحث السابع اختياراته الفقهية في الكتاب
المبحث السابع اختياراته الفقهية في الكتاب له -رحمه اللَّه تعالى- بعض الاختيارات، من ذلك: أنه لما ذكر مسألة تكرار السورة في ركعتين، وأورد حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كرر سورة الزلزلة في ركعتين. قال: قلت: والذي يظهر -واللَّه أعلم- أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كررها لسبب فضلها. . اهـ ينظر (ص 183) وقد تعقبته هناك. المبحث الثامن محاسن الكتاب الكتاب: وحيدُ المؤلِّف، وصاحب الواحد يبدع غالبًا. لقد اجتهد المؤلف في تحرير الكتاب وتهذيبه، وذلك واضح من كثرة الانتقال إلى الهامش لإثبات معلومة، أو تصحيح خطأ كتابي. وهذا دليل على مراجعة المؤلف له مرات عديدة. ويظهر -واللَّه أعلم- أن الشيخ محمد بن فيروز له إشراف على الكتاب، وذلك لأن التأليف كان بالأحساء زمن ابن فيروز، والمؤلف تلميذ خاص له، فلعل التصحيحات في الهامش توجيه من الشيخ ابن فيروز. ولذا فإن ابن فيروز مدح الكتاب مدح من سمعه كاملًا. فقال: وشرح أخصر المختصرات للشيخ البلباني شرحًا مبسوطًا، وجمع من الفوائد زبدة كتب المذهب. اهـ (¬1) وهذا الثناء من شيخ المؤلف يعد من مناقب الكتاب، لأن ابن فيروز من المتقنين للمذهب الحنبلي. ومما يعد من محاسن هذا الكتاب تصريح مؤلفه في مقدمته بأنه اعتمد ¬
المبحث التاسع الملحوظات على الكتاب
على كتب الشيخ منصور البهوتي: "كشاف القناع" و"شرح منتهى الإرادات" و"حاشيتيهما" وذلك أداء للأمانة، ونسبة للفضل إلى أهله. كما أن المؤلف يُعنى بالاستدلال للمسائل، ويكثر من ذلك. ولا يغفل الحكم على الأحاديث التي يُبنى حكم المسألة على تصحيحها وتضعيفها، أحيانًا. المبحث التاسع الملحوظات على الكتاب لا يخلو عمل الإنسان من نقص، ولا يسلم أحد من خطأ، إلا من عصم اللَّه تعالى. وكتاب "الفوائد المنتخبات" عليه ملحوظات هي: 1 - لا يخرج المؤلف عن نصوص: "شرح منتهى الإرادات" و"كشاف القناع" كلاهما للبهوتي، فإذا خرج فإنه يأتي بما هو ضعيف جدًا، أو مرفوض تمامًا: ففي (ص 99) لما ذكر الفقهاء: (وتخييره بين الدينار ونصفه، كتخيير المسافر بين القصر والإتمام) قال المؤلف: تنبيه: وقد ذكر في "الإنصاف" أن الكمال دينار. فإن قيل: فما معنى تشبيهه بتخيير المسافر بين القصر والإتمام، مع أن القصر في السفر مباح أفضل من الإتمام. وهنا الكمال الدينار، فما معنى تشبيهه بذلك؟ أجاب شيخنا محمد بن عبد اللَّه بن فيروز: أنه لا يلزم منه كون المشبه كالمشبه به. انتهى. ثم ألقى اللَّه في روعي شاهدًا من القرآن العزيز، وهو قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .. } فعلمت يقينًا صحة ما أجاب به شيخنا. ثم وقفت بعد ذلك على قول أبي تمام: لا تنكروا ضربي له من دونه. . إلخ.
فحمدت اللَّه على فهم هذه الدقيقة. . اهـ أقول: لما خرج المؤلف ليته خرج إلى قضايا مهمة لفهم دقائقها، وتوضيح غامضها. أما هذه فإن كون المشبه ليس كالمشبه به، من بدايات المعلومات لدى طلاب العلم، وليست بهذا الخفاء الذي صورها به المؤلف. 2 - حقده الشديد على الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه اللَّه- دفعه إلى تخبطه في قضية الدعاء بعد المكتوبة. فانظر إليه حيث تكلم في (ص 205) عن مسألة: دعاء الإمام بعد كل مكتوبة. فلما قررها واستدل لها بكل باطل، قال (ص 207): فحينئذ تبين لك فساد ما ذهب إليه. . ابن عبد الوهاب من نهيه عن رفع اليدين بالدعاء بعد الفراغ من الأذكار الواردة بعد أدبار الصلوات الكتوبة. ثم ذكر أن الشيخ استند على كلام ابن القيم في "زاد المعاد" ثم وافق المؤلف ابن القيم. فياللَّه العجب: كيف يصنع الحسد بأصحابه. تكلم أولًا عن مسألة الدعاء بعد الكتوبة واستدل لها. وهذا هو نفسه الذي ذمه ابن القيم، والشيخ محمد بن عبد الوهاب! ! ثم انتقل إلى صورة ثانية وهي الدعاء بعد الأذكار، وسب الشيخ محمد بن عبد الوهاب بها، ثم نقل كلام ابن القيم الذي صرح هو أن ابن عبد الوهاب اعتمد عليه، وقال: هو رد على ابن عبد الوهاب! ! فهل هذا جهل في التصور، أم حقد قاد إلى التلبيس؟ وقد رددت عليه هناك فليرجع إليه. 3 - ينسب إلى "شرح منتهى الإرادات" وغيره، بعض العبارات، وهي بخلاف ذلك كما في (ص 226) و (ص 237) وغيرها، وهو مثبت في هوامش الكتاب.
[مقدمة المصنف]
بسم اللَّه الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد للَّه الذي جعل الفقه في الدين من أفضل القربات لعباده، وشرح صدر من أراد هدايته للإسلام، فأمده بإمداده. والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أتم اللَّه به النعمة وأكمل به الدين، وعلى آله وأصحابه الذين أوضحوا لنا الأحكام على أحسن وجه، وأتم تبيين. أما بعد، فيقول الفقير إلى عفو ربه العلي عثمان بن عبد اللَّه بن جامع النجدي الحنبلي: إني لما وقفت على الكتاب الموسوم بـ "أخصر المختصرات"، للإمام المحقق الشيخ محمد البلباني الحنبلي -رفع اللَّه له الدرجات- (¬1) وجدته مع كونه في غاية الاختصار يشتمل على جل المسائل الكبار، ولا يستغني طالب العلم عن حفظه، لكن لم أجد له شرحًا يوضح الغامض (¬2) من لفظه؛ فاستخرت اللَّه -سبحانه وتعالى- على أن أعلق عليه شرحًا يميط النقاب عن وجوه مخدراته، ويبرز ما وراء الحجاب من خبياته، ويحرر مسائله، ويجرد دلائله، ضامًّا إليه من الفوائد الجليلات بحسب ما يمنحه مفيض النعم الجليات والخفيات. وغالب امتدادي في هذا الشرح المبارك من شرحي "الإقناع" و"المنتهى" و"حاشيتيهما" (¬3) -أمد اللَّه روح مؤلفهما بالرحمة والرضوان، ¬
وأسكنه أعلى غرف الجنان-. وإن لم أكن أهلًا لهذا الشأن، ولا من فرسان ذلك الميدان، لكن الظن بالله -سبحانه وتعالى- على المعونة جميل، لا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبي ونعم الوكيل. وسميته بـ "الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات"، واللَّه أسأل أن ينفع به كل من اعتنى به، وأن يرحمني والمسلمين ويجيرنا من عذابه. قال الشيخ -رحمه اللَّه تعالى-: (بسم اللَّه الرحمن الرحيم) ابتدأ كتابه -رحمه اللَّه تعالى- بها اقتداء بالكتاب العزيز، وعملًا بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، فهو أبتر". وفي رواية "فهو أقطع" (¬1) ومعناه ناقص البركة. (الحمد للَّه): الحمد لغة هو: الوصف بالجميل الاختياري على وجه التعظيم، سواء كان في مقابلة نعمة أم لا. وفي الاصطلاح: فعل ينبئ عن تعظيم المنعم؛ بسبب كونه منعمًا على الحامد أو غيره. والشكر لغة هو: الحمد اصطلاحًا. واصطلاحًا: صرف العبد جميع ¬
ما أنعم اللَّه به عليه لما خلق لأجله (¬1). (المفقِّه) أي: المفهم (من شاء من خلقه) ممن أراد به الخير (في الدين) والدين: ما شرعه اللَّه تعالى من الأحكام، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من يرد اللَّه به خيرًا يفقهه في الدين" (¬2). (والصلاة) التي هي من اللَّه الرحمة (¬3)، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدمي التضرع والدعاء. (والسلام): أي السلامة من النقائص والرذائل، أو الأمان (على نبينا) أي: ورسولنا (محمد) بالجر بدل من نبينا، والنبي: إنسان أوحي إليه بشرع، وإن لم يؤمر بتبليغه، فإن أمر بذلك فرسول أيضًا، فالنبي أعم من الرسول (¬4)، والنبيء بالهمز من النبأ، أي: الخبر؛ لأنه مخبر ¬
عن اللَّه تعالى، وبلا همز -وهو الأكثر- من النبوة، وهي: الرفعة؛ لأن النبي مرفوع الرتبة (¬1). ومحمد: اسم من أسماء نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي كما نقل بعضهم عن أبي بكر بن العربي (¬2)، والنووي (¬3) رحمهما اللَّه تعالى ألفُ اسمٍ (¬4)، سمي به؛ ¬
تتمة
لكثرة خصاله الحميدة، وسمي به قبله سبعة عشر شخصًا بخلاف أحمد، فلم يُسَمَّ به قبله أحد. تتمة: الصلاة عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- مستحبة بتأكد يوم الجمعة وليلتها، وكذا كلما ذكر اسمه، وقيل بوجوبها إذًا (¬1). قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ¬
وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬1)، وروي عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "من صلى عليّ في كتاب، لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب" (¬2). (الأمين) بالجر أيضًا، أي: أمين اللَّه على وحيه، قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء" (¬3). (المؤيد) أي: المقوّى (بكتابه) أي بكتاب اللَّه تعالى الذي أنزله عليه نجومًا (¬4) في. . . . ¬
ثلاثة (¬1) وعشرين سنة على الصحيح (¬2)، الذي نسخ جميع الكتب. (المبين) صفة لكتابه، والمبين: الظاهر أمره في الإعجاز، أو الواضحة معانيه والمبينة لمن تدبرها أنها من عند اللَّه (المتمسك بحبله المتين) أي: بدينه الإسلام أو بكتابه، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "القرآن حبل اللَّه المتين" (¬3) استعار له الحبل؛ من حيث أن التمسك به سبب النجاة عن الردى، كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة عن التردي. (وعلى آله): وهم أتباعه على دينه إلى يوم القيامة على الصحيح (¬4)، ¬
نص عليه الإمام أحمد -رحمه اللَّه تعالى- (¬1). ¬
(وصحبه أجمعين) جمع صاحب، بمعنى الصحابي: وهو من اجتمع بالنبي محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- مؤمنًا ومات على ذلك (¬1). وعطفهم على الآل من عطف الخاص على العام، وفي الجمع بينهم مخالفة لأهل البدع كالروافض (¬2) -قبحهم اللَّه تعالى- لأنهم يوالون الآل دون الصحب. (وبعد) يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى غيره، ويستحب الإتيان بها في الخطب والمكاتبات اقتداء به -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإنه كان يأتي بها في خطبه ونحوها، كما صح ذلك عنه (¬3). وقيل: إنها فصل الخطاب المشار إليه في الآية (¬4)، ¬
والصحيح أنه الفصل بين الحق والباطل. والمعروف بناؤها على الضم، وأجاز بعضهم رفعها ونصبها منونة، وفتحها بلا تنوين على تقدير المضاف إليه (¬1). (فقد سنح) أي: عرض (بخلدي) بفتح الخاء واللام، بمعنى البال والنفس والقلب، كما ذكره في "القاموس" (¬2) (أن أختصر كتابي المسمى بكافي المبتدي) الاختصار: الإيجاز، والمختصر الموجز. وهو: تقليل اللفظ وتكثير المعاني (¬3). قال علي -رضي اللَّه عنه-: خير الكلام ما قل ودل، ولم يطل فيملّ (¬4). انتهى (الكائن في فقه الإمام) أي: المقتدى به. والفقه لغة: الفهم (¬5). واصطلاحًا: معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بالفعل أو القوة القريبة (¬6). والفقيه: من عرف جملة غالبة، كذلك بالاستدلال. (أحمد) بدل ¬
من الإمام (بن محمد بن حنبل) الشيباني -رضي اللَّه عنه- المجتمع نسبه بنبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- في نزار (الصابر لحكم الملك المبدي) (¬1) حين حبس وضرب على القول بخلق القرآن، فلم يُجِبْ إلى ذلك وصبر لحكم اللَّه تعالى (ليقرب تناوله على المبتدئين) من صغار الطلبة. والقريب ضد البعيد (ويسهل حفظه) بسبب اختصاره (على الراغبين) في العلوم (ويقل حجمه على الطالبين) فلا تضعف هممهم عنه لكثرته. (وسمّيته) أي: هذا الكتاب (أخصر المختصرات؛ لأني لم أقف على) كتاب (أخصر منه) أي: من هذا الكتاب (جامع لمسائله في فقهنا) معشر الحنابلة، (من المؤلفات) والتأليف: إيقاع الألفة بين الأجزاء (واللَّه أسأل) لا غيره (أن ينفع به قارئيه) من غير حفظ، (وحافظيه) على ظهر قلب، (وناظريه) من غير قراءة ولا حفظ (إنه حقيق) (¬2) أي: خليق (بإجابة الدعوات) لأنه -سبحانه وتعالى- أمر بذلك، قال عز من قائل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬3) (و) اللَّه أسأل (أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم) لأنه -سبحانه وتعالى- لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا، وهو أغنى الشركاء عن الشرك، كما ورد في الحديث الشريف: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملًا أشرك فيه غيري، فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك" (¬4)، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر". ¬
[كتاب الطهارة]
قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال: "الرياء" (¬1). واللَّه أسأل أن يجعله (مقربًا لديه) (¬2)، أي: عنده (في جنان النعيم) لعدم انقطاع ثوابه ما دام الناس ينتفعون بعلمه. (وما توفيقي (¬3) إلا باللَّه) التوفيق: تسهيل سبيل الخير والطاعة، وقيل: هو أن لا يكلك اللَّه إلى نفسك طرفة عين. وقيل غير ذلك. والتوفيق عزيز جدًّا ولهذا لم يذكر في القرآن إلا في موضع واحد في سورة هود (¬4). (عليه توكلت): أي اعتمدت، (وإليه أنيب) أي أرجع فيما ينزل من النوائب، وقيل في المعاد (¬5). (كتاب) هو من المصادر السيالة التي توجد شيئًا فشيئًا. يقال كتبتُ كتابًا وكُتبًا وكتابة، ومعناه لغة الجمع، من تَكَتَّبَ بنو فلان إذا اجتمعوا. ¬
ومنه قيل لجماعة الخيل كتيبة، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف (¬1). والمراد هنا المكتوب، أي هذا مكتوب جامع لمسائل. (الطهارة) مما يتطهر به، ومما يوجبها، ونحو ذلك. مصدر طهر بالفتح والضم كما في "الصحاح" (¬2) ومعناها لغة: النظافة والنزاهة عن الأقذار حسيّة كانت أو معنوية (¬3). واصطلاحًا: رفع الحدث وما في معناه، وزوال الخبث (¬4). (المياه) باعتبار ما تتنوع إليه في الشرع (ثلاثة) أنواع: (الأول) منها (طهور) أي مطهّر، وهو بفتح الطاء، الطاهر في نفسه المطهر لغيره. وقدمه؛ لأنه أشرف الثلاثة (وهو) أي: الطهور (الباقي على خلقته) أي صفته التي خلق عليها إما حقيقة بأن يبقى على ما وجد عليه من برودة، أو حرارة، أو ملوحة ونحوها، أو حكمًا كالمتغير بطول الإقامة في مقره، وهو الآجن (¬5) أو بطاهر شق صون الماء عنه من نابت فيه، وورق شجر، وسمك، وما تلقيه الريح أو السيول من تبن ونحوه، وطحلب (¬6)، فإن وضع قصدًا، وتغير به الماء سلبه الطهورية، وإن تغير بالريح من مجاورة ميتة خارج الماء، أو سُخِّنَ بالشمس ولو في إناء منطبع، أو بطاهر مباح ولم يشتد حره، لم يكره. ¬
تتمة
تتمة: من الطهور ما لا يرفع حدث الرجل البالغ والخنثى، وهو: مما خلت به المرأة المكلفة لطهارة كاملة عن حدث، لما روي أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة. رواه الخمسة (¬1) إلا أن النسائي (¬2)، وابن ماجه (¬3) قالا: "وضوء المرأة" بدل "طهور" (¬4) فيرفع حدث الأنثى، وغير البالغ منه، ويجوز استعماله فيما عدا رفع الحدث للكل، فإن حضرها من تزول به خلوة النكاح من كبير وصغير، أو كان الماء كثيرًا لم تؤثر خلوتها. (و) منه (محرم) أي من الطهور ماء محرم (لا يرفع الحدث ويزيل الخبث) مع حرمة الاستعمال، (وهو) الماء (المغصوب) وما ثمنه المعين حرام، وماء آبار ثمود سوى بئر الناقة، (ومنه مكروه) مع عدم الحاجة إليه، وهو المتغير ¬
تنبيه
بغير ممازج، كتغيره بالعود القماري (¬1)، وقطع الكافور، والدهن، والملح المائي، والمسخن بالنجس إن لم يصل إليه شيء من أجزاء النجاسة، وما استعمل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء، وغُسل جمعة، وعيد، وغسلة ثانية وثالثة في وضوء أو غسل. تنبيه: الأحكام خمسة، وعليها تدور مسائل الفقه، فينبغي معرفتها من هنا: أحدها: واجب. ومعناه لغة: الساقط والثابت، يقال: وجبت الشمس إذا غربت، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا. . .} الآية (¬2). أي سقطت، لأن السنة نحر الإبل قائمة، ووجب البيع، لزم وثبت (¬3). واصطلاحًا: ما يثاب فاعله بنية، ويعاقب تاركه إن لم يُعْفَ عنه (¬4). وضده الحرام، ومعناه لغة: المنع والحظر (¬5). وشرعًا: ما يعاقب فاعله، ويثاب تاركه بنية أيضًا (¬6). ¬
الثالث: المندوب، ومعناه لغة: الدعاء لأمر مهم. قال الشاعر: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا (¬1) وشرعًا: ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه (¬2). قال في: "مختصر التحرير وشرحه" (¬3) وأعلاه أي: المندوب: سنة ثم فضيلة ثم نافلة. انتهى. وضد المندوب المكروه وهو لغة: ضد المحبوب (¬4). وشرعًا ما يثاب تاركه بنية، ولم يعاقب فاعله (¬5). الخامس: المباح، وهو لغة: المعلن والمأذون، يقال: أباح الرجل ماله، أذن في الأخذ والترك، وجعله مطلق الطرفين (¬6). وشرعًا: ما خلا من مدح وذم (¬7). (الثاني) من الثلاثة (طاهر) في نفسه غير مطهر لغيره، (لا يرفع الحدث ولا يزيل الخبث) ويجوز استعماله فيما عدا ذلك، (وهو المتغير بممازج طاهر) كالعجين واللبن ونحوهما، (ومنه يسير) لا كثير (مستعمل في رفع ¬
فائدة
حدث) أصغر كان أو أكبر، وكذا يسير انغمست فيه يد المسلم المكلف القائم من نوم ليل ناقض لوضوء قبل غسلها ثلاثًا، بنية وتسمية، وذلك واجب؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثًا، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده". رواه مسلم (¬1)، وكذلك البخاري (¬2) إلا أنه لم يذكر ثلاثًا (¬3). وعلم منه أنه لا أثر لغمس بعض اليد، ولا يد كافر، ولا يد غير مكلف، ولا يد نائم نهارًا. فائدة: لا أثر لغمس يد القائم من نوم ليل قبل غسلها في دهن ونحوه من المائعات غير الماء. (الثالث) من أقسام الماء (نجس يحرم استعماله مطلقًا) إلا لضرورة، كلقمة غص بها، ولا طاهر، أو عطش معصومٍ، أو طفي حريق، ويجوز بل التراب به، وجعله طينًا يطيّن به ما لا يُصلى عليه، لا نحو مسجد، (وهو ما ¬
تغير بنجاسة في غير محل تطهير) وفيه طهور مادام مترددًا؛ لبقاء عمله (أو لاقاها في غيره) أي: في غير محل التطهير (وهو يسير) فينجس بمجرد الملاقاة، (وجار) في الحكم (كراكد) في القلة والكثرة (والكثير) الذي لا ينجس إلا بالتغيُّر (قلتان) بقلل هَجَر -بفتح الهاء والجيم، قرية كانت بقرب المدينة المشرّفة، إليها تنسب القلال- والقُلة الجرة العظيمة، لأنها تقل بالأيدي، أي ترفع بها (وهما) أي القلتان (مائة رطل، وسبعة أرطال، وسُبع رطل بالدمشقي) وخمسمائة رطل بالعراقي. وأربعمائة رطل، وستة وأربعون رطلًا، وثلاثة أسباع رطل مصري، وما وافقه كالمكي. وتسعة وثمانون رطلًا وسُبْعا رطل حلبي. وثمانون رطلًا وسُبعان ونصف سُبع رطل قدسي، وما وافقه كالنابلسي والحمصي، وذلك تقريبًا، فلا يضر نقص رطل أو رطلين عراقية، ومساحتهما مربعًا ذراع وربع طولًا وعرضًا وعمقًا بذراع اليد (¬1)، (واليسير) والقليل (ما دونهما). ¬
وإن شك في كثرة الماء وقلته عمل باليقين؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (¬1). وإن اشتبه طهور مباح بمحرم، أو اشتبه طهور مباح بنجس لا يمكن تطهيره به لم يتص ويتيمم بلا إعدام (¬2). وإن اشتبه طهور بطاهر توضأ من هذا غرفة، ومن هذا غرفة، ويصلي صلاة واحدة. وإن اشتبهت ثياب طاهرة مباحة بنجسة أو محرمة، صلى في كل ثوب منها صلاة بعدد النجس إن علمه، وزاد صلاة (¬3)، وإن لم يعلم عدد النجسة أو المحرمة، صلى في كل ثوب صلاة حتى يتيقن أنه صلى في ثوب طاهر مباح. وإن اشتبهت أمكنة ضيقة بعضها نجس كزاوية، صلى مرتين في زاويتين منه، ¬
فإن تنجست زاويتان صلى في ثلاث وهكذا، وإن لم يعلم عدد النجسة صلى حتى يتيقن أنه صلى في مكان طاهر، ويصلي في فضاء واسع حيث شاء بلا تحرٍّ صلاة واحدة دفعًا للحرج والمشقة. ويلزم من علم بنجاسة شيء إعلام من أراد أن يستعمله.
فصل
فصل الفصلُ هو: الحجز بين شيئين، ومنه فصل الربيع لحجزه بين الشتاء والصيف (¬1). وهو في كتب العلم حاجز بين أجناس المسائل وأنواعها (¬2). (كل إناء طاهر يباح اتخاذه واستعماله) ولو كان ثمينًا، كالمتخذ من الجوهر والياقوت والزمرُّد، إلا من عظم الآدمي وجلده، فيحرم لحرمة الآدمي، لا لنجاسته؛ لأن ميتته طاهرة. والآنية لغة وعرفًا: الأوعية. جمع إناء ووعاء (¬3)، (إلا أن تكون ذهبًا أو فضة) فيحرم اتخاذها واستعمالها، لحديث حذيفة -مرفوعًا-: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة" (¬4). ولحديث أم سلمة -ترفعه-: "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" متفق عليهما (¬5). والجرجرة: صوت وقوع الماء بانحداره في الجوف (¬6). وغير الأكل والشرب في معناهما. ¬
وكذا يحرا اتخاذ واستعمال مموه بذهب أو فضة، وهو: إناء من نحاس (¬1) يلقى فيما أذيب من ذهب أو فضة فيكتسب دونه كمصمتٍ (¬2)، ومُطعّم بذهب أو فضة، بأن يحفر في إناء من نحو خشب حفْرٌ، ويوضع فيها قطع ذهب أو فضة بقدرها، ومُكفتٍ، بأن يُبْرد الإناء حتى يصير فيه شبه المجاري، ويوضع فيها شريط رقيق هت ذهب أو فضة، ويدق عليه حتى يلصق كل ذلك، كمصمت في الحرمة. (أو مضببًا بأحدهما) أقي الذهب والفضة، فيحرمُ اتخاذه واستعماله (لكن تباح ضبةٌ يسيرةٌ) لا كثيرة (من فضة) لا من ذهب (لحاجة) كأن انكسر إناء خشب ونحوه، فضبب كذلك، فلا يحرمُ؛ لحديث أنس -رضي اللَّه عنه- أن قدح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- انكسر، فاتخذ مكان الشَّعْبِ (¬3) سلسلة من فضة. رواه البخاري (¬4). وهذا مخصص لعموم الأحاديث السابقة، فإن كانت من ذهب، أو كبيرة من فضة حرمت مطلقًا، وكذا إن كانت يسيرة لغير حاجة. والحاجة أن يتعلق بها غرض غير زينة (¬5) ¬
وإن وجد غيرها. وتكره مباشرة ضبة الفضة بلا حاجة. (وما لم تعلم نجاسته من آنية كفار وثيابهم) ولو وليت عوراتهم (طاهر) (¬1) لقوله تعالى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬2) وهو يتناول ما لا يقوم إلا بآنية. ولأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه -رضي اللَّه عنهم- توضؤوا من مزادة مشركة. متفق عليه (¬3). ولأن الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك، وبدن الكافر طاهر، وكذا ما صبغه أو نسجه. قيل لأحمد عق صبغ اليهود بالبول فقال: المسلم والكافر في هذا سواء، ولا يسأل عن هذا ولا يبحث عنه، فإن علمت، فلا تصل فيه حتى تغسله. انتهى (¬4). (ولا يطهر جلد ميتة بدباغ) لكن جلد مأكول اللحم، وكذا كل ما كان طاهرًا في الحياة، كالهر، ونحوه إذا دبغ أبيح استعماله في اليابسات، لحديث مسلم أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وجد شاة ميتة أُعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة فقال: "ألا أخذوا أهابها فدبغوه فانتفعوا به" (¬5). (وكل أجزائها) أي الميتة كقرنها ¬
تتمة
وعظمها وظفرها وعصبها وحافرها ولبنها وإنفحتها (¬1) وجلدتها (¬2) (نجسة إلا شعرًا ونحوه) كصوف ووبر وريش من حيوان طاهر في الحياة، فإنه طاهر، لكن أصوله نجسة، (والمنفصل من) حيوان (حيٍّ كميتته) طهارة ونجاسةً، فما قطع من السمك مع بقاء حياته طاهر، لأن ميتته كذلك، بخلاف ما قطع من بهيمة الأنعام، إلا نحو طريدة الصيد (¬3) -وتأتي في بابها إن شاء اللَّه تعالى- وإلا المسك مع فأرته (¬4). تتمة: يباح استعمال منخل من شعر نجس كشعر بغل في يابس، لا مائع ¬
لتعدي نجاسته إليه. ويُسنُّ تغطية آنية، وإيكاء أسقية لحديث أبي هريرة: أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نغطي الإناء ونُوكيَ السِّقاء. رواه أبو داود (¬1). ¬
فصل
فصل و(الاستنجاءُ) من نجوت الشجرة إذا قطعتها، لأنه يقطع الأذى، أو من النجوة، وهي ما يرتفع من الأرض، لأن قاضي الحاجة يستتر بها (¬1). وشرعًا: إزالة خارج من سبيل أصلي قُبُلًا كان أو دُبُرًا. (واجبٌ لكلِّ (¬2) خارج) من السبيلين قليلًا كان أو كثيرًا (إلا الريح) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من استنجى من ريح فليس منا". رواه الطبراني (¬3) في "معجمه" (¬4) (و) إلا (الطاهر) كالمني، وكالولد بلا دمٍ، (و) إلا (غير الملوث) من النجس، فلا يجب له استنجاء؛ لأن الاستنجاء إنما شُرع لإزالة النجاسة، ولا نجاسة هنا. تتمة: لا يجب غسل نجاسة، ولا جنابة بداخل فرج ثيبٍ نصًّا (¬5)، فلا ¬
تدخل يدها أو أصبعها، بل ما ظهر؛ لأن المشقة تلحق فيه. وكذلك لا يجب غسل نجاسة، ولا جنابة بداخل حشفة أقلف (¬1) غير مفتوق، بخلاف المفتوق فيجب غسلها لعدم المشقة. ويستحبُّ لمن استنجى بالماء نضح فرجه وسراويله. ومن ظن خروج شيء فقال أحمد (¬2): لا يلتفت حتى يتيقن والْهَ عنه فإنه من الشيطان، فإنه يذهب. (وسُنَّ عند دخول خلاء) وهو بالمد، ما أعد لقضاء الحاجة، وأصله المكان الذي لا شيء به (¬3) (قول: بسم اللَّه) لحديث علي -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم اللَّه". رواه الترمذي (¬4) وابن ماجه وقال: ليس إسناده بالقوي (¬5). ¬
وسُن لداخل الخلاء -أيضًا- أن يقول: (اللهم إني أعوذ بك) أي الجأ إليك (من الخُبْث) بإسكان الباء: الشر (والخبائث) الشياطين. فكأنه استعاذ من الشر وأهله. وقيل: هو: بضم الباء وهو: جمع خبيث، والخبائث جمع خبيثة. فكأنه استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم (¬1)؛ لما روى أنس -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث". متفق عليه (¬2) (و) سنَّ (بعد خروج منه) أي: من الخلاء أن يقول: (غُفرانك) أي أسألك غفراتك، من الغفر وهو الستر، لحديث عائشة -رضي اللَّه عنها- كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك" رواه الترمذي وحسنه (¬3). كأنه لما خلص مما يثقل البدن سأل اللَّه الخلاص مما يثقل الروح، وهو الذنب لتكمل الراحة. وسنَّ بعد خروجه من الخلاء -أيضًا- أن يقول: (الحمد للَّه الذي ¬
أذهب عني الأذى وعافاني) لما رواه ابن ماجه عن أنس: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد للَّه الذي أذهب عني الأذى وعافاني" (¬1). (و) سنَّ (تغطية رأس، وانتعال) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا دخل المرفق (¬2) لبس حذاءه وغطى رأسه. رواه ابن سعد (¬3) عن حبيب بن صالح (¬4) مرسلًا (¬5). (و) سنَّ (تقديم رجله اليسرى دخولًا) لأنها تُقدَّم في الأماكن الخبيثة. ولما روى الحكيم الترمذي (¬6) عن أبي هريرة: "من بدأ برجله اليمنى قبل ¬
يساره إذا دخل الخلاء ابتلي بالفقر" (¬1). (و) سنَّ (اعتماده عليها) أي على رجله اليسرى (جالسًا) أي حال جلوسه لقضاء الحاجة؛ لحديث سراقة بن مالك: أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نتكئ على اليسرى، وأن ننصب اليمنى. رواه الطبراني، والبيهقي (¬2). ولأنه أسهل لخروج الخارج. (و) يسنُّ تقديم رجله (اليمنى خروجًا) لأنها أحق بالأماكن الطيبة (عكس مسجد) ومنزل ونحوهما كخلع (نعل) وقميص وسراويل وخف ونحوها، فيقدم اليمين على اليسار في هذه الأماكن دخولًا واليسار خروجًا، لما روى الطبراني في "المعجم الصغير" (¬3) عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا انتعل أحدكم، فليبدأ باليمنى، وإذا خلع، فليبدأ باليسرى". (و) يُسن له (بُعدٌ في فضاء) حتى لا يُرى، لحديث جابر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا أراد البَراز انطلق حتى لا يراه أحد. رواه أبو ¬
داود (¬1). (و) سُن له (طلب مكان رخو) بتثليث الراء (لبول) لحديث أبي موسى قال: كنت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذات يوم، فأراد أن يبول، فأتى دمثًا (¬2) في أصل جدار، فبال ثم قال: "إذا بال أحدكم فليرتد لبوله". رواه الإمام أحمد وأبو داود (¬3). (و) سُن له (مسح الذكر باليد اليسرى إذا انقطع البول من أصله إلى رأسه ثلاثًا) فيضع أصبع يده اليسرى، الوسطى تحت الذكر، والإبهام فوقه ويمر بهما إلى رأسه ثلاثًا. (و) سُن له (نتره) أي: (الذكر) ثلاثًا ليخرج ما فيه من بقية البول (¬4). (وكُره دخول خلاء بما فيه ذكر اللَّه تعالى) تعظيمًا لاسم اللَّه تعالى عن ¬
موضع القاذورات، ولحديث أنس: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا دخل الخلاء نزع خاتمه. رواه الخمسة إلا أحمد (¬1). وكان نقش خاتمه -صلى اللَّه عليه وسلم-: محمد رسول اللَّه (¬2). ولا يكره له أن يصحب دنانير أو دراهم فيها اسم اللَّه تعالى، لمشقة التحرز عنها، ومثلها حِرْزٌ (¬3). لكن يجعل فصَّ خاتم فيه ذكر اللَّه تعالى بباطن كفه اليمنى. (و) كره (كلام فيه بلا حاجة) ولو برد سلام، لقول ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- مر بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلٌ، فسلم عليه وهو يبول، فلم يرد عليه السلام. رواه مسلم (¬4). لكن يجب تحذير نحو ضريرٍ وغافل عن هلكة. ولا يُكره البول قائمًا من آمِنِ تلويث، وناظر (¬5). (و) كره (رفع ثوب قبل دنو من الأرض) لحديث أبي داود عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أن ¬
النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض (¬1). ولأنه أستر. (و) كره (بولٌ في شق ونحوه) كَسَرَب -بفتح الراء- بيت يتخذه الوحش والدُّبَيْبُ في الأرض- (¬2) لحديث قتادة: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُبَالَ في الجحر. قالوا لقتادة: ما يكره من البور في الجحر؟ قال: يقال إنها مسكن الجن. رواه أحمد، وأبو داود (¬3). وروي أن سعد بن عبادة -رضي اللَّه عنه- عندما بال بجحر بالشام ثم استلقى ميتًا. فسُمع من بئر بالمدينة: نحن قتلنا سيد الـ ... خزرج سعد بن عبادة ¬
رميناه بسهمين ... فلم نُخْطِ فؤاده (¬1) فحفظوا ذلك فوجدوه اليوم الذي مات فيه. (و) كره (مسُّ فرج بيمين بلا حاجة) لحديث أبي قتادة مرفوعًا: "لا يمس أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه" متفق عليه (¬2)، فإن كان ثمَّ حاجة كمن قطعت يده اليسرى، أو كان بها مرض، استنجى أو استجمر بيمينه بلا كراهة. (و) كره (استقبال النيَّرين) وهما: الشمس والقمر لما فيهما من نور اللَّه تعالى. وروي أن معهما ملائكة، وأن أسماء اللَّه مكتوبة عليهما (¬3). وكُره استقبال مهب الريح، لئلا ترد عليه بوله. وكره بوله في الماء القليل الجاري، لأنه ينجسه، لا في كثير جارٍ لمفهوم النهي عن البول في الماء ¬
الدائم (¬1). وكُره بوله في إناء بلا حاجة. وبوله في نارٍ ورماد، لأنه من أعمال أهل الفسق كالسحرة. وحرم تغوطه بماء قليل أو كثير راكد أو جار، لأنه يقذره ويمنع الانتفاع به، لا البحر، والمعد لذلك كالجاري في المطاهر (¬2). (وحرم استقبال قبلة واستدبارها) ببول أو غائط (في غير بنيان). لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا". رواه الشيخان (¬3). ويكفي انحرافه عن القبلة ولو يسيرًا يمنة أو يسرة، لفوات الاستقبال والاستدبار بذلك. ويكفي حائل بينه وبين القبلة، كاستتار بدابة وجدار وجبل ونحوه، ولو كان كموخرة رحل. ولا يعتبر قربه منها في ظاهر كلامهم (¬4)، كما لو كان في بيت، كما صرح به الشيخ منصور في "شرح المنتهى" (¬5). (و) حرم (لبثٌ فوق الحاجة) لأنه كشف عورة بلا حاجة. وقد قيل إنه يدمي الكبد، ويورث الباسور (¬6). وقد روى الترمذي عن ابن عمر ¬
مرفوعًا: "إيَّاكم والتعري، فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم" (¬1). (و) حرم (بولٌ) وتغوطٌ (في طريق مسلوك ونحوه) كظل نافع، لحديث معاذ مرفوعًا: "اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل". رواه أبو داود وابن ماجه (¬2). ومثل الظل مشمس الناس من الشتاء، ومتحدثهم. (و) حرم بول أو غائط (تحت شجرة مثمرة ثمرًا مقصودًا) مأكولًا، أو منتفعًا به، لأنه يفسده، وتعافه النفس. فإن لم يكن عليها ثمر لم يحرم إن لم يكن ظل نافع، لأنه يزول بالأمطار إلى مجيء الثمرة. وحرم بوله وتغوطه على ما نهي عن الاستجمار به لحرمته كطعام، ومتصل بحيوان، وما فيه اسم اللَّه تعالى، لأنه أفحش من الاستجمار به. (وسنَّ استجمار) بحجر ونحوه (ثم استنجاء بماء) لقول عائشة -رضي اللَّه عنها- للنساء: مُرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء، فإني ¬
أستحييهم، وإن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يفعله. رواه الإمام أحمد (¬1). (ويجوزُ الاقتصارُ على أحدهما) أي الاستجمار بالحجر ونحوه، أو الاستنجاء بالماء (لكن) إن اقتصر على أحدهما، فـ (الماءُ أفضل حينئذٍ) لأنه يطهر المحل، وأبلغ في التنظيف، بخلاف غيره، فإنه ليس كذلك. (ولا يصحُّ استجمار إلا بطاهر مباح يابس منق) فلا يصح بنجس، ولا محرَّم، ولا رطب، ولا أملس، لأنه ينشر النجاسة (وحرم) استجمار (بروث) ولو طاهرًا (وعظم) ولو من مذكّى. لحديث مسلم عن ابن مسعود مرفوعًا: "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن" (¬2). (و) حرم استجمار بـ (طعام) ولو لبهيمة (و) بـ (ذي حرمة) ككتب فقه وحديث، لأن في ذلك هتكًا للشريعة واستخفافًا بحرمتها (و) بـ (متصل بحيوان) كذنب بهيمة، وما اتصل بها من نحو صوف أو بجلد سمك أو حيوان مذكّى، أو حشيش رطب (وشرط له) أي للاقتصار على الحجر ونحوه (عدم تعدي خارج) من سبيل (موضع العادة) بأن لم ينتشر الخارج ¬
على شيء من الصفحة، أو يمتد إلى الحشفة امتدادًا غير معتاد (و) شرط له أيضًا (ثلاث مسحات منقية فأكثر) من الثلاث، إما بثلاثة أحجار ونحوها، أو بحجر واحد له شعب، فلا يجزئ أقل من ثلاث، ولو أنقت، لحديث جابر -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "إذا تغوط أحدكم فليتمسح ثلاث مرات". رواه أحمد (¬1). وسنَّ قطعه على وتر، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج". رواه الإمام أحمد وأبو داود (¬2). فإن أنقى برابعة زاد خامسة، وهكذا. ولا يصح وضوء ولا تيمم قبل الاستنجاء، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث المقداد المتفق عليه: "يغسل ذكره ثم يتوضأ" (¬3). ¬
فصل
فصل (يُسَن السواك) بمعنى التسوك مصدر سَوَك إذا دلك فمه بالعود. ويقال: جاءت الإبل تساوك، إذا كانت أعناقها تضطرب من الهزال (¬1) (بالعود) أي: المعهود، فألْ فيه للعهد، اللين الذي ينقي الفم، ولا يجرحه، ولا يضر، ولا يتفتت، فيكره التسوك بغير ذلك مما يجرح كالقصب، أو يتفتت كالطرفاء (¬2)، والذي فيه مضرة، كالريحان والرمان. ولا يتخلل -أيضًا- بريحان ولا رمان، لأنه يحرك عرق الجذام، كما في الخبر (¬3). قال بعضهم: ولا بما يجهله، لئلا يكون من ذلك (¬4) (كل وقت) أي في كل وقت من الآوقات. ولحديث عائشة -رضي اللَّه عنها-: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" (¬5). رواه الإمام أحمد، والشافعي (¬6). وروى مسلم وغيره ¬
عن عائشة -أيضًا- أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا دخل بيته بدأ بالسواك (¬1) (إلا لصائم بعد الزوال فيكره) هذا مستثنى من القاعدة، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "لخلوف فم الصائم عند اللَّه أطيب من ريح المسك". متفق عليه (¬2)، وهو إنما يظهم. غالبًا بعد الزوال. ولأنه أثر عبادة مستطاب شرعًا، فيستحب استدامته كدم الشهيد عليه (¬3). (ويتأكد) السواك (عند صلاة) لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". رواه الجماعة (¬4). وفي لفظ لأحمد: "لفرضت عليهم السواك كما فرضت عليهم الوضوء" (¬5). (ونحوها) أي: الصلاة، كعند وضوء، لحديث أحمد عن أبي هريرة مرفوعًا: "لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء" وهو للبخاري ¬
تعليقًا (¬1). وعند قراءة القرآن تطييبًا للفم، لئلا يتأذى المَلَكُ عند تلقي القراءة منه. وكذا عند دخول المسجد، والمنزل، وعند الانتباه من النوم؛ لحديث حذيفة: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا قام من الليل يشوص (¬2) فاهُ بالسواك. متفق عليه (¬3). (و) عند (تغير فم) بمأكول، أو بإطالة سكوت، أو خلو معدة من طعام، لأن السواك شرع لتطييب الفم وإزالة رائحته (ونحوه) كصفرة الأسنان أي: نحو تغير رائحة الفم. وفي السواك أزيد من ثلاثين فائدة ليس هذا موضع بسطها (¬4). (وسُن بداءة بالأيمن فيه) أي في السواك بيده اليسرى ¬
نصًّا (¬1)، وكونه عرضًا بالنسبة إلى الأسنان، لحديث الطبر اني وغيره أنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: كان يستاك عرضًا (¬2) على أسنانه ولثته -بكسر اللام وفتح المثلثة مخففة- ولسانه. (و) سُن بداءةٌ بالأيمن (في طهر) أي في تطهره (و) في (شأنه كله) كترجيل شعر وانتعال، أحديث عائشة كان يحب التيمن في تنعله وترجله وفي شأنه كله. متفق عليه (¬3). (و) سُن (ادِّهان غِبًّا) يفعله يومًا ويتركه يومًا. لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن الترجل إلا غبًّا (¬4). ونهى أن يتمشط أحدهم كل يوم (¬5). والترجل: تسريح الشعر، ودَهْنُهُ. ¬
(و) سُن (اكتحالٌ) كل ليلة (في كل عين ثلاثًا) بإثمد مطيب بالمسك قبل نوم، لحديث ابن عباس -مرفوعًا- كان يكتحل بالإثمد كل ليلة قبل أن ينام، وكان يكتحل في كل عين ثلاثة أميال. رواه الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه (¬1). (و) سُن (نظر في مرآة) كل يوم، ليزيل ما عسى أن يكون بوجهه من أذى. ويقول ما ورد ومنه: "اللهم كما حسنت خَلقي فحسّن خُلُقي، وحرِّم وجهي على النار" (¬2). ¬
(و) سُن (تطيُّب) بطيب، لحديث أبي داود -مرفوعًا-: "أربع من سنن المرسلين: الحناء، والتعطر، والسواك، والنكاح". رواه الإمام أحمد (¬1)، ويستحب التطيب للرجال بما يظهر ريحه ويخفى لونه، كالعود، والعنبر، ونحوه. وعكسه للنساء إذا خرجن، وفي بيوتهن بما شئن. (و) سُن (استحداد) أي: حلق شعر العانة. وله قصُّهُ وإزالته بما شاء، من نحو نُوْرَة (¬2). والتنوير في العانة وغيرها فعله أحمد (¬3)، وكذا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. رواه ابن ماجه من حديث أم سلمة (¬4). (و) سُن (حَفُّ شارب) أو قصُّ طرفه، وحفُّهُ أولى نصًا (¬5)، وهو: ¬
المبالغة في قصِّه، ومنه السبالان، وهما طرفاه. لحديث أحمد: "قُصُّوا سبالاتكم، ولا تتشبهوا باليهود" (¬1). (و) سُن (تقليم ظفر) مخالفًا يوم الجمعة قبل الزوال، وغسلها بعده. فيبدأ بخنصر اليمنى، ثم الوسطى، ثم الإبهام، ثم البنصر، ثم السبابة، ثم اليسرى عكس ذلك. (و) سُن (نتف إبط) لحديث أبي هريرة -مرفوعًا-: "الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط". متفق عليه (¬2). ويستحبُّ دفن ما أخذه من أظفاره وشعره (¬3). (و) كُره (قَزَعٌ) وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه، لحديث ابن عمر -مرفوعًا-: نهى عن القزع وقال: "احلقه كله أو دعه كله". رواه أبو داود (¬4). (و) كُره (نتف شيب) لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن نتف الشيب. وقال: إنه نور الإسلام (¬5). ¬
وكره -أيضًا- تغييره بسوادٍ، لحديث الصديق -رضي اللَّه عنه- أنه جاء بأبيه إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "غيروهما، وجنبوهما السواد" (¬1). ويحَرُم نَمْص، وهو: نتف الشعر من الوجه. ووشرٌ، وهو: برد الأسنان لتتحدد وتفلج. وحرم وشم، وهو غرز الجلد بإبرة ثم يحشى كحلًا. ويحرم وصل شعر بشعر، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعن الواصلة والمستوصلة، والنامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة (¬2). (و) كُره (ثقب أذن صبي) لا جارية نصًّا (¬3) (ويجب ختان ذكر) بأخذ جلدة الحشفة، (و) يجب ختان (أنثى) (¬4) بأخذ جلدة فوق محل الإيلاج تشبه عرف الديك، ويستحب أن لا تؤخذ كلها نصًّا (¬5) لحديث: "اخفضي ولا تنهكي، فإنه أنضر للوجه، وأحظى عند الزوج". رواه الطبراني ¬
والحاكم (¬1) (بُعَيْد بلوغ) تصغير: بعد، أي يجب ختان بعيد بلوغ (مع أمن الضرر) بالختان بعد البلوغ. فإن خيف ضرر سقط الوجوب. (ويسن قبله) أي قبل البلوغ لأنه أقرب إلى البرء. (ويكره) ختان (سابع ولادته) للتشبه باليهود. (و) يكره (منها) أي: الولادة (إليه) أي إلى السابع لذلك (¬2). ¬
فصل
فصل (فروض الوضوء ستة) مبتدأ وخبر، جمع: فرض. ومعناه لغة: الحز والقطع والتقدير (¬1). وشرعًا: ما يترتب الثواب على فعله والعقاب على تركه (¬2). والوضوء -بضم الواو- فعل المتوضئ، من الوضاءة، وهي النظافة والحسن، لأنه ينظف المتوضئ ويحسِّنه. وبفتحها: الماء يُتوضَّؤُ به (¬3). وشرعًا: استعمال ماء طهور في الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة (¬4). وكان فرضه مع فرض الصلاة، كما رواه ابن ماجه (¬5). أحدها: (غسل الوجه) وهو الأول من الستة (مع مضمضة واستنشاق) لأنهما منه. وحدُّهُ: من منابت شعر الرأس المعتاد إلى النازل من اللحيين -بفتح اللام وكسرها- والذِّقن وهو مجمع اللحيين طولًا مع مسترسل شعر اللحية. وحد الوجه عرضًا: من الأذن إلى الأذن. (وغسل اليدين) مع المرفقين، وهما الفرض الثاني (و) غسل (الرجلين) مع الكعبين، وهما الفرض الثالث (ومسح جميع الرأس مع الأذنين) لأنهما منه، لحديث ابن ماجه: "الأذنان من الرأس" (¬6). وهو ¬
الفرض الرابع. (وترتيب) بين الأعضاء، كما ذكر اللَّه تعالى، لأنه أدخل ممسوحًا بين مغسولين، وقطع النظير عن نظيره، وهذا قرينة إرادة الترتيب. وتوضأ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرتبًا، وقال: "هذا وضوء لا يقبل اللَّه الصلاة إلا به" (¬1). أي بمثله. وهذا هو الفرض الخامس. (و) السادس (موالاة) لقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬2) لأن الأول شرط والثاني جوابه، وإذا وجد الشرط وهو القيام وجب أن لا يتأخر عنه جوابه وهو غسل الأعضاء، يؤيده حديث خالد بن معدان أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى رجلًا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء. رواه أحمد، وأبو داود، وزاد: والصلاة (¬3). ولو لم تجب الموالاة لأجزأه غسل اللمعة فقط، ولم ينقل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه توضأ إلا متواليًا، وإنما لم تشترط في الغسل؛ لأن المغسول فيه بمنزلة العضو الواحد. (والنية شرط لكل طهارة شرعية) لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬4). أي لا عمل جائز ولا فاضل إلا بها (غير إزالة خبث) فلا ¬
يشترط له نية (و) غير (غسل كتابية لحل وطء) لزوج أو سيد من حيض أو نفاس أو جنابة؛ لأنها ليست من أهل النية، (و) غير غسل (مسلمة ممتنعة) من غسل لزوج أو سيد من نحو حيض حتى لا يطأها، فتغتسل قهرًا لحق الزوج أو السيد، ويباح له وطؤها ولا تصلي بالغسل المذكور؛ لعدم وجود النية، وقياسه منعها من طواف وقراءة ونحوها. ولا يُنوى عنها؛ لعدم تعذُّرها، بخلاف الميت فينوى عنه. وكذلك المجنونة يُنوى عنها. وتسن النية عند أول كل مسنون وُجد قبل واجب (¬1). ويسن النطق بها سّرًا؛ (¬2) ليوافق اللسان القلب. ويجب تقديمها على أول واجب وهو التسمية، ولا يضر سبق لسانه بغير قصده، ولا شكُّه في النية بعد فراغه. (والتسمية) أي قول بسم اللَّه (واجبة في وضوء) لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم اللَّه عليه". رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه (¬3). (و) واجبة في (غسل و) واجبة في ¬
(تيمم و) واجبة في (غسل يَدَيْ قائم من نوم ليل ناقض لوضوء) وتجب أيضًا في الذكاة، وفي إرسال الجارحة. (وتسقط) التسمية (سهوًا وجهلًا) لا عمدًا. (ومن سننه) أي: الوضوء (استقبال قبلة، وسواك) لما تقدم (¬1)، ويكون فيه عند المضمضة (وبُداءة بغسل يَدَيْ غير قائم من نوم ليل) لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما ذكره عثمان، وعلي، وعبد اللَّه بن زيد في وصفهم وضوءه (¬2). (ويجب له) أي: للقيام من نوم الليل (لغسل ثلاثًا تعبدًا) لأمر الشارع -صلى اللَّه عليه وسلم- به (¬3)، وعدم عقل معناه، كما تقدم (¬4). (و) من سنن الوضوء -أيضًا- البداءة قبل غسل الوجه (بمضمضة) في فم (فاستنشاق) في أنف (ومبالغة فيهما) بأن يدير الماء في فمه ويجذبه في الاستنشاق إلى أقصى أنفه، لكن ذلك (لغير صائم) وأما الصائم فلا يسن له المبالغة فيهما، بل تكره، لئلا يدخل الماء إلى جوفه فيفسد صومه. (و) من سننه (تخليل شعر كثيف) لا خفيف. وأما الخفيف فيجب تخليله حتى يصل الماء إلى أصوله. (و) تخليل (الأصابع) من اليدين والرجلين. (و) من سننه (غسلة ثانية وثالثة) في الأعضاء كلها خلا الرأس ¬
(وكره أكثر) من الثلاث، لأنه إسراف (¬1). (وسُنَّ بعد فراغه) من الوضوء (رفع بصره إلى السماء وقول ما ورد) وهو: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. لحديث عمر -مرفوعًا-: "ما منكم من أحد يتوضأ فيُبْلِغ أو يُسْبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء". رواه مسلم، والترمذي وزاد: "اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين". رواه أحمد، وأبو داود، وفي بعض رواياته: "فأحسن الوضوء، ثم رفع بصره إلى السماء". وساق الحديث (¬2). وزاد في "الإقناع" (¬3): سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك (¬4). ¬
فصل
فصل و(يجوز المسح على خف ونحوه) كجرموق (¬1) وجورب (و) على (عمامة ذكرٍ محنكة، أو ذات ذؤابة و) على (خُمُر نساء مدارةٍ تحت حلوقهن) وهو رخصة، وهو أفضل من الغسل، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إنما طلبوا الفضل. وعنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه يحب أن يؤخذ برخصة" (¬2). وفيه مخالفة أهل البدع (¬3). والرخصة لغة: السهولة (¬4). وشرعًا: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجحٍ. وضدها: العزيمة وهي لغة: القصد المؤكد. وشرعًا: ما ثبت بدليل شرعي خال عن معارض راجح (¬5). وهما وصفان للحكم الوضعي. (و) يجوز المسح (على جبيرة) جمعها: جبائر، نحو أخشاب تربط على نحو كسر، سميت بذلك تفاؤلًا بالجبر (لم تجاوز قدر الحاجة) أي: ما تحتاج ¬
إليه في ربطها (إلى حلِّها) والمسح عليها عزيمة لا رخصة، فيجوز بسفر المعصية كالتيمم. (وإن جاوزته) أي قدر الحاجة (أو وضعها على غير طهارة لزم نزعها) ليغسل ما تحتها (فإن خاف الضرر) بنزعها (تيمم) لما زاد عن موضع الحاجة، أو وُضع على غير طهارة (مع مسح موضوعة على طهارة) فيجمع حينئذ بين غسل الصحيح، ومسح قدر الحاجة، والتيمم لما زاد عن موضع الحاجة. أو وضع على غير طهارة. (ويمسح) على غير جبيرة (مقيم وعاص بسفره من حدث بعد لبس يومًا وليلة و) يمسح (مسافر سفر قصر) مباح، ولو عصى في سفره (ثلاثة أيام بلياليها) من حدثٍ بعد لبس (فإن مسح في سفر ثم أقام أو عَكَسَ) بأن مسح في حضر ثم سافر، (فكمقيم) لا يزيد عن يوم وليلة. (وشُرط) لصحة مسح الخُفِّ ونحوه (تقدم كمال طهارة) بالماء، لحديث المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذات ليلة في سفرٍ، فأفرغت عليه من الإداوة، فغسل وجهه، وغسل ذراعيه، ومسح رأسه، ثم أهويت لأنزع خفيه، فقال: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما". متفق عليه (¬1). وعنه -أيضًا- قال: قلنا: يا رسول اللَّه أيمسح أحدنا على الخفين؟ قال: "نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان". رواه الحميدي (¬2) في "مسنده" (¬3). ¬
وألحق بالخف باقي الحوائل. (و) شُرط (ستر ممسوح) من نحو خُفٍّ (محلَّ فرض) فلو ظهر منه شيء وجب الغسل، ولم يجز المسح، إذ لا يجمع بين البدل والبدل في محلٍّ واحدٍ. وكما لو غسل إحدى الرجلين فيجب غسل الأخرى، ولو كان الستر بمخرق أو مفتق، وينضم بلبسه، (و) شرط (ثبوته بنفسه) من غير شدٍّ، فإن لم يثبت إلا بشده، لم يجز المسح عليه لفقد شرطه (و) شرط (إمكان مشي به عرفًا) فلا يصح المسح على ما لا يمكن المشي به، (و) شرط (طهارته) أي: الممسوح خفّا كان أو غيره، فلا يصح المسح على نجس العين (و) شرط (إباحته) فلا يصح المسح على نحو مغصوبٍ، وإن خاف بنزعه سقوط أصابعه من نحو بردٍ، لأن المسح رخصة، فلا تباح بالمعصية، كما لا يستبيح المسافر الرخصر بسفر المعصية. وكذا حريرٌ وذهب ونحوه لرجل (¬1). (ويجب مسح أكثر دوائر عمامة) لأنها أحد الممسوحين على وجه البدل، فأجزأ مسح بعضه كالخفِّ (وأكثر ظاهر قدم خُفٍّ) ونحوه كجرموق، وجورب جعلا للأكثر كالكُلِّ، ولا يُسَنُّ استيعابه. (و) يجب مسح (جميع جبيرة) لحديث أبي داود في صاحب الشَّجَّة: "إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعضد، أو يعصب على جرحه خرقة، ويمسح عليها، ويغسل سائر جسده" (¬2). (وإن ظهر بعض محلِّ فرضٍ أو تمَّت المدة) وهي اليوم والليلة للمقيم، والثلاثة للمسافر سفرًا مباحًا (استأنف الطهارة) لأن طهارته مؤقتة، فبطلت بانتهاء وقتها، كخروج وقت الصلاة في حق المتيمم. ¬
فصل في نواقض الوضوء
فصل في نواقض الوضوء (نواقض الوضوء) جع ناقضة، بمعنى ناقض، إن قيل: لا يجمع فاعل وصفًا مطلقًا على فواعل إلا ما شذَّ، هذا إذا كان الوصف لعاقلٍ أما إذا كان لغيره، فيجمع من غير شذوذ. قاله شيخنا -أيده اللَّه تعالى- (¬1) وهي -أي: نواقض الوضوء- أي: مفسداته (ثمانية) بالاستقراء. أحدها (خارج من سبيل مطلقًا) قُبُلًا كان أو دُبُرًا، قليلًا كان أو كثيرًا، طاهرًا كالريح، ونحو ولد بلا دم، أو نجسًا كالبول والغائط. (و) الثاني (خارج من بقية البدن من بول وغائط) سواء كان قليلًا أو كثيرًا (و) خارج (كثير نجس غيرهما) أي: البول والغائط، كدمٍ وقيح وصديد وقيء. (و) الثالث (زوال عقل) بسكر أو إغماء أو نوم، (إلا يسير نوم من قائم) لم يستند، (أو قاعد) لم يستند، ولم يحتبِ، ولم يتكئ، لحديث أنس: كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينتظرون العشاء الأخيرة حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضؤن. رواه أبو داود (¬2). وإن رأى رؤيا، فهو كثير، وإن خطر بباله شيء لا يدري أرؤيا أم حديث نفس، فلا نقض. ¬
(و) الرابع (غسل الميت) مسلمًا كان أو كافرًا، صغيرًا أو كبيرًا، ذكرًا أو أنثى، أو غسل بعضه. والغاسل: هو مَنْ يقلب الميت ويباشره. لا من يصب الماء، ولا ينتقض وضوءه إن يمَّمه. (و) الخامس (أكل لحم إبل) ولو نيئًا، لحديث البراء بن عازب، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم". قيل: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "لا". رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي (¬1). وذلك تعبدًا، فلا نقض ببقية أجزائها كسنامها، وقلبها، وكبدها، وطحالها، وكرشها، ومصرانها، ورأسها، وكوارعها، ومرق لحمها، لأن ذلك لا يُسمى لحمًا، ولا يحنث به من حلف لا يأكل لحمًا. (و) السادس (الرِّدة) عن الإسلام، نعوذ باللَّه من ذلك، لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الطهور شطر الإيمان" (¬3). والردة تبطل الإيمان. (و) كذلك (كل ما أوجب غسلًا) أوجب الوضوء (غير موت) فإنه يوجب الغسل، ولا يوجب الوضوء. (و) السابع (مس فرج آدمي متصل) لا منفصل، فلا نقض بمسه (أو حلقة دبره) أي: الآدمي (بيده)، بلا حائل، لحديث بُسْرةَ بنت صفوان -مرفوعًا-: "من مس فرجه فليتوضأ". رواه أحمد ومالك والشافعي (¬4). ¬
وسواء كان الفرج أو حلقة الدبر من ذكر أو أنثى أو صغير أو كبير. (و) الثامن (لمس ذكر أو أنثى الآخر لشهوة بلا حائل فيهما) أي في لمس الذكر الأنثى، والأنثى الذكر، لقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬1)، وخُصَّ بما إذا كان لشهوة جمعًا بين الآية والأخبار، لحديث عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: فقدت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدمه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان. رواه مسلم (¬2). ونصبهما دليل على أنه يصلي. وعنها -رضي اللَّه عنها- "كنت أنام بين يدي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، رجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي" متفق عليه (¬3). والظاهر أنه (بلا حائل) لأن الأصل عدمه. لا لمس الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر (لشعر وسن وظفر ولا) نقض باللمس (بها) أي المذكورة من الشعر والسن والظفر (ولا) نقض بلمس صغير (مَنْ دون سبع) سنين، لأنه ليس محلًا للشهوة. (ولا ينتقض وضوء ملموس مطلقًا) من ذكر أو أنثى ولو وجد شهوة. (ومن شك في طهارة) بعد تيقن حدث (أو) شك (في حدث) بعد تيقن طهارة، ولو كان شكه في حين صلاةٍ (بنى على تيقنه) لحديث عبد اللَّه بن زيد: شُكي إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الرجل يحيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة. فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" متفق عليه (¬4). ¬
واليقين: ما أذعنت (¬1) النفس للتصديق به، وقطعت به بأن قطعها صحيح. قاله الموفق في مقدمة "الروضة" (¬2). وإن تيقن الحدث والطهارة معًا وجهل أسبقهما، فإن جهل حاله قبلهما تطهر. وإن علمهما فهو على ضدها، فإن كان متطهرًا فهو إذ ذاك محدث، وإن كان محدثًا فهو متطهر. (وحُرِّم على مُحدث مس مصحف) لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} (¬3)، ولحديث عبد اللَّه [بن أبي بكر بن محمد] (¬4) بن عمرو بن حزم عن أبيه، عن جده، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كتب إلى أهل اليمن كتابًا، وفيه: "لا يمس القرآن إلا طاهر" رواه الأثرم (¬5)، والنسائي، والدارقطني (¬6) متصلًا، واحتج به أحمد. ورواه مالك مرسلًا (¬7). ¬
ويحرم مس جلده وحواشيه وما فيه من ورق أبيض، لأنه يشمله اسم المصحف، ويدخل في بيعه بلا حائل. ولا يرم حمله بعلَّاقة وفي كيس، وتصفُّحُهُ بكُمِّه أو بعود. ولا يحرم مس تفسير قرآن لأنه لا يسمى مصحفًا. ويجوز للصبي أن يمس لوحًا فيه قرآن من محل خال من الكتابة. ويحرم مس المصحف بعنصر متنجس. وتوسُّدُه، ويكره مد رجله إليه واستدباره. (و) حُرِّم على محدث (صلاة) لحديث ابن عمر -مرفوعًا- "لا يقبل اللَّه صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول". رواه الجماعة إلا البخاري (¬1)، وسواء في ذلك الفرض والنفل، وصلاة الجنازة، وسجود التلاوة، وسجود الشكر، ولا يكفر من صلى محدثًا (¬2). ¬
(و) حُرِّم على محدث (طواف) بالبيت المعظم، فرضًا كان أو نفلًا، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الطواف بالبيت صلاة، إلا أن اللَّه أباح فيه الكلام". رواه الشافعي (¬1). (و) حُرِّم (على جنبٍ ونحوه) كحائض ونفساء (ذلك) أي: الصلاة والطواف، ومس المصحف. (و) حُرِّم عليه -أيضًا- (قراءة آية قرآن) فأكثر، لحديث علي -رضي اللَّه عنه- كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يحجبه -وربما قال- لا يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة. رواه ابن خزيمة (¬2)، والحاكم، والدارقطني، وصححاه (¬3). ¬
(و) حُرِّم عليه -أيضًا- (لبث في مسجد بغير وضوء) لقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} (¬1) وهو الطريق. وعن جابر: كان أحدنا يمر في المسجد جنبًا مجتازًا. رواه سعيد بن منصور (¬2). وسواء كان المرور لحاجة أم لا. ومن الحاجة كونه طريقًا قصيرًا. لكن كره أحمد اتخاذه طريقًا (¬3). وأما المتوضئ، فيجوز له اللبث فيه، لما روي عن عطاء بن يسار قال: رأيت رجالًا من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا وضوء الصلاة (¬4). إسناده صحيح، قاله في "المبدع" (¬5). ¬
وقال الشيخ تقي الدين (¬1): وحينئذٍ فيجوز أن ينام في المسجد كغيره (¬2). ¬
فصل في أحكام الغسل
فصل في أحكام الغسل (موجبات الغسل) الأحداث التي توجب الغسل باعتبار أنواعه (سبعة) إحداها (خروج المنيِّ من مخرجه) المعتاد ولو دمًا (بلذة) من غير نائم ومغمى عليه. وأما النائم ونحوه فبمجرد خروجه، ولو لم يجد لذة. (و) الثاني من موجبات الغسل (انتقاله) أي المني، فيجب الغسل على الرجل لمجرد إحساس انتقال منيِّه عن صلبه. والمرأة بانتقاله من ترائبها، لأن الجنابة تباعد الماء عن مواضعه وقد وجد ذلك (¬1). (و) الثالث [من] (¬2) موجبات الغسل (تغييب حشفة) أو قدرها من ¬
مقطوعها (في فرج) أصلي (أو دُبُر) لأنه فرج (ولو) كان الفرج (لبهيمة أو ميت) أو طير (¬1) (بلا حائل) لانتفاء التقاء الختانين مع الحائل، لأنه هو الملاقي للختان (¬2). ¬
(و) الرابع (إسلام كافر) ولو مرتدًّا، ذكرًا أو أنثى أو خنثى، حديث قيس بن عاصم، أنه أسلم فأمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يغتسل بماء وسدر. رواه أحمد، وغيره (¬1). (و) الخامس (موت) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اغسلنها" (¬2)، وذلك تعبدًا لا من حدث، لبقاء سببه، ولا عن نجاسة، لتعذر طهارة عين النجاسة (¬3). (و) السادس (حيض) ويأتي حكمه في بابه، وانقطاعه شرط لصحة الغسل. (و) السابع خروج دم (نفاس) فلا غسل لولادة عرت منه (¬4)، ولا ¬
يحرم بها وطءٌ، ولا يفسد بها صوم، والولد طاهر، ومع الدم يجب غسله. (وسُنَّ) الغسل (لـ) صلاة (جمعة) في يومها لذكرٍ حَضَرَها ولو لم تجب عليه، لحديث أبي سعيد -مرفوعًا- "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من جاء منكم [الجمعة] فليغتسل" متفق عليهما (¬1)، وقوله: "واجب" أي: متأكد الاستحباب، ويدل على عدم وجوبه ما روى الحسن عن سمرة بن جندب أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي (¬2). وسُنَّ الغسل لغسل ميت، (و) لصلاة (عيدٍ) لحاضرها، لحديث ابن عباس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يغتسل يوم الفطر والأضحى. رواه ابن ماجه (¬3). ¬
(و) سُنَّ الغسل لصلاة (كسوف و) لصلاة (استسقاء) قياسًا على الجمعة والعيد، بجامع الاجتماع لهما. (و) سُنَّ الغسل لإفاقةٍ من (جنون، وإغماء لا احتلام فيهما) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- اغتسل للإغماء. متفق عليه (¬1). ولأنه لا يأمن أن يكون احتلم ولم يشعر. والجنون في معناه بل أبلغ، فإن أنزل فالغسل واجب. (و) سُنَّ الغسل لـ (استحاضة لكل صلاة) لأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- به أمَّ حبيبة لما استحيضت، فكانت تغتسل لكل صلاة. متفق عليه (¬2). (و) سُنَّ الغسل لـ (إحرام، و) لـ (دخول مكة و) لدخول (حرمها) أي ¬
مكة، (و) لـ (وقوف بعرفة) روي ذلك عن علي، وابن مسعود (¬1)، (و) لـ (طواف زيارة) وهو طواف الإفاضة (و) لطواف (وداع) للبيت، (و) لـ (مبيت بمزدلفة، و) لـ (رمي جار) في كل يوم من أيام الرمي. (وتنقض المرأة شعرها لـ) غسل (حيض) وجوبًا، لحديث عائشة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لها: "إذا كنت حائضًا خذي ماءك وسدرك وامتشطي" ولا يكون المشط إِلا في شعر غير مضفور، وللبخاري "انقضي شعرك وامتشطي" (¬2). ¬
(و) تنقضه لـ (نفاس)، و (لا) تنقضه لى (جنابة إذا روَّت أصوله)، فيعفى عن نقضه فيها؛ لأنه يكثر فيشق ذلك فيه، بخلاف الحيض والنفاس. (وسُنَّ توضؤ بمُدٍّ) من ماءٍ بمدِّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، لحديث أنس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع. متفق عليه (¬2). (و) سُنَّ (اغتسال بصاع) وهو أربعة أمداد (¬3). (وكره إسراف) في وضوء وغسل، وهو الزيادة الكثيرة، ولو على نهر ¬
جار، لحديث ابن ماجة، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مر بسعد وهو يتوضأ، فقال: "ما هذا السرف؟ " فقال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: "نعم وإن كنت على نهر جارٍ" (¬1). ولا يكره إسباغ في وضوء أو غسل بدون ما ذكر لحديث عائشة -رضي اللَّه عنها- أنها كانت تغتسل هي والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من إناء واحد يَسعُ (¬2) ثلاثة أمداد أو قريبًا من ذلك. رواه مسلم (¬3). والإسباغ تعميم العضو بالماء، بحيث يجري عليه فلا يكفي مسحه. (وإن نوى) مغتسل (بالغسل رفع الحدثين) أي: الأكبر والأصغر (أو لحدث وأطلق) فلم يقيده بالأكبر ولا بالأصغر (ارتفعا) (¬4) بخلاف لو عيَّنَ واحدًا منهما، فلا يرتفع غيره. (وسُنَّ لجنب) لم يغتسل في الحال (غسل فرجه، والوضوء لأكل، وشرب، ونوم، ومعاودة وطءٍ) لما روى في المتفق عليه، أن عمر سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: يرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: "نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد" (¬5). (والغسل لها) أي لما ذكر من الأكل، والشرب، والنوم، ومعاودة الوطء ¬
(أفضل) لأنه أزكى وأطيب وأطهر، كما رواه أحمد وأبو داود -رضي اللَّه عنه- حديث أبي رافع (¬1). (وكُره نوم جنب بلا وضوء) لمخالفته للسنة. تذنيب: قد تقرر أن الوضوء يسنُّ بالمد، والغسل بالصاع، وحررت الصاع بأنه أربعة أمداد. فتحتاج إلى تحرير المد وهو بالمثاقيل: مائة وعشرون مثقالًا، وبالأرطال: رطل وثلث بالعراقي، والرطل العراقي بالدراهم: مائة وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم، إذا عرفت ذلك عرفت مقدار (¬2) بقية الأرطال. ¬
فصل في التيمم
فصل في التيمم (يصحُّ) أي (التيمم) والتيمم لغة: القصد (¬1)، قال اللَّه تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬2)، وقال: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬3) أي اقصدوا. وشرعًا: استعمال تراب مخصوص، في وجه ويدين (¬4). وهو بدل طهارة ماء عند عدم ماء، أو عند عدم القدرة على استعماله. ويصح بشروط ثمانية: نيّة، وعقل، وتمييز، واستئجاء، ودخول وقت لصلاة فرض أو إباحة غيرها، وتعذر استعمال الماء، وكونه بتراب طهور كما يأتي تخصيصه في المتن في قول المصنف (بتراب) متعلّق بـ (يصحُّ) فلا يصح برمل، أو نُورةٍ، أو جصٍّ (¬5)، أو نحت حجارة ونحوها (¬6) (طهور) فلا يصح بنجس، ولا ¬
بما تناثر من يدي المتيمم ووجهه؛ لأنه استعمله في طهارة أباحت الصلاة، أشبه الماء المستعمل في طهارة واجبة (¬1). وإن تيمم جماعة من موضع واحد صح، كما لو توضؤوا من حوض يفترقون منه. (مباح) فلا يصح التيمم بتراب مغصوب، كالوضوء به (له غبار) يعلق باليد، لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} (¬2)، وما لا غبار له لا يمسح بشيء منه. ولا يصح بمحترق كالمدقوق من نحو خزفٍ (¬3)؛ لأن الطبخ أخرجه من أن يقع عليه اسم التراب. (إذا عدم الماء لحبس أو غيره) كقطع عدوٍ ماء بلده، أو عجز عن تناوله (أو خيف باستعماله أو طلبه ضرر ببدن) من جرح فيه، أو من برد شديد، ولم يجد ما يسخن به الماء، ولم يتمكن من استعماله على وجه لا ضرر فيه، (أو) خيف باستعماله ضرر بـ (مال) كأن يجده يباع زائدًا على ثمن المثل زيادة غير يسيرة (أو) خيف (غيرهما) أي غير الضرر في البدن والمال، كخوف فوت رفقته، ونحو ذلك (ويُفعل) أي التيمم، بالبناء للمفعول (عن (¬4) كل ما ¬
يفعل بالماء) لأنه بدله، إِلا ما استثني بقوله: (سوى نجاسة على غير بدن) فلا يصح التيمم عنها كعلى ثوب وبقعة، إذْ لا نصَّ فيه ولا قياس يقتضيه. وأما النجاسةُ على البدن فيصح التيمم لها بعد تخفيفها ما أمكن، والاعتبار بصحة التيمم كما مر آنفًا (إذا دخل وقت فرض) فلا يصح أن يتيمم لفرضٍ قبل وقته، بخلاف الوضوء بالماء إذا (أبيح غيره) أي غير الفرض فلا يصح أن يتيمم لصلاة عيد ما لم يدخل وقتها، ولا لفريضة فائتة إِلا إذا ذكرها وأراد فعلها، ولا لصلاة كسوف قبل وجوده، ولا لصلاة استسقاء ما لم يجتمعوا لها، ولا لصلاة جنازة إِلا إذا غسل الميت، ولا لنافلة في وقت نهي (¬1). ¬
(وإن وجد) محدث (ماءً لا يكفي لطهارته استعمله) فيما يكفي وجوبًا، (ثم تيمم. ويتيمم للجرح عند غسله) لو كان صحيحًا؛ لئلا يفوت الترتيب (إن لم يمكن مسحه بالماء) فإن أمكن مسحه بالماء بأن كان الجرح طاهرًا ولا ضرر في مسحه، وجب مسحه بالماء وأجزأ، لأن المسح بعض الغسل، وقد قدر عليه، لحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬1). كمن عجز عن الركوع أو السجود، وقدر على الإيماء. (ويغسل الصحيح) بعد مسح الجريح. (وطلب الماء شرط) لصحة التيمم. فلو تيمم قبله لم يصح تيممه (فإن نسي قدرته عليه) أي الماء (¬2)، أو جهله بموضمع يمكنه استعماله ولو مع عبده (¬3) (وتيمم أعاد) لأن الطهارة تجب مع العلم والذِّكر، فلا تسقط بالنسيان، كمصلٍّ محدثًا ناسٍ لحدثه، وكمصلٍّ عريانًا ناسٍ للسترة، ومكفرٍ بصومٍ ناسٍ للرقبة (¬4). ¬
(وفروضه) أي التيمم أربعة في الجملة. أحدها: (مسح وجهه) ومنه (¬1) اللحية، لقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} (¬2) سوى ما تحت شعر ولو كان خفيفًا، وسوى داخل فمٍ وأنفٍ. ويكره إدخال التراب فمه وأنفه لتقذيره. (و) الثاني مسح (يديه إلى كوعيه) لقوله تعالى: {وَأَيْدِيكُمْ} (¬3) وإذا عُلِّق حكم بمطلق اليدين لم يدخل فيه الذراع، كقطع السارق، ومس الفرج. ولحديث عمار قال: بعثني النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في حاجة فأجنبت فلما أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم أتيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكرت ذلك له. فقال: "إنما يكفيك أن تقوك بيديك هكذا"، ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه. متفق عليه (¬4). الثالث والرابع (وفي) حدث (أصغر ترتيب وموالاة أيضًا. .) لا في حدث أكبر، أو نجاسة على بدن، فلا يجب ترتيب وموالاة؛ لأن التيمم مبني ¬
على طهارة الماء، وهما فرضان في الوضوء دون ما سواه. والموالاة هنا بقدرها في وضوء. (ونية الاستباحة شرط لما يتيمم له) من صلاة أو طواف فرضًا أو نافلًا أو غيرهما من حدث أصغر أو أكبر، أو نجاسة ببدن، ويكفيه لها تيمم واحد وإن تعددت مواضعها. فإن نوى رفع حدثه لم يصح تيممه؛ لأنه مبيح لا رافع. وكذا من هو محدث حدثًا أصغر أو أكبر لا يكفيه التيمم عن واحد إِلا بنية عنهما. وكذا نجاسة على بدن لابد من تعيينها مع تعيين الحدث في نية التيمم. (ولا يصلي به) أي التيمم (فرضًا إن نوى نفلًا) لأن من تيمم لشيء استباحه فما دونه على ما يستباح بالتيمم: فرض عين، فنذر، ففرض كفاية، فنافلة، فطواف فرض، فطواف نفلٍ، فمس مصحف، فقراءة قرآن، فلبث بمسجدٍ. (أو أطلق) النية لصلاة، أو طواف، ولم يعين فرضًا ولا نفلًا، لم يستبح إِلا النفل فقط (¬1). (ويبطل) التيمم، حتى تيمم جنب لقراءة القرآن، ولبث بمسجدٍ، وتيمم حائض لوطءٍ (بخروج الوقت) لقول علي -رضي اللَّه عنه- التيمم لكل صلاة (¬2). فلو تيمم وقت الصبح بطل تيممه بعد طلوع الشمس. وكذا ¬
لو تيمم بعد الشروق بطل بالزوال (و) يبطل التيمم -أيضًا- بـ (مبطلات الوضوء) الثمانية (وبوجود ماءٍ) مقدور على استعماله بلا ضرر، وعلى ما تقدم (¬1) (إن تيمم لفقده) أي الماء. (وسُنَّ لراجيه تأخير) للصلاة (لآخر وقت مختار) لا إلى وقت الضرورة. (ومن عدم الماء والتراب) كمن حبس بمحل لا ماء فيه ولا تراب، (أو لم يمكنه استعمالها) أي: الماء والتراب كمن به قروح أو جراحات لا يستطيع معهما مس البشرة. أو به مرض يعجزه عن استعمال الماء والتراب، ولا ثم من يطهر بأحدهما (صلى الفرض فقط) دون النوافل (على حسب حاله) لأن الطهارة شرط، فلم تؤخر الصلاة عند عدمه (ولا إعادة) على من عَدِمَ الماء والتراب، أو عجز عن استعماله لهما فصلى على حسب حاله؛ لأنه أتى بما أمر به فخرج من عهدته (ويقتصر على مجزئ) فلا يقرأ زائدًا على الفاتحة، ولا يستفتح، ولا يتعوذ، ولا يبسمل، ولا يسبح زائدًا على المرة الواحدة، ولا يزيد على ما يجزئ في طمأنينة لركوع وسجود أو جلوس بين السجدتين. وإذا فرغ من قراءة الفاتحة ركع في الحال، وإذا فرغ مما يجزئ في التشهد نهض أو سلَّم في الحاله؛ لأنها صلاة ضرورة فتقيدت بالواجب إذ لا ضرورة للزائد (ولا يقرأ في غير صلاة إن كان جنبًا) لأن قراءته في الصلاة ضرورة (¬2). ¬
فصل في إزالة النجاسة الحكمية
فصل في إزالة النجاسة الحكمية (¬1) (تطهر أرض) تنجست، وأجرنة حمام ونحوه. جمع جُرْنٍ -قال في "القاموس"، الجرن بالضم حجر منقور يتوضأ منه، انتهى (¬2) - صغار مبنية أو كبار مطلقًا (ونحوها) أي: الأرض، والأجرنة، كأحواض وحيطان (بإزالة عين النجاسة) الجرمية، (و) بإزالة (أثرها) كاللون والريح (بالماء) ولو من غسلة واحدة؛ لحديث أنس قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره النَّاس، فنهاهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلما قضى بوله أمر بذنوب (¬3) من ماء، فأهريق عليه". متفق عليه (¬4). ¬
(و) يطهر (بول غلام لم يأكل طعامًا بشهوة، وقيئه، بغمره به) أي بالماء وإن لم يقطر منه شيء، ولا يحتاج إلى مرسٍ (¬1) وعصر، لحديث أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل طعامًا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأجلسته في حجره، فبال على ثوبه، فدعا بماء فنضحه ولم يغسله. متفق عليه (¬2). ولقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح (¬3) من بول الذكر". رواه أبو داود (¬4). وعلم منه أنه يُغْسل من الغائط مطلقًا، ومن بول الأنثى، والخنثى، ومن بول الصبي إذا أكل الطعام لشهوة، فإن كان لغير شهوة نُضِحَ، لأنه قد يَلْعَقُ العسل ساعة يولد. والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حنَّك بالتّمر (¬5). (وغيرهما) أي الأرض ونحوها، وبول الغلام وقيؤه، يطهر (بسبع غسلات أحدها بتراب ونحوه) كأشنان وصابون ونخالة (في نجاسة كلب أو خنزير فقط)، أو متولد منهما (مع زوالها)، لحديث مسلم عن أبي هريرة -مرفوعًا-: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا أولاهن بالتراب" (¬6). ¬
ولا يكفي تراب نجس ولا مستعمل، وأما سائر النجاسات غير المتنجس بالكلب والخنزير، فيكفي في تطهيرها سبع غسلات من غير تراب إذا زالت عين النجاسة (¬1). (ولا يضر بقاء لون أو ريح) من النجاسة (أو هما) أي اللون والريح (عجزًا) عن إزالتهما دفعًا للحرج. (وتطهر خمرة انقلبت بنفسها خلًّا) لأن نجاستها لشدّتها المسكرة الحادثة لها وقد زالت من غير نجاسة خلفتها، كالماء الكثير يزول تغيره بنفسه، بخلاف النجاسات العينية. ولا تطهر إن وُضِعَ فيها شيء يخللها أو نقلت لأجل التخليل، خبر النهي عن تخليلها (¬2)، فلا تطهر إذن. ¬
(وكذا دنُّها) وهو: وعاؤها (¬1) يطهر بطهارتها، لأن من لازم الحكم بطهارتها الحكمُ بطهارته. ولا يطهر إناء طهر ماؤه بزوال تغيره بنفسه أو بإضافة أو نزح، لأن الأواني وإن كانت كبيرة لا تطهر إِلا بسبع غسلات (¬2)، فإن انفصل عنه الماء حسب غسلة، ثم تُكمَّل (¬3)، ولا يطهر الإناء بدون إراقته (لا دهنٌ) متنجس فلا يطهر بحال؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل عن السمن يقع فيه الفأرة. فقال: "إن كان مائعًا فلا تقربوه" رواه أبو داود (¬4). ولو أمكن تطهيره ¬
لما أمر بإراقته (¬1). (و) لا يطهر (متشرب نجاسة) أي بنجاسة من حبٍّ (¬2) وعجين ولحم تشرَّبها بغسلٍ، لأنه لا يستأصل أجزاء النجاسة ممّا ذكر. ولا تطهر أرض اختلطت بنجاسة ذات أجزاء متفرقة، كالرمم (¬3) والدم إذا جفَّ، والروث إذا اختلط بأجزاء الأرض، فلا تطهر بالغسل، لأن عينها لا تنقلب، بل تطهر بإزالة أجزاء المكان، بحيث يتيقن زوال أجزاء النجاسة. ¬
ولا تطهر سكين سُقيت النجاسة بغسلها. قال أحمد في العجين: يطعم النواضح (¬1)، ولا يطعم لشيء يؤكل في الحال، ولا يحلب لبنه، لئلا يتنجس به ويصير كالجلّالة (¬2). ولا يطهر صقيلٌ كسيفٍ ومرآة بمسح (¬3). ولا تطهر أرض بشمس وريح وجفاف (¬4). ولا تطهر نجاسة بنارٍ، فرمادها ودخانها نجس. ولا تطهر نجاسة باستحالة. فالمتولد منها نجس، كدود جرح، وصراصر كنف، وكالكلب يلقى في المملحة فيصير ملحًا (¬5). ¬
(وعُفي في غير مائع و) في غير (مطعوم عن يسير دم نجس) لا كثير (ونحوه) أي الدم، كالقيح، والصديد لتولدهما منه، فهما أولى بالعفو منه (من حيوانٍ طاهرٍ) في الحياة، لا نجس، لأنه لا يعفى عن يسير فضلاته، كعرقه وريقه، فدمه أولى (لا دم سبيل) قُبُل أو دُبُر، فلا يعفى عن شيءٍ منه، لأن حكمه حكم البول والغائط (إِلا) دم (من حيضٍ) أو نفاسٍ فيعفى عن يسيره؛ لأنه يشق التحرز منه. (وما لا نفس له سائلة) كالعقرب، والخنفساء، والعنكبوت، والنحل، والزنبور، والدود من طاهر (وقمل وبراغيث وبعوضٌ ونحوها) كالذباب والنمل (طاهرة مطلقًا) سواء كانت حية أو ميتة. (ومائع مسكر) نجس خمرًا كان أو نبيذًا لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله {رِجْسٌ} (¬1)، ولقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام". رواه مسلم (¬2)، ولأن النبيذ شراب فيه شدة مطربة أشبه الخمر، وكذا الحشيشة المسكرة، قاله في "شرح المنتهى" (¬3) لمصنفه (¬4). ¬
(وما لا يؤكل من طير وبهائم مما فوق الهر خلقةً) نجس كالعقاب، والصقر، والحدأة، والبومة، والنسر، والرَّخم، وغراب البين والأبقع، والفيل والبغل، والحمار والأسد، والنمر والذئب، والفهد والكلب، والخنزير وابن آوى، والدب والقرد، وما تولد منها. (ولبن ومني من غير آدمي) ومن غير مأكول اللحم نجس. ومن الآدمي ومن مأكول اللحم طاهر (وبول وروث ونحوها) كالدم والقيح والصديد والقيء (من غير مأكول اللحم نجسة) ولا يعفى عن شيء منها. ويعفى عن يسير من دم، وما تولد منه من حيوان طاهر في الحياة، كالهر والفأر في غير مائع وفي غير مطعوم، كما تقدم (¬1) (ومنه) أي من مأكول اللحم (طاهرة) جميع فضلاته (كممّا لا دم له سائل) وعرق وريق من حيوان طاهر في الحياة. والبلغم من صدر أو رأس أو معدة طاهر، ولو ازرقَّ. (ويعفى عن يسير طين شارع عرفًا) أي في العرف (إن علمت نجاسته) بيقين، (وإلا) فإن ظنَّت (فطاهر) عملًا بالأصل. ¬
فصل في الحيض
فصل في الحيض الحيض لغة: السيلان. مصدر حاض، مأخوذ من حاض الوادي إذا سال. وتحيضت المرأة قعدت أيام حيضها عن نحو صلاة (¬1). ومن أسمائه: الطمث، والعراك، والضحك، والإعصار، والإكبار، والنفاس، والفراك، والدراس (¬2). واستحيضت المرأة استمر بها الدم بعد أيامها. وشرعًا: دم طبيعة وجُبلة -بضم الجيم وكسرها- أي سجيّة وخلقة جبل اللَّه بنات آدم عليها، ترخيه الرحم، يعتاد أنثى إذا بلغت في أوقات معلومة (¬3). و(لا حيض مع حمل) نصًّا (¬4)، لحديث أبي سعيد -مرفوعًا- في سبي أوطاس (¬5): "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض". رواه أحمد، وأبو داود (¬6). فجعل الحيض علمًا على براءة الرحم، فدل على ¬
أنه لا يجتمع معه. وقال عليه الصلاة والسلام لما طلق ابن عمر زوجته وهي حائض: "ليطلقها طاهرًا أو حاملًا" (¬1) فجعل الحمل علمًا على عدم الحيض كالطهر، احتج به أحمد (¬2). وقال: إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الدم (¬3). ولأنه زمن لا يُرى فيه الدم غالبًا فلم يكن ما تراه حيضًا، كالآيسة، فإذا رأت دمًا فهو دم فساد، فلا تترك له الصلاة، ولا يمنع زوجها ¬
من وطئها. ويستحب أن تغتسل عند انقطاعه نصًّا (¬1). (ولا بعد خمسين سنة) لقول عائشة -رضي اللَّه عنها-: إذا بلغت المرأة خمسين سنة، خرجت من حد الحيض (¬2). وعنها -أيضًا-: لن ترى المرأة في بطنها ولدًا بعد الخمسين (¬3). (ولا قبل تمام تسع سنين) تحديدًا؛ لأنه لم يوجد من النساء من تحيض قبل هذا السن، ولأنه خلق لحكمة تربية الولد، وهذه لا تصلح للحمل، فلا توجد فيها حكمته. وروي عن عائشة: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة (¬4). وروي مرفوعًا عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- (¬5). والمراد حكمها حكم المرأة، ¬
فمتى رأت دمًا يصلح أن يكون حيضًا حكم بكونه حيضًا، وببلوغها. وإن رأته قبل هذا السن! يكن حيضًا (¬1). (وأقلُّه) أي: وأقل زمن يصلح أن يكون دم حيض (يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر) يومًا بلياليها، لقول علي: ما زاد على خمسة عشر استحاضة، وأقل (¬2) الحيض يوم وليلة (¬3) (¬4). (وغالبه ست أو سبع) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لحمنة: "تحيضي في علم اللَّه ستة أيام، أو سبعة، ثم اغتسلي، وصلي أربعة وعشرين يومًا كما تحيض النساء، وكما يطهرن لميقات" (¬5). ¬
(وأقل طهر بين حيضتين ثلاثة عشر) يومًا. روى أحمد عن علي -واحتج به- أن امرأة جاءته وقد طلقها زوجها، فزعمت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض. فقال علي لشريح: قل فيها. فقال شريح: إن جاءت ببينة من بطانة أههلها ممن يرضى دينه وأمانته، فشهدت بذلك، وإلا فهي كاذبة. فقال علي: قالون -أي جيد بالرومية- (¬1) قال أحمد: لا يختلف أن العدة يصح أن تنقضي في شهر إذا قامت به البينة (¬2)، وغالبه بقية الشهر، فمن تحيض ستة أيام، أو سبعة من الشهر، فغالب طهرها أربعة وعشرون، أو ثلاثة وعشرون (¬3). ¬
(ولا حد لأكثره) أي الطهر بين الحيضتين، لأنه لم يرد تحديده شرعًا. ومن النساء من تطهر الشهرين والثلاثة والسنة فأكثر، ومنهن من لا تحيض أصلًا. والطهر زمن حيض خلوص النقاء، بأن لا تتغير معه قطنة احتشت بها. ولا يكره وطؤها فيه. فمن كانت عادتها مثلًا ستًّا أو سبعًا، وطهرت لثلاث، واغتسلت! يكره وطؤها؛ لأنه تعالى وصف الحيض بكونه أذًى، فإذا انقطع واغتسلت فقد زال الأذى. (وحرم عليها) أي الحائض (فعل صلاة) إجماعًا (¬1)، فلا تقضيها، (و) فعل (صوم) إجماعًا (¬2)؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أليست إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل؟ " قلن: بلى يا رسول اللَّه. رواه البخاري (¬3). (ويلزمها قضاؤه) أي الصوم إجماعًا، لحديث معاذة قالت: سألت عائشة، فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؛ فقالت: أحرورية (¬4) أنت؟ فقلت: لست ¬
بحرورية، ولكن أسأل. فقالت: كنا نحيض على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. متفق عليه (¬1). (ويجب بوطئها في الفرج) الكفارة (دينار أو نصفه) على التخيير؛ لحديث ابن عباس -مرفوعًا- في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: "يتصدق بدينار أو نصف دينار". رواه أحمد وغيره (¬2). ¬
تنبيه
وتخييره بين الدينار ونصفه، كتخيير المسافر بين القصر والإتمام. تنبيه: وقد ذكر في "الإنصاف" (¬1) أن الكمال دينار. فإن قيل: فما معنى تشبيهه بتخيير المسافر بنت القصر والإتمام، مع أن القصر في السفر مباح أفضل من الإتمام. وهنا الكمال الدينار، فما معنى تشبيهه بذلك. أجاب شيخنا -أيده اللَّه تعالى الشيخ محمد بن عبد اللَّه بن فيروز (¬2) - أنه لا يلزم منه كونُ المشبه كالمشبه به. انتهى. ثم ألقى اللَّه -سبحانه وتعالى- في روعي شاهدًا من القرآن العزيز، وهو قوله تعالى: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬3) إلخ فعلمت يقينًا صحة ما أجاب به شيخنا -حفظه اللَّه تعالى- (¬4) ثم وقفت بعد ذلك على قول أبي تمام (¬5) -رحمه اللَّه تعالى-: ¬
لا تُنكروا ضربي له من دونه. . . إلخ (¬1) فحمدتُ اللَّه تعالى على فهم هذه الدقيقة، التي هي بإدامة شكر [و] حمد المنعم على الحقيقة خليقة. والدينار هنا المثقال من الذهب (¬2) مضروبًا (¬3) أو لا. وتجزئ قيمته من الفضة فقط (¬4). (كفارة، وتباح المباشرة فيما دونه) أي الفرج لما روى عبد بن ¬
حميد (¬1)، وابن جرير (¬2) عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (¬3): أي اعتزلوا نكاح فروجهن (¬4). ولأن المحيض اسم لمكان الحيض، كالمقيل والمبيت، فيختص التّحريم به، ولهذا لما نزلت هذه الآية قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اصنعوا كل شيء إِلا النكاح". رواه مسلم (¬5). ويسن ستر الفرج حين استمتاعه بما دونه، لحديث عكرمة عن بعض أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان إذا أراد من الحائض شيئًا ألقى على فرجها خرقة. رواه أبو داود (¬6). ¬
(والمبتدأة) أي في زمن يمكن أن يكون حيضًا، وهي التي رأت الدم، ولم تكن حاضت (تجلس) أي: تدع الصلاة والصيام ونحوهما بمجرد رؤيته، سواء كان أحمر أو أصفر أو كدرًا (أقله) أي: أقل الحيض يومًا وليلة (ثم تغتسل) بعده، سواء انقطم لذلك أم لا (وتصلي) وتصوم، لأن ما زاد على أقله يحتمل الاستحاضة، فلا تترك الواجب بالشك، ولا تصلي قبل الغسل لوجوبه للحيض (فإن لم يجاوز حيضها أكثره) أي الحيض، بأن انقطع لخمسة عشر فما دون (اغتسلت أيضًا إذا انقطع) وجوبًا، لصلاحية أن يكون حيضًا، (فإن تكرر ثلاثًا) في ثلاثة أشهر ولم يختلف (فهو حيض) أي صار عادة لها، تنتقل إليه، فتجلس جميعه في الشهر الرابع، لتيقنه حيضًا و (تقضي ما وجب فيه) من نحو صوم رمضان، وقضائه، ونذر، وطواف، ونحوه لأنا تبيَّنَّا فساده، لكونه في الحيض (وإن أيست قبله) أي: قبل تكراره ثلاثًا، (أو لم يعد) الدم إليها، (فلا) تقضي، لأنا لم نتحقق كونه حيضًا، والأصل براءتها. (وإن جاوزه) أي: جاوز دم مبتدأةٍ أكثر حيض (فـ) هي (مستحاضة) لأنه لا يصلح أن يكون حيضًا (¬1). ¬
والاستحاضة سيلان الدم في غير زمن الحيض من عرق، يقال له: العاذل -بالذال المعجمة- وقيل: المهملة، من أدنى الرحم دون قعره (¬1)؛ لأن المرأة لها فرجان: داخل بمنزلة الدبر، منه الحيض، وخارج بمنزلة الأليتين منه الاستحاضة. والمستحاضة من جاوز دمها أكثر الحيض. والدم الفاسد أعم من الاستحاضة. (تجلس المتميز إن كان) ثم تمييز (¬2) لأنها لا تخلو من حالين: إما أن تكون مميزة أو لا. فإن كانت مميزة، كمن رأت بعض دمها ثخينًا وبعضه رقيقًا، أو بعضه أسود وبعضه أحمر، أو بعضه منتنًا وبعضه غير منتن (وصلُح) ضم اللام وفتحها؛ أي الثخين أو الأسود أو المنتن أن يكون حيضًا بأن لم ينقص عن أقله، ولم يجاوز أكثره (في الشهر الثاني) متعلق بـ (تجلس)، أو تدع زَمَنَهُ الصوم والصلاة ونحوهما مما يشترط له الطهارة، فإذا مضى اغتسلت وفعلت ذلك، لحديث عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حُبَيْش إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: يا رسول اللَّه إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما ذلك دم عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي". متفق عليه (¬3). ولو لم يتوال (¬4) بأن كانت ترى يومًا أسود، ويومًا أحمر إلى ¬
خمسة عشر يومًا فما دون، ثم أطبق الأحمر، فتضم الأسود بعضه إلى بعض وتجلسه، وما عداه استحاضة، وكذا لو رأت يومًا أسود، وستة أحمر، ثم يومًا أسود، ثم ستة أحمر، ثم يومًا أسود، ثم أطبق الأحمر، فتجلس الثلاثة زمن الأسود، أو لم يتكرر فتجلس زمن الأسود الصالح في أول شهر وما بعده، ولا تتوقف على تكراره، وتجلسه -أيضًا- ولو انتفى التوالي والتكرار معًا؛ لأن التمييز أمارة في نفسه، فلا يحتاج إلى ضم غيره إليه. وتثبت العادة بالتمييز إذا تكرر ثلاثة أشهر، فتجلسه في الرابع، وإن لم يكن متميزًا. الحال الثاني: أن تكون غير مميزة، وإليه الإشارة بقوله: (وإلا) أي وإن لم يكن بعض دمها ثخينًا أو أسود أو منتنًا، وصلح حيضًا، بأن كان كله على صفة واحدة، أو الأسود منه ونحوه دون اليوم والليلة، أو جاوز الخمسة عشر، فتجلس (أقل الحيض) من كل شهر؛ لأنه اليقين (حتى تتكرر استحاضتها) ثلاثة أشهر؛ لأن العادة لا تثبت بدونه، كما تقدم (¬1). (ثم غالبه) أي غالب الحيض: ستًا أو سبعًا، باجتهاد في حال الدم، لحديث حمنة بنت جحش قالت: يا رسول اللَّه: إني أستحاض حيضة شديدة كبيرة، قد منعتني الصوم والصلاة. فقال: "تحيضي في علم اللَّه ستًّا أو سبعًا، ثم اغتسلي" (¬2). رواه أحمد وغيره (¬3). ¬
(ومستحاضة معتادةٌ تقدِّم عادتها) ولو كان لها تمييز صالح (¬1)، لعموم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لأم حبيبة، إذ سألته عن الدم: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي وصلي". رواه مسلم (¬2). ولأن العادة أقوى، لكونها لا تبطل دلالتها، بخلاف نحو اللون إذا زاد على أكثر الحيض بطلت دلالته. ولا تجلس ما نقصته عادتها قبل استحاضتها، فإذا كانت عادتها ستة أيام فصارت أربعة، ثم استحيضت، جلست الأربعة فقط، وإن لم يتكرر النقص. (ويلزمها) أي: المستحاضة (ونحوها) ممن حدثُه دائم، كمن به سلس بول، أو مذي، أو ريح، أو جرح لا يرقى دمه أو رعاف دائم (غسل المحلِّ) الملوث لإزالته عنه (وعصبه) أي فعل ما يمنع الخارج حسب الإمكان من ¬
حشوه بقطن وشده بخرقة طاهرة. وتستثفر (¬1) المستحاضة إن أكثر دمها بخرقة مشقوقة الطرفين تشدُّها على جنبيها ووسطها على الفرج، فإن لم يمكن شدُّه كباسور، وناصور، وجرح لا يمكن شدُّه، صلى على حسب حاله. (و) يلزم المستحاضة، ومن حدثه دائم (الوضوء لكل صلاة إن خرج شيء) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في المستحاضة: "وتتوضأ عند كل صلاة". رواه أبو داود وغيره (¬2). (ونية الاستباحة) أي: يلزم المستحاضة، ومن حدثه دائم أن ينوي بوضوئه الاستباحة؛ لأن الحدث دائم فلا ينوي رفعه. (وحرم وطؤها) أي المستحاضة (إِلا من خوف زنًا) منها أو منه، لقول عائشة: المستحاضة لا يغشاها زوجها (¬3). فإن خاف أو خافته، أبيح وطؤها ¬
ولو لواجد الطول خلافًا لابن عقيل (¬1). وكذا إن كان به ¬
شَبَق (¬1) شديد يخاف معه تشقق أنثييه. وحيث حرم، فلا كفارة فيه؛ لأنه أخف من الحيض، ومدته تطول بخلاف الحيض، ولأن وطء الحائض قد يتعدى إلى الولد فيكون مجذومًا (¬2). (وأكثر مدة النفاس) وهو بقية الدم الذي احتبس في مدة الحمل له. مأخوذ من التنفس، وهو الخروج من الجوف. أو من نفس اللَّه كربته، أي فرَّجها (¬3). وعرفًا: دم ترخيه الرحم مع ولادة، وقبلها بيومين أو ثلاثة، بإمارةٍ على الولادة، كالتألم وإلا فلا تجلسه عملًا بالأصل (¬4). (أربعون يومًا) قال الترمذي (¬5): أجمع أهل العلم من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يومًا، إِلا أن ترى الطهر قبل ذلك، فتغتسل وتصلي (¬6). ¬
تتمة
(والنقاء منه) أي: النفاس (طهرٌ) كالحيض فتغتسل وتفعل ما تفعله الطاهرات، لكن (يكره الوطء فيه) أي النقاء منه بعد الغسل. قال أحمد: ما يعجبني أن يأتيها زوجها (¬1)، لحديث عثمان بن أبي العاص، أنها أتته قبل الأربعين، فقال: لا تقربيني (¬2)، ولانه لا يأمن العود زمن الوطء. (وهو كحيض في أحكامه) من تحريم الوطء، ووجوب الكفارة فيه، وتحريم العبادات من صوم، وصلاة، وطوافٍ، وقراءة قرآن، ونحو ذلك (غير عدة) فلا تثبت به، لأنه ليس بقرءٍ، فلا تتناوله الآية، (و) غير (بلوغ) لأنه حصل بالإنزال السابق للحمل. تتمة: لو عاد الدم في الأربعين بعد انقطاعه، أو لم تره عند الولادة، ثم رأته فيها فهو مشكوك فيه (¬3)، فتصوم وتصلي معه، وتقضي الصوم المفروض ¬
احتياطًا، ولا توطأُ في هذا الدم كالمبتدأه في الزائد على أقل الحيض قبل تكرره (¬1). وإن وضعت ولدين فأكثر، فأول مدة النفاس من الأول. فلو كان بينهما أربعون يومًا فلا نفاس للثاني. * * * ¬
كتاب الصلاة
كتاب الصلاة الصلاة لغة: الدعاء (¬1). قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (¬2) أي ادعُ لهم. وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان صائمًا فليصلِّ" (¬3). وشرعًا: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم. للخبر (¬4). سميت صلاة لاشتمالها على الدعاء، مشتقة من الصلوين، تثنية صلا، ¬
كعصى، وهما عرقان من جانبي الذنب أو عظمان ينحنيان في الركوع والسجود، لأن رأس المأموم عند صلوي إمامه (¬1). وفرضها بالكتاب، والسنة، والإجماع (¬2)، وكان في ليلة الإسراء (¬3) بعد بعثه عليه الصلاة والسلام بنحو خمس سنين (¬4). وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين. (تجب) الصلوات (الخمس) وفي اليوم والليلة (على كل مسلم) ذكر أو أنثى أو خنثى، حُرٍّ أو عبدٍ أو مُبعَّضٍ (مكلف) أي: بالغ عاقل (إِلا حائضًا ونفساء) فلا تجب عليهما، كما تقدم (¬5)، وإلا لأمرتا بقضائها. (ولا تصح) أي الصلاة (من مجنون) لعدم النية، ولا تجب عليه؛ لأنه ليس من أهل التكليف، أشبه الطفل. ولا على الأبله (¬6) الذي لا يفيق. ¬
(ولا) تصح الصلاة من (صغير غير مميز) وأما من المميز فتصح، وهو من بلغ سبع سنين (وعلى وليِّه) أي ولي المميز (أمره بها) أي الصلاة (لـ) تمام (سبع) سنين (وضربه على تركها لعشر) سنين تامَّة. لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها لعشرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع". رواه أحمد، وأبو داود (¬1). والأمر والتأديب لتمرينه عليها حتى يألفها ويعتادها، فلا يتركها. وأما وجوب تعليمه إياها والطهارة، فلتوقف فعلها عليه، فإن احتاج إلى أجرة، فمن مال الصغير، فإن لم يكن، فعلى من تلزمه نفقته. (ويحرم تأخيرها) أي الصلاة عن وقت الجواز -وهو الوقت المختار فيما له وقتان- (إلى وقت الضرورة) لأنه تارك للواجب، مخالف للأمر، ولئلا تفوت فائدة التأقيت (إِلا) لعذر، كـ (من) يباح (له الجمع) من مريضٍ ومسافرٍ ونحوهما (بنية) في وقت الأولى إذا نواه تأخيرًا، (و) إِلا من (مشتغل بشرط لها) أي الصلاة (يحصل قريبًا) كمن بسترته خرق وليس عنده غيرها، واشتغل بخياطته حتى خرج الوقت، ونحو ذلك، فلا إثم عليه، بل ذلك واجب. فإن كان تحصيل الشرط بعيدًا صلى على حسب حاله ولم يؤخر، ويجوز له تأخير فعلها في الوقت مع العزم عليه، فإن لم يعزم على فعلها فيه أثم، ما لم يظن مانعًا من فعلها في الوقت، كموت، وقتل، وحيض فيتعين أول الوقت؛ لئلا تفوته بالكلية، أو أداؤها. ¬
(وجاحدها) أي: الصلاة (كافر) أي: من جحد وجوبها، فهو كافر، أي: مرتد (¬1)، لأنه مكذب للَّه ورسوله، وإجماع الأمة. وكذا لو تركها تهاونًا أو كسلًا إذا دعاه إمام أو نائبه لفعلها وأبى حتى تضايق وقت التي بعدها، بأن يدعى للظهر مثلًا فيأبى حتى يتضايق وقت العصر عنها، فيقتل كفرًا، لقوله عليه الصلاة والسلام: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة". رواه مسلم (¬2). ولقوله: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر". رواه أحمد وغيره (¬3)، ولقوله: "أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة" (¬4). قال أحمد: كل ¬
شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء (¬1). وقال عمر: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة (¬2). وقال علي: من لم يصل فهو كافر (¬3). وقال عبد اللَّه بن شقيوق: لم يكن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة (¬4). ولا قتل ولا تكفير قبل الدعاية، ولم يقتل بترك الأولى لأنه لا يُعلم أنه عزم على تركها إِلا بخروج وقتها، فإذا خرج ¬
علم تركه لها، لكنها فائتة لا يقتل بها، فإذا ضاق وقت الثانية وجب قتله. ويستتاب ثلاثة أيام بلياليها، فإن تاب بفعلها مع إقرار الجاحد لوجوبها به خُلي سبيله، وإلا ضربت عنقه بالسيف، لحديث: "وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة". رواه مسلم (¬1). ¬
فصل في الأذان
فصل في الأذان (الأذان) لغة: الإعلام (¬1). قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} (¬2) أي أعلمهم به. وشرعًا: إعلام بدخول وقت الصلاة، أو قربه لفجرٍ فقط (¬3). (والإقامة) مصدر أقام، وحقيقته إقامة القاعدةُ، فكأن المؤذن إذا أتى بألفاظ الإقامة أقام القاعدين، وأزالهم عن قعودهم (¬4). وشرعًا: إعلامٌ بالقيام إلى الصلاة (¬5). ¬
والأذان والإقامة (فرضا كفاية) لحديث "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم". متفق عليه (¬1). والأمر يقتضي الوجوب. وعن أبي الدرداء مرفوعًا: "ما من ثلاثة لا يؤذن، ولا تقام فيهم الصلاة إِلا يستحوذ عليهم الشيطان". رواه أحمد، والطبراني (¬2). ولأنهما من شعائر الإسلام الظاهرة كالجهاد. ولا يشرعان لكل من في المسجد، بل يكفيهم المتابعة، وتحصل لهم الفضيلة، كقراءة الإمام قراءة للمأموم. والأذان أفضل من الإمامة، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين". رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي (¬3). والأمانة أعلى [من الضمان، والمغفرة أعلى] (¬4) من الإرشاد، وإنما لم يتولَّ (¬5) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفاؤه من بعده الأذان لضيق وقتهم. قال عمر: "لولا ¬
الخلِّيفى (¬1) لأذنت" (¬2). ويشهد لفضل الأذان قوله عليه السلام: "المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة". رواه مسلم (¬3). وقوله: "من أذن سبع سنين محتسبًا [كتبت] (¬4) له براءة من النار". رواه ابن ماجه (¬5). والأحاديث في ذلك كثيرة. والأصل في مشروعيته ما روى أنس قال: لما أكثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه. فذكروا أن يوقدوا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا. فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. متفق عليه (¬6). وحديث عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربه. رواه أحمد، وغيره (¬7). ¬
تنبيه
تنبيه: فرض الكفاية مهم (¬1) يُقْصدُ حصولُهُ من غير نظرٍ بالذات إلى فاعله. بمعنى: أنه واجب فعله في العموم، بحيث لو قام به من يكفي، لم يطالب بفعله من سواه، وإن تركه الكل أثم وأثموا (¬2). وإنهما فرضان (على الرجال الأحرار) اثنين فأكثر، لا الواحد، ولا النساء والخناثى، ولا الأرقَّاء، ولا الصبيان (المقيمين) لا المسافرين. ويُسَنَّانِ للمنفرد، لحديث عقبة بن عامر مرفوعًا: "يعجب ربك من راعي غنم في رأس الشظية (¬3) للجبل، يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول اللَّه عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة". رواه النسائي (¬4). ¬
ويسنَّانِ في السفر، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لمالك بن الحويرث ولابن عمٍّ له: "إذا سافرتما فأذّنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما". متفق عليه (¬1). ويسنان -أيضًا- لمقضيَّة من الخمس، لحديث عمرو بن أمية الضمري قال: كنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في بعض أسفاره، فنام عن الصبح حتى طلعت الشمس، فاستيقظ فقال: "تنحوا عن هذا المكان". قال: ثم أمر بلالًا فأذن، ثم توضأ وصلى ركعتي الفجر، ثم أمر بلالًا فأقام الصلاة، فصلى بهم صلاة الصبح. رواه أبو داود (¬2). ولا يرفع صوته إن خاف تلبيسًا، كما لو أذن في غير وقت الأذان. ويكرهان للنساء، ولو بلا رفع صوت، لأنهما وظيفة الرجال، ففيه نوع تشبه بهم (¬3). ¬
(لـ) لصلوات (الخمس) دون المنذورة وغيرها (المؤداة) لا المقضيات (والجمعة) عطف على الخمس. (ولا يصح) الأذان (إِلا مرتبًا) لأنه ذكر يعتد به، فلا يجوز الإخلال بنظمه، كأركان الصلاة (متواليًا) عرفًا، ليحصل الإعلام، ولأن مشروعيته كانت كذلك (منويًّا) لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1). (من ذكر) لا أنثى ولا خنثى، واحدٍ، فلو أذَّن واحدٌ بعضه، وكمَّله آخر لم يصح. (مميز) فغير المميز لا يجزئ أذانه. ¬
(عدل ولو ظاهرًا) فلا يجزئ أذان ظاهر الفسق. (و) لا يصح إلا (بعد) دخول (الوقت لغير فجر) وأما الفجر، فيصح بعد نصف الليل، لحديث: "إن بلالًا (¬1) يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم". متفق عليه (¬2). وليتهيأ جنب ليدرك فضيلة أول الوقت. (وسن كون المؤذن صيتًا) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن زيد: "ألقه على بلال، فإنه أندى منك صوتًا" (¬3). ولأنه أبلغ في الإعلام المقصود بالأذان. وسنَّ أيضًا كونه (عالمًا بالوقت) ليؤمن خطؤه (أمينًا) لحديث: "أمناء الناس على صلاتهم وسحورهم المؤذنون". رواه البيهقي (¬4). والأذان خمس عشرة جملة بلا ترجيع (¬5)، والإقامة إحدى عشرة جملة بلا تثنية. ويكره أذان الفجر في رمضان قبل طلوع فجر ثانٍ، إذا لم يؤذن له بعده، لئلا يغز الناس فيتركوا سحورهم. ¬
ورفع الصوت بالأذان ركن ما لم يؤذن لحاضر، فبقدر ما يسمعه، وإن شاء رفع صوته، وهو أفضل. ويستحب رفع صوته قدر طاقته، ما لم يؤذن لنفسه. (ومن جمع) تقديمًا أو تأخيرًا، (أو قضى فوائت، أذّن للأولى، وأقام لكل صلاة) بعدها لحديث أبي عبيدة (¬1) عن ابن مسعود: أن المشركين يوم الخندق شغلوا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء اللَّه، فأمر بلالًا فأذن، ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء. رواه النسائي، والترمذي، ولفظه له (¬2). ويجزئ أذان مميز لبالغين (¬3). ¬
(وسن لمؤذن و) سن لـ (سامعه) أي: المؤذن (متابعة قوله سرًّا)، لحديث عمر -مرفوعًا-: "إذا قال المؤذن: اللَّه أكبر اللَّه أكبر فقال أحدكم: اللَّه أكبر اللَّه أكبر. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه. فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه. ثم قال: أشهد أن محمدًا رسول اللَّه. فقال: أشهد أن محمدًا رسول اللَّه. ثم قال: حي على الصلاة. فقال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه. ثم قال: حي على الفلاح. فقال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه. ثم قال: اللَّه أكبر اللَّه أكبر. فقال: اللَّه أكبر اللَّه أكبر. ثم قال: لا إله إلا اللَّه. فقال: لا إله إلا اللَّه مخلصًا من قلبه دخل الجنة". رواه مسلم (¬1). ولو سمع مؤذنًا ثانيًا وثالثًا، ولم يكن صلى في جماعة، أجاب. وسن -أيضًا- لمقيم، وسامعه متابعة قوله سرًّا بمثله (¬2) (إلا في الحيعلة) وهو قول: حي على الصلاة. حي على الفلاح. (فيقول الحوقلة) أي يجيبه بقول: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، (و) إلا (في التثويب) وهو قول: الصلاة خير من النوم، فيجيبه بقوله: (صدقت وبرِرت) بكسر الراء ¬
الأولى (¬1). وإلا في لفظ الإقامة فيقول: أقامها اللَّه وأدامها (¬2). (و) تُسنّ (الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-) الصلاة والسلام (بعد فراغه) مكان متابعة المؤذن أو المقيم، (و) يسن (قول ما ورد) وهو: "اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته" (¬3). وهو الشفاعة العظمى في موقف القيامة، لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون. لما روى ابن [عمرو] (¬4) مرفوعًا: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى عليَّ صلاة، صلى اللَّه عليه بها عشرًا، ثم سلوا اللَّه لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد اللَّه، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة، حلت عليه الشفاعة". رواه مسلم (¬5). (و) سن (الدعاء) بعد الأذان، لحديث أنس -مرفوعًا-: "الدعاء لا ¬
يرد بين الأذان والإقامة". رواه أحمد، وغيره (¬1)، ويدعو عند الإقامة -أيضًا- فعله أحمد ورفع يديه (¬2). ويقول عند أذان المغرب: "اللهم هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك فاغفر لي" للخبر (¬3). (ويحرم خروج من المسجد بعد الأذان بلا عذر ونية رجوع) (¬4). فإن ¬
كان لعجز قبل وقته، أو لعذر من مرض، أو مدافع لأحد الأخبثين، أو نحو ذلك، أو نية رجوع قبل فوت الجماعة، فلم يحرم. ولا بأس بأذان على سطح بيت قريب من المسجد. ويستحب أن لا يقوم عند الأخذ في الأذان، بل يصبر قليلًا لئلا يتشبه بالشيطان (¬1). ¬
فصل في شروط الصلاة
فصل في شروط الصلاة (شروط صحة الصلاة) التي تتوقف عليها إن لم يكن عذر (ستة) وأسقط منها ثلاثة: الإسلام، والعقل، والتمييز. وإلا فهي تسعة بها. وهذه الثلاثة شرط لكل عبادة غير الحج، فيصح ممن لم يميّز، كما سيأتي في بابه (¬1). والشروط: جمع شرط، وهو لغة: العلامة (¬2). وعرفًا: ما لا يوجد المشروط مع عدمه، ولا يلزم أن يوجد عند وجوده (¬3). وليست شروط الصلاة منها، بك تجب قبلها (¬4)، فتسبقها وتستمر فيها وجوبًا إلى انقضائها. بخلاف الأركان. الشرط الأول من الستة (طهارة الحدث وتقدمت)، لحديث: "لا يقبل اللَّه صلاة بغير طهور". رواه مسلم (¬5). (و) الثاني (دخول وقت (¬6)) الصلاة (¬7) مؤقتة، وهو المقصود هنا. قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (¬8). قال ابن عباس: دلوكها إذا فاء ¬
الفيء (¬1). وقال عمر: الصلاة لها وقت شرطه اللَّه تعالى لا تصح إلا به (¬2). وهو حديث جبريل حين أمَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالصلوات الخمس، ثم قال: "يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك" (¬3). فوقت صلاة الظهر مشتقة من الظهور، لأن فعلها يكون ظاهرًا (¬4). وتسمى -أيضًا- الهجير، لفعلها وقت الهاجرة (¬5). وهي الأولى؛ لبداءة جبريل بها لما صلى بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). ¬
وفيه إشارة إلى [أن] (¬1) هذا الدين ظهر أمره، وسطع نوره. وختم بالفجر لأنه وقت [ظهور فيه] (¬2) ضعف. (فـ) أول (وقت الظهر من الزوال) وهو ميل الشمس إلى الغروب (¬3). ويمتد وقتها من الزوال (حتى يتساوى منتصب وفيؤه) أي: ظله (سوى ظل الزوال) فإذا ضبطت الظل الذي زالت عليه الشمس، وبلغت الزيادة عليه قدر الشاخص، فقد انتهى وقت الظهر. والأفضل تعجيلها، لحديث أبي برزة: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي الهجير التي يدعونها الأولى حين تدحض الشمس (¬4). وقال جابر: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي الظهر بالهاجرة. متفق عليهما (¬5). إلا مع حرٍّ فتؤخر حتى ينكسر الحر، سواء كان في جماعة أو منفردًا، في المسجد أو في بيته، لعموم حديث: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من ¬
فيح (¬1) جهنم". متفق عليه (¬2). وفيحها: غليانها وانتشار لهبها وإلا مع غيمٍ لمصلٍّ جماعة، لما روى سعيد عن إبراهيم قال: كانوا (¬3) يؤخرون الظهر، ويعجلون العصر في اليوم المغيم (¬4). فتؤخر فيه لقرب وقت العصر، للسهولة، لأنه يخاف فيه العوارض من مطر وريحٍ، فيشق الخروج بتكرره، فاستحب تأخير الأولى ليقرب وقت الثانية، فيخرج لهما خروجًا واحدًا. غير جمعة فيسن تقديمها مطلقًا، حديث سهل بن سعد: ما كنا نقيل (¬5) ولا نتغدى إلا بعد الجمعة (¬6). وقول سلمة بن الأكوع: كنا نجمِّع (¬7) مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم نرجع نتتبع الفيء. متفق عليهما (¬8). (ويليه) أي يلي وقت الظهر الوقت (المختار للعصر حتى يصير ظل كل شيء) منتصب (مثيله سوى ظل الزوال (¬9). و) وقت (الضرورة) ممتد (إلى ¬
الغروب) وتعجيلها مطلقًا أفضل. (ويليه) أي: وقت العصر، وقت (المغرب) ويمتد (حتى يغيب الشفق (¬1) الأحمر) لحديث عمر -مرفوعًا-: "وقت المغرب ما لم يغب الشفق". رواه مسلم (¬2). والأفضل تعجيلها، لحديث رافع بن خديج: كنا نصلي المغرب مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فينصرف أحدنا وإنه ليبصر مواقع نبله. متفق عليه (¬3). إلا ليلة جمع، أي: مزدلفة، فيسن تأخيرها لمحرم يباح له الجمع إن لم يوافها (¬4) وقت المغرب، فيصلي المغرب في وقتها ولا يؤخرها. (ويليه) أي يلي وقت المغرب الوقت (المختار للعشاء) وهو أول الظلام. وعرفًا: أول صلاة هذا الوقت (¬5). ويقال لها: عشاء الآخرة (¬6). ¬
ويمتد وقتها المختار (إلى ثلث الليل الأول) (¬1) لأن جبريل -عليه السلام- صلى بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في اليوم الأول حين غاب الشفق. وفي اليوم الثاني حين كان ثلث الليل الأول. ثم قال: "الوقت فيما بين هذين". رواه مسلم (¬2). وصلاتها آخر الثلث الأول أفضل، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل، أو نصفه". رواه الترمذي وصححه (¬3). ويكره تأخيرها إن شقَّ ولو على بعض المصلين. ويكره النوم قبلها، والحديث بعدها، إلا حديثًا يسيرًا، أو مع أهل أو ضيف. (و) وقت (الضرورة) ممتد من ثلث الليل (إلى طلوع فجر (¬4) ثان) وهو ¬
البياض المعترض. (ويليه) أي يلي وقت الضرورة للعشاء وقت (الفجر) وهو من طلوع فجرٍ ثانٍ (إلى شروق (¬1)) أي شروق الشمس. وكله اختيار، وتعجيلها مطلقًا أفضل. قال ابن عبد البر (¬2): [صحَّ] (¬3) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبي بكر، وعمر، وعثمان أنهم كانوا يغلِّسون (¬4)، ومحال أن يتركوا الأفضل، وهم النهاية في إتيان الفضائل (¬5). وحديث (¬6): . . . . . . . ¬
"أسفروا (¬1) بالفجر، فإنه أعظم للأجر". رواه أحمد وغيره (¬2). حكى الترمذي عن الشافعي، وأحمد، وإسحاق: أن معنى الإسفار أن يضيء الفجر فلا يشكُّ فيه (¬3). ويسن جلوسه في مصلاه بعد العصر إلى الغروب، وبعد الفجر إلى الشروق، بخلاف بقية الصلوات (¬4). ويكره الحديث بعد صلاة الفجر في أمر الدنيا حتى تطلع الشمس. (وتدرك) صلاة (مكتوبة بـ) تكبيرة (إحرام في وقتها) أي: المكتوبة (لكن يحرم تأخيرها إلى وقت لا يسعها) لغير عذر، لأن ذلك تفريط منه (ولا يصلي حتى يتيقنه) أي الوقت بمشاهدة ما يعرف به الوقت (أو يغلب على ظنه دخوله إن عجز عن اليقين) باجتهاد أو تقدير الزمان بصنعةٍ أو قراءة (¬5)، ونحو ذلك، كساعةٍ معروفة بصحة العمل (¬6)، لأنه أمر اجتهادي، فاكتفي ¬
فيه بغلبة الظن كغيره. ويستحب التأخير حتى يتيقن دخول الوقت، قاله (¬1) ابن تميم (¬2) وغيره (¬3) (ويعيد إن) اجتهد وتبين له أنه (أخطأ) لوقوعها نفلًا (و (¬4)) بقاء فرضه عليه. (ومن صار أهلًا لوجوبها) أي: الصلاة (قبل خروج وقتها بـ) قدر (تكبيرة) إحرام (¬5) كصغير بلغ، ومجنون عقل، وحائض طهرت، ونحو ذلك (لزمته وما يجمع إليها قبلها) إن كانت (¬6) إذا (¬7) طرأ ذلك قبيل العصر، ¬
قضى الظهر وحدها، وإن كان قبيل الغروب قضى الظهر والعصر، وإن كان قبيل العشاء قضى المغرب، وإن كان قبيل الفجر قضى المغرب والعشاء، وإن كان قبيل الشمس قضى الفجر فقط. (ويجب) على كل مكلف لا مانع به (فورًا قضاء فوائت مرتبًا) نصًّا (¬1)، لحديث أحمد: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- عام الأحزاب صلى المغرب فلما فرغ قال: "هل علم أحد منكم أني صليت العصر"؟ قالوا: يا رسول اللَّه ما صليتها. فأمر المؤذن فأقام الصلاة، فصلى العصر، ثم أعاد المغرب. (¬2) وقد قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬3). (ما لم يتضرر) في بدنه لضعفه، أو يتضرر في معيشة يحتاجها له ولعياله، دفعًا (¬4) للحرج والمشقة. ويسن له التحول من موضع نام فيه حتى فاتته، لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). ¬
(أو) ما لم (يخش فوت) صلاة (حاضرة) بخروج وقتها، فيقدمها، لأنها آكد، وتركه أيسر من ترك الصلاة في الوقت (أو) يخش فوت (اختيارها) أي الصلاة ذات الوقتين، كالعصر والعشاء، فيصاب الحاضرة في وقتها المختار، لأنه لا يجوز التأخير إلى وقت الضرورة بلا عذر، فيسقط الترتيب لضيق الوقت وبالنسيان (¬1). ومَن شك في قدر ما عليه من الفوائت أَبرأ ذمته بيقين. فلو ترك عشر سجدات من صلاة شهر، قضى عشرة أيام. ومن نسي صلاة من يوم وليلة، وجهلها قضى خمسًا، ينوي بكل واحدة أنها الفائتة. (الثالث) أي: من شروط صحة الصلاة (ستر العورة) الستر -بفتح السين- مصدر ستر، وبكسرها ما يستر به (¬2). والعورة لغة: النقصان، والشيء المستقبح، ومنه كلمة عوراء، أي: قبيحة (¬3). وشرعًا: سوأة الإنسان، أي قُبُلُهُ ودبره (¬4). فيجب ستر العورة في الصلاة، ولا تصح صلاة مكشوفها مع قدرته على سترها، لقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬5) وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يقبل اللَّه صلاة حائض إلا بخمار" (¬6). وحديث سلمة بن الأكوع قال: ¬
قلت: يا رسول اللَّه: إني أكون في الصيد، وأصلي في القميص الواحد؟ قال: "نعم وازرره ولو بشوكة". رواهما ابن ماجه والترمذي (¬1). وحكى ابن عبد البر الإجماع عليه (¬2). فلو صلى عريانًا خاليًا، أو في قميص واسع الجيب (¬3) ولم يزرره، ولم يشد عليه وسطه، وكان بحيث يرى منه عورة نفسه في قيامه أو ركوعه ونحوه، لم تصح صلاته. (ويجب) ستر العورة (حتى خارجها) أي: الصلاة، (و) حتى (في خلوة وظلمة) إلا لحاجة، لحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول اللَّه: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك". قال: قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن استطعت أن لا يراها أحد، فلا يرينها". قلت: فإذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: "اللَّه أحق أن يستحى منه". رواه الإمام أحمد، وغيره (¬4). ¬
ولا يجب ستر العورة من جهة رجليه، ولو حصل من ينظر إليه منها، كمن صلى على حائط (بما لا يصف البشرة) مطلقًا، أي يصف لون البشرة من بياض وسواد ونحو ذلك، لأن الستر إنما يحصل بذلك، لا أن لا يصف حجم العضو، لأنه لا يمكن التحرز منه، ولو كان الستر بغير منسوج من نبات وورق، وليفٍ، وجلدٍ ونحوه، ولو مع وجود ثوب، لأن المطلوب ستر العورة وقد حصل. لكن لا يجب الستر ببارية (¬1) وحصيرٍ ونحوهما مما فيه مضرة، لأن المطلوب زواله شرعًا لا حصوله. (و) حدُّ (عورة رجلٍ) وخنثى بلغا عشرًا، (و) عورة (حرةٍ مراهقة) قاربت البلوغ، ومميزة ثم لها سبع سنين، (و) عورة (أمَةٍ) مطلقًا مراهقة أو بالغة (ما بين سُرَّةٍ وركبة) لحديث علي مرفوعًا: "لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت". رواه أبو داود، وغيره (¬2). ولحديث أبي أيوب الأنصاري يرفعه: "أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة". رواه الدارقطني (¬3). ويشرط في الرجل البالغ ستر أحد عاتقيه في الفرض بشيء من ¬
اللباس، لحديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء". رواه البخاري (¬1). والعاتق (¬2): موضع الرداء من المنكب. ولا فرق فيما يجعل على العاتق في كونه مما ستر به عورته أم لا، ولو وصف البشرة، لعموم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليس على عاتقه منه شيء" (¬3). فإنه يعم ما يستر البشرة، وما لا يسترها، وصلاة رجل حر أو عبد في ثوبين كقميص ورداء، أو إزار وسراويل، ذكره بعضهم إجماعا (¬4). قال بعضهم (¬5): مع ستر رأسه، والإمام أبلغ، لأنه يقتدى به. ويكفي ستر عورة الرجل في نفل ولو لم يستر أحد عاتقيه. وتسن صلاة حرة بالغة في درع، وهو: القميص (¬6)، وخمار هو: ما تضعه على رأسها، وتديره تحت حلقها (¬7)، وملحفة -بكسر الميم- ثوب ¬
تلتحف به، ويسمى جلبابًا (¬1)، لما روى سعيد عن عائشة: أنها كانت تقوم إلى الصلاة في الخمار والإزار والدرع، فتسبل الإزار فتجلبب [به] (¬2) وكانت تقول: ثلاثة أثواب لابد للمرأة منها في الصلاة إذا وجدتها: الخمار، والجلباب، والدرع (¬3). ولأن المرأة أوفى عورة من الرجل. وتكره صلاتهما في نقاب (¬4) وبرقع (¬5)، لأنه يخل بمباشرة المصلى بالجبهة والأنف، ويغطي الفم، وقد نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الرجل عنه (¬6). (و) عورة رجل وخنثى (ابن سبع سنين إلى عشر الفرجان) وعلم منه أن من دون سبع سنين لا حكم لعورته، لأن حكم الطفولية منجر عليه إلى التمييز. قال المجد (¬7): والاحتياط للخنثى المشكل أن يستتر ¬
كالمرأة (¬1)، انتهى. (وكل الحرة عورة إلا وجهها في الصلاة) فيبقى العموم فيما عداه، حتى ظفرها نصًّا (¬2)، لحديث: "المرأة عورة". رواه الترمذي وقال: حسن صحيح (¬3). وهو عام في جميعها، ترك في الوجه للإجماع (¬4). (ومن انكشف بعض عورته) في الصلاة بلا قصد (وفحش) وطال الزمن (أو صلى في نجس أو غصب ثوبًا) كان النجس أو المغصوب (أو بقعة أعاد) الصلاة؛ لعموم صحتها، بخلاف إذا لم يطل الزمن، كمن كشف عورته نحو ريحٍ فسترها في الحال أولًا، وكان المكشوف لا يفحش (¬5) في النظر، فإنه لا يعيد. و(لا) يعيد (من حبس في محل نجس أو) محل (غصب، ولا يمكنه الخروج منه) فصلى فيه، لكن يسجد على النجاسة اليابسة، ويومئ بالرطبة ¬
تتمة
غاية ما يمكنه، ويجلس على قدميه تقليلًا للنجاسة، لحديث: "إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم" (¬1). تتمة: يصلي عاجز عن سترة مباحة عريانًا (¬2) مع وجود (¬3) ثوب غصب، ويصلي في حرير مع عدم غيره، ولا يعيد، ويصلي في ثوب نجس لعدم غيره ويعيد، ومن لا يجد إلا ما يستر به الفرجين سترهما، أو أحدهما فالدبر أولى، ويصلي جالسًا ندبًا من لا يجد ما يستر به عورته، ويومئ بركوعه وسجوده، ولا يتربع في جلوسه بل يضم أحد فخذيه إلى الآخر، لما روي عن ابن عمر ¬
-مرفوعًا- في قوم انكسرت مراكبهم فخرجوا عراة قال: يصلون جلوسًا يؤمئون إيماء برؤوسهم (¬1). وإن يصلي قائمًا وركع وسجد في الأرض جاز. (الرابع) من شروط صحة الصلاة (اجتناب نجاسة) والنجاسة لغة: ضد الطهارة (¬2)، وعرفًا (¬3): عين كالميتة والدم، أو صفة كأثر بول بمحلٍ طاهر منع الشرع من تناولها بلا ضرورة، لا لأذى فيها طبعًا -احترازًا- من نحو السُّمِّيات من النباتات، فإنه ممنوع تناول ما يضر منها في بدن أو عقل لأذاها (¬4)، ولا لحق اللَّه -احترازًا- عن صيد الحرم، وعن صيد البر للمحرم، أو لحق غيره شرعًا -احترازًا- عن مال الغير بغير اذنه، فيحرم تناوله لمنع الشرع منه لحق مالكه (غير معفو عنها) صفة للنجاسة (في بدن وثوب وبقعة) متعلق بـ (اجتناب) (مع القدرة) على ذلك لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)} (¬5) وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه" (¬6) وقوله وقد سئل عن دم الحيض يكون في الثوب: ¬
"اقرصيه وصلي فيه". رواه أبو داود من حديث أسماء بنت أبي بكر (¬1)، وأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي إذ بال في طائفة المسجد (¬2)، ولا يجب ذلك في غير الصلاة، فتعين أن يكون شرطًا فيها، إذ الأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي في العبادات يقتضي الفساد. فتصح الصلاة من حامل مستجمرًا (¬3) لأن أثر الاستجمار معفو عنه في محله، ومن حامل حيوان طاهر، كالهر والفأر. وتصح ممن مس ثوبه ثوبًا نجسًا، أو حائطًا نجسًا لم يستند إليه، أو صلى على طاهر من حصير أو بساط ونحوه طرفه متنجس ولو يتحرك بحركته (¬4)، وكذا لو كان تحت قدمه حبل طاهر مشدود في نجاسة، لأنه ليس بحامل للنجاسة ولا مصل عليها، أشبه ما لو صلى على أرض طاهرة متصلة بأرض نجسة، فإن كان المتنجس متعلقًا (¬5) بالمصلي بحيث ينجر معه ¬
إذا مشى؛ لم تصح صلاته؛ لأنه متتبعٌ للنجاسة أشبه لو كان حاملها، وإن سقطت عليه نجاسة فزالت أو أزالها (¬1) سريعًا صحت صلاته، لحديث أبي سعيد: بينما النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فخلع الناس نعالهم، فلما قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاته قال: "ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ " قالوا: رأيناك ألقيت نعلك، فألقينا نعالنا. قال: "إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرًا". رواه أبو داود (¬2)، فإن عجز عن إزالتها سريعًا لم تصح صلاته، وكذا إن جهلها أو نسيها لم تصح صلاته أيضًا. (ومن جبر عظمه) بعظم نجس (أو خاطه) أي جرحه (بـ) خيطٍ (نجس) فصح (وتضرر بقلعه، لم يجب) القلع (ويتيمم) له (إن لم يغطه اللحم) فإن غطاه اللحم، لم يتيمم له، لإمكان الطهارة بالماء في جميع محلها. ¬
فصل في الأماكن التي لا تصح فيها [الصلاة]
فصل في الأماكن التي لا تصح فيها [الصلاة] (¬1) (ولا تصح) الصلاة (بلا عذر في مقبرة) بتثليث الباء (¬2)، قديمة كانت المقبرة أو جديدة، وهي مدفن الموتى، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك". رواه مسلم (¬3)، ولا يضر قبران (¬4)، ولا ما دفن بداره، ولو زاد على ثلاثة قبور، لأنه لا يسمى مقبرة (¬5). ¬
(و) لا تصح الصلاة في (خلاء) وهو الحش -بفتح الحاء وضمها- (¬1) ولو مع طهارته من النجاسة، لأنه لما منع الشرع من الكلام وذكر اللَّه فيه كان منع الصلاة أولى، والحش لغة: البستان، ثم أطلق على محل قضاء الحاجة، لأن العرب كانوا يقضون حوائجهم في البساتين وهي الحشوش، فسميت الأخلية في الحضر حشوش بذلك. [و] (¬2) لا تصح الصلاة في (حمام) (¬3) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأرض كلها مسجد إلا الحمام والمقبرة". رواه أبو داود (¬4)، ولا تصح فيما يتبعه في بيع تناوله اسمه. (و) لا تصح الصلاة -أيضًا- في (أعطان إبل) جمع عطن -بفتح الطاء- والمعاطن جمع معطن -بكسرها- (¬5) لحديث: "صلوا في ¬
مرابض (¬1) الغنم ولا تصلوا في مبارك الإبل". رواه أحمد، وأبو داود (¬2)، والأعطان ما تقيم فيها الإبل وتأوي إليها، طاهرة كانت أو نجسة، فيها إبل حال الصلاة أو لا، لعموم الخبر. وأما ما تناخ لعلفها فيه وسقيها، فلا يمنع من الصلاة فيها، لأنه ليس بعطن. (و) لا تصح الصلاة -أيضًا- في (مجزرة) مكان الذبح (¬3) (و) لا في (مزبلة) ملقى الزبالة (¬4)، (و) لا في (قارعة طريق) أي محل قرع الأقدام من الطريق، وهي محجة، سواء كان فيها سالك أو لا (¬5)، لحديث ابن عمر: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "سبع مواطن لا تجوز فيها الصلاة: ظهر بيت اللَّه، والمقبرة، والمزبلة، والمجزرة، والحمام، ومعطن الإبل، ومحجة الطريق". رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال: ليس إسناده بالقوي (¬6)، ورواه ¬
الليث بن سعد عن عبد اللَّه بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر، [عن عمر] (¬1) مرفوعًا. وتصح في طريق أبيات قليلة (¬2). (ولا) تصح الصلاة (في أسطحتها) أي أسطحة تلك المواضع التي لا تصح الصلاة فيها، لأن الهواء تبع للقرار، لمنع الجنب من اللبث بسطح ¬
المسجد، وحنث من حلف لا يدخل دارًا (¬1) بدخول سطحها (¬2). ولا تصح في سطح نهر، وكذا ساباط (¬3) وجسر عليه (¬4)، ويستثنى من ذلك صحة صلاة جنازة بمقبرة، لصلاته عليه الصلاة والسلام على القبر (¬5)، وصحة صلاة جمعة، وعيد، وجنازة، وصلاة كسوف، واستسقاء بطريق، لضرورة، بأن ضاق المسجد أو المصلى، واضطروا للصلاة في الطريق للحاجة. وتصح الجمعة -أيضًا- وما عطف عليها (¬6) في المكان المغصوب (¬7)، ¬
نص عليه في الجمعة (¬1)، لأنه إذا صلاها الإمام في الغصب، وامتنع الناس من الصلاة معه فاتتهم، ولذلك صحت الجمعة خلف الخوراج والمبتدعة. وتصح الصلاة في كل المواضع المتقدم ذكرها للعذر، كما لو حبس فيها. وتكره الصلاة إليها، حديث أبي مرثد الغنوي: "لا تصلوا إلى القبور، ولا تجلسوا إليها". رواه الشيخان (¬2)، وألحق بذلك باقي المواضع. ولا تكره الصلاة فيما علا عن جادة المسافر يمنة أو يسرة، نصًّا (¬3)، لأنه ليس بمحجة. ولا يصح فرض الصلاة في الكعبة المشرفة، ولا على ظهرها، لقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬4) والشطر الجهة (¬5)، والمصلي فيها أو على سطحها غير مستقبل لجهتها، إلا إذا وقف خارجها وسجد فيها صح فرضه، أو صلى على جدارها بحيث لم يبق وراءه شيء منها، صح فرضه، لأنه مستقبل لطائفة من الكعبة غير مستدبر لشيء منها. وتصح نافلة فيها وعليها، بل تسن فيها، لحديث ابن عمر: دخل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- البيت، وأسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة، فأغلق عليهم، فلما فتحوا كنت أول من ولج، فلقيت بلالًا (¬6) فسألته: هل صلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الكعبة؟ قال: ركعتين بين الساريتين عن يسارك إذا ¬
دخلت، ثم خرج فصلى في وجه الكعبة ركعتين. رواه الشيخان، ولفظه للبخاري (¬1). وتصح منذورة في الكعبة وعليها، ويسن النفل في الحِجْر، وهو من الكعبة نصًّا (¬2). وقدر الداخل منه في حدود البيت ستة أذرع وشيء، ويصح التوجه إليه، لأنه من الكعبة، سواء كانت الصلاة فرضًا أو نفلًا. وتكره الصلاة بأرض الخسف، لأنه موضع مسخوط عليه، وكذا كل بقعة نزل بها عذاب، ومسجد الضرار. وتصح بأرض السباخ (¬3)، قال في "الرعاية" (¬4): مع الكراهة. ولا بأس بالصلاة في أرض غيره ولو مزرعة، أو على مصلاه بغير إذنه، بلا غصب، ولا ضرر. (الخامس) من شروط صحة الصلاة: (استقبال القبلة) لقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬5) قال علي: شطره: قبله (¬6)، ولقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة" (¬7) ولحديث ¬
ابن عمر في أهل قباء، لما حُوِّلت القبلة. متفق عليه (¬1). وأصل القبلة لغة: الحالة التي يقابل الشيء غيره عليها كالجلسة، ثم صارت كالعلم للجهة التي يستقبلها المصلي لإقبال الناس عليها (¬2). وصلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى بيت المقدس بالمدينة نحو سبعة عشر شهرًا (¬3). (ولا تصح) الصلاة (بدونه) أي الاستقبال (إلا لعاجز) عن الاستقبال، كالمحبوس، والمصلوب (¬4) إلى غير القبلة، والعاجز عن الالتفات إلى القبلة لمرض، أو منع مشركٍ ونحوه عند التحام حرب، أو هرب من عدو أو سيل أو سبع ونحوه، فيسقط عنه الاستقبال، ويصلي على حاله، لحديث: "إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم" (¬5). (و) إلا لـ (متنفلٍ في سفر مباح) أي غير مكروه ولا محرم، ولو كان ماشيًا فيصلي لجهة سيره على ما يأتي تفصيله، ولو كان السفر قصيرًا، نص عليه (¬6) فيما دون فرسخ (¬7)، لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (¬8) قال ابن عمر: نزلت في التطوع ¬
خاصة (¬1). ولحديث ابن عمر مرفوعًا: كان يصلي على ظهر راحلته حيث كان وجهه، يومئ برأسه. وكان ابن عمر يفعله. متفق عليه (¬2)، وللبخاري إلا الفرائض (¬3) ولأن ذلك تخفف في التطوع، لئلا يؤدي إلى تقليله وقطعه، لكن إن عدلت به دابته عن جهة قصده، وقدر على ردها ولم يردها، أو لم يقدر على ردها، وطال ألفصل، أو عَدَلَها هو عن جهة قصده؛ بطلت صلاته. ويجب على ماش يتنفل إحرام إلى القبلة، وركوع وسجود إليها في الأرض، لتيسر ذلك عليه، ويفعل ما سواه إلى جهة سيره. ويستقبل راكب، ويركع ويسجد إن أمكنه بلا مشقة، كراكب المحفة (¬4) الواسعة، والسفينة، والراحلة الواقفة، لأنه كالمقيم في عدم المشقة. (وفرض قريب منها) أي الكعبة، وهو من يمكنه المشاهدة، أو من يخبره عن يقين (إصابة عينها) ببدنه، بحيث لا يخرج منه شيء عنها، فإن كان بالمسجد الحرام، أو على ظهْرِهِ فظاهرٌ، وإن كان خارجه فإنه يتمكن من ذلك بنظره أو علمه (¬5)، أو خبر عالم به، فإن من نشأ بمكة، أو أقام بها كثيرًا يمكنه اليقين في ذلك، ولو مع حائل حادثٍ كالأبنية. وكذا فرض من قرب من مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إصابة العين ببدنه، لأن قبلته متيقنة، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يقر على الخطأ. وروى أسامة بن زيد أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
ركع ركعتين قبل القبلة، وقال: "هذه القبلة" (¬1). ولا يضر علو عن الكعبة كالمصلي على جبل أبي قبيس (¬2)، ولا يضر نزول عنها كالمصلي في حفيرة في الأرض. (و) فرض (بعيد) منها ومن مسجده -صلى اللَّه عليه وسلم- إصابة (جهتها) بالاجتهاد، لحديث أبي هريرة -مرفوعًا-: "ما بين المشرق والمغرب قبلة". رواه ابن ماجه، والترمذي (¬3)، ويعفى عن انحرافه يسيرًا يمنة ويسرة، للخبر (¬4)، وإصابة العين بالاجتهاد متعذرة، فإن أمكنه ذلك بخبر مكلفٍ عدل ظاهرًا وباطنًا، حرًّا كان أو عبدًا [رجلًا أو] (¬5) امرأة، عن يقين، لزمه العمل به. (و) يستدل -أيضًا- (بمحاريب المسلمين) لأن اتفاقهم عليها مع تكرر الأعصار إجماع عليها، وإن وجد محاريب لم يعلمها للمسلمين، لم يعمل بها، وإن كان بقرية، ولم يجد محاريب يعمل بها، لزمه السؤال. (وإن ¬
اشتبهت) القبلة (في السفر) وكان وقت الصلاة، (اجتهد عارف بأدلتها) أي القبلة، جمع دليل بمعنى دال (¬1)، لأن ما وجب اتباعه عند وجوده وجب الاستدلال عليه عند خفائه، كالحكم في الحادثة. ويسن تعلم أدلة القبلة مع أدلة الوقت، والدليل هنا: أمور، أصحها النجوم، قال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (¬2) وقال تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا} (¬3) وقال عمر: تعلموا من النجوم ما تعرفون به القبلة والطريق (¬4). وقال الأثرم: قلت لأحمد: ما ترى في تعلم هذه النجوم التي يعلم بها كم مضى من النهار، وكم يبقى؟ قال: ما أحسن تعلمها (¬5). وأثبتها القطب -بتثليث القاف- حكاه (¬6) ابن سِيْدَه (¬7). لأنه (¬8) لا يزول عن مكانه، ويمكن كل أحد معرفته، وهو نجم خفي شمالي، يراه حديد البصر إذا لم يقو نور القمر، وحوله أنجم دائرة كفراشة الرحى (¬9) في ¬
أحد طرفيها الفرقدان، وفي الآخر الجدي، وحولها بنات نعشٍ (¬1) مما يلي الفرقدين تدور حولها، والقطب وراء ظهر المصلي بالشام وما حاذاها كالعراق، وخراسان، وسائر الجزيرة لا تتفاوت في ذلك إلا تفاوتًا يسيرًا معفوًا (¬2) عنه. ذكره الجد (¬3). ويكون خلف أذنه اليمنى بالمشرق، ويكون على عاتقه الأيسر بمصر وما والاها من البلاد. ومن أدلة القبلة: الشمس والقمر ومنازلهما وما يقترن بهما وما يقاربها، كلها تطلع من الشرق وتغرب في المغرب (¬4). والمنازل: ثمانية وعشرون، أربعة عشر شامية، تطلع من وسط المشرق أو مائلة عنه إلى الشمال. أولها السرطان، وآخرها السماك. وأربعة عشر يمانية، تطلع من المشرق مائلة إلى اليمين، ولكل نجم من الشامية رقيب من اليمانية، إذا طلع أحدهما (¬5) غاب رقيبه، فأول اليمانية وآخر الشامية يطلع من وسط المشرق، ولكل نجم من هذه النجوم [نجوم] (¬6) تقاربه وتسير بسيره عن يمينه وشماله، يكثر عدها، فحكمها حكمه، يستدل بها عليه، وعلى ما يدل عليه. ومن أدلة القبلة: الريح. قال أبو المعالي (¬7): والاستدلال بها ¬
ضعيف (¬1). ولا يتبع مجتهد مجتهدًا خالفه، ولا يقتدي به. (وقلد غيره) أي: غير العارف بأدلتها والعاجز عن تعلمها: الأوثق عنده من مجتهدين، وكذلك الأعمى (فإن صلى) مصلٍّ (بلا أحدهما) أي: الاجتهاد أو تقليد عارف (مع القدرة) على ذلك (قضى) صلاته (مطلقًا) على كل حال (¬2)، لأنه مقصر. (السادس) من شروط صحة الصلاة (النية) والنية لغة: القصد، يقال: نواك اللَّه بخير، أي: قصدك به (¬3). ومحلها القلب، فتجزئ وإن لم يتلفظ بها، ولا يضر سبق لسانه بغير قصده، وتلفظه بما نواه تأكيد (¬4). ¬
وشرعًا: العزم على فعل الشيء من عبادة وغيرها (¬1). قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬2) والإخلاص: عمل القلب، وهو محض النية. لحديث عمر: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". متفق عليه (¬3). ولا تسقط النية بحال (فيجب تعيين) صلاة (معينة) من فرض معين أو نفل، (وسنّ مقارنتها) أي النية (لتكبيرة الإحرام) لتقارن العبادة، وخروجًا من الخلاف (¬4) (ولا يضر تقديمها عليها بيسير) ويجب استصحاب حكم النية ¬
إلى آخر الصلاة، بأن لا ينوي قطعها، فتبطل الصلاة بفسخ النية فيها، وبتردد فيه (¬1)، وبعزم عليه، وشكه هل نوى أو عيّن فعمل مع الشك عملًا فعليًّا كان أو قوليًّا ثم ذكر أنه كان نوى أو عين، لأن ما عمله خلا عن نية (¬2)، فإن لم يحدث مع الشك عملًا، ثم ذكر أنه نوى أو عين لم تبطل، وإن لم يذكر استأنف. (وشرط) لصلاة جماعة (نية إمامة) لإمام، (و) نية (ائتمام) بمأموم، لأن الجماعة يتعلق بها أحكام من وجوب الاتباع، وسقوط سجود السهو، والفاتحة عن المأموم، وفساد صلاته بفساد صلاة إمامه، وإنما يتميز الإمام عن المأموم بالنية، فكانت شرطًا لانعقاد الجماعة، وإن كانت الصلاة نفلًا كالتراويح والوتر فلابد من نية كل منهما حاله، وإن ائتمَّ من سبق بركعة فأكثر بمثله في قضاء ما فاتهما بعد سلام إمامهما في غير جمعة، صح ذلك، لأنه انتقال من جماعة لجماعة لعذر السبق (¬3)، ولا يصح أن يأتم من لم ينوه في أول الصلاة، لأنه محل النية، إلا إذا أحرم إمام لغيبة إمام الحيِّ ثم حضر وبنى على صلاة الأول، وصار الإمام مأمومًا بالإمام الراتب، لما روى سهل بن سعد قال: ذهب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى [بني] (¬4) عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة، فصلى أبو بكر فجاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فاستأخر أبو بكر حتى استوى في الصف، فتقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فصلى ثم انصرف. متفق عليه (¬5). ¬
ولا يصح أن [يؤم] (¬1) من لم ينو الإمامة أولًا ولو في نفل، إلا إذا استخلفه إمام لحدوث مرض أو حصر عن قول واجب، كقراءة وتشهد ونحوهما. ويبني خليفة الإمام على ترتيب الإمام الأول، لأنه فرعه، ولو كان المستخلف مسبوقًا لم يدخل معه من أول الصلاة، فإن شك كم صلى الإمام، بنى على اليقين، فإن سبح به المأموم رجع ويستخلف من يسلم بهم، فإن لم يفعل، فلهم السلام، ولهم انتظاره حتى يتم صلاته ويسلم بهم، نصًّا (¬2). (و) يصحُّ (لمؤتم انفراد) عن الجماعة (لعذر) يبيح ترك الجماعة، لحديث جابر قال: صلى معاذ بقومه فقرأ بسورة البقرة، فتأخر رجل فصلى وحده، فقيل له: نافقت. قال: ما نافقت، ولكن لآتين رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخبره. فأتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكر ذلك فقال: "أفتانٌ أنت يا معاذ؟ " مرتين، متفق عليه (¬3)، فإن لم يكن عذر بطلت صلاته لمفارقته. (وتبطل صلاته) أي المأموم (ببطلان صلاة إمامه) و (لا عكسه) فلا تبطل صلاة الإمام ببطلان صلاة المأموم (إن نوى إمامٌ) بطلت صلاة مأمومه (الانفراد) هذا كما مشى عليه صاحب "الإقناع" (¬4)، والصحيح عدم هذا ¬
الشرط، وأنها لا تبطل صلاة الإمام ببطلان صلاة المأموم مطلقًا، كما اختاره الشيخ منصور في "شرحه" على "الإقناع " (¬1). ¬
باب صفة الصلاة وأركانها وواجباتها وما يسن فيها وما يكره وما يتعلق بها
باب صفة الصلاة وأركانها وواجباتها وما يسن فيها وما يكره وما يتعلق بها (يُسن خروجه) أي المصلي (إليها) أي إلى الصلاة (متطهرًا) من الأحداث والأنجاس (بسكينة) بفتح السين وكسرها وتخفيف الكاف، أي طمأنينة وتأنٍّ في الحركات، واجتناب العبث (¬1)، (ووقار) أي: رزانة بغض الطرف، وخفض (¬2) الصوت، وعدم الالتفات (¬3)، لحديث أبي هريرة: "إذا سمعتم الإقامة، فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" (¬4). ولمسلم: "فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة" (¬5). ويقارب بين خطاه لتكثر حسناته، غير مشبك بين أصابعه. قال أحمد: فإن طمع أن يدرك التكبيرة الأولى، فلا بأس أن يسرع شيئًا، ما لم تكن ¬
عجلة تقبح (¬1). وفي "شرح العمدة" لشيخ الإسلام ما معناه: إن خشي فوت الجماعة أو الجمعة بالكلية، فلا ينبغي أن يكره له الإسراع، لأن ذلك لا ينجبر إذا فات. انتهى (¬2). (مع قول ما ورد) ومنه: أن يقدم رجله اليسرى عند خروجه من بيته، ولو لغير الصلاة ثم يقول: آمنت باللَّه، اعتصمت باللَّه، توكلت على اللَّه، لا حول ولا قوة إلا باللَّه (¬3)، اللهم إني أعوذ بك أن أضِلّ أو أُضَلَّ، أو أزلّ أو أُزل، أو أظلِم أو أُظلَم، أو أجهَل أو يُجهَل علي (¬4). وإذا أراد دخول المسجد قدم رجله اليمنى، وقال استحبابًا: "بسم اللَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب ¬
رحمتك" ويقدم اليسرى خروجًا (¬1) ويقول مثل ما قال إلا أنه يقول: "أبواب فضلك" بدل "أبواب رحمتك" (¬2). ويقول -أيضًا-: "اللهم إني أعوذ بك من إبليس وجنوده" للخبر (¬3). ويجلس في المسجد مستقبل القبلة، لأن خير المجالس ما استقبل القبلة (¬4). ويكره استدبار القبلة في. . . . . . . ¬
المسجد (¬1)، ولأنه يحدث النسيان. ولا يخوض في حديث الدنيا. ولا يجلس حتى يصلي ركعتين تحتية المسجد، إن لم يكن وقت نهي، ويجزئ عنها راتبة وفريضة. (و) يسنّ (قيام إمام، فغير مقيم) للصلاة (إليها) أي للصلاة (عند قول مقيم: قد قامت الصلاة) لفعله عليه الصلاة والسلام. رواه ابن أبي أوفى (¬2)، ولأنه دعاء إلى الصلاة فاستحبت المبادرة إليها عنده. قال ابن المنذر: أجمع على هذا أهل الحرمين (¬3). وأما المقيم فيأتي بالإقامة كلها قائمًا، كما تقدم. ثم يسوي إمام الصفوف استحبابًا بمنكب وكعب، فيلتفت عن يمينه فيقول: استووا رحمكم اللَّه (¬4)، وعن يساره كذلك. وسن تكميل صفوف أول فأول، لحديث: "لو يعلم الناس ما في ¬
النداء والصف الأول" إلخ (¬1)، وسُنَّ المراصَّة (¬2)، وسد خلل الصفوف. ويمين الإمام والصف الأول للرجال أفضل، وخير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وعكسه النساء. (فيقول) مصلٍّ إمامًا (¬3) كان أو غيره (اللَّه أكبر) ولا تنعقد الصلاة بغيرها. نصًّا (¬4)، لحديث أبي حميد الساعدي: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا استفتح الصلاة استقبل القبلة، ورفع يديه وقال: اللَّه أكبر. رواه ابن ماجه، وصححه ابن حبان (¬5). وليس قبل تكبيرة الإحرام دعاء مأثور عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن أصحابه. يقولها (وهو قائم في فرض) مع القدرة على القيام، بخلاف النفل فلا يشترط له قيام (رافعًا يديه) استحبابًا مع ابتداء التكبير، ممدودتي الأصابع مضمومتهما، مستقبلًا ببطونهما القبلة. ويكون الرفع (إلى حذو منكبيه) بفتح الميم وكسر الكاف: مجمع عظم العضد والكتف (¬6)، فإن أتى به غير قائم، أو ابتدأه أو أتمه غير قائم صحت صلاته نفلًا، لأن ترك القيام يفسد الفرض. ¬
(ثم يقبض بيمناه كوع يسراه) استحبابًا لما روى قبيصة بن هلب عن أبيه (¬1) قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه. رواه الترمذي، وحسَّنه، وقال: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والتابعين ومَنْ بعدهم (¬2). (ويجعلهما) أي يديه (تحت سرته) لقول علي: من السنة وضع اليمين على الشمال تحت السرة. رواه أحمد وأبو داود (¬3). ومعناه: ذل بين يدي اللَّه -عز وجل- (¬4). (و) يسن أن (ينظر) في (مسجده) أي موضع سجوده (في كل صلاته) لقول أبي هريرة: كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة. فلما نزل: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} (¬5) رمقوا (¬6) بأبصارهم إلى موضع سجودهم (¬7). ولأنه أخشع للمصلي وأكف لبصره، إلا إذا كان خائفًا من عدو، أو خاف ضياع ماله، فينظر إلى تلك الجهة للحاجة ¬
دفعًا للضرر (¬1). (ثم) يستفتح فـ (يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك (¬2) ولا إله غيرك) رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه (¬3)، وعن أبي سعيد مثله. رواه الترمذي، والنسائي (¬4). ورواه أنس -أيضًا- (¬5) ¬
وعمل به عمر بين يدي أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، فلذلك اختاره إمامنا، وجوز الاستفتاح بغيره مما ورد. ومعنى قول: سبحانك: أي تنزيهًا لك عما لا يليق بك من الرذائل والنقائص. ومعنى اللهم: يا اللَّه، حذفت ياء النداء، وعوض عنها الميم. وبحمدك: أي: وبحمدك سبحتك. وتبارك اسمك: أي كثرت بركاتك، وهو مختص به تعالى، ولذلك لم يتصرف [منه مستقبل، ولا اسم فاعل] (¬2)، وتعالى جدك: أي: ارتفع قدرك وعظم. وقال الحسن: الجد: الغنى (¬3)، فيكون المعنى ارتفع غناك عن أن يساوي غنى أحدٍ من خلقك. ولا إله غيرك: أي: لا إله يستحق أن يُعبد وتُرجى رحمته وتُخاف سطوته غيرك. (ثم يستعيذ) فيقول: أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم، لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} (¬4) أي: إذا أردت القراءة. وتحصل الاستعاذة بكل ما أدى معناها، لكن ما ذكرناه أولى، ومعنى أعوذ: ألجأ (¬5). والشيطان اسم لكل متمرِّدٍ عاتٍ (¬6). ¬
(ثم يبسمل سًّرا) أي: يقرأ بسم اللَّه الرحمن الرحيم، لحديث نعيم المجمر، أنه قال: صليت وراء أبي هريرة، فقرأ بسم اللَّه الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن، ثم قال: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). والبسملة آية من القرآن، لما روى (¬2) ابن المنذر بسنده (¬3) أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قرأ في الصلاة بسم اللَّه الرحمن الرحيم، وعدها آية (¬4). . . وهي فاصلة بين كل سورتين، سوى براءة فيكره (¬5) ابتداؤها [بها] (¬6) لنزولها بالسيف (¬7). ولا تكتب أمام الشعر ولا معه. قال القاضي: لأنه يشوبه الكذب والهجو غالبًا (¬8)، وتستحب في ابتداء جميع الأفعال، وفي أوائل الكتب. ولا يسن الجهر بالاستفتاح، ولا بالتعوذ، ولا بالبسملة في الصلاة، لحديث أنس: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر وعمر يستفتحون الصلاة بالحمد للَّه ¬
رب العالمين. متفق عليه (¬1). ومعناه: أن الذي يسمعه منهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)}، كما يدل عليه قوله فيما رواه قتادة: فلم أسمع أحدًا منهم يجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم (¬2). وفي لفظ: فكلهم يخفي بسم اللَّه الرحمن الرحيم (¬3). وعُلِمَ مما تقدم أن البسملة ليست آية من أول الفاتحة، ولا غيرها من السور، لحديث: "قال اللَّه تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الحمد للَّه رب العالمين. . . ". الحديث رواه مسلم (¬4)، فلو كانت آية عدها وبدأ بها، ولحديث: "سورة هي ثلاثون آية شفعت لقارئها ألا وهي تبارك الذي بيده الملك" (¬5). وهي ثلاثون آية سوى بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. (ثم يقرأ الفاتحة مرتبة متوالية) تامة، يقف على كل آية، كقراءته -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). وهي أفضل سورة، قاله الشيخ تقي ¬
الدين (¬1). وقال عليه الصلاة والسلام فيها: "أعظم سورة في القرآن، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيه". رواه البخاري (¬2). كما أن آية الكرسي أعظم آية، لحديث مسلم (¬3). والفاتحة ركن في كل ركعة، لحديث أبي قتادة مرفوعًا: كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بأم الكتاب وسورتين، ويطول الأولى ويقصر الثانية، ويُسْمع الآية أحيانًا، وفي الركعتين الأخيرتين بأم الكتاب (¬4). وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي". متفق عليه (¬5) ولحديث أبي سعيد مرفوعًا: "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب" (¬6). وعنه وعن عبادة: أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة. رواهما إسماعيل بن سعيد الشالنجي (¬7). (¬8) ¬
(وفيها) أي الفاتحة (إحدى عشرة تشديدة) أولها: اللام في اللَّه، وآخرها: تشديدتا الضَّالين، ويكره الإفراط في التشديد والمد. وإن ترك غير مأموم واحدة من تشديداتها لزمه استئناف الفاتحة لتركه حرفًا منها، لأن الحرف المشدد أقيم مقام حرفين، هذا إذا فات محلها وبَعُدَ عنه، بحيث يُخِلُّ بالموالاة، أما لو كان قريبًا منه، فأعاد الكلمة، أجزأه ذلك، كمن نطق بالكلمة على غير الصواب ثم أتى بها على وجهه. وإن ليَّنها ولم يحققها على الكمال، فلا إعادة، وإن ترك ترتيبها عمدًا أو سهوًا، لزمه استئنافها، لأن ترك الترتيب مخل بالإعجاز، أو قطعها بسكوت طويل، أو ذكرِ دعاءٍ غير مشروع، أو قرآنٍ كثير، لزمه استئنافها إن عمد ذلك، فلو كان سهوًا عفي عن ذلك. (وإذا فرغ) من الفاتحة (قال آمين) بفتح الهمزة مع المد في الأشهر، ويجوز القصر والإمالة، وهي اسم فعل بمعنى استجب، وقيل: هي اسم من أسمائه تعالى، وهي مبنية على الفتح كـ "ليت" وتسكن عند الوقف (¬1). فلو شدد ميمها بطلت صلاته، لأنها تفسير كلامًا أجنبيًّا فيبطلها عمده وسهوه وجهله، مع أن بعضهم (¬2) حكاه لغة فيها. (يجهر بها) أي بآمين (إمام ومأموم معًا) استحبابًا، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له". متفق عليه (¬3). ولعطاء (¬4): كنت أسمع الأئمة ابن الزبير ومن بعده يقولون: آمين. ومن خلفهم، حتى إن للمسجد للجة. رواه الشافعي ¬
تتمة
بسنده (¬1). واللجة بفتح اللام وتشديد الجيم: اختلاط الأصوات (¬2). وعن أبي هريرة: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا فرغ من قراءة أم القرآن، رفع صوته وقال: آمين. رواه الدارقطني وحسنه، وصححه ابن حبان، والحاكم، وقال: إنه على شرط الشيخين (¬3). (في) صلاة (جهرية و) يجهر بها (غيرهما) أي: غير الإمام والمأموم، وهو المنفرد (فيما يجهر فيه) من الصلوات تبعًا لها. تتمة: يلزم جاهلًا بالفاتحة تعلمها، فإن لم يعرف إلا آية، كررها بقدر الفاتحة، لأنها بدل عنها، فإن لم يحسن آية، ولو من غير الفاتحة، حرم ترجمته عنه بلغة أخرى، لأن الترجمة عنه تفسير لا قراءة (¬4). لزم من لا يحسن قرآنًا قول: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر. لحديث رفاعة بن رافع: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- علم رجلًا الصلاة فقال: "إن كان معك قرآن فاقرأه، وإلا فاحمد اللَّه وكبره وهلله". رواه أبو ¬
داود، والترمذي وحسنه (¬1)، فإن أيعرف هذا الذكر كله، وعرف بعضه، كرره بقدره، وإلا وقف بقدر قراءة الفاتحة. (ويسن جهر إمام بقراءة) صلاة (صبح، وجمعة، وعيد، وكسوف، واستسقاء، وأولتي مغرب وعشاء. ويكره) الجهر (لمأموم، ويُخيَّر منفرد) في صلاة جهرية بين الجهر والإسرار. (و) يخير (نحوه) أي نحو المنفرد، كالقائم لقضاء ما فاته بعد سلام إمامه بين الجهر والإسرار، وترك الجهر أفضل، لأن المقصود منه إسماع نفسه. ويسر مصل بقراءة في قضاء صلاة جهر نهارًا اعتبارًا بزمن القضاء، ويجهر بها ليلًا في جماعة اعتبارًا برمن القضاء، ومصل نفلًا في ليل يراعي المصلحة في جهر وإخفات، فيسر مع من يتأذى بجهره، ويجهر مع من يأنس به. وتحرم القراءة، ولا تصح الصلاة بقراءة تخرج عن مصحف عثمان (¬2). وكره أحمد قراءة حمزة (¬3)، . . . . . . . . ¬
والكسائي (¬1)، لما فيهما من الكسر، والإدغام، والتكلف، وزيادة المد (¬2)، وأنكرها السلف كسفيان بن عيينة (¬3) (¬4)، ويزيد بن ¬
هارون (¬1) (¬2)، وغيرهما (¬3). وعنه: والإدغام الكبير (¬4) لأبي عمرو بن العلاء (¬5)، واختار قراءة ¬
نافع من رواية إسماعيل بن جعفر عنه، ثم قراءة عاصم. وإن كان في قراءة زيادةُ حرفٍ فهي أفضل لأجل عشر حسنات، نقله حرب. و{مَالِكِ} أحب إلى أحمد من {ملك}. (ثم يقرأ بعدها) أي بعد الفاتحة (سورة في) صلاة (الصبح من طوال المفصل) وهو من "ق" إلى "عم"، (و) يقرأ في (المغرب من قصاره) أي: المفصل، وهو من الضحى إلى آخر القرآن، (والباقي) وهو الظهر والعصر والعشاء (من أوساطه) وهو من "عم" إلى "الضحى"، ولا يكره أن يقرأ بأقصر من ذلك لعذر كمرض وسفر وغلبة نعاس ونحوه، وإلا كره بقصاره في صلاة فجر لا بطواله في صلاة مغرب، نص عليه (¬1) للخبر أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قرأ فيها بالأعراف (¬2). والسورة وإن قصرت أفضل من بعض سورة، وتجزئ آية، إلا أنه يستحب أن تكون طويلة. وحرم تنكيس الكلمات، وتبطل الصلاة به، لا تنكيس السور والآيات، بل يكره ذلك. وقال الشيخ تقي الدين: ترتيب الآيات واجب، لأنه ثبت بالنص (¬3)، وترتيب السور بالاجتهاد، ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة، ¬
لكن لما اتفقوا على المصحف زمن عثمان، صار مما سنَّه الخلفاء الراشدون، وقد دل الحديث على أن لهم سنة يجب اتباعها (¬1). انتهى (¬2). ويكره الاقتصار على الفاتحة في الفرض أو النفل إلا في الأخيرتين من الرباعيات وثالثة المغرب، ولا يكره تكرار سورة في ركعتين، لحديث أبي داود أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كرَّر سورة الزلزلة في ركعتين (¬3). قلت: والذي يظهر -واللَّه أعلم- أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما كررها لسبب فضلها، لأنه ورد فيها أنها تعدل نصف القرآن (¬4)، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- أحرص الناس على طلب الفضائل (¬5). ¬
ولا يكره تفريق السورة في ركعتين، لحديث عائشة مرفوعًا: كان يقرأ البقرة في ركعتين. رواه ابن ماجه (¬1). ولا يكره جمع سور في ركعة، لما في "الموطأ" عن ابن (¬2) عمر، أنه كان يقرأ في المكتوبة سورتين في كل ركعة (¬3) (ثم يركع) حال كونه (مكبرًا رافعًا يديه) ندبًا، لحديث أبي قلابة، أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبر ورفع يديه، ويحدث أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صنع هكذا. متفق عليه (¬4). وهو مذهب أبي بكر، وعلي، وابن عمر، وجابر، وأبي هريرة، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وابن الزبير، وغيرهم من الصحابة وأكثر أهل العلم (¬5). (ثم يضعهما) أي يديه (على ركبتيه) حال كونهما (مفرجتي الأصابع ويسوي ظهره) فيمده ويجعل رأسه حياله (¬6)، فلا يرفعه عنه ولا يخفضه (ويقول) في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) لحديث عقبة بن عامر قال: لما نزلت: "فسبح باسم ربك العظيم" (¬7) قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اجعلوها في ركوعكم" فلما ¬
نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (¬1) قال: "اجعلوها في سجودكم". رواه أبو داود، وابن ماجه، وغيرهما (¬2)، والأفضل عدم الزيادة عليه، فإن زادوا: بحمده، فلا بأس (¬3). وحكمة التخصيص أن الأعلى أفعل تفضيل بخلاف العظيم، والسجود غاية في التواضع لما فيه من وضع الجبهة وهي أشرف الأعضاء على مواطئ الأقدام، ولهذا كان أفضل من الركوع، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (¬4) فجعل (¬5) الأبلغ مع الأبلغ، والمطلق مع المطلق. والواجب من التسبيح مرة، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يذكر عددًا فيما سبق. وسن تكريره (ثلاثًا) في قول عامة أهل العلم (¬6) (وهو أدنى ¬
الكمال) حديث عون (¬1) عن ابن مسعود مرفوعًا: "إذا ركع أحدكم فليقل ثلاث مرات: سبحان ربي العظيم، وذلك أدناه. وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا وذلك أدناه". رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، لكنه مرسل (¬2) كما ذكره الإمام البخاري في "تاريخه" (¬3) لأن عونًا لم يسمع من ابن مسعود، لكن عضده قول الصحابي، وفتوى أكثر أهل العلم (¬4). وأعلاه لإمام ومأموم عشر مرات، لما روي عن أنس: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصلي كصلاة عمر بن عبد العزيز، فحزروا (¬5) ذلك بعشر ¬
تسبيحات (¬1). وأعلى الكمال لمنفرد العرف (¬2). وكذا سبحان ربي الأعلى في سجوده، حكمه حكم الركوع (¬3). (ثم يرفع رأسه و) يرفع (يديه معه) إلى حذو منكبيه فرضًا كانت الصلاة أو نفلًا، صلى قائمًا أو جالسًا، إذ هو من تمام الصلاة، حيث شرع (قائلًا) إمام ومنفرد: (سمع اللَّه لمن حمده) مرتبًا وجوبًا، لحديث ابن عمر المتفق عليه في صفة [صلاة] (¬4) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وفيه: إذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك -أي رفع يديه إلى حذو منكبيه- وقال: سمع اللَّه لمن حمده (¬5) ¬
[ومعنى: "سمع اللَّه لمن حمده"] (¬1): تقبله وجازاه عليه. (وبعد انتصابه) قليلًا من الركوع يقول: (ربنا ولك الحمد، ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد) أي: بعد السماء والأرض، كالكرسي وغيره، مما لا يعلم قدره إلا اللَّه تعالى. والمعنى: حمدًا لو كان أجسامًا لملأ ذلك. وإثبات واو "ولك" أفضل نصًّا (¬2)، للاتفاق عليه (¬3). و"ملء" يجوز نصبه على الحال، ورفعه على الصفة. والمعروف في الأخبار "السموات" لكن قال الإمام وأكثر الأصحاب بالإفراد (¬4). (و) يقول (مأموم: ربنا ولك الحمد فقط) لحديث أنس، وأبي هريرة مرفوعًا: "إذا قال الإمام سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد". متفق عليه (¬5)، فاقتصر على أمرهم يقول: ربنا ولك الحمد، فدل على أنه لا يشىرع لهم غيره. (ثم يكبر) من غير رفع يدين (ويسجد على الأعضاء السبعة) الجبهة، والأنف، واليدين، والرجلين، والركبتين (فيضع ركبتيه) أولًا بالأرض (ثم يديه) لحديث وائل بن حجر قال: رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه. رواه أبو داود وغيره (¬6) ¬
(ثم) يضع (جبهته وأنفه) فإن عجز عن سجود بالجبهة، لم يلزمه بغيرها من الأعضاء، لأنها الأصل فيه، وغيرها تبع لها، ويومئ عاجز عن السجود بالجبهة غاية ما يمكنه وجوبًا، لحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬1). ولا يجزئ وضع بعض أعضاء السجود فوق بعض (وسن كونه) أي: المصلي (على أطراف أصابعه) أي: أصابع رجليه في حال سجوده، (و) سن (مجافاة) رجل (عضديه عن جنبيه، و) مجافاة (بطنه عن فخذيه) وفخذيه عن ساقيه، لحديث عبد اللَّه بن بحينة: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سجد يجنِّح (¬2) في سجوده حتى يرى وضح (¬3) إبطه. متفق عليه (¬4)، إلا أن يؤذي من إلى جنبيه فيجب تركه لحصول الإيذاء المحرم. (و) سن (تفرقة ركبتيه) في سجوده، لما في حديث أبي حميد: وإذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه (¬5). (ويقول: ¬
سبحان ربي الأعلى ثلاثًا، وهو أدنى الكمال) كما تقدم (¬1). (ثم يرفع) من السجود حالة كونه (مكبرًا ويجلس) بين السجدتين (مفترشًا) بأن يبسط رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب يمناه، ويخرجها من تحته، ويثني أصابعها نحو القبلة، ويجعل بطونها (¬2) على الأرض، ويبسط يديه على فخذيه مضمومتي الأصابع. قال الأثرم: تفقدت أبا عبد اللَّه، فوجدته يفتح أصابع رجله اليمنى، ويستقبل بها القبلة (¬3). انتهى. (ويقول) بين السجدتين: (رب اغفر لي ثلاثًا. وهو أكمله) إمامًا كان أو غيره. (ويسجد الثانية كذلك) أي كالأولى (ثم ينهض مكبرًا معتمدًا على ركبتيه بيديه، فإن شق ذلك فبالأرض (¬4)) أي يعتمد على الأرض بيديه (فيأتي بمثلها) أي بمثل الركعة الأولى (غير النية و) غير (التحريمة، و) غير (الاستفتاح) فلا يعيده، لأن محله الأولى فقط، (و) غير (التعوذ إن كان تعوذ) أولًا، وإلا تعوذ فيها (ثم يجلس) بعد فراغه من الثانية (مفترشًا) كجلوسه بين السجدتين (وسن وضع يديه على فخذيه وقبض الخنصر (¬5) والبنصر (¬6) من يمناه وتحليق إبهامهما مع الوسطى وإشارته بسبابتها) أي: يده اليمنى (في تشهد، و) في (دعاء عند ذكر اللَّه تعالى مطلقًا) أي: في التشهد وفي غير الصلاة. ¬
(و) سن (بسط) يده (اليسرى) في التشهد فلا يقبض من أصابعها شيئًا (ثم يتشهد) وجوبًا، ويسر به استحبابًا (فيقول: التحيات للَّه) جمع تحية، أي: العظمة، روي ذلك عن ابن عباس (¬1). وعن أبي عمرو (¬2): الملك والبقاء (¬3). وعن ابن الأنباري (¬4): السلام (¬5). وجُمِعَ لأن ملوك الأرض يحيون بتحيات مختلفة. (والصلوات) قيل: الخمس. وقيل المعلومة في الشرع. وقيل: الرحمة. وقال الأزهري: العبادات كلها (¬6). وقيل: الأدعية، أي هو المعبود بها (¬7). (والطيبات) أي: الأعمال الصالحة، روي ذلك عن ابن عباس (¬8). أو من الكلام. قاله ابن الأنباري (¬9). (السلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته) جمع بركة، وهي النماء والزيادة. (السلام علينا) أي الحاضرين من إمام ومأموم وملائكة. (وعلى عباد اللَّه الصالحين) جمع صالح، والصالح القائم بحقوق اللَّه تعالى، وحقوق عباده، والمكثر من العمل الصالح بحيث ¬
لا يعرف منه غيره (¬1)، ويدخل فيه النساء، ومن لا يشاركه في صلاته، لقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإنكم إذا قلتموها، أصابت كل عبد صالح للَّه في السماء والأرض" (¬2). (أشهد أن لا إله إلا اللَّه) أي: أخبر بأني قاطع بالوحدانية، ومن خواص لا إله إلا اللَّه أن حروفها كلها جوفية ليس فيها حرف شفوي، لأن المراد به الإخلاص، فيأتي بها من خالص (¬3) جوفه وهو القلب لا من الشفتين، وكل حروفها مهملة دالة على التجرد من كل معبود سوى اللَّه تعالى. (وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) لحديث ابن مسعود قال: كنا إذا جلسنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصلاة قلنا: السلام على اللَّه من عباده, السلام على جبرائيل، السلام على فلان. فسمعنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "إن اللَّه هو السلام، فإذا جلس أحدكم فليقل: التحيات. . . إلخ. قال: ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو به" (¬4). وفي لفظ: علمني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- التشهد كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن (¬5). قال الترمذي: هو أصح حديث في التشهد. والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- والتابعين (¬6). وليس في المتفق عليه حديث غيره. رواه -أيضًا- ابن عمر (¬7)، . . . . . . . . . . . ¬
وجابر (¬1)، وأبو هريرة (¬2)، وعائشة (¬3). ويترجح بأنه اختص بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمره بأن يعلمه الناس. رواه أحمد (¬4). (ثم ينهض) قائمًا (في) صلاة (مغرب ورباعية) كظهر (مكبرًا) لأنه انتقال إلى قيام فأشبه القيام من السجود الأولى (¬5) (ويصلي الباقي) من صلاته، وهو ركعة من مغرب، وركعتان من رباعية (كذلك) أي كالركعتين الأول، إلا أن قراءته هنا تكون (سرًّا) ويكون (مقتصرًا على الفاتحة) للأخبار الصحيحة (¬6). (ثم يجلس) للتشهد الثاني (متوركًا) بأن يفترش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى ويخرجهما من تحته عن يمينه ويجعل إليتيه على الأرض (¬7). لقول أبي حميد في صفة صلاته -صلى اللَّه عليه وسلم-: فإذا كان في الرابعة أفضى إلى الأرض بوركه اليسرى، وأخرج قدميه من ناحية واحدة. رواه أبو داود (¬8). ¬
وخُص التشهد الأول بالافتراش، والثاني بالتورك خوف السهو، ولأن الأول خفيف والمصلي بعده يبادر للقيام بخلاف الثاني، فليس بعده عمل، بل يسن مكثه لنحو تسبيح ودعاء. وإن سجد لسهو بعد السلام في ثلاثية أو رباعية تورك في تشهد سجوده، وفي ثنائية [و] (¬1) وتر يفترش. (فيأتي بالتشهد الأول) كما تقدم (ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم) أي إبراهيم وآله (إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) لحديث كعب بن عجرة قال: قلنا: يا رسول اللَّه قد علمنا أو عرفنا كيف السلام عليك، فكيف الصلاة؟ قال: قولوا: "اللهم صلِّ على محمد. . . إلخ". متفق عليه (¬2). (وسن أن يتعوذ) من أربع (فيقول: أعوذ باللَّه من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات) أي: الحياة والموت (ومن فتنة المسيح الدجال) لحديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير، فليتعوذ باللَّه من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال". رواه مسلم وغيره (¬3). والمسيح بالحاء المهملة على المعروف (¬4). ¬
وسن -أيضًا- أن يقول: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم (¬1) و) من (المغرم (¬2)) لما في "الصحيحين" (¬3) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يدعو في الصلاة: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم إني أعوذ بك من المأثم ومن المغرم". وإن دعا بما ورد في القرآن نحو: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً} (¬4) فلا بأس به. أو دعا بما ورد في السنة نحو: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت. فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" متفق عليه من حديث الصديق حين قال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: علمني دعاء أدعو به. قال: "قل". . . فذكره (¬5). أو دعا بما ورد عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- كحديث (¬6) ابن ¬
مسعود [موقوفًا] (¬1)، وذهب إليه أحمد (¬2). قال ابنه عبد اللَّه: سمعت أبي يقول في سجوده: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصن وجهي عن المسألة لغيرك (¬3). أو دعا بأمر الآخرة، لعموم حديث أبي هريرة -السابق- (¬4) وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما السجود، فأكثروا فيه الدعاء" (¬5). ولم يعين لهم ما يدعون به، فدل على إباحته لهم جميع الدعاء إلا ما خرج منه بدليل، ولقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في قنوته: "اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة" (¬6). ولا تبطل -أيضًا- بقوله: لعنه اللَّه، عند ذكر الشيطان. ولا بتعويذ نفسه بقرآن لحمى ونحوها، ولا يقول: بسم اللَّه، للدغ عقرب. (وتبطل) الصلاة (بدعاء بأمر الدنيا) نحو: اللهم ارزقني جارية حسناء، أو طعامًا طيبًا، ونحو ذلك، مما يقصد به ملاذ الدنيا وشهواتها، ¬
لحديث: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن". رواه مسلم (¬1). وتبطل إن دعا لشخص معين بكاف الخطاب لغير النبي (¬2) -صلى اللَّه عليه وسلم- (ثم يقول عن يمينه، ثم عن يساره) استحبابًا: (السلام عليكم ورحمة اللَّه) والأولى أن لا يزيد، لحديث سعد بن أبي وقاص قال: كنت أرى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[يُسَلِّمُ] (¬3) عن يمينه وعن يساره حتى يُرى بياض خده. رواه مسلم (¬4). ويكون تسليمه [مرتبًا] (¬5) (معرفًا) بأل (وجوبًا) ولا يجزئ: سلام ¬
عليكم، ولا سلامي عليكم، ولا سلام اللَّه عليكم، ولا عليكم السلام، ولا السلام عليهم، لأن الأحاديث قد صحت بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقول: "السلام عليكم" (¬1) ولم ينقل عنه خلافه. وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬2). وسن التفاته عن يساره أكثر من التفاته عن يمينه، لحديث عمار -مرفوعًا-: كان يسلم عن يمينه حتى يُرى بياض خده الأيمن، وإن سلم عن يساره يُرى بياض خده الأيمن والأيسر. رواه يحيى بن محمد بن صاعد (¬3) بإسناده (¬4). وسن -أيضًا- حذف السلام، وهو: أن لا يطيله (¬5)، لقول أبي هريرة: حذف السلام سنة. وروي مرفوعًا، رواه الترمذي وصححه (¬6). ¬
وسن جزمه (¬1) لقول النخعي (¬2): السلام جزم والتكبير جزم (¬3). وسن -أيضًا- نيته به لخروج من الصلاة، لتكون النية شاملة لطرفي الصلاة. (وامرأة كرجل) في جميع ما تقدم، لشمول الخطاب لها في قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬4). إلا في صور ذكرها بقوله: (لكن تجمع نفسها) في نحو ركوع وسجود، فلا تسن لها المجافاة، لحديث يزيد (¬5) بن أبي حبيب، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مَرَّ على امرأتين تصليان فقال: "إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى بعض فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل". رواه أبو داود في "مراسيله" (¬6) ولأنها عورة، فالأليق لها الانضمام. ¬
تتمة
(وتجلس متربعة أو) تجلس (مسدلة (¬1) رجليها عن يمينها، وهو أفضل) من تربعها، لأنه غالب جلوس عائشة (¬2)، وأشبه بجلسة الرجل، وأسهل عليها. وتسر بالقراءة إن سمعها أجنبي خشية الفتنة بها. والخنثى كالأنثى فيما تقدم احتياطًا. تتمة: يسن عقب مكتوبة أن يستغفر ثلاثًا، ويقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام، لما روى ثوبان أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا سلَّم استغفر ثلاثًا، ويقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام". رواه مسلم (¬3). ثم يقول: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا باللَّه، لا إله إلا اللَّه ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا اللَّه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. قال ابن الزبير -رضي اللَّه عنه-: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يهلل بهن دبر كل صلاة. رواه مسلم (¬4). وعن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: "لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". متفق عليه (¬1). ثم يقول: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، لما روي عن معاذ -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أخذ بيده وقال: "يا معاذ واللَّه إني لأحبك. فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". رواه أبو داود والنسائي (¬2). ويقرأ بالمعوذتين، لما روي عن عقبة بن عامر -رضي اللَّه عنه- قال: أمرني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن أقرأ بالمعوذتين دبر كل صلاة. رواه أبو داود، والنسائي وغيرهما (¬3)، وفي رواية أبي (¬4) داود "بالمعوذات". قال الإمام النووي في "الأذكار" (¬5): فينبغي أن يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ أَعُوذُ ¬
بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (¬1). ثم يقول ثلاثة وثلاثين: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، واللَّه أكبر، للخبر (¬2)، ويفرغ من عدد الكل معًا، قاله أحمد في رواية أبي داود للنص (¬3). ويعقدُه أي: التسبيح والتحميد والتكبير بعقد أصابعه استحبابًا. ويعقد الاستغفار بيده، لحديث يُسَيرة، قالت: قال لنا رسول اللَّه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عليكن بالتهليل، والتسبيح، والتقديس، ولا تغفلن فتنسين الرحمة، واعقدن بالأصابع فإنهن مسؤولات مستنطقات". رواه أحمد وغيره (¬4). ¬
ومما ورد أيضًا: اللهم أجرني من النار. سبع مرات بعد المغرب والفجر قبل أن يتكلم، لما روي عن عبد الرحمن بن حسان (¬1) عن مسلم بن الحارث التميمي (¬2)، عن أبيه، وقيل: الحارث بن مسلم (¬3) عن أبيه، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أسَرَّ إليه فقال: "إذا انصرفت من صلاة المغرب فقل: اللهم أجرني من النار. سبع مرات. وفي رواية: قبل أن تكلِّم أحدًا، فإنك إذا قلت ذلك ثم مت في ليلتك كتب لك جوار منها، وإذا صليت الصبح فقل مثل ذلك، فإنك إذا مت من يومك كتب لك جوار منها، قال الحارث: أسر بها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونحن نخص بها إخواننا". رواه أبو داود (¬4). ¬
ويقرأ آية الكرسي وسورة الإخلاص بعد كل فريضة -أيضًا- لخبر أبي أمامة: "من قرأ آية الكرسي وقل هو اللَّه أحد، دبر كل صلاة مكتوبة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت". إسناده جيد. رواه الطبراني، وابن حبان (¬1). ويقول بعد صلاة الصبح وهو ثانٍ رجليه، وفي لفظ: والمغرب قبل أن يتكلم: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، لما روى الترمذي وغيره عن أبي ذر -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من قال في دبر صلاة الصبح وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت، وهو على كل شيء قدير. عشر مرات كتبت له عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه، وحرس من الشيطان، ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك باللَّه تعالى" قال الترمذي: هذا حديث حسن، وفي بعض النسخ: حسن صحيح (¬2). انتهى من ¬
"الأذكار" (¬1). ويدعو الإمام بعد كل مكتوبة استحبابًا، لقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)} (¬2) ولأن إدبار المكتوبات من أوقات الإجابة، وخصوصًا بعد الفجر والعصر لحضور الملائكة فيهما فيؤمِّنون (¬3). قال شيخنا الشيخ عبد القادر (¬4) -قدس اللَّه روحه- في كتابه ¬
"الغنية" (¬1): لا ينبغي للإمام والمأموم أن يخرجا من المسجد من غير دعاء، قال اللَّه -عز وجل-: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)} (¬2) أي: إذا فرغت من العبادة، فانصب للدعاء (¬3)، وارغب فيما عند اللَّه، واطلبه منه. وقد جاء في الحديث عن أنس بن مالك، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أنه قال: "إذا قام الإمام في محرابه، وتواتر الصفوف، نزلت الرحمة، فأول ذلك يصيب الإمام، ثم من عن يمينه، ثم من عن يساره، ثم تتفرق الرحمة على الجماعة، ثم نادى ملك: ربح فلان، وخسر فلان، والرابح من يرفع يده بالدعاء إلى اللَّه إذا (¬4) فرغ من صلاته المكتوبة. والخاسر هو الذي خرج من المسجد بلا دعاء، فإذا خرج بلا دعاء، قالت الملائكة: يا فلان، استغنيت عن اللَّه؟ ¬
مالك عند اللَّه حاجة؟ " انتهى (¬1). فحينئذ تبين لك فساد ما ذهب إليه. . . . . . . . . ابن عبد الوهاب (¬2)، من نهيه عن رفع اليدين بالدعاء بعد الفراغ من الأذكار ¬
الواردة أدبار الصلوات المكتوبات، وجعله ذلك من البدع المضلة بغير علم (¬1)، وإنما مراده مخالفة جماعة المسلمين -تولاه اللَّه بعدله- وأما الذي أغراه على إنكار رفع اليدين بالدعاء أدبار الصلوات (¬2) فهو ما وقف عليه من كلام الإمام ابن القيم في "الهدي النبوي" (¬3) من قوله: وأما الدعاء بعد ¬
السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو المأمومين، فلم يكن ذلك من (¬1) هديه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) أصلًا، ولا روي عنه بإسناد صحيح، ولا حسن. انتهى. وكلام ابن القيم ردٌّ عليه، لو فهمه؛ لأن مراده رفع اليدين بالدعاء من حين السلام، قبل التسبيح والتحميد والأذكار (¬3)، ويدل عليه قوله بعد ذلك، قال -قدس اللَّه روحه-: إلا أن هنا نكتة لطيفة، وهي أن المصلي إذا فرغ من صلاته، وذكر اللَّه وهلله وسبحه وحمده وكبره بالأذكار المشروعة عقب الصلاة، استحب له أن يصلي على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد ذلك، وأن يدعو بما شاء، ويكون دعاؤه عقب هذه العبادة الثانية، لا لكونه دبر الصلاة، فإن كل من ذكر اللَّه وحمده وأثنى عليه وصلى على رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، استُحب له الدعاء عقيب ذلك، كما في حديث فضالة بن عبيد: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد اللَّه والثناء عليه، [ثم ليصل على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬4)، ثم ليدعُ بما (¬5) شاء". قال الترمذي: حديث صحيح (¬6). انتهى كلامه. ومن آداب الدعاء: بسط اليدين، ورفعهما إلى الصدر، وكشفهما أوْلى. والبداءةُ بحمد اللَّه والثناء عليه، وختمه به، والصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أوله وآخره، قال الآجري (¬7): ووسطه، لخبر ¬
جابر (¬1). وسؤاله بأسمائه وصفاته، بدعاء جامع مأثور، بتأدب، وخشوع، وخضوع، وعزم، ورغبة، وحضور قلب، ورجاء، ويكون متطهرًا، مستقبل القبلة، ويلح في الدعاء، ويكرره ثلاثًا، ويبدأ بنفسه، ويُؤمِّن مستمع، فيكون كداع، ويؤمن داع في أثناء دعائه، ويختمه به. وظاهر كلام جماعة (¬2): لا يكره رفع بصره فيه إلى السماء، ولمسلم من حديث مقداد مرفوعًا: "رفع بصره إلى السماء فقال: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني" (¬3). ¬
ولا يكره للإمام الذي لا يُؤَمِّن لدعائه أن يخص نفسه بالدعاء. ومن آداب الدعاء: الإخلاص (¬1)، واجتناب الحرام؛ لأنها تبعد إجابة آكل الحرام؛ لحديث: "رُب أشعث أغبر. . . " الحديث (¬2)، إلا مضطرًا أو مظلومًا، فإن دعاءه يستجاب. (وكره فيها) أي: الصلاة (التفات ونحوه) لحديث عائشة قالت: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الالتفات في الصلاة، فقال: "هو اختلاسٌ (¬3) ¬
يختلسه الشيطان من صلاة العبد". رواه البخاري (¬1). (بلا حاجة) فإن كان ثم حاجة، لم يكره، كخوف ومرض، لحديث سهل بن الحنظلية قال: "ثُوِّب بالصلاة، فجعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي، وهو يلتفت إلى الشِّعْبِ" (¬2). رواه أبو داود (¬3)، قال: وكان أرسل فارسًا إلى الشعب يحرس (¬4)، وكذا قال ابن عباس: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يلتفت يمينًا وشمالًا ولا يلوي عنقه". رواه النسائي (¬5). وإن استدار بجملته، بطلت صلاته، لتركه الاستقبال، إلا في شدة خوف، وإلا إذا تغير اجتهاده؛ لأن قبلته صارت التي تغير إليها اجتهاده، فلا تبطل بذلك، فإن كان الالتفات بوجهه فقط أو به مع صدره، لم تبطل. (و) كره فيها (إقعاء) في جلوسه، بأن يفترش قدميه، ويجلس على عقبيه (¬6). ¬
(و) كره فيها -أيضًا- (افتراش (¬1) ذراعيه ساجدًا) لحديث جابر مرفوعًا: "إذا سجد أحدكم، فليعتدل، ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب" رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح (¬2). (و) كره فيها (عبث) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى رجلًا يعبث في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا، لخشعت جوارحه" (¬3). (و) كره فيها -أيضًا- (تخصُّر) أي: وضع يده على خاصرته (¬4)؛ لحديث أبي هريرة يرفعه: "نهي أن يُصلي الرجل مختصرًا" متفق عليه (¬5). وكره فيها تمطٍّ (¬6) لأنه يخرجه عن هيئة الخشوع. ¬
(و) كره -أيضًا- (فرقعة أصابع وتشبيكها) لقول علي مرفوعًا: "لا تقعقع أصابعك وأنت في الصلاة" رواه ابن ماجه (¬1). وعن كعب بن عجرة "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى رجلًا قد شبك أصابعه في الصلاة، ففرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أصابعه" رواه الترمذي وابن ماجه (¬2)، وقال ابن عمر -في الذي يصلي وهو مشبك-: تلك صلاة المغضوب عليهم. رواه ابن ماجه (¬3). (و) كره صلاته مع (كونه حاقنًا) -بالنون- أي: محتبس البول (¬4) حيث يبتدئها (ونحوه) أي: نحو الحاقن، ككونه حاقبًا -بالموحدة- أي ¬
محتبس الغائط (¬1). (و) كره أن يبتدئها -أيضًا- مع بهونه (تائقًا) أي: مشتاقًا (لطعام ونحوه)، كشراب وجماع؛ حديث عائشة مرفوعًا: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان (¬2) " رواه مسلم (¬3)، وظاهره: ولو خاف فوت الجماعة؛ لما في البخاري: "وكان ابن عمر يوضع له الطعام، وتقام الصلاة، فلا يأتيها حتى يفرغ، وإنه يسمع قراءة الإمام" (¬4) إلا إن ضاق الوقت عن المكتوبة، فتجب، ويحرم اشتغاله بغيرها. ويكره -أيضًا- للمصلي حمده إذا عطس، أو وجد ما يسره، واسترجاعه (¬5) إذا وجد ما يَغُمُّهُ، وكذا قول: بسم اللَّه إذا لُسعَ، أو: سبحان اللَّه إذا رأى ما يعجبه، ونحوه، خروجًا من خلاف من أبطل الصلاة بذلك (¬6). وكذا لو خاطب بشيء من القرآن، كقوله لمن دق عليه: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)} (¬7) ونحوه فيكره. وسن لمصل تفرقته بين قدميه حال قيامه قدر شبر، ومراوحته بين قدميه؛ بأن يقف على أحدهما مرة، ثم على الأخرى أخرى، إذا طال قيامه؛ لأنه من السنة (¬8)، وتكره كثرة المراوحة بين قدميه؛ لأنه يشبه تمايل ¬
اليهود (¬1). ¬
وسن لمصل رد مار بين يديه آدمي أو غيره، بلا عنف؛ لحديث أم سلمة: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي في حجرة أم سلمة، فمر بين يديه عبد اللَّه، أو عمر بن أبي سلمة، فقال بيده [هكذا] (¬1) فرجع، فمرت بين يديه زينب بنت أم سلمة، فقال بيده هكذا، فمضت، فلما صلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "هن أغلب" رواه ابن ماجه (¬2). ما لم يغلبه المار، كما تقدم في بنت أم سلمة، أو يكن المار محتاجًا إلى المرور كضيق الطريق. وتُكره الصلاة في موضع يحتاج فيه إلى المرور إلا بمكة المشرفة، فلا يضر المرور بين يديه؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- "صلى بمكة، والناس يمرون بين يديه، وليس بينهما سترة" (¬3) رواه الإمام أحمد، وغيره (¬4). فإن أبى المار إلا المرور من غير حاجة، دفعه، فإن أصر على إرادة المرور ولم يندفع بالدفع، فللمصلي قتاله، لا بنحو سيف، ولو مشى إليه قليلًا، ولا تبطل صلاته به؛ لحديث أبي سعيد مرفوعًا: "إذا كان أحدكم يصلي إلى سترة من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفعه، فإن أبى، فليقاتله، فإنما هو شيطان" متفق عليه (¬5). وتنقص صلاة من لم يرد المار بين يديه بلا عذر. ¬
ويحرم مرورٌ بين المصلي وبين سترته، ولو كانت بعيدة؛ لحديث أبي جهم عبد اللَّه بن الحارث بن الصمة -مرفوعًا-: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ما [ذا] (¬1) عليه من الإثم، لكان أن يقف أربعين، خير له من أن يمر بين يديه" (¬2). ولمسلم: "لأن يقف أحدكم مائة عام، خير من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي" (¬3). فإن لم يكن له سترة، فإنه يحرم المرور في ثلاثة أذرع فأقل، من قدم المصلي. ولمصل عَدُّ آي، وتسبيح بأصابعه، وقول: سبحانك قبلى إذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)} (¬4) نصًّا (¬5)، فرضًا كانت الصلاة أو نفلًا، وأما {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)} (¬6) ففي الخبر فيها نظر (¬7)، ذكره في ¬
"الفروع" (¬1). ولمصل قراءة في المصحف، ونظر فيه (¬2). وله سؤال عند آية رحمة، وتعوذ عند آية عذاب (¬3). وله رد السلام بإشارة (¬4). (وإذا نابه) أي: المصلي (شيء) أي: عرض له أمر كاستئذان عليه، وسهو إمامه، (سبَّح رجل) بإمام وجوبًا، وبمستأذن استحبابًا، ولا تبطل ¬
صلاته إن أكثر تسبيحه؛ لأنه من جنس الصلاة. (وصفقت امرأة ببطن كفها على ظهر الأخرى) لحديث سهل بن سعد مرفوعًا: "إذا نابكم شيء في صلاتكم، فلتسبح الرجال، ولتصفق النساء" متفق عليه (¬1)، وتبطل صلاتها إن أكثر تصفيقها؛ لأنها عمل من غير جنسها. ومن غلبه تثاؤب، كظم ندبًا، وإلا وضع يده على فِيْهِ، لحديث: "إذا تثاءب أحدكم في الصلاة، فليكظم (¬2) ما استطاع، فإن الشيطان يدخل فاهُ" رواه مسلم، وللترمذي: "فليضع يديه على فيه" (¬3). قال بعضهم (¬4): اليسرى بظهرها؛ ليشبه الدافع له. (ويزيل) مصلٍّ (بصاقًا (¬5)، ونحوه) كمخاط (¬6) ونخامة (¬7) (بثوبه) أي: في ثوبه (ويباح) بصاق ونحوه (في غير مسجد عن يساره) وتحت قدمه، زاد بعضهم (¬8): اليسرى؛ لحديث: "فإذا تنخَّع أحدكم، فليتنخع عن يساره، أو تحت قدمه، فإن لم يجد، فليقل هكذا -ووصف القاسم- (¬9) فتفل ¬
في ثوبه فمسح بعضه على بعض" (¬1). ولحديث: "البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها" رواه مسلم (¬2). وهل المراد بالخطيئة: الحرمة أو الكراهة؟ قولان (¬3)، ذكره. . . . . . . . . ¬
السيوطي (¬1). (ويكره) بصاقه ونحوه (أمامه و) على (يمينه) لظاهر الخبر (¬2)، واحترامًا لحَفَظَة اليمين (¬3). ويلزم من رأى بصاقًا ونحوه في المسجد إزالته؛ لخبر أبي ذر: "وجدت في مساوئ أعمالنا النخامة تكون في المسجد لا تدفن" رواه مسلم (¬4). وسن صلاته إلى سترة، فإن كان في مسجد أو بيت، صلى إلى حائط أو سارية، وإن كان في فضاء، صلى إلى سترة بين يديه مرتفعة قدر ذراع فأقل؛ لحديث طلحة بن عبيد اللَّه -مرفوعًا-: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل ¬
مؤخرة الرحل (¬1) فليصل ولا يبالي من مرّ وراء ذلك" رواه مسلم (¬2)، ومؤخرة الرحل: عود في مؤخره، وتختلف، فتارة تكون ذراعًا وتارة تكون دونه، والمراد رحل البعير وهو أصغر من القتب (¬3)، وسواء في ذلك الحضر والسفر، خشي مارًا بين يديه أم ألا. وكان يركز له -صلى اللَّه عليه وسلم- الحربة (¬4) في السفر، فيصلي إليها (¬5)، ويعرض له البعير، فيصلي إليه (¬6). وعرض السترة أعجب إلى الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- قال: ما كان أعرض فهو أعجب إلي انتهى (¬7). لحديث سبرة (¬8) -مرفوعًا-: "استتروا في الصلاة ولو بسهم" رواه الأثرم (¬9)، فقوله: "ولو بسهم". يدل على أن غيره أولى منه. ويسن قربه منها نحو ثلاثة أذرع من قدميه؛ لحديث سهل بن أبي حثمة مرفوعًا: "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته" رواه أبو داود (¬10)، وعن سهل بن سعد: (كان بين النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
وبين السترة ممر الشاة) رواه البخاري (¬1)، و"صلى في الكعبة، وبينه وبين الجدار نحو من ثلاثة أذرع" رواه أحمد والبخاري (¬2). وسن انحرافه عنها يسيرًا؛ لفعله عليه الصلاة والسلام، رواه أحمد وأبو داود (¬3). وإن تعذر غرز عصا وضعها بين يديه. ويصح تستر ولو بخيط أو طرف حصير وكل ما اعتقده سترة، وسترة مغصوبة ونجسة كغيرها، قدمه في "الرعاية" (¬4) وفيه وجه، وفي "الإنصاف" (¬5): الصواب أن النجسة ليست كالمغصوبة. فتكره الصلاة إلى المغصوبة كالقبر. فإن لم يجد شيئًا خط خطًّا كالهلال، وصلى إليه؛ لحديث أبي هريرة -مرفوعًا-: "إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، وإن لم يجد، ¬
فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا، فليخط خطًّا، ثم لايضر من مر أمامه" رواء أبو داود (¬1)، فإذا مرَّ من ورائها، لم يكره. فإن لم تكن سترة فمر بين يديه كلب أسود بهيم (¬2)، بطلت صلاته، وكذا لو مر بينه وبين سترته؛ لحديث أبي ذر مرفوعًا: "إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره مثل آخرة الرحل، فإن لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته المرأة والحمار والكلب الأسود" قال عبد اللَّه بن الصامت (¬3): ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول اللَّه عما سألتني، فقال: "الكلب الأسود شيطان" رواه مسلم وغيره (¬4). ولا تبطل الصلاة إذا مر بين يديه امرأة وحمار وشيطان وكلب غير أسود بهيم؛ لأن زينب بنت أم سلمة مرت بين يدي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم يقطع صلاته (¬5). وعن الفضل بن عباس: أتانا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ونحن في بادية، فصلى في ¬
الصحراء ليس بين يديه سترة، وحمار لنا وكلبة يعبثان بين يديه، فما بالى بذلك. رواه أبو داود (¬1)، قلت: وهذا يخالف عبارة "شرح المنتهى" للعلامة منصور (¬2)، لكنه مخصوص بحديث أبي ذر فتدبرها، يبن لك أن كلام "الشارح" (¬3) غير مستقيم، وما في "شرح المنتهى" هو الصواب؛ لتخصيص حديث أبي ذر الصحيح، المتقدم آنفًا (¬4): أنه يقطع صلاته المرأة ¬
والحمار والكلب الأسود، فتأمل ذلك. وسترة الإمام سترة لمن خلفه (¬1)، فلا يضر مرور شيء بين أيديهم، ولو مما يقطع الصلاة. وإن مر بين الإمام وبين سترته ما يقطع صلاته، قطع صلاتهم -أيضًا-. ¬
فصل
فصل تنقسم أقوال الصلاة وأفعالها إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما لا يسقط عمدًا ولا سهوًا، وهي الأركان؛ لأن الصلاة لا تتم إلا بها، وسميت أركانًا؛ تشبيهأ بركن البيت الذي لا يقوم إلا به (¬1)، وبعضهم سماها: فروضًا (¬2). الثاني: ما تبطل الصلاة بتركه عمدًا، ويسقط سهوًا وجهلًا، ويجبر بالسجود، ويسمى الواجب، اصطلاحًا. الثالث: ما لا تبطل بتركه مطلقًا، وهو السنن. وأركان الصلاة ما كان فيها بخلاف الشروط، فإنها قبلها كما تقدم (¬3)، (وجملة أركانها) أي: الصلاة (أربعة عشر) ركنًا بالاستقراء، وعدها في "المقنع" (¬4) و"الوجيز" (¬5) وغيرهما اثني عشر، وفي "البلغة" (¬6) عشرة، وعد منها النية. الأول من الأركان: (القيام) في فرض، ولو على الكفاية لقادر؛ لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (¬7) وحديث عمران -مرفوعًا-: "صل ¬
قائمًا، فإن لم تستطع، فقاعدًا. . . إلخ" رواه البخاري (¬1). وخص بالفرض لحديث عائشة -مرفوعًا-: "كان يصلى ليلًا طويلًا قاعدًا. . . " الحديث. رواه مسلم (¬2)، سوى خائف بالقيام، كمن بمكان له حائط يستره جالسًا فقط، ويخاف بقيامه نحو عدو، فيجوز أن يصلي جالسًا، وسوى عريان، وتقدم (¬3)، وسوى مريض يمكنه قيام، لكن لا تمكن مداواته قائمًا، فيسقط عنه القيام لمداواته، ويصلي جالسًا؛ دفعًا للحرج، وكذا يصلي جالسًا؛ لأجل قِصَرِ سقف لعاجز عن خروج لحبس ونحوه، وكذا خلف إمام الحي، وهو الإمام الراتب، المصلي جالسًا المرجو زوال علته، ويأتي (¬4). (و) الثاني من الأركان: (التحريمة) أي: تكبيرة الإحرام؛ لحديث أبي سعيد -مرفوعًا-: "إذا قمتم إلى الصلاة فاعدلوا صفوفكم، وسدوا الفُرَج، وإذا قال إمامكم: اللَّه أكبر، فقولوا: اللَّه أكبر" رواه الإمام أحمد (¬5)، ولم ينقل عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه افتتح الصلاة بغيرها. (و) الثالث: قراءة (الفاتحة) في كل ركعة، وتقدم موضحًا (¬6)، ويتحملها إمام عن مأموم، ويأتي (¬7). (و) الرابع: (الركوع) إجماعًا (¬8) في كل ركعة؛ لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا ¬
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا} (¬1) وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث المسيء في صلاته -المتفق عليه-: "ثم اركع حتى تطمئن راكعًا" (¬2). (و) الخامس: (الاعتدال عنه) أي: الركوع؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث المذكور (¬3): "ثم ارفع" ولا تبطل إن طال اعتداله. (و) السادس: (السجود) إجماعًا (¬4) في كل ركعة مرتين؛ لقوله تعالى: {وَاسْجُدُوا} (¬5) ولحديث المسيء في صلاته (¬6). (و) السابع: (الاعتدال عنه) أي: السجود. (و) الثامن: (الجلوس بين السجدتين) لقوله عليه الصلاة والسلام للمسيء في صلاته: "ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا" (¬7). (و) التاسع: (الطمأنينة) في كل فعل مما تقدم؛ لأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- للمسيء في صلاته عند ذكر كل فعل منها بالطمأنينة (¬8)، والطمأنينة: السكون وإن قل (¬9). (و) العاشر: (التشهد الأخير) لحديث ابن مسعود: "كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على اللَّه، السلام على فلان. فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
قولوا: التحيات للَّه. . . " إلخ رواه الدارقطني والبيهقي وصححاه (¬1)، وفيه دلالة على فرضيته من وجهين: أحدهما قوله: "قبل أن يفرض علينا التشهد" والثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: "قولوا" والأمر للوجوب. وقد ثبت الأمر به في "الصحيحين" -أيضًا- من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا قعد أحدكم في صلاته، فليقل: التحيات للَّه. . . " الحديث متفق عليه (¬2). (و) الحادي عشر: (جلسته) أي: التشهد الأخير، والتسليمتين؛ لأنه ثبت أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- واظب عليه كذلك، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬3). (و) الثاني عشر: (الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام). (و) الثالث عشر: (التسليمتان) على الصفة التي تقدمت (¬4)؛ لحديث: "تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" (¬5) ويكفي في صلاة جنازة وسجود تلاوة، وشكر، وجميع النفل، تسيمة واحدة. (و) الرابع عشر: (الترتيب) بين الأركان على ما تقدم هنا، وفي صفة الصلاة، لحديث المسيء في صلاته، حيث علمه إياها مرتبة بـ "ثم" المقتضية للترتيب (¬6)، وصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان يصلي كذلك، وقال: "صلوا كما ¬
رأيتموني أصلي" (¬1). (وواجباتها) أي: الصلاة. وهو ما كان فيها؛ ليخرج الشرط. وهو القسم الثاني، وهو الذي تبطل الصلاة بتركه عمدًا لتخرج السنن، ويسجد لسهوه؛ لتخرج الأركان (ثمانية) -خبر المبتدأ-. أحدها: التكبير غير تكبير التحريمة؛ لقول أبي موسى الأشعري -مرفوعًا-: "فإذا كبر الإمام وركع، فكبروا واركعوا، وإذا كبر وسجد، فكبروا واسجدوا" رواه أحمد وغيره (¬2). لغير مأموم (¬3) أدرك إمامه راكعًا، فإن تكبيرته التي بعد تكبيرة الإحرام سنة. (و) الثاني: (التسميع) أي: قوله: سمع اللَّه لمن حمده، لإمام ومنفرد، دون مأموم. وتقدم (¬4). (و) الثالث: (التحميد) أي: قول: ربنا ولك الحمد. للكل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا قال الإمام: سمع اللَّه لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد" (¬5). (و) الرابع: (تسبيح) أول في (ركوع). (و) الخامس: تسبيح أول في (سجود) وتقدم (¬6). (و) السادس: (قول: رب اغفر لي) إذا جلس بين السجدتين (مرة مرة) في التسبيح، وفي ربِّ اغفر لي، كما ¬
تقدم (¬1). ومحل ما تقدم من تكبير الانتقال والتسميع لإمام، ومنفرد، والتحميد لمأموم بين ابتداء انتقال وانتهائه؛ لأنه مشروع له فاختص به، وإن شرع فيه قبل شروعه في الانتقال، بأن كبر لسجود قبل هويه إليه، أو سمَّعَ قبل رفعه من ركوع لم يجزئه أو كمله بعده، وكذا سؤال المغفرة. لو شرع فيه قبل الجلوس، أو كمله بعده، وكذا تحميد إمام ومنفرد لو شرع فيه قبل اعتداله أو كمله بعد هويه منه. قال المجد: هذا قياس المذهب، ويحتمل أن يعفى عن ذلك؛ لأن التحرز عنه يعسر والسهو به يكثر، ففي الإبطال به أو السجود له مشقة. انتهى (¬2). (و) السابع: (التشهد الأول). (و) الثامن: (جلسته) للأمر به في حديث ابن عباس (¬3) ومع ما تقدم (¬4)؛ ولأنه عليه الصلاة والسلام سجد لتركه (¬5)، إلا من قام إمامه سهوًا، فلا يلزمه جلوس ولا تشهد، ويلزمه متابعته؛ لحديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" (¬6). والمجزئ من التشهد الأول: "التحيات للَّه، سلام عليك أيها النبي ورحمة اللَّه، سلام علينا وعلى عباد اللَّه الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن ¬
تنبيه
محمدًا عبده ورسوله" أو: "أن محمدًا رسول اللَّه". (وما عدا ذلك) المذكور من الواجبات (و) ما عدا (الشروط) فهو (سنة). وتقدم جل سنن الأقوال والأفعال في صفة الصلاة. تنبيه: لو اعتقد مصل الفرض سنة أو عكسه، أو لم يعتقد شيئًا، أو لم يعرف الشرط من الركن وأدى الصلاة على وجهها، فهي صحيحة اكتفاء بعلمه أن ذلك كله من الصلاة. (فالركن والشرط لا يسقطان سهوًا وجهلًا، ويسقط الواجب بهما) أي: بالسهو والجهل فقط دون العمل، فلا يسقط به، كما تقدم.
فصل
فصل (ويشرع) أي: يجب أو يسن -كما يأتي- (سجود السهو) قال في "النهاية" (¬1): السهو في الشيء: تركه من غير علم، وعن الشيء: تركه مع العلم به (لزبادة في الصلاة) متعلق بـ: "يشرع" (ونقص) منها سهوًا. (و) يشرع -أيضًا- سجود السهو لـ (شكٍّ) في الجملة -كما يأتي تفصيله- فلا يشرع لكل شك بل ولا لكل زيادة أو نقص كما ستقف عليه (لا في عمد) لأن السجود يضاف إلى السهو فدل على اختصاصه به، والشرع إنما ورد به فيه، ولا يلزم من انجبار السهو به انجبار العمد، لوجود العذر في السهو (وهو) أي: سجود السهو (واجب لما تبطل) الصلاة (بتعمده) أي: تعمد فعله، كتعمد زيادة ركن فعلي ولو قدر جلسة الاستراحة، أو تعمد تركه كترك واجب من الواجبات (و) هو (سنة لإتيان بقول مشروع في غير محله) كقراءة الفاتحة جالسًا، وقراءة التحيات قائمًا، ونحو ذلك (سهوًا) فلو تعمد ذلك، لم يسجد له، ولا تبطل بتعمده؛ لأنه قول مشروع، لكن يكره له ذلك (و) هو (مباح لترك سنة) كترك قراءة السورة مع الفاتحة في غير آخرتي الرباعيات وآخرة مغرب، وكترك الزيادة على مرة في تسبيح الركوع والسجود، وترك القنوت في الوتر، ونحو ذلك (ومحله) أي: سجود السهو (قبل السلام ندبًا إلا) في صورة واحدة، وهي (إذا سلم عن نقص ركعة فأكثر فـ) ـإنَّ السجود يكون (بعده ندبًا)؛ لقصة ذي اليدين (¬2). ¬
وكون سجود السهو قبل السلام أو بعده ندب؛ لأن الأحاديث وردت بكل من الأمرين، فلو سجد للكل قبل السلام أو بعده، جاز (وإن سلم قبل إتمامها) أي: الصلاة (عمدًا بطلت) صلاته، لأنه تكلم فيها، والباقي منها ركن أو أكثر، وهو يبطلها تركه عمدًا (وسهوًا) لم تبطل به، وله إتمامها؛ لأنه عليه الصلاة والسلام وأصحابه فعلوه وبنوا على صلاتهم (¬1)، لأن جنسه مشروع فيها أشبه الزيادة فيها من جنسها (فإن ذكره (¬2) قريبًا) عرفًا، ولو خرج من المسجد، نصًّا (¬3)، أو شرع في صلاة أخرى فإنه يقطع التي شرع فيها مع قرب فصل، ويعود إلى الذي ترك، و (أتمها) أي: صلاته (وسجد) لسهوه؛ لحديث عمران بن حصين قال: "سلم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في ثلاث ركعات من العصر، ثم قام فدخل الحجرة، فقام رجل بسيط اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول اللَّه؟ فخرج فصلى الركعة التي كان ترك، ثم سلم، ثم سجد سجدتي السهو، ثم سلم" رواه مسلم (¬4). (وإن) لم يذكر سهوه قريبًا حتى طال الزمن أو (أحْدَثَ) بطلت صلاته، لأن الحَدَثَ ينافيها، أو تكلم مطلقًا إمامًا كان أو غيره، عمدًا كان أو سهوًا أو جهلًا، طائعًا أو مكرهًا، فرضًا أو نفلًا، لمصلحتها أو لا، في صلبها أو بعد سلامه، قبل إتمامها سهوًا بطلت؛ لحديث: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" رواه مسلم (¬5). ¬
وعن الإمام أحمد: . لا تبطل بيسير كلامٍ لمصلحتها (¬1)، ومشى عليه في "الإقناع" (¬2) لقصة ذي اليدين (¬3) (أو قهقه) بعد أن سلم قبل إتمامها (بطلت كفعلهما) أي: الحدث أو القهقهة (في صلبها) أي: الصلاة، لا إن نام فتكلم، أو سبق على لسانه حال قراءته؛ لأنه مغلوب على الكلام، أشبه ما لو غلط في القرآن، فأتى بكلمة من غيره، فلا تبطل بذلك (وإن نفخ) فبان حرفان (أو انتحب (¬4) لا من خشية اللَّه تعالى، أو تنحنح بلا حاجة فبان حرفان، بطلت) صلاته؛ لقول ابن عباس: "من نفخ في صلاته، فقد تكلم" رواه سعيد (¬5)، وعن أبي هريرة نحوه (¬6)، فإن كانت النحنحة لحاجة، لم تبطل صلاته ولو بأن حرفان. قال المروذي (¬7): (كنت آتي أبا عبد اللَّه، فيتنحنح في صلاته؛ لأَعْلَمَ أنه ¬
يصلي) (¬1) ولا تبطل إن غلبه سُعَالٌ (¬2)، أو عطاس، أو تثاؤب، أو بكاءٌ، ولو بان حرفان. نص عليه في من غلبه البكاء (¬3). ومصلٍّ نفلًا يجيب والديه، وتبطل به صلاته. ويجوز إخراج زوجة من نفل؛ لحق زوجها. (ومن ترك ركنًا غير التحريمة) أي: تكبيرة الإحرام سهوًا، كركوع أو سجود أو غيرهما (فذكره) أي: الركن المتروك (بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى) غير التي تركه منها (بطلت) الركعة المتروك منها (وصارت) الركعة (التي شرع في قراءتها مكانها) لأنه لا يمكنه استدراك المتروك لتلبسه، بفرض قراءة الركعة الأخرى، فلغت ركعته (وقبله) أي: قبل الشروع في قراءتها (يعود فيأتي به) أي: يلزمه أن يعود إلى الركن المتروك فيأتي به؛ لأنه ركن لا يسقط بسهو ولا غيره، (و) يأتي (بما بعده) لأنه قد أتى به في غير محله؛ لأن محله بعد الركن المنسي. فلو ذكر الركوع وقد جلس، أتى به وبما بعده (و) إن لم يذكر ما تركه إلا (بعد السلام (¬4) فـ) ـذلك (كترك ركعة) كاملة، فيأتي بركعة، ويسجد للسهو قبل السلام. نص عليه (¬5) في رواية حرب (¬6) إن لم يطل فصل، أو يحدث، أو يتكلم؛ لأن الركعة بترك ركنها لغت فصار وجودها كعدمها، ¬
فكأنه سلم عن ترك ركعة. (وإن نهض) مصلٍّ (عن) ترك (تشهد أولٍ ناسيًا) لما تركه (لزمـ) ـه رجوعه) إليه إن ذكر قبل أن يستتم قائمًا؛ ليتدارك الواجب، ويتابعه مأموم ولو اعتدل (وكره) رجوعه (إن استتم قائمًا) لحديث المغيرة بن شعبة -مرفوعًا-: "إذا قام أحدكم من الركعتين فلم يستتم قائمًا فليجلس، فإن استتم قائمًا، فلا يجلس، وليسجد سجدتين" رواه أبو داود وابن ماجه (¬1) وأقل أحوال النهي الكراهة. (وحرم) رجوعه (وبطلت) صلاته (إن) رجع بعد أن (شرع في القراءة) و (لا تبطل) برجوعه (إن نسي أو جهل) تحريم رجوعه؛ لحديث: "عُفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" (¬2) ومتى علم تحريم ذلك وهو في التشهد، نهض ولم يتمه (ويتبع مأموم) إمامًا في قيامه ناسيًا؛ لحديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" (¬3) ولما قام -صلى اللَّه عليه وسلم- عن التشهد، قام الناس معه (¬4)، وفعله جماعة ¬
تتمة
من أصحابه (¬1). ولا يلزمه الرجوع إن سبحوا به بعد قيامه، وإن سبحوا به قبل قيامه ولم يرجع، تشهدوا لأنفسهم ولم يتابعوه، لتركه واجبًا عمدًا، وإن رجع قبل شروعه في القراءة، لزمهم متابعته ولو شرعوا فيها، لا إن رجع بعدها؛ لخطئه، ويَنْوُوْنَ مفارقته. (ويجب السجود لذلك مطلقًا) أي: في جميع الصور المذكورة؛ لما تقدم من أن السجود لترك الواجب سهوًا واجب (¬2). تتمة: لو أحرم بالعشاء مثلًا، ثم سلم من ركعتين، ظنًّا أنهما من التراويح، أو سلم من ركعتين من ظهر ظنًّا أنهما جمعة، أو فجرًا فاتته ثم ذكرها، أعاد فرضه ولم يَبْنِ نصًّا (¬3)؛ لأنه قد قطع نية الأولى باعتقاده أنه في أخرى؛ لأن استصحاب حكم النية واجب. وسئل أحمد عن إمام صلى بقوم العصر، فظن أنها الظهر فطول القراءة، ثم ذكر، فقال: يعيد ويعيدون (¬4). (ويبني على اليقين -وهو الأقل- من شك في ركن) بأن تردد في فعله وتركه، فيجعل كمن تيقن تركه؛ لأن الأصل عدمه، وكما لو شك في أصل الصلاة (أو) شك في (عدد) ركعات، فإذا شك أصلى ركعة أو ركعتين بنى على ركعة، وثنتين أو ثلاثًا، بنى على ثنتين وهكذا، إمامًا كان أو منفردًا؛ لحديث أبي سعيد الخدري -مرفوعًا-: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أصلى ثلاثًا أو أربعًا؟ ¬
تتمة
فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى أربعًا كانتا ترغيمًا (¬1) للشيطان" رواه أحمد ومسلم، (¬2)، وحديث ابن مسعود -مرفوعًا-: "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحرَّ الصواب، وليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين" رواه الجماعة إلا الترمذي (¬3)، فتحري الصواب فيه هو استعمال اليقين؛ لأنه أحوط، وجمعًا بين الأخبار. تتمة: لا يرجع مأموم ليس معه غيره إلى فعل إمامه؛ لأن قول الإمام لا يكفي في مثل ذلك، بدليل ما لو شك إمام فسبح به واحد، بل يبني على اليقين كمنفرد، ولا يفارقه قبل سلامه؛ لأنه لم يتيقن خطأه، فإذا سلم إمام، أتى مأموم بما شك فيه مع إمامه ليخرج من الصلاة بيقين وسجد للسهو وسلم، ولا يسجد إن شك في ترك واجب؛ لأنه شك في سبب وجوب (¬4) السجود، والأصل عدمه، أو شك في زيادة بأن شك هل زاد ركوعًا أو سجودًا، أو شك في تشهده الأخير: هل صلى أربعًا أو خمسًا ونحوه؟ لأن الأصل عدم الزيادة إلا إن شك في الزيادة، وقت فعلها، بأن شك في سجدة وهو فيها: هل هي زائدة أم لا؟ فيسجد؛ لأنه أدى جزءًا من صلاته مترددًا في كونه منها أو زائدًا عليها، فضعفت النية، واحتاجت للجبر بالسجود. ¬
ولو شك من أدرك الإمام راكعًا بعد أن أحرم معه: هل رفع الإمام رأسه قبل إدراكه راكعًا أم لا؟ لم يعتد بتلك الركعة، وسجد للسهو؛ لاحتمال أن تكون زائدة. وإن شك هل دخل مع الإمام في الركعة الأولى مثلًا أو في الثانية، جعله في الركعة الثانية؛ لأنه المتيقن، وسجد للسهو. ومن شك في عدد الركعات أو غيره فبنى على يقينه، فزال شَكُّهُ، وعلم أنه مصيب فيما فعله، لم يسجد مطلقًا (¬1). ومن سجد لشك ظنًّا أنه يسجد له، ثم تبين له أنه لم يكن عليه سجود لذلك الشك، سجد وجوبًا، لكونه زاد في صلاته سجدتين غير مشروعتين. وليس على مأموم دخل مع إمامه من أول الصلاة، إن سها دون إمامه، سجود سهو، إلا أن يسهو إمامه فيسجد معه، لحديث ابن عمر -مرفوعًا-: "ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها إمامه، فعليه وعلى من خلفه" رواه الدارقطني (¬2). ولو كان المأموم مسبوقًا، وسها الإمام فيما لم يدركه فيه، بأن كان الإمام سها في الأولى مثلًا، وأدركه في الثانية أو بعدها، كفي التشهد الأخير قبل سلامه، فإنه يتابعه في السجود وجوبًا، فلو قام بعد سلام إمامه ظانًّا عدم سهوه، فسجد إمامه، رجع فسجد معه، فإن استتم قائمًا، فالأولى أن لا يرجع، كمن قام عن التشهد الأول، ولا يرجع إن شرع في القراءة، لأنه تلبس بركن مقصود، فلا يرجع إلى واجب، ويسجد إذا فرغ من قضاء ما فاته في آخر صلاته. ¬
فصل في صلاة التطوع
فصل في صلاة التطوع والتطوع في الأصل: فعل الطاعة (¬1). وشرعًا وعرفًا: طاعة غير واجبة (¬2). والنفل والنافلة: الزيادة (¬3)، والتنفل: التطوع (¬4)، وأفضلها ما سن جماعة، فلذلك قال: (آكد صلاة تطوع) صلاة (كسوف) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- فعلها، وأمر بها، في حديث أبي (¬5) مسعود المتفق عليه (¬6) (فاستسقاء) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يستسقي تارة، ويترك أخرى، بخلاف الكسوف، فلم تترك صلاته عنده فيما نقل عنه، لكن ورد ما يدل على الاعتناء بالاستسقاء، حديث أبي داود عن عائشة: "أمر بمنبر فوضع له ووعد الناس يومًا يخرجون فيه" (¬7) (فتراويح) لأنها تسن في الجماعة (فوتر) لأنه يشرع له الجماعة بعد التراويح. وهو سنة مؤكدة. روي عن أحمد: من ترك الوتر عمدًا، فهو رجل سوء، لا ينبغي أن تقبل له شهادة (¬8). وليس هو بواجب. قال في رواية حنبل: الوتر ليس ¬
بمنزلة الفرض، فإن شاء قضى الوتر، وإن شاء لم يقضه (¬1). وذلك لحديث طلحة بن عبيد اللَّه: أن أعرابيًا قال: يا رسول اللَّه ماذا فرض اللَّه على عباده من الصلاة؟ قال: "خمس صلوات في اليوم والليلة". قال: هل عليّ غيرها؟ قال: "لا، إلا أن تطوع" متفق عليه (¬2). وأما حديث: "الوتر حق" (¬3) ونحوه (¬4)، فمحمول على تأكيد استحبابه، جمعًا بين الأخبار، إلا على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكان الوتر واجبًا عليه، للخبر (¬5) (ووقته من صلاة العشاء) ولو مع جمع تقديم في وقت المغرب (إلى الفجر) الثاني، لحديث معاذ سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "زادني ربي ¬
صلاة، وهي الوتر، ووقتها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر" رواه أحمد (¬1)، ولمسلم: "أوتروا قبل أن تصبحوا" (¬2) وحديث: "إن اللَّه قد أمركم بصلاة، وهي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر، فصلوها فيما بين العشاء وطلوع الفجر" رواه أبو داود وغيره (¬3). والوتر آخر الليل لمن يثق بنفسه أنه يقوم أفضل، لحديث: "من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل" رواه مسلم (¬4). (وأقله) أي: الوتر (ركعة) لحديث ابن عمر وابن عباس -مرفوعًا-: "الوتر ركعة من آخر الليل" رواه مسلم (¬5)، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "من أحب أن يوتر بواحدة فليفعل" رواه أبو داود وغيره (¬6). ¬
ولا يكره الوتر بركعة لما تقدم (¬1)، ولثبوته -أيضًا- عن عشرة من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- ومنهم: أبو بكر (¬2)، وعمر (¬3)، وعثمان (¬4)، وعائشة (¬5). (وأكثره) أي: الوتر (إحدى (¬6) عشرة) ركعة (مثنى مثنى) يسلم من كل ركعتين (ويوتر بواحدة) لحديث عائشة: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، ويوتر منها بواحدة" وفي لفظ: "يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة" (¬7). وله أن يسرد عشرًا ثم يجلس، ويتشهد، ولا يسلم، ثم يأتي بالأخيرة، ويتشهد ويسلم. نص عليه الإمام (¬8)، والأولى أفضل، لأنها أكثر عملًا، لزيادة النية، والتكبير، والتسليم. وإن أوتر بتسع، تشهد بعد ثامنة ولا يسلم، ثم يأتي بالتاسعة ويتشهد ويسلم -كما تقدم؛ لحديث عائشة -وسئلت عن وتر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قالت: "كنا نُعد له سواكه وطهوره فيبعثه اللَّه ما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر اللَّه ¬
ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر اللَّه ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليمًا يسمعناه" (¬1). وإن أوتر بسبع ركعات أو بخمس سردهن، فلا يجلس إلا في آخرهن، لحديث ابن عباس في صفة وتره -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثم توضأ، ثم صلى سبعًا أو خمسًا أوتر بهن لم يسلم إلا في آخرهن" رواه مسلم (¬2). وعن أم سلمة: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام وكلام" رواه أحمد ومسلم (¬3). (وأدنى الكمال) في الوتر (ثلاث) ركعات (بسلامين) بأن يصلي ثنتين ويسلم، ثم ركعة ويسلم؛ لأنه أكثر عملًا، وكان ابن عمر: "يسلم من ركعتين حتى يأمر ببعض حاجته" (¬4). ويجوز أن يصلي الثلاث بسلام واحد، قال أحمد: إن أوتر بثلاث، لم يسلم فيهن، لم يضيق عليه عندي (¬5). يقرأ في الأولى من الثلاث بعد الفاتحة بـ {سَبِّحِ}، وفي الثانية بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ لحديث أبي بن كعب: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقرأ بهن في وتره" ¬
رواه أبو داود (¬1). (ويقنت) في الأخيرة من وتره (بعد الركوع ندبًا) لأنه صح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- من رواية أبي هريرة (¬2)، وأنس (¬3) وابن عباس (¬4). وعن عمر وعلي أنهما كانا يقنتان بعد الركوع. رواه أحمد والأثرم (¬5). ولو كبر ورفع يديه بعد القراءة وقنت قبل الركوع جاز -أيضًا- لحديث أُبيّ بن كعب مرفوعًا: "كان يقنت في الوتر قبل الركوع" رواه أبو داود (¬6)، وعن ابن مسعود -مرفوعًا- مثله رواه أبو بكر ¬
الخطيب (¬1). (¬2) وروى الأثرم عن ابن مسعود: "أنه كان يقنت في الوتر، وكان إذا فرغ من القراءة كبر ورفع يديه، ثم قنت، فيرفع يديه إلى صدره مبسوطتين وبطونهما نحو السماء" (¬3) ولو كان مأمومًا؛ لحديث سلمان -مرفوعًا-: "إن اللَّه يستحي أن يبسط العبد يديه، يسأله فيهما خيرًا فيردهما خائبتين" رواه الخمسة إلا النسائي (¬4)، وعن مالك بن يسار -مرفوعًا-: "إذا سألتم اللَّه، فاسألوه ببطون أكفكم، ولا تسألوه بظهورها" رواه أبو ¬
داود (¬1). ويقول جهرًا: اللهم إنا نستعينك ونسهديك، ونستغفرك -أي نطلب منك العون والهداية والمغفرة- ونتوب إليك، ونؤمن؛ أي: نصدق بك- ونتوكل عليك -أي: نعتمد ونظهر عجزنا- ونثني عليك الخير -أي: نصفك به كله ونمدحك، والثناء في الخير خاصة، وبتقديم النون على الثاء يستعمل في الخير والشر (¬2) - ونشكرك ولا نكفرك -أي لا نجحد نعمتك ونسترها لاقترانه بالشكر- اللهم إياك نعبد -قال البيضاوي (¬3): العبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل، ولا يستحقها (¬4) إلا اللَّه، وسمي العبد عبدًا لذلته وانقياده لمولاه- ولك نصلي ونسجد -لا لغيرك وإليك نسعى ونحفد -بفتح النون وكسر الفاء وبالدال المهملة، أي نسرع ونبادر (¬5) - نرجوا -أي نؤمل- رحمتك -أي سعة عطائك- ونخشى عذابك -أي نخافه، قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} (¬6) - إن عذابك الجد -بكسر الجيم أي: الحق لا اللعب (¬7) - بالكفار ملحق -بكسر الحاء على المشهور، أي: لاحق، وبفتحها على معنى أن اللَّه يلحقه الكفار (¬8). ¬
قال الخلال: سألت ثعلبًا (¬1) عن مُلحِق ومُلحَق؟ فقال: العرب تقولهما جميعًا (¬2). وهذا القنوت من أوله إلى هنا مروي عن عمر، وفي أوله: "بسم اللَّه الرحمن الرحيم" وفي آخره: "اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك" (¬3) وهما سورتان في مصحف أبي. قال ابن سيرين (¬4): كتبهما أبي في مصحفه (¬5). إلى (¬6) قول: "ملحق" زاد غير واحد: ونخلع ونترك من يكفرك (¬7). (اللهم اهدني في من هديت) أي: ثبتني على الهداية أو زدني منها، وهي: الدلالة والبيان، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ ¬
مُسْتَقِيمٍ} (¬1) وأما قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬2) فهي من اللَّه التوفيق والإرشاد (¬3). (وعافني في من عافيت) من الأسقام والبلايا (¬4)، والمعافاة: أن يعافيك اللَّه من الناس، ويعافيهم منك. (وتولني في من توليت) الولي: ضد العدو (¬5). من تليت الشيء إذا اعتنيت به، [ونظرت فيه] (¬6) كما ينظر الولي في مال اليتيم؛ لأن اللَّه ينظر في أمر وليه بالعناية، ويجوز أن يكون من: وليت الشيء إذا لم يكن بينك وبينه واسطة، بمعنى أن الولي يقطع الوسائط بينه وبين اللَّه تعالى حتى يصير في مقام المراقبة (¬7) والمشاهدة (¬8)، وذلك مقام الإحسان (¬9). (وبارك لي) البركة: الزيادة أو حلول الخير الإلهي في الشيء (¬10) (فيما ¬
أعطيت) أي: أنعمت به. والعطة: الهبة (¬1). (وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك) أي: أنه لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، فإنه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد (إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت) رواه أحمد، ولفظه له، وتكلم فيه أبو داود، ورواه الترمذي وحسنه من حديث الحسن بن علي قال: علمني النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كلمات أقولهن في قنوت الوتر: "اللهم اهدني. . . " إلى "وتعاليت" وليس فيه: "ولا يعز من عاديت" (¬2) ورواه البيهقي وأثبتها فيه (¬3) وجَمَعَ، والرواية بالإفراد، ليشارك الإمام المأموم (¬4) ويعِز بكسر العين، قال بعضهم (¬5): وقل إذا كنت في ذكر القنوت ولا ... يعزُّ يا ربِّ مَنْ عاديتَ مكْسُورا (اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك) أظهر العجز والانقطاع، وفزع إليه منه، فاستعاذ به منه. ¬
(لانحصي ثناءً عليك) أي: لا نطيقه. (أنت كما أثنيت على نفسك) اعتراف بالعجز عن الثناء، ورَدٌّ إلى المحيط علمه بكل شيء، جملة وتفصيلًا. ورى الخمسة عن علي -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول في آخر وتره: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" ورواته ثقات (¬1). قال الترمذي: لا نعرف عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في القنوت شيئًا أحسن من هذا (¬2)، وله أن يزيد ما شاء مما يجوز به الدعاء في الصلاة. قال المجد: فقد صح عن عمر: "أنه كان يقنت بقدر مائة آية" (¬3) (ثم يصلي على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-) لحديث الحسن بن علي السابق، وفي آخره: "وصل اللَّه على محمد" رواه النسائي (¬4). ¬
وعن عمر: "الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك -صلى اللَّه عليه وسلم-" رواه الترمذي (¬1). (ويؤمن مأموم) على قنوت إمامه إن سمعه؛ لحديث ابن عباس (¬2) (ويجمع إمام الضمير) فيقول: اللهم إنا نستعينك، اللهم اهدنا. . . إلخ، ويفرد منفرد كما تقدم (¬3) (ويمسح الداعي وجهه بيديه مطلقًا) في الوتر وغيره، كخارج الصلاة، لعموم حديث عمر: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه" رواه الترمذي (¬4)، ولقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس: "فإذا فرغت فامسح بهما وجهك" رواه أبو داود وابن ماجه (¬5). ¬
ويرفع يديه إذا أراد السجود نصًّا، لأن القنوت مقصود في القيام، فهو كالقراءة، ذكره القاضي (¬1). وكره قنوت في غير وتر حتى فجر، روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي الدرداء (¬2)، لحديث مالك الأشجعي قال: قلت لأبي: يا أبت إنك قد صليت خلف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي هاهنا بالكوفة نحو خمس سنين، أكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: "أي بني مُحْدَث" قال الترمذي: حسن صحيح. رواه أحمد وابن ماجه والنسائي، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم (¬3). وعن سعيد بن جبير قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: "إن القنوت في صلاة الفجر بدعة" رواه الدارقطني (¬4). وأما حديث أنس: "ما زال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا" رواه أحمد وغيره (¬5)، ففيه. . . . . . . . ¬
مقال (¬1)، ويحتمل أنه أراد به طول القيام، فإنه يسمى قنوتًا (¬2). فإن نزل بالمسلمين نازلة سوى الطاعون فيسن أن يقنت إمام الوقت خاصة، وهو الإمام الأعظم، واختار جماعة: أو نائبه (¬3)، في جميع الصلوات سوى الجمعة، فيكفي الدعاء في آخر الخطبة، ويجهر بالقنوت في صلاة جهرية. وأما الطاعون فلا يقنت لنزوله، لأنه لم يثبت القنوت في طاعون عمواس (¬4) ولا غيره، ولأنه شهادة (¬5) فلا يسأل رفعه. ¬
تتمة
تتمة: من ائتم بمن يرى القنوت في فجر تابعه؛ لحديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" (¬1) وأمَّن لدعائه إن سمعه، وإلا قرأ الفاتحة أو سورة -إن كان قد قرأ الفاتحة- إن كان القنوت قبل الركوع، فإن كان بعده لم يقرأ، ويؤمِّن إن سمع قنوت إمامه، وإلا سكت. (و) صلاة (التراويح) سنة مؤكدة، سميت بذلك لأنهم كانوا يصلون أربعًا ويتروحون ساعة -أي يستريحون- (¬2) وهي (عشرون ركعة برمضان) لحديث ابن عباس: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصلي في شهر رمضان عشرين ركعة" رواه أبو بكر عبد العزيز في "الشافي" بإسناده (¬3). وعن يزيد بن رومان: "كان الناس في زمن عمر بن الخطاب -رضي ¬
اللَّه عنه- يتروحون في رمضان بثلاث وعشرين ركعة" رواه مالك (¬1)، ولعل من زاد على ذاك فعله زيادة تطوع. وفي الصحيحين من حديث عائشة: "أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاها ليالي، فصلوها معه، ثم تأخر وصلى في بيته باقي الشهر، وقال: إني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها" (¬2). وفي البخاري أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فصلى بهم التراويح (¬3). ويسلم من كل اثنتين ندبًا، بنية أول كل ركعتين، لحديث: "صلاة الليل مثنى مثنى" (¬4) فينوي أنهما من التراويح، أو من قيام رمضان. ويستراح بين كل أربع ركعات (¬5) بلا دعاء، ولا بأس بزيادة على العشرين، ولا بالدعاء بعدها، ولا بالطواف في خلالها، ولا بالتعقيب بعدها وبعد وتر -وهو التطوع في جماعة- سواء طال الفصل أم لا (¬6). فتسن التراويح (و) يسن (الوتر معها جماعة) لحديث أبي ذر أن النبي ¬
-صلى اللَّه عليه وسلم- جمع أهله وأصحابه، وقال: "إن من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة" رواه أحمد والترمذي (¬1)، ومعلوم أن الإمام لا ينصرف حتى يوتر. (ووقتها) أي: التراويح (بين سُنَّةِ عشاء ووتر) لأن سنة العشاء يكره تأخيرها عن وقت العشاء المختار، فإتباعها بها أولى وأشبه، والتراويح لا يكره مدها وتأخيرها بعد نصف الليل، فهي بالوتر أشبه، فلا تصح قبل العشاء، وله فعلها بعد العشاء قبل سنتها، لكن الأفضل بعدها. والتراويح بمسجد أفضل منها ببيت، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- جمع الناس عليها ثلاث ليال متوالية كما روته عائشة (¬2)، وكان أصحابه يفعلونه في المسجد أوزاعًا في جماعة متفرقة في عهده عن علم منه بذلك وإقرار عليه (¬3)، ولم يداوم عليها خشية أن تفرض (¬4)، وقد أمن ذلك بموته -صلى اللَّه عليه وسلم-. والأفضل لمن له تهجد أن يوتر بعده، لحديث: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا" متفق عليه (¬5). وإن أحب متابعة إمامه قام إذا سلم إمامه من وتره فشفعها بأخرى، ¬
ثم يوتر بعد تهجده، وإن أوتر ثم أراد التهجد صلى ولم ينقضه، ولم يوتر بعده، لحديث: "لا وتران في ليلة" رواه أحمد وأبو داود (¬1). وصح أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصلي بعد الوتر ركعتين (¬2)، وسئلت عائشة عن الذي ينقض وتره فقالت: "ذاك الذي يلعب بوتره" رواه سعيد وغيره (¬3). (ثم الراتبة) وهي السنن التي تفعل مع الفرائض، وهي عشر ركعات: (ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر) لحديث ابن عمر: حفظت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عشر ركعات في بيته، "ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، ¬
وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح" وكانت ساعة لا يدخل على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها. حدثتني حفصة أنه: "كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر صلى ركعتين" متفق عليه (¬1)، وللترمذي مثله عن عائشة -مرفوعًا-، وقال: صحيح (¬2). وآكد الرواتب ركعتا الفجر، فلذلك قال: (وهما آكدها) لقول عائشة -رضي اللَّه عنها-: "لم يكن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر" متفق عليه (¬3)، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلوا ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل" رواه أحمد وأبو داود (¬4). وسن تخفيفهما، وأن يقرأ فيهما بعد الفاتحة بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أو في الأولى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} (¬5) الآية، وفي الثانية: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} الآية (¬6). (¬7) وسن اضطجاع بعدها على جنبه الأيمن قبل صلاة الفرض، لقول ¬
عائشة: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع" وفي رواية: "إن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع" متفق عليه (¬1). ثم يلي سنة فجر في الأفضلية سنة مغرب؛ لحديث أحمد عن عبيد مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: سُئل: أكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يأمر بصلاة بعد المكتوبة سوى المكتوبة؟ قال: نعم بين المغرب والعشاء (¬2) ويقرأ فيهما بعد الفاتحة: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬3). ثم بقية الرواتب في الأفضلية سواء. وهذه الرواتب العشر يكره تركها، وتسقط عدالة من داوم على تركها، قال أحمد: لا يداوم على تركها إلا رجل سوء (¬4)، ولا يُمنع من فعلها مع الفرض زوجة ولا ولد ولا عبد ولا أجير. والسنن غير الرواتب عشرون ركعة: أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، وأربع قبل العصر، وأربع بعد المغرب، وأربع بعد العشاء، لحديث أم حبيبة: "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرَّمه اللَّه على ¬
النار" صححه الترمذي (¬1)، ولحديث علي في صفة صلاته -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر فيه "أنه كان يصلي أربعًا قبل العصر" رواه ابن ماجه (¬2)، وحديث أبي هريرة -مرفوعًا-: "من صلى بعد المغرب ست ركعات لم يتكلم فيهن بسوء عُدلن له بعبادة ثنتي عشرة سنة" رواه الترمذي. وفي إسناده عمرو بن أبي خثعم، ضعفه البخاري (¬3)، وعن عائشة: "ما صلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- العشاء قط إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات" رواه أبو داود (¬4). وفعل السنن كلها ببيت أفضل من فعلها بالمسجد؛ لحديث: "عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة" رواه مسلم (¬5)، لكن ما شرع له جماعة مستثنى، قال الشيخ منصور في "شرح المنتهى": وكذا ينبغي أن يستثنى نفل المعتكف. انتهى (¬6). وسن فصل بين فرض وسنة -قبلية كانت أو بعدية- بكلام أو قيام، لقول معاوية: "إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرنا بذلك، أن لا نوصل صلاة حتى نخرج أو ¬
نتكلم" رواه مسلم (¬1). وتجزئ سنة صلاة عن تحية مسجد لا عكسه، فلا تجزئ تحية عن سنة، لأنه لم ينوها بخلاف التحية، لأن القصد منها أن يبدأ الداخل بالصلاة وقد وجد، وإن نوى بركعتين التحية والسنة حصلا، أو نوى بصلاة التحية والفرض حصلا، كما لو اغتسل ينوي الجنابة والجمعة، ولا تحصل تحية بركعة، ولا بصلاة جنازة، وسجود تلاوة وشكر. (وتسن صلاة الليل بتأكد) لحديث: "عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، وتكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم" رواه الحاكم وصححه، وقال: على شرط البخاري (¬2) (وهي أفضل من صلاة النهار) في النفل المطلق، لحديث مسلم عن أبي هريرة -مرفوعًا-: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" (¬3) ولأنها أبعد عن الرياء، وأشق على النفس، ولأن الليل محل الغفلة، وعمل السر أفضل من عمل العلانية، وفيه ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللَّه خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه. ونصفه الأخير أفضل من الأول، لحديث مسلم: "ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه. . . إلخ" (¬4) قال ابن حبان في صحيحه: يحتمل أن يكون النزول في بعض الليالي هكذا وفي بعضها هكذا (¬5). ¬
ونصفه الأخير أفضل من ثلثه الأوسط، والثلث بعد النصف أفضل مطلقًا، نصًّا (¬1)، لحديث: "أفضل الصلاة صلاة داود كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه" (¬2). وفي حديث ابن عباس في صفة تهجده -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنه نام حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، ثم استيقظ" فوصف تهجده، قال: "ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن" (¬3). ويسن افتتاح قيام الليل بركعتين خفيفتين، لحديث أبي هريرة -مرفوعًا-: "إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين" رواه أحمد ومسلم وأبو داود (¬4). ويسن نيته عند النوم، لحديث أبي الدرداء -مرفوعًا-: "من نام ونيته أن يقوم كتب له ما نوى، وكان نومه عليه صدقة" حديث حسن، رواه أبو داود والنسائي (¬5). وكان قيام الليل واجبًا على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم ينسخ (¬6). ¬
ووقت قيام الليل من الغروب إلى طلوع الفجر الثاني. ولا يقوم الليل كله، لحديث عائشة: "ما علمت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قام ليلة حتى الصباح" (¬1) وظاهره حتى ليالي العشر الأخيرة من رمضان، واستحبه الشيخ تقي الدين، وقال: قيام بعض الليالي كلها مما جاءت به السنة (¬2). ويستحب إحياء ليلتي العيدين، قال الشيخ منصور: وفي معناهما ليلة النصف من شعبان، للخبر (¬3). ¬
وصلاة ليل ونهار مثنى، فيسلم من كل ركعتين، لحديث ابن عمر -مرفوعًا-: "صلاة الليل والنهار مثنى" رواه الخمسة (¬1)، واحتج به الإمام أحمد (¬2)، ولا يعارضه حديث: "صلاة الليل مثنى" متفق عليه (¬3)، لأنه وقع جوابًا لسؤال سائل عنه. وإن تطوع نهارًا بأربع فلا بأس، حديث أبي أيوب -مرفوعًا-: "كان يصلي قبل الظهر أربعًا لا يفصل بينهن بتسليم" رواه أبو داود وابن ماجه (¬4). ¬
وكون الأربع بتشهدين كالظهر أولى من كونها سردًا، لأنه أكثر عملًا، يقرأ في كل ركعة من الأربع سورة مع الفاتحة، كسائر التطوعات. وإن زاد على أربع نهارًا أو ثنتين ليلًا، ولو جاوز ثمانيًا صح ذلك، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد صلى الوتر خمسًا وسبعًا وتسعأ بسلام واحد (¬1)، وهو تطوع فألحق به سائر التطوعات. وعن أم هانئ -مرفوعًا-: "صلى يوم الفتح الضحى ثماني ركعات، لم يفصل بينهن" (¬2) ولا ينافيه ما روي عنها -أيضًا-: "أنه سلم من كل ركعتين" (¬3) لإمكان التعدد. وكره الزيادة على الأربع نهارًا، والثمان ليلًا، للاختلاف فيه (¬4). قال ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الشيخ منصور: قلت إلا في الوتر والضحى لوروده (¬1). ويصح التطوع بركعة أو نحوها، قياسًا على الوتر، قال في "الإقناع" (¬2): مع الكراهة (¬3). ولا تصح صلاة مضطجع غير معذور، ولو في نفل، لأنه لم ينقل. وأجر صلاة قاعد نصف أجر صلاة قائم، لحديث: "من صلى قائمًا فهو أفضل، ومن صلى قاعدًا فله نصف أجر القائم" متفق عليه (¬4)، إلا المعذور فأجره قاعدًا كأجره قائمًا للعذر. وسن تربع مصل جالسًا بمحل قيام لحديث عائشة: "رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي متربعًا" رواه النسائي وغيره (¬5). ¬
ويسن له ثني رجليه في حال ركوعه وسجوده، رُويَ ذلك عن أنس (¬1)، وهو مخير في الركوع إن شاء من قيام وإن شاء من قعود، لأنه عليه الصلاة والسلام فعل الأمرين (¬2). وكثرة الركوع والسجود أفضل من طول القيام، في غير ما ورد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تطويله، كصلاة كسوف؛ لحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (¬3) وأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالاستكثار من السجود في غير حديث (¬4)، ¬
ولأنه في نفسه أفضل وآكد، لأنه مجب في الفرض والنفل، ولا يباح بحال إلا للَّه تعالى، بخلاف القيام. والتطوع سرًّا أفضل. ولا بأس بالجماعة في النفل، إلا أن يتخذ عادة وسنة، قاله المجد وغيره (¬1). وتسن صلاة الضحى، حديث أبي هريرة وأبي الدرداء وغيرهما (¬2)، غِبًا، بأن يصليها في بعض الأيام دون بعض، لحديث أبي سعيد الخدري: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها، ويدعها حتى نقول لا يصليها" رواه أحمد، والترمذي، وقال: حسن غريب (¬3). ولأنها دون الفرائض والسنن المؤكدة فلا تُشَبَّهُ بهما، وأقلها ركعتان، لأنه لم ينقل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه صلاها دونهما، وفي حديث أبي هريرة: "وركعتي الضحى" (¬4) وصلاها -صلى اللَّه عليه وسلم- أربعًا، كما في حديث عائشة. رواه أحمد ومسلم (¬5)، وستًّا، كما في حديث جابر بن عبد اللَّه. رواه البخاري في ¬
"تاريخه" (¬1). وأكثرها ثمان، لحديث أم هانئ: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عام الفتح صلى ثمان ركعات سبحة الضحى" (¬2). ووقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح؛ لحديث: "قال اللَّه -سبحانه وتعالى-: ابن آدم، اركع أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره" رواه الخمسة إلا ابن ماجه (¬3)، إلى قبيل الزوال، وأفضله إذا اشتد الحر، لحديث: "صلاة الأوَّابين حين ترمض الفصال" رواه مسلم (¬4). وتسن صلاة الاستخارة، ولو في خير: كحج، وعمرة، ونكاح، وتجارة، وغير ذلك؛ لحديث جابر: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري. -أو قال: في عاجل أمري وآجله- فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري. -أو قال: في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني، واصرفني عنه، وأقدر لي الخير حيث كان، ثم رضِّني به" ¬
ويسمي حاجته، رواه البخاري (¬1). ويقول مع العافية، ولا يكون وقت الاستخارة عازمًا على الأمر ولا على عدمه، فإنه خيانة في التوكل (¬2)، ثم يستشير من يثق به، فإذا ظهرت المصلحة في شيء فعله، فينجح مطلوبه -إن شاء اللَّه تعالى-. وتسن صلاة الحاجة إلى اللَّه تعالى أو إلى آدمي؛ لحديث عبد اللَّه بن أبي أوفى-مرفوعًا-: "من كان له حاجة إلى اللَّه عز وجل، أو إلى أحدٍ من بني آدم، فليتوضأ وليحسن الوضوء، ثم ليصلي ركعتين، ثم ليثن على اللَّه تعالى، وليصل على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم ليقل: لا إله إلا اللَّه الحليم الكريم، لا إله إلا اللَّه العلي العظيم، سبحان اللَّه رب العرش العظيم، الحمد للَّه رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبًا إلا غفرته، ولا همًا إلا فرَّجته، ولا حاجة هي لك رضى إلا قضيتها، يا أرحم الراحمين" رواه ابن ماجه والترمذي وقال: غريب (¬3). وتسن صلاة التوبة؛ لحديث: "ما من رجل يذنب ذنبًا، ثم يقوم فيتطهر، ثم يصلي ركعتين، ثم يستغفر اللَّه، إلا غفر له، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (¬4) إلى آخر الآية رواه أبو داود، والترمذي ¬
وحسنه، وفي إسناده مقال (¬1). وتسن الصلاة عقب الوضوء؛ لحديث أبي هريرة -مرفوعًا-: قال لبلال عند صلاة الفجر: "يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة" فقال: ما عملت عملًا أرجى عندي إلا أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب اللَّه لي أن أصلي" متفق عليه، ولفظه للبخاري (¬2). (و) يسن (سجود تلاوة) لقوله سبحانه وتعالى: {نَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)} (¬3) وحديث ابن عمر: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقرأ علينا السورة فيها السجدة، فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد أحدنا موضعًا لجبهته" ولمسلم "في غير صلاة" (¬4). وليس بواجب؛ لحديث زيد بن ثابت "قرأت على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَالنَّجْمِ} فلم يسجد فيها" رواه الجماعة (¬5)، وللدارقطني "فلم يسجد منا ¬
أحد" (¬1) وروى البخاري: أن عمر قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل حتى إذا جاء السجدة، نزل فسجد فسجد الناس. حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: "يا أيها الناس إنا نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه" ولم يسجد عمر. ورواه مالك في "الموطأ" وقال فيه: "إن اللَّه لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء ولم يسجد، ومنعهم أن يسجدوا" (¬2) وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكروا، فكان إجماعًا (¬3)، والأمر به محمول على الندب، وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} (¬4) المراد به التزام السجود واعتقاده، فإن فعله ليس شرطًا في الإيمان. إجماعًا (¬5)؛ ولذلك قرنه بالتسبيح. ويكرر السجود بتكرار التلاوة؛ لأنها سببه فتكرر بتكرُّرها، كركعتي الطواف، ويسن السجود لها مع قصر فصل بين التلاوة أو الاستماع وبين السجود، حتى في طواف، ويتيمم محدث للسجود بشرطه، وهو تعذر الماء لعدم أو ضرر باستعماله، بخلاف الوضوء فلا يسجد بعده لطول الفصل بينه بين التلاوة لقارئ ومستمع لآية السجدة، لما تقدم. ولا يسن السجود لسامع من غير قصد الاستماع، روي عن عثمان، وابن عباس، وعمران بن حصين. قال عثمان: "إنما السجدة على من استمع" وقال ابن مسعود وعمران: "ما جلسنا ¬
لها" (¬1) وما روفي عن ابن عمر: "إنما السجدة على من سمعها" (¬2) محمول على ما إذا قصد، ويعتبر لاستحباب السجود لمستمع كون القارئ يصلح إمامًا له، ولو في نفل، فلا يسجد مستمع إن لم يسجد قارئ، ولا أمامه، ولا عن يساره مع خلو يمينه، ولا خلفه إذا كان فذًّا، لعدم صحة الائتمام به إذًا. ولا يسجد رجل لتلاوة امرأة وخنثى، ويسجد لتلاوة أُمِّيٍّ، وزَمنٍ (¬3)، ومميز لصحة إمامته في النفل. والسجدات أربع عشرة سجدة: في آخر الأعراف (¬4)، وفي الرعد عند قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (¬5)، وفي النحل عند: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬6)، وفي الإسراء عند: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬7)، وفي مريم عند: ¬
{خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (¬1)، وفي الحج ثنتان، الأولى عند قوله: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (¬2) والثانية عند {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3)، وفي الفرقان عند: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (¬4)، وفي النمل عند: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (¬5)، وفي الم السجدة {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (¬6)، وفي فصلت: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (¬7)، وفي آخر النجم (¬8)، وفي الانشقاق {لَا يَسْجُدُونَ} (¬9)، وآخر اقرأ (¬10). (ويكبر) في سجود التلاوة تكبيرتين، سواء كان في الصلاة أو خارجها، تكبيرة (إذا سجد و) تكبيرة (إذا رفع) كسجود صلب الصلاة والسهو (ويجلس) خارج الصلاة بعد رفعه ليسلم جالسًا (ويسلم) وجوبًا، فيبطل بتركه عمدًا وسهوًا، لعموم حديث: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم" (¬11) ولا يتشهد؛ لأنه لم ينقل فيه، ويرفع يديه إذا أراد السجود ندبًا، ولو في صلاة، نصًّا (¬12). وكره جمع آيات السجود في وقت؛ ليسجد لها. (وكره لإمام قراءتها) (1) أي: آية السجدة (في) صلاة (سرية) كظهر ¬
تتمة
وعصر؛ لأنه إن سجد لها خلط على المأمومين، وإلا ترك السنة. (و) كره (سجوده) أي: الإمام (لها) أي: التلاوة، في صلاة سر؛ لما فيه من التخليط على من معه، وردّه في "المغني" لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). (وعلى مأموم) أي: يلزمه (متابعته) أي: الإمام، في سجود تلاوة (في غيرها) أي: السرية (¬2)، لحديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" (¬3) وأما صلاة السر فإن المأموم (¬4) ليس فيها بتال ولا مستمع، بخلاف الجهرية. وسجود تلاوة عن قيام أفضل، تشبيهًا له بصلاة النفل، و [قد] (¬5) روى إسحاق عن عائشة -رضي اللَّه عنها- "أنها كانت تقرأ في المصحف فإذا انتهت إلى السجدة قامت فسجدت" (¬6). والتسليمة الأولى ركن، وتجزئ نصًّا (¬7). تتمة: يجوز للمستمع إذا سجد أن يرفع قبل القارئ في غير الصلاة، لأنه ليس إمامًا له حقيقة، بل بمنزلته. (و) يسن (سجود شكر) اللَّه تعالى (عند تجدد نعم و) عند (اندفاع نقم) ¬
مطلقًا، لحديث أبي بكرة: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا أتاه أمر يسر به، خر ساجدًا" رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما (¬1)، وعلم من قوله: تجدد نعم، أنه لا يسجد لدوامها، لأنه لا ينقطع (وتبطل به) أي سجود الشكر (صلاة غير جاهل وناس) وأما الجاهل والناسي فلا تبطل صلاتهما به، كما لو زاد فيها سجودًا كذلك (وهو كسجود تلاوة) في صفته وأحكامه، فيكبر إذا سجد وإذا رفع، ويقول فيه: سبحان ربي الأعلى، ويجلس إذا رفع، ويسلم. ويستحب سجود شكر -أيضًا- عند رؤية مبتلى في دينه أو بدنه، لكن إن كان في بدنه فلا يسجد بحضوره (¬2). فائدة: تباح قراءة القرآن في الطريق، لما روي عن إبراهيم التيمي قال: "كنت أقرأ على أبي موسى وهو يمشي في الطريق" (¬3) وتباح -أيضًا- قائمًا ¬
وقاعدًا ومضطجعًا وراكبًا وماشيًا، ومع حدث أصغر، ونجاسة بدن وثوب حتى فم، لأنه لا دليل على المنع. وحفظ القرآن فرض كفاية إجماعًا (¬1)، ويبدأ الرجل ابنه بالقرآن ليتعود القراءة، ويعلمه إياه كله، إلا أن يعسر عليه حفظه كله فما تيسر منه. ويتعين حفظ ما يجب في صلاة، وهو الفاتحة فقط على المذهب، ثم يتعلم من العلم ما يحتاج إليه في أمور دينه وجوبًا. وتسن القراءة في المصحف لاشتغال حاسة البصر بالعبادة، وكان الإمام أحمد لا يكاد يترك القراءة فيه كل يوم سبعًا (¬2). ويسن الختم كل أسبوع مرة، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لابن عمرو: "اقرأ القرآن في كل سبع، ولا تزد على ذلك" (¬3) ولا بأس به كل ثلاث، لحديث ابن عمرو قال: قلت: يا رسول اللَّه إن لي قوة. قال: "اقرأه في ثلاث" رواه أبو داود (¬4)، ولا بأس به فيما دون ذلك أحيانًا (¬5)، وفي الأزمنة والأمكنة الفاضلة، كفي رمضان، خصوصًا أوتار عشره الأخيرة، وفي مكة لمن دخلها من غير أهلها، فيستحب إكثار القراءة إذن، اغتنامًا للزمان والمكان. ¬
وقال بعضهم (¬1): يقدر بالنشاط وعدم المشقة، لأن عثمان كان يختمه في ليلة، وكذلك تميم الداري، وسعيد بن جبير، ومجاهد (¬2)، والشافعي (¬3)، وغيرهم، وختم سليم (¬4) قاضي مصر في خلافة معاوية -رضي اللَّه عنه- ثلاث ختمات (¬5)، وقال الصالح الإمام [أبو عبد الرحمن السلمي] (¬6) -رحمه اللَّه- (¬7): سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي (¬8) يقول: كان ¬
ابن الكاتب (¬1) -رحمه اللَّه تعالى- يختم بالنهار أربع ختمات وبالليل أربع ختمات. هذا أكثر ما بلغنا في اليوم والليلة، انتهى من كتاب "التبيان في آداب حملة القرآن" (¬2) للإمام محى الدين النواوي -رحمه اللَّه تعالى-. وكره تأخير ختم فوق أربعين يومًا، لأن تأخيره أكثر يفضي إلى نسيانه والتهاون به، قال أحمد: ما أشد ما جاء في من حفظه ثم نسيه (¬3). وقال في "التبيان" (¬4) -أيضًا-: ومن آداب حامل القرآن أن يكون على أكمل الأحوال وأكرم الشمائل، وأن يرفع نفسه عن كل ما نهى القرآن عنه إجلالًا للقرآن، وأن يكون متصونًا (¬5) عن دنيء الاكتساب، شريف النفس، مترفعًا على الجفاة والجبابرة من أهل الدنيا، متواضعًا للصالحين وأهل الخير والمساكين، وأن يكون متخشعًا ذا سكينة ووقار، فقد جاء عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أنه قال: "يا معشر القراء ارفعوا رؤوسكم، فقد وضح لكم الطريق، واستبقوا (¬6) الخيرات، لا تكونوا عيالًا على الناس" (¬7). وعن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: "ينبغي لحامل القرآن أن ¬
يُعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفرطون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون" (¬1). وعن الفضيل بن عياض -رحمه اللَّه تعالى-: ينبغي لحامل القرآن أن لا تكون له حاجة إلى أحد من الخلفاء فمن دونهم. وعنه -أيضًا-: حامل القرآن حامل راية الإسلام، لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو، تعظيمًا لحق القرآن (¬2). انتهى. فائدة: ينبغي للقارئ إذا أراد القراءة أن يكون على طهارة، ويراعي الأدب مع القرآن، فينبغي أن يستحضر في قلبه أن يناجي اللَّه تعالى، ويقرأ على حال من يرى اللَّه تعالى، فإنه إن لم يكن يراه فإن اللَّه تعالى يراه. ويستحب له أن يستقبل القبلة، فقد جاء في الحديث: "خير المجالس ما استقبل به القبلة" (¬3) ويجلس متخشعًا بسكينة ووقار، مطرقًا رأسه، كجلوسه بين يدي معلمه. فإذا أراد الشروع في القراءة استعاذ، فقال: أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم، فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة والترتيل، وإذا مر بآية رحمة سأل اللَّه تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب استعاذ باللَّه من غضبه وعذابه، وإذا مر بآية تنزيه نزهه سبحانه ¬
وتعالى، ونحو ذلك. فإن قطع القراءة قطع ترك وإهمال أعاد التعوذ إذا رجع إليها، وإن قطعها لعذر عازمًا على إتمامها إذا زال، كرد سلام وإجابة سائل ونحو ذلك؛ كفاه التعوذ الأول. ويختم في الشتاء أول الليل لطوله، وفي الصيف أول النهار لذلك، روي عن ابن المبارك (¬1)، وكان يعجب أحمد (¬2)؛ لا روى طلحة بن مصرف قال: أدركت أهل الخير من صدر هذه الأمة يستحبون الختم أول الليل وأول النهار يقولون: إذا ختم في أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يصحي، وإذا ختم في أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح، ورواه الدارمي (¬3) عن سعد بن أبي وقاص بإسناد حسن (¬4). ويجمع أهله وولده عند الختم، رجاء عود نفع ذلك وثوابه إليهم، وعن ابن عباس: أنه كان يجعل رجلًا يراقب رجلًا يقرأ القرآن، فإذا أراد أن يختم أعلم ابن عباس، فيشهد ذلك (¬5). وروى ابن أبي داود (¬6) بإسنادين صحيحين عن قتادة عن أنس: "كان ¬
أنس إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا" (¬1). ويستحب إذا فرغ من الختم أن يشرع في أخرى، لحديث أنس: "خير الأعمال: الحلُّ والرِّحله" قيل: وما هما؟ قال: "افتتاح القرآن وختمه" (¬2). ويدعو بعد الختم نصًّا (¬3)؛ لما روى الدارمي بإسناده عن حميد الأعرج قال: "من قرأ القرآن ثم دعا أمَّن على دعائه أربعة آلاف ملك" (¬4). وينبغي أن يلح في الدعاء، وأن يدعو بالأمور المهمة، وأن يكثر من ذلك. ¬
ويستحب أن يكبر من غير تهليل ولا تحميد لختمه كل سورة من آخر الضحى إلى آخره، لأنه روي عن أبي بن كعب: "أنه قرأ على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأمره بذلك" رواه القاضي في "الجامع" بإسناده (¬1). ولا يكرر سورة الصمد، ولا يقرأ الفاتحة وخمس آيات من أول سورة البقرة عقب الختم، لأنه لم يبلغ فيه أثر صحيح. وقال الشيخ تقي الدين: قراءة القرآن أول النهار بعد الفجر أفضل من قراءته آخره (¬2). وتكره القراءة في المواضع القذرة، وفي حال خروج الريح، فإذا خرجت أمسك عن القراءة حتى تنقضي. ¬
ويستحب الاستماع للقرآن والإنصات له، لأنه يشارك القارئ في أجره. ويكره الحديث عنده بما لا فائدة فيه، لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)} (¬1). وكره أحمد السرعة في القراءة (¬2)، وتأوله القاضي: إذا لم يبين الحروف (¬3)، وتركها أكمل لما تقدم. وحكى الشيخ عن أكثر أهل العلم أن قراءة الإدارة حسنة، كالقراءة مجتمعين بصوت واحد (¬4). ولو اجتمع القوم لقراءة ودعاء وذكر فعنه: وأي لشيء أحسن منه؟ (¬5) وكره أحمد والأصحاب قراءة الألحان، وقال: هي بدعة (¬6)، فإن حصل معها تغيير نظم القرآن وجعل الحركات حروفًا، حرم. ولا يكره الترجيع (¬7) وتحسين القرآن، بل ذلك مستحب، لحديث أبي ¬
هريرة: "ما أذن اللَّه لشيء كإذنه لنبيٍ يتغنى بالقرآن يجهر به" رواه البخاري (¬1)، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "زينوا القرآن بأصواتكم" (¬2). ويكره رفع الصوت بقراءة تغلط المصلين. ¬
فصل في أوقات النهي
فصل في أوقات النهي (وأوقات النهي) عن الصلاة فيها (خمسة): أحدها: (من طلوع فجر ثان إلى طلوع الشمس)، لحديث: "إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر" (¬1) احتج به أحمد، ورواه هو وأبو داود، من رواية ابن (¬2) عمر (¬3)، ولا يعارضه حديث [أبي] (¬4) سعيد وغيره. ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس (¬5)، لأنه دليل خطاب، فالمنطوق (¬6) أولى منه. (و) الثاني: (من صلاة العصر) تامة ولو كانت مجموعة مع الظهر وقت الظهر (إلى) الأخذ في (الغروب)، فمن لم يصل العصر أبيح له التنفل وإن صلى غيره، وكذا لو أحرم بها، ثم قطعها أو قلبها نفلًا، ومن صلاها فليس له التنفل وإن صلى وحده، لحديث أبي سعيد وغيره: "لا صلاة بعد صلاة ¬
العصر حتى تغرب الشمس" (¬1) وتفعل سنة ظهر بعدها، ولو في جمع تأخير، لحديث أم سلمة المتفق عليه (¬2)، لكن ليس فيه أنه كان جمع، فلذلك صحح الشارح أن الراتبة تقضى بعد العصر (¬3). (و) الثالث: (عند طلوعها) أي الشمس (إلى ارتفاعها) لحديث أبي سعيد: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس" متفق عليه (¬4)، وأول هذا الوقت ظهور شيء من قرص الشمس، ويستمر إلى ارتفاعها (قدر رمح) في رأى العين. (و) الرابع: (عند قيامها حتى تزول). (و) الخامس: (عند غروبها حتى يتم)، لحديث عقبة بن عامر: "ثلاث ساعات كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع (¬5)، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف (¬6) للغروب -يعني تميل- حتى تغرب" رواه مسلم (¬7). (فيحرم ابتداءُ نفل فيها) -أي الأوقات الخمسة- حتى صلاة على قبر ¬
وعلى ميت غائب (مطلقًا) سواء كان عالمًا بالتحريم أو جاهلًا به، أو بكونه وقت النهي، لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد، وظاهره أنه لا يبطل تطوع ابتدأه قبله بدخوله، لكن يأثم بإتمامه حتى ماله سبب: كسجود تلاوة، وشكر، وصلاة كسوف، وقضاء سنة راتبة، وتحية مسجد، أو سنة وضوء، لعموم ما سبق (¬1)، و (لا) يحرم (قضاء فرض) أو فرائض، لعموم حديث: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" متفق عليه (¬2)، ولحديث: "إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغيب الشمس فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته" متفق عليه (¬3). (و) لا يحرم (فعل ركعتي طواف) باليت الحرام في الأوقات الخمسة لحديث جبير بن مطعم مرفوعًا: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى فيه أي ساعة شاء من ليل أو نهار" رواه الأثرم، والترمذي وصححه (¬4)، ولأنهما تبع له، وهو جائز كل وقت. (و) يجوز (إعادة جماعة أقيمت وهو بالمسجد)، لحديث أبي ذر ¬
مرفوعًا: "صلِّ الصلاة فإن أقيمت وأنت في المسجد فصل، ولا تقل: إني صليت فلا أصلي" رواه أحمد، ومسلم، وابن حبان، والحاكم (¬1)، ولتأكدها للخلاف في وجوبها (¬2)، فإن لم يكن في المسجد لم يستحب له الدخول ليعيدها فيه (و) لا تحرم (سنة فجر أداءً قبله) (¬3) -أي قبل صلاة فجرٍ- فلا تجوز بعدها حتى ترتفع الشمس قيد (¬4) رمح. (و) تحرم (صلاة جنازة بعد فجر وعصر)، لحديث عقبة بن عامر (¬5) وذكره للصلاة مقرونًا بالدفن يدل على إرادة صلاة الجنازة، ولأنها تشبه النوافل لكونها من غير الخمس، وأبيحت في الوقتين الطويلين لطول مدتهما، فالانتظار يخاف منه عليها، وإن خيف عليها في الأوقات القصيرة صلى عليها للعذر. ولا تحرم تحية مسجد حال خطبة جمعة مطلقًا، لحديث أبي سعيد مرفوعًا: "نهي عن الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة" رواه أبو داود (¬6). ¬
فصل في صلاة الجماعة وأحكامها وما يبيح تركها وما يتعلق بذلك
فصل في صلاة الجماعة وأحكامها وما يبيح تركها وما يتعلق بذلك (تجب الجماعة للـ) ـصلوات الى (خمس) الواجبات على الأعيان لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} (¬1) والأمر للوجوب، وإذا كان ذلك مع الخوف فمع الأمن أولى، ولحديث أبي هريرة مرفوعًا: "أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" (¬2) متفق عليه، ولقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لما استأذنه أعمى لا قائد له أن يصلي في بيته: "هل تسمع النداء؟ فقال: نعم. قال: فأجب" رواه مسلم (¬3). وعن ابن مسعود قال: "لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به، يهادى (¬4) بين الرجلين، حتى يقام في الصف" رواه الجماعة، إلا البخاري (¬5)، والترمذي، (على الرجال) لا ¬
النساء ولا الخناثى متعلق بـ: تَجِبْ. (الأحرار) دون العبيد والمبعضين (القادرين) دون ذوي الأعذار حتى في السفر وفي شدة الخوف، لعموم الآية السابقة. وليست الجماعة شرطًا لصحة الصلاة، نصًّا (¬1)، لحديث ابن عمر مرفوعًا: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" (¬2) رواه الجماعة، إلا النسائي، وأبا داود، ولا يصح حمله على المعذور، لأنه يكتب له من الأجر ما كان يفعله لولا العذر، للخبر (¬3)، فتصح الصلاة من منفرد لا عذر له، ويأثم. وفيها فضل لما تقدم (¬4)، ولا ينقص أجر المصلي منفردًا لعذر كما سبق (¬5). وتنعقد الجماعة باثنين فأكثر، لحديث أبي موسى مرفوعًا: "الاثنان فما فوقهما جماعة" رواه ابن ماجه (¬6)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لمالك بن الحويرث: ¬
"وليؤمَّكما أكبركما" (¬1) إلا في جمعة وعيد لاشتراط [العدد] (¬2) فيهما، ولو (¬3) كانت الجماعة بأنثى، والإمام رجل، [أو خنثى أو أنثى] (¬4) أو كانت بعبد والإمام حر أو عبد، لعموم ما سبق. ولا تنعقد بصبي في فرض والإمام بالغ، لأنه لا يصلح (¬5) الصبي إمامًا في الفرض، ويصح في النفل، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَّ ابن عباس وهو صبي في التهجد (¬6). وتسن الجماعة في المسجد للأخبار (¬7)، ولإظهار الشعار، وكثرة الجماعة. وقال بعضهم: وقريب منه إقامتها بالربط والمدارس ونحوهما، وله فعلها ببيت وصحراء، لحديث: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا" (¬8)، لكن فعلها بالمسجد أفضل، لما تقدم. ولو كان إذا صلى في المسجد صلى منفردًا، وببيته صلى جماعة، تعين فعلها ببيته، ولو دار الأمر بين فعلها في [المسجد في] (¬9) جماعة يسيرة، وفي ¬
بيته في جماعة كثيرة كان فعلها في المسجد أولى. وتسن الجماعة لنساء منفردات عن الرجال، سواء أمهن رجل أو امرأة، لفعل عائشة، وأم سلمة، ذكره الدارقطني (¬1)، وأمر -صلى اللَّه عليه وسلم- أم ورقة "بأن تجعل لها مؤذنًا يؤذن لها، وأمرها تؤم أهل دراها" رواه أبو داود والدارقطني (¬2). ويكره لمرأة حسناء حضورها مع رجال خشية الافتتان بها، ويباح لغيرها كعجوز ونحوها. والأفضل في حق المصلي من المساجد: المسجد الذي لا تقام فيه الجماعة إلا بحضوره، لأنه [يعمره] (¬3) بإقامة الجماعة فيه، قال الموفق، والشارح (¬4) وغيرهما من الأصحاب: وكذلك إن كانت تقام فيه مع غيبته، إلا أن في صلاته في غيره كسر قلب إمامه، أو جماعته، فجبر قلوبهم أولى، فالمسجد الأقدم، لأن الطاعة فيه أسبق (¬5)، فالأكثر جماعة، لأنه أعظم أجرًا. ¬
وأبعد مسجدين قديمين أو جديدين، سواء اختلفا في كثرة الجمع وقلته، أو استويا، أولى من أقرب، لحديث أبي موسى مرفوعًا: "أعظم الناس في الصلاة أجرًا أبعدهم فأبعدهم ممشى" رواه البخاري (¬1). (وحَرُمَ أن يُؤمَّ قبل) إمام (راتب) في مسجد؛ لأنه بمنزلة صاحب البيت وهو أحق بالإمامة ممن سواه، لحديث: "لا يُؤمَّنَّ الرجل في بيته إلا بإذنه" (¬2) ولا يحرم أن يؤَم بعد الراتب قال في "الإقناع" (¬3): ويتوجه إلا لمن يعادي الإمام (إلا بإذنه) أي الإمام الراتب، فيباح للمأذون له أن يؤم. (أو عذره) أي الإمام بنحو غيبة، أو مرض، (أو عدم كراهته) لصلاة غيره عند غيبته، أو ضيق الوقت، فيصلون حينئذ بلا كراهة، "لأن الصدِّيق -رضي اللَّه عنه- صلى بالناس، حين غاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم" متفق عليه (¬4). وفعل ذلك عبد الرحمن بن عوف -رضي اللَّه عنه- مرة فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أحسنتم" رواه مسلم (¬5). وإن لم يُعلم عذر الإمام الراتب وتأخر عن وقته المعتاد رُوسل مع قربه، وعدم المشقة في الذهاب إليه، وسعة الوقت، ليحضر، أو يأذن أو يعلم عذره، ولا يجوز أن يتقدم غيره قبل ذلك، وإن بعد محله أو قرب وفيه مشقة، أو لم يظن حضوره، صلوا جماعة، لأنهم معذورون، وقد أسقط حقه بالتأخر. ¬
وفضيلة أول الوقت أفضل من انتظار كثرة الجمع، ومن صلى الفرض منفردًا أو في جماعة، ثم أقيمت الصلاة سُن أن يعيد مع الجماعة، وكذا إن دخل مسجدًا في غير وقت نهي لغير قصد الإعادة، وقد أقيمت الصلاة، سن له أن يعيد -أيضًا- إلا المغرب، فلا تسن إعادتها، لأن المعادة تطوع ولا يستحب التطوع بوتر، إلا في الوتر خاصة، والأولى من الصلاتين فرضه دون المعادة. وتكره إعادة الجماعة في مسجدي مكة والمدينة، وعلله أحمد (¬1) بأنه أرغب في توفير الجماعة، لئلا يتوانى الناس في حضور الجماعة مع الإمام الأول، ولا تكره إعادة الجماعة فيهما لعذر. (ومن كبَّر) مأمومًا (قبل تسليمة الإمام أدرك الجماعة)، فيبني ولا يجدد إحرامًا، لأنه (¬2) أدرك جزءًا من الصلاة مع الإمام فأشبه ما لو أدرك ركعة فيحصل له فضل الجماعة، وإن كبَّر بين التسليمتين لم تنعقد صلاته. (ومن أدركه) أي الإمام (راكعًا) بأن اجتمع معه فيه، بحيث ينتهي إلى قدر الإجزاء من الركوع قبل أن يزول إمامه عن قدر الإجزاء منه، (أدرك الركعة)، ولو لم يدرك الطمأنينة معه، ويطمئن ثم يتابع إمامه، لكن ذلك (بشرط إدراكه راكعًا) كما تقدم، (وعدم شكه فيه) أي في إدراكه راكعًا (و) بشرط (تحريمته قائمًا) وقد تقدم ذلك. (وتسن) تكبيرة (ثانية للركوع)، وإلا لو اقتصر على تكبيرة الإحرام لأجزأته عن تكبيرة الركوع، روي ذلك عن زيد بن ثابت، وابن عمر (¬3)، ¬
ولم يُعلم لهما مخالف من الصحابة، ولأنه اجتمع واجبان من جنس في محل، وأحدهما ركن فسقط به، كطواف الحاج للزيارة عند خروجه من مكة يجزئه عن طواف الوداع، فإن نوى بتكبيرته الانتقال مع الإحرام أو وحده لم تنعقد، والأفضل أن يأتي بتكبيرتين، كما تقدم (¬1). (وما أدركـ) ـه مأموم (معه) أي مع إمامه فهو (آخرها) أي صلاته (وما يقضيه) مما فاته بعد سلام إمامه فهو (أولها)، لحديث أبي هريرة وفيه: " فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا". رواه أحمد، والنسائي (¬2). (ويتحمل) إمام (عن مأموم قراءة) الفاتحة، فتصح صلاة مأموم بدون قراءة، لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (¬3)، وحديث أبي هريرة -مرفوعًا-: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا" (¬4) رواه الخمسة إلا الترمذي، وصححه مسلم، وأحمد في رواية الأثرم، فلولا أن القراءة لا تجب على المأموم بالكلية لما أمر بتركها من أجل سنة الاستماع. (و) يتحمل إمام عن مأموم -أيضًا- (سجود سهو) وتقدم في بابه (¬5)، (و) يتحمل عنه سجود (تلاوة) إذا قرأ في صلاته آية سجدة ولم يسجد إمامه، (و) يتحمل عنه (سترة) الصلاة وتقدم، (و) يتحمل عنه (دعاء قنوت) حيث سمعه، فيؤمن فقط وتقدم، (و) يتحمل عنه (تشهدًا (¬6) أول)، ¬
وجلوسًا (¬1) له، (إذا سُبق المأموم بركعة) من رباعيته وتقدم (¬2). (لكن يسن أن يقرأ) مأموم (في سكتاته) أي إمامه وهي ثلاث: قبل الفاتحة في الركعة الأولى فقط، وبعدها في كل ركعة، وبعد فراغ القراءة، فيستفتح ويتعوذ في السكتة الأولى عقب إحرامه، ويقرأ الفاتحة في الثانية بعد فراغ الإمام منها، ويقرأ سورة في الثالثة بعد فراغه منها أيضًا. ويسن لمأموم أيضًا أن يستفتح ويتعوذ ويقرأ الفاتحة (و) سورة حيث شرعت في صلاة (سرية) كالظهر، لحديث جابر: "كنا نقرأ في الظهر والعصر، خلف الإمام في الركعتين الأوليين، بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخيرتين بفاتحة الكتاب" رواه ابن ماجه (¬3)، ويقرأ الفاتحة في الأخيرة من مغرب، وفي الأخيرتين من العشاء. (و) يسن لمأموم أيضًا أن يقرأ (إذا لم يُسْمِعُه) أي الإمام (لبُعْد) عنه (لا) لطرش (¬4)، فيقرأ الأطرش متى شاء، إن لم يشغل من إلى جنبه من المأمومين، لأنه لا يحصل له مقصود استماع القراءة أشبه البعيد. (وسن له) أي الإمام (التخفيف) للصلاة (مع الإتمام) لها، لحديث أبي هريرة يرفعه: "إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم السقيم، والضعيف، وذا الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء" رواه الجماعة (¬5) ¬
وتكره سرعة تمنع مأموم فعل ما يسن له فعله، كقراءة السورة، وما زاد على مرة في تسبيح ركوع، وسجود ونحوه. وقال الشيخ تقي الدين: تلزمه مراعاة الماموم إن تضرر بالصلاة أول الوقت أو آخره ونحوه، وقال: ليس له أن يزيد على القدر المشروع، وينبغي (¬1) أن يفعل غالبًا ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يفعله غالبًا (¬2)، ويزيد وينقص للمصلحة، كما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يزيد وينقص أحيانًا، انتهى (¬3)، فإن اختار المأمومين، (¬4) كلهم التطويل، لم يكره، لزوال علة الكراهة، وهي التنفير. (و) سن لإمام وغيره (تطويل) قراءة الركعة (الأولى على) قراءة الركعة (الثانية)، لحديث أبي قتادة -مرفوعًا-: "كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخيرتين بفاتحة الكتاب، وكان يطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الثانية، وهكذا في صلاة العصر، وهكذا في صلاة الصبح" متفق عليه (¬5)، إلا في صلاة خوف في الوجه الثاني، بأن كان العدو في غير جهة القبلة، وقسم الإمام المأمومين طائفتين، فالثانية أطول من الأولى لانتظار الطائفة التي تأتي لتأتم به، ويأتي توضيح ذلك -إن شاءالله تعالى- (¬6) وإلا إذا كان تطويل قراءة الثانية عن الأولى يسيرًا، كما إذا قرأ بسبح والغاشية لوروده (¬7)، ¬
(و) سن لإمام (انتظار داخل) معه أحس به في ركوع ونحوه، لأن الانتظار ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الخوف لإدراك الجماعة، ولحديث [ابن] (¬1) أبي أوفى "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقوم في الركعة الأولى، من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم" رواه أحمد، وأبو داود (¬2)، ولأنه تحصيل مصلحة بلا مضرة (ما لم يشق) انتظاره على مأموم، لأن حرمة من معه أعظم، فلا يشق عليه لنفع الداخل. ومن استأذنته امرأته أو أمته إلى المسجد كره منعها لحديث: "لا تمنعوا إماء اللَّه مساجد اللَّه" (¬3). وتخرج غير متطيبة، ولا لابسة ثوب زينة، وبيتها خير لها، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وبيوتهن خير لهن، وليخرجن تفلات" (¬4) رواه أحمد، وأبو داود (¬5). ولأب، ثم ولي محرم، منع موليته من خروج من بيتها، إن خشي بخروجها فتنة، أو ضررًا. ¬
فصل في الإمامة ومعرفة الأولى بها
فصل في الإمامة ومعرفة الأولى بها (الأقرأ العالمُ فِقْهَ صلاِته، أولى من الأفقه) فقط، لجمعه بين المزيتين في القراءة والفقه، ثم يليه الأجود قراءة الفقيه لحديث: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه تعالى" (¬1) ثم يليه الأقرأ جودة، وإن لم يكن فقيهًا، إن كان يعرف فقه صلاته حافظًا للفاتحة، للحديث المذكور، ولحديث ابن عباس: "ليؤذن لكم خياركم، وليؤمَّكم أقرؤكم" (¬2) رواه أبو داود. وإنما قُدِّمَ الأقرأ جودة على الأكثر قرآنًا، لأنه أعظم أجرًا لحديث: "من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه فله بكل حرف حسنة" (¬3) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وقال أبو بكر وعمر -رضي اللَّه عنهما-: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه (¬4). ثم مع الاستواء في الجودة يُقدَّم الأكثر قرآنًا الأفقه، لجمعه ¬
الفضيلتين، ثم يليه الأكثر قرآنًا الفقيه، ثم يليه قارئ أفقه، ثم يليه قارئ فقيه، ثم قارئ عالم فقه صلاته من شروطها، وأركانها، وواجباتها، ومبطلاتها ونحوها، ثم قارئ لا يعلم فقه صلاته، بل يأتي بها عادة فتصح إمامته، ثم إن استووا في عدم القراءة (¬1) قُدِّم أفقه وأعلم بأحكام الصلاة، ثم إن استووا في القراءة والفقه قُدِّم أكبر سنًّا، لحديث مالك بن الحويرث مرفوعًا: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم" متفق عليه (¬2). ولأنه أقرب إلى الخشوع، وإجابة الدعاء، ثم مع الاستواء في السن -أيضًا- أشرف، وهو القرشي، إلحاقًا للإمامة الصغرى بالكبرى، ولقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأئمة من قريش" (¬3) وقوله: "قدِّموا قريشًا ولا تَقَدَّمُوها" (¬4)، فتقدم بنو هاشم على غيرهم، لمزيتهم بالقرب من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ثم مع الاستواء في الشرف -أيضًا- الأقدم هجرة بنفسه، لحديث أبي مسعود البدري مرفوعًا: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سنًّا، ولا يؤمنَّ الرجل الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على ¬
تكرمته إلا بإذنه" (¬1) رواه مسلم. وسبق بإسلام، كسبق بهجرة. ثم مع الاستواء فيما تقدم، يقدم الأتقى والأورع، لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬2)، ولأن مقصود الصلاة الخضوع، ورجاء إجابة الدعاء، والأتقى والأورع أقرب إلى ذلك، قال القشيري (¬3) في "رسالته" (¬4): الورع: اجتناب الشبهات. ثم يقرع، إن استووا في كل ما تقدم، وتشاحوا، فمَنْ قرع صاحبه فهو أحق، قياسًا على الأذان. وصاحب البيت الصالح للإمامة ولو عبدًا، أحق بالإمامة ممن حفره في بيته، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يُؤَمَّنَّ الرجل في بيته" (¬5). وإمام المسجد الراتب الصالح للإمامة ولو عبدًا، أحق بالإمامة فيه. ولا تكره إمامة عبد في غير جمعة وعيد، وحر أولى بالإمامة من عبد، ومبعَّض أولى من عبد، وحاضر، وبصير، وحضري، ومتوضئ، أولى من ضدهم. وتكره إمامة غير الأولى بلا إذنه غير إمام مسجد راتب، وصاحب بيت فتحرم. (ولا تصح) الصلاة (خلف فاسق)، سواء كان فسقه بالاعتقاد، أو الأفعال المحرمة، لقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا ¬
يَسْتَوُونَ (18)} (¬1)، وحديث ابن ماجه عن جابر -مرفوعًا-: "لا تَؤمَّنَّ امرأة رجلًا، ولا أعرابي مهاجرًا، ولا فاجر مؤمنًا، إلا أن يقهره بسلطان يخاف سطوته وسيفه" (¬2)، وسواء أعلن فسقه، أو أخفاه. وتصح خلف نائبه العدل، ولا يؤم فاسق فاسقًا، ويعيد من صلى خلف فاسق مطلقًا، (إلا في جمعة وعيد، تعذرًا خلف غيره) أي: الفاسق، بأن تتعذر (¬3) أخرى خلف عدل للضرورة، وإن خاف -إن لم يصل خلف فاسق- أذى صلى خلفه، وأعاد نصًّا (¬4)، فإن وافقه في الأفعال منفردًا ولم ينو الاقتداء به، أو وافقه بإمام عدل خلفه، لم يعد؛ لأنه لم يقتد بفاسق. وتصح صلاة فرض ونفل خلف أعمى أصم، وأقلف (¬5) غير مفتوق، أو مفتوق إذا غسل ما تحتها، وخلف أقطع يدين أو رجلين، أو أحدهما (¬6)، إذا أمكنه القيام وإلا فبمثله، وكذا مقطوع أنف فتصح إمامته كغيره، وتصح خلف كثير لحن لمن لم يحل المعنى، كجرِّ دال الحمد، وضم هاء للَّه، ونحوها. (ولا) تصح (إمامة من حدثه دائم) كرعاف، وسلس، وجرح لا يرقأ (¬7) دمه، إلا بمثله؛ لأن في صلاته خللًا غير مجبور ببدل، وإنما تصح ¬
لنفسه ولمن مثله، للضرورة. (و) لا تصح إمامة (أمِّي) -نسبة إلى الأم، كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها، وقيل: إلى أمة العرب- وأصله لغة: من لا يكتب (¬1)، (وهو) عرفًا (من لا يحسن الفاتحة) أي لا يحفظها، (أو يدغم فيها حرفًا لا يدغم)، كإدغام هاء للَّه في راء ربّ، وهو الأرتّ (¬2)، أو يبدّل منها (حرفًا) لا يُبدل وهو الألثغ (¬3)، لحديث: "ليؤمكم أقرؤكم" (¬4) رواه البخاري. إلا ضاد "المغضوب"، وضاد "الضالين" بظاء، فلا يصير به أميًّا سواء علم الفرق بينهما لفظًا ومعنى أم لا، (أو يلحن فيها لحنًا يحيل المعنى) عجزًا عن إصلاحه، ككسر كاف "إياك" وضم تاء "أنعمت" وكسرها، لأنه عاجز عن فرض القراءة، فلا تصح إمامته (إلا بمثله)، فلا يصح اقتداء عاجز عن نصف الفاتحة الأول، بعاجز عن نصفها الأخير، ولا عكسه، ولا يصح اقتداء قادر على الأقوال الواجبة بعاجز عنها. فإن تعمد غير الأميِّ إدغام ما لا يدغم، أو إبدال ما لا يبدل، أو اللحن المحيل للمعنى، أو قدر أمي على إصلاحه فتركه، أو زاد على فرض القراءة، وهو عاجز عن إصلاحه عمدًا، لم تصح صلاته، لأنه أخرجه بذلك عن كونه قرآنًا فهو كسائر الكلام. وإن أحال المعنى في قراءة ما زاد على الفاتحة، سهوًا أو جهلًا صحت صلاته. ومن اللحن المحيل للمعنى فتح همزة اهدنا، لأنه من أهدى الهدية، لا طلب الهداية. ¬
(وكذا) لا تصح إمامة (من به سلس بول) إلا بمثله (و) كذا (عاجز عن ركوع) أ (وسجود أو قعود ونحوها)، كاعتدال (أو اجتناب نجاسة، أو استقبال) إلا بمثله، (ولا عاجز عن قيام بقادر) في فرض، لأنه عاجز عن ركن الصلاة، كالعاجز عن القراءة، (إلا) إمامًا (راتبًا) بمسجد عجز عن القيام لعلة إذا (رُجِيَ زوال علته) فيجلسون خلفه ولو مع قدرتهم على القيام، لحديث عائشة: "صلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في بيته وهو شاكٍ فصلى جالسًا، وصلى وراءه قوم قيامًا فأشار إليهم: أن اجلسوا. فلما انصرف قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به" إلى أن قال: "وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين" (¬1) متفق عليه. وتصح صلاتهم خلفه قيامًا، لأن القيام هو الأصل، ولم يأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من صلى خلفه قائمًا بالإعادة. (ولا) تصح إمامة (مميز لبالغ في فرض)، وتصح في النفل، كما تقدم. (ولا) تصح (إمامة امرأة لرجال) لما روى ابن ماجه عن جابر -مرفوعًا-: "لا تؤمن امرأة رجلًا" (¬2) ولا تؤم خنثى -أيضًا- لاحتمال أن يكون ذكرًا، (و) لا تصح إمامة (خناثى) لرجال؛ لاحتمال أن يكونوا إناثًا. (ولا) تصح الصلاة (خلف محدث) حدثًا أصغر أو أكبر يعلم ذلك (أو نجس) أي من ببدنه أو ثوبه أو بقعته نجاسة غير معفو عنها، يعلم ذلك (فإن جُهلا) -أي الإمام والمأموم- (حتى انقضت) الصلاة (صحت لمأموم) فقط دون إمام. (وتكره إمامة لحَّان) لحنًا لم يحل المعنى كما تقدم. (و) تكره إمامة الـ (فأفاء) بالمد وهو الذي يكرر الفاء، (ونحوه) ¬
كالتمتام الذي يكرر التاء (¬1)، وكمن لا يفصح ببعض الحروف، أو يصرع أحيانًا. وإن ترك الإمام ركنًا، أو شرطًا مختلفًا فيه مقلدًا، صحت صلاته، ومن صلى خلفه معتقدًا بطلان صلاته أعاد، ولا إنكار في مسائل الاجتهاد. ومن اقتدى بمن لا يعرف حاله، لم يجب البحث عن كونه قارئًا، عملًا بالغالب، فإن قال بعد سلامه: سهوت عن الفاتحة، لزمه ومن معه الإعادة. وكره أن يؤم رجل امرأة أجنبية فأكثر، لا رجل فيهن ولا ذات محرم، لنهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن خلوة الرجل بالمرأة (¬2)، أو أن يؤم قومًا وهم له كارهون بحق، لخلل في دينه أو فضله، لحديث أبي أمامة: "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون" (¬3) رواه الترمذي. فإن كرهوه بغير حق لم يكره أن يؤمهم. ولا تكره إمامة ولد زنا، أو لقيط (¬4)، أو منفي بلعان، وخصي، وجندي، وأعرابي، إذا سلم دينهم وصلحوا لها، لعموم حديث: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه" (¬5)، وقالت عائشة في ولد الزنا: "ليس عليه من وزر أبويه شيء" قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ ¬
أُخْرَى (¬1)} (¬2) ولا بأس أن يأتم متوضئ بمتيمم لأنه متطهر، والمتوضئ أولى، ويصح ائتمام مؤدي صلاة بقاضيها وعكسه، إذا اتفقتا في الاسم، لا مفترض بمتنفل، ويصح العكس، لحديث: "ألا رجل يتصدَّق على هذا فيصلي معه" (¬3). (وسن وقوف المأمومين) اثنان فأكثر (خلف الإمام) لأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قام إلى الصلاة تقدم، وقام أصحابه خلفه (¬4)، إلا إمام العراة، فيقف بينهم وسطًا وجوبًا، إن لم يكونوا عميًا أو في ظلمة، وإلا امرأة أمت نساءً، فتقف وسطًا بينهن ندبًا، روي عن عائشة (¬5)، ورواه سعيد عن أم سلمة (¬6)، ولأنه أستر لها. (والواحد) يقف (عن يمينه) أي: الإمام (وجوبًا) "لإدارته -صلى اللَّه عليه وسلم- ابن عباس، وجابرًا إلى يمينه لما وقفا عن يساره" رواه مسلم (¬7). قال في "المبدع" (¬8): ويندب تخلفه قليلًا، خوفًا من التقدم، ومراعاة للمرتبة، فإن ¬
بان عدم مصافته له، لم تصح صلاته. (والمرأة) تقف (خلفه) أي الإمام ندبًا، لحديث أنس: "أن جدَّته مُلَيْكةَ دعتْ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لطعام صنعته، فأكل ثم قال: قوموا لأصلِّي لكم. فقمت إلى حصير قد اسودَّ من طُول ما لبث، فنضحته بماء، فقام عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقمت أنا واليتيم وراءه، وقامت العجوز من ورائنا، فصلى لنا ركعتين، ثم انصرف" (¬1) رواه الجماعة إلا ابن ماجه. وإن أمَّ خنثى امرأة وقفت خلفه، لاحتمال أن يكون ذكرًا، فإن أمت أنثى أنثى، فعن يمينها، وإن وقفت المرأة عن يمين الإمام، صحت صلاتها، وصلاة من خلفها من الصفوف إن كان. (ومن صلى) مأمومًا (عن يسار الإمام مع خُلُوِّ يمينه، أو) صلى (فذًّا ركعة) فأكثر (لم تصح صلاته)، لأنه خالف موقفه، "لإدارته -صلى اللَّه عليه وسلم- ابن عباس وجابرًا، لما وقفا عن يساره" (¬2)، فإن كان عن يمينه أحد صحت عن يساره -أيضًا-. وأما الفذ (¬3) فلا تصح صلاته، سواء كان عالمًا أو جاهلًا أو ناسيًا أو عامدًا، لحديث وابصة بن معبد: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى رجلًا يصلي خلف الصف فأمره أن يعيد الصلاة" (¬4) رواه الإمام أحمد، والترمذي وحسنه، ¬
[ورواه] (¬1) ابن ماجه، ورجاله ثقات. وعن علي بن شيبان -مرفوعًا-: "لا صلاة لفرد خلف الصف" (¬2) رواه أحمد وابن ماجه، وإن ركع فذًّا لعذر كخوف فوت الركعة، ثم دخل الصف قبل سجود الإمام صحت صلاته، أو ركع فذًّا لعذر، ثم وقف معه آخر قبل سجود الإمام صحت أيضًا، لأن أبا بكرة -واسمه نفيع- ركع دون الصف، ثم مشى حتى دخل الصف، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "زادك اللَّه حرصًا ولا تعد" (¬3). رواه البخاري، وفعله زيد بن ثابت، وابن مسعود (¬4)، فإن لم يكن له عذر لم تصح، لأن الرخصة وردت في المعذور فلا يلحق به غيره. (وإذا جمعهما) أي: الإمام والمأموم (مسجدٌ، صحت القدوة مطلقًا)، سواء رأى الإمام، أو رأى من وراءه، أو لم يره (بشرط العلم بانتقالات الإمام) ليتمكن من متابعته، وإن لم يجمعهما مسجد، كما إذا كان الإمام في المسجد والمأموم خارجه، أو بالعكس (شرط رؤية الإمام أو) رؤية (مَنْ وراءه أيضًا)، فلا يكفي سماع التكبير إذًا، (ولو) كانت الرؤية للإمام، أو مَنْ وراءه (في بعضها) أي: الصلاة. وإن كان بين الإمام والمأموم نهر تجري فيه السفن، لم تصح، أو كان بينهما طريق ولم تتصل فيه الصفوف حيث صحت [فيه] (¬5) كجمعة، وعيد، ¬
وجنازة، ونحوها، للضرورة، لم تصح، للآثار (¬1)، فإن اتصلت الصفوف حيث صحت فيه، صحت، أو كان المأموم في غير شدة خوف في سفينة، وإمامه بأخرى غير مقرونة بها، لم يصح الاقتداء. (وكره علو إمام على مأموم) لحديث أبي داود، عن حذيفة -مرفوعًا-: "إذا أمَّ الرجل القوم، فلا يقومنَّ في مكان عال أرفع من مكانهم" (¬2) ومحل الكراهة إذا كان ارتفاعه (ذراعًا فأكثر) لا دونه، كدرجة منبر، فلا يكره، لحديث سهل بن سعد: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جلس على المنبر في أول يوم وضع، فكبر وهو عليه، ثم ركع، ثم نزل القهقرى، فسجد وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ، فلما انصرف قال: يا أيها الناس إنما فعلت ذلك؛ لتأتموا بي ولتتعلموا صلاتي" متفق عليه (¬3). (ولا بأس) بالعلو (لمأموم، ولو كان كثيرًا) كما لو صلى على سطح والإمام تحته، لما روى الشافعي عن أبي هريرة أنه صلى على ظهر المسجد بصلاة الإمام (¬4)، (ولا) يضر (قطع الصف) خلف الإمام وعن يمينه (إلا) إذا كان (عن يساره، بقدر مقام ثلاثة) رجال فتبطل صلاته. قلت: ظاهر عبارات الأصحاب أن ذلك إذا كان عن يسار الإمام في الصف الذي يقف فيه الإمام، بخلاف قطع الصف الذي خلفه من يساره فلا يضر، ولم أقف على من صرح بذلك. (و) كره (صلاته) أي: الإمام (في محراب يمنع مشاهدته) روي ذلك ¬
عن ابن مسعود، وغيره (¬1)، فيقف عن يمين المحراب، نصًّا (¬2)، إن لم يكن حاجة، وإن لم يمنع مشاهدته لم يكره. (و) كره (تطوعه) أي: الإمام (موضع المكتوبة) نصًّا (¬3)، لحديث المغيرة بن شعبة -مرفوعًا-: "لا يصلِّ الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة، حتى يتنحى عنه" (¬4) رواه أبو داود، ولأن في تحوله إعلامًا بأنه صلى، فلا ينتظر. (و) كره لإمام (إطالته الاستقبال بعد السلام) إن لم يكن ثَم نساء، لحديث عائشة: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ياذا الجلال والإكرام" (¬5) رواه مسلم، ويستحب للمأموم أن لا ينصرف قبله؛ للخبر (¬6). (و) كره (وقوف مأموم بين سوار تقطع الصفوف عرفًا) لقول عمر: "كنا نتقي هذا على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬7) رواه الإمام أحمد، وغيره، قال ¬
أحمد: لأنه يقطع (¬1). فإن كان الصف صغيرًا قدر ما بين الساريتين، لم يكره (إلا لحاجة في الكل) من قوله: (وكره علو إمام) إلى هنا. (وينحرف إمام إلى مأموم) بعد صلاته استحبابًا؛ لحديث سمرة: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا صلى صلاة، أقبل علينا بوجهه" (¬2) رواه البخاري، (جهة قصده) إن قصد جهة (وإلا عن يمينه) فتلي يساره القبلة. (و) كره (حضور مسجد و) حضور (جماعة لمن رائحته كريهة، من بصل أو غيره)، كثوم، وكراث، (وفجل حتى يذهب ريحه) للخبر (¬3)، ولو لم يكن بالمسجد أحد لتأذي الملائكة، ويستحب إخراجه. وفي معناه من به نحو صُنان (¬4) أو جُذام (¬5). ومن الأدب وضع إمام نعله عن يساره، ومأموم بين يديه، لئلا يؤذي. ¬
فصل في صلاة أهل الأعذار
فصل في صلاة أهل الأعذار (ويعذر بترك جمعة وجماعة مريض) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما مرض تخلف عن المسجد، وقال: "مروا أبا بكر، فليصل بالناس" (¬1) متفق عليه، وكذا خائف حدوث مرض، لأنه في معنى المريض، وتلزم الجمعة دون الجماعة من لم يتضرر بإتيانها راكبًا أو محمولًا (و) يعذر بترك جمعة وجماعة (مدافع أحد الأخبثين): البول والغائط، لأنه يمنعه من كمال الصلاة، وخشوعها (ومن بحضرة طعام يحتاج إليه) أي: الطعام، وله الشبع، نصًّا (¬2)؛ لخبر أنس في الصحيحين: "ولا تعجلنّ حتى تفرغ منه" (¬3) (وخائف ضياع ماله) كغلة ببيادرها أو فواته، كشرود دابته، وإباق عبده، وسفر نحو غريمه، أو ضرر فيه، كاحتراق خبز ونحوه، أو يخاف ضررًا في مال استؤجر لحفظه، أو (موت قريبه أو رفيقه) في غيبته عنه (أو) خائف (ضررًا من سلطان) يأخذه، (أو) ضررًا من (مطر ونحوه)، كوحل (¬4) -بفتح الحاء- وثلج، وجليد، وريح، شديدة باردة بليلة مظلمة، لحديث ابن عمر: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ينادي مناديه في الليلة الباردة أو المطيرة صلوا في رحالكم" (¬5) رواه ابن ماجه، أو ¬
يخاف أذى بتطويل إمام. ولا يعذر بترك جمعة ولا جماعة من عليه حد للَّه تعالى. أو كان بطريقه إلى المسجد منكر. أو كان بالمسجد منكر، كدعاء لبغاة، فلا يعذر بذلك في ترك الجمعة والجماعة، نصًّا (¬1)، وينكر المنكر بحسب قدرته. (أو) خائف من (ملازمة غريم) له (ولا وفاء له) لأن حبس المعسر ظلم (أو) خائف (فوت رفقته) بسفر مباح (ونحوهم) أي: المريض وما عطف عليه، فيعذرون بترك الجمعة والجماعة لذلك. ¬
فصل في صلاة المريض
فصل في صلاة المريض (يصلي المريض) المكتوبة (قائمًا) إن قدر عليه، ولو كراكع، أو معتمدًا إلى شيء، أو مستندًا إليه (فإن لم يستطع) القيام، أو شق عليه، لضرر يلحقه به، أو زيادة مرض، أو بطء برء (فقاعدًا) على قياس ما سبق، ولو معتمدًا، أو مستندًا (فإن لم يستطع) القعود (فعلى جنب) يصلي، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمران بن حصين: "صل قائمًا، فإن لم تستطع، فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب" (¬1) رواه الجماعة إلا مسلمًا، زاد النسائي: "فإن لم تستطع فمستلقيًا" (¬2) (و) الجنب (الأيمن أفضل) لحديث علي (¬3). (وكره) صلاة المريض (مستلقيًا) على ظهره، ورجلاه إلى القبلة (مع قدرته) على الصلاة (على جنب) فإن لم يقدر على الصلاة على جنب (وإلا تعين) أن يصلي على ظهره، ورجلاه إلى القبلة، لحديث علي مرفوعًا: "يصلي المريض قائمًا إن استطاع، فإن لم يستطع، فقاعدًا، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ إيماءً، وجعل سجوده أخفض من ركوعه، وإن لم يستطع أن يصلي قاعدًا، صلى على جنبه الأيمن مُستقبلَ القبلة، فإن لم يستطع، صلى مستلقيًا، ورجلاه مما يلي القبلة" (¬4). رواه الدارقطني. ¬
(ويؤمئ بركوع وسجود) عاجز عنهما (ويجعله) أي: السجود (أخفض) للخبر (¬1)، وللتمييز، وإن سجد على شيء رُفع له وانفصل عن الأرض، كُره، وأجزأه، نصًّا (¬2)، لأنه أتى بما أمكنه منه، أشبه ما لو أومأ، ولا بأس بسجود على وسادة ونحوها بلا رفع، واحتج بفعل أم سلمة (¬3)، وابن عباس (¬4)، وغيرهما (فإن عجز) عن الإيماء بركوع وسجود (أومأ بطرْفه) أي عينِه (ونوى بقلبه، كأسير خائف) أن يعلموا بصلاته، [فإن عجز فبقلبه مستحضر القولِ والفعلِ] (¬5) لحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬6). (ولا يسقط فعلها) أي: الصلاة عن المكلف (ما دام عقله ثابتًا) ولا ينقص أجر مريض عجز عن قيام، أو قعود، إذا صلى على ما يطيقه، لخبر أبي موسى مرفوعًا: "إذا مرض العبد، أو سافر، كُتب له ما كان يعمل، مقيمًا صحيحًا" (¬7). (فإن طرأ عجز) لقادر (أو) طرأ (قدرة) لعاجز (في أثنائها) أي الصلاة (انتقل) إليه، لتعينه عليه، والحكم يدور مع علته (وبنى) على ما تقدم من صلاته. ¬
ومن قدر على قيام وقعود، دون ركوع وسجود، أومأ بركوع قائمًا، وسجود قاعدًا، ليحصل الفرق بين الإيمائين. ومن قدر أن يقوم منفردًا، أو يجلس في جماعة، خُيّر. قال في "الشرح" (¬1): لأنه يفعل في كل منهما واجبًا، ويترك واجبًا. وقيل: يلزمه أن يصلي قائمًا منفردًا، لأن القيام ركن، بخلاف الجماعة. ولمريض ولو أرمد يطيق قيامًا، الصلاة مستلقيًا، لمداواة، بقول طبيب مسلم ثقة، لأنه أمر ديني، فلا يقبل فيه كافر، ولا فاسق، كغيره من أمور الدين. ولا تصح مكتوبة في سفينة قاعدًا لقادر على قيام، كمن بغير سفينة، ويدور إلى القبلة، كلما انحرفت في فرض. وتصح مكتوبة على راحلة، واقفةً أو سائرة، لتأذٍّ بوحل، ومطر، ونحوه، لحديث يعلى بن أمية: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- انتهى إلى مضيق هو وأصحابه، وهو على راحلته، والسماء من فوقهم، والبلَّةُ من أسفل منهم، فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن، فأذن، وأقام، ثم تقدم النبي -عليه الصلاة والسلام- فصلى بهم -يعني إيماءً- يجعل السجود أخفض من الركوع" (¬2) رواه أحمد، والترمذي، وقال: العمل عليه عند أهل العلم. فإن قدر على نزول بلا مضرة، لزمه، وقام وركع، كغير حالة المطر. وتصح مكتوبة على راحلة -أيضًا- لخوف انقطاع عن رفقة بنزوله، أو خوف على نفسه من عدو، ونحوه، أو عجزه عن ركوب إن نزل. والمرأة إن خافت تبرزًا (¬3) وهي خفرة (¬4)، صلت على الراحلة. ¬
وعلى مصل على الراحلة لعذر: الاستقبال، وما يقدر عليه من ركوع، أو سجود، أو إيماء بهما، وطمأنينة، لحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬1). ومن أتى بكل فرض، وشرطٍ لصلاة، وصلى على راحلة، أو بسفينة، ونحوها، سائرة أو واقفة، صحت صلاته، ولو بلا عذر. ومن بماء وطين، لا يمكنه الخروج منه، يومئ بركوع وسجود، كمصلوب، ومربوط. ويسجد غريق على متن الماء، ولا إعادة في الكل، ويعتبر المقر لأعضاء السجود، لحديث: "أُمرتُ أن أسجد على سبعة أعظم" (¬2) فلو وضع جبهته على قطن منفوش ونحوه، مما لا تستقر عليه الأعضاء، لم تصح صلاته، وتصح على ما منع صلابة الأرض، كفراش محشو بنحو قطن. ¬
فصل في القصر
فصل في القصر وهو جائز إجماعًا (¬1) لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬2) الآية، وقول يعلى (¬3) لعمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنهما-: ما لنا نقصر وقد أمنّا! فقال: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "صدقة تصدق اللَّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته" (¬4) رواه مسلم. (ويسن قصرُ) الصلاة (الرباعية) وهي الظهر والعصر والعشاء إلى ركعتين، ولا تقصر صبح ولا مغرب (في سفر طويل) يبلغ ستة عشر فرسخًا تقريبًا، برًّا أو بحرًا، وهي يومان قاصدان، بسير الأثقال، ودبيب الأقدام. والفرسخ: ثلاثة أميال هاشمية. وبأميال بني أمية: ميلان ونصف، والميل الهاشمي: اثنا عشر ألف قدم، وهي: ستة آلاف ذراع، بذراع اليد. والذراع: أربعة وعشرون إصبعًا، معترضة، معتدلة، عرض كل إصبع ست حبات شعير، بطون بعضها إلى بعض، عرض كل شعيرة ست شعرات برذون. وهو بالبرد أربعة، لحديث ابن عباس -مرفوعًا-: "يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أبيبعة بُرد، من مكة إلى عسفان" (¬5) رواه الدارقطني. وروي موقوفًا عليه (¬6). قال الخطابي (¬7): هو أصح الروايتين عن ابن ¬
عمر (¬1). وقول الصحابي حجة، خصوصًا إذا خالف القياس (مباح) أي ليس بحرام، ولا مكروه، واجبًا كان، كحج، وجهاد متعينين، أو مسنونًا، كزيارة رحم، أو مستوي الطرفين، كتجارة، ولو كان نزهة، أو فرجة، أو قَصَدَ مشهدًا، أو قبر نبي (¬2)، أو مسجدًا غير الثلاثة، ونحوه. أو عصى في سفره. وعلم منه: أنه لا يقصر من خرج في طلب آبق، أو ضالة، ولو جاوز المسافة، لأنه لم ينوه، وأن من نواه وقصر، ثم رجع قبل استكماله، فلا إعادة عليه، لأن المعتبر نية المسافة، لا حقيقتها. وقِنٌّ سافر مع سيده، وزوجة سافرت مع زوجها، وجندي سافر مع أمير، يكونون تبعًا لسيد، وزوج، وأمير في سفر، ونيته. ومحل جواز القصر إذا فارق بيوت قريته العامرة، أو خيام قومه، إن استوطنوا الخيام (ويقضي) من فاته صلاة (صلاة سفر في حضر) تامة، (وعكسه) كمن فاته صلاة في حضر، وأراد أن يقضيها في سفر، فإنه يقضيها (تامة) لأنه الأصل. (ومن نوى إقامة مطلقة بموضع) أي غير مقيدة بزمن، ولو في نحو مفازة، أو نوى إقامة ببلد (أو) مفازة (أكثر من أربعة أيام) أو نوى إقامة لحاجة، وظن أن لا تنقضي إلا بعد الأربعة (أو ائتم بمقيم) أو بمن يلزمه الإتمام، سواء ائتم به في كل الصلاة، أو بعضها، علمه مقيمًا، أم لا (أتم) في الجميع. أو مر بوطنه، أو ببلد تزوج فيه، أتم، لأنه صار في سورة المقيم، وظاهره: ولو بعد فراق الزوجة، أو دخل وقت صلاة عليه حضرًا، ثم سافر، أو أوقع بعضها في الحضر، بأن أحرم بالصلاة مقصورة بنحو ¬
سفينة، ثم وصلت إلى وطنه، أو محل نوى الإقامة به، أتم، تغليبًا لحكم الحضر، لأنه الأصل. ولا يكره إتمام رباعية لمن له قصرها، لحديث عائشة: "أتمَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقصر" (¬1) رواه الد ارقطني، وصححه. والقصر أفضل من الإتمام، نصًا (¬2)، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفاؤه داوموا عليه. وروى أحمد، عن عمر: "إن اللَّه يحب أن تُؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته" (¬3). (وإن حبس ظلمًا) أو حبس بمطر، أو بمرض، ونحوه (أو لم ينو إقامة) أو أقام لحاجة بلا نية إقامة، ولا يدري متى تنقضي (قصر أبدًا) لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أقام بتبوك عشرين يومًا يَقْصُر الصلاة (¬4). رواه أحمد، "وأقام -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة حين فتحها تسعة عشر يومًا يصلي ركعتين" (¬5) رواه البخاري، وقال أنس: "أقام أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- برامَهُرْمُز (¬6) تسعة أشهر، يَقْصرونَ الصلاة" (¬7) رواه البيهقي، بإسناد حسن. ¬
فصل في الجمع
فصل في الجمع (ويُباح له) أي لمن أبيح له القصر، فلا يكره ولا يستحب (الجمع بين الظهرين والعشائين) أي: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، (بوقت أحدهما) لحديث معاذ، مرفوعًا: "كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخَّر الظهر، حتى يجمعها إلى العصر، يصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا، ثم سار، وكان يفعل مثل ذلك في المغرب والعشاء" (¬1) رواه أبو داود، والترمذي. وقال: حسن غريب. وعن أنس معناه (¬2)، متفق عليه، وسواء كان نازلًا، أو سائرًا، في الجمعين. (و) يُباح الجمع (لمريض) لحديث ابن عباس: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جمع من غير خوف، ولا مطر". وفي رواية: "من غير خوف ولا سفر" (¬3) رواهما مسلم، ولا عذر بعد ذلك إلا لمرض (ونحوه) أي نحو المريض، كمرضع لمشقة كثرة النجاسة، وكمستحاضة، وذي سلس، وجرح لا يرقأ دمه، وعاجز عن طهارة، أو تيمم لكل صلاة، وعاجز عن معرفة وقت، كأعمى ومطمور، وعذر أو شغل يبيح ترك جمعة وجماعة (يلحقه) أي المريض، وما في معناه (بتركه) أي الجمع (مشقة) فإن لم يكن ثَمَّ مشقة لم يبح إلا للمسافر فقط (و) يباح الجمع (بين العشائين فقط، لمطر، ونحوه) كثلج، وجليد (يَبُلُّ ¬
الثوبَ) أي المطر (وتوجد معه مشقة) لأن السنة لم ترد بالجمع لذلك إلا في المغرب والعشاء (¬1)، رواه الأثرم. وروى البخاري بإسناده: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جمع بين المغرب والعشاء في ليلة مطيرة" (¬2) وفعلها أبو بكر، وعمر، وعثمان، رضي اللَّه عنهم (¬3)، وأمر ابن عمر مناديه في ليلة باردة، فنادى: الصلاة في الرحال (¬4)، و (لِوَحَلٍ) بفتح الحاء (وريح شديدة باردة، لا باردة فقط) لأنه لا يجمع للبرد وحده (إلا) إذا حصل ريح باردة ظاهرة، أو شديدة (بليلة مظلمة) فإنه يجمع لذلك (والأفضل فعل الأرفق) به (من تقديم) العصر وقت الظهر، أو العشاء وقت المغرب (أو تأخير) الظهر إلى وقت العصر، أو المغرب إلى العشاء، فإن استويا، فالأفضل التأخير، لأنه أحوط، خروجًا من الخلاف، سوى جمع عرفة، فالتقديم فيه مطلقًا أفضل، اتباعًا لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). ويشترط لجمع ترتيب مطلقًا (وكره فعله) أي الجمع (في بيته ونحوه بلا عذر) لعموم حديث: "خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" (¬6)، ¬
وهذا على خلاف ما في "الإقناع" (¬1)، و"المنتهى" (¬2) من عدم تقييدهم عدم الكراهة في الصلاة في البيت بعذر، أو غيره، وهو الصحيح، فيباح الجمع مع هذه الأعذار المتقدمة، حتى لمن يصلي في بيته، أو يصلي في مسجد طريقه تحت ساباط (¬3)، ولمقيم في المسجد، ونحوه، كمن بينه وبين المسجد خطوات يسيرة؛ لأن الرخصة العامة يستوي فيها وجود المشقة، وعدمها. ويشترط لجمع تقديم نية الجمع عند إحرامها؛ لأنه محل النية، كنية الجماعة، ووجود العذر عند افتتاحهما، واستمراره إلى فراغ الثانية. ويشترط لجمع تأخير نيته بوقت أولى، ما لم يضق الوقت عن فعلها، لفوات فائدة الجمع، وهي التخفيف بالمقارنة بين الصلاتين، ولأن تأخيرها إلى ضيق الوقت عن فعلها حرام، فينافي الرخصة، وهي الجمع، وبقاء العذر إلى دخول وقت ثانية فقط، فلو صلاهما خلف إمامين، أو خلف من لم يجمع، أو أحدهما منفردًا، والأخرى جاعة، أو صلى بمأموم الأولى، وبآخر الثانية، أو صلى إمامًا بمن لم يجمع، صح، لعدم المانع. (ويبطل جمع تقديم براتبة بينهما) أي المجموعتين (وبتفريق) بينهما (بأكثر من وضوء خفيف وإقامة) لأن معنى الجمع المقارنة والمتابعة، ولا يحصل مع تفريق بأكثر من ذلك، ولا يضر كلام يسير، لا يزيد على ذلك، ولو غير ذكر، ولا سجود سهو. ¬
فصل في صلاة الخوف
فصل في صلاة الخوف (وتجوز صلاة الخوف) والخوف ضد الأمن، ومشروعيتها بالكتاب، والسنة. وتخصيصه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالخطاب لا يقتضى اختصاصه بالحكم، لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬1) وأجمع الصحابة -رضي اللَّه عنهم- على فعلها (¬2)، وصلاها علي (¬3)، وأبو موسى (¬4)، وحذيفة (¬5). فتجوز (بأي صفة صحت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-) في قتال مباح؛ لأنها رخصة، فلا تباح بالقتال المحرم، ولو حضرًا لأن المبيح الخوف، لا السفر (وصحت) عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- (من ستة أوجه) قال الإمام أحمد: صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاة الخوف من خمسة أوجه، أو ستة. وفي رواية أخرى: من ستة أوجه، أو سبعة. قال الأثرم: قلت لأبي عبد اللَّه: تقول بالأحاديث كلها، أو تختار واحدًا منها؟ قال: أنا أقول من ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث سهل فأنا أختاره (¬6). وهي صلاته -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوة ذات الرقاع (¬7)، وهو إذا كان العدو بغير جهة القبلة، أو بها ولم يُر، أو رؤي وخيف كَمِينٌ، قسمهم الإمام طائفتين: كل طائفة تكفي العدو، زاد أبو المعالي: بحيث يحرم ¬
فرارها (¬1) طائفة منهم تذهب حِذاء العدو، وتحرس المسلمين، وهي مؤتمة بالإمام حكمًا، في كل صلاته، لأنها من حين ترجع من الحراسة، وتحرم، لا تفارقه حتى يسلم بها. قال الشيخ منصور في "شرح المنتهى" (¬2): والمراد بعد دخولها معه، لا قبله. كما نبه عليه الحجاوي (¬3) في "حاشية التنقيح"، فتسجد معه لسهوه، ولو في الأولى قبل دخولها، لا لسهوها إن سهت، لتحمل الإمام له. وطائفة يحرم بها، ويصلي بها الركعة الأولى من صلاته، وهي مؤتمة به فيها فقط؛ لأنها تفارقه بعدها، فتسجد لسهوه فيها إذا أتمت صلاتها، فإذا استتم الإمام قائمًا إلى الركعة الثانية نوت المفارقة، وأتمت لنفسها منفردة، وسلَّمت، ومضت تحرس، وإن فارقته قبل قيامه إلى الركعة الثانية بلا عذر، بطلت صلاتها. ويطيل قراءته، حتى تحضر الطائفة الأخرى، التي كانت تحرس، فتُحرمُ، وتصلي معه الركعة الثانية، ويكفي إدراكها الركوع، ويكره تأخير القراءة إلى مجيئها، وإذا فرغ منها، وجلس للتشهد، قامت لتأتي ببقية صلاتها، وانتظرها، يُكرِّر التشهد، حتى تأتي بركعة، وتشهُّد، فيُسلِّم بها، ولا يسلم قبلهم، لقوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} (¬4) فيدل على أن صلاتهم كلها معه. وتحصل المعادلة بينهما، فإن الأولى أدركت معه فضيلة الإحرام، ¬
والثانية فضيلة السلام، وهذا الوجه متفق عليه من حديث صالح بن خوات بن جبير، عمن صلى مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: "أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم" (¬1). وصح عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة مرفوعًا (¬2)، وهذا الحديث هو الذي أشار إليه الإمام أحمد أنه اختاره؛ لأنه أنكأ للعدو، وأقل في الأفعال، وأشبه بكتاب اللَّه، وأحوط للصلاة، والحرب. ويصلي إمام المغرب بطائفة ركعتين، وبالأخرى ركعة، ولا تتشهد الطائفة الثانية بعد صلاتها معه الركعة الثالثة، لأنه ليس محل تشهدها، بل تقوم لقضاء ما فاتها، ويصح العكس، بأن يصلي بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين. ويصلي الرباعية التامة بكل طائفة ركعتين، ويصح بطائفة ركعة، وبأخرى ثلاثًا، لحصول المطلوب بالصلاة بالطائفتين، وتفارقه الطائفة الأولى إذا صلى بها ركعتين من مغرب، أو رباعية تامة، عند فراغها من التشهد الأول، وينتظر الطائفة الثانية جالسًا، يكرر التشهد إلى أن تحضر، فإذا أتت، قام لتدرك معه جميع الركعة الثالثة، ولأن الجلوس أخف على الإمام. (وسُنَّ فيها) أي في صلاة خوف (حمل سلاح غير مثقل) كسيف وسكين، لقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (¬3) ولمفهوم قوله: ¬
تتمة
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} (¬1) والأمر به للرفق بهم، والصيانة لهم، فلم يكن للإيجاب. ولا يكره حمل السلاح في الصلاة بلا حاجة، في ظاهر كلام الأكثر. وكره حمل ما منع إكمال الصلاة، كمغفر (¬2)، أو ضَرَّ غيره، كرمح متوسط، أو أثقله، كجوشن، وهو: الدرع. وجاز لحاجة في صلاة خوف حمل نجس، ولا يعيد، للعذر. تتمة: إذا اشتد الخوف صلوا رجالًا وركبانًا، للقبلة، وغيرها، لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬3)، قال ابن عمر: "فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالًا قيامًا على أقدامهم، وركبانًا، مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها" (¬4) متفق عليه، وزاد البخاري قال نافع: "لا أرى ابن عمر قال ذلك إلا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬5) رواه ابن ماجه مرفوعًا (¬6). ولا يلزم مصل افتتاحها إليها، ولو أمكن يومئون بركوع وسجود طاقتهم، والسجود أخفض من الركوع، وكذا في حالة الهرب من عدو، أو ¬
سَيْلٍ، أو سَبع، أو نار، أو غريم ظالم، أو خوف فوت عدو يطلبه، لقول عبد اللَّه بن أنس: "بعثني النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى خالد بن سفيان الهذلي قال: اذهب فاقتله. فرأيته، وقد حضرت صلاة العصر، فقلت: إني أخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة، فانطلقت وأنا أصلي، أومئ نحوه إيماء" رواه أبو داود (¬1). ولأن فوت عدوه ضرر عظيم، فأبيحت له صلاة الخوف، كحال لقائه، وكذا إن خاف فوت الوقوف بعرفة، أو خاف على نفسه، أو ماله، أو أهله، أو ذب عن ذلك، أو عن نفس غيره، أو ماله، إنْ صلى آمنًا، فيصلي بالإيماء، ولا يعيد، ومن خاف أو أمن في صلاةٍ انتقل، وبنى. ¬
فصل في صلاة الجمعة
فصل في صلاة الجمعة (تلزم صلاة الجمعة) بتثليث الميم (¬1) -ذكره الكرماني- (¬2) سميت بذلك لجمعها لجماعات، أو لجمع طين آدم فيها، وقيل غير ذلك (¬3)، والأصل في مشروعيتها قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬4) الآية، والسنة بها شهيرة، وهي أفضل من الظهر بلا نزاع، قاله في "الإنصاف" (¬5)، وهي مستقلة، ليست بدلًا عن الظهر، ¬
لجوازها قبل الزوال، ولعدم جواز زيادتها على ركعتين. وصلاة الجمعة فرض الوقت، فلو صلى الظهر أهل بلد يبلغون أربعين مع بقاء وقت الجمعة، لم تصح ظهرهم؛ لأنهم صلوا ما لم يخاطبوا به، وتركوا ما خوطبوا به، كما لو صلوا العصر مكان الظهر. وتؤخر فائتة لخوف فوت الجمعة؛ لأنه لا يمكن تداركها، بخلاف غيرها من الصلوات. والظهر بدل عنها إذا فاتت، لأنها لا تقضى، فتلزم الجمعة لزوم عين (كل مسلم مكلف) لا كافر ولو مرتدًّا، ولا صغير ولو مميزًا، ولا مجنون، (ذكر) حكاه ابن المنذر إجماعًا (¬1)، لأن المرأة ليست من أهل حضور مجامع الرجال (حر) لحديث طارق بن شهاب مرفوعًا: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، وامرأة، وصبي، أو مريض" (¬2) رواه أبو داود، وقال: طارق قد رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يسمع منه شيئًا. وإسناده ثقات قاله في "المبدع" (¬3). (مستوطن ببناء) معتاد ولو من قصب، لا يرتحل عنه شتاء ولا صيفًا، ولو فراسخ، نصًّا (¬4)، فلا جمعة على أهل الخيام، وبيوت شعر، لأن العرب كانوا حول المدينة، وكانوا لا يصلون الجمعة، ولا أمرهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بها. وتصح فيما قارب البنيان من الصحراء؛ لأن المسجد ليس بشرط فيها إن بلغوا أربعين، أو لم يكن بينهم وبين موضعها أكثر من فرسخ تقريبًا، ¬
فتلزمهم بغيرهم، كمن بخيام ونحوها. ولا تجب جمعة على مسافر فوق فرسخ؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه كانوا يسافرون في الحج وغيره، فلم يصل أحد منهم الجمعة في السفر، مع اجتماع الخلق الكثير، إلا في سفر لا قصر معه: كسفر معصية، وما دون المسافة، فتلزمه بغيره. ومن حضرها ممن لا تجب عليه أجزأته عن الظهر، ولا يحسب من العدد، ولا تصح إمامته فيها، لئلا يصير التابعُ متبوعًا، والمريض ونحوه كخائف على نفسه، أو ماله، أو أهله، ممن له شغل، أو عذر يبيح ترك الجمعة، إذا حضرها، وجبت عليه، وانعقدت به، وجاز أن يؤم فيها. (ومن صلى الظهر ممن عليه الجمعة قبل الإمام) أي قبل صلاة الإمام الجمعة (لم تَصِحَّ) ظهره (وإلا صحَّتْ) بأن صلى بعد فراغ الإمام من الصلاة، أو مما تدرك به الجمعة، صحت ظهره (والأفضل) في حق من لا تلزمه الجمعة، ولم يصل مع الإمام، صلاته (بعده) أي بعد الإمام، خروجًا من الخلاف (¬1). ¬
(وحرم سفر من تلزمه) أي الجمعة، بنفسه، أو بغيره في يومها، (بعد الزوال) حتى يصلي الجمعة، لاستقرارها في ذمته بدخول أول الوقت، فلم يجز له تفويتها بالسفر، إن لم يخف فوت رفقة بسفر مباح، فإن خافه سقط عنه وجوبها، وجاز له السفر. (وكره) له السفر (قبله) أي قبل الزوال لمن هو من أهل وجوبها، خروجًا من الخلاف (¬1)، ولم يحرم، لقول عمر: "لا تحبس الجمعة عن سفر" (¬2) رواه الشافعي في "مسنده"، ولأنها لا تجب إلا بالزوال، وما قبله رخصة (ما لم يأت بها في طريقه) فإن أتى بالجمعة في طريقه من سافر قبل الزوال، أو بعده، لم يكره، لأداء فرضه (أو يخف فوت رفقة) كما تقدم. (وشرط لصحتها) أي الجمعة: أربعة شروط، ليس منها إذن الإمام، ¬
أحدها: (الوقت) لأنها مفروضة، فيعتبر لها الوقت، كبقية المفروضات (وهو) أي وقت الجمعة من (أول وقت العيد) نص عليه (¬1)، لحديث عبد اللَّه بن سيدان (¬2) السلمي قال: "شهدت الجمعة مع أبي بكر -رضي اللَّه عنه- فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر -رضي اللَّه عنه- فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: زال النهار. فما رأيت أحدًا عاب تلك ولا أنكره" (¬3) رواه أحمد، والدارقطني، واحتج به أحمد، قال: وكذلك روي عن ابن مسعود، وجابر، وسعيد، ومعاوية (¬4)، أنهم صلوا قبل الزوال، ولم ينكر (¬5) فكان إجماعًا (¬6) (إلى آخر وقت الظهر) إلحاقًا لها بها، لوقوعها موضعها. وتلزم بزوال؛ لأن ما قبله وقت جواز، وفعلها بعده أفضل، خروجًا من الخلاف (¬7)، ولأنه الوقت الذي كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يصليها فيه في أكثر أوقاته. ¬
ولا تسقط بشكه في خروج الوقت، لأن الأصل عدمه، فإن خرج الوقت بأن تحقق خروجه (قبل التحريمة صلوا ظهرًا) لأن الجمعة لا تقضى (وإلا) أي وإن لم يتحقق خروجه صلوا (جمعة) نصًّا، لأن الأصل بقاؤه، وهى تدرك بالتحريمة كسائر الصلوات. (و) الثاني والثالث من شروط صحتها: (حضور (¬1): أربعين بالإمام من أهل وجوبها) -أي الجمعة- واستيطانهم بقرية ولو من قصب، لما روى أبو داود عن كعب بن مالك قال: "أول من صلى بنا الجمعة في نقيع الخضمات (¬2) أسعد بن زرارة وكنا أربعين" (¬3) رواه ابن حبان، والبيهقي والحاكم، وقال: على شرط مسلم. ولم ينقل عمن يقتدى به أنها صليت بدون ذلك (فإن نقصوا) أي الأربعين (قبل إتمامها) أي الجمعة (استأنفوا جمعة إن أمكن) إعادتها جمعة بشروطها؛ لأنها فرض الوقت (وإلا) بأن لم يمكن استئنافها لفقد بعض شروطها استأنفوا (ظهرًا) نصًّا (¬4)؛ لأن العدد شرط، فاعتبر في جميعها. ¬
تتمة
(ومن) أحرم بالجمعة في وقتها و (أدرك مع الإمام ركعة، أتمها جمعة) رواه البيهقي عن ابن مسعود (¬1)، وابن عمر (¬2)، وعن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة" (¬3). رواه الأثرم. تتمة: من أحرم مع الإمام بالجمعة، ثم زحم عن سجود بأرض، لزمه السجود، ولو على ظهر إنسان، أو رجله، لقول عمر: "إذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه" (¬4) رواه أبو داود الطيالسي، وسعيد، وكالمريض يأتي بما يمكنه، ويصح. وإن احتاج إلى موضع يديه ورجليه، لم يجز وضعها على ظهر إنسان. ذكره في "الإقناع" (¬5). (و) الرابع: (تقديم خطبتين) لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬6) والذكر هو: الخطبة، والأمر بالسعي إليه دليل وجوبه، ولمواظبته عليه الصلاة والسلام على ذلك، قال ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: "كان عليه الصلاة والسلام يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس" (¬7) متفق عليه. وهما بدل ركعتين، لقول عمر وعائشة: "قصرت الصلاة من أجل ¬
الخطبة" (¬1) لأن الخطبتين بدل الركعتين من الظهر؛ لأن الجمعة ليست بدلًا عن الظهر، بل مستقلة كما تقدم (من شرطهما) أي الخطبتين (الوقت) فلا تصح واحدة منهما قبله؛ لأنهما بدل ركعتين، كما تقدم. (وحمد اللَّه) تعالى أي قول: الحمد للَّه. لحديث ابن مسعود: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا تشهد قال: الحمد للَّه" (¬2) رواه أبو داود. وله -أيضًا- عن أبي هريرة: "كل كلام لا يبدأ فيه بحمد اللَّه فهو أجذم" (¬3) (والصلاة على رسوله عليه) الصلاة و (السلام) لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر اللَّه تعالى، افتقرت إلى ذكر رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، كالأذان، والتشهد. ويتعين لفض الصلاة، ولا يجب السلام عليه مع الصلاة، عملًا بالأصل (وقراءة آية) كاملة، لحديث جابر بن سمرة "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقرأ الآيات، ويُذكِّر الناس" (¬4) رواه مسلم. ولأن الخطبتين أقيمتا مقام ركعتين، فوجب فيهما القراءة كالصلاة، ولا تجزئ آية لا تستقل بمعنى، أو حكم نحو {ثُمَّ نَظَرَ (21)} (¬5) أو {مُدْهَامَّتَانِ (64)} (¬6) ذكره أبو المعالي (¬7) (وحضور العدد المعتبر) للجمعة، (ورفع الصوت بقدر إسماعه) أي العدد المعتبر حيث لا مانع (والنية) لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬8). (والوصية بتقوى اللَّه) تعالى، ¬
لأنها المقصودة من الخطبة، فلو قرأ من القرآن ما يتضمن الحمد والموعظة، وصلى على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كفى (ولا يتعين لفظها) أي الوصية، وأقلها: اتقوا اللَّه، أطيعوا اللَّه، ونحوه (وأن تكونا) أي الخطبتان (ممن يصح أن يؤُمَّ فيها) أيَ الجمعة، فلا تصح خطبة من لا تجب عليه بنفسه، كعبد، ومسافر، ولو أقام لعلم، أو شغل بلا استيطان، كما تقدم، ولا يشترط أن يتولاهما واحد، فلو خطب واحد الأولى، وآخر الثانية، أجزأتا، كالأذان والإقامة و (لا ممن يتولى الصلاة) لأن كلًّا منهما عبادة بمفردها، ولا يشترط -أيضًا- حضور متولي الصلاة الخطبة، فتصح إمامة من لا يحضر الخطبة، من أن تكونا بهم حيث كان من أهل وجوبها. (وتسن الخطبة على منبر) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر به، فعُمل له من أثل الغابة (¬1)، فكان يرتقي عليه، وكان ثلاث درج (¬2). وسمي منبرًا: لارتفاعه. والنبر: الارتفاع (¬3). واتخاذه سنة مجمع عليها، قاله في "شرح مسلم" (¬4) (أو) على (موضع عال) إن عدم المنبر؛ لأنه في معناه، ويكونان على يمين مستقبل القبلة، كما كان منبره -صلى اللَّه عليه وسلم-. (و) يسن (سلام خطيب إذا خرج) إلى المأمومين (و) سلامه أيضًا (إذا أقبل عليهم) بوجهه، لما روى ابن ماجه، عن جابر قال: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا صعد المنبر سلم" (¬5) رواه الأثرم عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن ¬
مسعود، وابن الزبير (¬1). (و) يسن أيضًا (جلوسه) أي الخطيب (إلى فراغ الأذان) لحديث ابن عمر، "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب" (¬2). رواه أبو داود مختصرًا. (و) يسن أيضًا جلوسه (بينهما) أي الخطبتين (قليلًا) لقول ابن عمر: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس" (¬3) متفق عليه. قال في "التلخيص" (¬4): بقدر سورة الإخلاص. فإن أبي أن يجلس بينهما، أو خطب جالسًا، فصل بينهما بسكتة، ليحصل التمييز، وعلم منه أن الجلوس بينهما غير واجب، لأن جماعة من الصحابة منهم علي، سردوا الخطبتين من غير جلوس (¬5). (و) تسن أيضًا (الخطبة قائمًا) نصًّا (¬6) لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7) ولم يجب، لأنه ذكر، ليس من شرطه الاستقبال، فلم يجب له القيام، كالأذان (معتمدًا على سيف، أو عصا) لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬8)، رواه أبو داود، ولأنه أمكن له، وإشارة إلى ¬
أن هذا الدين فتح به (¬1)، ويكون ذلك بيده اليسرى، والأخرى بحرف المنبر، ذكره في "الفروع" (¬2) توجيهًا، فإن لم يعتمد أمسك بيمينه شماله، أو أرسلهما (قاصدًا تلقاءه) أي: تلقاء وجهه، لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، ولأنه أقرب إلى سماعهم كلهم، ويكون متعظًا بما يعظ به، ويستقبل الناس، وينحرفون إليه فيستقبلونه ويتربعون، وإن استدبرهم فيها كره، وصحت. (و) يسن (تقصيرهما) أي الخطبتين (و) تكون (الثانية أكثر) تقصيرًا من الأولى، لحديث: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا اخطبة" (¬4). رواه مسلم، من حديث عمار مرفوعًا. ويسن رفع صوته بحسب طاقته؛ لأنه أبلغ في الإعلام. (و) يسن أيضًا (الدعاء للمسلمين): "لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا خطب يوم الجمعة دعا وأشار بإصبعيه، وأمَّن الناس" (¬5) رواه حرب (¬6) في "مسائله". ¬
(وأبيح) دعاؤه (لمعيَّن كالسلطان) لما روي: "أن أبا موسى كان يدعو في خطبته لعمر" (¬1). ويباح أن يخطب من صحيفة، كقراءة في الصلاة من مصحف. (وهي) أي صلاة الجمعة (ركعتان) بالإجماع، حكاه ابن المنذر (¬2). قال عمر: "صلاة الجمعة ركعتان من غير قصر، وقد خاب من افترى" (¬3) رواه أحمد. ويسن أن (يقرأ في) الركعة (الأولى بعد الفاتحة) بسورة (الجمعة، و) في الركعة (الثانية) بعد الفاتحة بسورة (المنافقين) لأنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأهما في صلاة الجمعة (¬4)، رواه مسلم من حديث ابن عباس. ويسن أن يقرأ في فجرها في الركعة الأولى بعد الفاتحة: آلم السجدة، وفي الثانية: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} نصًّا (¬5)؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يفعله (¬6)، متفق عليه من حديث أبي هريرة. قال الشيخ تقي الدين (¬7): لتضمنهما خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان إلى أن يدخل الجنة أو النار، وتكره مداومته عليهما. قال أحمد: لئلا يظن أنها مفضلة ¬
بسجدة (¬1). وقال جماعة: لئلا يظن الوجوب (¬2). (وحرم إقامتها) أي صلاة الجمعة (و) إقامة كصلاة (عيد في أكثر من موضع) واحد (ببلد) لأنهما لم يكونا يفعلان في عهده، وعهد خلفائه إلا كذلك، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (¬3) (إلا لحاجة) كضيق مسجد البلد عن أهله، وكبعد، كأن يكون البلد واسعًا، وتتباعد أقطاره، فيشق على من منزله بعيد عن محل الجمعة، وكخوف فتنة، كعداوة بين أهل البلد يخشى من اجتماعهم في محل إثارتها، ونحو ذلك، فإن عدمت الحاجة، وتعددت، فالصحيحة ما باشرها الإمام، أو أذن فيها، وإن استوتا في إذن أو عدمه، فالسابقة بالإحرام هي الصحيحة، وإن وقعتا معًا، بأن أحرم إمامهما في آن واحد بطلتا؛ لأنه لا يمكن تصحيحهما، ولا مزية لأحدهما على الأخرى، فترجح بها، فإن أمكن اجتماعهم، وبقي الوقت، صلوا جمعة، لأنها فرض الوقت، وإلا فظهرًا، لأنها بدل عن الجمعة إذا فاتت. وإذا وقع عيد في يوم الجمعة، سقطت عمن حضره مع الإمام ذلك اليوم، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى العيد وقال: "من شاء أن يجُمِّع فليُجَمِّع" (¬4) رواه أحمد من حديث زيد بن أرقم. (وأقل السنة) الراتبة (بعدها) أي الجمعة (ركعتان) لحديث ابن عمر مرفوعًا: "كان يصلي بعد الجمعة ركعتين" (¬5) متفق عليه (وأكثرها) أي السنة بعد الجمعة (ست) ركعات، لقول ابن عمر: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
يفعله" (¬1). رواه أبو داود. ولا راتبة لها قبلها نصًّا (¬2)، (وسن قبلها أربع غير راتبة). (و) سن (قراءة) سورة (الكهف في يومها) أي الجمعة، لحديث أبي سعيد مرفوعًا: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين" (¬3) رواه البيهقي، بإسناد حسن أ (و) في (ليللها) لخبر: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة وفي فتنة الدجال" (¬4). (و) سن (كثرة دعاء) في يوم الجمعة، وأفضله بعد العصر؛ لحديث: "إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل اللَّه شيئًا إلا أعطاه إياه". وأشار بيده يقللها (¬5). متفق عليه. قال أحمد: أكثر الأحاديث في الساعة التي ترجى فيها الإجابة، أنها بعد صلاة العصر، وترجى بعد زوال الشمس (¬6). (و) سن بتأكد في يومها وليللها كثرة (صلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-) لحديث: "أكثروا الصلاة عليّ ليلة الجمعة ويوم الجمعة، فمن صلى عليّ صلاة صلى اللَّه عليه بها عشرًا" (¬7) رواه البيهقي، بإسناد جيد، وعن ابن مسعود مرفوعًا: "أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ ¬
صلاة" (¬1) رواه الترمذي، وحسنه. (و) سن أيضًا (غسل) لها في يومها لحديث عائشة: "لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا" (¬2) ولو أحدث بعده، أو لم يتصل به المضي إليها، والأفضل كونه عن جماع، عند مضيه إليها، خروجًا من الخلاف (¬3)، ولأنه أبلغ في المقصود. (و) سن أيضًا (تنظف) لها، بقص شارب، وتقليم ظفر، وقطع روائح كريهة، بسواك، وغيره (وتطيب) لحديث أبي سعيد مرفوعًا: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن بدهن، ويمس من طيب امرأته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى" (¬4) رواه البخاري. (و) سن أيضًا (لبس بياض) لأنه أحسن الثياب، وأفضلها (وتبكير ¬
إليها) (¬1) أي الجمعة ولو مشتغلًا بالصلاة في منزله، بسكينة، لحديث: "ومشى ولم يركب" (¬2) بعد فجر لحديث: "من جاء في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة (¬3). . . إلخ" ولا بأس بركوبه لعذر. (و) سن أيضًا (دنو من الإمام) -أي قرب منه- لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من غسّل واغتسل، وبكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، فاستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة يخطوها عَمَلُ سنة، أجر صيامها وقيامها" (¬4) رواه أحمد، وأبو داود من حديث أوس، وإسناده ثقات. وقوله: غسّل -بالتشديد- أي جامع. واغتسل معلوم. وبكَّر: أي خرج في بكرة النهار، وهي: أوله.، وابتكر: أي بالغ في التبكير -أي جاء في أول البكرة- ويستقبل القبلة، لأنه خير المجالس، للخبر (¬5)، ويشتغل بالصلاة إلى خروج الإمام للخطبة، لما في ذلك من تحصيل الأجر، فإذا خرج الإمام، وهو في نافلة، خَفَّفها. ويحرم ابتداء نافلة إذن، غير تحية مسجد، روي ذلك عن ابن عباس، وابن عمر (¬6)، ولو كان ذلك قبل الشروع في الخطبة، أو كان بعيدًا، بحيث ¬
لا يسمعها، ويشتغل -أيضًا- بذكر اللَّه تعالى تحصيلًا للأجر، وأفضله قراءة القرآن. (وكره لغيره) أي لغير الإمام (تخطي الرقاب) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو على المنبر لرجل رآه يتخطى رقاب الناس: "اجلس فقد آذيت" (¬1) رواه أحمد، (إلا لفرجة لا يصل إليها إلا به) أي بتخطي الرقاب، فيباح، إلى أن يصل إليها، لإسقاطهم حقهم بتأخرهم عنها. (و) كره أيضًا (إيثار) غيره (بمكان أفضل) ويجلس فيما دونه؛ لأنه رغبة عن الخير و (لا) يكره للمؤثر (قبول) ولا رد، وقام رجل لأحمد من موضعه فأبى أن يجلس فيه وقال: ارجع إلى موضعك. فرجع إليه (¬2). وليس لغير المؤثر -بفتح الثاء المثلثة- سبقه إلى المكان الأفضل، لأنه أقامه مقامه، أشبه من تحجر مواتًا، فآثر به غيره. والعائد من قيامه لعارض، كتطهر، أحق بمكانه الذي سَبَقَ إليه، لحديث مسلم عن أبي أيوب مرفوعًا: "من قام من مجلسه ثم عاد إليه فهو أحق به" (¬3) ومن لم يصل إليه إلا بالتخطي، فكمن رأى فرجة (وحرم أن يقيم غير صبي من مكانه فيجلس فيه) مع أهليته له، حتى المعلم، والمحدث، والمفتي ونحوه، فيحرم أن يقيم من جلس موضع حلقته، ولو كان عبده الكبير، أو ولده الكبير، لحديث ابن عمر مرفوعًا: "نهي أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه" (¬4) متفق عليه، ولكن يقول: ¬
"افسحوا" (¬1) للخبر، ولأنه حق ديني، فاستوى فيه العبد، والولد، وغيرهما. وقال أبو المعالي: إن جلس في مصلى الإمام، أو طريق المارة، أو استقبل المصلين في مكان: أقيم، وأما الصبي ممن لم يبلغ من ولد، وعبد، وأجنبي، فيقام؛ لأن البالغ أحق بالتقدم للفضل (¬2). قال المنقح: وقواعد المذهب تقتضي عدم الصحة (¬3)، لصلاة من أقام غيره، وصلى مكانه؛ لأنه يفسر في معنى الغاصب للمكان. وحرم -أيضًا- رفع مُصَلى مفروش ليصلي عليه ربه إذا جاء، لأنه افتئات على ربه، وتصرف في ملكه بغير إذنه، ما لم تقم الصلاة، ولا يحضر ربه، فَلِغَيْرِهِ رفعُه، والصلاة مكانه؛ لأن المفروش لا حرمة له بنفسه، وربه لم يحضر. (و) حرم أيضًا (الكلام حال الخطبة) إذا سمعها لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (¬4)، قال أكثر المفسرين: إنها نزلت في الخطبة (¬5). وسميت قرآنًا لاشتمالها عليه، ولخبر الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب، فقد لغوت" (¬6) واللغو الإثم (على غير خطيب)، وأما ¬
الخطيب فلا يحرم عليه الكلام حال الخطبة (و) على غير (من كلّمه) أي الخطيب (لحاجة) لحديث أنس قال: "جاء رجل والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قائم على المنبر يوم الجمعة، فقال: متى الساعة؟ فأشار إليه الناس أن اسكت. فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عند الثالثة: ما أعددت لها؟ قال: حب اللَّه ورسوله. قال: إنك مع من أحببت" (¬1) رواه البيهقي، بإسناد صحيح. فإن كان بعيدًا عن الإمام، بحيث لا يسمعه، لم يحرم عليه الكلام، لأنه ليس بمستمع، لكن يستحب اشتغاله بذكر اللَّه تعالى، والقرآن، والصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في نفسه، واشتغاله بذلك أفضل من إنصاته، ويستحب له أن لا يتكلم. ويجب كلام والإمام يخطب، لتحذير ضرير عن هلكة، وتحذير غافل عن بئر، ونحوه. ويباح الكلام إذا سكت الخطيب بينهما، أو شرع في دعاء، لأنه غير واجب، فلا يجب الإنصات له. وله الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سمعها من الخطيب. وسن الصلاة عليه سّرًا، لئلا يشغل غيره بجهره، كدعاء، وتأمين على دعاء الخطيب. ويجوز حمده خفية إذا عطس، ورد سلام، وتشميت عاطس، ولو سمع الخطيب، لعموم الأوامر بها، وإشارة أخرس إذا فهمت ككلام، فتحرم حيث يحرم الكلام؛ لأنها في معناه، لا تسكيت متكلم بإشارة، وعن ابن عمر أنه كان يحصب من تكلم (¬2). ويكره العبث والإمام يخطب. ¬
خاتمة
والسُؤال حال الخطبة لا يتصدق عليهم؛ لأنهم فعلوا ما لا يجوز، فلا يعانون عليه، فإن سأل قبل الخطبة، ثم جلس، فلا بأس، كمن لم يسأل، أو سأل له الخطيب. (ومن دخل والإمام يخطب صلى التحية فقط خفيفة) ولو وقت نهي، لحديث جابر مرفوعًا: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين، يتجوز فيهما" (¬1) رواه أحمد، وأبو داود، وتحرم الزيادة عليهما. وإن خطب بغير مسجد لم يصل الداخل شيئًا. وتسن تحية المسجد لمن دخله، وإن لم يرد الجلوس فيه، بشرط أن لا يجلس فيطول جلوسه، وأن يكون متطهرًا، ولا يكون وقت نهي، غير حال خطبة الجمعة، كما تقدم، ولا تسن التحية لداخله لصلاة عيد، أو والإمام في مكتوبة، أو بعد شروع في إقامة، أو خطيب دخل لها، وقيِّم المسجد، لتكرار دخوله، وداخل المسجد الحرام، لأن تحيته الطواف، وينتظر من دخل المسجد حالة الأذان بالتحية فراغه، ليجيبه. خاتمة: روى ابن السني من حديث أنس مرفوعًا: "من قرأ إذا سلم الإمام يوم الجمعة قبل أن يثني رجليه فاتحة الكتاب، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)} والمعوذتين ¬
سبعًا، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأعطي من الأجر بعدد من آمن باللَّه ورسوله" (¬1). ¬
فصل في صلاة العيدين وأحكامها
فصل في صلاة العيدين وأحكامها والعيد لغة: ما اعتادك، أي تردد عليك مرة بعد أخرى، اسم مصدر من: عاد (¬1). سمي به اليوم المعروف، لأنه يعود ويتكرر، أو لأنه يعود بالفرح والسرور، وجمع بالياء وأصله الواو، للفرق بينه وبين أعواد الخشب، أو للزومها في الواحد. و(صلاة العيدين فرض كفاية) لأنه عليه الصلاة والسلام واظب عليها حتى مات، وروي: أن أول صلاة عيد صلاها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة (¬2). وإذا اتفق أهل بلد من أهل وجوبها على تركها قاتلهم الإمام، لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وفي تركها تهاون بالدين. (ووقتها كصلاة الضحى) من ارتفاع الشمس قدر رمح (وآخره الزوال، فإن لم يعلم بالعيد إلا بعده) أي بعد خروج الوقت (صلوا) العيد (من الغد قضاء) مطلقًا، لما روى أبو عمير بن أنس (¬3) قال: "حدثني عمومة لي من الأنصار من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قالوا: غُمَّ علينا هلال شوال، فأصبحنا صيامًا، فجاء ركب آخر النهار، فشهدوا عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر الناس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد" (¬4) رواه الخمسة، إلا الترمذي، وصححه إسحاق بن ¬
راهويه، والخطابي (¬1). ولأن العيد يشرع له الاجتماع العام، وله وظائف دينية ودنيوية، وآخر النهار مظنة الضيق ضن ذلك غالبًا، وأما من فاتته مع الإمام فإنه يصليها متى شاء؛ لأنها نافلة لا اجتماع فيها. (وشرط لوجوبها) أي صلاة العيدين (شروط جمعة، و) شرط (لصحتها استيطان) لأنه عليه الصلاة والسلام وافق العيد في حجه ولم يصله (¬2) (وعدد الجمعة) فلا تقام إلا حيث تقام الجمعة؛ لأنها ذات خطبة راتبة أشبهتها (لكن يسن لمن فاتته) أي صلاة العيد (أو) فاته (بعضها أن يقضيها) في يومها قبل الزوال، وبعده و (على صفتها أفضل) لفعل أنس (¬3)، وكسائر الصلوات، كمدرك إمام في التشهد، لعموم "ما أدركتم فصلوا وما ¬
فاتكم فاقضوا" (¬1)، وإن أدرك الإمام بعد التكبيرات الزوائد أو بعد بعضه، لم يأت به، لأنه سنة فات محلها. (وتسن) صلاة عيد (في صحراء) قريبة عرفًا من بنيان، لحديث أبي سعيد: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخرج في الفطر والأضحى إلى المصلى" (¬2). متفق عليه، وكذا الخلفاء بعده، ولأنه أوقع هيبة، وأظهر شعارًا، لعدم تكرره، بخلاف الجمعة، إلا بمكة المشرفة، فبالمسجد الحرام، لفضيلة البقعة، ومشاهدة الكعبة المشرفة، ولم تزل الأئمة يصلونها فيه. (و) يسن (تأخير صلاة) عيد (فطر وأكل قبلها) لقول بُريدة: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يخرج يوم الفطر، حتى يفطر، ولا يَطْعَمَ يوم النحر حتى يصلي" (¬3) رواه أحمد. وأن يكون أكله تمرات وترًا، حديث أنس: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات" رواه البخاري، وزاد في رواية منقطعة: "ويأكلهن وترًا" (¬4). (و) يسن (تقديم) صلاة (أضحى، وترك أكل قبلها لمضح) ليأكل من أضحيته إن ضحى، والأولى من كبدها، وإلا خُيّر، ويقدمها بحيث يوافق من بمنى في ذبحهم، ولحديث الشافعي مرسلًا: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كتب إلى عمرو بن حَزم أن عجِّل الأضحى، وأخِّر الفطر، وذكِّر الناس" (¬5)، وليتسع وقت الأضحية، وزكاة الفطر. ¬
(ويصليها) أي العيد (ركعتين قبل الخطبة) لقول عمر: "صلاة الفطر والأضحى ركعتان ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام، وقد خاب من افترى" (¬1) رواه الإمام أحمد، (يكبر في) الركعة (الأولى بعد الاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة، ستًّا) زوائد (و) يكبر (في) الركعة (الثانية قبل القراءة خمسًا) زوائد، نصًا (¬2)، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كبَّر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة، سبعًا في الأولى، وخمسًا في الآخرة" (¬3) إسناده حسن، رواه الإمام أحمد، وابن ماجه، وصححه ابن المديني. قال عبد اللَّه: قال أبي: أنا أذهب إلى هذا (¬4). وفي لفظ: "التكبير سبع في الأولى، وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتيهما" (¬5) رواه أبو داود، والدارقطني. وقوله: سبع في الأولى، أي بتكبيرة الإحرام (رافعًا يديه مع كل تكبيرة) نصًّا (¬6)، لحديث وائل بن حجر "أنه كان -صلى اللَّه عليه وسلم- يرفع يديه مع التكبير" (¬7)، قال أحمد: فأرى أن يدخل فيه هذا كله (¬8) (ويقول بين كل ¬
تكبيرتين: اللَّه أكبر كبيرًا، والحمد للَّه كثيرًا، وسبحان اللَّه بكرة وأصيلًا، وصلى اللَّه على محمد وآله وسلم تسليمًا كثيرًا) لقول عقبة بن عامر: "سألت ابن مسعود عما يقوله بعد تكبيرات العيد؟ قال: نحمد اللَّه، ونثني عليه، نصلي على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬1). رواه أحمد، وحرب (¬2) واحتج به أحمد (¬3). (أو) قال مصل (غيره) أي غير ما ذكر من الأذكار، لأن الغرض الذكر، لا ذكر مخصوص لعدم وروده (ثم يقرأ بعد الفاتحة في) الركعة (الأولى سبح) اسم ربك الأعلى (و) في الركعة (الثانية) بـ (الغاشية) لحديث سمرة مرفوعًا: "كان يقرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)} (¬4) رواه أحمد. ولابن ماجه عن ابن عباس (¬5)، والنعمان بن بشير (¬6) مرفوعًا مثله، وروي عن عمر (¬7)، وأنس (¬8). (ثم يخطب) خطبتين، وأحكامهما (كخطبتي الجمعة) فيما تقدم، (لكن) يسن أن (يستفتح [في] (¬9)) الخطبة (الأولى بتسع تكبيرات، والثانية بسبع) تكبيرات نسقًا، (ويبين لهم في) خطبة عيد (الفطر ما يخرجون) من ¬
الفطرة جنسًا، وقدرًا، ووقت وجوبه، وأجزائه، ومن تجب فطرته، ومن تدفع إليه، ويحثهم على الصدقة، لحديث "أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم" (¬1). (و) يبين لهم (في) خطبة عيد (الأضحى ما يضحون) به، ويرغبهم في الأضحية؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ذكر في خطبة الأضحى كثيرًا من أحكامها، من رواية أبي سعيد (¬2)، والبراء (¬3)، وجابر (¬4)، وغيرهم، ويبين لهم ما يجزئ في الأضحية، وما لا يجزئ، وما الأفضل، ووقت الذبح، وما يخرجه منها. والتكبيرات الزوائد، والذكر بينهما، والخطبتان سنة، لحديث عطاء (¬5) عن عبد اللَّه بن السائب قال: "شهدت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- العيد، فلما قضى الصلاة، قال: إنا نخطب، فمن أحب أن يجلس فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب" (¬6) رواه ابن ماجه، وإسناده ثقات، ولأنها لو وجبت لوجب حضورها، واستماعها، كخطبة الجمعة. ¬
وكره نفل قبل صلاة عيد، وبعدها في موضعها، قبل مفارقته، نصًّا (¬1)، لخبر ابن عباس مرفوعًا: "خرج يوم الفطر فصلى ركعتين، ولم يصل قبلهما ولا بعدهما" (¬2) متفق عليه، وكره أيضًا قضاء فائتة قبل الصلاة، وبعدها، في موضعها، نصًّا (¬3)، لئلا يقتدى به. وكره أن تصلى العيد بالجامع، لمخالفته السنة بغير مكة، فتسن فيها به، وتقدم (¬4)، إلا لعذر، فلا تكره بالجامع، لنحو مطر، لحديث أبي هريرة قال: "أصابنا مطر في يوم عيد، فصلى بنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المسجد" (¬5)، رواه أبو داود. ويسن للإمام أن يستخلف من يصلي بضعفة الناس في المسجد، نصًّا (¬6)، لفعل علي (¬7)، ويخطب بهم، وله فعلها قبل الإمام، وبعده، وأيهما سبق سقط به الفرض. (وسُن التكبير المطلق) أي الذي لم يقيد بكونه إدبار المكتوبات، وسن ¬
إظهاره، وجهر غير أنثى به في (ليلتي العيدين) في مساجد، وأسواق، وغيرها (و) تكبير عيد (الفطر آكد) لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} أي عدة رمضان {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (¬1) أي عند إكمالها، ولما روي عن ابن عمر "كان إذا غدا يوم الفطر، ويوم الأضحى، جهر بالتكبير، حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يأتي الإمام" (¬2). (و) سن التكبير الطلق أيضًا من أول عشر (ذي الحجة إلى فراغ الخطبة) ولو لم ير بهيمة الأنعام. (و) سن التكبير (المقيد) في الأضحى خاصة (عقب كل) صلاة (فريضة) صلاها (في جماعة، من) صلاة (فجر) يوم (عرفة) لمُحِلٍّ، إلى عصر آخر أيام التشريق (ولمحرم من ظهر يوم النحر، إلى عصر آخر أيام التشريق) لحديث جابر بن عبد اللَّه: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يكبِّر في صلاة الفجر يوم عرفة، إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، حين يسلم من المكتوبات" (¬3). رواه الدارقطني. ومسافر ومميز، كمقيم وبالغ في التكبير عقب المكتوبات جماعة، للعمومات. ويكبر الإمام مستقبل الناس، لحديث جابر: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا صلى الصبح من غداة عرفة أقبل على أصحابه فيقول: على مكانكم، ويقول: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر، لا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، اللَّه أكبر، وللَّه الحمد" (¬4). رواه الدارقطني. ¬
ومن نسي التكبير قضاه إذا ذكره مكانه، فإن قام منه، أو ذهب ناسيًا، أو عامدًا، عاد فجلس فيه وكبر، لأن تكبيره جالسًا في مصلاه سنة. لما تقدم، فلا يتركها مع الإمام، ما لم يحدث، أو يخرج من المسجد، أو يطل الفصل، فلا يكبر، لأنه سنة فات محلها. ومن سها في صلاته سجد للسهو، ثم بر، ويكبر مسبوق إذا قضى ما فاته، نصًّا (¬1). ولا يسن التكبير عقب صلاة عيد؛ لأن الأثر إنما جاء في المكتوبات. وصفته شفعًا، كما تقدم في حديث جابر. قال أحمد: اختياري تكبير ابن مسعود، وذكر مثله. ولا بأس بقوله لغيره: تقبل اللَّه منا ومنك نصًّا (¬2). ولا بأس بالتعريف عشية عرفة بالأمصار، نصًّا، قال أحمد: إنما هو دعاء وذكر (¬3). وأول من فعله ابن عباس -رضي اللَّه تعالى عنهما- وعمرو بن حُريث (¬4). ¬
فصل في صلاة الكسوف
فصل في صلاة الكسوف (وتسن صلاة كسوف) وهو ذهاب ضوء أحد النيرين، أي: الشمس والقمر، أو ذهاب بعضه، فتصلى، لحديث المغيرة بن شعبة: انكسفت الشمس على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم مات إبراهيم، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم. فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللَّه، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فادعوا اللَّه، وصلوا حتى تتجلى" (¬1) متفق عليه. فتصلى بلا خطبة؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بالصلاة دون الخطبة. والكسوف والخسوف بمعنى، يقال: كسفت الشمس وخسفت، بضم أولهما، وفتحه (¬2). ووقتها من ابتدائه إلى التجلي، ولا تقضى إن فاتت، كاستسقاء، ونحوه، ولا يشترط لها، ولا للاستسقاء إذن الإمام، وفعلها بمسجد جماعة أفضل، لقول عائشة: خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى المسجد، فقام وكبر، وصف الناس وراءه (¬3). متفق عليه. ¬
ويجوز للصبيان حضورها، كغيرهم، وتصلى (ركعتين كل ركعة بقيامين وركوعين) طويلين (و) يسن (تطويل سورة، و) تطويل (تسبيح، وكون أول كل) من قيامين وركوعين (أطول) من الثاني، يقرأ في الركعة الأولى جهرًا، ولو كانت في كسوف الشمس، بفاتحة الكتاب، وسورة طويلة من غير تعيين، ثم يركع طويلًا، فيسبح، ثم يرفع رأسه، فيسمِّع ويحمد جهرأ، ثم يقرأ الفاتحة -أيضًا- وسورة، ويطيل قيامه، وهو دون الأول، ثم يركع أيضًا ويطيل ركوعه، وهو دون الأول، ثم يرفع، ويسمع ويحمد، ولا يطيله كالجلوس بين السجدتين، ثم يسجد سجدتين طويلتين، ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى، لكن دونها في كل ما يفعل، ثم يتشهد ويسلم. لحديث جابر: كسفت الشمس في عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في يوم شديد الحر، فصلى بأصحابه -رضي اللَّه عنهم- فأطال القيام، حتى جعلوا يخرون، ثم ركع فأطال، ثم رفع فأطال، ثم ركع فأطال، ثم سجد سجدتين، ثم قام، فصنع نحو ذلك، فكانت أربع ركعات وأربع سجدات (¬1). رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود. ولا تعاد الصلاة إن فرغت قبل التجلي، بل يذكر ويدعو، وإن تجلى فيها أتمها خفيفة، لحديث: "فصلوا، وادعوا، حتى ينكشف ما بكم" (¬2) متفق عليه. ويذكر ويدعو وقت نهي، ولا يُصلى فيه، لعموم أحاديث النهي. ويستحب عتق في كسوف الشمس، لحديث أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعتاقة في كسوف ¬
الشمس (¬1). متفق عليه. وإن أتى في كل ركعة بثلاث، أو أربع، أو خمس ركوعات، فلا بأس، لحديث مسلم عن جابر مرفوعًا: صلى ست ركعات بأربع سجدات (¬2)، وما بعد الركوع الأول في كل ركعة، سنة، لا تدرك به الركعة، لأنه روي من غير وجه عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه صلى صلاة الكسوف بركوع واحد (¬3)، ولهذا يصح فعلها كنافلة، ولا يصلى لآية غير الكسوف، كظلمة نهارًا، أو ضياء ليلًا، إلا لزلزلة دائمة، فيصلى لها كصلاة الكسوف، نصًّا (¬4)، لفعل ابن عباس، رواه سعيد، والبيهقي (¬5). ومتى اجتمع كسوف وجنازة، قُدِّمت جنازة. ¬
فصل في صلاة الاستسقاء
فصل في صلاة الاستسقاء (و) تسن صلاة (استسقاء) وهو الدعاء بطلب السُّقيا (¬1)، وتسن حتى بسفر (إذا أجدبت الأرض) أي أمحلت. يقال: أجدب القوم: إذا أمحلوا (¬2) (و) ضرهم (قحط المطر) أي احتباسه، أو ضرهم غور ماء عيون أو أنهار، ووقتها كعيد، فتسن أول النهار، وتجوز كل وقت، غير وقت نهي (وصفتها وأحكامها كـ) صلاة (عيد). قال ابن عباس: الاستسقاء سنة كالعيدين (¬3)، فتسن قبل الخطبة، بصحراء قريبة عرفًا، بلا أذان ولا إقامة، ويقرأ في الأولى جهرًا بسبح، وفي الثانية بالغاشية، ويكبر في الأولى ستًّا زوائد، وفي الثانية خمسًا قبل القراءة، قال ابن عباس: صلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ركعتين، كما يصلي في العيدين. (¬4) قال الترمذي: حسن صحيح. (وهي والتي قبلها) أي: صلاة الكسوف (جماعة أفضل) عملًا بالسنة (وإذا أراد الإمام الخروج لها وعظ الناس) أي ذكرهم ما تلين به قلوبهم، وخوَّفهم من عواقب الذنوب (وأمرهم بالتوبة) أي: الرجوع عن المعاصي (و) أمرهم بـ (الخروج من المظالم) بردها إلى مستحقيها، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. . .} (¬5) الآية (و) أمرهم بـ (ترك التشاحن) من الشحناء، وهي العداوة، لأنها تحمل على ¬
المعصية، وتمنع نزول الخير، بدليل حديث: "خرجت أخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت" (¬1) (و) أمرهم بـ (الصيام) لخبر "الصائم دعوته لا تُرد" (¬2) زاد بعضهم: ثلاثة أيام (¬3). وأنه يخرج صائمًا، (و) أمرهم بـ (الصدقة) لتضمنها الرحمة، فيرحمون بنزول الغيث. ولا يلزم الصيام ولا الصدقة بأمر الإمام (ويعِدُهم) أي الإمام (يومًا يخرجون فيه) أي: يعينه لهم، ليتهيئوا للخروج فيه على الصفة المسنونة، (ويخرج) إمام وغيره (متواضعًا متخشعًا) خاضعًا (متذللًا) من الذل أي الهون (متضرعًا) مستكينًا، لحديث ابن عباس: خرج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للاستسقاء متذللًا، متواضعًا، متخشعًا، متفرعًا، حتى أتى المصلى (¬4). قال الترمذي: حسن صحيح (متنظفًا) لها بالغسل، وتقليم الأظفار، وإزالة الرائحة الكريهة، لئلا يؤذي الناس (لا متطيبًا) لأنه يوم استكانة وخضوع (ومعه) أي الإمام (أهل الدين والصلاح والشيوخ) لسرعة إجابة دعوتهم (و) معه (مميز الصبيان) لأنه لا ذنب لهم، فدعاؤهم مستجاب. وأبيح خروج طفل، وعجوز، وبهيمة؛ لأنهم خلق اللَّه، وعياله، وتوسل بالصالحين (¬5) رجاء الإجابة، واستسقى عمر ¬
بالعباس (¬1)، ومعاوية بيزيد بن الأسود (¬2)، واستسقى به الضحاك بن قيس مرة أخرى (¬3) ذكره الموفق (¬4)، (فيصلي) الإمام بمن حضر ركعتين كالعيد، وتقدم (ثم يخطب) خطبة (واحدة) على المنبر، والناس حوله جلوس، لأنه لم ينقل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غيره (يفتتحها) أي الخطبة (بالتكبير) تسعًا نسقًا (كخطبة عيد) لقول ابن عباس: صنع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالاستسقاء كما صنع بالعيد (¬5) (ويكثر فيها الاستغفار) لقوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (¬6)، (و) يكثر فيها قراءة (الآيات التي فيها الأمر به) أي الاستغفار كقوله تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ. . .} (¬7) الآية، (ويرفع يديه) في دعائه، لقول أنس: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء، فكان يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه (¬8). متفق عليه، (وظهورهما نحو السماء) (¬9) لحديث مسلم، (فيدعو بدعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ومنه: "اللهم) أي يا اللَّه (اسقنا) بوصل الهمزة، ¬
وقطعها (غيثًا) أي مطرًا، ويسمى الكلأ -أيضًا- غيثًا. (مُغيثًا) منقذًا من الشدة، يقال: غاثه وأغاثه (إلى آخره) أي إلى آخر الدعاء (¬1)، وهو: هنيئًا -بالمد- حاصلًا بلا مشقة، مريئًا -بالمد أيضًا- أي سهلًا، نافعًا محمود العاقبة. غدقًا -بفتح الغين المعجمة وكسر الدال المهملة وفتحها- أي كثير الماء واخير، مجللًا أي يعم العباد والبلاد نفعًا، سحًّا، أي: صبًّا، يقال: سح، يسحُّ، إذا ساح من فوق إلى أسفل، وساح يسيح إذا جرى على وجه الأرض (¬2)، عامًّا -بتشديد الميم- أي شاملًا، طبقًا -بالتحريك- أي يطبق البلاد مطره، دائمًا، أي: متصلًا إلى الخصب. اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، أي: الآيسين من الرحمة، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم إنَّ بالعباد والبلاد من اللأواء أي: الشدة، والجَهد -بفتح الجيم وضمها- الطاقة، قاله الجوهري (¬3) وقال ابن منجَّى (¬4): هي المشقة. وعلى قول ابن منجي هو بفتح الجيم لا غير. والضنك: الضيق، أي شدة وضنكًا لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت -بقطع الهمزة- لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا، أي دائمًا (¬5). وفي الباب غيره. ¬
ويكثر في الخطبة من الدعاء، ومن الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، إعانة على الإجابة. وعن عمر: الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). رواه الترمذي. وعن علي -رضي اللَّه عنه-: ما من دعاء إلا بينه ويين السماء حجاب، حتى يصلي على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا صلى على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- انخرق الحجاب، واستجيب الدعاء، وإذا لم يصلِّ على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يستجب الدعاء (¬2). ويؤمِّن مأموم على دعاء إمامه كالقنوت، ويستقبل إمامٌ القبلة ندبًا في أثناء الخطبة؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- حوَّل إلى الناس ظهره، واستقبل القبلة يدعو، ثم حوَّل رداءه (¬3). متفق عليه، فيقول سرًّا: اللهم إنك أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا، فاستجب لنا كما وعدتنا. قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬4)، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (¬5) ثم يحول رداءه، فيجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن. نصًّا (¬6)، لفعله عليه الصلاة والسلام (¬7). رواه أحمد، وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وكذا الناس يحولون أرديتهم، ويتركونها، حتى ينزعوها مع ثيابهم، لأنه لم ينقل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن أصحابه، أنهم غيروا الأردية، حتى عادوا، فإن سقوا في أول مرة، وإلا عادوا ثانيًا، وثالثًا؛ لأنه أبلغ في التضرع، ¬
ولحديث: "إن اللَّه يحب الملحِّين في الدعاء" (¬1). وإن سقوا قبل خروجهم، فإن تأهبوا للخروج، خرجوا، وصلوها شكرًا للَّه تعالى، وسألوه المزيد من فضله، وإلا لم يخرجوا، وشكروا اللَّه تعالى، وسألوه المزيد من فضله. وسن وقوف في أول مطر، وتوضؤ، واغتسال منه، وإخراج رحله وثيابه ليصيبها المطر، لحديث أنس: "أصابنا ونحن مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مطر، فحسر ثوبه، حتى أصابه من المطر، فقلنا: لمَ صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربه" (¬2). رواه مسلم. (وإن كُثر المطر حتى خيف) منه (سُنَّ قول: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظِّراب والآكام وبطون الأودية ومنايت الشجر") لما في "الصحيح" (¬3) أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقوله. ولا يصلى له، والآكام كآصال، جمع: أكم، ككتب، واحدها أكمة، وهي ما علا من الأرض، ولم يبلغ أن يكون جبلًا، وكان أكثر ارتفاعًا مما حوله (¬4) والظراب جمع ظرب -بكسر الراء- أي الرابية الصغيرة (¬5)، وبطون الأودية: الأماكن المنخفضة، ومنابت الشجر: أصولها، لأنه أنفع لها ({رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ. . .} (¬6) الآية)، ¬
لأنه يناسب الحال، أي لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق. وسن لمن مُطر قول: مُطرنا بفضل اللَّه ورحمته. لأنه اعتراف بنعمة اللَّه، ويحرم قول: مُطرنا بنوء كذا، لأنه كفر بنعمة اللَّه، كما يدل عليه خبر "الصحيحين" (¬1) ويباح: في نوء كذا. لأنه لا يقتضي الإضافة للنوء. ومن رأى سحابًا، أو هبت ريح، سأل اللَّه خيره، وتعوذ من شره، ولا سأل سائل ولا تعوذ متعوذ بمثل المعوذتين، ولا يَسبُّ الريح العاصف. وإذا سمع الرعد قال: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته. ولا يتبع بصره للبرق، للنهي عنه (¬2)، ويقول إذا انقضَّ كوكب: ما شاء اللَّه لا قوة إلا باللَّه، وإذا سمع نهيق حمار، ونباح كلب استعاذ باللَّه من الشيطان الرجيم، وإذا سمع صياح الديك سأل اللَّه من فضله، وقوس قزح أمان لأهل الأرض من الغرق، كما في الأثر (¬3) وهو من آيات اللَّه تعالى، ودعوى العامة إذا غلبت حمرته كانت الفتن، وإن غلبت خضرته كان رخاء وسرورًا، هذيان، قاله ابن حامد في "أصوله" انتهى (¬4). ¬
كتاب الجنائز
كتاب الجنائز بفتح الجيم، جمع جنازة بكسرها، والفتح لغةٌ، اسم للميت أو النعش عليه الميت، فإن لم يكن عليه ميت فلا يقال نعش ولا جنازة، بل سرير (¬1)، مشتقة من جنز إذا ستر (¬2). (ترك الدواء أفضل) من التداوي، نصًّا (¬3)، لأنه أقرب إلى التوكل، ولخبر الصديق (¬4) وحديث: "إن اللَّه أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بالحرام" (¬5)، فالأمر فيه للإرشاد. ويكره أن يستطب مسلم ذميًّا بلا ضرورة، وأن يأخذ منه دواء لم ييين مفرداته المباحة. (وسُنَّ استعداد للموت) بالتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم، والزيادة من العمل الصالح (وإكثار من ذكره)، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات" (¬6) رواه البخاري، وهو بالذال المعجمة أي الموت، فيلاحظ ¬
الخوف من اللَّه والعرض عليه والسؤال، والحساب وغير ذلك مما يزهده في الدنيا ويرغبه في الآخرة. (و) سن (عيادة) مريض (مسلم) وتحرم عيادة ذمي، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنازة" (¬1) متفق عليه (غير مبتدع) يجب هجره كرافضي، قال في "النوادر" (¬2): تحرم عيادته، أو يسن هجره كمجاهر بمعصية، فلا تسن عيادته إذا مرض ليرتدع ويتوب، وعلم منه: أن غير المجاهر بمعصية يعاد، والمرأة كرجل مع أمن الفتنة، وتشرع العيادة في كل مرض حتى الرمد ونحوه. وحديث: "ثلاثة لا يعادون" (¬3) غير ثابت، فتسن غبًّا (¬4)، قال في ¬
"الفروع" (¬1): ويتوجه اختلافه باختلاف الناس، والعمل بالقرائن، وظاهر الحال. وتكون العيادة من أول المرض بكرة، وعشيًا، للخبر (¬2)، قال أحمد عن قرب وسط النهار: ليس هذا وقت عيادة. وتكون في رمضان ليلًا، نصًا (¬3)، لأنه أرفق بالعائد. (و) سن لعائد تذكيره -أي المريض- مخوفًا كان مرضه، أم لا (التوبة) لأنه أحوج إليها من غيره. وهي واجبة على كل أحد من كل ذنب وفي كل وقت (و) تذكيره (الوصية) لحديث ابن عمر مرفوعًا: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" (¬4). متفق عليه، ويدعو له عائد بالعافية والصلاح، وبما ورد: "أسأل اللَّه العظيم، رب العرش العظيم أن يشفيك". سبعًا، للخبر (¬5)، وأن يقرأ عنده فاتحة الكتاب، والإخلاص، والمعوذتين، ولا بأس طهور إن شاء اللَّه، وصح أن جبريل عليه السلام عاده -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "بسم اللَّه أَرقيك من كل شيء يُؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد اللَّه يشفيك باسمه أرقيك" (¬6). ¬
ويسن أن لا يطيل الجلوس عنده، لإضجاره، ولا بأس بوضع يده عليه، لخبر الصحيحين كان يعود بعض أهله، ويمسح بيده اليمنى، ويقول: "اللهم رب الناس أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سَقمًا" (¬1). ولا بأس بإخبار مريض بما يجد، بلا شكوى، لحديث: "إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك" (¬2)، وقوله تعالى حكاية عن موسى: {مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (¬3)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في مرضه: "أجدني مغمومًا، أجدني مكروبًا" (¬4). ولا بأس بشكواه لخالقه. وينبغي للمريض أن يحسن ظنه باللَّه تعالى، لخبر الصحيحين، عن أبي هريرة مرفوعًا: "أنا عند ظن عبدي بي" (¬5) زاد أحمد "إن ظن بي خيرًا فله، وإن ظن بي شرًا فله" (¬6)، وعن أبي موسى مرفوعًا: "من أحب لقاء اللَّه أحب اللَّه لقاءه، ومن كره لقاء اللَّه كره اللَّه لقاءه" (¬7). ¬
وفي "النصيحة" (¬1): يُغلِّب الخوف، لحمله على العمل. ونصه: وينبغي للمؤمن أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا، زاد في رواية: فأيهما غلب صاحبه هلك (¬2). ويكره الأنين، ما لم يغلب، وتمني الموت لضر نزل به، لحديث: "لا يتمنى أحدكم الموت من ضُرٍّ أصابه، فإن كان لابد فاعلًا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي" (¬3). متفق عليه، ولا يكره "وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون" (¬4)، ¬
ولا تمني الشهادة (فإذا نُزل به) بالبناء للمفعول أي المريض (سُن تعاهد) أرفق أهله به، وأتقاهم للَّه تعالى (بلِّ حلقه) أي المريض (بماء، أو شراب، و) تعاهد (تنديَةِ شفتيه) بقطنة، لإطفاء ما نزل به من الشدة، وتسهيل النطق عليه بالشهادة. (و) سن (تلقينه) أي المنزول به لا إله إلا اللَّه، لحديث أبي سعيد مرفوعًا: "لقنوا موتاكم لا إله إلا اللَّه" (¬1)، وأطلق على المحتضر ميت لأنه واقع به لا محالة، وعن معاذ مرفوعًا: "من كان آخر كلامه لا إله إلا اللَّه دخل الجنة" (¬2) رواه أحمد وصححه الحاكم، واقتصر عليها لأن إقراره بها إقرار بالأخرى (مرة) نصًّا (¬3)، واختار الأكثر ثلاثًا (¬4)، (ولا يزاد على ثلاث إلا أن يتكلم) بعد الثلاث (فيعاد برفق) لأنه مطلوب في كل شيء، وهذا أولى به. (و) سن (قراءة الفاتحة و) قراءة (يس عنده) لحديث: "اقرأوا على موتاكم يس" (¬5) رواه أبو داود وصححه ابن حبان، ولأنه يسهل خروج الروح. (و) سن (توجيهه إلى القبلة) على جنبه الأيمن، لحديث أبي قتادة (¬6). ¬
أخرجه الحاكم، والبيهقي، وصححه الحاكم. وروي أن حذيفة أمر أصحابه عند موته أن يوجهوه (¬1)، وروي عن فاطمة (¬2)، مع سعة المكان، وإلا فعلى ظهره، وأخمصاه إلى القبلة، كوضعه على المغتسل، زاد بعضهم (¬3): ويرفع رأسه قليلًا، ليصير وجهه إلى القبلة. وسن للمريض أن يعتمد على اللَّه تعالى فيمن يحب من بنيه وغيرهم، ويوصي بقضاء دينه، وتؤقة وصيته، ونحو غسله، والصلاة عليه، وعلى غير بالغ رشيد من أولاده، للأرجح في نظره، من قريب، أو أجنبي، لأنه للمصلحة (وإذا مات) سن (تغميض عينيه) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أغمض أبا سلمة وقال: "إن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون" (¬4) رواه مسلم. وعن شداد مرفوعًا: "إذا حضرتم الميت فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرًا، فإنه يؤمَّن على ما قال أهل الميت" (¬5) رواه أحمد. ولئلا يقبح منظره ويساء به الظن. قال شيخنا -أيده اللَّه تعالى-: ويكون تغميض عينيه بجذب إبهامي رجليه، لأنهما لا ينفتحان بعد ذلك. ويكره تغميضه من حائض وجنب، أو يقرباه، لحديث: "لا تدخل الملائكة ¬
بيتًا فيه جنب" (¬1). وسن عند تغميضه قول: بسم اللَّه وعلى ملة رسول اللَّه، نصًّا (¬2)، لما روى البيهقي عن بكر بن عبد اللَّه المزني، ولفظه: "وعلى ملة رسول اللَّه" (¬3). (و) سن (شد لحييه) بعصابة ونحوها، تجمع لحييه، ويربطها فوق رأسه، لئلا يبقى وجهه مفتوحًا، فتدخله الهوام، ويشوه خَلقه. (و) سن (تليين مفاصله) برد ذراعيه إلى عضديه ثم ردهما، ورد أصابع يديه إلى كفيه ثم يبسطهما، ويرد فخذيه إلى بطنه وساقيه إلى فخذيه ثم يمدهما لسهولة الغسل لبقاء الحرارة في البدن عقب الموت، ولا يمكن تليينها بعد برودته. (و) سن (خلع ثيابه) لئلا يحمى جسده فيسرع إليه الفساد، وربما خرج منه شيء فلوثها. (و) سن (سترُه) -أي الميت- (بثوب) لحديث عائشة "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين توفي سُجي بثوب حبرة (¬4) " (¬5) احترامًا له، وصونًا عن الهوام، وينبغي أن يجعل أحد طرفيه تحت رأسه، والآخر تحت رجليه، لئلا ينكشف. ¬
(و) سن (وضع حديدة) كسيف، وسكين، أو شيء صقيل، كمرآة (أو نحوها) كقطعة طين (على بطنه) (¬1) لما روى البيهقي: أنه مات مولى لأنس عند مغيب الشمس، فقال أنس: ضعوا على بطنه حديدة (¬2). ولئلا ينتفخ بطنه. وقدَّر بعضهم (¬3) وزنه بنحو عشرين درهمًا، ويصان عنه مصحف، وكتب فقه، وحديث. (و) سن (جعله على سرير غسله) بعدًا له عن الهوام (متوجهًا) إلى القبلة (منحدرًا نحو رجليه) فيكون رأسه أعلى، لينصب عنه ما غسله، وما يخرج منه. (و) سن (إسراع تجهيزه) لحديث: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله" (¬4) رواه أبو داود، إن مات غير فجأة، فإن مات بها، أو شك في موته، انتظر، حتى يعلم موته بيقين، قال أحمد: من غدوة إلى الليل (¬5). ¬
وقال القاضي: يترك يومين أو ثلاثة ما لم يخف فساده (¬1). ويتيقن موته بانخساف صدغيه، وميل أنفه، وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه. ولا بأس بتقبيل الميت، والنظر إليه، ولو بعد تكفينه، نصًّا (¬2)، لحديث عائشة: رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقبِّل عثمان بن مظعون وهو ميت، حتى رأيت الدموع تسيل (¬3) صححه في "الشرح" (¬4). (ويجب) الإسراع (في نحو تفريق وصيته) والصحيح: يسن كما مشى عليه في "الإقناع" (¬5) و"المنتهى" (¬6) (و) يجب الإسراع إلى (قضاء دينه) وما فيه إبراء ذمته، من إخراج كفارة، وحج، ونذر، وغير ذلك، لما روى الشافعي، وأحمد، والترمذي وحسنه، عن أبي هريرة مرفوعًا: "نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يُقضى عنه" (¬7) بخلاف الوصية، فلا يجب المبادرة إلى إخراجها لقول علي: قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالدَّين قبل الوصية (¬8). وأما ¬
تقديمها في الآية، فلأنها لما أشبهت الميراث في كونها بلا عوض، كان في إخراجها مشقة على الوراث، فقدمت حثًا على إخراجها، كل ذلك قبل الصلاة عليه، فإن تعذر إيفاء دينه في الحال، لغيبة المال، ونحوه، استحب لوارث، أو غيره، أن يتكفل به عنه لربه. ¬
فصل في غسل الميت
فصل في غسل الميت غسله مرة، أو تيمم لعذر، فرض كفاية (وإذا أخذ) أي شرع (في غسله) أي الميت (ستر عورته) وجوبًا، لحديث علي "لا تبرز فخذك، ولا تنظر لفخذ حي ولا ميت" (¬1). رواه أبو داود، وهذا في من له سبع سنين فأكثر، لأن عورة ابن سبع إلى عشر الفرجان ومن فوقه، وبنت سبع فأكثر ما بين سرة وركبة، كما تقدم (¬2). وسن تجريده للغسل، لأنه أمكن في تغسيله، وأصون له من التنجيس، ولفعل الصحابة، بدليل قولهم: أنجرد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كما نجرد موتانا، أم لا؟ وأما النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فغسلوه وعليه قميص، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكون بالقميص دون أيديهم، لمكلِّم كَلَّمهُم من ناحية البيت، لا يدرون من هو، بعد أن أوقع اللَّه سبحانه عليهم النوم (¬3). رواه أحمد، وأبو داود، ولطهارة فضلاته -صلى اللَّه عليه وسلم-. (وسُنّ ستر) جسده (كله عن العيون) تحت سترة، في خيمة، أو بيت إن أمكن، لأنه أستر، ولئلا يستقبل بعورته السماء. (وكُره حضور غير مُعين) في غسله، لأنه ربما كان بالميت ما يكره أن يطلع عليه، والحاجة غير داعية إلى حضوره، واستثنى بعضُهُم: وليه (¬4). ¬
وكره تغطية وجهه نصًّا (¬1) وفاقًا (ثم نوى وسمَّى) غاسل عن ميت لتعذر النية منه (وهما) أي النية والتسمية (كفي غسل حي) فالنية شرط لا يصح الغسك إلا بها، وأما التسمية فتجب مع الذكر، وتسقط مع السهو، لما تقدم في غسل الحي (¬2) (ثم يرفع) غاسل (رأس غير حامل إلى قرب جلوس، ويعصر بطنه) ليخرج المستعد للخروج (برفق) لأن الميت في محل الشفقة والرحمة (ويكثر) صب (الماء حينئذ) ليدفع ما يخرج بالعصر، وأما الحامل فلا يعصر بطنها، لئلا يتأذى الولد، ولحديث أم سليم مرفوعًا: "إذا توفيت المرأة، فأرادوا غسلها، فليبدأ ببطنها فلتمسح مسحًا رفيقًا إن لم تكن حبلى، وإن كانت حبلى فلا تحركها" (¬3) رواه الخلال، ويكون ثمَّ بخور، دفعًا للتأذي برائحة الخارج مع الماء (ثم يلف) الغاسل (على يده خرقة فينجِّيه) أي الميت (بها) أي الخرقة كما تسن بداءة حي بالحَجَر ونحوه، قبل الاستنجاء بالماء، ويجب غسل نجاسة بالميت، لأن المقصود بغسله تطهيره حسب الإمكان. (وحرم مس عورة من له سبع) سنين، لأن اللمس أعظم من النظر، وكحال الحياة، وروي أن عليًّا حين غسل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لف على يده خرقة حين غسل فرجه. ذكره المروذي (¬4) عن أحمد (¬5). وسن أن لا يمس سائر جسده إلا بخرقة، فحينئذ يُعد الغاسل ¬
خرقتين: إحداهما للسبيلين، والأخرى لبقية البدن (ثم يدخل) الغاسل بعد غسل كفي الميت، نصًّا (¬1) (إصبعيه) الإبهام والسيابة (وعليهما خرقة مبلولة في فمه، فيمسح أسنانه و) يدخلهما (في منخريه فينظفهما) بها، فيقوم مقام المضمضة والاستنشاق، لحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2)، (بلا إدخال ماء) في فمه وأنفه، خشية تحريك النجاسة، بدخول الماء إلى جوفه (ثم يوضِّئه) وضوءًا كاملًا، استحبابًا، لحديث أم عطية مرفوعًا في غسل ابنته -صلى اللَّه عليه وسلم-"ابدأن بميامنها وموضع الوضوء منها" (¬3) رواه الجماعة. (ويغسل رأسه ولحيته برغوة السدر) لأن الرأس أشرف الأعضاء، ولهذا جعل كشفه شعار الإحرام، وهو مجمع الحواس الشريفة، والرغوة تزيل الدرن، ولا تتعلق بالشعر، فناسب أن تغسل بها اللحية (و) يغسل (بدنه بثفله) (¬4) أي السدر (ثم يفيض عليه الماء) ليعمه الغسل. (وسُنّ تثليث) أي تكريوه ثلاثًا، كغسل الحي، إلا الوضوء، فلا يثلثه. (و) سن (تيامن) لحديث: "ابدأن بميامنها" (¬5) وكغسل الحي، فيبدأ بصفحة عنقه، ثم إلى الكتف، ثم إلى الرجل، ويقلبه على جنبه، مع غسل ¬
شقه، فيرفع جانبه الأيمن، ويغسل ظهره ووركه، ويغسل جانبه الأيسر كذلك، ولا يكبه على وجهه. (و) سن (إمرار يده كل مرة) من الثلاث (على بطنه) أي الميت، برفق، ليخرج ما تخلف، فلا يفسد الغسل بعدُ به (فإن لم ينق) التثليث (زاد حتى ينقى) ولو جاوز السبع (وكره اقتصار) في غسل ميت (على مرة) واحدة، لأنه لا يحصل بها كمال النظافة، إن لم يخرج من الميت شيء بعد المرة، فإن خرج شيء بعدها، حرم الاقتصار عليها، ما دام يخرج إلى السَّبْع. ولا يجب مباشرة الغسل كالحي، فلو ترك تحت ميزاب ماء ونحوه، وحضر من يصلح لغسله، ونوى، وسمى، ومضى زمن يمكن غسله فيه، بحيث يغلب على الظن أن الماء عمه، كفى. (و) كره غسله بـ (ماء حار) إن لم يحتج إليه، لشدة برد، لأنه يرخي البدن، فيسرع الفساد إليه، والبارد يصلبه، ويبعده عن الفساد. (و) كره (خلال) إن لم يحتج إليه لشيء بين أسنانه، لأنه عبث. (و) كره (أُشنان بلا حاجة) ولا يكره بها، ككثرة وسخ. (و) كره (تسريح شعره) أي الميت، رأسًا كان، أو لحية، نصًّا (¬1)، لأنه يقطعه من غير حاجة إليه، وعن عائشة: أنها مرت بقوم يسرحون شعر ميت، فنهتهم عن ذلك، وقالت: علام تنصون (¬2) ميتكم (¬3). وسن أن يضفَّر (¬4) شعر أنثى ثلاثة قرون، وأن يسدل من ورائها، نصًّا (¬5)، لقول أم عطية: فضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناه ¬
خلفها (¬1). رواه البخاري. (وسن) جعل (كافور وسدر في) الغسلة (الأخيرة) نصًّا (¬2)، لأن الكافور يصلب الجسد، ويبرده، ويطرد عنه الهوام برائحته. (و) سن (خضاب شعر) أي رأس المرأة، ولحية الرجل (وقص شارب، وتقليم أظفار إن طالا) أي الشارب والأظفار، وأخذ شعر إبطه، نصًّا (¬3)، لأنه تنظيف لا يتعلق بقطع عضو أشبه إزالة الوسخ والدرن، ويجعل المأخوذ من شعر وظفر معه في كفنه، بعد إعادة غسله ندبًا، كعضو ساقط، لما روى أحمد، في "مسائل صالح" عن أم عطية قالت: يغسل رأس الميتة فما سقط من شعرها في أيديهم غسلوه ثم ردوه في رأسها (¬4)، ولأنه يستحب دفن ذلك من الحي فالميت أولى، وتلفق أعضاؤه إن قطعت بالتقميط (¬5) والطين الحر (¬6) حتى لا يتبين تشويهه. وحرم حلق شعر رأس ميت، لأنه إنما يكون لنسك أو زينة، والميت ليس محلًا لها، كأخذ شعر عانة، وختن لميت أقلف. (و) سن (تنشيف) ميت بثوب، كما فعل به عليه الصلاة والسلام (¬7)، ولئلا يبتل كفنه فيفسد به، ولا ينجس ما نشف به (ويُجنَّب محرم مات ما يُجنب في حياته) من تغطية رأس، ومس طيب، وغير ذلك (وسقط) ¬
بتثليث السين (¬1) (لأربعة أشهر) فأكثر (كمولود حيًّا) يغسل، ويصلى عليه، نصًّا (¬2)، لحديث المغيرة بن شعبة مرفوعًا: "والسقط يصلى عليه" (¬3) رواه أبو داود والترمذي. (وإذا تعذر غسل ميت يمم) كأن يعدم الماء، أو يموت رجل بين نساء لا يباح لهن غسله، كأن لم يكن فيهن زوجة، ولا أمة له، أو عكسه، بأن ماتت امرأة بين رجال ليس فيهم زوجها ولا سيدها، لما روى تمام (¬4) في "فوائده" (¬5) عن واثلة مرفوعًا: "إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس بينها وبينهم محرم تيمم كما ييمم الرجال" ولأنه لا يحصل بالغسل من غير مس تنظف، ولا إزالة نجاسة، بل ربما كثرت. وحرم أن ييمم ميت بدون حائل على غير محرم، فيلف على يده خرقة عليها تراب، فييممه بها. ولا يغسل مسلم كافرًا، للنهي عن موالاة ¬
تتمة
الكافر (¬1)، ولا يكفنه ولا يصلي عليه، بل يوارى لعدم من يواريه من الكفار، كما فُعل بكفار بدر، واروهم بالقليب (¬2)، ولا فرق بين الحربي والذمي والمرتد في ذلك، وكذا كل صاحب بدعة مكفرة. تتمة: شهيد المعركة، وهو من مات بسبب قتال كفار، وقت قيام القتال، لا يغسل، لقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} (¬3) والحي لا يغسل. وقال -صلى اللَّه عليه وسلم- في قتلى أحد: "لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكًا يوم القيامة" ولم يصل عليهم. رواه أحمد (¬4)، وهذه العلة توجد في غيرهم، فلا يقال إنه خاص بهم، وسمي شهيدًا لأنه حي، أو لأن اللَّه وملائكته يشهدون له بالجنة، أو لقيامه بشهادة الحق حتى قتل، أو غير ذلك. وكذا مقتول ظلمًا كمن قتله نحو لص، أو أريد منه الكفر فقتل دونه، أو أريد على نفسه، أو ماله، أو حرمه، فقاتل دون ذلك، فقتل، لحديث سعيد بن زيد مرفوعًا: "من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد" (¬5) رواه أبو داود، والترمذي وصححه. ولأنهم مقتولون بغير حق، ¬
تنبيه
أشبهوا قتلى الكفار، ولا يغسلون، بخلاف المطعون المبطون، والغريق، ونحوهم. ويغسل شهيد المعركة، والمقتول ظلمًا، مع وجوب غسل عليهما قبل الموت، لأن الغسل وجب لغير الموت، فلم يسقط به، كغسل النجاسة، وكذا إن حُمِل فأكل، أو شرب، أو بال، أو تكلم، أو عطس، أو طال بقاؤه عرفًا، فهو كغيره، يغسل، ويصلى عليه، لأن ذلك لا يكون إلا من ذي حياة مستقرة، والأصل وجوب الغسل والصلاة. ويجب بقاء دم الشهيد، والمقتول ظلمًا عليهما، لأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- بدفن شهداء أُحد بدمائهم (¬1) إلا أن تخالطه نجاسة، فيغسلا، ويجب دفنه في ثيابه التي قتل فيها، فلا يزاد ولا ينقص، وإن لم يحصل المسنون بعد نزع لامة حرب ونحو فرو وخف، نصًّا (¬2)، لحديث ابن عباس مرفوعًا: "أمر بقتلى أُحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم (¬3) رواه أبو داود وابن ماجه، فإن سلب ثيابه كفن في غيرها. تنبيه: والأفضل أن يختار للغسل ثقة، عارف بأحكام الغسل، والأولى به وصيُّه العدل، لأن أبا بكر أوصى أن تغسله امرأته أسماء (¬4). وأنس أوصى ¬
أن يغسله محمد بن سيرين (¬1)، ثم أبوه، ثم جده، ثم الأقرب فالأقرب نسبًا، ثم ولاء، ثم ذووا الأرحام كالميراث، ثم الأجانب، والأولى بغسل أنثى، وصيتها، فأمها، وإن علت، فبنتها وإن نزلت، ثم الأقرب فالأقرب، كميراث، وعمة، وخالة، وبنت أخ وأخت سواء، لاستوائهما في القرب، ولزوجٍ، وسيد: غسل زوجة، وأمة، وأم ولد، ولو مزوجته، وبالعكس، وإذا مات رجل فالأجنبي أولى بغسله من زوجته، أو ماتت امرأة فالأجنبية أولى بغسلها من زوجها، للاختلاف فيه (¬2)، وإذا ماتت أمة مزوجه، فزوجها أولى بغسلها من سيدها، أو مات رجل له زوجة، وأم ولد، فزوجته أولى بغسله من أم ولده، وليس لآثم بقتل حق في غسل مقتوله، ولا لرجل غسل ابنة سبع سنين فأكثر، ولا لامرأة غسل ابن سبع فأكثر كذلك، ولهما غسل من دون ذلك. ¬
تكفين الميت
تكفين الميت (وسُنّ تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض) من قطن، لحديث عائشة: قالت: كفِّن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في ثلاثة أثواب بيض سحولية (¬1)، جدد يمانية، ليس فيها قميص ولا عمامة أدرج فيه إدراجًا. متفق عليه زاد مسلم في رواية: "وأما الحلة فاشتبه على الناس فيها أنها اشتريت ليكفن فيها، فتركت الحلة، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية (¬2) (بعد تبخيرها) بعود ونحوه، بعد رشها بنحو ماء ورد، لتعلق رائحة البخور بها، إن لم يكن الميت محرمًا. وكره تكفين رجل في أكثر من ثلاثة أثواب بيض، لأنه وضع للمال في غير وجهه، وكره تعميمه لحديث عائشة (¬3)، وتبسط اللفائف على بعضها واحدة فوق أخرى، ليوضع الميت عليها مرة واحدة (ويجعل الحنوط) وهو أخلاط من طيب، ولا يقال في غير طيب الميت (¬4) (فيما بينها) أي يذر بين اللفائف (و) يجعل (منه) أي الحنوط (بقطن بين أليتيه) أي الميت، وتشد فوقه خرقة مشقوقة الطرف، كالتُبَّان (¬5) تجمع أليتيه ومثانته، لرد الخارج، وإخفاء ما ظهر من الروائح (و) يجعل (الباقي) من قطن محنط (على منافذ وجهه) كعينه، وفمه، وأنفه، وعلى أذنيه (و) يجعل منه على (مواضع سجوده) ¬
جبهته، ويديه، وركبتيه، وأطراف قدميه، تشريفًا لها، وكذا مغابنه، كطي ركبتيه، وتحت إبطيه وسرته، لأن ابن عمر كان يتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك (¬1). (ثم يرد طرف) اللفافة (العليا من الجانب الأيسر) للميت (على شقه الأيمن ثم) يرد طرفها (الأيمن، على) شق الميت (الأيسر) كعادة الحي (ثم) ترد اللفافة (الثانية) كذلك (والثالثة كذلك) فيدرجه فيه إدراجًا (ويجعل أكثر الفاضل) من اللفائف على الميت (عند رأسه) لشرفه عن الرجلين، ثم يعقدها لئلا تنتشر، وتحلَّ العقد في القبر، قال ابن مسعود: إذا أدخلتم الميت اللحد فحلوا العقد، رواه الأثرم (¬2)، ولأمن انتشارها. ولا يكره تكفين الرجل في قميص ومئزر ولفافة، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ألبس عبد اللَّه بن أُبي قميصه لما مات (¬3). رواه البخاري. وعن عمرو بن العاص: أن الميت يؤزر، ويقمص، ويلف بالثالثة (¬4). والسنة إذًا أن يجعل المئزر مما يلي جسده، ثم يلبس القميص، ثم يلف كما يلف الحي. والكفن الجديد أفضل، وكره تكفين برقيق، ولا يجزئ ما يصف البشرة. وكره تكفين بشعر وصوف، لأنه خلاف فعل السلف. وكره كفن مزعفر، ومعصفر، ولو لامرأة، لأنه لا يليق بالحال. وحرم بجلد، لأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- بنزع الجلود عن الشهداء (¬5). ¬
وجاز تكفين ذكر وأنثى بحرير، ومذهب، ومفضض؛ لضرورة. (وسن لامرأة) وخنثى بالغين (خمسة أثواب) من قطن تكفن فيها (إزار، وخمار، وقميص، ولفافتان)، قال ابن المنذر (¬1): أكثر من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن تكفين المرأة في خمسة أثواب. وسن لصبي ثوب واحد، لأنه دون الرجل، ويباح في ثلاثة، ما لم يرثه غير مكلف. (و) سن لـ (صغيرة قميص، ولفافتان) بلا خمار، نصًّا (¬2). ولا بأس باستعداد الكفن لحل، أو عبادة فيه، قيل لأحمد: يصلي أو يحرم فيه، ثم يغسله ويضعه لكفنه. فرآه حسنًا. ويحرم دفن حلي، وثياب مع ميت، غير كفنه، لأنه إضاعة للمال. (والواجب) لحق اللَّه تعالى، ولحق الميت (ثوب) واحد، لا يصف البشرة (يستر جميع الميت) لظاهر الأخبار (¬3)، من ملبوس مثله في الجمع والأعياد، لأنه لا إجحاف فيه على الميت، ولا على ورثته، ما لم يوص بدونه. ويكره أن يكفن في أعلى من ملبوس مثله، ولو أوصى به، لأنه إضاعة للمال. ¬
فصل في الصلاة على الميت
فصل في الصلاة على الميت وهي فرض كفاية، لأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- بها في غير حديث، كقوله: "صلوا على أطفالكم فإنهم أفراطكم" (¬1). وقوله في الغالِّ: "صلوا على صاحبكم" (¬2)، وقوله: "إن صاحبكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه" (¬3)، وقوله: "صلوا على من قال: لا إله إلا اللَّه" (¬4) والأمر للوجوب، فإن لم يعلم به إلا واحد تعين عليه، وعلم منه: أنه لا يصلى على شهيد معركة، ومقتول ظلمًا في حال لا يغسلان فيها. (وتسقط الصلاة عليه) أي الميت (بـ) صلاة (مكلف) ذكرًا كان أو خنثى أو أنثى حُرًّا أو عبدًا، أو مبعضًا، كغسله، وتكفينه، ودفنه، وظاهره: لا تسقط بمميز، لأنه ليس من أهل الوجوب، وقدم في "المحرر" تسقط، كما لو غسله. (وتسن) الصلاة عليه (جماعة) كفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه (¬5)، واستمر ¬
الناس عليه، إلا على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم يصلوا عليه بإمام، احترامًا له، قال ابن عباس: دخل الناس على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أرسالًا يصلون عليه، حتى إذا فرغوا، أدخلوا النساء حتى إذا فرغوا أدخلوا الصبيان، ولم يؤم الناسَ على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحد (¬1). رواه ابن ماجه، وفي البزار والطبراني (¬2): أن ذلك كان بوصية منه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ويسن أن لا تنقص الصفوف عن ثلاثة، لحديث مالك بن هبيرة: كان إذا صلى على ميت جزأ الناس ثلاثة صفوف، ثم قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من صلى عليه ثلاثة صفوف من الناس فقد أوجبت له الجنة" (¬3). رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. فإن كانوا ستة أو أكثر، جعل كل اثنين صفًا، وإن كانوا أربعة جعلهم صفين. ولا تصح صلاة الفذ فيها، والأولى بالصلاة على الميت إمامًا: وصيّه العدل، لأن الصحابة ما زالوا يوصون بها، ويقدمون الوصي، فأوصى أبو بكر أن يصلي عليه عمر (¬4)، وأوصى عمر أن يصلي عليه صهيب (¬5)، وأوصت أم سلمة أن يصلي عليها سعيد بن زيد (¬6)، وأوصى أبو بكرة أن ¬
يصلي عليه أبو برزة (¬1)، ذكره كله أحمد (¬2)، وإن أوصى بها لفاسق لم تصح، فإن لم يكن وصي، فالسلطان، فنائبه، فالأولى بغسل رجل، فزوج بعد ذوي الأرحام، ثم مع تساوٍ الأولى بإمامةٍ، ثم يقرع. وتباح صلاة على ميت في المسجد إن أمن تلويثه، لصلاته -صلى اللَّه عليه وسلم- على سهل بن بيضاء فيه (¬3). رواه مسلم، وجاء أن أبا بكر (¬4) وعمر (¬5) صُلي عليهما في المسجد، فإن خيف تلويث المسجد، بنحو انفجاره، حرم إدخاله إياه، صيانة له عن النجاسة. (و) يسن (قيام إمام و) قيام (منفرد عند صدر رجل) أي ذكر، (ووسط امرأة) أي أنثى، نصًّا (¬6)، وقيامهما بين ذلك من خنثى مشكل، لتساوي الاحتمالين فيه. ويسن أن يلي إمامٌ -إذا اجتمع موتى- من كل نوع أفضل، وكان -صلى اللَّه عليه وسلم- يقدم في القبر من كان أكثر قرآنًا (¬7)، فيقدم حر مكلف، الأفضل فالأفضل، فعبد كذلك، فصبي كذلك، ثم خنثى، ثم امرأة كذلك، فأسن فأسبق، ثم يقرع مع الاستواء في الكل. ¬
وجمع الموتى بصلاة واحدة مع التعدد أفضل، ويجعل وسط أنثى حذاء صدر رجل، وخنثى بينهما، ليقف الإمام أو المنفرد موقفه مع كل واحد منهم (ثم يكبر) مصل (أربعًا) رافعًا يديه مع كل تكبيرة (يقرأ بعد) التكبيرة (الأولى و) بعد (التعوذ) والبسملة (الفاتحة بلا استفتاح) لأن مبناها على التخفيف، ولذلك لم تشرع فيها السورة بعد الفاتحة (ويصلي على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد) التكبيرة (الثانية) كما يصلي عليه في تشهد، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما سئل كيف نصلي عليك؟ علمهم ذلك (¬1) (ويدعو بعد) التكبيرة (الثالثة) مخلصًا، لحديث: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" (¬2) رواه أبو داود، وابن ماجه، وصححه ابن حبان (والأفضل) دعاؤه (بشيء مما ورد، ومنه) أي الوارد: ("اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا) أي حاضرنا (وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا) أي منصرفنا، (ومثوانا) أي مأوانا وأنت على كل شيء قدير، اللهم من أحييته منا فأحْيهِ على الإسلام والسنة، ومن توفيته منا فتوفه عليهما" (¬3) رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي هريرة زاد ابن ماجه: "اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده" (¬4)، وفيه: ابن إسحاق (¬5). قال. . . . ¬
الحاكم (¬1): حديث أبي هريرة صحيح على شرط الشيخين. لكن زاد فيه الموفق (¬2): وأنت على كل شيء قدير. ولفظ السنة: ("اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نُزُلَه) بضم الزاي، وقد تسكن (وأوسع مَدخله) بفتح الميم موضع الدخول، وبضمها الإدخال (واغسله بالماء والثلج والبرد) بالتحريك، المطر المنعقد (ونقِّه من الذنوب والخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره وزوجًا خيرًا من زوجه، وأدخله الجنة، وأجره (¬3) من عذاب القبر وعذاب النار (¬4) ") رواه مسلم (¬5)، من حديث عوف بن مالك أنه سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول ذلك على جنازة، حتى تمنى أن يكون ذلك الميت، وفيه: "وأبدله أهلًا خيرًا من أهله، وأدخله الجنة". زاد الموفق (¬6) لفظ: "من الذنوب"، (وافسَح له في قبره، ونوِّر له فيه) لأنه لائق بالحال، زاد الخِرقي (¬7)، وابن عقيل (¬8)، والمجد (¬9) وغيرهم: "اللهم إنه عبدك، وابن ¬
أمتك نزل بك، وأنت خير منزول به. إن كان الميت رجلًا، فإن كانت امرأة قال: اللهم إنها أمتك، بنت أمتك، نزلت بك، وأنت خير منزول" زاد بعضهم: "ولا نعلم إلا خيرًا". قال ابن عقيل وغيره: ولا يقوله إلا إن علم خيرًا، وإلا أمسك عنه حذرًا من الكذب (¬1). (وإن كان) الميت (صغيرًا أو مجنونًا) واستمر على جنونه حتى مات، (قال) بعد "ومن توفيته منا فتوفه عليهما": ("اللهم اجعله ذُخْرًا لوالديه وفرطًا) أي سابقًا مهيئًا لمصالح أبويه في الآخرة، سواء مات في حياتهما أو بعد موتهما (وأجرًا وشفيعًا مجابًا، اللهم ثقِّل به موازينهما، وعظِّم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقِهِ برحتمك عذاب الجحيم") لحديث المغيرة بن شعبة مرفوعًا: "السقط يصلى عليه، ويُدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" (¬2) وفي لفظ: "بالعافية والرحمة" (¬3) رواهما أحمد، وإنما عدل عن الدعاء له بالمغفرة إلى الدعاء لوالديه بذلك، لأنه شافع غير مشفوع فيه، ولم يجر عليه قلم. وإن لم يعلم مصل إسلام والديه دعا لمواليه، لقيامهم مقامهما في المصاب به، ولا بأس بإشارة بنحو أصبع لميت حال دعائه له، نصًّا، ويؤنث الضمير في حال دعائه لأنثى، فيقول: اللهم اغفر لها وارحمها. . . إلخ. ولا يقول في ظاهر كلامهم: وأبدلها زوجًا خيرًا من زوجها. (ويقف بعد) التكبيرة (الرابعة قليلًا) لحديث زيد بن أرقم مرفوعًا: كان يكبر أربعًا، ثم يقف ما شاء اللَّه، فكنت أحسب هذه الوقفة ليكبر آخر ¬
الصفوف، رواه الجوزجاني (¬1)، ولا يدعو بعد الرابعة لظاهر الخبر (ويسلِّم) تسليمة واحدة عن يمينه، نصًّا (¬2)، لأنه أشبه بالحال، وأكثر ما روي في التسليم، (ويرفع يديه مع كل تكبيرة) نصًّا (¬3)، رواه الشافعي (¬4) عن ابن عمر، وسعيد عن ابن عباس، والأثرم عن عمر، وزيد بن ثابت (¬5). وسن وقوف المصلي على الجنازة حتى ترفع، نصًّا (¬6)، قال مجاهد (¬7): رأيت عبد اللَّه بن عمر لا يبرح من مصلاه حتى يراها على أيدي الرجال (¬8). وروي عن أحمد -أيضًا- أنه صلى ولم يقف (¬9). ¬
وأركان صلاة جنازة ستة: قيام قادر في فرضها، والتكبيرات الأربع، وقراءة الفاتحة، والصلاة على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والدعاء للميت، والسلام. وشرط لها ما شرط لمكتوبة، إلا الوقت، وحضور الميت بين يديه، إلا إذا صلى على غائب عن البلد، إلى شهر من موته بالنية، لأنه لا يعلم بقاؤه بعد ذلك. والثاني: إسلام الميت. والثالث: تطهيره ولو بتراب لعذر. وللمصلي على جنازة قيراط من الأجر، وله بتمام دفنها قيراط آخر، لحديث: "من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان". قيل: وما القيراطان؟ قيل: "مثل الجبلين العظيمين" ولمسلم: "أصغرهما مثل أحد" (¬1). بشرط أن لا يفارقها من الصلاة عليها حتى تدفن لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث آخر: "فكان معها حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها" (¬2). (وسنّ تربيع في حملها) أي يسن أن يحملها أربعة، لقول ابن مسعود: إن اتبع أحدكم جنازة فليأخذ بقوائم السرير الأربع، ثم ليتطوع بعد، أو ليذر (¬3). رواه سعيد. فيضع قائمة السرير اليسرى المقدّمة حال السير لأنها تلي يمين الميت من عند رأسه على كتفه اليمنى، ثم يدعها لغيره، وينتقل إلى قائمة السرير اليسرى المؤخرة فيضعها على كتفه اليمنى -أيضًا- ثم يضع قائمة السرير اليمنى المقدمة على كتفه اليسرى، ثم يدعها لغيره، وينتقل إلى ¬
قائمة السرير اليمنى المؤخرة فيضعها على كتفه اليسرى أيضًا، فيكون البدء من الجانبين بالرأس، والختم منهما بالرجلين، كالغسل. ويقول: بسم اللَّه، وعلى ملة رسول اللَّه، ويذكر اللَّه إذا تناول السرير، نصًّا (¬1). ولا يكره حمل جنازة بين عمودين نصًّا كل واحد على عاتق. نصًّا (¬2)، لما روي أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين (¬3)، وأن سعد بن أبي وقاص حمل جنازة عبد الرحمن بن عوف بين العمودين (¬4). ولا يكره حملٌ بأعمدة للحاجة، كجنازة ابن عمر (¬5)، ولا الحمل على دابة لغرض صحيح، كبعد قبره. ولا يكره حمل طفل على يديه. (و) سن (إسراع) بها أي الجنازة، لحديث: "أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم" (¬6). متفق عليه، ويكون الإسراع دون الخبب، نصًّا (¬7)، لحديث أبي سعيد مرفوعًا: "أنه مر عليه بجنازة تمخض مخضًا، فقال: "عليكم بالقصد في جنائزكم" (¬8) رواه أحمد. ¬
(و) سن (كون ماش) معها (أمامها) لحديث ابن عمر، رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبا بكر وعمر -رضي اللَّه تعالى عنهما- يمشون أمام الجنازة (¬1). رواه أبو داود، والترمذي. وعن أنس، نحوه (¬2)، رواه ابن ماجه، ولأنهم شفعاؤه. (و) سن كون (راكب لحاجة خلفها) لحديث المغيرة بن شعبة مرفوعًا: "الراكب خلف الجنازة" (¬3). رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. (وقُرب) متبع الجنازة (منها) أفضل، لأنها كالإمام، وكره لمتبع جنازة ركوب، لحديث ثوبان قال: خرجنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في جنازة فرأى ناسًا ركبانًا فقال: "ألا تستحيون؟ إن ملائكة اللَّه على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب" (¬4). رواه الترمذي. إلا لحاجة، كمرض، وإلا لعود، فلا يكره، لحديث جابر بن سمرة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تبع جنازة ابن الدحداح ماشيًا، ورجع على فرس (¬5)، قال الترمذي: صحيح. وكره تقدمها إلى موضع الصلاة، لا إلى المقبرة. وكره جلوس من يتبعها حتى توضع بالأرض للدفن، نصًّا (¬6)، ¬
لحديث مسلم، عن أبي سعيد مرفوعًا: "إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع" (¬1). وكره قيام لها إن جاءت، أو مرت به وهو جالس، لحديث علي قال: رأينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قام، فقمنا تبعًا له، وقعد وقعدنا تبعًا له (¬2). يعني في الجنازة. رواه مسلم وغيره. وعن ابن عباس مرفوعًا: "قام ثم قعد" (¬3) رواه النسائي. وكره رفع الصوت معها، ولو بقراءة، أو تهليل، لأنه بدعة، وقول القائل مع الجنازة: استغفروا له، ونحوه بدعة، وروى سعيد أن ابن عمر وسعيد بن جبير قالا لقائل ذلك: لا غفر اللَّه لك (¬4). وكره أن يتبعها امرأة، لحديث أم عطية: نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا (¬5). متفق عليه. أي لم يحتم علينا ترك اتباعها. وحرم أن يتبعها مع منكر، من نحو نوح، ولطم خد، عاجز عن إزالته، لما فيه من الإقرار على المعصية، ويلزم القادر على إزالته أن يزيله ولا يترك اتباعها. ودفن الميت فرض كفاية لقوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} (¬6) قال ابن عباس: أكرمه بدفنه (¬7). وقال: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} (¬8) أي جامعة للأحياء في ظهرها بالمساكن، وللأموات في بطنها ¬
بالقبور (¬1)، والكفت الجمع (¬2)، وهو إكرام للميت، لأنه لو ترك لأنتن، وتأذى الناس بريحه، وقد أرشد اللَّه قابيل إلى دفن أخيه هابيل (¬3)، {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} (¬4). ويسقط دفن وتكفين وحمل بفعل كافر، لأن فاعلها لا يختص أن يكون من أهل القربة، ويقدم بدفن ذكر وأنثى من يقدم بغسله، ونائبه كهو، ويقدم بدفن امرأة، محارمها الرجال، فزوج، فأجانب، لأن النساء يضعفن عن إدخال الميت القبر (¬5). (وكون قبر لحدًا) أفضل من كونه شقًّا -وهو بفتح اللام والضم لغة- أن يحفر في أسفل حائط القبر حفرة تسع الميت، وأصله الميل (¬6). وكون اللحد مما يلي القبلة أفضل، ونصب لبن عليه أفضل من نصب حجارة أو غيرها، لحديث مسلم، عن سعد بن أبي وقاص قال في مرضه الذي مات فيه: ألحدوا لي لحدًا، وأنصبوا علي اللبن نصبًا، كما فُعل برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7). وكره شق بلا عذر، قال أحمد (¬8): لا أحب الشق لحديث: "اللحد لنا ¬
والشق لغيرنا" (¬1) رواه أبو داود وغيره، لكنه ضعيف، والشق أن يحفر وسط القبر كالحوض، ثم يوضع الميت فيه، ويسقف عليه ببلاط أو غيره، أو يبنى جانباه بلبن أو غيره، فإن تعذر اللحد لكون التراب ينهال، ولا يمكن دفعه بنصب لبن ولا حجارة ونحوها، لم يكره الشق. وكره دفن في تابوت ولو امرأة، لأن الأرض أنشف لفضلاته، ولأن التابوت خشب، وتفاؤلًا أن لا يمس الميت نار. وسن أن يعمق قبر، ويوسع بلا حد، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في قتلى أحد: "احفروا، ووسعوا، وأعمقوا" (¬2). قال الترمذي: حسن صحيح. ولأن التعميق أبعد لظهور الرائحة وأمنع للوحش، والتعميق -بالعين المهملة- الزيادة في النزول، ويكفي ما يمنع السباع، والرائحة، لأنه يحصل به المقصود، وسواء الرجل والمرأة. (و) سن (قول مدخل) للميت القبر: (بسم اللَّه، وعلى ملة رسول اللَّه) لحديث ابن عمر مرفوعًا: "إذا وضعتم موتاكم في القبر فقولوا: بسم اللَّه وعلى ملة رسول اللَّه" (¬3) رواه أحمد، وإن قرأ {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} (¬4) أو أتى بذكر أو دعاء لائق عند وضعه وإلحاده، فلا بأس. (و) سن (لحده على شقه الأيمن) لأنه يشبه النائم، وهذه سنته، وأن يجعل تحت رأسه لبنة، فإن لم يوجد فحجر، فإن لم يوجد فقليل من تراب، ¬
لأنه شبه بالمخدة للنائم، ولئلا يميل رأسه، ويزال الكفن عن خده، ويلصق بالأرض، لأنه أبلغ في الاستكانة. قال عمر: إذا أنا مت فأفضوا بخدي إلى الأرض (¬1). ويكره جعل مخدة تحت رأسه، نصًّا (¬2)، لأنه غير لائق بالحال، ولم ينقل عن السلف، ويكره جعل مضرَّبة (¬3) وقطيفة تحته، روي عن ابن عباس أنه كره أن يُلقى تحت الميت في القبر شيء (¬4). ذكره الترمذي. وعن أبي موسى: لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئًا (¬5). والقطيفة التي وضعت تحته -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما وضعها شقران (¬6) ولم يكن عن اتفاق من الصحابة. (ويجب استقباله) أي الميت (القبلة) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الكعبة: "قبلتكم أحياء وأمواتًا" (¬7) ولأنه طريقة المسلمين بنقل الخلف عن السلف، وينبغي أن يدنى من الحائط، لئلا ينكب على وجهه، ويتعاهد خلال اللبن بسده بالمدر ونحوه، ثم يطيَّن فوقه، لئلا ينتخل عليه التراب. وسن حثو التراب عليه ثلاثًا باليد، ثم يهُال عليه التراب، لحديث أبي هريرة قال فيه: "فحثي عليه من قبل رأسه ¬
ثلاثًا" (¬1) رواه ابن ماجه. ولا يجوز أن يوضع الميت على الأرض، ويوضع فوقه حبال (¬2) من تراب، أو يبنى عليه بناء، لأنه ليس بدفن. وسن تلقينه بعد الدفن عند القبر، لحديث أبي أمامة الباهلي قال: "قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب، فليقم على رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يستوي قائمًا، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا يرحمك اللَّه، ولكن لا تسمعون، فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا. شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت باللَّه ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا، وبالقرآن إمامًا. فإن منكرًا ونكيرًا يقولان: ما يقعدنا عنده وقد لُقِّنَ حجته. قال رجل: يا رسول اللَّه فإن لم يعرف اسم أمه؟ قال: فلينسبه إلى حواء" (¬3) رواه أبو بكر عبد العزيز في "الشافي" ويؤيده حديث: "لقنوا موتاكم لا إله إلا اللَّه" (¬4) وظاهره: لا فرق بين الصغير وغيره، بناء على نزول الملكين إليه، ورجحه في "الإقناع" (¬5) وصححه الشيخ تقي الدين (¬6)، وخصه بعضهم بالمكلف (¬7). ¬
وسن الدعاء للميت بعد الدفن عند القبر، نصًّا (¬1)، فعله عليّ (¬2)، والأحنف بن قيس (¬3)، لحديث عثمان: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: "استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل" (¬4). رواه أبو داود. وفعله أحمد جالسًا (¬5)، واستحب الأصحاب وقوفه (¬6). وسن رش القبر بماء، بعد وضع الحصباء عليه، لما روى جعفر بن محمد، عن أبيه، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على قبر ابنه إبراهيم ماء، ووضع علي الحصباء (¬7). رواه الشافعي. وسن رفعه قدر شبر، ليعلم أنه قبر، فيُتوقَّى، ويترحم على صاحبه. (وكره بلا حاجة جلوس تابعها) أي الجنازة (قبل وضعها) على الأرض للدفن، كما تقدم (¬8). (و) كره (تجصيص قبر، وبناء، وكتابة، ومشي وجلوس عليه) أي القبر وكره رفعه فوق شبر، وكره زيادة ترابه، نصًّا (¬9)، لحديث جابر مرفوعًا: نهي أن يُبنى على القبر أو يزاد ¬
عليه (¬1). رواه أبو داود، والنسائي. (و) كره (إدخاله) أي القبر (شيئًا مسته النار) كآجر، وكحل، وخشب، إلا لضرورة. (و) كره (تبسُّمٌ، وحديث بأمر الدنيا عنده) أي: القبر، ووطء عليه، ولو بلا نعل، لحديث جابر مرفوعًا: نهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه (¬2). رواه مسلم والترمذي، وزاد: "وأن يكتب عليه" (¬3) وقال: حسن صحيح. وروي أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى رجلًا قد اتكأ على قبر، فقال: "لا تؤذوا صاحب القبر" (¬4)، ولأن الحديث في أمر الدنيا والتبسم عنده غير لائق بالحال. (وحَرُمَ دفن اثنين فأكثر في قبر) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يدفن كل واحد في قبر، ولا فرق بين المحارم (إلا لضرورة) أو حاجة، ككثرة الموتى بقتل أو غيره، فيجوز دفن اثنين فأكثر بقبر، للعذر. وسن حجز بينهما بتراب، وأن يقدم إلى القبلة من يقدم إلى الإمام، لحديث هشام بن عامر قال: "شكي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كثرة الجراحات يوم أحد، فقال: احفروا وأوسعوا وأحسنوا وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر، وقدِّموا أكثرهم قرآنًا" (¬5) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. ويحرم دفن بمسجد، ونحوه، كمدرسة، لأنه لم يبن له، وينبش من ¬
دفن ويخرج، نصًّا (¬1)، ويحرم دفن في ملك غيره، ما لم يأذن مالك، ويباح نبش قبر حربي، لأن موضع مسجده -صلى اللَّه عليه وسلم- كان قبورًا للمشركين، فأمر بنبشها، وجعلها مسجدًا (¬2)، ولا يباح نبش قبر مسلم مع بقاء رُمَّته (¬3)، إلا لضرورة، كأن دفن في ملك الغير بلا إذنه، والأولى له تركه إذن، وإن كُفن بغصب، نبش وأخذ مع بقائه، ليرد إلى مالكه، إن تعذر غرمه من تركته، وإلا لم ينبش لهتك حرمته، مع إمكان دفع الضرر بدونها. ويجب نبش من دفن بلا غسل أمكن، تداركًا للواجب، ويجوز نبش ميت لغرض صحيح، كتحسين كفنه، لحديث جابر، قال: أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد اللَّه بن أبي بعدما دفن، فاخرجه، فنفث فيه من ريقه وألبسه قميصه (¬4). متفق عليه. ويجوز نبشه، لنقله لبقعة شريفة، ومجاورة صالح، لما في "الموطأ" لمالك: أنه سمع غير واحد يقول: إن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، ماتا بالعقيق، فحملا إلى المدينة، ودفنا بها (¬5)، إلا شهيدًا دفن بمصرعه، فلا يجوز نقله، لحديث جابر مرفوعًا: "ادفنوا القتلى في مصارعهم" (¬6). وإن ماتت حامل بمن ترجى حياته، حرم شق بطنها للحمل، مسلمة كانت أو ذمية، لأنه هتك حرمة متيقنة، لإبقاء حياة متوهمة، إذ الغالب أن ¬
الولد لا يعيش، واحتج أحمد (¬1)، بحديث عائشة مرفوعًا: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي" (¬2) رواه أبو داود، وأخرج النساء من ترجى حياته، فإن تعذر عليهن إخراجه لم تدفن حتى يموت، ولا يوضع عليه ما يموته، وإن خرج بعضه حيًّا شق للباقي، فإن مات قبل إخراجه، أخرج ليغسل ويكفن، ولا يشق بطنها، فإن تعذر إخراجه غسل ما خرج منه، لأنه في حكم السقط، ولا تيمم للباقي، لأنه حمل، وصلي عليه معها، بشرط أن يكون له أربعة أشهر فأكثر. وإن ماتت كافرة حامل بمسلم لم يصل عليها، ودفنها مسلم مفردة إن أمكن، وإلا فمعنا، وتدفن على جنبها الأيسر، مستدبرة القبلة، ليكون الجنين على جنبه الأيمن، مستقبل القبلة. (وأي قُربة فُعلت وجُعل ثوابها لمسلم) لا كافر (حي أو ميت نفعـ) ـتـ (ـه) كالدعاء، والاستغفار، وواجب تدخله النيابة، وصدقة التطوع إجماعًا (¬3)، وكذا العتق، وحج التطوع، والقراءة، والصلاة، والصيام. قال أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير، من صدقة، أو صلاة، أو غيره، للأخبار (¬4). ومنها ما روى أحمد، أن عمر سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "أما أبوك فلو أقر بالتوحيد فصمت أو تصدقت عنه نفعه ذلك" (¬5). وروى أبو جعفر عن الحسنين أنهما كانا يعتقان عن علي بعد موته (¬6)، وأعتقت عائشة عن ¬
أخيها عبد الرحمن بعد موته، ذكره ابن المنذر (¬1). ولا يشترط في الإهداء، ونقل الثواب، نيته به ابتداء، بل يتجه حصول الثواب له قبل ابتداء بالنية له قبل الفعل، وظاهره لا يشترط أن يقول: إن كنت أثبتني على هذا فاجعل ثوابه لفلان، ولا يضر كونه أهدى ما لا يتحقق حصوله، لأنه يظنه ثقة بوعد اللَّه، وحسنًا للظن، ولو صلى فرضًا وأهدى ثوابه لميت، لم يصح في الأشهر، وإهداء القرب مستحب، قال في "الفنون" والمجد: حتى للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). روى البيهقي، عن ابن مسعود، وعائشة، أن "موت الفجاءة راحة للمؤمن، وأخذة آسفٍ للفاجر" (¬3) ورواه مرفوعًا -أيضًا-. (وسن لرجال زيارة قبر مسلم) نصًا (¬4)، ذكرًا كان أو أنثى، لحديث: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الموت" (¬5) وللترمذي: ¬
"فإنها تذكر الآخرة" (¬1)، وهذا التعليل يرجح أن الأمر للاستحباب، وإن كان واردًا بعد الحظر. (و) سن (القراءة عنده) (¬2) أي القبر والذكر (و) فعل (ما يخفف عنه) أي الميت (ولو بجعل جريدة رطبة في القبر) للخبر (¬3)، وأوصى به بريدة، ذكره البخاري (¬4). وسن أن يقف زائر قريبًا منه عرفًا. وتباح زيارة مسلم لقبر كافر، ولا يسلم عليه، ولا يدعو له، بل يقول: أبشر بالنار، وقوله تعالى: {وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (¬5) المراد به عند أكثر المفسرين: الدعاء والاستغفار له (¬6). ¬
وتكره زيارة القبور لنساء؛ لحديث أم عطية: نهينا عن زيارة القبور ولم يعزم علينا (¬1). متفق عليه، فإن علمن أنه يقع منهن محرم حرمت، إلا زيارتهن لقبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقبري صاحبيه -رضوان اللَّه عليهما- فتسن، كرجال لعموم "من حج فزارني" (¬2) ونحوه. ولا يمنع كافر من زيارة قبر قريبه المسلم، كعكسه. (و) سن (قول زائر) لقبر (ومارٍّ به) أو بقبور: ("السلام عليكم دار قوم مؤمنين) أو يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين (وإنا إن شاء اللَّه بكم) لـ (لاحقون، يرحم اللَّه المستقدمين منكم والمستأخرين، نسأل اللَّه لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) (¬3) للأخبار، وقوله: إن شاء اللَّه، للتبرك أو في الموت على الإسلام، أو في الدفن عندهم، ونحوه مما أجيب به، إذ الموت محقق فلا يعلق بأن. ويخير في السلام على حي بين تعريف وتنكير، لصحة النصوص بهما، ¬
وهو سنة عين من منفرد، ومن اثنين فأكثر سنة كفاية، لحديث: "أفشوا السلام" (¬1) وما بمعناه، والأفضل أن يسلموا كلهم، ولا يجب إجماعًا (¬2)، ويكره في الحمام، وعلى من يأكل، أو يقاتل، أو يبول، أو يتغوط، أو يخطب، أو يتلو، أو يذكر، أو يلبي، أو يحدِّث، أو يعظ، أو يستمع لهم، أو يقرر فقهًا، أو يدرس، أو يبحث في العلم، أو يؤذن، أو يقيم، أو يتمتع بأهله، أو يشتغل بالقضاء ونحوهم. ورده إن لم يكره ابتداؤه: فرض كفاية، فإن كان المسلَّم عليه واحدًا تعين عليه، ومن سلم في حالة لا يستحب فيها السلام، لم يستحق جوابًا. ورد السلام سلام حقيقة، لأنه يجوز بلفظ سلام عليكم، ولا تجب زيادة الواو فيه، وفي "الإقناع" (¬3) تجب. ولا تسن زيادة على: ورحمة اللَّه وبركاته، في ابتداء ورد، وتجوز زيادة أحدهما على الآخر، والأولى لفظ الجمع، وإن كان المسلَّم عليه واحدًا، ولا يسقط برد غير المسلم عليه، ومن بُعث معه السلام بلَّغه وجوبًا إن تحمله، ويجب الرد عند البلاغ. ويستحب أن يسلم على الرسول، فيقول: عليك وعليه السلام، كتشميت عاطس حمد اللَّه تعالى، وكإجابته لمن شمته، فكل منهما فرض كفاية، لأن التشميت تحية، فحكمه كالسلام، ولهذا لا يشمت الكافر، كما لا يبتدأ بالسلام، فيقال لعاطس حمد اللَّه: يرحمك اللَّه، أو يرحمكم اللَّه، ويجيب بقوله: يهديكم اللَّه ويصلح بالكم، أو يغفر اللَّه لنا ولكم، فإن لم يحمد لم يشمت، لحديث أبي هريرة: "فإذا عطس أحدكم فحمد اللَّه، فحق على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك اللَّه" (¬4). ولا يشمت أكثر من ثلاث في مجلس واحد، والاعتبار ¬
بفعل التشميت، لا بعدد العطسات، ويعلَّم صغير الحمد للَّه إذا عطس، ثم يقال له: يرحمك اللَّه، أو بورك فيك، ومن عطسى فلم يحمد، فلا بأس بتذكيره. ويسمع الميت الكلام، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بالسلام عليهم (¬1)، ولم يكن ليأمر بالسلام على من لا يسمع. وقال الشيخ تقي الدين: استفاضت الآثار بمعوفة الميت بأحوال أهله، وأصحابه في الدنيا، وأن ذلك يعرض عليه، وجاءت الآثار بأنه يرى -أيضًا- وبأنه يدريَ بما فعل عنده، ويُسَرُّ بما كان حسنًا، ويتألم بما كان قبيحًا (¬2). ويعرف الميت زائره يوم الجمعة قبل طلوع الشمس (¬3). وفي "الغنية" (¬4): يعرفه كل وقت وهذا الوقت آكد. وقال ابن القيم: الأحاديث والآثار تدل على أن الزائر متى جاء علم به المزور، وسمع سلامه وأنس به ورد عليه، وهذا عام في حق الشهداء وغيرهم، وأنه لا توقيت في ذلك، وهو أصح من أثر الضحاك الدال على التوقيت (¬5)، انتهى. يشير إلى ما روي عن الضحاك قال: من زار قبرًا يوم السبت، قبل طلوع الشمس، علم الميت بزيارته، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: [لمكان يوم الجمعة. و] (¬6) لما روى ابن أبي الدنيا، عن محمد بن واسع قال: بلغني أن الموتى يعلمون من زارهم يوم الجمعة، ويومًا قبله، ويومًا بعده (¬7). ¬
وسن لمصاب بموت نحو قريب أن يسترجع، فيقول: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها. وقال الآجري وجماعة: ويصلي ركعتين (¬1)، قال في "الفروع" (¬2): وهو متجه فعله ابن عباس وتلى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} (¬3). (وتعزية) المسلم (المصاب بالميت سنة) ولو كان صغيرًا، قبل دفن، وبعده، لحديث: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه اللَّه عز وجل من حلل الجنة" (¬4). رواه ابن ماجه، وعن ابن مسعود مرفوعًا: "من عزى مصابًا فله كمثل أجره (¬5). رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال: غريب. وتحرم تعزية كافر، والتعزية: التسلية، والحث على الصبر، والدعاء للميت والمصاب (¬6). وتكره تعزية رجل لشابة، مخافة الفتنة. والتعزية إلى ثلاثة أيام بلياليهن، فلا يعزى بعدها، لأنها مدة الإحداد المطلق. قال المجد (¬7): إلا إذا كان غائبًا، فلا بأس بتعزيته إذا حضر. فيقال في تعزية مسلم مصاب بمسلم: أعظم اللَّه أجرك، وأحسن عزاك، وغفر ¬
لميتك. ولمسلم مصاب بكافر: أعظم اللَّه أجرك، وأحسن عزاك، لأن الغرض الدعاء للمصاب وميته، إلا إذا كان كافرًا فيمسك عن الدعاء له، والاستغفار، لأنه منهي عنه (¬1)، وكره تكرار التعزية، نصًّا (¬2)، وكره جلوس لها (¬3)، ويَرُدُّ معزى على من ىاه بقوله: استجاب اللَّه دعاءك، ورحمنا وإياك. وسن أن يصلح لأهل الميت طعام، يبعث به إليهم، ثلاثًا، لحديث: "اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد أتاهم ما يشغلهم" (¬4). رواه أبو داود، والترمذي، وحسنه. ولا يصلح الطعام لمن يجتمع عند أهل الميت، فيكره، لأنه إعانة على مكروه، وهو الاجتماع عندهم. قال أحمد: هو من أفعال الجاهلية، وأنكره شديدًا (¬5). ولأحمد وغيره وإسناده ثقات عن جرير: كنا نعدُّ الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة (¬6). كما يكره فعل أهل الميت ذلك للناس. ¬
ويكره ذبح عند قبر، وأكل منه، لحديث أنس: "لا عقر في الإسلام" (¬1). رواه أحمد، وأبو داود، قال أحمد: كانوا إذا مات لهم الميت نحروا جزورًا، فنهى -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك (¬2). وفي معنى الذبح عنده: الصدقة عنده، فإنه محدث، وفيه رياء، قاله الشيخ منصور في "شرح المنتهى" (¬3)، انتهي. (ويجوز البكاء عليه) أي الميت قبل موته، وبعده، للأخبار، وأخبار النهي محمولة على بكاء معه ندب أو نياحة (¬4). قال المجد (¬5): أو أنه كره كثرة البكاء والدوام عليه. ¬
كتاب الزكاة
كتاب الزكاة هي أحد أركان الإسلام، ومبانيه المشار إليه بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللَّه. . . " (¬1) إلخ، من زكا يزكو، إذا نما، أو تطهر (¬2)، لأنها تطهر مؤديها من الإثم، أي تنزهه عنه، وتنمي أجره، أو تنمي المال، أو الفقراء. وأجمعوا على فرضيتها (¬3) واختلفوا هل فرضت بمكة أو بالمدينة. وذكر صاحب "المغني"، و"المحرر"، والشيخ تقي الدين: أنها مدنية (¬4)، قال في "الفروع" (¬5): ولعل المراد طلبها، وبعث السعاة لقبضها، فهذا بالمدينة. وقال الحافظ شرف الدين الدمياطي (¬6): فرضت في السنة الثانية من الهجرة بعد زكاة الفطر (¬7). وفي "تاريخ" ابن جرير الطبري: أنها فرضت في السنة الرابعة من الهجرة (¬8). ¬
والزكاة حق واجب في مال خاص، لطائفة مخصوصة، في وقت مخصوص (¬1). وهي (تجب في خمسة أشياء): في سائمة (¬2) (بهيمة الأنعام) الإبل والبقر، والغنم، وفي سائمة بقر الوحش، وغنمه، لشمول اسم البقر والغنم لهما، والمتولد بينهما، كالمتولد بين الظباء والغنم، وبين السائمة والمعلوفة، تغليبًا للوجوب (و) في (نقد و) في (عرض تجارة و) في (خارج من الأرض و) في (ثمار). ولها شروط خمسة ليس منها بلوغ، ولا عقل. فتجب في مال صغير ومجنون، لعموم حديث: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، ¬
فترد على فقرائهم" (¬1). رواه الجماعة. وروى الشافعي في "مسنده" عن يوسف بن ماهك، مرفوعًا: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تذهبها، أو لا تستهلكها الصدقة" (¬2). وكونه مرسلًا (¬3) غير ضار، لأنه حجة عندنا، وهو قول جماعة من الصحابة (¬4) منهم عمر، وابنه، وعلي، وابنه الحسن، وجابر بن عبد اللَّه، وعائشة. ورواه الأثرم عن ابن عباس. ولأن الزكاة مواساة، وهما من أهلها كالمرأة بخلاف الجزية والعقل. ولا تجب في المال المنسوب للجنين. فذكر الأول منها، بقوله (بشرط إسلام) فلا تجب على كافر، لحديث ¬
معاذ حين بعثه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى اليمن: "إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه، فإن هم أطاعوك بذلك، فأعلمهم أن اللَّه قد افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم" (¬1)، متفق عليه. ولأنها أحد أركان الإسلام، فلم تجب على كافر، كالصيام، ولو كان الكافر مرتدًّا، لأنه كافر، فأشبه الأصلي. فإذا أسلم لم تؤخذ منه لزمن ردته، لعموم قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬2)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الإسلام يجب ما قبله" (¬3). (و) بشرط (حرية)، فلا تجب الزكاة على قِنٍّ، ولو قيل يملك بالتمليك، ولو كان مكاتبًا، لحديث جابر بن عبد اللَّه، مرفوعًا: "ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق" (¬4). رواه الدارقطني. ولأن ملكه ضعيف لا يحتمل المواساة، ومتى عتق استأنف الحول بما بقي له، إن بلغ نصابًا. ولا يملك رقيق غيره، ولو ملك من سيده أو غيره، لأنه مال، فلا يملك المال، كالبهائم، فما جرى فيه صورة تمليك من سيد لعبده، فزكاته ¬
على السيد، لأنه لم يخرج عن ملكه. وأشار للثالث بقوله: (و) بشرط (ملك نصاب) وهو سبب وجوب الزكاة -أيضًا- فلا زكاة في مال حتى يبلغ نصابًا تقريبًا، في الأثمان، وقيم عروض تجارة، فتجب مع نقص يسير، كحبة، أو حبتين، لأنه لا ينضبط غالبًا، أشبه نقص الحول ساعة أو ساعتين، وتحديدًا في غيرهما. (و) بشرط (¬1) (استقراره) أي ملك النصاب في الجملة، لأن الزكاة في مقابلة تمام النعمة، والملك الناقص ليس بنعمة تامة، فلا زكاة على سيد في دين كتابة، لنقص ملكه فيه، بعدم استقراره بحال، وعدم صحة الحوالة عليه، وضمانه. ولا زكاة في حصة مضارب من ربح قبل قسمة، ولو ملكت بالظهور، لعدم استقراره، لأنه وقاية لرأس المال، فملكه ناقص، ويزكي رب المال حصته من ربح، نصًّا (¬2)، كالأصل تبعًا له. وليس لعامل إخراج زكاة تلزم رب المال، بلا إذنه، نصًّا (¬3)، فيضمنها، لأنه ليس وليًّا له، ولا وكيلًا عنه فيها. ولا زكاة في موقوف على غير معين، أو على مسجد، أو مدرسة، أو رباط، ونحوه، لعدم تعين المالك، ولا في نقد موصى به في وجوه بر، أو يشترى به وقف، ولو ربح، لعدم تعين مالكه، والربح كالأصل، لأنه نماؤه، فيصرف مصرفه، ويضمن إن خسر نصًّا (¬4). (و) بشرط (سلامة من دَيْن) حال، أو مؤجل (ينقص النصاب) لما روى أبو عبيد، عن السائب بن يزيد، قال: سمعت عثمان بن عفان -رضي ¬
اللَّه تعالى- عنه يقول: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دَيْن فليؤده، حتى تخرجوا زكاة أموالكم (¬1)، وفي لفظ: من كان عليه دين فليقض دينه، وليزك بقية ماله (¬2). وقد قاله بمحضر من الصحابة، فدل على اتفاقهم عليه، حيث لم ينكروه. ولأن الزكاة وجبت مواساة للفقراء، وشكرًا لنعمة الغنى، وحاجة المدين لوفاء دينه كحاجة الفقير وأشد، ولو كان الدين كفارة أو نذرًا، أو كان زكاة غنم عن إبل، لأنه دين يجب قضاؤه، فمنع، كدين الآدمي، وفي الحديث: "دين اللَّه أحق أن يُقضى" (¬3). والزكاة من جنس ما وجبت فيه تمنع بالأولى، إلا دينًا بسبب ضمان، فلا يمنع، لأنه فرع أصل في لزوم الدين، فاختص المنع بأصله، لترجحه، وإلا دَيْنًا بسبب حصاد، أو جذاذ، أو دياس، لسبق الوجوب، بخلاف الخراج، فإن لم ينقص الدَيْن النصاب، فلا زكاة عليه فيما يقابل الدين مما سبق، ويزكي باقيه، لعدم المانع، ومتى برئ مدين من دين بنحو قضاء من مال مستحدث، أو إبراء، ابتدأ حولًا منذ برئ، لأن ما منع وجوب الزكاة، منع انعقاد الحول وقطعه. ومن له عرض قِنْية (¬4) يباع لو أفلس، بأن كان فاضلًا عن حاجته ¬
الأصلية، يفي بدَيْنه الذي عليه، ومعه مال زكوي، جعل الدين في مقابلة ما معه، ولا يزكيه، لئلا تختل المواساة، ولأن عرض القنية كملبوسه في أنه لا زكاة فيه، فإن كان العرض لتجارةٍ زكى ما معه، نصًّا (¬1)، وكذا من بيده ألف له، وله على مليء ألف، وعليه ألف دين، فيجعل الدين في مقابلة ما بيده، فلا يزكيه، ويزكي الدين إذا قبضه. وأشار للشرط الخامس بقوله: (و) بشرط (مضي حول) في أثمان، وماشية، وعروض تجارة، على نصاب تام، لحديث: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" (¬2) رفقًا بالمالك، ولتكامل النماء، فيواسي منه. ولأن الزكاة تتكرر في هذه الأموال، فلا بد لها من ضابط، لئلا يفضي إلى تعاقب الوجوب في الزمن المتقارب فيفنى المال (إلا في معشَّر) من خارج من الأرض وما في حكمه كالعسل، فلا يعتبر فيه حول، لقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬3) وذلك ينفي اعتباره في الثمار والحبوب، وأما العسل والمعدن والركاز فبالقياس عليهما، ولأن هذه الأشياء نماء في ¬
نفسها تؤخذ الزكاة منها عند وجودها، ثم لا تجب فيها زكاة ثانية، لعدم إرصادها للنماء، إلا أن يكون المعدن أثمانًا، فتجب فيها عند كل حول، لأنها مظنة النماء من حيث إنها قيم الأموال، (و) إلا في (نتاج سائمة) بكسر النون فيتبع أصله في حوله إن كان نصابًا، لقول عمر: اعتد عليهم بالسخلة، ولا تأخذها منهم (¬1). رواه مالك، ولقول علي: عد عليهم الصغار والكبار (¬2). ولا يعرف لهما مخالف. ولأن السائمة يختلف وقت ولادتها، فإفراد كلٍّ بحول يشق، فجعلت تبعًا لأمهاتها، كما تتبعها في الملك (و) إلا في (ربح تجارة) بالتصرف بالبيع والشراء للربح، وهو الفضل عن رأس المال، فيتبع الأصل في حوله إن كان نصابًا، لأنه في معنى النتاج. وما عدا المعشرات، والنتاج، والربح من المستفاد، ولو من جنس ما يملكه، لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول، ويضم إلى نصاب بيده من جنسه، أو ما في حكمه، وإن لا يكن الأصل نصابًا، فحول الجميع من حين كمل النصاب، فلو ملك خمسًا وعشرين بقرة، فولدت شيئًا فشيئًا، فحولها منذ بلغت ثلاثين، وحول صغار من حين ملك، كحول كبار. (وإن نقص النصاب) مطلقًا (في بعض الحول ببيع أو غيره) كإبدال ما تجب الزكاة في عينه بغير جنسه (لا فرارًا) من الزكاة (انقطع) حوله -أي النصاب- لأن وجوده في جميع الحول شرط لوجوب الزكاة، ولم يوجد، وكذا كل ما خرج به عن ملكه من إقالة وفسخ، لنحو عيب، ورجوع واهب في هبة، ووقف وهبة، وجعله ثمنًا أو مثمنًا، أو صداقًا، أو أجرة ونحوه، إلا في ذهب بيع أو أبدل بفضة، كعكسه، فلا ينقطع الحول، لأن كلًّا منهما يضم إلى الآخر في تكميل النصاب، ويخرج عنه منه كالجنس الواحد، وإلا في ¬
أموال الصيارف، فلا ينقطع الحول بإبدالها، لئلا يؤدي إلى سقوط الزكاة في مال ينمو، وأصول الشرع تقتضي عكسه. (وإن أبدله) أي: النصاب (بجنسه فلا) ينقطع الحول، نصًّا (¬1)، وإن اختلف نوعه، لأنه نصاب يضم إليه نماؤه في الحول، فيبنى حول بدله من جنسه على حوله كالعروض، فلو أبدله بأكثر، زكَّاه، إذا تم حول الأول كنتاج، نصًّا (¬2)، فمن عنده مائة من الغنم سائمة فأبدلها بمائتين زكاهما، وبالعكس يزكي مائة من الغنم، وبأنقص من نصاب انقطع الحول. وإن فر من الزكاة لم تسقط بإخراج النصاب أو بعضه عن ملكه، ولا بإتلافه، أو جزء منه، عقوبة له بنقيض قصده، كوارث قتل مورثه، ومريض طلق لقصد حرمان الميراث. وقد عاقب تعالى الفارين من الصدقة، كما حكاه بقوله سبحانه: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ. . .} الآيات (¬3)، ولئلا يكون ذريعة إلى إسقاطها جملة لما جبلت عليه النفوس من الشح (¬4). (وإذا قبض) رب الدين (الدين) أو عوض عنه، أو أحال به، أو عليه، أو أبرئ منه (زكاه لما مضى) من السنين، فلا يجب الإخراج قبل ذلك، لأنها وجبت مواساة، وليس منها إخراج زكاة ما لا ينتفع به، ويجزئ إخراجها قبل قبضه. (وشُرط لها) أي الزكاة (في بهيمة أنعام) من إبل وبقر وغنم، سميت بهيمة لأنها لا تتكلم (¬5)، وبدأ بها اقتداء بالصديق في كتابه لأنس -رضي اللَّه عنهما- أخرجه البخاري بطوله (¬6)، ويأتي بعضه مفرقًا (سومٍ أيضًا) وهو: ¬
أن ترعى المباح أكثر الحول، لأن السائمة الراعية، يقال: سامت تسوم سومًا: إذا رعت، وأسمتها إذا رعيتها (¬1)، ومنه {فِيهِ تُسِيمُونَ} (¬2)، وخرج بالسائمة: المعلوفة، فلا زكاة فيها، لمفهوم حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، مرفوعًا: "في كل إبل سائمة في كل أربعين بنت لبون" (¬3) رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وحديث الصديق مرفوعًا: "وفي الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ففيها شاة" الحديث، وفي آخره أيضًا: "إذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاةً شاة واحدة، فليس فيها شيء، إلا أن يشاء ربُّها" (¬4). ولا تجب إلا فيما لدرٍّ ونسلٍ وتسمين، فلا تجب في سائمة للانتفاع بظهرها، كإبل تكرى وتؤجر، وبقر حرث، ونحوه، أكثر الحول (وأقل نصاب إبل خمسٌ)، فلا زكاة فيها قبل ذلك، لحديث: "ليس فيما دون خمس ذَوْدٍ صدقة" (¬5) وبدأ بالإبل تأسيًا بكتاب الشارع، حين فرض زكاة الأنعام، لأنها أعظم النعم قيمة وأجسامًا، وأكثر أموال العرب، (وفيها) أي الخمس (شاة) إجماعًا (¬6)، لحديث: "إذا بلغت خمسًا ففيها شاة" رواه ¬
البخاري (¬1). وتكون الشاة بصفة إبل جودة ورداءة، غير معيبة، ففي إبل كرام شاة كذلك، وفي إبل معيبة شاة صحيحة، تنقص قيمتها بقدر نقص الإبل، ولا يجزئ عن خمس من الإبل بعير، نصًّا (¬2)، ولا بقرة، ولو أكثر قيمة من الشاة، لأنهما غير المنصوص عليه، أشبه ما لو أخرج بعيرًا أو بقرة عن أربعين شاة. (و) إذا زادت الإبل على الخمس فـ (في عشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث) شياه (وفي عشرين أربع) شياه (وفي خمس وعشرين بنت مخاض) إجماعًا (¬3)، لحديث البخاري: "فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض" (¬4) (وهي) أي بنت المخاض (التي لها سنة)، سميت بذلك لأن أمها قد حملت، والماخض: الحامل (¬5). وهو تعريف لها بغالب أحوالها، لا أنه شرط، فإن كانت بنت المخاض عنده، وهي أعلى من الواجب خُيرّ بين إخراجها، وبين شراء ما بصفته ويخرجها، ولا يجزئه ابن لبون إذن، لوجود بنت مخاض صحيحة في ماله. وإن كانت بنت المخاص معيبة، أو ليست في ماله، فذكر ابن لبون، وهو ما تم له سنتان، سمي بذلك، لأن أمه قد وضعت غالبًا، فهي ذات لبن (¬6)، ولو نقصت قيمته عن بنت المخاض، لعموم قوله في حديث أنس: "فإن لم يكن فيها بنت مخاض ففيها ابن لبون ذكر" (¬7) رواه أبو داود. ¬
أو حِقٌّ، وهو ما تم له ثلاث سنين سمي بذلك (¬1)، لأنه استحق أن يحمل عليه ويركب، ويقال للأنثى حقة لذلك، ولاستحقاقها طرق الفحل لها. أو جذع وهو ما تم له أربع سنين، سمي بذلك لأنه يجذع إذا سقطت سنه (¬2)، ذكره في "المغني" وغيره (¬3)، أو ثَنِيّ، وهو ما تم له خمس سنين، سمي بذلك لأنه ألقى ثنيته (¬4). والحق والجذع والثني أولى بالإجزاء عن بنت المخاص من ابن اللبون، لزيادة سنه بلا جبران في الكل، لظاهر الخبر. ولا يجبر نقص الذكورية بزيادة السن في غير هذا الموضع، فلا يجزئ حِقٌّ عن بنت لبون، ولا جذع عن حقه، ولا ثني عن جذعة، مطلقًا، لظاهر الحديث (¬5)، ولأنه لا نص فيه، ولا يصح قياسه على ابن اللبون مكان بنت المخاض، لأن زيادة سنه عليها يمتنع بها من صغار السباع، ويرعى الشجر بنفسه، ويرد الماء، ولا يوجد هذا في الحِقّ مع بنت اللبون، لأنهما يشتركان فيه. (وفي ست وثلاثين بنت لبون، وهي التي لها سنتان، وفي ست وأربعين حقه وهي التي لها ثلاث) سنين (وفي إحدى وستين جذعة، وهي التي لها أربع) سنين، وهي أعلى سن يجب في الزكاة، وتجزئ ثنية وما فوقها عن بنت لبون، أو حِقة، أو جذعة، بلا جبران، لأنه لم يرد في الثنية (وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان) إجماعًا (¬6) (وفي مائة وإحدى ¬
وعشرين ثلاث بنات لبون) لحديث البخاري عن أنس فيما كتب له الصديق لما وجهه إلى اليمن. ويتعلق الوجوب بالنصاب كله، حتى بالواحدة التي يتغير بها الفرض، لأنها من النصاب، ولا شيء فيما بين الفرضين وسمي: العند، والوَقَص، والشَّنق (¬1) -بالشين المعجمة وفتح النون- فلا تتعلق الزكاة به، فلو كان له تسع من الإبل مغصوبة، وأخذ منها بعيرًا بعد الحول، أدى عنه خُمس شاة، لحديث أبي عبيد في "الأموال" عن يحيى بن الحكم مرفوعًا: "إن الأوقاص لا صدقة فيها" (¬2). ولأنه مال ناقص عن نصاب يتعلق به فرض مبتدأ، فلم يتعلق به الوجوب، كما نقص عن النصاب الأول. (ثم) تستقر الفريضة إذا زادت الإبل على مائة وإحدى وعشرين (في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة) للأخبار (¬3)، ففي مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون، وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون، وفي مائة وخمسين ثلاث حقائق، وهكذا، فإذا بلغت ما يتفق فيه الفرضان، كمائتين، خُيّر بين الحِقاق، وبين بنات اللبون. ويصح كون الشطر من أحد النوعين والشطر من النوع الآخر، ومع عدم كل سن وجب، أو عيبه، فله أن يعدل إلى ما يليه من أسفل، ويخرج معه جبرانًا، أو إلى ما يليه من فوق، ويأخذ جبرانًا، لحديث الصديق في الصدقات قال: ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده، وعنده حقة، فإنه تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا، أو عشرين درهمًا، ومن بلغت عنده صدقة الِحقَّة، وليست عنده، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهمًا، أو ¬
شاتين (¬1). . . إلى آخره. فإن عدم ما يليه انتقل إلى ما بعده، وهو بنت اللبون في المثال، فإن عدمه -أيضًا- انتقل إلى ثالث وهو بنت المخاض، فيخرجها عن جذعة مع العدم، ويخرج معها ثلاث جبرانات، بشرط كون ذلك المخرج مع جبران فأكثر في ملكه، للخبر (¬2)، وإلا تعين الأصل الواجب، ولا مدخل لجبران في غير إبل، لأن النص إنما ورد فيها. (وأقل نصاب البقر) أهلية كانت، أو وحشية (ثلاثون) لحديث معاذ: أمرني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين بعثني إلى اليمن أن لا آخذ من البقر شيئًا حتى تبلغ ثلاثين (وفيها) أي: الثلاثين، (تبيع وهو الذي له سنة)، سمي بذلك لأنه يتبع أمه (¬3)، وهو جذع البقر الذي استوى قرناه وحاذى قرنه أذنه غالبًا، (أو تبيعة) لحديث معاذ، ويجزئ عن تبيع مسن وأولى. (و) يجب (في أربعين) من بقر (مُسنَّة) لحديث معاذ وفيه: وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعًا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة (¬4). رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، وقال ابن عبد البر: هو حديث ثابت متصل (¬5)، (وهي) أي المسنة (التي لها سنتان) سميت بذلك لأنها ألقت سنًّا غالبًا (¬6)، ولا فرض في البقر غير هذين السنين، وتجزئ أنثى أعلى من المسنة سنًّا، ولا ¬
يجزئ مسن عن مسنة، لظاهر الخبر (¬1)، ولا يجزئ عن مسنة تبيعان لذلك. (وفي ستين) من بقر (تبيعان ثم) إن زاد فـ (في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة) فإذا بلغت عددًا يتفق فيه الفرضان، كمائة وعشرين، فكإبل، فإن شاء أخرج أربعة أتبعة، أو ثلاث مسنات، لحديث يحيى بن الحكم، عن معاذ، وفيه: فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعًا، ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعًا، ومن الثمانين مسنتين، ومن التسعين ثلاثة أتبعة، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشرة ومائة مسنتين وتبيعًا، ومن العشرين ومائة ثلاثة مسنات أو أربعة أتبعة قال: وأمرني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن لا آخذ فيما بين ذلك سنًّا، إلا أن يبلغ مسنة، أو جذعًا، وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها (¬2). رواه أحمد. ولا يجزئ ذكر في زكاة إلا التبيع، لورود النص فيه، والمسن عنه، لأنه خير منه، وإلا ابن لبون وحق وجذع وما فوقه عند عدم بنت مخاض، وتقدم (¬3)، وإلا إذا كان النصاب من إبل أو بقر أو غنم كله ذكورًا، لأن الزكاة مواساة، فلا يكلفها من غير ماله. (وأقل نصاب الغنم) أهلية كانت، أو وحشية (أربعون) إجماعًا في الأهلية (¬4)، فلا شيء فيما دونها (و) يجب (فيها شاة) إجماعًا (¬5)، (وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان) إجماعًا (¬6)، (وفي مائتين وواحدة ثلاث) شياه (إلى ¬
أربعمائة، ثم) تستقر الفريضة (في كل مائة شاة) لحديث ابن عمر، في كتابه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصدقات الذي عمل به بعده أبو بكر حتى توفي، وعمر حتى توفي: "وفي الغنم من أربعين شاةً شاةٌ، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت شاة، ففيها شاتان، إلى مائتين، فإذا زادت واحدة، ففيها ثلاث شياه، إلى ثلثمائة، فإذا زادت بعد، فليس فيها شيء بعدد حتى تبلغ أربعمائة، فإذا كثرت الغنم، ففي كل مائة شاة" (¬1) رواه الخمسة إلا النسائي. (والشاة) الواجبة في زكاة الغنم، وفيما دون خمس وعشرين من إبل، وفي جبران (بنت سنة من المعز، ونصفها) أي: السنة (من الضأن) لحديث سويد بن غَفَلةَ قال: أتانا مُصَدق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أمرنا أن نأخذ الجذعة من الضأن، والثنية من المعز" (¬2). ولأنهما يجزئان في الأضحية، فكذا هنا، ولا يعتبر كونها من جنس غنمه، ولا من جنس غنم البلد، فإن وجد الفرض في المال أخذه الساعي، وإن كان أعلى خُيّر مالك بين دفعه، وتحصيل واجب فيخرجه. ولا يؤخذ في زكاة تيس حيث يجزئ ذكر، لنقصه وفساد لحمه، إلا تيس ضراب برضى ربه. ولا يؤخذ في زكاة هرمة، ولا معيبة، كما لا يضحى بها، نصًّا (¬3)، ¬
لقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬1)، إلا أن يكون الكل كذلك. ولا تؤخذ الرُّبى، وهي التي تربيّ ولدها (¬2)، ولا الحامل، لقول عمر: لا تؤخذ الرّبى، ولا الماخض (¬3). ولا تؤخذ طروقة الفحل، ولا كريمة وهي النفيسة، ولا أكولة. لقول عمر: ولا الأكولة (¬4)، ومراده السمينة (¬5)، إلا أن يشاء ربها. وتؤخذ مريضة من نصاب كله مراض، وتؤخذ صغيرة من صغار غنم، لقول الصدّيق: "واللَّه لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لقاتلتهم عليها" (¬6)، فدل على أنهم كانوا يؤدون العناق، ويتصور كون النصاب صغارًا بإبدال كبارها في أثناء الحول، أو تلد الأمهات، ثم تموت، ويحول الحول على الصغار. ولا تؤخذ صغيرة من صغار إبل أو بقر، لفرق الشارع بين فرض خمس ¬
وعشرين وست وثلاثين من الإبل بزيادة السن، وكذلك بين ثلاثين وأربعين من البقر، فيقوم النصاب من الكبار، ويقوم فرضه، ثم تقوم الصغار، ويؤخذ عنها كبيرة بالقسط، محافظة على الفرض المنصوص عليه، بلا إجحاف بالمالك، فإن كان النصاب نوعين من جنس واحد كبخاتي (¬1)، وعراب (¬2)، أو بقر وجواميس (¬3)، أو ضأن ومعز أخذت الفريضة من أحدهما، وعلى قدر قيمة المالين. (والخلطة (¬4) في بهيمة الأنعام) خاصة، وهي الإبل والبقر والغنم (بشرطها) المعتبر لها، بأن يشترك اثنان من أهل الزكاة، فلا أثر لخُلطة كافر، ولو مرتدًّا في نصاب ماشية لهم جميع الحول، ويشتركا في مُراح -بضم الميم- وهو المبيت (¬5)، وفي مسرح، وهو ما تجتمع فيه لتذهب إلى المرعى (¬6)، وفي محَلب -بفتح الميم- وهو موضع الحلب (¬7)، وفي فحل بأن لا يختص بطرق إحدى المالين، وفي مرعى، وهو موضع الرعي (تصيرِّ المالين كـ) المال ¬
(الواحد) إيجابًا، وإسقاطًا، لحديث الترمذي: "لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهم بالسوية" (¬1). ورواه البخاري من حديث أنس (¬2). وقوله: "لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" إنما يكون إذا كان المال لجماعة، فإن الواحد يضم بعض ماله إلى بعض، وإن كان في أماكن. ولأن للخلطة تأثيرًا في تخفيف المؤنة، فجاز أن تؤثر في الزكاة كالسوم، ولا تعتبر نية الخُلطة، ولا اتحاد مشرب وراع، ولا اتحاد الفحل، إن اختلف النوع كالبقر، والجاموس، والضأن والمعز، وقد تفيد الخُلطة تغليظًا، كأن اختلط اثنان في أربعين شاة، لكل واحد منهما عشرون شاة، فيلزمهما شاة، وتخفيفًا، كثلاثة اختلطوا في مائة وعشرين شاة، لكل واحد أربعون فيلزمهم شاة. ولا أثر لتفرقة مال، فيضم بعضه إلى بعض في تكميل النصاب، ما لم يكن سائمة، فإن كان سائمة بمحلين، أو محال بينها مسافة قصر، فلكل حكم بنفسه، فإذا كان له شياه بمحال متباعدة، في كل محل أربعون، فعليه شياه بعدد المحال، ولا شيء عليه إن لم يجتمع له في كل محل أربعون، ما لم تكن خلطة. ¬
فصل في زكاة الخارج من الأرض
فصل في زكاة الخارج من الأرض من زرع، وثمر، ومعدن، وركاز، وزكاة الخارج من النحل، وهو عسله. والأصل في وجوبها في ذلك قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬1)، قال ابن عباس: حقه الزكاة فيه مرة العشر، ومرة نصف العشر (¬2)، وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} (¬3). والزكاة تسمى نفقة، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. . .} (¬4) الآية، وأجمعوا على وجوبها: في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب. حكاه ابن المنذر (¬5) وابن عبد البر (¬6). (وتجب) الزكاة (في كل مكيل مدَّخر) نصًّا (¬7). ويدل لاعتبار الكيل: حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (¬8). متفق عليه، لأنه لو لم يدل على اعتبار الكيل، لكان ذكر الأوسق (¬9) لغوًا. ¬
ويدل لاعتبار الادخار: أن غير المدخر لا تكمل فيه النعمة، لعدم النفع فيه مآلًا (خرج من الأرض) من حب، كقمح، وشعير، وباقلاء، وأرز، وحمص، وذرة، ودُخن، وعدس، وترمس، وسمسم، ولوبيا، وقُرطُم (¬1)، وحلبة، ونحوها، ولو كان الحب للبقول، كحب الرشاد، والفجل، والخردل، ونحوه، أو كان لا يؤكل، كحب الأشنان، والقطن، ونحوهما، أو من الأبازير، كالكسبرة، والكمُّون، وبزر الرياحين، والقثاء، ونحوهما، أو من غير حب كصعتر، وأشنان، وسماق، أو من ورق يقصد، كسدر، وخِطمي، وآس، للعموم، ولأن كلًّا منها مكيل مدخر، أشبه البر، أو من ثمر كتمر، وزبيب، ولوز، نصًّا (¬2)، وعلله بأنه مكيل، وفستق، وبندق، لأنه مكيل مدخر. ولا تجب الزكاة في عُناب وزيتون، لأن العادة لم تجر بادخاره، ولا في جوز، نصًّا (¬3)، لأنه معدود، ولا في تين، وتوت ومشمش، ولا في بقية الفواكه، كرمان، وتفاح، وسفرجل، ونحوها، لما روى الدارقطني عن علي، مرفوعًا: "ليس في الخضراوات الصدقة" (¬4) وله عن عائشة معناه (¬5)، ¬
ولا في قصب، وبقول، وَوَرس، ونيل (¬1)، وحناء، وفوة (¬2)، وبقم (¬3)، ولا في زهر، كعصفر، وزعفران، وورد، وإنما يجب فيما يجب فيه بشرط أن يبلغ نصابًا. (ونصابه) أي الخارج من الأرض (خمسة أوسق) لحديث أبي سعيد مرفوعًا: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (¬4) رواه الجماعة، وهو خاص يقضي على كلِّ عام ومطلق، ولأنها زكاة مال، فاعتبر لها النصاب، كسائر الزكوات (وهي) أي الخمسة أوسق (ثلاثمائة) رطل (واثنان وأربعون رطلًا، وستة أسباع رطل بالدمشقي)، وهي أيضًا ثلاثمائة صاع، لأن الوسق ستون صاعًا. والوسق -بكسر الواو وفتحها- والصاع، والمد، مكاييل نقلت إلى الوزن، لتحفظ من الزيادة والنقص، ولتنقل من الحجاز إلى سائر البلاد، والمكيل يختلف، فمنه ثقيل، كالأرز، والتمر، ومنه متوسط، كالبر، والعدس، ومنه خفيف، كشعير، وذرة، وأكثر الثمر أخف من البر، إذا كِيْل، غير مكبوس، والاعتبار بمتوسط، فتجب الزكاة في خفيف قارب هذا الوزن، وإن لم يبلغه، ولا تجب في ثقيل بلغه وزنًا لا كيلًا، فمن اتخذ مكيالًا يسع صاعًا من جيد البر، ثم كال به ما شاء، عرف به ما بلغ حد الوجوب من غيره، ومتى شك في بلوغه النصاب، احتاط، وأخرج، ولا تجب، لأنه الأصل، فلم يثبت مع الشك. ¬
وتضم أنواع الجنس بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، من زرع العام الواحد، ولو تعدد البلد، كما تقدم (¬1)، ومن ثمرة العام الواحد كتمر، ولو مما يحمل في السنة حملين، فيضم بعضها إلى بعض. (و) بـ (شرط ملكه) أي النصاب (وقت وجوب) الزكاة، فلا تجب في مكتسب لقاط، ولا في أجرة حصاد ونحوه، ولا في مالك ملك بعد وقت الوجوب، بشراء، أو إرثه، ونحوهما. (وهو) أي: وقت وجوب زكاة، عند (اشتداد حبٍّ) لأن اشتداده حال صلاحه للأخذ والتوسيق والادخار (وبدوِّ صلاح ثمر) أي طيب أكله، وظهور نضجه، لأنه وقت الخرص المأمور به لحفظ الزكاة، ومعرفة قدرها، فدل على تعليق وجوبها به، فلو باع الحب أو الثمر، أو تلفا بتعديه بعد ذلك، لم تسقط زكاته، وكذا لو مات وله ورثة، لم تبلغ حصة كل واحد منهم نصابًا، أو كانوا مدينين ونحوه. ويصح شرط الزكاة على مشتر للعلم بها، فكأنه استثنى قدرها، ووكله في إخراجها، ويفارق ما إذا استثنى زكاة ماشية للجهالة، أو اشترى ما لم يبدُ صلاحه بأصله، وشرط على بائع زكاته، لأنها لا تعلق لها بالعوض الذي يصير إليه (ولا يستقر) الوجوب (إلا بجعلها) أي المزكيات (في بيدر ونحوه) كجرين، وهو موضع تشميسها، يسمى بذلك بالشرق والشام، ويسمى بمصر والعراق جرين (¬2). ويجب إخراج حب مصفى من تبنه وقشره، وإخراج تمر يابسًا، لحديث الدارقطني، عن عتاب بن أسيد: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمره "أن يخرص العنب زبيبًا، كما يخرص التمر" (¬3)، ولا يسمى زبيبًا وتمرًا إلا اليابس، ¬
وقيس الباقي عليهما. ولو احتيج إلى قطع ما بدا صلاحه قبل كماله، فيعتبر نصابه يابسًا، وإن أخرجها سنبلًا، ورُطبًا، وعنبًا، لم يجزئه، وكانت نفلًا. ويحرم على مزك ومتصدق شراء زكاته أو صدقته، ولو من غير من أخذها منه، ولا يصح الشراء، لحديث عمر: "لا تشتره، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه" (¬1). متفق عليه. فإن عادت إليه بنحو إرث، أو وصية، أو هبة، أو دين، حلَّت للخبر (¬2). وسن لإمام بعث خارص لثمرة نخل وكرم بدا صلاحها، لحديث عائشة: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يبعث عبد اللَّه بن رواحة إلى يهود، ليخرص عليهم النخل، قبل أن يؤكل (¬3). متفق عليه. وخرص -صلى اللَّه عليه وسلم- على امرأة بوادي القُرى ¬
حديقة لها (¬1). رواه أحمد. وهو اجتهاد في معرفة الحق بغالب الظن، فجاز كتقويم المتلفات، وممن كان يرى استحبابه أبو بكر (¬2). ويكفي خارص واحد، ويعتبر كونه مسلمًا، أمينًا، لا يتهم، خبيرًا بخرص، ولو قِنًّا، لأن غير الخبير لا يحصل به المقصود، ولا يوثق بقوله. وأجرته على رب المال، وإلا يبعث الإمام خارصًا، فعلى مالك ما يفعله خارص، فيخرص الثمرة بنفسه، أو بثقة عارف، ليعرف قدر ما يجب عليه قبل تصرفه في الثمر. ويجب أن يترك لرب الثمرة الثلث، أو الربع، بحسب المصلحة، لحديث سهل بن أبي حَثمة، مرفوعًا: "فخذوا، ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا، فدعوا الربع" (¬3). رواه أحمد، وأبو داود، وغيرهما. ويأكل من حبٍّ العادة وما يحتاجه، ولا يحسب عليه، ويكمل به النصاب إن لم يأكله، وتؤخذ زكاة ما سواه بالقسط، ولا يخرص غير نخل وكرم، لأن النص لم يرد في غيرهما. والزكاة في خارج من أرض معارة، أو مؤجرة، على مستعير، ¬
ومستأجر، دون مالكها. ومتى حصد غاصب أرض زرعه، زكاه، لاستقرار ملكه عليه، ويزكيه ربها إن تملكه قبل حصده، ولو بعد اشتداده. ويجتمع عشر، وخراج، في أرض خراجية، وهي ما فتحت عنوة، ولم تقسم بين الغانمين غير مكة (¬1). (والواجب عشر ما سُقي بلا مؤنة) مما تقدم أن الزكاة تجب فيه كالذي يشرب بعروقه، ويسمى بعلًا، والذي يشرب بغيث، وهو الذي يزرع على المطر، والذي يشرب بسيح، ولو بإجراء ماء حفيرة، حصل فيها من نحو مطر، أو نهر شراه، للخبر (¬2)، ولا تؤثر مؤنة حفر نهر وقناة لقلتها، ولأنه من جملة إحياء الأرض، ولا يتكرر كل عام. (ونصفُه) أي: نصف العشر (فيما سُقي بها) أي المؤنة- كدوالٍ (¬3) ونواضح (¬4) وغرف ماء، ونحوه (وثلاثةُ أرباعه) أي: العشر (فيما سقي بهما) أي بمؤنة وغير مؤنة نصفه، لنصف العام، بلا كلفة، وربعه للآخر (فإن تفاوتا) أي السقي بمؤنة، والسقي بغيرها، بأن سقي بأحدهما أكثر من الآخر (اعتبر الأكثر) منهما نفعًا، ونموًا، نصًّا (¬5)، فلا اعتبار بعدد السقيات، لأن الأكثر ملحق بالكل في كثير من الأحكام، فكذا هنا (ومع الجهل) بقدر السقي فلم يدر أيهما أكثر، أو جهل الأكثر نفعًا ونموًا يجب (العشر) احتياطًا، لأن تمام العشر تعارض فيه موجب ومسقط، فغُلِّب الموجب، ليخرج من العهدة بيقين. ¬
ومن له حائطان ضُمَّا في النصاب، ولكل حكم نفس بمؤنة وغيرها. (و) يجب (في العسل) من النحل (العُشر) نصًّا (¬1)، قال: قد أخذ عمر منهم الزكاة. قال الأثرم: قلت ذلك على أنهم يطوعون. قال: لا بل أخذ منهم (¬2) (سواء أخذه) أي: العسل (من مَوَات) كرؤوس جبال (أو) أخذه من (ملكه) أو من ملك غيره عشرية، أو خراجيَّة الأرض التي أخذه منها، أم لا. لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل، من كل عشر قرب قربة من أوسطها (¬3). رواه أبو عبيد، والأثرم (إذا بلغ) نصابًا (مائة وستين رطلًا عراقية) وذلك نصابه وهو عشرة أفراق، نصًّا (¬4)، جمع فرق -بفتح الراء (¬5) - لما روى الجوزجاني عن عمر: أن أناسًا سألوه، فقالوا: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أقطع لنا واديًا باليمن فيه خلايا -أي بيوتًا- من نحل، وإنا نجد ناسًا يسرقونها، فقال عمر: إن أديتم صدقتها من كل عشرة أفرق فرقًا، حميناها لكم (¬6). والفَرَق ¬
-محركًا- ستة عشر رطلًا عراقية، وهو مكيال معروف بالمدينة، ذكره الجوهري (¬1)، ستة أقساط، وهي ثلاثة آصع. ولا زكاة فيما ينزل من السماء على الشجر، كالمنّ، والترنجبيل (¬2)، ونحوهما، لعدم النص، والأصل عدم الوجوب كسائر المباحات. وتضمين أموال العشر والخراج بقدر معلوم باطل، نصًّا (¬3)، لأنه يقتضي الاقتصار عليه في تملك ما زاد، وغرم ما نقص، وهذا مناف لموضوع العمالة، وحكم الأمانة. سئل أحمد في رواية حرب عن تفسير حديث ابن عمر "القبالات ربًا" (¬4). قال: هو أن يتقبل القرية وفيها العلوج والنخل، فسماه ربا أي: في حكمه في البطلان. وعن ابن عباس: "إياكم والربا، ألا وهي القبالات، ألا ¬
وهي الذل والصغار" (¬1). والقبيل الكفيل (¬2). (ومن استخرج من معدن) بكسر الدال، وهو المكان الذي عدن به الجوهر ونحوه، سمي به لعدون ما أنبته اللَّه فيه، أي إقامته به (¬3)، ثم سمي به الجوهر ونحوه، وهو كل متولد في الأرض، لا من جنسها، ولا نبات، كذهب، وفضة، وجوهر، وبلور، وعتيق، وصُفر، ورَصاص، وحديد، وكُحل، وزرنيخ، ومغرة، وكبريت، وزفت، وملح، وزئبق، وقار، ونفط، ونحو ذلك (¬4) (نصابًا) وهو: عشرون مثقالًا من الذهب، ومائتي درهم من الفضة -كما يأتي (¬5) - وقيمة غيره (ففيه ربعُ العشر في الحال) بعد سبك وتصفية. ولا يحتسب بمؤنة استخراج، ما لم يكن دينًا، ولا بمؤنة سبك وتصفية كذلك. ويشترط كون مستخرج معدن من أهل الوجوب للزكاة، فإن كان كافرًا، أو مكاتبًا، أو مدينًا دينًا ينقص به النصاب، لم تلزمه، كسائر الزكوات. وحديث: "المعدن جُبارٌ, وفي الركاز الخمس" (¬6). قال القاضي ¬
وغيره: أراد بقوله: "المعدن جبار" إذا وقع على الأجير شيء، وهو يعمل في المعدن، فقتله، لم يلزم المستأجر شيء (¬1)، فتجب زكاة المعدن بالشرطين. ويستقر الوجوب في زكاة معدن بإحرازه، فلا تسقط بتلفه بعد مطلقًا، وقبله بلا فعله ولا تفريطه، تسقط. ويصح بيع تراب معدن بغير جنسه، وإن استتر المقصود منه، لأنه بأصل الخلقة، فهو كبيع نحو لوز في قشره، وقيس عليه تراب صاغة، لأنه لا يمكن تمييزه عن ترابه، إلا في ثاني حال بكلفة ومشقة، ولذلك احتملت جهالة اختلاط المركبات، من معاجين ونحوها، ونحو أساسات الحيطان. ولا تتكرر زكاة المعشرات، لأنها غير مرصدة للنماء، فهي كعرض القنية، بل أولى لنقصها بنحو أكل. ولا زكاة معدن غير نقد، ولا يضم جنس من معادن إلى آخر في تكميل نصاب غيره، فيضم ذهب إلى فضة من معدن وغيره، ويضم ما تعددت معادنه واتحد جنسه، وإن اختلفت أنواعه، كزرع، وثمار. ولا زكاة في مسك وزباد (¬2)، ولا في مخرج من بحر، كسمك، ولؤلؤ، ومرجان، ومن خواصه: أن النظر إليه يشرح الصدر، ويفرح القلب، ولا في عنبر، ونحوه، لقول ابن عباس: ليس في العنبر شيء، إنما هو شيء دسره البحر. وعن جابر نحوه. رواهما أبو عبيد (¬3). (وفي الركاز) أي الكنز (¬4) (الخُمس مطلقًا) قليلًا كان أو كثيرًا على ¬
واجده من مسلم، وذمي، وكبير وصغير، وحر ومكاتب، وعاقل ومجنون، لعموم حديث أبي هريرة مرفوعًا: "وفي الركاز الخمس" (¬1) متفق عليه، ويجوز إخراجه منه، ومن غيره (وهو) أي الركاز (ما وجد من دفن الجاهلية) بكسر الدال، أي: دفينهم، أو دفن من تقدم من كفار في الجملة، ويلحق بالدفن ما وجد على وجه الأرض عليه أو على بعضه علامة كفر فقط، ويصرف مصرف الفيء المطلق في المصالح كلها، نصًّا (¬2). لما روى أبو عبيد، بإسناده، عن الشعبي: أن رجلًا وجد ألف دينار مدفونة خارج المدينة، فأتى بها عمر بن الخطاب، فأخذ منها مائتي دينار، ودفع إلى الرجل بقيتها، وجعل عمر يقسم المائتين بين من حضره من المسلمين، إلى أن فضل منها فضلة، فقال: أين صاحب الدنانير؟ فقام إليه، فقال عمر: خذ هذه الدنانير فهي لك (¬3). وكما لو كان واجده أجيرًا، لنحو نقض حائط، أو حفر بئر، لا إن كان أجيرًا لطلبه، فيكون للمستأجر، لأن الواجد نائبه فيه، أو مكاتبًا أو مستأمنًا، فباقي ما وجده بعد الخمس له، وإن كان قِنًّا، فلسيده، وسواء وجده مدفونًا بموات، أو شارع، أو في أرض منتقلة إليه ببيع، أو هبة، ونحوها، ولم يدّعه منتقلة عنه، ومتى ادعاه مالك الأرض، أو من انتقلت عنه بلا بينه، ولا وصف، حلف مدع وأخذه، لأن يد مالك الأرض على الركاز، فرجح بها، وكذلك من انتقلت عنه الأرض، لأن يده كانت عليها. ¬
فصل في زكاة الأثمان
فصل في زكاة الأثمان وهي الذهب والفضة (¬1)، وأما الفلوس (¬2) ولو رائجة فعروض (¬3). (وأقل نصاب ذهب عشرون مثقالًا)، لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرفوعًا "ليس في أقل من عشرين مثقالًا من الذهب، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة" (¬4). روأه أبو عبيد. وهي بالدنانير: خمسة وعشرون دينارًا، وسُبعا دينار، وتسعه بالذي زنته درهم وثُمن، على التحديد. والمثقال: درهم وثلاثة أسباع درهم إسلامي، وبالدوانق: ثمانية وأربعة أسباع دانق، وبالشعير المتوسط: ثنتان وسبعون حبة. والدرهم الإسلامي نصف مثقال وخُمسه، فالعشرة من الدراهم سبعة مثاقيل، ¬
والدرهم: ستة دوانق، وهي خمسون حبة شعير وخُمسا حبة. (و) أقل نصاب (فضة مائتا) درهم إسلامي، إجماعًا (¬1)، لحديث: "ليس فيما دون خمس أواق صدقة" (¬2). متفق عليه، والأوقية: أربعون درهمًا. وترد الدراهم الخراسانية وغيرها إلى الدرهم الإسلامي، قال في "شرح مسلم" (¬3): قال أصحابنا: أجمع أهل العصر الأول على هذا التقدير، أن الدرهم ستة دوانق، ولم تتغير المثاقيل في الجاهلية ولا في الإسلام. ويزكَّى مغشوش ذهب أو فضة بلغ خالصه نصابًا، نصًّا (¬4)، وإلا فلا. ويكره ضرب نقد مغشوش، واتخاذه، نصًّا (¬5)، والضرب لغير السلطان. قاله ابن تميم (¬6) (ويضمَّان) أي النقدان، بعضهما إلى بعض (في تكميل النصاب) لأن مقاصدهما وزكاتهما متفقة، ولأن أحدهما يضم إلى ما يضم إليه الآخر، فضم إلى الآخر كأنواع الجنس، فمن ملك عشرة مثاقيل ذهبًا، ومائة درهم فضة، زكاهما، ولو ملك مائة درهم وتسعة مثاقيل تساوي مائة درهم، لم تجب، لأن ما لا يقوّم لو انفرد، لا يقوَّم مع غيره، كالحبوب والثمار. ويخرج أحد النقدين عن الآخر، فيخرج ذهبًا عن فضة وعكسه. ويضم جيد كل جنس ومضروبه إلى رديئه وتبره، كأنواع المواشي، والزرع، والثمار، بل أولى (و) تضم قيمة (عروض) (¬7) تجارة (إلى كل منهما) أي: الذهب والفضة، أو إلى أحدهما، فمن ملك عشرة مثاقيل وعروض تجارة ¬
تساوي عشرة -أيضًا- أو مائة درهم وعروضًا تساوي مائة أخرى، ضمهما، وزكاهما، أو ملك خمسة مثاقيل ومائة درهم وعروض تجارة تساوي خمسة مثاقيل، ضم الكل، وزكَّاه، فأخرج ربع العشر من أي نقد شاء، لأن العروض تقوّم بكل من النقدين، فترجع إليهما. ولا يجزئ إخراج فلوس، لأنها عرض لا نقد (والواجب فيهما) أي: النقدين (ربع العشر) للأخبار (¬1)، ووجوب الزكاة فيهما بالكتاب (¬2)، والسنة، والإجماع (¬3)، إذا بلغا نصابًا. (وأبيح لرجل) وخنثى (من الفضة خاتم) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- اتخذ خاتمًا ¬
وَرِق (¬1). متفق عليه، ولُبْسُهُ بخنصر يسار أفضل، نصًّا (¬2)، وضعف حديث التختم في اليمنى في رواية الأثرم، وغيره (¬3). قال الدراقطني وغيره: المحفوظ أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يتختم في يساره (¬4)، وكان بالخنصر (¬5)، لأنها طرف، فهي أبعد من الامتهان فيما تتناوله اليد، وله جعل فصَّه منه، ومن غيره، وفي البخاري من حديث أنس كان فصَّه منه (¬6)، ولمسلم: كان فصة حبشيًا (¬7). ويجعل فصه مما يلي كفه، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يفعل ذلك (¬8). وكره لبسه بسبابة ووسطى، للنهي عن ¬
ذلك (¬1) ويباح جعله أكثر من مثقال ما لم يخرج عن عادة. ويكره أن يكتب على الخاتم ذكر اللَّه قرآنًا أو غيره. قال في "شرح المنتهى" (¬2): ولبس خاتمين فأكثر جميعًا، والأظهر الجواز، وعدم وجوب الزكاة، قاله في "الإنصاف" (¬3). انتهى. (و) أبيح لرجل من الفضة أيضًا (قبيعة سيف) لقول أنس: كانت قبيعة سيف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فضة (¬4) رواه الأثرم، والقبيعة ما يجعل على طرف القبضة (¬5). (و) أبيح له (حلية منطقة) أي ما يشد به الوسط، لأن الصحابة اتخذوا المناطق محلاة بالفضة (¬6)، ولأنها كالخاتم (ونحوه) كحلية جوشن، وهو: الدرع، وخوذة، وهي: البيضة، ونحو ذلك، ولا يباح ركاب، ولجام، ودواة، ومرآة، وسرج، ومكحلة، ومرود، ومجمرة، فتحرم كالآنية (و) أبيح لرجل (من الذهب قبيعة سيف). قال أحمد: كان في سيف عمر سبائك من ذهب، وكان في سيف عثمان بن حنيف مسمار من ذهب (¬7). ¬
(و) أبيح له من الذهب -أيضًا- (ما دعت إليه ضرورة، كأنف) ولو أمكن من فضة، لأن عرفجة بن أسعد قطع أنفه يوم الكُلاب (¬1)، فاتخذ أنفًا من فضة، فانتن عليه، فأمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فاتخذ أنفًا من ذهب (¬2). رواه أبو داود، وغيره، وكشد سِنٍّ. (و) أبيح (لنساء منهما) أي: الذهب والفضة (ما جرت عادتهن بلبسه) قلَّ أو كثر، ولو زاد على ألف مثقال، ويباح لرجل، وخنثى، وامرأة، تَحلٍّ بجوهر ونحوه، ويكره تختم بحديد، وصُفر، ونحاس، ورصاص، لأنه حلية أهل النار، ويستحب تختم بعقيق. (ولا زكاة في حلي مباح أعد لاستعمال أو عارية) وإن لم يستعمله، أو يعره، لحديث جابر مرفوعًا: "ليس في الحلي زكاة" (¬3). رواه الطبري، وهو ¬
قول أنس، وجابر، وابن عمر، وعائشة، وأسماء أختها (¬1)، ولأنه عدل به عن جهة الاسترباح، إلى استعمال مباح، أشبه ثياب البذلة، وعبيد الخدمة، ولو كان الحلي لمن يحرم عليه، كرجل اتخذ حلي نساء لإعارتهن، وامرأة اتخذت حلي رجال لإعارتهم، غير فار من الزكاة، فإن كان فارًّا زكَّاه، وتجب في حلي محرم، وآنية ذهب أو فضة، لأن الصناعة المحرمة كالعدم. وتجب في حلي مباح معد للكراء، أو نفقة، إذا بلغ نصابًا وزنًا. ويحرم أن يُحلى مسجد، أو محراب، بنقد، أو يموه سقف، أو حائط من مسجد، أو دار، أو غيرهما، لأنه سرف، ويفضي إلى الخيلاء، وكسر قلوب الفقراء. وتجب إزالته كسائر المنكرات، وزكاته، إلا إذا استهلك، فلم يتمول منه شيء، لو أزيل فيهما. (ويجب تقويم عرض التجارة) إذا بلغ نصابًا، وتم حوله (بالأحظ للفقراء) يعني: أهل الزكاة (منهما) أي: الذهب والفضة، كأن بلغت قيمتها نصابًا بأحدهما دون الآخر، فتقوم به، لا بما اشتريت به، ولا عبرة ¬
تتمة
بقيمة آنية ذهب أو فضة، ونحوها لتحريمها، فيعتبر نصابها وزنًا (وتخرج) زكاته (من قيمته) من أحد النقدين، لا من نفس العرض، لأن النصاب معتبر بالقيمة، فهي محل الوجوب (وإن اشترى عرضًا لتجارة بنصاب غير سائمة) من أثمان، أو عروض (بنى على حوله) لأن وضع التجارة على التغليب والاستبدال، ولو انقطع به الحول لبطلت زكاتها، والأثمان كانت ظاهرة وصارت في ثمن العرض كامنة، كما لو أقرضها، أما لو اشترى عرضًا لتجارة بنصاب سائمة، أو باعه به، فلا يبني على الحول، لاختلافهما في النصاب، والواجب. تتمة: ويجوز لمن عليه زكاة: الصدقةُ تطوعًا قبل إخراجها، كالتطوع بالصلاة قبل أداء فرضها.
فصل زكاة الفطر
فصل زكاة الفطر (وتجب الفطرة) أي: زكاة الفطر، بالفطر من آخر رمضان، طهرةً للصائم من الرفث واللغو، وطعمة للمساكين. قال سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)} (¬1): هو زكاة الفطر (¬2). قال ابن قتيبة (¬3): وقيل لها: الفطرة، لأن الفطرة الخلقة، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ} (¬4) وهذه يراد بها الصدقة عن البدن والنفس. وتسمى فرضًا لقول ابن عمر: "فرض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- زكاة الفطر" (¬5)، ولأن الفرض إما بمعنى الواجب، وهي واجبة، أو المتأكد وهي متأكدة، ومصرفها كزكاة. ولا يمنع وجوبها دَيْنٌ، إلا مع طلب، فتجب (على كل مسلم) لحديث ابن عمر: "فرض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- زكاة الفطر من رمضان، صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على العبد والذكر والأنثى، والصغير والكبير، من المسلمين" (¬6) رواه الجماعة. وفي حديث ابن عباس: طهرة للصائم من ¬
الرفث واللغو، وطعمة للمساكين (¬1)، فلا تجب على كافر ولو مرتدًّا (إذا كانت) أي: الفطرة (فاضلة عن نفقة واجبة) لنفسه، أو لمن تلزمه نفقته (يوم العيد وليلته، و) عن (حوائج أصلية) له، أو لمن تلزمه نفقته، من مسكن، وخادم، ودابة، وثياب بذلة -بالكسر، والفتح لغة (¬2)، أي: مهنة في الخدمة، وفرش، وغطاء، ووطاء، وماعون، وكتب يحتاجها (فيخرج عن نفسه و) عن (مسلم يمونه) من زوجة، وعبد ولو لتجارة، حتى زوجة عبده الحرة، لوجوب نفقتها عليه، وحتى شخص تبرع بمؤنته شهر رمضان، فإن لم يجد ما يكفي لجميعهم، بدأ بنفسه، لحديث "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" (¬3). وكالنفقة؛ لأن الفطرة تنبني عليها، فزوجته، فرقيقه، فأمه، فأبيه، فولده، فأقرب في ميراث. ويقرع مع استواء. (وتُسنُّ) الفطرة (عن جنين) لفعل عثمان (¬4). ولا تجب عنه، حكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه (¬5)، ولا تجب على مستأجر أجير أو ظئر ¬
بطعامهما، ولا عن زوجة ناشز، أو لا تجب نفقتها لصغر. (وتجب) الفطرة (بغروب الشمس ليلة) عيد (الفطر)، فمتى وجد قبل الغروب موت، أو طلاق، أو عتق، أو إعسار، فلا فطرة، لزوال السبب قبل زمن الوجوب (وتجوز قبله) أي قبل غروب الشمس ليلة عيد الفطر (بيومين فقط) لقول ابن عمر: "كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين" (¬1) رواه البخاري، وهذا إشارة لجميعهم، فيكون إجماعًا (¬2). (و) إخراجها (يومه) أي العيد (قبل الصلاة) له (أفضل) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة في حديث ابن عمر (¬3)، وقال في حديث ابن عباس: "من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" (¬4) (وتكره في باقيه) أي يوم العيد، لتفويته الفضيلة. (ويحرم تأخيرها عنه) أي يوم العيد، لتأخير الواجب عن وقته، ولمخالفة الأمر (وتقضى) بعده (وجوبًا) لأنها عبادة، فلم تسقط بخروج الوقت، كالصلاة. (وهي) أي الفطرة (صاع من بر) بصاعه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو أربعة أمداد، وهو أربع حفنات بكفي رجل معتدلة الخلقة، (أو) صاع من (شعير) أو صاع من (سويقهما أو دقيقهما) نصًّا (¬5) (أو) صاع من (تمر، أو) صاع من (زبيب أو) صاع من (أقط، والأفضل) إخراج (تمر) مطلقًا، نصًّا (¬6)، لفعل ابن عمر، ¬
قال نافع: "كان ابن عمر يعطي التمر إلا عامًا واحدًا أعوز التمر، فأعطى الشعير" (¬1) رواه أحمد، والبخاري. وقال له أبو مجلز (¬2): إن اللَّه تعالى قد أوسع، والبر أفضل، فقال: إن أصحابي سلكوا طريقًا، فأنا أحب أن أسلكه (¬3). رواه أحمد، واحتج به، وظاهره أن جماعة الصحابة كانوا يخرجون التمر، ولأنه قوت وحلاوة، وأقرب تناولًا وأقل كلفة (فزبيب) لأن فيه قوتًا وحلاوة، وقلة كلفة، فهو أشبه بالتمر من البر (فبرٌّ) لأن القياس تقديمه على الكل، لكن ترك (¬4) اقتداءً بالصحابة في التمر، وما شاركه في المعنى، وهو الزبيب (فأنفع) في اقتيات، ودفع حاجة فقير، فإن استوت، فشعير، ثم دقيق بر، ثم دقيق شعير، ثم سويقهما (فإن عدمت) المنصوص عليها من الأصناف الخمسة (أجزأ كل حب يقتات) إذا كان مكيلًا، كالأرز، والذرة، والدخن، والماش، ونحو ذلك. ولا يجوز إخراج معيب، كمُسِوِّس، ومبلول، وقديم تغير طعمه، ونحوه، لقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} (¬5) ولا خبز، لأنه خرج عن الكيل والادخار. (ويجوز إعطاء جاعة) من أهل الزكاة (ما يلزم الواحد) من فطرة أو زكاة مال، قال في "الشرح" (¬6) و"المبدع" (¬7): لا نعلم فيه خلافًا، لأنه دفع ¬
الصدقة إلى مستحقها، لكن الأفضل أن لا ينقص الواحد عن مُدِّ بُرٍّ، أو نصف صاع من غيره، ليحصل إغناؤه في ذلك اليوم المأمور به (و) يجوز (عكسه) أي: إعطاء الواحد ما يلزم الجماعة، نص عليه (¬1)، لأنها صدقة لغير معين، فجاز صرفها لواحد، كالزكاة. ¬
فصل
فصل (ويجب إخراج زكاة) المال بعد أن تستقر (على الفور مع إمكانه) كإخراج نذر مطلق، وكفارة، لأن الأمر المطلق ومنه {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (¬1) يقتضي الفورية، بدليل: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} (¬2) فوبخه إذ لم يسجد حين أمره، وعن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم أجبه، ثم أتيته، فقلت: يا رسول اللَّه إني كنت أصلي. فقال: "ألم يقل اللَّه: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} (¬3). رواه أحمد، والبخاري، ولأن السيد إذا أمر عبده بشيء، فأهمله، حسن لومه وتوبيخه، عرفًا. ولم يكن انتفاء قرينة الفور عذرًا، مع إمكانه -أي الإخراج- كما لو طولب بها، ولأن النفوس طبعت على الشح، وحاجة الفقير ناجزة، فإذا أخر الإخراج اختل المقصود، وربما فات بحدث نحو إفلاس، أو موت. وله تأخير الزكاة لأشد حاجة، نصًّا (¬4)، وقيده جماعة (¬5): بزمن يسير، ولقريب وجارٍ غائبين، لأنها على القريب، صدقة وصلة، والجار في معناه. وله تأخيرها لحاجته إليها إلى ميسرته، نصًا (¬6)، واحتج بحديث عمر: ¬
أنهم احتاجوا عامًا، فلم يأخذ منهم الصدقة فيه، وأخذها منهم في السنة الأخرى (¬1). وله تأخيرها لتعذر إخراجها من المال لغيبته، وغيرها، كغصبه، وسرقته، وكونه دينًا إلى قدرته عليه. ومن جحد وجوب الزكاة عالمًا أو جاهلًا، فعُلِّم، وأصر، فقد ارتدَّ، لتكذيبه للَّه، ولرسوله، وإجماع الأمة، فيستتاب ثلاثًا، فإن تاب وإلا قُتل كفرًا، ومن منعها بُخلًا، أو تهاونًا، أخذت منه قهرًا، وعزر. (ويخرج ولي صغير ومجنون) في مالهما (عنهما) نصًّا (¬2)، لأنه حق تدخله النيابة، فقام الولي فيه مقام مولى عليه، كنفقة، وغرامة. وسن لمخرج زكاة إظهارها، لينفي عنه التهمة، ويُقتدى به، وتفرقتها بنفسه، ليتيقن وصولها إلى مستحتها، وكالدين، وقوله عند دفعها: اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا -أي منقصة- لأن التثمير كالغنيمة، والتنقيص كالغرامة، لخبر أبي هريرة مرفوعًا: "إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها، أن تقولوا: اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا" (¬3) رواه ابن ماجه، قال بعضهم (¬4): يحمد اللَّه على توفيقه لأدائها. وسن قول آخذ زكاة: آجرك اللَّه فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورًا، لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ ¬
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (¬1) أي ادعُ لهم، قال عبد اللَّه بن أبي أوفى: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: "اللهم صل على آل فلان". فأتاه أبي بصدقته فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى" (¬2) متفق عليه، وهو محمول على الندب، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يأمر به سعاته. (وشرط له) أي لإخراجها (نية) حديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬3)، ولأنها عبادة يتكرر وجوبها، فافتقرت إلى تعيين النية، كالصلاة، وشرط أن يكون إخراجها من مكلف، لأنه تصرف مالي أشبه سائر التصرفات المالية، إلا أن تؤخذ منه قهرًا، فتجزئ ظاهرًا من غير نية رب المال، فلا يؤمر بها ثانيًا، والأولى قرنها بدفع، وله تقديمها بزمن يسير، كصلاة. ولا يجزئ إن نوى صدقة مطلقة، ولو تصدق بجميع ماله، ومحل النية القلب، وتقدم (¬4). وإن وكل في إخراج الزكاة مسلمًا ثقة، أجزأت نية موكّل مع قرب إخراج، وإلا نوى وكيل -أيضًا-. ومن علم أهلية آخذ زكاة، كره أن يعلمه أنها زكاة، نصًّا (¬5)، قال أحمد: ولمَ يُبَكِّته (¬6)؟ يعطيه ويسكت، ما حاجته إلى أن يقرعه. وإن عَلِمَهُ أهلًا لأخذ الزكاة، قال في "الإقناع" (¬7): والمراد ظنه، ويعلم من عادته أنه لا يأخذها، فأعطاه ولم يعلمه، لم يجزئه. ¬
ولمخرج نقل زكاة إلى دون مسافة قصر من بلد المال. نص عليه (¬1)، لأنه في حكم بلد واحد، بدليل الأحكام، ورخص السفر (وحرم نقلها) أي الزكاة (إلى مسافة قصر) أي إلى ما تقصر فيه الصلاة، ولو كان النقل لرحم، أو شدة حاجة، أو لاستيعاب الأصناف. والساعي، وغيره في ذلك سواء، نصًا (¬2)، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لمعاذ حين بعثه لليمن: "أخبرهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم" (¬3) متفق عليه , للمعومات (إن وجد أهلها). وإن كان المال الذي وجبت فيه الزكاة ببادية، أو خلا بلدُه من مستحق لها، فرّقها، أو ما بقي منها في أقرب البلاد إليه، لأن معاذًا بعث إلى عمر صدقة من اليمن، فأنكر ذلك، وقال: لم أبعثك جابيًا، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس، فتردها في فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد من يأخذه مني (¬4) رواه أبو عبيد، فإن خالف، ونقل الزكاة إلى بلد تقصر فيه، أجزأ للعمومات (فإن كان) صاحب الزكاة (في بلد ومالُه في) بلد (آخر أخرج زكاة المال في بلد المال). والمسافر بالمال المزكى، يفرق زكاته في موضع أكثر إقامة المال فيه، لتعلق الأطماع به غالبًا. وقال القاضي: يفرق مكانه، حيث حال حوله (¬5). لئلا يفضي إلى تأخيرها. وله نقل كفارة، ونذر، ووصية مطلقة، ولو إلى مسافة قصر، بخلاف الزكاة. (و) أخرج (فطرتَه وفطرةً لزمتْه في بلد نفسه) لا في بلد ماله، لأن سبب الفطرة النفس لا المال. (ويجوز تعجيلها) أي الزكاة (لحولين فقط) أي لا لأكثر من حولين، ¬
اقتصارًا على ما ورد، مع مخالفة القياس، لحديث أبي عبيد في "الأموال" عن علي، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تعجَّل من العباس صدقة سنتين (¬1) ويعضده رواية مسلم (¬2): "فهي عليّ ومثلها". وكما لو عجل لعام واحد. (ولا تدفع) الزكاة (إلا إلى الأصناف الثمانية) فلا يجوز صرفها لغيرهم: كبناء مسجد، وقناطر، وتكفين موتى، ونحو ذلك، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (¬3) الآية، ولفظة "إنما" تفيد الحصر، فتثبت المذكورين، وتنفي من عداهم، وكذا تعريف الصدقات بأل، فإنها تستغرقها، فلو جاز صرف شيء منها إلى غير الثمانية لكان لهم بعضها لا كلها، ولحديث: "إن اللَّه لم يرضَ بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزَّأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك" (¬4). رواه أبو داود. (وهم) أي الأصناف الثمانية: (الفقراء): وهم من لا يجد شيئًا، أو لا يجد نصف كفايته، فهو أشد حاجة من المسكين، لأنه تعالى بدأ بهم، وإنما يبدأ بالأهم، فالأهم، وقال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} (¬5) ولاشتقاق الفقر من فقر الظهر، بمعنى مفقور، وهو الذي نزعت فقرة ظهره، فانقطع صلبه (¬6). (و) الثاني: (المساكين) وهم من يجد نصف كفايته، أو أكثرها، من ¬
السكون، لأنه أسكنته الحاجة (¬1)، ومن كُسر صلبه أشدُّ حالًا من الساكن. فالفقراء الذين لا يجدون ما يقع موقعًا من الكفاية، كعميان، وزمنى، لأنهم غالبًا لا يقدرون على اكتساب يقع الموقع من كفايتهم، وربما لا يقدرون على شيء إطلاقًا، قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬2) الآية، ويعطيان تمام كفايتهما مع عائلتهما سنة من الزكاة، لأن وجوبها يتكرر بتكرر الحول، فيعطى ما يكفيه إلى مثله. ومن ملك ولو من أثمان ما لا يقوم بكفايته، وكفاية عياله، ولو أكثر من نصاب؛ فليس بغني، فلا تحرم عليه الزكاة، لأن الغنى ما تحصل به الكفاية. قال الميموني: ذاكرت أحمد فقلت: قد يكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة، وهو فقير، ويكون له أربعون شاة، وتكون له الضيعة لا تكفيه، يُعطى من الصدقة؟ قال: نعم. وذكر قول عمر: أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا، قلت: فلهذا قدر من العدد أو الوقت؟ قال: لم أسمعه، وقال: إذا كان له عقار وضيعة يستغلها عشرة آلاف في كل سنة لا تقيمه -أي: تكفيه- يأخذ من الزكاة (¬3). وإن تفرغ قادر على التكسب للعلم لا للعبادة، وتعذر الجمع بين التكسب والاشتغال بالعلم، أعطي من زكاة لحاجته. (و) الثالث: (العاملون عليها): كجاب يبعثه الإمام، لأخذ زكاة من أربابها، وحافظ، وكاتب، وقاسم، ومن يحتاج إليه فيها، لدخولهم في قوله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} (¬4)، وكان عليه السلام يبعث على الصدقة سعاة، ¬
ويعطيهم عمالتهم (¬1). وشرط كون العامل مكلفًا، مسلمًا، أمينًا، كافيًا، من غير ذوي القربى، لعدم حلها لهم، ولو عبدًا، أو غنيًّا، ويعطى قدر أجرته منها. وإن عمل عليها إمام، أو نائبه، لم يأخذ شيئًا. (و) الرابع: (المؤلفة قلوبهم): وهم: كل سيد مطاع في عشيرته، ممن يرجى إسلامه، أو يخشى شره، حديث أبي سعيد، قال: بعث عليٌّ بذهيبة فقسّمها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن بدر الفزاري، وعلقمة بن عُلاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، وزيد الخير الطائي، ثم أحد بني نبهان. فغضبت قريش، وقالوا: تعطي صناديد نجد، وتدعنا؟ فقال: "إني فعلت ذلك لأتآلفهم" (¬2). متفق عليه. (و) الخامس: (في الرقاب): وهم: المكاتبون المسلمون، الذين لا يجدون وفاء ما يؤدون، ولو مع القوة والكسب. نص عليه لعموم قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} (¬3)، ولو قبل حلول نجم، لئلا يحل ولا شيء معه، فتنفسخ الكتابة. ويجزئ أن يشتري من زكاته رقبة لا تعتق عليه لرحم، أو تعليق، فيعتقها عن زكاته، قاله ابن عباس (¬4)؛ لعموم قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} وهو ظاهر في القن، لأن الرقبة إذا أطلقت، انصرفت إليه. وتجزئ أن يفدي منها أسيرًا مسلمًا، نصًّا (¬5)، لأنه فك رقبة من الأسر، فهو كفك القن من الرق، وإعزازٌ للدين. ولا يجزئ من عليه زكاة أن يعتق قنه ¬
أو مكاتبه عنها. (و) السادس: (الغارمون) وهم ضربان: الأول: تديَّن لإصلاح ذات بين، كقبيلتين، أو أهل قريتين تشاجروا في دماء، أو أموال، وخيف منه، فتوسط بينهم رجل، وأصلح بينهم، والتزم في ذمته مالًا، عوضًا عما بينهم، لتسكين الفتنة، فقد أتى معروفًا عظيمًا، فكان من المعروف حمله عنه من الصدقة، لئلا يجحف بسادة القوم المصلحين. وكانت العرب تفعل ذلك فيتحمل الرجل الحمالة، ثم يخرج في القبائل يسأل حتى يؤديها، فأقرت الشريعة ذلك، وأباحت المسألة فيه، وفي معناه: لو تحمل إتلافًا ونهبًا عن غيره، فيأخذ من الزكاة، ولو كان غنيًا، لأنه من المصالح، إن لم يدفع من ماله ما تحمله، لأنه إذا دفعه منه لم يصر مدينًا، وإن اقترض وأوفاه فله الأخذ لوفائه، لبقاء الغرم. الثاني: لو تديَّن لشراء نفسه من كفار، أو تديَّن لنفسه في شيء مباح، أو محرم، وتاب منه وأعسر، ويعطى وفاء دينه، كمكاتب، ولا يعطى منها دين على ميت، لعدم أهليته لقبولها، كما لو كفَّنه منها. (و) السابع: غاز (في سييل اللَّه) لقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) بلا ديوان، أو له في الديوان مالًا يكفيه لغزوه، فيعطى، ولو غنيًّا ما يحتاج إليه في غزوه ذهابًا وإيابًا، وثمن سلاح، ودرع، وفرس إن كان فارسًا. ولا يجزئ إن اشتراه رب مال، ثم دفعه لغاز، لأنه كدفع القيمة، ويجزئ أن يعطى من زكاة لحج، وعمرة فقير، ولا يجزئ أن يشتري منها فرسًا يحبسها في سبيل اللَّه، أو عقارًا يقفه على الغزاة، لعدم الإيتاء المأمور به. (و) الثامن: (ابن السبيل) للآية، وهو المسافر المنقطع بغير بلده في سفر مباح، أو محرم وتاب منه، ولا يعطى في سفر مكروه، للنهي عنه، ولا في سفر نزهة، لأنه لا حاجة إليه. ومن يرد إنشاء سفر إلى غير بلده فليس ¬
تتمة
بابن سبيل، لأن السبيل هي الطريق، وسمي من بغير بلده ابن سبيل لملازمته لها، كما يقال: ولد الليل، لمن يكثر خروجه فيه. ويعطى ولو وَجَد مقرضًا ما يبلغه بلده، ولو وُجد موسرًا في بلده، لعجزه عن الوصول لماله، أو ما يبلغه منتهى قصده وعوده إلى بلده. ويَرُدُّ غارم ومكاتب، وغاز، وابن سبيل ما فضل عن حاجتهم، وغيرهم يتصرف في فاضل بما شاء. وتجزئ زكاة، وكفارة، ونذر مطلق، لصغير لم يأكل الطعام، ويَقْبل ويقبض له وليه في ماله، فإن لم يكن فمن يليه من أم أو غيرها، ويشترط لإجزاء زكاة تمليك المعطى، ليحصل الإتياء المأمور به، فلا يكفي إبراء فقير من دَيْنه، ولا حوالته بها. تتمة: من أبيح له أخذ شيء، من زكاة، أو كفارة، أو غيرها، أبيح له سؤاله، نصًّا (¬1)، لظاهر حديث: "للسائل حق وإن جاء على فرس" (¬2). ولأنه يطلب حقه الذي جُعل له، وعلم منه أنه يحرم سؤال ما لا يباح أخذه. وقال أحمد: أكره المسألة كلها، ولم يرخص فيه، إلا أنه بين الأب والولد أيسر (¬3). ولا بأس بمسألة شرب الماء، نصًّا (¬4)، واحتج بفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)، وقال في ¬
العطشان لا يستسقي: يكون أحمق (¬1). ولا بأس بالاستعارة والاقتراض، نصًّا (¬2)، وكذا نحو شسع النعل. وإعطاءُ السائل مع صدقه، فرض كفاية، لحديث: "لو صدق ما أفلح من رده" (¬3). ويجب قبول مال طيب أتى بلا مسألة، ولا استشراف نفس، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خذه" (¬4). ويحرم أخذ صدقة بدعوى غني فقرًا، ولو من صدقة تطوع، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ومن يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيمة" (¬5) متفق عليه. (ويجوز الاقتصار على واحد من صنف) من الأصناف الثمانية، وهو قول عمر (¬6) وحذيفة (¬7) وابن عباس (¬8) لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬9)، ولحديث معاذ (¬10) حين بعثه إلى اليمن. فلم يُذكر في الآية والحديث إلا صنف واحد (والأفضل تعميمهم) أي الأصناف ¬
الثمانية (والتسوية بينهم) من غير تفضيل، إن وجدت الأصناف الثمانية، وإلا عَمَّم من أمكن، خروجًا من الخلاف (¬1)، وليحصل الإجزاء بيقين. (وتسن) زكاته (إلى من لا تلزمه مؤنته من أقاربه) كذوي رحمه، ومن لا يرثه، من نحو أخ، وعم، على قدر حاجتهم، لحديث: "صدقتك على ذي القرابة صدقة وصلة" (¬2) رواه الترمذي، والنسائي، ويبدأ بأقرب فأقرب، ومن فيه من أهل الزكاة سببان أخذ بهما. (ولا تدفع) أي الزكاة (لبني هاشم) أي: لا يجزئ دفعها إليهم، وهم سلالة هاشم (¬3)، ذكورًا كانوا أو إناثًا، فدخل آل عباس بن عبد المطلب، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل بن أبي طالب، وآل الحارث بن عبد المطلب، وآل أبي لهب، أعطوا من الخمس، أو لا، لعموم "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس" (¬4) رواه مسلم، ما لم يكونوا ¬
غزاة، أو مؤلفة قلوبهم، أو غارمين لإصلاح ذات بين، فيعطون لذلك، لجواز الأخذ مع الغنى، وعدم المنة فيه (و) كذا (مواليهم) أي: عتقاء بني هاشم، فلا تدفع إليهم، لحديث أبي رافع، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعث رجلًا من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصيب منها، فقال: لا، حتى آتي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأسأله. فانطلق إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فسأله فقال: "إنا لا تحل لنا الصدقة، وإن مولى القوم منهم" (¬1) أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. ويجوز دفعها لموالي مواليهم، لأنهم ليسوا بني هاشم، ولا من مواليهم. ويجوز دفع الزكاة لأولاد هاشمية من غير هاشمي. ولبني هاشم، ومواليهم، الأخذُ من صدقة التطوع، إلا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن الصدقة كانت محرمة عليه مطلقًا (¬2)، ولا يجوز لهم الأخذ من كفارة، لوجوبها بالشرع، كالزكاة. (ولا) تدفع أي: الزكاة (لأصل و) لا لـ (فرع) للمزكي، وإن علوا، أو سفلوا، إلا أن يكونوا عمالًا، أو مؤلفين، أو غزاة، أو غارمين لإصلاح ذات بين. ولا يجزئ امرأة دفع زكاتها لزوجها، لأنها تعود إليها، بإنفاقه عليها. ولا يجزئ دفع زكاة إنسان إلى من تلزمه نفقته، ممن يرثه بفرض أو تعصيب. (و) لا تدفع الزكاة لـ (عبد) كامل رق، من قن، ومدبَّر، ومعلق عتقه ¬
بصفة، ولو كان سيده فقيرًا، لاستغنائه بنفقته. ولا تجزئ إلى فقير ومسكين مستغنيين بنفقة واجبة، على قريب أو زوج غنيين، لحصول الكفاية بالنفقة الواجبة لهما، أشبه من له عقار يستغني بغلته. (و) لا تدفع الزكاة لـ (كافر) غير مُؤلَّف. حكاه ابن المنذر إجماعًا في زكاة الأموال (¬1)، (فإن دفعها) أي: الزكاة (لمن ظنه أهلًا) لأخذها (فلم يكن) أهلًا لذلك، كأن كان عبدًا، أو كافرًا، أو هاشميًا، أو وارثًا له، وهو لا يعلم، ثم علم حاله، لم يجزئ، لأنه ليس بمستحق، ولا تخفى حاله غالبًا، فلم يعذر بجهالته (أو بالعكس) بأن دفعها لمن ظنه غير أهل لأخذها، فبان بخلاف ذلك (لم يجزئه) ذلك الدفع، كما لو صلى ظانًّا أنه في غير الوقت، فبان في الوقت. وترد بنمائها، فإن تلفت ضمنها قابض (إلا) إن دفعها (لغني ظنه فقيرًا) فتجزئه، لأن الغنى مما يخفى، ولذلك اكتفي فيه بقول الآخذ. (وصدقة التطوع بالفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه) دائمًا بمتجر أو غلة وصنعة، (سُنة) خبر المبتدأ (مؤكَّدة) لحديث: "اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة عن ظهر غنى" (¬2). متفق عليه. والصدقة مسنونة كل وقت، لإطلاق الحث عليها في الكتاب، والأخبار (¬3)، وكونها سرًّا بطيب نفس في صحة أفضل، لقوله تعالى: {وَإِنْ ¬
تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬1) ولحديث: "وأنت صحيح" (¬2). (و) كونها (في) شهر (رمضان) أفضل، لحديث ابن عباس: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. . . الحديث (¬3) متفق عليه، ولحديث: "من فطر صائمًا كان له مثل أجره" (¬4). (و) في (زمن و) في (مكان فاضل) كالعشر الأول من ذي الحجة، وكالحرمين أفضل، لكثرة التضاعف. وعلى ذي رحم، لا سيما مع عداوة بينهما، لحديث: "أفضل الصدقة الصدقة على الرحم الكاشح" (¬5) رواه أحمد وغيره، وهي عليهم صدقة وصلة للخبر (¬6). وعلى جار (و) في (وقت حاجة أفضل)، لقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ¬
تنبيه
ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} (¬1) تنبيه: من تصدق بما ينقص مؤنة تلزمه، كمؤنة زوجة، أو قريب، أثِمَ، حديث: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت" (¬2). إلا أن يوافقه عياله على الإيثار، فهو أفضل لقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬3)، وكذا يأثم من تصدق بما يضر بغريمه، أو كفيله، لحديث: "لا ضرر ولا ضرار" (¬4)، ولمن وحده ويعلم من نفسه حسن التوكل والصبر عن المسألة: التصدق بجميع ماله. والمن بالصدقة كبيرة، نصًّا (¬5)، والكبيرة ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، ويبطل الثواب به لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} (¬6)، قال في "الفروع": ولأصحابنا خلاف فيه، وفي إبطال طاعة بمعصية، واختار شيخنا: الإبطال بمعنى الموازنة، وذكر أنه قول أكثر السلف (¬7). ¬
كتاب الصيام
كتاب الصيام الصيام لغة: الإمساك (¬1)، يقال: صام النهارُ إذا وقف سير الشمس، ومنه {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} (¬2)، وصام الفرس: أمسك عن العلف وهو قائم، أو عن الصهيل في موضعه. وشرعًا: إمساك بنية عن أشياء مخصوصة في زمن معين من شخص مخصوص (¬3). وصوم شهر رمضان فرض، افترض في السنة الثانية من الهجرة إجماعًا (¬4)، فصام -صلى اللَّه عليه وسلم- تسع رمضانات إجماعًا (¬5). والأصل في فرضه قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (¬6)، وحديث ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما: "بني الإسلام على خمس. . . " (¬7) الحديث، متفق عليه. وسمي شهر الصوم رمضان، قيل: لحر جوف الصائم فيه ورمضه، والرمضاء: شدة الحر (¬8). أو أنه وافق هذا الشهر أيام شدة الحر ورمضه، حين نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة. أو لأنه يحرق الذنوب، أو غير ذلك (¬9). ولا يكره قول رمضان بلا شهر، كما في كثير من ¬
الأخبار (¬1). (يلزم) صوم شهر رمضان (كل مسلم مكلف، قادر برؤية الهلال) منه، لحديث: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" (¬2). ويستحب ترائي الهلال وقول ما ورد (¬3). فإن لم ير الهلال مع صحو ليلة الثلاثين من شعبان لم يصوموا، لأنه يوم الشك المنهي عنه (¬4)، (ولو من) رؤية مكلف (عدل) ¬
نصًّا (¬1) لا مستور، لحديث ابن عباس: جاء أعرابي إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إني رأيت الهلال. قال: "أتشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا عبده ورسوله؟ ". قال: نعم. قال: "يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدًا". رواه أبو داود والترمذي، والنسائي. وعن ابن عمر قال: ترآيت الهلال، فأخبرت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه (¬2). رواه أبو داود. ولأنه خبر ديني، لا تهمة فيه، بخلاف آخر الشهر، ولو كان الرائي عبدًا، أو أنثى، أو بدون لفظ الشهادة، للخبرين، وثبت به بقية الأحكام، من حلول دين، ونحوه، تبعًا، وأما بقية الشهور فلا يقبل فيها إلا رجلان عدلان بلفظ الشهادة كالنكاح وغيره، والفرق: الاحتياط للعبادة. ولو صاموا ثمانية وعشرين يومًا، ثم رأوا هلال شوال، قضوا يومًا واحدًا فقص، نصًّا (¬3)، ولو غم لشعبان ورمضان وجب تقدير رجب وشعبان ناقصين فلا يفطروا قبل اثنين وثلاثين يومًا، بلا رؤية، احتياطًا (أو بإكمال شعبان) ثلاثين يومًا (أو) بـ (وجود مانع من رؤيته) أي الهلال (ليلة الثلاثين منه) أي من شعبان (كغيم وجبل وغيرهما) كقتر ودخان، فيجب صوم يوم تلك الليلة، حكمًا ظنيًّا، احتياطًا، للخروج من عُهدة الوجوب، بنية أنه من رمضان في قول عمر، وابنه، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأنس، ومعاوية، وعائشة، وأسماء ابنتي أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنهم ¬
أجمعين (¬1)، لحديث نافع عن ابن عمر، مرفوعًا: "إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غُمّ عليكم، فأقدروا له" قال نافع: كان عبد اللَّه بن عمر، إذا مضى من الشهر تسعة وعشرون يومًا، يبعث من ينظر له الهلال، فإن رؤي فذاك، وإن لم يُرَ، ولم يحل دون منظره سحاب، ولا قتر، أصبح مفطرًا، وإن حال دون منظره سحاب، أو قتر، أصبح صائمًا (¬2). ومعنى: "اقدروا له" (¬3) ضيقوا، لقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} (¬4)، {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} (¬5) والتضيق: جعل شعبان تسعة وعشرين يومًا، وقد فسره ابن عمر بفعله، وهو راويه، وأعلم بمعناه، فوجب الرجوع إليه، ويجزئ صوم هذا اليوم إن ظهر منه، لأن صومه وقع بنية رمضان، لمستند شرعي، أشبه الصوم للرؤية. وتثبت أحكام صوم من صلاة تراويح، ووجوب كفارة بوطء فيه، ووجوب إمساك على من أكل فيه جاهلًا، أو لم يبيت النية ما لم يتحقق أنه من شعبان، ولا تثبت بقية الأحكام الشهرية بالغيم، فلا يحل دين مؤجل به، ولا يقع طلاق وعتق معلقين به، ولا تنقضي عدة، ونحو ذلك، عملًا بالأصل. (وإن رؤي) الهلال (نهارًا) ولو قبل الزوال في أول رمضان، أو غيره، أو في آخره (فهو لـ) ليلة (المقبلة) نصًا (¬6)، لأنها ليلة رؤي الهلال في يومها، ¬
فلم يجعل لها كما لو رؤي آخر النهار. والهلال يختلف بالكبر والصغر، والعلو والانخفاض، وقربه من الشمس، اختلافًا شديدًا لا ينضبط، فيجب طرحه، والعمل بما عول الشرع عليه. وروى البخاري في "تاريخه": "من أشراط الساعة أن يروا الهلال، يقولون: ابن ليلتين" (¬1) (وإن صار) من ليس أهلًا لوجوب الصيام عليه (أهلًا لوجوبه في أثنائه) أي ذلك اليوم، كأن أسلم كافر في أثناء نهار، أو عقل مجنون، أو بلغ صغير (أو قدم مسافر مفطرًا، أو طهرت حائض أمسكوا) عن مفسدات الصوم لحرمة الوقت، (وقضوا) ذلك اليوم، لأنهم لم يصوموه. وكذا إن تعمد مقيم، أو طاهر الفطر، فسافر المقيم، أو حاضت الطاهر، بعد فطرهما، لزمهما إمساك ذلك اليوم بعد السفر، والحيض، نصًّا (¬2)، عقوبة، والقضاء. وإن علم مسافر أنه يقدم غدًا بلدًا قصده، لزمه الصوم، نصًّا (¬3)، كمن نذر صوم يوم يقدم فلان، وعلم يوم قدومه، فينويه من الليل. (ومن) عجز عن الصوم و (أفطر لكبر) كشيخ هرم، وعجوز، يجهدهما الصوم، ويشق عليهما مشقة شديدة (أو) أفطر لـ (مرضٍ لا يُرجى برؤه، أطعم لكل يوم مسكينًا) مُدَّ بُرٍّ أو نصف صاع من غيره، لقول ابن عباس ¬
في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (¬1): ليست بمنسوخة، هي للكبير الذي لا يستطيع الصوم (¬2). رواه البخاري. فإن كان العاجز عنه مسافرًا سفرًا مباحًا، فلا فدية لفطره بعذر معتاد، ولا قضاء لعجزه عنه، قال الشيخ منصور: فيعايا بها (¬3). (وسن الفطر) وكره الصوع (لمريض يشق عليه) الصوم (و) لـ (مسافر يقصر) ولو بلا مشقة، لحديث: "ليس من البر الصيام في السفر" (¬4). متفق عليه، وإن صام أجزأه، نصًّا (¬5)، لحديث: "هي رخصة من اللَّه، فمن أخذها فهو حسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" (¬6). رواه مسلم. وسن الفطر، وكره الصوم -أيضًا- لزيادة مرض، أو طوله بقول طبيب مسلم ثقة، لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬7)، ويباح الفطر لمريض قادر على الصوم، يتضرر بترك التداوي، ولا يمكنه فيه، كمن به رمد، يخاف بترك الاكتحال. ويجوز الوطء لمن به مرض ينتفع به فيه، كالمداواة، أو به شبق (¬8) ولم تندفع شهوته بدونه، ويخاف تشقق أنثييه إن لم يطأ، ولا كفارة، ويقضي عدد ما أفسده من الأيام، ما لم يتعذر القضاء عليه لشبق، فيطعم عن كل يوم ¬
مسكينًا، ككبير، ومتى لم يمكنه الوطء إلا بإفساد صوم موطوءة، جاز ضرورة، ووطء طاهر صائمة أولى من وطء حائض. والأفضل لحاضر نوى صومًا، وسافر، عدم الإفطار، خروجًا من الخلاف (¬1). (وإن أفطرت حامل أو) أفطرت (مرضع خوفًا على أنفسهما قضتا فقط) ولا إطعام عليهما، كالمريض، وأولى (أو) أفطرتا خوفًا (على ولديهما) قضتا (مع الإطعام ممن يمون الولَد) لكل يوم مسكينًا، ما يجزئ في كفارة، كما تقدم. ومتى قبل رضيع ثدي غير أمه، وقدر أن يستأجر له، لم تفطر، لعدم الضرورة، وظئرٌ كأمٍّ في إباحة فطر إن خافت على نفسها، أو على الولد. ويجب الفطر على من احتاج إليه لإنقاذ معصوم من مهلكة، كغرق، ونحوه، وليس لمن أبيح له فطر رمضان صوم غيره فيه. ¬
تتمة
تتمة: ينكر على من أكل في رمضان ظاهرًا، وإن كان هناك عذر (وكان أُغمي عليه أو جُنّ جميع النهار لم يصح صومه) لأن الصوم الإمساك مع النية، ولم توجد، ويصح ممن أفاق جزءًا منه حيث بيت النية بخلاف من نام جميع النهار فيصح صومه، لأن النوم عادة، ولا يزول به الإحساس بالكلية، لأنه متى نُبِّه انتبه (ويقضي المغمى عليه) فقط زمن إغمائه، لأنه مكلف، بخلاف المجنون، فلا يقضي، لأنه غير مكلف. (ولا يصح صوم فرض إلا بنية معينة) لكل يوم (بجزء من الليل) لأن كل يوم عبادة مفردة، لأنه لا يفسد يوم بفساد يوم آخر، لحديث: "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له" (¬1) رواه أبو داود، وأول الليل، وأوسطه وآخره محل للنية، فأي جزء نوى فيه أجزأه، ولو أتى بعدها ليلًا بمناف للصوم، كأكل، وشرب، وجماع، لظاهر الخبر. ومن قطع نية صوم نذر، أو كفارة، أو قضاء رمضان، ثم نوى نفلًا؛ صح، وكذا لو قلب نية نذر، أو كفارة، أو قضاء، إلى نفل؛ صح، كقلب ¬
فرض الصلاة نفلًا، وخالف في "الإقناع" (¬1) ويكره ذلك إلا لغرض صحيح. (ويصح) صوم (نفل ممن لم يفعل مفسدًا) من أكل أو شرب ونحوهما، (بنية نهارًا مطلقًا) سواء كان قبل الزوال، أو بعده، لحديث عائشة قالت: دخل علي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذات يوم فقال: "هل عندكم من شيء؟ " فقلنا: لا. قال: "فإني إذًا صائم" (¬2) رواه الجماعة إلا البخاري. ويحكم بالصوم المثاب عليه من وقت النية، حديث: "إنما لكل امرئ ما نوى" (¬3). ¬
فصل فيما يفسد الصوم فقط، أو يفسده ويوجب الكفارة، وما يتعلق بذلك
فصل فيما يفسد الصوم فقط، أو يفسده ويوجب الكفارة، وما يتعلق بذلك (ومن أدخل إلى جوفه) شيئًا من كل محل ينفذ إلى محل معدته (أو) أدخل إلى (مجوف في جسده كدماغ وحَلْقٍ شيئًا) سواء كان مما يغذي أو لا كحصاة، وقطعة رصاص، وحديد، ونحوها (من أي موضع كان) من جسده (غير إحليله) أفطر، وأما الإحليل فليس بمنفذ، فلو قطر في إحليله دهنًا، أو غيره؛ لم يفطر (أو ابتلع نخامة بعد وصولها إلى فمه) سواء كانت من دماغه، أو حلقه، أو صدره، ويحرم بلعها إذًا، لإفساد صومه بذلك (أو اسْتَقَاء فَقَاء) أو تنجس ريقه، فابتلعه (أو استمنى) بيده، أو غيرها (أو باشر دون الفرج فأمنى، أو أمذى، أو كرر النظر فأمنى) أفطر (أو نوى الإفطار، أو حجم أو احتجم عامدًا مختارًا ذاكرًا لصومه أفطر) لحديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" (¬1). (لا إن فكر فأنزل، أو دخل ماءُ مضمضة أو استنشاق حَلْقَهُ) جاز بلا قصد (ولو بالغ أو زاد على ثلاث) لم يفطر، وكذا إن ذرعه القيء، أو أصبح وفي فمه طعام فلفظه، أو شق عليه لفظه، فبلعه مع ريقه، بلا قصد؛ لم يفطر، لمشقة التحرز منه، أو لطخ باطن قدمه بشيء، فوجد طعمه بحلقه، لأن القدم غير نافذ، أو احتلم فأنزل، ولو بعد يقظته، بغير اختياره، لم يفطر. ¬
(من جامع برمضان نهارًا بلا عذر) ولو في يوم، لزمه إمساكه بلا عذر (شبق ونحوه) كمن به مرض ينتفع به فيه كالمداواة (فعليه القضاء والكفارة مطلقًا) إن لم يكن ثمَّ عذر، وإلا فعليه القضاء فقط. وامرأة عالمة ذاكرة طاوعت كرجل في وجوب القضاء والكفارة، (ولا كفارة عليها) أي المرأة (مع العذر، كنوم، وإكراه، ونسيان، وجهل، وعليها القضاء) فقط. (وهي) أي الكفارة (عتق رقبة) مؤمنة سليمة على ما يأتي في الظهار (¬1)، (فإن لم يجد) رقبة، أو وجدها تباع بأكثر من ثمن المثل (فصيام شهريين متتابعين) للخبر (¬2)، فلو قدر على الرقبة قبل شروع في صوم لا بعده؛ لزمته، (فإن لم يستطع) الصوم (فإطعام ستين مسكينًا) للخبر (¬3)، لكل مسكين مد بر أو نصف صاع من غيره، مما يجزئ في فطرة (فإن لم يجد) ما يطعمه للمساكين (سقطت) بخلاف غيرها من الكفارات. (وكره) لصائم فرضًا كان أو نفلًا (أن يجمع ريقه فيبتلعه) خروجًا من ¬
خلاف من قال: يفطر به (¬1). ويفطر بغبار ابتلعه قصدًا، لإمكان التحرز منه عادة، ويفطر -أيضًا- بريق أخرجه إلى بين شفتيه ثم بلعه (و) كره له (ذوق طعام) وقال المجد: المنصوص عنه لا بأس به لحاجة ومصلحة، واختاره في "التنبيه" (¬2). وحكاه أحمد والبخاري عن ابن عباس (¬3). فعلى الكراهة متى وجد طعمه بحلقه أفطر. وكره له ترك بقية طعام بين أسنانه، خشية خروجه، فيجري به ريقه إلى جوفه. وكره له شم ما لا يؤمن شمه أن يجذبه نفسٌ لحلق، كسحيق مسك، وسحيق كافور، ودهن، وبخور نحو عود، خشية وصوله مع نفسه إلى جوفه. ولا يكره شم نحو ورد، وقطع عنبر، ومسك غير مسحوق. (و) كره له (مضغ علك لا يتحلل) منه شيء، لأنه يجمع الريق، ويحلب الفم، ويورث العطش. (وإن وجد) صائم (طعمهما في حلقه) أي الطعام، أو العلك (أفطر). (و) تكره (القُبلة ونحوها) كمعانقة، ولمس، وتكرار نظر (ممن تحرك) القبلة ونحوها (شهوته) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن القبلة شابًّا، ورخص لشيخ (¬4) رواه أبو داود، وهو حديث حسن، فإن لم تحرك شهوته، لم تكره، لما تقدم، ¬
(ويحرم) ذلك (إن ظن إنزالًا) لتعريضه للفطر، ثم إن أنزل أفطر، وعليه القضاء. (و) يحرم (مضغ علك يتحلل) سواء بلع ريقه، أو لم يبلعه، لأنه تعريض بصومه للفساد. (و) يحرم (كذب، وغيبة، ونميمة، وشتم، ونحوه) كفحش (بتأكد) لحديث أنس مرفوعًا "لما عُرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وظهورهم (¬1)، فقلت: يا أخي جبرائيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم" (¬2) رواه أبو داود، ويحرم ذلك بتأكد في رمضان، وفي مكان فاضل، كالحرمين، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس للَّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (¬3) رواه البخاري. (وسن تعجيل فطر) إذا تحقق غروب شمس، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "يقول اللَّه: إن أحب عبادي إليّ أعجلهم فطرًا" (¬4) رواه الإمام أحمد، ويباح فطره إذا غلب على ظنه غروب شمس إقامة للظن مقام اليقين، ولكن الاحتياط حتى يتيقن. والفطر قبل صلاة المغرب أفضل لحديث أنس: ما رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلّي حتى يفطر ولو على شربة ماء (¬5) رواه ابن عبد البر. ¬
وسن لصائم كثرة قراءة، وذكر، وصدقة وكف لسانه عما يكره. ولا يفطر بنحو غيبة، قال أحمد: لو كانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم (¬1). وسن قوله جهرًا إن شُتم: إني صائم. لما في الصحيحين، عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤٌ صائم" (¬2). (و) سن (تأخير سحور) إن لم يخش طلوع الفجر، لحديث زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: كم كان قدر ذلك؟ قال: قدر خمسين آية (¬3). متفق عليه، وتحصل فضيلة السحور بشرب، لحديث: "ولو أن يجرع أحدكم شربة من ماء" (¬4). وكمالها بأكل، للخبر، وأن يكون من تمر لحديث: "نعم سحور المؤمن التمر" (¬5) رواه أبو داود. وسن فطر على رطب، فإن عدم فتمر، فإن عدم فماء، لحديث أنس: ¬
كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن تمرات حسا حسوات من ماء (¬1). رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حسن غريب. (و) سن للصائم (قول ما ورد عند فطر) هـ، ومنه: "اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، سبحانك وبحمدك، اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم" لحديث الدارقطني عن أنس، وابن عباس: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أفطر قال: "اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، فتقبل منا إنك أنت السميع العليم" (¬2) وعن ابن عمر مرفوعًا: "كان إذا أفطر قال: ذهب الظمأ، وابتلت العروق، ووجب الأجر إن شاء اللَّه تعالى" (¬3). رواه الدارقطني. ¬
وفي الحديث: "للصائم عند فطره دعوة لا ترد" (¬1). ويستحب تفطير الصائم، وله مثل أجره، للخبر (¬2). (و) سن (تتابع قضاء) رمضان (فورًا) نصًّا (¬3)، مسارعة لبراءة ذمته، ولا بأس أن يفرق. رواه البخاري (¬4) عن ابن عباس لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬5) وعن ابن عمر، مرفوعًا: "قضاء رمضان إن شاء فرق، وإن شاء تابع" (¬6) رواه الدارقطني، ولأن وقته موسع، وإنما لزم التتابع في ¬
الصوم إذًا لمقيم لا عذر له، للفور، وتعين الوقت، لا لوجوب التتابع في نفسه، إلا إذا بقي من شعبان قدر ما عليه من الأيام التي فاتته من رمضان، فيجب التتابع، لضيق الوقت (وحرم) حينئذ (تأخيره) أي قضاء رمضان (إلى) رمضان (آخر بلا عذر) نصًّا (¬1) (فإن فعل) وأخره بلا عذر (وجب) عليه (مع القضاء) لعدد ما عليه (إطعام مسكين عن كل يوم) أخره إلى رمضان آخر ما يجزئ في كفارة، رواه سعيد (¬2) عن ابن عباس، بإسناد جيد، والدارقطني، عن أبي هريرة، وقال: إسناد صحيح (¬3). وذكره غيرهما عن جماعة من الصحابة (¬4). وإن أخر القضاء لعذر، من مرض، أو سفر؛ قضى فقط (وإن مات المفرِّط) في قضاء ما عليه (ولو قبل) رمضان (آخر، أُطعم عنه كذلك) لكل يوم مسكين (من رأس ماله) لا من ثلثه، لأنه واجب عليه (ولا يُصام) عنه، لأن الصوم لا تدخله النيابة حال الحياة، فبعد الموت كذلك، كالصلاة، ولا يلزم عن كل يوم أكثر من إطعام مسكين، ولو مضت رمضانات كثيرة. (وإن كان على الميت نذر) في الذمة (من حج أو [من] (¬5) صوم، أو ¬
صلاة ونحوها) كطواف، واعتكاف، لم يفعل منه شيئًا مع إمكان غير حج، فيفعل عنه مطلقًا، تمكن منه، أو لا، نجواز النيابة فيه حال الحياة، فبعد الموت أولى. (سُنَّ لوليه قضاؤه) عنه، لحديث ابن عباس: أن امرأة قالت: يا رسول اللَّه إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: "أرأيت لو كان على أمك دَيْن فقضيتيه عنها، أكان ذلك يؤدي عنها؟ قالت: نعم. قال: فصومي عن أمك" (¬1). متفق عليه. ويجزئ صوم جماعة عن نذر ميت في يوم واحد، بأن نذر صيام عشرة أيام مثلًا، فمات، فصام عنه عشرةٌ يومًا واحدًا، لحصول المقصود به، مع إنجاز إبراء ذمته، وظاهره: ولو كان متتابعًا، ومقتضى كلام المجد: لا يصح مع التتابع، قال: وتعليل القاضي يدل على ذلك (¬2). (ومع تركة) لميت عليه نذر واجب (يجب) فعل نذره على ما تقدم (¬3)، لثبوته في ذمته، كقضاء دينه من تركته (لا مباشرة ولي) فلا تجب، فإن شاء فعله بنفسه، وإن شاء دفع مالًا لمن يفعل ذلك عنه، وكذا حجة الإسلام. ومن مات وعليه صوم، من كفارة أو متعة، أطعم عنه من رأس ماله، أوصى به، أولًا، بلا صوم، نصًّا (¬4)، لأنه وجب بأصل الشرع، كقضاء رمضان. ¬
فصل في صوم التطوع
فصل في صوم التطوع (يُسَنُّ صوم أيام البيض) وهي: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة، لحديث أبي ذر: "يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر" (¬1). رواه الإمام أحمد، والنسائي، وغيرهما، وسميت بيضًا لبياض ليلها كله بالقمر (¬2). (و) يسن صوم يوم (الخميس و) يوم (الاثنين) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصومهما، فسئل عن ذلك، فقال: "إن أعمال الناس تُعرض يوم الاثنين والخميس". رواه أبو داود، عن أسامة بن زيد، وفي لفظ: "أحب أن يُعرض عملي وأنا صائم" (¬3). (و) يسن صوم (ستـ) ـة أيام (من شوال) والأولى تتابعها، وكونها عقب العيد، وصائمها مع رمضان كأنما صام الدهر، لحديث أبي أيوب مرفوعًا: "من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال، فكأنما صام الدهر" (¬4) ¬
رواه أبو داود، وغيره. (و) يسن صوم (شهر اللَّه المحرم) لحديث: "أفضل الصلاة بعد المكتوبة جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر اللَّه المحرم" (¬1) رواه مسلم. (وآكده) وعبارة بعضهم: أفضله (¬2) (العاشر)، ويسمى عاشوراء، وينبغي التوسعة فيه على العيال، وصومه كفارة سنة، لحديث: "إني لأحتسب على اللَّه أن يكفر السنة التي قبله" (¬3) (ثم) يلي العاشر في الآكدية (التاسع) ويسمى تاسوعاء لحديث ابن عباس مرفوعًا: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر" (¬4) رواه الخلال، واحتج به أحمد. (و) يسن صوم (تسع ذي الحجة) حديث: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى اللَّه تعالى من هذه الأيام العشرة" (¬5) (وآكده يوم عرفة)، وصومه كفارة سنتين، لحديث مسلم عن أبي قتادة مرفوعًا، في صومه: "إني لأحتسب على اللَّه تعالى أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" (¬6) والمراد ¬
الصغائر، كما حكاه في "شرح مسلم" (¬1) عن العلماء (لغير حاج بها) أي بعرفة، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة" (¬2) رواه أبو داود، ولأنه يُضَعِفُه، ويمنعه الدعاء فيه في ذلك الموقف الشريف، إلا لمتمتع وقارن عدما الهدي، فيستحب أن يجعلا آخر صيام الثلاثة في الحج يوم عرفة، ويأتي في بابه (¬3). ثم يلي يوم عرفة في الآكدية يوم التروية، وهو ثامن ذي الحجة لحديث: "صوم يوم التروية كفارة سنة" (¬4) رواه أبو الشيخ (¬5) في "الثواب"، وابن النجار (¬6)، عن ابن عباس مرفوعًا. (وأفضل الصيام صوم يوم وفطر يوم) ¬
نصًّا (¬1)، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لابن عمرو: "صم يومًا وافطر يومًا، فذلك صيام داود، وهو أفضل الصيام" قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، فقال: "لا أفضل من ذلك" (¬2) متفق عليه. (وكره إفراد رجب) بصوم، قال أحمد: من كان يصوم السنة صامه، وإلا فلا يصوم متواليًا (¬3). بل يفطر فيه، ولا يشبهه برمضان. ولهذا صح عن عمر أنه كان يضرب فيه، ويقول: كلوا، فإنما هو شهر كانت الجاهلية تعظمه (¬4). (و) كره إفراد يوم (الجمعة) بصوم، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة، إلا أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده" (¬5) متفق عليه. (و) كره إفراد يوم (السبت) بصوم، لحديث: "لا تصوموا يوم السبت، إلا فيما افترض عليكم" (¬6) حسنه الترمذي، فإن صام معه غيره لم يكره. ¬
(و) كره صوم يوم (الشك) وهو الثلاثون من شعبان، إذا لم يكن غيم أو قتر، لأحاديث النهي عنه (¬1). (و) كره صوم (كل عيد للكفار) كالنيروز، والمهرجان (¬2)، وغيرهما. (و) كره (تقدُّم رمضان بـ) صوم (يوم أو يومين) لا بأكثر، لظاهر الخبر (¬3)، (ما لم يوافق عادة في الكل) فلا يكره، نصًا (¬4)، لظاهر خبر أبي هريرة: "لا يتقدمنَّ أحدكم رمضان بصوم يوم، أو يومين، إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه" (¬5)، وكذا إن كان عليه صوم واجب، فلا يكره له إفراد شيء منها بصوم. وكره الوصال، بأن لا يفطر بين اليومين، فأكثر، إلا من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، لحديث ابن عمر: "واصل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في رمضان، فواصل الناس، فنهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوصال، فقالوا: إنك تواصل! قال: إني لست مثلكم، ¬
تتمة
إني أطعم وأسقى" (¬1) متفق عليه. (وحرم صوم) يومي (العيدين مطلقًا) لا فرضًا، ولا نفلًا، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: نهى عن صوم يومين: يوم فطر، ويوم أضحى (¬2). متفق عليه (و) حرم -أيضًا- صوم (أيام التشريق) حديث: "أيام منى أيام أكل وشرب" (¬3) رواه مسلم (إلا عن دم متعة) أ (وقران) لمن عدمه، فيصح صومها عنه، لقول ابن عمر، وعائشة: "لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا من لم يجد الهدي" (¬4) رواه البخاري. (ومن دخل في فرض موسَّع) كصلاة وقضاء رمضان، ونذر، وكفارة (حرُم قطعه بلا عذر) لأنه يتعين دخوله فيه، فصار بمنزلة المتعين، وإن بطل فلا مزيد عليه، فيعيده، أو يقضيه فقط، ولا كفارة مطلقًا غير الوطء في نهار رمضان، وتقدم (¬5)، (أو) دخل في (نفل غير حج) أ (وعمرة؛ كره) قطعه (بلا عذر) خروجًا من الخلاف (¬6). تتمة: أفضل الأيام يوم الجمعة، قال الشيخ (¬7): هو أفضل أيام الأسبوع ¬
إجماعًا. وأفضل الليالي ليلة القدر للآية (¬1)، وهي ليلة معظمة، والدعاء فيها مستجاب، وسميت بذلك، لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة، أو لعظم قدرها عند اللَّه تعالى، أو لضيق الأرض عن الملائكة التي تنزل فيها، وهي باقية لم ترفع، وتطلب في العشر الأواخر من رمضان، فهي مختصة بها عند أحمد وأكثر العلماء من الصحابة وغيرهم. ذكره في "الفروع" (¬2). وأوتاره آكد، وأرجاها سابعته، نصًّا (¬3)، وهو قول ابن عباس (¬4)، وأبي بن كعب (¬5)، وزر بن حبيش، لحديث معاوية مرفوعًا: "ليلة القدر [ليلة] (¬6) سبع وعشرين" (¬7). رواه أبو داود. وسن كون من دعائه فيها، ما في حديث عائشة، قالت: يا رسول اللَّه، إنْ وافقتها فبمَ أدعو؟ قال: قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" (¬8). رواه أحمد، وغيره. وأماراتها: "أنها ليلة صافية بلجة، كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب أن يُرمى فيها حتى تصبح، وتطلع الشمس من صبيحتها بيضاء لا شعاع لها (¬9)، وفي بعض الروايات: "مثل ¬
الطست" (¬1)، وفي بعضها: "مثل القمر ليلة البدر، لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ" (¬2). ورمضان أفضل الشهور، وعشر ذي الحجة أفضل من العشر الأخير من رمضان ومن غيره. ¬
فصل في الاعتكاف
فصل في الاعتكاف وهو لغة: لزوم الشيء (¬1)، ومنه {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} (¬2)، وشرعًا: لزوم مسلم لا غسل عليه عاقل ولو كان مميزًا، مسجدًا، ولو ساعة من ليل أو نهار، لطاعة على صفة مخصوصة، كما يأتي (¬3). (والاعتكاف سنة) كل وقت، لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- ومداومته عليه، واعتكف أزواجه معه، وبعده، وهو في رمضان آكد، لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وآكده عشره الأخير، لحديث أبي سعيد: "كنت أجاور هذا العشر، يعني الأوسط، ثم بدا لي أن أجاور هذا العشر الأواخر، فمن كان اعتكف معي فليلبث في معتكفه" (¬4)، ولما فيه من ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر. وإن نذر اعتكاف العشر الأخير، فنقص الشهر أجزأه، لا إن نذر عشرة أيام من آخر الشهر، فنقص، فيقضى يومًا. (ولا يصح) الاعتكاف (ممَّن) أي من شخص (تلزمه) صلاة (الجماعة إلا بمسجد تقام فيه) أي الجماعة (إن أتى عليه صلاة) بخلاف من نذر اعتكاف ساعة مثلًا، في مسجد، في غير وقت صلاة، فلا يشترط كونه مما تقام فيه الجماعة. ¬
(وشرط له) أي الاعتكاف (طهارة مما يوجب غُسلًا)، فلا يبطل بإغماء، ولا نوم، لبقاء التكليف. (وإن نذره) أي الاعتكاف (أو) نذر (الصلاة في مسجد غير) المساجد (الثلاثة) وهي المسجد الحرام، ومسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والمسجد الأقصى (فله فعله في غيره) أي غير المسجد الذي عين الاعتكاف فيه (و) إن نذره (في أحدها) أي الثلاثة (فله فعله فيه وفي الأفضل) منه، (وأفضلها المسجد الحرام) وهو مسجد مكة (ثم مسجد النبي عليه الصلاة والسلام، ثم الأقصى) لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" (¬1) رواه الجماعة، إلا أبا داود. (ولا يخرج من اعتكف منذورًا) أي عن منذور (متتابعًا) لتقييده نذره بالتتابع، أو بنيته، أو إتيانه بما يقتضيه كشهر (إلا لما لابد) له (منه) كإتيانه بمأكل ومشرب، لعدم من يأتيه به، نصًا (¬2)، وكغسل متنجس يحتاجه، وكبول وغائط، وطهارة واجبة، ولو قبل دخول وقت صلاة، لأنه لابد منه للمحدث، لحديث عائشة: "السنة للمعتكف ألا يخرج إلا لما لابد له منه" (¬3) رواه أبو داود. ¬
وله المشي على عادته، فلا يلزمه مخالفتها في سرعة، وله قصد بيته إن لم يجد له مكانًا يليق به بلا ضرر ولا منَّة (ولا يعود) المعتكف (مريضًا، ولا يشهد جنازة، إلا بشرط) بأن يشترط عند النذر الخروج إلى ما لا يلزمه الخروج إليه منهن. (ووطء) في (الفرج يفسده) أي الاعتكاف، ولو ناسيًا، لما روى حرب، عن ابن عباس: إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه، واستأنف الاعتكاف (¬1)، ولأن الاعتكاف عبادة تفسد بالوطء عمدًا، فكذلك سهوًا كالحج (وكذا إنزال بمباشرة) دون الفرج، لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (¬2)، فإن لم ينزل لم يفسد، كاللمس لشهوة. (ويلزم) معتكفًا (لإفساده) أي اعتكافه (كفارة يمين) وجوبًا، لإفساد نذره، ولا يكفر لوطئه إن كان اعتكافه نفلًا كبقية النوافل. (وسن) بتأكد أي: للمعتكف (اشتغاله بالقرب) كصلاة، وقراءة، وذكر (و) سن له (اجتناب ما لا يعنبه) لحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (¬3). ولا بأس أن تزوره زوجته في المسجد، وتتحدث معه، بلا التذاذ بشيء منها، وله أن يتحدث مع من يأتيه ما لم يكثر. ولا يسن له إقراء قرآن، ولا علم، ولا مناظرة فيه، ونحوه، مما يتعدى نفعه، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم-كان يعتكف، فلم ينقل عنه الاشتغال بغير العبادات المختصة به. ¬
ويكره الصمت إلى الليل، وإن نذره لم يف به، لحديث: "لا صمات يوم إلى الليل" (¬1) رواه أبو داود. ويحرم جعل القرآن بدلًا من الكلام: كقولك لمن اسمه يحيى {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} (¬2) لأنه استعمال له في غير ما هو له. وينبغي لمن قصد المسجد أن ينوي الاعتكاف مدة لبثه فيه، لاسيما إن كان صائمًا، ولا بأس أن يتنظف المعتكف، وكره له أن يتطيب، ويستحب له ترك رفيع الثياب، والتلذذ بما يباح له قبل الاعتكاف، وأن لا ينام إلا مع غلبة، ولو مع قرب ماء، وأن لا ينام مضطجعًا بل متربعًا مستندًا، ولا يكره شيء من ذلك، ولا أخذ شعره وأظفاره. ولا يجوز البيع والشراء للمعتكف وغيره في المسجد، نصًّا (¬3)، قال ابن هبيرة (¬4): منع صحته وجوازه أحمد. قال في "الفروع" (¬5): والإجارة كالبيع. ¬
كتاب الحج
كتاب الحج بفتح الحاء لا كسرها في الأشهر، وعكسه شهر الحجة (¬1). ذكره شارح المنتهى (¬2). وهو لغة: القصد إلى من تعظمه (¬3)، وشرعًا: قصد مكة، لعمل مخصوص، في زمن مخصوص يأتي بيانه (¬4). وهو أحد أركان الإسلام ومبانيه، وفرض سنة تسع عند الأكثر (¬5)، قال اللَّه تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ ¬
حِجُّ الْبَيْتِ} (¬1) الآية. والعمرة، وهي لغة: الزيارة (¬2). وشرعًا: زيارة البيت الحرام، على وجه مخصوص يأتي بيانه (¬3). وينبغي لمن أراده المبادرة به، والاجتهاد في رفيق صالح، ويكون خروجه يوم خميس أو اثنين بكرة، ويقول إذا خرج، أو نزل منزلًا، ونحوه، ما ورد (¬4)، ويصلي في منزله ركعتين. (يجبان) أي الحج والعمرة لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬5)، وحديث عائشة قالت: "يا رسول اللَّه، هل على النساء من جهاد؟ قال: نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج ¬
والعمرة" (¬1) رواه أحمد، وابن ماجه، بإسناد صحيح. وإذا ثبت في النساء فالرجال أولى. ولمسلم عن ابن عباس: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" (¬2) وإنما يجبان (على) من كمل فيه شروط خمسة: وهو (المسلم، الحر، المكلف المستطيع) فالإسلام والعقل، شرطان للوجوب والصحة، فلا يصحان من كافر ومجنون، ولو أحرم عنه وليُّه، والبلوغ وكمال الحرية، شرطان للوجوب والإجزاء دون الصحة، واكتفى بالتكليف عن ذكر البلوغ والعقل طلبًا للاختصار، والاستطاعة شرط للوجوب دون الإجزاء، للآية والأخبار (¬3)، ولا تبطل بجنون، ولو مطبقًا، فيحج عنه، وهي: ملك زاد يحتاجه في سفره ذهابًا وإيابًا، من مأكول، ومشروب، وملبوس. ولا يلزمه حمله إن وجد بثمن مثله، أو أزيد يسيرًا بالمنازل في طريق الحاج، لحصول المقصود. وملك راحلة لركوبه بآلتها، تصلح لمثله، لحديث أحمد، عن الحسن: لما نزلت هذه الآية: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬4) قال رجل: يا رسول اللَّه، ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة" (¬5). وذلك لمن منزله عن مكة مسافة قصر، فلا يعتبر ملك راحلة فيما دونها، للقدرة على ¬
المشي فيها غالبًا، إلا العاجز عن مشي، كشيخ كبير، فيعتبر له ملك الراحلة. ولا يلزمه السير حبوًا، ولو أمكنه ذلك، وأما الزاد فيعتبر، قربت المسافة أو بعدت. أو ملك ما يقدر به على تحصيل الزاد والراحلة، فإن لم يملك ذلك؛ لم يلزمه الحج. لكن يستحب لمن أمكنه المشي والكسب بالصنعة، ويكره لمن حرفته المسألة. فاضلًا عما يحتاج من كتب، ومسكنٍ، وخادم، ولباس صالح لمثله، وعن ما لا بد منه، وعن قضاء دينه حالًّا أو مؤجلًا، وعن مؤنته ومؤنة عبده، لحديث: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت" (¬1). على الدوام، من عقار، أو بضاعة، أو صناعة، ولا يصير مستطيعًا ببذل غيره له ما يحتاجه لحجه وعمرته، ولو أباه أو أُمَّه (¬2) للمنة. ومن الاستطاعة سعة وقت، وأمن طريق يمكن سلوكه، ولو بحرًا، لحديث: "لا يركب البحر إلا حاجًّا، أو معتمرًا، أو غازيًا" (¬3). رواه أبو داود وسعيد. أو كان بلا خفارة (¬4) في الطريق، فإن لم يمكنه سلوكه إلا بها، ¬
لم يجب، ولو يسيرة في ظاهر كلامه. وإنما يجبان (في العمر مرة) لحديث أبي هريرة: "خطبنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: أكل عام يا رسول اللَّه؟ فسكت، حتى قالها ثلاثًا، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم" (¬1) رواه أحمد ومسلم والنسائي. (على الفور) من غير تأخير لمن كملت شروطه. (فإن زال مانع حج) بأن أسلم كافر، أو أفاق مجنون، أو بلغ صغير، أو عتق قِنٌّ مكلف، والحال أنه (بعرفة) قبل أن يدفع منها، أو بعده، إن عاد فوقف بها في وقته، أجزأه حجه، ويلزمه العود حيث أمكن أ (و) زال مانع (عمرةٍ) بأن بلغ، أو عتق محرم بعمرة (قبل طوافها) أي العمرة (وفُعلا) إذن، أي بعد بلوغ وعتق (وقعا فرضًا). ويكون صغير بلغ محرمًا، وقن عتق محرمًا، كمن أحرم بعد بلوغه وعتقه، لأنها حال تصلح لتعيين الإحرام، كحال ابتداء الإحرام. ولا يجزئ حج عن حجة الإسلام مع سعي قن وصغير بعد طواف القدوم، قبل وقوف، ولو أعاده بعد بلوغه أو عتقه، لأن السعي لا تشرع مجاوزة عدده، ولا تكراره، بخلاف الوقوف، فاستدامته مشروعة، ولا قدر له محدود (¬2). ويصح الحج، وكذا العمرة، من صغير ذكر، أو أنثى، ولو ابن ساعة، لحديث ابن عباس: أن امرأة رفعت إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صبيًّا، فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أجر" (¬3). رواه مسلم. ¬
تتمة
ويُحرم ولي في مال عن من لم يميز، لتعذر النية منه، فإن لم يكن ولي فيحرم عنه من يتولاه، كفي قبول زكاة وهبة، ولو كان الولي محرمًا أو لم يحج ويقع لازمًا، وحكمه كالمكلف، نصًّا (¬1). ويُحرم مميز عن نفسه بإذن وليه، لأنه يصح وضوؤه، فيصح إحرامه، كالبالغ، ويفعل ولي عن مميز وغيره ما يعجزهما من أفعال حج وعمرة، لكن لا يبدأ ولي في رمي جمرات إلا بنفسه، كنيابة حج، ولا يعتد برمي حلال لا عن نفسه، ولا عن غيره، وإن أمكن مناولة صغير نائبًا الحصى ناوله، وإلا استحب وضعه في كفه، ثم أخذه منه، ويرمي عنه. ويُطاف بالصغير لعجزه عن طواف بنفسه، راكبًا، أو محمولًا، ككبير عاجز، ويعتبر لطواف صغير نية طائف به، لتعذر النية منه، ولا يعتبر كون الطائف به طاف عن نفسه، ولا كونه محرمًا، بخلاف الرمي. وكفارة حج صغير، وما زاد عن نفقة الحضر، في مال وليه إن أنشأ السفر به تمرينًا على الطاعة، لأنه الذي أدخله فيه، ولو تركه لم يتضرر بتركه، وإن لا ينشئ السفر، بل سافر به لتجارة، أو خدمة، أو ليستوطن بمكة، ونحو ذلك، فلا تجب على الولي، بل من مال الصغير، لأنه لمصلحته. وعمد صغير ومجنون؛ خطأ، لا يجب فيه إلا ما يجب في خطأ مكلف، أو في نسيانه لعدم اعتبار قصده. تتمة: لا يمنع زوج امرأته من حج فرض كملت شروطه، كبقية الواجبات، ويستحب لها استئذانه، وإن كان غائبًا كتبت إليه، فإن أذن، وإلا حجت بمحرم. ولكل من أبوي حر بالغ، حرين، منعه من إحرام بنفل حج، أو ¬
عمرة، أو جهاد، للأخبار (¬1)، وما يفعله في الحضر من نفل نحو صلاة وصوم فلا يعتبر فيه إذن، وكذا السفر لواجب، كحج، وعلم، لأنه فرض عين، كالصلاة، وتجب طاعتهما في غير معصية، قال الشيخ تقي الدين (¬2): فيما فيه نفع لهما، ولا ضرر عليه، ولو شق عليه، ولا يحللانه إذا أحرم. ولا يحلل غريم مدينًا أحرم بحج أو عمرة، لوجوبهما بالشروع (وإن عجز) من وجب عليه الحج والعمرة عن السعي (لكبر، أو مرض لا يُرجى برؤه) لنحو زمانة، أو لثقل، بحيث لا يقدر معه على ركوب إلا بمشقة شديدة، أو لكونه نِضْوَ (¬3) الخلقة، لا يقدر ثبوتًا على راحلة إلا بمشقة غير محتملة (لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر) حديث ابن عباس: أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول اللَّه، إن أبي أدركته فريضة اللَّه في الحج شيخًا كبيرًا، لا يستطيع أن يستوي على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "حجي عنه" (¬4). متفق عليه، وعلم من الحديث جواز نيابة المرأة عن الرجل، فعكسه أولى (من حيث وجبا) أي من بلد العاجز، لأنه وجب عليه كذلك. ¬
ويكفي أن ينوي النائب عن المستنيب وإن لم يسمه لفظًا، وإن نسي اسمه ونسبه نوى عمن دفع إليه المال ليحج ضنه (ويجزئه) (¬1) أي المستنيب فعل نائب (ما لم يبرأ قبل إحرام نائب) فإن برأ قبل إحرام نائبه لم يجزئه، لقدرته على المبدل قبل الشروع في البدل، ومن يُرجى برؤه لا يستنيب، فإن فعل لم يجزئه. (وشرط لـ) وجوب حج أو عمرة على (امرأة مَحْرَم أيضًا) نصًّا (¬2)، قال: المحرم من السبيل (¬3). فمن لم يكن لها محرم لم يلزمها الحج بنفسها ولا بنائبها، ولا فرق بين الشابة والعجوز نصًّا (¬4)، ولا بين طويل السفر وقصيره، لحديث ابن عباس: "لا تسافر امرأة إلا مع محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم. فقال رجل: يا رسول اللَّه، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج؟ فقال: أخرج معها" (¬5). رواه أحمد. والمحرم معتبر لمن لعورتها حكم، وهي بنت سبع سنين، فأكثر. ونفقة المحرم عليها، ولا يلزمه مع بذلها ذلك له سفر معها، وتكون كمن لا محرم لها (فإن أيست) المرأة (منه) أي من المحْرَم (استنابت) من يفعل النسك عنها، ككبير عاجز، والمراد أيست بعد أن وجدت المحرم، وفرطت بالتأخير، حتى فقد، لما قدمناه من نص الإمام (¬6)، وإن حجت بدون محرم حرم وأجزأ، وإن مات بالطريق مضت في حجها، إذ لا تستفيد برجوعها شيئًا، لأنها مع غير محرم. ¬
(وإن مات من لزماه) أي الحج والعمرة، بأصل الشرع، أو بإيجابه على نفسه، ولو قبل التمكن من فعله (أخرجا من تركته) أي أخرج عنه من جميع مالِه حجة وعمرة من بلده، نصًّا (¬1)، لأن القضاء يكون بصفة الأداء، ولو لم يوص بذلك، لحديث ابن عباس، أن امرأة قالت: يا رسول اللَّه، إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دَيْن أكنت قاضيته؟ اقضوا اللَّه، فاللَّه أحق بالوفاء" (¬2) رواه البخاري. ويجزئ أن يستناب عن معضوب (¬3)، أو ميت له وطنان، من أقرب وطنيه، ويجزئ من خارج بلده، إلى دون مسافة قصر. ويسقط حج عمن وجب عليه، ومات قبله، بحج أجنبي عنه بدون مال، ودون إذن وارث، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- شبَّهه بالدين، وكذا عمرة، ولا يسقط عن حي معضوب، بفعل أجنبي إلا بإذنه، كدفع زكاة مال حي عنه بلا إذنه، بخلاف الدين، لأنه ليس بعبادة. ومن وجب عليه نسك، ومات قبله، وضاق ماله عن أدائه من بلده، استنيب عنه من حيث بلغ، أو لزمه دَيْن وعليه حج، وضاق ماله عنهما، أخذ من ماله لحج بحصته كسائر الديون، وحج به من حيث بلغ، لحديث: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬4). ولا يصح ممن لم يحج عن نفسه حج عن غيره، فرضًا، ولا نذرًا، ولا نفلًا، حيًا كان المحجوج عنه، أو ميتًا، فإن فعل انصرف إلى حجة الإسلام، لحديث ابن عباس: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سمع رجلًا يقول: لبيك عن شبرمة قال: ¬
حججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة" (¬1). رواه الإمام أحمد، واحتج به. ولو أحرم بنذر أو نفل من عليه حجة الإسلام، وقع حجه عنها، والنائب كالمنوب عنه. (وسنَّ لمريد إحرام) قال ابن فارس (¬2): هو نية الدخول في التحريم، كأنه (¬3) يحرم على نفسه الطيب والنكاح وأشياء من اللباس، كما يقال: أشتى إذا دخل في الشتاء، وأربع إذا دخل في الربيع. وشرعًا: نية النسك (¬4) -أي نية الدخول فيه- لا نية أن يحج أو يعتمر. وسن لمريده (غسل) للخبر (¬5)، ولو حائضًا أو نفساء لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل (¬6) رواه مسلم. وأمر عائشة أن ¬
تغتسل لإهلال الحج وهي حائض (¬1). متفق عليه. (أو تيمم لعذر) من عدم ماء، أو عجز عن استعماله، لنحو مرض، لعموم الآية (¬2)، ولا يضر حَدَثُه بين غسل وإحرام، كغسل الجمعة. (و) سن له (تنظف) بأخذ شعره، وظفره، وقطع رائحة كريهة، ولأن الإحرام يمنع أخذ الشعر والأظفار، فاستحب قطعه قبله. (و) سن له (تطيب في بدن) بما تبقى عينه كمسك، أو أثره كماء ورد وبخور، لقول عائشة: كنت أطيب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. وقالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو محرم (¬3). متفق عليه. (وكُره) لمريد إحرام تطيب (في ثوب) وله استدامة لبسه في إحرامه ما لم ينزعه، فإن نزعه، لم يلبسه حتى يغسل طيبه، لزومًا، لأن الإحرام يمنع الطيب، ولبس المطيب، دون الاستدامة. ومتى تعمد محرم مسَّ طيب على بدنه، أو نحاه عن موضعه ثم رده إليه، أو نقله إلى موضع آخر؛ فدى، لا إن سال بعَرَقٍ، أو شمس. (و) سن لمريده (إحرام بإزار ورداء أبيضين) نظيفين جديدين، أو غسيلين، ونعلين، لحديث: "وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين" (¬4) رواه ¬
أحمد، ويكون لبسه ذلك بعد تجرد ذكر من مخيط، كقميص، وسراويل، وخُفٍّ، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم-"تجرد لإهلاله" (¬1) رواه الترمذي. وسن إحرامه (عقب) صلاة (فريضة، أو) عقب صلاة (ركعتين) نفلًا، نصًا (¬2)، لأنه عليه السلام "أهل في دبر صلاة" (¬3) رواه النسائي (في غير وقت نهي) لتحريم النفل إذن، ويستحب أن يستقبل القبلة عند إحرامه، صح ذلك عن ابن عمر (¬4). (ونيته) أي الإحرام (شرط) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬5) ولأنه عمل وعبادة محضة، فافتقر إليها، كالصلاة. (والاشتراط فيه) أي الإحرام (سُنة) لحديث ضباعة بنت الزبير حين قالت له: إني أريد الحج، وأجدني وجعة. قال: حجي واشترطي، وقولي: اللهم محلي حيث حبستني" (¬6) متفق عليه. زاد النسائي في رواية إسنادها ¬
جيد: "فإن لك على ربك ما استثنيت" (¬1)، فيقول: اللهم إني أريد النسك الفلاني، فيسره لي، وتقبله مني، وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني. فيستفيد أنه متى حبس بمرض، أو عدو، ونحوه؛ حل، ولا شيء عليه، نصًّا (¬2)، ولو شرط أن يحل متى شاء، وإن أفسده، لم يقضه؛ لم يصح شرطه، لأنه لا عذر له فيه. ويبطل إحرام ويخرج منه بردة، لعموم قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬3) ولا يبطل بجنون، وإغماء وسكر كموت، ولا ينعقد إحرام مع وجود أحدها لعدم صحة القصد. ويُخير مُريد إحرام بين ثلاثة أشياء: تمتع، فإفراد، فقران، وأفضل الثلاثة التمتع، كما قال: (وأفضل الأنساك التمتع) نصًّا (¬4)، فإنه آخر ما أمر به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ففي "الصحيحين" أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر أصحابه لما طافوا وسعوا أن يجعلوها عمرة، إلا من ساق هديًا (¬5)، وثبت على إحرامه لسوقه الهدي، وتأسف بقوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت هديًا، ولأحللت معكم" (¬6) ولا ينقل أصحابه إلا إلى الأفضل، ولا يتأسف إلا عليه، ولما في التمتع من اليسر والسهولة مع كمال أفعال النسكين. ¬
(وهو) أي التمتع (أن يحْرِمَ بعمرة في أشهر الحج) نصًا (¬1)، وهي: شوال، وذو القعدة، وتسع من ذي الحجة، نصًا (¬2). قال الأصحاب: (ويفرغ منها)، وفي "المستوعب" (¬3): ويتحلل (ثم) يحرم (به) أي الحج (في عامه) من مكة أو قربها أو بعيد منها، فلو كان أحرم قبل أشهر الحج لم يكن متمتعًا، ولو أتم أفعالها في أشهره. (ثم) بعد التمتع في الأفضلية (الإفراد) لأن فيه كمال أفعال النسكين، (وهو) أي الإفراد (أن يحرم بحج) ابتداء (ثم) يحرم (بعمرة بعد فراغه منه) أي الحج مطلقًا. (و) صفة (القِران أن يحرم بهما) أي الحج والعمرة (معًا أو) يُحرم (بها) أي العمرة ابتداء (ثم يدخله) أي الحج (عليها)، أي العمرة، لما في الصحيحين أن ابن عمر فعله، وقال: هكذا صنع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). ويكون إدخال حج عليها (قبل الشروع في طوافها) أي العمرة، فلا يصح بعد الشروع فيه لمن لا هدي معه، كما لو أدخله عليها بعد سعيها، وسواء كان في أشهر الحج، أو لا. ويصح إدخال حج على عمرة ممن معه هدي ولو بعد سعيها، بل يلزمه، لأنه مضطر إليه، لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬5) ومن أحرم بالحج، ثم أدخل العمرة عليه، لم يصح إحرامه بها، لأنه لم يرد به أثرٌ، ولم يستفد به فائدة، بخلاف ما سبق، فلا يصير قارنًا، ¬
وعمل قارن كمفرد، نصًّا (¬1)، ويسقط ترتيبها، ويصير الترتيب للحج، كما يتأخر الحلاق إلى يوم النحر، فوطؤه قبل طواف القدوم لا يفسد عمرته، إذا وطئ وطئًا لا يفسد الحج، مثل إن وطئ بعد التحلل الأول. (و) يجب (على كلِّ من متمتع وقارن إذا كان أُفقيًّا)، أي لم يكن من حاضري المسجد الحرام (دم نسك) لا دم جبران، إذ لا نقص في التمتع يجبره، وهذا في التمتع، والقران مقيس عليه، أما المتمتع فلقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2) وذلك إجماعًا (¬3)، وأما القارن فلأنه ترفه بسقوط أحد السفرين، كالمتمتع (بشرطه) المعتبر له، وهو: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام للآية (¬4)، وهم أهل الحرم، ومن كان منه دون مسافة قصر، فمن كان له منزلان متأهل بهما، أحدهما دون مسافة قصر من الحرم، والآخر فوقها أو مثلها، لم يلزمه دم تمتع، ولو أحرم من أبعدهما. الثاني: أن يعتمر في أشهر الحج، فلو أحرم بالعمرة في رمضان، ثم حل منها في شوال، لم يكن متمتعًا، كما تقدم آنفًا (¬5)، وإن أحرم الأفقي بعمرة في غير أشهر الحج، ثم أقام بمكة، واعتمر في الحل في أشهر الحج، وحج من عامه، فهو متمتع، نصًّا (¬6)، وعليه دم، لعموم الآية. الثالث: أن يحج من عامه. الرابع: أن لا يسافر بين الحج والعمرة مسافة قصر فأكثر، فإن فعل، فأحرم بالحج، فلا دم عليه، نصًّا (¬7)، لما روي عن عمر، أنه قال: إذا اعتمر ¬
في الحج ثم أقام فهو متمتع، فإن خرج ورجع فليس بمتمتع (¬1). وعن ابن عمر نحو ذلك (¬2). الخامس: أن يحل من العمرة قباب إحرامه بالحج، فإن أحرم به قبل حله منها صار قارنًا. السادس: أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده، أو من مسافة قصر من مكة، فلو أحرم من دون مسافة قصر من مكة، لم يكن عليه دم تمتع، ويكون حكمه حكم حاضري المسجد الحرام. ولا يعتبر لوجوب دم تمتع وقران وقوع الحج والعمرة عن واحد، فلو اعتمر عن واحد، وحج عن آخر، وجب الدم بشرطه. ولا تعتبر هذه الشروط في كون الآتي بالحج والعمرة يسمى متمتعًا، فإن المتعة تصح من المكي كغيره، لكن ليس عليه دم متعة، كما تقدم، ويلزم الدم بطلوع فجر يوم النحر. ولا يسقط دم تمتع وقران بفساد نسكهما، لأن ما وجب الإتيان به في الصحيح وجب في الفاسد، كالطواف، وغيره، وسن لمفرد، وقارن؛ فسخ نيتهما، نصًا (¬3)، وينويان بإحرامهما عمرة مفردة، فمن كان منهما قد طاف وسعى، قصَّر وحلّ من إحرامه، وإن لم يكن طاف وسعى، فإنه يطوف ويسعى ويقصر ويحل، فإذا حلّا، أحرما بالحج، ليصيرا متمتعين، ما لم يسوقا هديًا، فإن ساقاه لم يصح الفسخ للخبر (¬4)، وكذا إن وقفا بعرفة، لم ¬
يصح الفسخ أيضًا لعدم ورود ما يدل على إباحته. وإن ساق الهدي متمتع، لم يكن له أن يُحلَّ من عمرته، فيحرم بحج إذا طاف وسعى لعمرته، قبل تحلل بحلق، لحديث ابن عمر: تمتع الناس مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعمرة إلى الحج، فقال: "من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى يقضي حجه" (¬1) فإذا ذبحه يوم النحر منهما معًا، نصًا (¬2)، لأن التمتع أحد نوعي الجمع بين الحج والعمرة كالقران، ولا يصير قارنًا، لاضطراره لإدخال حج على عمرته. (وإن حاضت متمتعة) أو نفست، قبل طواف العمرة (فخشيت فوات الحج) أو خشي غيرها فوات الحج (أحرمت به) أي الحج، وجوبًا (وصارت قارنة) لحديث مسلم: أن عائشة كانت متمتعة، فحاضت، فقال لها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أهليِّ بالحج" (¬3)، ولم تقض هي، ولا غيرها، طواف القدوم، لفوات محله، كتحية المسجد. ويجب على قارن وقف قبل طواف وسعي دمُ قران، إن لم يكن من حاضري المسجد الحرام، قياسًا على التمتع كما تقدم (¬4)، فإن كان أحرم بالعمرة، وطاف وسعى لها، ثم أدخل الحج عليها، لسوقه الهدي، فعليه دم تمتع، وليس بقارن، كما تقدم، وتسقط العمرة عن القارن، فتندرج أفعالها في الحج، لحديث ابن عمر مرفوعًا: "من أحرم بالحج والعمرة، أجزأه طواف واحد وسعي واحد عنهما، حتى يحل منهما جميعًا" إسناده جيد، رواه النسائي، والترمذي، وقال: حسن غريب (¬5). ¬
ومن أحرم فلم يعين نسكًا، صح إحرامه، وصرفه لما شاء من الأنساك، وما عمل قبل صرفه لأحدها فهو لغو، لا يعتد به، لعدم التعيين، وإن أحرم بما أو بمثل ما أحرم به فلان، وعلم ما أحرم به قبل إحرامه أو بعده، انعقد إحرامه بمثله، لحديث جابر، أن عليًا قدم من اليمن، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بمَ أهللت؟ قال: بما أهل به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال: فأهل وامكث حرامًا" (¬1)، وعن أبي موسى نحوه، متفق عليهما (¬2). فإن تبين إطلاق الثاني صرفه لما شاء. ومن أحرم بحجتين أو بعمرتين، انعقد بأحدهما، لأن الزمن لا يصلح لهما مجتمعين، فصح بواحد منهما كتفريق الصفقة. ومن أحرم بنسك، أو بنذر، فنسيه قبل طواف، صرفه إلى عمرة استحبابًا، لأنه اليقين، ويجوز إلى غيرها، فإن صرفه إليه صح حجًّا فقط، لاحتمال أن يكون المنسي حجًا مفردًا، فلا يصح إدخال عمرة عليه، فلا تسقط بالشك، ولا دم عليه، لأنه ليس بمتمتع ولا قارن، وإن صرفه إلى تمتع فكفسخ حج إلى عمرة، فيصح، إن لم يقف بعرفة، ولم يسق هديًا، كما تقدم (¬3)، ويلزمه دم متعة بشروطه المتقدمة، ويجزئه تمتعه عن الحج والعمرة، لصحتهما بكل حال. ومن أخذ من اثنين حجتين ليحج عنهما في عام واحد أدِّبَ على فعله ¬
ذلك، لأنه فعل محرمًا، وإن أحرم عن أحدهما بعينه، صح، ولم يصح إحرامه للآخر في تلك السنة. (وتسن التلبيةُ) لمن أحرم، عين نسكًا، أو لم يعينه، عقب إحرامه، لقول جابر: فأهل رسول اللَّه بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. . . الحديث متفق عليه (¬1). فتسن التلبية كتلبيته -صلى اللَّه عليه وسلم-. والتلبية من ألبَّ بالمكان إذا لزمه (¬2)، كأنه قال: أنا مقيم على طاعتك وأمرك. وثنيت وكررت، ولفظ لبيك مثنى، ولا واحد له من لفظه، ومعناه التكثير (¬3)، ولا تستحب الزيادة عليها. وسن ذكر نسكه في التلبية، والقارن يبدأ بذكر العمرة لحديث أنس سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لبيك عمرة وحجًا" (¬4) متفق عليه. ويسن الإكثار من التلبية، لحديث "ما من مسلم يَضحى للَّه، يلبي حتى تغيب الشمس، إلا غابت بذنوبه، فعاد كما ولدته أمه" (¬5) رواه ابن ماجه. (وتتأكد) التلبية (إذا علا نشزًا) بالتحريك، أي مكانًا ¬
مرتفعًا (¬1) (أو هبط واديًا أو صلى مكتوبة، أو أقبل ليل، أو) أقبل (نهار، أو التقت الرفاق، أو ركب) دابته (أو نزل) عنها (أو سمع ملبيًا، أو رأى البيت، أو فعل محظورًا ناسيًا) لحديث جابر: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يلبي في حجته إذا لقي راكبًا، أو على أكمة، أو هبط واديًا، وفي أدبار الصلوات المكتوبة، وفي آخر الليل" (¬2). وسن جهر ذكر بها، لقول أنس: سمعتهم يصرخون بها صراخًا (¬3). رواه البخاري، وخبر السائب بن خلاد: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية" (¬4) رواه الخمسة، وصححه الترمذي. ولا تسن التلبية في مساجد الحلِّ، وأمصاره، بخلاف البراري، وعرفات، والحرم، ومكة. قال أحمد: إذا أحرم في مصره، لا يعجبني أن يلبي حتى يبرز، لقول ابن عباس لمن سمعه يلبي بالمدينة: إن هذا لمجنون، إنما التلبية إذا برزت (¬5). ولا يلبي في طواف القدوم، والسعي بعده، لئلا يخلط على الطائفين والساعين. وتشرع التلبية بالعربية لقادر عليها، وإلا فبلغته. ¬
وسن دعاء بعدها، فيسأل اللَّه الجنة، ويستعيذ به من النار، ويدعو بما أحب، لحديث الدارقطني، عن خزيمة بن ثابت: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا فرغ من تلبيته، سأل اللَّه مغفرته ورضوانه، واستعاذ برحمته من النار (¬1). وسن صلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعدها، لأنه موضع شرع فيه ذكر اللَّه، فشرع فيه ذكر رسوله، كأذان. ولا يسن تكرارها في حالة واحدة. قاله أحمد (¬2). لعدم وروده. وكره لأنثى جهر بتلبية، مخافة الفتنة بها، ولا يكره لحلال تلبية، كسائر الأذكار. (وكره إحرام) بحج أو عمرة (قبل ميقات) وينعقد، لما روى سعيد، عن الحسن، أن عمران بن حصين أحرم من مصره، فبلغ ذلك عمر، فغضب، وقال: يتسامع الناس أن رجلًا من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحرم من مصره (¬3). وقال البخاري: كره عثمان أن يحرم من خراسان وكرمان (¬4). ¬
ولحديث أبي يعلى الموصلي (¬1)، عن أبي أيوب مرفوعًا: "يستمتع أحدكم بحله ما استطاع، فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه" (¬2). (و) كره إحرام (بحج قبل أشهره) قال في "الشرح" (¬3): بغير خلاف علمناه. وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، منها يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر، لحديث ابن عمر مرفوعًا: "يوم النحر يوم الحج الأكبر" (¬4) رواه البخاري، وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} (¬5) أي في أكثرهن، وإنما فات الحج بفجر يوم النحر، لفوات الوقوف، لا لفوات الحج، ثم الجمع يقع على اثنين وبعض آخر، والعرب تغلب التأنيث في العدد خاصة لسبق الليالي فتقول: سرنا عشرًا. وينعقد إحرام الحج بحج في غير أشهره، لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (¬6) وكلها مواقيت للناس، فكذا ¬
الحج كالميقات المكاني، وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ} أي: معظمه فيها، كحديث "الحج عرفة" (¬1). وقول ابن عباس: السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج (¬2). على الاستحباب، والإحرام تتراخى الأفعال عنه، فهو كالطهارة، ونية الصوم، بخلاف نية الصلاة. ¬
فصل في المواقيت
فصل في المواقيت جمع ميقات، وهو لغة: الحد (¬1)، وعرفًا: مواضع وأزمنة معينة لعبادة مخصوصة من حج وغيره (¬2)، والكلام هنا في الحج والعمرة. (وميقات أهل المدينة) المنورة ذو (الحُليفة) بضم الحاء وفتح اللام، أبعد المواقيت من مكة، بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة (¬3)، وبينها وبين مكة عشر مراحل، وتعرف الآن بالإحساء. (و) ميقات أهل (الشام ومصر والمغرب الجُحفة) بضم الجيم وسكون الحاء المهملة، قرية جامعة على طريق المدينة، خَرِبَة قرب رابغ، على يسار الذاهب لمكة، تعرف الآن بالمقابر، وكان اسمها مَهْيَعَة، فجحف السيل بأهلها، فسميت بذلك، وتلي ذا الحُليفة في البُعد، وبينها وبين مكة ثلاث مراحل، أو أربع، وبينها وبين المدينة ثمان مراحل (¬4). ومن أحرم من رابغ فقد أحرم قبل الميقات بيسير. (و) ميقات أهل (اليمن يلملم) بينه وبين مكة مرحلتان، ثلاثون ميلًا (¬5). (و) ميقات أهل (نجد) الحجاز، وأهل نجد اليمن، وأهل الطائف (قَرْن) بفتح القاف وسكون الراء، ويقال له: قرن المنازل، وقرن الثعالب، ¬
على يوم وليلة من مكة (¬1). (و) ميقات أهل (المشرق) أي العراق وخراسان وباقي المشرق (ذات عِرْق) منزل معروف، سمي بذلك لعرق فيه -أي جبل صغير- أو أرض سبخة تنبت الطَّرفاء (¬2). وهذه المواقيت لأهلها المذكورين، ولمن مر بها من غير أهلها، كالشامي يمر بالمدينة (ويحرم من بمكة لحج منها) للخبر (¬3)، ويصح أن يحرم من الحل له، ولا دم (و) يحرم من بمكة (لعمرة من الحلِّ) لأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم (¬4). متفق عليه (¬5). ولأن أفعال العمرة كلها من الحرم، فلم يكن بد من الحل، ليجمع في إحرامه بينهما، بخلاف الحج، فإنه يخرج إلى عرفة، فيحصل الجمع، ويصح إحرامه من مكة لعمرة، وعليه دم، لتركه واجبًا، كمن جاوز ميقاتًا بغير إحرام، وتجزئه عن عمرة الإسلام، لأن الإحرام من الحل ليس شرطًا لصحتها. ومن لم يمر بميقات، أحرم بحج أو عمرة وجوبًا، إذا علم أنه حاذى ¬
تنبيه
أقربها منه، لقول عمر: انظروا حذوها من قُديد (¬1). رواه البخاري. وسن له أن يحتاط ليخرج من عهدة الوجوب، فإن لم يحاذ ميقاتًا، أحرم عن مكة بقدر مرحلتين. (وأشهر الحج، شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة) منها يوم النحر، كما تقدم. تنبيه: لا يحل لمكلف حر مسلم أراد مكة، أو أراد نسكًا، تجاوز ميقات بلا إحرام، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقَّت المواقيت، ولم ينقل عنه، ولا عن أحد من أصحابه أنه تجاوز ميقاتًا بلا إحرام. وعلم منه أنه يجوز الإحرام من أول الميقات ومن آخره، لكن أوله أولى. إلا إن تجاوزه لقتال مباح، لدخوله -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم فتح مكة وعلى رأسه المغفر (¬2)، ولم ينقل عنه، ولا عن أحد من أصحابه أنه دخل مكة محرمًا ذلك اليوم، أو تجاوزه لخوف، أو حاجة تكرر، كحطاب وحشاش، ونحو ذلك، ثم إن بدا لمن لم يلزمه الإحرام أن يحرم، أو بدا لمن لم يرد الحرم، ¬
كقاصد عُسفَان (¬1) أن يحرم، فمن موضعه يحرم، لأنه حصل دون الميقات على وجه مباح، فأشبه ذلك المكان، ولا دم عليه، لأنه لم يجاوز الميقات حال وجوب الإحرام عليه بغير إحرام. ومن تجاوزه يريد نسكًا بلا إحرام، أو كان النسك فرضًا، ولو كان جاهلًا أنه الميقات، أو ناسيًا، لزمه أن يرجع إلى الميقات، فيحرم منه، حيث أمكن، كسائر الواجبات، إن لم يخف فوت حج، أو غيره، كعلى نفسه، أو ماله، ولا دم عليه، نصًّا (¬2)، فإن خاف، لم يلزمه رجوع، ويحرم من موضعه، ويلزمه دم، لما روى ابن عباس مرفوعًا: "من ترك نسكًا فعليه دم" (¬3). وقد ترك واجبًا، وسواء كان لعذر، أو غيره. ولا يسقط الدم إن أفسد النسك، نصًّا (¬4)؛ لأنه كالصحيح نصًّا (¬5)، كدم محظور. (ومحظورات) أي ممنوعات (الإحرام) أي المحرمات بسببه (تسعة: ) أحدها: (إزالة شعر) من بدن كله، ولو من أنفه، بلا عذر، لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬6) وألحق بالحلق: القلع، والنتف، ونحوه، وبالرأس: سائر البدن، بجامع الترفه. (و) الثاني: (تقليم أظفار) من يد، أو رجل أصلية أو زائدة، أو قصه، ونحوه، لأنه إزالة جزء من بدن يترفه به، أشبه الشعر بلا عذر، فإن زال شعره، أو ظفره، لعذر، لم يحرم، لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ ¬
بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬1)، ولحديث مسلم، عن كعب بن عُجْرة وفيه: وكأن هوام رأسك تؤذيك؟ فقلت: أجل. فقال: "فاحلقه واذبح شاة، أو صم ثلاثة أيام، أو تصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين" (¬2)، فإن أزاله لأذاه، كما لو خرج بعينه شعر، أو انكسر ظفره، فأزالهما؛ فلا فدية، لأنه أزيل لأذاه، أشبه قتل الصيد الصائل عليه، أو زال الشعر والظفر مع غيرهما، كقطع جلد عليه شعر، أو أنملة بظفرها، فلا يفدي، لأنهما بالتبعية لغيرهما، والتابع لا يفرد بحكم. ومن طُيِّب، أو حُلق رأسه مثلًا، أو قلم ظفره بإذنه، أو سكت ولم ينهه، ولو بغير أذنه، أو حلق رأس نفسه، أو قلم ظفره كرهًا، فعليه الفدية دون الفاعل، ولو محرمًا، لأنه تعالى أوجب الفدية بحلق الرأس، مع أن العادة أن غيره يحلقه، ولأن المفعول به ذلك مفرط بسكوته، وعدم نهيه. وإن حلق رأسه مكرهًا بيد غيره، أو نائمًا، فالفدية على حالق، وكذا من طيَّب غيره مكرهًا، أو ألبسه ما يحرم عليه، ولا فدية بحلق محرم شعر حلال، أو تطييبه بلا مباشرة طيب. ويباح لمحرم غسل شعره بسدر، ونحوه، نصًّا (¬3) في حمام، وغيره، بلا تسريح، وله -أيضًا- حك بدنه، ورأسه برفق، ما لم يقطع شعرًا. (و) الثالث: (تغطية رأس ذكر) إجماعًا (¬4)، لنهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن لبس العمائم والبرانس (¬5) وقوله في المحرم الذي وقصته (¬6) ناقته: "ولا تخمروا ¬
رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا" (¬1). متفق عليهما. وتقدم أن الأذنين من الرأس (¬2)، وكذا البياض فوقهما، فمتى غطى رأسه بلاصق معتاد، كبرنس، وعمامة، أو غيره، ولو بقرطاس به دواء، أو لا، أو غطاه بطين، أو نورة، أو حناء، أو عصبة، ولو بسير، حرم بلا عُذْر، وفدى، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها" (¬3). ونهى أن يشد الرجل رأسه بالسير، ذكره القاضي (¬4)، وكذا يحرم ستره بغير لاصق، كأن يستظل بمحمل، ونحوه، أو بثوب، ونحوه، كخوص، وريش يعلو الرأس ولا يلاصقه، راكبًا أو لا، بلا عذر، ويفدي، أشبه ما لو ستره بشيء يلاصقه، بخلاف نحو خيمة. ولا يحرم أن يحمل على رأسه شيئًا، كطبق، ومكتل، أو نصب حياله شيئًا يستظل به، لأنه لا يقصد استدامته، أشبه الاستظلال بحائط، أو شجرة، أو بيت، لحديث جابر في حجة الوداع: وأمر بقبة من شر فضربت ¬
له بنمرة، فأتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس (¬1). رواه مسلم. وكذا لو غطى وجهه لم يحرم ولا فدية، لأنه لم يتعلق به سنة التقصير، فلم يتعلق به سنة التخمير. قلت: ومثل حمله على رأسه شيئًا، كما لو وضع رأسه على نحو وسادة، فالظاهر أنه لا يحرم ولا فدية، ولم أقف على من صرح بذلك. (و) الرابع: (لبسُه) أي الذكر (المخيط) في بدنه أو بعضه، وهو ما عُمل على قدر ملبوس، ولو درعًا منسوجًا، أو لبدًا (¬2) معقودًا، ونحوه (إلا سراويل لعدم إزار و) إلا (خفين لعدم نعلين) لحديث ابن عباس: سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب بعرفات يقول: "من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارًا فليلبس السراويل" (¬3) متفق عليه، ولا فدية عليه، لظاهر الخبر. ولا يعقد محرم عليه رداء ولا غيره ولا يخله (¬4) بنحو شوكة، ولا يزره في عروته، ولا يغرزه في إزاره، فإن فعل أثم، وفدى، لأنه كمخيط، ولقول ابن عمر لمحرم: ولا تعقد عليك شيئًا (¬5)، رواه الشافعي، والأثرم. وقال الإمام أحمد في محرم حزم عمامته على وسطه: لا يعقد، ويدخل بعضها في بعض (¬6). إلا إزاره، فله عقده، لحاجته ليستر عورته، وإلا ¬
مِنطقة (¬1)، أو همِيانًا (¬2) فيهما نفقته، لقول عائشة: أوثق عليك نفقتك (¬3). وروي معناه عن ابن عمر وابن عباس (¬4)، فله عقدها، فإن ثبت هميان بغير عقد، بأن أدخل السيور بعضها في بعض، لم يعقده، لعدم الحاجة. ويتقلد محرم بسيف لحاجة، لقصة صلح الحديبية، رواها البخاري (¬5)، ولا يجوز بلا حاجة، نصًّا (¬6)، ويحمل محرم جرابه وقربة الماء في عنقه، لا في صدره، نصًّا (¬7)، فلا يدخل حبلها في صدره، وله أن يتزر بقميص، وأن يلتحف به، وأن يرتدي به. وإن طرح على كتفه قباء (¬8)، ولو لم يدخل يديه في كمه، فدى، لنهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن لبسه للمحرم (¬9). رواه البخاري، عن علي. وإن غطى خُنثى مشكل وجهه ورأسه؛ فدى، أو غطى وجهه، ولبس ¬
مخيطًا، فدى، لا إن لبسه، ولم يغط وجهه، أو غطى وجهه وجسده بلا لبس مخيط للشك. (و) الخامس من محظورات الإحرام: (الطيب) إجماعًا (¬1)، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ولا ثوبًا مسه ورس ولا زعفران" (¬2)، وأمْره يعلى بن أمية بغسل الطيب (¬3)، وقوله في المحرم الذي وقصته ناقته: "لا تحنطوه" (¬4) متفق عليه، ولمسلم: "لا تمسوه بطيب" (¬5). فمتى طيَّب محرم ثوبه، أو بدنه، أو شيئًا منهما، حرم، وفدى، وكذا إن استعمله في أكل، أو شرب، أو ادِّهان، أو اكتحال، أو استعاط، أو احتقان، أو قصد شم دهن مطيب، أو مسك، أو كافور، أو عنبر، أو زعفران، أو ورس، أو عود، أو ما ينبته آدمي لطيب، ويتخذ منه كورد، وبنفسج، وياسمين، ونحوه، لا إن شم شيئًا من ذلك بلا قصد، أو مس ما لا يعلق به، كقطع عنبر، وكافور، لأنه غير مستعمل للطيب، أو شم ولو قصدًا فواكه من نحو تفاح، أو أترج، أو نبات صحراء، كشيحٍ ونحوه، وما ينبته آدمي لا لطيب، كحناء، وعصفر، وقرنفل، ودارصيني (¬6). ¬
(و) السادس: (قتل صيد البر) إجماعًا (¬1)، لقوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (¬2)، أو اصطياده، وإن لم يقتله، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} (¬3)، وهو الوحشي المأكول، والمتولّد منه ومن غيره، وغير المأكول، كسبع، تغليبًا للتحريم، والاعتبار في كونه وحشيًّا أو أهليًّا بأصله، كحمام، وبط، وهو الأوز، ولو استأنس، يحرم قتله، واصصياده، ويجب جزاؤه، وإن توحش أهلي من إبل وبقر ونحوها، لم يحرم أكله، ولا جزاء فيه. قال أحمد في بقرة صارت وحشية: لا شيء فيها (¬4)، لأن الأصل فيها الإنسية. فمن أتلف شيئًا من صيد البر الوحشي المأكول، أو المتولد منه، ومن غيره، وهو محرم، أو أتلف بعضه بمباشرة، أو سبب، ولو بجناية دابة متصرف فيها، أو بإشارة لمريد صيده، أو دلالته إن لم يره، أو إعانته، حرم وفدى. وإن دلَّه، أو أشار إليه بعد رؤية صائدٍ له، أو ضحك، أو استشرف عند رؤية الصيد، ففطن له غيره، أو أعاره آلة لغير صيد، فاستعملها فيه، فلا إثم، ولا ضمان. ولا تحرم دلالة محرم على طيب ولباس، لأنه لا ضمان فيهما بالسبب. وإن دل محرمٌ محرمًا على صيد فقتله، فالجزاء بينهما، لأنهما اشتركا في التحريم، فكذا في الجزاء. ولو دل حلال حلالًا على صيد بالحرم، فقتله، ¬
فكدلالة محرم محرمًا، فالجزاء بينهما، نصًّا (¬1). وحرم أكل المحرم من ذلك كله، وكذا ما ذُبح له، أو صِيد لأجله، نصًّا (¬2)، لحديث الصحيحين: أن الصعب بن جثَّامة أهدى للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حمارًا وحشيًّا، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قار: "إنا لم نرده عليك إلا أنَّا حرم (¬3) "، وكذا ما أخذ من بيض الصيد، أو لبنه لأجله. ويلزم المحرم بأكل ما صيد لأجله، الجزاء. وما حرم عليه لدلالته، أو إعانة عليه، أو صيد لأجله، لا يحرم على محرم غيره، كما لا يحرم على حلال، لما روى مالك، والشافعي: أن عثمان أتى بلحم صيد، فقال لأصحابه: كلوا. فقالوا: ألا تأكل. فقال: إني لست كهيئتكم، إنما صيد لأجلي (¬4). وإن نقل محرم بيض صيد سليمًا ففسد، أو حلب صيدًا، ضمنه بقيمته مكانه (¬5)، نصًّا (¬6). ومن قتل صيدًا صائلًا عليه دفعًا عن نفسه، وهو محرم، لم يحل، ولم يضمنه، ولا تأثير لحرم وإحرام في تحريم حيوان إنسي، كبهيمة الأنعام، ودجاج، لأنه ليس بصيد، ولا في محرم الأكل، ككلب، وخنزير، وذئب، ونحو ذلك. ويحرم بإحرام قتل قمل وصيبانه من رأسه، أو بدنه، أو ثوبه، ولو ¬
برميه، لما فيه من الترفه بإزالته، أشبه قطع الشعر، ولا جزاء فيه، لأنه لا قيمة له، أشبه البراغيث، ولا يحرم قتل براغيث وقراد (¬1) ونحوهما، لأن ابن عمر قرد (¬2) بعيره بالسقيا (¬3) ورماه (¬4)، وهذا قول ابن عباس (¬5). ويسن قتل كل مؤذٍ في الحل والحرم، غير الآدمي، لحديث عائشة: أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بقتل خمس فواسق في الحرم: الحدأة، والغراب، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور" (¬6) متفق عليه. وفي معناها: كل مؤذٍ. وأما الآدمي، غير الحربي، فلا يحل قتله إلا بإحدى الثلاث، للخبر (¬7). ويباح للمحرم وغيره -لا بالحرم- صيد ما يعيش في الماء كسمك (¬8)، ¬
ولو عاش في بر أيضًا كسلحفاة وسرطان لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} (¬1)، وأما البحريَ في الحرم، فيحرم صيده، لأن التحريم فيه للمكان، فلا فرق فيه بين صيد البر والبحر، وطير بري، لأنه يبيض ويفرخ في البر، فيحرم على محرم صيده، وفيه الجزاء، ويضمن جراد إذا أتلفه محرم بقيمته، لأنه غير مثلي. ولمحرم احتاج إلى فعل محظور، فعله، ويفدي، لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} (¬2) الآية، وحديث كعب بن عجرة (¬3). وألحق بالحلق باقي المحظورات. ومن ببدنه شيء لا يحب أن يطلع عليه أحد، لبس، وفدى، نصًّا (¬4)، وكذا لو اضطر إلى ذبح صيد، فله ذبحه، وأكله، وهو ميتة في حق غيره، فلا يباح، إلا لمن يباح له أكلها. (و) السابع: (عقد نكاح)، فيحرم، ولا يصح من محرم، فلو تزوج محرم، أو زوَّج، أو كان وليًّا، أو وكيلًا فيه، لم يصح، نصًّا (¬5)، تعمَّده، أو لا، لحديث مسلم، عن عثمان مرفوعًا: "لا ينكحُ المحرم ولا يُنكح" (¬6). ولمالك، والشافعي: أن رجلًا تزوج امرأة وهو محرم، فرد عمر نكاحه (¬7). وعن علي، وزيد معناه (¬8)، ورواه أبو بكر النيسابوري. ¬
ولأن الإحرام يمنع الوطء، ودواعيه، فمنع عقد النكاح، كالعدة، إلا في حق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فليس محظورًا، لحديث ابن عباس: تزوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ميمونة وهو محرم (¬1). متفق عليه، وهذا الحديث له معارض (¬2)، فإن ثبت ¬
فهو من خصائصه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولا فدية في عقد المحرم، لأنه عقد فاسد، للإحرام، كشراء الصيد، وسواء كان الإحرام صحيحًا، أو فاسدًا، والاعتبار بحالة العقد، فلو وكل حلالًا، صح عقده بعد حل موكله. وتكره خطبة محرم، لحديث عثمان يرفعه: "لا يَنكح المحرم، ولا يُنكح، ولا يخطب" (¬1) كما يكره له حضور نكاح بين حلالين، وشهادة فيه، ولا تكره رجعته لمطلقته الرجعية، لأنها إمساك، ولا شراء أمة للوطء، لأن الشراء واقع على عينها، وهي تراد للوطء، وغيره. (و) الثامن: (جماع) وهو تغييب حشفة أصلية في فرج أصلي، قُبلًا كان أو دبرًا، من آدمي أو غيره، لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ} (¬2)، قال ابن عباس: هو الجماع، لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (¬3) وهو يفسد النسك قبل التحلل الأول، حكاه ابن المنذر إجماعًا (¬4)، ولو بعد وقوف، نصًّا (¬5)، لأن بعض الصحابة قضوا بفساد الحج، ولم يستفصلوا، وحديث: "من وقف بعرفة فقد تم حجه" (¬6) ¬
أي قاربه، وأمن فواته. ولا فرق بين عامد وجاهل، وناس وعالم، ومكره وغيره، وعلى الواطئ والموطوءة المضي في فاسده، ولا يخرج منه بالوطء، روي عن عمر، وعلي، وأبي هريرة، وابن عباس (¬1)، وحكمه كالإحرام الصحيح، لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (¬2)، وروي مرفوعًا أمر المجامع بذلك (¬3)، فيفعل بعد الإفساد كما كان يفعله قبله، من وقوف، وغيره، ويجتنب ما يجتنبه قبله، ويفدي لمحظور فعله بعده. ويقضي من فسد نسكه بالوطء، كبيرًا كان أو صغيرًا، فرضًا كان الذي أفسده أو نفلًا، لقول ابن عمر: فإذا أدركت قابلًا حج واهد (¬4). وعن ابن عباس مثله (¬5) رواه الدارقطني، والأثرم. إن كان المفسد نسكه مكلفًا، لأنه لا عذر له في التأخير، وإلا فيقضي بعد حجة الإسلام فورًا، لزوال عذره. ويحرم من أفسد نسكه في القضاء من حيث أحرم أولًا، إن كان إحرامه ¬
به قبل ميقات، لأن القضاء يحكي الأداء، وإلا فمنه. ومن أفسد القضاء قضى الواجب الذي أفسده أولًا فقط، ونفقة قضاء نسك مطاوعة عليها، ومكرهة على مكره، ولو طلقها، لإفساده نسكها. وسن تفرق واطئ وموطوءة في قضاء من موضع وطء، فلا يركب معها في محمل، ولا ينزل معها في فسطاط، أو نحوه، إلى أن يحلا من إحرام القضاء، لحديث ابن وهب بإسناده عن سعيدبت المسيب، أن رجلًا جامع امرأته وهما محرمان، فسأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال لهما: "أتما حجكما ثم ارجعا، وعليكما حجة أخرى من قابل، حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتما، فأحرما، وتفرقا ولا يؤاكل أحد منكما صاحبه، ثم أتما مناسككما، واهديا" (¬1) وروى سعيد، والأثرم، عن عمر، وابن عباس نحوه (¬2). والوطء بعد التحلل الأول لا يفسد نسكه، لقول ابن عباس في رجل أصاب أهله قبل أن يفيض يوم النحر: ينحران جزورًا بينهما، وليس عليه حج من قابل (¬3)، رواه مالك، ولا يعرف له مخالف من الصحابة. وعلى الواطئ بعد تحلل أول شاة لفساد إحرامه، وعليه المضي إلى الحل، فيحرم منه، ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم، ليطوف للزيارة محرمًا، لأن الحج لا يتم إلا به، لأنه ركن، ثم يسعى إن لم يكن سعى قبلُ ¬
وتحلل. وعمرة وطئ فيها كحج فيما سبق تفصيله، فيفسدها وطء قبل تمام سعي، لا بعده وقبل حلق، وعليه بوطئه في عمرة شاة، لنقص حرمة إحرامها عن الحج، لنقص أركانها، ودخولها فيه إذا جامعته، سواء وطئ قبل تمام السعي، أو بعده قبل حلق، ولا فدية على مكرهة في وطء في حج أو عمرة لحديث: "وعما استكرهوا عليه" (¬1)، ومثلها النائمة، ولا يلزم الواطئ أن يفدي عنهما. (و) التاسع: (مباشرة) الرجل للمرأة (فيما دون فرج) لشهوة، لأنها تنافي الإحرام، ولا تفسد المباشرة النسك، ولو أنزل، لأنه لا نص فيه ولا إجماع، ولا يصح قياسه على الواطئ في الفرج، لأن نوعه يوجب الحد، ويأتي تفصيل ما يجب فيها. (فـ) يجب (في أقل من ثلاث شعرات وثلاثة أظفار في كل واحد فأقل) كبعضه (طعام مسكين) ففي شعرة، أو بعضها طعام مسكين، وفي شعرتين، طعام مسكينين، وفي ظفر أو ظفرين أو بعض ظفر كذلك (وفي الثلاث) من الشعر (فأكثر) أو الثلاثة من الأظفار فأكثر (دم) أي فدية شاة ويأتي بيانها. (وفي تغطية الرأس بلاصق) أولى (ولُبس مخيط، وتطيب في بدن، أو ثوب، أو شمِّ) طيب (أو دَهن) بمطيب (الفدية) ويأتي تفصيلها. (وإن قتل محرم صيدًا مأكولًا) لا يحرم الأكل (بريًّا أصلًا) أي وحشيًّا، لا إنسيًّا، ولو توحش كما تقدم (¬2)، فعليه -أي القاتل- (جزاؤه) أي ¬
الصيد، لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬1). (والجماع قبل التحلل الأول في حج، وقبل فراغ سعي في عمرة مفسد لنسكهما) أي الحاج والمعتمر، كما تقدم (مطلقًا) أي سواء كانا عامدين، أو ساهيين، أو مكرهين، أو جاهلين، لأن من تقدم من الصحابة قضوا بفساد النسك، ولم يستفصلوا. (وفيه) أي الجماع قبل التحلل الأول (لحجٍّ بدنة) لقول ابن عباس: اهد ناقة، ولتهد ناقة (¬2). سواء كان قارنًا، أو مفردًا، فإن لم يجدها صام عشرة أيام، ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، أي فرغ من عمل الحج، كدم المتعة، (و) فيه العمرة) قبل فراغ سعيها (شاة) وحكمها حكم فدية الأذى، لنقص العمرة عن الحج (ويمضيان) أي الحاج والمعتمر (في فاسده) أي: النسك (ويقضيانه مطلقًا إن كانا مكلفكين فورًا) لأنهما لا عذر لهما في التأخير (وإلا) يكونا مكلفين فـ (بعد التكليف و) بعد (حجة الإسلام) يقضيان (فورًا) لزوال عذرهما، كما تقدم (¬3). (ولا يفسُدُ النسك بمباشرة) دون فرج (ويجب بها بدنة إن أنزل) نقله الجماعة (¬4)، لأنها مباشرة اقترن بها الإنزال، فأوجبتها، كالجماع في الفرج، ولم يفسد نسكه، لعدم الدليل، فإن كرر النظر فأمنى، أو قبَّل فأمنى، أو لمس لشهوة فأمنى، أو استمنى فأمنى، فعليه بدنة قياسًا على الوطء (وإلا) ينزل، وإن أمذى بذلك، أو أمنى بنظرة واحدة، فعليه (شاة) وحكمها حكم فدية الأذى. ولا يفسد النسك (بوطء في حج بعد التحلل الأول وقبل) التحلل ¬
(الثاني لكن يفسُد) به (الإحرام فيحرم من الحل) التنعيم، أو غيره، ليجمع بين الحل والحرم (ليطوف للزيارة في إحرام صحيح، ويسعى إن لم يكن سعى) وتحلل، لأن الذي بقي عليه بقية أفعال الحج، وليس هذا عمرة حقيقة، والإحرام إنما وجب ليأتي بما بقي من الحج (وعليه شاة) لعدم إفساده الحج، كوطء دون الفرج بلا إنزال، ولخفة الجناية فيه. والقارن كالمفرد، لأن الترتيب للحج لا للعمرة، بدليل تأخير الحلق إلى يوم النحر. (وإحرام امرأة كـ) إحرام (رجل) فيما يحل ويحرم، فيحرم عليها إزالة شعر، وظفر، وطيب، وقتل صيد، وغيره، مما تقدم، إلا فيما استثناه بقوله: (إلا في لُبس مخيط) فيحرم على الرجل، ولا يحرم عليها، وكذا تظليل محمل، لأنها عورة إلا وجهها (وتجتنب البرقع والقفازين)، لحديث: "ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين" (¬1) رواه البخاري، وغيره، وتجتنب (تغطية الوجه) لحديث: "ولا تنتقب المرأة". فتسدل أي تضع الثوب فوق رأسها، وترخيه على وجهها، للحاجة، كمرور أجانب قريبًا منها، لحديث عائشة: كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفنا (¬2). رواه أبو داود، والأثرم. قال أحمد: إنما لها أن تسدل على وجهها من فوق، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل. قال الموفق: كأن الإمام يقصد أن النقاب من أسفل وجهها (¬3)، ولا يضر مس المسدول بشرة وجهها. وتحرم تغطية وجه المحرمة (فإن غطته بلا عذر فدت) ويباح لها من ¬
حلي: خلخال، وسوار، ونحوه، لحديث ابن عمر أنه سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب. وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي (¬1). ويسن لها خضاب بحناء عند إحرام، لحديث ابن عمر "من السنة أن تدلك المرأة يدها في حناء" (¬2)، ولأنه من الزينة، فاستحب لها، كالطيب، وكره بعده، ما دامت محرمة، لأنه من الزينة، أشبه الكحل بالإثمد، ولا يكره الاكتحال بالإثمد لغير الزينة كوجع عين لرجل وامرأة، ولهما لبس معصفر. وكحلي، وكل مصبوغ بغير ورس وزعفران، لأن الأصل الإباحة، إلا ما ورد الشرع بتحريمه، ولهما قطع رائحة كريهة بغير طيب، ولهما اتجار، وعمل صنعة، ما لم يشغلا عن واجب، أو مستحب، لقول ابن عباس: كانت عكاظ، ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية، فتأثموا أن يتجروا في الموسم، فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} (¬3) في مواسم الحج (¬4) رواه البخاري، ولهما نظر في مرآة لحاجة، وتكره لزينة. ولا يصلح المحرم شعثًا، ولا ينفض عنه غبارًا، لحديث أبي هريرة، وعبد اللَّه بن عمر مرفوعًا "إن اللَّه تعالى يباهي الملائكة بأهل عرفة، انظروا إلى عبادي أتوني شعثًا غبرًا" (¬5) رواه أحمد. ¬
وللرجل المحرم لبس خاتم مباح من فضة أو عقيق، روى الدارقطني عن ابن عباس: لا بأس بالهميان والخاتم للمحرم (¬1)، وفي رواية: رخص للمحرم في الهميان والخاتم. وله -أيضًا- ختان، وبط جرح (¬2)، وقطع عضو عند حاجة، وحجامة. ويجتنب المحرم والمحرمة الرفث، وهو الجماع، كما تقدم (¬3)، والفسوق، أي: السباب، وقيل: المعاصي. والجدال، وهو: المراء، روي عن ابن عمر (¬4)، قال ابن عباس: هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه (¬5). وسن قلة كلامهما إلا فيما ينفع، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" (¬6) متفق عليه، وعنه مرفوعًا: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (¬7) رواه الترمذي، وغيره وقال: حديث حسن. ¬
فصل في الفدية وبيان أقسامها وأحكامها
فصل في الفدية وبيان أقسامها وأحكامها وهي مصدر فدى يفدي فداء (¬1). وشرعًا: ما يجب بسبب نسك، كدم تمتع أو قران، وواجب، بفعل محظور في إحرام، أو ترك واجب، أو بسبب حرم، كصيد الحرم المكي ونباته. وهي قسمان: قسم على التخيير، وقسم على الترتيب. وقد ذكر الأول بقوله: (يخيّر بـ) ين (فدية حلق) شعر ثلاث فأكثر، أو إزالته (وتقليم) أظفار، ثلاثة فأكثر (وتغطية رأس) رجل، ووجه امرأة، ولبس رجل مخيطًا (وطيب، بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين) لـ (كل مسكين مدُّ بُر، أو نصف صاع من تمر أو زبيب أو شعير) أو أقط، ومما يأكله أفضل. وينبغي أن يكون بأدم لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (¬2) وأو للتخيير، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لكعب بن عجرة: العلك آذاك هوام رأسك؟ قال: نعم يا رسول اللَّه، فقال: "احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك شاة" (¬3) متفق عليه. وخصت الفدية بالثلاثة، لأنها جمع، واعتبرت في مواضع بخلاف ربع الرأس، وقيس على الحلق باقي المذكورات، لأن تحريمها فيها (¬4) للترفه، أشبهت الحلق، وغير المذكور ثبت الحكم فيه بطريق التشبيه تبعًا له (¬5). ¬
النوع الثاني: جزاء الصيد، وقد ذكره بقوله: (وفي جزاء صيد) أي: يخير في جزاء صيد (بين) ذبح (مثل مثلي) من النعم، وإعطائه لفقراء الحرم، أي وقت شاء، فلا يختص بأيام النحر، ولا يجزئه أن يتصدق به حيًا (أو تقويمه) أي المثل، بمحل التلف، أو بقربه (بدراهم يشتري بها) أي الدراهم، التي هي قيمة المثل (طعامًا) نصًّا (¬1)، لأن كل مثلي قوم إنما يقوم مثله، كمالِ الآدمي. ولا يجوز أن يتصدق بالدراهم، لأنه ليس من المذكورات في الآية (يجزئ) إخراجه (في فطرة) كواجب في فدية أذى، وكفارة، وهو البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والأقط، وله أن يخرج من طعام عنده يعدل ذلك (فيطعم كل مسكين مُدَّ بر أو نصف صاع من غيره) مما ذكر (أو يصوم عن طعام كل مسكين يومًا) لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} (¬2)، وإن بقي دون إطعام مسكين صام عنه يومًا كاملًا، لأن الصوم لا يتبعض، ولا يجب تتابع الصوم، ولا يجوز أن يصوم عن بعض الجزاء، ويطعم عن بعضه، نصًّا (¬3)، لأنه كفارة واحدة، كباقي الكفارات (و) يخير (بين إطعام أو صيام في) ما اشتراه بقيمته صيد (غير مثلي) إذا قتله، كما تقدم، لتعذر المثل. القسم الثاني من الفدية: ما يجب مرتبًا. وهو ثلاثة أنواع: أحدها دم المتعة والقران، فيجب هدي لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬4)، وقيس عليه القارن، ¬
وتقدم (¬1)، (وإن عدم متمتع أو قارن الهدي صام ثلاثة أيام في الحج والأفضل جعل آخرها) أي الثلاثة (يوم عرفة) نصًّا (¬2)، فيقدم الإحرام، ليصومها في إحرام الحج، واستحب له هنا صوم يوم عرفة لموضع الحاجة، وله تقديمها قبل إحرامه بالحج، فيصومها في إحرام العمرة، لأنه أحد إحرامي التمتع، فجاز الصوم فيه، كإحرام الحج، ولجواز تقديم الواجب على وقت وجوبه، إذا وجد سبب الوجوب، كالكفارة بعد الحلف قبل الحنث، وسبب الوجوب هنا قد وُجد، وهو: الإحرام بالعمرة في أشهر الحج، وعلم منه: أنه لا يجوز صومها قبل إحرام عمرة. ووقت وجوب صوم الثلاثة كوقت وجوب هدي، لأنها بدله، وهو يجب بطلوع فجر يوم النحر (و) صام (سبعة) أيام (إذا رجع لأهله) لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (¬3)، وإن صام السبعة قبل رجوعه إلى أهله، بعد إحرام بحج، وفراغه منه. أجزأه صومها. والأفضل إذا رجع إلى أهله، لكن لا يصح صوم شيء منها أيام منى، نصًّا (¬4)، لبقاء أعمال من الحج. قالوا: لأن المراد بقوله تعالى: {إِذَا رَجَعْتُمْ} أي من عمل الحج (¬5). ومن لم يصم الثلاثة إلا بعد أيام التشريق، صام بعد ذلك عشرة كاملة، وعليه دم لتأخيره واجبًا من مناسك الحج عن وقته، كتأخير رمي جمار عنها، سواء كان لعذر، أو غيره، وكذا إن أخَّر الهدي عن أيام النحر بلا عذر، فيلزمه دم بتأخيره ذلك. ولا يلزم تتابع، ولا تفريق في صوم الثلاثة، ولا في صوم السبعة، ولا ¬
تتمة
بين الثلاثة والسبعة إذا قضاها، وكذا لو صام الثلاثة أيام منى، وأتبعها السبعة، ولأن الأمر بها مطلق، فلا يقتضي جمعًا ولا تفريقًا. ولا يلزم من قدر على هدي بعد وجوب صوم انتقال عنه، شرع فيه، أولًا، اعتبارًا بوقت الوجوب، فقد استقر الصوم في ذمته، فإن أخرج الهدي إذن (¬1) أجزأه، لأنه الأصل. النوع الثاني: المحصَر، وقد ذكره بقوله: (والمحصَر) يلزمه هدي لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬2) فـ (إذا لم يجده) أي الهدي (صام عشرة أيام) قياسًا على هدي التمتع، بنية التحلل (ثم حل) وليس له التحلل قبل ذلك، ولا إطعام فيه. النوع الثالث: فدية الوطء. يجب به بدنة في حج، قبل التحلل الأول، كما تقدم (¬3)، فإن لم يجدها، صام عشرة أيام، ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع، كدم المتعة، لقضاء الصحابة به. تتمة: من كرر محظورًا من جنس، غير قتل صيد، كأن حلق شعرًا، وأعاده، أو قلَّم أظفاره، وأعاده، ونحو ذلك، قبل التكفير عن أول مرة، فعليه كفارة واحدة للكل، لأن اللَّه تعالى أوجب لحلق الرأس فدية واحدة، ولم يفرق بين ما وقع دفعة أو دفعات، وإن كفر للأول، ثم فعله ثانيًا، لزمه كفارة ثانية، كما لو حلف، وحنث، وكفر، ثم حلف، وحنث. وإذا لبس وغطى رأسه، ولبس الخف، فعليه فدية واحدة، لأن الجميع جنس واحد، وإن كان المحظور من أجناس، فعليه لكل جنس فداء، وعليه في الصيود جزاء بعددها، لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا ¬
قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬1). ويكفِّر وجوبًا من حلق ناسيًا، أو جاهلًا، أو مكرهًا، أو قلَّم أظفاره كذلك، أو وطئ أو باشر كذلك، وتقدم (¬2)، أو قتل صيدًا ناسيًا، أو جاهلًا، أو مكرهًا. قال الزهري: تجب الفدية على قاتل الصيد متعمدًا بالكتاب، وعلى المخطئ بالسنة (¬3) (وتسقط) الفدية (بنسيان) أو جهل، أو إكراه (في لُبس وطيب و) في (تغطية رأس)، لحديث: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬4) ولأنه يقدر على رد هذه الإزالة، بخلاف الأول، لأنها إتلاف، ومتى زال عذره أزاله في الحال، لحديث يعلى بن أمية، وفيه: "اخلع عنك هذه الجبة، واغسل عنك أثر الخلوق (¬5) -أو قال أثر الصفرة- واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك" (¬6). متفق عليه، ولم يأمره بالفدية مع سؤاله عما يصنع، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز، فدل على أنه عُذر بجهله، والناسي في معناه. (وكل هدي أو إطعام) يتعلق بحرم، أو إحرام، كجزاء صيد، وما وجب لترك واجب، أو لفوات حج، أو فعل محظور، كلبس ووطء (فـ) هو (لمساكين الحرم). قال ابن عباس: الهدي والإطعام بمكة (¬7). وكذا هدي تمتع وقران، ¬
ومنذور، ونحوها، لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬1)، وقال في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬2)، وقيس عليه الباقي. ويلزم ذبحه في الحرم. قال أحمد: مكة ومنى واحد (¬3). واحتج الأصحاب (¬4) بحديث جابر مرفوعًا: "كل فجاج مكة طريق ومنحر" (¬5). رواه أحمد، وأبو داود. ويجب تفرقة لحمه، أو إطلاقه لمساكين الحرم، لأن المقصود من ذبحه بالحرم التوسعة عليهم، ولا يحصل بإعطاء غيرهم، وكذا الإطعام. قال ابن عباس: الهدي والإطعام بمكة (¬6). ولأنه ينفعهم كالهدي، وهم -أي مساكين الحرم-: المقيم به، والمجتاز، من حاج، وغيره، ممن له أخذ زكاة لحاجة، ولو تبين غناه بعد ذلك، فكزكاة، والأفضل نحر ما وجب بحج بمنى، ونحر ما وجب بعمرة بالمروة، خروجًا من خلاف مالك (¬7)، ومن تبعه (¬8). ¬
والعاجز عن إيصاله إلى الحرم بنفسه، أو بمن يرسله معه، ينحره حيث قدر، ويفرقه بمنحره، لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬1) (إلا فدية أذى) وفدية طيب (و) نحوهما: كفدية (لبس [ونحوها]) (¬2) وتغطية رأس (فحيث وجد سببها) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر كعب بن عجرة بالفدية، بالحديبية (¬3) وهي من الحل، واشتكى الحسين بن علي -رضي اللَّه عنهما- رأسه فحلقه علي ونحر عنه جزورًا بالسقيا (¬4). رواه مالك، والأثرم وغيرهما. وله تفرقتها -أيضًا- في الحرم كسائر الهدايا، ودم إحصار حيث أحصر، من حل أو حرم، نصًّا (¬5) (ويجزئ الصوم) والحلق (بكل مكان) ¬
لأنه لا يتعدى نفعه إلى أحد، فلا فائدة في تخصيصه بالحرم، ولعدم الدليل عليه. (والدم) المطلق (شاة) تجزئ في أضحية: جذع ضأن له ستة أشهر، أو ثني معز له سنة (أو سُبع بدنة، أو سُبع بقرة) لقوله تعالى في التمتع: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬1)، قال ابن عباس: شاة، أو شِركٌ في دم (¬2). فإن ذبح كاملة فهو أفضل، وتجب كلها، لأنه اختار الأعلى، لأداء فرضه. وتجزئ بدنة أو بقرة عن سبع شياه مطلقًا، في جزاء الصيد، أو غيره، لحديث جابر: أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نشترك في الإبل، والبقر، كل سبعة منا في بدنة (¬3). رواه مسلم. (ويُرجع) بالمبني للمجهول (في جزاء صيد) وهو: ما يستحق بدله، على متلف بفعل، أو سبب (إلى ما قضت فيه الصحابة) رضي اللَّه عنهم، فيجب ما أوجبوا فيه، لأنهم أعرف، وقولهم أقرب إلى الصواب. وفي الخبر "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" (¬4). وفيه: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" (¬5). ومما قضت فيه الصحابة: في ¬
النعامة بدنة. روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد، وابن عباس، ومعاوية (¬1)؛ لأنها تشبهها. وفي حمار الوحش: بقرة، روي عن عمر (¬2). وفي بقرة: بقرة. روي عن ابن مسعود (¬3). وفي إيَّل (¬4) -بوزن قنّب- وهو ذكر الأوعال. ذكره في "الإنصاف" (¬5): بقرة عن ابن عباس (¬6). وفي تيتل -بوزن جعفر- الوعل المسن (¬7): بقرة. وفي وعل -بفتح الواو مع العين وكسرها وسكونها- تيس الجبل، كما ذكره في "القاموس" (¬8)، وقال في "الصحاح" (¬9): هو الأروى: بقرة. يروى عن ابن عمر: في الأروى بقرة (¬10). وقضى به عمر، وابن عباس (¬11). ¬
وفي الضبع كبش. قال الإمام (¬1): حكم فيها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بكبش (¬2). وفي الغزال شاة. روي عن علي، وابن عمر (¬3)، وروي عن جابر مرفوعًا: "في الظبي شاة" (¬4) قاله صاحب "المنتهى" في شرحه (¬5). وفي وبر -بسكون الباء- جدي، وهو دويبة كحلاء، دون السنور، لا ذنب له (¬6). وفي الضب: جدي، قضى به عمر (¬7). والجدي الذكر من أولاد المعز، له ستة أشهر. ¬
وفي يربوع: جفرة لها أربعة أشهر، روي عن عمر، وابن مسعود، وجابر (¬1). وفي الأرنب: عناق، وهي الأنثى من أولاد المعز، أصغر من الجفرة. يروى ذلك عن عمر (¬2). وفي الحمامة، وهي: كل ما عبّ الماء، أي وضمع منقاره فيه، وكرع (¬3)، كما تكرع الشاة، ولا يأخذ قطرة، كالدجاج والعصافير، وهدر، أي: صوّت، فيدخل فيه قمري، وفواخت، وراشين، وقطا، ونحو ذلك: شاة، نصًّا (¬4)، قضى به عمر، وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، ونافع بن عبد الحارث (¬5) في حمام الحرم، وقيس [عليه] (¬6) حمام الإحرام. روي عن ابن عباس أنه قضى به في حمام الإحرام (¬7). (و) يرجع (فيما لم تقض فيه) الصحابة (إلى قول عدليْن) لقوله تعالي: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬8) (خبيريْن) ليحصل المقصود بهما، فيحكمان فيه بأشبه الأشياء به، من حيث الخلقة، لا القيمة، كقضاء الصحابة، ولا يشترط كونهما، أو أحدهما، فقيهًا، لظاهر الآية. ويجوز كون القاتل أحدهما، أو هما، فيحكمان على أنفسهما بالمثل، لعموم الآية، ولقول عمر: ¬
احكم يا أربد فيه (¬1). أي: الضب، الذي وطئه أربد. قال ابن عقيل: إنما يحكم القاتل إذا قتله خطأ، أو لحاجة أكله، أو جاهلًا تحريمه. انتهى. (وما لا مِثْلَ له) من النعم، وهو باقي الطير (تجب قيمته مكانه) أيَ: الإتلاف، كإتلاف مال الآدمي، ولو كان أكبر من الحمام، كأوزٍّ، ونحوه. وإن أتلف جزءًا من صيد، فاندمل، وهو ممتنع، وله مثل من النعم، ضمن الجزء المتلف بمثله من مثله لحمًا، وإلا يكن له مثل، فإنه يضمنه بنقصه من قيمته. وعلى جماعة اشتركوا في قتل صيد: جزاء واحد. روي عن عمر، وابنه، وابن عباس (¬2)، سواء كفروا بالصيام، أو غيره، للآية. ويجوز إخراج الجزاء بعد الجرح، وقبل الموت. (وحرم مطلقًا) على المحرم، وغيره، قتل (صيد حرم مكة) إجماعًا (¬3)، لخبر ابن عباس، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرّمه اللَّه يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام، بحرمة اللَّه تعالى إلى يوم القيامة. . ." الحديث، "وفيه: "ولا ينفر صيدها" (¬4). متفق عليه. وصغير، وكافر، كغيرهما في الضمان. ويحرم صيد بحري الحرم، ولا جزاء فيه، لعدم وروده، وإن أرسل حلال كلبه من الحل على صيد بالحل فقتله أو غيره بالحرم، أو فعل ذلك بسهمه، فشطح، فقتل صيدًا بالحرم، لم يضمن، لأنه لم يرم، ولم يرسل كلبه على صيد بالحرم، ولا يحل ما وجد سبب موته، بالحرم تغليبًا للحظر. ¬
(و) حرم (قطع شجره) أي حرم مكة، الذي لم يزرعه آدمي، إجماعًا (¬1)، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ولا يعضد شجرها" (¬2) (و) حرم قطع (حشيشه) أي الحرم، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ولا يحش حشيشها" (¬3)، حتى الشوك، ولو ضر، لعموم "لا يختلى شوكها" (¬4)، وحتى السواك، ونحوه، والورق، لدخوله في مسمى الشجر، إلا اليابس ممن شجر وحشيش، لأنه كميت، و (إلا الإذخر)، لقول العباس: يا رسول اللَّه، إلا الإذخر، فإنه لقينهم وبيوتهم. قال: "إلا الإذخر" (¬5) وهو نبت طيب الرائحة، والقين الحداد، وإلا الكمأة، والفقع، لأنهما لا أصل لهما، وإلا الثمرة، لأنها تستخلف، وإلا ما زرعه آدمي من زرع، وبقل ورياحين، إجماعًا (¬6)، نصًّا (¬7)، حتى من الشجر، لأنه أنبته آدمي، كزرع، ولأنه مملوك الأصل، كالأنعام، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يقطع شجرها" المراد: لا يملكه أحد، لأن هذا يضاف إلى مالكه. ويباح رعي حشيشه، لدعاء الحاجة إليه، أشبه قطع الإذخر، بخلاف الاحتشاش لها (وفيه) أي قطع الشجر والحشيش (الجزاء) فتضمن شجرة قطعت، أو كسرت، صغيرة، عرفًا بشاة، ويضمن ما فوقها، ببقرة، لقول ¬
ابن عباس "في الدوحة (¬1) بقرة، وفي الجزلة شاة" (¬2) قال (¬3): والدوحة الشجرة العظيمة. والجزلة: الصغيرة. ويخير بين ذبحها، وتفرقتها، أو إطلاقها، لمساكين الحرم، وبين تقويمها بدراهم، ويفعل بقيمته كجزاء صيد، بأن يشتري طعامًا، يجزئ في فطرة، فيطعم كل مسكين مد بر، أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن طعام كل مسكين يومًا. ويُضمن حشيش، وورق بقيمته، نصًّا (¬4)، لأنه متقوم، ويفعل بقيمته كما سبق. ويُضمن غصن بما نقص، كأعضاء الحيوان. ويُضْمن غصن في هواء الحل أصله بالحرم، أو بعض أصله بالحرم، لتبعيته لأصله. وكره إخراج تراب الحرم، وحجارته إلى الحل، نصًّا (¬5)، قال: لا يخرج من تراب الحرم، ولا يدخل من الحل، كذلك قال ابن عمر، وابن عباس (¬6). ولا يخرج من حجارة مكة إلى الحل، والإخراج أشد كراهة. ولا يكره إخراج ماء زمزم، لما روى الترمذي -وقال: حسن غريب- عن عائشة: أنها كانت تحمل من ماء زمزم، وتخبر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يحمله (¬7)، ولأنه يستخلف، كالثمرة. وقال أحمد: أخرجه كعبٌ (¬8). ولم يزد عليه. ¬
تتمة
ولا يكره وضع الحصى بالمساجد كما في مسجده -صلى اللَّه عليه وسلم- زمنه، وبعده، ويحرم إخراج تراب المساجد، وإخراج طيبها، في الحل والحرم، لتبرُّك وغيره، لأنه انتفاع بالموقوف في غير جهته. قال أحمد: إذا أراد أن يستشفي بطيب الكعبة، لم يأخذ منه شيئًا، ويلزق عليها طيبًا من عنده، ثم يأخذه (¬1). تتمة: حد حرم مكة مات كل جهة عليه أنصاب، لم تزل معلومة، فلا حاجة لتسميتها. ويستحب المجاورة بمكة. وهي أفضل من المدينة لحديث عبد اللَّه بن عدي بن الحمراء، أنه سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول، وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: "واللَّه إنك لخير أرض اللَّه وأحب أرض اللَّه إلى اللَّه، ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت" (¬2). رواه أحمد، وغيره. وقال الترمذي: حسن صحيح. قال ابن عقيل: الكعبة أفضل من مجرد الحجرة، فأما والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها فلا واللَّه. ولا العرش، وحملته، والجنة، لأن بالحجرة جسدًا لو وزن به لرجح (¬3). وتضاعف الحسنة والسيئة، بمكان فاضل، وزمن فاضل، لقول ابن عباس (¬4). وسئل أحمد: هل تكتب السيئة أكثر من واحدة؟ قال: لا، ¬
إلا بمكة، لتعظيم البلد، ولو أن رجلًا بعدن وَهَمَّ أن يقتل عند البيت، أذاقه اللَّه من العذاب الأليم (¬1). (و) حرم (صيد حرم المدينة) المشرفة، وتسمى طابة وطيبة (¬2)؛ للخبر (¬3)، والأولى ألا تسمى يثرب، وإن صاده وذبحه؛ صحت تذكيته، ¬
جزم به في "الإقناع" (¬1). (و) حرم (قطعُ شجره وحشيشه) لحديث: "إن إبراهيم حرّم مكة، ودعا لأهلها، وإني حرّمت المدينة، كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة" (¬2). متفق عليه (لغير حاجة علف وفتب ونحوهما) كالمساند، والحرث، مما تدعو إليه الحاجة، لحديث أحمد، عن جابر بن عبد اللَّه: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما حرم المدينة قالوا: يا رسول اللَّه، إنا أصحاب عمل، وأصحاب نضح، وإنا لا نستطيع أرضًا غير أرضنا، فرخِّص لنا. فقال: "القائمتان، والوسادة، والعارضة، والمسدّ (¬3)، وأما غير ذلك فلا يعضد" (¬4) رواه أحمد. والقائمتان اللتان تنصب البكرة عليهما، والعارضة هي التي بين القائمتين، والمسدّ عود البَكَرة. ¬
وعن علي مرفوعًا: "المدينة حرمها ما بين عير إلى ثور، لا يختلى خلالها، ولا ينفر صيدها، ولا يصلح أن تقطع منها شجرة، إلا أن يعلف الرجل بعيره" (¬1) رواه أبو داود. ومن أدخلها صيدًا، فله إمساكه، وذبحه، نصًّا (¬2)، لحديث: "يا أبا عمير ما فعل النغير؟ " (¬3) -بالغين المعجمة- هو طائر صغير، كان يلعب به، متفق عليه (ولا جزاء) فيما حرم من ذلك. قال أحمد: لم يبلغنا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا أحدًا من أصحابه، حكموا فيه بجزاء (¬4). وحرمها: بريدٌ في بريد، نصًّا (¬5)، وهو ما بين ثور، وهو: جبل صغير، يضرب لونه إلى الحمرة، بتدوير، وهو خلف أحد من جهة الشمال. وعَير، وهو: جبل مشهور بالمدينة، لحديث علي المتقدم (¬6)، وذلك ما بين لابتيها، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "ما بين لابتيها حرام" (¬7) متفق عليه، واللابة الحَرَّة، وهي: أرض تركبها حجارة سود. ¬
باب آداب دخول مكة وما يتعلق به من طواف وسعي ونحوهما
باب آداب دخول مكة وما يتعلق به من طواف وسعي ونحوهما يسن الاغتسال لدخولها، كما تقدم (¬1) و (يسن) دخولها (نهارًا) للخبر (¬2) (من أعلاهما) أي مكة من ثنية كَدَاء -بفتح الكاف والدال ممدود مهموز- والثنية طريق بين جبلين (¬3)، وسن خروج من أسفلها، من ثنية كُدي -بضم الكاف والتنوين- (¬4) عند ذي طوى. (و) يسن دخول (المسجد) الحرام (من باب بني شيبة) وبإزائه الآن الباب المعروف بباب السلام، لحديث جابر: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دخل مكة ارتفاع الضحى، وأناخ راحلته عند باب بني شيبة، ثم دخل" (¬5). رواه مسلم، وغيره. ¬
ويقول ما ورد، كما في دخول غيره من المساجد (¬1) (فإذا رأى البيت رفع يديه) نصًّا (¬2)، لحديث الشافعي، عن ابن جريح: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا رأى البيت رفع يديه (وقال) بعد رفعهما (ما ورد)، ومنه: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، حيِّنا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تعظيمًا، وتشريفًا، وتكريمًا، ومهابة، وبرًا، وزد من عظمه، وشرفه، ممن حجه واعتمره، تعظيمًا، وتشريفًا، وتكريمًا، ومهابة، وبرًّا" (¬3). رواه الشافعي بإسناده، عن ابن جريج، مرفوعًا. ويقول: الحمد للَّه رب العالمين كثيرًا، كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، والحمد للَّه الذي بلغني بيته، ورآني أهلًا، والحمد للَّه على كل حال، اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام، وقد جئتك لذلك، اللهم تقبل مني، واعف عني، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت. ذكره الأثرم، وإبراهيم الحربي (¬4). ويرفع بذلك صوته، لأنه ذكر مشروع، أشبه التلبية. ¬
(ثم طاف) حال كونه (مضطبعًا) استحبابًا، في كل أسبوعه، نصًّا (¬1)، بأن يجعل وسط الرداء تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر، لما روى أبو داود، وغيره، عن يعلى بن أمية، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- طاف مضطبعًا (¬2). وروي عن ابن عباس: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى (¬3). وإذا فرغ من طوافه أزاله. ويطوف (للعمرة المعتمر، و) يطوف (للقدوم) وهو الورد (غيره) أي غير المعتمر، وهو المفرد، والقارن، فتستحب البداءة بالطواف لداخل المسجد الحرام، وهو تحية الكعبة، وتحية المسجد الصلاة، وتجزئ عنها ركعتا الطواف، لحديث جابر: حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا (¬4). وعن عائشة: حين قدم مكة توضأ، ثم طاف بالبيت (¬5). متفق عليه. وروي عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمر، وغيرهم (¬6) (ويستلم الحجر الأسود) أي يمسحه بيده اليمنى، والاستلام من السلام، وهو التحية، وأهل اليمن ¬
يسمون الحجر الأسود: المحيا، لأن الناس يحيونه بالاستلام. وروى الترمذي مرفوعًا: "إنه نزل من الجنة أشد بياضًا من اللبن، فسودته خطايا بني آدم" (¬1). ويبتدئ الطواف منه، لفعله عليه السلام (¬2) (ويقبِّله) بلا صوت يظهر للقُبلة. لحديث عمر: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- استقبل الحجر، ووضع شفتيه عليه يبكي طويلًا، ثم التفت، فإذا هو بعمر بن الخطاب يبكي، فقال: "يا عمر هاهنا تسكب العبرات" (¬3). رواه ابن ماجه. ويسجد عليه لفعل ابن عمر، وابن عباس (¬4). فإن شق استلامه، وتقبيله، لنحو زحام، لم يزاحم، واستلمه بيده، وقبَّلها، روي عن ابن عمر، وأبي هريرة، وجابر، وابن عباس، وأبي سعيد (¬5). لما روى ابن عباس: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- استلمه، وقبل يده (¬6). رواه مسلم. ¬
فإن شق استلامه بيده، استلمه بشيء، وقبَّله، روي عن ابن عباس موقوفًا (¬1). (فإن شق) عليه استلامه بشيء أيضًا (أشار إليه) بيده أو بشيء، لحديث البخاري عن ابن عباس قال: طاف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على بعير، فلما أتى الحجر أشار إليه بشيء في يده، وكبر (¬2)؛ ولا يقبله أي ما أشار به. ويستقبل الحجر الأسود بوجهه (ويقول) كلما استلمه، أو أشار إليه (ما ورد) ومنه: بسم اللَّه، واللَّه أكبر، اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعًا لسنة نبيك محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، لحديث عبد اللَّه بن السائب، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقول ذلك عند استلامه (¬3). ثم يجعل البيت عن يساره، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- طاف كذلك، وقال: "خذوا عني مناسككم" (¬4) وليقرب جانبه الأيسر للبيت، فأول ركن يمر به يسمى ¬
الشامي، وهو جهة الشام، ثم الغربي، وهو جهة المغرب، ثم اليماني، جهة اليمن. (ويرمُل الأفقي) أي غير المحرم من مكة أو قربها، وغير الراكب، وغير حامل معذور، وغير النساء (في هذا الطواف) خاصة، فيسرع المشي، ويقارب الخطى، في ثلاثة أشواط، ثم يمشي أربعة أشواط بلا رمل، حديث عائشة (¬1). ورواه عنه أيضًا جابر، وابن عباس، وابن عمر. بأحاديث متفق عليها (¬2). قال ابن عباس: ورمل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في عُمَرِه كلها، وفي حجه، وأبو بكر وعمر وعثمان والخلفاء من بعده (¬3). رواه أحمد. ويكون الرمل من الحجَر إلى الحجر، لحديث ابن عمر، وجابر (¬4). ولا يُقضى رَمَلٌ في الأربعة أشواط، لأنه هيئة فات موضعها، فسقط، كالجهر في الركعتين الأوليين من مغرب وعشاء، ومن لم يتمكن من الرمل، مع الدنو من البيت، للزحام، وأمكنه الرمل إن طاف في حاشية الناس، فالرمل له أولى من الدنو من البيت بلا رمل، وتأخير الطواف للرمل، أو للدنو من البيت، أولى من التقديم، ليأتي به على الوجه الأكمل. وكلما حاذى الحجر، والركن اليماني، استلمهما ندبًا، لحديث ابن عمر: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يدع أن يستلم الركن اليماني، والحجر في طوافه. قال نافع: كان ابن عمر يفعله (¬5). رواه أبو داود، لكن لا يقبل إلا ¬
الحجر الأسود، فإن شق استلامهما أشار إليهما. ولا يسن استلام الركن الشامي، ولا الغربي، لقول ابن عمر: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان لا يستلم إلا الحجر الأسود، والركن اليماني (¬1). ويقول كلما حاذى الحجر: اللَّه أكبر. فقط، لحديث ابن عباس: طاف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على بعير، وكلما أتى الركن أشار بيده، وكبر (¬2). ويقول بين الركن اليماني وبين الحجر: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. لحديث أحمد، في "المناسك" عن عبد اللَّه بن السائب أنه سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقوله (¬3). وعن أبي هريرة، مرفوعًا: "وُكِّل به -يعني الركن اليماني- سبعون ألف ملك، فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، قالوا: آمين" (¬4). ويقول في بقية الأشواط: اللهم اجعله حجًا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا، رب اغفر وارحم، واهدني السبيل الأقوم، وتجاوز عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم. وكان عبد الرحمن بن عوف يقول: رب قني شح نفسي (¬5). ويَذْكُرَ، ويدعو بما أحب، ويصلي على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويقرأ ¬
القرآن، لحديث "الطواف بالبيت صلاة، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير" (¬1). ولا يجزئ الطواف عن حامل معذور، إلا أن ينوي وحده، أو ينويا جميعًا عنه، وحكم سعي راكبًا كطواف، فلا يجزئه إلا لعذر. وإن طاف على سطح المسجد، توجه الإجزاء، كصلاته إليها، ويجزئ طواف في المسجد من وراء حائل، ولا يجزئ خارجه، أو منكسًا، أو على جدار الحجر -بكسر الحاء- فلا يجزئه، لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬2) والحجر منه، لحديث عائشة مرفوعًا: "هو من البيت" (¬3). رواه مسلم. وكذا لو طاف على شاذَروان الكعبة -بفتح الذال المعجمة- وهو ما فضل عن جدارها (¬4)، فلا يجزئه لأنه من البيت، فإذا لم يطف به، لم يطف بكل البيت، وإن مس الجدار بيده في موازاة الشاذروان صح طوافه. وإن طاف طوافًا ناقصًا، أو طاف بلا نية، فلا يجزئه، لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬5). وكالصلاة، أو طاف محدثًا، أو نجسًا -أيضًا- فلا يجزئه، لحديث: "الطواف بالبيت صلاة إلا أنكم تتكلمون فيه" (¬6) ولقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لعائشة حين حاضت: "افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت" (¬7)، ¬
ويلزم الناس انتظار حائض فقط إن أمكن، ويسن فعل سائر المناسك على طهارة. وإن طاف محرم فيما لا يحل لمحرم لبسه، صح طوافه، لعود النهي لخارج. ويبتدئ الطواف لحدث فيه تعمَّده، أو سبقه، بعد أن يتطهر، كالصلاة، ويبتدئه لقطع طويل، عرفًا، لأن الموالاة شرط فيه، كالصلاة، ولأنه عليه السلام والى طوافه وقال: "خذوا عني مناسككم" (¬1)، وإن كان قطعه يسيرًا، أو أقيمت صلاة، أو حضرت جنازة، وهو فيه، صلى، وبنى. ويبتدئ الشوط من الحَجَر، فلا يعتد ببعض شوط قطعه، قاله أحمد (¬2). وكذا السعي، وعلم مما سبق أنه يشترط لطواف: عقل، ونية، وستر عورة، وطهارة من حدث، لغير طفل لا يميز، وطهارة من خبث، وإكمال السبع، وجعل البيت فيه عن يساره، وكونه ماشيًا مع قدرة، والموالاة بينه، وابتداؤه من الحجر الأسود بحيث يحاذيه، وكونه في المسجد وخارج البيت جميعه. (فإذا فرغ) من طوافه (صلى ركعتين) نافلة، والأفضل كونهما (خلف المقام) أي مقام إبراهيم، لحديث جابر في صفة حجه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفيه: ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (¬3)، فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين. الحديث، رواه مسلم (¬4). ولا يشرع تقبيله، ولا مسحه، كصخرة بيت المقدس، ويقرأ فيها بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وسورة الإخلاص، بعد الفاتحة للخبر (¬5). ¬
وتجزئ مكتوبة عنها (ثم يستلم الحجر) ويسن عوده إلى الحجر (الأسود) بعد الصلاة، فيستلمه، نصًّا (¬1)، لفعله عليه السلام، ذكره جابر في صفة حجه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). ويسن الإكثار من الطواف ليلًا ونهارًا، وهو للغريب أفضل من الصلاة بالمسجد الحرام، وله جمع أسابيع، بركعتين لكل أسبوع، وفعلته عائشة، والمسور بن مخرمة (¬3)، ولا تعتبر الموالاة بين الطواف والركعتين، لأن عمر صلاهما بذي طوى (¬4)، وأخرت أم سلمة الركعتين حين طافت راكبة، بأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)، والأولى أن يركع لكل أسبوع ركعتين عقبه. ولطائف تأخير سعيه عن طوافه، بطواف، وغيره، فلا تجب الموالاة بينهما، ولا بأس أن يطوف أول النهار، ويسعى آخره (ويخرج إلى الصفا من بابه فيرقاه) أي الصفا (حتى يرى البيت فـ) يستقبله و (يكبِّر ثلاثًا، ويقول ما ورد)، فيقول ثلاثًا: "الحمد للَّه على ما هدانا، لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده"، لحديث جابر في صفة حجه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ثم ¬
خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا، قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (¬1) فبدأ بما بدأ اللَّه به، فبدأ بالصفا، رقى عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحَّد اللَّه، وكبَّر (¬2)، وقال: وذكر ما تقدم، ثم دعا بين ذلك، وقال مثل هذا ثلاث مرات، لكن ليس فيه: "يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير" (¬3) ويدعو بما أحب، لحديث أبي هريرة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما فرغ من طوافه أتى الصفا، فعلا عليه، حتى نظر إلى البيت، ورفع يديه، فجعل يحمد اللَّه ويدعو بما شاء أن يدعو (¬4). رواه مسلم. ولا يلبي، لعدم نقله (ثم ينزل) من الصفا (ماشيًا إلى العلم الأول) وهو الميل الأخضر في ركن المسجد، فإذا صار بينه وبينه نحو ستة أذرع (فيسعى) ماش سعيًا (شديدًا إلى) العلم (الآخر) ميل أخضر بفناء المسجد، حذاء دار العباس (ثم يمشي ويرقى المروة) مكان معروف (ويقول) مستقبلًا القبلة (ما قاله على الصفا) من تكبير، وتهليل، ودعاء. ويجب استيعاب ما بينهما، فيلصق عقبه بأصلهما في ابتدائه بكل منهما، ويلصق -أيضًا- أصابعه بما يصل إليه من كل منهما، والراكب يفعل ذلك بدابته، فمن ترك شيئًا مما بينهما، ولو دون ذراع، لم يجزه سعيه. (ثم ينزل) من المروة (فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، إلى الصفا، يفعله سبعًا، ويحسب ذهابه) سعية (ورجوعه) سعية، يفتتح بالصفا، ويختم بالمروة، للخبر (¬5)، فإن بدأ بالمروة لم يحتسب بذلك ¬
الشوط، ويكثر من الدعاء، والذكر فيما بين ذلك. قال الإمام: كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال: رب اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم (¬1). وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما جُعل رمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة؛ لإقامة ذكر اللَّه عز وجل" (¬2). قال الترمذي: حسن صحيح. ويشترط للسعي نية، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات" (¬3)، ويشترط له موالاة، قياسًا على الطواف. ويشترط كونه بعد طواف نسك، ولو مسنونًا، كطواف القدوم، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- سعى بعد طواف، وقال: "خذوا عني مناسككم" (¬4). فلو سعى بعد طوافه، ثم علمه بلا طهارة، أعاد، ولا يسن السعي بعد كل طواف، ويسن موالاة بين الطواف والسعي، بأن لا يفرق بينهما طويلًا، وتسن له طهارة من حدث وخبث، وسترة، ولا يسن فيه اضطباع، نصًّا (¬5)، والمرأة لا ترقى الصفا ولا المروة، ولا تسعى سعيًا شديدًا، لأنها عورة. وتسن مبادرة معتمر بالطواف والسعي، لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم-. (ويتحلل متمتع لا هدي معه بتقصير شعره) لأن عمرته تمت بالطواف ¬
والسعي والتقصير، ليحلق رأسه للحج (ومن معه هدي) تحلل (إذا حج) لحديث ابن عمر: تمتع الناس مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعمرة إلى الحج، فلما قدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مكة، قال: "من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء أحرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر، وليُحلل" (¬1) متفق عليه. ومن معه هدي أدخل الحج على العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا، والمعتمر غير المتمتع، يحل سواء كان معه هدي، أو لا، في أشهر الحج، أو غيرها. وإن ترك الحلق أو التقصير في عمرته، ووطئ قبله، فعليه دم، وعمرته صحيحة. روي أن ابن عباس سئل عن امرأة معتمرة وقع بها زوجها قبل أن تقصِّر. قال: من ترك من مناسكه شيئًا، أو نسيه، فليرق دمًا، قيل: فإنها موسرة، قال فلتنحر ناقة (¬2). (والمتمتع يقطع التلبية إذا أخذ في الطواف) وكذا المعتمر، لحديث ابن عباس مرفوعًا: كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر (¬3). قال الترمذي: حسن صحيح. ولا بأس بها سًّرا في طواف القدوم، نصًّا (¬4)، قال الموفق: ويكره الجهر بها، لئلا يخلط على الطائفين (¬5). وكذا السعي بعده. ¬
فصل في صفة الحج والعمرة وما يتعلق بذلك
فصل في صفة الحج والعمرة وما يتعلق بذلك (يسن لمُحِلٍّ بمكة) وبقربها، ولمتمتع حل من عمرته (الإحرام بالحج يوم التروية) وهو ثامن من ذي الحجة، لحديث جابر في صفة حج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وفيه: فلما كان يوم التروية، توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج (¬1)، وسمي الثامن بذلك لأنهم كانوا يتروون فيه الماء، لما بعده، أو لأن إبراهيم أصبح يتروى فيه في أمر الرؤيا. إلا من متمتع لم يجد هديًا، وأراد الصيام، فيستحب له أن يحرم في السابع، ليصوم ثلاثة أيام في إحرام الحج. ويسن لمن أحرم من مكة، أو من قربها، أن يكون إحرامه بعد فعل ما يفعله في إحرامه من الميقات، من الغسل، والتنظيف، ونحو ذلك، وبعد طواف، وصلاة ركعتين، ولا يطوف بعده لوداعه، لعدم دخول وقته، والأفضل أن يحرم من المسجد من تحت الميزاب، ويجوز إحرامه من خارج الحرم، ولا دم عليه، نصًّا (¬2). (و) يسن (المبيت بمنى) فيخرج إليها قبل الزوال، ندبًا، ويصلي بها الظهر مع الإمام، ويقيم بها إلى الفجر من يوم عرفة، ويصلي مع الإمام، لحديث جابر: وركب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى منى، فصلى بها الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس (¬3) (فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة)، فأقام بنمرة (¬4) إلى الزوال، فيخطب بها ¬
الإمام أو نائبه خطبة قصيرة، مفتتخة بالتكبير، يعلمهم فيها الوقوف، ووقته، والدفع منه، والمبيت بمزدلفة، لحديث جابر: حتى إذا جاء عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس، أمر بالقصواء فَرُحِلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس (¬1). (وكلها) أي عرفة (موقف إلا بطن عُرَنَة) (¬2)، لحديث: "كل عرفة موقف، وارفعوا عن بطن عرنة" (¬3) رواه ابن ماجه. فلا يجزئ وقوفه فيه، لأنه ليس من عرفة كمزدلفة، وحَدُّ عرفة. من الجبل المشرف على عُرَنَة، إلى الجبال المقابلة له، إلى ما يلي حوائط بني عامر. ويسن وقوفه بعرفة راكبًا، كفعله -صلى اللَّه عليه وسلم-، بخلاف سائر المناسك (ويجمع فيها) أي في عرفة من يباح له الجمع (بين الظهر والعصر تقديمًا) حتى المنفرد، نصًّا (¬4). وسن وقوفه -أيضًا- مستقبلًا القبلة، عند الصخرات، وجبل الرحمة واسمه إلال -على وزن هلال- ويقال له: جبل الدعاء (¬5)، لقول جابر عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة (¬6) ما بين يديه واستقبل القبلة (¬7). ¬
ولا يُشرع صعود جبل الرحمة. قال شيخ الإسلام إجماعًا (¬1). فيرفع يديه، ويكثر الدعاء، والاستغفار، والتفرع، ويلح في الدعاء، ولا يستبطئ الاستجابة، ويكرر كل دعاء ثلاثًا، ويكثر من قول: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا، ويسِّر لي أمري. لحديث: "أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له" (¬2). رواه مالك في "الموطأ". وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: كان أكثر دعاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم عرفة: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير (¬3). رواه الترمذي. (ووقت الوقوف) بعرفة (من فجر) يوم (عرفة إلى فجر) يوم (النحر) لقول جابر: لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع. قال أبو الزبير: فقلت له: أقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك؟ قال: نعم (¬4). فمن حصل في هذا الوقت بعرفة لحظة وهو أهل للحج، ولو مارًّا، أو نائمًا، أو جاهلًا أنها ¬
عرفة، صح حجه، للخبر (¬1)، وكما لو علم بها، وعكسه إحرام وطواف وسعي، فلا يصير من حصل بالميقات محرمًا بلا نية، لأن الإحرام هو النية، كما سبق، وكذا الطواف والسعي، لا يصحان بلا نية، وتقدم. ومن وقف بها نهارًا، ودفع قبل الغروب، ولم يعد بعده، فعليه دم، لتركه واجبًا، بخلاف واقف ليلًا فقط، فلا دم عليه، لحديث: "من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج" (¬2). (ثم يدفع) من عرفة (بعد الغروب) مع الأمير على طريق المأزمين (¬3)، ¬
لأنه عليه السلام سلكه (إلى مزدلفة) (¬1) وتسمى جمعًا لاجتماع الناس فيها، وهي ما بين المأزمين -بالهمزة وكسر الزاي- وهما جبلان بين عرفة ومزدلفة ووادي محسِّر -بالحاء المهملة والسين المهملة المشددة- واد بين مزدلفة ومنى، سمي بذلك لأنه يحسر سالكه (¬2) (بسكينة) لقول جابر: ودفع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد شنق القصواء بالزمام، حتى أن [رأسها] (¬3) ليصيب مورك رحله (¬4)، ويقول بيده اليمنى: "أيها الناس السكينة السكينة" (¬5). ويستغفر لأنه لائق بالحال، يسرع في الفرجة، لحديث أسامة: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يسير العَنق، فإذا وجد فرجة نصَّ (¬6). أي: أسرع، لأن العنق انبساط السير. والنص فوق العنق (¬7). (ويجمع فيها) أي: في مزدلفة إذا وصلها (بين العشائين) أي المغرب والعشاء (تأخيرًا) قبل حط رحله، لحديث أسامة بن زيد قال: دفع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من عرفة، حتى إذا كان بالشعب، نزل، فبال، ثم توضأ، فقلت له: الصلاة يا رسول اللَّه. فقال: "الصلاة أمامك". فركب، فلما جاء مزدلفة، نزل، فتوضأ، فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب، ثم أناخ ¬
كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة، فصلى العشاء، ولم يصل بينهما (¬1). متفق عليه. وإن صلى المغرب بالطريق، ترك السنة، للخبر (¬2)، وأجزأه، لأن كل صلاتين جاز الجمع بينهما، جاز التفريق بينهما، كالظهر والعصر بعرفة، وفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- محمول على الأفضل، ومن فاتته الصلاة مع الإمام بعرفة أو بمزدلفة، جمَعَ وحده، لفعل ابن عمر (¬3). (ويبيت بها) -أي بمزدلفة- وجوبًا، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- بات بها (¬4)، وقال: "لتأخذوا عني مناسككم" وله الدفع من مزدلفة قبل الإمام بعد نصف الليل، لحديث ابن عباس: كنت في من قَدَّم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في ضعفة أهله، من مزدلفة إلى منى (¬5). متفق عليه. وعن عائشة، قالت: أرسل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة، قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت (¬6). رواه أبو داود. ومن دفع من مزدلفة إلى منى قبل نصف الليل غير سقاة زمزم ورعاة، فعليه دم، علم الحكم أو جهله، نسيه أو ذكره، لأنه ترك واجبًا، والنسيان إنما يؤثر في جعل الموجود كالمعدوم، لا في جعل المعدوم كالموجود، وأما السقاة والرعاة فلا دم عليهم، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رخص للرعاة في ترك البيتوتة، في ¬
حديث عدي (¬1) (¬2)، ورخص للعباس في ترك البيتوتة، لأجل سقايته (¬3)، وللمشقة عليهم بالمبيت. فإن عاد إليها قبل الفجر، مَنْ دفع منها قبل نصف الليل، فلا دم عليه، كمن لم يأتها إلا في نصف الليل الثاني، ومن أصبح بها، صلى الصبح بغلس، لحديث جابر يرفعه: صلى الصبح بها حين تبين له الصبح، بأذان وإقامة (¬4). وليتسع وقت وقوفه بالمشعر الحرام. (فإذا صلى الصبح، أتى المشعر الحرام) سمي به، لأنه من علامات الحج، واسمه في الأصل قُزَح، وهو جبل صغير بمزدلفة (¬5) (فرقاه) إن سهل أ (ووقف عنده، وحمد اللَّه) تعالى (وكبَّر) وهلل، (وقرأ {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ. . .} الآيتين) إلى {غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} (¬6)، (ويدعو) فيقول: اللهم كما أوقفتنا فيه، وأريتنا إياه، فوفقنا لذكرك، كما هديتنا، واغفر لنا، وارحمنا، كما وعدتنا، إنك لا تخلف الميعاد. يكرره (حتى يسفر) لحديث ¬
جابر مرفوعًا: لم يزل واقفًا عند المشعر الحرام حتى أسفر جدًا (¬1). (ثم يدفع إلى منى) قبل طلوع الشمس، قال عمر: كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير، كيما نغير، وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خالفهم "فأفاض قبل أن تطلع الشمس" (¬2) رواه البخاري. ويسير بسكينة، لحديث ابن عباس: "إن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل، فعليكم بالسكينة" (¬3). (فإذا بلغ محسِّرًا أسرع رمية حجر) إن كان ماشيًا، وإلا حرّك دابته، لقول جابر: حتى إذا أتى بطن محسر فحرك قليلًا (¬4)، وعن ابن عمر أنه لما أتى محسرًا أسرع، وقال: إليك تعدو قلِقًا وضينها ... مخالفًا دين النصارى دينها معترضًا في بطنها جنينها (¬5). ¬
(وأخذ حصى الجمار سبعين) حصاة، كان ابن عمر يأخذه من جمع (¬1)، وفعله سعيد بن جبير، وقال: كانوا يتزودون الحصى من جمع. وذلك لئلا يشتغل عند قدومه منى بشيء قبل الرمي، وهو تحيتها. وتكون الحصاة (أكبر من الحمص ودون البندق) كحصى الخذف -بالخاء والذال المعجمتين- أي الرمي بنحو حصاة، أو نواة بين السبابتين، تخذف بها (¬2). ومن حيث شاء أخذ حصى الجمار، لحديث ابن عباس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غداة العقبة: "القُط لي حصًى". فلقطت له سبع حصيات من حصى الخذف، فجعل يقبضهن في كفه ويقول: "أمثال هؤلاء فارموا". ثم قال: "أيها الناس، إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" (¬3) رواه ابن ماجه. وكان ذلك بمنى. قال في "الشرح" (¬4): وكره أخذ الحصى من الحرم -يعني المسجد- لما تقدم من جواز أخذه من جمع ومنى وهما من الحرم. وكره تكسيره. ولا يسن غسله. قال أحمد: لم يبلغنا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فعله (¬5). ¬
وتجزئ مع الكراهة حصاة نجسة، وتجزئ حصاة غير معهودة، كحصاة مرمر، وبرام (¬1)، ونحوهما، ولا تجزئ حصاة صغير جدًّا، أو كبيرة، لظاهر الخبر (¬2)، ولا ما رمي بها، لأخذه -صلى اللَّه عليه وسلم- الحصى من غير المرمى، ولأنها استعملت في عبادة، فلا تستعمل فيها ثانيًا، كماء وضوء. ولا يجزئ بغير الحصى، كجوهر، وذهب، ونحوهما. فإذا وصل منى، وهو ما بين وادي محسر وجمرة العقبة، بدأ بالرمي (فيرمي جرة العقبة وحدها بسبع) حصيات، واحدة بعد أخرى، فلو رمى أكثر من حصاة دفعة فلا يحسب إلا واحدة، لأنه عليه السلام رمى سبع رميات، وقال: "خذوا عني مناسككم" (¬3) ويؤدب، لئلا يقتدى به. ويشترط علم الوصول بالمرمى، فلا يكفي ظنه، لأن الأصل بقاؤه بذمته، فلا يبرأ إلا بيقين، فلو رمى حصاة، فطارت بها الريح، أو نحو ذلك، قبل وقوعها بالمرمى لم يجزئه، وإن وقعت خارج المرمى، ثم تدحرجت فيه، أجزأ. ووقت الرمي من نصف ليلة النحر لمن وقف قبله، لحديث عائشة ترفعه: أمر أم سلمة ليلة النحر، فرمت جمرة العقبة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت (¬4). رواه أبو داود. وروي: أنه أمرها [أن] (¬5) تعجل الإفاضة، وتوافي مكة مع صلاة الفجر (¬6)، احتج به أحمد. ولأنه وقت للدفع من مزدلفة، أشبه ما بعد الشمس، وندب بعد الشروق، لقول جابر: رأيت ¬
رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يرمي الجمرة ضحى يوم النحر وحده (¬1). رواه مسلم. وحديث أحمد، عن ابن عباس مرفوعًا: "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" (¬2) محمول على وقت الفضيلة، فإن غربت شمس يوم النحر، ولم يرم جمرة العقبة، رماها من غده بعد الزوال، لقول ابن عمر: من فاته الرمي حتى تغيب الشمس، فلا يرمي حتى تزول الشمس من الغد (¬3). و(يرفع يمناه) عند الرمي (حتى يُرى بياض إبطه) لأنس معونة على الرمي. (و) يسن أن (يكبر مع كل حصاة) لحديث جابر (¬4)، وأن يقول مع كل حصاة: اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا، لما روى حنبل، عن زيد بن أسلم قال: رأيت سالم بن عبد اللَّه استبطن الوادي، ورمى الجمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة: اللَّه أكبر، اللَّه أكبر. ثم قال: اللهم اجعله. . إلخ فسألته عما صنع؟ فقال حدثني أبي، أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رمى الجمرة من هذا المكان، ويقول كلما رمى مثل ذلك (¬5). وندب أن يستبطن الوادي، وأن يستقبل القبلة، وأن يرمي على جانبه ¬
الأيمن، لحديث عبد اللَّه بن يزيد: لما أتى عبد اللَّه جمرة العقبة، استبطن الوادي، واستقبل القبلة، وجعل يرمي الجوة على جانبه الأيمن، ثم رمى سبع حصيات، ثم قال: والذي لا إله غيره من هاهنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة (¬1). قال الترمذي: حديث صحيح. ولا يقف عندها، لحديث ابن عمر، وابن عباس، مرفوعًا: كان إذا رمى جمرة العقبة انصرف ولم يقف (¬2). رواه ابن ماجه. وللبخاري (¬3) من حديث ابن عمرو، لضيق المكان. وله رميها من فوقها، لفعل عمر لما رأى من الزحام عندها (¬4). ويقطع التلبية بأول الرمي، لحديث الفضل بن عباس مرفوعًا: لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة (¬5). متفق عليه. (ثم ينحر) هديًا إن كان معه، واجبًا كان، أو تطوعًا، لقول جابر: ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بدنة بيده، ثم أعطى عليًّا، فنحر ما بقي، وأشركه في هديه (¬6). فإن لم يكن معه هدي، وعليه واجب، اشتراه، وإذا نحره، فرقه لمساكين الحرم، أو أطلقه لهم. (ويحلق أو يقصِّر) لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (¬7). ¬
وسن استقبال محلوق رأسه القبلة، كسائر المناسك، وبدأة بشقه الأيمن، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يحب التيامن في شأنه كله (¬1)، وأن يبلغ بالحلق العظم الذي عند مقطع الصُّدغ من الوجه، لأن ابن عمر كان يقول للحالق: ابلغ العظمين، افصل الرأس من اللحية (¬2)، وكان عطاء يقول: من السنة إذا حلق أن يبلغ العظمين (¬3). قال جماعة: ويدعو (¬4). قال الموفق وغيره: ويكبر وقت الحلق، لأنه نسك (¬5)، وإن قصَّر، قصَّر (من جميع شعره) لا من كل شعرة بعينها، لأنه مشقة، ولا يكاد يعلم إلا بحلقه. ولا يجزئ حلق بعض الرأس، أو تقصيره، لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حلق جميع رأسه، فكان تفسيرًا لمطلق الحلق، أو التقصير، فوجب الرجوع إليه، ومن لبَّد رأسه، أو ظفره، أو عقصه (¬6)، فكغيره. (والمرأةُ) تقصر من شعرها كذلك (قدر أنملة) فأقل، لحديث ابن عباس مرفوعًا: "ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير" (¬7). رواه أبو داود، ولأن الحلق مُثْلة في حقهن. فتقصر من كل شعرها قدر أنملة. ونقل أبو داود: تجمع شعرها إلى مقدم رأسها، ثم تأخذ من أطرافه قدر أنملة (¬8). ¬
وسن لمن حلق أو قصر أخذ ظفر وشارب ونحوه. قال ابن المنذر: ثبت أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما حلق رأسه، قلم أظفاره (¬1). وكان ابن عمر يأخذ من شاربه، وأظفاره (¬2). وسن أن لا يشارط الحلاق على أجرة، لأنه دناءة. وسن إمرار الموسى على من عدم الشعر. وإن نتف الشعر، أو أزاله بنورة، أجزأ، لكن السنة الحلق أو التقصير. (ثم) بعد رمي وحلق أو تقصير (قد حل له كل شئ) قد حرم بالإحرام (إلا النساء) وطئًا ومباشرة، وقُبلة ولمسًا لشهوة، وعقد نكاح، لحديث عائشة مرفوعًا: "إذا رميتم، وحلقتم، فقد حل لكم الطيب، والثياب، وكل شيء إلا النساء" (¬3). رواه سعيد. وقالت عائشة: طيبت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لإحرامه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت (¬4). متفق عليه. والحلق والتقصير نسك، في تركهما دم، لأنه تعالى وصفهم بذلك، وامتن به عليهم، فدل على أنه من العبادة، ولأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "فليقصر، ثم ليحلل" (¬5)، ولو لم يكن نسكًا لم يتوقف الحل عليه، ولا دم عليه إن أخرهما ¬
عن أيام منى، لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (¬1)، فبين أول وقته دون آخره، فمتى أتى به أجزأه، كالطواف، لكن لابد من نيته نسكًا. وكذا إن قدَّم الحلق على الرمي، أو قدَّم الحلق على النحر، أو نحر قبل رميه، أو طاف للإفاضة قبل رميه جمرة العقبة، فلا شيء عليه، لحديث عطاء: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له رجل: أفضت قبل أن أرمي. قال: "ارم ولا حرج" (¬2). وعنه مرفوعًا: "من قدم شيئًا قبل شيء فلا حرج". رواه سعيد (¬3). ولحديث ابن عمرو، قال رجل: يا رسول اللَّه، حلقت قبل أن أذبح. قال: "اذبح ولا حرج"، فقال آخر: ذبحت قبل أن أرمي. قال: "ارم ولا حرج" (¬4). متفق عليه، وفي لفظ، قال: فجاء رجل فقال: يا رسول اللَّه، لم أشعر، فحلقت قبل أن أذبح. وذكر الحديث، قال: فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء، أو يجهل، من تقديم بعض الأمور على بعضها، وأشباهها، إلا قال: "افعلوا ولا حرج" (¬5) رواه مسلم. ويحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة: رمي، وحلق، وطواف إفاضة. فلو حلق وطاف، ثم وطئ ولم يرم، فعليه دم لوطئه، ودم لتركه الرمي، وحجه صحيح. ويحصل التحلل الثاني بما بقي من الثلاثة، مع السعي من متمتع مطلقًا، ومفرد وقارن لم يسعيا مع طواف قدوم، لأنه ركن. ¬
ثم يخطب الإمام أو نائبه بمنى يوم النحر خطبة يفتتحها بالتكبير، يعلمهم فيها النحر، والإفاضة، والرمي للجمرات كلها أيامه، لحديث ابن عباس مرفوعًا: خطب الناس يوم النحر (¬1). -يعني بمنى- أخرجه البخاري. وقال أبو أمامة: سمعت خطبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمنى يوم النحر (¬2). رواه أبو داود. (ثم يُفيض إلى مكة فيطوف) مفرد وقارن لم يدخلا مكة قبل وقوفهما بعرفة طوافًا للقدوم، نصًّا (¬3)، برمل واضطباع، ثم للزيارة، وأما المتمتع الذي دخلها قبل فيطوف (طواف الزيارة) وهي الإفاضة، لأنه يأتي به عند إفاضته من منى إلى مكة، ولما كان يزور البيت ولا يقيم بمكة بل رجع إلى منى سمي -أيضًا- طواف الزيارة (الذي هو ركن) لا يتم حج إلا به إجماعًا (¬4) لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} (¬5)، ولحديث عائشة في حيض صفية (¬6). متفق عليه. وأول وقته من نصف ليلة النحر لمن وقف بعرفة قبل، وإلا فبعد الوقوف، وفعله يوم النحر أفضل، لحديث ابن عمر: أفاض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم النحر (¬7). متفق عليه، وإن أخره عن أيام منى جاز، لأنه لا آخر لوقته، ¬
ولا شيء في تأخيره، كالسعي. (ثم يسعى) متمتع لحجه، لأن سعيه الأول كان لعمرته، وأما المفرد والقارن فيسعى أيضًا (إن لم يكن سعى) قبل، ومن سعى منهما، لم يعده، لأنه لا يستحب التطوع به، كسائر الأنساك، إلا الطواف، لأنه صلاة (وقد حل له كل شيء) حتى النساء. (وسن أن يشرب من ماء زمزم، لما أحب، ويتضلع منه) ويرش على بدنه، وثوبه، لحديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كنت جالسًا عند ابن عباس، فجاء رجل، فقال: من أين جئت؟ قال: من زمزم. قال. فشربت منها كما ينبغي؟ قال: كيف؟ قال: إذا شربت منها فاستقبل القبلة، واذكر اسم اللَّه، وتنفس ثلاثًا، وتضلع منها. فإذا فرغت، فاحمد اللَّه تعالى، فإن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم" (¬1). رواه ابن ماجه. (ويدعو بما ورد) فيقول: بسم اللَّه، اللهم اجعله لنا علمًا نافعًا، ورزقًا واسعًا وريًّا وشبعًا، وشفاءً من كل داء، واغسل به قلبي، واملأه من خشيتك. زاد بعضهم: وحكمتك (¬2)؛ لحديث جابر: "ماء زمزم لما شرب له" (¬3). رواه ابن ماجه. (ثم يرجع) من أفاض يوم النحر إلى مكة بعد طوافه وسعيه على ما سبق (فيبيت بمنى ثلاث ليال) إن لم يتعجل، وإلا فليلتين، وجوبًا (ويرمي ¬
الجمار) الثلاث (في كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال) فإن رمى ليلًا، أو قبل الزوال، لم يجزئه، لحديث جابر: رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يرمي الجمرة ضحى يوم النحر، ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس (¬1). (و) سن رميه (قبل الصلاة) أي صلاة الظهر يرمي كل واحدة بسبع حصيات، واحدة بعد واحدة، كما تقدم، لحديث ابن عباس مرفوعًا: كان يرمي الجمار إذا زالت الشمس قدر ما إذا فرغ من رميه صلى الظهر (¬2). رواه ابن ماجه. وأن يحافظ على الصلوات مع الإمام في مسجد الخيف، وإلا فيصلي مع رفقته، ويبتدئ برمي الجمرة الأولى، وهي أبعدهن مما يلي مكة، وتلي مسجد الخيف، فيجعلها عن يساره، ويرميها بسبع، ثم يتقدم قليلًا، بحيث لا يصيبه الحصى، فيقف يدعو، ويطيل، رافعًا يديه، نصًّا (¬3). ثم يأتي الجمرة الوسطى، فيجعلها عن يمينه، ويرميها بسبع، ويقف عندها فيدعو، رافعًا يديه، ويطيل. ثم يأتي جمرة العقبة، ويجعلها عن يمينه، ويستبطن الوادي، ويرميها بسبع، ولا يقف عندها، لضيق المكان. ويستقبل القبلة في رمي الجمرات كلها، لخبر عائشة مرفوعًا: فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى، والثانية، ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها (¬4). رواه أبو داود. وقال ابن المنذر: كان عمر، وابن مسعود يقولان عند الرمي: اللهم اجعله حجًّا مبرورًا، وذنبًا ¬
مغفورًا (¬1). وترتيب الجمرات كما ذكر شرط، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- رماها كذلك، وقال: "خذوا عني مناسككم" فإن أخل بحصاة من الأولى، لم يصح رمي الثانية، ولا الثالثة، وإن أخل بحصاة من الثانية، لم يصح رمي الثالثة، لإخلاله بالترتيب. وإن أخر رمي يوم، ولو يوم النحر، إلى غده، أو أكثر، أجزأه، أو أخر رمي الكل، إلى آخر أيام التشريق، ورماها بعد الزوال، أجزأه أداءً، لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي، ويجب ترتيبه بالنية، كفوائت الصلوات، فإذا أخر الكل مثلًا، بدأ بجمرة العقبة، فينوي رميها ليوم النحر، ثم يأتي الأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة، ناويًا عن أول يوم من أيام التشريق، ثم عن اليوم الثاني، والثالث كذلك. وفي تأخير الرمي عن أيام التشريق: دم، لفوات وقت الرمي، فيستقر الفداء، لقول ابن عباس: من ترك نسكًا، أو نسيه، فإنه يهريق دمًا (¬2)، كترك مبيت ليلة غير الثالثة، لمن تعجل بمنى. وفي ترك حصاة واحدة، ما في إزالة شعرةٍ، وفي ترك حصاتين، ما في إزالة شعرتين، وهذا إنما يتصور في آخر جرة من آخر يوم، وإلا لم يصح رمي ما بعدها، كما تقدم، وفي أكثر من حصاتين: دم. ومن له عذر من نحو مرض, وحبس، جاز أن يستنيب من يرمي عنه، والأولى أن يشهده إن قدر، وإن أغمي على المستنيب، لم تبطل النيابة، فله الرمي عنه، كما لو استنابه في الحج، ثم أغمي عليه. ¬
ولا مبيت بمنى على سقاة ورعاة، لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أذن للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى، لأجل سقايته (¬1). ولحديث مالك: رخص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لرعاة الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر، يرمونه في أحدهما (¬2). قال مالك: ظننت أنه قال في أول يوم، فإن غربت الشمس وهم بها، لزم الرعاة فقط المبيت. ويخطب الإمام أو نائبه ثاني أيام التشريق خطبة، يعلمهم فيها حكم التعجيل والتأخير، وحكم توديعهم. لحديث أبي داود، عن رجلين من بني بكر قالا: رأينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته (¬3). (ومن تعجل في يومين إن لم يخرج قبل الغروب لزمه المبيت والرمي من الغد) بعد الزوال، قال ابن المنذرة ثبت أن عمر قال: من أدركه المساء في اليوم الثاني، فليقم إلى الغد، حتى ينفر مع الناس (¬4)، ولأنه بعد إدراكه الليل لم يتعجل في يومين، وأما من تعجل قبل الغروب، فيسقط عنه المبيت الليلة الثالثة، وكذا رمى اليوم الثالث، نصًّا (¬5)، ويدفن متعجل بقية حصاه (¬6)، زاد بعضهم (¬7): في المرمى. ¬
فإذا أتى متعجل أو غيره مكة، لم يخرج حتى يودع البيت بالطواف. (وطواف الوداع واجب) إذا فرغ من جميع أموره، لحديث ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (¬1). متفق عليه، ويسمى طواف الصدر، لأنه عند صدور الناس من مكة (يفعله) أي طواف الوداع (ثم يقف في الملتزم) وهو أربعة أذرع، بين الركن الذي به الحجر والباب (داعيًا بما ورد). فيلصق به جميع بدنه: وجهه، وصدره، وذراعيه، وكفيه مبسوطتين. لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: طفت مع عبد اللَّه، فلما جاء دبر الكعبة قلت: ألا تتعوذ؟ قال: أعوذ باللَّه من النار. ثم مضى حتى استلم الحجر، فقام بين الركن والباب، فوضع صدره، وذراعيه، وكفيه، وبسطهما بسطًا، وقال: هكذا رأيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يفعل (¬2). رواه أبو داود. ويقول وهو على هذه الحالة: اللهم هذا بيتك، وأنا عبدك، وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضى، وإلا فَمُنَّ الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، وهذا أوان انصرافي، إن أذنت لي، غير مستبدل بك، ولا ببيتك ولا راغب عنك، ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك، ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير. ويدعو بعد ذلك بما أحب، ويصلي على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). ¬
ويأتي الحطيم -أيضًا- وهو تحت الميزاب (¬1) فيدعو ثم يشرب من ماء زمزم، قاله (¬2) الشيخ (¬3). ويستلم الحجر الأسود، ويقبله، ثم يخرج. قال أحمد: فإذا ولىّ لا يقف ولا يلتفت، فإن التفت رجع فودع أي استحبابًا (¬4). ولا يستحب له المشي قهقرى بعد وداعه. قال الشيخ تقي الدين: هو بدعة مكروهة (¬5). فإن ودَّع، ثم اشتغل بغير شد رحل، أو اتَّجر، أو أقام، أعاد الوداع وجوبًا، لأن طواف الوداع إنما يكون عند خروجه، ليكون آخر عهده بالبيت، ولا يعيد إن اشترى حاجة في طريقه، أو اشترى زادًا، أو شيئًا لنفسه، أو صلى، لأن ذلك لا يمنع أن آخر عهده بالبيت الطواف. (وتدعو الحائض والنفساء على باب المسجد) ندبًا. وسن دخول البيت بلا خُف، وبلا نعل، وبلا سلاح، نصًّا (¬6)، فيكبر في نواحيه، ويصلي فيه ركعتين، ويدعو، والنظر إلى البيت عبادة نصًّا (¬7)، قال ابن عمر: دخل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبلال، وأسامة بن زيد. فقلت لبلال: هل صلى فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: نعم. قلت: أين؟ قال: بين العمودين، تلقاء وجهه، قال: ونسيت أن أسأله: كم صلى (¬8)؟ متفق عليه. ¬
وإن لم يدخل البيت، فلا بأس، لحديث عائشة مرفوعًا: خرج من عندها وهو مسرور، ثم رجع، وهو كئيب. فقال: إني دخلت الكعبة، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما دخلتها، إني أخاف أن أكون قد شققت على أمتي (¬1). (وسن زيارة قبر (¬2) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقبري صاحبيه) رضي اللَّه عنهما، لحديث الدارقطني عن ابن عمر مرفوعًا: "من حج فزار قبري بعد وفاتي، فكأنما زارني في حياتي" (¬3)، وفي رواية: "من زار قبري، وجبت له شفاعتي" (¬4)، وعن أبي هريرة مرفوعًا: "ما من أحد يسلم علي عند قبري إلا رد اللَّه علي روحي حتى أرد عليه السلام" (¬5). وإذا دخل مسجده -صلى اللَّه عليه وسلم- قال ما ورد لدخول غيره من المساجد، ¬
وتقدم (¬1)، وصلى تحية المسجد، والأولى في الروضة، ثم يستقبل وسط القبر الشريف فيسلم عليه -صلى اللَّه عليه وسلم-، مستقبلًا له، موليًا ظهره القبلة، فيقول: السلام عليك يا رسول اللَّه. كان ابن عمر لا يزيد على ذلك (¬2)، وإن زاد فحسن. قال في شرح "الإقناع" (¬3): قال في "الشرح" (¬4) و"شرح المنتهى" (¬5) أي لمصنفه، ويقول: السلام عليك يا أيها النبي ورحمة اللَّه وبركاته، السلام عليك يا نبي اللَّه وخيرته من خلقه وعباده. أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أشهد أنك بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت اللَّه حتى أتاك اليقين، صلى اللَّه عليك كثيرًا، كما يحب ربنا ويرضى، اللهم اجز عنا نبينا أفضل ما جزيت أحدًا من النبيين والمرسلين، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، يغبطه به الأولون والآخرون، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم إنك قلت وقولك الحق: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (¬6) وقد أتيتك مستغفرًا من ذنبي، مستشفعًا بك إلى ¬
ربي (¬1)، فأسألك يا ربي أن توجب لي المغفرة، كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم اجعله أول الشافعين، وأنجح السائلين، وأكرم الأولين والآخرين، برحمتك يا أرحم الراحمين. ثم يدعو لوالديه، ولإخوانه، وللمسلمين أجمعين، ولا يرفع صوته عنده، لقوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} (¬2) وحرمته ميتًا، كحرمته حيًّا. ثم يستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، لئلا يستدبر قبره -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويدعو بما أحب، ثم يتقدم قليلًا من مقام سلامه على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نحو ذراع على يمينه، فيسلم على أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- فيقول: السلام عليك يا أبا بكر الصديق. ثم يتقدم نحو ذراع على يمينه -أيضًا- فيسلم على عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فيقول: السلام عليك يا عمر الفاروق. ويقول: السلام عليكما يا صاحبي رسول اللَّه، وضجيعيه، ووزيريه، اللهم اجزهما عن نبيهما، وعن الإسلام خيرًا، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، اللهم لا تجعله آخر العهد بقبر نبيك -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، ولا بمسجده الشريف يا أرحم الراحمين. ولا يمس قبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-, ولا حائطه، ولا يتمسح به، ولا يلصق به صدره، ولا يقبله، لما في ذلك من إساءة الأدب، والابتداع. قال الأثرم: رأيتَ أهل العلم من أهل المدينة لا يمسون قبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، يقومون من ناحية ¬
تتمة
فيسلمون. قال أبو عبد اللَّه: وهكذا ابن عمر كان يفعل (¬1). وأما المنبر، فروي عن ابن عمر أنه كان يضع يده على مقعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من المنبر، ثم يضعها على وجهه (¬2). تتمة: يستحب الإكثار من الصلاة في مسجده -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي بألف صلاة فيما سواه، إلا المسجد الحرام، كما تقدم في الاعتكاف (¬3)، وهي في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، وفي المسجد الأقصى بخمسمائة. قال الشيخ: ويحرم طوافه بغير البيت العتيق اتفاقًا (¬4)، ويسن أن يأتي مسجد قباء -بفتح القاف يقصر ويمد- على ميلين من المدينة، من جهة الجنوب (¬5)، فيصلي فيه. لما في "الصحيحين" أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يأتيه راكبًا وماشيًا، فيصلي فيه ركعتين (¬6)، وفيهما كان يأتيه كل سبت راكبًا وماشيًا (¬7). وكان ¬
ابن عمر يفعله (¬1)، يزور البقيع ويسلم على من فيه من الصحابة والتابعين والعلماء والصالحين. وإذا أراد الخروج من المدينة ليعود إلى وطنه، عاد إلى المسجد النبوي، فصلى فيه ركعتين، وعاد إلى قبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فودع، وأعاد الدعاء. قاله في "المستوعب" (¬2) قال: ويعزم على أن لا يعود على ما كان عليه قبل حجه من عمل لا يُرضى، ففي الحديث: "أنه يعود كيوم ولدته أمه" (¬3). ويستجاب دعاؤه إلى أربعين يومًا. وروى أبو الشيخ الأصفهاني، وغيره، من رواية الليث، عن مجاهد قال: قال عمر: يغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج، بقية ذي الحجة، ومحرم، وصفر، وعشر من ربيع الأول (¬4). ويسن أن يقول عند منصرفه من حجه متوجهًا إلى بلده: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون، لربنا حامدون، صدق اللَّه وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. لما روى البخاري عن ابن عمر: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا قفل من غزو، أو حج، أو عمرة، يكبر على كل شرف من الأرض، ثم يقول. . فذكره (¬5). ¬
ولا بأس أن يُقال للحاج إذا قدم: تقبل اللَّه نسكك، وأعظم أجرك، وخلف نفقتك. رواه سعيد، عن ابن عمر (¬1)، وكان السلف يغتنمون أدعية الحاج قبل أن يتلطخوا بالذنوب، وفي الخبر: "اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج" (¬2). (وصفة العمرة أن يحرم بها من بالحرم) من مكي أو غيره (من أدنى الحل) فيخرج من الحرم، ويحرم من الحل وجوبًا، لأنه ميقاته، ليجمع بين الحل والحرم، والأفضل إحرامه من التنعيم، فالجعرانة، فالحديبية، فما بعد من الحرم عن مكة. وحَرُمَ إحرام بعمرة من الحرم، لتركه ميقاته، وينعقد إحرامه، وعليه دم، كمن تجاوز ميقاته بلا إحرام، ثم أحرم (وغيره) أي غير من بالحرم، يحرم بها (من دُوَيرة أهله، إن كان دون ميقات) كما تقدم في المواقيت (وإلا) يكون دون ميقات (فـ) يحرم (منه) أي من الميقات الذي يليه (ثم يطوف ويسعى ويقصِّر) أو يحلق، وقد حل من عمرته. ولا بأس بها في السنة مرارًا، روي عن علي، وابن عمر، وابن عباس وأنس، وعائشة (¬3)، واعتمرت عائشة في شهر مرتين بأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، عمرة مع قرانها، وعمرة بعد حجها. وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "العمرة إلى العمرة كفارة لما ¬
فائدة
بينهما" (¬1). متفق عليه. والعمرة في غير أشهر الحج أفضل، نصًّا (¬2)، وكره إكثار منها، والموالاة بينها. قال في "الفروع": باتفاق السلف (¬3). وهي برمضان أفضل لحديث ابن عباس مرفوعًا "عمرة في رمضان تعدل حجة" (¬4). متفق عليه. فائدة: قال أنس: حج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حجة واحدة، واعتمر أربع عُمَر: واحدة في ذي القعدة، وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته، وعمرة الجعرانة إذ قسم غنائم حنين (¬5). متفق عليه. ولا يكره إحرام بها يوم عرفة، ولا أيام التشريق، لعدم نهي خاص عنه، وتجزئ عمرة القارن عن عمرة الإسلام، وتجزئ من التنعيم عن عمرة الإسلام، لحديث عائشة حين قرنت الحج والعمرة، قال لها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين حلت منهما: "قد حللت من حجك وعمرتك" (¬6)، وإنما أعمرها من التنعيم قصدًا لتطييب خاطرها، وإجابة مسألتها. ¬
فصل (أركان الحج أربعة)
فصل (أركان الحج أربعة) أحدها: (إحرام) بالحج، لأنه نية الدخول فيه، فلا يصح بدونها، لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1). وكبقية العبادات. (و) الثاني: (وقوف) بعرفة لحديث "الحج عرفة" (¬2) رواه أبو داود مختصرًا. (و) الثالث: (طواف) الزيارة، لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} (¬3). (و) الرابع: (سعي) بين الصفا والمروة، لحديث عائشة قالت: طاف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وطاف المسلمون -يعني بين الصفا والمروة- فكانت سنة، فلعمري ما أتم اللَّه حج من لم يطف بين الصفا والمروة" (¬4). رواه مسلم، ولحديث: "اسعوا فإن اللَّه كتب عليكم السعي" (¬5). رواه ابن ماجه. (وواجباته) أي الحج (سبعة) أحدها: (إحرام مار) عن أي (¬6) (على ميقات منه) أي من ذلك الميقات، لما تقدم في المواقيت. (و) الثاني: (وقوف) بعرفة (إلى الليل إن وقف) بها (نهارًا، و) ¬
الثالث: (مبيت بمزدلفة إلى بعد نصفه) أتي الليل (إن وافاها قبله، و). الرابع: المبيت (بمنى لياليها) أي ليالي أيام التشريق، لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأمره به (¬1). (و) الخامس: (الرمي) للجمار (مرتبًا) على ما تقدم مفصلًا. (و) السادس: الـ (الحلق (¬2) أو) الـ (التقصير، و) السابع: (طواف وداع) وهو الصدر -بفتح الصاد المهملة- وتقدم (¬3). (وأركان العمرة ثلاثة): (إحرام) بها. (و) الثاني: (طواف). (و) الثالث: (سعي) كالحج. (وواجباتها) أي العمرة (اثنان: الإحرام من الحل، والحلق أو التقصير) كما تقدم (¬4). (ومن فاته الوقوف) بعرفة في وقته لعذر، أو لا (فاته الحج) ذلك العام، لحديث: "الحج عرفة" (¬5)، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه، فمفهومه فوات الحج بخروج ليلة جمع، وسقط عنه توابع الوقوف، كمبيت بمزدلفة، ومنى، ورمي جمار. (و) من (تحلل بعمرة) عليه (هدي، إن لم يمن اشترط) في أول إحرامه: أن محلي حيث حبستني، وعليه قضاء حج فاته من قابل، ولو نفلًا، لما روى الدارقطني، عن ابن عباس مرفوعًا: "من فاته عرفات، فقد فاته ¬
الحج، وليتحلل بعمرة، وعليه الحج من قابل" (¬1)، وعمومه شامل للفرض والنفل. والحج يلزم بالشروع فيه، فيصير كالمنذور، بخلاف سائر التطوعات، فإن كان اشترط أولًا، لم يلزمه قضاء نفل، ولا هدي، حديث ضباعة، وتقدم في الإحرام (¬2). وإن وقف الناس كلهم، أو كلهم إلا قليلًا في اليوم الثامن، أو العاشر خطأ، أجزأهم، نصًّا (¬3)، لحديث الدارقطني، عن عبد العزيز بن [خالد] (¬4) بن أسيد مرفوعًا: "يوم عرفة الذي يعرف الناس فيه" (¬5)، ولحديث أبي هريرة يرفعه: "فطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون" (¬6). (ومن مُنعَ البيت) أي الوصول إليه، بالبلد، أو الطريق، فلم يمكنه الوصول إليه من طرق أخرى، ولو بعدت، ولو كان منعه بعد الوقوف بعرفة، كما قبله، أو كان المنع في إحرام عمرة (أهدى) أي ذبح هديًا، بنية التحلل، وجوبًا، (ثم حل) لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (¬7) ولأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر أصحابه حين أحصروا في الحديبية أن ينحروا، ¬
ويحلقوا، ويحلوا (¬1). وسواء كان الحصر عامًا للحاج، أو خاصًّا به، كمن حبس بغير حق، لعموم النص، ومن حبس بحق يمكنه أداؤه، فليس بمعذور (فإن فقده) أي الهدي (صام عشرة أيام) بنية التحلل قياسًا على المتمتع، وحل، نصًّا (¬2). قال في "شرح المنتهى": وظاهره أن الحلق أو التقصير غير واجب هنا، وأن التحلل يحصل بدونه، وهو أحد القولين. قدمه في "المحرر"، وابن رزين في شرحه، وهو ظاهر الخرقي، لأنه من توابع الوقوف، كالرمي، انتهى (¬3). ولا إطعام في الإحصار، لعدم وروده، واعتبرت النية في المحصر دون غيره، لأن من أتى بأفعال النسك أتى بما عليه، فحل بإكماله، فلم يحتج إلى نية، بخلاف المحصر، فإنه يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها، فافتقر إلى نيته. ولا قضاء على محصر تحلل قبل فوت الحج، لظاهر الآية، لكن إن أمكن فعل الحج في ذلك العام لزمه (ومَنْ صُدَّ عن عرفة) دون الحرم في حج (تحلل بعمرة، ولا دم)، لأن قلب الحج إلى العمرة مباح بلا حصر، فمعه أولى، فإن كان قد طاف وسعى للقدوم، ثم أحصر، أو مرض، أو فاته الحج، تحلل بطواف وسعي آخرين، لأن الأولين لم يقصد بهما طواف العمرة ¬
ولا سعيها، وليس عليه أن يُجدد إحرامًا في الأصح. قاله في "شرح المنتهى" (¬1). ومن أحصر بمرض، أو بذهاب نفقة، أو ضل الطريق، بقي محرمًا حتى يقدر على البيت، لأنه لا يستفيد بالإحلال الانتقال من حال إلى حال خير منها، ولا التخلص من أذى به، بخلاف حصر العدو، ولا ينحر مَنْ مرض، أو ذهبت نفقته، أو ضل الطريق، هديًا معه، إلا بالحرم، فليس كالمحصر من عدو، نصًّا (¬2)، وصغير كبالغ فيما سبق. لكن لا يقضي، حيث وجب، إلا بعد بلوغه، وبعد حجة الإسلام. وفاسده في ذلك كصحيحه. فإن حل من أفسد حجه لإحصار، ثم زال، وفي الوقت سعة قضى في ذلك العام. قال الموفق، والشارح، وجماعة: وليس يتصور القضاء في العام الذي أفسد الحج فيه في غير هذه المسألة (¬3). ومن شرط في ابتداء إحرامه أن محلي حيث حبستني، فله التحلل مجانًا، ولا قضاء عليه، لظاهر خبر ضباعة (¬4)، لكن حجة الإسلام لا تسقط، إن لم يكن حج قبل، لعدم ما يسقط وجوبها. ¬
فصل في الهدي والأضاحي والعقيقة
فصل في الهدي والأضاحي والعقيقة والعقيقة (والأضحية) بضم الهمزة وكسرها، وتخفيف الياء وتشديدها، واحدة الأضاحي، وهي: ما يذبح من إبل، وبقر، وغنم أهلية، يوم العيد، وتالييه، على ما يأتي تقربًا إلى اللَّه تعالى (¬1). وأجمعوا (¬2) على مشروعيتها، لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (¬3)، قال جع من المفسرين: المراد التضحية بعد صلاة العيد (¬4). وروي: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبَّر، ووضع رجله على صفاحهما (¬5). متفق عليه. وهي (سنة) مؤكدة (يكره تركها لقادر) عليها، نصًّا (¬6)، على مسلم تام الملك، أو مكاتب بإذن سيده. لحديث الدارقطني عن ابن عباس مرفوعًا: "ثلاث كُتبت عليَّ وهن لكم تطوع: الوتر، والنحر، وركعتا الفجر" (¬7)، ولحديث: "من أراد أن يضحي فدخل العشر، فلا يأخذ من شعره، ولا بشرته شيئًا" (¬8). رواه مسلم، فتعليقه على الإرادة، يدل على ¬
عدم وجوبه، وما استدل به على الوجوب (¬1) ضعفه أصحاب الحديث، ثم يحمل على تأكد الاستحباب، كحديث: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" (¬2). والتضحية عن ميت أفضل منها عن حي، لعجزه، واحتياجه للثواب، ويعمل بها كأضحية عن حي، وتجب الأضحية بنذر، لحديث: ¬
"من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه" (¬1). وذبحها، وعقيقة، أفضل من الصدقة بثمنها، نصًّا (¬2)، لحديث: "ما عمك ابن آدم يوم النحر عملًا أحب إلى اللَّه من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وإن الدم ليقع من اللَّه سبحانه عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض" (¬3). رواه ابن ماجه. وقد ضحى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأهدى الهدايا، والخلفاء بعده، ولو كان الصدقة بالثمن أفضل لم يعدلوا عنه. (ووقت الذبح) لأضحية، وهدي، ونذر، وتطوع، وقران، من (بعد) أسبق (صلاة عيد) بالبلد الذي يصلى به، ولو قبل خطبة (أو) من بعد (قدرها) أي الصلاة، لمن لم يصل، كأهل البوادي من أصحاب الطُّنُب (¬4) ونحوهم، وإن فاتت الصلاة بالزوال، ذبح بعده (إلى آخر ثاني) أيام (التشريق) قال الإمام أحمد: أيام النحر ثلاثة، عن غير واحد من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). وذبح أضحية، وهدي، في يوم العيد أفضل، ثم الذي يليه، ويجزئ ذبح في ليلتهما. قال في "الإقناع" (¬6) مع الكراهة. فإن فات الوقت، قضى الواجب، وفعل به كالمذبوح في وقته، فلا يسقط الذبح بفوات وقته، كما لو ¬
ذبحها في وقتها، ولم يفرقها حتى خرج، ويسقط التطوع بخروج وقته، لأنه سنة فات محلها. (ولا يعطى جازرٌ أجرته منها) لحديث "لا تعط في جزارتها شيئًا منها" (¬1)، قال أحمد: إسناده جيد (¬2). ويعطيه منها هدية، وصدقة، لمفهوم الحديث، ولأنه في ذلك كغيره، بل هو أولى، لأنه باشرها، وتاقت إليها نفسه. (ولا يباع جلدها، ولا شيء منها) ويحرم ذلك (بل ينتفع به) أو يتصدق به، لأنه جزء منها، أو تبع له، فجاز الانتفاع به، والصدقة، كاللحم، وإن سُرق مذبوح من أضحية أو هدي مطلقًا، فلا شيء فيه، إلا بتعد، أو تفريط، كأمانة. ومن اشتبهت عليه أضحيته بأضحية غيره، فذبحها عن نفسه، فبانت للغير، أجزأت عن مالكها، إن لم يفرق لحمها، لعدم افتقار آلة الذبح إلى نية، كغسل النجاسة، فإن فرق اللحم، ضمن، لأن الإتلاف يستوي فيه العمد وغيره، وإن نواها لنفسه، مع علمه أنها للغير، لم تُجز مالكها، سواء فرق الذابح اللحم أو لا، ويضمن الذابح قيمتها، إن فرق لحمها، وأرش الذبح، إن لم يفرقه. ومن ذبح أضحية أو هديًا معينين، في وقتهما، بغير إذن ربهما، أو وليه، ونوى عنه، أو أطلق، أجزأت، ولا ضمان، لأنها وقعت موقعها بذبحها في وقتها، فلم يضمن ذابحها، ولأن الذبح إراقة دم تعين إراقته لحق اللَّه تعالى، فلم يضمن مريقه، كقاتل المرتد، بغير إذن الإمام. (وأفضل هدي وأضحية: إبل، ثم بقر، ثم غنم) إن أخرج كاملة، ¬
لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة. . . " (¬1) الحديث، والأفضل من كل جنس أسمن، فأغلى ثمنًا، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} (¬2)، قال ابن عباس: تعظيمها استسمانها (¬3). فالأملح وهو الأبيض، أو ما فيه بياض وسواد، وبياضه أكثر من سواده (¬4). لما روي عن مولاة أبي ورقة بن سعيد قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دم عفراء أزكى عند اللَّه من دم سوداوين" (¬5). رواه أحمد بمعناه، ولأنه لون أضحية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم أصفر، ثم أسود. قال الإمام أحمد: يعجبني البياض، وقال: وأكره السواد (¬6). (ولا يجزئ) في أضحية ولا هدي واجب (إلا جذع ضأن) وهو ما له ستة أشهر كوامل، لحديث: "يجزئ الجذع من الضأن أضحية" (¬7). رواه ابن ماجه. والهدي مثلها، ويعرف بنوم الصوف على ظهره، كما نقل عن أهل البادية، (وثنيُّ غيره) أي غير الضأن، وهو الإبل، والبقر، والمعز (فثني إبل ما له خمس سنين) كوامل، سمي بذلك، لأنه ألقى بثنية (و) ثني (بقر) ما له (سنتان) كاملتان، وثني معز ما له سنة كاملة. ¬
(وتجزئ الشاة عن واحد) وعن أهل بيته وعياله، نصًّا (¬1)، لحديث أبي أيوب: كان الرجل في عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون، ويطعمون (¬2). (و) تجزئ (البدنة والبقرة عن سبعة) روي عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة (¬3). لحديث جابر: نحرنا بالحديبية مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة (¬4)، ويعتبر ذبحها عنهم، نصًّا (¬5)، لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬6) وسواء أرادوا كلهم قربة، أو أراد بعضهم قربة، وبعضهم لحمًا. وجذع ضأن أفضل من ثني معز، والواحدة من الضأن أو المعز أفضل من سُبع بدنة أو بقرة. وتجزئ جماء (¬7)، وبتراء (¬8)، وصمعاء (¬9)، وخصي، ومرضوض الخصيتين، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ضحى بكبشين موجوءين (¬10) والوجاء رضُّ ¬
الخصيتين (¬1)، ولأن الخصاء أذهب عضوًا غير مستطاب، يطيب اللحم بذهابه، ويسمن، فإن قطع ذكره مع ذلك لم يجز، وهو الخصي المجبوب. ويجزئ من إبل، وبقر، وغنم، ما خلق بغير أذن، أو ذهب نصف أليته فما دونه (¬2)، وكذا الحامل (ولا تجزئ هزيلة) لا مخ فيها (و) لا (بينة عور) بأن انخسفت عينها، للخبر (¬3)، (أو) بينة (عرج) لا تطيق مشيًا مع صحيحة، ولا مريضة بينة مرض، وهي التي فسد لحمها، بجرب، أو غيره (ولا ذاهبة الثنايا) من أصلها، وهي: الهتماء (أو) ذهب (أكثر أذنها أو) أكثر (قرنها)، لحديث علي: نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُضحى بأعضب الأذن والقرن. قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: النصف فأكثر. رواه الخمسة (¬4). ولأن الأكثر كالكل. ولا تجزئ الجداء، وهي: جافة الضرع. ولا عصماء، وهي: التي ¬
انكسر غلاف قرنها. وتكره معيبة إذن بخرق، أو شق، أو قطع لنصف فأقل. لحديث علي: أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نستشرف العين، والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء، ولا شرقاء. قال زهير: قلت لأبي إسحاق: ما المقابلة؟ قال: يقطع من طرف الأذن، قلت: فما المدابرة؟ قال: يقطع من مؤخر الأذن، قلت: فما الخرقاء؟ قال: تشق الأذن، قلت: فما الشرقاء؛ قال: تشق إذنها للسِّمة" (¬1). رواه أبو داود. وهذا نهي تنزيه، فيحصل الإجزاء بها، لأن اشتراط السلامة من ذلك يشق، ولا يكاد يوجد سالم من ذلك كله. (والسنة نحر إبل قائمةً معقولةً يدها اليسرى) بأن يطعنها بنحو حربة في الوهدة، وهي ما بين أصل العنق والصدر. لحديث زياد بن جبير، قال: رأيت ابن عمر أتى رجلًا أناخ بدنة لينحرها، فقال: ابعثها قائمة، مقيدة، سنة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬2). متفق عليه. وروى أبو داود عن عبد الرحمن بن سابط: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى، قائمة على ما بقي منها من قوائمها (¬3)، ويؤيده {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} (¬4)، لكن إذا خشي أن تنفر أناخها. (و) السنة (ذبح غيرها) أي غير الإبل، وهي: البقر والغنم علي جنبها الأيسر، موجهة إلى القبلة، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (¬5)، ¬
ولحديث: "ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده" (¬1). ويجوز نحر ما يذبح، وذبح ما ينحر، ويحل، لأنه لم يجاوز محل الذبح، ولعموم حديث: "ما أنهر الدم، وذكر اسم اللَّه عليه، فكل" (¬2)، ويسمي وجوبًا، حين يحرك يده بالفعل، وتسقط سهوًا (فيقول: بسم اللَّه) ويكبِّر ندبًا، ويقول: (اللهم هذا منك ولك) ولحديث ابن عمر مرفوعًا: "ذبح يوم العيد كبشين" ثم قال حين وجههما: "وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للَّه رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، بسم اللَّه، اللَّه أكبر، اللهم هذا منك ولك" (¬3). رواه أبو داود. ولا بأس بقول الذابح: اللهم تقبل من فلان، لحديث تقبَّل من محمد، وآل محمد، وأمة محمد، ثم ضحى (¬4). رواه مسلم، ومن كون ذابح مسلمًا، لأنها قربة، ينبغي أن لا يليها غير أهلها، فإن استناب فيها ذميًّا، أجزأت مع الكراهة. وتولي مضح بنفسه أفضل، نصًّا (¬5)، للأخبار (¬6)، ويحضر إن وكَّل، لحديث ابن عباس الطويل "واحْضرُوها إذا ذبحتم، فإنه يغفر لكم عند أول ¬
قطرة من دمها" (¬1). (وسن أن يأكل) من أضحيته (ويهدي ويتصدق أثلاثًا) أي: يأكل مع أهل بيته ثلثًا، ويهدي ثلثًا، ويتصدق بثلث (مطلقًا) حتى من أضحية واجبة، أو موصى بها على يديه، وحتى الإهداء لكافر من أضحية تطوع. قال الإمام أحمد (¬2): نحن نذهب إلى حديث عبد اللَّه: يأكل الثلث، ويعطي من أراد الثلث، ويتصدق بالثلث على المساكين. قال علقمة (¬3): بعث معي عبد اللَّه بهدية، فأمرني أن آكل ثلثًا، وأن أرسل إلى أخيه بالثلث، وأن أتصدق بثلث. وهو قول ابن مسعود، ولقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (¬4)، والقانع: السائل. والمعتر: الذي يعتريك (¬5)، أي: يتعرض لك لتطعمه، ولا يسأل، فذكر ثلاثة فينبغي أن تقسم بينهم أثلاثًا، ولا يجب الأكل منها. وإذا ضحى ولي اليتيم عنه فلا يهدي منها، ولا يتصدق بشيء، ويوفرها له، لأنه ممنوع من التبرع من ماله. (و) سن (الحلق بعدهما) أي بعد ذبح أضحية. قال أحمد (¬6): على ما فعل ابن عمر، تعظيمًا لذلك اليوم. ولأنه كان ممنوعًا من ذلك قبل أن يضحي، فاستحب لذلك بعده، كالمحرم. ¬
فائدة
فائدة: قال الشيخ تقي الدين: الأضحية من النفقة بالمعروف، فتضحي المرأة من مال زوجها عن أهل البيت بلا إذنه، عند غيبته، كالنفقة عليهم. انتهى (¬1). (وإن أكلها) كلها (إلا أوقية، جاز) لإطلاق الأمر بالأكل والإطعام، كما لو تصدق بها، وأهداها كلها، ضمن ما يقع عليه اسم اللحم، كالأوقية، بمثله لحمًا، لأنه حق يجب عليه أداؤه، مع بقائه، فلزمته غرامته، كالوديعة. ونُسِخَ تحريم ادخار لحم الأضاحي، لحديث: "كنت نهيتكم عن ادخار لحم الأضاحي فوق ثلاث، فامسكوا ما بدا لكم" (¬2). ويعتبر تمليك الفقير لشيء من اللحم، فلا يكفي إطعامه. (وحَرُمَ على مريدهما) أي: التضحية، عن نفسه، أو من يضحي عنه غيره (أخذ شيء من شعره) أو (ظفره) أو (بشرته في العشر) أي عشر ذي الحجة، إلى بعد الذبح، لحديث أم سلمة مرفوعًا: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئًا، حتى يضحي" (¬3). رواه مسلم. وفي رواية له: "ولا من بشرته" فإن فعل تاب إلى اللَّه تعالى، لوجوب التوبة من كل ذنب، فإن أخذ شيئًا من شعره، أو ظفره في العشر، ثم أراد التضحية، فظاهره أنه لا يحرم ذلك، لأنه حين أخذه لم يرد التضحية. (وتسن العقيقة) أي الذبيحة عن المولود، لأن العق: القطع (¬4)، ومنه ¬
عق والديه إذا قطعهما، والذبح قطع الحلقوم والمريء. وهي سنة مؤكدة. قال أحمد (¬1): العقيقة سنة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قد عق عن الحسن والحسين (¬2)، وفعله أصحابه (¬3)، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الغلام مرتهن بعقيقته" إسناده جيد (¬4). وهي في حق الأب لا غيره، ولو كان معسرًا، ويقترض. قال أحمد (¬5): إذا لم يكن عنده ما يعق، فاستقرض، رجوت أن يخلف اللَّه عليه، لأنه أحيا سنة. (وهي عن الغلام شاتان) متقاربتان سنًّا وشبهًا، فإن عدم الشاتين فواحدة (وعن الجارية شاة) لحديث أم كرز الكعبية: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة" (¬6). ¬
ولا تجزئ بدنة ولا بقرة إلا كاملة، نصًّا (¬1)، قال في "النهاية" (¬2): وأفضله شاة (تذبح يوم السابع) من ولادته أي المولود. قال في "الإنصاف" (¬3): ذبحها يوم السابع أفضل، ويجوز ذبحها قبل ذلك، ولا يجوز قبل الولادة. ويحلق فيه رأس ذكر، ويتصدق بوزنه وَرِقًا، لحديث سمرة بن جندب مرفوعًا: "كل غلام رهين بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمَّى، ويحلق رأسه" (¬4). رواه الأثرم، وأبو داود. وعن أبي هريرة مثله (¬5). قال أحمد: إسناده جيد (¬6). وقال -صلى اللَّه عليه وسلم- لفاطمة لما ولدت الحسن: "احلقي رأسه، وتصدقي بوزن شعره فضة، على المساكين والأوفاض (¬7) -يعني أهل ¬
الصفة" (¬1) رواه الإمام أحمد. ويكره لطخ المولود من دمها، لأنه أذى، وتنجيس، ويسن أن يسمى فيه للخبر (¬2)، ويحسن اسمه، لحديث: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم، وأسماء آبائكم، فحسنوا أسماءكم" (¬3). رواه أبو داود. والتسمية حق للأب، وحَرُم أن يسمى بعبد لغير اللَّه، كعبد الكعبة، وعبد النبي، وبما يوازي أسماء اللَّه تعالى: كاللَّه، والرحمن، وما لا يليق إلا به، كملك الملوك، أو ملك الأملاك. لحديث أحمد: "اشتد غضب اللَّه على رجل يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا اللَّه تعالى" (¬4). وكره أن يسمى بحرب، ويسار، ونحوهما، للنهي عن ذلك (¬5)، ولأنه ربما كان طريقًا إلى التشاؤم، ولا يكره التسمية بأسماء الأنبياء، والملائكة. وعن مالك: سمعت أهل مكة يقولون: ما من أهل بيت فيهم ¬
اسم محمد إلا رزقوا، ورزق خيرًا (¬1). وأحب الأسماء إلى اللَّه، عبد اللَّه، وعبد الرحمن، للخبر (¬2). رواه مسلم، ويسن تغيير اسم قبيح كما فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). (فإن فات) الذبح في سابعه (ففي أربعة عشر، فإن فات) في أربعة عشر (ففي إحدى وعشرين) من ولادته (ثم لا تعتبر الأسابيع) بعد ذلك، فيعق أيّ يوم أراد، كقضاء أضحية، وغيرها. وينزعها أعضاء، ندبًا، ولا يكسر عظمها، لقول عائشة: "السنة شاتان متكافئتان عن الغلام، وعن الجارية شاة، تطبخ جدولًا، ولا يكسر لها عظم" (¬4). وجدولًا، أي: عضوًا عضوًا، وهو الجدل، بدال مهملة (¬5)، وذلك للتفاؤل بالسلامة، كما روي عن عائشة -رضي اللَّه عنها- وطبخها أفضل، نصًّا (¬6)، للخبر (¬7)، ويكون بشيء حلو (¬8)، تفاؤلًا بحلاوة أخلاقه. ¬
(وحكمها) أي العقيقة، (كأضحية) فلا يجزئ فيها إلا ما يجزئ في أضحية، وكذا فيما يستحب ويكره، وفي أكل، وهدية، وصدقة، لأنها نسك مشروعة، أشبهت الأضحية، لكن يجوز أن يباع منها جلد، ورأس، وسواقط، ويتصدق بثمنه، بخلاف أضحية، وإن اتفق وقت عقيقة وأضحية، فعق، أو ضحى، أجزأت عنه الأخرى، كما لو اتفق يوم عيد وجمعة، فاغتسل لأحدهما، وكذا ذبح متمتع، أو قارن، شاةً يوم النحر، فيجزئ عن الهدي الواجب. ولا عتيرة في الإسلام (¬1) متفق عليه، ولا يكرهان، لأن المراد بالخبر نفي كونهما سنة، لا النهي عنهما، واللَّه أعلم. * * * ¬
كتاب الجهاد
كتاب الجهاد مصدر جاهد جهادًا ومجاهدة، من جهد، أي بالغ في جهاد عدوه، فهو لغة: بذل الطاقة والوسع (¬1). وشرعًا: قتال الكفار خاصة (¬2). و(هو فرض كفاية) لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} (¬3)، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬4)، مع قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. . .} (¬5) الآية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإلا أثموا كلهم. وسن بتأكد مع قيام من يكفي به، للآيات (¬6)، والأخبار (¬7) الدالة على فضله. ولا يجب جهاد إلا على ذكر، لحديث عائشة: هل على النساء جهاد؟ فقال: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة (¬8). ولا يجب على خنثى ¬
مشكل للشك في شرطه. مسلم كسائر فروع الإسلام حُرٍّ، فلا يجب على عبد، لما روي أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد (¬1)، مكلَّفٍ، فلا يجب على صغير، ولا على مجنون، لحديث: "رفع القلم عن ثلاثة" (¬2)، سليم من العمى والعرج والمرض، لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} (¬3) الآية، وكذا لا يلزم أشل، ولا أقطع يد أو رجل، واجد بملك، أو بذل إمام ما يكفيه ويكفي أهله في غيبته لقوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ. . .} (¬4) الآية. ويسن تشييع غاز، لا تلقيه، نصًّا (¬5) (إلا إذا حضره) أي حضر صف القتال (أو حصره، أو) حصر (بلده عدو) تعين عليه إن لم يكن عذر، لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (¬6). وقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)} (¬7) (أو كان النفير عامًّا) بأن استنفره من له استنفاره، من إمام أو نائبه (فـ) هو حينئذ (فرض عبر) لقوله تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} (¬8). وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا استنفرتم فانفروا" (¬9) متفق عليه. ¬
وأفضل تطوع به من العبادات: الجهاد. قال أحمد: لا أعلم شيئًا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد (¬1). قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (¬2) الآية، وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} إلى {غَفُورًا رَحِيمًا (96)} (¬3)، ولحديث أبي سعيد قال: قيل: يا رسول اللَّه، أي الناس أفضل؟ قال: "من يجاهد في سبيل اللَّه بنفسه وماله" (¬4) متفق عليه. ولأن الجهاد بذل المهجة والمال، ونفعه يعم المسلمين كلهم، وغيره لا يساويه في نفعه، فلا يساويه في فضله. وغزو البحر أفضل من غزو البر، لحديث ابن ماجه مرفوعًا: "شهيد البر يغفر له كل شيء إلا الدَّين، ويغفر لشهيد البحر كل شيء حتى الدين" (¬5). (ولا يتطوع به) -أي الجهاد- (مَنْ أحد أبويه حر مسلم إلا بإذنه) ¬
لحديث عبد اللَّه بن عمرو: جاء رجل إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه، أجاهد؛ قال: "لك أبوان؟ " قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد" (¬1). وعن ابن عباس نحوه (¬2)، ولأن بر الوالد فرض عين، والجهاد فرض كفاية، ولا يعتبر إذن جد وجدة، لورود الأخبار في الأبوين، وغيرهما لا يساويهما في الشفقة، ولا يعتبر إذن الأبوين في سفر لواجب، من حج، أو علم، أو جهاد. ولا يتطوع به مدين لآدمي لا وفاء له، حالًّا أو مؤجَّلًا، إلا بإذن رب الدَّين، أو رهن، أو كفيل مليء، ولا يحل للمسلمين فرار من مثليهم، ولو واحد من اثنين. قال ابن عباس: من فز من اثنين فقد فرّ، ومن فر من ثلاثة فما فر (¬3). إلا متحرفين لقتال، أو متحيزين إلى فئة، وإن بَعُدَت، للآية (¬4). ومعنى التحرُّف للقتال: التحيز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن، كانحرافهم عن مقابلة شمس، أو ريح، أو استناد إلى نحو جبل، ومعنى التحيز إلى فئة: أن يصير إلى فئة من المسلمين، ليكون معهم، فيتقوى بهم. قال القاضي: لو كانت الفئة بخراسان، والزحف بالحجاز، جاز التحيز إليهم (¬5). لحديث ابن عمر مرفوعًا: أنا فئة لكم. وكانوا بمكان بعيد منه. وقال عمر: أنا فئة لكل مسلم. وكان بالمدينة، وجيوشه بالشام، ومصر، ¬
تتمة
والعراق، وخراسان (¬1)، رواهما سعيد. (وسن رباط) في سبيل اللَّه، لحديث سلمان مرفوعًا: "رباط ليلة في سبيل اللَّه خير من صيام شهر وقيامه، فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان" (¬2) رواه مسلم. (وأقلُّه ساعة)، قال أحمد (¬3): يوم رباط، وليلة رباط، أو ساعة رباط. وسمي المقام بالثغور رباطًا، لأن هؤلاء يربطون خيولهم، وهؤلاء يربطون خيولهم، والثغر: كل مكان يخيف أهله العدو، ويخيفهم (¬4). (وتمامه) أي الرباط (أربعون يومًا) رواه أبو الشيخ مرفوعًا (¬5)، وأفضله ما كان أشد خوفًا، وهو أفضل من المقام بمكة. والصلاة بالمساجد الثلاثة أفضل من الصلاة فيه. تتمة: تجب الهجرة على كل عاجز عن إظهار دينه، بمحل يغلب فيه حكم كفر، أو بدع مضلة، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ. . .} (¬6) الآية. ¬
إن قدر عليها، لقوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ. . .} (¬1) إلى آخر الآية. وعنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنا بريء من مسلم بين مشركين، لا ترى ناراهما" (¬2) رواه أبو داود والترمذي. أي لا يكون بموضع يرى نارهم به، ويرون ناره إذا أوقدت. وسن هجرة لقادر على إظهار دينه، بنحو دار كفر، ليتخلص من تكثير الكفار، ويتمكن من جهادهم، وعلم مما تقدم: بقاء حكم الهجرة، لحديث: "لا تنقطع الهجرة بعد الفتح" (¬3) أي من مكة. (وعلى الإمام منع مخذِّل) أي: منفر (¬4) للناس عن الغزو، ومزهدهم في القتل والخروج إليه، كقوله: الحر والبرد شديد، أو المشقة شديدة، أو لا تؤمن هزيمة الجيش (و) عليه منع (مرجف) كمن يقول: هلكت سرية المسلمين، ولا طاقة لهم بالكفار، ونحوه. وعليه منع مكاتب بأخبارنا، ومعروف بنفاق، وصبي ولو مميزًا، أو نساء إلا عجوزًا لسقي ماء ونحوه. وتحرم استعانة بكافر، إلا لضرورة، أو بأهل الأهواء في شيء من أمور ¬
المسلمين، لأنهم دعاة، واليهود والنصارى لا يدعون إلى أديانهم. (وعلى الجيش) أي: يلزمهم (طاعته) أي: طاعة الإمام، أو الأمير، برأيه وقسمته الغنيمة، وإن خفي عليه صواب عرفوه، ونصحوه، لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (¬1)، ولحديث: "من أطاعني فقد أطاع اللَّه، ومن عصاني فقد عصى اللَّه، ومن عصى أميري فقد عصاني" (¬2). رواه النسائي، ولحديث: "الدين النصيحة" (¬3) (و) عليهم (الصبر معه) لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} (¬4). وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (¬5). ولأنه من أقوى أسباب النصر والظفر. (وتمُلك الغنيمةُ باستيلاء عليها) ولو (في دار حرب) لأن الاستيلاء التام سبب الملك، وقد وجد، لثبوت أيدينا عليها حقيقة، ولزوال ملك كفار عنها، لأنه لا ينفذ عتقهم لعبد منها، والملك لا يزول إلى غير مالك. ويجوز قسمتها بدار الحرب، وبيعُها، فلو غلب عليها العدو بمكانها فمن مال مشتر فرط أو لا، لحديث: "الخراج بالضمان" (¬6)، وشراء الأمير لنفسه منها، إن وكل من يُجهل أنه وكيله، صح، وإلا حرم، للمحاباة، وتضم غنيمة سرايا الجيش إلى غنيمته. ¬
ويبدأ في قسم بدفع سلب إلى مستحقه، ثم بأجرة جمع (¬1) وحفظها وحملها، ثم يخمس الباقي على خمسة أسهم (فيُجعل خُمسها خمسة أسهم) أيضًا (سهم للَّه ولرسوله) -صلى اللَّه عليه وسلم- مصرفه كالفيء في مصالح المسلمين (وسهم لذوي القربى: وهم بنو هاشم و) بنو (المطلب) بن عبد مناف، دون غيرهم من بني عبد مناف، لحديث جبير بن مطعم قال: "لما قسم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من خيبر بين بني هاشم وبني المطلب، بقيت أنا وعثمان بن عفان، فقلنا: يا رسول اللَّه، أما بنو هاشم، فلا ننكر فضلهم، لمكانك الذي وضعك اللَّه به منهم، فما بال إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ ! فقال: "إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد"، وشبك بين أصابعه (¬2). رواه أحمد، والبخاري. ولا يستحقه منه مولى لهم، ولا من أمه منهم دون أبيه، يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، لأنهم يستحقون بالقرابة، كالميراث، غنيهم وفقيرهم فيه سواء، لعموم الآية (¬3)، ولأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يعطي أقاربه كلهم وفيهم الغني، كالعباس (وسهم لليتامى الفقراء) وهم من مات أبوه ولم يبلغ، لحديث: "لا يتم بعد احتلام" (¬4) واعتبر فقرهم، لأن الصرف إليهم لحاجتهم، ويسوى فيه بين ذكرهم وأنثاهم (وسهم للمساكين) أي: أهل الحاجة، فيدخل فيهم الفقراء (وسهم لأبناء السبيل) فيعطون، كما يعطون في زكاة. ¬
(وشرُط في) سهم (من يسهم له: إسلام) لأنه عطية من اللَّه تعالى، فلا حق لكافر فيه، كزكاة. ومن فيه سببان فأكثر، ممن يستحق من الخمس، أخذ بها (ثم يقْسمُ) إمامٌ (الباقي) بعد ما ذكر (بين من شهد الوقعة) أي: الحرب، لقصد قتال، قاتل أو لم يقاتل، أو بعث في سرية، أو لمصلحة، كرسول، ودليل، ونحوهما، فيقسم (للراجل) ولو كافرًا (سهمٌ، وللفارس على فرس عربي) ويسمى: العتيق (ثلاثة) أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه، لحديث ابن عمر أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، وسهم له (¬1). متفق عليه. (و) للفارس (على) فرس (غيره) أي: غير العربي، كالهجين: وهو ما أبوه فقط عربي، أو مقرف: وهو ما أمه فقط عربية، أو برذون: وهو ما أبواه نبطيان (¬2) (اثنان) سهم له، وسهم لفرسه، لحديث مكحول: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أعطى الفرس العربب سهمين، وأعطى الهجين سهمًا (¬3). رواه سعيد. (ويُقسم لحرٍّ) لا لعبد لم يأذن له سيده في غزو، ولعصيانه (مسلم) فلا يقسم لكافر لم يأذن له الأمير. مكلَّف، فلا يقسم لصبي ولا مجنون، لأنهما لا يصلحان لقتال (ويرضخ لغيرهم) أي غير من يقسم له، وهو: العطاء دون السهم، لمن لا سهم له من الغنيمة، فيرضخ لمميز، وعبد، وخنثى، وامرأة، على ما يراه الإمام أو نائبه، ولا يرضخ الكافر. ¬
(وإذا فتحوا) أي الغزاة (أرضًا بالسيف، خُيِّرَ الإمام بين قسمها) بين الغانمين، كمنقول فيه (و) بين (وقفها على المسلمين) بلفظ يحصل به الوقف (ضاربًا عليها خراجًا مستمرًا يؤخذ ممن هي في يده) من مسلم، وذمي، هو أجرتها كل عام. الثانية: ما جُلُّوا عنها، خوفًا منا، وحكمها كالأولى. الثالثة: المصالح عليها، وهي نوعان: فما صولحوا على أنها لنا، ونقرها معهم بالخراج، فهي كالعنوة في التخيير. والثاني: ما صولحوا على أنها لهم، ولنا الخراج عنها، فهي كجزية، إن أسلموا، أو انتقلت إلى مسلم؛ سقط (¬1)، ويقرون فيها بلا جزية، لأنها ليست بدار إسلام. ويجب على الإمام فعل الأصلح، ويرجع في خراج، وفي جزية، إلى تقديره. (وما أُخذ من مشرك بلا قتال كجزية وخراج وعُشر) تجارة من حربي، ونصفه من ذمي. وما ترك من كفار فزعًا، أو ترك عن مسلم، أو كافر لا وارث له (فيءٌ) من فاء الظل، إذا رجع نحو المشرق، سمي به المأخوذ من الكفار، لأنه رجع منهم إلى المسلمين، قال اللَّه تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} (¬2) الآية. ومصرف الفيء (لمصالح المسلمين، وكذا خمسُ خمس الغنيمة) يصرف في مصالح المسلمين -أيضًا- لعموم نفعها، ودعاء الحاجة إلى تحصيلها، ويبدأ بالأهم فالأهم من سد ثغر، وكفاية أهله، وحاجة من يدفع عن المسلمين، ثم بالأهم فالأهم، من سد بثق، أي: المكان المنفتح من جانب النهر (¬3). ومن كراء نهر، أي: تنظيفه مما يعوق الماء عن جريه. ومن عمل قنطرة، ورزق قضاة، وغير ذلك. ¬
فصل في عقد الذمة
فصل في عقد الذمة (ويجوز عقد الذمة) وهي لغة: العهد، والضمان، والأمان (¬1). لحديث: "يسعى بذمتهم أدناهم" (¬2). ومعنى عقد الذمة: إقرار بعض الكفار على كفرهم، بشرط بذل الجزية، والتزامِ أحكام الملة (¬3). والأصل فيها قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. . .} (¬4) الآية. ولا تعقد الذمة إلا (لمن له كتاب) وهم اليهود، والنصارى، ومن تدين بالتوراة كالسامرة، أو تدين بالإنجيل، كالإفرنج، والصابئين، والروم، والأرمن (أو) من له (شُبهته) أي الكتاب كالمجوسي، فإنه يروى أنه كان لهم كتاب فرفع، فذلك شبهة لهم أوجبت حقن دمائهم، بأخذ الجزية منهم، ولأخذه -صلى اللَّه عليه وسلم- الجزية من مجوس هجر (¬5). رواه البخاري. ونصارى العرب، ويهودهم، ومجوسهم، من بني تغلب، وغيرهم، لا جزية عليهم ولو بذلوها، ويؤخذ عوضها زكاتين من أموالهم، لأن عمر ضعفها عليهم (¬6)، ومصرفها كمصرف جزية. (ويُقاتَل هؤلاء) أي: أهل الكتاب، ومن له شبهته (حتى يُسلموا، أو ¬
يُعطوا الجزية) للآية (¬1) (و) يقاتل (غيرهم) أي: غير أهل الكتاب أو من له شبهته (حتى بُسلموا، أو يُقتلوا) لحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه" (¬2). خص منه أهل الكتاب، ومن ألحق بهم، لما تقدم، وبقي ما عداهم على الأصل. (وتؤخذ منهم) أي الجزية (ممتهنين مصغَّرين) حالان، فتجرُّ أيديهم عند أخذها، ويطال قيامهم، حتى يألموا ويتعبوا، وتؤخذ منهم وهم قيام، والآخذ جالس، لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬3) ولا يقبل منهم إرسالها مع غيرهم، لزوال الصغار. ويجوز أن يشترط مع الجزية، ضيافة من يمر بهم من المسلمين (ولا تؤخذ) الجزية (من صبي وعبد وامرأة) لأنهم لا يقتلون، وهي بدل القتل، (و) لا تؤخذ من (فقير عاجز عنها) لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (¬4)، ونحوهم -أي الصبي وما عطف عليه- كأعمى، ومجنون، وشيخ فانٍ، وراهب بصومعته، لأنهم لم يُقتلوا. (ويلزم أخذهم) أي: أهل الذمة (بحكم الإسلام فيما يعتقدون تحريمه من نفس، وعرض، ومال، وغيرها) كإقامة حد في زنا، ولا يحدون فيما يحلونه، كخمر، وأكل خنزير، ونكاح ذات محرم، ولأنهم يقرون على كفرهم، وهو أعظم جرمًا وإثمًا من ذلك، إلا أنهم يمنعون من إظهاره. ¬
(ويلزمهم التميُّز عن المسلمين) بلباسهم، وبقبورهم، ونحو ذلك، (ولهم ركوب غير خيل بغير هج) بل بإكاف، أو برذعة عرضًا، رجلاه إلى جانب، وظهره إلى جانب. (وحَرُمَ تعظيمهم) وقيام لهم. والمبتدع يجب هجره. وتصديرهم في المجالس (وبُداءَتهُم بالسلام) وبكيف أصبحت؟ أو كيف أمسيت؟ وتهنئتهم وتعزيتهم، وعيادتهم، وشهادة أعيادهم، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تبتدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى ضيقها" (¬1) رواه أحمد، ومسلم، وغيرهما، وما عدا السلام مما ذكر ففي معناه. ومن سلم على ذمي لا يعلمه ثم علمه، سن قول: رُدَّ علي سلامي، لما روي عن ابن عمر (¬2). فإن كان مع الذمي مسلم، سلَّم ناويًا المسلم، نصًّا (¬3)، وإن سلم ذمي على مسلم لزم رده، فيقول: وعليكم. لحديث أحمد، عن أنس قال: "نهينا أو أمرنا أن لا نزيد أهل الذمة على: وعليكم" (¬4). وإن شمَّته كافر، أجابه: بيهديكم اللَّه. وكذا إن عطس الذمي، فحمد، لحديث أبي موسى: إن اليهود كانوا يتعاطسون عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجاء أن يقول لهم: يرحمكم اللَّه، فكان يقول لهم: "يهديكم اللَّه، ويصلح ¬
بالكم" (¬1). رواه أبو داود، وغيره. ويمنعون من حمل سلاح ونحو ذلك، ومن تعلية بناء على مسلم، ومن إحداث كنائس، وبِيَع، ومجتمع يجتمعون فيه لصلاتهم، ومن بناء ما استهدم منها، ولو كلها، ومن إظهار منكر، وعيد، وصليب، وإظهار أكل وشرب نهار رمضان، ومن رفع صوت على ميت، ومن قراءة قرآن، ومن ضرب ناقوس، وجهر بكتابهم، ومن دخول حرم مكة لقمله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬2)، والمراد به الحرم. ويمنعون بإقامة بالحجاز، كالمدينة، واليمامة، وخيبر، لحديث عمر أنه سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فلا أنزل فيها إلا مسلمًا" (¬3). قال الترمذي: حسن صحيح. وليس لكافر دخول مسجد، ولو أذن فيه مسلم. ويجب على الإمام حفظ أهل الذمة، ومنع من يؤذيهم، وإن تحاكموا إلينا بعضهم من بعض فلنا الحكمُ، والتركُ، ويجب بين مسلم وذمي، ويلزمهم حكمنا، ويمنعون من شراء مصحف، وكتب حديث، وفقه. (وإن تعدى الذمي على مسلم) بقتل، أو فتنته عن دينه، انتقض عهده، لأنه ضرر يعم المسلمين، أشبه ما لو قاتلهم (أو ذكر اللَّه، أو كتابه، أو رسوله بسوء) ونحوه، كقوله لن سمعه يؤذن: كذبت (انتقض عهده) لما روي أنه قيل لابن عمر: إن راهبًا يشتم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: لو سمعته ¬
قتلته، إنا لم نُعطِ الأمان على هذا (¬1). أو أبى بذل جزية، أو الصغار، أو التزام أحكامنا، أو قاتلنا، أو لحق بدار حرب مقيمًا، أو زنا بمسلمة، أو أصابهم باسم نكاح، أو قطع طريقًا، أو تجسس، أو آوى جاسوسًا، انتقض عهده، سواء شرط عليهم ذلك، أو لا (فـ) حينئذ (يخير الإمام فيه) أي (¬2) المنتقض عهده، ولو قال: تبتُ (كأسير حربي) بين قتل، لعموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (¬3)، واسترقاق، ومَنٍّ، وفداءِ، لأنه كافر لا أمان له، قدرنا عليه في دارنا، بغير عهد، ولا عقد، وماله فيء، ولا ينتقض عهد نسائه، ولا أولاده، حيث انتقض عهده، نصًّا (¬4)، لوجود النقض منه دونهم. ¬
الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات تأليف عثمان بن عبد اللَّه بن جامع الحنبلي . . . - 1240 هـ تحقيق الدكتور عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم الجزء الثاني
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات 2
بسم اللَّه الرحمن الرحيم غاية في كلمة مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1424 هـ - 2003 م جميع الحقوق محفوظة 2003 م. لا يُسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكِّن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.
كتاب البيع
كتاب البيع وسائر المعاملات من الربا، والرهن، والضمان، والصلح، والحجر، والوكالة، وغير ذلك مما يأتي مفصلًا إن شاء اللَّه تعالى. وهو مأخوذ من الباع؛ لمد كل من المتبايعين يده للآخر أخذًا وعطاءً، أو من المبايعة -أي المصافحة- كل منهما الآخر عنده (¬1)، وهو جائز بالإجماع (¬2) لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬3)، وحديث: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" (¬4) متفق عليه. وهو لغة: دفع عوض وأخذ معوض عنه (¬5)، وشرعًا: مبادلة عين مالية مباحة النفع بلا حاجة أو منفعة مباحة مطلقًا كممر في دار وبقعة تحفر بئرًا، بخلاف نحو جلد ميتة مدبوع، لأنه لا ينتفع به مطلقًا بأحدهما كبيع كتاب بكتاب أو بممر في دار، وبيع نحو ممر في دار بكتاب، أو بممر في دار أخرى، أو مبادلة عين مالية، أو منفعة مباحة مطلقًا بمال في الذمة من نقد أو غيره، وكذا مبادلة مال في الذمة بمال في الذمة إذا قبض أحدهما قبل التفرق، أو بعين مالية أو منفعة مباحة فشمل حينئذ تسع صور (¬6). ¬
(تنعقد) سائر المعاملات من بيع وغيره (بمعاطاة) نصًّا (¬1)، في القليل والكثير لعموم الأدلة (¬2). ولأنه تعالى أحل البيع ولم يتبين كيفيته، فوجب الرجوع فيه إلى العرف، والمسلمون في أسواقهم ومبايعاتهم على ذلك، كأعطني بهذا الدرهم ونحوه خبزًا، فيعطيه ما يرضيه مع سكوته، أو يساومه (¬3) سلعة بثمن فيقول: خذها، أو هي لك ونحو ذلك. (و) كذا نحو هبة وهدية وصدقة (بإيجاب) كقول بائع: بعتك كذا، وملكتك كذا ونحو ذلك، (وقبول) كقول مشتر: قبلت ذلك، ونحوه، وصح تقدم إيجاب على قبول بلفظ أمر وماض مجرد عن استفهام، كقول مشتر بعني أو اشتريت منك كذا بكذا، فيقول: بعتك، أو بارك اللَّه لك. وصح تراخي أحدهما عن الآخر ماداما في المجلس، ولم يشتغلا بما يقطع البيع عرفًا, وإنما ينعقد (بسبعة شروط): أحدها: (الرضا) فإن أكرها أو أحدهما بغير حق لم يصح، لحديث "إنما البيع عن تراض" (¬4). والثاني: الرشد (و) هو (كون عاقد جائز التصرف)، أي: حرًّا مكلفًا رشيدًا، فلا يصح من مجنون مطلقًا، ولا من سفيه وصغير، لأنه قول ¬
يعتبر له الرضا فاعتبر فيه الرشد، كالإقرار، إلا في شيء يسير كرغيف وحزمة بقل ونحوهما فيصح من القِنِّ (¬1) ومن الصغير ولو غير مميز، ومن السفيه، وإلا إذا أذن لمميز أو سفيه وليهما فيصح، ولو في الكثير لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} (¬2)، ويحرم الإذن لهما بلا مصلحة، لأنه إضاعة، وإلا إذا أذن لقنٍّ سيدُه فيصح تصرفه لزوال الحجر عنه بإذنه له، وفي "التنقيح": ويصح من القن قبول هبة ووصية بلا إذن سيد، نصًّا (¬3). ويكونان لسيِّده. (و) الثالث: (كون مبيع) معقود عليه ثمناَ كان أو مُثْمنًا، (مالًا) لأن غيره لا يقابل به (وهو) أي: المال شرعًا: (ما فيه منفعة مباحة) مطلقًا، وما يباح اقتناؤه بلا حاجة كبغل، وحمار، ودود قز (¬4)، وبزره (¬5)، ونحو ذلك، وكنحل منفرد عن كُوَّراته (¬6). قال في "المغني" (¬7): إذا شاهدها محبوسة بحيث لا يمكنها [أن] (¬8) تمتنع. أو مع كوارته خارجًا عنها، وفيها إذا شوهد داخلًا فيها لحصول العلم به بذلك، ويدخل ما فيها من العسل تبعًا، ولا ¬
يصح بيع كوارة بما فيها من عسل ونحل؛ للجهالة. ويصح بيع هر وفيل، لأنه يباح نفعه واقتناؤه أشبه البغل، وما يصاد عليه كبومة تجعل شُباشًا (¬1)، أو يصاد به كديدان وسباع بهائم تصلح لصيد كفهد، وسباع طير تصلح لصيد كباز وصقر، وولدها وبيضها، إلا الكلب، فإنه لا يصح بيعه لأنه لا ينتفع به إلا لحاجة، وكقرد لحفظ، وعَلقٍ (¬2) لمص دم، ولبن آدمية انفصل منها، لأنه طاهر ينتفع به كلبن الشاة، بخلاف لبن الرجل. ويكره بيعه نصًّا (¬3)، وكقن مرتدٌ ومريض وجان تحتم قتله. ولا يصح بيع منذور عتقه نذر تبرر، ولا ميتة ولو طاهرة إلا سمكًا وجرادًا، ولا بيع سرجين (¬4) نجس بالإجماع (¬5)، ولا بيع دهن نجس أو متنجس، لأنه لا يطهر أشبه نجس العين، ويجوز أن يستصبح بدهن متنجس في غير مسجد. وحرم بيع مصحف مطلقًا لما فيه من ابتذاله وترك تعظيمه، ويصح بيعه لمسلم، ولا يصح لكافر وإن ملكه ألزم بإزالة يده عنه لئلا يمتهنه، وقد ¬
نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن السفر بالمصحف لأرض العدو مخافة أن تناله أيديهم (¬1)، ولا يكره شراؤه (¬2) ولا إبداله بمصحف لمسلم ولو مع دراهم من أحدهما، ويجوز نسخه بأجرة، ويجوز شراء كتب الزندقة (¬3) ونحوها ليتلفها. ولا يصح شراء خمر ليريقها لأنه لا فائدة فيها، ولا آلة لهو، وترياق (¬4) فيه لحوم الحيات. (و) الرابع: (كونه) أي المبيع (مملوكًا لبائعه) ملكًا تامًا ومثله الثمن حتى الأسير بأرض العدو إذا باع ملكه بدار الإسلام أو بدار الحرب نفذ تصرفه فيه لبقاء ملكه عليه (أو) كونه (مأذونًا له فيه) أي البيع من مالكه، أو من الشارع كولي صغير ونحوه، وناظر وقف وقت عقد، ولو ظن المالك أو المأذون له عدمهما (¬5)، فلا يصح بيع فضولي (¬6) وكل تصرفه ولو أجيز بَعدُ (¬7) ¬
إلا إذا اشتراه في ذمته ونواه لشخص لم يسمه، ثم إن أجازه من اشترى له، ملكه من حين العقد؛ لأنه اشترى لأجله أشبه ما لو كان بإذنه، فتكون منافعه ونماؤه له، وإلا يُجِزْهُ من اشترى له وقع لمشتر ولزمه كما لو لم ينوه لغيره. ولا يصح بيع ما لا يملكه ولا أُذن له فيه؛ لحديث حكيم بن حزام مرفوعًا: "لا تبع ما ليس عندك" (¬1) رواه ابن ماجه والترمذي وصححه. ويصح بيع موصوف بصفات سلم لم يعين؛ لقبول ذمته للتصرف إذا قبض المبيع أو قبض ثمنه بمجلس عقد، ولا يصح بلفظ سلف أو سلم، ولو قبض ثمنه بمجلس عقد، لأن السلم لا يصح حالًّا. ولا يصح بيع أرض موقوفة مما فتح عنوة (¬2) ولم يقسم كمزارع مصر والشام والعراق، لأنها موقوفة أقرت بأيدي أهلها بالخراج، غير الحيرة -بكسر الحاء- مدينة قرب الكوفة (¬3)، وغير أُلَّيس - (¬4) بضم الهمزة وتشديد اللام مفتوحة بعدها ياء ساكنة فسين مهملة- مدينة بالجزيرة، وغير بانقيا (¬5) -بالموحدة أوله وكسر النون- وغير أرض بني صَلوبا -بفتح الصاد المهملة وضم اللام (¬6) - لفتح هذه القرى صلحًا (¬7)، إلا المساكن فيصح بيعها مطلقًا ¬
ولو مما فتح عنوة، لأن الصحابة اقتطعوا الخطط في الكوفة والبصرة في زمن عمر وبنوها وتبايعوها من غير نكير (¬1)، فكان كإجماع، إلا إذا باعها الإمام لمصلحة أو باعها غيره وحكم به من يرى صحته. وتصح إجارة الأرض الموقوفة مما فتح عنوة مدة معلومة بأجر معلوم. ولا يصح بيع رباع مكة وهي المنازل (¬2)، ولا الحرم، ولا إجارتها، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في مكة: "لا تباع رباعها، ولا تكرى بيوتها" (¬3) رواه الأثرم، وعن مجاهد موقوفًا: "مكة حرام بيع رباعها، حرام إجارتها" (¬4) رواه سعيد، وروي أنها كانت تدعى السوائب على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)، ذكره مسدد في "مسنده". ولا يصح بيع ماءٍ عِدٍّ (¬6) -بكسر العين وتشديد الدال- كماء عين، ¬
ونقع بئر لحديث: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار" (¬1) رواه أبو عبيد والأثرم. ولا يصح ماء في معدن جار كقار وملح ونفط. ولا بيع نابت من كلاء وشوك ونحو ذلك ما لم يحزه، لأنه لا يملك إلا بالحوز، فلا يدخل في بيع أرض ومشتريها أحق به، ويحرم دخول لأجل ذلك بغير إذن رب الأرض إن كانت محوطة، وإلا جاز إن لم يحصل بدخوله ضرر. (و) الخامس: (كونه) أي المبيع وكذا الثمن المعين (مقدورًا على تسليمه)، لأن غير المقدور على تسليمه كالمعدوم، فلا يصح بيع عبد آبق، لحديث النهي عن بيعه (¬2)، ولا نحو جمل شارد عُلم مكانه أو لا، لحديث مسلم عن أبي هريرة يرفعه "نهى عن بيع الغرر" (¬3)، وفسره القاضي وجماعة: بما تردد بين أمرين ليس أحدهما أظهر (¬4) ولو لقادر على تحصيلهما، لأنه مجرد توهم لا ينافي تحقق عدمه ولا ظنه، بخلاف ظن القدرة على تحصيل مغصوب. ولا يصح بيع سمك في ماء، لأنه غرر إلا سمكًا مرئيًا بماء محوز يسهل أخذه منه كحوض، فيصح لأنه معلوم ممكن تسليمه، كما لو كان بطشت، ولا يصح بيع طائر يصعب أخذه ولو ألف الرجوع لأنه غرر. ولا بيع مغصوب إلا لغاصبه أو القادر على أخذه منه، وله الفسخ إن عجز عن تحصيله من الغاصب بعد البيع؛ إزالة للضرر. ¬
(و) السادس: (كونه) أي المبيع والثمن المعين (معلومًا لهما) أي المتعاقدين، لأن الجهالة به غرر، وحديث: "من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه" (¬1) يرويه عمر بن إبراهيم الكردي وهو متروك الحديث (¬2)، ويحتمل أن معناه إذا أراد شراءه فهو بالخيار بين العقد عليه وتركه (برؤية) مقارنة للعقد يفرق بها المبيع جميعه كوجهي ثوب منقوش، أو برؤية بعض تدل على باقيه، كرؤية أحد وجهي ثوب غير منقوش، وظاهر الصبرة (¬3) المتساوية ووجه الرقيق، وما في ظروف وأعدال من جنس واحد متساوي الأجزاء لحصول العلم. بالمبيع بذلك. فلا يصح البيع إن سبقت الرؤية العقد بزمن يتغير فيه المبيع ظاهرًا ولو كان التغير فيه شكًّا بأن مضى زمن يشك في تغيره تغيرًا ظاهرًا، للشك في وجود شرطه، والأصل عدمه، فإن سبقت العقد بزمن لا يتغير فيه عادة تغيرًا ظاهرًا صح البيع، لحصول العلم بالمبيع بتلك الرؤية، ولا حد لذلك الزمن إذ المبيع (¬4) منه ما يسرع تغيره، وما يتباعد، وما يتوسط، فيتغير كل بحسبه. ولا يصح البيع إن قال: بعتك هذا البغل فبان فرسًا، ونحو ذلك ¬
للجهل بالمبيع، ولا بيع الأنموذج (¬1) بأن يريه صاعًا ويبيعه الصبرة على أنها مثله، وكرؤية المبيع معرفته بلمس أو شم أو ذوق فيما يعرف بذلك لحصول العلم بحقيقة المبيع، (أو) كونه معلومًا لهما (صفة تكفي في السلم) بأن يذكر ما يختلف به الثمن غالبًا، ويأتي في السلم (¬2)؛ لقيام ذلك مقام رؤيته في حصول العلم به، فيصح بيع أعمى وشراؤه ما عرفه بلمس أو شم أو بذوق بعد إتيانه بما يعتبر في ذلك، كما يصح توكيله في بيع وشراء مطلقًا. ثم إن وجد مشتر ما وصف له أو تقدمت رؤيته العقد بزمن لا يتغير فيه المبيع تغيرًا ظاهرًا، متغيرًا فله الفسخ؛ لأن ذلك بمنزلة عيبه، ويحلف مشتر إن اختلفا في نقصه صفة أو تغيره عما كان عليه، لأن الأصل براءته من الثمن، وهو على التراخي فلا يسقط خياره، إلا بما يدل على الرضى من سوم ونحوه، وإن أسقط حقه من الرد فلا أرش (¬3) له، لأن الصفة لا يعتاض عنها. ولا يصح بيع حمل ببطن إجماعًا، ذكره ابن المنذر (¬4)؛ للجهالة به، ولا لبن في ضرع؛ لحديث ابن عباس: نهى أن يباع صوف على ظهر، أو لبن في ضرع، رواه الحلال وابن ماجه (¬5)، ولا نوى في تمر، كبيض في طير، إلا إذا ¬
بيع تبعًا، لأنه يغتفر في التبعية ما لا يغتفر في الاستقلال. ولا يصح بيع عَسْب الفحل -أي ضرابه- لحديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا: نهى عن بيع المضامين، والملاقيح (¬1)، قال أبو عبيد: الملاقيح ما في البطون وهي الأجنة، والمضامين ما في أصلاب الفحول (¬2). ولا يصح بيع مسك في فأر (¬3) ما لم تفتح ويشاهد؛ لأنه مجهول كلؤلؤ ¬
في صدف، ولا بيع لِفْتٍ (¬1) وفجل وجزر قبل قلع نصًّا (¬2)، ولا ثوب مطوي، قال في "شرح المنتهى" لمصنفه: حيث لم ير منه ما يدل على بقيته (¬3). ولا بيع ثوب نسج بعضه على أن ينسج بقيته ولو منشورًا للجهالة، فإن باعه المنسوج وسدى الباقي ولحمته (¬4)، وشرط على البائع إتمام نسجه صح لزوال الجهالة. ولا يصح بيع عطاء، وهو قسطه من الديوان قبل قبضه، لأنه مغيب فهو من بيع الغرر، ولا بيع رقعة به لأن المقصود هو دونها، ولا بيع معدن وحجارته قبل حوزه إن كان جاريا، وكذا إن كان جامدًا وجهل، ولا يصح سلف فيه نصًّا (¬5)، لأنه لا يدرى ما فيه، فهو من بيع الغرر. ولا يصح بيع ملامسة، كبعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فعليك بكذا، أو على أنك إن لمسته فعليك بكذا. ولا بيع منابذة؛ لحديث أبي سعيد: "نهي عن الملامسة والمنابذة" (¬6) كقوله: متى نبذت هذا الثوب فلك بكذا، أو أي ثوب نبذته فلك بكذا، ولا بيع الحصاة، كارمها فعلى أي ثوب ¬
وقعت فهو لك بكذا وكذا، أو بعتك من هذه الأرض بقدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها، بكذا، لحديث مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "نهى عن بيع الحصاة" (¬1). ولا يصح بيع ما لم يعين كعبد من عبيد، وشاة من قطيع، وشجرة من بستان ولو تساوت قيمها، لما فيه من الجهالة والغرر، ولا بيع الجميع إلا غير معيَّن. ولا يصح بيع شيء بعشرة دراهم ونحوها، إلا ما يساوي درهمًا، لجهالة المستثنى، ويصح بيع شيء بعشرة دراهم مثلًا إلا بقدر درهم، لأنه استثناء للعُشْر، وهو معلوم. ويصح بيع ما شوهد من حيوان وثياب وإن جَهِلا عَدَدَها، لأن الشرط معرفته لا معرفة عدده. ويصح بيع أمة حامل بحُرٍّ، لأنها معلومة، وجهالة الحمل لا تضر. ويصح بيع ما مأكوله في جوفه، كبيض ورمان ونحوه، لدعاء الحاجة إلى بيعه، كذلك. [لفساده إذا أخرج من قشره] (¬2). ويصح بيع حب مشتد في سنبله ويدخل الساتر تبعًا كنوى التمر، فإن استثنى القشر أو التبن بطل البيع، ويصح بيع تبن بدون حبه قبل تصفيته منه، لأنه معلوم بالمشاهدة. ويصح بيع قفيز (¬3) من هذه الصبرة إن تساوت أجزاؤها وزادت عليه، فإن اختلفت أجزاؤها كصبرة بَقَّال (¬4)، أو لم تزد عليه لم يصح البيع ¬
تنبيه
للجهالة في الأولى، والإتيان بمن المبعضة في الثانية، وإن تلفت الصبرة ونحوها ما عدا قدر مبيع من ذلك تعين، أو قدر بعضه أخذه بقسطه، ويصح بيع صبرة جزافًا (¬1) لحديث ابن عمر: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافًا: فنهانا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نبيعه حتى ننقله من مكانه (¬2). متفق عليه، ويجوز بيعها جزافًا مع جهلهما أو علمهما بقدرها، ومع علم بائع وحده يحرم عليه بيعها جزافًا نصًّا (¬3)، لأنه يقصد بذلك التغرير، ويصح البيع مع الحرمة للعلم بالمبيع بالمشاهدة، ولمشتر الرد لأن كتمه ذلك غش وغرر، وكذا يحرم على مشتر علم قدر الصبرة وحده شراؤها جزافًا، ولبائع الفسخ؛ لتغرير المشتري له. تنبيه: يحرم على بائع جعل صبرة على نحو حجر أو ربوة مما ينقصها، ويثبت به لمشتر لم يعلمه الخيار لأنه عيب، وإن بان تحتها حفرة لم يعلمها بائع فله الفسخ، كما لو باعها بكيل معهودة ثم وجد ما كَالَ به زائدًا. ويصح بيع صبرة علم قفزانها إلا قفيزًا، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن الثنيا إلا أن تعلم (¬4)، وهذه ¬
معلومة، وكذا لو استثنى منها جزءًا مشاعًا معلومًا. ولا يصح بيع ثمرة شجرة إلَّا صاعًا لجهالة آصعها، فتؤدي إلى جهالة ما يبقى بعد الصاع، ولا بيع نصف داره الذي يليه، لأنه لا يعلم إلى أين ينتهي قياس النصف، كما لو باعه عشرة أذرع من ثوب أو أرض، وعين الابتداء دون الانتهاء. ولا يصح استثناء حمل مبيع من أمة أو بهيمة، أو استثناء شحم مأكول لأنهما مجهولان، وكذا استثناء رطل لحم أو شحم فلا يصح لجهالة ما يبقى، ويصح استثناء رأس مأكول وجلده وأطرافه نصًّا (¬1) حضرًا وسفرًا، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة مروا براعي غنم، فذهب أبو بكر وعامر فاشتريا منه شاة وشرطا له سلبها (¬2)، ولا يصح استثناء ما لا يصح بيعه مفردًا إلا في هذه الصورة؛ للخبر. ولو أبي مشتر ذبح ما استثنى رأسه وجلده وأطرافه أو بعضها، ولم يشترطه عليه بائع في العقد، لم يجبر على الذبح، وعليه قيمته تقريبًا، فإن باع لمشتر ما استثناه صح كبيع الثمرة قبل بدو صلاحها لمالك الأصل. (و) الشرط السابع: (كون ثمن معلومًا) لمتعاقدين حال عقد البيع ولو برؤية متقدمة بزمن لا يتغير فيه، أو وصف كما تقدم في المبيع، لأنه أحد العوضين فاشترط العلم به كالمبيع، أو بمشاهدة كصبرة، ووزن صنجة (¬3)، ولو جهلا، وبنفقة عبده فلانٍ، أو ولده أو زوجته أو نفسه ونحو ذلك، ¬
شهرًا أو سنة أو يومًا ونحوه، لأن لها عرفًا يرجع إليه عند التنازع، بخلاف نفقة دابته. ويرجع بائع مع تعذر معرفة قدر ثمن بأن تلفت الصبرة ونحوها بقيمة مبيع، لأن الغالب بيع الشيء بقيمته، ولو أسَّرا ثمنا بلا عقد ثم عقداه ظاهرًا بأكثر، أو عقدا بيعًا سرًا بثمن وعلانية بأكثر، فالثمن الأول؛ لأن المشتري إنما دخل عليه فلا يلزمه ما زاد. (فلا يصح البيع بما ينقطع به السعر)؛ أي يقف عليه للجهالة، ولا كما يبيع الناس، ولا بدينار أو درهم وثَمّ نقود متساوية رواجًا، فإن غلب أحدها صح وصرف إليه. ولا يصح البيع بعشرة صحاحًا، أو إحدى عشر مكسرة، ولا بعشرة نقدًا، أو عشرين نسيئة لنهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن البيعتين في بيعة (¬1)، وفسره العلماء بذلك (¬2)، ولا يصح بيع شيء بثمن معلوم ورطل خمر أو جلد ميتة نجس، ولا يصح بيع شيء بدينار إلا درهمًا نصًّا (¬3)، ويصح بيع ما بوعاء جزافًا مع ظرفه أو دونه أو كل رطل بكذا على أن يسقط منه وزن الظرف. ومن اشترى شيئًا في ظرف كسمن ونحوه فوجد فيه رُبًّا (¬4) أو غيره صح البيع في الباقي بقسطه من الثمن، كما لو باعه صبرة على أنها عشرة أقفزة فبانت تسعة، وله الخيار لتبعض الصفقة عليه، ولم يلزم البائع بدل الرُّبِّ ونحوه، سواء كان عنده من جنس المبيع أم لا، فإن تراضيا على إعطاء البدل جاز. ¬
ومن باع معلومًا ومجهولًا لم يتعذر علمه كهذا العبد وثوب لم يعين، صح البيع في المعلوم بقسطه من الثمن، وبطل في المجهول، لأن المعلوم صدر فيه البيع من أهله بشرطه، ومعرفة ثمنه ممكنة بتقسيط الثمن على كل منهما وهو ممكن، لا إن تعذر علم المجهول ولم يتبين ثمن المعلوم: كبعتك هذه الفرس وحمل الأخرى بكذا، فلا يصح لأن المجهول لا يصح بيعه، والمعلوم مجهول الثمن، ولا سبيل إلى معرفته، لأنها إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما، والمجهول لا يمكن تقويمه، فإن بين ثمن كل منهما صح في المعلوم بثمنه. (وإن باع مشاعًا بينه وبين غيره، أو) باع (عبده وعبدَ غيره بغير إذن) شريك (أو) باع (عبدًا وحرًا، أو) باع (خَلًّا وخمرًا صفقة واحدةَ صح) البيع (في نصيبه) من المشاع (و) صح في (عبده، و) صح في (الخل بقسطه) من الثمن (ولمشتر الخيار) بين رد وإمساك إن لم يعلم الحال، لتبعض الصفقة عليه، وله الأرش إن أمسك فيما ينقصه تفريق، كزوجي خف ومصراعي باب، ويقدر خمر خَلًّا وحر عبدًا. وإن جمع بين بيع وإجارة، أو بين بيع وصرف، أو بين بيع وخلع، أو بين بيع ونكاح بعوض واحد صحَّا؛ لأن اختلاف العقدين لا يمنع الصحة، وقَسَّط العوض عليهما ليعرف عوض كل منهما تفصيلًا، وإن جمع بين بيع وكتابة (¬1) بطل البيع وصحت الكتابة. (ولا يصح بلا حاجة (¬2) بيع) ولو قل المبيع ممن تلزمه الجمعة (ولا) ¬
يصح (شراء ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها) أي: أذان الجمعة، أي الشروع فيه (الثاني) أي: الذي عند المنبر عقب جلوس الإمام عليه لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬1)، والنهي يقتضي الفساد، وخص بالنداء الثاني لأنه المعهود في زمنه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتعلق الحكم به. والشراء أحد شقي العقد فكان كالشق الآخر، وأما النداء الأول فحدث في زمن عثمان (¬2)، قال المنقح: أو قبله أي لا يصح البيع ولا الشراء ممن تلزمه الجمعة قبل ندائها -لمن منزله بعيد حث إنه يدركها- (¬3) إذا سعى في ذلك الوقت. وتحرم الصناعات كلها ممن تلزمه الجمعة بعد الشروع في النداء الثاني للجمعة، لأنها تشغل عن الصلاة، وتكون ذريعة إلى فواتها، ويستمر التحريم إلى انقضاء الصلاة إلا من حاجة، كمضطر إلي طعام أو شراب يباع فله شراؤه، وعريان وجد سترة تباع ونحو ذلك. (وتصح سائر العقود) من إمضاء بيع خيار وإجارة وصلح وقرض ورهن وغيرها بعد نداء الجمعة، لأن النهي عن البيع، وغيره لا يساويه في التشاغل المؤدي لفواتها. (ولا) يصح (بيع عصير أو) بيع (عنب) أو زبيب ونحوه (لمتخذه خمرًا) ولو ذميًا. (ولا) يصح بيع (سلاح في فتنة) أو لأهل حرب أو قطاع طريق ممن ¬
علم ذلك من مشتريه ولو بقرائن، ولا بيع مأكول ومشروب ومشموم ممن يشرب عليه مسكرًا، ولا بيع جوز وبيض ونحوهما لقمار، ولا بيع غلام وأمة لمن عرف بوطء دبر، أو لغناء لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬1). (ولا) يصح بيع (عبد مسلم لكافر) ولو وكيلًا لمسلم (لا يعتق عليه) كالنكاح، فإن كان يعتق عليه كأبيه وابنه وأخيه صح شراؤه له، لأن ملكه لا يستقر عليه، وإن أسلم في يده أجبر على إزالة ملكه عنه، لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} (¬2). (وحرم ولم يصح بيعه) أي المسلم (على بيع أخيه) المسلم، كقوله لمن اشترى شيئًا بعشرة: أعطيك مثله -مثلًا- بتسعة زمن الخيارين، (وشراؤه على شرائه)، كقوله لمن باع شيئًا بتسعة: عندي فيه عشرة زمن الخيارين خيار المجلس وخيار الشرط (وسومه على سومه) أي: المسلم مع الرضا من بائع صريحًا، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يسم الرجل على سوم أخيه" (¬3) رواه مسلم، فإن لم يصرح بالرضا لم يحرم، لأن المسلمين لم يزالوا يتبايعون في أسواقهم بالمزايدة، ويصح العقد على السوم فقط، وكالبيع الإجارة وسائر العقود وطلب الولايات ونحوها، كخطبته على خطبة أخيه المسلم إذا أجيب فتحرم هذه كلها بعد الرضا الصريح، للإيذاء. وإن قدم باد لبيع سلعته بسعر يومها وجهله، وقصده حاضر عارف به، وبالناس إليها حاجة حرمت مباشرته البيع له، لحديث مسلم عن جابر مرفوعًا: "لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق اللَّه بعضهم من بعض" (¬4)، ¬
وحديث ابن عباس: نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تتلقى الركبان، وأن يبيع حاضر لباد. قيل لابن عباس: ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسارًا (¬1). متفق عليه. ويبطل بيعه له رضي بذلك أهل البلد أو لا؛ لعموم الخبر، ولأن النهي يقتضي الفساد، فإن كان القادم بالسلعة من أهل البلد، أو ليس منهم وليس ثمَّ إليها حاجة، أو قدم بها ليبيعها بسعر يومها، أو لم يجهل سعرها أو بعثها إلى الحاضر، جاز للحاضر مباشرتها، وصح البيع؛ لزوال المعنى الذي لأجله امتنع بيعه له، وإن استخبر قادم حاضرًا عن سعر جهله أخبره به وجوبًا، لوجوب النصح، ولا يكره أن يشير حاضر على باد بلا مباشرة بيع له. ومن استولى على ملك غيره بلا حق أو جحده أو منعه حتى يبيعه إياه ففعل، لم يصح البيع لأنه ملجأ إليه، ومن أشهد أنه يبيع ماله أو يهبه خوفًا وتقية عمل به. ومن قال لآخر: اشترني من زيد فإني عبده، ففعل فبان حرًّا، فإن أخذ شيئًا من الثمن غرمه، وإلا لم تلزمه العهدة حفر البائع أو غاب؛ لأن الحاصل منه الإقرار دون الضمان، وأدِّب هو وبائع نصًّا (¬2) لتغريرهما المشتري. وتُحدُّ حرة قالت لرجل: اشترني من زيد فأنا أمته. ففعل ووطئت، لزناها مع العلم، ولا مهر لها لزناها مطاوعة، ويلحق الولد بمشتر لأنه وطئها يعتقدها أمته، فوطؤه وطء شبهة. ¬
ومن باع شيئًا بثمن نسيئة (¬1)، أو حالًّا لم يقبض، لم يصح شراؤه له من مشتريه بنقد من جنس الأول أقل منه، ولو نسيئة، لخبر أحمد وسعيد، عن غندر (¬2)، عن شعبة (¬3)، عن أبي إسحاق السبيعي (¬4)، عن امرأته العالية (¬5)، قالت: دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم على عائشة، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلامًا من زيد بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم نقدًا، فقالت لها: بئس ما اشتريت، وبئس ما شريت، أبلغي زيدًا أن جهاده مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بطل إلا أن يتوب (¬6)، ولأن ذلك ذريعة إلى ¬
الربا، وكذا العقد الأول غير صحيح حيث كان وسيلة إلى الثاني، إلا إن تغيرت صفة المبيع، مثل إن كان عبدًا فهزل، أو نسي صنعة، أو عمي ونحوه، فيجوز بيعه بدون الثمن الأول، وكذا إن اشتراه بعرض أو نقد لا من جنس الأول أو قدره أو أكثر منه، وتسمى هذه المسألة مسألة العينة (¬1)؛ لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عينًا؛ أي نقدًا حاضرًا، وعكسها مثلها. وإن اشتراه أبو البائع أو ابنه ونحوه بناقد من جنس الأول أقل منه، صح ما لم يكن حيلة على الربا، فيحرم، ولا يصح كالعينة. ومن احتاج لنقد فاشترى ما يساوي مائة -مثلًا- بأكثر؛ ليتوسع بثمنه، فلا بأس، نصًّا (¬2) ويسمى التورق، وإن باع ما يجري فيه الربا نسيئة ثم اشترى من المشتري، بثمنه قبل قبضه من جنسه، أو بما لا يجوز بيعه به نسيئة لم يصح، روي عن ابن عمر (¬3)؛ لأنه وسيلة لبيع المكيل بالمكيل، والموزون بالموزون نسيئة، فلم يصح حسمًا لمادة ربا النسيئة، فإن اشترى منه ¬
تتمة
بدراهم فسلمها إليه ثم أخذها منه وفاء مما عليه، أو لم يسلمها إليه وتقاصَّا، جاز. ويستحب الإشهاد على البيع. تتمة: يحرم التسعير، وهو منع الناس البيع بزيادة على ثمن يقدره، ويكره الشراء به، لحديث أنس قال: غلا السعر على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا: يا رسول اللَّه، غلا السعر فسعِّر لنا. فقال: "إن اللَّه هو المسعر القابض الباسط الرزاق، إني لأرجو أن ألقى اللَّه وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال" (¬1). رواه أبو داود وغيره. وإن هُدِّدَ من خالف حرم البيع وبطل. وحرم احتكار وهو الشراء للتجارة وحبسه مع حاجة الناس إليه، من قوت آدمي، نصًّا (¬2)، لحديث أبي أمامة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى أن يحتكر الطعام (¬3)، ويصح شراء محتكر، لأن المحرم الاحتكار دون الشراء، ولا تكره التجارة في الطعام لمن لم يرد الاحتكار، ويجبر محتكر على بيعه كما يبيع الناس، ولا يكره ادخار قوت أهله أو دوابه نصًّا (¬4)، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ادخر قوت أهله سنة (¬5). ¬
فصل في الشروط في البيع
فصل في الشروط في البيع وهي ما يشترطه أحد المتعاقدين على الآخر فيه، وتعتبر مقارنته للعقد، (والشروط في البيع) وفي شبهه من نحو إجارة وشركة (ضربان: صحيح) لازم، وهو ثلاثة أنواع: أحدها: ما يقتضيه بيع كشرط تقابض، وحلول ثمن، وتصرف كل فيما يصير إليه، واشتراط رده بعيب قديم، فلا أثر لذلك، لأنه تحصيل للحاصل. الثاني: ما كان من مصلحته (كشرط رهن وضامن) بالثمن (و) كذا شرط كفيل ببدن مشتر، ويدخل فيه لو باعه وشرط عليه رهن المبيع على ثمنه فيصح نصًّا (¬1)، أو شرط (تأجيل ثمن) أو بعضه إلى أجل معين، أو شرط صفة في مبيع ككون العبد كاتبًا ونحوه، أو مسلمًا، أو الأمة بكرًا أو تحيض، أو الدابة هملاجة (¬2) أو لبونًا أو حاملًا، والفهد ونحوه صيودًا، أو الأرض خراجها كذا في كل سنة، والطائر مصوتًا أو يبيض، أو يجيء من مسافة معلومة، فيصح الشرط ويلزم، لأن في اشتراط هذه الصفات قصدًا صحيحًا، وتختلف الرغبات باختلافها، فإن حصل للمشترط شرطه فلا فسخ، وإلا فله الفسخ؛ لفقد الشرط، ولحديث "المؤمنون عند شروطهم" (¬3)، أو أرش فَقْدِ الصفة كأرش عيب ظهر عليه، وإن تعذر رد ¬
لنحو تلف مبيع تعين أرش فقد الصفة كمعيب تعذر رده، وإن أخبره بائع بصفة في مبيع يرغب فيه لها، فصدقه بلا شرط، فبان فقدها، فلا خيار له، لتقصيره بعدم الشرط، أو شرط صفة فبان أعلى فلا خيار (¬1). (و) الثالث: (شرط بائع) على مشتر (نفعًا معلومًا في مبيع) غير وطء ودواعيه (كـ) اشتراط بائع (سكنى الدار) المبيعة (شهرًا) مثلًا، وحملان البعير المبيع ونحوه إلى محل معين، وخدمة العبد مدة معلومة، فيصح نصًّا (¬2)، لحديث جابر أنه باع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جملًا واشترط ظهره إلى المدينة، وفي لفظ قال: فبعته بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي (¬3). متفق عليه. ولبائع إجارة ما استثنى وإعارته، وإن باع مشتر ما استثنى نفعه صح البيع، وكان المبيع يزيد المشتري الثاني مستثنى النفع كالأول، وللمشتري الثاني الفسخ إن لم يعلم، كمن اشترى أمة مزوجة أو دارًا مؤجرة. (و) كذا يصح شرط (مشتر نفع بائع) نفسه في مبيع (كـ) شرط (حمل حطب) مبيع (أو تكسيره) وخياطة ثوب أو تفصيله، أو حيز رطبة (¬4)، أو حصاد زرع ونحوه بشرط علم النفع المشروط، واحتج أحمد على صحة ذلك بما روي أن محمد بن مسلمة اشترى من نبطي جرزة (¬5) حطب وشارطه على حملها (¬6)، ولأن ذلك بيع وإجارة، فإن شرط نفع غير مبيع، أو لم يعلم النفع ¬
لم يصح، فإن تراضيا على أخذ عوض عن ذلك النفع المعلوم جاز. (وإن جمع بأن شرطين) ولو صحيحين كحمل حطب وتكسيره، أو خياطة ثوب وتفصيله (بطل البيع)، لحديث ابن عمرو مرفوعًا: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك" (¬1) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح. ما لم يكونا من مقتضاه، كاشتراط حلول الثمن ونحوه، أو يكونا من مصلحته، كاشتراط رهن، وضمين معينين، فيصح. ويصح تعليق فسخ غير خلع بشرط، كبعتك كذا بكذا على أن تنقدني الثمن إلى وقت معين ولو أكثر من ثلاثة أيام، أو على أن ترهننيه بثمنه، وإلا فلا بيع بيننا، فينعقد البيع بالقبول، وينفسخ إذ لم يف بشرطه. (و) الضرب الثاني من الشروط في البيع: (فاسد) وهو ثلاثة أنواع: أحدها: ما (يبطله) أي العقد من أصله (كشرط عقد آخر من قرض وغيره) كبيع وإجارة، وشركة وقرض، وصرف الثمن أو صرف غيره، وهو بيعتان في بيعة المنهي عنه، قاله أحمد (¬2). والنهي يقتضي الفساد، وكذا لو باعه شيئًا على أن يزوجه ابنته، أو ينفق على عبده ونحوه. (أو ما يُعلق البيع) وهو النوع الثاني، ولا ينعقد معه بيع: (كبعتك) كذا (إن جئتني أو رضي زيد) بكذا، أو اشتريت كذا إن جئتني، أو رضي زيد بكذا، لأنه عقد معاوضة يقتضي نقل الملك حال العقد، والشرط يمنعه. (و) النوع الثالث: (فاسد لا يبطله) أي العقد كشرطه ما ينافي مقتضاه ¬
(كشرط أن لا خسارة) في مبيع (أو) شرط أنه (متى نفق) المبيع (وإلا رده) لبائعه (ونحو ذلك)، أو اشترط بائع على مشتر أن لا يقفه أو لا يبيعه أو يهبه، فالشرط فاسد، والبيع صحيح، إلا شرط عتق فيصح ويجبر عليه مشتر أبَاهُ، لأنه مستحق للَّه تعالى، لأنه قربة التزمها المشتري فأجبر عليه كالنذر، وكذا شرط خيار وأجل مجهولين، أو إن باعه مشتر فهو أحق به بالثمن، أو شرط الأمة لا تحمل، فيصح البيع، وتبطل هذه الشروط. ولمن فات غرضه بفساد الشرط عن بائع ومشتر، الفسخُ، علم الحكم أو جهله، لأنه لم يسلم له الشرط الذي دخل عليه؛ لقضاء الشرع بفساده، أو أخذ أرش نقص ثمن بسبب إلغاء شرطه، أو استرجاع زيادته بسبب إلغائه، (وإن شرط) بائع على مشتر (البراءة من كل عيب) فيما باعه له (مجهول) أي: العيب أو من عيب كذا إن كان (لم يبرأ) بائع بذلك، فلمشتر الفسخ بعيب لم يعلمه حال عقد، لما روى أحمد أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبدًا بشرط البراءة بثمانمائة درهم، فأصاب زيد به عيبًا، فأراد رده على ابن عمر فلم يقبله، فترافعا إلى عثمان، فقال عثمان لابن عمر: تحلف أنك لم تعلم بهذا العيب؟ قال: لا. فرده عليه، فباعه ابن عمر بألف درهم (¬1). وهذه قضية اشتهرت ولم تنكر، فكانت كالإجماع. وأيضًا خيار العيب إنما يثبت بعد البيع فلا يسقط بإسقاطه قبله كالشفعة، وإن سماه لمشتر برئ منه لدخوله على بصيرة، أو أبرأه من كان عيب بعد العقد، برئ منه لإسقاطه بعد ثبوته له كالشفعة. ¬
تتمة
تتمة: من باع ما يذرع من نحو ثوب وأرض على أنه عشرة أذرع أو أشبار أو أجربة (¬1) ونحوها، فبان أكثر، صح البيع، والزائد لبائع، ولكلٍّ الفسخ لضرر الشركة ما لم يعط بائع الزائد لمشتر مجانًا (¬2)، لأنه زاده خيرًا، وإن بان أقل صح البيع، والنقص على بائع، ويخير بائع إن أخذه مشتر بقسطه من ثمن دفعًا لضرره، لا إن أخذه مشتر بجميعه، ولم يفسخ البيع لزوال ضرره، ولا يجبر أحدهما على المعاوضة. ويصح في صبرة ونحوها على أنها عشرة أقفزة فتبين أقل أو أكثر، وكذا نحو زيرة حديد (¬3) ودَنِّ (¬4) عسل ونحوه، فيبين أكثر أو أقل مما عين، ولا خيار لواحد منهما لأنه لا ضرر عليه في رد الزائد إن زادت، ولا في أخذ الناقص بقسطه، لأن نقصان القدر ليس بعيب في الباقي، ويأخذه مشتر ناقصًا بقسطه من ثمن. ¬
فصل في الخيار في البيع والتصرف في المبيع قبل قبضه وما يحصل به القبض والإقالة وما يتعلق بها
فصل في الخيار في البيع والتصرف في المبيع قبل قبضه وما يحصل به القبض والإقالة وما يتعلق بها (والخيار) اسم مصدر اختار، وهو طلب خير الأمرين (¬1)، وهو (سبعة أقسام) بالاستقراء بحسب أسبابه: أحدها: (خيار مجلس) -بكسر اللام- موضع الجلوس، والمراد هنا مكان التبايع. ويثبت خيار مجلس في بيع عند أكثر أهل العلم، ويروى عن عمر وابنه وابن عباس وغيرهم (¬2)، (فالمتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما عرفًا) بما يعده الناس تفرقًا، لحديث: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" (¬3) متفق عليه، فإن كانا في مكان واسع، كمجلس كبير وصحراء، فبمشي أحدهما مستدبرًا لصاحبه خطوات، ولو لم يبعد عنه بحيث لا يسمع كلامه في العادة، وإن كانا في دار كبيرة ذات مجالس وبيوت فبمفارقته إلى بيت آخر أو مجلس، وإن كانا في دار صغيرة فبصعود أحدهما السطح أو خروجه منها، وإن كانا في سفينة كبيرة فبصعود أحدهما أعلاها إن كانا أسفل أو بالعكس، وإن كانت صغيرة فبخروج أحدهما منها، فإن حجز بينهما بنحو حائط أو ناما لم يُعَد ¬
تفرقًا، وخيارهما باق، ولو طالت المدة لبقائهما بمحل عقد، وإن تفرقا مع إكراه أو فزع من مخوف استمر خيارهما إلى أن يتفرقا من مجلس باختيار، وإن أكره أحدهما بقي خياره فقط. ولا يثبت خيار إن تبايعا على أن لا خيار، وأسقطاه بعد عقد، وإن أسقطه أحدهما، أو قال لصاحبه: اختر. ساقط خياره فقط، لحديث ابن عمر: فإن خيَّر أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع (¬1) -أي: لزم-. وتحرم الفرقة خشية الإقالة؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن يكون صفقة خيار، فلا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله" (¬2). رواه النسائي وغيره. ولا خيار في كتابة، وتولي طرفي عقد، وشراء من يعتق عليه، وقسمة إجبار، ونكاح، وخلع، وطلاق، وإبراء، وعتق على مال، ورهن، وضمان، وكفالة، وصلح عن دم عمد. ولا يثبت خيار المجلس أيضًا في بقية العقود، كالمساقاة، والمزارعة، والوكالة، والشركة ونحوها من العقود الجائزة، للتمكن من فسخها بأصل وضعها، وينقطع خيار مجلس بموت أحدهما، لأن الموت أعظم الفرقتين، لا بجنونه وهو على خياره إذا أفاق. (و) الثاني من أقسام الخيار: (خيار شرط، وهو أن يشترطاه أو) يشترطه (أحدهما) في صلب عقد، أو في زمن خياري مجلس وشرط، لأنه ¬
بمنزلة حال العقد (مدة معلومة) فيصح، ولو فوق ثلاثة أيام، لحديث: "المسلمون على شروطهم" (¬1) وعلم منه أنه لا يصح اشتراطه بعد لزومه، ولا إلى أجل مجهول، ويصح فيما يسرع فساده قبله، ويباع ويحفظ ثمنه. (وحرم) شرط خيار في عقد بيع جعل (حيلة) ليربح في قرض، (ولم يصح البيع) نصًّا (¬2)، لأنه وسيلة لمحرم، (وينتقل الملك فيهما) أي في زمن الخيارين السابقين (إلى مشتر) (¬3) والثمن إلى بائع، سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما، (لكن يحرم، ولا يصح تصرف) مشتر ولا بائع (في مبيع و) لا في (عوضه) أي المبيع من ثمن معين (مدتهما) أي الخيارين (إلا عتق مشتر) فيصح (مطلقًا)، سواء كان الخيار لهما أو لبائع فقط. وملك بائع الفسخ لا يمنعه لقوته وسرايته، ولا ينفذ عتق بائع لمبيع ولا شيء من تصرفاته لزوال ملكه عنه، سواء كان الخيار لهما أو له أو لمشتر إلا بتوكيل مشتر، لأن الملك له، وليس تصرف بائع شرط الخيار له وحده فسخًا لبيع نصًا (¬4)، لأن الملك انتقل عنه، فلا يكون تصرفه استرجاعًا، كوجود ماله عند من أفلس، (وإلا تصرفه) أي المشتري (في مبيع، والخيار له) فقط، فيصح، لأنه إمضاء وإسقاط لخياره. ولا يسقط خياره بتصرف في مبيع لتجربة، كركوب دابة لنظر سيرها، وحلب شاة لمعرفة قدر لبنها، لأنه المقصود من الخيار، فلم يبطل به، ويبطل خيارهما مطلقًا بتلف مبيع بعد قبض، وكذا قبله فيما هو من ضمان مشتر، بخلاف نحو ما اشتري بكيل فيبطل البيع بتلفه ويبطل معه الخيار، وبإتلاف مشتر يسقط مطلقًا، قبض أو لم يقبض، اشترى بكيل أو وزن أو لا، ¬
لاستقرار الثمن بذلك في ذمته، والخيار يسقطه، وكخيار العيب إذا تلف المعيب. وإن باع عبدًا بأمة بشرط خيار فمات العبد قبل انقضاء أمد خيار ووجد بها عيبًا فله ردها، ويرجع بقيمة العبد على مشتر لتعذر رده. ويورث خيار الشرط إن طالب به مستحقه قبل موته، كشفعة، وحد قذف، وإلا فلا، ولا يشترط ذلك في إرث خيار غيره كخيار عيب وتدليس، لأنه حق فيه معنى المال ثبت لمورث، فقام وارثه مقامه. (و) الثالث من أقسام الخيار: (خيار غبن (¬1) يخرج عن العادة) نصًّا (¬2)، لأنه لم يرد الشرع بتحديده، فرجع فيه إلى العادة كالقبض والحرز، فإن لم يخرج عن عادة فلا فسخ، لأنه يتسامح به (لـ) أجل (نجش) بأن يزايده من لا يريد شراء ليغره، من نجشت الصيد إذا أثرته، كأن الناجش يثير كثرة ¬
الثمن بنجشه (¬1)، ولو كانت المزايدة بلا مواطأة مع بائع، ومنه قول بائع: أعطيت في السلعة كذا، وهو كاذب. ويحرم النجش؛ لتغريره المشتري، ولهذا يحرم على بائع سوم مشتر كثيرًا ليبذل قريبًا منه، ذكره الشيخ تقي الدين (¬2)، وإن أخبره أنه اشتراها بكذا، وكان زائدًا عما اشتراها به لم يبطل البيع، وكان له الخيار، صححه في "الإنصاف" (¬3). ولا أرش لمغبون مع إمساك مبيع، ومن قال عند العقد: لا خلابة -أي خديعة- فله الخيار إذا خلب، لما روي أن رجلًا ذكر للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه يخادع في البيوع، فقال: "إذا بايعت فقل: لا خلابة" (¬4) متفق عليه، وهي بكسر الخاء: الخديعة (¬5) (أو) لأجل (غيره)؛ أي غير النجش كمسترسل غبن، وهو من جهل القيمة ولا يحسن يماكس من بائع ومشتر (¬6)، ويقبل قوله في جهل القيمة إن لم تكذبه قرينة. ¬
وكركبان تلقاهم حاضر عند قربهم من البلد، ولو كان التلقي بلا قصد نصًّا (¬1)، لأنه شرع لإزالة ضررهم بالغبن ولا أثر للقصد فيه، فإذا باعوا واشتروا قبل العلم بالسعر وغبنوا فلهم الخيار، لحديث: "لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار" (¬2) رواه مسلم. والغبن محرم لما فيه من التغرير بالمشتري، وخياره كخيار عيب على التراخي، ولا يمنع الفسخ تعيبه عند مشتر، وعليه الأرش لعيب حدث عنده إذا رده، كالمعيب إذا تعيب عنده ورده، ولا يمنع الفسخ تلفه عند مشتر، وعليه قيمته لبائعه لأنه فوته عليه. (لا) لأجل (استعجالـ) ـه في المبيع، ولو توقف فيه ولم يستعجل لم يغبن، فلا خيار لهما لعدم التغرير، وكذا إجارة فيثبت فيها خيار الغبن إذا جهل أجرة المثل ولم يحسن يماكس فيها. (و) الرابع: (خيار تدليس) من الدَّلَس بالتحريك بمعنى الظلمة (¬3) (بما يزيد به الثمن) ولو لم يكن عيبًا (كتصرية) اللبن -أي جمعه- في الضرع، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تُصَرُّوا الإبلَ والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعًا من تمر" (¬4) متفق عليه، (و) كـ (تسويد شعر جارية) وتجعيده، وجمع ماء الرحى وإرساله ¬
عند عرض لبيع، وكذا تحسين وجه الصبرة، وصقل وجه المتاع. ويحرم تدليس كتحريم كتم عيب، لحديث عقبة بن عامر يرفعه: "المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا فيه عيب إلا بينه له" (¬1) رواه أحمد وغيره، وحديث: "من غشنا فليس منّا" (¬2)، وحديث: "من باع عيبًا لم يبينه لم يزل في مقت من اللَّه ولم تزل الملائكة تلعنه" (¬3) رواه ابن ماجه. (وخيار غبن و) خيار (عيب و) خيار (تدليس على التراخي) لثبوته لدفع ضرر متحقق، فلا يسقط بالتأخير بلا رضًا كالقصاص (ما لم يوجد دليل الرضا)، فإن وجد فلا خيار، لقيام دليل الرضا مقام التصريح به، (إلا في تصرية فـ) له الخيار (ثلاثة أيام) منذ علم بها، لحديث: "من اشترى مصراة فهو بالخيار فيها ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها، ورد معها صاعًا من تمر" (¬4) رواه مسلم، فإن أمسكها فلا أرش، لظاهر الخبر، وإن ردها رد معها صاعًا من تمر، ولو زاد صاع التمر عليها قيمةً، إن حلبها، وله ردها بعد رضاه بالتصرية بعيب غيرها، ويرد معها صاعًا من تمر إن حلبها قياسًا على التصرية، فإن عدم التمر فقيمته موضع عقد، ويقبل رد اللبن بحاله إذا لم يتغير، كردها به قبل الحلب، وإن كان بغير مصراةٍ لبنٌ كثير فحلبه ثم ردها بعيب، رده إن بقي، أو رد مثله إن عدم، وما حدث بعد البيع فلا يرده لأنه نماء منفصل. ¬
(و) الخامس: (خيار عيب ينقص قيمة المبيع) عادة (¬1). فما عده التجار منقصًا أنيط الحكم به، لأنه لم يرد في الشرع نص في كل فرد منه يرجع فيه إليه (كمرض) بحيوان يجوز بيعه على جميع حالاته، وبخر (¬2) في عبد وأمة، وحَوَلِ وخرس وكلف (¬3) وطرش (¬4) وقرع، وإن لم يكن له ريح (¬5)، وتحريم عام بملك ونكاح وما يعد عيبًا في نكاح ويأتي (¬6)، وكسعال ونحوه، وحمل أمة لا دابة (و) كـ (فقد عضو) كإصبع مبيع، أو ذهاب سن من كبير، (و) كـ (زيادته) أي العضو كإصبع زائدة أو سن، وكزنا من بلغ عشرًا من أمة وعبد، وكشربه مسكرًا، وسرقته وإباقه، وبوله في فراشه، فإن كان من دون عشر فليس ذلك فيه عيب، وكحمق كبير، وهو ارتكابه الخطأ على بصيرة، وفزعه شديدًا، وكونه أعسر لا يعمل بيمينه عملها المعتاد، وكثرة كذب، وتخنث، وكونه خنثى، وإهمال الأدب والوقار في محالهما، نصًّا (¬7)، قال شارح "المنتهى": ولعل المراد في غير الجلب ¬
والصغير (¬1)، انتهى. وعدم ختان ذكر كبير، وعثرة مركوب، وعضه، ورفسه، وحرنه (¬2)، وكونه شموسًا (¬3)، أو بعينه ظفرة (¬4)، وكذا ما بمعنى عيب، كطول مدة نقل ما بدار مبيعة عرفًا، ولا أجرة على بائع لمدة نقل اتصل عادة، وكبق ونحوه غير معتاد بها، وكونها ينزلها الجند، قال الشيخ تقي الدين: وجار السوء عيب (¬5)، وكون ثوب غير جديد ما لم يبن أثر استعماله، لا معرفة غناء فليست بعيب ولا ثيوبة؛ لأنها الغالب على الجواري، ولا عدم حيض، ولا كفر لأنه الأصل في الرقيق، ولا فسق باعتقاد، أو فعل غير زنًا وشرب مسكر ونحوه مما سبق، ولا تغفيل ولا عجمة لسان، أو كونه تمتامًا، أو فأفاء، أو ألثغ (¬6) لأنها الأصل فيه، ولا صداع وحمى يسيرين، ولا سقوط آيات يسيرة عرفًا بمصحف ونحوه. (فإذا علم) مشتر بـ (العيب خُيِّر بين إمساك مع أرش) عيب (أورد) ¬
مبيع معيب (وأخذ ثمن) كامل، لاستحقاقه بالفسخ استرجاع جميع الثمن، (وإن تلف مبيع أو أعتق ونحوه)، كأن صبغ ثوبًا غير عالم بعيبه، أو نسج غزلًا أو وهب مبيعًا أو باعه (تعين أرش، وإن تعيب) عنده (أيضًا) أي عند مشتر (خير فيه)، أي في مبيع معيب، تعيب عنده (بين أخذ أرش) عيب أول (و) بين (رد) مبيع معيب تعيب عنده (مع دفع أرش) عيبه الحادث عنده، (ويأخذ ثمنه) كاملًا. والأرش قسط ما بين قيمته صحيحًا ومعيبًا من ثمنه، فلو قوّم صحيحًا بعشرة ومعيبًا بثمانية، فقد نقص خمس قيمته، فيرجع بخمس الثمن قل أو أكثر، ما لم يفض إلى ربا، كشراء حلي فضة بزنته دراهم ويجده معيبًا، أو قفيز مما يجري فيه الربا بمثله فيجده معيبًا فيرد، أو يمسك مجانًا بلا أرش، لأن أخذه يؤدي إلى ربا الفضل، أو مسألة مُدِّ عجوة (¬1). وإن تعيب عند مشتر، فسخه حاكم لتعذر فسخ كل من بائع ومشتر، ورد بائع الثمن وطالب بقيمة المبيع معيبًا بعيبه الأول، وإن لم يعلم عيبه حتى تلف عنده، ولم يرض بعيبه فسخ العقد، ورد بدله واسترجع الثمن، وكسب مبيع معيب من عقد إلى رد، لمشتر؛ لحديث: "الخراج بالضمان" (¬2) ولو تلف المبيع لكان من ضمانه. ¬
ولا يرد نماء منفصلًا كثمرة ووولد بهيمة، إلا لعذر كولد أمة، فيرد معها، لتحريم التفريق، وله قيمته على بائع، وله رد أمة ثيب وطئها مجانًا، وإن وطئ بكرًا ثم علم عيبها، أو تعيب مبيع عنده كثوب قطعه، أو نسي رقيق صنعة عنده، ثم علم عيبه فله الأرش للعيب الأول، أو رده مع أرش نقصه الحادث عنده، لقول عثمان في رجل اشترى ثوبًا ولبسه ثم اطلع على عيبه: يرده وما نقص (¬1). فأجاز الرد مع النقصان، رواه الخلال، وعليه اعتمد الإمام (¬2)، والأرش هنا: ما بين قيمته بالعيب الأول، وقيمته بالعيب الثاني. ولا يرجع مشتر رد معيبًا مع أرش عيب حدث عنده إن زال، كتذكرة صنعة نسيها لصيرورة المبيع مضمونًا على المشتري بقيمته بفسخه بالعيب الأول، بخلاف مشتر أخذ أرش عيب من بائع، ثم زال سريعًا، فيرده لزوال النقص الذي لأجله وجب الأرش. وإن دلس بائع عيبًا بأن علمه وكتمه، فلا أرش على مشتر بتعيبه عنده، وإن تلف بغير فعله كموته أو أبق العبد ذهب على بائع دلس، نصًّا (¬3)، لأنه غيره. وإلا يكن دلس، فتلف، أو عتق، أو لم يعلم مشتر عيبه حتى صبغ نحو ثوب، أو نسج غزلًا، أو وهب مبيعًا، أو باعه أو بعضه، تعين أرش، نصًّا (¬4)، لأن البائع لم يوفه ما أوجبه له العقد، ولم يوجد منه ¬
الرضا به ناقصًا، فإن فعل ذلك عالمًا بعيبه فلا أرش له، لرضاه بالمبيع ناقصًا. وإن كسر ما مأكوله في جوفه كرمان وبَطِّيخ فوجده فاسدًا، أو ليس لمكسوره قيمة كبيض الدجاج، رجع بثمنه كاملًا لتبين فساد العقد من أصله، لأنه وقع على ما لا نفع فيه، وإن وجد البعض فاسدًا رجع بقسطه من الثمن، وليس عليه رد فاسده إلى بائعه، لأنه لا فائدة فيه. وإن كان لمكسوره قيمة، كبيض النعام وجوز الهند، خُيِّر مشتر بين أخذ أرشه وبين رده مع أرش كسره، إن لي يدلس بائع كما مَرَّ، ويأخذ ثمنه، ويتعين لمشتر أرش مع كسر لا تبقى معه قمة، كنحو جوز هند، لأنه أتلفه. وخيار عيب على التراخي، فلا يسقط إلا إن وجد دليل الرضا، كتصرفه في مبيع بعد علمه بالعيب، بنحو بيع أو إجارة أو استعمال لغير تجربة، فيسقط أرش الرد؛ لقيام دليل الرضا مقام التصريح به، وإن تصرف في بعضه فله أرش الباقي لا رده. ولا يفتقر رد إلى حضور بائع ولا رضاه، ولا قضاء حاكم كالطلاق. ولمشتر مع غيره (¬1) معيبًا أو بشرط خيار إذا رضي الآخر بإمضائه الفسخُ في نصيبه. ومن اشترى معيبًا في وعائين صفقة لم يملك رد أحدهما بقسطه من الثمن، لأنه تفريق للصفقة مع إمكان عدمه، أشبه رد بعض المعيب الواحد، وله مع الإمساك الأرش إلا إن تلف أحدهما فله رد الباقي بقسطه، لأنه، ضرر فيه على البائع، كرد الجميع. ويقبل قول مشتر بيمينه في قيمة التالف ليوزع الثمن عليهما. ومع عيب أحد المبيعين أو ما في الوعاءين دون الآخر له رده بقسطه من الثمن، لأنه لا ضرر فيه على البائع، ولا يرد أحدهما إن نقص مبيع ¬
بتفريق كمصراعي باب، وزوجي خُفٍّ، وجد بأحدهما عيب فلا يرده وحده لما فيه من الضرر على البائع بنقص القيمة، أو حرم تفريق كأخوين ونحوهما بيعا صَفْقَةً، وبان أحدهما معيبًا فليس له رده، لتحريم التفريق بين ذوي الرحم المحرم. والمبيع بعد فسخ أمانةٌ بيد مشتر لحصوله في يده بلا تَعَدٍّ، لكن إن قصر في رده فتلف ضمنه لتفريطه، كثوب أطارته الريح إلى بيته. (وإن اختلفا) أي: بائع ومشتر (عند من حدث) العيب في المبيع مع الاحتمال، ولا بينة لأحدهما، (فـ) القول (قول مشتر بيمينه)، وهذه المسألة من المفردات (¬1)، فيحلف على البت أنه اشتراه وبه العيب، أو أنه ما حدث عنده، لأنه ينكر القبض في الجزء الفائت، والأصل عدمه كقبض المبيع، إن لم يخرج مبيع عن يد المشتري، فإن غاب عنه فليس له رده لاحتمال حدوثه عند من انتقل إليه، فلا يجوز له الحلف على البت، وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما، كإصبع زائدة وجرح طري، قُبل قوله بلا يمين لعدم الحاجة إليه. ويقبل قول بائع بيمينه أن المبيع المعين بعقد ليس المردود، نصًّا (¬2)، لإنكار بائع كونه سلعته، وإنكاره استحقاق الفسخ، فإن أقر بكونه معيبًا، ¬
وأنكر أنه المبيع فقول مشتر، إلا في خيار شرط إذا أراد المشتري رد ما اشتراه بشرط الخيار، وأنكر البائع كونه المبيع، فالقول قول مشتر بيمينه، لاتفاقهما على استحقاق الفسخ. ويقبل قول مشتر في عين ثمن معين بعقد، أنه ليس المردود إن رد عليه بعيب لما تقدم، فإن رد عليه بخيار شرط فقياس التي قبلها يقبل قول بائع، ويقبل قول قابض من بائع وغيره بيمينه في ثابت في ذمة من ثمن مبيع، وقرض وسلم وأجرة، وقيمة متلف، إذا أراد رده بعيب وأنكر مقبوض منه، لأن الأصل بقاء شغل الذمة، إلا إن خرج من يده فلا يملك رده، كما تقدم. ومن باع قِنًّا تلزمه عقوبة من قصاص أو غيره ممن يعلم ذلك، فلا شيء له، لرضاه به معيبًا، وإن علم بعد البيع خُيِّر بين رد وبين أخذ أرش مع إمساك، وإن لزمه مال والبائع معسر قدم حق مجني عليه لسبقه على حق مشتر، فيباع فيها، ولمشتر جهل الحال الخيار، وإن كان بائع موسرًا تعلق أرش وجب بجناية مبيع قبل بيع بذمته، ولا خيار لمشتر لأنه لا ضرر عليه. (و) السادس: (خيار) في مبيع بـ (تخبير ثمن)، فإذا أخبر بثمن فعقد به تولية (¬1)، أو شركة (¬2) أو مرابحة (¬3) أو وضيعة (¬4). (فمتى بأن) المبيع (أكثر) ¬
مما أخبره به بائع، أو الثمن أقل مما أخبره به (أو أنه اشتراه مؤجلًا) ولم يبينه حط الزائد، ويحط قسطه في مرابحة، وينقصه في مواضعه لأنه تبع له، وأجل ثمن في مؤجل، ولا خيار لمشتر. ولا تقبل دعوى بائع غلطًا في إخبار برأس ماله بلا بينة، لأنه مدع لغلطه على غيره أشبه المضارب إذا ادعى الغلط في الربح بعد أن أقر به، (أو) بأن أنه اشتراه (ممن لا نقبل شهادته له) كأحد عمودي نسبه، أو زوجه، (أو) بأن بأنه اشتراه (بأكثر من ثمنه حيلة) كشرائه من غلام دكانه، أو من غيره وكتمه، فللمشتري الخيار إذا علم بين الإمساك والرد كالتدليس، فإن لم يكن حيلة جاز. وكذا لو اشترى اثنان شيئًا وتقاسماه، وأراد أحدهما بيع نصيبه، وكان من المتقومات التي لا ينقسم عليها الثمن بالأجزاء كالثياب ونحوها، (أو) اشترى شيئًا من المتقومات أيضًا فـ (باع بعضه بقسطه) من الثمن (ولم يبين ذلك فلمشترٍ) لم يبين له الحال على وجهه (الخيار أبين الرد والإمساك، دفعًا لما قد يلحقه من الضرر، وإن اشترى شيئًا لرغبة تخصه كحاجة إلى إرضاع نحو ولده لزمه أن خيبر بالحال، كالشراء بثمن غال لأجل الموسم الذي كان حال الشراء وذهب، وكذا لو اشترى دارًا بجواره، فإن كتمه فللمشتري الخيار، لأنه تدليس. (و) السابع من أقسام الخيار: (خيار) يثبت (لاختلاف المتبايعين) في الثمن، وكذا لو اختلف المؤجر والمستأجر في الإجارة، (فإذا اختلفا) أو اختلف ورثتهما (في قدر ثمن) بأن قال بائع ووارثه: الثمن مائة. وقال مشتر ووارثه: ثمانون، (أو) اختلفا في قدر (أجرة ولا بينة) لأحدهما، تحالفا لأن كلًّا منهما مدّع ومنكر صورة، وكذا حكمًا، لسماع بينة كل منهما (أو) كان (لهما) أي لكل منهما بينة بما ادعاه، تحالفا لتعارض البينتين ¬
تتمة
وتساقطهما، فيصيران كمن لا بينة لهما، فيـ (حلف بائع) أولًا (ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا)، فيجمع بين النفي والإثبات، فالنفي لما ادعي عليه، والإثبات لما ادعاه، ويقدم النفي عليه، لأنه الأصل في اليمين، (ثم) يحلف (مشتر ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا) لما تقدم، ويحلف وارث إن علم الثمن على البت، وإلا فعلى نفي العلم. (ولكل الفسخ) ولو بلا حاكم؛ لأنه لاستدراك الظلامة أشبه رد المعيب، وعلم منه أنه لا ينفسخ بنفس التحالف، لأنه عقد صحيح فلم ينفسخ باختلافهما وتعارضهما في الحجة، كما لو أقام كل منهما بينة (إن لم يرضَ) أحدهما (يقول الآخر)، فإن رضي أقر العقد لأن من رضي صاحبه بقوله منهما حصل له ما ادعاه فلا خيار له، وإن نكل (¬1) أحدهما عن اليمين، وحلف الآخر أقر العقد بما حلف عليه الحالف منهما، لأن النكول كإقامة البينة على من نكل. (وبعد تلف) مبيع اختلفا في قدر ثمنه (يتحالفان) كما لو كان المبيع باقيًا (ويغرم مشتر قيمته) أي المبيع إن فسخ البيع، ويقبل قول مشتر في القيمة لأنه غارم، ويقبل قوله في قدر المبيع التالف وفي صفته، وإن تعيب عنده قبل تلفه ضم أرشه إليه، لأنه مضمون عليه حين التعيُّب. تتمة: كل غارم يقبل قوله بيمينه في قيمة ما يغرمه وقدره وصفته، وإن ثبت أنه معيب قُبل قول مشتر في تقدمه على البيع، لأن الأصل براءته مما يدعى عليه، (وإن اختلفا في أجل أو شرط ونحوه) كرهن وضمين، (فقول ناف) بيمينه لأن الأصل عدمه، كما يقبل قول منكر مفسد لبيع ونحوه (أو) اختلفا في (عين مبيع) كقول أحدهما: بعتني هذه الجارية. فيقول: بل العبد (أو) اختلفا في (قدره) كأن قال بائع: بعتك قفيزين. فقال مشتر: بل ثلاثة ¬
(فقول بائع) نصًّا (¬1)، لأنه كالغارم ولاتفاقهما على وجوب الثمن واختلافهما في التعيين. (ويثبت) الخيار (للخُلف في الصفة) إذا باعه بالوصف (و) لـ (تغير ما تقدمت رؤيته) العقد، وتقدم في السادس من شروط البيع (¬2)، وإن اختلفا في صفة ثمن اتفقا على ذكره في البيع أخذ نقد البلد، نصًّا (¬3) لأن الظاهر أنهما لا يعقدان إلا به، ثم إن تعدد نقد فغالبه رواجًا، فإن استوت فالوسط منها للتسوية بين حقيهما، وعلي مدعي المأخوذ اليمين لاحتمال ما قاله خصمه، وإن اختلفا في شرط صحيح وفاسد، أو في أجل أو رهن أو قدرهما -أي الأجل في غير المسلم والرهن- أو في ضمين، فقول منكره بيمينه، لأن الأصل عدمه، كما يقبل قول منكر مفسد لبيع ونحوه، لأن الأصل في العقود الصحة. وإن أقاما بينتين قدمت بينة مدعي الصحة، وإن اختلفا في قدر مبيع، فقول بائع لأنه منكر للزيادة، وكذا في عينه، وإن تشاحا في أيهما يُسَلِّم، والثمن معين في العقد، نصب حاكم عدلًا يقبض منهما ويسلم المبيع ثم الثمن، وإن كان الثمن دينًا أجبر بائع على تسليم مبيع، ثم مشتر على تسليم ثمن إن كان الثمن حالًا بالمجلس، وإن كان الثمن حالًا دون مسافة قصر حجر على مشتر في ماله كله حتى يسلم الثمن. وإن غَيب ماله ببلد بعيد أو كان ماله به، أو ظهر عسره فلبائع الفسخ كمفلس، وإن أحضر بعض الثمن لم يملك أخذ ما يقابله من مبيع إن نقص بتشقيص كمصراعي باب، ولا يملك بائع مطالبته بثمن في ذمة زمن خيار، ولا يملك أحدهما قبض معين من ثمن ومثمن زمن خيار شرط أو مجلس إلا بإذن صريح ممن له الخيار. ¬
فصل في التصرف في المبيع
فصل في التصرف في المبيع (ومن اشترى مكيلًا ونحوه) كموزون ومعدود ومزروع (لزم) البيع (بالعقد) وملكه مشتر، ونماؤه له أمانة بيد بائع (ولم يصح تصرفه) أي المشتري (فيه) أي في المبيع، ببيع ولو لبائعه ولا إجارته ولا هبته ولو بلا عوض ولا رهنه، ولو قبض ثمنه، ولا حوالة عليه (قبل قبضه) لحديث: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه" (¬1) متفق عليه. وقيس على البيع ما ذكر بعده، ولأنه من ضمان بائعه، فلم يجز فيه شيء من ذلك كالسلم، فإن بيع مكيل ونحوه جزافًا جاز تصرف فيه قبل قبضه، نصًّا (¬2)، (ويحصل قبض ما بيع بكيل ونحوه) كبوزن أو محمد أو ذرع (بذلك) أي بالكيل أو بالوزن أو العد أو الذرع، لحديث أحمد عن عثمان مرفوعًا: "إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل" (¬3) ورواه البخاري تعليقًا (¬4)، بشرط أن يكون ذلك (مع حضور مشتر أو) حضور (نائبه) أي المشتري (ووعاؤه) أي المشتري (كيَدِهِ) لأنهما لو تنازعا ما فيه كان لربه. ¬
(و) يحصل قبض في (صبرة) بيعت جزافًا بنقل (ومنقول بنقل) كأحجار طواحين، وفي حيوان بتمشيته (و) فيـ (ما يتناول) كدراهم وكتب ونحوها (بتناوله) وفي نحو أرض وبناء وشجر (بتخلية) بائع بينه وبين مشتر بلا حائل، ولو كان بالدار متاع بائع، لكن يعتبر في قبض مشاع ينقل إذن شريكه، فإن أبي نصب حاكم من يقبض، ولو سلمه بائع بلا إذن شريكه فهو غاصب، وقرار الضمان فيه إن تلف على مشتر إن علم بالحال، وإلا فعلى بائع لتغريره المشتري. ويكره زلزلة الكيل؛ لاحتماله الزيادة على الواجب بها، وتصح استنابة من عليه الحق للمستحق، ومتى وجده قابض زائدًا قدرًا لا يتغابن به عادة أعلمه بالزيادة وجوبًا، ولم يجب عليه الرد بلا طلب، وإن قبضه ثقة يقول باذل إنه قدر حقه ولم يحضر كيله أو وزنه ثم اختبره فوجده ناقصًا قبل قوله في قدر نقصه، لأنه منكر، فالقول قوله بيمينه، وإن صدقه قابض في قدره برئ مقبض من عهدته، ولا تقبل دعوى نقصه بعد تصديقه، ولا يتصرف فيه قابض قبل اختباره لفساد القبض، لأن من شرط قبضه بكيل ونحوه، حضور مستحق أو نائبه ولم يوجد. وأجرة كيَّال ووزان وعداد وذراع ونقاد، وتصفية ما يحتاج لتصفية على باذلٍ: بائع وغيره. وأجرة نقل على آخذ، نصًّا (¬1)، وأجرة دلَّال (¬2) على بائع إلا مع شرط. ولا يضمن ناقد أمين حاذق خطأ متبرعًا كان أو بأجرة، فإن لم يكن حاذقًا أو أمينًا ضمن كما لو كان عمدًا. (والإقالة فسخ) لا بيع. يقال: أقالك اللَّه عثرتك؛ أي أزالها (¬3) (تسن ¬
للنادم) من المتعاقدين، لحديث ابن ماجه، عن أبي هريرة يرفعه: "من أقال مسلمًا أقال اللَّه عثرته يوم القيامة" (¬1) وتصح الإقالة قبل قبض مبيع، وفي سلم قبل قبضه، لأنها فسخ، وبعد نداء جمعة. وتصح من مُضارَب وشريك ولو بلا إذن رب مال أو شريك، ولا تصح من وكيل في شراء. ولا خيار فيها ولا شفعة كالرد بالعيب، ولا يحنث بها من حلف أن لا يبيع، ومؤنة رد على بائع لرضاه ببقاء المبيع أمانة بيد مشتر بعد التقايل، فلا يلزمه مؤنة ردٍّ، بخلاف الرد بالعيب لاعتباره مردودًا، ولا تصح مع تلف مثمن، ولا مع موت عاقد، ولا بزيادة على ثمن أو نقصه أو بغير جنسه، وما حصل قبل التقاتل من كسب ونماء منفصل فلمشتر، لحديث: "الخراج بالضمان" (¬2). ¬
فصل في الربا والصرف
فصل في الربا والصرف (الربا) محرم بالإجماع، لقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1)، وحديث أبي هريرة مرفوعًا: "اجتنبوا السبع الموبقات" (¬2) فعده منها، وهو لغة: الزيادة (¬3)، وشرعًا: (نوعان: ربا فضل) في أشياء (وربا نسيئة) في أشياء. (فربما الفضل يحرم في كل مكيل) مطعوم كبر ونحوه، أو لا كأشنان (¬4) (و) في كل (موزون) من نقد أو غيره مطعوم كسكر، أو غيره كقطن (بيع بجنسه متفاضلًا) لحديث عبادة بن الصامت يرفعه: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد" (¬5) رواه الإمام أحمد، ومسلم. (ولو يسيرًا لا يتاتى) كتمرة، لعموم الخبر، (ويصح به) أي: يصح بيعه بجنسه، بشرط كونه (متساويًا، و) يصح (بغيره) أي: بغير جنسه (مطلقًا) متساويًا أو لا (بشرط قبضٍ قبل تفرق) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" (¬6). رواه مسلم. ¬
و (لا) يصح بيع (مكيل بجنسه وزنًا) كرطل تمر برطل تمر (ولا عكسه) كبيع موزون بمثله كيلًا، لحديث "الذهب بالذهب وزنًا بوزن، والفضة بالفضة وزنًا بوزن، والبر بالبر كيلًا بكيل، والشعير بالشعير كيلًا بكيل" (¬1) رواه الأثرم من حديث عبادة، ولأنه لا يعلم العلم بالتساوي مع مخالفة المعيار الشرعي (إلا إذا علم تساويهما في المعيار الشرير) فيصح البيع للعلم بالتماثل، ويصح البيع إذا اختلف الجنس كيلًا ووزنًا وجزافًا، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" (¬2) رواه مسلم وأبو داود. ويصح بيع لحم بمثله وزنًا من جنسه رطبًا ويابسًا إذا نزع عظمه، ويصح بيع لحم بحيوان من غير جنسه، كقطعة من لحم إبل بشاة، لأنه ربوي بيع بغير أصله ولا جنسه، ويصح بيع عسل بمثله إذا صفي كل منهما من شمعه، ويصح بيع فرع من جنس معه غيره لمصلحته كجبن، فإن فيه ملحًا، أو منفردًا كسمن بسمن متماثلًا كيلًا إن كان مائعًا وإلا فوزنًا، ويصح بيع فرع بفرع غيره، كزبد بمخيض ولو متفاضلًا لاختلافهما جنسًا بعد الانفصال، إلا مثل زبد بسمن فلا يصح بيعه به لاستخراجه منه، ولا بيع فرع بأصله كأقط أو زبد أو سمن أو مخيض بلبن لاستخراجه منه، ولا بيع نوع مسته النار كخبز شعير بنوعه الذي لم تمسه كعجين. والجنس (¬3): ما شمل أنواعًا مختلفة بالحقيقة، ¬
والنوع (¬1): ما شمل أشياء مختلفة بالشخص، وقد يكون النوع جنسًا باعتبار ما تحته، والجنس نوعًا باعتبار ما فوقه كالذهب والفضة، والبر والشعير، والتمر والملح، وفروعها أجناس، كالأدقة والأخباز، والأدهان، فدقيق البر جنس، وخبزه جنس، واللحم أجناس، واللبن أجناس باختلاف أصولها، فلحم البقر والجواميس جنس، ولبنها جنس، ولحم الضأن والمعز جنس، ولبنها جنس، وهكذا سائر الحيوانات. فيجوز بيع رطل لحم ضأن، برطلي لحم بقر، والشحم، والألية، والمخ، والقلب، والطحال، والرئة، والكلية، والكبد، والأكارع أجناس، فيجوز بيع رطل شحم برطلي مخ، أو برطلي أبيه لأنهما جنسان. ويصح بيع دقيق ربوي بدقيقه إذا استويا نعومة، ومطبوخه بمطبوخه، وخبزه بخبزه، محلًا بمثل إذا استويا نشافًا أو رطوبة، ويصح بيع عصيره بعصيره، ورَطْبه برَطْبه، ويابسه بيابسه. ولا يصح بيع منزوع نواه مع نواه، بما نزع نواه مع نواه، لزوال التبعية، فصار كمُدِّ عجوة ودرهم، ولا بيع منزوع نواه بما نواه فيه لعدم التساوي، ولا بيع حب بدقيقه أو سويقه، ولا بيع دقيق حب بسويقه، ولا بيع نيئه بمطبوخه، ولا بيع أصله بعصيره، ولا بيع خالصه بمشوبه، أو مشوبه بمشوبه، ولا بيع المحاقلة (¬2)، وهو بيع الحب المشتد في سنبله ¬
بجنسه، ويصح بغير جنسه، ولا بيع المزابنة (¬1)، وهي بيع الرطب على النخل بالتمر، لحديث ابن عمر: "نهي عن المزابنة" (¬2) متفق عليه، إلا في العرايا (¬3) وهي بيعه خرصًا بمثل ما يؤول إليه إذا جف، وصار تمرًا كيلًا فيما دون خمسة أوسق، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "رخص في العرايا بأن تباع بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو خمسة أوسق" (¬4). متفق عليه، فلا يجوز في الخمسة لوقوع الشك فيها، وإنما رخص في ذلك لمحتاج لرطب ولا ثمن معه، لحديث محمود بن لبيد. متفق عليه (¬5)، وإنما يصح ذلك بشرط ¬
الحلول وتقابضهما بمجلس العقد، فالقبض فيما على نخل بتخليته، وفي تمر بكيل أو نقل لما علم كيله، وعلم منه أن الرطب لو كان مجذوذًا لم يجز بيعه بالتمر، للنهي عنه، والرخصة وردت في ذلك ليؤخذ شيئًا فشيئًا لحاجة التَّفَكُّه، وأن المشتري إن لم يكن محتاجًا للرطب، أو كان محتاجًا إليه ومعه نقد لم يصح، ولا تصح في بقية الثمار، ولا زيادة مشتر على القدر المأذون فيه ولو اشتراه من عدد في صفقات. ويصح بيع تراب معدن بغير جنسه، وبيع تراب صاغة بغير جنسه، لعدم اشتراط المماثلة، ولا تضر جهالة المقصود لاستتاره بأصل الخلقة في المعدن، وحمل عليه تراب الصاغة، ولا يصح بجنسه للجهل بالتساوي، ويصح بيع نخل عليه رطب، أو تمر بمثله، أو بتمر أو رطب، لأن الربوي في ذلك غير مقصود بالبيع، وكذا عبد له مال إذا اشتراه بثمن من جنسًا ماله واشترطه إن لم يقصده. ولا يصح بيع ربوي بجنسه ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما، كمد عجوة، ودرهم بمثلهما أو بمدين أو درهمين، وكبيع محلى بفضة أو ذهب، بفضة أو ذهب، وتسمى مسألة مد عجوة (¬1) ودرهم، لأنها مثلت بذلك، ولا يصح ذلك سدًا لذريعة الربا، إلا أن يكون يسيرًا لا يقصد، كخبز فيه ملح بمثله. ويصح قوله: أعطني بنصف هذا الدرهم نصفًا، وبالآخر فلوسًا أو حاجة، وقوله لصائغ: صنع لي خاتمًا وزنه درهمًا (¬2)، وأعطيك مثل زنته، وأعطيك أجرتك درهمًا. ¬
ومرجع كيلِ عرفُ المدينة على عهده -صلى اللَّه عليه وسلم-، ووزنٍ عرفُ مكة كذلك، لحديث عبد الملك بن عمير مرفوعًا: "المكيال مكيال المدينة، والميزان ميزان مكة" (¬1) وما لا عرف له هناك يعتبر عرفه في موضعه أشبه القبض والحرز، وكل مائع مكيل، لحديث: كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع (¬2)، وقيل عليه سائر المائعات. (وربا النسيئة) من النساء بالمد وهو التأخير (¬3) (يحرم فيما) أي في مبيعين (اتفقا في علة ربا فضل كـ) بيع (مكيل بمكيل) مثله (و) بيع (موزون بموزون) مثله (نساءً). وإن اختلف الجنس (إلا أن يكون الثمن) أو المثمن (أحد النقدين) أي الذهب والفضة (فيصح) لأنه لو حرم النَّسَاءُ في ذلك لسد باب المسلم في الموزونات، وقد رخص فيه الشرع. وأصل رأس ماله النقدان، إلا في صرفه بفلوس نافقة، فيشترط الحلول والتقابض نصًّا (¬4)، إلحاقًا لها بالنقد، ومشي في "الإقناع" (¬5) على خلاف ذلك، ويصح (بيع مكيل بموزون وعكسه) كبيع ¬
موزون بمكيل (مطلقًا) حالًّا أو نساء، ويصح فيما لا يدخله ربا فضل، كثياب وحيوان وتبين وغيره، لحديث ابن عمرو أنه أمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يأخذ على قلائصِ (¬1) الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة (¬2). ¬
رواه أحمد وغيره. ولا يصح بيع كالئ بكالئ، وهو بيع دين بدين (¬1)، لنهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك (¬2)، ولا بيع دين لغير من هو عليه مطلقًا، ولا بيعه بمؤجل لمن هو عليه، ولا جعله رأس مال سلم، ولا تصارف المدينين بجنسين في ذمتيهما، لأنه بيع دين بدين. ويصح تصارفهما إن أحضر أحد الدينين، نصًّا (¬3)، أو كان أمانة، لأنه بيع دين بعين. ومن وَكَّل غريمه في بيع سلعته، وأخذ دينه من ثمنها، فباع الوكيل بغير جنس ما عليه، لم يصح أخذه من ثمن السلعة، نصًّا (¬4)، لأنه لم يأذن له في مصارفة نفسه، ولأنه متهم. ومن عليه دينار فبعث إلى غريمه بدينار ناقص وتتمته دراهم لم ¬
[يجز] (¬1) لأنه من مسألة مد عجوة ودرهم. (و) يصح (صرف ذهب بفضة وعكسه) كصرف فضة بذهب، مأخوذ من الصريف، وهو تصويت النقد بالميزان (¬2) (وإذا افترق متصارفان) تفرقًا يبطل خيار مجلس صح فيما قبض و (بطل العقد فيما لم يقبض) لفوات شرطه، ويقوم الاعتياض عن أحد العوضين وسقوطه عن ذمة أحدهما مقام قبضه. ويصح ولا يبطل صرف باشتراط خيار فيه، كسائر الشروط الفاسدة في البيع، وإن ظهر ما صورف به معيبًا، أو مغصوبًا بطل العقد، وإن ظهر بعضه بطل فيه فقط. ولكل من المتصارفين الشراء من الآخر من جنس ما صرف منه بلا مواطأة، لحديث أبي سعيد وأبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- استعمل رجلًا على خيبر. فجاءه بتمر جنيب (¬3) فقال: "أكُلُّ تمر خيبر هكذا؟ " قال: لا واللَّه، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تفعل بع التمر بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبًا" (¬4) متفق عليه، ولم يأمره أن يبيعه من غير من اشترى منه، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ¬
ولو صارف شخصًا على دينار بعشرة دراهم، فأعطاه خمسة عن نصفه، ثم اقترضها منه، ودفعها إليه ثانيًا عن النصف الباقي، صح ذلك، ما لم يكن حيلة، وهي التوسل إلى محرم بما ظاهره الإباحة. والحيل كلها غير جائزة في شيء من أمور الدين، لأنه تعالى إنما حرم المحرمات لمفسدتها وضررها، ولا يزول ذلك مع بقاء معناها (¬1). ومن عليه دينار فقضاه دراهم متفرقة كل نقدة بحسابها منه صح، وإلا فلا. ويجوز الصرف والمعاملة بنقد مغشوش لمن يعرفه. قال أحمد (¬2): إذا كان شيئًا اصطلحوا عليه مثل الفلوس اصطلحوا عليها، فأرجو أن لا يكون بها بأس. ولأن غايته اشتماله على جنسين لا غرر فيهما، ولاستفاضته في الأعصار، فإن لم يعرف الآخر غشه لم يجز لما فيه من التغرير. ويحرم كسر السكة الجائزة بين المسلمين للخبر (¬3)، ولما فيه من التضييق ¬
عليهم، إلا أن يختلف في شيء منها هل هو ردئ أو جيد؟ فيجوز كسره للحاجة. والدراهم الزيوف (¬1) لا تباع ولا تخرج في معاملة ولا صدقة لئلا تختلط بجيدة، وتخرج على من لا يعرفها، نصًّا (¬2)، وقال: لا أقول إنه حرام، قال في "الشرح": فقد صرح بأنه إنما كرهه لما فيه من التغرير بالمسلمين (¬3). والكيمياء (¬4) غِشٌّ، فتحرم؛ لأنها تشبيه المُصَنَّعِ من ذهب أو فضة ¬
تتمة
بالمخلوق (¬1). قال الشيخ تقي الدين: هي باطلة في العقل محرمة بلا نزاع بين العلماء، ثبتت على الروباص (¬2) أو لا. ولو كانت حقًا مباحًا لوجب فيها خمس أو زكاة، ولم يوجب فيها عالم شيئًا. والقول بأن قارون عملها باطل (¬3). تتمة: يتميز ثمن عن مثمن بباء البدلية، فما دخلت عليه الباء فهو الثمن، فدينار بثوب، الثمن الثوب لدخول الباء عليه، ويصح اقتضاء نقد من نقد آخر، كذهب من فضة وعكسه، إن أحضر أحدهما أو كان أمانة أو عارية أو غصبًا، والآخر مستقر في الذمة لا رأس مال سلم بسعر يومه، ولا يشترط حلول ما في الذمة إذا قضاه بسعر يومه. ¬
فصل في بيع الأصول والثمار وما يتعلق بها
فصل في بيع الأصول والثمار وما يتعلق بها والأصول (¬1) جمع أصل، وهو ما يبنى عليه غيره (وإذا باع) شخص (دارًا) أو وهبها أو رهنها أو وقفها أو أقر بها أو وصى بها (شمل البيع) والهبة وما عطف عليهما (أرضها) إن لم تكن موقوفة، وشمل ما فيها من معدن جامد (و) شمل (بناءها) وفناءها إن كان لها فناءً (و) شمل (سقفها وبابًا منصوبًا، وسلَّمًا، ورفًا مسمورين) (و) شمل (خابية (¬2) مدفونة) ورحى منصوبة، وأجرنه (¬3) مبنية، وأساسات حيطان، وما فيها من شجر مغروس، ومن عرش (لا قفلًا ومفتاحًا ودلوًا وبكْرَةً (¬4) ونحوها) ككنز وحجر مدفونين، لأن اللفظ لا يشمله ولا هو من مصلحتها، ولا حجر رحى فوقاني لعدم اتصاله، ولا ما فيها من معدن جار، وماء نبع (أو) باع (أرضًا) أو وهبها ونحو ذلك (شمل) البيع ونحوه (غرسها وبناءها) ولو لم يقل بحقوقها لاتصالهما بها، وكونهما من حقوقها (لا زرعًا) لا يحصد إلا مرَّة كُبُرٍّ وشعير ونحوهما، (و) لا (بذره) أي الزرع (بلا شرط) (¬5) ويبقى لبائع إلى أول وقت أخذه بلا أجرة، ما لم يشترطه مشتر ونحوه، فإن اشترطه فهو له. ¬
وقصب سكر كزرع (¬1)، وقصب فارسي كثمرة (¬2)، وعروقه لمشتر (¬3)، ويصح أن يشترط مشتر زرعًا في أرض مبيعة، ولو قصيلًا (¬4) أو ذا حب، وبذره ولو مستترًا في الأرض (فيصح (¬5) مع جهل ذلك)، لأنه بالشرط يدخل تبعًا للأرض، فهو كأساسات الحيطان (وما يجز أو يلقط مرارًا) كرطبة وقثاء وباذنجان ودُبّاء، أو يتكرر زهره كورد وياسمين (فأصوله لمشتر) ومتهب ونحوه، لأنه يراد للبقاء أشبه الشجر (وجزة ولقطة ظاهرتان) من رطبة وقثاء ونحوه (لبائع) ونحوه، لأنه يجنى مع بقاء أصله أشبه الشجر المؤبر، وعليه قطعها في الحال، لأنه ليس له حد ينتهي إليه، وربما ظهر غير ما كان ظاهرًا فيعسر التمييز (ما لم يشترطه مشتر)، فإن شرطه كان له، لحديث: "المسلمون عند شروطهم" (¬6). ويثبت الخيار لمشتري أرض ظن دخول زرع، أو دخول ثمرة على شجر في البيع، والقول قوله بيمينه في جهل ذلك إن جهله مثله، ولا تدخل مزارع قرية بيعت بلا نص أو قرينة. (ومن باع) أو وهب أو رهن (نخلًا تشقق طلعُه) ولو لم يؤبر (¬7) ¬
(فالثمر له مُبقَّى إلى جُداد) ما لم تجر عادة بأخذه بسرًا، أو يكن بسره خيرًا من رطبه، أو (ما لم يشترطه مشتر) لحديث: "من ابتاع نخلًا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع" (¬1) متفق عليه، بخلاف وقف ووصية، فإن الثمرة تدخل فيهما، نصًّا (¬2)، أبرت أو لم تؤبر (وكذا) أي كحكم نخل تشقق طلعه (حكم شجر فيه ثمر باد) أي ظاهر لا قشر عليه ولا نَوْر (¬3) له كتين وتوت وجميز (¬4) (أو ظهر من نوره كمشمش) وتفاح وسفرجل ولوز وخوخ وإجاص (¬5) وعنب، وكذا ما بدا في قشره وبقي فيه إلى أكله كرمان، وما بدا في قشرين كجوز (أو خرج من أكمامه) جمع كِمٍّ، بكسر الكاف وهو الغلاف (¬6) (كورد وقطن) وياسمين وبنفسج، لأن ذلك كله بمثابة تشقق الطلع (وما قبل ذلك) أي تشقق الطَّلْع وخروج الثمر من النور والأكمام وبدو ما يبدو (والوَرَق مطلقًا لمشتر). ويصح شرط بائع ما لمشتر أو جزءًا منه معلومًا، وإن ظهر أو تشقق بعض ثمرة ولو من نوع فلبائع، وغيره لمشتر، إلا إذا ظهر أو تشقق بعض ¬
ثمرة في شجرة فالكل لبائع ونحوه، ولكلٍّ السقي لمصلحة عرفًا، ولو تضرر صاحبه لدخولهما في العقد على ذلك. (ولا يصح بيع ثمر قبل بدو صلاحه) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع (¬1). متفق عليه، والنهي يقتضي الفساد، (ولا) يصح بيع (زرع قبل اشتداد حبه) لحديث ابن عمر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن بيع النخل حتى تزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري (¬2). رواه مسلم (لغير مالك أصل) أي: أصل شجر (أو) لغير مالك (أرضه) أي الزرع، فإن باع الثمرة قبل بدو صلاحها لمالك أصلها، أو باع الزرع قبل اشتداده لمالك أرضه، صح البيع، وإن باعه على غيرهما لم يصح (إلا بشرط قطع) في الحال، لأن المنع لخوف التلف وحدوث العاهة قبل الأخذ، بدليل قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث أنس: "أرأيت إذا منع اللَّه الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه" (¬3) رواه البخاري، وهذا مأمون فيما يقطع في الحال (إن كان منتفعًا به) فإن لم ينتفع به كثمرة الجوز وزرع الترمس (¬4) لم يصح (و) كان (ليس مشاعًا) فإن كان مشاعًا بأن باعه النصف ونحوه بشرط القطع لم يصح، لأنه لا يمكنه قطعه إلا بقطع ملك غيره، فلم يصح اشتراطه، (وكذا بقول ورطبة) فلا يصح بيعها مفردة لغير مالك الأرض إلا بشرط القطع في الحال، لأن ما في الأرض مستور مغيب وما يحدث منه معدوم فلم يجز بيعه كالذي يحدث في الثمرة، فإن شرط قطعه ¬
صح، لأن الظاهر منه معلوم لا جهالة فيه ولا غرر. (ولا) يصح بيع (قثَّاء ونحوه) كباذنجان (إلا لَقْطَةً لَقْطَةً) موجودة، لأن ما لم يخلق لا يجوز بيعه (أو) إلا (مع أصله) فيجوز، لأنه أصل تكرر ثمرته أشبه الشجر، (وإن ترك ما شُرط قطعه) حيث لا يصح بدونه (بطل البيع بزيادة) لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها. ووسائل الحرام حرام كبيع العينة (غير) زيادة (يسيرة) عرفًا، فيعفى عنها لعسر التحرز منه (إلا الخشب) إذا اشتراه بشرط قطعه في الحال فأخر قطعه حتى زاد (فلا) يبطل البيع (ويشتركان) أي البائع والمشتري (فيها) أي في زيادة الخشب، نصًّا (¬1). (وحصاد) لزرع اشتراه (ولَقَاطٌ) للَقْطةٍ اشتراها (وجَدادٌ) لثمرة اشتراها (على مشتر) لأن ذلك من مؤنة نقل ما اشتراه، بخلاف أجرة الكيَّال ونحوه، فإنها على البائع لأنها من مؤنة التسليم، وإن شرط ذلك على البائع صح، كشرط حمل الحطب أو تكسيره (وعلى بائع سقي) ما بيع من ثمرة بدا صلاحها وحب اشتد، إن احتيج إليه، لأنه يجب عليه تسليمه كاملًا، ولا يحصل كاملًا إلا به، بخلاف ما إذا باع الأصل، وعليه ثمرة للبائع، فإنه لا يلزم المشتري سقيُها، لأن البائع لم يملكها من جهته، وإنما بقي ملكه عليها، ويجبر البائع على السقي إن أباه (ولو تضرر أصل) بالسقي، لأنه دخل على ذلك. (وما تَلِف) من ثمر بيع بعد بدو صلاحه قبل أوان أخذه، أو قبل بدو صلاحه بشرط القطع قبل التمكن منه (سوى يسير) منه لا ينضبط لقلته (بآفة) أي جائحة (¬2) (سماوية) أي لا صنع لآدمي فيها، كجراد وحر وبرد ¬
وريح وعطش، ولو كان تلافه بعد قبض بتخلية (فـ) ضمانه (على بائع) لحديث جابر مرفوعًا: "أمر بوضع الجوائح". وحديث: "إن بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق" (¬1) رواهما مسلم. ويقبل قول بائع في قدر تألف، لأنه غارم (ما لم يُبَعْ مع أصل) فإن بيع معه فمن ضمان مشتر (أو يؤخر) مشتر (أخذًا عن عادته) فإن أخره فمن ضمانه، لتلفه بتقصيره (وصلاح بعض ثمرة شجرة، صلاحٌ لجميع نوعها الذي في البستان) لأن اعتبار الصلاح في الجميع يشق، وكالشجرة الواحدة، وكذا اشتداد بعض حب فيصح بيع الكل تبعًا لا إفرادًا، وعلم منه أن صلاح نوع ليس صلاحًا لغيره (فصلاح ثمر نخل أن يحمر أو يصفر، وصلاح (عنب أن يتموه بالماء الحلو) ويطيب أكله، لحديث: "نهى عن بيع الثمر حتى يطيب" (¬2). متفق عليه. (و) صلاح (بقية ثمر بُدُوِّ نضج وطيب أكل) وصلاح حب أن يشتد أو يبيض (ويشمل بيع دابة) كفرس (عذارها) أي لجامها (¬3) (ومِقودها) بكسر ¬
الميم (ونعلها) (¬1) لتبعيته لها عرفًا (و) يشمل بيع (قنٍّ) ذكر أو أنثى (لباسه) المعتاد الذي (لغير جمال) لأنه مما تتعلق به حاجة المبيع أو مصلحته، وجرت العادة ببيعه معه، وأما الذي للجمال من لباس وحلي فهو لبائع، لأنه زيادة على العادة، ولا تَعَلَّقُ به حاجة المبيع، وإنما يلبسه إياه لينفقه به، ولا يشمل البيع مالًا معه، أو بعض ذلك، إلا بشرط، لحديث ابن عمر مرفوعًا: "من باع عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع" (¬2) رواه مسلم. ¬
فصل في السلم
فصل في السلم والسلم: لغة أهل الحجاز، والسلف: لغة أهل العراق. فهما لُغةً شيءٌ واحد. سمي سلمًا؛ لتسليم رأس ماله في المجلس، وسلفًا؛ لتقديمه، ويقال السلف للقرض (¬1). (ويصح السلم) بلفظه، وبلفظ سلف (بسبعة شروط): أحدها: (أن يكون فيما يمكن ضبط صفاته) لأن ما لا تنضبط صفاته، يختلف كثيرًا، فيفضي إلى المنازعة والمشاقة، وعدمها مطلوب شرعًا، (كمكيل) من حب وتمر، ودهن، ولبن، ونحوها (و) كـ (نحوه) أي: المكيل من موزون كذهب وفضة، وحديد ونحاس، ورصاص، وقطن، وصوف، وكَتَّان وإبريسم، ونحو ذلك كشحم ولحم نيئًا ولو مع عظمه، لأنه كالنوى في التمر، إنْ عُيَّن محل يقطع منه كظهر وفخذ، وكمذروع من ثياب، ومعدود من حيوان، ولو آدميًّا، كعبد صفته كذا. ولا يصح في أمة وولدها أو أخيها ونحوه؛ لندرة جمعهما في الصفة، ولا في حيوان حامل لجهل الولد وعدم تحققه، وكذا شاة لبون (¬2). ولا يصح السلم في فواكه معدودة، كرمان وخوخ ونحوهما، ولو سلم فيها وزنًا، لاختلافها صغرًا وكبرًا، بخلاف نحو عنب ورطب، ولا في بقول ولا في جلود لاختلافهما ولا يمكن ذرعها، ولا في رؤوس وأكارع، لأن أكثرها العظام، ولا في بيض ونحوه، ولا في أواني مختلفة أوساطًا ¬
ورؤوسًا كقماقم (¬1)، ولا فيما لا ينضبط كجوهر ولؤلؤ ومرجان وعقيق ونحوها، لاختلافها اختلافًا كثيًرا، ولا في مغشوش أثمان، ولا فيما يجمع أخلاطًا غير متميزة كمعاجين مباحة، ولا في ند (¬2) وغالية لعدم (¬3) ضبطها بالصفة. ويصح فيما فيه شيء لمصلحته غير مقصود، كجبن فيه إنفحة (¬4)، وكخبز أو عجين فيه ماء وملح، ويصح في أثمان، ويكون رأس المال غيرها، ويصح في فلوس ولو نافقة وزنًا وعددًا، أو يكون رأس مالها عرضًا، لأنها ملحقة بالنقد كما تقدم، ويصح في عرض بعرض، ولا يصح السلم إن جرى بين مسلم فيه ورأس مال ربا. (و) الثاني: (ذكر جنس ونوع، وكلِّ وصفٍ (¬5) يختلف به الثمن غالبًا) ففي نحو بُرٍّ يقال صعيدي أو بحيري (¬6) بمصر، والشام حوراني أو شمالي، وبالبصرة بحري أو شمالي، ويذكر قدر حب كصغار أو كبار، متطاول الحب ¬
أو مدوره، وذكر لونه كأحمر وأبيض، إن اختلف ثمنه بذلك (و) ذكر (حداثة وقدم) وجَودة ورداءة، وذكر سن حيوان، وفي صيْد (¬1) أحبولةٍ أو كلبٍ أو صقرٍ أو فَخٍّ أو شبكة، ويذكر في تمر النوع والجودة والكبر أو ضدهما، والبلد، ويذكر في رقيق نوعًا، كرومي أوحبشي، وطول بشبر، قال أحمد: يقول خماسي سداسي أعجمي أو فصيح (¬2). وذكر أو أنثى، وكحلاء أو دعجاء أو بكارة أو ثيوبة وسمنًا أو هزالًا، وكل ما يختلف به الثمن، ولا يصح شرطه أجود أو أردأ. وله أخذ دون ما وصف من جنسه، لأن الحق له وقد رضي بدونه، وله أخذ غير نوعه كمعز عن ضأن، وبقر عن جواميس، ويلزمه أخذ أجود منه من نوعه، لأنه أتاه بما يتناوله العقد وزاده نفعًا، وعلم منه أنه لا يلزمه الأخذ من غير نوعه ولو أجود كضأن عن معز، فإن رضيا جاز. (و) الثالث: (ذكر قدره) كيلًا في مكيل، ووزنًا في موزون، وذرعًا في مذروع، لحديث: "من أسلم في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " (¬3)، ولأنه عوض في الذمة، فاشترط معرفة قدره كالثمن. (ولا يصح) السلم (في مكيل وزنًا وعكسُه) فلا يصح في موزون كيلًا، نصًّا (¬4)، لأنه مبيع يشترط معرفة قدره فلم يجز بغير ما هو مقدر له في الأصل، ولا يصح شرط صنجة (¬5) أو مكيال أو ذراع لا عرف له، لأنه لو تلف فات العلم به، ولأنه غرر لا يحتاج إليه العقد، وإن عين فردًا مما له عرف صح العقد دون التعيين. ¬
(و) الرابع: (ذكر أجل معلوم) نصًّا (¬1)، للخبر (¬2). له وقع في الثمن عادة، لأن اعتبار الأجل لتحقق الرفق، ولا يحصل بمدة لا وقع لها في الثمن (كشهر) ونحوه مما له وقع في الثمن، قال في "الكافي": كنصفه -أي الشهر- (¬3) ويصح أن يسلم في جنسين إلى أجل واحد إن بيّن ثمن كل جنس، ويصح في جنس إلى أجلين إن بيّن قسط كل أجل وثمنه. ويصح أن يسلم في شيء يأخذ منه كل يوم جزءًا معلومًا مطلقًا، سواء بيّن ثمن كل قسط أو لا، لدعاء الحاجة إليه، ومتى قبض البعض وتعذر الباقي رجع بقسطه من الثمن، ولا يجعل للمقبوض فضلًا على الباقي، لأنه مبيع واحد متماثل الأجزاء، فقُسِّط الثمن على أجزائه بالسوية، وإن قالا: محله رجب أو إليه أو فيه أو شعبان ونحوه، صح وحلَّ بأوله، وإن قالا: إلى أوله أو إلى آخره يحل بأول جزء منهما. ويقبل قول مدين في قدر الأجل وفي عدم مضيه بيمينه، لأن العقد اقتضى الأجل، والأصل بقاؤه، ويقبل قوله -أيضًا- في مكان تسليم، نصًّا (¬4)، لأن الأصل براءة ذمته من مؤنة نقله إلى موضع ادعى المسلِمُ شرط التسليم فيه. ومن أتي بما لَه من دَين سلم أو غيره قبل محله ولا ضرر عليه في قبضه لزمه قبضه، نصًّا (¬5)، لحصول غرضه، فإن كان فيه ضرر كالأطعمة والحبوب، والحيوان، أو الزمن مخوفًا (¬6)، لم يلزمه قبضه قبل محله، وإن أحضره في محله أو بعده لزمه قبضه مطلقًا، كمبيع معين، فإن أبي قبضه، ¬
قال له حاكم: إما أن تقبض أو تبرئ، فإن أباهما قبضه الحاكم له، لقيامه مقام الممتنع. ومن أراد قضاء دين عن غيره فأبى ربه، أو أعسر بنفقة زوجته فبذلها أجنبي فأبت، لم يجبرا لما فيه من الِمنَّة عليهما، وملكت الزوجة الفسخ لإعسار زوجها، كما لو لم يبذلها أحد، فإن ملّكه لمدين وزوج وقبضاه، ودفعاه لهما، أجبرا على قبوله. وتسلم الحبوب نقية من تبن وعُقَد ونحوها وتراب إلا يسيرًا، لا يؤثر في كيل، والتمر جافًا. (و) الخامس: (أن يوجد غالبًا في محلِّه) أي عند حلوله، لأنه وقت وجوب تسليمه، وإن عدم وقت عقد كسلم في رطب في الشتاء، بخلاف عكسه، لأنه لا يمكن تسليمه غالبًا عند وجوبه أشبه بيع الآبق. ويصح إن عيَّن ناحية تبعد فيها آفة، كتمر البصرة، لا إن عيَّن قرية صغيرة أو بستانًا، لحديث ابن ماجه وغيره: أنه أسلف إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى، فقال اليهودي: من تمر حائط بني فلان، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى" (¬1)، ¬
ولأنه لا يؤمن انقطاعه، فإن سلم إلى محل يوجد فيه عامًا فانقطع، وتحقق بقاؤه، لزم تحصيله ولو شق، كبقية الديون. (فإن تعذر) مسلم فيه (أو) تعذر (بعضُه) بأن لم يوجد، خيّر بين (صبر) إلى وجوده فيطالب به، وبين فسخ فيما تعذر أو في الكل (أو أخذ رأس ماله) إن وجد أو عوضه إن عدم لتعذر رده. (و) الشرط السادس: (قبض الثمن) أي قبض رأس مال السلم (قبل التفرق) من مجلس عقده تفرقًا يبطل خيار مجلس، لئلا يصير بيع دين بدين، وكقبض في الحكم ما بيده من أمانة أو غصب فيصح جعله رأس مال سلم في ذمة من هو تحت يده، ولا يصح جعل ما في ذمته رأس مال سلم، لأن المسلم فيه دين، فإذا كان رأس ماله دينًا، كان بيع دين بدين، بخلاف نحو أمانة وغصب. (و) الشرط السابع: (أن يُسلم في الذمة فلا يصح السلم في عين) حاضرة، لأنه يمكن بيعها في الحال، فلا حاجة إلى السلم فيه (ولا) في (ثمرة ¬
شجرة معينة) ولا يشترط في السلم ذكر مكان الوفاء إن لم يعقد ببرية أو سفينة ونحوها للجهالة، فيشترط تعيينه بالقول (ويجب الوفاءُ موضعَ العقد) للسلم إذا كان محل إقامة (إن لم يشرط في غيره) فإن شرط في غيره صح وتعين. (ولا يصح بيع مسلم فيه قبل قبضه) ولو لمن هو عليه (ولا) تصح (الحوالة به ولا) الحوالة (عليه، ولا أخذ رهن وكفيل به) رويت كراهته عن علي (¬1) وابن عباس (¬2) وابن عمر (¬3)، (ولا) يصح (أخذ كبره) عوضًا (عنه) أي: المسلم فيه. وتصح هبة دين سلم وغيره لمدين فقط. ويصح بيع دين مستقر من ثمن وقرض ومهر بعد دخول أو نحوه مما يقرره، وأجرة استوفى نفعها، وأرش جناية وقيمة متلف، وجُعل بعد عمل لمدين فقط بشرط قبض عوضه قبل تفرق؛ لخبر ابن عمر (¬4). إن بيع بما لا يباع به نسيئة. ومن استحق على غريمه مثل ما له عليه من دين جنسًا وقدرًا وصفة حالين أو مؤجلين أجلًا واحدًا، تساقطا إن استويا، أو سقط من الأكثر بقدر الأقل إن تفاوتا، بدون تراض، لأنه لا فائدة في أخذ الدين من أحدهما ثم ¬
رده عليه، إلا إذا كانا أو أحدهما رأس مال سلم، ولو تراضيا فلا يصح، لأنه تصرف في دين سلم قبل قبضه، وإلا إذا تعلق بأحدهما حق كبيع رهن لتوفية دَينه من مدين غير المرتهن. ومن عليها دَين من جنس واجب نفقتها لم يحتسب به مع عسرتها، لأن قضاء الدين مما فضل، ومتى نوى مدين وفاء بدفع برئ وإلا فمتبرع، لحديث: "وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬1)، وما ذكروه في الأصول: أن رد الأمانة وقضاء الدين واجب لا يتوقف على النية، أي نية التقرب (¬2). وتكفي نية حاكم وفاه قهرًا من مال مَدين لامتناعه أو غيبته لقيامه مقامه، ومن عليه دَين لا يعلم به ربه، وجب عليه إعلامه. ¬
فصل في القرض
فصل في القرض بفتح القاف، وحكي كسرها مصدر قرض الشيء يقرضه -بكسر الراء- إذا قطعه، ومنه المقراض والقرض اسم مصدر بمعنى الاقتراض (¬1). وشرعًا: دفع مال إرفاقًا لمن ينتفع به ويرد بدله (¬2)، وهو من المرافق المندوب إليها للمقرض، لحديث ابن مسعود يرفعه "ما من مسلم يقرض مسلمًا قرضًا مرتين إلا كان كصدقته مرة" (¬3). رواه ابن ماحه، ولأن فيه تفريجًا وقضاء لحاجة أخيه المسلم أشبه الصدقة عليه. وإن قال معط: ملكتكه. ولا قرينة على رد بدله؛ فهبة، وإن اختلفا في أنه هبة أو قرض ولا قرينة فقول آخذٍ بيمينه، ولا يجب على مقرض ولا يكره لمقترض. نصًّا (¬4)، لكن لا يقترض إلا ما يقدر أن يوفيه، إلا اليسير الذي لا يتعذر مثله، وله أخذ جُعل على اقتراضه بجاهه لا على كفالته، وشرط علم قدره ووصافه، وكون مقرض يصح تبرعه (وكلُّ ما صح بيعه) من مكيل وموزون وغيره (صح قرضه إلا بني ادم) لأنه لم ينقل قرضهم، ولا هو من المرافق. ويتم القرض بقبول ويملك، فلا يملك مقرض استرجاعه إلا إن حجر على مقترض لفلس، فيملك الرجوع فيه بشرطه؛ لحديث: "من أدرك ¬
متاعه بعينه. . " (¬1) ويأتي (¬2)، وله طلب بدله من مقترض في الحال. وإن شرط مقرض رده بعينه لم يصح الشرط، لأنه ينافي مقتضى العقد، وهو التوسع بالتصرف، ورده بعينه يمنع ذلك، ويجب على مقرض قبول مِثليٍّ (¬3) رد بعينه وفاء، بخلاف مُتَقوَّم (¬4)، ما لم يتعيب مثلي رد بعينه فلا يلزمه قبوله (ويجب) على مقترض (رد مثل فلوس) اقترضها، ولم تحرم المعاملة بها، غلت أو رخصت؛ لأنها مثلية. (و) يجب رد مثل (مكيل وموزون) لا صناعة فيه مباحة يصح السلم فيه، لأنه يضمن في الغصب والإتلاف بمثله، فكذا هنا (فإن فُقد) المثل (فقيمته يوم فقد) لأنه يوم ثبوتها في الذمة (و) يجب (قيمة غيرها) أي المثليات لأنه لا مثل له، فضمن بقيمته كما في الإتلاف والغصب، وإنما تعتبر القيمة (يوم قبضه) لاختلاف القيمة في الزمن اليسير بكثرة الراغب وقلته. ويجوز قرض ماء كيلًا كسائر المائعات، ويجوز قرضه لسقي مقدرًا بأنبوبة أو نحوها مما يتخذ من فخار ورصاص ونحوه على هيئتها، ويجوز ¬
قرض خبز وخمير عددًا ورده عددًا، بلا قصد زيادة، لحديث عائشة قالت: قلت: يا رسول اللَّه، الجيران يستقرضون الخبز والخمير، ويردون زيادة ونقصًا؟ فقال: "لا بأس، إنما ذلك من مرافق الناس، لا يراد به الفضل" (¬1). رواه أبو بكر (¬2) في "الشافي"، ولمشقة اعتباره بالوزن مع دعاء الحاجة إليه، ويثبت البدل حالًّا ولو مع تأجيله، لأنه وعد لا يلزم الوفاء به، وأيضًا شرط الأجل زيادة بعد استقرار العقد فلا يلزم، وكذا كل دين حال أو مؤجل حل، فلا يصح تأجيله لما تقدم. ويجوز شرط رهن فيه، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- استقرض من يهودي شعيرًا ورهنه درعه (¬3). متفق عليه، ويجوز شرط ضمين أيضًا (ويحرم كل شرط يجر نفعًا) كشرطه أن يسكنه داره، أو يقضيه خيرًا منه، أو يقضيه ببلد آخر ولحمله مؤنة، لأنه عقد إرفاق وقربة، فشرط النفع فيه يخرجه عن موضوعه، فإن لم يكن حمله مؤنة جاز، لأنه مصلحة لهما من غير ضرر. ولا يفسد القرض بفساد الشرط (وإن وفَّاه أجود) مما أخذ منه كصحاح عن مكسرة، أو أجود نقدًا، أو سكة مما اقترضه أو أرجح يسيرًا في ¬
قضاء ذهب أو فضة (أو أهدى إليه هدية بعد وفاء بلا شرط فلا بأس) لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- استلف بَكْرًا فرد خيرًا منه، وقال: "خيركم أحسنكم قضاء" (¬1) متفق عليه، من حديث أبي رافع. وإن فعل مقترض ذلك قبل الوفاء ولم ينو مقرض احتسابه من دينه، أو لم ينو مكافأته عليه لم يجز، إلا إن جرت عادة به بينهما قبل قرض، لحديث أنس مرفوعًا: "إذا أقرض أحدكم فأهدي إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك" (¬2). رواه ابن ماجه، وفي إسناده من تُكلِّم فيه. وكذا حكم كل غريم، فإن استضافه مقترض حسب له ما أكل، ومن طولب ببدل قى ض أو غصب ببلد آخر لزمه أداء البدل إلا ما لحمله مؤنة، كحديد ونحوه، وقيمته ببلد القرض أو الغصب أنقص فلا يلزمه إلا قيمته بها، لأنه لا يلزمه حمله إلى بلد الطلب فيصير كالمتعذر، فإن كانت قيمته ببلد القرض أو الغصب مساوية لبلد الطلب أو أكثر لزمه دفع المثل ببلد الطلب لما سبق. وعلم منه أنه إن طولب بعين الغصب بغير بلده لم يلزمه، وكذا لو طولب بأمانة أو عارية ونحوها بغير بلدها، لأنه لا يلزمه حملها إليه، ولو بذله مقرض أو غاصب بغير بلد قرض أو غصب ولا مؤنة حمله، كأثمان؛ لزم قبوله، مع أمن البلد والطريق؛ لعدم الضرر عليه. ومن اقترض من رجل دراهم وابتاع منه بها شيئًا، فخرجت زيوفًا، فالبيع جائز، ولا يرجع عليه بشيء، نصًّا (¬3)، لأنها دراهمه، فعيبها عليه، ¬
وله على المقترض بدل ما أقرضه له بصفته زيوفًا، وحمله في "المغني" (¬1) على ما إذا باعه السلعة بها وهو يعلم عيبها، فأما إن باعه في ذمته ثم قبضها غير عالم بها فينبغي أن يجب له دراهم لا عيب فيها، ويرد عليه هذه، ثم لمقترض ردها عن قرضه، ويبقى الثمن في ذمته. ¬
فصل في الرهن
فصل في الرهن وهو لغة: الثبوت والدوام (¬1)، ومنه {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (¬2)، وشرعًا: توثقة دين، غير سلم ودَين كتابة، ولو في المآل، كعين مضمونة بعين يمكن أخذه أو بعضه منها إن كانت من جنس الدَّين، أو من ثمنها إن لم تكن من جنسه (¬3). وأجمعوا على جوازه (¬4)، لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬5)، وحديث عائشة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- اشترى من يهودي طعامًا ورهنه درعه (¬6). متفق عليه. ويجوز حضرًا وسفرًا، لأنه روي أن ذلك كان بالمدينة (¬7)، وذكر السفر في الآية خرج مخرج الغالب، ولهذا لم يشترط عدم الكاتب. ويصح زيادة رهن لا دَينه (وكل ما جاز بيعه) من الأعيان (جاز رهنه) إلا المصحف، فلا ¬
يصح رهنه ولو لمسلم، لأنه وسيلة إلى بيعه الحرام. (وكذا) يجوز رهن (ثمر وزوع لم يبدُ صلاحهما) بلا شرط قطع، لأن النهي عن بيعها لعدم أمن العاهة، وبتقدير تلفها لا يفوت حق المرتهن من الدَّين لتعلقه بذمة الراهن. (و) كذا (قِنٌّ) ذكرًا أو أنثى فيصح رهنه (دون ولده ونحوه) كوالده وأخيه، لأن تحريم بيعه وحده للتفريق بين ذوي الرحم المحرم، وهو مفقود هنا، لأنه إذا استحق بيع الرهن بيعا معًا، دفعًا لتلك المفسدة. (ويلزم في حق راهن بقبض) لقوله تعالى: {فَرِهَن مَقْبُوضَةٌ} (¬1) وقبض رهن كقبض مبيع على ما سبق، ولراهن الرجوع فيه قبل قبضه ولو أذن فيه، لعدم لزوم الرهن إذن، وله التصرف فيه بما شاء، فإن تصرف فيه بما ينقل الملك أو رهنه ثانيًا بطل الرهن الأول، سواء أقبض الثاني أو لا، لخروجه عن إمكان استيفاء الدَّين من ثمنه، وإن دبره أو كاتبه أو أجره أو زوج الأمة لم يبطل، لأنه لا يمنع ابتداء الرهن، فلا يقطع استدامته، كاستخدامه. وإن رهنه ما بيده أمانة أو غصبًا، لزم وصار أمانة، لا يضمنه مرتهن إلا بتعد أو تفريط، واستدامه قبض رهن شرط للزومه، فيزيله أخذ راهن بإذن مرتهن، ولو أخذه إجارة أو عارية أو أمانة لزوال الاستدامة التي هي شرط اللزوم، وإن أجره أو أعاره لمرتهن أو لغيره بإذن مرتهن فلزومه باق (وتصرف كل منهما فيه) أي في الرهن (بغير إذن الآخر باطل إلا عتق راهن) فينفذ، ولو بلا إذن مرتهن، موسرًا كان الراهن أو معسرًا، نصًّا (¬2)، لأنه إعتاق من مالك تام الملك، فنفذ؛ كعتق المؤجر، بخلاف غير العتق، ولأنه مبني على التغليب والسراية. ¬
ويحرم عتق راهن لرهن بلا إذن مرتهن، لإبطاله حقه من عين الرهن، (وتؤخذ قيمته) أي الرهن المعتق (منه) أي الراهن (رهنًا) مكانه إن كان موسرًا أو أيسر (وهو) أي الرهن (أمانة في يد مرتهن) ولو قبل عقد، كبعد وفاء دَين، فلا يضمنه إلا بتعد أو تفريط كسائر الأمانات. (وإن رهن) ما يصح رهنه (عند اثنين) بدَين لهما (فوفى) راهن (أحدهما) دينه، انفك نصيبه من الرهن، لأنه عقد واحد مع اثنين بمنزلة عقدين، أشبه ما لو رهن كل واحد النصف مفردًا، فإن كان الرهن لا تنقصه القسمة كمكيل فلراهن مقاسمة من لم يوفه، وأخذ نصيب من وفاه من الرهن، وإلا لم تجب قسمته لضرر المرتهن، ويبقى بيده نصفه رهن (¬1) ونصفه أمانة (أو رهناه) أي رهن اثنان واحدًا شيئًا (فاستوفى من أحدهما) ما عليه (انفك) الرهن (في نصيبه) أي الموقي لما عليه، لما تقدم. (وإذا حلَّ الدَّين) الذي به الرهن (وامتنع) راهن (من وفائه فإن كان) قد (أذن لمرتهن في بيعه) إذا حل الدين (باعه) واستوفى دينه من ثمنه؛ لأنه وكيل ربِّه (وإلا) يكن أذن في بيعه، أو كان أذن ثم رجع لم يبع و (أُجبر) أي أجبره حاكم (على الوفاء) من غير رهن، لأنه قد يكون له غرض فيه، والمقصود الوفاء، (أو) أجبره على (بيع الرهن) ليوفي من ثمنه إن امتنع عن الوفاء من غيره (فإن أبي) من الوفاء ومن البيع (حُبس أو عُزر) أي حبسه حاكم أو عزره حتى يفعل ما أمر به (فإن أصر) على الامتناع من كل منهما (باعه) أي الرهن (حاكم) نصًّا (¬2)، بنفسه أو أمينه (ووفى دينه) لقيامه مقام الممتنع (وغائب كممتنع) فيبيعه الحاكم أو أمينه، ولا يبيعه مرتهن إلا بإذن ربه أو الحاكم. (وإن شرط) راهن (أن لا يباع) الرهن (إذا حل الدَّين، أو) شرط ¬
مرتهن أنه (إن جاءه بحقه في وقت كذا، وإلا فالرهن له بالدين، لم يصح الشرط) لمنافاته مقتضى العقد، والرهن صحيح؛ لحديث: "لا يغلق الرهن" (¬1) رواه الأثرم عن [معاوية بن] (¬2) عبد اللَّه بن جعفر. وإن اختلفا في رد رهن أو في عينه أو قدره أو في دين به أو في قبضه، وليس هو بيد مرتهن، فقول راهن بيمينه، لأن الأصل عدمه، وإن قال راهن: رهنتك ما بيدك بألف فقال: بعتنيه بها، أو قال: بعتكه. قال: رهنتنيه بها، حلف كل على نفي ما ادعى عليه، وأخذ راهن رهنه، وبقي الألف بلا رهن. (ولمرتهن أن يركب ما يُركب) من حيوان مرهون بقدر نافقته (ويحلب ¬
ما يُحلب) منه (بقدر نفقته) متحريًا للعدل؛ لحديث البخاري وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا: "الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة" (¬1) (بلا إذن) راهن ولو كان حاضرًا، لأنه مأذون فيه شرعًا، ولا ينهك المركوب والمحلوب، بالركوب والحلب نصًّا (¬2)، لأنه إضرار به. (وإن أنفق) مرتهن (عليه) أي على الرهن (بلا إذن راهن مع إمكان) استئذانـ (ــه لم يرجع) عليه بشيء، لأنه متبرع حكمًا، فلم يرجع بعوضه، كالصدقة على مسكين، ولتفريطه بعدم الاستئذان (وإلا) أي وإلا يمكن استئذانه لغيبته أو استتاره (رجع) على راهن (بالأقل مما أنفقه) على رهن أ (ونفقة مثله إن نواه) ولو لم يستأذن حاكمًا في الإنفاق، أو لم يشهد أنه ينفق ليرجع على ربه (و) حيوان (معار ومؤجر ومودع) ومشترك بيد أحدهما بإذن الآخر إذا أنفق عليه مستعير، ومستأجر ووديع وشريك (كرهن) فيما سبق تفصيله. وإن مات قن فكفَّنه فكذلك (ولو خرب) رهن كدار انهدمت (فنعمره) أي الرهن مرتهن بلا إذن راهن (رجع) مُعمر (بآلته فقط) لأنها ملكه، بخلاف نفقة الحيوان لحرمته، وعدم بقائه بدونها. وإن جنى الرهن تَعَلَّق الأرشُ برقبته، فإن استغرقه خيّر سيده بين فدائه بالأقل من الأرش أو قيمته ويبقى الرهن بحاله، وبين بيعه في الجناية، أو تسليمه لوليها، فيملكه ويبطل الرهن فيهما، لاستقرار كونه عوضًا عنها، وإلا يستغرقه أرشٌ بيع منه بقدره، أي قدر أرش الجناية، إن لم يفده سيده، وباقيه رهن، فإن تعذر بيع بعضه بيع الكل، للضرورة، وباقي ثمنه رهن. ¬
وإن جني عليه فالخصم سيده، فإن غاب فالمرتهن، لتعلق حقه بموجب الجناية، ولسيد أن يعفو على مال، وأن يقتص إن أذن مرتهن، أو أعطاه ما يكون رهنًا، فإن اقتص بدونهما في نفس أو دونها، أو عفى على مال فعليه قيمة الأقل من الجاني والمجني عليه، يجعل رهنًا مكانه. وإن وطئ مرتهن أمة مرهونة ولا شبهة له، حُدَّ، وَرَقَّ ولده، ولزمه المهر، وإن أذن راهن فلا مهر كالحرة المطاوعة، وكذا لا حد إن ادعى جهل تحريمه، ومثله يجهله، لكونه حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية، وولده حر؛ لأنه من وطء شبهة.
فصل في الضمان
فصل في الضمان وهو جائز بالإجماع في الجملة (¬1) لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬2)، قال ابن عباس: الزعيم: الكفيل (¬3). وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الزعيم غارم" (¬4). رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وهو مشتق من الضم، أو من التضمن، لأن ذمة الضامن تتضمن الحق (¬5). وشرعًا: التزام من يصح تبرعه ما وجب أو ما سيجب على آخر (¬6). فلذلك قال: (ويصح ضمان جائز التصرف) وهو الحر المكلف الرشيد (ما) (وجب) (يصح) وجب (أو) ما (سيجب على) شخص (غيره) مع بقائه على ¬
مضمون عنه؛ لحديث: "نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يقضى عنه" (¬1) (لا الأمانات) كوديعة وعين مؤجرة ومال شركة وعين أو ثمن بيد وكيل في بيع أو شراء فلا يصح ضمانها، لأنها غير مضمونة على صاحب اليد، فكذا على ضامنه (بل) يصح ضمان (التعدي فيها) لأنها مع التعدي مضمونة كالغصب، فعلى هذا لا يصح ضمان الدَّلَّالين فيما يعطونه لبيعه، إلا أن يضمن تعديهم فيه أو هربهم به. (ولا) يصح ضمان (جزية) بعد وجوبها، ولا قبله من مسلم ولا كافر، لفوات الصغار عن المضمون بدفع الضامن، ولا يصح ضمان دين كتابة، لأنه ليس بلازم ولا مآله إلى اللزوم؛ لأن المكاتب له تعجيز نفسه والامتناع من الأداء. ويحصل الضمان بلفظ: أنا ضمين، وكفيل، وقَبِيل، وحميل، وزعيم، وبلفظ ضمنت دَينك، أو تحملته، ونحو ذلك، ويصح بإشارة مفهومة من أخرس لقيامها مقام نطقه، لا بكتابة مننردة عن إشارة، ومن لا تفهم إشارته لا يصح ضمانه. (وشرط) لصحة ضمان (رضى ضامن فقط) لأن الضمان تبرع بالتزام الحق، فاعتبر له الرضى، كالتبرع بالأعيان، ولا يعتبر رضى مضمون عنه، لأن أبا قتادة ضمن الميت في الدينارين (¬2)، وأقره الشارع. ولصحة قضاء دينه بغير إذنه وأولى ضمانه، ولا رضى من ضُمِنَ له، لأنه وثيقة لا يعتبر لها قبض، فلم يعتبر لها رضى كالشهادة. ولا يعتبر معرفة مضمون له ومضمون عنه، ولا يعتبر العلم بالحق ¬
لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬1) وهو غير معلوم لأنه يختلف، ولا وجوبه إن آل إلى العلم به وإلى الوجوب. فيصح: ضمنت لزيد ما على بكر، وإن جهله الضامن، أو ضمنت لزيد ما يداينه بكرٌ (¬2) وما يقر له به، أو يثبت له عليه، لما تقدم، وله إبطاله قبل وجوبه، لأنه إنما يلزم بالوجوب. ويصح ضمان دين ضامن فأكثر، فيثبت الحق في ذمة الجميع، فأيهم قضاه برئوا، وإن برئ المدين برئ الكل، وإن أبرأ مضمون له أحدهم برئ ومن بعده لا من قبله. (ولرب حقٍّ مطالبة من شاء منهما) أي من الضامن والمضمون عنه، لثبوت الحق في ذمتهما، وله مطالبتنهما معًا في الحياة والموت، فأيهما قضاه برئ الكل، كما تقدم، لأن الضمان وثيقة، فإذا برئ الأصيل زالت الوثيقة، كالرهن. ويصح ضمان عهدة مبيع (¬3)، وألفاظ ضمان العهدة: ضمنت عهدته، أو ثمنه، أو دَرَكَهُ (¬4)، أو يقول لمشتر: ضمنت خلاصك منه، أو ¬
تتمة
متى خرج المبيع مستحقًّا فقد ضمنت لك الثمن. ويصح ضمان عين مضمونة كغصب وعارية ومقبوض على وجه سوم. وإن شرط خيار في ضمان، أو في كفالة فسدا. ويصح قول جائز التصرف لمثله: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، لصحة ضمان ما لم يجب، فيضمنه القائل. وإن قال: ألقه وأنا وركبان السفينة ضمناء له، ففعل، ضمن قائل وحده بالحصة. وإن قال: كل منا ضامن لك متاعك، أو قيمته، لزم قائلًا ضمان الجميع، سواء سمع الباقون فسكتوا، أو قالوا: لا نفعل، أو لم يسمعوا، وإن ضمنه الجميع فالغرم على عددهم، كضمانهم ما عليه من الدين. ويجب إلقاء متاع إن خيف تلف معصوم بسببه، فإن ألقى بعضهم متاعه في البحر لتخف، لم يرجع به على أحد، وكذا لو قيل له: ألق متاعك، فألقاه. وإن ألقى متاع غيره بلا إذنه ليخففها، ضمنه، وإن سقط عليه متاع غيره فخشي أن يهلكه، فدفعه، فوقع في البحر، لم يضمنه. تتمة: لو قضى ضامن الدين أو أحال به ولم ينو رجوعًا على مضمون عنه لم يرجع، لأنه متطوع، سواء ضمن بإذنه أو لا، وإن نواه رجع على مضمون عنه، لأنه قضاء يبرئ من دين واجب، فكان من ضمان من هو عليه، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه، ولو لم يأذن مضمون عنه في ضمان ولا قضاء، لما سبق، ويرجع بالأقل مما قضى أو قدر الدين، وكذا في الرجوع وعدمه كل كفيل وكل مؤد عن غير دينًا واجبًا، فيرجع إن نواه، لا زكاة ونحوها، مما يفتقر إلى نية، ككفارة، لأنها لا تجزئ بغير نية ممن هي عليه. وإن أنكر مقضي عنه القضاء، وحلف، لم يرجع مدعي القضاء عليه بشيء، إلا ببينة، وإن اعترف مضمون له بالقضاء، وأنكر مضمون عنه، لم
يسمع إنكاره؛ لاعتراف رب الحق بأن الذي له صار للضامن، فوجب قبول قوله. لأنه إقرار على نفسه. ويصح ضمان الحال مؤجَّلًا، نصًّا (¬1)، وإن ضمن المؤجل حالًّا لم يلزمه أداؤه قبل أجله، لأنه فرع المضمون فلا يلزمه ما لا يلزمه، وإن عجله ضامن لم يرجع على مضمون عنه حتى يحل، ولا يحل دين مؤجل بموت مضمون عنه ولا بموت ضامن، لأن التأجيل من حقوق الميت، فلم يبطل بموته كسائر حقوقه، ومحله إن وثق الورثة، قاله في "شرح المنتهى" للمصنف (¬2). (وتصح الكفالة) مصدر كفل، بمعنى التزم (¬3). وهي شرعًا: التزام رشيد (ببدن) أي: بإحضار (من عليه حق مالي) من دَين أو عارية ونحو ذلك إلى ربه (¬4). والجمهور على جوازها (¬5)، لعموم حديث "الزعيم ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
غارم" (¬1) ولدعاء الحاجة إلى الاستيثاق بضمان المال والبدن، وكثير من الناس يمتنع من ضمان المال فلو لم تجز الكفالة لأدى إلى الحرج، وتعطل المعاملات المحتاج إليها. وتنعقد بما ينعقد به ضمان، لأنها نوع منه، وإن ضمن معرفته أخذ به ضامن المعرفة، نصًّا (¬2)، كأنه قال: ضمنت لك حضوره متى أردت، لأنك لا تعرفه، فإن عجز عن إحضاره مع حياته لزمه ما عليه لمن ضمن معرفته له، ولا يكفي أن يُعَرِّفَهُ باسمه أو مكانه. (و) تصح الكفالة (بـ) بدن (كل) من عنده (عين يصح ضمانها) كعارية وغصب، ولا تصح ببدن من عليه حد للَّه كحد زنا، أو لآدمي كحد قذف، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "لا كفالة في حد" (¬3)، ولأنه لا يمكن استيفاؤه من غير الجاني ولا من عليه قصاص، لأنه بمنزلة الحد، ولا بزوجة لزوجها في حق الزوجية له عليها، ولا بشاهد، لأن الحق عليهما لا يمكن استيفاؤه من الكفيل، ولا بمكاتب لدين كتابة، لأن الحضور لا يلزمه، إذ له تعجيز نفسه، ولا إلى أجل مجهول أو بشخص مجهول، ولو في ضمان، بأن قال: ضمنته إلى نزول المطر ونحوه، أو ضمنت ¬
أحد هذين، فلا يصح الضمان للجهالة، ولو قال: كفلت لك هذا المدين على أن تبرئني من الكفالة بفلان، أو ضمنت لك هذا الدين بشرط أن تبرئني من ضمان الدين الآخر، لم يصح، لأنه شرط فسخ عقد في عقد، كالبيع بشرط فسخ بيع آخر. (وشرط) لصحة كفالة (رضى كفيل فقط) فلا يشترط رضى مكفول به، ولا مكفول له، كضمان. ومتى سلم كفيل مكفولًا به للمكفول له بمحل عقد، وقد حل الأجل إن كانت الكفالة مؤجلة، برئ الكفيل، لأن الكفالة عقد على عمل، فبرئ منه بعمله كالإجارة، وسواء كان عليه فيه ضرر أو لا، فإن سلمه في غير محل العقد، أو غير موضع شرطه لم يبرأ، لأن رب الحق قد لا يقدر على إثبات الحجة فيه، لنحو غيبة شهوده (فإن مات) المكفول (أو تلفت العين) المضمونة، التي تكفل ببدن من هي عنده (بفعل اللَّه تعالى، قبل طلب) أو سلم مكفول نفسه، أو سلمه كفيل قبل حلول الأجل، ولا ضرر على مكفول له في قبضه (برئ) كفيل. وعلم منه أنه لا يبرأ بتلفها بعد طلبه بها، ولا بتلفها بفعل آدمي، ولا بغصبها، ولا يبرأ بموت كفيل إن مات هو، ولا بموت مكفول له. ومن كفله اثنان فسلمه أحدهما لم يبرأ الآخر، وإن سلم نفسه برئا، إن كفل الكفيل آخر، والآخر آخر، برئ كل ببراءة من قبله، لا عكسه، كضمان. (وتجوز الحوالة) في الجملة إجماعًا (¬1). وهي مشتقة من التحول، لأنها تحول الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال ¬
عليه (¬1). وهي ثابتة بالسنة، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "مطل الغني ظلم، ومن أحيل على غني فلْيَتْبَعْ" (¬2). متفق عليه. وفي لفظ: "ومن أحيل بحقه على مليء فليحتل"، وهي عقد إرفاق، ولا خيار فيها. والحوالة شرعًا: انتقال مال من ذمة إلى ذمة (¬3). وتصح بلفظها، كأحلتك، أو بمعناها الخاص بها كأتبعتك بدينك على زيد ونحوه، ولا تصح إلا (على دين مستقر) نصًّا (¬4)، كبدل قرض، وثمن مبيع بعد لزوم بيع، لأن غير المستقر عرضة للسقوط، فلا تصح على مال سلم، ولا على رأس ماله، ولا على صداق قبل دخول أو مال كتابة، ولا بجزية على مسلم أو ذمي؛ لفوات الصَّغار عن المحيل، ولا أن يحيل ولد على أبيه؛ لأنه لا يملك طلب أبيه. وإنما تصح الحوالة (إن اتفق الدينان جنسًا) فلا تصح بدنانير على دراهم (ووقتًا) فلا يصح بحالٍّ على مؤجل، ولا مع اختلاف أجل (ووصفًا) فلا يصح بصحاح على مكسَّره، (وقدرًا) أي: معرفة قدر المال المحال به وعليه، لاعتبار التسليم، والجهالة تمنع منه. (وتصح) الحوالة (بخمسة) على خمسة (من عشرة، وعكسه) فتصح بخمسة من عشرة على خمسة؛ للموافقة، ولا تصح بعشرة على خمسة، ولا عكسه، للتخالف. ¬
ويعتبر لصحة الحوالة رضى محيل؛ لأن الحق عليه، فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين الذي على المحال عليه (ويعتبر) أيضًا (رضى محتال (¬1) على غير مليء) وأما على المليء (¬2) فلا يعتبر رضاه، ويجبر على اتباعه، نصًّا (¬3)، لظاهر الخبر (¬4)، ولأن للمحيل وفاء ما عليه من الحق بنفسه وبمن يقوم مقامه، وقد أقام المحال عليه مقام نفسه في التقبيض، فلزم المحتال القبول، ولو كان المليئ المحال عليه ميتًا. ويبرأ محيل بمجردها، ولو أفلس محال عليه بعدها، أو جحد الدين وعلمه المحتال، أو صدق المحيل، أو ثبت ببينة فماتت، أو مات محال عليه وخلف تركة، أو لا، إذ الحوالة بمنزلة الإيفاء، والمليء الذي يجبر محتال على إتباعه، هو القادر بماله وقوله وبدنه، بأن يجد مالًا يوفي به، وأن لا يكون مماطلًا، وأن يمكن حضوره مجلس الحكم. وإن ظنه مليئًا، أو جهله، ولم يشترط الملاءة، فبان مفلسًا، لم يرجع؛ لتفريطه بترك اشتراطها، فإن اشترطها فبان المحال عليه معسرًا رجع على محيل بدينه؛ لأن الفلس عيب، ولم يرض به، أشبه المبيع إذا بان معيبًا. ومتى صحت الحوالة فرضي المحتال، والمحال عليه بخير منه، أو دونه في الصفة أو القدر، أو بتعجيله أو بتأجيله، أو عوضه، جاز ذلك، لأن الحق لهما، لكن إن جرى بين العوضين ربا نسيئة اشترط القبض بمجلس التعويض. وإذا بطل بيع وقد أحيل بائع بالثمن، أو أحال مدينًا له على المشتري بالثمن، بطلت الحوالة، ولا تبطل إن فسخ البيع بعد أن أحيل بائع، أو ¬
أحال بالثمن، على أي وجه كان الفسخ، لأن البيع لم يرتفع من أصله فلم يسقط الثمن، ولمشتر الرجوع على بائع فيهما، وكذا نكاح فسخ، وقد أحيلت الزوجة بالمهر، وإجارة فسخت، وقد أحيل مؤجر أو أحال بأجرة، ولبائع أن يحيل المشتري على من أحاله عليه في الأولى، ولمشتر أن يحيل محالًا عليه من قبل بائع على بائع في الثانية. ومن طالب مدينه فقال: أحلت عليَّ فلانًا الغائب، وأنكره الدائن، فقوله، ويعمل بالبينة إن كانت.
فصل في الصلح وأحكام الجوار
فصل في الصلح وأحكام الجوار والصلح لغة: التوفيق والسَّلْم (¬1) -بفتح السين وكسرها- وهو ثابت بالإجماع (¬2)، لقوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬3)، وحديث أبي هريرة مرفوعًا: "الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا" (¬4). رواه أبو داود، وغيره. والصلح خمسة أنواع: أحدها: يكون بين مسلمين وأهل حرب. والثاني: بين أهل عدل وبغي. والثالث: بين زوجين خيف شقاق بينهما، أو خافت إعراضه. والرابع: بين متخاصمين في غير مال. والخامس: بين متخاصمين فيه، وهو المذكور بقوله: (والصلح في الأموال قسمان: أحدهما) صلح (على الإقرار) والثاني: صلح على الإنكار. (وهو) أي الصلح على الإقرار (نوعان: ) أحدهما (الصلح على جنس الحق، مثل أن يُقر) جائز التصرف (له) أي لمن يصح تبرعه (بدين) معلوم (أو) يقر ¬
له بـ (عين) بيده (فيضع) المقر له عن المقر بعض الدين (أو يهبَ له البعض) من العين المقر بها (ويأخذ) المقر له (الباقي) من الدين أو العين، (فيصح) ذلك (ممن يصح تبرعه) لأن جائز التصرف لا يمنع من إسقاط بعض حقه أو هبته، كما لا يمنع من استيفائه. وقد كلم -صلى اللَّه عليه وسلم- غرماء جابر ليعفوا عنه (¬1) (بغير لفظ صُلْح) فلا يصح بلفظ صلح، لأنه هضم للحق (بلا شرط) أو بشرط أن يعطيه الباقي، وإن لم يذكر لفظ الشرط، كعلى أن تعطيني كذا منه، أو تعوضني منه كذا، لأنه يقتضي المعاوضة، فكأنه عاوض عن بعض حقه ببعض، أو يمنعه حقه بدون إعطائه منه، فلا يصح، لأنه أكل مال الغير بالباطل. ولا يصح عن دين مؤجل، ببعضه حالًّا، إلا في مال كتابة. ولا يصح صلح عن حق، كدية خطأ، أو قيمة متلف غير مثلي، بأكثر من حقه المصالح عنه من جنسه، لأن الدية والقيمة ثبتت في الذمة بقدره، فالزائد لا مقابل له، فيكون حرامًا، لأنه من أكل المال بالباطل. ويصح الصلح عن متلف مثلي، كبُرٍّ، بأكثر من قيمته من أحد النقدين، ويصح عن حق كدية خطأ، وقيمة متلف، بعرض قيمته أكثر من الدية، أو قيمة المتلف المثلي، لأنه لا ربا بين العوض والمعوَّض عنه. ومن قال لغريمه: أقر لي بديني وأعطيك، أو وخذ منه مائة. ففعل لزمه ما أقر به، ولم يصح الصلح. النوع (الثاني) من قسمي الصلح على إقرار، أن يصالح (على غير جنسه) بأن أقر له بدين، أو عين، ثم صالحه عنه بغير جنسه، فهو معاوضة. ¬
ويصح بلفظ الصلح كسائر المعاوضات، بخلاف ما قبله؛ لأن المعاوضة عن الشيء ببعضه حرام (فإن كان) الصلح (بأثمان عن أثمان) بأن أقر له بدينار فصالحه عنه بعشرة دراهم (فـ) ــهو (صرف) يعتبر فيه التقابض قبل التفرق (و) إن كان (بعرض عن نقد) كأن أقر له بدينار وصالحه عنه بثوب ونحوه (وعكسه) بأن أقر له بثوب مثلًا فصالحه عنه بدينار (فـ) الصلح في ذلك (بيع) يشترط له شروطه، كالعلم به، والقدرة على التسليم، والتقابض بالمجلس إن جرى بينهما ربا. والصلح عن نقد أو عرض مقرّ به بمنفعة، كسكنى دار، وخدمة قن معينين، إجارة، فيعتبر له شروطها، وتبطل بتلف الدار، وموت القَنِّ، كباقي الإجارات. ولو صالح الورثة من وُصيَّ له بخدمة رقيق، أو سكنى دار معينة، أو بحمل أمة معينة بدراهم مسماة؛ جاز لأنه إسقاط حق فيصح في المجهول للحاجة. ومن صالح عن عيب في مبيعه بشيء صح، وليس من الأرش في شيء، ويرجع به إن بان عدم العيب، أو زال سريعًا بلا كلفة، ولا تعطيل نفع على مشتر. ويصح الصلح عما تعذر علمه من دَين، كمن بينهما معاملة وحساب مضى عليه زمن طويل، أو تعذر علمه من عين، كقفيز حنطة وقفيز شعير اختلطا وطحنا، بمال معلوم نقد ونسيئة، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لرجلين اختصما في مواريث دَرَسَتْ بينهما: "استهما، وتوخيا الحق، وليحلل أحدكما صاحبه" (¬1). رواه أحمد وأبو داود، ولأنه إسقاط حق فصح في المجهول ¬
للحاجة، وسواء كان الجهل من الجهتين، أو ممن هو عليه، فإن وقع الصلح بمجهول لم يصح، لأن تسليمه واجب والجهل به يمنعه، فإن لم يتعذر علم المجهول كتركة باقية، صالح الورثة الزوجة على حصتها منها مع الجهل بها، كالبراءة من المجهول، جزم به في "التنقيح" (¬1) وقدمه في "الفروع" (¬2)، قال في "التلخيص" (¬3): وقد نزل أصحابنا الصلح عن المجهول المقر به بمعلوم منزلة الإبراء من المجهول، فيصح على المشهور، لقطع النزاع، وظاهر كلامه في "الإنصاف" (¬4) أن الصحيح المنع؛ لعدم الحاجة إليه، ولأن الأعيان لا تقبل الإبراء، وقطع به في "الإقناع" (¬5)، قال في "الفروع" (¬6): وهو ظاهر نصوصه. (القسم الثاني) من قسمي الصلح في المال، الصلح (على الإنكار: بأن يدَّعي عليه) أي: بأن يدعي شخص على آخر عينًا أو دَينًا (فينكر أو يسكت) وهو يجهل المدّعى به (ثم يصالحه) على نقد أو نسيئة (فيصح) الصلح للخبر (¬7)، (ويكون) الصلح على الإنكار (إبراءً في حقه) أي المدعى عليه، لأنه بذل العوض لدفع الخصومة عن نفسه، لا في مقابلة حق ثبت عليه، فلا شفعة فيه إن كان شقصًا من عقار، ولا يستحق لعيب وجده في مصالح عنه شيئًا، لأنه لم يبذل العوض في مقابلته، لاعتقاده أنه ملكه قبل الصلح، فلا معاوضة. ¬
(و) يكون الصلح (بيعًا في حق مدَّع) فله رد المصالح به عما ادعاه بعيب يجده، لأنه أخذه على أنه عوض ما ادعاه، وتثبت في مشفوع الشفعة، لأنه أخذه عوضًا عما ادعاه، كما لو اشتراه به. (ومن علم كَذِبَ نفسه) من مدع ومدعى عليه (فالصلح باطل في حقه) أما المدعي؛ فلأن الصلح مبني على دعواه الباطلة، وأما المدعى عليه فلأنه مبني على جحده حق المدعي، ليأكل حقه بالباطل، وما آخذه مدع عالم كذب نفسه مما صولح به، أو أخذه مدعى عليه مما انتقصه من الحق بجحده، فهو حرام، لأنه أكل مال الغير بالباطل، وإن صالح المنكر بشيء، ثم أقام مدع بينة أن المنكر أقر قبل الصلح بالملك، لم تسمع، ولو شهدت بأصل الملك، لم ينقض الصلح. ومن قال لآخر: صالحني عن الملك الذي تدعيه، لم يكن مقرًّا به، لاحتمال إرادة صيانة نفسه عن التبذل، أو حضور مجلس الحكم بذلك. وإن صالح أجنبي عن منكر لدَين بإذنه أو بدونه، صح؛ لجواز قضائه عن غيره بإذنه وبغير إذنه، لفعل علي وأبي قتادة -رضي اللَّه عنهما- وأقرهما عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، أو صالح عن منكر لعين بإذنه، أو بدونه، صح، ولو لم يقل: إنه وكله؛ لأنه افتداء للمنكر من الخصومة، وإبراء له من الدعوي، ولا يرجع بشيء مما صالح به عن المنكر إن دفع بدون إذنه في الصلح أو الدفع، لأنه أدى عنه ما لا يلزمه، فكان متبرعًا، كما لو تصدق عنه، فإن أذن له في الصلح، أو في الأداء عنه، رجع عليه إن نواه. ¬
تتمة
تتمة: يصح الصلح عما ليس بمال مع إقرار ومع إنكار، كعن قَوَدٍ في نفس ودونها، وعن سكنى دار ونحوها، وعن عيب في عوض أو معوض، وإن لم يجز بيع ذلك؛ لأنه لقطع الخصومة، فيصح عن قود بفوق دية ولو بلغ ديات؛ لما روي أن الحسن والحسين وسعيد بن العاص بذلوا للذي وجب له القصاص على هدبة بن خشرم سبع ديات، فأبى أن يقبلها، ولأن المال غير متعين، فلم يقع العوض في مقابلته. ويحرم أن يجري شخص في أرض غيره أو في سطحه ماء، ولو تضرر بتركه، بلا إذنه، ويصح صلحه عن ذلك بعوض، ويعتبر لصحة ذلك علم قدر الماء الذي يجريه، لاختلاف ضرره بكثرته وقلته بساقية، وعلم قدر ماء مطر برؤية ما يزول عنه من سطح أو أرض أو بمساحته، وتقدير ما يجري فيه الماء، ولا يعتبر علم قدر عمقه، لأنه إذا ملك عين الأرض أو نفعها كان له إلى التخوم (¬1) فله النزول فيه ما شاء. وفي "الإقناع" (¬2) يعتبر إن وقع إجارة. ولا يعتبر علم مدة الإجراء للحاجة، وإن صالحه على سقي أرضه من نهره أو من عينه أو بئره العين مدة، ولو كانت معينة، لم يصح الصلح لعدم ملك الماء، وإن صالحه على ثلث النهر أو العين ونحوه صح، والماء تبع للقرار. ويصح شراء مَمَرٍّ في دار ونحوها من مالك، وشراء موضع بحائط يفتح بابًا، وشراء بقعة تحفر بئرًا، وعلو بيت ولو لم يبن، إذا وَصَفَ (¬3)، ليبني عليه، أو ليضع عليه بنيانًا، أو خشبًا موصوفين، وإذا زال ما على العلو فله إعادته، وله الصلح على عدمها، كما له الصلح على زواله، وله فعل ما تقدم من المر وفتح الباب وحفر البقعة بئرًا ووضع البناء والخشب على علو غيره صلحًا أبدًا، أو إجارة مدة معينة، وإذا مضت بقي. ولمالك العلو أجرة المثل، ولا يطالب بإزالة بنائه وخشبه، لأنه العرف فيه. ¬
فصل في حكم الجوار
فصل في حكم الجوار بكسر الجيم مصدر جاور، وأصله الملازمة، ومنه قيل للمعتكف مجاور، لملازمة الجار جاره في المسكن (¬1). وفي الحديث: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" (¬2). (وإذا حصل في أرضه) أي: الإنسان التي يملكها، أو بعضها، أو يملك نفعها، أو بعضه (أو) على (جداره أو) في (هوائه غصن شجرة غيره) أو عِرْقُهِ (أو غرفته، لزم) رب الغصن أو العرق (¬3) (إزالته) برده إلى ناحية أخرى، أو قطعه، سواء أثر ضررًا، أو لا، ليخلي ملكه الواجب إخلاؤه، والهواء تابع للقرار (وضمن) رب غصن أو [عِرْق] (¬4) (ما تلف به، بعد طلب) بإزالته، لصيرورته متعديًا بإبقائه (فإن أبي) رب غصن [أو عرق] (¬5) إزالتهما (لم يجبر في الغصن) لأن حصوله في هوائه ليس من فعله (ولواه) ناحيةً، إن أمكن ذلك بلا قطع (فإن لم يمكن) إزالتـ (ــه) إلا بقطعه (فله قطعه) أي الغصن (بلا حكم) حاكم ولا غرم؛ لأنه لا يلزمه إقرار مال غيره في ملكه بلا رضاه. ولا يصح صلح رب الغصن عن ذلك، ولا صلح مَنْ ¬
مال حائطه، أو زلق خشبُه إلى ملك غيره عن ذلك؛ بعوض، لأن شغله لملك الآخر لا ينضبط، فإن اتفقا على أن الثمرة له أو بينهما جاز، لأنه أصلح من القطع، ولم يلزم الصلح، لأنه يؤدي إلى ضرر رب الشجر، لتأبيد استحقاق الثمرة عليه، أو مالك الهواء، لتأبيد بقاء الغصن في ملكه، فلكل منهما فسخه، فإن مضت مدة ثم امتنع رب الشجر عن دفع ما صالح به من الثمرة، فعليه أجرة المثل. (ويجوز فتح باب لاستطراقٍ في دربٍ نافذ) لأنه ارتفاق بما لا يتعين له مالك، ولا إضرار فيه على المارين (لا إخراج جناح) وهو الرَّوْشَن (¬1)، على أطراف خشب أو حجر مد فوقه في الحائط (وساباط) وهو المستوفي للطريق على جدارين (¬2) (وميزاب) فيحرم إخراجها بنافذ (إلا بإذن إمام) أو نائبه، لأنه نائب المسلمين، فإذنه كإذنهم، ولحديث أحمد: أن عمر اجتاز على دار العباس، وقد نصب ميزابًا إلى الطريق، فقلعه، فقال: تقلعه وقد نصبه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بيده، فقال: واللَّه لا تنصبه إلا على ظهري، فانحنى حتى صعد على ظهره فنصبه (¬3). ولجريان العادة به (مع أمن الضرر) بأن يمكن عبور محمل من تحته، وإلا لم يجز وضعه، ولا إذنه فيه، فإن كان الطريق منخفضًا وقت وضعه، ثم ارتفع لطول الزمن، فحصل به ضرر؛ وجبت ¬
تتمة
إزالته، ذكره الشيخ تقي الدين (¬1) (وفعل ذلك) أي: إخراج جناح، وساباط، وميزاب (في ملك جار، و) في (درب مشترك؛ حرام، بلا إذن مستحق) لأن الدرب ملكهم، فلم يجز التصرف فيه إلا بإذنهم. ويجوز فتح باب في ظهر دار في درب غير نافذ بلا إذن أهله لغير استطراق، كَإضْوَءٍ وهواءٍ؛ لأن الحق لأهله في الاستطراق ولم يزاحمهم فيه، ولأن غايته التصرف في ملك نفسه برفع بعض حائطه، ويجوز نقل باب في درب غير نافذ من أوله إلى آخره، لتركه بعض حقه في الاستطراق، فلم يمنع منه، بلا ضرر، فإن كان فيه ضرر منع منه، كأن فتحه في مقابلة باب غيره ونحوه، ولا يجوز نقل الباب إلى داخل (¬2) إن لم يأذن من فوقه، فإن أذن جاز، ويكون إعارة لازمة، فلا رجوع للآذن، كإذنه في نحو بناء على جداره. تتمة: يحرم أن يحدث بملكه ما يضر بجاره، كحمام يتأذى جاره بدخانه، أو يتضرر حائطه بمائه، ومثله مطبخ، وككنيف (¬3) يتأذى بريحه، أو يصل إلى ¬
بئره، ورَحى يهتز بها حيطانه، وتَنُّورٍ يتعدى دخانه إليه، ودكانِ حِدَادةِ ونحوه، يتأذى بدقه ويهز الحيطان، لحديث: "لا ضرر ولا ضرار" (¬1) وهذا إضرار بجاره، وله منعه من ذلك، كما له منعه من ابتداء إحياء ما بجواره لتعلق مصالحه به، وله تعلية داره، ولو أفضى إلى سد الفضاء عن جاره، قاله الشيخ تقي الدين (¬2)، وإن ادعى فساد بئره بكنيف جاره، أو بالوعته (¬3)، اختبر بالنفط (¬4) يلقى فيهما، فإن ظهر طعمه أو ريحه بالماء ¬
حولتا، إن لم يمكن إصلاحهما. ومن له حق ماء يجري على سطح جاره، لم يجز لجاره تعلية سطحه، ليمنع الماء أن يجري على سطحه؛ لما فيه من إبطال حق جاره. ويحرم تصرف في جدار جار، أو جدار مشترك بينه وبين غيره بفتح رَوْزَنَةٍ، وهي الكُوَّة -بفتح الكاف وضمها أي الخرق في الحائط- (¬1) أو بفتح طاق، أو بضرب وقد ونحوه، إلا بإذن مالكه أو شريكه (وكذا) يحرم (وضع خشب) على جدار جار، أو مشترك (إلا أن لا يمكن تسقيف إلا به ولا ضرر فـ) يجوز نصًّا (¬2)، و (يجبر) رب الجدار أو الشريك فيه على تمكينه منه إن أبي، لحديث أبي هريرة: "لا يمنعن جار جاره أن يضع خشبة على جداره"، ثم يقول أبو هريرة مرفوعًا: مالي أراكم عنها معرضين، واللَّه لأرمين بها بين أكتافكم (¬3). متفق عليه. ولأنه انتفاع بحائط جاره على وجه لا يضره أشبه الاستناد إليه، ولم يجز لرب الحائط أخذ عوض عنه إذنْ، لأنه يأخذ عوض ما يجب عليه بذله. (و) جدار (مسجد كـ) جدار (دار) نصًّا (¬4)، لأنه إذا جاز في ملك اللآدمي مع شحه وضيقه، فحق اللَّه أولى، والفرق بين فتح الباب والطاق وبين وضع الخشب، أن الخشب يمسك الحائط، والباب والطاق يُضَعِّفُه، ووضع الخشب تدعو الحاجة إليه، بخلاف غيره. ¬
وإن خيف سقوط الحائط باستمراره عليه لزمه إزالته، ومن وجد بناءه أو خشبه على حائط جاره، أو مشترك، ولم يعلم سببه، وزال، فله إعادته، لأن الظاهر وضعه بحق، وكذا سيل (¬1) مائه في أرض غيره، أو مجرى ماء سطحه على سطح غيره ونحوه، وإذا اختلفا في أنه بحق أو باطل، فقول صاحبه بيمينه، عملًا بالظاهر. وله أن يستند ويسند قماشه إلى حائط غيره، ويجلس في ظله بلا إذنه، لمشقة التحرز منه وعدم الضرر. ويجوز نظره في ضوء سراج غيره بلا إذنه، نصًّا (¬2)، لما تقدم (وإن طَلَب شريك في حائط أو سقف انهدم) مشاعًا بينه وبين غيره أو بين سفل أحدهما وعلوِّ الآخر (شريكه) فيه (للبناء مَعه، أجبر) على البناء معه، نصًّا (¬3)، (ح) ما يجبر على (نقضـ) ــه معه (خوف سقوط) الحائط أو السقف، دفعًا لضرره، لحديث: "لا ضرر ولا ضرار" (¬4). (وإن بناه) شريك بإذن شريكه، أو بإذن حاكم، أو بدون إذنهما (بنية الرجوع) على شريكه، وبناه شركة (رجع) عليه، لأنه قام عنه بواجب (وكذا) إن احتيج لعمارة (نهر ونحوه) كبئر، ودولاب (¬5)، وناعورة (¬6)، وقناة (¬7) مشتركة بين اثنين فأكثر، فيجبر الشريك على العمارة إن امتنع، فإن عمرها أحدهم فالماء بينهم على الشركة، ويرجع عليهم بما أنفق كالحائط. وإن عجز قوم عن عمارة نهرهم أو قناتهم، فأعطوها لمن يعمرها، ¬
ويكون له منها جزء معلوم؛ صح، ومن له علو من طبقتين، والسفلى لآخر، أو له طبقة ثالثة، وما تحتها لغيره؛ فانهدم السفل في الأولى، أو السفل أو الوسط أو هما في الثانية، لم يشارك رب العلو في بناء ما انهدم تحته، لأن الحيطان إنما تبنى لمنع النظر (¬1)، وهذا يختص به من تحته، دون رب العلو، وأجبر علي بنائه مالكه ليتمكن رب العلو من انتفاعه به، ويلزم الأعلى جعل سترة تمنع مشارفة الأسفل، لحديث: "لا ضرر ولا ضرار" (¬2). إذ الإشراف على الجار إضرار به، فإن استويا فلم يكن أحد الجارين أعلى من الآخر، اشتركا في السترة، فإن امتنع أحدهما من ذلك أجبر، لأنه حق عليه، فأجبر عليه كسائر الحقوق. وليس له الصعود على سطحه قبل بناء سترة حيث كان يشرف على جاره، ولا يلزمه سد طاقه إذا لم يشرف منه على جاره. ولا يجبر ممتنع من بناء حائط بين ملكيهما، ويبني الطالب في ملكه إن شاء. ومن هدم بناء له فيه شركة خيف سقوطه، فلا شيء عليه، وإلا يخف لزمته إعادته كما كان، لتعديه بهدمه على حصة شريكه. ¬
فصل في الحجر على المفلس وغيره
فصل في الحجر على المفلس وغيره وهو بفتح الحاء وكسرها، وهو لغة: التضييق والمنع، وسمي العقل حِجْرًا، لأنه يمنع صاحبه من تعاطي ما يقبح وتضر عاقبته (¬1). وشرعًا: منع مالك من تصرفه في ماله (¬2). سواء كان المنع من قبل الشرع، كالصغير والمجنون والسفيه، أو الحاكم، كمنعه المشتري من التصرف في ماله حتى يقضي الثمن الحالَّ. (و) الحجر لفَلس: منعُ حاكم (مَنْ) عليه دين و (ماله لا يفي بما عليه) من الدين (حالًّا) منصوب على الحال و (يجب الحجر عليه) أي: المفلس (طلب بعض غرمائه) فيلزم الحاكم إجابتهم إلى ذلك، وحجر عليه، لحديث كعب بن مالك: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حجر على معاذ، وباع ماله (¬3). رواه ¬
الخلال. فإن لم يسأله أحد منهم لم يُجْجَرْ عليه، ولو سأله المفلس. (و) يـ (سن إظهاره) أي الحجر على السفيه، والمفلس، ليعلم الناس حالهما، فلا يعاملان إلا على بصيرة، ويسن الإشهاد على الحجر، ليثبت عند من يقوم مقام الحاكم لو زال فيمضيه، ولا يحتَاجُ إلى ابتداءِ حجرٍ ثانٍ، ويتعلق بالحجر على المفلس أحكام: (فلا ينفذ تصرفه في ماله بعد الحجر) عليه، لتعلق حق غرمائه بماله الموجود والحادث بنحو إرث، لأنه يباع في ديونهم، فتعلقت حقوقهم به كالرهن (ولا) يصح (إقراره عليه) أي على ماله، ولو كان صانعًا كقصَّار وحائك، فأقر بما في يده من المتاع لأربابه، فلا يقبل، ويباع حيث لا بينة، ويقسم ثمنه بين الغرماء (بل) يصح إقراره (في ذمته فيطالب) به (بعد فك حجر) هـ، وإن لزمه كفارة كفَّر بصوم لئلا يضر بغرمائه، وإن تصرف في ذمته بشراء أو إقرار أو إصداق أو ضمان صح، لأنه أهل للتصرف، والحجر يتعلق بماله، لا بذمته، ويتبع به بعد فك حجره. وإن جنى محجور عليه جناية توجب مالًا أو قصاصًا شارك مجني عليه الغرماء، لثبوت حقه على الجاني بغير اختيار المجني عليه. (و) الثاني أن (من سلمه) أي: المفلس (عين مال) ببيع أو قرض أو رأس مال سلم (جاهل الحجر) فهو أحق بها، فيـ (أخذها إن كانت) باقية (بحالها و) كان (عوضها) أي العين (كله باق) في ذمته (ولم يتعلق بها حق للغير) كرهن، وجناية، وحق شفعة، فإذ تعلق بها حق للغير، أو تلف ¬
بعضها، أو بيع، أو وُقِفَ، ونحوه، أو مات مفلس؛ فلا رجوع، لحديث أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أيما رجل باع متاعه، فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئًا، فوجد متاعه بعينه، فهو أحق به، وإن مات المشتري، فصاحب المتاع أسوة الغرماء" (¬1). رواه مالك، وأبو داود مرسلًا، ورواه أبو داود مسندًا، وقال: حديث مالك أصح. ولأن الملك انتقل عن المفلس إلى الورثة، أشبه ما لو باعه، وكذا إن زادت السلعة زيادة متصلة، كسمنٍ، وتعلم صنعة، وتجدد حملٍ في بهيمة، فإن زادت كذلك فلا رجوع، لأن الزيادة للمفلس، لحدوثها في ملكه، فلم يستحق رب العين أخذها منه، كالحاصلة بفعله (ويبيع حاكم ماله) أي المفلس وجوبًا، بثمن مثله المستقر في وقته، أو أكثر إن حصل راغب (ويقسمه) أي الثمن (على غرمائه) فورًا لأن هذا جُل المقصود من الحجر عليه، وتأخيره مطل، وظلم للغرماء. وسن إحضار المفلس عند بيع ماله، ليضبط الثمن، ولأنه أعرف بالجيد من متاعه، فيتكلم عليه، ولأنه أطيب لنفسه، ووكيله كهو، ويحضر معه غرماؤه، لأنه أطيب لقلوبهم، وأبعد للتهمة، وربما وجد أحدهم عين ماله، أو رغب في شيء فزاد في ثمنه. وسن بيع كل شيء في سوق، وأن يبدأ بأقله بقاء كبطيخ، وأكثره كلفة كحيوان، ويجب أن يترك لمفلس ما يحتاجه من مسكن وخادم صالح لمثله، ما ¬
لم يكونا عين مال غريم، فله أخذهما، للخبر (¬1)، ويشترى له بدلهما، أو يترك له من ماله بدلهما، دفعًا للحاجة، ويبدل أعلى من مسكن وخادم وثوب ونحوه بصالح لمثله، لأنه الأحظُّ للمفلس والغرماء، ويجب أن يترك له من ماله ما يتجر به إن كان تاجرًا، ويترك له آلة محترف إن كان ذا صنعة، ويجب له ولعياله أدنى نفقة مثلهم، من مأكل ومشرب وكسوة وتجهيز من مات منهم من ماله حتى يقسم، وأجرة مناد ونحوه من المال. ويبدأ في قسم ماله بمن جنى عليه قِنُّ المفلس، لتعلق حقه بعين الجاني، فيعطى الأقل من ثمنه أو الأرش. ثم بمن عنده رهن لازم من الغرماء، فيخص بثمنه إن كان بقدر دينه أو أقل، لأن حقه متعلق بعين الهـ هن، فإن بقي له دين حَاصَصَ الغرماء، وإن فضل شيئء من الرهن رُدَّ على المال. ثم بمن له عين مال، فيأخذها، بشرطه المتقدم (¬2)، أو كان استأجر عينًا من مفلس قبل حجر عليه، فيأخذها، لاستيفاء نفعها مدة إجارته، لتعلق حقه بالعين والمنفعة، وهي مملوكة له في تلك المدة فإن اتفق الغرماء مع المفلس على بيعها بيعت، والإجارة بحالها، وإن بطلت الإجارة في أثناء المدة لنحو موتِ العبدِ المؤجر، أو انهدم الدار، ضرب له بما بقي له من أجرة عجَّلها، ثم يقسم الباقي على قدر ديون من بقي. ولا يلزمهم بيان أن لا غريم سواهم، ثم إن ظهر رب دَين حال رجع على كل غريم بقسطه، لأنه لو كان حاضرًا لقاسمهم، كغريم الميت يظهر بعد قسم ماله، ولم تنقض القسمة، لأنهم لم يأخذوا زائدًا عن حقهم، وإنما تبين مزاحمتهم فيما قبضوه من حقهم. ويلزم الحاكم إجبار مفلس محترف على الكسب، أو إيجار نفسه فيما يليق به من صنائعه، ليوفي بقية دينه، بعد قسمة ما وجد من ماله. ¬
ولا تجبر امرأة مفلسة على نكاح، ولو رُغب فيها بما تُوفي به دينها، لأنه يترتب عليها بالنكاح ما قد تعجز عنه. (ومن لم يقدر على وفاء شيء من دينه) الحال (أو هو مؤخل) فـ (تحرم مطالبته) به (وحبسه، وكذا ملازمته) وتجب تخليته، رضي غريمه أو لا، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬1) وفي إنظار المعسر فضل عظيم، لحديث بريدة مرفوعًا: "من أنظر معسرًا فله بكل يوم مثله صدقة قبل أن يحل، فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثليه صدقة" (¬2) رواه أحمد بإسناد جيد. وإن ادعى مدين العسرة، ولم يصدقه رب الدين، ودينه عن عوض، كثمن أو قرض، أو عرف له مال سابق، والغالب بقاؤه؛ حبس، أو كان دينه من غير عوض مالي، كعوض خلع، وصداق، وضمان، وكان قد أقر أنه مليء؛ حبس، لأن الأصل بتاء المال، ومؤاخذة له بإقراره، إلا أن يتيم بيّنة بإعساره، ويعتبر فيها أن تَخْبُرَ باطن حاله، لأن الإعسار من الأمور الباطنة التي لا يطلع عليها غالبًا إلا المخالط له، ولا يحلف مع البينة، لما فيه من تكذيبها، أو يدَّعي تلفًا لماله، ويقيم بينة به، ويحلف معها إن أصلب رب الحق يمينه، لأن اليمين على أمؤ محتمل، غير ما شهدت به البينة. ¬
ويحرم إنكار معسر وحلفه أن لا حق عليه، ولو تأول، نصًّا (¬1)، لظلمه رب الدين فلا ينفعه التأويل (ولا يحل) دين (مؤجل بفلس) نصًّا (¬2)، فلا يشارك ربه ذوي الديون الحالة، لأن الأجل حق للمفلس، فلا يسقط بفلسه، كسائر حقوقه، ولا يوقف له من مال المفلس، ولا يرجع على الغرماء بشيء إذا حل دينه، لعدم ملكه المطالبة به حين القسمة، ويشارك من حل دينه قبل القسمة في الكل، وفي أثناء القسمة فيما بقي منها. ولا يحل دين مؤجل بجنون (ولا بموت) لحديث "من ترك حقًّا أو مالًا فلورثته" (¬3)، والأجل حق للميت، فينتقل إلى ورثته، ومحل ذلك (إن وثق الورثة برهن محُرز، أو كفيل مليء) على الأقل من قيمة الدين أو التركة، فإن لم يوثق بذلك حل، لأن الورثة قد لا يكونوا أملياء، ولم يرض بهم الغريم، فيؤدي إلى فوات الحق (وإن ظهر غريم) دينه حال (بعد القسمة) أي قسمة مال المفلس (رجع على الغرماء بقسطه) كما تقدم. ¬
فصل في الحجر لحظ نفس المحجور عليه
فصل في الحجر لحظ نفس المحجور عليه والأصل فيه قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (¬1) وأضاف الأموال إلى الأولياء، لأنهم مدبروها. (ويحجر على الصغير والمجنون والسفيه لحظهم) فلا يصح تصرفهم في أموالهم، ولا ذممهم، قبل الإذن، لأن تصحيح تصرفهم يفضي إلى ضياع أموالهم، وفيه ضرر عليهم (ومن دفع إليهم ماله بعقد) كبيع وإجارة (أو) بـ (لا) عقد كوديعة وعارية (رجع فيما (¬2) بقي) من ماله، لبقاء ملكه عليه (لا ما تلف) منه بنفسه كموت قن أو حيوان، أو بفعل محجور عليه، كقتله له، فلا يرجع بشيء، لأنه سلطه عليه برضاه، علم الدافع بحجر المدفوع إليه أو لا، لتفريطه، لأن الحجر عليه في مظنة الشهرة. (ويضمنون) أي المحجور عليهم لحظ أنفسهم (جناية) على نفس أو طرف ونحوه، على ما يأتي تفصيله في الجنايات (¬3) (و) يضمنون (إتلاف ما لم يُدفع إليهم) من المال، لاستواء المكلف وغيره، ومن أعطوه مالًا بلا إذن ولي ضمنه، لتعديه بقبضه ممن لا يصح منه دفع حتى يأخذه منه ولي. ولا يضمن من أخذ من محجور عليه مالًا ليحفظه من الضياع، كأخذه (¬4) من غاصب أو غيره ليحفظه لربه، ولم يفرط، لأنه محسن بالإعانة على رد الحق لمستحقه، فإن فرط ضمن. (ومن بلغ) من ذكر وأنثى وخنثى (رشيدًا) انفك الحجر عنه (أو) بلغ ¬
(مجنونًا ثم عقل ورشد انفك الحجر عنه) لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} (¬1) الآية، ولأن الحجر عليه إنما كان لعجزه عن التصرف في ماله، حفظًا له، وقد زال، فيزول الحجر، لزوال علته (بلا حكم) بفكه، وسواء رشده الولي أو لا، لأن الحجر عليه لا يحتاج إلى حكم فيزول بدونه، ولقوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬2)، واشتراط الحكم زيادة تمنع الدفع عند وجود ذلك، وهو خلاف النص (وأعطي) من انفك الحجر عنه (ماله) للآية، ويستحب بإذن قاض، وإشهاد برشد، ودفع، ليأمن التبعة و (لا) يعطى ماله (قبل ذلك بحال) ولو صار شيخًا، لظاهر الآية. (وبلوغ ذكر بإمناء) باحتلام أو غيره، لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} (¬3) (أو تمام خمس عشرة سنة) لحديث ابن عمر: عرضت على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم أحد وأنا ابن عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني (¬4). متفق عليه. وفي رواية البيهقي بإسناد حسن: فلم يجزني ولم يرني بلغت (¬5). (أو نبات شعر خشن) أي يستحق أخذه بالموسى (¬6)، لا زغب (¬7) ضعيف (حول قُبُله) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، حكم بأن يقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وحكم بأن يكشف عن مؤتزراتهم، فمن ¬
أنبت فهو من المقاتل، ومن لم ينبت ألحقوه بالذرية. فبلغ ذلك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "لقد حكم بحكم اللَّه من فوق سبعة أرقعة" (¬1). متفق عليه. (و) بلوغ (أنثى بذلك) الذي يحصل به بلوغ الذكر (و) تزيد عليه (بحيض) لحديث: "لا يقبل اللَّه صلاة حائض إلا بخمار" (¬2). رواه الترمذي وحسنه (وحملها دليل إمناء) لإجراء اللَّه تعالى العادة بخلق الولد من مائهما، قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} (¬3) الآية. وإذا ولدت حكم ببلوغها من أقل مدة الحمل وهو ستة أشهر؛ لأنه اليقين. (ولا يُدفع إليه) أي من بلغ رشيدًا ظاهرًا (ماله حتى يُختبر بما يليق به، ويؤنس رشده، ومحله) أي الاختبار (قبل بلوغ) لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} (¬4) الآية (والرشد هنا إصلاح المال). والناس يختلفون في ذلك، فيختلف إيناس الرشد باختلافهم، فولد التاجر يعلم رشده (بأن يبيع ويشتري فلا يغبن غالبًا) غبنًا فاحشًا (ولا يبذل ماله في حرام) كقمار، وغناء وشراء محرم، كآلة لهو، ونحو ذلك (و) لا في (غير فائدة) وولد رئيس وكاتب باستيفاء على وكيله فيما وُكِّل فيه. ¬
ويؤنس رشد أنثى باشتراء قطن، واستجادته، ودفعه، ودفع أجرته إلى الغَزَّالات، واستيفاء عليهن. ومن نوزع في رشده، فشهد به عدلان ثبت. وإلا بأن لم يشهد أحد، فادعى محجور عليه علم وليه برشده، حَلَفَ أنه لا يعلم رشده، لاحتمال صدق مدع. ومن تبرع في حجر، فثبت كونه مكلفًا رشيدًا؛ نفذ تصرفه، لتبين أهليته له. (ووليهم) أي المحجور عليهم لحظ أنفسهم (حال الحجر) عليهم (الأب) لكمال شفقته (الرشيد) لأن غير الرشيد محجور عليه (ثم) وليهم بعد الأب (وصيُّه) لأنه نائبه، أشبه وكيله في الحياة، ولو كان بجُعْلٍ وثَمَّ متبرع، أو كان الأب أو وصيه كافرًا على كافر، إن كان عدلًا في دينه، ولا ولاية لكافر على مسلم (ثم) بعد الأب ووصيِّه، وليهم (الحاكم) لانقطاع الولاية من جهة الأب، فتكون للحاكم، كولاية النكاح، لأنه وليُّ من لا وليَّ له. وتكفي العدالة في الولي ظاهرًا، فإن عدم حاكم أهل، فأمين يقوم مقامه، وعلم منه أنه لا ولاية للجد، والأم، وباقي العصبات. (و) يجب على الولي أن (لا يتصرف لهم) أي المحجور عليهم (إلا بالأحظِّ) لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (¬1)، فإن تبرع الولي بصدقة أو هبة، أو حابى، بأن باع من مال موليه بأنقص من ثمنه، أو اشترى له بأزيد، أو زاد في النفقة على الإنفاق بالمعروف، ضمن لتفريطه، وللولي تعجيل نفقة موليه مدة جرت به عادة أهل بلده، إن لم يفسدها، وإلا فتدفع إليه يومًا بيوم، فإن أفسدها بإتلاف، أو دفع لغيره أطعمه معاينة، وإلا كان مفرطًا، وإن أفسد كسوته ستر عورته فقط في بيت إن لم يمكن تحَيّل على إبقائها عليه ولو بتهديد. ¬
ولا يصح أن يبيع ولي أو يشتري أو يرهن من مالهم لنفسه، لأنه مظنة التهمة، إلا الأب، فله ذلك، لأن التهمة منتفية بين الوالد وولده، إذ من طبعه الشفقة عليه، وترك حظ نفسه لحظه. وللأب ولغيره من الأولياء مكاتبة قنه، وعتقه على مال، وتزويجه لمصلحة، وإذنه في تجارة، وسفر بمال مع أمن بلد، وطريق، لجريان العادة به، ولأب وغيره مضاربة بمالهم بنفسه، لحديث ابن عمرو (¬1) مرفوعًا: "من ولي يتيما له مال، فليتجر به، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة". وروي موقوفًا على عمر، وهو أصح (¬2). ولمحجور ربحه كله، لأنه نماء ملكه، فلا يستحقه غيره إلا بعقد، ولا يعقدها الولي لنفسه للتهمة، ولولي دفع مال محجور عليه لغيره مضاربة بجزء معلوم من ربحه، لأن عائشة -رضي اللَّه عنها- أبضعت مال محمد بن أبي بكر (¬3). ¬
ولوليٍّ بيع مال موليه نساء، وله قرضه ولو بلا رهن لمصلحة، وله شراء أضحية لمحجور عليه موسر، نصًّا (¬1). وله مداواته لمصلحة، ولو بأجرة، نصًّا (¬2). وله ترك صبي بمكتب لتعلم خط ونحوه بأجرة، لأنه من مصالحه، وله شراء لعب غير مصورة لصغيرة تحت حِجْرِهِ من مالها، نصًّا (¬3)، للتمرن، وله -أيضًا- تجهيزها إذا زوجها، أو كانت مزوجة بما يليق بها من لباس وحلي وفرش على عادتهن في ذلك البلد، وله خلط نفقة موليه بماله إذا كان أرفق به، وله بيع عقاره لمصلحة، نصًّا (¬4)، ولو بلا ضرورة، أو زيادة على ثمن مثله. ولولي صغير وسفيه ومجنون، غير حاكيم وأمينه؛ الأكل لحاجة من مال موليه، لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (¬5)، ولحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رجلًا أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إني فقير وليس لي شيء، ولي يتيم، فقال: "كل من مال يتيمك غير مسرف" (¬6). رواه أبو بكر. ولا يأكل الحاكم ولا أمينه شيئًا، لاستغنائهما بما لهما في بيت المال، فيأكل من يباح له الأقل من أجرة مثله وكفايته، ولا يلزمه عوضه إذا أيسر؛ لأنه عوض عن عمله، ولظاهر الآية، ومع عدم الحاجة يأكل من ¬
مالهم ما فرضه له حاكم، فإن لم يفرض له شيئًا لم يأكل منه، لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} (¬1). ولناظرِ وقفٍ ولو لم يحتج أكْل منه بمعروف، إلحاقًا له بعامل الزكاة، فإن شرط له الواقف شيئًا فله ما شرطه (ويتكبل قوله) أي الولي (بعد فك حجر) عن محجور عليه (في) وجود (منفعة) أي غبطة في بيع عقار (و) وجود (ضرورة) في ذلك (و) في (تلف) مال، أو قدر نفقة، ولو على عقار محجور عليه، أو كسوة لمحجور عليه، أو لزوجته، أو رقيقه، ونحوه، فيقبل قول الولي في ذلك، لأنه أمين ما لم تخالفه عادة وعرف، فيرد للقرينة، ويحلف ولي حيث قبل قوله، لاحتماد صدق الآخر. و(لا) يقبل قول ولي (في دفع مال بعد رشد) أو بعد عقل، لأنه قبض المال لمصلحته، أشبه المستعير (إلا) أن يكون الدفع (من) ولي (متبرع) فيقبل قوله في دفع المال إذن، لأنه قبض المال لمصلحة المحجور عليه فقط، أشبه الوديع، ولا يقبل قول ولي في قدر زمن إنفاق إلا ببينة، لأن الأصل عدم ما يدَّعيه. وليس لزوج حرة رشيدة حجر عليها في تبرع زائد على ثلث مالها. ولولي حر مميز، وسيد قيت مميز، أن يآذن له أن يتَّجر، لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} (¬2) ولأنه عاقل محجور عليه، فصح تصرفه بإذن وليه وسيده، كالعبد الكبير والسفيه، وكذلك يصح أن يأذن له أن يدّعي على خصم، وأن يقيم بينة على الخصم، وأن يحلِّفه إذا أنكر. (ويتعلق) جميع (دَين) قن (مأذون له) في تجارة إن استدان فيما أذن له فيه، أو غيره (بذمة سيد) لأنه غر الناس بإذنه له، وكذا ما اقترضه ونحوه بإذن سيده، لأنه تصرف لسيده (و) يتعلق (دَين غيره) أي غير المأذون له في ¬
تتمة
تجارة، بأن اشترى في ذمته، أو اقترض بغير إذن سيده، وتلف ما اشتراه، أو اقترضه بيده، أو بيد سيده، برقبته. (و) يتعلق (أرش جناية قن وقِيَم متلفاته برقبته) فيفديه سيده بالأقل من الدين أو قيمته، أو يبيعه ويعطيه أو يسلمه لرب الدين. تتمة: ويجوز للرقيق المأذون له هدية مأكول، وإعارة دابة، وعمل دعوة، وتصدق بيسير بلا إسراف في الكل، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- "كان يجيب دعوة المملوك" (¬1). ولرقيق غير مأذون له في تجارة أن يتصدق من قوته بما لا يضر به، كرغيف ونحوه، كفلس وبيضة، لجريان العادة بالمسامحة فيه، ولزوجة، وكل متصرف في بيتٍ كأجير، الصدقة منه بلا إذن صاحبه، بنحو ذلك، لحديث عائشة مرفوعًا: "إذا أنفقت المرأة من طعام زوجها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت، ولزوجها أجر ما كسب، وللخازن مثل ذلك، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئًا" (¬2). متفق عليه، ولم يذكر إذنًا، ولأن العادة السماح وطيب النفس به، إلا أن يمنع رب البيت منه، أو يكون رب البيت بخيلًا، ويشك في رضاه، فيحرم الإعطاء من ماله بلا إذنه، لأن الأصل عدم رضاه إذن. ¬
فصل في الوكالة
فصل في الوكالة بفتح الواو وكسرها، اسم مصدر بمعنى التوكيل. وهي لغة: التفويض، تقول: وكلت أمري إلى اللَّه -أي: فوضته إليه واكتفيت به- وتطلق -أيضًا- بمعنى الحفظ ومنه: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} (¬1) أي: الحفيظ. (¬2) وهي شرعًا: استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة (¬3). (وتصح الوكالة) مطلقة، ومنجزة، ومؤقتة، كأنتَ وكيلي شهرًا أو سنة، وتصح معلقة، نصًّا (¬4)، كقوله: إذا قدم زيد فبع هذا، أو إذا دخل رمضان فافعل كذا، هاذا طلب أهلي منك شيئًا فادععه لهم ونحوه، وتصح (بكل قول) أو فعل (يدل على إذن) نصًّا (¬5)، كبع عبدي فلانًا، أو اعتقه، ونحوه، أو فوضت إليك أمره، أو جعلتك نائبًا عني في كذا، أو أقمتك مقامي، لأنه لفظ دل على الإذن فصح، كلفظها الصريح. قال في "الفروع" (¬6): ودل كلام القاضي على انعقادها بفعلٍ دالٍّ كبيع، وهو ظاهر كلام الشيخ فيمن دفع ثوبه إلى قصار أو خياط، وهو أظهر، كالقبول. ¬
(و) يصح (قبولُها) أي الوكالة (بكل قول أو فعل يدل (¬1) عليه)، لأن وكلاءه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم ينقل عنهم سوى امتثال أوامره، ولأنه أذن في التصرف، فجاز قبوله بالفعل، كأكل الطعام، ولو كان القبول متراخيًا عن الإذن، فلو بلغه أن زيدًا وكله في بيع عبده منذ سنة، فقبل، أو باعه من غير قولٍ؛ صح لأن الإذن قائم، ما لم يرجع عنه. (وشُرط كونهما) أي: الموكل والوكيل (جائزي التصرف) لأن غير جائز التصرف ممنوع من التصرف لنفسه، فلا يصح منه أن يتوكل لغيره، ولا أن يوكله (ومن) يصح (له تصرف في شيء فله توكل) فيه (وتوكيل فيه) لأن النائب فرع عن المستنيب سوى أعمى، ونحوه، كمن يريد شراء عقار لم يره، إذا وكل عالمًا بالمبيع فيما يحتاج لرؤية، كجوهر، وعقار، فيصح، وإن لم يصح منه ذلك بنفسه، لأن منعهما التصرف في ذلك لعجزهما عن العلم بالمبيع، لا لمعنى فيهما يقتضي منع التوكيل. فلا يصح أن يوجب نكاحًا عن غيره، مَنْ لا يصح منه إيجابه لموليته، لنحو فسق، لأنه إذا لم يجز أن يتولاه أصالة، لم يجز بالنيابة، كالمرأة، ولا يصح أن يقبله لغيره، من لا يصح منه قبوله لنفسه، ككافر يتوكل في قبول نكاح مسلم لمسلمة، سوى قبول نكاح أخته ونحوها لأجنبي تحل له، وسوى قبول حر واجد الطَوْلَ (¬2) نكاح أمة لمن تباح له، وسوى توكل غني في قبض زكاة لفقير، وسوى طلاق امرأة نفسها وغيرها بوكالة؛ فيصح، لأنها إذا ملكت طلاق نفسها بجعله لها، ملكت طلاق غيرها بالوكالة. ولا تصح وكالة في بيع ما سيملكه، أو في طلاق من يتزوجها، لأن الموكل لا يملكه حين التوكيل، ويصح: إن ملكت فلانًا فقد وكلتك في عتقه، لأنه يصح تعليقه على ملكه، بخلاف: إن تزوجت فلانة فقد وكلتك في طلاقها. ¬
ولو قال من ادَّعى عليه وكيل غائب، عن دين ثابت: موكلك أخذَ حقه، لم يقبل قوله إلا ببينة، لأنه مقرٌّ، مدع الوفاء، ولا يؤخر الطلب حتى يحضر الموكل، ليحلف أنه لم يأخذه منه، لأنه وسيلة لتأخير حق متيقن لمشكوك فيه، أشبه ما لو ذكر المدَّعى عليه أن له بينة غائبة عن البلد بالوفاء، فلا يؤخر الحق لحضورها. (وتصح) الوكالة (في كل حق آدمي) متعلق بمالٍ وما يجري مجراه، من عقدٍ كبيع، وهبة، وإجارة، ونكاح، وفسْخٍ لنحو بيع، وطلاق، ورجعة، وتملك مباح، وصلح، وإقرار، وعتق، وإبرار، ولو لأنفسهما إن عيِّنا (¬1). و(لا) تصح وكالة في (ظهار) لأنه قول منكر وزور محرم أشبه بقية المعاصي (و) لا (لعان وأيمان) ونذر، وإيلاء، وقسامة، لتعلقها بعين الحالف والناذر، فلا تدخلها النيابة، كالعبادات، ولا في قسم لزوجات، ولا في شهادة، ولا في التقاط، ولا في دفع جزية، ولا في معصية، ولا في رضاع. وتصح في بيع ماله كله أو ما شاء منه، وتصح في المطالبة بحقوقه كلها أو ما شاء منها، وفي الإبراء منها أو ما شاء منها. ولا تصح في عقد فاسد، أو في كل قليل وكثير، لأنه يدخل فيه كل شيء من هبة ماله، وطلاق نسائه، وغير ذلك، فيعظم الغرر والضرر. (و) تصح الوكالة (في كل حق للَّه تعالى تدخله النيابة) من إثبات حد واستيفائه، لحديث: "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها". فاعترفت، فأمر بها، فرجمت (¬2)، متفق عليه. ومِنْ عبادة تتعلق بالمال، ¬
كتفرقة صدقة ونذر وزكاة، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يبعث عماله لقبض الصدقات وتفريقها (¬1)، وحديث معاذ (¬2) يشهد به. ويصح قوله: أخرج زكاة مالي من كالك، لأنه اقتراض من مال وكيل، وتوكيل له في إخراجه. وتصح وكالة في فعل حج وعمرة، فيستنيب من يفعلهما عنه مطلقًا في النفل، ومع العجز في الفرض، على ما سبق في الحج (¬3)، وتدخل ركعتا طواف تبعًا. ولا تصح وكالة في عبادة بدنية محضة، كصلاة، وصوم، وطهارة من حدث، لتعلقها ببدن من هي عليه. ولوكيل توكيل فيما يعجز عنه لكثرته، ولو في جميعه، لدلالة الحال على الإذن فيه، وفي ما لا يتولى مثله بنفسه، كالأعمال الدنية في حق أشراف الناس المترفعين عنها عادة، لأن الإذن إنما ينصرف لما جرت به العادة، ولا يصح أن يوكل وكيل فيما يتولى مثله بنفسه ويقدر عليه، لأنه لم يؤذن له في التوكيل، ولا تضمنه الإذن له، فلم يجز كما لو نهاه، إلا بإذن موكل فيجوز، لأنه عقد أذن له فيه، أشبه سائر العقود، قال في "الفروع" (¬4): ولعل ظاهر ما سبق: يستنيب نائب في اهج لمرض، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، -رحمهما اللَّه تعالى (¬5) -. ¬
ويتعين على وكيل حيث جاز له: أن يوكل أمين، فلا يجوز له استنابة غيره (¬1) إلا مع تعيين موكل، وإن وكل أمينًا فخان، فعليه عزله، لأن إبقاءه تفريط وتضييع. وكذا وصي له أن يوكل، وحاكم له أن يستنيب. ¬
وقول موكل لوكيله: وكل عنك. يصح، فإن فعل فالوكيل وكيل وكيله، ينعزل بموت الأول، وعزله. ووكل عني، أو وكلَ ويطلقُ، فوَكَّلَ، فهو وكيل موكله، فلا ينعزل بموت الوكيل الأول، ولا بعزله، فلا يملك الأول عزله، لأنه ليس وكيله، وإن مات الموكل، أو جُنَّ، ونحوه، انعزلا، سواء كان أحدهما فرع الآخر، أو لا. ولا يوصي وكيل مطلقًا، ولا يعقد مع فقير، أو قاطع طريق، إلا بإذن موكل، لأنه تغرير بالمال، ولا يبيع نَسَاء إلا بإذن، فإن فعل لم يصح، لأن الإطلاق ينصرف إلى الحلول، ولا يبيع بغير نقد، فإن فعل لم يصح، ولا بغير نقد البلد، أو غالبه إن جَمَعَ (¬1) نقودًا، أو الأصلح إن تساوت رواجًا، إلا إن عينه موكل، لأن إطلاق الوكالة إنما يملك به الوكيل فعل الأحظ لموكله. وإن وكل عبد غيره في بيع أو شراء، ونحوه من عقود المعاوضات، ولو في شراء نفسه من سيده، صح ذلك إن أذن فيه سيده، وإن لم يأذن له لم يصح، للحجر عليه فيمالا يملكه العبد. وعلم منه صحة توكيله فيما يملكه بلا إذن سيده، كطلاق، ورجعة، وصدقة بنحو رغيف. (وهي) أي الوكالة (وشركة، ومضاربة، ومساقاة، ومزارعة، ووديعة، وجعالة ومسابقة، وعارية، (عقود جائزة) من الطرفين (لكلٍّ) من المتعاقدين (فسخها) أي هذه العقود، وتبطل بموت وجنون مُطبق، لكن لو وكل ولي يتيم، أو ناظر وقف، ثم مات؛ لم يبطل بموته، لأنه متصرف على غيره. وتبطل وكالة بسكر يفسق به (¬2) فيما ينافيه (¬3)، كإيجاب نكاح ونحوه، وبفلس موكل فيما حجر عليه فيه، وبردته (ولا يصح بلا إذن) موكل (بيع ¬
وكيل لنفسه) بأن يشتري ما وكل في بيعه من نفسه لنفسه (ولا) يصح (شراؤه منها) أي من نفسه (لموكله) بأن وُكل في شراء شيء، فاشتراه من نفسه لموكله، لأنه خلاف العرف في ذلك، وللحوق التهمة له بذلك، وإن أذن له في ذلك؛ صح. ويتولى طرفي العقد فيهما، كأب الصغير ونحوه، إذا باع من ماله لولده، أو اشترى منه له (وولده) أي الوكيل (ووالده ومكاتبه) ونحوهم ممن ترد شهادته له، كزوجته، وابن بنته وأبي أمه (كنفسه) فلا يجوز للوكيل البيع لأحدهم، ولا الشراء منه مع الإطلاق، لأنه يتهم في حقهم، ويميل إلى ترك الاستقصاء عليهم في الثمن، كتهمته في حق نفسمه، بخلاف نحو أخيه وعمه، وكذا حاكم، وأمينه، ووصي، وناظر وقف، ومضارب، قال المنقح: وشريك عنان، ووجوهٍ (¬1). فلا يبيع أحد منهم لنفسه وولده ووالده ونحوه، ولا يشتري من نفسه ولا من ولده ووالده، لما تقدم. (وإن باع) وكيل في بيع، أو باع مضارب (بدون ثمن مثل) أو بدون ما قدر له (أو اشترى بأكثر منه) أي ثمن المثل أو بأكثر مما قدر له (صح) البيع أو الشراء، لأن من صح بيعه وشراؤه بثيت، صح منه بأزيد (وضمن) وكيل، وكذا مضارب (زيادةً) عن ثمن مثل، (أو) عن مقدر في شرائه، وضمنا (نقصًا) في بيع عن ثمن مثل أو عن مقدر، ولا يضمنان ما يتغابن به عادة، كالدرهم في عشرة فيما لم يقدر، لعسر التحرز منه، ويضمنان جميع النقص فيما قدر، وفيما لا يتغابن به عادة، كاثنين في عشرة، لأنه تفريص بترك الاحتياط، وطلب الأحظ. وفي بقاء العقد، وتضمين المفرط جَمْعُ ما بين المصالح. ولا يضمن قن أذن له سيده في بيع وشراء، فباع بأنقص، أو اشترى ¬
بأزيد لسيده، كما لو أتلف ماله، ولا يضمن صغير أذِنَ له وليه في التجارة، فباع بأنقص، أو اشترى بأزيد لمسه، كما لو أتلف مال نفسه، وإن باع وكيل أو مضارب بأزيد مما قدر لهما، أو من ثمن المثل، أو اشتريا بأنقص، صح، لوقوعه بالمأذون فيه وزيادة تنفع ولا تضر. (ووكيل) في بيع (مبيع يسلمه) أي: يملك تسليمه لمشتريه (ولا) يملك أن (يقبض ثمنه) لأنه قد يوكل في البيع من لا يؤمن على قبض الثمن. وكذا الوكيل في النكاح لا يملك قبض المهر (إلا بقرينة) تدل على ذلك، كأن كان عرف البلد قبض الوكيل لثمن ما باعه، فيقبضه (ويسلِّم وكيل الشراء الثمن) وإن أخره بلا عذرٍ، فتلف، ضمنه. (ووكيل) في (خصومة لا يقبض) أي لا يكون وكيلًا في القبض، لأن الإذن لم يتناوله نطقًا، ولا عرفًا، وقد يرضى للخصومة من لا يرضاه للقبض، وليس لوكيل خصومة إقرار على موكله مطلقًا، نصًّا (¬1)، كإقراره عليه بقود وقذف، وكالولي (و) وكيل في (قبض) دَين أو عين (يخاصِم) لأنه لا يتوصل إلى القبض إلا بالإثبات، فالإذن فيه إذن فيه عرفًا. (والوكيل أمين لا يضمن) ما تلف بيده (إلا بتعد أو تفريط) لأنه نائب الموكِّل في اليد والتصرف، فالهلاك في يده كالهلاك في يد المالك، وسواء كات متبرعًا أو بجُعْلٍ، فإن فرَّط أو تعدى ضمن (ويُقبل قوله) أي الوكيل (في نفيهما) أي التعدي والتفريط، بيمينه، لأنه أمين، ولا يكلَّفُ بينةً، لأنه مما تتعذر إقامة البينة عليه، ولئلا يمتنع الناس من الدخول في الأمانات مع الحاجة إليها، ويقبل إقراره على موكله في كل ما وكل فيه، من بيع وغيره، ولو نكاحًا، لأنه يملك التصرف فيه، فقبل قوله فيه كولي المجبرة. (و) يُقبل قول وكيل في (هلاك) عين، أو ثمنها، إذا قبضه، وقال موكله: لم يتلف (بيمينه) لأنه أمين، ولو كان بجعل (كـ) ما يقبل (دعوى) ¬
وكيل (متبرع ردَّ العين أو) رد (ثمنها) لموكل، لأنه قبض العين لنفع مالكها لا غير، كالمودع، لا وكيل بجُعْلٍ فلا يقبل قوله في الردّ، لأن في قبضه نفعًا لنفسه، أشبه المستعير و (لا) يقبل قوله في ردها (لورثته) أي الموكل لأنهم لم يأمنوه، ولا في ردها إلى غير من ائتمن، ولو بإذن الموكل، كأن أذن له في دفع دينار لزيد قرضًا، فقال الوكيل: دفعته له، وأنكره زيد فلا يقبل في الكل (إلا ببينة). ولا يقبل قول ورثة وكيل في دفع لموكل، لأنه لم يأتمنهم، ولا يقبل قول أجير مشترك كصبّاغ، وصائغ، وخياط، في رد العين. وظاهره: أنه يقبل قول أجير خاص، وأطلق في "الإقناع" (¬1) أنه لا يقبل قول أجير في الرد، ولا قول مستأجر نحو دابة في ردها، ولا مضارب، ومرتهن، وكل من قبض العين لحظ نفسه كالمستعير. ودعوى الكل تلفًا بحادث ظاهر، كحريق، ونهب، ونحوهما، لم يقبل، إلا ببينة تشهد بالحادث الظاهر؛ لعدم خفائه. وإن قال وكيل لموكله: أذنت لي في البيع نَسَاء، أو بغير ناقد البلد، أو بعرض، وأنكره موكل، فقول وكيل. أو اختلفا في صفة الإذن، بأن قال: وكلتني في شرائه بعشرة، فقال الموكل: بل بخمسة، أو وكلتني في شراء عبد، قال: بل أمة، أو أنْ أبيعه من زيد، قال: بل من عمرو، أو قال موكل: أمرتك ببيعه نسيئة برهن أو ضامن، وأنكره وكيل، ولا بينة، فالقول قول وكيل بيمينه، لأنه أمين. وإن باع الوكيل السلعة وقال للموكل: بذلك أمرتني، فقال: بل أمرتك برهنها، صُدِّق ربها، فاتت أو لم تفت، لأن الاختلاف هنا في جنس التصرف، وإن اختلفا في أصل الوكالة، فقول منكر، لأن الأصل عدم الوكالة، ويصح: بع ثوبي هذا بكذا، فما زاد عنه فلك، نصًّا (¬2). ¬
ومن عليه حق من دين أو عين، فادّعى إنسان أنه وكيل ربه في قبضه، أو أنه أحيل به عليه، فصدقه، لم يلزمه دفع إليه، لأنه لا يبرأ به، لجواز إنكار رب الحق، أو ظهوره حيًا في الوصية، وإن كذبه لم يستحلف، لعدم الفائدة، إذ لا يقضى عليه بالنكول، وإن دفعه للمدعي ذلك، فأنكر صاحب الحق الوكالة، أو الحوالة، حلف أنه لم يوكله، ولا أحاله، لاحتمال صدق المدعي، ورجع رب الحق على دافع وحده، إن كان المدفوع دينًا، لعدم براءته بدفعه لغير ربه، أو وكيله، والأن الذي أخذه مُدّعِي الوكالة، أو الحوالة، عين مال الدافع في زعم رب الحق، فتعين رجوعه على الدافع، فإن نكل لم يرجع بشيء. وفي مسألة الوصية يرجع بظهوره حيًا، ويرجع دافع على مُدّعٍ لوكالة، أو حوالة، أو وصية، بما دفعه مع بقائه، لأنه عين ماله، أو يرجع ببدله مع تلف بتعديه، أو تفريطه، لأنه بمنزلة الغاصب، فإن تلف بيد مدعي الوكالة بلا تعد، ولا تفريط، لم يضمنه، ولم يرجع عليه دافع بشيء، لأنه مقر بأنه أمين، حيث صدقه في دعواه الوصية، أو الوكالة. وأما دعوى حوالة فيرجع دافع على قابض مطلقًا. وإن كان المدفوع لمدعي وكالة أو وصية عينًا، كوديعة ونحوها، ووجدها ربها بيد الغاصب أو غيره، أخذها، وإلا يجدها، ضمَّن أيهما شاء، لأن القابض قبض ما لا يستحقه، والدافع تعدى بالدفع إلى من لا يستحقه، فتوجهت المطالبة على كلٍّ منهما. ويرجع دافع لم يصدق على مدفوع إليه مطلقًا، سواء كان دَينًا أو عينًا، بقي أو تلف، لأنه لم يقر بوكالة، ولم تثبت ببينة، ومجرد التسليم ليس تصديقًا.
فصل في الشركة
فصل في الشركة بفتح الشين مع كسر الراء وسكونها، وبكسر الشين مع سكون الراء (¬1). وهي جائزة بالإجماع (¬2)، لقوله تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (¬3)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يقول اللَّه تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما" (¬4) رواه أبو داود. وتكره شركة مسلم مع كافر، كمجويصي، نصًّا (¬5)، لأنه لا يأمن معاملته بالربا، وبيع الخمر، ونحوه، ولا تكره مع كتابي، لا يلي التصرف، لحديث الخلال، عن عطاء قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مشاركة اليهودي والنصراني إلا أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم (¬6). ولانتفاء المحظور بتولي المسلم التصرف. ¬
(والشركة: خمسة أضرب) جمع ضرب -أي صنف (¬1) - أحدها: (شركة عنان) ولا خلاف في جوازها، بل في بعض شروطها، سميت بذلك لاستوائهما في المال والتصرف، كالفارسين يستويان في السير، فإن عناني (¬2) فرسيهما يكونان سواء. أو مَنْ عنَّ الشيء إذا عرض، لأنه عنَّ لكل منهما مشاركة صاحبه (¬3). (وهي) أي شركة العنان (أن يُحضِر كلُّ) واحد (من عدد) اثنين فأكثر (جائز التصرف) فلا تعقد مع صغير ولا سفيه، ولا على ما في الذمة (من ماله) فلا تعقد بنحو مغصوب (نقدًا) ذهبًا، أو فضة، مضروبًا، ولو بسكة (¬4) كفار (معلومًا) قدرًا وصفة، ولو مغشوشًا قليلًا، أو كان من جنسين كذهب وفضة، أو كان متفاوتًا بأن، أحضر أحدهما مائة والآخر مائتين (ليعمل) متعلق بِيُحْضِر (فيه)، أي المال جميعه (كلٌّ) من له فيه شيء (على أن له من الربح جزءًا مشاعًا معلومًا) ولو أكثر من نسبة ماله، كأن جعل لرب السدس نصف الربح لقوة حذقه، أو يقال: على أن الربح بيننا، فيستوون فيه، لإضافته إليهم إضافة واحدة بلا ترجيح، أو ليعمل فيه البعض على أن يكون له أكثر من ربح ماله، وتكون الشركة إذًا عنانًا ومضاربةً، ولا تصح إن أحضر كل منهم مالًا على أن يعمل فيه بعضهم، وله من الربح بقدر ما له، لأنه إبضاع لا شركة، وهو دفع المال لمن يعمل فيه بلا عوض. ولا تصح إن عقدوها على أن يعمل أحدهم بدون ربح ماله، لأن من لا يعمل لا يستحق ربح مال غيره ولا بعضه، وفيه مخالفة لموضوع الشركة. ¬
تتمة
وتنعقد الشركة بما يدل على الرضى، من قول، أو فعل يدل على إذن كل منهما للآخر في التصرف وائتمانه، ويغني لفظ الشركة عن إذن صريح بالتصرف، لدلالته عليه، وينفذ التصرف من كلٍّ بحكم الملك في نصيبه، وبحكم الوكالة في نصيب شريكه، ولا يشترط خلط أموالهما، فما تلف منها قبل خلط فهو من ضمان الجميع. ولا تصح الشركة إن لم يذكر الربح في العقد، كالمضاربة، لأنه المقصود منها، فلا يجوز الإخلال به، وإن أقر بعضهم بمتعلق بالشركة، كأجرة دلَّال، وحمّال، ومخزن، ونحوه، فهو من مال الجميع، والخسارة في مال الشركة بقدر ما لكل من الشركاء، سواء كانت لتلف، أو نقصان ثمن، أو غيره، لأنها تابعة للمال. ومن قال من شريكين: عزلت شريكي، صح تصرف المعزول في قدر نصيبه فقط، وصح تصرف العازل في جميع المال، لعدم رجوع المعزول عن إذنه. ولو قال أحدهما: فسخت الشركة انعزلا، لأن فسخ الشركة يقتضي عزل نفسه من التصرف في مال صاحبه، وعزل صاحبه من التصرف من مال نفسه، وسواء كان المال نقدًا أو عرضًا، ويقبل قول منكر القسمة إذا ادعاها صاحبه، لأن الأصل عدمها. ولا تصح شركة عنان ولا مضاربة بنقرة (¬1) لم تضرب لأنها كالعروض، ولا بمغشوش غشًا كثيرًا، ولا فلوس ولو ناقتين، لأنها كالعروض، بل الفلوس عروضٌ مطلقًا. تتمة: لكل من الشركاء أن يبيع ويشتري، ويأخذ ويعطي، ويطالب ويخاصم، ويحيل ويحتال، ويرد بعيب للحظ ولو رضي شريكه، وأن يقر بالعيب، وأن يقايل، وأن يؤجر ويستأجر، وأن يبيع نَسَاءً، وأن يودع ¬
تتمة
لحاجة، وأن يرهن ويرتهن، وأن يفعل كل ما فيه حظ للشركة، وليس له أن يكاتب قنًّا من الشركة، أو يزوجه، أو يعتقه ولو بمال، إلا بإذن، ولا أن يهب من مال الشركة، أو يقرض، أو يحابي، أو يضارب، أو يشارك بالمال، أو يخلطه بغيره، أو يأخذ به سفتجة (¬1)، بأن يدفع من مال الشركة إلى إنسان، ويأخذ منه كتابًا إلى وكيله ببلد آخر، ليستوفي منه، أو يعطيها؛ بأن يشتري عرضًا، ويعطي بثمنه كتابًا إلى وكيله ببلد آخر، ليستوفي منه. ولا أن يستدين عليها إلا بإذن شريكه في الكل. وإن قال: اعمل برأيك، ورأى مصلحة؛ جاز الكل، وما استدان بدون إذن فعليه، وربحه له. تتمة: والاشتراط فيها نوعان: صحيح، كشرط أن لا يتجر إلا في نوع كذا، أو أن لا يتجر إلا في بلد بعينه، أو أن لا يبيع إلا بنقد كذا، أو أن لا يسافر بالمال. ونوع فاسد، وهو قسمان: مفسد لها، وهو: ما يعود بجهالة الربح، كشرط دراهم لزيدٍ الأجنبي، والباقي من الربح لهما، واشتراط ربح ما يشتري من رقيق لأحدهما وما يشتري من ثياب للآخر، ونحو ذلك، فتفسد الشركة، والمضاربة به، لإفضائه إلى جهل حق كل منهما من الربح، أو إلى فواته. وقسم فاسد غير مفسد: كاشتراط أحدهما على الآخر ضمان المال إن تلف بلا تعد ولا تفريط، أو أن ما عليه من الخسارة أكثر من قدر ماله، أو أن يعطيه ما يختار من السلع برأس ماله، أو أن لا يفسخ الشركة مدة كذا، ونحو ذلك، فهذه الشروط كلها فاسدة، لتفويتها المقصود من عقد الشركة، والشركة، أو المضاربة، صحيحة. ¬
وإذا فسدت الشركة قسم ربح شركة عنان ووجوه على قدر المالين، وقسم أجر ما تقبلاه من عمل في شركة أبدان بالسوية، وتوزيع وضيعة على قدر ما لكل، ورجع كل من لشريكين في عنان ووجوه وأبدان بأجرة نصف عمله، ومن تعدى من الشركاء، بمخالفة، أو إتلاف، ضمن كالغاصب، وربح مالٍ لربه، نصًّا (¬1)، لأنه نماء مال تصرف فيه غير مالكه بغير إذنه، فكان لمالكه. وعقد فاسد في مضاربة، وشركة، ووكالة، ووديعة، ورهن، وهبة، وصدقة، وهدية، ووقف، كعقد صحيح في ضمان وعدمه، فلا يضمن منها ما لايضمن في العقد الصحيح. الضرب (الثاني: المضاربة) من الضرب في الأرض، أي السفر فيها للتجارة، وهذه تسمية أهل العراق. وأهل الحجاز يسمونها: قراضًا، من قرض الفأر الثوب أي قفعه، كأن رب المال اقتطع للعامل قطعة من ماله، وسلمها له واقتطع له قطعة من ربحها (¬2). وحكى ابن المنذر الإجماع على جوازها (¬3). ولحاجة الناس إليها. (وهي) شرعًا (¬4): (دفع ماك) أي نقد مفروب، غير مغشوش كثيرًا، لما تقدم (¬5) أو ما في معنى الدفع، كوديعة، وعارية، وغصب، إذا قال ربها لمن هي تحت يده: ضارب بها على كذا. (معين) أي المال فلا يصح: ضارب بأحد هذين الكيسين، تساوى ما فيهما أو اختلف، علما ما فيهما، أو ¬
جهلاه، لأنه عقد تمنع الجهالة صحته (معلوم) قدره، فلا تصح بصبرة دراهم أو دنانير، لأنه لابد من الرجوع إلى رأس المال عند الفسخ ليعلم الربح، ولا يمكن ذلك مع الجهل (لمن يتجر فيه) أي المال، وهو متعلق بدفعٍ (بجزءٍ) متعلق (بيتَّجر) (معلوم مُشاع من ربحه) كنصفه أو ربعه. (وإن ضارب) العامل (لآخر) أي أخذ مضاربة لشخص آخر (فأضر) اشتغاله بالعمل في مال الثاني ربَّ المال (الأول، حرُم) عليه ذلك، لأنه يمنعه مقصود المضاربة من طلب النماء والحظ، فإن لم يضر الأول، بأن كان مال الثاني يسيرًا لا يشغله عن العمل في مال الأول جاز (و) إن ضارب لآخر بحيث يضر الأول (رد) العامل (حصته) من ربح المضاربة الثانية (في الشركة) الأولى، نصًّا (¬1)، فيدفع لرب المضاربة الثانية نصيبه من الربح، ويؤخذ نصيب العامل، فيضم لربح مضاربة الأول، ويقسمه مع ربها على ما اشترطاه، لأنه استحقه بالمنفعة التي استحقت بالعقد الأول. ورده في "المغني" كما ذكره صاحب "المنتهى" في "شرحه" (¬2). ¬
ولا يصح لرب المال الشراء من مال المضاربة لنفسه، نصًّا (¬1)، لأنه ملكه كشرائه من وكيله وعبده المأذون، وإن اشترى شريك نصيب شريكه؛ صح، لأنه ملك غيره. ولا نفقة لعامل في مال المضاربة، لأنه دخل على العمل بجزء، فلا يستحق غيره، إلا بشرطٍ، نصًّا (¬2)، كالوكيل. وقال الشيخ، وابن القيم: أو عادة (¬3). ويصح شرطها سفرًا وحضرًا، لأنها في مقابلة عمله، وإن شُرطت مطلقة، واختلفا فيها، فله نفقة مثله عرفًا، وإن تعدد رب المال، فهي على قدر ما لكلٍّ. وللعامل التسِّري من مال المضاربة بإذن رب المال، فإذا اشترى أمة للتسري ملكها، وصار ثمنها قرضًا عليه لرب المال، لخروجه من المضاربة، مع عدم وجود ما يدل على التبرع به من رب المال، وإن وطئ عامل أمة من المال بغير إذن عزر، نصًّا (¬4)، لأن ظهور الربح مبني على التقويم، وهو غير متحقق، لاحتمال أن السلعة تساوي أكثر مما قومت به، فهو شبهة في درء الحد، وإن لم يظهر ربح، وعليه المهر، وإن ولدت منه، وظهر ربح، صارت أم ولد، وولده حر، وعليه قيمتها، وإن لم يظهر فهي وولدها ملك لرب المال. ¬
ولا يطأ رب المال أمة من المضاربة ولو عدم الربح، لأنه ينقصها إن كانت بكرًا، أو يعرضها للتلف والخروج من المضاربة، ولا حد عليه، لأنها ملكه، وإن ولدت منه خرجت من المضاربة، وحسبت قيمتها عليه، فإن كان فيه ربح فلعامل حصة منه. ولا ربح لعامل حتى يستوفى رأس المال (وإن تلف رأس المال أو) تلف (بعضه بعد تصرف) عامل في المضاربة (أو) ربح في أحد سلعتيه و (خسر) في الأخرى (جبر) رأس المال (من ربح) إن كان (قبل قسمة) الربح ناضًّا (¬1)، أو قبل تنضيضه، مع محاسبة، نصًّا (¬2). فإن تقاسما الربح والمال ناضٌّ، أو تحاسبا بعد تنضيض المال، وأبقيا المضاربة، فهي مضاربة ثانية، فما ربح بعد ذلك لا يجبر به وضيعة الأول، ولو قسم رب المال والعامل الربح، أو أخذ أحدهما منه شيئًا بإذن صاحبه، والمضاربة بحالها، ثم خسر، كان على العامل رد ما أخذه من الربح، لأنا تبينَّا أنه ليس بربح، ما لم تنجبر الخسارة، نصًّا (¬3). وتفسخ مضاربة فيما تلف من مالها قبل عمل، ويصير الباقي رأس المال، فإن تلف الكل، ثم اشترى العامل للمضاربة شيئًا، فهو كفضولي، وإن تلف بعد شرائه في ذمته، وقبل نقد ثمن فالمضاربة بحالها، ويطالب العامل ورب المال، بالثمن لتعلق حقوق العقد برب المال، ومباشرة العامل، وإن دفعه عامل بنية الرجوع، رجع به على رب المال، للزومه له أصالة. والعامل بمنزلة الضامن. وتحرم قسمة الربح والعاقد باق إلا باتفاقهما، لأنه وقاية لرأس المال، فلم يجبر ربه على القسمة، لأنه لا يأمن ¬
تتمة
الخسران فيجبره بالربح، ولا العامل، لأنه لا يأمن أن يلزمه ما أخذه في وقت لا يقدر عليه، فإن اتفق على قسمه أو بعضه، جاز، لأنه ملكهما، كالشريكين. تتمة: العامل أمين يصدق بيمينه في قدر رأس مال، وفي ربح وعدمه، وفي هلاك وخسران، وفيما يذكر أنه اشتراه لنفسه، أو للمضاربة، وفي نفي ما يدَّعي عليه من خيانة، أو تفريط، لأن الأصل عدمهما. وإذا شرط العامل النفقة، ثم ادعى أنه أنفق من ماله بنية الرجوع، فله ذلك سواء، كان المال بيده، أو رجع إلى ربه، كالوصي إذا ادّعى النفقة على اليتيم. وإذا اشترى العامل شيئًا، وقال المالك: كنت نهيتك عنه، وأنكر. فقوله، لأن الأصل معه. ولو أقر عامل بربح، ثم ادعى تلفًا، أو خسارة، قُبِلَ قوله، لأنه أمين، ولا يقبل قوله إن ادعى غلطًا، أو كذبًا، أو نسيانًا، أو اقتراضًا تمم به رأس المال بعد إقراره به لربه، كأن قال عامل: هذا رأس مال مضاربتك. ففسخ ربها، وأخذه. فادعى العامل أن المال كان خسر، وأنه خشي إن وجده ناقصًا يأخذه منه، فاقترض ما تممه به، ليعرضه عليه تامًا، فلا يقبل قواسه فيه، لأنه رجوع عن إقرار بحق لآدمي. ولا يقبل قوله في رد مال المضاربة إلى ربه بلا بينة، نصًّا (¬1)، لأنه قبضه لنفع له فيه، أشبه المستعير، والقول قول المالك في ذلك. ويقبل قول مالك في صفة خروجه عن يده، كأن قال: أعطيتك ألفا قراضًا، على النصف من ربحه. وقال العامل: بل قرضًا لا شيء لك من ربحه، فقول رب المال، لأن الأصل بقاء ملكه عليه، فإذا حلف، قسم الربح بينهما، وإن خسر المال، أو ¬
تلف، فقال ربه: كان قرضًا. وقال العامل: كان قراضًا، أو بضاعة، فقول ربه -أيضًا- لأن الأصل في قبض مال الغير الضمان، فلو أقاما بينتين، قُدِّمَتْ بينة عامل، لأن معها زيادة علم، ولأنه خارج. وإن قال رب المال: كان بضاعة. وقال العامل: كان قراضًا، حلف كل منهما على إنكار ما ادعاه خصمه، وكان له أجر عمله، لا غير. ويقبل قول مالك بعد ربح في قدر ما شرط لعامل، فإن أقاما بينتين، قدمت بينة عامل -أيضًا- ويصح دفع عبد، أو دابة، أو قِربة، أو قِدْر، أو آلة حرث، ونحو ذلك لمن يعمل به بجزء من أجرته. ويصح خياطة ثوب، ونسج غزل، وحصاد زرع، ورضاع قن، واستيفاء مال، وبناء دار، وطاحون، ونجر باب (¬1)، ونحو ذلك، بجزء مشاع منه، لأنها عين تنمى بالعمل عليها، فصح العقد عليها ببعض نمائها. ويصح دفع دابة، أو نحل، أو عبد، أو أمة، لمن يقوم به مدة معلومة بجزء منه، كربعه، أو خمسه، والنماء ملك لهما، على حسب ملكيهما، لا بجزء من نماء كدَرٍّ، ونسل، وصوف، وعسل، ونحو ذلك، لحصول نمائه بغير عمل، وله أجر مثله. والضرب (الثالث: شركة الوجوه، وهي أن يشتركا) بلا مال (في ربح ما يشتريان في ذممهما بجاهيهما) أي بوجوههما، وثقة التجار بهما (¬2) والجاه والوجه واحد، يقال: فلان وجيه ذو جاه. (¬3) وهي جائزة لاشتمالها على مصلحة بلا مضرة، ولا يشترط لصحتها ذكر جنس ما يشتريانه، ولا ذكر قدره، ولا ذكر وقت الشركة. فلو ¬
قال أحدهما للآخر: كلما اشتريت من شيء فبيننا، وقال له الآخر كذلك، صح العقد، ولا يعتبر ذكر شروط الوكالة، لأنها داخلة في ضمن الشركة، بدليل المضاربة، وشركة العنان. (وكلٌّ) من شريكي الوجوه (وكيل الآخر) في بيع وشراء (وكفيله بالثمن) لأن مبناها على الوكالة والكفالة. وملكٌ فيما يشتريان كما شرطا، لحديث: "المؤمنون عند شروطهم" (¬1) وربحٌ كما شرطا، من تساو وتفاضل لأن أحدهما قد يكون أوثق عند التجار، وأبصر بالتجارة، ولأنها منعقدة على عمل وغيره، فكان ربحها على ما شرطا، كشركة العنان. والخسران بتلفٍ، أو بيعٍ بنقص عما اشتري به، على قَدْرِ الملك، فمن له الثلثان مثلًا فعليه ثلثا الوضيعة، وهكذا، سواء كان الربح بينهما كذلك، أو لا، وتصرفهما كتصرف شريكي عنان، على ما سبق (¬2). والضرب (الرابع: شركة الأبدان) سميت بذلك: لاشتراكهما في عمل أبدانهما (¬3). (وهي) نوعان: أحدهما (أن يشتركا فيما يتملكان بأبدانما من مباح كاصطياد ونحوه) كاحتشاش، وتلصص على دار الحرب، واحتج أحمد بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أشرك بين عمَّار وسعد وابن مسعود. فجاء سعد بأسيرين، ولم يجيئا بشيء (¬4). كان ذلك في غزوة بدر، وكانت غنائمها لمن ¬
أخذها، قبل أن يشرك اللَّه تعالى بينهم (¬1). (أو) أن يشتركا فيما (يتقبَّلان في ذممهما من عمل، كخياطة) وحدادة وقصارة، وهذا هو النوع الثاني. ولو قال أحدهما: أنا أتقبل، وأنت تعمل، والأجرة بيننا؛ صح، لأن تقبل العمل يوجب الضمان على المتقبِّل، ويستحق به الربح، فصار كتقبله المال في المضاربة، والعمل يستحق به العامل الربح، كعمل المضارب، فينزَّل منزلة المضاربة (فما تقبله أحدُهما) من عمل (لزمهما عمله، وطولبا به) لأن مبناها على الضمان، فكأنها تضمنت ضمان كل واحد منهما عن الآخر ما يلزمه، ولكل من الشريكين طلب أجرة عمل، ولو تقبله صاحبه، ويبرأ مستأجر بدفعها لأحدهما، وتلفها بيد أحدهما بلا تفريط: عليهما، لأن كلًّا وكيل الآخر، ولا يشترط لصحتها اتفاق صنعة الشريكين، فلو اشترك حداد ونجار، أو خياط وقصار، فيما يتقبلان في ذممهما من عمل، صح، لاشتراكهما في كسب مباح، أشبه ما لو اتفقت الصنائع. ولا يشترط اصحة الشركة معرفة الصنعة لواحد منهما. (وإن ترك أحدهما) أي الشريكين (العمل) لعذر (أو لا) لعذر، بأن كان حاضرًا صحيحًا (فالكسب بينهما) على ما شرطا (ويلزم من عُذِر) بنحو مرض في ترك عمل مع شريكه (أو لم يَعْرف العمل أن يقيم مقامه) في العمل ¬
(بطلب شريك) له بذلك لدخولهما على العمل، فلزمه أن يفي بمقتضى العقد، وللآخر الفسخ إن امتنع، أو لم يمتنع. ولا تصح شركة دلَّالين، لأن الشركة الشرعية لا تخرج عن الوكالة والضمان، ولا وكالة هنا، لأنه لا يمكن توكيل أحدهما على بيع مال الغير، ولا ضمان، لأنه لا دين بذلك يصير في ذمة واحد منهما، ولا تقبُّل عمل (¬1). والضرب (الخامس شركة المفاوضة، وهي) لغة: الاشتراك في كل شيء (¬2)، وشرعًا (¬3): (أن يفوض كل) من اثنين فأكثر (إلى صاحبه كل تصرف مالي) من بيع، وشراء في الذمة، ومضاربة، وتوكيل، ومسافرة ¬
بالمال، وارتهان، وتقبل ما يرى من الأعمال. أو (¬1) (يشتركا في كل ما يثبت لهما وعليهما فتصح؛ إن لم يدخلا فيها كسبًا نادرًا) أو غرامة، لأنها لا تخرج عن أضرب الشركة التي تقدمت (وكلها جائزة. ولا ضمانَ فيها إلا بتعدٍّ أو تفريط) (¬2). وإن أدخلا فيها كسبًا نادرًا، كوجدان لقطة، أو ركاز، أو ما يحصل من ميراث، أو أدخلا فيها ما يلزم أحدهما من ضمان غصب، أو أرش جناية، أو ضمان عارية، ونحو ذلك، فهي حينئذ فاسدة، لأنه عقد لم يرد الشرع بمثله، ولما فيه من كثرة الغرر، لأنه قد يلزم فيه ما لا يقدر الشريك عليه، ولكل من الشريكين في هذا القسم ما يستفيده، وله أجرة عمله. ¬
فصل في المساقاة
فصل في المساقاة من السقي (¬1) (وتصح المساقاة على شجر) مغروس معلوم (له ثمر يؤكل) لمن يعمل عليه، بجزء مشاع معلوم من ثمره النامي بعمله، وسواء النخل، والكَرمُ، والرمان، والجوز، واللوز، والزيتون، وغيرها، لحديث ابن عمر قال: عامل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. متفق عليه (¬2). (و) تصح المساقاة على (ثمرة موجودة بجزء) مشاع معلوم (منها) لأنه إذا جاز في المعدوم مع كثرة الغرر، فعلى الموجود مع قلته أولى. وتصح المغارسة، وهي: دفع (شجر) معلوم، له ثمر مأكول بلا غرس، مع أرض لمن (يفرسه ويعمل عليه حتى يثمر بجزء) مشاع معلوم (من الثمرة أو) من (الشجر) عينه (أو منهما) أي من الشجر والثمرة (¬3). فإن ¬
لم يكن الغراس من رب الأرض، فسدت على المذهب (¬1)، وربُّ الأرض بالخيار بين تكليف رب الغراس أخذه، ويضمن له نقصه، وبين تملكه بقيمته، إلا أن يختار ربه أخذه، وإن اتفقا على إبقائه بأجرة، جاز. وإن دفع أرضًا وشجرًا لمن يعمل عليه بجزء من الأرض والشجر لم يصح، كما لو جعل له في المساقاة جزءًا من الشجر (فإن فسخ مالك) المساقاة، أو مات (قبل ظهور ثمرة) وبعد عمل (فلعامل أجرته) لاقتضاء ¬
العقد العوض المسمى، ولم يرض العامل بإسقاط حقه منه (أو) فسخ (عامل) المساقاة، أو هرب قبل ظهور ثمرة (فلا شيء له) لإسقاط حقه برضاه، كعامل المضاربة إذا فسخ قبل ظهور الربح (وتُملك الثمرة بظهورها فعلى عامل تمام عمل إذا فسخت بعده) أي بعد ظهور الثمرة فيما ساقا عليه، والثمر بينهما، على ما شرطا في العقد. وإن بان الشجر المساقى عليه مستحقًّا لغير المساقي، بعد عمل عامل فيه، فلربه أخذه وثمره، لأنه عين ماله، ولا شيء عليه للعامل، لأنه لم يأذن، وله أجر مثله على الغاصب، لأنه غرَّه واستعمله. (وعلى عامل) في مساقاة ومغارسة ومزارعة (كلُّ ما فيه نمو أو صلاح) لثمر وزرع، من سقي بماء حاصل، لا يحتاج إلى حفر بئر، ولا إدارة دولاب، وإصلاح طريقة (وحصاد ونحوه) كدياس، وتشميس ما يحتاج إليه، وإصلاح محله، وحفظ ثمرة، وزرع إلى قسمه (وعلى رب أصل حفظـ) ـه، ونحوه، كسدِّ حائط، وإجراء نهر، وحفر بئر، وثمن دولاب، وما يديره من بهائم، وشراء ما يلقح به من طلع فحالٍ، وتحصيل زبلٍ، وسباخ (¬1)، لأن هذا كله ليس من العمل، فهو على رب المال. (وعليهما) أي العامل ورب المال (بقدر حصتيهما جذاذ) نصًّا (¬2)، ويصح شرطه على عامل، نصًّا (¬3)، ولا يصح أن يشترط على أحدهما ما على الآخر كلة أو بعضه، ويفسد العقد به، لمخالفته مقتضاه، ويتبع في الكُّلَفِ السلطانية (¬4) العرفُ، ما لم يكن شرط، فيعمل به. وما طلب من قرية من ¬
وظائف سلطانية ونحوها؛ فعلى قدر الأموال، وإن وضعت على الزرع فعلى ربه، وعلى العقار على ربه، ما لم يشترطه على مستأجر (¬1). والخراج على رب المال، لأنه على رقبة الأرض، أثمر الشجر أو لم يثمر، ولأنه أجرة الأرض فكان على من هي ملكه. وكره حصاد وجذاذ ليلًا، نصًّا (¬2)، خشية ضرر. (وتصح المزارعة بجزء معلوم مما يخرج من الأرض) كثلث، وربع، ونحو ذلك (بشرط علم) جنس (بذر) ولو تعدد البذر (و) علم (قدره، و) بشرط (كونه) أي البذر (من رب الأرض) نصًّا (¬3). واختاره عامة الأصحاب، وعنه: ما يدل على أنه لا يشترط ذلك، وصححه في "المغني" وغيره، وجزم به في "المختصر" (¬4)، فإن كان في الأرض شجر، فزارعه على الأرض، وساقاه على الشجر، صح، سواء قل بياض الأرض، أو كثر. نص عليه (¬5). وقال: قد دفع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خيبر على هذا (¬6). وإن آجره الأرض وساقاه على الشجر، صح، كجمع بين إجارة وبيع، ما لم يكن حيلة على بيع الثمرة قبل وجودها، أو قبل بدو صلاحها، كان آجره الأرض بأكثر من أجرتها، وساقاه على الشجر بجزء مثلًا من ألف جزء، فيحرم ذلك، ولم يصح كل من الإجارة، والمساقاة. ¬
وإن شرط رب المال لعامل نصف هذا النوع، أو الجنس من ثمر أو زرع، وربع الآخر، وجهل قدرهما، بأن جهلاهما، أو جهلهما أحدهما، أو شرط أن سقى العامل سيحًا (¬1)، أو زرع شعيرًا، فله الربع، وإن سقى بكلفة، أو زرع حنطة، فله النصف، أو قال له: اعمل، ولك الخمسان إن لزمتك خسارة، وإلا فلك الربع، أو شرطا أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسمان الباقي؛ لم يصح، للجهالة. وإن قال: ساقيتك هذا البستان بالنصف، على أن أساقيك الآخر بالربع، فسدتا، لأنه شرط عقد في عقد، فهو في معنى بيعتين في بيعه المنهي عنه، كما لو شرطا لأحدهما قفزانًا معلومة، أو دراهم معلومة، أو زرع ناحية معينة، أو ثمر شجر ناحية معينة. وإذا فسدت المزارعة، فالزرع لرب البذر. أو المساقاة، فالثمرة لرب الشجر، لأنه عين ماله، ينقلب من حال إلى حال، وينمو، كالبيضة تحضن فتصير فرخًا، وعليه الأجرة -أي أجرة مثل العامل- لأنه بذل منافعه بعوض لم يسلم له، فرجع إلى بدله، وهو أجر المثل، وإن كان رب البذر هو العامل، فعليه أجرة مثل الأرض. ¬
فصل في الإجارة
فصل في الإجارة من الأجر وهو العوض، ومنه سمي الثواب أجرًا، لأنه تعالى يعوض العبد على الطاعة، أو صبره عن المعصية (¬1)، وهي ثابتة بالإجماع (¬2)، وسنده من الكتاب قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬3)، ومن السنة حديث عائشة في خبر الهجرة، قالت: "واستأجر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر رجلًا من بني الدَّيْل (¬4) هاديًا خِرِّيتًا". والخريت: الماهر بالدلالة (¬5). رواه البخاري (¬6). والحاجة داعية إليها. ¬
وهي لغة: المجازاة (¬1). وشرعًا: عقد على منفعة مباحة معلومة، تؤخذ شيئًا فشيئًا (¬2). (وتصح الإجارة بثلاثة شروط): أحدها: (معرفة منفعة) لأنها المعقود عليها، فاشترط العلم بها كالبيع: إما بعرف كسكنى دار شهرًا، وخدمة آدمي سنة، فلا تحتاج إلى ضبط، كالسكنى فيخدمه نهارًا، ومن الليل ما يكون من خدمة أوساط الناس، أو بوصف، كحمل زُبْرَة حديد (¬3) وزنها كذا إلى محل كذا، لأن المنفعة إنما تعرف بذلك، فإن كان كتابًا، فوجد المحمول إليه غائبًا، فله الأجرة، لذهابه، ورده. وفي "الرعاية" (¬4): إن وجده ميتًا، فالمسمى فقط. أو بناء حائط، فيذكر طوله، وعرضه، وسمكه، وآلته، لاختلاف الغرض، فلو بناه، ثم سقط، فله الأجرة، لأنه وفَّى بالعمل، إلا إنا كان سقوطه بتفريطه. وتصح إجارة أرض معينة، برؤية، لا وصف، لأن الأرض لا تنضبط به، لزرع، أو غرس، أو بناء معلوم. أو لزرع، أو غرس، أو بناء ما شاء، أو لزرع، أو لغرس، أو لبناء، ويسكت، فله زرع وغرس وبناء ما شاء، كأنه استأجرها لأكثر ذلك ضررًا. وإن كانت الإجارة لركوب: اشترط مع ذكر الموضع المركوب إليه، معرفة راكب، برؤية، أو صفة، وذكر كوب كمبيع، إن لم يكن مرئيًا، لاختلاف المقاصد بالنظر إلى أجناس المركوب، من كونه فرسًا، أو ¬
بعيرًا، أو بغلًا، أو حمارًا، ومعرفةُ ما يركب به من سرج أو غيره، ومعرفة كيفية سيره من هملاج (¬1) وغيره لا ذكوريته وأنوثته، أو نوعه. (و) الشرط الثاني: (إباحتها) أي المنفعة، أي كون نفع معقود عليه مباحًا مطلقًا، بلا ضرورة، بخلاف جلد ميتة، وإناء من ذهب أو فضة، لأنه لا يباح إلا عند الضرورة، لعدم غيره، مقصودًا عرفًا، يستوفى من عين مؤجرة، دون استهلاك الأجزاء، بخلاف شمع لشعل وصابون لغسل مقدورًا عليه، بخلاف ديك ليوقظه لصلاة، ولا يصح، نصًّا (¬2)، لأنه لا يقف على فعل الديك، ولا يمكن استخراجه منه بضرب ولا غيره. وتجوز إجارة كتاب لنظر، وقراءة ونقل، لا مصحف، فلا تجوز إجارته، لأنه لا يجوز بيعه. وتصح إجارة حائط لحمل خشب معلوم، وبئر يستقى منها أيامًا معلومة، لأن فيها نفعًا مباحًا بمرور الدلو، والماء يؤخذ على أصل الإباحة، وحيوان لصيد، وقرد لحراسة. ولا تصح إجارة كلب، أو خنزير، لأنه لا يصح بيعهما. ويصح استئجار عَنْبرٍ وصَنْدَل ونحوه، لشمٍّ مدةَ معينة، لأنه نفع مباح، كالثوب للبس. ولا يصح استئجار ما يسرع فساده من الطيب، كالرياحين، لتلفها من قريب، تشبه المطعومات. ولا تصح إجارة على زنا، أو زمر، أو غناء، أو نَوحٍ، ونَسْخٍ كتب بدعةٍ، وشِعْر محرم، ونحوه، لأن المنفعة المحرمة لا تقابل بعوض في بيع، فكذا في إجارة. ¬
ولا تصح إجارة فحل الضراب، لنهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن عسب الفحل (¬1)، متفق عليه. ولا تصح إجارة في امرأة ذات زوج بلا إذنه، لتفويت حقه باشتغالها عنه، بما استؤجرت له. (و) الشرط الثالث: (معرفة أجرة) لأنه عوض في عقد معاوضة، فاعتبر علمه، كالثمن، ولخبر: "من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره" (¬2) ويصح أن تكون الأجرة معينة، وأن تكون في الذمة. ويصح استئجار دارٍ بسكنى دارٍ أخرى، مدة معلومة، للعلم بالعوض. ويصح استئجار حلي للبس، بأجرة من جنسه أو غيره (إلا أجيرًا ومرضعًا) (¬3) أمًّا أو غيرها (بطعامهما وكسوتهما) فيصح، وإن لم يوصفا، وكذا لو استأجرهما بدراهم معلومة وشرط معها طعامهما وكسوتهما، لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬4) فأوجب لهن النفقة والكسوة على الرضاع، ولم يفرق بين المطلقة وغيرها، بل الزوجة تجب نففتها وكسوتها بالزوجية، وإن لم ترضع، وهما في تنازع في صفة طعام أو ¬
كسوة، أو قدرهما؛ كزوجة، فلهما نفقة، وكسوة مثلهما. وسن لموسر استرضع أمةً لولده عند فطامه: إعتاقها، وحرةٍ إعطاؤها عبدًا أو أمةً، لحديث أبي داود، عن هشام بن عروة عن أبيه عن حجاج عن أبيه قال: قلت: يا رسول اللَّه ما يذهب عني مذمة الرضاع؟ قال: الغُرَّةُ: العبد أو الأمة (¬1). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال الشيخ تقي الدين: لعل هذا بالمتبرعة بالرضاع (¬2). (وإن دخل حمَّامًا، أو) ركب (سفينة، أو أعطى ثوبه خياطًا) ليخيطه (ونحوه) كأن أعطى ثوبه صبَّاغًا ليصبغه، أو قصارًا ليقصره، أو أعطى حدادًا حديدًا ليضربه سيفًا، ونحوه، أو استعمل حمّالًا، أو حلاقًا، أو دلالًا بلا عقد معه (صح، ووه أجرة مثل) ولو لم تجر عادة بأخذه أجرة، لأنه عمل له بإذنه ما لمثله أجرة، ولم يتبرع، وهذا في المنتصب لذلك، وإلا فلا شيء له إلا بعقد، أو شرط، أو تعريض. وإن أكرى دابة، وقال لمستأجرها: إن رددتها اليوم فبخمسة، وإن رددتها غدًا فبعشرة، صح نصًّا (¬3). (وهي) أي الإجارة (ضربان) أحدهما: (إجارة) منفعة (عين وشرط) لها شروط خمسة: أحدها: (معرفتها) أي العين المؤجرة للعاقدين، برؤية، أو صفة، كالمبيع، لاختلاف الغرض باختلاف العين وصفاتها. (و) الشرط الثاني: (قدرة) مؤجر (على تسليمها) أي العين المؤجرة كمبيع، لأنها بيع منافع أشبهت بيع الأعيان، فلا تصح إجارة آبق، ولا ¬
شارد، ولا مغصوب ممن لا يقدر على أخذه، كما لا يصح بيعه. (و) الشرط الثالث: (عقد في غير مرضع (¬1) على نفعها) أي العين المؤجرة (دون أجزائها) فلا تصح إجارة الطعام للأكل، ولا الشمع للشعل، ولا الصابون للغسل، كما تقدم (¬2). ولا تصح إجارة حيوان ليرضعه ولده، أو قنه أو يأخذ لبنه، ولا أن يستأجره ليأخذ صوفه، أو شعره، أو وبره، لأن مورد عقد الإجارة النفع، والمقصود ههنا العين، وهي لا تملك ولا تستحق بإجارة. ويصح استئجار الآدمية للرضاع، لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬3) والفرق بينها وبين البهائم أنه يحصل منها عمل من وضع الثدي في فم المرتضع، بخلاف البهيمة، وللضرورة. (و) الشرط الرابع: (اشتمال) العين المؤجرة (على النفع)، فلا تصح إجارة بهيمة زمنةٍ (¬4) للحمل، أو الركوب، ونحو ذلك، ولا لقلع سن سليم، أو قطع يد سليمة، ولا تصح إجارة أرض لا تنبت للزرع. (و) الشرط الخامس: (كونها) أي المنفعة، مملوكة المؤجر أو مأذونًا له فيها) لأنها بيع المنافع، فاشترط فيها ذلك، كالبيع. وتصح إجارة مستأجر العين، لمن يقوم مقامه في استيفاء النفع، أو لمن دونه في الضرر، ولا يجوز أن يؤجرها لمن [هو] (¬5) أكثر ضررًا منه، ولا لمن يخالف ضررُه ضررَه. وإن كان المأجور حرًّا، فليس لمستأجره أن يؤجره، لأنه لا تثبت يد غيره عليه، وإنما هو يسلم نفسه إن كان كبيرًا، أو يسلمه وليه إن كان صغيرًا. ¬
وتصح إجارة العين المؤجرة لمؤجرها بمثل الأجرة، وبزيادة، ولو لم يقبض المستأجر المأجور، ما لم تكن حيلة لعينةٍ بأن أجرها بأجرة حالة، ثم استأجرها بأكثر منه مؤجلًا، فلا يصح، لما سبق، في مسألة العينة (¬1)، وليس للمؤجر الأول مطالبة المستأجر الثاني بالأجرة، لأن غريم الغريم ليس بغريم. وتصح إجارة وقف، فإن مات المؤجر انفسخت، إن كان المؤجَر الموقوف عليه ناظرًا بأصل الاستحقاق، وإن جعل له الواقف النظر، أو تكلم بكلام يدل عليه، فله النظر بالاستحقاق والشرط، ولا تبطل الإجارة بموته. (وإجارة العين قسمان) أحدهما: أن تكون (إلى أمد معلوم) كإجارة الدار شهرًا، أو الأرض عامًا، أو الآدمي للخدمة، والرعي، والخياطة، أو للنسخ مدة معينة، ويسمى الأجير فيها الخاص (¬2)، وهو من قُدِّر نفعه بالزمن، ويشترط أن يكون الأمد معلومًا (يغلب على الظن بقاؤها) أي العين المؤجرة (فيه) وإن طال، لأن المعتبر كون المستأجر يمكنه استيفاء المنفعة منها غالبًا، ولا فوق بين الوقف والملك، ولا يشترط أن تلي مدة الإجارة العقد، فتصح إجارة عين لسنة خمس في سنة أربع، ولو كانت العين مؤجرة، أو موهونة، أو مشغولة بنحو زرع وقت عقد، إن قدر مؤجر على تسليم ما آجره عند وجوبه. القسم (الثاني): إجارة العين (لعمل معلوم كإجارة دابة) معينة، أو موصوفة (لركوب، أو حمل إلى موضع معين) وله ركوب مؤجرة إلى موضع مثله، في طويق مماثلة للطريق المعقود عليها، مسافةً وسهولة، وأمنًا. (الضرب الثاني) من ضربي الإجارة: (عقد على منفعة في الذمة، في ¬
شيء معين، أو موصوف) بصفات كالسلم (فيشترط تقديرها بعمل، أو مدة، كبناء دار) يذكر الآلة ونحوها كما تقدم (¬1) (و) كـ (خياطة) ثوب يذكر جنسه، وقدره، وصفة الخياطة (وشُرط معرفة ذلك وضبطه) بما لا يختلف به العمل (و) شُرط (كون أجير فيها) أي الإجارة (آدميًّا، جائز التصرف) لأنها معاوضة على عمل في الذمة، ويسمى الأجير فيها مشتركًا (¬2) لتقدير نفعه بالعمل، ولأنه يتقبل أعمالًا لجماعة، فمنفعته مشتركة بينهم، وشرط: أن لا يجمع بين تقدير مدة وعمل، كقوله: استأجرتك لتخيط هذا الثوب، في يوم. ويلزمه الشروع في العمل عقب العقد، لجواز مطالبته به إذًا. (و) شرط (كون عمل) معقود عليه (لا يختص فاعله، أن يكون من أهل القربة) ككونه مسلمًا، ولا يقع ذلك العمل إلا قربة لفاعله، كأذان، وإقامة، وإمامة، وتعليم قرآن، وفقه، وحديث، ونيابة في حج، ويحرم أخذ أجرة على ذلك. لحديث عثمان بن أبي العاص: كان آخر ما عهد إلينا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا. قال الترمذي: حديث حسن (¬3). وعن عبادة بن الصامت قال: علَّمت أناسًا من أهل الصفة القرآن والكتابة، فأهدى إليّ رجل منهم قوسًا، قال: قلت: قوس، وليست بمال. قال: قلت: أتقلدها في سبيل اللَّه، فذكرت ذلك للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقصصت عليه القصة، قال: "إن سرك أن يقلدك اللَّه قوسًا من نار ¬
فاقبلها" (¬1)، وعن أُبي بن كعب: أنه علَّم رجلًا سورة من القرآن، فأهدى له خميصة أو ثوبًا، فذكرت ذلك للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "إنك لو لبستها لألبسك اللَّه مكانها ثوبًا من نار" رواه الأثرم في سننه (¬2). ولأن من شَرط صحة هذه الأفعال كونها قربة إلى اللَّه، فلا يصح أخذ الأجرة عليها، كما لو استأجر إنسانًا يصلي خلفه الجمعة أو التراويح. ولا يحرم أخذ جعالة على ذلك، لأنها أوسع من الإجارة، ولهذا جازت مع جهالة العمل والمدة، ولا على رقية، نصًّا (¬3)، لحديث أبي سعيد قال: انطلق نفر من أصحاب رسول اللَّه شير في سفرة سافروها، حتى نزلوا ¬
على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم، فأبوا أن يُضيِّفوهم. فلدغ سيد ذلك الحي فسعوا له بكل شيء. فقال بعضهم: لو أتيتم هذا الرهط الذين نزلوا، لعله أن يكون عندهم بعض شيء، فأتوهم، فقالوا: يا أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ قال بعضهم: إني واللَّه لأرقي، ولكن استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلًا، فصالحوهم على قطيع من الغنم، فانطلق يَتْفِلُ عليه، ويقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قَلَبة (¬1)، فأوفوهم جُعْلَهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذي رقى: لا تفعلوا، حتى نأتي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنذكر له الذي كان، فننظر الذي يأمرنا به، فقدموا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكروا له ذلك، فقال: "وما يدريكم أنها رقية؟ "، ثم قال: "أصبتم، اقتسموا، واضربوا لي معكم سهمًا" وضحك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. رواه الجماعة إلا النسائي (¬2). كما لا يحرم أخذ على ذلك بلا شرط، وحديث القوس والخميصة قضيتان في عين. وأما ما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، كتعليم خط، وحساب، وشعر مباح، وبناء مسجد، وقناطر، وذبح هدي، وأضحية، وتفريق صدقة، ونحو ذلك، فيجوز الاستئجار له، وأخذ الأجرد عليه، لأنه يقع تارة قربة، وتارة غير قربة، أشبه غرس الأشجار، وبناء البيوت. ¬
ولا يحرم أخذ رزقٍ (¬1) من بيت المال، أو من وقف على متعد نفعه، كقضاء، وتعليم قرآن، وحديث، وفقه، ونيابة في حج، وتحمل شهادة، وأدائها، وأذان، لأنه من المصالح، فجرى مجرى الوقف على من يقوم بها، وليس بعوض، بل رزق للإعانة على الطاعة، ولا يخرجه ذلك عن كونه قربة، ولا يقدح في الإخلاص، وإلا لما استحقت الغنائم، وسلب المقاتل. ولا يجوز أخذ رزق على قاصر من القرب على فاعله، كصوم، وصلاة خلفه، ونحوهما، كحجه عن نفسه، واعتكافه، لأنه ليس من المصالح، إذ لا تدعو حاجة بعض الناس إلى بعضٍ من أجله. وصح استئجار لحجم كافصد، ولا يحرم أجره، لحديث ابن عباس: احتجم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأعطى الحجام أجره، ولو علمه حرامًا لم يعطه (¬2) متفق عليه. وكره لحر أكل أجرته، وأكل مأخوذ بلا شرط عليه، ويطعمه رقيقًا وبهائم، لحديث: "كسب الحجام خبيث" (¬3) متفق عليه، وقال: "أطعمه ناضحك ورقيقك" (¬4). فدل على أنه ليس بحرام، وقد سمى -صلى اللَّه عليه وسلم- الثوم والبصل خبيثين (¬5) مع عدم تحريمهما، وإنما كرهه للحر تنزيهًا له، لدناءة ¬
هذه الصناعة، وكذا أجرة كسح كنيف. (و) يجب (على مؤجر) مع إطلاق (كل ما جرت به عادة) أ (وعرف، كزمام (¬1) مركوب) ليتمكن به من التصرف فيه، ورحله، وحزامه (¬2)، وقَتَب (¬3) بعير، ولفرس: لجامٌ، وسرج، ولحمار وبغل: بردعة وإكاف (¬4)، لأنه العرف، فيحمل عليه الإطلاق. (و) على مؤجر (شد، ورفع، وحط) لمحمول عليه، لأنه العرف، وبه يتمكن المكتري من الانتفاع، وعليه لزوم دابة لنزول لحاجة، وواجب كفرض صلاة، وتبريك بعير لامرأة، وشيخ، ومريض، لركوب ونزول، لأنهم لا يتمكنون منه إلا بذلك، وعليه ما يتمكن به مستأجر من نفع كترميم دار بإصلاح منكسر، وإقامة مائل من حائط وسقف، وعمل باب، وتطيين سطح، وتنظيفه، وإصلاح بركة (¬5) دار، وأحواض، وحمام، ومجاري مياهه، وسلاليم الأسطحة، لأن بذلك وشبهه يتمكن مستأجر من النفع المعقود عليه. ¬
تتمة
(و) يجب (على مكتر) بمعنى أنه لا يلزم المؤجر، بل إن أراده مكتر فمن ماله (نحو مُحَمِلٍ) قال في "القاموس" (¬1): كمجلس، شقتان (¬2) على البعير يحمل عليهما العَدِيْلان (¬3) (ومظلة) بالكسر والفتح: الكبير من الأخبية، قاله في "القاموس" (¬4) ووطاء فوق الرحل ودليل إن جهلا الفريق. وعلى مكتري دار وحمام (و) نحوه (تعزيل نحو بالوعة) وكنيف (¬5) ودار من قمامة، وزبل، ورماد (إن تسلمها فارغة، وعلى مكتر تسليمها فارغة كذلك). تتمة: إذا اكتراه للحج ركب إلى عرفة، ثم العود إلى مكة، ثم إلى منى، ثم إلى رمي الجمار، وإن اكترى إلى مكة لم يتجاوزها. ¬
فصل
فصل (وهي) أي الإجارة (عقد لازم) من الطرفين ليس لأحدهما فسخها بلا موجب؛ لأنها عقد معاوضة كالبيع، (فإن تحول مستأجر) من مؤجرة (في أثناء المدة بلا عذر، فعليه كل الأجرة) لاقتضاء الإجارة تمليك المؤجر الأجرة، والمستأجر النفع، فإذا تركه مستأجر اختيارًا منه لم تنفسخ الإجارة، ولم يزل ملكه عن المنافع، كمن اشترى شيئًا وقبضه فتركه. ولا يجوز لمؤجر تصرف فيها، فإن فعل ويد مستأجر عليها، كأن سكن الدار، وآجرها لغير مستأجر، فعليه أجرة المثل لمستأجر، وعلى المستأجر الأجرة المعقود عليها له، وإن تصرف قبل تسليمها، أو امتنع منه حتى انقضت المدة انفسخت الإجارة، وإن سلمها له في أثنائها انفسخت فيما مضى، ووجب أجر الباقي بالحصة (وإن حوله) أي المستأجر (مالك) الدار ونحوها قبل انقضاء مدة الإجارة (فلا شيء له) من الأجرة لما سكن قبل أن يحوله. وإن امتنع مؤجر دابة من تسليمها في أثناء المدة، أو أثناء المسافة المؤجرة للركوب، أو الحمل إليها، فلا أجرة لركوبه، أو حمله عليها قبل المنع منه، أو امتنع الأجير من تكميل العمل، فلا أجرة له مما عمله قبل، لأن كلًّا منهم لم يسلم إلى المستأجر ما وقع عليه عقد الإجارة، فلم يستحق شيئًا. وإن شردت دابة مؤجرة، أو تعذر باقي استيفاء (¬1) النفع بغير فعل أحدهما فعلى المستأجر من الأجرة بقدر ما استوفى من النفع قبل ذلك، لعذر كل منهما، وإن كانت الإجارة على عمل موصوف بذمة، كخياطة ثوب، أو بناء حائط، وحمل إلى محل معلوم، وهرب الأجير استؤجر من ماله من يعمله، كالمسلم إليه إذا هرب، ونحوه، فإن تعذر استئجار من يعمل من ¬
ماله خُيِّر مستأجر بين فسخ إجارة وبين صبر إلى قدرة عليه، فيطالبه بعمله، لأن ما في ذمته لا يفوت بهربه. وإن هرب جمَّال، ونحوه، أو مات وترك بهائمه، وله مال، أنفق عليها منه حاكم، لوجوب نفقتها عليه وهو غائب، والحاكم نائبه، وإلا يكن له مال، فأنفق عليها مكتر بإذن حاكم، أو بنية رجوع، رجع على مالكها بما أنفقه، سواء قدر على استئذان الحاكم أو لا، أشهد عليه بنية الرجوع أو لا، لقيامه عنه بواجب، وإن اختلفا فيما أنفقه، وكان الحاكم قدَّره، قبل قول مكتر في ذلك دون ما زاد، وإن لم يقدره قُبِلَ قولُهُ في قدر النفاقة بالمعروف، فإذا انقضت الإجارة باعها حاكم، ووفاه ما أنفاقه على البهائم؛ لأن عليه حفظ مال الغائب. (وتنفسخ) الإجارة (بتلف معقود عليه) كدابة، أو عبد مات، ودار انهدمت قبضها المستأجر أو لا، وإن تلف في المدة، وقد مضى منها ماله أجرٌ، انفسخت فيما بقي من المدة. (و) تنفسخ الإجارة بـ (موت مرتضع) أو امتناعه من الرضاع منها، لتعذر استيفاء المعقود عليه. (و) تنفسخ بـ (انقلاع ضرس) اكتري لقلعه (أو) اكترى مدة معلومة لـ (برئه) لتعذر استيفاء المعقود عليه كالموت، فإن لم يبرأ، أو امتنع مستأجر من قلعه لم يجبر (ونحوه) أي تنفسخ الإجارة بنحه ما ذكر، كمن استؤجر ليقتص من الآخر، أو يحده، فمات، أو ليداويه، فبرئ. (ولا يضمن أجير خاص) وهو من قدر نفعه بالزمن (ما جنت يده خطأ) ما لم يتعد أو يفرط (ولا) يضمن (نحو حجَّام) أو ختَّان (وطبيب وبيطار) خاصًّا كان أو مشتركًا (عرف حذفهم) أي معرفتهم في صناعتهم، لأنه إذا لم يكن كذلك لم تحل له مباشرة الفعل، فيضمن سرايته، كما لو تعدى. (إن أذن فيه) أي الفعل (مكلف) وقع الفعل به (أو) أذن فيه (ولي
غيره) أي غير المكلف، كصغير ومجنون (ولم تجن أيديهم) فإن جنت أيديهم كأن تجاوز بالختان إلى الحشفة (¬1)، أو بقطع السِّلْعة (¬2) ونحوها محل القطع، أو قطع في وقت لا يصلح فيه القطع، أو بآلة كالّةٍ، أو لم يؤذن له فيه ضمن، لأنه فعل غير مأذون فيه. (ولا) يضمن (راع ما لم يتعد أو يفرط) بنوم، أو غيبة الماشية عنه، أو إسراف في ضرب، أو سلوكه موضعًا يتعرض لتللها به، لأنه أمين على حفظها، فإن تعدى أو فرَّط ضمن كالوديع، فإن اختلفا في تعدّ أو تفريط، فقول راع، لأنه أمين، وإن فعل فعلًا، واختلفا في أنه تعد، رجع إلى أهل الخبرة، وإن ادّعى موتًا، قبل قوله بيمينه، ولو لم يحضر جلدًا ولا غيره منها؛ لأنه أمين، ولأنه مما تتعذر إقامة البينة عليه في الغالب. (ويضمن) أجير (مشترك ما تلف بفعله) من تخريق قصار لثوب بدقه، أو مده، أو عصره، أو بسطه، وغلط خياط في تفصيل ونحوه، ويضمن جمَّال ما تلف بقوده وسوقه، وانقطاع حبل شد به حمله، ويضمن حامل ما تلف بزلقه، أو عثرته، وسقوطه عنه كيف كان، ويضمن -أيضًا- ما تلف بخطئه في فعل، كصباغ أمر بصبغ ثوب أصفر فصبغه أسود، وخياط أمس بتفصيله قباء ففصله قميصًا، أو ثوب رجل ففصله قميص امرأة، لأن عليًّا -رضي اللَّه عنه- كان يضمِّن الصباغ والصياغ ويقول: لا يصلح الناس إلا ذلك (¬3). ولأن عمل الأجير المشترك مضمون عليه، فما تولد منه يجب أن ¬
يكون مضمونًا عليه، كالعدوان بقطع عضو، فإن تبرع قصار ونحوه بعمله لم يضمن جناية يده، نصًّا (¬1)، لأنه أمين محض، فإن اختلفا في أنه أجير أو متبرع، فقول قصار ونحوه، لأن الأصل براءته. و(لا) يضمن أجير ما تلف (من حرزه) أو بسبب غير فعله، إن لم يتعد أو يفرط، نصًّا (¬2)، (ولا أجرة له) لعمله فيه، سواء عمل فيه في بيت ربه، أو غيره، لأنه لم يسلم عمله إلى المستأجر إذ لا يمكن تسليمه إلا بتسليم المعمول، فلم يستحق عوضه، كمكيل بيع، أو تلف قبل قبضه، وله حبس معمول على أجرته إن أفلس ربه، وإلا فليس له ذلك. (و) الأجير (الخاص) هو (من قُدِّر نفعه بالزمن) كما تقدم (¬3) (و) الأجير (المشترك) من قدر نفعه (بالعمل). (وتجب) أي تملك (الأجرة) في إجارة عين، أو إجارة على منفعة في ذمة، كحمل معين إلى مكان معين (بالعقد) شرط فيه الحلول، أو أطلق، كما يجب الثمن بعقد البيع، وحديث: "أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه" (¬4) لا يعارض ذلك، لأن الأمر بالإتياء في وقتٍ لا يمنع وجوبه قبله (ما لم تؤجل) الأجرة، فإن شرط تأجيلها عمل به، لأن المؤمنين على شروطهم. ¬
فائدة
وتستحق الأجرة كاملة بتسليم عين معينة كانت أو موصوفة أو بذلها، وتستقر بفراغ عمل وبانتهاء المدة. (ولا ضمان على مستأجر) تلفت العين تحت يده (إلا بتعد، أو تفريط) (والقول قوله) بيمينه (في نفيهما)، أي التعدي والتفريط. فائدة: من وجب عليه دراهم بعقد بيع أو إجارة أو غيرها، فأعطى عنها دنانير أو غيرها، بأن عوض عنها عوضًا، ثم انفسخ العقد، رجع بالدراهم، لأنها عوض العقد، والبائع ونحوه إنما أخذ الدنانير أو نحوها بعقد آخر، ولم ينفسخ، أشبه ما لو قبض الدراهم، ثم صرفها بدنانير، أو اشترى بها عرضًا منه.
فصل في المسابقة
فصل في المسابقة من السَّبْق -بسكون الباء- وهو: بلوغ الغاية قبل غيره، والسبَق -بفتح الباء- والسبقة: الجُعل الذي يسابق عليه (¬1). وهي: المجاراة بين الحيوان ونحوه، كرماح، ومناجق (¬2). والمناضلة من النضل المسابقة بالرمي (¬3). سميت بذلك لأن السهم التام يسمى نضلًا، فالرمي به عمل بالنضل. (وتجوز المسابقة على أقدام و) بـ (سهام و) في (سفن و) بـ (مزاريق) (وسائر حيوان) كإبل، وخيل، وبغال، وحمير، وفيلة. وأجمع المسلمون على جوازها في الجملة (¬4)، لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (¬5) وحديث مسلم: أن سلمة بن الأكوع سابق رجلًا من الأنصار بين يدي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). ويكره الرقص، ومجالس الشعر، وكل ما يسمى لعبًا؛ إلا ما كان معينًا على قتال العدو. ويستحب اللعب بآلة الحرب، قال جماعة: والثِّقاف (¬7)، لأنه يعين على قتال العدو، ويتعلم بسيف خشب لا حديد، ¬
نصًّا (¬1)، وليس من اللهو المحرم ولا المكروه تأديب فرسه، وملاعبة أهله، ورميه عن قوسه، لحديث عقبة مرفوعًا: "كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل" (¬2) ثم استثنى هذه الثلاثة، رواه أحمد وغيره. والمراد ما فيه مصلحة شرعية، ويدخل فيه تعليم الكلب للصيد والحراسة، وتعليم السباحة، ومنه ما في الصحيحين: من لعب الحبشة بدرقهم وحرابهم، وتوثبهم بذلك على هيئة الرقص، في يوم عيد، في مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وستر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة وهي تنظر إليهما. ودخل عمر فأهوى إلى الحصى يحصبهم، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دعهم يا عمر" (¬3) متفق عليه. وكره لمن تعلم الرمي أن يتركه كراهة شديدة لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من علم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها" (¬4)، وتجوز المصارعة، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صارع ركانة فصرعه (¬5). رواه أبو داود. ويجوز رفع الأحجار لمعرفة الأشد، لأنه ¬
في معنى المصارعة. وأما اللعب بالنرد، والشطرنج (¬1)، ونطاح الكباش، ونقار الديوك -قلت: ومثله معاض الحمير- فلا يباح بعوضٍ ولا بغيره، وهي بالعوض أشد حرمة. ولا تجوز مسابقة (بعوض) أي مال، لمن سبق (إلا على) مسابقة (إبل، وخيل، وسهام) أي نُشَّاب (¬2) ونبل للرجال، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر" (¬3) رواه الخمسة، ولم يذكر ابن ماجه: "نصل". وذكر ابن عبد البر تحريم الرهن في غير الثلاثة إجماعًا (¬4). (وشرط) لصحتها خمسة شروط: أحدها: (تعيين المركوبين) في المسافة، وتعيين الرماة في المناضلة برؤية فيهما، سواء كانا اثنين أو جماعتين، لأن القصد في المسابقة معرفة ذات المركوبين المسابق عليهما، ومعرفة عدوهما، وفي المناضلة معرفة حذق الرماة، ولا يحصل ذلك إلا بالتعيين بالرؤية، ولا يشترط تعيين الراكبين، ¬
ولا القوسين. (و) الشرط الثاني: (اتحادهما) أي المركوبين بالنوع في المسابقة، أو اتحاد القوسين بالنوع في المناضلة، لأن التفاوت بين النوعين معلوم بحكم العادة، أشبها الجنسين، فلا تصح بين عربي وهجين (¬1)، ولا بين قوس عربية وفارسية (و) شرط (تعيين رماة) في المناضلة كما تقدم آنفًا. (و) الشرط الثالث: (تحديد مسافة) بالابتداء والغاية، وتحديد مدى رمي بما جرت به العادة، أما في المسابقة فلأن الغرض معرفة الأسبق، ولا يحصل إلا بالتساوي في الغاية، لأن من الحيوان ما يقصر في أول عدوه، ويسرع في انتهائه، وبالعكس، فيحتاج إلى غاية تجمع حاليه، فإن استبقا بلا غاية لينظر أيهما يقف أولًا، لم يجز، وأما في المناضلة فلأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد، فإن قيد بمدى تتعذر فيه الإصابة غالبًا، لم يصح، لأنه يفوت به الغرض المقصود به الرمي. (و) الشرط الرابع: (علم عوض) لأنه مال في عقد، فوجب العلم به كسائر العقود، ويعلم بالمشاهدة أو الوصف، ويجوز حالًّا ومؤجلًا، وبعضه حالًّا وبعضه مؤجل، كالبيع (وإباحته) أي العوض وهو تمليك للسابق بشرط سبقه. (و) الشرط الخامس: (خروج) بالعوض (عن شبه قِمار) -بكسر القاف- يقال: قامره قمارًا ومقامرة فقمره، إذا راهنه فغلبه (¬2)، بأن لا يخرج جميعهم العوض، لأنه إذا أخرجه كل منهم، لم يخل أن يغنم أو يغرم، وهو شبه القمار، فإن كان الجُعل من الإمام، أو من غيره، جاز، على أن من سبق فهو له، لما فيه من المصلحة، والقربة، والحث على تعلم الجهاد، ونفع ¬
المسلمين، أو كان الجُعل من أحد المتسابقين، أو من اثنين منهم فأكثر، إذا كثروا، وثمَّ من لم يُخرج، على أن من سبق أخذه جاز، فإن جاءا معًا فلا شيء لهما من الجعل، لأنه لم يسبق أحدهما الآخر، وإن سبق مخرج أحرزه ولم يأخذ من صاحبه شيئًا لئلا يكون قمارًا، وإن سبق الذي لم يخرج أحرز سبق صاحبه، فيملكه، كسائر ماله، كالعوض في الجعالة إذا وفَّى بالعمل، وإن أخرجا معًا لم يجز، إلا بمحلل لا يخرج شيئًا، ولا يجوز كون المحلل أكثر من واحد يكافئ مركوبه مركوبيهما في المسابقة، أو يكافئ رميه رمييهما في المناضلة، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "من أدخل فرسًا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس قمارًا، ومن أدخل فرسًا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار" (¬1) رواه أبو داود. وإن سبق المخرجان المحلل، ولم يسبق أحدهما الآخر، أحرزا سبقهما، ولا شيء للمحلل، لأنه لم يسبق أحدهما، ولم يأخذا منه شيئًا، لئلا يكون قمارًا، وإن سبق هو أحرز السبقين، أو سبق أحدهما صاحبه والمحلل أحرز السبقين لوجود شرطه، وإن سبق المحلل وأحد المخرجين معًا، أحرز السابق منهما مال نفسه لسبقه، ويكون سبق المسبوق بين السابق والمحلل نصفين، وإن وصلوا الغاية دفعة واحدة أحرز كل واحد منهما سبق نفسه، لأنه لا سابق، ولا شيء للمحلل، لأنه لم يسبق. والمسابقة جعالة، لا يؤخذ بعوضها رهن ولا كفيل، ولكل فسخها، ما لم يظهر الفضل لصاحبه، ويبطل سباق بموت أحدهما كسائر العقود الجائزة، أو بموت أحد المركوبين، لتعلق العقد بعينه، ولا يبطل بموت أحد الراكبين، أو تلف أحد القوسين، لأنه غير المعقود عليه، كموت أحد المتبايعين. ¬
ويحصل سبق في خيل متماثلي العنق برأس، وفي خيل مختلفيهما بكتف، وفي إبل بكتف، ويعتبر لمسابقة بعوض إرسال الفرسين، أو البعيرين، دفعة واحدة، وأن يكون عند أول المسافة من يشاهد إرسالهما، وعند الغاية من يضبط السابق منهما، لئلا يختلفا في ذلك. ويحرم أن يجنب أحدهما مع فرسه أو وراءه فرسًا لا راكب عليه، يحرضه على العدو، وأن يصيح به في وقت سباقه، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا جلب ولا جَنَبَ في الرهان" (¬1) رواه أبو داود. ¬
فصل في العارية
فصل في العارية بتخفيف الياء، وتشديدها، من عار الشيء إذا ذهب وجاء، ومنه قيل للبطال: عيار، لتردده في بطالته، وأعاره وعاره لغتان كأطاعه وطاعه، أو من العري، وهو: التجرد لتجردها من العوض، أو من التعاور، وهو: التناوب، لجعل المالك للمستعير نوبة في الانتفاع بها (¬1). (والعارية سنة) لأنها من البر والمعروف، ولا تجب لحديث: "إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك" (¬2) رواه ابن المنذر، ولحديث: "ليس في المال حق سوى الزكاة" (¬3) ونحوه، فيرد ما خالفه إليه جمعًا بين الأخبار. وتنعقد بكل قول أو فعل يدل عليها: كأعرتك هذه الدابة، أو أركبها إلى كذا أو استرح عليها، ونحوه، وكدفعه دابة لرفيقه عند تعبه، وتغطيته بكسائه لبرده، وإذا ركب الدابة، أو استقر الكساء عليه، كان قبولًا (وكلُّ ما ينتفع به) من الأعيان (مع بقاء عينه) كرقيق ودواب ودور ولباس وأوان (نفعًا مباحًا تصح إعارته) بخلاف ما لا ينتفع به، إلا مع تلف عينه، كأطعمة، وأشربة، وبخلاف غير مباح النفع، لأن الإعارة لا تبيح إلا ما ¬
أباحه الشرع، فلا تصح إعارة لغناء، أو زمر، ونحوه، ولا إناء من أحد النقدين، ولا حلي محرم، ولا أمة ليطأها، أو يقبِّلها، ونحوه (إلا البضع) بضم الباء أي الفرج، فلا تصح إعارته، لأنه لا يباح إلا بملك، أو نكاح (و) إلا (عبدًا مسلمًا لكافر) فتحرم إعارته له للخدمة خاصة، كما تحرم إجارته لها (و) إلا (صيدًا ونحوه) كطيب (لِمُحْرِمٍ) فلا تصح إعارته له، لأنه معاونة على الإثم والعدوان (و) إلا (أمة وأمرد لغير مأمون) فلا تصح إعارته لخدمة، ولا غيرها، لأنه إعانة على الفاحشة. (وتضمن) العارية (مطلقًا) فرط أو لم يفرط، لما روى الحسن عن سمرة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (¬1). رواه الخمسة وصححه الحاكم. وعن صفوان أنه -عليه السلام- استعار منه يوم حنين أدراعًا فقال: "أغاصب يا محمد؟ فقال: "بل عارية مضمونة" (¬2) رواه أحمد وأبو داود، ويكون ضمانها (بمثل مثلي) لأنه أقرب إليها من القيمة (و) بـ (قيمة غيره) أي المثلي، وهو المتقوم، لأنه حينئذ يتحقق فوات العارية، فوجب الضمان به، ويلغو شرط عدم ضمانها، كإلغاء شرط ضمان أمانة، لأن مقتضى العقد في العارية الضمان، وفي الأمانة عدمه، فإذا شرط خلافه فسد، لمنافاته مقتضى العقد (يوم تلف) ووقته ليلًا كان أو نهارًا و (لا) تضمن (إن تلفت) بعض أجزائها (باستعمال بمعروف كخمل منشفة) وطنفسة ¬
-بكسرتين- وهي: بساط له خَمْل ونحوهما (¬1)، أو تلفت كلها بمرور الزمان، فلا تضمن، لأنه تلف بالإمساك المأذون فيه، أشبه تلفه بالفعل المأذون فيه، ولو جرح ظهر الدابة الحمل وجب الضمان، سواء كان الحمل معتادًا، أو لا، لأنه غير مأذون به. (ولا) تضمن العارية (إن كانت وقفًا ككتب علم) ونحوها، كأدراع موقوفة على الغزاة (إلا بتفريط) أو تعد (وعليه) أي المستعير (مؤنة ردها) لحديث: "العارية مؤداة" (¬2). وحديث: "وعلى اليد ما أخذت حتى ترده" (¬3). وليس عليها مؤنتها زمن انتفاعه بها، كالمؤجرة، ويقبل قول مستعير بيمينه أنه لم يتعد الاستعمال بالمعروف، لأنه منكر. (وإن أركب) إنسان دابته (منقطعًا، للَّه) تعالى فتلفت تحته (لم يضمنـ) ـها، لأنها غير مقبوضة، لأنها بيد صاحبها، وراكبها لم ينفرد بحفظها، أشبه ما لو غطى ضيفه بلحاف، فتلف عليه، لم يضمنه. ومن قال لرب دابة: لا أركب بأجرة، فقال ربها: ما آخذ منك أجرة، ثم ركبها فعارية، لأن ربها لم يبذلها إلا كذلك، أو استعمل مودع الوديعة بإذن ربها، فعارية. ولا يضمن ولد عارية سُلِّم معها بتلفه عند مستعير، ولا زيادة حدثت عنده في معار إلا بتعد أو تفريط. وإن اختلف المالك والقابض، فقال المالك: آجرتك، قال: بل أعرتني قبل مضي مدة لها أجرة، فقول قابض بيمينه، وإن كان بعدها، فقول مالك فيما مضى بيمينه، ويجب له أجرة المثل، أو قال قابض: أعرتني أو أجرتني، فقال مالك: غصبتني، فقول مالك بيمينه، وإن قال مالك: أعرتك، وقال قابض: أودعتني، فقول مالك، وكذا في عكسها. ¬
فصل في الغصب
فصل في الغصب مصدر غصب يغصب، ويقال: اغتصبه يغتصبه اغتصابًا، والشيء مغصوب وغصب، وهو لغة: أخذ الشيء ظلمًا (¬1). وشرعًا: استيلاء غير حربي على حق غيره، قهرًا، بغير حق (¬2)، ومنه المأخوذ مُكسًا (¬3)، ونحوه. (والغصب) محرم إجماعًا بالكتاب والسنة (¬4). وهو (كبيرة) والكبيرة: ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة (¬5). قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من ظلم شبرًا من أرض طوَّقه اللَّه يوم القيامة من سبع أرضين" (¬6) متفق على معناه، وفي لفظ: "من غصب شبرًا من الأرض" (¬7) (فمن غصب كلبًا يُقتنى) ككلب صيد (أو خمر ذمي محترمة) أي مستورة لزمه (ردهما) لأنهما غير ممنوع من إمساكهما، وكذا لو غصب دهنًا متنجسًا، لأنه يجوز الاستصباح به في غير مسجد، أو خمر خلّال. ¬
وإن تخلل خمر في يد غاصب، لزمه رده، فإن تلف ضمنه، و (لا) يلزمه رد (جلد ميتة) غصب، لأنه لا يطهر بدبغ، فلا سبيل إلى إصلاحه. (وإتلاف الثلاثة) أي الكلب المقتنى، وخمر الذمي، وجلد الميتة (هدر) لأنه ليس لها عوض شرعي، لأنه لا يجوز بيعها، كخنزير، وكخمر غير مستورة، ولو لذمي، وتجب إراقة خمر المسلم غير الخلّال، لأنه لا يقر على اقتنائه. (وإن استولى) إنسان (على حر مسلم) كبيرًا كان أو صغيرًا، بأن حبسه، ولم يمنعه الطعام والشراب فمات عنده (لم يضمنه) لأنه ليس بمال (بل) يضمن (ثياب) حر (صغير وحليَّه) ولو لم ينزعهما عنه، وعلى من أبعده عن بيت أهله رده إليه، وعليه مؤنته. ولا يضمن دابة غصبت وعليها مالكها الكبير ومتاعه، لأنها في يد مالكها (وإن استعمله) أي الحر (كرهًا) في خدمة أو غيرها (أو حبسه) مدة لها أجرة (فعليه أجرته) مدة حبسه، لأنه فوت منفعته زمن الحبس، وهي مال يجوز أخذ العوض عنه (كـ) منافع الـ (قن) لا إنْ منع شخصًا العمل من غير حبس، فلا أجرة، لأنه في يد نفسه. (ويلزمه) أي الغاصب (رد مغصوب بزيادته) متصلة كانت أو منفصلة، إلى محله إن قدر عليه، ولو كان رده بأضعاف قيمته، لحديث: "على اليد ما أخذت حتى ترده" (¬1). رواه أبو داود وغيره. وإن قال رب مغصوب مبعد، لغاصب أبعده: دعه بالبلد الذي هو بها، وأعطني أجرة رده إلى بلد غصبه، في يلزم الغاصب إجابته إلى ذلك، لأنها معاوضة، وإن أراد مالك من غاصب رده إلى بعض الطريق فقط، لزمه، لأنه يلزمه إلى جميع المسافة، فلزمه إلى بعضها، وكذا إن طلب إبقاءه بمحله، ويجوز ما اتفقا عليه من ذلك. ¬
(وإن نقص) مغصوب عند غاصب (لغير تغير سعر، فعليه أرشه) فيقوَّم صحيحًا وناقصًا، ويغرم الغاصب ما بينهما، لأنه ضمان مال من غير جناية، فكان الواجب ما نقص. وإن نقص مغصوب بتغير السعر، بأن نزل السعر لذهاب نحو موسم، لم يضمن الغاصب ما نزل السعر، وإن سمر غاصب بالمسامير بابًا، أو غيره، قلعها وجوبًا، وردها لربها، للخبر (¬1)، ولا أثر لضرره لأنه بتعديه. وإن زرع الغاصب الأرض، فليس لربها بعد حصد الزرع إلا أجرة المثل، من وضع يده على الأرض إلى ردها، ويخير قبل حصاد بين تركه إليه بأجرته، أو تملكه بنفقته، وهي مثل البذر، وعوض لواحقه من حرث وسقي ونحوهما، لحديث رافع بن خديج مرفوعًا: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته" (¬2). رواه أبو داود والترمذي وحسنه، قال أحمد: إنما أذهب إلى هذا الحكم استحسانًا على خلاف القياس (¬3). ولا يجبر غاصب على قلع زرعه، لأنه أمكن رد المغصوب إلى مالكه بلا إتلاف مال الغاصب على قرب من الزمان، فلم يجز إتلافه، كسفينة غصبها وحمل فيها متاعه وأدخلها الُّلجَّة، بخلاف الشجر، لأن مدته تطول، ولا يعلم انتهاؤها، وحديث: "ليس لعرق ظالم حق" (¬4) وَرَدَ في الغرس، ¬
وحديث رافع في الزرع (¬1)، فعَمَلُ كل منهما في موضعه، أولى من إبطال أحدهما. (وإن بنى) غاصب أرضًا فيها (أو غرس) فيها (لزمه قلع) بنائه وغرسه، لحديث: "ليس لعرقٍ ظالمٍ حق" (¬2) رواه الترمذي وحسنه (و) لزمه (أرش نقص، وتسوية) حفر (أرض) لحصوله بتعديه (و) لزمه (الأجرة) إلى تسليمها، لتلف منافعها تحت يده العادية، وكذا لو لم يتفع بها لزمه أجرتها، وأرش نقصها إن نقصت بترك زرعها ذلك العام، كأراضي البصرة، كما لو نقصت بغيره، حتى ولو كان الغاصب أحد الشريكين، أو لم يغصبها، لكن فعله بغير إذن شريكه، للتعدي. ولا يملك رب أرض أَخْذَ غَرس أو بناء بقيمته، لأنه عين مال الغاصب، أشبه ما لو وضع فيها أثاثًا أو نحوه، ولأنه معاوضة، فلا يجبر عليها المالك، وإن وهبه لمالكها، لم يجبر على قبوله، لأن فيه إجبارًا على عقد يعتبر فيه الرضى، ورطبة ونحوها مما يتكرر حمله، كقثاء كزرع، فلربها إذا أدركه قائمًا أن يتملكه بنفقته، أو يتركه بأجرته، لأنه ليس له عرق قوي أشبه الزرع، وإن أثمر ما غرسه غاصب في مغصوبة فالثمر له. ومتى كانت آلات البناء من مغصوب، بأن ضرب من ترابه لبنًا، وبنى به بيتًا فيها، فعليه أجرتها مبنية، لأن الأرض والبناء ملك المغصوب منه، ولا يملك غاصب هدمها، لأنه لا ملك له فيه، ولم يأذن له ربه فيه، فإن نقضه فعليه أرش نقضه. ومن غصب أرضًا وغراسًا منقولًا من واحد، فغرسه فيها، لم يملك قلعه، لأن مالكهما واحد، ولا يتصرف غيره في ملكه بلا إذنه، وعليه إن ¬
فعل تسويتها، وأرش نقص، لتعديه به، أو طَلَبَ القلعَ ربهما لغرض صحيح، بأن كان لا ينتج مثله في تلك الأرض مثلًا، فعليه تسويتها، وأرش نقصها، وأرش نقص غراس، لتعديه به، فإن لم يكن لمالك غرض صحيح في قلعه، لم يجبر عليه غاصب، لأنه سفه. وإن غصب أرضًا من واحد، وغرسًا من آخر، فغرسه فيها، فكما لو حمل السيل غراسًا إلى أرض آخر، فلرب الأرض أخذه بقيمته، أو قلعه مع ضمان نقصه، وكذا لو غصب أرضًا من واحد، وحبًّا من آخر، وزرعه فيها. وإن غصب خشبًا، فرقع به سفينة، قُلِعَ إن كانت في الساحل، أو في لجة البحر لا يخاف عليها من قلعه، لكونه في أعلاها، ودفع إلى ربه بلا إمهال، لوجوبه فورًا، ويمهل مع خوف على سفينة بقلعه بأن يكون في محل يخاف من قلعه دخول الماء إليها، وهي في اللجة حتى ترسي، لئلا يؤدي قلعه إلى إفساد ما في السفينة من المال، مع إمكان رده بدونه في زمن يسير، فإن تعذر الإرساء لبعد البر، فلمالك خشب مغصوب أخذ قيمته، للضرر برد عينه إذن، ومتى رست، واسترجعه، رد القيمة، وعلى الغاصب أجرة الخشب إلى أخذ قيمته إن أخذها، وإلا فإلى رده، وعليه أرش نقصه. وإن غصب ما خاط به جرحَ محترم من آدمي أو غيره، وخيف ضرر آدمي، أو تلف غيره، فقيمته لمالكه، لتأكد حرمة الآدمي، ولهذا جاز له أخذ مال غيره لحفظ حياته. وحرمة الحيوان آكد من بقية الأموال، ولو ابتلعت شاةَ شخصٍ جوهرة آخر، ولا تخرج إلا بذبحها، وهو أقل ضررًا: ذبحت، وعلى رب الجوهرة ما نقص بالذبح، إن لم يفرط رب الشاة بكون يده عليها، وإن حصل رأسها بإناء، ولم يخرج إلا بذبحها، أو كسره، ولم يفرطا، كسر الإناء، وعلى مالكها أرشه، ومع تفريط رب الشاة، تذبح بلا ضمان، ومع
تفريط رب الإناء، يكسر بلا أرش، ويتعين في غير مأكولة اللحم كسر الإناء، وعلى ربها أرشه إن فرط. (ولو غصب) إنسان ما -أي شيئًا- (اتجر) به، كدنانير ودراهم (أو) غصب ما (صاد) به من جارح، أو شبكة، أو شَرَك (أو) غصب ما (حصد به) أو قطع به من منجل، أو فأس (فمهما حصل بذلك) من ربح تجارة، أو صيد جارح، ونحوه، أو ما حصل بمنجل، أو قطع بفأس من حشيش، أو خشب (فلمالكه) أي مالك المغصوب لكن الصحيح أن ما حصد بمنجل، أو قطع بفأس، فهو لغاصب. قال في "شرح المنتهى": ولو غصب منجلًا أو فأسًا، شقطع به حشيشًا أو خشبًا، فلغاصب، لحصول الفعل منه، كما لو غصب سيفًا، فقاتل به وغنم. وفي "التلخيص": إن غصب كلبًا، وصاد به، فهو للغاصب. انتهى (¬1). (وإن خلطه) أي المغصوب غاصب (بما لا يتميز) كزيت بزيت، ونقد بنقد من جنسه، على وجه لا يتميز منه، لزمه مثله، كيلًا، أو وزنًا من المختلط، لأنه قدر على رد بعض ماله إليه، مع رد المثل في الباقي، فلم ينقل إلى بدله في الجميع، كمن غصب صاعًا فتلف بعضه، وإن خلط بدونه، أو بجزء منه من جنسه، أو خلطه بغير جنسه على وجه لا يتميز، كزيت بشيرج، ودقيق حنطة بدقيق شعير، ونحوه (أو صبغ الثوب) ولم تنقص قيمة أحدهما (فهما شريكان بقدر ملكيهما) لاجتماع ملكيهما، وهو يقتضي الاشتراك. ¬
وإن زادت قيمة أحدهما، كأن كانت قيمة الثوب عشرة والصبغ خمسة، وصار مصبوغًا يساوي عشرين بسبب غلو الثوب، أو الصبغ، فالزيادة لصاحب الذي علا سعره، لأنها تبع لأصلها (وإن نقصت القيمة) بسبب الخلط، أو الصبغ (ضمن) غاصب النقص، لتعديه بذلك.
فصل
فصل (ومن اشترى أرضًا فغرس، أو بنى) فيها (ثم) وجدت الأرض (مستحقة (¬1) وقُلع ذلك) أي الغرس أو البناء (رجع) المشتري (على بائع بما غرمه) بسبب ذلك، من ثمن أقبضه، وأجرة غارس، وبانٍ، وثمن مؤن مستهلكة، وأرش نقص بقلع، ونحو ذلك، لأن البائع غر المشتري ببيعه إياها، وأوهمه أنها ملكه، وكان سببًا في غراسه، أو بنائه، فرجع عليه بما غرمه. ولا يرجع بما أنفق على العبد والحيوان، ولا بخراج الأرض، إذا كانت خراجية، لأنه دخل في الشراء ملتزمًا ضمان ذلك. (وإن أطعمه) أي المغصوب غاصب (لعالم بغصبه، ضمن آكلٌ) لأنه المباشر، ولا غرر، وإن لم يعلم آكل بالغصب، فقرار الضمان على غاصب، لأنه غر الآكل، وإن أطعمه لمالكه، أو لعبده، أو دابته، فأكله عالمًا أنه له، ولو بلا إذنه، برئ الغاصب، لأن المالك أتلف ماله عالمًا من غير تغرير، فلم يكن له رجوع به على أحد. (ويُضمن) مغصوب تلف، أو أتلفه الغاصب، أو غيره (مثلي) وهو المكيل والموزون (بمثله) كالأثمان، ولو نقرة، أو سبيكة، وكالحبوب، وكالأدهان، يضمن (وغيره) أي غير المثلي، وهو: المتقوم كالثوب والعبد والدابة (بقيمته) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أعتق شركًا له في عبد قوّم عليه قيمة العدل" (¬2) متفق عليه. فأمر بالتقويم في حصة الشريك، لأنها متلفة بالعتق، ¬
ولم يأمر بالمثل، لأن هذه الأشياء لا تتساوى أجزاؤها، وتختلف صفاتها، فالقيمة فيها أعدل، وأقرب إليها، فكانت أولى، وتعتبر القيمة يوم تلفه في بلد غصبه من نقده، فإن كان فيه نقود فمن غالبها، ولا قصاص في المال، مثل شق ثوبه ونحوه، بل الضمان بالبدل، أو الأرش. (وحرم تصرف غاصب) وغيره ممن علم بالحال (بمغصوب) بما ليس له حكم، من صحة وفساد، كإتلاف، واستعمال، وكذا بما له حكم بأن يوصف بأنه صحيح أو فاسد، ولذا بينه بقولى: (ولا يصح عقد) من بيع، أو إجارة، أو هبة، ونحوها (ولا) تصح (عبادة) لحديث: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬1). فإن اتجر غاصب بعين مغصوب أو عين ثمنه، وظهر ربح، فهو لمالك مغصوب دون غاصبه، لأنه نماء ملكه ونتيجته (والقول في) قيمة مغصوب (تالف) أ (و) في (قدره) أ (و) في (صفته) أو في حدوث عيبه، أو في صناعة فيه (قوله) أي الغاصب، بيمينه حيث لا بينة للمالك، لأنه منكر، والأصل براءته من الزائد (و) القول (في رده) أي المغصوب، إلى مالكه أو في (و) جود (عيب فيه) بأن قال الغاصب: كان العبد أعور، أو أعرج، ونحوه (قول ربه) بيمينه على نفي ذلك، لأن الأصل عدم الرد أو العيب، وإن اتفقا على أنه كان به عيب، أو قامت به بينة، فقال الغاصب: غصبته وبه العيب، وقال ربه: بل حدث عندك، فقول غاصب بيمينه، لأنه غارم. (ومن بيده غصب، أو غيره) من رهن أو أمانة (وجهل ربَّه) أو عرف وفقد، وليس له ورثة (فله الصدقة به عنه) أي عن ربه، بلا إذن حاكم لكن (بنية الضمان) لربه إن ظهر، لأن الصدقة عنه بدون ضمان إضاعة له، لا إلى بدل، وهو غير جائز. ¬
(ويسقط إثم غصب) عن غاصب، إثم مسروق عن سارق، ونحوه، بالصدقة به، لأنه معذور بعجزه عن الرد، لجهله بالمالك، وثوابُها لأربابها، وإن حضروا بعد الصدقة بها، خيروا بين الأجر، والأخذ من المتصدق، فإن أخذوا منه فالثواب له، نصًّا (¬1). ومن لم يقدر على مباح يأكله، لم يأكل من حرام ماله غنية عنه، كحلوى، وفواكه، ويأكل عادته. (ومن أتلف) من مكلف، أو غيره، إن لم يدفعه له ربه (ولو يسيرًا) (¬2) مالًا (محترمًا) لغيره (ضمنه) أي ما أتلفه لأنه فوته عليه، فوجب عليه ضمانه، كما لو غصبه فتلف عنده، وإن أكره على إتلاف مال مضمون، فمكرهه يضمنه، ولو مال نفسه، ولا يضمن المال غير المحترم بإتلاف كإتلاف صائل لم يندفع بدونه، ومال حربي، ومال بغاةٍ حالَ حرب. وإن فتح قفصًا عن طائر، أو حل قيد قن، أو أسير، أو دفع لأحدهما مِبرْدًا فبرده، أو حل فرسًا ونحوها، أو رباط سفينة، ففات ذلك، أو عقر شيء من ذلك، أو أتلف شيئًا بسبب إطلاقه؛ ضمنه، أو حل وكاء زِقٍّ مائع، أو جامد، وأذابته الشمس، أو باقي بعد حله، فألقته ريح، ونحوها، فاندفق؛ ضمنه. ولا يضمن دافع مفتاح للص ما سرقه (¬3)، وإن ضرب يد آخر وفيها نحو دينار، فضاع، أو ألقى عمامته عن رأسه، أو هزه في خصومة، فسقطت وضاعت، أو تلفت، ضمن. (وإن ربط) شخص (دابة) له أو لغيره أو أوقفها (بطريق ضيق) أو ¬
واسع، نصًّا (¬1)، لما ذكره في "الإقناع" (¬2) (ضمن ما أتلفته مطلقًا) لتعديه، لأنه ليس له في الطريق حق، وطبع الدابة الجناية بفمها، أو رجلها، فإيقافها في الطريق كوضع الحجر، ونصب السكين فيه، وكذا لو ترك في الطريق طينًا، أو خشبة، أو عمودًا، أو حجرًا، أو كيس دراهم، أو أسند خشبة إلى حائط، ضمن ما تلف بسبب ذلك، لتعديه، ويضمن ما أخذه ظالم بإغرائه ودلالته، لتسببه فيه. ومن اقتنى كلبًا عقورًا، ولو لصيد وماشية، أو اقتنى كلبًا لا يُقتنى، أو أسود بهيمًا، أو أسدًا، أو غزالًا، أو ذئبًا، أو هرًّا تأكل الطيور، وتقلب القدور عادة، مع علمه، قال المنقح (¬3): وعلى قياس ذلك الكبش المعلم للنطاح. انتهى. فعقر شيء من ذلك آدميًّا، أو دابة، أو خرق ثوب من دخل منزل المقتني بإذنه، إن لم ينبهه عن الكلب، وكذا لو خرق ثوب من هو خارج منزله، أو نفحت دابة بمكان ضيق من ضربها، فتلف بذلك شيء، ضمنه لتسببه فيه، فإن عقر، أو خرق من أدخل منزل ربه بلا إذنه، فلا ضمان. ويجوز قتل هر يأكل اللحم ونحوه، إن لم يندفع بدونه، كصائل، ومن أجج نارًا بملكه، أو سقاه، فتعدى ذلك إلى ملك غيره، فأتلفه لا بطيران ريح، ضمنه، إن أفرط أو فرط. ولا يضمن رب غير ضارية (¬4)، وغير جوارح، ما أتلفته، إن لم تكن يده عليها، لحديث: "العجماء جرحها جبار" (¬5). متفق عليه. يعني: ¬
هدرًا (¬1). (وإن كانت الدابة بيد راكب، أو) يد (قائد، أو) يد (سائق) مالكًا كان، أو مستأجرًا، أو مستعيرًا، أو موصى له بنفعها، قادر على التصرف فيها (ضمن جناية مقدَّمها) من لحمها وحدها (و) ضمن (وطئها برجلها) لحديث النعمان بن بشير مرفوعًا: "من وقف دابة في سابلة من سبل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم، فوطئت بيد أو رجل فهو ضامن" (¬2). رواه الدارقطني. ولا يضمن ما نفحت برجلها بلا سبب، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "الرجل جبار" (¬3) رواه أبو داود، وخص بالنفح دون الوطء لإمكان من بيده الدابة أن يمنعها وطء ما لا يريد أن تطأه، بتصرفه فيها، بخلاف نفحها، فلا يمكنه منعها منه، ما لم يجذبها باللجام، زيادة على العادة، أو يضرب وجهها، فيضمن ما نفحته برجلها، لأنه السبب في جنايتها. وإن تعدد راكب ضمن الأول، لأنه المتصرف فيها، أو من خلفه إن انفرد بتدبيرها، لصغر الأول، أو مرضه، أو عماه، وإن اشتركا في تدبيرها، أو لم يكن إلا سائق وقائد، اشتركا في الضمان. ويضمن رب دابة، ومستأجر، ومستعير، ومودع، ما أفسدت من ¬
زرع، وشجر، وغيرهما ليلًا فقط، نصًّا (¬1)، لحديث مالك، عن الزهري، عن حرام بن سعد، عن مُحيصة: أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت، فقضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم (¬2). ولأن العادة من أهل المواشي إرسالها نهارًا، وحفظها ليلًا، وعادة أهل الحوائط حفظها نهارًا، فإذا أفسدت شيئًا ليلًا كان من ضمان من هي بيده، إن فرط في حفظها، بأن لم يضمنها، بحيث لا يمكنها الخروج، فإن فعل فأخرجها غيره، أو فتح عليها بابها، فعليه الضمان دون مالكها، لتسببه، ولا يضمن ما أفسدت نهارًا، للخبر (¬3)، إلا غاصب، فيضمن ما أفسدت نهارًا -أيضًا- لتعديه بإمساكها. ومن طرد دابة من مزرعته لم يضمن ما أفسدته، إلا أن يدخلها مزرعة غيره، إن لم تتصل المزارع، فإن اتصلت لم يطردها، وصبر، ليرجع على ربها ببدل ما تأكل، حيث لا يمكنه منعها إلا بتسليطها على مال غيره. ومن قتل صائلًا عليه، ولو آدميًّا، صغيرًا أو كبيرًا، حرًّا أو عبدًا، عاقلًا أو مجنونًا، دفعًا عن نفسه، لم يضمنه، إن لم يندفع إلا بالقتل، أو قتل خنزيرًا، أو كلبًا عقورًا، لم يضمنه، أو أتلف مزمارًا، أو طنبورًا، أو عودًا، أو طبلًا، أو دفًّا بصنوج، أو حلق، أو نردًا، أو شطرنجًا، أو صليبًا، أو ¬
كسر إناء فضة أو ذهب، أو حليًا محرمًا على ذكر لم يتخذه مالكه يصلح للنساء، أو آلة سحر، أو تنجيم، أو كتب صور خيال، أو أوثانًا، أو كتب مبتدعة مضلة، أو كتب كفر، أو كتبًا فيها أحاديث رديئة، لم يضمن الجميع.
فصل في الشفعة
فصل في الشفعة بإسكان الفاء، من الشفع، وهو: الزوج، لأن نصيب الشفيع كان منفردًا في ملكه، وبالشفعة يضم المبيع إلى ملكه فيشفعه به (¬1). وهي شرعًا: استحقاق الشريك انتزاع شقص شريكه ممن انتقل إليه بعوض مالي إن كان المنتقل إليه مثله مسلمًا أو كافرًا (¬2). والشفعة ثبتت بالسنة، واتفاق كافة العلماء (¬3)، لحديث جابر: قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصُرِّفت الطرق، فلا شفعة (¬4). متفق عليه. ولا تسقط باحتيال على إسقاطها، لأنها إنما شرعت لدفع الضرر، كأن يظهر المتعاقدان في البيع شيئًا لا يؤخذ بالشفعة معه، ويتواطآن في الباطن على خلافه، كإظهار التواهب، أو زيادة الثمن، ونحوه. (وتثبت الشفعة) للشريك في الشِّقص (¬5) المبيع (فورًا) أي ساعة يعلم بالبيع، إن لم يكن عذر، وإلا بطلت، نصًّا (¬6)، لحديث: "الشفعة كحل ¬
العقال" (¬1) رواه ابن ماجه، وفي لفظ: "الشفعة كنشطة العقال إن قيدت ثبتت وإن تركت فاللوم على من تركها" فإن أخر طلب الشفعة لشدة جوع، أو عطش، حتى يأكل أو يشرب، أو لطهارة، أو لإغلاق باب، أو ليخرج من حمام، أو ليؤذن ويقيم، أو ليشهد الصلاة في جماعة يخاف فوتها، أو من علم ليلًا حتى يصبح، مع غيبة مشتر في جميع هذه الصور، أو لصلاة وسننها ولو مع حضوره، لم تسقط، لأن العادة تقديم هذه الحوائج ونحوها على غيرها، أو أخر الطلب جهلًا بأن التأخير مسقط للشفعة، ومثله يجهله، لم تسقط، بخلاف ما لو تركها جهلًا باستحقاقه لها، أو نسيانًا للطلب، أو البيع، فإن لم يكن مثله يجهله، سقطت شفعته، وإن أشهد بطلبه غائب، أو محبوس، أو مريض، لم تسقط، فإن لم يشهد سقطت، أو سار في طلبها بلا إشهاد سقطت -أيضًا-. وإنما تثبت الشفعة (لمسلم) فلا شفعة لكافر على مسلم، بخلاف عكسها، كما تقدم (¬2) (تام الملك) فلا تثبت الشفعة لمالك بملك غير تام، ¬
كشركة وقف، ولو على معين، فلا يأخذ موقوف عليه بالشفعة، لقصور ملكه عليه، فتثبت له (في حصة شريكه المنتقلة) عنه (لغيره، بعوض مالي) إما بالبيع، أو ما في معناه، كما تقدم (¬1) (بما استقر عليه العقد) متعلق وما قبله بتثبت فخرج بقوله: في حصة شريكه: الجار، والموصى له بنفع دار، إذا باعها، أو بعضها وارث، لأن الموصى له ليس بمالك لشيء من الدار، وقولة: بعوضٍ، مخرج للموروث والموصى به، والموهوب بلا عوض، ونحوه، وقوله: مالي مخرج للمجعول عوضًا عن مهر، أو خلع، أو دم عمد صلحًا، ونحوه، وقوله: بما استقر عليه العقد: أي عقد البيع أو ما في معناه، لحديث جابر مرفوعًا: "هو أحق به بالثمن" (¬2). رواه الجوزجاني (¬3) في "المترجم"، ولأن الشفيع إنما استحق الشقص بالبيع، فكان مستحقًّا له بالثمن كالمشتري، ويدفع لمشتر مثل ثمن مثلي، وقيمة ثمن متقوم، فإن تعذر مثل مثلي فقيمته، أو تعذرت معرفة المتقوم، فقيمة شقص مشفوع، وإن جهل الثمن كصبرة تلفت، أو اختلطت بما لا تتميز منه، ولم يكن ثمَّ حيلة على إسقاطها، سقطت، لأنها لا تستحق بغير بدل، فإن اتهمه شفيع أنه فعله حيلة حلفه. (وشُرط) لثبوت الشفعة (تقدُّم مِلك شفيع) لجزء من رقبة ما منه الشقص المبيع، بأن يملكه قبل البيع، لأن الشفعة ثبتت لدفع الضرر عن ¬
الشريك، فإذا لم يكن له ملك سابق، فلا ضرر عليه. (و) شرط (كون شقص) مبيع (مشاعًا) أي غير مفرز (من أرض تحب قسمتها) إخبارًا بطلب من له فيها جزء، لحديث جابر مرفوعًا: "الشفعة فيما لم ينقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" (¬1) رواه الشافعي -رحمه اللَّه تعالى- ولحديثه -أيضًا-: "إنما جعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" (¬2) رواه أبو داود. (ويدخل غراس وبناء) في الشفعة (تبعًا) لأرض، لحديث قضائه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة في كل مشترك لم يقسم ربعة أو حائطًا (¬3)، وهذا يدخل فيه البناء والأشجار، و (لا) تدخل (ثمرة) ظاهرة (و) لا (زرع) في شفعة، لا تبعًا، ولا مفردًا، لأنه لا يدخل في البيع تبعًا، فلا يدخل في الشفعة، كقماش لدار. (و) شرط (أخذ جميع) شقص (مبيع) دفعًا لضرر المشتري، بتبعيض الصفقة في حقه، بأخذ بعض المبيع (فإن أراد) الشريك (أخذ البعض) من المبيع، مع بقاء الكل، سقطت شفعته، وإن تلف بعضه، كانهدام بيت من دار بيع بعضها بأمر سماوي، أو بفعل آدمي مشتر، أو غيره، أخذ الشفيع باقيه إن شاء بحصته من ثمنه، فلو اشترى شقصًا من دار بألف تساوي ألفين، فباع بابها، أو هدمها، فبقيت بألف، أخذها الشفيع بخمسمائة بالحصة من الثمن نصًّا (¬4) (أو) إن (عجز عن بعض الثمن) أو عجز عنه كله (بعد إنظاره ثلاثًا) إن طلب الإنظار سقطت شفعته (أو قال لمشتر: بعني) ما اشتريت (أو صالحني) عليه، وأكرنيه، أو هَبْهُ لي، أو اشتريت رخيصًا، ¬
سقطت شفعته، لأن هذا وشبهه دليل رضاه بشرائه، وتركه للشفعة (أو أخبره) إنسان (عدل) بالبيع (فكذبه) أي كذب مخبرًا له ولو واحدًا، لأنه خبر عدل يجب قبوله في الرواية والفتيا والأخبار الدينية، أشبه ما لو أخبره أكثر من عدل (ونحوه) أي نحو ما تقدم، مما يدل على رضاه بشرائه (سقطت) شفعته. (فإن عفا بعضهم) أي الشركاء وترك شفعته، سقطت و (أخذ باقيهم الكلَّ، أو تركه) قال ابن المنذر: أجمع كل من احفظ عنه من أهل العلم على هذا (¬1)، لأن في أخذ البعض إضرارًا بالمشتري، بتبعيض الصفقة عليه، والضرر لا يزال بالضرر، وكما لو كان بعضهم غائبًا، فإنه ليس للحاضر إلا أخذ الكل أو تركه، فإن أخذه، فلصاحبه الخيار إذا حضر بين أخذ قدر سهمه من الشفعة وبين الترك، فإن امتنع من حضر من الشركاء من الشفعة حتى يحضر صاحبه، بطل حقه من الشفعة، لأن في تأخيره إضرارًا بالمشتري. (وإن مات شفيع قبل طلب) مع قدرة، أو إشهاد مع عذر (بطلت) أي سقطت شفعته، لأنه نوع خيار، شرع للتمليك، أشبه الإيجاب قبل القبول، ولأنه لا يُعلم بقاؤه على الشفعة، لاحتمال رغبته عنها، ولا ينتقل إلى الورثة ما يشك في ثبوته (وإن كان الثمن مؤجلًا أُخذ) شفيع (مليء) أي قادر على الوفاء (به) أي بالثمن المؤجل (وغيره) أي غير الملئ، يأخذه (بكفيل ملئ) نصًّا (¬2)، لأنه تابع للمشتري في الثمن وصفته، والتأجيل من صفاته، ويعتد في قدر ثمن بما زيد فيه أو حط منه زمن خيار، لأنه كحالة العقد. (ولو أقر بائع بالبيع، وأنكر مشتر) الشراء (ثبتت) الشفعة، لثبوت موجبها. ¬
فصل في الوديعة
فصل في الوديعة من وَدَعَ الشيء إذا تركه، لتركها عند المودَع (¬1)، وأجمعوا على جواز الإيداع (¬2)، لقوله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (¬3)، وحديث أبي هريرة مرفوعًا "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" (¬4) رواه أبو داود وغيره، ولحاجة الناس إليها. والوديعة شرعًا: المال المدفوع إلى من يحفظه بلا عوض (¬5)، ويعتبر لها أركانُ وكالة، من كون كل منهما جائز التصرف، وتعيين وديع ونحوه، وتبطل بما يبطلها، إلا إذا عزله ولم يعلم، وإن عزل نفسه فهي أمانة بيده، كثوب أطارته الريح إلى داره، يجب رده إلى مالكه. (ويسن قبول وديعة لمن يعلم من نفسه الأمانة) أي أنه ثقة قادر على حفظها، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "واللَّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (¬6)، قال في "المبدع" (¬7): ويكره لغيره إلا برضى ربها، قال في "شرح الإقناع" (¬8): ¬
قلت: ولعل المراد بعد إعلامه بذلك إن كان لا يعلمه لا يغره. وهي عقد جائز من الطرفين، فإن أذن ربها للمدفوع إليه في التصرف ففعل صارت عارية مضمونة كالرهن إذا أذن ربه للمرتهن في استعماله. (ويلزم) الوديع (حفظها) أي الوديعة (في حرز مثلها) عرفًا، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬1)، ولا يمكن أداؤها بدون حفظها (وإن عينه) أي الحرز (ربها) أي: الوديعة، بأن قال احفظها بهذا البيت. (فأحرز) ها (بدونه) أي دون المعهين رتبة، ضمن، لمخالفته، وإن أحرزها بمثله، أو فوقه، كما لو أودعه خاتمًا، وقال: البسه في خنصرك فلبسه في بنصره (¬2)، ولو لغير حاجة، فلا يضمن الوديعة إن تلفت، لأن تعيين الحرز يقتضي الإذن في مثله، وإن نهاه عن إخراجها، فأخرجها، لغشيان شيء الغالب منه الهلاك، كحريق، ونهب، فتلفت، لم يضمن، وإن تركها إذن، فتلفت، ضمن لتفريطه، ويحرم، أو قال: لا تخرجها، فإن أخرجها لغير خوف، فتلفت، ضمن، وإن خفت عليها، فحصل خوف، وأخرجها، أو لا، فتلفت، لم يضمنها (أو تعدى) وديع (أو فرط) أي قصر في حفظها، ضمنها، لأن المتعدي متلف لمال غيره، فيضمنه، كما لو أتلفه من غير إيداع، والمفرط متسبب بترك ما وجب عليه من حفظها. (أو قطع) وديع (علف دابة عنها) أو سقيها (بغير قول) من مالك: لا تعللها، أو لا تسقها، حتى ماتت (ضمنـ) ـها، لأن عللها وسقيها من تمام الحفظ الذي استلزمه بالاستيداع، ولا يضمن إن نهاه مالك عن علفها، وسقيها، فتركه، حتى ماتت، كما لو أمره بقتلها فقتلها، ويحرم ترك علفها، وسقيها مطلقًا، لحرمتها في نفسها، فيجب إحياؤها، لحق اللَّه تعالى. ¬
وإن دفع الوديعة مستودع إلى من يحفظ ماله عادة، كزوجته، وعبده، وخازنه، فتلفت، لم يضمن، لأنه مأذون فيه عادة، أشبه ما لو سلم الماشية إلى الراعي، أو دفعها لعذر كمن حضره الموت، أو أراد سفرًا إلى أجنبي ثقة، أو إلى حاكم، فتلفت، لم يضمن، وإلا يكن له عذر، ضمن لتعديه، لأنه ليس له أن يودع بلا عذر، ولمالك مطالبة الأجنبي -أيضًا- ببدل الوديعة، لأنه قبض ما ليس له قبضه، أشبه المودع من الغاصب، وعليه قرار الضمان، إن علم الحال، لتعديه، فإن لم يعلم فعلى وديع أول، لأنه غرّه. ومن أراد سفرًا، أو خاف على الوديعة عنده ردها إلى مالكها، أو إلى من يحفظ ماله عادة، أو إلى وكيله في قبضها، إن كان، لأن فيه تخلصًا له من دركها، وإيصالًا للحق إلى مستحقه، فإن لم يجده، ولا وكيله، حملها معه إن كان أحفظ لها، ولم ينهه مالكها عنه، لأنه موضع حاجة، فإن تلفت لم يضمن. (ويقبل قول مودعَ في ردها) أي الوديعة (إلى ربها) أو إلى من يحفظ ماله بيمينه، لأنه لا منفعة له في قبضها، أشبه الوكيل بلا جعل (أو) ردها إلى (غيره بإذنه) أي: ويقبل قول مودع في رد الوديعة إلى غير ربها بإذنه، بيمينه، نصًّا (¬1)، لأنه ادعى دفعًا يبرأ به من رد الوديعة، أشبه ما لو ادعى الرد إلى مالكها، ولا يلزم المدعى عليه للمالك غير اليمين، ما لم يقر بالقبض، و (لا) يقبل قول مودع في ردها إلى (وارثه) أي المالك إلا ببينة، لأنهم لم يأتمنوه، وإن ادعى ردًّا بعد مطله بلا عذر، أو بعد منعه منها، لم يقبل إلا ببينة، لأنه صار ضامنًا، كالغاصب، أو ادعى ورثة مودعَ ردًّا منهم، أو من مورثهم، ولو لمالك، لم يقبل ذلك إلا ببينة، لأنهم غير مؤتمين عليها من قبل مالكها، وكذا لو ادعى ملتقط، أو من أطارت الريح إلى داره ثوبًا ونحوه، فلا يقبل إلا ببينة. ¬
(و) يقبل قول مودع (في تلفها) أي الوديعة، بسبب خفي، كسرقة، لتعذر إقامة البينة عليه، ولئلا يمتنع الناس من قبول الأمانات مع الحاجة إليه، وكذا إن لم يذكر سببًا، ولا يقبل دعواه التلف بسبب ظاهر، كحريق، ونهب، إلا ببينة تشهد بوجوده، ثم يحلف أنها ضاعت به، ويصدق بيمينه في عدم خيانة (و) في (عدم تفريط وتعدٍّ) فيها، لأنه أمين، والأصل براءته (وفي الإذن) في دفعها إلى غير ربها، كما تقدم (¬1). وفيه تكرار. (وإن أودع اثنان) واحدًا (مكيلًا أو موزونًا يُقْسَمُ) إجبارًا (فطلب أحدهما نصيبه لغيبة شريك أو) مع حضوره، و (امتناعه) من أخذ نصيبه، أو من الإذن لشريكه في أخذ نصيبه (سلم إليه) أي الطالب، نصيبه وجوبًا، لأنه حق مشترك يمكن فيه تمييز نصيب أحد الشريكين من نصيب الآخر، بغير غبن ولا ضرر، أشبه ما لو كان متميزًا، فإن كان المشترك غير مكيل وموزون، أو كان كذلك، لكن لا ينقسم لصناعة فيه، كآنية نحاس، ونحوها، وحلي مباح، أو مختلف الأجزاء ونحوه، لم يسلم إليه، إلا بإذن شريكه، أو حاكم، لأن قسمته لا يؤمن عليها الحيف، لافتقارها إلى التقويم، وهو ظن وتخمين (ولمودَع ومضارب ومرتهن ومستأجر) قال الشيخ منصور -رحمه اللَّه-: قلت ومثلهم العدل بيده الرهن، والأجير على حفظ عين والوكيل فيه، والمستعير، والمجاعل على عملها (¬2)، انتهى (إن غصبت العين) المودعة، وما عطف عليها (المطالبة بها) من غاصبها، لأنها من جملة حفظها المأمور به، ولا يضمن مودع أكره على دفع الوديعة إلى غير ربها، كما لو أخذها منه قهرًا، لأن الإكراه عذر يبيح له دفعها، فإن طلب يمينه أن لا وديعة لفلان عنده، ولم يجد بدًّا من الحلف، لتغلب الصالب عليه بسلطنة، أو تلصص، ولا يمكنه الخلاص منه إلا بالحلف، حلف متأولًا، ولم يحنث، ¬
فإن لم يحلف حتى أخذت منه، ضمنها، لتفريطه بترك الحلف، ويأثم إن حلف ولم يتأول لكذبه، وإثم حلفه بدون تأويل دون إثمه بإقراره بها، لأن حفظ مال الغير عن الضياع آكد من بر اليمين، ويكفِّر كفارة يمين وجوبًا، إن حلف ولم يتأوَّل، وإن أكره على اليمين بالطلاق، فقال أبو الخطاب: لا تنعقد، كما لو أكره على إيقاع الطلاق (¬1). ومن مات وعنده وديعة، وجهلت في ماله، فربها يكون غريمًا بها، كسائر الديون. ¬
فصل في إحياء الموات
فصل في إحياء الموات والموات هو: الأرض الخراب الدارسة، وتسمى ميتة ومواتًا وموتًا بفتح الميم والواو (¬1). (ومن أحيا أرضًا منفكة عن الاختصاصات و) عن (ملك معصوم) من مسلم، أو ذمي، أو مستأمن (ملكها) أي الأرض. جوابُ مَنْ، بما فيها من معدن جامد باطن، كذهب، وفضة، وحديد، ونحاس، ورصاص، ومن معدن جامد ظاهر، كجص، وكحل، وكبريت، وزرنيخ (¬2)، لأنه من أجزاء الأرض، فيتبعها في الملك، كما لو اشتراها، بخلاف الركاز، لأنه مودع للنقل، وليس من أجزائها، وهذا في المعدن الظاهر إذا ظهر بإظهاره وحفره، وأما ما كان ظاهرًا فيها قبل إحيائها، فلا يملك، لأنه قُطع لنفع كان واصلًا للمسلمين، بخلاف ما ظهر بإظهاره. وإن ظهر فيما أحيا عين ماء، أو معدن جار كنفط، وقار، أو كلأ، فهو أحق به، ولا يملك، لحديث: "الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار" (¬3) رواه الخلال، وابن ماجه. ويجب بذل ما فضل من الماء عن حاجته، وحاجة عياله، وماشيته، وزرعه، لبهائم غيره، وزرعه، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ" (¬4) متفق عليه. وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، مرفوعًا: "من منع فضل مائه، أو فضل كلئه منعه اللَّه فضله يوم ¬
القيامة" (¬1) رواه أحمد، ولا يتوعد على ما يحل، فإن آذاه بالدخول، أو تضرر ببذله، فله منعه، أو كان له فيه ماء السماء، فيخاف عطشًا، أو حازه في إناء، لم يلزمه بذله. ولا يملك بالإحياء موات الحرم، وعرفات، لما فيه من التضييق على الحاج، واختصاصه بما يستوي فيه الناس، ولا ما أحياه مسلم من أرض كفار صولحوا على أنها لهم، ولنا الخراج عنها، ولا ما قرب من العامر عرفًا، وتعلق بمصالحه، كطرقه، وفنائه، ومسيل مائه، ومرعاه، ومحتطبه، وحريمه، ومدفن موتاه، ومطرح ترابه، ولا ما جرى عليه ملك لأحد، أو وجد فيه أثر عمارة، وإن ملكه من له حرمة من مسلم أو ذمي أو مستأمن، أو شك فيه، بأن وجد مالكه، أو وجد أحد من ورثته، لم يملك بإحياء، حكاه ابن عبد البر إجماعًا (¬2)، وكذا إن جهل مالكه، بأن لم تعلم عينه، مع العلم بجريان الملك عليه لذي حرمة، فلا يملك بالإحياء، نصًّا (¬3)، لمفهوم حديث عائشة: "من أحيا أرضًا ليست لأحد" (¬4) ولأنه مملوك فلا يملك بالإحياء، كما لو كان مالكه معينًا، وإن علم ولم يعقب أقطعه الإمام لمن شاء، لأنه فيء، وإن ملك بإحياء، ثم ترك حتى دثر، وعاد مواتًا، لم يملك بإحياء إذ كان لمعصوم، لمفهوم حديث: "من أحيا أرضًا ميتة ليست ¬
لأحد" (¬1) وهو مقيد بحديث: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له" (¬2)، ولأن ملك المحيي أولًا لم يزل عنها بالترك، كسائر الأملاك. (ويحصل) إحياء الأرض (بحوزها بحائط منيع) بحيث يمنع ما وراءه، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أحاط حائطًا على الأرض فهي له" (¬3) رواه أحمد، ويكون مما جرت عادة أهل البلد به، من لبن، أو حجر، أو قصب، أو خشب، ونحوه، ولا يعتبر في ذلك تسقيف، ولا نصب باب (أو إجراء ماء) لها (لا تزرع إلا به) أي بالماء المسوق إليها (أو قطع ماء) عنها (لا تزرع معه) كأرض البطائح التي يفسدها غرقها بالماء، لكثرته، فإحياؤها بسده عنها (أو حفر بئرٍ) أو نهر، نصًّا (¬4)، ويصل إلى ماء البئر، فإذا خرج الماء استقر ملكه، إلا أن يحتاج إلى طي (¬5)، فتمام الإحياء بطيها (أو غرس شجر فيها) أي الأرض، بأن كانت لا تصلح لغرس، لكثرة أحجارها، ونحوها، فينقيها، ويغرسها. ولا يحصل الإحياء بحرث، وزرع، وبحفر بئر بموات يملك حريمها، وهو من كل جانب في قديمة -وتسمى العاديَّة- (¬6) خمسون ¬
ذراعًا، وفي غير القديمة خمسة وعشرون ذراعًا، نصًّا (¬1)، لحديث أبي عبيدة في "الأموال" عن سعيد بن المسيب: السنة في حريم القليب العادي خمسون ذراعًا والبدي خمسة وعشرون ذراعًا (¬2). رواه الخلال، والدارقطني نحوه مرفوعًا (¬3). والبئر التي لها ماء ينتفع به ليس لأحد احتجاره، كالمعادن الظاهرة، وحريم عين وقناة حفرتا بموات: خمسمائة ذراع، وحريم نهر بموات من جانبيه ما يحتاج إليه لطراح كرايته (¬4)، وطريق شاويه -أي قيمه- قال في "شرح المنتهى" لمصنفه: والكراية والشاوي لم أجد لهما أصلًا في اللغة بهذا المعنى، ولعلهما مولدتان من قبل أهل الشام (¬5). انتهى. وحريم شجرة غرست بموات قدر مد أغصانها حواليها، لحديث أبي داود، عن أبي سعيد قال: اختصم إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في حريم نخلة، فأمر بجريدة من جرائدها، فذرعت، فكانت سبعة أذرع أو خمسة أذرع، فقضى بذلك (¬6). وحريم أرض تزرع ما تحتاج إليه لسقيها، وربط دوابها، وطرح سبخها، ومصرف مائها عند الاستغناء عنه، وحريم دار من موات حولها ¬
مطرح تراب، وكناسة، وماء ميزاب وممر لباب، ولا حريم لدار محفوفة بملك لغيره، ويتصرف كل من أرباب الأملاك المتلاصقة بحسب عادة. وإن وقع في قدر الطريق نزاع وقت الإحياء، فلها سبعة أذرع، للخبر (¬1). ولا تغير بعد وضعها، ومن تحجر مواتًا، بأن أدار حوله أحجارًا، أو ترابًا، أو شوكًا، أو حائطًا غير منيع، أو حفر بئرًا لم يصل ماؤها، أو شفى شجرًا مباحًا، كالزيتون والخرنوب (¬2)، أي قطع الأغصان الرديئة لتخلفها أغصان جيدة، أو أصلحه ولم يركبه، أو أقطعه الإمام مواتًا ليحييه، لم يملكه بذلك، وهو أحق به من غيرد، وكذا وارثه من بعده، وكذا من ينقله المتحجر، والمقطع إليه. وكذا من نزل عن أرض خراجية بيده لغيره، أو عن وظيفة لأهلٍ، فالمنزول له أحق بها من غيره، وليس لمن قلنا إنه أحق بشيء من ذلك بيعه، لأنه لم يملكه، كحق الشفعة قبل الأخذ، لكن النزول عنه بعوض لا على وجه البيع جائز، كما ذكره ابن نصر اللَّه (¬3)، قياسًا على الخلع. (ومن سبق إلى طريق واسع) أو رحبة مسجد غير محوطة، ولم يضيق على الناس (فهو أحق بالجلوس فيه ما بقي متاعه، ما لم يضر)، لحديث: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به" (¬4) وإن سبق اثنان فأكثر إلى ما ¬
تتمة
ذكر، أو إلى خان مسبل (¬1)، أو رباط، أو مدرسة، أو خانكاه (¬2)، ولم يتوقف الانتفاع فيها إلى تقرير ناظر، وضاق المكان عن انتفاع جميعهم، أقرع. والسابق إلى معدن أحق بما يناله منه، والسابق إلى مباح، كصيد، وعنبر، وحطب، ومنبوذ رغبة عنه، وما يتركه حصاد، ونحوه من زرع، وثمر، رغبة عنه، أحق به، فيملكه بأخذه، مسلمًا كان، أو ذميًّا، ويقسم بين عدد أخذوه دفعة واحدة بالسوية، ولا يجوز لأحد أن يأخذ من أرباب الدواب عوض مرعى موات، أو حمى، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- شرك الناس فيه (¬3). تتمة: ولمن في أعلى ماء غير مملوك، كالأمطار، والأنهار الصغار، أن يسقي ويحبسه حتى يصل إلى كعبه، ثم يرسله إلى من يليه أولًا، ثم هو كذلك، مرتبًا الأعلى فالأعلى، إلى انتهاء الأراضي، إن فضل شيء، وإلا فلا شيء للباقي. ولو استوى اثنان فأكثر في قرب من أول نهر، قسم الماء بينهم على قدر الأرض، إن أمكن، وإلا أقرع، ولو أحيا سابق مواتًا في أسفل النهر، ثم أحيا آخر فوقه، ثم أحيا ثالث فوق ثان، سقى المحيي أولًا، ثم ثان، ثم ثالث، اعتبارًا بالسبق إلى الإحياء، لا إلى أول النهر، كما تقدم، لأنه إذا ¬
ملك الأرض ملكها بحقوقها ومرافقها. والماء الجاري المملوك وغيره، لكل أحد أن يأخذ منه لشربه، ووضوئه، وغسله، وغسل ثيابه، والانتفاع به في أشباه ذلك، مما لا يؤثر فيه، بلا إذن مالكه، إن لم يدخل إليه في مكان محوط عليه، ولا يحل لصاحبه المنع منه، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "ثلاثة لا ينظر اللَّه إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل كان بفضل مائه بالطريق، فمنعه ابن السبيل" (¬1) رواه البخاري. بخلاف ما يؤثر فيه، كسقي ماشية كثيرة، ونحوه، فإن فضل شيء من الماء عن حاجته لزمه بذله لذلك، وإلا فلا. ¬
فصل في الجعالة
فصل في الجعالة بتثليث الجيم -كما ذكره ابن مالك (¬1) - (¬2) مشتقة من الجُعل، بمعنى التسمية. لأن الجاعل يسمى الجعل للعامل. أو من الجَعْل، بمعنى الإيجاب. يقال: جعلت له كذا أي: أوجبت (¬3). ويدل لمشروعيتها قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬4)، وحديث اللديغ (¬5). ولدعاء الحاجة إليه. وهي شرعًا: جعل مال معلوم لمن يعمل له عملًا، ولو مجهولًا (¬6) فلذلك قال: (ويجوز جعل شيء معلوم) فلا يصح: من رد عبدي فله نصفه، ونحوه، لا إن كان من مال حربي، فيصح مجهولًا (لمن يعمل) متعلق بجعل (عملًا) مباحًا، بخلاف نحو زمر، وزنًا (ولو) كان العمل (مجهولًا) كمن خاط لي ثوبًا، ونحوه، فله كذا، أو لمن يعمل له مدة ولو مجهولة، كمن حرس زرعي، أو أذَّن في هذا المسجد، فله في كل شهر كذا و (كرد عبد، ولقطة، وبناء حائط) كقوله: من رد عبدي الآبق فله كذا، أو رد لقطتي، أو ¬
بنى حائطي، فله كذا (فمن فعله) أي العمل المسمى عليه الجعل (بعد علمه) أي بعد أن بلغه الجعل (استحقه) كدين، لأن العقد استقر بتمام العمل، فاستحق ما جعل له، ومن بلغه الجعل في أثناء العمل، استحق من الجعل حصة تمامه، إن أتمه بنية الجعل، ومن بلغه بعد تمامه لم يستحقه، ولا شيء منه، لما سبق، وحرم عليه أخذه، إلا إن تبرع له به ربه، بعد إعلامه بالحال. (ولكلٍّ) من المجاعل والعامل (فسخها) لأنها من العقود الجائزة، (فـ) إن وقع الفسخ (من عامل فلا شيء له) لإسقاطه حق نفسه، حيث لم يوف ما شرط عليه (و) إن وقع (من جاعل فلعامل أجرة) مثل (عمله) لأنه عمل بعوض لم يسلم له، ولا شيء لما يعمله بعد الفسخ، لأنه غير مأذون فيه، وإن زاد جاعل في جعل، أو نقص منه قبل شروع في عمله، جاز، وعمل به، لأنه عقد جائز، كالمضاربة (وإن عمل) شخص (غير معدٍّ لأخذ أجرة لغيره عملًا بلا جعل) فلا شيء له، لأنه بذل منفعته من غير عوض، فلم يستحقه (أو) عمل معدٍّ لأخذ أجرة لغيره عملًا (بلا إذن فلا شيء له) لتبرعه بعمله، حيمث بذله بلا عوض (إلا في تحصيل) أي تخليص (متاع) غيره، ولو قنًّا (من بحر أو فلاة) أو فم سبع، يظن هلاكه في تركه (فله أجر مثله) لأنه يخشى هلاكه، وتلفه على مالكه، بخلاف اللقطة، وفيه حث وترغيب في إنقاذ الأموال من الهلكة (وفي) رد (رقيق دينار أو اثنا عشر درهمًا) ولو جعل دون ذلك، وسواء كان يساويها، أو لا لئلا يلتحق بدار الحرب، ويشتغل بالفساد. روي عن عمر وعلي (¬1) وعن عمرو بن دينار، وابن أبي مليكة مرسلًا: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جعل في رد الآبق إذا جاء به خارجًا من الحرم ¬
تتمة
دينارًا (¬1). وإن اختلفا في أصل جعل، فالقول قول من ينفيه منهما، لأن الأصل عدمه، وإن اختلفا في قدره، أو قدر مسافة، فقول جاعل، لأنه منكر. تتمة: متى كان العمل في مال الغير إنقاذًا له من التلف المشرف عليه، كان جائزًا بغير إذن مالكه، لأنه إحسان إليه، كذبح الحيوان المأكول إذا خيف موته، ولا يضمن ما نقص بذبحه، لأنه محسن به. ¬
فصل في اللقطة
فصل في اللقطة وهي محركة، وكحُزْمة وهمُزَة وثمامة: ما التقط. قاله في "القاموس" (¬1). وهي عرفًا: مال كنقد، أو متاع، أو مختمر، كخمر خلَّال، ضائع، أو في معناه، كمتروك قصدًا لمعنى يقتضيه، ومدفون منسي لغير حربي (¬2). والأصل في الالتقاط: حديث زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن لقطة الذهب والوَرِق (¬3)؟ فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها (¬4)، ثم عرِّفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإذا جاء طالبها يومًا من الدهر، فادفعها إليه". وسأله عن ضالة الإبل؟ فقال: "مالك ولها؟ فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربُّها". وسأله عن الشاة؟ فقال: "خذها فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب" (¬5). متفق عليه. (واللقطة ثلاثة أقسام) بالاستقراء: الأول: (ما لا تتبعه همة أوساط الناس) أي: يهتمون في طلبه (كرغيف وشسع) -بتقديم المعجمة- أحد ¬
سيور النعل الذي يدخل بين الأصبعين (¬1)، وكرغيف، وتمرة، وكل ما لا خطر له، (فيملك) بأخذ ويباح الانتفاع به، نصًّا (¬2)، لحديث جابر: رخص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في العصا، والسوط، والحبل يلتقطه الرجل، ينتفع به (¬3). رواه أبو داود (بلا تعريف) لأنه من قبيل المباحات، ولا يلزمه بدله إن وجد ربه، لملك ملتقطه له بأخذه، وظاهره: إن بقي بعينه، لزمه رده لربه كما ذكره في "الإقناع" (¬4). وكذا لو لقي كناس ومن في معناه قطعًا صغارًا متفرقة من فضة، ملكها بأخذها، ولا يلزمه تعريفها، ولا بَدلها إن وجد ربها، ولو كثرت بضمها، لأن وجودها متفرقة، يدل على تعدد أربابها. ومن ترك دابة بمهلكة، أو فلاة، لانقطاعها، أو عجزه عن علفها، ملكها آخذها، لحديث الشعبي مرفوعًا: "من وجد دابة قد عجز عنها أهلها فسيبوها، فأخذها، فأحياها، فهي له". قال عبد اللَّه (¬5) بن محمد بن حميد بن عبد الرحمن: فقلت -يعني للشعبي- من حدثك بهذا؟ قال: غير واحد من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6) رواه أبو داود والدارقطني. وكذا ما يلقى من ¬
سفينة، خوف غرق، فيملكه آخذه، لإلقاء صاحبه له اختيارًا، فيما يتلف بتركه، أشبه ما لو ألقاه رغبة عنه. القسم (الثاني: الضوالُّ) جمع ضالة، اسم للحيوان خاصة، دون سائر اللقطة، ويقال لها: الهوامي، والهوافي، والهوامل (¬1) (التي تمتنع من صغار السباع) كذئب، وأسد صغير، وابن آوى، وامتناعها إما لكبر جثتها (كخيل وإبل وبقر) وبغال، وحمير، وإما لسرعة عدوها، كظباء، وإما بطيرانها، كطير، وإما بنابها، كفهد، ونحوه (فيحرم التقاطها) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مالك ولها، دعها فإن معها حذاءها وسقاءها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يجدها ربها" (¬2). ولحديث: "لا يؤوي الضالة إلا ضال" (¬3). رواه أحمد وغيره. (ولا تملك) ما حرم التقاطها (بتعريفها) لعدوانه، لعدم إذن المالك والشارع فيه، أشبه الغاصب، ولإمام ونائبه أخذه، ليحفظه لربه، لا على أنه لقطة، ولا يلزمه تعريفه، لأن عمر لم يكن يعرِّف الضوال (¬4). ولا يؤخذ منه بوصف، لأنها كانت ظاهرة للناس حين كانت بيد ربها، فلا يختص بمعرفة صفاتها، ويمكنه إقامة البينة عليها. ويجوز التقاط صيود متوحشة، لو تركت رجعت إلى الصحراء، بشرط ¬
عجز ربها عنها، ولا يملكها آخذها بالتعريف، لأنه يحفظها لربها، فهو كالوديع. ولا يجوز التقاط أحجار طواحين، وقدور ضخمة، وأخشاب كبيرة، ونحوها مما ينحفظ بنفسه، لأنها لا تبرح من مكانها. وما حرم التقاطه، ضمنه آخذه إن تلف، أو نقص، كغاصب، ولا يضمن كلبًا مع تحريم التقاطه، لأنه ليس بمال، ومن التقط ما لا يجوز التقاطه، وكتمه عن ربه، فتلف، فعليه قيمته مرتين، نصًّا (¬1)، لحديث: "في الضالة المكتومة غرامتها ومثلها معها" (¬2). ويزول ضمان ما حرم التقاطه بدفعه إلى الإمام، أو نائبه، أو رده إلى مكانه، بأمره، أو بأمر نائبه، لقول عمر لرجل وجد بعيرًا: "أرسله حيث وجدته" (¬3). رواه الأثرم، فإن رده بغير أمره، فتلف، ضمن، كالمسروق، والمغصوب. القسم الثالث: (باقي الأموال) ما عدا القسمين السابقين (كثمن) أي نقد (ومتاع) كثياب، وكتب، وفرش، ونحوها (وغنم وفصلان) بضم الفاء وكسرها، جمع فُصيل، ولد الناقة إذا فُصل عن أمِّه (وعجاجيل) جمع عجل، ولد البقرة، وأفلاء -بالمد- جمع فُلُو، وهو المهر والجحش إذا فطما أو بلغا السنة، وقن صغير، ومريض كبارِ إبلٍ ونحوها، ونحو ذلك، كخشبة صغيرة، وقطعة حديد، وزِق دهن أو عسل، وغرارة (¬4) نحو بر (فلمن أمن نفسه عليها) وقوي على تعريفها (أخذها) للخبر في النقدين والشاة (¬5)، وقيس على ذلك غيره، والإمام وغيره في ذلك سواء، فإن لم يأمن نفسه عليها، أو عجز عن تعريفها، فليس له أخذها، لما فيه من تضييعها على ¬
تتمة
ربها، ويضمنها به إن تلفت، فرط أو لم يفرط، لأنه غير مأذون فيه أشبه الغاصب، ولم يملكها، ولو عرفها، والأفضل لمن أمن نفسه عليها، وقوي على تعريفها؛ تركها، روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر (¬1)، ومن أخذها ثم ردها إلى موضعها، أو فرط فيها، فتلفت، ضمنها، إلا أن يأمره إمام، أو نائبه، فيبرأ به، فإن تلفت منه في حول التعريف بلا تفريط، لم يضمنها. تتمة: ما أبيح التقاطه، ولم يملك به، ثلاثة أضرب: أحدها: حيوان مأكول، كشاة، ودجاجة، فيلزمه فعل الأصلح من أكله بقيمته في الحال، لحديث: "هي لك أو لأخيك أو للذئب" (¬2). أو بيعه، وحفظ ثمنه. أو حفظه، وينفق عليه من ماله، وله الرجوع بما أنفق بنيته، فإن استوت الثلاثة خُيِّر. الضرب الثاني: ما يخشى فساده، بإبقائه، كخضروات، ونحوها، فيلزمه فعل الأحظ من بيعه، وحفظ ثمثه، أو أكله بقيمته، أو تجفيف ما يجفف، كعنب، ورطب، فإن استوت الثلاثة خُير. الضرب الثالث: باقي المال المباح التقاطه، من أثمان، ومتاع، ونحو ¬
ذلك (ويجب) على ملتقط (حفظها) جميعها (و) يجب عليه (تعريفها) أي اللقطة، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر به زيد بن خالد، وأبي بن كعب (¬1). ولأن حفظها لربها إنما يفيد بإيصالها إليه، وطريقة التعريف فورًا، لأنه مقتضى الأمر، ولأن صاحبها يطلبها عقب ضياعها (في مجامع الناس) كالأسواق، وأبواب المساجد، وأوقات الصلوات، لأن المقصود إشاعة ذكرها، ويكثر منه في موضع وجدانها، وإن كان في صحراء عرفها في أقرب البلاد إليها نهارًا، لأنه مجمع الناس، وملتقاهم أول كل يوم، قبل اشتغال الناس بمعاشهم، أسبوعًا، لأن الطلب فيه أكثر، ثم يعرفها كعادة الناس في ذلك، وقيل: يعرفها في كل يوم أسبوعًا، ثم في كل أسبوع مرة شهرًا، ثم في كل شهر مرة في (غير المساجد) وأما فيها فيكره، حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا أداها اللَّه إليك. فإن المساجد لم تبن لهذا" (¬2). واختار جماعة (حولًا كاملًا) من التقاطه، روي عن عمر، وعلي، وابن عباس (¬3)، لحديث زيد بن خالد: فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمره بعام ¬
واحد (¬1) فينادي: من ضاع منه شيء، أو نفقه، ولا يصفها، لأنه لا يؤمن أن يدعيها بعض من سمع صفتها، فتضيع على مالكها (وتملك بعده) أي: بعد تعريفها حولًا كاملًا، ولم تعرف فيه، وهي مما يجوز التقاطه (حكمًا) كالميراث، نصًّا (¬2)، فلا يقف على اختياره، لحديث "وإلا فهي كسبيل مالك" (¬3). ولو كانت عرضًا، أو لقطة الحرم، فتملك بالتعريف، كلقطة الحل، روي عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة (¬4)، لعموم الأحاديث، وكحرم المدينة، وحديث: "لا تحل ساقطتها إلا لمنشد" (¬5) يحتمل أن يراد به إلا لمن عرَّفها عامًا، وتخصيصها بذلك لتأكدها، كحديث: "ضالة المسلم حرق النار" (¬6) وإن أخر التعريف الحول كله، أو بعضه، لغير عذر، أَثِمَ، ولم يملكها بالتعريف بعد الحول، لأن شرط الملك التعريف فيه، ولم يوجد. (ويحرم تصرفه) أي، الملتقط (فيها) أي اللقطة (قبل معرفة وعائها) وهو كيسها ونحوه، كخرقة شدت فيها، أو زقٍّ فيه مائع، ولفافة على ثوب (و) قبل معرفة (وكائها) وهو ما يشد به الكيس، أو الزق (و) قبل معرفة (عفاصها) بكسر العين المهملة، وهو صفة الشد (¬7)، فيعرف الربط، هل هو ¬
عقدة، أو عقدتان، وأنشوطة، أو غيرها (و) قبل معرفة (قدرها) بكيل، أو وزن، أو عد، أو ذرع (وجنسها وصفتها) أي نوعها، ولونها، لحديث أبي بن كعب أنه قال: وجدت مائة دينار فأتيت بها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "عرِّفها حولًا". فعرفتها حولًا، فلم تعرف، فرجعت إليه، فقال: "اعرف عدتها ووعاءها ووكاءها، واخلطها بمالك، فإن جاء ربها فأدها إليه" (¬1). وسن معرفة ما ذكر عند وجدانها، وإشهاد عدلين عليها، لحديث: "من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل" (¬2). ولم يأمر به في خبر زيد بن خالد، وأبي بن كعب، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فتعين حمله على الندب، وكالوديعة (ومتى جاء ربها فوصفها لزم دفعها إليه) بنمائها المتصل مطلقًا. والمنفصل في حول التعريف، لأنه تابع له، ولا يشترط في ذلك بينة تشهد بالملك له، ولا أنها ضاعت منه، ولا يمينه على ذلك، ولا أن يغلب على ظن الملتقط صدقه، للأخبار، فإن دفعها بلا بينة ولا وصف، ضمن إن جاء آخر فوصفها، وله تضمين أيهما شاء، وقرار الضمان على الآخذ، وإن لم يأت أحد فللملتقط مطالبة آخذها بها، لأنها أمانة بيده، ولا يأمن مجيء صاحبها، فيلزمه بها. ومع رقٍّ ملتقط، وإنكار سيده أنها لقطة، فلابد من بينة تشهد بأنه التقطها، لأن إقرار القن بالمال لا يصح. ¬
وإن تلفت اللقطة، أو نقصت قبل الحول بيد ملتقط، ولم يفرط، لم يضمنها، وبعده يضمنها مطلقًا، لدخولها في ملكه، وتعتبر القيمة يوم عرت ربها، وإن وصف اللقطة ثان قبل دفعها للأول، أقرع بينهما، ودفعت إلى قارع بيمينه، نصًّا (¬1)، وبعده لا شيء لثان، لأن الأول استحقها بوصفها، وعدم المنازع له فيها حين أخذها، وإن أقام آخر بينة أنها له، أخذها من واصف، ولو أدركها ربها بعد الحول والتعريف مبيعة أو موهوبة، فليس له إلا البدل. ويفسخ العقد إن أدركها ربها زمن خيار لهما، أو لبائع، ومن استيقظ فوجد في ثوبه، أو كيسه مالًا، لا يدري من صره؛ فهو له، ولا يبرأ من أخذ من نائم شيئًا، إلا بتسليمه له بعد انتباهه، لتعديه. ومن وجد في حيوان ذبحه نقدًا، أو درة، فلقطة، وإن وجد درة غير مثقوبة في سمكة فهي لصياد، ولو باعها، نصًّا (¬2). ومن ادعى ما بيد لص، أو ناهب، أو قاطع طريق، ووصفه، فهو له، ولا يكلف بينة، لأنه بيد من لم يدع ملكه، وربه مجهول، بخلاف من ادعى وديعة، أو عارية، أو رهنًا، فلا يكفي الوصف، بك لابد من بينة أو يقترعان، فمن قرع، حلف وأخذها، وإن وجدها صغير، أو سفيه، أو مجنون، قام وليه بتعريفها تأدية للواجب عليه، فإن تلفت بيد أحدهم بتفريط، ضمن، كاتلافه، وإن كان بتفريط الولي، فضمانها عليه. (ومن أُخذ نعلُه ونحوه) كمداسه، أو أخذ متاعه، كثياب في حمام (ووجد غيره مكانه، فلقطةٌ) لا يملكه بذلك، لأن سارق ذلك لم يجر بينه وبين مالكة معاوضة، تقتضي زوال ملكه عنه، فإذا أخذه فقد أخذ مال غيره، ولا يعرف صاحبه، فيعرفه كاللقطة، ويأخذ حقه منه بعد تعريفه. ¬
(واللقيط) (¬1) فعيل بمعنى مفعول، كجريح وطريح (¬2). وشرعًا (¬3): (طفل لا يُعرَفُ نسبُه، ولا رقه، نبذ) بالبناء للمفعول -أي طرح- في شارع، أو غيره (أو ضل) الطريق ما بين ولادته (إلى) سن (التمييز) فقط على الصحيح، قاله في "الإنصاف" (¬4)، (والتقاطه فرض كفاية) لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (¬5)، ولأن فيه إحياء نفسه، فكان واجبًا، كإطعامه إذا اضطر. فإن تركه جميع من رآه أثموا، فإن كان معه شيء أنفق عليه منه، لوجوب نفقته في ماله، وما معه فهو ماله (وإن لم يكن معه شيء) أنفق عليه من بيت المال، لما روى سعيد، عن سُنين أبي جميلة قال: وجدت ملقوطًا فأتيت به عمر، فقال عريفي: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح، فقال عمر: أكذلك هو؟ قال: نعم.: فاذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته (¬6)، وفي لفظ: وعلينا رضاعه (¬7) (و) إن (تعذر) ت النفقة عليه من (بيت المال) لكون البلد ليس به بيت مال، أو به ولا مال به، ونحوه، اقترض عليه حاكم، ووفى من بيت المال إن حصل به شيء، فإن تعذر الاقتراض عليه، أو الأخذ منه (أنفق عليه عالم به بلا رجوع) بما أنفق، لوجوبه عليه، فالنفقة على من علم به فرض كفاية. ¬
(وهو مسلم) حكمًا (إن وجد في بلد يكثُر فيه المسلمون) لظاهر البلد، وتغليبًا للإسلام، لأنه يعلو ولا يُعلى عليه، ويحكم بحرِّيته، لأنه الأصل في الآدميين، إلا إن وجد في بلد أهل حرب، ولا مسلم فيه، أو فيه مسلم، كتاجر، وأسير، فهو كافر رقيق، وإن كان بها مسلم يمكن كونه منه، فمسلم، وما وجد معه من مال أو متاع، فهو له، كما تقدم. والأولى بحضانته: واجده، إن كان أمينًا عدلًا، لما تقدم عن عمر (¬1)، ولسبقه إليه، فكان أولى به، ولو كانت عدالته ظاهرًا، كولاية النكاح، والشهادة فيه، وأكثر الأحكام، وكان حرًّا تام الحرية، لأن منافع القن، والمدبر، والمعلق عتقه بصفة، وأم الولد، مستحقة لسيده، فلا يذهبها في غير نفعه إلا بإذنه مكلفًا، لأن غير المكلف لا يلي أمر نفسه، فغيره أولى. وميراث اللقيط وديته إن قتل لبيت المال، إن لم يكن له وارث، فإن كان له زوجة، فلها الربع، والباقي لبيت المال، وإن كان له وارث غير الزوجة، أخذ الجميع. (وإن أقر به) أي اللقيط (من يمكن كونه منه) ولو كان المقر كافرًا، أو رقيقًا، أو أنثى ذات زوج، أو ذات نسب معروف (أُلحقَ) اللقيط (به) ولو كان اللقيط ميتًا، لأن الإقرار بالنسب مصلحة محضة للقيط، لاتصال نسبه، ولا مضرة على غيره فيه، فقبل كما لو أقر له بمال. ولأن الأنثى أحد الأبوين فثبت النسب بدعواها، كالأب، ولأنه لا يمكن أن يكون منها كما يمكن كونه من الرجل بل أكثر، لأنها تأتي به من زوج: ومن وطء شبهة، ويلحقها ولدها من الزنا دون الرجل، ولا يلحق بزوج امرأة مقرة، لأنه لم يولد على فراشه، ولم يقر به، وكما لو ادعى الرجل نسبه لم يلحق بزوجته، ولا يتبع رقيقًا ادعى نسبه في رق، ولا يتبع كافرًا في دينه، إلا أن يقيم بيِّنة أنه ولد على فراشه، فيلحقه في دينه، لثبوت أنه ولد ذميين. ¬
فصل في الوقف
فصل في الوقف وهو مصدر وقف الشيء إذا حبسه، وأحبسه وأوقفه لغة شاذة (¬1)، قال الشافعي-رحمه اللَّه تعالى-: لم تحبس أهل الجاهلية وإنما حبس أهل الإسلام (¬2). (والوقف سنة) وهو من القرب المندوب إليها؛ لحديث ابن عمر قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر فأتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يستأمره فقال: يا رسول اللَّه إني أصبت مالًا بخيبر (¬3) لم أصب قط مالًا أنفس عندي منه، فما تأمرني فيه؟ قال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها، ولا توهب، ولا تورث". قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى والرقاب وفي سبيل اللَّه وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه"، وفي لفظ: "غير متأثل" (¬4) متفق عليه، ولحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" (¬5)، قال الترمذي: حسن ¬
صحيح. وقال جابر: لم يكن أحد من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذا مقدرة إلا وقف (¬1). وهو شرعًا: تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به مع بقاء عينه بقطع تصرفه وغيره في رقبته بشيء من التصرفات يصرف ريعه إلى جهة بر تقربًا إلى اللَّه تعالى، قال في "شرح المنتهى" "كالإقناع" (¬2): وهذا الحد لصاحب "المطلع" (¬3)، وتبعه المنقح عليه (¬4)، وتابعهما المصنف (¬5)، واستظهر في "شرحه" (¬6) أن قوله: تقربًا إلى اللَّه تعالى إنما هو في وقف يترتب عليه الثواب، فإن الإنسان قد يقف على غيره توددًا أو على ولده خشية بيعه بعد موته وإتلاف ثمنه، أو خشية أن يحجر عليه ويباع في دَيْنِهِ، أو رياء ونحوه، وهو وقف لازم لا ثواب فيه، لأنه لم يبتغ به وجه اللَّه تعالى. انتهى. (ويصح) الوقف (بقول) ويأتي صريحه وكنايته (و) يصح الوقف أيضًا بـ (فعل) مع (دال عليه) أي الوقف (عرفًا) كالقول، لاشتراكهما في الدلالة عليه، وذلك (كمن بنى أرضه مسجدًا) أي على هيئة مسجد (أو) جعل أرضه (مقبرة وأذنَ للناس أن يصلوا فيه) أي المسجد إذنًا عامًّا، لأن الإذن ¬
الخاص قد يقع على غير الموقوف فلا يفيد دلالة الوقف (و) أذن للناس أن (يدفنوا فيها) أي المقبرة إذنًا عامًا لما تقدم، أو يبني بيتًا لقضاء حاجة الإنسان والتطهير ويشرعه (¬1) لهم، أو يملأ خابية (¬2) أو نحوها ماء في المسجد أو على الطريق. ولو جعل سفل بيته مسجدًا وانتفع بعلوه أو عكسه أو وسطه ولو لم يذكر استطراقًا صح، ويستطرق كما لو باع أو أجر بيتًا من داره ولم يذكر له استطراقًا، فإنه يصح البيع والإجارة ويستطرق إليه على العادة، (وصريحه) أي القول (وقفت وحبّست وسبّلت) ويكفي أحدها (وكنايته: تصدقت وحرمت وأبدت) لعدم خلوص كل منها عن الاشتراك، فالصدقة تستعمل في الزكاة وهي ظاهرة في صدقة التطوع، والتحريم صريح في الظهار، والتأبيد يستعمل في كل ما يراد تأبيده من وقف وغيره، ولا يصح الوقف بها إلا بنية فمن أتى بكناية واعترف أنه نوى بها الوقف لزمه حكمًا، لأنها بالنية صارت ظاهرة فيه. وإن قال: ما أردت الوقف قبل قوله، لأن نيته لا يطلع عليها غيره، أو قرنها بأحد الألفاظ الخمسة وهي الصرائح الثلاث والكنايتان كقوله: تصدقت صدقة موقوفة أو محرمة ونحو ذلك، أو يقرن الكناية بحكم الوقف كقوله: تصدقت به صدقة لا تباع، أو صدقة لا توهب أو لا تورث، أو على قبيلة أو طائفة كذا، لأن ذلك كله لا يستعمل في غير الوقف فانتفت الشركة، وكذا تصدقت بأرضي أو داري على زيد والنظر لي أيام حياتي، ثم من بعد زيد على عمرو ونحو ذلك. ¬
(وشروطه) أي الوقف (خمسة): أحدها: (كونه في عين معلومة يصح بيعها) بخلاف نحو أم ولد (غير مصحف) فيصح وقفه وإن لم يصح بيعه كما تقدم (¬1) (وينتفع بها) دائمًا (مع بقائها) عرفًا كإجارة واستغلال ثمرة ونحو ذلك، لأن الوقف يراد للدوام ليكون صدقة جارية ولا يوجد ذلك فيما لا تبقى عينه، عقارًا كان الموقوف كأرض أو شجر أو منقولًا كالحيوان والأثاث والسلاح والمصحف وكتب العلم ونحو ذلك. ويصح وقف المشاع؛ لحديث ابن عمر: أن عمر قال: المائة سهم التي بخيبر لم أصب مالًا قط أعجب إلي منها، فأردت أن أتصدق بها فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: احبس أصلها وسبِّل ثمرتها (¬2). رواه النسائي وابن ماجه. ويعتبر أن يقول: كذا سهمًا من كذا سهمًا (¬3) قاله أحمد (¬4). ويصح وقف الحلي للبس وعارية، ولو أطلق وقفه لم يصح، ولا يصح الوقف في الذمة كوقفت عبدًا أو دارًا، ولا وقف مبهم كأحد هذين العبدين، ولا يصح وقف مطعوم ومشروب غير الماء، ولا وقف شمع ورياحين لما تقدم، ولو تصدق بدهن على مسجد ليوقد فيه جاز وهو من باب الوقف قاله الشيخ (¬5). (و) الشرط الثاني: (كونه) أي الوقف (على برٍّ) مسلمًا كان الواقف أو ¬
ذميًا، نصًّا (¬1)، كالوقف على المساكين والمساجد والقناطر والأقارب؛ لأنه شُرع لتحصيل الثواب، فإذا لم يكن على بر لم يحصل مقصوده الذي شرع لأجله، فلا يصح على طائفة الأغنياء، ولا على طائفة أهل الذمة ولا على صنف منهم (ويصح من مسلم على ذمي) معين، لما روي أن صفية بنت حيي رضي اللَّه عنها زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقفت على أخ لها يهودي (¬2). ولأنه موضع للقربة لجواز الصدقة عليه (وعكسه) أي يصح مات ذمي على مسلم معين أو طائفة كالفقراء والمساكين. (و) الشرط الثالث: (كونه) أي الوقف (في غير مسجد) معين (ونحوه) كمدرسة ورباط معينين (على معين) من جهة أو شخص (يملك) ملكًا ثابتًا كزيد أو مسجد كذا؛ لأن الوقف تمليك فلا يصح على غير معين كعلى رجل أو مبهم كأحد هذين الرجلين أو المسجدين، ولا على ما لا يملك كقن وأم ولد ومَلَك -بفتح اللام- وبهيمة، وأما الوقف على المساجد ونحوها فعلى المسلمين إلا أنه عين في نفع خاص لهم. ولا يصح الوقف على حمل أصالة كعلى من سيولد لي أو لفلان، بل تبعًا كعلى أولادي ثم أولادهم أو على أولاد فلان ثم أولادهم وفيهم حمل فيستحق بوضع. وكل حمل من أهل وقف من ثمر وزرع ما يستحقه مشتر، وكذا من قدم إلى مكان موقوف عليه فيه أو خرج منه إلى مثله، إلا أن يشترط لكل ¬
زمن قدر معين فيكون له بقسطه، وقياسه من نزل في مدرسة ونحوها. وقال ابن عبدا القوي (¬1): ولقائل أن يقول: ليس كذلك؛ لأن واقف المدرسة ونحوها جعل ريع الوقف في السنة كالجعل على اشتغال من هو في المدرسة عامًا، فينبغي أن يستحق بقدر عمله من السنة من ريع الوقف في السنة، لئلا يفضي إلى أن يحفر الإنسان شهرًا فيأخذ جميع الوقف ويحضره غيره باقي السنة بعد ظهور الثمرة فلا يستحق شيئًا، وهذا يأباه مقتضى الوقوف ومقاصدها، انتهى (¬2). وكذا قال الشيخ تقي الدين: يستحق بحصته من مغله ومن جعله كالولد فقد أخطأ (¬3)، انتهى. أو يملك لا ثابتًا كمكاتب؛ فلا يصح الوقف عليه، لأن ملكه غير مستقر، ويصح وقفه فإن أدى عتق وبطل الوقف. (و) الشرط الرابع: (كون واقف نافذ التصرف) وهو المكلف الرشيد، فلا يصح من صغير أو سفيه كسائر تصرفاته. (و) الشرط الخامس: (وقفه ناجزًا) أي غير معلق ولا مؤقت ولا مشروط فيه خيار إلا إن علق بموت كقول واقف: هو وقف بعد موتي، فيصح لأنه تبرع مشروط بالموت أشبه ما لو قال: قفوا داري على جهة كذا بعد موتي، واحتج أحمد (¬4) بأن عمر رضي اللَّه عنه وصى فكان في وصيته: هذا ما وصى به عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث الموت أن ثمغًا صدقة. وذكر بقية الخبر، وروى نحوه أبو داود (¬5)، قال في "القاموس": ¬
وثمغ بالفتح -أي فتح الميم- مال بالمدينة لعمر وقفه (¬1). ويلزم الوقف المعلق بالموت من حينه، ويكون من ثلثه، فإن كان قدر الثلث فأقل لزم، وإن زاد لزم في الثلث ووقف الباقي على الإجازة، وشرط بيعه أو هبته متى شاء أو خيار فيه أو تحويله مبطل للوقف لمنافاته لمقتضاه، ولا يشترط للزومه إخراجه عن يده، نصًّا (¬2)، لحديث عمر، فإنه روي أن وقفه كان بيده إلى أن مات (¬3)، ولا يشترط فيما وقف على شخص معين قبوله، لأنه إزالة ملك يمنع البيع والهبة والميراث أشبه العتق، ولا يبطل برده. ويتعين صرف الوقف إلى الجهة المعينة له، لأن تعيينه لها صرف له عما سواها، فلو سبّل ماءً للشرب لم يجز الوضوء به ولا الغسل ونحوه، وكذا عكسه لأنه لو لم يجب اتباع تعيينه لم يكن له فائدة. (ويجب العمل بشرط واقف إن وافق الشرع) كقوله: شرطت لزيد كذا، أو لعمرو كذا لأن عمر شرط في وقفه شروطًا (¬4)، ولو لم يجب اتباع شرطه لم يكن في اشتراطه فائدة، ولأن الوقف متلقى من جهته فاتبع شرطه، ونصه كنص الشارع (¬5)، ويجب العمل بشرطه في عدم إيجار الوقف أو قدر مدته وفي قسمته، قال الشيخ تقي الدين: والشروط إنما يلزم الوفاء بها إذا لم ¬
يفض ذلك إلى الإخلال بالمقصود الشرعي (¬1). ويجب العمل بشرطه في تقديم بعض أهل الوقف كقوله: وقفت على زيد وعمرو وبكر. ويبدأ بالدفع إلى زيد وعكس ذلك، وفي ترتيب كجعل استحقاق بطن مرتبًا على آخر، وفي ناظر لأن عمر جعل وقفه إلى بنته حفصة ثم يليه ذو الرأي من أهلها (¬2)، وفي سائر أحواله. وإن خصص مقبرة أو رباطًا أو مدرسة أو إمامتها أو إمامة مسجد بأهل مذهب أو أهل بلد أو قبيلة تخصصت بهم عملًا بشرطه، لا المصلين بها فلا يصح تخصيصهم بذي مذهب ولغيرهم الصلاة فيها لعدم التزاحم، ولو وقع فهو أفضل لأن الجماعة تراد له. ولا تخصيص الإمامة بذي مذهب مخالف لظاهر السنة، ولو جهل شرط الواقف بأن قامت بينة بالوقف دون شرطه عُمِلَ بعادة جارية ثم عرف، فإن لم يكن عادة ولا عرف ببلد الواقف كمن ببادية فيسوى فيه بين المستحقين لثبوت الشركة دون التفضيل، ولذلك قال الشيخ: (ومع إطلاق يستوي غني وفقير وذكر وأنثى) لعدم ما يقتضي التفضيل. (والنظر عند عدم الشرط) من واقف لوقفه أو عند شرطه لمعين فمات (لموقوف عليه إن كان محصورًا) فينظر كل منهم على حصته عدلًا أو فاسقًا، لأنه ملكه، وغلته له، وإن كان محجورًا عليه لحظه فوليه يقوم مقامه ¬
وتقدم (¬1) (وإلا) يكن الموقوف عليه محصورًا (فـ) النظر (الحاكم) بلد الموقوف (كما لو كان على مسجد ونحوه) كالفقراء؛ لأنه ليس له مالك معين ويتعلق به حق الموجودين ومن يأتي بعدهم. ولو فوضه حاكم لإنسان لم يكن لحاكم آخر ناقضه؛ لأنه كنقض حكمه. وشرط في ناظر إسلام إن كان الوقف على مسلم أو جهة من جهات الإسلام؛ لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)} (¬2)، وشرط فيه تكليف؛ لأن غير المكلف لا ينظر في ملكه المطلق ففي الوقف أولى، وشرط فيه كفاية للتصرف وخبرة به وقوة عليه، لأن مراعاة حفظ الوقف مطلوبة شرعًا، وإذا لم يكن الناظر متصفًا بهذه الصفات لم يمكنه مراعاة حفظ الوقف، ويُضمُّ لضعيف تعين كونه ناظرًا بشرط واقف أو كون الوقف عليه قوي أمين؛ ليحصل المقصود. وشرط في ناظر أجنبي ولاه حاكم، أو ناظر جعل له ذلك عدالة؛ لأنه ولاية على مال فاشترط له العدالة، فإن فسق بعد عُزل. ولناظر بأصالة كموقوف عليه وحاكم نصب وعزل، ولا نظر لحاكم مع ناظر خاص، لكن له النظر العام فيعترض عليه إن فعل ما لا يسوغ فعله لعموم ولايته، وللناظر الاستدانة على الوقف بلا إذن حاكم لمصلحة. ووظيفة الناظر حفظ الوقف وعمارته وإيجاره وزرعه ومخاصمة فيه وتحصيل ريعه من أجرة أو زرع أو ثمر، والاجتهاد في تنميته وصرفه في جهاته من عمارة وإصلاح وإعطاء مستحق ونحوه، وله وضع يده على الوقف والتقرير في وظائفه، ومن قرر في وظيفة على وفق الشرع حرم صرفه بلا موجب شرعي، ولو أجر ناظر الوقف بأنقص من أجر مثله صح وضمن ¬
النقص الذي لا يتغابن به عادة. (وإن وقف على ولده) ثم المساكين، (أو) وقف على (ولد غيره) كعلى ولد زيد ثم المساكين (فهو) أي الوقف (لذكر وأنثى) وخنثى الموجود منهم، لأن اللفظ يشملهم (بالسويَّة) لأنه شرك بينهم وإطلاق التشريك يقتضي التسوية، كما لو أقر لهم بشيء، وكولد الأم في الميراث (ثم) هو (لولد بنيه) مطلقًا، سواء وجدوا حالة الوقف أو لا كوصية، ويستحقونه مرتبًا بطنًا بعد بطن فيحجب أعلاهم أسفلهم ما لم يكونوا قبيلة، أو يأتي بما يقتضي التشريك كعلى أولادي وأولادهم فلا ترتيب. ولا يدخل ولد البنات في الوقف على الولد؛ لأنهم لا ينسبون إليه بل إلى أبائهم، قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (¬1)، قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتُنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد (¬2) وأما قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن ابني هذا سيد" (¬3) ونحوه فمن خصائصه انتساب أولاد فاطمة إليه. وإن (وُ) قف (علي بنيه أو) على (بني فلان، فلذكور فقط) لأن لفظ البنين وضع لذلك حقيقة لقوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)} (¬4). وكره تفضيل بعض أولاده على بعض في الوقف لغير سبب شرعي، لأنه يؤدي إلى التقاطع، والسنة أن لا يزاد ذكر على أنثى، واختار الموفق ¬
وغيره (¬1) يستحب أن يقسمه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين على حسب قسمة اللَّه تعالى في الميراث كالعطية، والذكر في مظنة الحاجة غالبًا بوجوب حقوق تترتب عليه بخلاف الأنثى. وإن وقف على عقبه أو نسله أو ولد ولده أو ذريته لم يدخل فيهم ولد بنات، كما لو وقف على من ينتسب إليه إلا بقرينة كقوله: من مات عن ولد فنصيبه لولده فيستحق كل ولد بعد أبيه نصيبه الأصلي والعائد، سواء بقى من البطن الأول أحد أم لا، فلو كان الموقوف عليهم ثلاثة ومات أحدهم عن غير ولد فنصيبه لأخويه، فإذا مات أحدهما عن ولد كان النصف لولده، فإذا مات الثاني عن ولدين فأكثر فنصيبه لهم. (وإن كانوا) أي بنو فلان (قبيلة) كبني هاشم وتميم (¬2) (دخل النساء) لأن اسم القبيلة يشمل ذكرها وأنثاها (دون أولادهن) أي نساء تلك القبيلة (من) رجال (غيرهم) لأنهم إنما ينسبون لآبائهم كما تقدم. (و) إن وقف (على قرابته أو أهل بيته أو قومه) أو آله أو أهله (دخل ذكر وأنثى) وصغير وكبير (من أولاده وأولاد أبيه) وهم إخوته وأخواته (و) أولاد (جده) وهم أبوه وأعمامه وعماته (و) أولاد (جد أبيه) وهم جده وأعمام أبيه وعماته أربعة آباء فقط، لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يجاوز بني هاشم بسهم ذي القربى، فلم يعط لمن هو أبعد كبني عبد شمس وبني نوفل (¬3) شيئًا، ولا ¬
يقال هما كبني المطلب، فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- علل الفرق بينهم وبين من سواهم في القرب بأنهم لم يفارقوا في جاهلية ولا إسلام (¬1). و(لا) يدخل الوقف في القرابة على (مخالف دينه) لدين الواقف، فإن كان الواقف مسلمًا لم يدخل في قرابته كافرهم، وإن كان كافرًا لم يدخل المسلم في قرابته إلا بقرينة. ولا يدخل في الوقف على قرابته أمه ولا قرابته من قبلها، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يعط من سهم ذوي القربى قرابته من جهة أمه شيئًا (¬2)، إلا أن يكون في لفظ الواقف ما يدل على ذلك كقوله: ويفضل قرابتي من جهة أبي على قرابتي من جهة أمي ونحو ذلك. والعتْرة: العشيرة وهي قبيلة الرجل (¬3)، وذوا رحمه قرابته من جهة أبويه وأولاده وأولادهم وإن نزلوا، لأن الرحم يشملهم وله جاوزوا أربعة آباء. (وإن وقف على جماعة يمكن حصرهم) كبنيه أو إخوته أو بني فلان ¬
وليسوا قبيلة (وجب تعميمهم) بالوقف (والتسوية بينهم) فيه لاقتضاء اللفظ ذلك كما لو أقر لهم بشيء، ويوضحه قوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (¬1). (وإلا) يكن الوقف على جماعة يمكن حصرهم: كقريش (¬2) أو بني تميم أو المساكين لم يجب تعميمهم لتعذره، وجاز التفضيل بينهم لأنه إذا جاز حرمان بعضهم (جاز تفضيل) غيره عليه (و) جاز (الاقتصار على واحد) منهم، لأن مقصود الواقف عدم مجاوزة الجنس، ويحصل ذلك بالدفع لواحد منهم، وكالزكاة إن كان ابتداؤه على جمع لا يمكن حصرهم بخلاف ما لو أمكن حصرهم ابتداء، ثم تعذر كمن وقف على أولاده فصاروا قبيلة فيعم من أمكن ويسوى بينهم. وإن وقف على الفقراء أو على المساكين تناول الآخر؛ لأنه إنما يفرق بينهما في المعنى إذا اجتمعا في الذكر، وإن وقف على القراء فللحفاظ للقرآن، وعلى أهل الحديث فلمن عرفه ولو حفظ أربعين حديثًا لا بمجرد السماع، وعلى العلماء فلحملة الشرع ولو أغناء. ولو وقف على سبيل الخير فلمن أخذ من زكاة لحاجة، ووصيته كوقف في جميع ذلك، لأنه يرجع فيها إلى لفظ الموصي كما يرجع في الوقف إلى لفظ واقفه. والوقف عقد لازم لا يفسخ بإقالة ولا غيرها، ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه المقصودة بخراب، ولم يوجد في ريع الوقت ما يعمر به، أو بغير ¬
الخراب (¬1)، ولو كان الوقف مسجدًا وتعطل نفعه المقصود بضيقه عن أهله ولم تمكن توسعته في موضعه، أو بخراب محلته، فيباع، ولو شرط واقفه عدم بيعه، ويصرف ثمنه في مثله إن أمكن أو في بعض مثله. ويصح بيع بعضه لإصلاح باقيه إن اتحد الواقف والجهة، فإن اختلفا أو أحدهما لم يجز إن كان الوقف عينين كدارين خربتا، فيباع أحدهما لتعمر به الأخرى، أو كان عينًا واحدة ولم تنقص القيمة بالتشقيص (¬2) وإلا بيع الكل. ولا يعمر وقف من آخر، ويجوز نقض منارة مسجد، وجعلها في حائطه لتحصينه، ويجوز اختصار آنية موقوفة إذا تعطلت وإنفاق الفاضل منها على الإصلاح. وحيث جاز بيع الوقف فيبيعه حاكم إن كان على سبيل الخيرات، وإن كان على شخص أو جماعة معينين أو من يؤم أو يؤذن أو يقيم بهذا المسجد فيبيعه ناظر خاص إن كان، والأحوط إذن حاكم، وبمجرد شراء البدل يصير وقفًا كبدل أضحية ورهن أتلف، والاحتياط وقفه لئلا ينقضه بعد ذلك من لا يرى وقفه بمجرد الشراء (¬3). ¬
ومن وقف على ثغر (¬1) فاختل صرف في ثغر مثله، وعلى قياسه مسجد ورباط ونحوهما، وما فضل عن حاجة الموقوف عليه يجوز صرفه في مثله وإلى فقير نصًّا (¬2). ويحرم حفر بئر وغرس شجر بمسجد، فإن فعل طمت البئر وقلعت الشجرة، فإن لم تقلع فثمرتها لمساكينه، قال الحارثي (¬3): والأقرب حله لغيرهم من المساكين. ¬
فصل في الهبة
فصل في الهبة وأصلها: من هبوب الريح أي مروره (¬1)، والاتهاب: قبول الهبة، والاستيهاب: سؤالها. وتواهبوا: وهب بعضهم لبعض (¬2)، وهي شرعًا: تمليك جائز التصرف مالًا معلومًا أو مجهولًا تعذر علمه موجودًا مقدورًا على تسليمه غير واجب في الحياة بلا عوض، بما يعد هبة عرفًا من قول أو فعل بالمعاطاة (¬3). والهبة والصدقة والهدية والعطية معانيها متقاربة، وكلها تمليك في الحياة بلا عوض. (والهبة مستحبة) فمن قصد بإعطاء لغيره ثواب الآخرة فقط، فصدقة. وإكرامًا وتوددًا فهدية، وإلا يقصد شيئًا فهبة وعطية ونحلة، وجميع ذلك مندوب إليه ومحثوث عليه، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تهادوا تحابوا" (¬4)، وما ورد في فضل الصدقة أشهر من أن يذكر. ومن أهدى ليهدى له أكثر فلا بأس به لغير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لقوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} (¬5) ولما فيه من الحرص والضِّنَة (¬6)، ووعاء هدية كهي مع عرف كقوصرّة (¬7) التمر ونحوها، فإن لم يكن عرف رده. ¬
ويكره رد هبة وإن قلَّت؛ لحديث أحمد عن ابن مسعود مرفوعًا: "لا تردوا الهدية" (¬1)، ويكافئ المهدى له أو يدعو له، وحكى أحمد في رواية مثنى (¬2) عن وهب (¬3) قال: ترك المكافأة من التطفيف (¬4). وقاله مقاتل (¬5). وإن شرط فيها عوض معلوم صح وصارت بيعًا بلفظ الهبة، وإن شرط ثواب (¬6) مجهول لم تصح كالبيع بثمن مجهول، وحكمها كالبيع الفاسد فترد بزيادتها المتصلة والمنفصلة، وإن اختلفا في شرط عوض في الهبة فقول منكر بيمينه، وفي وهبتني ما بيدي، فقال: بل بعتكه. ولا بينة، يحلف كل منهما على ما أنكر، ولا هبة ولا بيع؛ لعدم ثبوت أحدهما. (وتصح هبة مصحف) وإن لم يصح بيعه (و) تصح هبة (كلّ ما يصح بيعه) من الأعيان؛ لأنها تمليك في الحياة فتصح فيما يصح فيه البيع وما لا يصح بيعه لا تصح هبته كأم الولد، ولا تصح هبة مجهول لم يتعذر علمه ¬
نصًّا (¬1)، لأنه كحمل في بطن ونحوه، لأنها تمليك فلا تصح في المجهول كالبيع، فإن تعذر علمه صحت هبته كالصلح عنه للحاجة. ولا تصح هبة ما في ذمة مدين لغيره؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، ولا تصح هبة ما لا يقدر على تسليمه كمغصوب لغير غاصبه أو قادر على أخذه منه كبيع، ولا يصح تعليقها على شرط غير موت الواهب فيصح وتكون وصية، ولا يصح اشتراط ما ينافيها كأن لا يبيعها أو يهبها ونحوهما، وتصح هي مع فساد الشرط كالبيع بشرط أن لا يخسر. ولا تصح مؤقتة إلا في العُمْرى (¬2) فتصح مع التوقيت بالعمر لأنه شرط رجوعها هنا على غير الموهوب له وهو وارثه، بخلاف التوقيت بزمن معلوم. سُميت عُمْرى لتقييدها بالعمر كأعمرتك أو أرقبتك هذه الدار أو هذه الفرس أو هذه الأَمَةَ، يقال: أَعْمَرْتُهُ وعَمَّرتهُ مشددًا، جعلت له الدار مدة عمره، ونص أحمد في من عَمَّرَ أمةً لا يطؤها (¬3)، وحمله القاضي (¬4) على الورع (¬5)، أو يقول: جعلتها لك عمرك أو حياتك أو عمري، أو رقبى (¬6) أو ما بقيت، أو أعطيتكها عمرك أو حياتك أو عمرى أو رقبى أو ما بقيت، فتصح لحديث جابر مرفوعًا: "العُمرى جائزة ¬
لأهلها" (¬1) رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وتكون للمُعطى ولورثته بعده إن كانوا والا فلبيت المال. نصًّا (¬2). (وتنعقد) هبة (بما يدل عليها عرفًا) من قول أو فعل، ويصح تصرف موهوب له في الهبة بعده (¬3) قبل قبض على المذهب، نص عليه، والنماء للمتهب قاله في "الإنصاف" (¬4) ولأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يهدي ويُهدى إليه ويُعطي ويُعطى (¬5). وأصحابه يفعلون ذلك، ولم ينقل عنهم في ذلك لفظ إيجاب ولا قبول، ولا أمر به ولا بتعليمه لأحد، ولو وقع لنقل نقلًا مشهورًا، وكان ابن عمر على بعير لعمر فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر: "بعنيه". فقال: هو لك يا رسول اللَّه. فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هو لك يا عبد اللَّه بن عمر من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فاصنع به ما شئت" (¬6). ولم ينقل قبول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا قبول ابن عمر من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ولأن دلالة الرضى بنقل الملك تقوم ما قام الإيجاب والقبول. فتجهيز بنته بجهاز إلى بيت زوجها تمليك لوجود المعاطاة بالفعل. (وتلزم) الهبة (بقبضٍ بإذنِ واهب) فيه لأنه قبض غير مستحق على واهب فلم يصح بغير إذنه كأصل العقد، وكالرهن، فالقبض معتبر للزومها واستمرارها لا لانعقادها، ولواهب الرجوع في هبةٍ وفي إذنٍ في قبضها قبل ¬
القبض، ولو بعد تصرف متهب مع الكراهة، كما يأتي (¬1). (ومن أبرأ غريمه) من دينه أو وهبه له أو أحله منه أو أسقطه عنه أو تركه له أو مفكه له أو تصدق به عليه أو عفا عنه صح ذلك كله و (برئ) من الدين (ولو لم يقبل) الإبراء، لأنه لا يفتقر إلى القبول كالعتق والطلاق، بخلاف هبة العين، لأنه تمليك، ولو جهل رب الدين قدره وصفته لا إن علمه مدين فقط فكتمه خوفًا من أنه إن علمه لم يبرئه منه، فلا يصح الإبراء، لأنه هضم للحق وهو إذًا كالمكره؛ لأنه غير متمكن من المطالبة والخصومة فيه. (ويجب) على معط (تعديل في عطية وارث) له بقرابة من ولد وغيره غير شيء تافه نصًّا (¬2) حتى لو زوج بعض بناته وجهزها أو بعض بنيه وأعطى عنه الصداق. والتعديل الواجب (بأن يعطي كلًا) من ورثته (بقدر إرثه) نصًّا (¬3)، لحديث جابر: قال قالت امرأة لبشير: أعط ابني غلامًا وأشهد لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إن ابنة فلان سألتني أن أنحل ابنها غلامي، فقال: "أله إخوة؟ قال: نعم. قال: "وكلّهم أعطيت مثل ما أعطيته" قال: لا. قال: "فليس يصلح هذا، أو إني لا أشهد إلا على حق" (¬4) رواه أحمد، ومسلم وأبو داود، ورواه أحمد من حديث النعمان بن بشير، وقال فيه: "لا تشهدني على جَوْر، إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم" (¬5)، وفي لفظ لمسلم: "اتقوا اللَّه واعدلوا في ¬
أولادكم" (¬1) ولأحمد وأبي داود والنسائي: "اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم" (¬2). فأمر بالعدل بينهم، وسمى تخصيص بعضهم جورًا والجور حرام، وقيس على الأولاد باقي الأقارب، بخلاف الزوج والزوجة والموالي إلا في النفقة، فتجب الكفاية دون التعديل نصًّا (¬3)، لأنها لدفع الحاجة، وله التخصيص لبعض ورثته بإذن الباقي منهم (¬4)، لانفتاء العداوة والقطيعة إذن التي هي علة المنع، (فإن فضَّل) بعضهم بلا إذن الباقي (سوّى) بينهم (برجوع) إن أمكن، [أو أعطى الباقي حتى يُسَوَّوْا بمن خصه أو فضله نصًّا، ] (¬5) ولو في مرض موته لأنه تدارك للواجب، (وإن مات) معط (قبله) أي: التعديل وليست في مرض موته (ثبت تفضيله) لآخذ فلا رجوع لبقية الورثة عليه نصًّا (¬6) لخبر الصديق (¬7) وكما لو كان أجنبيًّا أو انفرد. ¬
وتحرم الشهادة على تخصيص أو تفضيل تحملًا وأداء إن علم الشاهد به؛ لحديث: "لا تشهدني على جور" (¬1)، وكذا كل عقد فاسد عند الشاهد، وتباح قسمة ماله بين وارثه على فرائض اللَّه تعالى لعدم الجور فيها، ويعطى وارث حادث حصته مما قسم وجوبًا ليحصل التعديل، ويصح وقف ثلثه في مرضه المخوف على بعض ورثته، واحتج أحمد بحديث عمر (¬2)، وبأن الوقف لا يباع ولا يورث ولا يصير ملكًا للورثة. ولا ينفذ وقف مريض ولو على أجنبي بزائد على الثلث كسائر تبرعاته، بل يقف ما زاد على الثلث على إجازة الورثة. (ويحرم على واهب)، ولا يصح (أن يرجع في هبته بعد قبض) ولو تطوعًا أو حمولة في نحو عرس؛ لحديث ابن عباس مرفوعًا: "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه" (¬3). متفق عليه، وسواء عوض عنها أو لم يعوض؛ لأن الهبة المطلقة لا تقتضي ثوابًا، إلا من زوجة وهبت زوجها شيئًا بمسألته إياها صداقًا أو غيره ثم ضرها بطلاق أو غيره كتزوج عليها فلها الرجوع فيه، لأنه لا تهب إلا مخافة غضبه أو إضراره بأن يتزوج عليها، وإن لم يكن سألها وتبرعت به فلا رجوع. (وكره) رجوع واهب في هبته (قبله) أي قبل الضبض خروجًا من ¬
خلاف من قال إن الهبة تلزم بالعقد (¬1) (إلا الأب) فله أن يرجع في عطيته قبله وبعده بلا كراهة، لحديث طاوس عن ابن عمر وابن عباس مرفوعًا: "ليس لأحد أن يعطي عطية ويرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده" (¬2). رواه الترمذي وحسنه. وسواء أراد التسوية بين أولاده بالرجوع أو لا، إلا إذا وهبه سرية (¬3) للإعفاف فلا رجوع له فيها، ولو لم تصر أم ولد لأنها ملحقة بالزوجة، وإلا إذا أسقط حقه من الرجوع، خلافًا لما في "الإقناع" (¬4) لأن الرجوع مجرد حقه وقد أسقطه، وإلا إذا حملت الأمة الموهوبة للولد وولدت عنده فيمتنع الرجوع في الأم لتحريم التفريق بين الوالدة وولدها (¬5)، وإلا إذا زادت ¬
العطية زيادة متصلة كسمن، وكبر وحمل وتعلم صنعة، لأن الزيادة للموهوب له، لأنها نماء ملكه ولم تنقل إليه [من جهة] أبيه، فلم يملك الرجوع فيها كالمنفصلة، وإذا امتنع الرجوع [فيها امتنع في الأصل، ويصدق] (¬1) الأب في عدمها، لأنه منكر لها، والأصل عدمها، وإلا أن يرهنه الابن رهنًا لازمًا أو يهبه أو يبيعه فلا رجوع إلا أن يرجع إليه. (وله) أي: للأب الحر (أن يتملك بقبض مع قول أو نية من مال ولده) بعلمه وبغير علمه صغيرًا كان الولد أو كبيرًا ذكرًا أو أنثى راضيًا أو ساخطًا، الحديث: "أنت ومالك لأبيك" (¬2)، (وأما سُرية) (¬3) الابن التي وطئها فليس للأب تملكها وإن لم تكن أم ولد لأنها ملحقة بالزوجة نصًّا (¬4)، (ما لم يضره) أي يضر الأب ولده بما يتملكه منه، فإن ضره بأن تتعلق حاجة الولد به كآلة حرفته ونحوها لم يتملكه، لأن حاجة الإنسان مقدمة على دينه فلأن تقدم على أبيه أولى (أو) ما لم يتملكه الأب (ليعطيه لولد آخر) فليس له ذلك نصًّا (¬5)، لأنه ممنوع من تخصيص بعض ولده بالعطية من مال نفسه، فلأن يمنع من تخصيصه من مال ولده الآخر أولى (أو) ما لم (يكن بمرض موت أحدهما) المخوف، فلا يصح لانعقاد سبب الإرث. وليس للأم ولا للجد التملك من ماله كغيرهما من الأقارب (أو) ما لم ¬
(يكن) الأب (كافرًا والابن مسلمًا) فليس له أن يتملك من ماله شيئًا، قال الشيخ تقي الدين: وليس للأب الكافر أن يتملك من مال ولده المسلم لاسيما إذا كان الولد كافرًا ثم أسلم (¬1)، انتهى. وقال في "الإنصاف": الأشبه أن الأب المسلم ليس له أن يأخذ من مال ولده الكافر شيئًا (¬2). ولا يملك الأب إبراء نفسه من دَين ولده ولا إبراء غريمه منه ولا قبضه منه لأن الولد لا يملكه إلا بقبضه. وإن أولد جاريةَ ولدِه صارت أم ولد له، لأن إحباله لها يوجب نقل ملكها إليه، فإن لم تحبل منه فهي باقية على ملك الولد ولا حد على الأب بوطء أمة ولده لشبهة الملك، لحديث: "أنت ومالك لأبيك" (¬3) ويعزر الأب لوطئه المحرم وعليه قيمتها لولده إن أحبلها لأنه أتلفها عليه، ولا ينتقل الملك فيها إن كان الابن قد وطئها ولو لم يستولدها، لأنها ملحقة بالزوجة كما تقدم (¬4)، فليست محلًّا لتملكه فلا تصير أم ولد للأب إن حملت منه نصًّا (¬5). ومن استولد أمة أحد والديه، لم تصر أم ولد له وولده قِنٌّ (¬6)، وإن علم التحريم حد (وليس لولد ولا لورثته) أي الولد (مطالبة أبيه بدَين) كقرض وثمن مبيع أو قيمة متلف (ونحوه) كأجرة أرض زرعها ودار سكنها (بل) له مطالبته (بنفقة واجبة) عليه لفقر الولد وعجزه عن التكسب، وله مطالبة أبيه بعين مال له بيده، ويثبت له في ذمته الدين، ولا يسقط بموته ¬
كسائر الديون عليه (بل) يسقط [أرش جنايته] (¬1) على ولده فلا يرجع في تركته. وإن وجد الولد عين ماله الذي أقرضه أو باعه لأبيه بعد موته فله أخذه إن لم يكن انتقد ثمنه من أبيه. (ومن مرضه غير مخوف) كصداع أو (¬2) وجع رأس أو ضرس ونحو ذلك، ولو صار مخوفًا فمات به فـ (تصرُّفهُ) كتصرف صحيح يصح في جميع ماله، لأن مثل هذه لا يخاف منها في العادة، (أو) مرضه (مخوف كبرسام) بكسر الموحدة، وهو بخار يرتقي إلى الرأس يؤثر في الدماغ فيختل به العقل، وقال عياض (¬3): هو ورم في الدماغ يتغير منه عاقل الإنسان ويهذي (¬4)، (وإسهال متدارك) وهو الذي لا يستمسك وإن كان ساعة، لأن من لحقه ذنك أسرع في هلاكه، وكذا إسهال معه دم لأنه يضعف القوة، وذات الجنب وهو قرح بباطن الجنب، والرعاف الدائم لأنه يصفي الدم فتذهب القوة، والفالج في ابتدائه، والسل -بكسر السين- داء معروف في انتهائه (وما قال طبيبان مسلمان عدلان عند إشكاله) أي المرض هل هو مخوف أم لا (أنه مخوف) كوجع الرئة والقولنج وهي (¬5) مع الحمى أشد خوفًا، وكذا الطاعون ¬
وهيجان الصفراء والبلغم فـ (لا يلزم تبرعه لوارث بشيء ولا بما فوق الثلث لغيره) أي غير الوارث (إلا بإجازة الورثة) ولو كان تبرعه عتقًا لبعض أرقائه، وكذا عفوه عن جناية توجب المال أو محاباة كبيع وإجارة. (ومن امتد مرضه بجذام ونحوه) كسل لا في حالة انتهائه والفالج في دوامه (ولم يقطعه بفراش) أي لم يصر صاحبه صاحب فراش، لأن صاحب الفراش يخشى تلفه أشبه صاحب المرض المخوف فتصرفه (كـ) تصرف (صحيح) ينفذ في جميع ماله، وكمريض مرض الموت المخوف مَنْ بين الصفين وقت حرب، وكل من الطائفتين مكافئ للأخرى. ومن باللُّجة عند الهيجان -أي ثوران البحر- بريح عاصف، أو وقع الطاعون ببلده، أو قُدِّم لقتل، أو حبس له، وأسيرٌ عند من عادته القتل، وجريح جرحًا موحيًا مع بقاء عقله؛ لأن عمر لما جرح سقاه الطبيب لبنًا فخرج من جرحه، فقال له الطبيب: اعهد إلى الناس. فعهد إليهم ووصى (¬1)، وعين بعد ضرب ابن ملجم أوصى وأمر ونهى (¬2)، فإن لم يثبت عقله فلا حكم لعطيته، بل ولا لكلامه، وحامل عند مخاض مع ألم حتى تنجو، وكميت من ذبح أو أبينت حشوته، فلا يعتد بكلامه، ولو علق صحيح عتق قِنّه على شرط فوجد في مرض موته المخوف فمن ثلثه. وتقدم عطية اجتمعت مع وصية وضاق الثلث عنهما مع عدم الإجازة، ولا يقدم عتق على غيره من التبرعات (ويعتبر عند الموت) أي موت المتبرع (كونه) أي المعطى (وارثًا أو لا) فلو أعطاه وهو غير وارث ثم صاره وارثًا بعد لم يمنع من ذلك. ¬
(و) تفارق العطية: الوصية في أربعة أحكام: أحدها أنه (يُبدأ بالأول فالأول في العطية). (و) الثاني أنه (لا يصح الرجوع فيها) بعد لزومها بالقبض. (و) الثالث أنه (يعتبر قبولها عند وجودها) لأنها تصرف في الحال، فاعتبرت شروطه وقت وجوده. (و) الرابع أنه (يثبت الملك فيها) أي العطية (من حينها) أي حين وجودها، بشروطها مراعى، فإذا خرجت من ثلثه عند موت تبينا أن الملك كان ثابتًا من حيث العطية (والوصية بخلاف ذلك كله) فلا تملك قبل الموت، لأنها تمليك بعده فلا تتقدمه. وإذا ملك المريض من يعتق عليه بهبة أو وصية أو أقر أنه أعتق ابن عمه في صحته عتق من رأس المال، وورث لأنه حر حين صوت مورثه لا مانع به، ولا يكون عتقهم وصية، ولو دَبَّر (¬1) ابن عمه عتق ولم يرث، إن قال: أنت حر آخر حياتي عتق وورث. ومما لزم المريض في مرضه من حق لا يمكنه دفعه وإسقاطه كأرش جنايته أو جناية رقيقه، وما عاوض عليه بثمن المثل وما يتغابن بمثله فمن رأس ماله، وكذا النكاح بمهر المثل وشراء جارية يستمتع بها ولو كثيرة الثمن بثمن مثلها، والأطعمة التي لا يأكل مثله مثلها فيجوز ويصح. واللَّه تعالى أعلم. ¬
المراجع [جـ 1، 2]
المراجع - الإجماع، لابن المنذر، ط 1 و 2، مكتبة الفرقان، عجمان، ومكتبة مكة الثقافية، رأس الخيمة، تحقيق: د. صغير أحمد ضيف، 1420 هـ. - إجماعات ابن عبد البر في العبادات، جمع ودراسة: عبد اللَّه بن مبارك البوصي، ط 1، دار طيبة، 1420 هـ. - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان لابن بلبان ط مؤسسة الرسالة. تحقيق شعيب الأرناؤوط، بيروت، 1412 هـ. - أحكام الجنائز، للألباني، ط المكتب الإسلامي، 13. - أحكام القرآن. لابن العربي. ط دار الباز 1416 هـ. تحقيق محمد عبد القادر عطا. - الأحكام الوسطى. لعبد الحق الأشبيلي. - الإحكام في أصول الأحكام. للأمدي. ط 1 الرياض. 1378 هـ. تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي. - أخبار أصبهان. لأبي نعيم. ط 1 ليدن. - أخبار قضاة مصر. - أخصر المختصرات. لابن بلبان الدمشقي، ط 1، دار البشائر الإسلامية، تحقيق: محمد ناصر العجمي، 1416 هـ. - أخلاق أهل القرآن. للآجري. ط 1 دار الإفتاء بالرياض. - الإخنائية. لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط 1 دار الخرَّاز، تحقيق: أحمد العنزي، 1420 هـ. - الآداب الشرعية والمنح المرعية. لابن مفلح. ط 1 مؤسسة الرسالة 1416 هـ. تحقيق شعيب الأرناؤوط وعمر القيام.
- أدب الخطيب. لعلاء الدين علي بن إبراهيم بن العطار الدمشقي، ط 1 دار الغرب الإسلامي، تحقيق محمد السليماني، 1996 م. - الأدب المفرد. للبخاري. مع شرحه: فضل اللَّه الصمد، ط 2 السلفية بمصر. - إرشاد البصير إلى سنية التكبير عن البشير النذير. لأحمد الزعبي. ط 1 دار الإمام مسلم 1409 هـ. - إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد. لابن الأكفاني. ط مكتبة لبنان ناشرون. - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل. للألباني. ط 1 المكتب الإسلامي. - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، ط 1، تحقيق محمد زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، بيروت. - أسماء رسول اللَّه ومعانيها. ابن فارس اللغوي. تحقيق ماجد الذهبي ونشرت في مجلة الكتب "العدد 334. محرم 1408 هـ". - الأشباه والنظائر. لابن نجيم. ط 1 تحقيق محمد مطيع الحافظ 1403 هـ. - الإشراف على نكت مسائل الخلاف. أبو محمد عبد الوهاب بن علي البغدادي، الطبعة الأولى، دار ابن حزم، 1420 هـ. - الإصابة في تمييز الصحابة. لابن حجر، ط 1 مكتبة الكليات الأزهرية، تحقيق: د. طه الزيني، 1390 هـ. - أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن، للشنقيطي، ط مطبعة المدني. - إعلام الساجد بأحكام المساجد. للزركشي. - إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان. لابن القيم. ط 1 محمد حامد الفقي. - الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع. لشمس الدين محمد الشربيني، مكتبة الحلبي، 1359 هـ.
- الإقناع لطالب الانتفاع. لشرف الدين الحجاوي، ط 1 دار هجر، تحقيق: د. عبد اللَّه التركي، 1418 هـ. - إكمال الأعلام بتثليث الكلام. لابن مالك. ط جامعة أم القرى. تحقيق د. سعد الغامدي. - الأم. للشافعي، ط 1 دار الفكر، 1400 هـ. - الأنساب. للسمعاني. ط 1 الهند. - أنساب الأشراف. للبلاذري. ط 1 الباز. - الإنصاف فيما بين علماء المسلمين في قراءة بسم اللَّه الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب من الاختلاف. لابن عبد البر. ط 1، أضواء السلف. تحقيق: عبد اللطيف المغربي، 1417 هـ. - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف. لعلاء الدين المرداوي، ط 1، هجر، تحقيق: د. عبد اللَّه التركي، 1415 هـ. - أنيس الفقهاء. لقاسم القونوي. ط 1 دار الوفاء للنشر والتوزيع، تحقيق: د. أحمد الكبسي، 1406 هـ. - الأوسط. لابن المنذر، ط 1 دار طيبة، 1420 هـ. - أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك. لابن هشام. ط دار الجيل. تحقيق محي الدين عبد الحميد. - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه. لمكي بن أبي طالب. - اجتماع الجيوش الإسلامية. - اختصار علوم الحديث. لابن كثير. ط دار العاصمة بالرياض 1415 هـ مع شرحه للشيخ أحمد شاكر: "الباعث الحثيث" وتعليق الألباني. تحقيق علي حسن عبد الحميد. - الاختيار لتعليل المختار. عبد اللَّه بن محمود بن مودود، ط 2 المكتبة الإسلامية، إستانبول، 1370 هـ.
- الاختيارات الفقهية. لشيخ الإسلام ابن تيمية، للبعلي، ط 1 دار العاصمة، تحقيق: أحمد محمد الخليل، 1418 هـ. - الاختيارات الفقهية. ط 1 السعيدية. - الاستذكار. لابن عبد البر. ط قلعجي. - الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار. للحازمي، ط 1، الهند. - الاعتقاد. للبيهقي. ط دار الآفاق الجديدة. بيروت. تحقيق أحمد عصام الكاتب. - اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم. لابن تيمية. ط 2، دار المسلم، تحقيق: د. ناصر بن عبد الكريم العقل، 1415 هـ. - امتنان العلي بعدم زكاة الحلي، للشيخ فريح الهلال، ط 1، دار العاصمة، 1411 هـ. - الانتصار في المسائل الكبار. لأبي الخطاب الكلوذاني. ط 1 العبيكان. - البحر الزخار المعروف بمسند البزار. للبزار، تحقيق: د. محفوظ الرحمن زيد اللَّه، ط 1 مكتبة العلوم والحكم، 1415 هـ. - البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي ط 1 الكويت. تحقيق د. عبد الستار أبو غدة. - البحر المحيط. لأبي حيان. تصوير دار إحياء التراث العربي بيروت. - بدائع الفوائد. لابن القيم. ط 1 المنيرية. - بداية العابد وكفاية الزاهد في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل. لعبد الرحمن بن عبد اللَّه البعلي. ط 1، دار البشائر، تحقيق: محمد بن ناصر العجمي، 1417 هـ. - بداية المبتدي في فقه الإمام أبي حنيفة، ط محمد علي صبيح بمصر. - بداية المجتهد ونهاية المقتصد. للإمام محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، ط دار الكتب الحديثية.
- البداية والنهاية. لابن كثير. ط 1 السعادة. - بذل الماعون في فضل الطاعون. لابن حجر. ط دار العاصمة بالرياض. - بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس. للضبي. ط 1 دار الكاتب العربي 1967 م. - بغية النساك في أحكام السواك. للسفاريني. تحقيق عبد العزيز الدخيل. ط 1 دار الصميعي 1420 هـ. - بلوغ المرام من أدلة الأحكام. لابن حجر، ط المكتبة التجارية الكبرى، عني به محمد حامد الفقي. - بنو خالد وعلاقتهم بنجد. لعبد الكريم بن عبد اللَّه المنيف. ط 1 دار ثقيف للنشر والتأليف. - بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام. لابن القطان. ط 1 دار طيبة. تحقيق الدكتور الحسين سعيد. - تاج العروس. محمد مرتضى الزبيدي، ط الكويت، 1385 هـ. - التأريخ الكبير. للبخاري، المكتبة الإسلامية، طبع الهند. - تاريخ بغداد. للخطيب. مصورة دار الكتاب العربي. لبنان. - التاريخ الصغير. للبخاري. تحقيق محمد إبراهيم زايد. ط 1 دار الوعي بحلب 1397 هـ. - تاريخ مدينة دمشق. لابن عساكر. ط 1 دار الفكر، تحقيق: العمروي، 1418 هـ. - تاريخ ولاة مصر. لأبي عمر محمد بن يوسف الكندي، ط 1 مؤسسة الكتب الثقافية، 1407 هـ. - التبصرة في القراءات السبع. لمكي بن أبي طالب. ط الدار السلفية بالهند. اعتنى به محمد غوث.
- التبيان في آداب حملة القرآن. للنووي، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط، ط 1 دار البيان. - تحرير ألفاظ التنبيه. للنووي، ط 1 دار القلم، تحقيق: عبد الغني الدقر، 1408 هـ. - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف. للمزي. تحقيق عبد الصمد شرف الدين. ط 1 الهند. - تحفة الألباب في شرح الأنساب. للمجلسي الموريتاني. ط 1 قطر. - تحفة الذاكرين. للشوكاني. ط الحلبي. - تحفة الفقهاء. لعلاء الدين السمرقندي، ط 2 إدارة إحياء التراث الإسلامي. - تحفة المستفيد بتاريخ الأحساء في القديم والجديد. لمحمد بن عبد اللَّه آل عبد القادر. ط 2 مكتبة المعارف بالرياض. ومكتبة الأحساء الأهلية بالأحساء. - تحفة المودود بأحكام المولود، لابن القيم، ط 1، عناية بسام الجابي، 1409 هـ. - التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية. لمحمد بن خليفة النبهاني. ط 2 دار إحياء العلوم. بيروت. المكتبة الوطنية. البحرين. - التحقيق في مسائل الخلاف. لابن الجوزي. ط 1 قلعجي 1419 هـ. - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي. للسيوطي. ط دار الكتب الحديثة بمصر. تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف. - التذكار في أفضل الأذكار. للقرطبي. ط 1 دار البيان. دمشق. تحقيق عبد القادر الأرناؤوط وإبراهيم الأرناؤوط. - تذكرة الحفاظ. للذهبي. ط 3 الهند. - الترغيب والترهيب. للمنذري. ط ابن كثير.
- تسهيل المسالك إلى هداية السالك إلى مذهب الإمام مالك. للشيخ مبارك بن علي بن حمد الأحسائي. ط 1 مكتبة الإمام الشافعي. تحقيق الدكتور عبد الحميد بن مبارك آل الشيخ مبارك. - التعريفات للجرجاني. تصوير مكتبة لبنان - التعليق المغني على الدارقطني. تأليف ابن الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، المطبوع مع مسند الدارقطني، انظر مسند الدارقطني. - تفسير القرآن العظيم. لابن كثير، تحقيق: سامي السلامة، ط 1 دار طيبة، 1418 هـ. - تفسير القرآن العظيم مسندًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة والتابعين. لابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب، ط 1، مكتبة الباز، 1417 هـ. - تفسير عبد الرزاق، تحقيق: مصطفى مسلم محمد، ط 1 مكتبة الرشد، 1410 هـ. - التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل. لمعالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ. ط 1 دار العاصمة، 1417 هـ. - التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير. لابن حجر، تحقيق: د. شعبان محمد إسماعيل، ط مكتبة الكليات، 1399 هـ. - تلخيص المستدرك. للذهبي. مطبوع مع المستدرك للحاكم. ينظر: المستدرك. - التلقين في الفقه المالكي للقاضي أبو محمد عبد الوهاب البغدادي، تحقيق محمد ثالث الغاني، مكتبه الباز. - التمهيد. لابن عبد البر. ط المغرب. - تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشفيعة والموضوعة. لابن عراق. ط 1 مكتبة القاهرة. تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد اللَّه محمد الصديق.
- تنقيح التحقيق. لابن عبد الهادي. - تنقيح التحقيق. للذهبي. مطبوع مع "التحقيق في مسائل الخلاف" لابن الجوزي. - التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع في فقه الإمام أحمد. للمرداوي، ط المطبعة السلفية. - تهذيب السنن. لابن القيم، المطبوع مع مختصر السنن. - تهذيب الكمال. للمزي، ط 4 مؤسسة الرسالة، تحقيق: د. بشار عوَّاد، 1406 هـ. - تهذيب اللغة. للأزهري، الدار المصرية للتأليف والترجمة، تحقيق: عبد السلام هارون، 1384 هـ. - التوضيح في الجمع بين المقنع، لأحمد الشويكي، ط 1 المكتبة المكية، دراسة وتحقيق ناصر الميمان، 1418 هـ. - جامع البيان عند تأويل آي القرآن، للطبري، ط 3، الحلبي، 1388 هـ. - الجامع الصغير. للسيوطي. ضمن شرحه "فتح القدير". للمناوي. - الجامع لأحكام القرآن. للقرطبي، ط دار الكتب المصرية، 1356 هـ. - الجامع لأخلاف الراوي وآداب السامع. للخطيب. ط 1 المعارف بالرياض 1403 هـ تحقيق الدكتور الطحان. - الجامع لشعب الإيمان. للبيهقي. ط 1 الدار السلفية، تحقيق: د. عبد العلي عبد الحميد حامد، 1407 هـ. - جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام. لابن القيم، ط دار ابن الجوزي، تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان، 1417 هـ. - الجمان في تشبيهات القرآن. لابن ناقيا. ط 1، 1407 هـ، تحقيق الدكتور محمود الشيباني.
- الجمعة ومكانتها في الدين. أحمد بن حجر آل بوطامي، من مطبوعات إدارة إحياء التراث بقطر، 1403 هـ. - الجهاد، لابن أبي عاصم. ط 1 دار القلم، دمشق، 1409 هـ. - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي. لابن القيم. ط 3 ملتزم النشر أبو السمح عبد الظاهر إمام الحرم. - الجوهر النقي. لابن التركماني. مطبوع بهامش سنن البيهقي. - حاشية ابن عابدين. ينظر: رد المحتار. - حاشية الجمل على شرح المنهج. للجمل، ط الحلبي. - حاشية الروض المربع. عبد الرحمن بن قاسم، ط 1، 1400 هـ. - حاشية العنقري على الروض. ط مكتبة الرياض الحديثة. - حاشية عثمان النجدي على منتهى الإرادات. مطبوع مع "منتهى الإرادات" ينظر: منتهى الإرادات. - حاشيته على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح. لأحمد بن محمد الطحاوي، ط 2، مكتبة الحلبي، 1389 هـ. - الحاوي الكبير، للإمام علي بن محمد الماوردي، تحقيق: د. محمود مطرجي، د دار الفكر، 1414 هـ. - حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة. للسيوطي. ط 1 الحلبي. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، 1387 هـ. - الحكيم الترمذي ومنهجه الحديثي في نوادر الأصول. د. رجاء مصطفى حزين. ط 1 دار الآفاق العربية، القاهرة 1419 هـ. - الحلية. لأبي نعيم. ط 1 السعادة بمصر. - حلية الفقهاء. لأبي الحسين بن فارس، ط 1 تحقيق: د. عبد اللَّه التركي، 1403 هـ. - خبيئة الأكوان. لصديق حسن خان.
- خزانة الأدب. - خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر. للمجي. تصوير دار صادر. بيروت. - خلاصة البدر المنير. لابن الملقن. ط الرشد. تحقيق حمدي السلفي. - دائرة معارف القرن العشرين. محمد فريد. - الدارس في تاريخ المدارس. للنعيمي. ط 1 دار الجيل الجديد 1401 هـ. تحقيق جعفر الحسني. - الدر المنثور في التفسير المأثور. للسيوطي، ط 1 دار الفكر، 1403 هـ. - الدرُّ المنضَّد في أسماء كتب مذهب الإمام أحمد. لعبد اللَّه بن حميد. ط 1 دار البشائر الإسلامية 1410 هـ. تحقيق جاسم بن سليمان الفهيد. - الدر المنضد في ذكر أصحاب الإمام أحمد للعليمي. ط 1 مكتبة التوبة 1412 هـ تحقيق الدكتور عبد الرحمن العثيمين. - الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي. لابن المبرد، ط 1، دار المجتمع، إعداد د: رضوان مختار، 1411 هـ. - درء اللوم والضيم في صوم يوم الغيم. لابن الجوزي، ط 1، دار البشائر، تحقيق: جاسم الفهيد الدوسري. 1415 هـ. - الدراية في تخريج أحاديث الهداية. لابن حجر، ط 1 الفجالة الجديدة بمصر، تحقيق السيد عبد اللَّه هاشم اليمني، 1384 هـ. - دليل الطالب لنيل المطالب، لمرعي بن يوسف الكرمي، ط 1 مؤسسة الرسالة 1417 هـ، عُني به سلطان بن عبد الرحمن العيد. - ديوان عبد الجليل ياسين. ط 1 السلفية بمصر. على نفقة الشيخ علي بن عبد اللَّه آل ثاني. - ديوان علي بن معرَّب العيوني. ط 1 المكتب الإسلامي.
- الذخيرة، لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، تحقيق د: محمد حجي ط 1 دار الغرب الإسلامي، 1994 م. - الذيل على طبقات الحنابلة، لابن رجب، مطبعة السنة المحمدية، 1373 هـ. - رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار. (حاشية ابن عابدين) ط دار الكتب العلمية، 1415 هـ. - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. للألوسي. تصوير دار إحياء التراث العربي. بيروت. - الروض البسام بترتيب وتخريج فوائد تمام. لجاسم الفهيد الدوسري. ط دار البشائر الإسلامية 1410 هـ. - الروض المربع شرح زاد المستقنع للحجاوي. المطبوع مع حاشية الروض المربع لابن قاسم. - الروض المربع شرح زاد المستقنع. للحجاوي. تحقيق الدكتور عبد اللَّه الطيار ومشاركيه. ط 1. دار الوطن. - الروض المعطار. - الروض الندي شرح كافي المبتدي. لأحمد البعلي، المطبعة السلفية. - روضة الطالبين، للنووي، المكتب الإسلامي. - روضة الناظر في أصول الفقه. لابن قدامة. ط مكتبة الرشد. تحقيق د. عبد الكريم النملة. - روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين. للقاضي. ط 3 الحلبي. 1410 هـ. - زاد المحتاج. عبد اللَّه بن حسن الكوهجي، تحقيق: عبد اللَّه بن إبراهيم الأنصاري، ط 1 الشؤون الدينية بقطر.
- زاد المحتاج بشرح المنهاج. لعبد اللَّه بن حسن الكوهجي، ط 1 الشؤون الدينية بقطر. عني به عبد اللَّه بن إبراهيم الأنصاري. - زاد المعاد في هدي خير العباد. لابن القيم. ط مؤسسة الرسالة. تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط. - زاد المستقنع. لشرف الدين الحجاوي، ط 3 المطبعة السلفية، 1348 هـ. - الزاهر في غريب ألفاظ الإمام الشافعي. لأبي منصور الأزهري ط دار البشائر 1419 هـ. - الزاهر في غريب ألفاظ الإمام الشافعي. للأزهري. مطبوع في آخر الحاوي الكبير. للماوردي. ط الباز. والاعتماد على هذه النسخة في أبواب الطهارة وأول الصلاة. - سبائك الذهب في معرفة قبائل العرب. للسويدي. ط دار الكتب العلمية. بيروت. - سبائك العسجد في أخبار نجل رزق الأسعد. عثمان بن سند. ط 1 الهند 1303 هـ. - السبيل الهادِ إلى تخريج أحاديث كتاب الجهاد. للدكتور مساعد بن سليمان الراشد الحميد. مطبوع مع الجهاد لابن أبي عاصم. انظر: الجهاد. - السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة. لمحمد بن حميد، ط 1 مؤسسة الرسالة، تحقيق: د. عبد الرحمن العثيمين، 1416 هـ. - السلسبيل في معرفة الدليل، للشيخ صالح البليهي، مكتبة المعارف، ط 4، 1407 هـ. - سلسلة الأحاديث الصحيحة. للألباني، ط مكتبة المعارف، 1415 هـ. - السنة. لعبد اللَّه بن الإمام أحمد. ط دار ابن القيم. تحقيق الدكتور محمد القحطاني.
- سنن أبي داود. ط 1 حمص. تحقيق عزت عبيد الدعاس. 1388 هـ. - سنن ابن ماجه. ط الحلبي. تحقيق فؤاد عبد الباقي. - سنن الترمذي. ط 2 الحلبي. تحقيق أحمد شاكر. 1398 هـ. - سنن الدارمي. ط السيد عبد اللَّه هاشم المدني 1386 هـ. - سنن النسائي. مصورة عن الطبعة المصرية. عناية الشيخ عبد الفتاح أبو غدَّة. - سواطع القمرين في تخريج أحاديث أحكام العيدين. للدكتور الشيخ مساعد بن سليمان الراشد الحميد. ط 1 مكتبة العلوم والحكم، 1406 هـ، مطبوع مع كتاب "أحكام العيدين" للفريابي. - سير أعلام النبلاء. للذهبي، ط مؤسسة الرسالة. - شذرات الذهب، لابن العماد. ط 1 دار ابن كثير، تحقيق: محمود الأرناؤوط، عبد القادر الأرناؤوط. - شرح ألفية العراقي المسماة بالتبصرة والتذكرة. لناظمها: العراقي. ط 1 المطبعة الجديدة بالمغرب 1354 هـ. - شرح التسهيل. لابن مالك. - شرح التصريح على التوضيح. للأزهري. تصوير دار الفكر. - شرح الزركشي على مختصر الخرقي، لشمس الدين الزركشي، ط 1 مكتبة العبيكان، 1412 هـ. - شرح العقيدة الطحاوية. لابن أبي العز الحنفي. ط 3 المكتب الإسلامي. تحقيق الألباني. - شرح العمدة. لشيخ الإسلام ابن تيمية، ط 1 دار العاصمة، 1418 هـ، اعتنى بإخراجه خالد بن علي المشيقح. إلى آخر أداب المشي إلى الصلاة. واعتنى زايد النشيري بكتاب الصيام منه. طبع في دار الأنصاري. واعتنى د. سعود العطيشان بكتاب الطهارة منه. طبع في العبيكان.
- شرح الكافية الشافية. لابن مالك. ط جامعة أم القرى. تحقيق د. عبد المنعم هريدي. - الشرح الكبير، لشمس الدين عبد الرحمن بن محمد ابن قدامة، المطبوع مع الإنصاف، تحقيق: د. عبد اللَّه التركي. - شرح الكرماني على البخاري. للكرماني، ط 1 البهية بمصر، 1356 هـ. - شرح الكوكب المنير. للفتوحي. ط جامعة الملك عبد العزيز. - شرح الكوكب المنير المسمى بمختصر التحرير. لابن النجار الفتوحي، ط 1 جامعة الملك عبد العزيز، تحقيق: الدكتور محمد الزحيلى، والدكتور نزيه حماد، 1400 هـ. - شرح النسائي. للسيوطي. مطبوع مع سنن النسائي. - شرح النووي على صحيح مسلم. ط 1 الحلبي. - شرح حدود ابن عرفة الموسوم الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة العراقية، لأبي عبد اللَّه محمد الأنصاري الرصاع، تحقيق محمد أبو الأجفان، والطاهر المعموري، ط دار الغرب الإسلامي، 1993 م. - شرح ديوان الحماسة. للتبريزي. - شرح فتح القدير، لابن الهمام، ط 1 الحلبي، 1389 هـ. - شرح معاني الآثار للطحاوي، مطبعة الأنوار المحمدية. - شرح منتهى الإرادات. لمنصور البهوتي، ط 1 مكتبة الرياض الحديثة. - الشفا بتعريف حقوق المصطفى. للقاضي عياض. ط الحلبي. تحقيق علي محمد البجاوي. - الشمائل. للترمذي. مكتبة مدينة العلم بمكة. - الصارم المسلول على شاتم الرسول، لابن تيمية. ط 1، رمادي للنشر، المؤتمن للتوزيع، تحقيق محمد الحلواني ومحمد كبير شودري، 1417 هـ.
- الصارم المنكي في الرد على السبكي. لمحمد بن عبد الهادي، طبع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، 1403 هـ. - الصحاح. إسماعيل الجوهري، دار العلم للملايين، ط الثانية، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، 1399 هـ. - صحيح البخاري. ط المكتبة الإسلامية -استانبول- تركيا. - صحيح مسلم. ط 1 الحلبي. تحقيق فؤاد عبد الباقي. 1374 هـ. - الصلاة. لأبي نعيم الفضل بن دكين. ط 1، مكتبة الغرباء الأثرية. تحقيق: صلاح الشلاحي، 1417 هـ. - الصلاة والتهجد. لعبد الحق الإشبيلي. تحقيق عادل أبو المعاطي. ط 1 الوفاء بمصر. - الصلة: ابن بشكوال. ط 1 الدار المصرية للتأليف والنشر 1966 م. - الضعفاء الكبير للعقيلي، ط 1، دار الكتب العلمية، تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي، 1404 هـ. - طبقات الحنابلة. لابن أبي يعلى. ط 1 أنصار السنة المحمدية. تحقيق محمد حامد الفقي. - طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، ط 1، مطبعة الحلبي 1383 هـ. - طبقات الشعراني الكبرى. تصوير الطبعة الأولى. - الطبقات الكبرى، لابن سعد، دار بيروت، 1400 هـ. - طيبة النشر في القراءات العشر. لابن الجزري. ط 1 الحلبي 1369 هـ. تحقيق الشيخ علي محمد الضباع. - الظروف الزمانية في القرآن الكريم. لبشير محمد زقلان. - عارضة الأحوزي بشرح الترمذي. لابن العربي. تصوير دار الكتب العلمية. بيروت. - العبر في خبر من غبر. للذهبي. ط الكويت.
- العبرة مما جاء في الغزو والشهادة والهجرة. لصديق حسن خان. ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق: محمد السعيد زغلول، 1405 هـ. - عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة. لابن شاس، ط 1 المجمع الفقهي، 1415 هـ. - علماء نجد خلال ستة قرون. للشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن البسام، ط 2 دار العاصمة، 1419 هـ. - عمل اليوم والليلة. لابن السني، ط 1 مكتبة العراث الإسلامي، تحقيق عبد اللَّه حجاج. - عنوان المجد في تاريخ نجد. لابن بشر. ط وزارة المعارف 1394 هـ تحقيق عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ. - غاية السول في خصائص الرسول. لابن الملقن. تحقيق عبد اللَّه بحر الدين. ط 1 دار البشائر الإسلامية 1414 هـ. - الفتاوى السعدية. للشيخ عبد الرحمن السعدي. ط 1 السعيدية. - فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ. جمع محمد بن عبد الرحمن القاسم. ط 1 الحكومة. - فتاوى العز بن عبد السلام. الرسالة. - الفتاوى الهندية. تصوير دار إحياء التراث العربي. - فتح الباري شرح صحيح البخاري. لابن حجر، ط 1 السلفية. - الفتح الرباني بمفردات ابن حنبل الشيباني. لأحمد بن عبد المنعم الدمنهوري ط 1 دار العاصمة 1415 هـ، تحقيق: د. عبد اللَّه الطيار، د. عبد العزيز بن محمد الحجيلان. - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير. للشوكاني، ط 1 دار الوفاء، حققه د: عبد الرحمن عميرة، 1415 هـ.
- فتح المجيد شرح كتاب التوحيد. للشيخ عبد الرحمن بن حسن. ط 1 دار الصميعي. تحقيق الدكتور الوليد الفريان. - الفتوحات الربانية شرح الأذكار النواوية. لابن علان. مصورة دار إحياء التراث العربي. بيروت. - الفروسية. لابن القيم. ط دار ابن عفان. تحقيق مشهور حسن سلمان. - الفروع. لابن مفلح، ط 1 المنار، 1339 هـ. من أول الكتاب إلى أول الجنائز. - الفروع. لابن مفلح. تصوير مكتبة ابن تيمية، القاهرة. - فضائل القرآن. لابن كثير. - فضل الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. لإسماعيل بن إسحاق. تحقيق الألباني ط المكتب الإسلامي. - فضل اللَّه الصمد في توضيح الأدب المفرد. لفضل اللَّه الجيلاني، ط 2 السلفية بمصر. - الفقه الإسلامي وأدلته. د. وهبه الزحيلي، ط 3، دار الفكر، 1409 هـ. - فقه الزكاة. للدكتور يوسف القرضاوي. ط 3 مؤسسة الرسالة، 1397 هـ. - فقه زكاة الحلي، للدكتور إبراهيم بن محمد الصبيحي، ط 1412 هـ. - فيض القدير بشرح الجامع الصغير. لعبد الرؤوف المناوي، دار المعرفة، 1391 هـ. - قاعدة في الوسيلة. لابن تيمية. ط 1 دار العاصمة، تحقيق: علي بن عبد العزيز الشبل، 1420 هـ. - قاموس الغذاء والتداوي بالنبات. أحمد قدامة ط 6 دار النفائس، 1410 هـ.
- القاموس الفقهي لغة واصطلاحًا، تأليف سعدي أبو حبيب، ط 2، دار الفكر، 1408 هـ. - القاموس المحيط، للفيروزآبادي، ط 2، طبعة مؤسسة الرسالة، 1407 هـ. - القراءة خلف الإمام. للبيهقي، ط 1، دار الباز. تحقيق: محمد السعيد زغلول، 1405 هـ. - قصد السبيل فيما في اللغة العربية من الدخيل، للمحبي، ط 1، مكتبة التوبة، تحقيق: عثمان الصيني، 1415 هـ. - القضاء والأوقاف في الأحساء والقطيف وقطر. للدكتور عبد اللَّه بن ناصر السبيعي. ط 1، 1420 هـ. - قليوين وعميره، مطبعة الحلبي. - القواعد. لابن رجب. ط 1 دار ابن عفان. تحقيق مشهور حسن سلمان. - قوت القلوب في معاملة علام الغيوب. لابن طالب المكي. ط دار صادر، بيروت، تحقيق: سعيد نسيب مكارم، 1995 م. - القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع. للسخاوي. ط 2 النمنكاني. عام 1397 هـ. - القول الجلي في زكاة الحلي، للشيخ عبد اللَّه البسام، ط 1، 1410 هـ. - الكافي، لعبد اللَّه بن أحمد ابن قدامة المقدصي، ط 1 دار هجر، تحقيق: د. عبد اللَّه التركي، 1417 هـ. - الكامل في ضعفاء الرجال، لابن عدي الجرجاني، ط 1، دار الفكر، تحقيق لجنة من المختصين، 1404 هـ. - كشاف القناع عن متن الإقناع. للبهوتي. ط مكتبة النصر الحديثة. - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التنزيل. للزمخشري، ط الأخيرة، مطبعة الحلبي، 1392 هـ.
- كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس. للعجلوني. ط مؤسسة الرسالة. صححه أحمد القلاش. - كشف الستر عن حكم الصلاة بعد الوتر. لابن حجر. تحقيق هادي المري. ط دار ابن حزم 1414 هـ. - كشف الستر عن فرضية الوتر، لعبد الغني النابلسي، ط 1، السعادة بمصر. علق عليه محمد زاهد الكوثري. 1370 هـ. - كشف الظنون. - كشف المخدرات والرياض المزهرات، شرح أخصر المختصرات. لعبد الرحمن بن عبد اللَّه البعلي. ط 1 السلفية بمصر. - الكلام في بيع الفضولي. لصلاح الدين العلائي، ط 1 دار عالم الكتب، تحقيق الدكتور: محمد المسعودي. - الكواكب السائر بأعيان المائة العاشرة. للغزي. تصوير دار الفكر. - لسان العرب. لابن منظور: 1 - دار صادر. 2 - دار بيروت للطباعة والنشر، 1388 هـ. - لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف. لابن رجب. تحقيق ياسين الواس. ط دار ابن كثير 1413 هـ. - المبدع في شرح المقنع. لابن مفلح، ط 1 المكتب الإسلامي. - مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر. عبد الرحمن بن شيخ زاده، ط دار سعادت، 1327 هـ. - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. للهيثمي. تصوير: دار الكتاب العربي، 1402 هـ. - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. للهيثمي، تحقيق حسين سليم الداراني، ط 1 دار المأمون، 1412 هـ ط دار الكتاب العربي، 1402 هـ. الجزءان الأول والثاني.
- مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار. محمد طاهر الصديقي الهندي الفتني الكجرائي، ط 3 دار الإيمان 1415 هـ. - المجموع شرح المهذب. للنووي، ط دار الفكر. - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع ابن قاسم، الشئون الإسلامية بمجمع الملك فهد، 1416 هـ. - المحلى. لابن حزم. ط حسن زيدان طلبة، 1388 هـ. - المحلى، لابن حزم، مكتبة الجمهورية العربية، إشراف زيدان أبو المكارم، 1387 هـ. - مختصر الإفادات في ربع العبادات والآداب وزيادات. لابن بلبان، تحقيق: محمد العجمي، ط 1 دار البشائر، 1419 هـ. - مختصر خلافيات البيهقي، أحمد بن فرح الإشبيلي، تحقيق: د. إبراهيم الخضيري، ط مكتبة الرشد، 1417 هـ. - مختصر زائد مسند البزار. لابن حجر. ط مؤسسة الكتب الثقافية. تحقيق صبري أبو ذر. - مختصر سنن أبي داود. للمنذري، تحقيق: أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي، تصوير المكتبة الأثرية، 1399 هـ. - مختصر قيام الليل. للمقريزي. - مراتب الإجماع. لابن حزم، دار الكتب العلمية. - المراسيل. لأبي داود. ط 1 الرسالة 1408 هـ. تحقيق شعيب الأرناؤوط. - المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز. لأبي شامة. ط 1 مكتبة الإمام الذهبي بالكويت 1414 هـ. تحقيق الدكتور وليد بن مساعد الطبطبائي. - مسائل الإمام أحمد. رواية ابنه صالح، ط 1 الدار العلمية، تحقيق ودراسة: د. فضل الرحمندين محمد، 1408 هـ.
- مسائل الإمام أحمد. رواية ابنه صالح، ط 1 دار الوطن، بإشراف: طارق بن عوض اللَّه بن محمد، 1420 هـ. - مسائل الإمام أحمد. رواية ابنه عبد اللَّه ط 1. مكتبة الدار، تحقيق: د. علي سليمان المهنا، 1406 هـ. - المسائل والرسائل. - مستدرك الحاكم. تصوير عن الطبعة الهندية. الناشر: مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب. - المستوعب للسامري ط دار خضر. د. عبد الملك الدهيش 1420 هـ. - المستوعب، للسامري. ط 1 مكتبة المعارف للنشر والتوزيع. تحقيق: د. مساعد بن قاسم الفالح، 1413 هـ من أوله إلى آخر المناسك. - مسند أبي يعلى الموصلي. للحافظ أحمد بن علي بن المثنى التميمي. تحقيق: حسين سليم أسد، ط 1 دار المأمون، 1416 هـ. - مسند الدارقطني. ط 1 المدني، 1386 هـ. - مسند الفاروق عمر بن الخطاب. لابن كثير. ط 1 الوفاء بمصر. - مشارق الأنوار على صحاح الآثار. للثقاضي عياض، ط 1 دار الفكر، 1418 هـ. - مشكاة المصابيح. للتبريزي. تحقيق الألباني. ط المكتب الإسلامي. - المصاحف. لابن أبي داود. ط 1 مؤسسة قرطبة بمصر. - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير. لأحمد للفيومي. تصوير دار القلم، بيروت. - مصنف ابن أبي شيبة. ط الهند. - المصنف. لعبد الرزاق، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، ط 1 الملجس العلمي. - المطلع على أبواب المقنع للبعلي ط المكتب الإسلامي، 1385 هـ.
- معالم السنن. للخطابي، المطبوع مع مختصر السنن. - معجم الأعشاب والنباتات الطبية. إعداد الدكتور حسان قبيسي. ط 3 دار الكتب العلمية بيروت 1418 هـ. - المعجم الأوسط. للطبراني، ط 1 مكتبة المعارف، تحقيق: د. محمود الطحان، 1415 هـ. - معجم البلدان، لياقوت الحموي، طبعة دار صادر، دار بيروت، 1404 هـ. - المعجم الصغير. للطبراني. ط السلفية بالمدينة المنورة. - المعجم الكبير. للطبراني، تحقيق: حمدي السلفي، ط 1 مطبعة الوطن العربي ببغداد، 1400 هـ. - معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، للدكتور محمود عبد الرحمن عبد المنعم، ط 1، دار الفضيلة. - معجم مصطلحات الصوفية. للدكتور أنور فؤاد أبو خزام. ط 1 مكتبة لبنان ناشرون. - المعجم الوسيط. مجموعة مؤلفين، ط دار الدعوة، 1989 م. - معجم قبائل العرب. لعمر رضا كخالة. ط 5 مؤسسة الرسالة 1405 هـ. - معجم مقاييس اللغة. أحمد بن فارس بن زكريا، ط مطبعة الحلبي، ط الثانية، 1389 هـ. تحقيق عبد السلام هارون. - المعرب من الكلام الأعجمي على حروف المعجم. للجواليقي، ط دار القلم، 1410 هـ. - معرفة السنن والآثار. للبيهقي، ط 1 جامعة الدراسات الإسلامية. . . وغيرها، 1412 هـ. - المعرفة والتاريخ. للفسوي، ط 2 مؤسسة الرسالة، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، 1401 هـ.
- المعونة على مذهب عالم المدينة. للقاضي عبد الوهاب البغدادي، تحقيق حميش عبد الحق، دار الباز. - معونة أولي النهى شرح المنتهى. لتقي الدين محمد بن أحمد الفتوحي الشهير بابن النجار، دراسة وتحقيق: د. عبد الملك بن دهيش، ط 1 دار خضر، 1415 هـ. - المغرب في ترتيب المعرِّب. لأبي الفتح المطرزي. ط دار الكتاب العربي، بيروت. - المغني. لابن قدامة. ط 1 هجر تحقيق: د. عبد اللَّه التركي، ود. عبد الفتاح الحلو. - المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار. للعراقي. ط ضمن "إحياء علوم الدين" ط دار المعرفة. بيروت. - مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج. محمد الشربيني الخطيب، ط مطبعة الحلبي، 1377 هـ. - مفاكهة الخلان في حوادث الزمان. لابن طولون. - مفردات القرآن. للراغب الأصبهاني. ط 1 مؤسسة الرسالة. - مقالات الإسلاميين. للأشعري. ط مكتبة النهضة المصرية. تحقيق محي الدين عبد الحميد. - مقدمة في بيان المصطلحات الفقهية على المذهب الحنبلي. للشيخ علي الهندي. - المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، لابن مفلح، ط 1، مكتبة الرشد، تحقيق: د. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، 1410 هـ. - المقنع في شرح مختصر الخرقي، للحسن بن أحمد البنا، ط 1، مكتبة الرشد، تحقيق د. عبد العزيز البعيمي، 1414 هـ.
- المقنع. لموفق الدين محمد بن عبد اللَّه ابن قدامة، المطبوع مع الإنصاف، تحقيق: د. عبد اللَّه الزكي. - الملل والنحل. للشهرستاني. ط الحلبي. 1387 هـ. تحقيق محمد سيد كيلاني. - الممتع في شرح المقنع. لزين الدين التنوخي، ط 1 دار خضر، دراسة وتحقيق: د. عبد الملك بن دهيش، 1418 هـ. - من أحكام الديانة. لأبي عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري. ط 1 دار ابن حزم بالرياض 1418 هـ. - مناقب الشافعي. للرازي. - مناقب الشافعي. للبيهقي. ط 1 دار التراث 1391 هـ. تحقيق السيد أحمد صقر. - المنتظم في تاريخ الأمم والملوك. لابن الجوزي، ط 1 دار الكتب العلمية، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ومصطفى عبد القادر عطا، 1412 هـ. - منتهى الإرادات. لتقي الدين الفتوحي، ط 1 مؤسسة الرسالة، تحقيق: د. عبد اللَّه التركي، 1419 هـ. - المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد للعليمي، ط 1، مكتبة الرشد، تحقيق: عبد القادر الأرناؤوط ومحمود الأرناؤوط، 1997 م. - موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان. للهيثمي، تحقيق حسين سليم الداراني، وعبده علي كوشك، ط دار الثقافة العربية، 1412 هـ. - مواهب الجليل لشرح مختصر خليل. محمد بن محمد المغربي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1416 هـ. - موسوعة الإجماع في الفقه الإسلامي. لسعدي أبو حبيب، ط 2 دار الفكر، 1404 هـ. - الموسوعة العربية الميسرة.
- موسوعة صحة العائلة. بعناية مجموعة من الأطباء. أشرف عليها الدكتور "طوني سمث". ط دار العلم للملايين. - الموضح لأوهام الجمع والتفريق. للخطيب. تصحيح الشيخ عبد الرحمن المعلمي. ط 2 دار الفكر الإسلامي 1405 هـ. - الموضوعات. لابن الجوزي. ط المكتبة السلفية بالمدينة 1386 هـ تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان. - ميزان الاعتدال في نقد الرجال. للذهبي. ط 1 الحلبي 1382 هـ. تحقيق علي محمد البجاوي. - الناسخ والمنسوخ. للنحاس. - النبوات: ابن تيمية. ط دار الكتب العلمية. بيروت 1402 هـ. - النحو الوافي. لعباس حسن. ط 8 دار المعارف بمصر. - نسب قريش. لأبي عبد اللَّه الزبيري. ط 1 دار المعارف بمصر. - النشر في القراءات العشر. - نصب الراية تخريج أحاديث الهداية. للزيلعي. ط 1 مكتبة عباس أحمد الباز 1416 هـ. - النظم المستعذب في تفسير غريب ألفاظ المهذب. لابن بطال الركبي. ط المكتبة التجارية. مكة 1408 هـ. تحقيق د. مصطفى عبد الحفيظ سالم. - النعت الأكمل لأصحاب الإمام أحمد بن حنبل. للغزي. ط 1 دار الفكر 1402 هـ. - نواد الفقهاء. للجوهري، ط 1 دار القلم، الدار الشامية، تحقيق: د. محمد فضل المراد، 1414 هـ. - نوادر مخطوطات علامة الكويت عبد اللَّه الخلف الدحيان. للشيخ محمد بن ناصر العجمي. ط 1 وزارة الأوقاف بالكويت. 1416 هـ.
- نواسخ القرآن. لابن الجوزي. تحقيق محمد أشرف الملباري. ط 1 الجامعة الإسلامية 1404 هـ. - النونية. للإمام عبد اللَّه بن محمد المالكي القحطاني. ط ضمن مجموعة ابن يوسف المسماة: "أربح البضاعة في معتقد أهل السنة والجماعة" ط 2 مطابع الجزيرة بالرياض 1393 هـ طبع على نفقة صالح العبد العزيز الراجحي. - هداية السالك إلى المذاهب الأربعة في المناسك. لابن جماعة الكناني. ط دار البشائر. تحقيق د/ نور الدين عتر. 1414 هـ. - هدية العارفين. البغدادي. - الوفا بأحوال المصطفى. لابن الجوزي. ط دار الكتب الحديثة بمصر. 1386 هـ. تحقيق مصطفى عبد الواحد. - الوقوف من مسائل الإمام أحمد. لأحمد بن هارون الخلال، ط 1، مكتبة المعارف، 1410 هـ.
الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات تأليف عثمان بن عبد اللَّه بن جامع الحنبلي . . . - 1240 هـ تحقيق الدكتور عبد اللَّه بن محمد بن ناصر البشر الجزء الثالث
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات 3
بسم اللَّه الرحمن الرحيم غاية في كلمة مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1424 هـ - 2003 م جميع الحقوق محفوظة 2003 م. لا يُسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكِّن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.
مقدمة التحقيق [جـ 3، 4]
المقدمة إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فقد يسر اللَّه تعالى لي، ولأخي الدكتور عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم, الانتهاء من تحقيق "الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات" لمؤلفه الشيخ عثمان بن عبد اللَّه بن جامع الحنبلي المتوفى سنة 1240 هـ، وذلك لنيل درجة الدكتوراه في الفقه المقارن، من المعهد العالي للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد حظينا في هذا العمل بإشراف صاحب السماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد اللَّه آل الشيخ -مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء- حفظه اللَّه ونفع اللَّه به المسلمين. وقد كان نصيبي من تحقيق هذا الكتاب: قسمه الثاني: من كتاب الوصايا إلى آخر الكتاب، وكان نصيب الأخ الشيخ الدكتور محمد السلام آل عبد الكريم من أول الكتاب إلى نهاية باب الهبة. ورغبة منا في عموم نفع الكتاب، أقدمنا على طباعته، سائلًا المولى عز وجل أن ينفع به، وأن يجزي مؤلفه ومحقّقيه خير الجزاء، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المقدمة الحمد للَّه الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في اللَّه حق جهاده -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: - فإن علم الفقه هو المنهل الصافي، والمعين الذى حفظ للأمة الإسلامية وجودها بين الأمم على اختلاف العصور، وامتاز بأنه من عند اللَّه تبارك وتعالى، فما من حكم شرعى إلا وله دليل شرعى من كتاب اللَّه أو سنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أو منهما معًا، أو مما استنبط منهما، وأنه شامل لجميع جوانب الحياة، فبه يُعرف الحلال من الحرام والحق من الباطل، ويعبد الانسان ربه على بصيرة ويؤدى حقوق خلاقه بلا نقصان، ولهذا أكبّ سلف الأمة -رحمهم اللَّه- على الفقه في الدين تعلمًا وتعليما، وأفنوا أعمارهم في ذلك راجين ما عند اللَّه -جل وعلا- فآت جهودهم ثمارها وتفيئ الناس ظلالها ونهلوا من معينها، لقد بيّنوا الأصول وضبطوا القواعد مما ينم عن علم واسع وإدراك ثاقب فاسترشد الناس بعلمهم وحفظ اللَّه بهم للأمة دينها، وبذلك كان الفقه الاسلامي موضع فخر واعتزاز للمسلمين. وحيث تبوأ علم الفقه هذه المكانة العظيمة فقد آثرت أن يكون بحثي لنيل درجة الدكتوراه ضمن هذا العلم الشريف رغبة في حصول الثواب، وحرصًا على نشر هذا التراث وإخراجه للناس حتى يستفاد منه. وحينما سمعت عن كتاب "الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات" لمؤلفه الشيخ عثمان بن عبد اللَّه بن جامع الأنصاري النجدي الحنبلي المتوفى سنة
(1240 هـ) اقتنيت نسخة منه (¬1) فقرأته وتأمّلته فوجدته شرحًا نفيسًا مميزًا سهلًا واضح العبارة جامعًا لأبواب الفقه كلها على مذهب الامام أحمد بن حنبل مع العناية بالأدلة الشرعية، والتعريفات اللغوية والاصطلاحية، والإشارة إلى بعض المذاهب، والفرق، والآداب، ومما يزيد من مكانة هذا الكتاب كون المتن المشروح وهو "أخصر المختصرات" للعلامة شمس الدين محمد بن بدر الدين البلباني الحنبلى المتوفى سنة (1083 هـ) من المتون المعتبرة في المذهب، وله مكانته عند علماء المذهب. وكان من أهم الأسباب التى دفعتني إلى تحقيق هذا الكتاب ما يلي: - 1 - قيمة الكتاب العلمية، وأصالة مصادره التي اعتمد عليها المؤلف في إخراج هذا الكتاب وتنوعها. 2 - أن في إخراج مثل هذا الكتاب ونشره إثراءٌ للمكتبة الفقهية. 3 - الرغبة الملحّة في التعمق في الفقه ودراسته والإلمام ببعض الأحكام والمسائل التي يحصل عليها طالب العلم من خلال هذه الدراسة. 4 - أن مثل هذه الدراسة والتحقيق تجعل من الباحث سائحًا بين أنواع العلوم والمعارف فهو تارة يقلب كتب اللغة والتفسير والعقائد، وتارة كتب الحديث ودراسة الأسانيد، وأخرى بين كتب الفقه والأصول والمعاجم والتاريخ والتراجم والآداب، فعلم التحقيق يوقف المحقّق على علوم كثيرة. وقد سلكت في تحقيق الكتاب مسلك من قبلي فجعلت النسخة الأمّ -وهي نسخة المؤلف- أصلًا أعتمد عليه، فنسختها حسب قواعد الخط والإملاء الحديثة، وما كان من غموض فإني أكشفه عن طريق المراجع الى استمد منها المؤلف مادة ¬
كتابه وأهمها -كما صرح به في المقدمة- "كشاف القناع" و"شرح منتهى الإرادات" كلاهما للبهوتي، وإن كان أكثر اعتماده على الأخير -والذي جعلته بمثابة النسخة الأخرى-، فأكمل النقص، وأصحح بعض العبارات، مع الإشارة إلى ذلك في الهامش، كما أنني أوثق منهما. كما وثقت النصوص والروايات الى ينقلها عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة من مصادرها المعتبرة، وإذا ذكر المؤلف بعض المذاهب وأغفل البعض فإني استقصي جميع ما أهمله من المذاهب الأربعة موثقًا لها. واعتنيت بعزو الآيات الواردة في الكتاب فأبين اسم السورة الى وردت فيها الآية ورقم الآية، مع توثيق ما يورده المؤلف من أسباب النزول، ومعاني الآيات. وخرجت الأحاديث والآثار من مظانها في الكتب المعتمدة، فإن كان الحديث في الصحيحين فإني أكتفي بتخريجه منهما. وأما إذا كان في أحدهما فأذكر بعض من خرجه. وأما إذا لم يكن الحديث أو الأثر في الصحيحين ولا في أحدهما فإني أتوسع في تخريجه، مع نقل ما أعثر عليه من تصحيح أو تضعيف لأهل العلم. وقدمت بالذكر الكتب الستة على غيرها بحسب ترتيبها مبتدأ بصحيح البخارى، ثم صحيح مسلم، ثم سنن أبي داود، ثم سنن الترمذي، ثم سنن النسائي، ثم سنن ابن ماجه. وأما غير هذه الكتب فإني أذكرها مرتبة حسب تاريخ وفاة أصحابها. وإذا نص الشارح على من خرجه فإني أبدأ به، وطريقتي في العزو أبدأ بذكر الباب الذى ورد فيه الحديث ثم الكتاب ورقم الحديث، ثم أختم باسم الكتاب المخرج منه ثم الجزء والصفحة، هذا بالنسبة للأحاديث، أما الآثار فاكتفي بذكر رقم الأثر ومن خرجه والجزء والصفحة.
وترجمت للأعلام الوارد ذكرهم في صلب الكتاب إلا الذين اشتهروا فإن شهرتهم تغني عن الترجمة لهم. بينت المعاني اللغوية والاصطلاحية لما ورد في الكتاب من ألفاظ واصطلاحات تحتاج إلى تعريف وبيان. وذيلت بخاتمة ذكرت فيها أبرز ما توصلت إليه من نتائج. ولما للفهرسة من أهمية في الكشف عن فوائد الكتاب فقد وضعت فهارس تفصيلية تسهل الاستفادة منه. أ - خطة الدراسة والتحقيق وتشتمل على قسمين: - أ - قسم الدراسة: - المقدمة، وتشتمل على أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، ومنهج البحث، وخطته. الفصل الأول: مؤلف الكتاب، وفيه عشرة مباحث: - المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده. المبحث الثاني: نشأته وطلبه للعلم. المبحث الثالث: أهم أعماله. المبحث الرابع: صفاته. المبحث الخامس: عقيدته ومذهبه. المبحث السادس: وفاته ورثاء الناس له. المبحث السابع: شيوخه. المبحث الثامن: تلاميذه.
المبحث التاسع: مكانته العلميّة وفيه مطلبان: المطلب الأول: الجوانب العلمية. المطلب الثاني: وصفه من حيث التقليد والاجتهاد. المبحث العاشر: مؤلفاته عامة. الفصل الثاني: الكلام الكتاب المحقق، وفيه عشرة مباحث: - المبحث الأول: إثبات نسبة الكتاب إلى المؤلف، ووصف المخطوط، وبيان أماكن وجوده. المبحث الثاني: تعريف موجز بالكتاب. المبحث الثالث: منزلته بين كتب الفقه عامة وبين كتب مذهبه خاصة. المبحث الرابع: منهجه في الكتاب. المبحث الخامس: مصادره في الكتاب. المبحث السادس: الكتاب من حيث التبعية والاستقلال. المبحث السابع: اختياراته الفقهية في الكتاب. المبحث الثامن: محاسن الكتاب. المبحث التاسع: الملحوظات على الكتاب. المبحث العاشر: الأبواب والفصول التي يتناولها التحقيق. الفصل الثالث: دراسة عشرين مسألة فقهية مقارنة تحدد بمعرفة المشرف. ب - قسم التحقيق: ويشتمل على أمرين: - الأول: العمل الذي قمتُ به في تحقيق الكتاب، ويشتمل على ما يأتي: -
أولًا: إخراج نص الكتاب على أقرب صورة وضعه عليها المؤلف، وذلك باتخاذ الخطوات لتالية: 1 - اعتمدت النسخة الوحيدة الى هي نسخة المؤلف وقد كتبها بيده، وأشرت إليها بالأصل. 2 - إذا وجدت خطأً بيّنًا لا يستقيم الكلام معه صوَّبته بأحد طريقين: أ - بالرجوع إلى المصدر المنقول عنه مباشرةً إن كان. ب - الرجوع إلى عموم المصادر التي اعتمدها المؤلف. 3 - إثبات ما قد يسقط من الحروف أو الكلمات من الأصل في الصلب بين قوسين معقوفين هكذا [] ويوجه ذلك في الهامش مع الإشارة إلى ما يعزز ذلك من المصادر والمراجع. 4 - رسم الكتاب بالرسم الحديث بدون إشارة إلى ذلك في الهامش. 5 - إعجام ما أهمله المؤلف من الكلمات مع عدم الإشارة إلى ذلك في الهامش إلا إن اختل المعنى بذلك الإعجام. 6 - ضبط ما يحتاج إلى ضبط من ألفاظ الكتاب. 7 - وضعتُ المتن المشروح، وهو أخصر المختصرات بين هلالين هكذا () مع تمييزه بالسواد، واعتمدت في تصحيح المتن على النسخة المطبوعة بتحقيق الشيخ/ محمد بن ناصر العجمي. 8 - أبقيت التقسيمات التي وضعها المؤلف للكتب والأبواب والفصول ولكن قمت بترقيم بعض ما ورد في الكتاب من أنواع وشروط وأركان، وجعلتها في أول السطر؛ ليكون ذلك أوضح للقارئ، وأسهل في الفهم. ثانيًا: ربط الكتاب بمصادره التي أفاد منها إفادة مباشرة. ثالثًا: توثيق وتحرير الآراء الى ذكرها المؤلف، وذلك بإرجاعها إلى مصادرها
الأصلية، وإذا ذكر المؤلف بعض المذاهب وأغفل البعض فإني أستقصي جميع ما أهمله من المذاهب الأربعة، موثقًا لها من مصادرها الأصيلة. رابعًا: توثيق النصوص الواردة في الكتاب من مصادرها الأصيلة المطبوعة وذلك قدر الإمكان، فإن لم أتمكن من التوثيق من المصدر الذي نقل عنه المؤلف، أو عزا إليه، وثّقت من المصادر التي تنقل عنها إن وجدت ذلك النقل أو العزو. خامسًا: مناقشة المؤلف في أدلته ووجه الاستدلال بها مع مناقشته في ردوده على أدلة المخالفين إن اقتضى المقام ذلك. سادسًا: إضافة بعض الأدلة للمسألة الفقهية إن اقتضى المقام ذلك. سابعًا: عزو الروايات التي ينقلها المؤلف عن إمامه من مصادرها المعتبرة. ثامنًا: التنبيه على الأخطاء العقديَّة إن وردتْ في الكتاب. تاسعًا: بيان مواضع الآيات من السور، مع توثيق ما يورده المؤلف من أسباب النزول, ومعاني بعض الآيات من كتب التفسير. عاشرًا: تخريج الأحاديث الواردة في صلب الكتاب، والحكم عليها. حادي عشر: تخريج الآثار الواردة في صلب الكتاب، والحكم عليها. ثاني عشر: عزو الأبيات الشعرية إلى قائليها. ثالث عشر: عزو الأمثال مع بيان القائل للمثل، والمناسبة التي قيل فيها. رابع عشر: شرح المفردات اللغويَّة الغريبة. خامس عشر: شرح المصطلحات الفقهيَّة والأصوليَّة والحديثيَّة. سادس عشر: التعريف بالأعلام الوارد ذكرهم في صلب الكتاب وذلك بإيراد ترجمة قصيرة تتضمن اسم العلم وولادته ومذهبه وكتبه ووفاته إن وقفت على ذلك. سابع عشر: التعريف بالطوائف والفرق والمذاهب.
ثامن عشر: التعريف بالمدن والبلدان والمواضع الوارد ذكرها في الكتاب إلا ما اشتهر منها. تاسع عشر: التعريف بالكتب الوارد ذكرها في الكتاب، مع بيان المطبوع والمخطوط ما أمكن ذلك. العشرون: التنبيه على الأخطاء اللغويَّة والنحويَّة. الحادى والعشرون: ربط موضوعات الكتاب بعضها ببعض. الثاني والعشرون: توضيح المراد من كلام الشارح إذا اقتضى المقام ذلك. الثالث والعشرون: وضع الفهارس العامة وهى: 1 - فهرس الآيات. 2 - فهرس الأحاديث. 3 - فهرس الآثار. 4 - فهرس القوافي. 5 - فهرس الكلمات الغريبة. 6 - فهرس الأعلام. 7 - فهرس الطوائف والفرق والمذاهب. 8 - فهرس القبائل والجماعات. 9 - فهرس الأماكن والبلدان. 10 - فهرس الكتب والرسائل الواردة في الكتاب. 11 - فهرس المصادر والمراجع. 12 - فهرس الموضوعات.
الثاني: نص الكتاب المحقق. وحسبي في هذا العمل أني قد بذلت جهدي في سبيل إخراج نص الكتاب على أقرب صورة مما أراد ده مؤلفه -رحمه اللَّه- راجيًا من اللَّه سبحانه أن أكون قد وفقت إلى ذلك وأن يجزل لي الأجر على ما بذلته من جهد وقت في سبيل خدمة هذا الكتاب وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، ولا ادعي الكمال لأن النقص من طبيعة البشر، فأشكر اللَّه جل وعلا على توفيقه وإعانته، وأسأله المزيد من فضله. كما لا أنسى فضل والديّ عليّ -بعد فضل اللَّه تعالى- رفع اللَّه منزلتهما وأعانني على برّهما، ومتّعهما بالصحة والعافية على طاعته {رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. وأتقدم بالشكر الجزيل والثناء العطر لسماحة شيخي عبد العزيز بن عبد اللَّه آل الشيخ -مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء- المشرف على هذه الرسالة على ما قدمه لي من التوجيه والمتابعة، وعلى ما لمسته من دماثة الخلق وكرم الضيافة جعل اللَّه ذلك في ميزان حسناته ونفع به المسلمين ووفقه لمرضاته. ثم أشكر لهذه الجامعة المباركة على ما تبذله من جهود للعلم وأهله في الداخل والخارج، وأخص بالشكر المعهد العالي للقضاء وعلى رأسه عميده صاحب الفضيلة الدكتور إبراهيم بن عبد اللَّه البراهيم الذى وسع العلماء والطلاب بخلقه العالي، ورجاحة عقله، وكريم عونه، فشكر اللَّه له سعيه، وبارك له في عمره وعمله، وأحسن عاقبته. والشكر أصدق الشكر لكل من أفادني وأعانني في هذه الرسالة من أساتذة وزملاء، يصعب في هذا المقام حصرهم، ولا أملك لهم إلا الدعاء بأن يجزل اللَّه لهم الأجر والمثوبة وأن يوفقهم لكل خير.
والحمد للَّه أولًا وآخرًا، وصلاة وسلامًا على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اقتفى، اللهم يسر لي كل عسير، ووفقني لمرضاتك، فأنت نعم المولى ونعم النصير. الباحث عبد اللَّه بن محمد بن ناصر البشر غُرّة شعبان لعام 1421 هـ
الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات تأليف عثمان بن عبد اللَّه بن جامع الحنبلي . . . - 1240 هـ تحقيق الدكتور عبد اللَّه بن محمد بن ناصر البشر الجزء الثالث
الفصل الأول: مؤلف الكتاب
الفصل الأول: مؤلف الكتاب وفيه عشرة مباحث: - المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده. المبحث الثاني: نشأته وطلبه للعلم. المبحث الثالث: أهم أعمله. المبحث الرابع: صفاته. المبحث الخامس: عقيدته ومذهبه. المبحث السادس: وفاته ورثاء الناس له. المبحث السابع: شيوخه. المبحث الثامن: تلاميذه. المبحث التاسع: مكانته العلميّة وفيه مطلبان: المطلب الأول: الجوانب العلمية. المطلب الثاني: وصفه من حيث التقليد والاجتهاد. المبحث العاشر: مؤلفاته عامة.
المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده وأسرته
المبحث الأول: اسمه ونسبه ومولده وأسرته أولًا: اسمه عثمان بن عبد اللَّه بن جمعة بن جامع بن عبد ربه، الأنصاري، الخزرجي، النجدي، البحريني، الزُّبيري (¬1). هذا نهاية ما وقفت عليه في رفع نسبه من خلال الكتيبه التي ترجمت له. ثانيًا: نسبه آل جامع أسرة تنسب إلى الأنصار وإلى الخزرج منهم، فهم من قبائل الأزد من قحطان وقد نزحوا من المدينة إلى نجد وسكنوا بلدة القصب، ثم بلدة جلاجل إحدى بلدان سدير، ومنها نزحوا إلى جزيرة البحرين ثم منها إلى الزبير (¬2). ثالثًا: مولده لم تذكر كتيب التراجم التي وقفته عليها المكان الذي ولد فيه الشيخ عثمان -رحمه اللَّه- ولا تاريخ ولادته. رابعًا: أسرته لقد اشتهرت أسرة آل جامع بالعلم والعلماء، فأصبحت أسرةً علمَّيةً حنبليَّةً لها مكانتها بين الناس، حيث توارثت العلم وتبوّأت المناصب ¬
العلميَّة والعمليَّة، فكان منهم القضاة والمفتون والمعلمون والأئمة للجوامع، في البحرين والزبير، فقد ظل جامع النّجادى (¬1) في الزبير يتناوب على إمامته جيلًا بعد جيلٍ آلُ جامع. وأذكر هنا تراجم مختصرة للعلماء من هذه الأسرة مبتدأ بأقارب المؤلف: - 1 - جده جمعة بن جامع (؟ -؟ ) جمعة بن جامع بن عُبيد اللَّه بن عبدربه الأنصاري، الخزرجي، النجدي، انتقل والده جامع من المدينة إلي نجدٍ، فسكن بلدة القصب من بلدان الوشم، ثم انتقل منها فسكن بلدة جلاجل من بلدان سدير، فولد جمعة في جلاجل، ونشأ فيها، وأخذ في بلدان سدير مبادئ العلوم الشرعية، ثم سمت به همته إلى الزيادة من العلم فرحل إلى بلدان الشام وهي في ذلك الوقت في وفرةٍ من فقهاء الحنابلة، فقرأ عليهم حتى أدرك، وصار من كبار العلماء، ثم عاد إلى نجد، فجلس للتدريس والإفادة. ولجمعة هذا أخٌ اسمه أحمد صار أحفاده من كبار علماء الزبير والبحرين (¬2). ¬
2 - ابنه عبد اللَّه (؟ -؟ ) عبد اللَّه بن عثمان بن عبد اللَّه بن جمعة بن جامع بن عبيد اللَّه بن عبد ربه الأنصاري، الخزرجي، أخذ العلم عن شيخ والده ابن فيروز، وعن علماء الزبير آنذاك، رحل إلى الهند سنة 1225 هـ، ورحل إلى اليمن، وأخذ من علمائها، ورحل إلى مكة والمدينة والشام واتصل بالعلماء، وجلس للتدريس، ، ويعد من شعراء الزبير (¬1). 3 - ابنه أحمد (1194 - 1285 هـ) أحمد بن عثمان بن عبد اللَّه بن جمعة بن جامع، ولد في البحرين، وأخذ العلم عن والده وعن عُلماء البحرين في وقته، وأدرك شيخ أبيه ابن فيروز ودرس عليه في البصرة، تولى قضاء البحرين مدة طويلة قضاها بالعدل والاستقامة، وتولي قضاءها والتدريس في مدرسة الدويحس إلى أن مات فيها سنة (1285 هـ) (¬2). قال ابن حميد في السحب الوابلة (¬3): "وكان المذكور قد حج سنة (1257 هـ)، فاجتمعت به في مكة -المشرفة- وسألته واستفدت منه، وأجازني ومعه ولداه الشيخ محمد وعبد اللَّه، وكان رجلا صالحا ساكنا وقورا. . ". أ. هـ. ¬
4 - ابن ابنه: محمد بن أحمد (؟ - 1285 هـ) محمد بن أحمد بن عثمان بن عبد اللَّه بن جامع، وُلد في البحرين، أخذ العلم عن والده، وعن علماء البحرين في وقته حتى أدرك، ولما انتقل والده الشيخ أحمد من البحرين إلى الزبير بقي هو في البحرين وخلفه أباه في قضائها، وبعد فترة التحق بأبيه في الزبير، وقرأ على علماء الزبير والبصرة، وحجَّ مع والده عام (1257 هـ)، ولما توفي والده عام (1285 هـ) عيّن بدله قاضيًا على الزبير، إلا أنه توفي في ذلك العام، وكان ابنه الشيخ جاسم بن محمد هو إمام جامع السوق في الزبير (¬1). 5 - عثمان بن محمد بن جامع (1265 - 1322 هـ) عثمان بن محمد بن أحمد بن عثمان بن عبد اللَّه بن جامع، ولد في الزبير، في أسرةٍ علميَّةٍ توارثتْ العلم من الآباء إلى الأبناء، أخذ العلم عن علماء أسرته، وهن علماء بلد الزبير حتي أدرك، ودرس في مدرسة الدويحس فتلقي الفقه وسائر العلوم عن مدرسيها، وتوفي في الزبير سنة (1322 هـ) (¬2). 6 - عبد الرحمن بن جامع (؟ -؟ ) عبد الرحمن بن أحمد بن إبراهيم بن جامع، وُلد في بلد الزبير في آخر القرن الثاني عشر الهجري، وقرأ على علماء الزبير، حتى أدرك في الفقه والفرائض وعلوم العربيَّة، وتوفي في الزبير (¬3). ¬
7 - سليمان بن جامع (؟ -؟ ) سليمان بن جامع، من علماء القرن الرابع عشر الهجري، وُلد في بلد الزبير، ونشأ فيها، وطلب العلم على علماء الزبير، اشتهر بحبه الخير وحسن الصويت بقراءة القرآن، عين إمامًا لمسجد (القت)، ويلقب بعالم البصرة (¬1). وعن أسرة آل جامع قال النبهاني في تحفته (¬2): "وأشهر علماء البحرين. . . الشيخ إبراهيم بن جامع الحنبلي، والشيخ عيسى بن جامع الحنبلي، وابنه الشيخ عبد العزيز بن عيسى بن جامع، وقد تقلد مذهب الإمام مالك وهو اليوم إمام جامع الشيوخ في المحرق. . . ". ¬
المبحث الثاني: نشأته وطلبه للعلم
المبحث الثاني: نشأته وطلبه للعلم نشأ الشيخ عثمان -رحمه اللَّه- في أسرةٍ علميَّةٍ لها مكانتها، فكان لذلك أثر في توجهه العلمي، ولما كانت الرحلة في طلب العلم تعدّ من أبرز صفات العالم المبرز في العلم صاحبه الهمة العالية، وقل أن تجد عالمًا قد تبوأ مكانةً علميَّةً لم يقم برحلاتٍ علميةٍ بحثًا عن العلماء ومصنفاتهم للاستزادة مما لم يتيسر له لو مكث في بلده، لذا فقد رحل الشيخ عثمان -رحمه اللَّه- إلى مكة والمدينة، وطلب العلم على يد علماء الحرمين -في ذلك الوقت- فأخذ في الفقه، والمواريث، والحساب، والآداب، وسافر إلى الشام، وحلب. ثم رحل إلى الأحساء وتتلمذ على الشيخ محمد بن فيروز في الفقه وغيره، فأدرك إدراكًا تامًا، ثم طلبه أهل البحرين من شيخه ابن فيروز ليكون قاضيًا لهم، ومفتيًا ومدرسًا فأرسله إليهم (¬1). ¬
المبحث الثالث: أهم أعماله
المبحث الثالث: أهم أعماله من أهم الأعمال التي قام بها الشيخ عثمان -رحمه اللَّه- توليه القضاء، والإفتاء، والتدريس، والإمامة، والخطابة. فنظرًا لما كان له من مكانة عظيمة لدى أهل البحرين -خاصتهم وعامتهم- وَلَّوْهُ أفضل المناصب وأشرفها، والتي هي من أبرز أعمال العلماء العاملين، فتولَّى القضاء سنين عديدة بحسن السيرة والورع والعفّة والديانة، كما تولَّى الإفتاء والتدريس والإمامة والخطابة في مسجد النجادى فقام بذلك خير قيامٍ (¬1). ¬
المبحث الرابع: صفاته
المبحث الرابع: صفاته نظرا للمكانة العلمية التي تبوأها الشيخ عثمان -رحمه اللَّه- فقد اتصف بصفات عظيمة وأخلاق حميدة هي ثمرة العلم النافع والعمل الصالح، إذ العلماء هم أتقى الناس وأخشاهم للَّه قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬1). فقد كان الشيخ عثمان معروفا بالاستقامة على ديان اللَّه، والورع والخشية للَّه، والعبادة والعفة والكرم وقوة الذكاء، وحسن المناظرة. قال عنه شيخه محمد بن فيروز: "أدرك إدراكا تاما مع حسن السيرة والورع والعفاف والكرم والعبادة والصلاح. . . " (¬2). وقال عنه ابن حميد: "الفقيه، النبيه، الورع، الصالح. . . " وقال: "ثم طلبه أهل البحرين من شيخه المذكور ليكون قاضيا لهم ومفتيا ومدرسا، فأرسله إليهم فباشرها سنين عديدة بحسن السيرة، والورع والعفة والديانة والصيانة، وأحبه عامتهم وخاصته. . . ولم يزل على حسن الاستقامة والإعزاز التام، ونفوذ الكلمة عند الأمير فمن دونه إلى أن توفاه اللَّه. . . " اهـ. (¬3) ¬
المبحث الخامس: عقيدته ومذهبه
وللشيخ عثمان -رحمه اللَّه- أبيات ومقطوعات حسان تبين خشيته للَّه وطمعه في مغفرته منها: - إلهي بعفو يا رب أطمع ... فلا تخزني يومًا به الخلق تجمع وخذ بيدي ذات اليمين ... كتابي باليمنى فعفوك أوسع (¬1) المبحث الخامس: عقيدته ومذهبه أولا: عقيدته: - له أقف له على كتاب في العقيدة، ولم يتكلم في عقيدته أحد، ومن خلال دراسة كتابه هذا لم يظهر لي ما يقدح في عقيدته، فهو قد اعتنى عناية فائقة بأقوال السلف من الصحابة والتابعين والأئمة الأعلام من أهل السنة، بل اهتم كثيرا بنقل اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وبعرض أقوال الأئمة وغيرهم بدون تعصب لأحد منهم، ويتضح لقارئ هذا الكتاب أن مؤلفه يرد على أهل البدع والمنكرات ويبين فساد معتقدهم، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر في كتاب الجنائز (¬2) قال: وكره رفع الصوت معها ولو بقراءة أو تهليل لأنه بدعة، وقول القائل استغفروا له ونحوه بدعة. وفي كتاب الحج (¬3) عند زيارة قبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: ولا يمس قبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا حائطه ولا يتمسح به ولا يلصق به صدره ولا يقبله لما في ذلك من إساءة الأدب ¬
ثانيا: مذهبه
والابتداع. وفي كتاب الجنايات (¬1) قال: وإمساك الحية محرم وجناية؛ لأنه ألقى بنفسه إلى التهلكة، فلو قتلت ممسكها من مدعي المشيخة، ونحوه فهو قاتل نفسه. ومما يؤخذ عليه -رحمه اللَّه- أنه قاده التقليد لشيخه ابن فيروز ومجاراته له دون تمحيص وتبصر إلي التهجم على الشيخ العلامة محمد بن عبد الوهاب في كتاب الصلاة عند مسألة رفع اليدين بالدعاء بعد الفراغ من الأذكار الواردة أدبار الصلوات المكتوبة (¬2) حيث تلفظ بعبارة لا تليق بالشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي شهدت له الأمة بالعلم والفضل حتى أطلق عليه اسم -المجدد- رحمه اللَّه، ولم يعرف عن ابن جامع -رحمه اللَّه- معارضته للدعوة السلفية التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بل ولم يذكر عنه أنه راسله منكرا عليه في مسألة من المسائل أو معارضا لدعوته، وكل من ترجم له لم يصفه بذلك كما هو الحال بالنسبة لشيخه ابن فيروز الذي أشتهر عنه حمله لواء المعارضة لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولاشك أن ابن جامع قد أخطأ خطأ كبيرا في حق الإمام العلامة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحم اللَّه الجميع رحمة واسعة وعاملهم بعفوه ومغفرته. ثانيا: مذهبه: وأما مذهبه الفقهي فهو من علماء المذهب الحنبلي، وتتلمذ على علماء الحنابلة، كما أنه قد نسب نفسه إلى الحنابلة في مقدمة كتابه هذا، وقد اتفق على ذلك كل من ترجم له (¬3). ¬
المبحث السادس: وفاته ورثاء الناس له
المبحث السادس: وفاته ورثاء الناس له توفي الشيخ عثمان -رحمه اللَّه- سنة (1240 هـ) في البحرين، وبوفاته فقدت البحرين عالما له مكانته العلمية، لما تمتع به من حسن الاستقامة ونفوذ الكلمة عند الأمير فمن دونه (¬1). قال فيه ابن سند (¬2): إذا قرأ القرآن سالت دموعه ... إذا اسود جنح الليل مصليا ولاح على الخدين منه خشوعه ... وقعقع من خوف الإله ضلوعه ¬
المبحث السابع: شيوخه
المبحث السابع: شيوخه لقد رحل الشيخ عثمان -رحمه اللَّه- في طلب العلم كما هي عادة العلماء الأفذاذ أصحاب الهمم العالية، فطلب العلم على علماء الحرمين الشريفين في الفقه والآداب، وسافر إلى الشام، والتقى بالعلماء هناك. ولم تذكر المصادر التي ترجمت له إلا شيخه ابن فيروز، وهو: محمد بن عبد اللَّه بن محمد بن فيروز التميمي، الأحسائي، الفقيه الحنبلي، المولود في مدينة الأحساء سنة (1142 هـ)، ونشأ بها في كنف والده، وكف بصره وهو ابن ثلاث سنين، اشتهر بالكرم، وسرعة الفهم، وقوة الإدراك، والحفظ، فكان يملي صحيح البخاري بأسانيده من حفظه، وحفظ كثيرا من المتون، أخذ العلم عن والده عبد اللَّه، وعن علماء الأحساء آنذاك، وتتلمذ عليه خلق كثير حيث قد قصده الطلاب من أقاصي البلاد ورحلوا إليه فينفق عليهم ولو كانوا أغنياء، ويقول: من لم ينتفع بطعامنا لا ينتفع بعلمنا. وقد التقى الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه اللَّه- بوالد الشيخ محمد بن فيروز في الأحساء، وأعجب بحسن عقيدته وعلمه ورأى عنده كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم فسر بذلك. وعلي سعة علم ابن فيروز وكثرة اطلاعه والشهرة التي بلغها فقد عادى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه اللَّه- معاداة شديدة، وحارب دعوته برسائل وقصائد، وقد أخذ الشيخ محمد بن
عبد الوهاب -رحمه اللَّه- على ابن فيروز إباحته التوسل بالذوات، وإجازته شد الرحال إلي القبور. ونزح الشيخ محمد بن فيروز من الأحساء إلى العراق بسبب العداء الذي صار بينه وبين أنصار الدعوة، فلما تيقن استيلاءهم على الأحساء خاف منهم وتركها إلى البصرة، وكذلك عام (1208 هـ)، وقيل: إنه طلب منه الرحيل. فلما وصل إلي البصرة تلقاه واليها بالإكرام، وهرع إليه الناس للسلام عليه، فكان يوما مشهودا، فاستقر في البصرة لشهرته ونشاطه في العلم حتى وافاه الأجل آخر ليلة الجمعة غرة شهر محرم من عام (1216 هـ) عن خمسة وسبعين عاما، وصلي عليه بجامع البصرة، وحضر الصلاة جمع من الناس، ثم حمل على أعناق الرجال من البصرة إلى بلد الزبير، ثم دفن بجانب قبر الزبير بن العوام -رضي اللَّه عنه- وصار للناس حزن بفقده ورثي بقصائد من أهل الأمصار من سائر المذاهب. سامحه اللَّه وعفا عنه (¬1). ¬
المبحث الثامن: تلاميذه
المبحث الثامن: تلاميذه ذكرت فيما سبق أن الشيخ عثمان -رحمه اللَّه- لما أدرك في الفقة إدراكا تاما طلبه أهل البحرين من شيخه ابن فيروز ليكون قاضيا لهم، ومفتيا، ومدرسا، ولا شك أنه قد طلب العلم على يديه خلق كثير، ولكن لم تسعفني، المصادر التي ترجمت له بذكر تلاميذه، سوى ابنه أحمد.
المبحث التاسع: مكانته العلمية
المبحث التاسع: مكانته العلمية وفيه مطلبان: - المطلب الأول: الجوانب العلمية إن ما يجلى الجوانب العلمية التي برز فيها الشيخ عثمان بن جامع -رحمه اللَّه- النقاط التالية: أولًا: أنه لما أدرك في الفقه إدراكا تاما طلبه أهل البحرين ليكون قاضيا ومفتيا ومدرسا، وذلك لثقتهم في علمه وتقواه وورعه. ثانيا: توليه المناصب العلمية العامة وهي: 1 - القضاء. 2 - الإفتاء. 3 - التدريس. 4 - الإمامة. 5 - الخطابة. وهذه المناصب لا يتولاها، إلا من اشتهر بالعلم والاستقامة والعبادة ورضيه الناس وأجمعوا عليه، وشهدوا له بالصلاح (¬1). ثالثا: شهادة العلماء له بالفضل والنبوغ في العلم خاصة في الفقه الحنبلي. ¬
المطلب الثاني: وصفه من حيث التقليد والاجتهاد
قال عنه شيخه ابن فيروز: "اشتغل على الفقير في الفقه والفرائض والعربية ففتح اللَّه عليه، وأدرك إدراكا تاما مع حسن السيرة والورع والعفاف والكرم والعبادة والصلاح. . . " ا. هـ. (¬1) وقال عنه ابن حميد في السحب الوابلة (¬2): "الفقيه، النبيه، الورع، الصالح، قرأ على شيخ وقته الشيخ محمد بن فيروز في الفقه وغيره، فأدرك إدراكا تاما. . ". وفي تاريخ الزبير (¬3) بعد أن ساق ترجمته قال: "وتصدر المذهب الحنبلي. . . فهو بهجة صدور الجامع، وزهرة رياض الجوامع، وعمدة المستفيدين في النوازل، وهو واللَّه نادرة عصره، وناظرة بلدة وقطره. . . ". المطلب الثاني: وصفه من حيث التقليد والاجتهاد الشارح -رحمه اللَّه- كغيره من علماء المذهب يستفيد من بعض، فهو قد استفاد من كتب من سبقه، ومن خلال دراستي لهذا الكتاب لاحظت أن المؤلف لا يورد قولا عاريا عن دليل، فالأحكام التي يوردها يستدل لها، ولكنه في الجملة مقلد فلم أقف له على اجتهادات فقهية. ¬
المبحث العاشر: مؤلفاته عامة
المبحث العاشر: مؤلفاته عامة لم تذكر المصادر التي ترجمت للشيخ عثمان -رحمه اللَّه- شيئا من مؤلفاته سوى هذا الكتاب "الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات" فلعله لم يكن من أصحاب التأليف، فضلا عن كونه قد تولى منصب القضاء والإفتاء والتدريس، وهذه المهام لا شك أنها تحتاج إلي جهد ووقت.
الفصل الثاني: الكلام عن الكتاب المحقق
الفصل الثاني: الكلام عن الكتاب المحقّق وفيه عشرة مباحث: - المبحث الأول: إثبات نسبة الكتاب إلى المؤلف، ووصف المخطوط، وبيان أماكن وجوده. المبحث الثاني: تعريف موجز بالكتاب. المبحث الثالث: منزلته بين كتب الفقه بعامة وبين كتب مذهبه بخاصة. المبحث الرابع: منهجه في الكتاب. المبحث الخامس: مصادره في الكتاب. المبحث السادس: الكتاب من حيث التبعية والاستقلال. المبحث السابع: اختياراته الفقهية في الكتاب. المبحث الثامن: محاسن الكتاب. المبحث التاسع: الملحوظات على الكتاب. المبحث العاشر: الأبواب والفصول التي يتناولها التحقيق.
المبحث الأول إثبات نسبة الكتاب إلى المؤلف ووصف المخطوط وبيان أماكن وجوده
المبحث الأول إثبات نسبة الكتاب إلى المؤلف ووصف المخطوط وبيان أماكن وجوده أولًا: إثبات نسبة الكتاب إلى المؤلف: لا أشك في أن هذا الكتاب "الفوائد المنتخبات في أخصر المختصرات" هو من تأليف الشيخ عثمان بن عبد اللَّه بن جامع -رحمه اللَّه- وذلك للأدلة التالية: أ- أن المؤلف نفسه قال في مقدمة هذا الكتاب: "وسميته بالفوائد المنتخبات في أخصر المختصرات" ب- قال شيخه محمد بن فيروز في ثنايا ترجمته: ". . . وشرح أخصر المختصرات للشيخ البلباني شرحًا مبسوطًا، وجمع من الفوائد زبدة كتب المذهب. . . " ا. هـ. (¬1) جـ- قال ابن حميد في السحب الوابلة (¬2) بعد ترجمة الشيخ عثمان -رحمه اللَّه-: "وصنف شرح "أخصر المختصرات" شرحًا مبسوطًا نحو ستين كراسًا، وجمع فيه جمعًا غريبًا". د- قال في الدر المنضد (¬3): "عثمان بن جامع النبجدي له شرح أخصر المختصرات مجلد كبير". ¬
ثانيا: وصف المخطوط
هـ - قال ابن ضويان في "رفع النقاب" (¬1) عن ابن جامع: "قاضي البحرين من تلامذة ابن فيروز، شرح أخصر المختصرات مجلد ضخم" ا. هـ. و- قال ابن بسام في علماء نجد (¬2): "واسم الشرح: الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات". ا. هـ. ثانيًا: وصف المخطوط: لم أعثر إلا على نسخةٍ خطيَّةٍ واحدةٍ لهذا الكتاب، وهي بخط المؤلف وموجودة في مكتبة الموسوعة الفقهيَّة بالكويت تحت رقم (39 خ) وصفتها كالتالي: - أ- عدد الأوراق (375) ورقة. ب- عدد الأسطر (25) سطرًا. جـ- عدد الكلمات (15) تقريبا. وهذا في النصف الأول من النسخة، وأما في نصفها الثاني فتزيد الأسطر على (30) سطر، وعدد الكلمات (20) تقريبًا. وهذه النسخة مكتوبة بخط نسخي مقروء، وميّز المتن المشروح والتبويبات بالحُمرة. ويوجد عليها هوامش كثيرة عبارة عن كلام ساقط من الأصل، أو تصحيح لبعض العبارات، وكل هذا يشعر بأن المؤلف -رحمه اللَّه- قد راجع هذه النسخة، وكان إتمامه في يوم الجمعة غرة ذي الحجة ¬
ثالثا: مكان المخطوط
الحرام سنة 1224 هـ بمدينة المبرز في الأحساء كما هو مثبت في آخر المخطوط. ويوجد على الصفحة الأولى من المخطوط ترجمة للمؤلف منقولة من كتاب "سبانك العسجد" لعثمان بن سند حيث ذكر أنه ألف هذا الكتاب في أثناء المائة الثالثة بعد المائتين والألف، ومكتوب عليها وقف للَّه تعالى، حيازة الفقير عبد اللَّه بن خلف بن دحيان الحنبلي، وملكية حمد بن عبد اللَّه العقيل. ثالثًا: مكان المخطوط هذة النسخة التي عثر عليها هي موجودة في دوله الكويت حيازة مكتبة الموسوعة الفقهية التابعة لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، مسجلة برقم (39 خ)، وجاء في الكتاب الذي أصدرته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت لعام 1416 هـ بعنوان: "نوادر مخطوطات علامة الكويت الشيخ عبد اللَّه الخلف الدحيان "إعداد الشيخ محمد العجمي ص 52 ما نصه: - "الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات. . . نسخة بخط نسختي مقروء، نسخها المؤلف في يوم الجمعة في غرة ذي الحجة الحرام سنة 1224 هـ بمدينة المبرز بالأحساء، وقد شارك أحد النساخ في بعض الورقات من الكتاب. . . ".
المبحث الثاني تعريف موجز بالكتاب
المبحث الثاني تعريف موجز بالكتاب الكتاب اسمه "الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات" قال مؤلفه الشيخ عثمان -رحمه اللَّه- في مقدمته: "لما وقفت على الكتاب الموسوم بأخصر المختصرات الإمام المحقق الشيخ محمد البلباني الحنبلي، وجدته مع كونه في غاية الأختصار يشتمل على جل المسائل الكبار، ولا يستغني طالب العلم عن حفظه، لكن لم أجد له شرحًا يوضح الغامظ من لفظه، فاستخرت اللَّه سبحانه وتعالى على أن أعلق عليه شرحًا يحيط النقاب عن وجوه مخدره، ويبرز ما وراء الحجاب من خيباته، ويحرر مسائله ويجرد دلائله ضامًا إليه من الفوائد الجليلات بحسب ما يمنحه مفيض النعم الجليات والخفيات، سالكًا في جميع المسائل بأوجز عبارة وألطف إشارةٍ أبدع المسالك". فهذا الكتاب شرح لمتن من أهم المتون في الفقه الحنبلي، نظرًا لعلو منزلة مؤلفه، وقوة تحريره، ووضوح عبارته، وقد قام الشيخ ابن جامع بشرح هذا المتن مبينًا المعاني اللغوية والاصطلاحية لبعض الألفاظ، ومستدلًا للأحكام الواردة فيه، مع عنايته بالتعليل، مقتصرًا على المذهب، مع الإشارة أحيانًا إلى الخلاف في المذهب وفي المذاهب الأخرى.
المبحث الثالث منزلته بين كتب الفقه عامة وبين كتب مذهبه بخاصة
المبحث الثالث منزلته بين كتب الفقه عامة وبين كتب مذهبه بخاصة المتن المشروح هو "أخصر المختصرات" في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل للعلامة محمد بن بدر الدين بن بلبان الدمشقي (¬1)، اختصره في كتابه "كافي المبتدى" وقال ابن بلبان في سبب اختصاره: "ليَقْرُبَ تناوله على المبتدئين، ويسهل حفظه على الراغبين، ويقل حجمه على الطالبين، وسميته بأخصر المختصرات لأني لم أقف على أخصر منه جامع لمسائله في فقهنا من المؤلفات". (¬2) ¬
وقال المحبي: "وله -أي البلباني- مختصر في مذهبه، صغير الحجم كثير الفائدة".ا. هـ. (¬1) وقال العلامة ابن بدران عن "أخصر المختصرات": سهل العبارة، واضح المعاني، وهو من المتون المعتمدة في المذهب (¬2). فكتاب "الفوائد المنتخبات" شرح لهذا المتن المهم في الفقه الحنبلي. وقد أثنى على الكتاب جمع من العلماء منهم: شيخ المؤلف محمد بن فيروز حيث قال عنه: "شرح أخصر المختصرات للشيخ البلباني شرحًا مبسوطًا، وجمع من الفوائد زبدة كتب المذهب .. . . ". ا. هـ. (¬3) وقال عثمان بن سند المالكي في كتابه "سبانك العسجد" (¬4) عن مؤلف الكتاب: وشرح أخصر المختصرات في المذهب شرحًا أبان عن فضله وأعرب. وقال ابن حميد في السحب الوابلة (¬5) بعد ترجمة الشيخ عثمان -رحمه للَّه-: "وصنف شرح "أخصر المختصرات" شرحًا مبسوطًا نحو ستين كراسًا، وجمع فيه جمعًا غريبًا". ¬
وقال ابن ضويان في "رفع النقاب" (¬1) عن ابن جامع: "قاضي البحرين من تلامذة ابن فيروز، شرح أخصر المختصرات مجلد ضخم". ا. هـ. فهذا الثناء دليل على المنزلة التي بلغها هذا الكتاب من بين كتب المذهب. وإن مما يُعلي منزلة هذا الكتاب ويبرز أهميته أن مؤلفه -رحمه اللَّه- جعل غالب امتداده في هذا الشرح من شرحي الإقناع والمنتهى وحاشيتيهما، ولا تخفى مكانه كتابي "كشاف القناع" و"شرح منتهى الإرادات" لكونهما من الكتب المعتمدة في المذهب. ¬
المبحث الرابع منهجه في الكتاب
المبحث الرابع منهجه في الكتاب قال ابن جامع في مقدمة هذا الكتاب: "لما وقفت على الكتاب المرسوم بـ "أخصر المختصرات" الإمام المحقق الشيخ البلباني الحنبلي، وجدته مع كونه في غاية الاختصار يشتمل على جل المسائل الكبار، ولا يستغني طالب العلم عن حفظه، لكن لم أجد له شرحًا يوضح الغامظ من لفظه، فاستخرت اللَّه سبحانه وتعالى على أن أعلق عليه شرحًا يميط النقاب عن وجوه مخدراته، ويبرز ما وراء الحجاب من خبياته، ويحرر مسائله ويجرد دلائله ضامًا إليه من الفوائد الجليلات بحسب ما يمنحه مفيض النعم، الجليات والخفيات، سالكًا في جمع المسائل بأوجز عبارة وألطف إشارةٍ أبدع المسالك ولم أرسل عنان العلم إلا في كتابي الحج والفرائض لمسيس الحاجة إلى ذلك، وغالب امتدادى في هذا الشرح المبارك من شرحي الإقناع والمنتهى وحاشيتيهما". ا. هـ. كما أن ابن جامع اعتنى في كتابه هذا بتأصيل المسائل، فيذكر الأدلة من الكتاب والسنة والآثار والإجماع وذلك غالبًا، مع إيراده لبعض التعليلات، كما اهتم بذكر أقوال الصحابة -رضي اللَّه عنهم- في كثيرٍ من المسائل مع إيراد أقوال الأئمة الأربعة في بعضها، كما تميز هذا الكتاب بوفرة المصادر التي أفاد منها وهي تعتبر في غالبها من الكتب المعتمدة في المذهب، مما أعطى الكتاب قوةً علميَّةً، كما أنه يتصرف في بعض العبارات الواردة في "شرح المنتهى" و"كشاف القناع" بتقديم أو
تأخير حسن ما يظهر لابن جامع -رحمه للَّه- من ترتيب أو مناسبة فقهية، أو يتصرف بالزيادة أو النقص في بعض عباراتها، كما اهتم بنقل اختيارات شيخ الإسلام في بعض المسائل، كما عني بتخيج بعض الأحاديث ونقل كلام أهل العلم في القول بالصحة أو الضعف، إضافة إلى اهتمامه بالتعاريف اللغوية سواء في بداية كل كتاب أو باب أو فصل أو عند ورود بعض الألفاظ الغريبة، بل وينص في بعضها على من قال به من أهل اللغة، مع اهتمامه بالتعاريف الشرهية والاصطلاحية في الغالب، كما أن هذا الكتاب لم يخل من إيراد بعض الأبيات الشعرية والاستدلال بها في بعض المناسبات، إضافة إلى الاهتمام بذكر بعض البلدان والمواقع.
المبحث الخامس مصادره في الكتاب
المبحث الخامس مصادره في الكتاب إن ما يبرز أهمية أي كتاب ويبين مكانته العلمية ويعلي شأنه هي المصادر التي استقى منها المؤلف مادة الكتاب، فبقوة تلك المصادر تكون قوة الكتاب، ومن خلال دراستي لكتاب "الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات" وجدت أن معظم مادة هذا الكتاب قد أخذت من أمهات الكتب التي تعتبر من أعمدة المذهب الحنبلي، إضافة إلى استفادته من كتب أخرى خارج المذهب. وإليك المصادر التي استفاد منها ابن جامع في جمع مادة كتابه: - 1 - أحكام النساء، للإمام عبيد اللَّه بن محمد بن حمدان العكبري، المعروف بابن بطة المتوفى سنة (387 هـ). 2 - أعلام الموقعين عن رب العلمين، للإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر الدمشقي، المعروف بابن قيم لجوزية المتوفى سنة (751 هـ). 3 - الاختيارات العلمية في اختيارات شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية: تأليف العلامة علي بن محمد بن علي البعلي الدمشقي، المعروف بـ (ابن اللحام) المتوفى سنة (803 هـ). 4 - الإرشاد إلى سبيل الرشاد، لمحمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي، أبو علي، القاضي، المتوفى سنة (428 هـ).
5 - الإفصاح عن معاني الصحاح، للوزير عون الدين أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي، المتوفى سنة (560 هـ). 6 - الإقناع، للعلامة المحقق موسى بن أحمد الحجاوي المقدسي، المتوفى سنة (968 هـ). 7 - الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، للعلامة، القاضي علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، المتوفى سنة (885 هـ). 8 - الانتصار في المسائل الكبار، للإمام العلامة محفوظ بن أحمد بن حسن الكلوذاني، أبو الخطاب البغدادي، المتوفى سنة (510 هـ). 9 - تجريد العناية في تحرير أحكام النهاية، تأليف الشيخ علي بن محمد بن علي البعلي، الدمشقي، ويعرف بابن اللحام، المتوفى سنة (803 هـ). 10 - الترغيب، من تأليف الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الصقال الطيبي مفتي العراق، المتوفى سنة (599 هـ). 11 - تصحيح الفروع، للعلامة المجتهد القاضي علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، المتوفى سنة (885 هـ). 12 - تصحيح المحرر، للشيخ عز الدين أحمد بن إبراهيم بن نصر اللَّه الكناني، المتوفى سنة (876 هـ). 13 - التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع، للعلامة المجتهد القاضي علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي، المتوفى سنة (885 هـ).
14 - الجامع في الفقه، للإمام، شيخ الحنابلة في عصره، أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد البغدادي الخلال، المتوفى سنة (311 هـ). 15 - حاشية التنقيح، للشيخ موسى بن أحمد بن موسى الحجاوي، صاحب الإقناع، المتوفى سنة (968 هـ). 16 - الحاوي الصغير، للشيخ عبد الرحمن بن عمر بن أبي القاسم، البصري، أبو طالب، نور الدين، المتوفى سنة (684 هـ). 17 - حواشي الفروع، تأليف العلامة، أحمد بن نصر اللَّه بن أحمد بن محمد بن أبي الفتح، المتوفى (844 هـ). 18 - رسالة الشباك، لابن الهائم أحمد بن محمد بن عماد الدين، أبو العباس، المصري، المقدسي، الشافعي، الفرضي، المتوفى سنة (815 هـ). 19 - الرعايتين كبرى وصغرى، كلاهما لأحمد بن حمدان بن شبيب الحراني الحنبلي المتوفى سنة (695 هـ)، والرعاية الكبري هي المرادة حال الإطلاق عند علماء المذهب. 20 - الروضة، لم أقف على مؤلفها. 21 - زاد المسافر من تأليف العلامة عبد العزيز بن جعفر بن أحمد أبو بكر، المعروف بغلام الخلال، المتوفى سنة (311 هـ). 22 - زاد المعاد في هدي خير العباد، للعلامة الإمام شمس الدين أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية، المتوفى سنة (751 هـ).
23 - الشرح، وهو الشرح الكبير، للعلامة، الفقيه، عبد الرحمن بن محمد بن قدامة المقدسي، أبو الفرج، شمس الدين، المتوفى سنة (682 هـ)، وإذا أطلق "الشرح" عند الحنابلة فالمراد هذا الكتاب. 24 - شرح الإقناع، وهو "كشاف القناع عن متن الإقناع"، للعلامة، الورع، الفقيه، منصور بن يونس بن صلاح بن حسن بن أحمد البهتوي، أبو السعادات، المتوفى سنة (1051 هـ). 25 - شرح المجد، واسمه "منتهى الغاية في شرح الهداية"، لمجد الدين أبو البركات، عبد السلام بن عبد اللَّه بن الخضر بن محمد الحراني ابن تيمية، المتوفى سنة (653 هـ). 26 - شرح المحرر، للفقيه، عبد المؤمن بن عبد الحق القطيعي، البغدادي، صفي الدين، المتوفى سنة (739 هـ). 27 - شرح منازل السائرين، واسمه "مراحل السائرين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"، تأليف العلامة، الإمام، شمس الدين، أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر الدمشقي، المعروف بابن قيم الجوزية، المتوفى سنة (751 هـ). 28 - شرح المنتهى، "شرح منتهى الإرادات"، للعلامة منصور بن يونس البهتوي، محقق المذهب، المتوفى سنة (1051 هـ). 29 - الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، للإمام، المحقق، أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر الدمشقي ابن القيم الجوزية المتوفى سنة (751 هـ).
30 - الغاية، واسمه "غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى"، للشيخ مرعي بن يوسف بن أبي بكر الكرمي، المقدسي، زين الدين، المتوفى سنة (1033 هـ). 31 - الغنية، "الغنية لطالبي طريق الحق"، تأليف الشيخ عبد القادر الجيلاني، المتوفى سنة (561 هـ). 32 - الفائق، لأحمد بن الحسن بن عبد اللَّه بن الشيخ أبي عمر المقدسي شرف الدين المعروف بابن قاضي لجبل، المتوفى سنة (771 هـ). 33 - الفتاوى المصرية، لشيخ الإسلام، العلامة، تقي الدين، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، أبو العباس، المتوفى سنة (728 هـ). 34 - الفروع، للشيخ شمس الدين، محمد بن مفلح بن محمد المقدسي، أبو عبد اللَّه، المتوفى سنة (763 هـ). 35 - الفصول، ويسمى "كفاية المفتي"، تأليف أبي الوفاء، علي بن عقيل بن محمد البغدادي، المتوفى سنة (513 هـ). 36 - القاموس، "القاموس المحيط والقابوس الوسيط في اللغة"، تأليف القاضي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، المتوفى سنة (817 هـ). 37 - القواعد، "القواعد الفقهية"، تأليف العلامة عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي، الدمشقي، المتوفى (سنة 795 هـ). 38 - الكافي، لموفق الدين عبد اللَّه بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي، ثم الدمشقي، المتوفى سنة (620 هـ).
39 - المبدع، "المبدع في شرح المقنع" للقاضي برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح، المتوفى سنة (884 هـ). 40 - المحرر، تأليف الشيخ عبد السلام بن عبد اللَّه بن تيمية الحراني، أبو البركات، مجد الدين، المتوفى سنة (652 هـ). 41 - المذهب في المذهب، لعبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزي، أبو الفرج، المتوفى سنة (597 هـ). 42 - المستوعب، تأليف العلامة، محمد بن عبد اللَّه بن الحسين بن إدريس السامري، أبو عبد اللَّه، المتوفى سنة (616 هـ). 43 - المعارف، تأليف عبد اللَّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري، المتوفى سنة (246 هـ). 44 - المغني، لموفق الدين، عبد اللَّه بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي، ثم الدمشقي، المتوفى سنة (620 هـ). 45 - المقنع، لموفق الدين، عبد اللَّه بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي، ثم الدمشقي، المتوفى سنة (620 هـ). 46 - المنتخب، تأليف أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي، تقي الدين، أبو بكر. 47 - المنتهى، "منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات" تأليف محمد بن أحمد الفتوحي، تقي الدين، المعروف بابن النجار، المتوفى سنة (972 هـ).
48 - المنور، "المنور في راجح المحرر" تأليف أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي، تقي الدين، أبو بكر، المتوفى سنة (327 هـ). 49 - الناسخ المنسوخ، "الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز وما فيه من الفرائض والسنن" تصنيف الإمام، القاضي أبو عبيد القاسم بن سلام، المتوفى سنة (224 هـ). 50 - النظم، واسمه: "عقد الفرائد وكنز الفوائد" تأليف محمد بن عبد القوي بن بدران بن عبد اللَّه المقدسي، أبو عبد اللَّه، شمس الدين، المتوفى سنة (699 هـ). 51 - النكت، "النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر"، تأليف محمد بن مفلح ابن محمد المقدسي، شمس الدين، أبو عبد اللَّه، المتوفى سنة (763 هـ). 52 - الوجيز، تأليف الشيخ الحسين بن يوسف بن محمد بن أبي السري الدجيلي، البغدادي، المتوفى سنة (732 هـ). ومما يجدر التنبيه عليه هنا أنه ليس بالضرورة أن يكون ابن الجامع -رحمه اللَّه- قد رجع إلى هذه المصادر كلها: لأن "شرح منتهى الإرادات" و"كشاف القناع" اللذين هما أصل كتاب قد أشار إلى المصادر نفسها في الغالب، فقد يكون ابن جامع نقلها تبعا للبهوتي ولم يطلع عليها
المبحث السادس الكتاب من حيث التبعية والاستقلال
المبحث السادس الكتاب من حيث التبعية والاستقلال الكتاب في الجملة تابع لكتابي "كشاف القناع" و"شرح منتهى الإرادات" وحاشيتيهما، وهذا ما اتضح لي من خلال دراسة هذا الكتاب، بل إن اعتماده الأكبر على "شرح منتهى الإرادات"، ويؤكد هذا ما قرره أيضًا ابن جامع -رحمه اللَّه- في مقدمة كتابه هذا حيث قال ما نصه: "وغالب امتدادي في هذا الشرح المبارك من شرحي الإقناع والمنتهي وحاشيتيهما". فالمؤلف تبع البهوتي في الصياغة والمعلومات التي ذكرها، وقام بتنزيل عبارة البهوتي على ترتيب المتن المشروح وهو "أخصر المختصرات"وهذه من طريق التأليف. وله أيضًا استقلالية ظهرت في شخصية المؤلف العلمية في القدرة على صياغة العبارة من "شرح منتهى الإرادات" ملاءمة لمتن "أخصر المختصرات"، وبتصرفه في بعض العبارات الواردة في "شرح المنتهى" و"كشاف القناع" بتقديم أو تأخير حسب ما يظهر له من ترتيب أو مناسبة فقهية، أو يتصرف بالزيادة أو النقص في العبارات. فالكتاب ليس له استقلالية كاملة، بل هو أشبه بالاختصار والتهذيب.
المبحث السابع اختياراته الفقهية في الكتاب
المبحث السابع اختياراته الفقهية في الكتاب المؤلف -رحمه اللَّه- له اختيارات فقهية ظهرت في الكتاب أذكر منها على سبيل المثال ما يلي: - في مسألة استبراء الإماء عند قوله: ولا يجب استبراء بملك أنثى من أنثى أو ذكر؛ لأنه لا فائدة فيه. قال -رحمه اللَّه-: قلت: ولعله إن كان البائع الذكر استبرأها وإلا فلا بد من الاستبراء إن أرادت تزويجها واللَّه أعلم (¬1). وفيها إذا ألقى بنفسه إلى التهلكة قال: قلت: فعلى هذا لا يصلي عليه الإمام الأعظم ولا القاضي. . . (¬2) وفي مسألة من قال لغيره: اقتلني، أو قال له: اجرحني ففعل، فهدر قال: قلت: والظاهر أن عليه الكفارة. (¬3) ¬
المبحث الثامن محاسن الكتاب
المبحث الثامن محاسن الكتاب امتاز هذا الكتاب بعدة مزايا لعل من أهمها: - 1 - عنايته بالمذهب، مع الإشارة أحيانا إلى الروايات المشهورة إن وجدت في المسألة. 2 - أصالة مصادره مع تنوعها. 3 - قوة الاستقلال، مع التقصي في ذلك. 4 - عنايته بالأدلة الشرعية. 5 - وضوح مسائله. 6 - أمانته في النقل، فبتتبعي لما أورده من نقول من كتب أخرى لاحظت دقته في النقل. 7 - مقارنته لبعض المسائل الواردة في المذهب بالمذهب الأخرى، مع النص على من قال به من الأئمة أو أصحابهم، مع إحالته أحيانا إلى مصادر أصلية لمذاهبهم. 8 - اهتمامه بنقل الإجماع في كثير من المسائل (¬1). 9 - اهتمامه باختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض المسائل (¬2). ¬
10 - اشتماله على الكثير من الآثار عن الصحابة والتابعين. 11 - أمانة المؤلف المتمثلة في تصريحه في مقدمة كتابه هذا بأنه اعتمد على كتابي "كشاف القناع" و"شرحي منتهى الإرادات" وحاشيتيهما، وجميعها للشيخ منصور البهوتي، في جمع مادة كتابه، حيث نسب الفضل لأهله.
المبحث التاسع الملحوظات على الكتاب
المبحث التاسع الملحوظات على الكتاب لا شك أن عمل البشر معرض للنقص والوقوع في الخطأ، وهذا الكتاب كغيره من الكتب التي تخضع للنقد والتمحيص، فأبرز الملحوظات ما يلي: - 1 - كثرة السقط سواء من الكلمات أو الأحرف. 2 - إغفاله لبعض الأدلة في بعض المسائل مع أنها موجودة في كتب المذهب (¬1). 3 - إستدلاله في بعض المسائل بأدلة ليست نصا في المسألة، مثال ذلك: استدلاله على حرمة الزنا بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اجتنبوا السبع الموبقات" مع أن الزنا لم يذكر في الحديث (¬2). 4 - التصحيف أو التغير في بعض العبارات التي ينقلها من بعض المصادر، وقد يختلف المعني بذلك أو يحصل به التناقض مع ما قبله أو بعده، أو عدم استقامة العبارة. فعلى سبيل المثال: مسألة استثناء الحمل في العتق، قال: "فإن استثنى الحمل معتق أمه لم تعتق. . . " فهذا متناقض مع ما قبله وبعده ¬
فالصحيح: لم يعتق (¬1). 5 - توسعه في كتاب الفرائض، وإن كان قد نبه على ذلك في المقدمة. 6 - وجود أخطاء في بعض الآيات. (¬2) ¬
المبحث العاشر الأبواب والفصول التي يتناولها التحقيق
المبحث العاشر الأبواب والفصول التي يتناولها التحقيق كتاب الوصايا، الفرائض، العتق، الكتابة، النكاح، الصداق، الخلع، الطلاق، الرجعة، الإيلاء، الظهار، اللعان، العدد، الرضاع، النفقات، الحضانة، الجنايات، شروط وجوب القصاص، الجراح فيها دون النفس، الديات، القسامة، الحدود، الزنا، القذف، القطع في السرقة، قطاع الطريق، البغاة، حكم المرتد، السحر، الأطعمة، الذكاة، الصيد، الأيمان، النذر، القضاء، شروط القاضي، آداب القاضي، طريق الحكم وصفته، القسمة، الدعاوى والبينات، الشهادات، اليمين في الدعاوى، الإقرار.
الفصل الثالث دراسة عشرين مسألة فقهة مقارنة تحدد بمعرفة المشرف
الفصل الثالث دراسة عشرين مسألة فقهة مقارنة تحدد بمعرفة المشرف نظرًا لطول الكتاب، ولضيق الوقت فقد تقدمت إلى عمادة المعهد العالي للقضاء طالبًا التخفيف فوافق مجلس المعهد -مشكورًا - على حذف هذا الفصل وهو دراسة العشرين مسألة.
(كتاب الوصايا)
(كتاب الوصايا) من وصيت الشي إذا وصلته؛ لأن الميت وصل ماكان في من أمر حياته بما بعده من أمر مماته، ووصى وأوصى بمعنى واحد. وهي لغة: الأمر (¬1)، قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} (¬2) وقال: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} (¬3). وشرعا: الأمر بالتصرف بعد الموت (¬4)؛ كوصيته إلى من يغسله، أو يصلي عليه، أو يتكلم على صغار أولاده، أو يزوج بناته ونحوه، والوصية بمال: التبرع به بعد الموت بخلاف الهبة (¬5). والوصية جائزة بالإجماع (¬6) لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية (¬7)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين ¬
إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه" متفق عليه (¬1)، ولا يشترط فيها القربة لصحتها لمرتد وحربي بدار حرب كالهبة. وتصح مطلقة ومقيدة ما دام عقله ثابتا ولو كان كافرا أو فاسقا أو امرأة أو قنا فيما عدا المال (¬2) أو أخرس بإشارة. وتصح من مميز بلفظ وبخط ثابت أنه خط موص، ويجب العمل بوصية ثبتت بشهادة أو إقرار ورثة ولو طالت مدتها ما لم يعلم رجوعه عنها، وعن أنس: "كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان أنه شهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللَّه يبعث من في القبور، وأوصى من ترك من أهله أن يتقوا اللَّه، ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا اللَّه ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب {يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬3) " رواه سعيد (¬4). ¬
(ويسن لمن ترك مالًا كثيرا عرفا) فلا يتقدر بشيء (الوصية بخمسه) أي المال روي عن أبي بكر وعلي -رضي اللَّه عنهما- قال أبو بكر: "رضيت بما رضي اللَّه تعالى لنفسه" (¬1) يعني في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (¬2). وتسن لقريب فقير غير وارث؛ لقوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} (¬3)، وكالصدقة عليهم في الحياة؛ لأنها صدقة وصلة رحم وإلا يكن له قريب فقير وترك خيرا فالمستحب أن يوصي لمسكين وعالم فقير ودين ونحوهم، (وتحرم الوصية ممن يرثه ¬
غير أحد الزوجين بأكثر من الثلث لأجنبي أو لوارث بشيء) مطلقا نصا (¬1)، سواء كانت في صحته أو مرضه، أما تحريم الوصية لغير وارث بزائد على الثلث فلقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لسعد حين قال: أوصي بمالي كله؟ قال: "لا، قال: فالشطر؟ قال: لا، قال: فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير" الحديث متفق عليه (¬2)، وأما تحريمها لوارث بشيء فلحديث: "إن اللَّه تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث"، رواه الخمسة إلا النسائي (¬3) من حديث عمرو بن خارجة (¬4)، (وتصح) هذه الوصية المحرمة (موقوفة على الإجازة) أي إجازة ¬
الورثة (¬1)؛ لحديث ابن عباس مرفوعًا: "لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة" رواه الدارقطني (¬2)، ولأن المنع لحق الورثة فإذا رضوا بإسقاطه نفذ، وتصح لولد وارثه، فإن قصد نفع الوارث لم يجز فيما بينه وبين اللَّه تعالى، ولو وصى لكل وارث بمعين من ماله بقدر إرثه صح، أجاز الورثة أولا (¬3)، وسواء كان ذلك في الصحة أو في المرض، أو وصى بوقف ثلثه على بعضهم صح مطلقا كما تقدم. (¬4) (وتكره) الوصية (من فقير وارثه محتاج) (¬5)، وتصح ممن لا وارث له مطلقا بجميع ماله، روي عن ابن مسعود (¬6)؛ لأن المنع من الزيادة على الثلث لحق الوارث ¬
وهو معدوم (¬1)، فلو ورثه زوج أو زوجة ورد الوصية بالكل بطلت في قدر فرضه من ثلثي المال، فيأخذ وصي الثلث، ثم يأخذ ذو الفرض فرضه من ثلثي المال، ثم تتم الوصية منهما، ويجب على من عليه حق بلا بينة ذكره. (فإن لم يف الثلث بالوصايا تحاصوا فيه) ودخل النقص على كل بقدر وصيته (كمسائل العول) (¬2)، وإن كان وصية بعضهم عتقا لتساويهم في الأصل وتفاوتهم في المقدار (¬3). (وتخرج الواجبات) أي يخرج وصي فوارث -جائز التصرف- فحاكم الواجبات (من دين) على ميت لآدمي أو للَّه تعالى، (و) من (حج) واجب، (و) من (زكاة)، ومن وصية بعتق في كفارة تخيير (من رأس المال) متعلق بتخرج (مطلقا)، ولو لم يوص به لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬4). (وتصح) الوصية (لعبده بمشاع) من ماله (كثلث) وربع، وتصح وصيته لعبده بنفسه ورقبته، (ويعتق) كله بقبوله إن خرج من الثلث، وإلا يخرج كله من الثلث عتق (منه بقدره) أي الثلث إن لم تجز الورثة عتق باقيه، (فإن) كانت الوصية بالثلث ¬
مثلا و (فضل) منه (شيء) بعد عتقه (أخذه)، فلو وصى له بالثلث وقيمته مائة وله سواه خمسمائة عتق وأخذ مائة؛ لأنها تمام الثلث الموصى به، ولا تصح لعبده بمعين لا يدخل هو فيه كدار وفرش وثوب، ولا تصح الوصية لعبد غيره؛ لأنه لا يملك (¬1). (و) تصح الوصية (بحمل) ولحمل (تحقق وجوده) حين الوصية (¬2) بأن تضعه أمه حيا لدون أربع سنين من الوصية إن لم تكن فراشا لزوج أو سيد، أو تضعه لأقل من ستة أشهر فراشا كانت أو لا من حين الوصية فتصح؛ لأنها تعليق على خروجه حيا، والوصية قابلة للتعليق بخلاف الهبة، فإن انفصل ميتا بطلت. وطفل من لم يميز وظاهره من ذكر وأنثى، وصبي وغلام ويافع ويتيم: من لم يبلغ، ولا يشمل اليتيم ولد زنا، ومراهق: من قارب البلوغ، وشاب وفتى: منه (¬3) إلى ثلاثين سنة، وكهل: منها إلى خمسين، وشيخ: منها إلى سبعين ثم هرم إلى آخر عمره. وإن وصى بشيء في أبواب البر صرف في القرب، ولو قال: ضع ثلثي حيث أراك اللَّه فله صرفه في أي جهة من جهات القرب، والأفضل صرفه إلى فقراء أقارب ¬
الموصي غير الوارثين، فإلى محارمه من الرضاع، فإلى جيرانه. وإن وصى أن يحج عنه بألف صرف الألف من الثلث إن كان الحج تطوعا في حجة بعد أخرى يدفع إلى كل (¬1) قدر ما يحج به حتى ينفد، وإن قال: يحج عني حجة بألف دفع الكل إلى من يحج به؛ لأنه مقتضى وصيته، فإن عينه فأبى بطلت في حقه ويحج عنه بأقل ما يمكن من نفقة مثله والبقية للورثة. ولو وصى بعتق نسمة بألف فاعتقوا نسمة بخمسمائة لزمهم عتق نسمة أخرى بخمسمائة؛ حيث احتمل الثلث الألف تنفيذا لوصيته. وإن وصى لأهل سكته فلأهل زقاقه (¬2) حال الوصية نصا (¬3)، ولجيرانه تناول أربعين دارا من كل جانب نصا (¬4)، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "الجار أربعون دارا هكذا وهكذا وهكذا وهكذا" (¬5) وجار المسجد من سمع أذانه، لقول علي في ¬
حديث: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد، قال: من سمع النداء" (¬1). وإن وصى لأقرب قرابته أو لأقرب الناس إليه أو لأقربهم رحما وله أب وابن أو له جد وأخ فهما سواء، والأخ لأبوين أحق من الأخ للأب فقط، والإناث كالذكور في القرابة، فالابن والبنت سواء، والأخ والأخت سواء، والأب أولى من ابن الابن، ومن الجد ومن الإخوة. و(لا) تصح الوصية (لكنيسة وبيت نار) أو مكان من أماكن الكفر سواء كانت ببنائه أو بشيء ينفق عليه؛ لأنه معصية، فلم تصح الوصية به، كوصيته بعبده أو أمته للفجور (وكتب التوراة والإنجيل ونحوهما) كالزبور والصحف، فلا تصح الوصية لها؛ لأنها منسوخة، وفيها تبدل، والاشتغال بها غير جائز (¬2)، وقد غضب ¬
النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين رأى مع عمر شيئًا مكتوبا من التوراة (¬1). ولا تصح الوصية لملك -بفتح اللام- واحد الملائكة ولا لميت؛ لأنهما لا يملكان (¬2). وتصح لفرس زيد ولو لم يقبله ويصرف في علفه، فإن مات الفرس فالباقي لورثة الموصي لتعذر صرفه إلى الموصى له. وإن وصى بثلثه لوارث ولأجنبي أو لكل منهما بشيء معين فرد الورثة فللأجنبي السدس في الأولى والمعين الموصى له به في الثانية لعدم المانع، وبطلت وصية الوارث لعدم إجازتها، وإن وصى لهما بثلثيه فرد الورثة نصفها وهو ما جاوز الثلث فالثلث بينهما؛ لأن الوارث يزاحم الأجنبي مع الإجازة، فإذا ردوا تعين أن يكون الباقي بينهما ذكره القاضي (¬3). ¬
ومن وصي له ولملك أو لحائط بالثلث فله الجميع نصا (¬1)؛ لأن من أشركه معه لا يملك، وإن وصى له وللَّه أو لرسوله فنصفان، وما للَّه أو لرسوله يصرف في المصالح العامة كالفيء. (وتصح) الوصية (بمجهول) كعبد وثوب؛ لأن الموصى له شبيه بالوارث من جهة انتقال شيء من التركة إليه مجانا، والجهالة لا تمنع الإرث فلا تمنع الوصية، ويعطى ما يقع عليه الاسم، فإن اختلف الاسم بالحقيقة الوضعية والعرف فتغلب الحقيقة على العرف؛ لأنها الأصل، ولهذا يحمل عليها كلام اللَّه تعالى وكلام رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فشاة وبعير وثور اسم لذكر وأنثى. ويشمل لفظ الشاة الضأن والمعز والصغير؛ لعموم حديث: "في أربعين شاة شاة" (¬2)، وسواء قال: وصيت بثلاث أو ثلاثة من غنمي أو إبلي أو بقري ونحوه؛ لأن اسم الجنس يذكر ويؤنث، وحصان وجمل وحمار وبغل وعبدلذكر ¬
فقط، وحجر بكسر الحاء وأتان (¬1) وناقة وبقرة للأنثى، وفرس ورقيق لهما، والدابة اسم لذكر وأنثى من خيل وبغال وحمير، ولم تغلب الحقيقة هنا؛ لأنها صارت مهجورة فيما عدا الأجناس الثلاثة، أشار إليه الحارثي (¬2)، لكن إن قرن به ما يصرفه إلى أحدها كدابة يقاتل عليها، أو يسهم لها انصرف إلى الخيل، أو دابة ينتفع بظهرها ونسلها خرج منه البغال؛ لأنه لا نسل لها. وتصح الوصية بـ (معدوم)؛ لأنه يجوز ملكه بالسلم والمضاربة والمساقاة (¬3) فجاز بالوصية، كوصيته بما تحمل أمته أو شجرته أبدا، أو مدة معينة، أو وصيته بمائة درهم لا يملكها، فإن حصل شيء مما وصى به أو قدر على المائة أو شيء منها عند موته فهو لموصى له بمقتضى الوصية مع الأجازة، أو إذا خرج من الثلث إلا حمل الأمة فله ¬
قيمته لئلا يفرق بين ذوي الرحم في الملك. وتصح الوصية بغير مال، ككلب مباح النفع، وكزيت متنجس لغير مسجد، ولا تصح بما لا نفع فيه مباح، كخمر وميتة ونحوهما، وتصح بمبهم كثوب ويعطى ما يقع عليه الاسم. (و) تصح الوصية (بما لا يقدر على تسيمه)، كآبق وشارد وطير بهواء وحمل ببطن ولبن بضرع؛ لإجراء الوصية مجرى الميراث، وهذه تورث عنه (¬1). (وما حدث) لموص (بعد الوصية) من مال (يدخل فيها) ولو بنصب أحبولة (¬2) قبل موته فيقع فيها صيد بعده فيدخل ثلث المال المستحدث فيها؛ لأنه ترثه ورثته، ويقضى منه دينه أشبه ما ملكه قبل الوصية. (وتبطل) الوصية (بتلف معين وصي به) قبل موت موص أو بعده قبل قبولها؛ لأن حق موصى له لم يتعلق بغير العين فإذا ذهبت زال حقه بخلاف إتلاف وارث أو غيره له إذا قبل موصى له، فإن على متلفه ضمانه له، وإن تلف المال كله بعد موص غير معين وصى به فهو لموصى له؛ لعدم تعلق حق الورثة به لتعيينه. (وإن وصى بمثل نصيب وارث معين) بالتسمية كقوله: ابني فلان أو بالإشارة كبنتي هذه أو بذكر نسبته منه كقوله: ابن من بني أو بنت من بناتي (فله) أي الموصى له (مثله) أي مثل نصيب ذلك الوارث بلا زيادة ولا نقصان، (مضموما إلى المسألة) أي مسألة الورثة لو لم تكن وصية. وإن وصى بمثل نصيب من لا يرث لمانع أو حجب فلا شيء لموصى له؛ لأنه لا ¬
نصيب له فمثله لا شيء له. (و) إن وصى (بمثل نصيب أحد ورثته) فـ (له مثل ما لأقلهم)، كمن له ابن وبنت فللموصى له مثل نصيب البنت لأنه المتيقن، فإن لم يكن له إلا بنت ووصى بمثل نصيبها فله نصف، ولها نصف، وإن وصى بضعف نصيب ابنه فللموصى له مثلاه؛ لقوله تعالى: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} (¬1) قال الأزهري (¬2): "الضعف: المثل فما فوقه" (¬3)، وإن وصى بضعفيه فله ثلاثة أمثاله، وبثلاثة أضعافه فله أربعة أمثاله (¬4) وهلم جرا. (و) إن وصى (بسهم من ماله) فـ (له) أي الموصى له بالسهم (السدس) بمنزلة سدس مفروض؛ لما روى ابن مسعود: "أن رجلًا أوصى لرجل بسهم من ¬
ماله، فأعطاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- السدس" (¬1)، ولأن السهم في كلام العرب السدس، قاله إياس بن معاوية (¬2)، فتنصرف الوصية إليه، ولأنه قول علي وابن مسعود ولا مخالف لهما من الصحابة (¬3)، ولأن السدس أقل سهم مفروض يرثه ذو قرابة فتنصرف الوصية إليه إن لم تكمل فروض المسألة كأم وبنتين مسألتهم من ستة، وترجع بالرد إلى خمسة ويزاد عليها السهم الموصى به فتصح من ستة للموصى له سهم وللأم سهم ولكل بنت ¬
سهمان، أو كان الورثة عصبة فله سدس كامل وإن كملت فروض المسألة كأبوين وبنتين أعيلت به وتصح من سبعة، وإن عالت المسألة بدون السهم الموصى به كأن خلف أما وأخوين منها وأختين لأب أعيل معها. وإن كانت الوصية بجزء معلوم كثلث وربع أخذ من مخرجه فيكون صحيحا، ويقسم الباقي على مسألة الورثة؛ لأنه حقهم، فإذا كان كله ابنان ووصى بثلثه صحت من ثلاثة أو له ثلاثة بنين ووصى بربعه صحت من أربعة ونحو ذلك، إلا أن يزيد الجزء الموصى به على الثلث ولم تجز الورثة الزائد فيفرض له الثلث وتقسم الثلثين على مسألة الورثة كما لو وصى له بالثلث فقط، وإن كانت بجزأين كثمن وتسع أخذا من مخرجهما سبعة عشر وتصح من اثنين وسبعين، ويقسم الباقي على المسألة، وهكذا لو كانت الوصية بأكثر من جزأين. (و) إن وصى له (بشيء أو) بـ (حظ أو) بـ (جزء) أو قسط أو نصيب فـ (يعطيه الوارث ما شاء) مما يتمول. قال في "المغني" (¬1): "ولا أعلم فيه خلافا؛ لأن كل شيء جزء ونصيب وحظ وشيء، وكذلك إن قال: أعطوا فلانا من مالي أو ارزقوه؛ لأن ذلك لا حد له في اللغة ولا في الشرع". ¬
(فصل) في الموصى إليه
(فصل) في الموصى إليه وهو المأذون له في التصرف بعد الموت في المال وغيره مما للموصي التصرف فيه حال الحياة، وتدخله النيابة بملكه وولايته الشرعية (¬1). ولا بأس بالدخول في الوصية (¬2) لفعل الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، فروي عن أبي عبيدة: "أنه لما عبر الفرات (¬3) أوصى إلى عمر" (¬4)، "وأوصى إلى الزبير ستة من الصحابة منهم عثمان وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف" (¬5)، وقياس قول ¬
أحمد أن عدم الدخول فيها أولى لما فيها من الخطر وهو لا يعدل بالسلامة شيئا (¬1). (ويصح الإيصاء إلى كل مسلم مكلف رشيد عدل) إجماعا (¬2) (ولو) كانت عدالته (ظاهرا) أو كان عاجزا، ويضم إليه قوي أمين، أو كان قنا، أو أم ولد، ولو كانا لموص لصحة استنابتهما في الحياة أشبها الحر، ويقبلان إن كانا لغير موص بإذن سيد؛ لأن منافعهما مملوكة لغيره. (و) يصح الإيصاء (من كافر إلى مسلم) إن لم تكن تركته خمرا أو خنزيرا ونحوهما. (و) يصح الإيصاء من كافر إلى كافر (عدل في دينه)؛ لأنه يلي على غيره بالنسب، فيلي بالوصية كالمسلم (¬3). وإن قال موص: ضع ثلثي حيث شئت، أو أعطه لمن شئت، أو تصدق به على من شئت لم يجز له أخذه ولا دفعه إلى أداربه الوارثين ولو كانوا فقراء؛ لأنه متهم في حقهم. قال الحارثي: "والمذهب جواز الدفع إلى الولد والوالد ونحوهم" (¬4) واختاره صاحب "المحرر" (¬5) لاندراجه تحت اللفظ، والتهمة لا أصل لها، فإن هذه ¬
العبارة تستعمل في الرضا بصرف الوصي إلى من يختاره كيف كان، ولا يجوز للوصي أيضا دفع الثلث إلى ورثة الموصي ولو كانوا فقراء؛ لأن الوصي نائب الميت فلم يكن له الدفع إلى من لا يدفع المستنيب إليه. (ولا يصح) الإيصاء (إلا في) تصرف (معلوم) ليعلم موصى إليه ما وصي به إليه ليتصرف فيه كما أمر (يملك الموصي فعله)؛ لأنه أصيل والوصي فرعه، ولا يملك الفرع مالا يملكه الأصل، كوصية في قضاء دين، وتفريق وصية، ورد أمانة، وغصب، ونظر في أمر غير مكلف من أولاده، وتزويج مولياته، ويقوم وصيه مقامه في الإجبار، ولا تصح الوصية باستيفاء دينه مع رشد وارثه وبلوغه لانتقال المال إلى من لا ولاية له عليه، ومن وصي في فعل شيء لم يصر وصيا في غيره. (ومن مات بمحل لا حاكم فيه ولا وصي) كمن مات ببرية (فلمسلم) حضر (حوز تركته وفعل الأصلح فيها من بيع) لما يراه منها كسريع الفساد؛ لأنه موضع ضرورة لحفظ مال المسلم عليه؛ إذ في تركه إتلاف له، (و) من (غيره) أي البيع لما لا يسرع فساده، (و) له (تجهيزه منها) أي تركته إن كانت (ومع عدمها) يجهزه (منه) أي من عنده (ويرجع عليها) أي تركته حيث وجدت، (أو على من تلزمه نفقته) -غير الزوج- إن لم تكن له تركة (إن نواه) أي الرجوع؛ لأنه قام عنه بواجب (أو استأذن) من كان عند ميت ببلد ولا شيء معه يجهز به (حاكما) في تجهيزه فله الرجوع على تركته إن كانت، أو على من تلزمه نفقته لئلا يمتنع الناس من فعله مع الحاجة إليه (¬1). ¬
(كتاب الفرائض)
(كتاب الفرائض) جمع فريضة بمعنى مفروضة، ولحقتها الهاء للنقل من المصدر إلى الاسم، كالحفيرة ونحوها، من الفرض بمعنى التوقيت، ومنه: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} (¬1)، أو الإنزال، ومنه: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} الآية (¬2)، أو الإحلال، قال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} (¬3)، أو بمعنى التقدير، ومنه: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (¬4)، وغير ذلك (¬5). وهي شرعا: العلم بقسمة المواريث، ومعرفة الحساب الموصل إلى قسمتها بين مستحقيها (¬6)، ويسمى القائم بهذا العلم العارف به: فارضا، وفريضا كعالم وعليم، وفرضيا بفتح الراء وسكونها (¬7)، وأجاز ابن الهائم (¬8) أن يقال: فرائضي ¬
أيضا، وإن قال جماعة: إنه خطأ. والفريضة شرعا: نصيب مقدر لمستحقه (¬1). وقد حث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على تعلم هذا العلم وتعليمه في جملة أحاديث، منها حديث ابن مسعود مرفوعًا: "تعلموا الفرائض، وعلموها الناس، فإني امرؤ (¬2) مقبوض، وإن الطلم سيقبض، وتظهر الفتن، حتى يختلف اثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما" رواه أحمد وغيره (¬3)، وعن أبي هريرة مرفوعا: "تعلموا الفرائض، وعلموها الناس، فإنها نصف العلم، وهو ينسى، وهو أول علم ينزع من أمتي" رواه ابن ماجة والدارقطني (¬4). ¬
(أسباب الإرث): -
(أسباب الإرث): - الأسباب: جمع سبب، وهو لغة: ما يتوصل به إلى غيره (¬1). واصطلاحا: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته (¬2). والإرث بمعنى الميراث والوراثة، وهو لغة: البقاء، وانتقال الشيء من قوم إلى آخرين (¬3). وشرعا: بمعنى التركة أي الحق المخلف عن ميت (¬4)، ويقال له: التراث، وتاؤه منقلبة عن واو. وأسباب الإرث ثلاثة متفق عليها (¬5): - أحدهما: (رحم) أي قرابة (¬6)، وهي الاتصال بين شخصين بالاشتراك في ولادة ¬
قريبة أو بعيدة، فيرث بها، لقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬1). (و) الثاني: (نكاح) أي عقد الزوجية الصحيح، وإن لم يحصل وطء ولا خلوة؛ لأنه تعالى ورث كلا من الزوجين من الآخر ولا موجب له سوى العقد الذي بينهما، فعلم أنه سبب الإرث، ويتوارث الزوجان في عدة الطلاق الرجعي بالاتفاق، قال في "المغني" (¬2): "بغير خلاف نعلمه، روي عن أبي بكر وعثمان وعلي وابن مسعود (¬3)، وذلك لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه" (¬4). (و) الثالث: (ولاء) بفتح الواو والمد، والمراد ولاء العتاقة، وهو عصوبة سببها نعمة العتق على رقيق؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما الولاء لمن أعتق" (¬5)، ولحديث ابن عمر مرفوعا: "الولاء لحمة كلحمة النسب" رواه ابن حبان في صحيحه ¬
والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد" (¬1) شبه الولاء بالنسب، والنسب يورث به، فكذا الولاء. ولا يورث بغير هذه الثلاثة نصا (¬2)، فلا إرث بالموالاة أي المؤاخاة والمعاقدة أي المحالفة، ولا بإسلامه على يديه ونحو ذلك، فيرث به المعتق وعصبته من عتيق ولا عكس (¬3). ¬
(وموانعه): -
(وموانعه): - أي الإرث جمع مانع، وهو لغة: الحائل (¬1). وشرعا: ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود، ولا عدم لذاته (¬2). وهي ثلاثة: (قتل) فلا يرث القاتل مكلف أو غيره، انفرد بقتل مورثه أو شارك فيه ولو بسبب كحفر نحو بئر أو نصب نحو سكين، أو وضع حجرا أو رش ماء إن لزمه قود أو دية أو كفارة، لحديث عمر: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ليس لقاتل شيء" رواه مالك في الموطأ وأحمد (¬3)، وعن ابن عباس مرفوعا: "من قتل ¬
قتيلا فإنه لا يرثه وإن لم يكن له وارث غيره، وإن كان والده أو ولده فليس لقاتل ميراث" رواه الإمام أحمد (¬1)، فلا ترث من الغرة من شربت دواء فأسقطت ولا من سقا ولده دواء أو أدبه أو فصده أو بط سلعته لحاجته فمات؛ لأنه قاتل، واختار الموفق (¬2) والشارح (¬3) أن من أدب ولده ونحوه أو فصد أوبط سلعته لحاجته يرثه (¬4)، وصوبه في "الإقناع" (¬5)؛ لأنه غير مضمون. ¬
وما لا يضمن بدية أو قود أو كفارة كالقتل لمورثه قصاصا أو حدا أو دفعا عن نفسه وقتل العادل الباغي وعكسه فلا يمنع الإرث؛ لأنه مأذون فيه، أشبه ما لو أطعمه أو سقاه باختياره فأفضى إلى تلفه (¬1). (و) الثاني من موانع الإرث: (رق) وهو: عجز حكمي يقوم بالإنسان بسبب الكفر (¬2)، وهو مانع من الجانبين فلا يرث الرقيق بجميع أنواعه (¬3)؛ لأنه لو ورث لكان لسيده وهو أجنبي من الميت، ولا يورث؛ لأنه لا ملك له ولو ملكه سيده، ويرث مبعض ويورث ويحجب بقدر جزئه الحر (¬4)، وهو قول علي (¬5) وابن مسعود (¬6)، لما روى عبد اللَّه ابن الإمام أحمد (¬7) بسنده عن ابن عباس مرفوعا قال في العبد يعتق بعضه: ¬
"يرث ويورث على قدر ما عتق منه" (¬1)، ولأنه يجب أن يثبت لكل بعض حكمه كما لو كان الآخر مثله، وقياسا لأحدهما على الآخر وكسبه يحزئه الحر، وإرثه به لورثته دون مالك باقيه، فابن نصفه حر ومعه أم وعم حران لو كان كامل الحرية كان للأم السدس وله الباقي ولا شيء للعم، فله نصف ماله لو كان حرا وهو ريع وسدس وللأم ربع؛ لأن الابن الحر يحجبها عن سدس، فنصفه الحر يحجبها عن نصف سدس، فلها سدس ونصف سدس، ومجموعهما ريع، والباقي وهو ثلث للعم تعصيبا، وتصح من اثنى عشر. (و) الثالث من الموانع: (اختلاف دين) فلا يرث مباين في دين، لحديث أسامة بن زيد مرفوعا: "لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر" متفق عليه (¬2) وعن عمرو بن شعيب (¬3) عن أبيه عن جده مرفوعا: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" رواه أبو ¬
داود (¬1)، وأجمعوا على أن الكافر لا يرث المسلم بغير الولاء، وجمهور العلماء على أن المسلم لا يرث أيضا بغير الولاء (¬2)، وروي عن عمر ومعاذ ومعاوية أنهم ورثوا المسلم من الكافر، ولم يورثوا الكافر من المسلم (¬3)، واختاره الشيخ تقي ¬
الدين (¬1)، وأما الولاء فيرث المسلم الكافر به وبالعكس، لحديث جابر مرفوعا: "لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته" رواه الدارقطني (¬2)، إلا إذا أسلم كافر قبل قسم ميراث مورثه المسلم فيرث منه نصا ولو مرتدا أو زوجة وأسلمت في عدة قبل قسم نصا (¬3)، روي عن عمر (¬4) وعثمان (¬5) والحسن بن علي (¬6) وابن ¬
مسعود (¬1)، لحديث: "من أسلم على شيء فهو له" رواه سعيد (¬2)، وعن ابن عباس مرفوعا: "كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه الإسلام فإنه على قسم الإسلام" رواه أبو داود وابن ماجة (¬3)، والحكمة فيه الترغيب في الإسلام ¬
(وأركانه)
والحث عليه، فإن قسم البعض دون البعض ورث مما بقي دون ما قسم. ولا يرث زوج أسلم قبل قسم الميراث لانقطاع علق الزوجية عنه بموتها بخلافها. ولا يرث من عتق بعد موت أبيه ونحوه قبل قسم ميراثه نصا (¬1). ويرث الكفار بعضهم بعضا ولو أن أحدهما ذمي والآخر حربي إن اتفقت أديانهم، وهم ملل شتى لا يتوارثون مع اختلافها، روي عن على (¬2) لحديث: "لا يتوارث أهل ملتين شتى" (¬3). (وأركانه): أي الإرث الموجبة له ثلاثة: - أحدها: (وارث) وهو الحي بعد المورث أو الملحق بالأحياء (¬4). (و) ثانيها: (مورث) وهو الميت أو الملحق بالأموات. (و) ثالثها: (مال موروث) بعد موت من كان له، فمن مات ولا وارث له أو له وارث ولا مال له فلا إرث. (وشروطه): أي الإرث ثلاثة أيضا: - أحدها: (تحقق موت مورث) مشاهدة أو ببينة أو حكما كمفقود، وهو من ¬
انقطع خبره إذا مضت المدة التي ينتظر فيها وحكم بموته قاض، فيرثه من كان وارثا عند الحكم دون من مات قبل الحكم أو صار وارثا بعده (¬1). (و) الشرط الثاني: (تحقق وجود وارث) بعد موت مورث ولو نطفة، وذلك بأن تضعه أمه لأقل من ستة أشهر فراشا كانت أو لا، فإن أتت به لأكثر من ستة أشهر وكان لها زوج يطاها أو سيد لم يوث ذلك الحمل لاحتمال تجدده بعد الموت إلا أن تقر به الورثة، وإن كانت لا توطأ لعدم زوج أو سيد أو غيبتهما ورث الحمل ما لم يتجاوز أكثر مدة الحمل وهى أربع سنين. (و) الشرط الثالث: (العلم بالجهة المقتضية للإرث) من قرابة أو زوجية أو ولاء، وتعين جهة القرابة من أبوة وبنوة وأمومة وأخوة وعمومة. (والورثة) ثلاثة: - (ذو فرض) أي نصيب مقدر شرعا لا يريد إلا بالرد ولا ينقص إلا بالعول. (و) الثاني: (عصبة) وهم من يرث بلا تقدير (¬2). (و) الثالث: (ذو رحم) وهم من يرث عند عدم العصبات وأصحاب الفروض غير الزوجين على ما يأتي بيانه (¬3). (فذووا الفروض) أي الأنصباء المقدرة ولو في بعض الصور كالأب والجد مع ذكورية الولد وإن سفل (عشرة: الزوجان) على البدلية، (والأبوان) مجتمعين ومتفرقين، (والجد، والجدة، والبنت، وبنت الابن، والأخت) لأبوين أو ¬
للأب، (وولد الأم) ذكرا كان أو أنثى. والإخوة لأبوين ذكورا كانوا أو إناثا يسمون بني الأعيان؛ لأنهم من عين واحدة، ولأب وحده بنى العلات (¬1) جمع علة بفتح العين المهملة وهى الضرة، فكأنه قيل: بنو الضرات، وللأم فقط بني الأخياف (¬2) بالخاء المعجمة -أي الأخلاط-؛ لأنهم من أخلاط الرجال وليسوا من رجل واحد. (والفروض المقدرة في كتاب اللَّه) تعالى (ستة)، والسابع ثبت بالاجتهاد، وهو ثلث الباقي كما يأتي (¬3). والفروض الستة، أحدها: (النصف، و) ثانيها: (الربع) وهو نصف النصف، (و) ثالثها: (الثمن، و) رابعها: (الثلثان، و) خامسها: (الثلث، و) سادسها: (السدس) ويقال: النصف والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما، وأخصر من ذلك أن يقال: الربع والثلث ونصف كل منهما وضعفه. (فالنصف فرض خمسة) عند انفراد كل منهم: - أحدهم: (الزوج إن لم يكن للزوجة ولد ولا ولد ابن) ذكرا كان أو أنثى، لقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ} (¬4). (و) الثاني: (البنت) عند انفرادها عن معصبها وهو أخوها كما ¬
سيذكره، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} (¬1). (و) الثالث: (بنت الابن) الواحدة عند فقد البنت فأكثر، وفقد الابن أيضا، وعند انفرادها عن معصب لها من أخ وابن عم قياسا على بنت الصلب؛ لأن ولد الولد كالولد إرثا وحجبا الذكر كالذكر والأنثى كالأنثى، فلذلك قال: (مع عدم ولد الصلب) في إرث كل منهما النصف، ومع عدم ابن الابن أيضا وبنت الابن فأكثر في إرث بنت الابن النصف كما تقدم آنفا. (و) الرابع: (الأخت لأبوين) وهي الشقيقة (عند عدم الولد، و) عند عدم (ولد الابن) ذكرا كان أو أنثى (¬2). (و) الخامس ممن يرث النصف: (الأخت للأب عند عدم الأشقاء) وعند عدم الولد وولد الابن، والأصل في إرث كل من الأختين النصف قبل الإجماع قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} (¬3)؛ لأنهم أجمعوا على أن الآية نزلت في الإخوة لأبوين والإخوة لأب دون الإخوة لأم (¬4). (والربع فرض اثنين): - أحدهما: (الزوج مع الولد أو ولد الابن) للزوجة سواء كان منه أو من ¬
غيره، لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} (¬1). (و) الثاني: (الزوجة) الواحدة (فأكثر) من زوجة إلى أربع (مع عدمهما) أي الولد وولد الابن من الزوج أو من غيره، لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ} (¬2). (والثمن فرض) صنف (واحد: وهو الزوجة فأكثر) إلى أربع (مع الولد أو لد الابن) ذكرا كان أو أنثى منها أو من غيرها. وولد البنت لا يحجب الزوج من النصف إلى الربع، ولا يحجب الزوجة من الربع إلى الثمن ولو ورث مع ذوى الأرحام؛ لأنه لم يدخل في مسمى الولد ولم ينزله الشرع منزلته، ومن قام به مانع من الأولاد أو غيرهم فوجوده كعدمه، فلا يحجب أحدا لا حرمانا ولا نقصانا. (والثلثان فرض أربعة) أصناف: - 1 - فرض (البنتين فأكثر) لقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (¬3)؛ ولأنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أمر بإعطاء ابنتي سعد الثلثين" وواه أبو داود وصححه الترمذي والحاكم (¬4) قياسا على الأختين، وشذ عن ابن عباس: أن البنتين فرضهما ¬
النصف (¬1) لظاهر الآية (¬2)، لكن قال الشريف الأرموي (¬3): "صح عن ابن عباس رجوعه عن ذلك فصار إجماعا" (¬4). 2 - (و) فرض (بنتي الابن فأكثر) مع عدم البنات قياسا على بنات الصلب. 3 - (و) فرض (الأختين لأبوين فأكثر) مع عدم البنات وبنات الابن، لقوله ¬
تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} (¬1). 4 - (و) فرض (الأختين لأب فأكثر) عند عدم البنات وبنات الابن والشقيقات للآية السابقة، أجمعوا على أنها في الإخوة لغير أم (¬2). (والثلث فرض اثنين): - 1 - فرض (ولدي الأم فأكثر يستوي فيه ذكرهم وأنثاهم) إجماعا (¬3) لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (¬4)، أجمعوا على أنها في الإخوة لأم، وقرأ ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص: {وله أخ أو أخت من أم} (¬5)، والكلالة: الورثة غير الأبوين والولدين نص عليه (¬6)، وهو قول الصديق (¬7)، وقيل: الميت الذي لا ولد له ¬
ولا والد، وروي عن عمر (¬1) وعلي وابن مسعود (¬2)، وقيل: قرابة الأم (¬3). 2 - (و) فرض (الأم حيث لا ولد ولا ولد ابن ولا عدد من الإخوة والأخوات) لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} (¬4) (لكن لها) أي الأم (ثلث الباقي) بعد فرض الزوج أو الزوجة (في العمريتين، وهما أبوان وزوج أو زوجة)، ويسميان بالغراوين (¬5) أيضا لشهرتهما، قضى بذلك عمر، وتبعه عليه عثمان وزيد بن ثابت وابن مسعود (¬6)، وبه قال ¬
الجمهور (¬1). وقال ابن عباس: "لها ثلث المال كله في المسألتين لظاهر الآية" (¬2)، والحجة معه لولا انعقاد الإجماع من الصحابة على خلافه (¬3)، ووجهه أنهما استويا في النسب المدلى به وهو الولادة، وامتاز الأب بالتعصيب بخلاف الجد. (والسدس فرض سبعة): - فرض (الأم مع الولد أو ولد الابن) ذكرا كان أو أنثى، (أو عدد من الإخوة والأخوات) مطلقا اثنان فأكثر. (و) الثاني: (الجدة) الواحدة (فأكثر) إلى ثلاث (مع تحاذ) كأم أم أم، وأم أم أب، وأم أبي أب. (و) الثالث: (بنت الابن فأكثر مع بنت الصلب) الواحدة فلبنت الصلب النصف ولبنت الابن فأكثر السدس تكملة الثلثين مع عدم معصب لها من أخ أو ابن عم ¬
في درجتها، لحديث ابن مسعود وقد سئل عن بنت وبنت ابن وأخت فقال: "أقضي فيها بما قضى به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت" رواه البخاري مختصرا (¬1). (و) الرابع ممن يرث السدس: (أخت فأكثر لأب مع أخت لأبوين)، فترث أخت الأبوين النصف كما تقدم، وللأخت لأب فأكثر السدس تكملة الثلثين. (و) الخامس ممن يرث السدس: (الأب مع الولد) للولد (أو ولد الابن) له. (و) السادس: (الجد كذلك) له السدس مع الولد أو ولد الابن. (و) السابع: (ولد الأم الواحد) (¬2) ذكرا كان أو أنثى، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (¬3) وأجمعوا على أن المراد بالأخ والأخت هنا ولد الأم، وقرأ ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص: وله أخ أو أخت من أم كما تقدم آنفا. ¬
(فصل): في ميراث الجد مع الإخوة
(فصل): في ميراث الجد مع الإخوة ذكورا كانوا أو إناثا، والجد أبو الأب لا يحجبه غير الأب، حكاه ابن المنذر إجماعا (¬1)، واختلف في الجد مع الإخوة أو الأخوات لأبوين أو لأب، وذهب الصديق وابن عباس وابن الزبير إلى أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات من جميع الجهات كالأب (¬2). وروي عن عثمان (¬3) وعائشة وأبي بن كعب (¬4) وجابر بن عبد اللَّه وأبي ¬
الطفيل وعبادة بن الصامت (¬1)، وهو مذهب أبي حنيفة (¬2). وذهب علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن مسعود إلى توريثهم معه ولا يحجبونهم به على اختلاف بينهم (¬3)، وهو مذهب مالك (¬4) والشافعي (¬5) وأحمد (¬6) وأبي يوسف ومحمد (¬7) لثبوت ¬
ميراثهم بالكتاب فلا يحجبون إلا بنص أو إجماع أو قياس ولم يوجد ذلك، ولتساويهم في سبب الاستحقاق، فإن الأخ والجد يدليان بالأب، الجد أبوه والأخ ابنه، وقرابة البنوة لا تنقص عن قرابة الأبوة بل ربما كانت أقوى، فإن الابن يسقط تعصيب الأب، ومذهب زيد بن ثابت رضى اللَّه عنه في الجد والإخوة هو ما ذهب إليه الإمام أحمد ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وآخرون، وبه قال أهل المدينة والشام، وهو ما أشير إليه لقوله: (والجد مع الإخوة والأخوات لأبوين أو لأب كأحدهم) ما لم يكن الثلث أحظ له من المقاسمة فيأخذه، والباقي للإخوة للذكر مثل حظ الأنثيين، (فإن لم يكن معه صاحب فرض فله خير أمرين المقاسمة أو) أخذ (ثلث جميع المال)، فإن كانت الأخوة دون مثليه فالمقاسمة خير له وذلك في خمس صور: 1 - جد وأخت. 2 - جد وأخ. 3 - جد وأختان. 4 - جد وأخ وأخت. 5 - جد وثلاث أخوات. وإن زادوا على مثليه فثلث أحظ له كجد وثلاثة إخوة أو خمس أخوات، ¬
ولا تنحصر صوره، وإن كانوا مثليه -وله ثلاث صور: جد وأخوان، جد وأربع أخوات، جد وأخ وأختان- استوى له الأمران، ولا ينقص الجد عن الثلث مع عدم ذي الفرض؛ لأنه إذا كان مع الأم أخذ مثلي ما تأخذه لأنها لا تزاد على الثلث، والإخوة لا ينقصون الأم عن السدس فوجب أن لا ينقصوا الجد عن ضعفه، (وإن كان) معه صاحب فرض (فله خير ثلاثة أمور: المقاسمة) لمن معه من الإخوة أو الأخوات كواحد منهم بعد أخذ ذي الفرض فرضه، (أو ثلث الباقي) من المال (بعد) أخذ (صاحب الفرض) فرضه، (أو) أخذ (سدس جميع المال)، ولا ينقص عنه؛ لأنه لا ينقص عنه مع الولد فمع غيره أولى، وأما ثلث الباقى إذا كان أحظ فلأن له ثلثا مع عدم الفروض فما أخذ من الفروض كأنه ذهب من المال فصار ثلث الباقي بمنزلة ثلث جميع المال، وأما المقاسمة فهي له مع عدم الفرض فكذا مع وجوده، ومتى زاد الإخوة عن اثنين أو من يعدلهم من الإناث فلا حظ له في المقاسمة، ومتى نقصوا عن ذلك فلا حظ له في ثلث الباقي، ومتى زادت الفروض عن النصف فلا حظ له في ثلث ما بقي، وإن نقصت عن النصف فلا حظ له في السدس، وإذا كان الفرض النصف فقط استوى ثلث الباقي والسدس، فزوجة وجد وأخت لأبوين أو لأب من أربعة: للزوجة الربع والباقى للجد والأخت أثلاثا له سهمان ولها سهم، وتسمى هذه المسألة مربعة الجماعة أي الصحابة أو العلماء لإجماعهم على أنها من أربعة وإن اختلفوا في كيفية القسمة (¬1)، (فإن لم يبق) بعد ذوى الفروض (غيره) أي السدس كبنتين وأم وجد وإخوة (أخذه) الجد (وسقطوا) أي الإخوة واحدا أو أكثر ذكرا أو أنثى، وإن بقى دون السدس كزوج وبنتين وجد وأخ فأكثر أعيل للجد بباقي ¬
السدس، وإن عالت بدونه كزوج وأم وبنتين وجد وأخ فأكثر زيد في العول، فتعول لخمسة عشر: للزوج ثلاثة، وللأم اثنان، وللبنتين ثمانية، وللجد اثنان، وسقط الأخ فأكثر، (إلا في) المسألة المسماة (بالأكدرية، وهي: زوج وأم وجد وأخت لأبوين أو لأب)، سميت بذلك لتكديرها أصول زيد حيث أعالها ولا عول في مسائل الجد والإخوة غيرها، وفرض للأخت مع الجد ولم يفرض لأخت مع جد ابتداء في غيرها، وجمع سهامه وسهامها فقسمها (¬1) بينهما ولا نظير لذلك، أو لتكدير زيد على الأخت نصيبها بإعطائها النصف واسترجاعه بعضه (¬2)، (فللزوج نصف، وللأم ثلث، وللجد سدس، وللأخت نصف، فتعول إلى تسعة)، ولم تحجب الأم عن الثلث؛ لأنه تعالى إنما حجبها عنه بالولد والإخوة، وليس ها ولد ولا إخوة، (ثم يقسم نصيب الجد والأخت بينهما وهو أربعة) من تسعة (على ثلاثة)؛ لأنها إنما تستحق معه بحكم المقاسمة، وإنما أعيل لها لئلا تسقط وليس في الفريضة من يسقطها، ولم يعصبها الجد ابتداء؛ لأنه ليس بعصبة مع هؤلاء بل يفرض له، ولو كان مكانها أخ لسقط لأنه عصبة بنفسه، والأربعة لا تنقسم على الثلاثة وتباينها فاضرب الثلاثة فى المسألة بعولها تسعة (فتصح من سبعة وعشرين): للزوج تسعة وهى ثلث المال، وللأم ستة وهي ثلث الباقي، وللأخت أربعة وهي ثلث باقي الباقي، وللجد ثمانية ¬
وهي الباقي، فيعايا بها فيقال: أربعة ورثوا مال ميت أخذ أحدهم ثلثه والثاني ثلث ما بقي والثالث ثلث باقي ما بقي والرابع ما بقي. (ولا يعول في مسائل الجد) والإخوة، (ولا يفرض لأخت معه) أي الجد (ابتداء إلا فيها) أي الأكدرية، واحترز بقوله ابتداء عن الفرض للأخت في مسائل المعادة، فإنما يفرض لها فيها بعد مقاسمة الجد فليس بمبتدإ، وإن لم يكن في المسألة زوج فللأم ثلث المال وما بقي فبين الجد والأخت على ثلاثة، سهمان للجد وسهم للأخت فأصلها من ثلاثة، ونصيب الجد والأخت يباينهما، وتصح من تسعة بضرب ثلاثة في ثلاثة، وتسمى الخرقاء لكثرة أقوال الصحابة فيها كأن الأقوال خرقتها، وتسمى أيضا المسبعة؛ لأن فيها سبعة أقوال، أحدها: ما ذكر وهو قول زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- (¬1) وليس هذا المختصر محلا لبسطها (¬2)، وتسمى ¬
المسدسة أيضا والمخمسة والمربعة والمثلثة والعثمانية والشعبية والحجاجية (¬1). (وإذا كان مع) الأخ (الشقيق ولد أب) أي أخ لأب فقط (عده على الجد) أي زاحمه به، وتسمى المعادة (¬2) إن احتاج الشقيق إليها؛ لأن الجد والد فإذا حجبه أخوان وارثان جاز أن يحجبه أخ وارث وأخ غير وارث كالأم، ولأن ولد الأب يحجبونه نقصانا إذا انفردوا فكذلك مع غيرهم كالأم، بخلاف ولد الأم فإن الجد يحجبهم، فمن مات عن جد وأخ شقيق وأخ لأب أخذ الجد منه الثلث (ثم أخذ) الأخ الشقيق (ما حصل له) أي لأخيه من أبيه؛ لأنه أقوى تعصيبا منه، فلا يرث معه شيئا كما لو انفرد عن الجد، فإن استغنى عن المعادة كجد وأخوين شقيقين وأخ فأكثر لأب فلا معادة؛ لأنه لا فائدة فيها. (وتأخذ أنثى) أي أخت (لأبوين) مع جد وولد أب فأكثر ذكرا أو أنثى (تمام فرضها) أي إلى النصف؛ لأنه لا يمكن أن تزاد عليه مع عصبة ويأخذ الجد الأحظ له على ما تقدم، (والبقية) بعد ما يأخذانه (لولد الأب) واحدا كان أو أكثر، ولا يتفق بقاء شيء لولد الأب بعد الجد والأخت لأبوين في مسألة فيها فرض غير السدس؛ لأنه ¬
لا فرض في المعادة إلا السدس أو الربع أو النصف، ومع الربع متى كانت المقاسمة أحظ له بقي للإخوة دون النصف فهو للأخت لأبوين، وإلا وجب أن يكون الربع للجد؛ لأنه ثلث الباقي، ولا يجوز أن ينقص عنه فيبقى للإخوة النصف فتأخذه الأخت لأبوين، وكذا بالأولى إذا كان الفرض النصف. وإذا لم يكن في مسائل المعادة فرض لم يفضل عن أخت لأبوين مع ولد أب وجد أكثر من السدس؛ لأن أدنى ما للجد إذا الثلث وللأخت النصف يبقى سدس وقد لا يبقى شيء، فجد وأخت لأبوين وأخت لأب المسألة من أربعة: له سهمان؛ لأن المقاسمة هنا أحظ له، ولكل أخت سهم، ثم تأخذ التي لأبوين ما سمي للتي للأب لتستكمل به فرضها وهو النصف كما لو كانتا مع بنت وأخذت البنت النصف فالباقي للأخت لأبوين دون التي لأب، وترجع المسألة بالاختصار إلى اثنين. فإن كان معهم أخ لأب استوى للجد المقاسمة والثلث فللجد ثلث فرضا أو مقاسمة وللأخت لأبوين نصف، ويبقى للأخ والأخت لأب سدس على ثلاثة عدد رؤوسهم لا يصح، فاضرب الثلاثة في أصل المسألة ستة فتصح من ثمانية عشر: للجد ستة، وللأخت لأبوين تسعة، وللأخ لأب سهمان، وللأخت سهم، وكذا لو كان بدل الأخ أختان لأب. وإن كان معهم أم أو جدة كان لها سدس ثلاثة من ثمانية عشر، وللجد ثلث الباقي خمسة، وللأخت لأبوين نصف تسعة، والباقي سهم لهما على ثلاثة لا يصح، فاضرب ثلاثة في ثمانية عشر فتصح من أربعة وخمسين: للأم تسعة، وللجد خمسة عشر، وللشقيقة سبعة وعشرون، وللأخ للأب سهمان، ولأخته سهم، هذا إن اعتبرت للجد فيها ثلث الباقي، فإن اعتبرت له المقاسمة فأصلها ستة عدد
رؤوسهم، للأم واحد يبقى خمسة، للجد والإخوة على ستة تباينها، فاضرب الستة في أصل المسألة ستة تبلغ ستة وثلاثين: للأم سدسها ستة، وللجد عشرة، وللأخت لأبوين ثمانية عشر، يبقى سهمان للأخ والأخت لأب على ثلاثة تباينهما، فاضرب ثلاثة في ستة ثلاثين تبلغ مائة وثمانية: للأم ثمانية عشر، وللجد ثلاثون، وللشقيقة أربعة وخمسون، وللأخ لأب أربعة، ولأخته سهمان، والأنصباء كلها متوافقة بالنصف فترد المسألة لنصفها ونصيب كل وارث لنصفه فترجع لما سبق، ولذلك تسمى مختصرة زيد (¬1). وإن كان معهم أخ آخر بأن كان الورثة أما أو جدة وجدا وأختا لأبوين وأخوين وأختا لأب صحت من تسعين؛ لأن للأم أو الجدة سدسا وهو ثلاثة من ثمانية عشر، وللجد ثلث الباقي خمسة، وللشقيقة النصف تسعة، يبقى لأولاد الأب واحد على خمسة لا يصح، فاضرب خمسة في ثمانية عشر تبلغ ما ذكر (¬2): للأم أو الجدة خمسة عشر، وللجد خمسة وعشرون، وللأخت لأبوين خمسة وأربعون، ولأولاد الأب خمسة لأنثاهم واحد ولكل ذكر اثنان، وتسمى تسعينية زيد؛ لأنه صححها من ذلك (¬3). وجد وأخت لأبوين وأخ لأب أصلها عدد رؤوسهم خمسة، للجد سهمان، ¬
وللأخت النصف سهمان ونصف، والباقي للأخ، فتنكسر على النصف، فاضرب مخرجه اثنين في خمسة فتصح من عشرة: للجد أربعة، وللشقيقة خمسة، وللأخ لأب واحد، وتسمى عشرية زيد. وإن كان بدل الأخ أختين لأب فهي عشرينية زيد (¬1) فللجد ثمانية، وللشقيقة عشرة، ولكل أخت لأب واحد. ومن الملقبات الفرضية اليتيمتان: وهما زوج وأخت لأبوين أو لأب تشبيها بالدرة اليتيمة إذ ليس لنا مسألة يورث فيها المال كله بفرضين متساويين غيرهما. ومن الملقبات المباهلة: وهي زوج وأم وأخت لأبوين أو لأب، لقول ابن عباس: "من شاء باهلته أن المسائل لا تعول، إن الذي أحصى رمل عالج عددا أعدل من أن يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث" (¬2)، ومعنى المباهلة: الملاعنة، وهذه أول فريضة عالت في الإسلام. ومن الملقبات أم الأرامل: وهي ثلاث زوجات وجدتان وأربع أخوات لأم وثمان أخوات لأبوين أو لأب لأنوثية جميع الورثة، وتسمى السبعة ¬
عشرية، والدينارية الصغرى إذا كانت التركة فيها سبعة عشر دينارا. (¬1) ¬
(فصل) فى الحجب
(فصل) فى الحجب وهو لغة: المانع مأخوذ من الحجاب، ومنه الحاجب؛ لأنه يمنع من أراد الدخول (¬1). والحجب ضربان: - 1 - حجب نقصان: كحجب الزوج من النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن ونحو ذلك. 2 - وحجب حرمان، وهو نوعان: - أحدهما: بالموانع الآتية. والثانى: حجب بالشخص. فحجب النقصان يدخل على جميع الورثة، وحجب الحرمان تارة يكون بالوصف كالرق والكفر فيمكن دخوله على جميع الورثة، وتارة يكون بالشخص فلا يدخل على خمسة، فلذلك قال: (حجب الحرمان) أى بالشخص (لا يدخل على الزوجين والأبوين والولد). (ويسقط الجد بالأب) حكى ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه من الصحابة فمن بعدهم (¬2). (و) يسقط (كل جد و) كل (ابن أبعد بأقرب) منه، فيسقط أبو أبي أب بأبي أب وابن ابن ابن بابن ابن وهكذا. ¬
(و) تسقط (كل جدة) من قبل الأم أو الأب (بأم)؛ لأن الجدات يرثن بالولادة فالأم أولى منهن بمباشرتها الولادة. (والقربى منهن) أى الجدات (تحجب البعدى مطلقا) ولو كانت من جهة الأم؛ لأنها جدة قربى فتحجب البعدى، ولأن الجدات أمهات يرثن ميراثا واحدا من جهة واحدة، فإذا اجتمعن فالميراث لأقربهن كالآباء والأبناء والإخوة والبنات. و(لا) يحجب (أب أمه أو أم أبيه) كالعم، روي عن عمر (¬1) وابن مسعود (¬2) وأبي موسى (¬3) وعمران بن حصين (¬4) وأبي ¬
الطفيل (¬1)، لحديث ابن مسعود: "أول جدة أطعمها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- السدس أم أب مع ابنها وابنها حي" رواه الترمذي (¬2)، ولأن الجدات أمهات يرثن ميراث الأم لا ميراث الأب فلا يحجبن به كأمهات الأم، وكذا الجد لا يحجب أم نفسه. (ولا يرث) من الجدات (إلا ثلاث: أم أم، وأم أب، وأم أبي أب وإن علون أمومة)، روي عن علي وزيد بن ثابت (¬3) وابن مسعود (¬4)، لحديث سعيد بن منصور في سننه عن ابن عيينة (¬5) عن منصور (¬6) عن إبراهيم ¬
النخعي (¬1): "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورث ثلاث جدات ثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم" (¬2)، وهو يدل على التحديد بثلاث فلا ميراث لأم أبي أم، ولا لأم أبي جد بأنفسهما فرضا؛ لأنهما من ذوي الأرحام بل يرثان بالتنزيل عند توريث ذوي الأرحام، وكذا كل جدة أدلت بذكر بين انثيين اتفاقا (¬3) أو أدلت بجد أعلى؛ لأن القرابة كلما بعدت ضعفت ¬
والجدودة جهة ضعيفة، (ولـ) جدة (ذات قرابتين مع) جدة (ذات قرابة) واحدة (ثلثا السدس) وللأخرى ثلثه؛ لأن ذات القرابتين شخص ذو قرابتين يرث بكل واحدة منهما منفردة لا يرجح بهما على غيره فوجب أن ترث بكل من القرابتين، كابن عم هو أخ لأم أو زوج بخلاف الأخ من الأبوين فإنه يرجح بقرابته على الأخ من الأب، ولا يجمع بين الترجيح بالقرابة الزائدة والتوريث بها، فإذا وجد أحدهما التفى الآخر، ولا ينبغي أن يخل بهما جميعا، وهنا قد انتفى الترجيح فيثبت التوريث، فلو تروج بنت عمته فأتت بولد فجدته أي المتزوج لأبيه بالنسبة إلى الولد الذي ولد بينهما أم أم أمه وأم أبي أبيه فترث معها أم أم أبيه ثلث السدس، وإن تزوج بنت خالته فجدته أم أمه بالنسبة إلى ولد تأتي به بنت خالته منه أم أم أم وأم أم أب فترث أم أبي أبيه معها ثلث السدس، ولا يمكن أن ترث جدة تدلي يحهة مع جدة ذات ثلاث جهات؛ لأنه لو تزوج هذا الولد بنت خالته فأتت منه بولد فهي بالنسبة إليه أم أم أم أم وأم أم أم أب وأم أم أبي أب، ولا ترث معها جدة غيرها؛ لأنا لا نورث أكثر من ثلاث جدات. (ويسقط ولد الأبوين) ذكرا كان أو أنثى بثلاثة: (بابن) وابنه (وإن نزل، و) بـ (أب) حكاه ابن المنذر إجماعا (¬1)؛ لأنه تعالى جعل إرثهم في الكلالة، وهي اسم لمن عدى الوالد والولد (¬2) (و) يسقط (ولد الأب بهؤلاء) الثلاثة (و) بـ (أخ لأبويه) لقوته بزيادة القرب، ولحديث علي أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قضى بالدين قبل الوصية، وأن ¬
أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه" رواه أحمد والترمذي من رواية الحارث عن علي (¬1)، ويسقط ولد الأب أيضا بالأخت الشقيقة إذا صارت عصبة مع البنت أو بنت الابن؛ لأنها تصير بمنزلة الأخ ¬
الشقيق، (و) يسقط (ابن أخ) لأبوين أو لأب (بهؤلاء) الخمسة المذكورين، (و) بـ (جد) بلا خلاف لأنه أقرب، (و) يسقط (ولد الأم) بأربعة: (بولد، وولد ابن وإن نزل، و) بـ (أب، و) بـ (أبيه) أي أب الأب وهو الجد (وإن علا)؛ لأنه تعالى شرط في إرث الإخوة لأم الكلالة، وهي في قول الجمهور من لم يخلف ولدا ولا والدا، والولد يشمل الذكر والأنثى وولد الابن كذلك، والوالد يشمل الأب والجد. (ومن لا يرث لمانع فيه لا يحجب) نصا (¬1) لا حرمانا ولا نقصانا، روي عن عمر (¬2) وعلي (¬3)، والمحجوب بالشخص يحجب نقصانا كالإخوة مججبون الأم من الثلث إلى السدس وإن كانوا محجوبين بالأب، وكل من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة إلا ولد الأم لا يحجبون بها بل يحجبونها من الثلث إلى السدس، وإلا أم الأب وأم الجد معهما وتقدم (¬4)، والأبوان والولدان والزوجان لا يحجبون (¬5) بالشخص وتقدم. (¬6) ¬
(فصل) في العصبة
(فصل) في العصبة جمع عاصب من العصب وهو الشد، ومنه عصابة الرأس والعصب؛ لأنه يشد الأعضاء، وعصابة القوم لاشتداد بعضهم ببعض، وقوله تعالى: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)} (¬1) أي شديد (¬2)، وتسمى الأقارب عصبة، لشدة الأزر (¬3). والعصبة اصطلاحا: من يرث بلا تقدير (¬4)، فلذلك قال: (والعصبة يأخذ ما أبقت الفروض) إن كان ثم صاحب فرض؛ لحديث: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" (¬5)، (وإن لم يبق شيء) بعد أصحاب الفروض (سقط مطلقا) العاصب؛ لمفهوم الحديث المذكور، (وإن انفرد أخذ جميع المال) تعصيبا لقوله تعالى: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} (¬6) وغير الأخ كالأخ (لكن للأب والجد (¬7) ثلاث حالات): - (فيرثان بالتعصيب فقط مع عدم الولد أو ولد الابن)، فيأخذان المال كله أو ¬
ما أبقت الفروض. (و) الحالة الثانية: يرثان (بالفرض فقط مع ذكوريته) أي الولد أو ولد الابن سدسا لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} (¬1). (و) الحالة الثالثة: يرثان (بالفرض والتعصيب مع أنوثيته) أي الولد أو ولد الابن كما لو مات عن بنت أو بنت ابن وأب أو جد فتأخذ البنت أو بنت الابن النصف والأب أو الجد السدس فرضا؛ للآية، وتأخذ البنت أو بنت الابن النصف ثلاثة، ثم يأخذ الأب أو الجد ما بقي إن بقي شيء، كما في المثال بالتعصيب؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألحقوا الفرائض بأهلها"، ولا يرث بفرض وتعصيب معا بسبب واحد إلا الأب والجد، وأما بسببين فكثير، من ذلك: زوج هو معتق، وأخ لأم هو ابن عم. ولا يرث أبعد بتعصيب مع أقرب. وأقرب العصبة ابن فابنه وإن نزل، فأب فأبوه وإن علا بمحض الذكور فيهما؛ لقوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}، فأخ لأبوين فأخ لأب لتساويهما في قرابة الأب، وترجح الشقيق بقرابة الأم، فابن أخ لأبوين، فابن أخ لأب وإن نزلا بمحض الذكور أيضا، ويسقط البعيد بالقريب، فأعمام لأبوين، فأعمام لأب، فأبناؤهم كذلك، فأعمام أب لأبوين، ثم لأب فأبناؤهم كذلك، فأعمام جد، فأبناؤهم كذلك، فيقدم مع استواء الدرجة من لأبوين على من لأب، ولا يرث بنو أب أعلى مع بني أب أقرب منه وإن نزلت ¬
درجتهم نصا (¬1)، لحديث: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" متفق عليه، وأولى هنا بمعنى أقرب لا بمعنى أحق (¬2)، وإلا لزم الإبهام والجهالة إذ لا يدرى من هو الأحق، فمن نكح امرأة ونكح أبوه بنتها وولد لكل منهما ابن فابن الأب عم لابن الابن؛ لأنه أخو أبيه لأبيه، وابن الابن خال لابن الأب؛ لأنه أخو أمه، فإذا مات ابن الابن وخلف خاله هذا فيرثه مع عم له خاله دون عمه؛ لأن خاله هذا ابن أخيه، وابن الأخ يحجب العم، ولو خلف الأب فيها أخا وابن ابنه هذا وهو أخو زوجته ورثه دون أخيه، فيعايا بها فيقال: ورثت زوجة ثمن المال وأخوها باقيه، وإن تزوج الأب امرأة وتزوج ابنه ابنتها فابن الأب عم ولد الابن وخاله. (وأخت) لأبوين أو لأب (فأكثر مع بنت) فأكثر (أو بنت ابن فأكثر) عصبة (يرثن ما فضل) بعد ذوي الفروض كالإخوة، لحديث ابن مسعود في بنت وبنت ابن وأخت حيث قال: "وللأخت ما بقي" (¬3)، فبنت وبنت ابن وأخت لأبوين أو لأب من ستة: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي للأخت، ولو كان ابنتان فأكثر وبنت ابن وأخت لغير أم فالمسألة من ثلاثة: للبنتين الثلثان، والباقي للأخت عصوبة، ولا شيء لبنت الابن لاستغراق البنات الثلثين، فإن كان معهن أم فلها السدس ويبقى للأخت سدس، فإن كان بدل الأم زوج فالمسألة من اثني عشر: ¬
للزوج الربع ثلاثة، وللبنتين الثلثان ثمانية، ويبقى للأخت نصف سدس تأخذه تعصيبا، وإن كان معهم أم عالت إلى ثلاثة عشر: للزوج ثلاثة، وللبنتين ثمانية، وللأم سهمان، وسقطت الأخت لاستغراق الفروض التركة، فإن اجتمع مع البنت فأكثر أو بنت الابن والأخت لأبوين ولد أب فالباقي للأخت لأبوين وسقط ولد الأب واحدا كان أو أكثر. وكذا تسقط كل بنت ابن نازلة فأكثر مع بنتي ابن أعلى منها إلا أن يكون معهن في درجتهن ذكر ولو غير أخيهن، أو أنزل منهن من بني الابن، سواء كمل الثلثان لمن في درجة واحدة أو العليا والتي تليها، وللذكر المعصب مثلا ما لأنثى، ولا يعصب ذات فرض أعلى منه بل له ما فضل، ولا يعصب من هي أنزل منه بل يحجبها لئلا تشاركه، والأبعد لا يشاركه الأقرب، فلو خلف خمس بنات ابن بعضهن أنزل من بعض لا ذكر معهن وأخا، فللعليا النصف وللتي تليها السدس وسقط سائرهن والباقي للأخ، وإن كان مع العليا أخوها أو ابن عمها فالمال بينهما على ثلاثة ويسقط سائرهن. (والابن وابنه والأخ لأبوين أو لأب يعصبون أخواتهم)، فيعصب الشقيق أخته الشقيقة، ويعصب الأخ لأب أخته لأب، (فلذكر) عصب أخواته من ابن أو ابنه أو أخ شقيق أو لأب (مثلا ما لأنثى) لعموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬1)، ولقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬2). ¬
تتمة: العصبة ثلاثة: -
تتمة: العصبة ثلاثة: - 1 - عاصب بنفسه. 2 - وعاصب بغيره. 3 - وعاصب مع غيره. فالعاصب بنفسه: جميع الذكور إلا الزوج والأخ لأم، وأما النساء فكلهن صاحبات فرض إلا المعتقة فإنها عصبة بالنفس أيضا. والعاصب بغيره أربع: البنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت للأب كل واحدة منهن مع أخيها، وتزيد بنت الابن عليهن بأنه يعصبها ابن ابن في درجتها مطلقا، ويعصبها ابن ابن أنزل منها إذا لم يكن لها شيء في الثلثين كما تقدم. والعاصب مع غيره: الأخوات الشقيقات أو لأب مع البنات أو بنات الابن وتقدم (¬1). (ومتى كان العاصب عما أو) كان (ابنه) أي ابن عم (أو) كان (ابن أخ) لأبوين أو لأب (انفرد بالإرث دون أخواته)؛ لأن أخوات هؤلاء من ذوي الأرحام، والعصبة تقدم على ذي الرحم بخلاف الابن وابنه والأخ لغير أم فيعصب أخواته كما تقدم. ومتى كان أحد بني عم زوجا، أخذ فرضه وشارك الباقين، أو كان أخا لأم أخذ فرضه وشارك الباقين المساوين له في العصوبة في الميراث بالعصوبة؛ لأنه يفرض له لو لم يرث بالتعصيب فلا يرجح به بخلاف الأخ لأبوين مع أخ لأب فإنه لا يفرض له بقرابة أمه فرجح بها، ولا يجتمع في إحدى القرابتين ترجيح وفرض، فامرأة ماتت عن بنت وزوج هو ابن عم، إرثها بينهما سوية، وإن تركت بنتين معه فالمال بينهم أثلاثا، ¬
وثلاثة إخوة لأبوين أحدهم زوج بنت عمهم، له ثلثا تركتها ولهما ثلثها. ويبدأ بذي فرض اجتمع مع عاصب فيعطى فرضه والباقي للعاصب، لقوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} (¬1)، ولحديث: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقى فلأولى رجل ذكر"، فإن لم يبق للعاصب شيء سقط لمفهوم الخبر، كزوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء أو لأب، فالمسألة من ستة: للزوج النصف ثلاثة، وللأم السدس واحد، وللإخوة للأم الثلث اثنان، وسقط باقيهم لاستغراق الفروض التركة، وتسمى هذه المسألة المشركة والحمارية (¬2)؛ لأنه يروى: "أن عمر أسقط ولد الأبوين فقال بعضهم أو بعض الصحابة: يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حمارا، أليست أمنا واحدة؟ فشرك بينهم" (¬3) وهو قول عثمان (¬4) وزيد بن ¬
ثابت (¬1) ومالك (¬2) والشافعي (¬3) وأسقطهم الإمام أحمد (¬4) وأبو حنيفة وأصحابه (¬5)، وروي عن علي (¬6) وابن مسعود (¬7) وأبي بن كعب وابن عباس (¬8) وأبي موسى (¬9) لقوله تعالى في الإخوة لأم: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (¬10)، فإذا شرك غيرهم معهم لم يأخذوا الثلث، ولحديث: "ألحقوا ¬
الفرائض بأهلها"، ومن شرك لم يلحق الفرائض بأهلها. قال العنبري (¬1): "القياس ما قال علي والاستحسان ما قال عمر". (¬2) ولو كان مكان الذكور أو الذكور والإناث أخوات لأبوين أو لأب عالت المسألة إلى عشرة لازدحام الفروض، للزوج النصف ثلاثة، وللأم السدس واحد، وللإخوة لأم الثلث اثنان، وللأخوات لأبوين أو لأب الثلثان أربعة. وتسمى هذه المسألة أم الفروخ -بالخاء المعجمة- لكثرة عولها. وتسمى أيضا الشريحية لحدوثها زمن القاضي شريح (¬3) -رحمه اللَّه تعالى- روي أن رجلا أتاه وهو قاض بالبصرة (¬4) فقال: ما نصيب الزوج من زوجته؟ قال: النصف مع غير ¬
الولد والربع معه، فقال: امرأتي ماتت وخلفتني وأمها وأختيها لأمها وأختيها لأبيها وأمها، فقال: لك إذا ثلاثة من عشرة، فخرج من عنده وهو يقول: لم أر كقاضيكم هذا لم يعطني نصفا ولا ثلثا، فكان شريح يقول له إذا لقيه: إذا رأيتني ذكرت حاكما جائرا وإذا رأيتك ذكرت رجلا فاجرا، إنك تكتم القضية وتشيع الفاحشة. (¬1) (وإن علمت عصبة النسب ورث المولى المعتق مطلقا) ذكرا كان أو أنثى لحديث: "الولاء لمن أعتق" متفق عليه (¬2)، وحديث: "الولاء لحمة كلحمة النسب" (¬3) والنسب يورث به فكذا الولاء، وأخر عنه لأن المشبه دون المشبه به، وروى سعيد بسنده: "كان لبنت حمزة مولى أعتقته فمات وترك ابنته ومولاته، فأعطى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ابنته النصف، وأعطى مولاته بنت حمزة النصف" (¬4)، (ثم عصبته) ¬
أي المولى المعتق (الذكور الأقرب فالأقرب كالنسب)، لحديث أحمد عن زياد بن أبي مريم (¬1): "أن امرأة أعتقت عبدا لها، ثم توفيت وتركت ابنا لها وأخاها، ثم توفي مولاها من بعدها، فأتى أخو المرأة وابنها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في ميراثه فقال عليه السلام: ميراثه لابن المرأة، فقال أخوها: يا رسول اللَّه! لو جر جريرة كانت علي، ويكون ميراثه لهذا! قال: نعم" (¬2)، ولأنهم يدلون بالمعتق والولاء مشبه بالنسب فأعطي حكمه، ثم مولى المولى كذلك، ثم عصبته الأقرب فالأقرب وهكذا، ثم إن عدم المولى وإن بعد رد على ذوي الفروض غير الزوجين، ثم إن عدم ذو الفرض فذوو الأرحام، ولا يرث المولى من أسفل وهو العتيق من حيث كونه عتيقا من معتقه لحديث: "إنما الولاء لمن أعتق". ¬
(فصل) في أصول المسائل
(فصل) في أصول المسائل أي المخارج التي تخرج منها فروضها. (أصول المسائل) جمع مسألة، مصدر سأل بمعنى مسؤولة (¬1)، (سبعة) بالاتفاق (¬2)؛ لأن الفروض القرآنية ستة: النصف والربع والثمن وهي نوع، والثلثان والثلث والسدس وهي نوع أيضا، ومخارجها مفردة خمسة لاتحاد مخرج الثلثين والثلث، فالنصف من اثنين، والثلث والثلثان من ثلاثة، والربع من أربعة، والسدس من ستة، والثمن من ثمانية، والربع مع الثلث أو الثلثين أو السدس من اثني عشر، والثمن مع السدس أو الثلثين أو معهما من أربعة وعشرين فصارت سبعة. (أربعة) منها (لا تعول وهي ما فيها فرض) واحد (أو فرضان من نوع) واحد (فنصفان)، كزوج وأخت لأبوين أو زوج وأخت لأب من اثنين مخرج النصف، ويسميان باليتيمتين تشبيها بالدرة اليتيمة كما تقدم (¬3)، (أو نصف والبقية) كزوج وأب أو أخ لغير أم أو عم أو ابنه كدلك (من اثنين) مخرج النصف للزوج واحد والباقي للعاصب، (وثلثان) والبقية من ثلاثة كبنتين وأخ لغير أم، (أو ثلث والبقية من ثلاثة) كأبوين، أو الثلثان والثلث كأختين لأم وأختين لغيرها من ثلاثة لاتحاد المخرجين، ¬
(وربع والبقية) كزوج وابن من أربعة نحرج الربع، (أو) ربع (مع النصف) والبقية كزوج وبنت وعم (من أربعة) لدخول نحرج النصف في نحرج الربع، (وثمن والبقية) كزوجة وابن من ثمانية مخرج الثمن، (أو) ثمن (مع النصف) والبقية كزوجة وبنت وعم (من ثمانية)، لدخول نحرج النصف في مخرج الثمن، فهذه الأصول الأربعة لا تزدحم فيها الفروض، إذ الأربعة والثمانية لا تكون إلا ناقصة أي فيها عاصب، والاثنان والثلاثة تارة يكونان كذلك، وتارة يكونان عادلتين. (وثلاثة) أصول وهي الباقية (تعول) أي يتصور فيها العول، يقال: عال الشيء إذا زاد أو غلب، قال في "القاموس" (¬1): "والفريضة عالت في الحساب زادت وارتفعت، وعلتها وأعلتها" (¬2). (وهي) أي الأصول الثلاثة التي تعول (ما فرضها نوعان فأكثر) كنصف مع ثلث أو ثلثين، وكربع وسدس أو ثلث أو ثلثين، وكثمن وثلثين وسدس، (فنصف مع ¬
ثلثين) كزوج وأختين لغير أم من ستة وتعول إلى سبعة، (أو) نصف مع (ثلث) كزوج وأم وعم من ستة، (أو) نصف مع (سدس) كزوج وأخ لأم وعم (من ستة) لتباين المخرجين في الأولتين ودخول مخرج النصف في مخرج السدس في الثالثة، وتصح من ستة بلا عول، كزوج وأم وأخوين لأم، للزوج الرفض ثلاثة، وللأم السدس واحد، وللأخوين لأم الثلث اثنان. وتسمى مسألة الإلزام، ومسألة المناقضة؛ لأن ابن عباس لا يحجب الأم عن الثلث إلى السدس إلا بثلاثة من الإخوة أو الأخوات (¬1)، ولا يرى العول ويرد النقص مع ازدحام الفروض على من يصير عصبة في بعض الأحوال بتعصيب ذكر لهن، وهن البنات والأخوات لغير أم، فألزم بهذه المسألة فإن أعطى الأم الثلث لكون الإخوة أقل من ثلاثة، وأعطى ولديها الثلث عالت المسألة وهو لا يراه، وإن أعطاها سدسا فقط ناقض مذهبه في حجبها بأقل من ثلاثة إخوة، وإن أعطاها ثلثا وأدخل النقص على ولديها فقد ناقض مذهبه في إدخال النقص على من لا يصير عصبة بحال. وتعول الستة إلى سبعة كزوج وأخت لغير أم وجدة أو ولد أم، للزوج النصف، وللأخت لغير أم النصف، وللجدة أو ولد الأم السدس، وكذا زوج وأختان لغير أم. ¬
وتعول إلى ثمانية كزوج وأم وأخت لغير أم، للزوج النصف ثلاثة، وللأم الثلث اثنان، وللأخت النصف ثلاثة. وتسمى المباهلة وتقدمت (¬1). وتعول إلى تسعة كزوج وولدي أم وأختين لغير أم للزوج النصف ثلاثة، ولولدي الأم الثلث اثنان، وللأختين الثلثان أربعة. وتسمى الغراء وتقدمت (¬2). (وتعول إلى عشرة) وهي ذات الفروخ وتقدمت (¬3)، فتعول الستة أربعا (شفعا ووترا) بخلاف الأصلين الآتيين فلا يعولان إلا وترا، ولا تعول الستة إلى أكثر من عشرة؛ لأنه لا يمكن فيها اجتماع أكثر من هذه الفروض، وإذا عالت إلى ثمانية أو تسعة أو عشرة لم يكن الميت فيها إلا امرأة إذ لا بد فيها من زوج. (وربع مع ثلثين) كزوج وبنتين وعم، وكزوجة وشقيقتين وعم من اثني عشر؛ لتباين المخرجين، (أو) ربع مع (ثلث) كزوجة وأم وأخ لغيرها من اثني عشر كما تقدم، (أو) ربع مع (سدس) كزوج وأم وابن أو زوجة، وجدة وعم (من اثني عشر)؛ لتوافق مخرج الربع والسدس بالنصف، وحاصل ضرب نصف إحداهما في الأخرى ما ذكر، وتصح بلا عول كزوجة وأم وأخ لأم وعم، للزوجة الربع ثلاثة، وللأم الثلث أربعة، ولولدها السدس اثنان، ويبقى للعاصب ثلاثة، وكذا زوج وأبوان وخمسة بنين، وكذا زوج وابنتان وأخت لغير أم. وتعول إلى ثلاثة عشر إذا كان مع الربع ثلثان وسدس أو نصف وثلث، كزوج وبنتين وأم، للزوج الربع ثلاثة، وللبنتين الثلثان ثمانية، وللأم السدس اثنان، ¬
وكزوجة وأخت لغير أم وولدي أم. وتعول إلى خمسة عشر إذا كان مع الربع ثلثان وسدسان أو ثلث كزوج وبنتين وأبوين، للزوج الربع ثلاثة، وللبنتين الثلثان ثمانية، ولكل من الأبوين السدس اثنان، وكذا وزوجة وأختان لغير أم وولد أم. (وتعول إلى سبعة عشر وترا) إذا كان مع الربع ثلثان وثلث وسدس، كثلاث زوجات وأربع أخوات لأم وثمان أخوات شقيقات أو لأب وجدتين، للزوجات الربع ثلاثة، لكل واحدة واحد، وللجدتين السدس، لكل واحدة واحد، وللأخوات لأم الثلث أربعة لكل واحدة واحد، وللأخوات لغيرها الثلثان ثمانية لكل واحدة واحد. وتسمى أم الأرامل، وأم الفروج -بالجيم- لأنوثية الجميع، ولو كانت التركة فيها سبعة عشر دينارا حصل لكل واحدة منهن دينارا. وتسمى السبعة عشرية والدينارية الصغرى (¬1)، وكذا زوجة وأم وأختان لها وأختان لغيرها وإنما تعول وترا فلا تعول شفعا ووترا كالستة، ولا تعول إلى أكثر من سبعة عشر ولا يكون الميت في العائلة إلى سبعة عشر إلا ذكرا. (وثمن مع سدس) كزوجة وأم وابن من أربعة وعشرين؛ لأن الثمن من ثمانية والسدس من ستة وهما متوافقان بالنصف، وحاصل ضرب أحدهما في نصف الآخر أربعة وعشرون، (أو) ثمن مع (ثلثين) كزوجة وبنتين وعم من أربعة وعشرين لتباين مخرج الثمن والثلثين، (أو) الثمن معـ (هما) أي مع الثلثين والسدس، كزوجة وابنتي ابن وأم وعم (من أربعة وعشرين) للتوافق بين مخرج السدس والثمن بالنصف مع دخول مخرج الثلثين في مخرج السدس، ولا يجتمع الثمن مع الثلث؛ لأن الثمن لا ¬
يكون إلا لزوجة مع فرع وارث، ولا يكون الثلث في مسألة فيها فرع وارث. وتصح الأربعة والعشرون بلا عول، كزوجة وبنتين وأم واثني عشر أخا وأخت لغير أم، للزوجة الثمن ثلاثة، وللبنتين الثلثان ستة عشر، وللأم السدس أربعة، يبقى واحد للإخوة والأخت على عدد رؤوسهم خمسة وعشرين لا ينقسم ولا يوافق، فتضرب خمسة وعشرين في أربعة وعشرين تصح من ستمائة، للزوجة خمسة وسبعون، وللبنتين أربعمائة، وللأم مائة، ويبقى للإخوة خمسة وعشرون لكل أخ سهمان وللأخت سهم. وتسمى الدينارية الكبرى (¬1) لما روي: "أن امرأة قالت لعلي: إن أخي من أبي وأمي مات وترك ستمائة دينار، وأتاني منه دينار واحد، فقال: لعل أخاك خلف من الورثة كذا وكذا قالت: نعم، قال: قد استوفيت حقك" (¬2). وتسمى الركابية والشاكية أيضا؛ لأنه يقال: أن المرأة أخذت بركاب علي وشكت إليه عند إرادته الركوب (¬3). (وتعول إلى سبعة وعشرين مرة واحدة) إذا كان فيها ثمن وثلثان وسدسان، كزوجة وبنتين أو بنتي ابن فأكثر وأبوين أو جد وجدة، للزوجة الثمن ثلاثة، ولكل من البنتين أو بنتي الابن فأكثر الثلثان ستة عشر، ولكل من الأبوين أو الجد والجدة السدس أربعة، ولا تعول الأربعة والعشرون إلى أكثر من سبعة وعشرين، ولا تكون الاثني عشر والأربعة والعشرون عادلتين أبدا، بل إما ناقصتان أو عائلتان. وتسمى ¬
هذه المسألة البخيلة لقلة عولها؛ لأنها لم تعل إلا مرة واحدة. وتسمى المنبرية (¬1)؛ لأن عليا -رضي اللَّه عنه- سئل عنها على المنبر وهو يخطب، ويروى أن صدر خطبته كان: "الحمد للَّه الذي يحكم بالحق قطعا، ويجزي كل نفس بما تسعى، وإليه المآب والرجعى، فسئل فقال: صار ثمنها تسعا، ومضى في خطبته" (¬2). ولا يكون الميت فيها إلا زوجا؛ لأن الثمن لا يكون إلا لزوجه فأكثر مع فرع وارث. (وإن فضل عن الفرض شيء) بأن لم تستغرق الفروض المال (ولا عصبة) معهم (رد) فاضل عن الفروض (على كل) ذي فرض من الورثة (بقدر فرضه)، كالغرماء يقتسمون مال المفلس بقدر ديونهم، واختلف في القول بالرد (¬3) روي عن ¬
عمر (¬1) وعلي (¬2) وابن عباس (¬3) وكذا عن ابن مسعود في الجملة (¬4)، وبه قال إمامنا (¬5) وأبو حنيفة وأصحابه (¬6)، وكذا الشافعي إن لم ينتظم بيت المال (¬7)، (ما عدا الزوجين) فلا يرد عليهما نصا (¬8)؛ لأنهما لا رحم لهما، وما ووي عن عثمان أنه رد ¬
على زوج (¬1) فلعله كان عصبة، أو ذا رحم، أو أعطاه من بيت المال لا على سبيل الميراث. فإن رد على واحد بأن لم يترك الميت إلا بنتا أو بنت ابن أو أما أو جدة ونحوهن أخذ ذلك الواحد الكل فرضا وردا؛ لأن تقدير الفروض شرع لمكان المزاحمة وقد زال. ويأخذ جماعة من جنس كبنات أو بنات ابن أو أخوات أو جدات بالسوية، كالعصبة من البنين ونحوهم. وإن اختلف جنسهم كبنت وبنت ابن أو أم أو جدة وليس فيهم أحد الزوجين فخذ عدد سهامه من أصل ستة؛ لأن الفروض كلها توجد في الستة إلا الربع والثمن وهما للزوجين ولا يرد عليهما، والسهام المأخوذة من أصل مسألتهم هي أصل مسألتهم كما في المسألة العائلة، فإن انكسر شيء من سهام فريق فأكثر عليه صححت المسألة وضربت جزء السهم في عدد السهام المأخوذة من الستة، ولا تضرب في الستة كما لا تضرب في أصل العائلة دون عولها. وأصول مسائل الرد التي ليس فيها أحد الزوجين أربعة: اثنان وثلاثة وأربعة وخمسة فجدة وأخ أو أخت لأم من اثنين؛ لأن لكل منهما السدس واحد من ستة، فالسدسان اثنان منها فيقسم المال بينهما نصفين فرضا وردا، فإن كانت الجدات فيها ثلاثا انكسر عليهن سهمهن فتضرب عددهن ثلاثة في اثنين تصح من ستة، لولد الأم ثلاثة، وللجدات ثلاثة لكل واحدة سهم، وأم وأخ أو أخت لأم من ثلاثة، للأم ¬
الثلث اثنان، من ستة ولولدها السدس واحد، فيقسم المال بينهما أثلاثا، وكذا أم وولداها. وأم وبنت أو بنت ابن من أربعة، للأم السدس واحد، وللبنت أو بنت الابن النصف ثلاثة، فيقسم المال بينهما أرباعا، للأم ربعه، وللبنت أو بنت الابن ثلاثة أرباعه. وأم وبنتان أو بنتا ابن أو أختان لغير أم من خمسة للأم السدس، والأخريين (¬1) الثلثان أربعة، فالمال بينهن على خمسة، للأم خمسه، وللأخريين (¬2) أربعة أخماسه، ولا تزيد مسائل الرد عليها؛ لأنها لو زادت سدسا آخر لكمل المال فلا رد. وإن كان من يرد عليه مع زوج أو زوجة، فإن كان شخصا واحدا أخذ الفاضل بعد فرض الزوجية وصحت من مسألة الزوجية. وإن كان اثنين فأكثر فإنه يقسم ما بقي بعد فرض أحد الزوجين على مسألة الرد كوصية مع إرث، فيبدأ بإعطاء أحد الزوجين فرضه والباقي لمن يرد عليه، فإن انقسم بلا كسر كزوجة وأم وأخوين لأم، لم يحتج لضرب وصحتا من مخرج فرض الزوجية، فللزوجة الربع واحد من أربعة، والباقي بين الأم وولديها أثلاثا؛ لأن مسألة الرد من ثلاثة كما تقدم والباقى ثلاثة، وكذا زوجة وأم وولد أم. وإن لا ينقسم الباقي بعد فرض أحد الزوجين على مسألة الرد ضربت مسألة الرد في مسألة الزوج أو الزوجة لعدم الموافقة إذ الباقى بعد فرض الزوجية إما واحد من اثنين إن كان الفرض نصفا والواحد يباين كل عدد، وإما ثلاثة إن كان ربعا، وهي ¬
تباين الاثنين والأربعة والخمسة، وإما سبعة إن كان ثمنا وهي مباينة لأصول الرد الأربعة، فإن احتاجت مسألة الرد لتصحيح وصححتها فيمكن أن تكون الموافقة بين ما صحت منه وما بقي، فلا تعارض بين ما في "شرح المنتهى" لمصنفه، أن الباقى بعد فرض الزوجية لا يكون إلا مباينا لمسألة الرد وبين ما في "الإقناع" (¬1) فما بلغ حاصل الضرب انتقلت إليه، وينحصر في خمسة أصول: - 1 - أربعة: كزوج وجدة وأخ لأم، مسألة الزوج من اثنين له واحد ويبقى واحد على اثنين مسألة الرد فتضرب مسألة الرد وهي اثنان في مسألة الزوج وهي اثنان فتصح من أربعة، ومن له شيء من مسألة الزوجية أخذه مضروبا في مسألة الرد، ومن له شيء من مسألة الرد أخذه مضروبا في الفاضل بعد فرض الزوجية، فللزوج اثنان، وللجدة سهم، وللأخ لأم سهم. 2 - وإن كان مكان زوج زوجة: فمسألة الزوجة من أربعة والباقي منها بعد فرض الزوجة ثلاثة على مسألة الرد اثنين تباينها، فتضرب مسألة الرد وهى اثنان في مسألة الزوجة وهي أريعة تكون ثمانية، للزوجة الربع اثنان، وللجدد ثلاثة، وللأخ للأم كذلك. 3 - وإن كان مكان الجدة أخت لأبوبن: فمسألة الرد من أربعة والباقي ثلاثة ¬
تباينها، فاضرب مسألة الرد أربعة في مسألة الزوجية أربعة تكون ستة عشر، للزوجة الربع أربعة، وللأخت لأبوين تسعة، وللأخ لأم ثلاثة. 4 - وإن كان مع الزوجة بنت وبنت ابن: فمسألة الزوجية من ثمانية والفاضل منها سبعة تباين مسألة الرد وهي أربعة، فاضربها في مسألة الزوجية تبلغ اثنين وثلاثين، للزوجة الثمن أربعة، وللبنت إحدى وعشرون، ولبنت الابن سبعة. 5 - وإن كان معهن جدة: فمسألة الرد من خمسة فاضربها في مسألة الزوجية تصح من أربعين، للزوجة الثمن خمسة، وللبنت إحدى وعشرون، ولبنت الابن سبعة، وللجدة سبعة. وإن شئت فصحح مسألة الرد وحدها ابتداء ثم زد عليها لفرض الزوجية للنصف مثل مسألة الرد؛ لأنها بقية مال ذهب نصفه، ففي زوج وجدة وأخ لأم مسألة الرد من اثنين فتزيد عليها اثنين للزوج تصير أربعة، ومنها تصح. وزد للربع ثلثا، لأنها بقية مال ذهب ربعه، كزوجة وأم وأخ لأم مسألة الرد من ثلاثة، فتزيد عديها للزوجة واحدا تصير أربعة ومنها تصح. وزد للثمن سبعا؛ لأنها بقية مال ذهب ثمنه، ففي زوجة وبنت وبنت ابن وجدة مسألة الرد من خمسة فتزيد عليها للزوجة خمسة أسباع وابسط الخمسة وخمسة أسباع تكن أربعين (¬1)، ومنه تصح للزوجة خمسة، وللبنت إحدى وعشرون، ولكل من بنت الابن والجدة سبعة سبعة. ¬
تتمة: -
تتمة: - تصحيح المسائل هو: تحصيل أقل عدد يخرج منه نصيب كل وارث صحيحا بلا كسر (¬1)، ويتوقف على أمرين: - 1 - معرفة أصل المسألة وقد تقدم (¬2). 2 - ومعرفة جزء السهم، وهو المذكور هنا. فإذا انكسر سهم فريق عليه ولم ينقسم قسمة صحيحة ضربت عدده إن باين سهامه في المسألة وعولها إن عالت، كزوج وخمسة أعمام أصل المسألة من اثنين، للزوج واحد يبقى للأعمام واحد يباين الخمسة عددهم فاضربها في اثنين تصح من عشرة، للزوج خمسة، ولكل عم سهم، أو ضربت وفقه إن وافقها بنصف، كأم وستة أعمام، أصل المسألة من ثلاثة، للأم واحد، وللأعمام الباقي اثنان على ستة لا ينقسم، ويوافق بالنصف فرد الستة لنصفها ثلاثة واضربها في أصل المسألة تصح من تسعة، أو وافقها بثلث، كزوجة وستة أعمام (¬3) الباقي للأعمام ثلاثة على ستة توافقها بالثلث فاضرب اثنين في أربعة تصح من ثمانية، وكذا لو وافقت بثمن أو عشر أو ثلث ثمن أو جزء من أحد عشر ويصير لواحد من انكسر عليهم ما لجماعتهم عند التباين أو وفقه عند التوافق. وإذا انكسر سهم على فريقين فأكثر كثلاث (¬4) فرق أو أربعة ولا يتجاوزها في ¬
الفرائض فانظر أولا بين كل فريق وسهامه وأثبت المباين بحاله ووفق الموافق ثم انظر بين المثبتات بالنسب الأربع وهي التماثل والتداخل والتوافق والتباين (¬1) وحصل أقل عدد ينقسم عليها، فإن تماثلت كزوجة وثلاثة إخوة لأم وثلاثة أعمام ضربت أحد المتماثلين في المسألة فتضرب هنا ثلاثة في اثني عشر بستة وثلاثين، للزوجة ثلاثة في ثلاثة بتسعة وللإخوة لأم أربعة في ثلاثة باثني عشر لكل واحد أربعة، وللأعمام خمسة في ثلاثة بخمسة عشر لكل عم خمسة. وإن تناسبت بأن كان الأقل منهما جزءا للأكثر، كنصفه وثلثه ونحو ذلك، ويقال لهما: المتداخلان -وجزء الشيء كسره الذي إذا سلط عليه أفناه- ضربت أكثر العددين في المسألة، ففي ثلاثة إخوة لأم وتسعة أعمام نصيب كل من الفريقين مباين لعدده وعدداهما متناسبان فاضرب التسعة في ثلاثة تصح من سبعة وعشرين للإخوة للأم تسعة لكل واحد ثلاثة وللأعمام ثمانية عشر لكل عم اثنان، وكذا إن كان الانكسار على ثلاث (¬2) فرق أو أربع (¬3) وتداخلت فتكتفي بأكثرها فهو جزء السهم فتضربه في المسألة بعولها إن عالت فما بلغ فمنه تصح، أو ضربت وفق أحد المتماثلين أو أكثر المتناسبين للحيز الثالث إن كان في أحدهما، ثم في المسألة وعولها إن عالت فما بلغ فمنه تصح، فالموافقة بين الثالث وأحد المتماثلين كأربع زوجات وثمان ¬
وأربعين شقيقة وأربع وعشرين أختا لأم، أصلها اثنا عشر وتعول إلى خمسة عشر فنصيب الزوجات يباينهن ونصيب الشقيقات يوافقهن بالثمن فردهن إلى وفقهن ستة، ونصيب الأخوات لأم يوافقهن بالربع فردهن إلى وفقهن ستة، ويتماثل معك عددان ستة وستة فتكتفي بأحدهما وتضرب وفقه في الأربعة باثني عشر ثم تضربها في المسألة وعولها خمسة عشر بمائة وثمانين، ومثال الموافقة بين الثالث وأكثر المتناسبين: أربع زوجات وثلاث شقيقات وستة أعمام، فنصيب الزوجات والشقيقات والأعمام كل يباينه فتبقيه بحاله، في كون معك عددان متناسبان ثلاثة وستة فتكتفي بالستة ثم تضرب وفقها في الأربعة وتتم العمل. وإن تباينت الأعداد ضربت بعض المتباين في بعض إلى آخره والحاصل في أصل المسألة، كجدتين وخمس بنات وثلاثة أعمام أصل المسألة من ستة للجدتين السدس واحد لا ينقسم عليهما ويباينهما وللبنات أربعة تباينها والباقي للأعمام واحد يباينهم، والأعداد الثلاثة أيضا متباينة فاضرب اثنين في خمسة والحاصل في ثلاثة تبلغ ثلاثين فهي جزء السهم فاضربه في الستة أصل المسألة تصح من مائة وثمانين، فمن له شيء من المسألة أخذه مضروبا في جزء السهم، فللجدتين واحد في ثلاثين بثلاثين لكل واحدة خمسة عشر، وللبنات أربعة في ثلاثين بمائة وعشرين لكل واحدة أربعة وعشرون، وللأعمام واحد في ثلاثين بثلاثين لكل عم عشرة. وإن توافقت الأعداد ضربت وفق أحد المتوافقين في كامل الآخر والحاصل في وفق اللآخر إن وافق، كأربعة وستة وعشرة فإنها توافق بالأنصاف أو كاثني عشر وثمانية عشر وعشرين فلك طريقان: -
أحدهما: طريقة الكوفيين (¬1) وهي أسهل، وهي أن توفق بين أي عددين شئت من غير أن تقف شيئا ثم تضرب وفق أحدهما في جميع الآخر، فما بلغ فاحفظه، ثم انظر بين المحفوظ وبين الثالث، فإن كان داخلا فيه أو مماثلا له لم تحتج إلى ضربه واجتزأت بالمحفوظ فهو جزء السهم، فاضربه في أصل المسألة فما بلغ منه تصح، وإن وافق الثالث المحفوظ ضربت وفقه، فما حصل فهو جزء السهم ثم اضربه في المسألة فما بلغ فمنه تصح، واقسم كما سبق، ففي أربع زوجات وتسع شقيقات واثني عشر عما: المسألة من اثني عشر وسهام كل فريق تباينه، وإذا نظرت بين التسعة واثني عشر فهما متوافقان بالثلث، فاضرب ثلثي أحدهما في الآخر بستة وثلاثين، وانظر بينه وبين عدد الزوجات تجد عدد الزوجات داخلا فيه، فالستة والثلاثون جزء السهم اضربه في اثني عشر أصل المسألة تصح من أربعمائة واثنين وثلاثين، فاقسمها للزوجات ثلاثة في ستة وثلاثين بمائة وثمانية لكل واحدة سبعة وعشرون، وللشقيقات ثمانية في ستة وثلاثين بمائتين وثمانية وثمانين لكل واحدة اثنان وثلاثون (¬2)، وللأعمام واحد في ستة وثلاثين لكل واحد ثلاثة، وإن تماثل عددان وباينهما ثالث كثلاث أخوات لأبوين وثلاث جدات وأربعة أعمام أو وافقهما الثالث كأربع زوجات وستة عشر أخا لأم وستة أعمام ضربت أحد المتماثلين في جميع الثالث إن باينهما كالمثال الأول، أو ضربت أحد المتماثلين في وفق الثالث إن كان موافقا كالمثال الثاني، فما بلغ فهو جزء السهم، فإذا أردت تتميم العمل ضربته في المسألة فما حصل صحت منه المسألة كما سبق، وإن تناسب اثنان وباينهما الثالث، كثلاث جدات وتسع بنات وخمسة ¬
أعمام أصل المسألة من ستة، للجدات السدس واحد على ثلاثة لا ينقسم ويباين، وللبنات الثلثان أربعة لا تنقسم وتباين، وللأعمام الباقي واحد على خمسة لا ينقسم ويباين، والثلاثة داخلة في التسعة والخمسة مباينة لهما ضربت أكثرهما وهو التسعة في جميع الثالث وهو خمسة يحصل خمسة وأربعون فهي جزء السهم، ثم اضربها في المسألة وهي ستة فتصح من مائتين وسبعين، للجدات خمسة وأربعون لكل واحدة خمسة عشر، وللبنات مائة وثمانون لكل واحدة عشرون، وللأعمام خمسة وأربعون لكل واحد تسعة، وإن توافق اثنان من أعداد الفرق وباينهما الثالث كأربعة وخمسة وستة ضربت وفق أحدهما في جميع الآخر ثم ضربت الحاصل في العدد الثالث المباين فالحاصل جزء السهم اضربه في أصل المسألة ثم اقسمه كما مر، وإن تباين الثلاثة فاضرب أحدهما في الآخر ثم اضرب الحاصل في الثالث فهو جزء السهم، كأربع زوجات وثلاث أخوات لغير أم وخمسة أعمام أصل المسألة اثنا عشر للزوجات ثلاثة على أربعة تباين، وللأخوات الثلثان ثمانية على ثلاثة لا تنقسم وتباين، وللأعمام الباقي واحد لا ينقسم ويباين، والأعداد الثلاثة متباينة وحاصل ضربها في بعضها ستون فهي جزء السهم تضرب في اثني عشر وتصح من سبعمائة وعشرين، للزوجات مائة وثمانون لكل واحدة خمسة وأربعون، وللأخوات أربعمائة وثمانون لكل واحدة مائة وستون، وللأعمام ستون لكل واحد اثنا عشر، وإن ماثل حاصل ضرب المتباينين الثالث كاثنين وثلاثة وستة فإن حاصل ضرب الاثنين في الثلاثة ستة وهي مماثلة للستة فتكتفي بها وتضربها في أصل المسألة، وإن وافق حاصل ضرب المتباينين الثالث كاثنين وثلاثة وتسعة إذا ضربت الاثنين في الثلاثة وقابلت بين الحاصل وبين التسعة وجدتهما متوافقين بالثلث، فرد أحدهما إلى ثلثه واضربه في كامل الآخر كما تقدم في
الصور كلها وتمم العمل على ما تقدم، وكذا لو انكسر على أربع فرق فتنظر بين اثنين منها وتحصل أقل عدد ينقسم على كل منهما ثم تنظر بين الحاصل والثالث، وتحصل أقل عدد ينقسم على كل منهما ثم تنظر بين الحاصل والرابع، وتحصل أقل عدد ينقسم على كل منهما ولا يتجاوزها في الفرائض بخلاف الوصايا وغيرها، وأقل عدد ينقسم على كل من عددين مثل أحدهما إن تماثلا وأكبرهما إن تداخلا ومسطح ضرب أحدهما في وفق الآخر إن توافقا أو في كله إن تباينا، فلو كان العددان خمسة وخمسة فأقل عدد ينقسم على كل منهما هو خمسة لتماثلهما، وأقل عدد ينقسم على كل من خمسة وعشرة هو العشرة لتداخلهما، وأقل عدد ينقسم على كل من ثمانية واثني عشر هو أربعة وعشرون حاصل ضرب ربع الاثني عشر في الثمانية أو ربع الثمانية في الاثني عشر لتوافقهما بالربع، وأقل عدد ينقسم على كل من خمسة وستة هو ثلاثون حاصل ضرب ستة في خمسة لتباينهما، وهذه طريقة الكوفيين وقدمها في "المغني" و"الشرح" وغيره (¬1). والثانية: طريقة البصريين (¬2) وهي أن تقف واحدا ويسمى الموقوف المطلق وتوفق بينه وبين الأخيرين فترد كلا منهما إلى وفقه، كما لو كان عندك اثنا عشر وثمانية عشر وعشرون، فتقف الاثني عشر وتنظر بينهما وبين الثمانية عشر، فترد الثمانية ¬
عشر لسدسها ثلاثة، ثم تنظر بينها وبين العشرين فتردها لربعها خمسة، ثم تنظر في الوفقين، فإن تباينا كما هنا ضربت أحدهما في الآخر، فتضرب الثلاثة في الخمسة تبلغ خمسة عشر، ثم في الموقوف وهو الاثنا عشر بمائة وثمانين، وإن كان بين الوفقين موافقة أيضا ضربت وفق أحدهما في الآخر ثم الحاصل في الموقوف، وإن كانا متناسبين ضربت أكبرهما في الموقوف، وإن كانا متماثلين ضربت أحدهما في الموقوف، وكذا لو وقفت الثمانية عشر في المثال أو العشرين وعملت ذلك العمل لحصل المقصود فلا يتعين واحد منها للإيقاف لحصول الغرض على كل تقدير. قال العلامة الشيخ منصور البهوتي (¬1) -رحمه اللَّه تعالى- في شرح الإقناع (¬2): "فتخصيصه في "الإنصاف" و"التنقيح" (¬3) الوقف بالاثني عشر لا يتأتى أيضا حتى على طريقة البصريين بل المنقول ¬
عنهم إيقاف الأكبر، لكن نوقش فيه بأن المطلوب حاصل على كل حال إلا أن يظهر له أثر باختصار العمل أو سهولته، ولذلك لم يتابعه في المنتهى، وإنما يتعين وقف معين منها إذا كان يوافق الآخرين وهما متباينان، كستة وأربعة وتسعة فتقف الستة فقط ويسمى الموقوف المقيد فتنظر بينه وبين الأربعة فتردها إلى اثنين، ثم بينه وبين التسعة فتردها إلى ثلاثة، ثم تضرب الاثنين في الثلاثة والحاصل في الستة بستة وثلاثين، وإن شئت اكتفيت بضرب المتباين كما هو أحد الوجهين في ذلك" انتهى (¬1). ¬
تتمة ثانية: -
تتمة ثانية: - في المناسخات: جمع مناسخة من النسخ بمعنى الإزالة، أو التغيير، أو النقل، يقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته، ونسخت الرياح الديار غيرتها، ونسخت الكتاب نقلت ما فيه (¬1). ومعناها اصطلاحا: أن يموت بعض ورثة الميت قبل قسم تركته (¬2). قال الشيخ منصور -رحمه اللَّه تعالى-: "وهذا الباب من عويص الفرائض، وما أحسن الاستعانة عليه بمعرفة رسالة الشباك لابن الهائم لأنه أضبط" انتهى (¬3). ولها ثلاث صور: - إحداها: أن يكون ورثة الميت الثاني يرثونه على حسب ميراثهم من الأول، مثل أن يكونوا عصبة لهما كالأولاد فيهم ذكر والإخوة والأعمام، فتقسم التركة بين من بقي من الورثة ولا تلتفت إلى الأول، كما لو مات شخص عن أربعة بنين وأربع بنات، ثم مات منهم واحد بعد آخر حتى بقي منهم ابن وبنت فاقسم المال بينهما أثلاثا، ولا تحتاج لعمل؛ لأنه تطويل بلاحاجة، وقد يتفق ذلك في أصحاب الفروض، كأن يموت عن أخوات ثم يموت بعضهن عمن بقي فيرثنه بالفرض والرد، وهذا هو ¬
الاختصار قبل العمل، وربما اختصرت المسائل بعد العمل والتصحيح بسبب الموافقة بين السهام، بأن كان بين جميع السهام موافقة بجزء ما فترد المسألة إلى وفقها ونصيب كل وارث إلى وفقه فإن كان للمسألة بعد تصحيحها كسر تتفق فيه جميع السهام، فترد المسألة إلى ذلك الكسر، وترد سهام كل وارث إليه ليكون أسهل في العمل، كزوجة وابن وبنت ماتت البنت عن أمها وأخيها، فالأولى من أربعة وعشرين، والثانية من ثلاثة، وسهام الميت سبعة لا تنقسم عليها ولا توافقها، فاضرب الثانية في الأولى تصح المسألتان من اثنين وسبعين، وتسمى الجامعة، للزوجة ستة عشر، وللابن ستة وخمسون، وتتفق سهامها بالأثمان فرد المسألة إلى ثمنها تسعة، ونصيب كل منهما إلى ثمنه فيكون للزوجة سهمان، وللابن سبعة، وقس على ذلك ما أشبهه. الصورة الثانية: أن يكون ما بعد الميت الأول من الموتى لا يرث بعضهم بعضا، كإخوة خلف كل واحد منهم بنيه فاجعل لكل واحد منهم مسألة واجعل مسائلهم كعدد انكسرت سهامهم وصححه على ما تقدم في تصحيح المسائل يحصل المطلوب، مثاله: رجل خلف أربعة بنين فمات أحدهم عن ابنين، ومات الثاني عن ثلاثة بنين، ومات الثالث عن أربعة بنين، ومات الرابع عن ستة بنين، فالمسألة الأولى من أربعة، ومسألة الابن الأول من اثنين، ومسألة الابن الثاني من ثلاثة، ومسألة الابن الثالث من أربعة، ومسألة الابن الرابع من ستة عدد البنين لكل منهم، فالحاصل من مسائل الورثة اثنان وثلاثة وأربعة وستة، فالاثنان تدخل في الأربعة، والثلاثة تدخل في الستة فأسقط الاثنين، والثلاثة يبقى أربعة وستة وهما متوافقان فاضرب وفق الأربعة في الستة تكن اثني عشر ثم تضربها في المسألة الأولى، وهي أربعة تكن ثمانية وأربعين لورثة كل ابن اثنا عشر حاصل من ضرب واحد في اثني عشر فلكل واحد من
ابني الابن الأول ستة، ولكل واحد من بني الابن الثاني أربعة، ولكل واحد من بني الابن الثالث ثلاثة، ولكل واحد من بني الابن الرابع سهمان، وهذا واضح؛ لأن كلا منهم يختص بتركة مورثه. الصورة الثالثة: ما عدا الصورتين السابقتين بأن كان بعضهم يرث بعضا ولا يرثون الثاني كالأول، فصحح المسألة الأولى للميت الأول كانه لم يمت أحد من ورثته، واعرف سهام الثاني، واعمل له مسألة أخرى وصححها، واقسم سهم الميت الثاني من الأولى على مسألته، فإن انقسم سهمه على مسألته صحتا مما صحت منه الأولى، كرجل خلف زوجة وبنتا وأخا لغير أم، ثم ماتت البنت عن زوج وبنت وعمها، فالأولى من ثمانية، للزوجة سهم، وللبنت أربعة، وللأخ ثلاثة، ومسألتها من أربعة للزوج سهم، وللبنت سهمان، وللعم الباقي سهم، والأربعة سهام اليتة منقسمة على الأربعة مسألتها فصحتا من ثمانية، لزوجة الأول سهم، ولزوج الثانية سهم، ولبنتها سهمان، وللأخ من المسألتين أربعة ثلاثة من الأولى وواحد من الثانية، وإلا ينقسم سهم الثاني من الأولى على مسألته، فإن وافقت سهامه مسألته بنحو ثلث أو نصف ونحوه ضربت وفق مسألته في جميع المسألة الأولى لتخرج بلا كسر، فما حصل يسمى الجامعة، ثم كل من له شيء من المسألة الأولى فهو مضروب في وفق الثانية، ومن له شيء من المسألة الثانية فهو مضروب في وفق سهام الميت الثاني، مثل: أن تكون الزوجة أما للبنت الميتة في المثال المذكور، فتصير مسألتها من اثني عشر؛ لأنها مخرج النصف والربع والسدس توافق مسألتها سهامها من الأولى وهي أربعة بالربع، فتضرب ربعها ثلاثة في المسألة الأولى وهي ثمانية تكن الجامعة أربعة وعشرين، للزوجة من الأولى واحد في وفق الثانية ثلاثة بثلاثة، ومن الثانية بكونها أما سهمان في وفق
سهام الميت وهو واحد باثنين يجتمع لها خمسة، وللأخ من الأولى ثلاثة في وفق الثانية ثلاثة بتسعة، ومن الثانية بكونه عما واحد في واحد فيجتمع له عشرة، ولزوج الثانية ثلاثة في واحد بثلاثة ولبنتها ستة في واحد بستة، ويمتحن العمل بجمع السهام، فإن ساوى الجامعة فالعمل صحيح وإلا فأعده، وإلا توافق سهام الثاني من الأولى مسألته بل باينتها ضربت المسألة الثانية في الأولى، فما حصل فهو الجامعة، ثم من له شيء من المسألة الأولى أخذه مضروبا في المسألة الثانية؛ لأنها جزء سهمها، ومن له شيء من المسألة الثانية أخذه مضروبا في سهام الميت الثاني؛ لأن ورثته إنما يرثون سهامه من الأولى، كان تخلف البنت -التي مات أبوها عنها وعن زوجة وأخ ثم ماتت- بنتين وزوجا وأما فإن مسألتها من اثني عشر وتعول إلى ثلاثة عشر، للبنتين ثمانية، وللزوج ثلاثة وللأم اثنان، وسهام البنت من مسألة أبيها أربعة تباين الثلاثة عشر فاضربها في المسألة الأولى وهي ثمانية تكن مائة وأريعة، للزوجة من الأولى واحد في ثلاثة عشر بثلاثة عشر ولها من الثانية اثنان مضروبان في سهام البنت من الأولى، وهي أربعة بثمانية يجتمع لها إحدى وعشرون، ولأخ الميت الأول ثلاثة في ثلاثة عشر بتسعة وثلاثين ولا شيء له من الثانية، ولزوج الثانية ثلاثة في أربعة باثني عشر ولبنتيها ثمانية في أربعة باثنين وثلاثين والاختبار بجمع السهام كما تقدم، وإن مات أيضا ثالث فأكثر قبل قسمة تركة الأول جمعت سهامه من المسألتين الأوليين فأكثر وعملت فيها كعملك في ثان مع أول، فتعمل له مسألة وتعرض سهامه مما قبلها عليها، فإما أن ينقسم أو يوافق أو يباين، فإن انقسم لم تحتج لضرب وإلا ضربت وفقها في الجامعة قبلها، وإن باينت سهامه مسألته ضربت مسألته في الجامعة قبلها فما بلغ فمنه تصح وتقسم كما تقدم، وهكذا تفعل في ميت بعد آخر حتى تنتهي، وإذا مات شخص عن
بنتين وأبويين، ثم ماتت إحدى (¬1) البنتين قبل قسم التركة سئل عن الميت الأول لاختلاف الحال بأنوثته وذكورته، فإن كان الميت الأول رجلا فالأب جد أبو أب فيرث في المسألة الثانية، ويصحان من أربعة وخمسين؛ لأن الأولى من ستة وسهام البنت منها اثنان ومسألتها من ثمانية عشر توافقها بالنصف فاضرب تسعة في ستة يحصل ما ذكر، للبنت الباقية من أبيها وأختها ثلاثة وعشرون، من الأولى (¬2) ثمانية عشر، ومن الثانية خمسة، وللأب من ابنه وبنت ابنه تسعة عشر تسعة من الأولى (¬3) وعشرة من الثانية، وللأم منها اثنا عشر تسعة من الأولى وثلاثة من الثانية، وإن كان الميت الأول أنثى فأبوه أبو أم لا يرث في الثانية واسأل عن الأخت الباقية هل هي شقيقة المتوفاة أو لأمها، فإن كانت شقيقة صحتا من اثني عشر؛ لأن الثانية إذا من أربعة؛ لأنها أخت شقيقة وجدة فيرد الباقي عليهما، وتوافق سهام الميتة بالنصف فتضرب اثنين في الأولى وهي ستة تبلغ ذلك للأب من الأولى واحد في اثنين باثنين ولا شيء له من الثانية، وللأم من المسألتين ثلاثة وللبنت منهما سبعة، وإن كانت أختا لأم صحت المسألتان من ستة؛ لأن الثانية من اثنين للرد وسهامها من الأولى اثنان منقسمة عليها، وتسمى هذه المسألة المأمونية؛ لأن المأمون (¬4) امتحن ¬
بها يحيى بن أكثم (¬1) -بالثاء المثلثة- لما أراد أن يوليه القضاء فقال له: الميت الأول ذكر أو أنثى فعلم أنه قد عرفها فقال: إذا عرفت التفصيل فقد عرفت الجواب وولاه (¬2). ¬
تنبيه: -
تنبيه: - قسم التركات (¬1): هو ثمرة علم الفرائض وينبني على الأعداد الأربعة المتناسبة التي نسبة أولها إلى ثانيها كنسبة ثالثها إلى رابعها كالاثنين والأربعة والثلاثة والستة فنسبة الاثنين إلى الأربعة كنسبة الثلاثة إلى الستة، وكذلك نسبة نصيب كل وارث من المسألة إليها كنسبة ماله من التركة إليها، وهذه الأعداد الأربعة أصل كبير في استخراج المجهولات، وإذا جهل أحدها ففي استخراجه طرق: - 1 - أحدها: طريق النسبة، وقد أشار إليها بقوله: (وإذا كانت التركة معلومة) وصحت المسألة على ما تقدم (¬2) (وأمكن نسبة سهم كل وارث من المسألة) إلى المسألة (فله) أي للوارث (من التركة مثل نسبته) أي نسبة سهمه إلى المسألة، فلو ماتت امرأة عن زوج وأبوين وابنتين وتركت مائة دينار فالمسألة من خمسة عشر، ليزوج منها ثلاثة، وهي خمس المسألة فله خمس التركة عشرون دينارا، ولكل واحد من الأبوين اثنان من الخمسة عشر وهما ثلثا خمسها فلكل منهما ثلثا خمس التركة ثلاثة عشر دينارا وثلث دينار، ولكل واحدة من البنتين ستة وعشرون دينارا وثلثا دينار، وهذه أحسن الطرق حيث سهلت. 2 - الثانية من الطرق: ما أشار إليها بقوله: (وإن شئت ضربت سهامه) أي كل وارث (في التركة، وقسمت الحاصل على المسألة، فما خرج فنصيبه)، ففي المثال: للزوج ثلاثة تضربها في التركة مائة بثلاثمائة وتقسمها على المسألة خمسة عشر ¬
يخرج له عشرون، ولكل من الأبوين اثنان تضريهما في مائة بمائتين وتقسمها على الخمسة عشر يخرج لكل واحد ثلاثة عشر وثلث، وتضرب لكل من البنتين أربعة في مائة بأربعمائة تقسمها على الخمسة عشر يخرج ستة وعشرون دينارا وثلثا دينار وهو ما لكل واحدة منهما، وعلى ذلك فقس. 3 - (وإن شئت قسمته) سهم ذلك الميت لورثته (على غير ذلك) المذكور (من الطرق) كأن تقسم التركة على المسألة ففى المثال: تقسم المائة على الخمسة عشر أو تقسم وفقها على وفق المسألة كأن تقسم خمس التركة وهو عشرون على خمس الخمسة عشر وهو ثلاثة فيخرج على التقديرين ستة وثلثان وتضرب الخارج بالقسمة في سهم كل وارث يخرج حقه فاضرب للزوج ثلاثة في ستة وثلثين يحصل له عشرون دينارا، ولكل من الأبوين اثنين في ستة وثلثين بثلاثة عشر دينارا، وثلث دينار، ولكل من البنتين أربعة في ستة وثلثين بستة وعشرين دينارا وثلثي دينار. 4 - وإن عكست فقسمت المسألة على التركة أو نسبتها منها إن كان أقل كالمثال فنسبة الخمسة عشر إلى المائة عشر ونصف عشر وقسمت على ما خرج بالقسمة نصيب كل وارث من المسألة بعد بسطه من جنس الخارج إن خرج كسر خرج حقه، ففي المثال مخرج العشر ونصفه عشرون بعد بسط نصف العشر، فاضرب نصيب الزوج في عشرين بستين واقسمها على ثلاثة يخرج له كما سبق، ولكل من الأبويين اثنان في عشرين بأربعين واقسمها على ثلاثة يحصل له كما سبق، ولكل من البنتين أربعة في عشرين بثمانين اقسمها على ثلاثة يحصل لها كما تقدم. 5 - وإن شئت قسمت التركة في المناسخات على المسألة الأولى ثم تقسم نصيب الميت الثاني من الأولى على مسألته، وهكذا الثالث والرابع حتى ينتهي.
6 - وإن قسمت على قراريط (¬1) الدينار فاجعل عددها كتركة معلومة واعمل على ما ذكر، ومخرج القيراط في عرف أهل مصر والشام وأكثر البلاد أربعة وعشرون فاجعلها كأنها التركة واقسم على ما سبق، وأي عدد أردت قيراطه فاقسمه على أربعة وعشرين فالخارج قيراطه وتجمع تركة هي جزء من عقار كثلث وربع وخمس ونحو ذلك من قراريط الدينار وتقسم كما ذكر، ففي زوج وأم وأخت لغير أم والتركة ثلث وربع من دار أو عقار، فإذا جمعتها من قراريط الدينار كانت أربعة عشر قيراطا فتقسمها على ما سبق كأنها دنانير، فبطريق النسبة للزوج ثلاثة من ثمانية هي ربعها وثمنها، فله ربع الأربعة عشر وثمنها وهو خمسة قراريط وربع قيراط، وللأخت مثله، وللأم اثنان من ثمانية هما ربعها فلها ربع الأربعة عشر وهي ثلاثة قراريط ونصف قيراط. 7 - وإن شئت أخذت الأجزاء من مخرجها وقسمتها على المسألة، فإن انقسمت بلا ضرب قسمتها عليها، كزوج وأم وثلاث أخوات متفرقات والتركة ربع عقار وخمسه تعول المسألة إلى تسعة، للزوج ثلاثة، وللشقيقة مثله، ولكل واحدة من الباقيات سهم، ومخرج سهام العقار عشرون من ضرب بعضها في بعض، والموروث منها تسعة وهي ربع العشرين وخمسها منقسمة على المسألة، فللزوج عشر العقار ونصف عشره وللشقيقة مثله، ولكل واحدة من الباقيات نصف عشره، وإن لم تنقسم السهام على المسألة وافقت بينها وبين المسألة وضربت وفقها عند التوافق وكلها ¬
عند التباين في مخرج سهام العقار، ثم كل من له شيء من المسألة فهو مضروب في السهام الموروثة من العقار عند التباين، أو مضروب في وفقها عند التوافق، فما كان له من ذلك فانسبه من المبلغ، فما خرج فهو نصيبه. مثال التباين: زوج وأم وأخت لغيرها والتركة ثلث دار وربعها، المسألة من ثمانية وبسط الثلث والربع من اثني عشر مخرجهما سبعة تباين الثمانية، فاضرب الثمانية في المخرج اثني عشر يحصل ستة وتسعون، للزوج من المسألة ثلاثة فاضربها في سبعة بأحد وعشرين فانسبها إلى الستة والتسعين تكن ثمنا وثلاثة أرباع ثمن فله ثمن الدار وثلاثة أرباع ثمنها، وللأخت مثله، وللأم اثنان من المسألة في سبعة بأربعة عشر وهي ثمن الستة والتسعين وسدس ثمنها فلها من الدار ثمنها وسدس ثمنها، ومثال الموافقة: زوج وأبوان وابنتان والتركة ربع دار وخمسها، فالمسألة من خمسة عشر كما تقدم، ومخرج الربع والخمس عشرون وبسطهما منه تسعة وهي السهام الموروثة، وتوافق المسألة في الثلث فرد المسألة إلى ثلثها خمسة واضربه في المخرج وهو عشرون تكن مائة، وتمم العمل على ما سبق، فللزوج من المسألة ثلاثة في ثلاثة وفق سهام الدار تبلغ تسعة انسبها إلى المائة تكن تسعة أعشار عشرها فله تسعة أعشار عشر الدار، ولكل من الأبوين سهمان في ثلاثة بستة فانسبها إلى المائة فله ثلاثة أخماس عشر الدار، ولكل بنت أربعة في ثلاثة باثني عشر فلها عشر الدار وخمس عشرها، وإن قال بعض الورثة: لا حاجة لي بالميراث اقتسم بقية الورثة وأوقفوا سهمه نصا لدخوله في ملكه قهرا (¬1). ¬
(فصل في ذوي الأرحام)
(فصل في ذوي الأرحام) جمع رحم وهو القرابة (¬1)، وهم هنا (¬2) كل قرابة ليس بذي فرض ولا عصبة (¬3) كالعمة والجد لأم والخال، وبتوريثهم قال عمر (¬4) وعلي (¬5) وأبو عبيدة ابن الجراح (¬6) ومعاذ بن جبل (¬7) وأبو الدرداء (¬8)، لقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ ¬
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (¬1) وروى أحمد بسنده عن سهل بن حنيف (¬2): أن رجلا رمى رجلا بسهم فقتله ولم يترك إلا خالا، فكتب فيه أبو عبيدة إلى عمر، فكتب إليه عمر أني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "الخال وارث من لا وارث له" وحسنه الترمذي (¬3)، ولأبي داود عن المقدام (¬4) مرفوعا: "الخال وارث من لا وارث ¬
له، يعقل عنه ويرثه" (¬1). (وهم) أي ذوي الأرحام (أحد عشر صنفا): - أحدها: (ولد البنات لصلب أو لابن). (و) الثاني: (ولد الأخوات) لأبوين أو لأب. (و) الثالث: (بنات الإخوة) لأبوين أو لأب. (و) الرابع: (بنات الأعمام) لأبوين أو لأب أو لأم. (و) الخامس: (ولد ولد الأم) ذكرا كان أو أنثى. (و) السادس: (العم لأم) سواء كان عم الميت أو عم أبيه أو جده وإن علا. (و) السابع: العمات لأبوين أو لأب أو لأم سواء عمات الأب أو عمات أبيه أو جده. (و) الثامن: (الأخوال والخالات) للميت أو لأبويه أو أجداده أو جداته. (و) التاسع: (أبو الأم) وأبوه وإن علا. (و) العاشر: (كل جدة أدلت بأب بين أمين) كام أبي الأم، (أو) أدلت (بأب ¬
أعلى من الجد) كأم أبي الجد وإن علا. (و) الحادي عشر: (من أدلى بهم) أي بواحد من صنف ممن سبق كعمة العمة أو العم، وخالة العمة أو الخال، أو أخي أبي الأم وعمه وخاله ونحوهم، (وإنما يرثون إذا لم يكن) ثم (صاحب فرض ولا عصبة)، فيرثون (بتنزيلهم منزلة من أدلوا به)، فينزل كل منهم منزلة من أدلى به من الورثة بدرجة أو درجات حتى يصل إلى من يرث فيأخذ ميراثه، فولد بنت لصلب أو لابن وولد أخت كأم كل منهم، وبنت أخ وبنت عم وولد ولد أم كآبائهم، وأخوال وخالات، وأبو أم كأم، وعمات وعم من أم كأب، وأبو أم أب وأبو أم أم وأخواهما وأختاهما وأم أبي جد بمنزلتهم، ثم يجعل نصيب كل وارث بفرض أو تعصيب لمن أدلى به من ذوي الأرحام، لما روي عن علي وعبد اللَّه أنهما: "نزلا بنت البنت بمنزلة البنت، وبنت الأخ بمنزلة الأخ، وبنت الأخت بمنزلة الأخت، والعمة بمنزلة الأب، والخالة بمنزلة الأم" (¬1)، وروي ذلك عن عمر: في العمة والخالة (¬2) وعن علي أيضا: "أنه نزل ¬
العمة بمنزلة العم" (¬1)، وعن الزهري (¬2) أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "العمة بمنزلة الأب إذا لم يكن بينهما أب، والخالة بمنزلة الأم إذا لم يكن بينهما أم" رواه أحمد (¬3). فإن أدلى جماعة من ذوي الأرحام بوارث واستوت منزلتهم منه بلا سبق كأولاده وكإخوته المتفرقين الذين لا واسطة بينه وبينهم فنصيبه لهم كإرثهم منه، (و) لكن هنا (ذكرهم كأنثاهم)؛ لأنهم يرثون بالرحم المجردة فاستوى ذكرهم كأنثاهم كولد الأم، فبنت أخت وابن وبنت لأخت أخرى، لبنت الأخت الأولى النصف؛ لأنه إرث أمها فرضا وردا، ولبنت الأخت الأخرى وأخيها النصف؛ لأنه إرث أمهما حيث استوت الأختان في كونهما لأبوين أو لأب أو لأم بالسوية بين الأخت وأخيها فتصح من أربعة. ¬
وإن اختلفت منزلتهم ممن أدلوا به جعلته أي المدلى به كالميت لتظهر جهة اختلاف منازلهم وقسمت نصيبه بينهم على حسب منازلهم، كثلاث خالات متفرقات واحدة شقيقة والأخرى لأب والأخرى لأم، وثلاث عمات كذلك، فالثلث الذي كان لأم بين الخالات على خمسة، لأنهن يرثنها كذلك فرضا وردا، والثلثان اللذان كانا للأب تعصيبا بين العصات على خمسة أيضا لما تقدم، والخمسة والخمسة متماثلان فاجتزئ بإحداهما واضرب في ثلاثة أصل المسألة مخرج الثلث تكن خمسة عشر للخالات منها خمسة للخالة؛ من قبل الأبوين ثلاثة، وللخالة من قبل الأب سهم، وللخالة من قبل الأم سهم، كما يرثن الأم لو ماتت عنهن، وللعمات عشرة، للعمة من قبل الأبوين ستة، وللعمة من الأب سهمان، وللعمة من قبل الأم سهمان، ولو كان مع الخالات خال من أم ومع العصات عم من أم، فسهم كل واحد من الفريقين بينهم، كل على ستة، وتصح من ثمانية عشر، للخال والخالات ستة، وللعم لأم والعمات اثنا عشر. وإن خلف ثلاثة أخوال متفرقين (¬1) فلذي الأم سدس والباقي لذي الأبوين كما يرثان أختهم كذلك، ولا شيء لذي الأب لسقوطه بذي الأبوين. ويسقط الأخوال مطلقا أبو الأم كما يسقط الأب الإخوة لإدلائهم به. وإن خلف ثلاث بنات إخوة متفرقين فكأنه خلف أخا من أبوين وأخا لأب وأخا لأم، فسدس الأخ لأم لبنته والباقي للأخ لأبوين لو كان فهو لبنته، وتسقط بنت الأخ لأب كأبيها لو كان موجودا مع الشقيق. ¬
وإن خلف ثلاث بنات عمومة متفرقين فالكل لبنت العم ذي الأبوين نصا (¬1) لقيام كل منهن مقام أبيها. وإن خلف بنت عم لأب وبنت عم لأم وبنت ابن عم فالمال للأولى، وكذا لو خلف بنت عم لأب وبنت عم لأم وبنت بنت عم لأبوين فالمال للأولى، وبنت عم وبنت عمة المال للأولى. وإن أسقط بعضهم بعضا عمل به، فعمة وبنت أخ المال للعمة لأنها بمنزلة الأب، وبنت الأخ بمنزلة الأخ، والأب يسقط الإخوة. ويسقط بعيد من وارث بأقرب منه إليه، كبنت بنت بنت وبنت بنت بنت بنت المال للأولى، وكخالة وأم أبي أم المال للخالة؛ لأنها تلقى الأم بأول درجة بخلاف أم أبيها، وكذا بنت بنت بنت وبنت بنت ابن المال للثانية؛ لأنها تلقى بنت الابن الوارثة بأول درجة. إلا إن اختلفت الجهة فينزل بعيد حتى يلحق بوارث سقط به أقرب أولا، كبنت بنت بنت وبنت أخ لأم الكل لبنت بنت البنت؛ لأن جدتها وهي البنت تسقط الأخ لأم، ونصه في خالة وبنت خالة وبنت ابن عم للخالة الثلث ولبنت ابن العم الثلثان ولا تعطى بنت الخالة شيئا وخالة أب وأم أبي أم الكل للثانية؛ لأنها بمنزلة الأم، والأولى بمنزلة الجدة. وجهات ذوي الأرحام ثلاث: - أبوة، ويدخل فيها فروع الأب من الأجداد والجدات السواقط، وبنات ¬
الإخوة والأخوات، وبنات الأعمام والعمات وإن علون. والثانية: أمومة، ويدخل فيها فروع الأم من الأخوال والخالات، وأعمام الأم وأعمام أبيها وأمها وجدها، وعمات الأم وعمات أبيها وأمها، وأخوال الأم وأخوال أبيها وأمها، وخالات الأم وخالات أبيها وأمها. والثالثة: بنوة، ويدخل فيها أولاد البنات وأولاد بنات الابن، ووجه الانحصار في الثلاث أن الواسطة بين الإنسان وسائر أقاربه، أبوه وأمه وولده؛ لأن طرفه الأعلى الأبوان لأنه نشأ منهما، وطرفه الأسفل ولده؛ لأنه مبدؤه ومنه نشأ، فكل قريبا إنما هو يدلي بواحد من هؤلاء، فتسقط بنت بنت أخ ببنت عمة؛ لأن الثانية تلقى الميت بثاني درجة والأولى تلقاه بثالث درجة. ويرث مدل بقرابتين من ذوي الأرحام بهما؛ لأنه شخص له جهتان لا يرجح بهما فورث بهما، كالزوج إذا كان ابن عم فابن بنت بنت هو ابن ابن بنت أخرى مع بنت بنت بنت أخرى لها الثلث وله الثلثان. (ولزوج أو زوجة معهم) أي مع ذوي الأرحام (فرضه) بالزوجية (بلا حجب) للزوج من النصف إلى الربع، وبلا حجب للزوجة من الربع إلى الثمن بأحد ذوي الأرحام، (ولا عول)؛ لأن فرض الزوجين بنص القرآن فلا يحجبان بذوي الأرحام، وأيضا فذو الرحم لا يرث مع ذي فرض وإنما ورث مع أحد الزوجين لكونه لا يرد عليه، فيأخذ أحد الزوجين فرضه تاما (والباقي لهم) أي لذوي الأرحام كانفرادهم، فلبنت بنت وبنت أخت لا لأم أو بنت أخ لا لأم بعد فرض الزوجية الباقي بالسوية بينهما كما لو انفردا (¬1)، فإن كان معهما زوج أخذ النصف ولكل منهما ربع ¬
وتصح من أربعة، وإن كان معهما زوجة فلها الربع والباقي لهما بالسوية فتصح من ثمانية. وفي زوج وبنت بنت وخالة وبنت عم للزوج النصف والباقي لذوي الأرحام على ستة فتصح من اثني عشر، للزوج ستة، ولبنت البنت ثلاثة، وللخالة سهم، ولبنت العم سهصان، وإن كان معهم زوجة فلها الربع واحد ويبقى ثلاثة على ستة توافقها بالثلث، فاضرب اثنين في أربعة تصح من ثمانية ولا يعول في توريث ذوي الأرحام من أصول المسائل إلا أصل ستة فيعول إلى سبعة فقط؛ لأن العول الزائد على ذلك إنما يكون لأحد الزوجين وليس من ذوي الأرحام، كخالة وست بنات أخوات متفرقات، فللخالة السدس، ولبنتي الأختين لأبوين الثلثان، ولبنتي الأخت لأم الثلث (¬1)، وكأبي أم وبنت أخ لأم وثلاث بنات أخوات متفرقات، لأب الأم السدس، ولبنت الأخت (¬2) لأبوين النصف، ولبنت الأخت (¬3) لأب السدس، ولبنتي الأخ والأخت لأم الثلث. ومال من لا وارث له معلوم لبيت المال، يحفظه كالمال الضائع؛ لأن كل ميت لا يخلو من بني عم أعلى إذ الناس كلهم بنو آدم، فمن كان أسبق إلى الاجتماع مع الميت في أب من آبائه فهو عصبة لكنه مجهول، فلم يثبت له حكم وجاز صرف ماله في المصالح، ولذلك لو كان له مولى معتق لورثه في هذا الحال، ولم يلتفت إلى هذا المجهول وليسات بيت المال وارثًا وإنما يحفظ المال الضائع وغيره كأموال الفيء فهو جهة ومصلحة. ¬
فصل: في ميراث الحمل
فصل: في ميراث الحمل بفتح الحاء يقال: امرأة حامل وحاملة إذا كانت حبلى، فإذا حملت شيئا على ظهرها أو رأسها فهي حاملة لا غير، وحمل الشجر ثمره بكسر الحاء وفتحها (¬1). (والحمل يرث ويورث) عنه ما ملكه بإرث أو وصية (إن استهل صارخا) نصا (¬2) لحديث أبي هريرة مرفوعا: "إذا استهل المولود صارخا ورث" رواه أحمد وأبو داود (¬3)، ولابن ماجه مثله مرفوعا (¬4)، والاستهلال: رفع ¬
الصوت (¬1)، فصارخا حال مؤكدة، (أو وجد دليل حياته) كإن عطس أو تنفس أو ارتضع أو تحرك حركة طويلة لدلالة هذه الأشياء على الحياة المستقرة فيثبت له حكم الحي كالمستهل، (سوى حركة أو تنفس يسيرين أو اختلاج) (¬2). قال الموفق: "ولو علم معها حياة؛ لأنه لا يعلم استقرارها لاحتمال كونها كحركة المذبوح" (¬3). وإن ظهر بعض الجنين فاستهل ثم انفصل ميتا فكما لو لم يستهل، وإن اختلف ميراث توأمين بالذكورة والأنوثة فكانا من غير ولد الأم واستهل أحدهما دون الآخر وجهلت عينه، عين بقرعة كما لو طلق إحدى نسائه ونسيها. ومن خلف أما مزوجة بغير أبيه وخلف ورثة لا تحجب ولدها لم توطأ الأم حتى تستبرأ ليعلم أحامل هي حين موت ولدها فيرث منه حملها أو لا، وكذا حرة تحت عبد وطئها وله أخ حر فمات أخوه الحر فيمتنع من وطء زوجته حتى يتبين أهي حامل أم ¬
لا ليرث الحمل من عمه، فإن وطئت زوجة وجب استبراؤها لذلك ولم تستبرأ، فاتت بولد بعد نصف سنة من وطء لم يرثه؛ لاحتمال حدوثه بعد موته، وإن أتت به لدون نصف سنة من موته ورثه، وكذا إن كف عن وطئها وأتت به لأربع سنين فأقل؛ لأن الظاهر أنها كانت حاملا به قبل الموت. ومن مات عن حمل يرثه وورثه غيره ورضوا بوقف الأمر على وضعه فهو أولى خروجا من الخلاف، ولتكون القسمة مرة واحدة، (و) إلا بـ (أن طلب الورثة القسمة) لم يجبروا على الصبر (ووقف له) أي الحمل (الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين)؛ لأن ولادة الاثنين كثيرة معتادة فلا يجوز قسم نصيبهما كالواحد وما زاد عليهما نادر فلا يوقف له شيء. (ويدفع لمن لا يحجبه) الحمل (إرثه كاملا، و) يدفع (لمن ينقصه) الحمل أي يحجبه حجب نقصان (اليقين)، فمن مات عن زوجة وابن وحمل دفع لزوجته الثمن ووقف للحمل نصيب ذكرين؛ لأنه أكثر من نصيب بنتين فتصح المسألة من أربعة وعشرين، للزوجة ثلاثة، ويعطى للابن سبعة، وتوقف أربعة عشر للوضع، وإن مات عن زوجة حامل منه وأبوين فالأكثر هنا إرث أنثيين فتعول المسألة إلى سبعة وعشرين، وتعطى الزوجة منها ثلاثة، وكل من الأبوين أربعة، ويوقف للحمل ستة عشر حتى يظهر أمره، وإن خلف زوجة حاملا منه فقط لم يدفع إليها سوى الثمن؛ لأنه اليقين، ولا يدفع لمن يسقطه الحمل شيء، كمن مات عن زوجة حامل منه وعن إخوة أو أخوات فلا يعطون شيئا؛ لاحتمال كون الحمل ذكرا وهو يسقطهم. (فإذا ولد) الحمل (أخذ نصيبه) من الوقوف (ورد ما بقي) لمستحقه، (وإن أعوز شيئا) بان ولدت أكثر من ذكرين والموقوف إرثهما (رجع) على من هو في يده.
ومتى زادت الفروض على الثلث فإرث الأنثيين اكثر، وإن نقصت فميراث الذكرين أكثر، وإن استوت كأبوين وحمل استوى ميراث الذكرين والأنثيين، وربما لا يرث الحمل إلا إذا كان أنثى، كزوج وأخت لأبوين وامرأة أب حامل يوقف له سهم من سبعة، وربما لا يرث إلا إذا كان ذكرا كبنت وعم وامرأة أخ لغير أم حامل فيوقف له ما فضل عن فرض البنت.
تتمة في ميراث المفقود: -
تتمة في ميراث المفقود: - من فقدت الشيء فقدا وفقدانا بكسر الفاء وضمها، والفقدان أن تطلب الشيء فلا تجده (¬1)، والمراد هنا (¬2): من لا تعلم له حياة ولا موت لانقطاع خبره (¬3). وله حالان: - أحدهما: من انقطع خبره لغيبة ظاهرها السلامة؛ كأسر وتجارة وسياحة فينتظر به تتمة تسعين سنة منذ ولد؛ لأن الغالب أنه لا يعيش أكثر من هذا، فإن فقد ابن تسعين سنة اجتهد الحاكم في تقدير مدة انتظاره. الثاني: من انقطع خبره لغيبة ظاهرها الهلاك كالذي فقد من بين أهله، أو في مفازة مهلكة وهي الأرض التي يكثر فيها الهلاك كدرب الحجاز (¬4)، وكمن فقد بين الصفين حالة الحرب أو غرقت سفينة وغرق قوم ونجا قوم فينتظر به مدة أربع سنين منذ فقد ثم يقسم ماله؛ لأنها مدة يتكرر فيها تردد المسافرين والتجار فانقطاع خبره عن أهله مع غيبته على هذا الوجه يغلب ظن الهلاك، إذ لو كان باقيا لم ينقطع خبره إلى هذه الغاية، ولاتفاق الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم أجمعين على اعتداد امرأته بعد ¬
تربصها هذه المدة وحلها للأزواج بعد ذلك (¬1)، ويزكى مال المفقود لما مضى قبل قسمه نصًّا (¬2). وإن قدم بعد قسم ماله أخذ ما وجده منه بعينه لتبين عدم انتقال ملكه عنه ورجع على من أخذ الباقي ببدله لتعذر رده بعينه. فإن مات مورث المفقود زمن التربص أخذ من تركته كل وارث غير المفقود اليقين وهو ما لا يمكن أن ينقص عنه مع حياة المفقود أو موته ووقف الباقي حتى يتبين أمر المفقود أو تنقضي مدة الانتظار، فاعمل له مسألة حياة ثم مسألة موت، وانظر بينهما بالنسب الأربع ثم اضرب إحداهما في الأخرى إن تباينتا أو وفقها في الأخرى إن توافقتا، واجتزئ بإحداهما إن تماثلتا وبأكثرهما إن تناسبتا ليحصل أقل عدد ينقسم على كلٍ من المسألتين، ويأخذ وارث منهما اليقين؛ لأن ما زاد عليه مشكوك فيه، فلو مات أبو المفقود وخلف المفقود وزوجة وأما وأخا فمسألة حياته من أربعة وعشرين، للزوجة ثلاثة، وللأم أربعة، وللابن المفقود سبعة عشر، ومسألة موته من اثني عشر، للزوجة ثلاثة، وللأم أربعة، وللأخ خمسة، وهما متداخلان فاجتزئ بالأربعة والعشرين، للزوجة من مسألة الحياة ثلاثة، ومن مسألة الموت ستة فاعطها ثلاثة، وللأم من مسألة حياته أربعة ومن مسألة موته ثمانية فاعطها أربعة، ولا شيء للأخ من مسألة الحياة فلا تعطه شيئا، فإن قدم المفقود أخذ نصيبه وإن لا يقدم ¬
تتمة ثانية: في ميراث الخنثى: -
ولم تعلم حياته حين موت مورثه فحكم نصيبه الذي وقف له كبقية ماله الذي لم يخلفه مورثه فيقضى منه دينه في مدة تربصه، وينفق منه على من تلزمه نفقته؛ لأنه إنما يحكم بموته عند انقضاء زمن انتظاره صححه في الإنصاف وغيره (¬1)، وقيل: يرد إلى ورثة الميت الذي مات في مدة التربص قطع به في المغني والإقناع وقدمه في الرعايتين (¬2). تتمة ثانية: في ميراث الخنثى: - والخنثى: من خنث الطعام إذا اشتبه فلم يخلص طعمه. وهو: من له شكل ذكر رجل وشكل فرج امرأة، أو ثقب في مكان الفرج يخرج منه البول، وكذا من لا آلة له (¬3) على ما يأتي. ولا يكون الخنثى أبا ولا أما ولا زوجا ولا زوجة. ويعتبر أمره في توريثه مع إشكال كونه ذكرا أو أنثى ببوله من أحدهما (¬4)، فإن ¬
بال منهما فسبقه من أحدهما، قال ابن اللَّبَّان (¬1): روى الكلبي (¬2) عن أبي صالح (¬3) عن ابن عباس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل عن مولود له قُبُل وذَكَر من أين يورث؟ قال: "من حيث يبول" (¬4)، وروي أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أتي بخنثى من الأنصار فقال: "ورِّثوه من أول ما يبول منه" (¬5) ولأن خروج البول أعم العلامات لوجوده من الصغير والكبير، وسائر العلامات إنما توجد بعد الكبر، وإن خرج البول منهما معا اعتبر أكثرهما، قال ابن ¬
حمدان (¬1): "قدرًا وعددًا" (¬2)؛ لأنها مزية لأحد العلامتين فاعتبر بها كالسبق، فإن استويا في قدر ما يخرج من كل منهما من البول فهو مُشْكِلٌ: من أشْكَلَ الأمرُ التبس لعدم تمييزه بشيء مما تقدم (¬3)، [و] (¬4) حكي عن علي والحسن: "أن أضلاعه تُعَدُّ، فإن كانت ستة عشر فهو ذكر، وإن كانت سبعة عشر فهو أنثى" (¬5)، قال ابن اللبَّان: "لو صحّ هذا لما أشكل حاله ولما احتيج إلى مراعاة المبال" (¬6). فإن رجي كشف إشكاله لصغر أعطي ومن معه من الورثة اليقين من التركة وهو ما يرثه بكل تقدير، ووقف الباقي حتى يبلغ لتظهر ذكوريته بنبات لحيته أو إمناء من ذكره، أو لتظهر أنوثيته بحيض أو تفلك ثدي أو سقوطه أو إمناء من فرج. فإن مات الخنثى قبل بلوغ أو بلغ بلا أمارة أخذ نصف إرثه الذي يرثه بكونه ذكرا فقط، كولد أخ الميت أو عمه، فإذا مات شخص عن ولدي أخ لغير أم أحدهما ذكر والآخر خنثى أخذ الخنثى ربع المال؛ لأنه لو كان ذكرا أخذ نصفه فيكون له نصف ¬
النصف وتصح من أربعة، للخنثى واحد، وللذكر ثلاثة، أو أخذ نصف إرثه بكونه أنثى فقط كولد أب خنثى مع زوج وأخت لأبوين إذ لو كان أنثى لأخذ السدس وعالت المسألة به، كان كان ذكرا سقط لاستغراق المال فيعطى نصف السدس وتصح من ثمانية وعشرين، للخنثى سهمان، ولكل من الزوج والأخت ثلاثة عشر، كان ورث الخنثى بالذكورة والأنوثة تساويا كولد الأم فله السدس مطلقًا، أو كان معتقًا فهو عصبة مطلقا؛ لأن المعتِق لا يختلف ميراثه من عتيقه بذلك. وإن ورث بهما متفاضلا عملت المسألة على أنه ذكر، ثم على أنه أنثى، ثم تضرب إحداهما في الأخرى إن تباينتا، أو وفقها في الأخرى إن توافقتا، وتجتزئ بأحدهما إن تماثلتا، أو بأكثرهما إن تناسبتا وتضربها في اثنين عدد حال الخنثى، ثم من له شيء من إحدى المسألتين فهو مضروب في الأخرى إن تباينتا، أو في وفقها إن توافقتا أو تجمع ماله منهما إن تماثلتا، أو فمن له شيء من أقل العددين فهو مضروب في نسبة أقل المسألتين إلى الأخرى وهو وفق الأكثر، ثم يضاف حاصل الضرب إلى ماله من أكثرهما إن تناسبتا، ويسمى هذا مذهب المنزلين (¬1)، ففي ابن وبنت وولد خنثى مسألة الذكورية من خمسة والأنوثة من أربعة اضرب إحداهما في الأخرى للتباين تكن عشرين ثم في اثنين تبلغ أربعين، للبنت سهم في خمسة وسهم في أربعة يحصل لها تسعة، وللذكر سهمان في خمسة وسهمان في أربعة يجتمع له ثمانية عشر، وللخنثى سهمان في أربعة وسهم في خمسة تكن ثلاثة عشر. ¬
وإن كانا خنثيين أو أكثر نزلتهم بعدد أحوالهم، فللخنثيين أربعة أحوال، وللثلاثة ثمانية، وللأربعة ستة عشر، وهكذا كلما زاد واحد تضاعف عدد أحوالهم، فما بلغ من ضرب المسائل بعضها في بعض عند التباين وإلا ففي الوفق، وتسقط المماثل والداخل في أكثر منه تضربه في عدد أحوالهم وتجمع ما حصل لهم في الأحوال كلها مما صحت منه قبل الضرب في عدد الأحوال، هذا إذا كانوا من جهة واحدة كابن وولدين خنثيين فلهما أربعة أحوال: حال ذكورية والمسألة من ثلاثة، وحال أنوثية وهي من أربعة، وحالان (¬1) ذكران وأنثى وهما من خمسة خمسة، فالمسائل ثلاثة وأربعة وخمسة وخمسة اضرب ثلاثة في أربعة باثني عشر (¬2)، والحاصل في خمسة بستين وأسقط الخمسة الأخرى للتماثل، ثم اضرب الستين في عدد الأحوال الأربعة يبلغ مائتين وأربعين، ومنها تصح، للابن من الذكورة ثلث الستين عشرون، ومن الأنوثية نصفها ثلاثون، ومن مسألة ذكرين وأنثى خمساها أربعة وعشرون، وكذلك من الأخرى يجتمع له ثمانية وتسعون، ولكل من الخنثيين من الذكورية ثلث الستين عشرون (¬3)، ومن الأنوثية ربعها خمسة عشر، ومن مسألتي ذكرين وأنثى ستة وثلاثون ومجموع ذلك إحدى وسبعون والام حتان بجمع الأنصباء. وإن كان الخناثى من جهات جمعت مال لكل واحد منهم في الأحوال كلها وقسمته على عددها، فما خرج فهو نصيبه كولد خنثى وولد أخ خنثى وعم، فإن كان الخنثيان ذكرين فالمال للابن، وإن كانا أنثيين فللبنت النصف وللعم الباقي، وإن كان ¬
الولد ذكرا وولد الأخ أنثى فالمال للولد، كان كان ولد الأخ ذكرا والولد أنثى فللولد النصف والباقي لولد (¬1) الأخ، فالمسألة في حالين من واحد وفي حالين من اثنين، فاكتف باثنين واضربهما في أربعة عدد الأحوال تصح من ثمانية، للولد المال في الحالين والنصف في حالين، ومجموع ذلك أربعة وعشرون فاقسمها على أربعة يخرج ستة، ولولد الأخ النصف أربعة في حال فقط، فاقسمها على أربعة يخرج له واحد، وللعم كذلك. ولو صالح الخنثى المشكل من معه من الورثة على ما وقف له صح الصلح إن كان بعد بلوغه ورشده. قال الموفق في "المغني": وجدنا في عصرنا شخصين ليس لهما في قبلهما مخرج لا ذكر ولا فرج، أحدهما ليس في قبله إلا لحمة كالربوة يرشح البول منها على الدوام، والثاني ليس له إلا مخرج واحد بين المخرجين منه يتغوط ومنه يبول، وقال: وحدثت أن في بلاد العجم شخصا ليس له مخرج أصلا (¬2) لا قبل ولا دبر وإنما يتقيأ ما يأكله وما يشربه، قال: وهذا وما أشبهه في معنى الخنثى لكنه (¬3) لا يكون اعتباره بمباله، فإن لم يكن له علامة فهو مشكل ينبغي أن يثبت له حكمه في ميراثه وأحكامه كلها (¬4). ¬
فصل في ميراث الغرقى
فصل في ميراث الغرقى ومن عمي موتهم بأن لا يعلم أيهم مات أولا كالهدمى ونحوهم (¬1) فإذا مات متوارثان بغرق أو هدم أو طاعون أو غير ذلك وجهل أولهما موتا، أو علم ثم نسي وجهلوا عينه ولم يدع ورثة (¬2) كل سبق موت الآخر ورث كل واحد من الموتى صاحبه، هذا قول عصر (¬3) وعلي (¬4) قال الشعبي (¬5): "وقع الطاعون بالشام عام عمواس (¬6)، فجعل أهل البيت يموتون عن آخرهم، فكتب في ذلك إلى عمر، [فكتب ¬
عمر] (¬1) أن ورثوا بعضهم من بعض" (¬2) قال أحمد: أذهب إلى قول عمر (¬3). وروي عن إياس المزني (¬4): أن [النبي] (¬5) -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل عن قوم وقع عليهم بيت فقال: " [يرث] (¬6) بعضهم بعضا من تلاد (¬7) أموالهم" (¬8) دون ما ورثوه من الميت معهم لئلا يدخله الدور، فيقدر أن أحدهم مات أولا فيورث الآخر منه، ثم يقسم ما ورثه منه على الأحياء من ورثته، ثم يصنع بالثاني كذلك وهكذا. فإن غرق أخوان ولم يعلم الحال أحدهما مولى زيد والآخر مولى عمرو صار ¬
مال كل واحد منهما لمولى الآخر، وفي زوج وزوجة وابنهما غرقوا ونحوه وخلف الزوج امرأة أخرى غير التي غرقت معه وخلف أيضا أما وخلفت الزوجة ابنا من غيره وأبا، فمسألة الزوج تصح من ثمانية وأربعين، للزوجة الميتة ثلاثة، ومسألتها من ستة لأبيها السدس ولابنها الحي الباقي، فترد مسألتها إلى وفق سهامها بالثلث اثنين، ولابنه الذي مات معه أربعة وثلاثون من مسألة أبيه تقسم على ورثة الابن الأحياء، لأم أبيه من ذلك سدس ولأخيه لأمه سدس، وما بقي وهو ثلثان لعصبته أي الابن، فمسألته من ستة توافق سهامه الأربعة والثلاثين بالنصف فترد الستة لنصفها ثلاثة فتضرب ثلاثة وفق مسألة الابن في وفق مسألة الأم اثنين يحصل ستة، ثم اضرب الستة في المسألة الأولى وهي ثمانية وأربعون تكن مائتين وثمانية وثمانين ومنها تصح، لورثة الزوجة الأحياء وهم أبوها وابنها من ذلك نصف ثمنه ثمانية عشر، لأبيها ثلاثة، ولابنها خمسة عشر، ولزوجته الحية نصف ثمنه ثمانية عشر، ولأمه السدس ثمانية وأربعون، ولورثة ابنه ما بقي من ذلك وهو مائتان وأربعة، لجدته أم أبيه من ذلك سدسه أربعة وثلاثون، ولأخيه لأمه كذلك، ولعصبته الباقي مائة وستة وثلاثون، ومسألة الزوجة من اثني عشر، للزوج الربع ثلاثة، وللأب السدس اثنان، وللابنين ما بقي سبعة، لا ينقسم عليهما، فاضرب اثنين في اثني عشر فتصح من أربعة وعشرين، للزوج منها الربع ستة، وللأب السدس أربعة، ولكل ابن سبعة، فمسألة الزوج من تركة زوجته من اثني عشر، لزوجته الحية الربع ثلاثة، ولأمه الثلث أربعة، وما بقي لعصبته، ومسألة الابن الميت من تركة أمه من ستة، لجدته أم أبيه السدس، ولأخيه لأمه كذلك، والباقي لعصبته، ومسألة الزوج توافق سهامه بالسدس فترد لاثنين، ومسألة الابن تباين سهامه فتبقى بحالها فدخل مسألة الزوج وهو
اثنان في مسألة الابن وهي ستة فاضرب ستة في أربعة وعشرين تكن مائة وأربعة وأربعين، لورثة الزوج الأحياء من ذلك الربع ستة وثلاثون، لزوجته ربعها تسعة، ولأمه سدسها ستة، والباقي لعصبته، ولأب الزوجة سدس المائة وأربعة وأربعين وهو أربعة وعشرون، ولابنها الحي نصف الباقي وهو اثنان وأربعون، ولورثة (¬1) ابنها الميت كذلك يقسم بينهم على ستة لجدته لأبيه سدسه سبعة، ولأخيه لأمه كذلك، والباقي وهو ثمانية وعشرون لعصبته، ومسألة الابن الميت من ثلاثة لأمه الثلث واحد ولأبيه الباقي اثنان، فمسألة أمه من ستة لا ينقسم عليها الواحد ولا توافقه ومسألة [أبيه] (¬2) من اثني عشر توافق سهميه بالنصف فترد مسألته لنصفها ستة وهي مناسبة لمسألة الأم فاجتزئ بضرب وفق عدد سهامه وهي ستة في ثلاثة يكن الحاصل ثمانية عشر للأم ثلثها ستة، والباقي للأب اثنا عشر. وإن ادعى ورثة كل ميت سبق موت صاحبه ولا بينة أو كان لكل واحد بينة وتعارضتا تحالفا ولم يتوارثا نصا (¬3)، وهو قول الصديق (¬4) وزيد (¬5) وابن عباس (¬6) ¬
والحسن بن علي (¬1) وأكثر العلماء (¬2)؛ لأن كلا من الفريقين منكر لدعوى الآخر فإذا تحالفا سقطت الدعوى، فإن لم يثبت السبق لواحد منهما معلوما ولا مجهولا أشبه ما لو علم موتهما معا بخلاف ما لم يدعوا ذلك، كما إذا ماتت امرأة وابنها فقال الزوج: ماتت فورثناها ثم مات ابني فورثته فقال أخوها: بل مات ابنها فورثته ثم ماتت بعده فورثناها حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه وكان ميراث الابن لأبيه وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين، ولو عين الورثة موت أحدهما وشكوا هل مات الاخر قبله أو بعده (¬3) ورث من شك في موته من الميت الآخر الذي عينوا موته؛ لأن الأصل بقاء حياته. ولو تحقق موتهما معا لم يتوارثا بلا خلاف؛ لأن شرط الإرث حياة الوارث بعد المورث ولم يوجد، ولو مات متوارثان عند الزوال ونحوه كشروق الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر من يوم واحد أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب ورث من مات بالمغرب من الذي مات بالمشرق لموته قبله بناء على اختلاف الزوال؛ لأنه يكون بالمشرق قبل كونه بالمغرب، ولو مات عند ظهور الهلال قال في "الفائق" (¬4): "فتعارض في المذهب والمختار أنه كالزوال" (¬5). ¬
فصل فى بيان من يرث من المطلقات ومن لا يرث
فصل فى بيان من يرث من المطلقات ومن لا يرث يثبت الإرث لأحد الزوجين من الآخر في عدة رجعية سواء أطلقها في الصحة أو المرض، قال في "المغني" (¬1): "بغير خلاف نعلمه"، وروي عن أبي بكر وعثمان وعلي وابن مسعود -رضي اللَّه تعالى عنهم- (¬2)؛ وذلك لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه ويملك إمساكها بالرجعة بغير رضاها وبلا ولي ونحوه، فإن انقضت عدتها فلا توارث، لكن إن كان الطلاق برض موته المخوف وانقضت عدتها ورثته ما لم تتزوج أو ترتد، ويثبت الميراث لها فقط من مطلقها مع تهمته بقصد حرمانها بأن أبانها في مرض موته المخوف ابتداء بلا سؤالها، أو سألته طلاقا أقل من ثلاث فطلقها ثلاثا، أو علقه على ما لا بد لها منه شرعا كالصلاة المفروضة والصوم المفروض، قال في "المحرر" (¬3): "وكلام أبيها"، أو علقه على ما لا بد لها منه عقلا كأكل ونحوه كشرب ونوم، أو علقه على مرضه، أو على فعل له كإن دخلت الدار فأنت طالق ففعله في المرض المخوف، أو علقه على ترك فعل فمات قبل فعله، ولو كان ذلك قبل الدخول، أو انقضت عدتها قبل موته فترثه ما لم تتزوج غيره، أو ترتد عن الإسلام فلا ترثه ولو أسلمت بعد؛ لأنها فعلت باختيارها ما ينافي نكاح الأول (¬4)، والأصل (¬5) ¬
في إرث المطلقة من مبينها المتهم بقصد حرمانها أن عثمان: ورث بنت الأصبغ الكلبية (¬1) من عبد الرحمن بن عوف وكان طلقها في مرضه فبتها" (¬2) واشتهر ذلك في الصحابة ولم ينكر فكان كالإجماع، وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن (¬3): "أن أباه طلق أمه وهو مريض فمات فورثته بعد انقضاء عدتها" (¬4)، وروى عروة (¬5) أن عثمان قال لعبد الرحمن: "لئن مت لأورثنها منك قال: علمت ذلك" (¬6)، وما روي عن عبد اللَّه بن الزبير أنه قال: "لا ترث ¬
مبتوتة" (¬1) فمسبوق بالإجماع السكوتي زمن عثمان (¬2)، ولأن المطلق [قصد] (¬3) قصدا فاسدا في الميراث فعورض بنقيض قصده كالقاتل. ويثبت الإرث للزوج فقط من زوجته إن فعلت في مرض موتها المخوف ما يفسخ نكاحها ما دامت معتدة إن اتهمت بقصد حرمانه، كإدخالها ذكر ابن زوجها أو أبيه في فرجها وهو نائم، أو إرضاعها ضرتها الصغيرة ونحوها؛ لأنها أحد الزوجين فلم يسقط فعلها ميراث الآخر كالزوج. قال الشيخ منصور -رحمه اللَّه تعالى- في "شرح المنتهى" (¬4): "ومفهومه أنه لو انقضت عدتها انقطع ميراثه وهو مقتضى كلامه في "التنقيح" (¬5) و"الإنصاف" (¬6)، وظاهر كلامه في "الفروع" (¬7) كـ"المقنع" (¬8) ¬
و"الشرح" (¬1) حيث أطلقوا ولو بعد العدة واختاره في "الإقناع" (¬2) وقال: إنه أصوب مما في التنقيح. انتهى". وإلا تتهم الزوجة بقصد حرمانه الإرث بأن دب زوجها (¬3) الصغير أو ضرتها الصغيرة فارتضع منها وهي نائمة سقط ميراثه منها، كفسخ معتقة تحت عبد ثم ماتت؛ لأن [فسخ] (¬4) النكاح لدفع الضرر لا للفرار، وكذا لو ثبتت عنة الزوج فأجل سنة ولم يصبها حتى مرضت آخر الحول فاختارت فراقه، ففرق بينهما، انقطع التوارث بينهما. ويقطع التوارث بين الزوجين إبانة الزوجة في غير مرض الموت المخوف أو فيه بلا تهمة بأن سألته الخلع فأجابها إليه، ومثله الطلاق على عوض أو قبل الدخول، أو سألته الطلاق الثلاث فاجابها إليه أو سألته الطلاق فثلثه، أو علقها (¬5) على فعل لها منه بد شرعا وعقلا كخروجها من دارها ونحوه، ففعلت عالمة به لانتفاء التهمة منه، فإن جهلت التعليق ورثته؛ لأنها معذورة. ¬
وترث من تزوجها مريض مضارة لورثته لينقص إرث غيرها؛ لأن له أن يوصي بثلث ماله، وكذا لو تزوجت مريضة مضارة لورثتها فيرث منها زوجها. ومن جحد إبانة امرأة ادعتها عليه، ثم مات لم ترثه إن دامت على قولها إلى موته؛ لإقرارها أنها مقيمة تحته بلا نكاح، فإن أكذبت نفسها قبل موته ورثته لتصادقهما على بقاء النكاح ولا أثر لتكذيبها نفسها بعد موته؛ لأنها متهمة فيه إذن، وفيه رجوع عن إقراره لباقي الورثة. ومن خلف زوجات نكاح بعضهن فاسد أو منقطع قطعا يمنع الإرث وجهل من يرث منهن أخرج من لا يرث بقرعة والميراث للباقي نص عليه (¬1)؛ لأنه إزالة ملك عن آدمي فتستعمل فيه القرعة عند الاشتباه كالعتق. وإن طلق واحدة من زوجتين مدخول بهما غير معينة في صحته، ثم قال في مرض موته المخوف: أردت فلانة ثم مات قبل انقضاء العدة ففي "المغني" (¬2): "لم يقبل قوله؛ لأن الإقرار بالطلاق في المرض كالطلاق فيه". فإن كان للمريض امرأة أخرى سوى هاتين فلها نصف الميراث وللاثنتين نصفه، وإن طلق متهم أربعا كن معه وانقضت عدتهن منه، وتزوج أربعا سواهن ثم مات ورث منه الثمان ما لم تتزوج المطلقات أو يرتددن (¬3). ¬
[فصل فى الإقرار بمشارك في الميراث]
[فصل فى الإقرار بمشارك في الميراث] (¬1) إذا أقر كل الورثة وهم مكلفون، ولو أنها (¬2) بنت أو كانوا ليسوا أهلا للشهادة بوارث مشارك لمن أقر في الميراث كابن للميت يقر بابن آخر أو يقر بوارث مسقط له كأخ أقر بابن للميت ولو كان الابن المقر به من أمة الميت نصا (¬3) فصدق المقر به مكلفا مقرا، أو كان المقر به صغيرا أو مجنونا ولم يصدقه ثبت نسبه إن كان مجهولا وأمكن كونه من الميت ولم ينازع المقر، فإن نوزع فيه فليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر، ولو مع منكر لا يرث من الميت [لمانع] (¬4) من نحو رق أو قتل، ويثبت أيضا إرثه من الميت إن لم يقم به مانع من نحو رق؛ لأن الوارث يقوم مقام الميت في ميراثه والديون التي له وعليه ودعاويه وبيناته والأيمان التي عليه وله فكذا في النسب. ويعتبر إقرار زوج ومولى إن ورثا كما لو مات عن بنت وزوج ومولى فأقرت البنت بأخ لها فيعتبر إقرار الزوج والمولى به ليثبت نسبه؛ لأنهما من جملة الورثة. وإن لم يوجد من ورثة (¬5) ميت إلا زوج أو زوجة فأقر بولد للميت من غيره فصدقه إمام أو نائبه ثبت نسبه؛ لأن ما فضل عن الزوج والزوجة لبيت المال وهو المتولي لأمره فقام مقام الوارث معه لو كان. ¬
وإن أقر بوارث بعض الورثة وأنكره الباقون، فشهد عدلان منهم أو غيرهم أنه ولد الميت، أو شهدا أن الميت أقر به، أو أنه ولد على فراشه ثبت نسبه وإرثه، وإلا يشهد به عدلان ثبت نسبه من مقر وارث فقط دون الميت وبقية الورثة؛ لأن (¬1) النسب حق أقر به الوارث على نفسه فلزمه كسائر الحقوق، فلو كان المقر به أخا للمقر ومات المقر عنه وعن بني عم ورثه المقر به؛ لأن بني العم يحجبون بالأخ، وإن مات المقر عنه وعن أخ منكر فإرثه بينهما لاسترائهما في القرب، ويثبت نسبه تبعا من ولد للمقر منكر له فثبتت العمومة؛ لأنها لازمة بثبوت أخوة أبيه. وإن كان بعض الورثة صغيرا أو مجنونا فصدق إذا بلغ أو عقل على إقرار المكلف من قبل ثبت نسبه لاتفاق جميع (¬2) الورثة عليه إذن، وإن مات غير مكلف قبل تكليفه ولم يبق غير مقر مكلف ثبت نسب مقر به؛ لأن المقر صار جميع الورثة، وكذا لو كان الوارث ابنين فأقر أحدهما بوارث وأنكر الآخر ثم مات المنكر فورثه المقر ثبت نسب المقر به؛ لأن القر به صار جميع الورثة، أشبه ما لو أقر به ابتداء بعد موت أخيه. فلو مات المقر به وله وارث غير المقر اعتبر تصديقه للمقر حتى يرث منه؛ لأن المقر إنما يعتبر إقراره على نفسه، وإن لم يصدقه وارث لم يرث منه، ومتى لم يثبت نسب المقر به من ميت بأن أقر به بعض الورثة ولم يشهد بنسبه عدلان أخذ المقر به الفاضل بيد المقر عن نصيبه على مقتضى إقراره إن فضل شيء عن نصيبه، أو أخذ ما في يده كله إن سقط به المقر؛ لإقراره أنه له فلزمه دفعه إليه، فإذا أقر أحد ابنين بأخ ¬
لهما فله ثلث ما بيد المقر لتضمن إقراره (¬1) أنه لا يستحق أكثر من ثلث التركة، وفي يده نصفها فيفضل بيده سدس للمقر به، وإن أقر ابن ابن للميت بابن (¬2) له فله كل ما في يده؛ لأنه أقر بما يتحجا به عن الإرث. ¬
[فصل فى ميراث القاتل]
[فصل فى ميراث القاتل] (¬1) (ومن قتل مورثه) أي باشر قتله (ولو بمشاركة) في قتله (أو سبب) كحفر نحو بئر أو نصب نحو سكين أو وضع حجر أو رش ماء أو إخراج نحو جناح بطريق أو جناية بمضمونه من بهيمة (لم يرثه إن لزمه) أي القاتل بمباشرة أو سبب (قود أو دية أو كفارة)؛ لحديث عمر قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ليس لقاتل شيء" رواه مالك في الموطأ وأحمد، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا نحوه، رواه ابن اللبان (¬2)، وعن ابن عباس مرفوعا: "من قتل قتيلا فإنه لا يرثه وإن لم يكن له وارث غيره، وإن كان والده أو ولده فليس لقاتل ميراث" رواه أحمد (¬3). وما لا يضمن بشيء من هذا فلا يمنع الإرث؛ لأنه مأذون فيه أشبه ما لو أطعمه أو سقاه باختياره فأفضى إلى تلفه، وتقدم مستوفى في موانع الإرث (¬4). ¬
[فصل في ميراث الرقيق]
[فصل في ميراث الرقيق] (¬1) (ولا يرث رقيق) ولو كان مدبرا أو مكاتبا أو أم ولد (ولا يورث)؛ لأن فيه نقصا منع كونه موروثا فمنع كونه وارثا، (ويرث (¬2) مبعض) -أي من بعضه حر وبعضه رقيق- (ويورث ويحجب) ويعصب (بقدر حريته)، وهو قول علي وابن مسعود (¬3)، وقال زيد بن ثابت: "لا يرث ولا يورث" (¬4)، وقال ابن عباس: "هو كالحر (¬5) في جميع أحكامه" (¬6)، وتقدم حكم إرثه في الموانع أيضا. ¬
(كتاب العتق)
(كتاب العتق) العتق لغة: الخلوص، ومنه عتاق الخيل والطير أي خلاصها، وسمي البيت الحرام عتيقا: لخلوصه من أيدي الجبابرة (¬1). وهو شرعا: تحرير الرقبة وتخليصها من الرق (¬2)، وخصت به الرقبة مع وقوعه على جميع البدن؛ لأن ملك السيد له كالغل في رقبته المانع له من التصرف، فإذا أعتق فكأن رقبته أطلقت من ذلك. وأجمعت الأمة على صحته وحصول القربة به (¬3) لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬4) وقوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ (13)} (¬5) وحديث أبي هريرة مرفوعا: "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق اللَّه تعالى بكل إرب منها إربا منه من النار، حتى إنه ليعتق اليد باليد، والرجل بالرجل، والفرج بالفرج" متفق عليه (¬6). ¬
وهو من أعظم القرب؛ لأن اللَّه تعالى جعله كفارة للقتل وغيره، وجعله -صلى اللَّه عليه وسلم- فكاكا لمعتقه من النار، ولما فيه من تخليص الآدمي المعصوم من ضرر الرق وملك نفسه ومنافعه، وتكميل أحكامه وتمكينه من التصرف في نفسه ومنافعه على حسب اختياره، وأفضل (¬1) الرقاب للعتق أنفسها عند أهلها وأغلاها (¬2) ثمنا نصا (¬3)، وعتق ذكر أفضل من عتق أنثى، سواء كان معتقه ذكرا أو أنثى وهما سواء في الفكاك من النار، [وتعدد] (¬4) ولو من إناث أفضل من واحد ولو ذكرا. (ويسن عتق من له كسب) لانتفاعه بملك كسبه، (ويكره) عتق (لمن لا قوة له ولا كسب) لسقوط نفقته بإعتاقه فيصير كلا على الناس ويحتاج إلى المسألة، أو يخاف إن أعتق زناه أو فساده فيكره عتقه، وكذا إن خيف ردته ولحوقه بدار الحرب (¬5) وإن علم ذلك منه أو ظن حرم؛ لأنه وسيلة [إلى] (¬6) الحرام، ويصح العتق ولو مع علمه ذلك أو ظنه لصدور العتق من أهله في محله أشبه عتق غيره. ويحصل العتق بقول من جائز التصرف لا بمجرد نية كالطلاق، وينقسم القول ¬
إلى صريح وكناية. وصريحه: لفظ عتق، وحرية، لورود الشرع بهما فوجب اعتبارهما كيف صرفا، كقوله لقنه: أنت حر أو محرر أو حررتك أو أنت عتيق أو معتق -بفتح التاء- أو أعتقتك فيعتق ولو لم ينوه، قال أحمد في رجل لقي امرأة في الطريق فقال: تنحي يا حرة فإذا هي جاريته قال: قد عتقت عليه، وقال في رجل قال لخدم قيام في وليمة: مروا أنتم أحرار وكان فيهم أم ولده لم يعلم بها قال: هذا به عندي تعتق أم ولده (¬1). غير أمر ومضارع واسم فاعل فلا يعتق بذلك، كقوله لرقيقه: حرره، أو أعتقه، أو هذا محرر -بكسر الراء- أو هذا معتق -بكسر التاء- فلا يعتق بذلك؛ لأنه (¬2) طلب أو وعد أو خبر عن غيره وليس واحد منها صالحا للإنشاء ولا إخبارا (¬3) عن نفسه فيؤاخذ به. ويقع العتق من هازل كالطلاق (¬4)، ولا يقع من نائم ونحوه كمغمى عليه ومجنون ومبرسم لعدم عقلهم ما يقولون (¬5)، وكذا حاك وفقيه يكرره فتعتبر إرادة لفظه ¬
لمعناه لا نية النفاذ والقربة، ولا يقع عتق إن قال سيد لرقيقه: أنت حر ونوى بالحرية عفته وكرم أخلاقه وصدقه وأمانته (¬1)، وكذا لو قال: ما أنت إلا حر أي أنك لا تطيعني ولا ترى لي عليك حقا ولا طاعة؛ لأنه نوى بكلامه ما يحتمله (¬2) فانصرف إليه، وإن طلب استحلافه حلف، ووجه احتمال اللفظ لما أراده أن المرأة الحرة تمدح بمثل هذا، يقال: امرأة حرة أي عفيفة ويقال لكريم الأخلاق: حر، قالت سبيعة (¬3) ترثي عبد المطلب: ولا تسأما أن تبكيا كل ليلة ... ويوم على حر كريم الشمائل وإن قال سيد لرقيقه: أنت حر في هذا الزمن أو في هذا البلد عتق مطلقا؛ لأنه إذا أعتق في زمن أو بلد لم يعد رقيقا في غيرهما (¬4). وكناية العتق مع نية، قال الشيخ منصور: "قلت: أو قرينة كسؤال عتق". (¬5) خليتك، أو أطلقتك، والحق بأهلك، واذهب حيث شئت، ولا سبيل ولا سلطان لي عليك، ولا ملك ولا رق لي عليك، أو لا خدمة لي عليك، وفككت رقبتك، ¬
ووهبتك للَّه، ورفعت يدي عنك إلى اللَّه، وأنت سائبة، أو أنت مولاي، أو أنت سبيل اللَّه، وملكتك نفسك. ومن الكناية قول السيد لأمته: أنت طالق، أو أنت حرام. ومما يحصل به العتق قول السيد لمن يمكن كونه أباه من رقيقه بأن كان السيد ابن عشرين سنة مثلا والرقيق ابن ثلاثين فأكثر: أنت أبي، أو قال لرقيقه الذي يمكن كونه ابنه: أنت ابني فيعتق فيهما وإن لم ينوه ولو كان له نسب معروف لجواز كونه من وطء شبهة، ولا يعتق بذلك إن لم يمكن كونه أباه أو ابنه لكبر أو صغر ونحوه ولم ينو (¬1) عتقه لتحقق كذب هذا القول فلا يثبت به حرية (¬2)، كقوله: هذا الطفل أبي، أو هذه الطفلة أمي، وكما لو قال لزوجته وهي أسن منه: هذه ابنتي، أو قال لها وهو أسن منها: هذه أمي لم تطلق، كذلك هنا، وكقوله لرقيقه: أعتقتك من ألف سنة، وأنت حر من ألف سنة، وكقوله لعبده: أنت بنتي وكقوله لأمته: أنت ابني، لأنه محال معلوم كذبه، وشرط العتق بالقول كونه من مالك جائز التصرف (¬3). ويحصل العتق بملك لذي رحم محرم بنسب كأبيه وجده وإن علا، وولد ولده وإن سفل، وأخيه وأخته وولدهما وإن نزل، وعمه وعمته وخاله وخالته، وافقه في دينه أو لا، ولو كان المملوك حملا كمن اشترى زوجة ابنه أو أبيه أو أخيه الحامل ¬
منه، لحديث الحسن (¬1) عن سمرة (¬2) مرفوعا: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" رواه الخمسة وحسنه الترمذي (¬3) وقال: "العمل على هذا عند أهل العلم" (¬4) وأما حديث: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" رواه مسلم (¬5)، فقوله: يشتريه ¬
فيعتقه بشرائه كما يقال: ضربه فقتله والضرب هو القتل، وسواء ملكه بشراء أو هبة أو إرث أو غنيمة أو غيرها لعموم الخبر. ولا يعتق ابن عمه بملكه؛ لأنه ليس بمحرم، ولا يعتق محرم من الرضاع كأمه وأبيه وابنه من رضاع؛ [لأنه] (¬1) لا نص في عتقهم ولا هم في معنى المنصوص عليه فيبقون على الأصل، وكذا الربيبة وأم الزوجة. قال الزهري: "جرت السنة بأنه يباع الأخ من الرضاعة" (¬2). وأب وابن من زنا كأجنبيين، فلا عتق بملك أحدهما للآخر نصا (¬3)؛ لعدم ثبوت أحكام الأبوة والبنوة من الميراث والحجب والمحرمية [و] (¬4) وجوب الإنفاق وثبوت الولاية، وكذا أخ أو نحوه من زنا. ويعتق حمل لم يستثنه معتق أمه لتبعيته لها في البيع والهبة ففي العتق أولى، ولو لم يملكه رب الأمة كما لو اشترى أمة من ورثة ميت موصى بحملها لغيره فأعتقها فيسري العتق إلى الحمل إن كان معتقها موسرا بقيمة الحمل يوم عتقه كفطرة، ويضمن معتقها الحمل لمالكه الموصى له به يوم ولادته حيا، فإن استثنى ¬
الحمل معتق أمه لم يعتق (¬1) وبه قال ابن عمر (¬2) وأبو هريرة (¬3)، قال أحمد: "أذهب إلى حديث ابن عمر في العتق، ولا أذهب إليه في البيع" (¬4)، ولحديث: "المسلمون على شروطهم" (¬5)؛ ولأنه يصح إفراده بالعتق بخلاف البيع، فصح استثناؤه كالمنفصل، ويفارق البيع في أنه عقد معاوضة يعتبر فيه العلم بصفات المعوض ليعلم هل يقابل العوض أو لا؟ ويصح عتق الحمل دون أمه نصا (¬6)؛ لأن حكمه حكم الإنسان ¬
المنفرد، ولهذا تورث عنه الغرة إن ضرب بطن أمه (¬1) فأسقطته، كأنه سقط حيا، وتصح الوصية به، وله، ويرث. ومن ملك بغير إرث جزءا ممن يعتق عليه بملك وهو موسر بقيمة باقيه فاضلة عن حاجته وحاجة من يمونه، كفطرة يوم ملكه عتق عليه كله وعليه ما يقابل جزء شريكه من قيمته كله، فيقوم كاملا لا عتق فيه، وتؤخذ حصة الشريك منها لفعله سبب العتق اختيارا منه فسرى ولزمه الضمان، كما لو وكل من أعتق نصيبه، وإلا يكن موسرا بقيمة باقيه كله عتق ما يقابل ما هو موسر به، فإن لم يكن موسرا بشيء منه عتق ما ملكه (¬2) فقط، وإن ملك جزأه بإرث لم يعتق عليه إلا ما ملكه (¬3) فقط، ولو كان موسرا بقيمة باقيه؛ لأنه لم يتسبب إلى إعتاقه، لحصول ملكه بدون فعله وقصده. ومن مثل ولو بلا قصد فجدع أنف رقيقه أو أذنه أو نحوهما كما لو خصاه أو خرق عضوا منه ككفه بنحو مسلة أو (¬4) حرق بالنار عضوا منه كأصبعه عتق نصا بلا حكم حاكم (¬5)، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن زنباعا أبا روح (¬6) ¬
وجد غلاما له مع جاريته، فقطع ذكره، وجدع أنفه، فأتى العبد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكر له ذلك، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما حملك على ما فعلت؟ قال: فعل كذا وكذا، قال: اذهب فانت حر" رواه أحمد وغيره (¬1)، وله ولاؤه نصا (¬2)؛ لعموم: "الولاء لمن أعتق" (¬3)، وكذا لو استكرهه سيده على الفاحشة؛ لأنها من المثلة، أو وطئ سيد أمة مباحة لا يوطأ مثلها لصغرها فأفضاها تعتق عليه، قال ابن حمدان: "ولو مثل بعبد مشترك بينه وبين غيره، عتق نصيبه وسرى العتق إلى باقيه، وضمن قيمة حصة الشريك" ذكره ابن عقيل (¬4). ¬
ولا يعتق بخدش، وضرب، ولعن؛ لأنه لا نص فيه ولا في معنى المنصوص عليه. ومال معتق عند عتق لسيد معتق له (¬1) روي عن ابن مسعود (¬2) وأبي أيوب (¬3) وأنس (¬4) لحديث الأثرم (¬5) عن ابن مسعود أنه قال لغلامه عمير (¬6): "يا عمير! إني أريد أن أعتقك عتقا هنيئا، فأخبرني بمالك، فإني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "أيما ¬
رجل أعتق عبده أو غلامه فلم يخبره بماله فماله لسيده" (¬1)، ولأن العبد وماله كانا للسيد فزال ملكه عن أحدهما فبقي الآخر كما لو باعه، وحديث ابن عمر مرفوعا: "من أعتق عبدا وله مال فالمال للعبد" رواه أحمد وغيره (¬2) قال أحمد: "يرويه عبيد اللَّه (¬3) بن أبي جعفر من أهل مصر وهو ضعيف الحديث كان صاحب فقه، فأما ¬
الحديث فليس فيه بالقوي" (¬1)، إلا المكاتب إذا أدى ما عليه فباقي ما بيده له. ومن أعتق جزءا مشاعا كنصف ونحوه، أو جزءا معينا كيد ونحوها غير شعر وسن وظفر ونحوه من رقيق يملكه عتق كله لحديث: "من أعتق شقصا له من مملوك فهو حر من ماله" (¬2)، ولأن مبنى العتق على التغليب والسراية بخلاف البيع. ويصح تعليق عتق بصفة (¬3) كقوله: إن أعطيتني ألفا فأنت حر؛ لأنه تعليق محض، وكذا إن دخلت الدار أو جاء المطر ونحوه، ولا يعتق قبل وجود الصفة؛ لأن العتق معلق بصفة فوجب أن يتعلق بها كالطلاق، ولا يملك السيد إبطاله ما دام ملكه على المعلق عتقه؛ لأنها صفة لازمة ألزمها نفسه فلا يملك إبطالها بالقول كنذر، ولو اتفق السيد والرقيق على إبطاله لم يبطل بذلك، وللسيد أن يطأ أمة علق عتقها بصفة قبل وجودها؛ لأن استحقاق العتق عند وجود الصفة لا يمنع إباحة الوطء كالاستيلاد، بخلاف المكاتبة فإنها اشترت نفسها من سيدها وملكت أكسابها ومنافعها. وله أن يقف رقيقا علق عتقه بصفة قبلها وأن ينقل ملكه عنه قبلها، ثم إن وجدت وهو في ملك غير المعلق (¬4) لم يعتق لحديث: "لا طلاق ولا عتاق ولا بيع ¬
فيما لا يملك ابن آدم" (¬1)، ولأنه لا ملك له عليه فلا يقع عتقه كما لو نجزه، وإن عاد ملك المعلق بشرائه أو إرثه ونحوه ولو بعد وجودها حال زواله عادت الصفة، فيعتق إن وجدت في ملكه؛ لأن التعليق والشرط وجدا في ملكه أشبه ما لو [لم] (¬2) يتخللهما زوال ملكه ولا وجود للصفة حال زواله، ولا يعتق قبل وجود الصفة بكماله كالجعل في الجعالة. ويبطل التعليق بموت المعلق لزوال ملكه، فقول السيد لرقيقه: إن دخلت الدار بعد موتي فأنت حر لغو. ويصح: أنت حر بعد موتي بشهر (¬3) كما لو وصى بإعتاقه فلا يملك وارث بيعه قبله كما لا يملك بيع موصى بعتقه قبله أو موصى به لمعين قبل قبوله، وكسبه بعد موت سيده وقبل انقضاء الشهر للورثة ككسب أم الولد في حياة سيدها. ومن قال لرقيقه: إن خدمت ابني حتى يستغني فأنت حر فخدمه حتى كبر ¬
واستغنى عن رضاع عتق ولا يشترط علم زمن الخدمة، فمن قال لقنه: أعتقتك على أن تخدم زيدا مدة حياتك صح، لحديث سفينة (¬1) قال: "كنت مملوكا لأم سلمة فقالت: أعتقتك وأشترط عليك أن تخدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما عشت، فقلت: وإن لم تشترطي علي ما فارقت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما عشت، فأعتقيني واشترطي علي" رواه أحمد وأبو داود واللفظ له والنسائي والحاكم وصححه (¬2)، ولأن القن ومنافعه لسيده فإذا أعتقه واستثنى منافعه فقد أخرج الرقبة وبقيت المنفعة على ما كانت عليه، وإنما شرط علم زمن الاستثناء في البيع؛ لأنه عقد معاوضة والثمن يختلف بطول المدة وقصرها. ومن قال لرقيقه: إن فعلت كذا فأنت حر بعد موتي ففعله في حياة سيده صار مدبرا لوجود شرط التدبير، فإن لم يفعل حتى مات سيده لم يعتق؛ لأنه جعل ما بعد الموت ظرفا لوقوع الحرية وذلك يقتضي سبق وجود ¬
شرطها؛ لأن الشرط لا بد أن يسبق الجزاء. ويصح من حر تعليق عتق قن غيره بملكه نحو قوله: إن ملكت فلانا فهو حر، أو قوله: كل مملوك أملكه فهو حر فإذا ملك عتق لإضافته العتق إلى حال يملك عتقه فيه أشبه ما لو كان التعليق وهو في [ملكه] (¬1)، بخلاف: إن تزوجت فلانة فهي طالق؛ لأن العتق مقصود من الملك، والنكاح لا يقصد به الطلاق، وفرق أحمد بأن الطلاق ليس للَّه تعالى وليس فيه قربة إلى اللَّه تعالى (¬2). فإن قاله رقيق لم يصح عتقه حين التعليق لأنه لا يملك. ويتبع معتقة بصفة علق عتقها عليها ولدها، فيعتق بعتقها إن كانت حاملا به حال عتقها بوجود الصفة؛ لأن العتق وجد فيها وهي حامل به، أشبهت المنجز عتقها، أو كانت حاملا به حال تعليق العتق؛ لأنه كان حين التعليق كعضو من أعضائها فسرى التعليق إليه، ولا يتبعها في العتق ما حملته ووضعته بين التعليق ووجود الصفة؛ لأنها لم تتعلق به حال التعليق ولا حال العتق (¬3). وإن قال لرقيقه: أنت حر وعليك ألف عتق بلا شيء لأنه أعتقه بغير شرط وجعل عليه عوضا لم يقبله ولم يلزمه شيء، وإن قال: أنت حر على ألف أو بألف أو على أن تعطيني ألفا أو بعتك نفسك بألف لم يعتق حتى يقبل؛ لأنه أعتقه على ¬
عوض فلا يعتق بدون قبوله، وعلى تستعمل للشرط والعوض (¬1)، كقوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)} (¬2) وقال تعالى: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} (¬3) وإن قال لرقيقه: أنت حر على أن تخدمني سنة ونحوها يعتق في الحال بلا قبوله وتلزمه الخدمة، وكذا لو استثنى خدمته مدة حياته أو استثنى نفعه مدة معلومة، فيصح لما تقدم من خبر سفينة، وللسيد بيع الخدمة من العبد ومن غيره نصا (¬4)، وإن مات السيد في أئناء الخدمة رجع الورثة عليه بقيمة ما بقى من الخدمة. وإن قال لقنه: جعلت عتقك إليك فأعتق نفسه في المجلس عتق وإلا فلا، قال في "الفروع" (¬5): "ويتوجه كطلاق". وإذا قال: كل مملوك لي أو كل عبد لي أو كل مماليكي أو كل رقيقي حر عتق مدبروه ومكاتبوه وأمهات أولاده وشقص يملكه وعبيد عبده التاجر نصا (¬6)، ولو استغرقهم دين عبده التاجر لعموم لفظه فيهم كما لو عينهم. وإن قال: عبدي حر أو أمتي حرة أو زوجتي طالق ولم ينو (¬7) معينا منهم عتق ¬
الكل من عبيده أو إمائه وطلق الكل من زوجاته نصا (¬1)؛ لأنه مفرد مضاف فيعم، قال أحمد في رواية حرب (¬2): "لو كان له نسوة فقال: امرأته طالق أذهب إلى قول ابن عباس يقع عليهن الطلاق" (¬3). وليس هذا مثل قوله: إحدى الزوجات طالق كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (¬4) وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (¬5) وحديث: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" (¬6) وهي تعم كل صلاة جماعة. وإن قال: أحد عبدي أو أحد عبيدي أو بعضهم حر ولم يعينه بالنية أو عينه ونسيه أقرع بينهم السيد أو وارثه، فمن خرج فهو حر من حين العتق وكسبه له؛ لأن ¬
مستحق العتق في هذه الصورة واحد لا بعينه، ومتى بان [لناس] (¬1) أو لجاهل أن عتيقه أخطأته القرعة عتق وبطل عتق المخرج لتبين أن العتيق غيره إذا لم يحكم بالقرعة، فإن حكم بها أو كانت بأمر حاكم عتق؛ لأن في إبطال عتق المخرج نقضا لحكم الحاكم فلا يقبل قوله فيه (¬2). ولو قال مالك رقيقين: أعتقت هذا لا بل هذا عتقا جميعا، وكذا إقرار وارث بأن مورثه أعتق هذا لا بل هذا فيعتقان لما يأتي في الطلاق (¬3). وإن أعتق مالك رقيقين أحدهما بشرط فمات أحدهما، أو باعه قبل وجود الشرط عتق الباقي منهم عند وجود شرطه؛ لأنه محل العتق دون الميت أو المبيع، كقوله له ولأجنبي: أحدكما حر فيعتق قنه وحده، وكذا الطلاق إذا قال لزوجتيه: إحداكما طالق غدا مثلا فماتت إحداهما أو بانت قبله، ويأتي موضحا في الطلاق إن شاء اللَّه تعالى (¬4). ومن أعتق في مرض موته المخوف ونحوه جزءا من رقيق مختص به أو مشترك أو دبره وثلثه يحتمله كله عتق كله بالسراية إلى باقيه من ثلث ام له، ولشريك في مشترك ما يقابل حصته من قيمته يوم عتقه لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ويعطى شركاؤه حصصهم" (¬5)، فلو مات الرقيق الذي أعتق السيد جزأه في مرضه قبل سيده عتق بقدر ثلث مال سيده منه، ¬
كما لو لم يمت فيورث عنه كسبه بما عتق منه، ومن أعتق في مرضه المخوف ستة أرقاء قيمتهم سواء وثلثه يحتملهم، ثم ظهر على معتقهم دين يستغرقهم بيعوا كلهم فيه لتبين بطلان عتقهم بظهور الدين؛ لأنه تبرع بمرض الموت يعتبر خروجه من الثلث فقدم عليه الدين كالهبة (¬1)، وإن استغرق الدين بعضهم بيع منهم بقدره ملام يلتزم وارث بقضائه فيما إذا استغرقهم الدين جميعهم أو بعضهم، فإذا استلزم (¬2) بقضائه عتقوا؛ لأن المانع من نفوذ العتق الدين فإذا سقط بقضاء الوارث وجب نفوذ العتق، وإن لم يظهر عليه دين ولم يعلم له مال غيرهم ولم تجز الورثة عتق جميعهم عتق ثلثهم فقط، فإن ظهر له بعد ذلك مال يخرجون من ثلثه عتق من أرق منهم من حين أعتقهم الميت لنفوذ تصرف المريض في ثلثه وقد بان أنهم ثلث ماله، وخفاء ما ظهر من المال علينا لا يمنع كون العتق موجودا من حينه وما كسبوه بعد عتقهم لهم، وإن تصرف فيهم وارث ببيع أو غيره فباطل (¬3)، وإلا يظهر له مال غيرهم ولا دين عليه جزأناهم ثلاثة أجزاء كل اثنين جزأ وأقرعنا بينهم بسهم حرية وسهمي (¬4) رق، فمن خرج له الحرية منهم عتق ورق الباقون لحديث عمران بن حصين: "أن رجلا من الأنصار أعتق ستة مملوكين في مرضه، لا مال له غيرهم، فجزأهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ستة أجزاء، فأعتق اثنين وأرق أربعة" رواه مسلم وأبو داود وغيرهما (¬5)، وروي نحوه عن أبي هريرة ¬
مرفوعا (¬1)، ولأن في تفريق العتق ضررا فوجب جمعه بالقرعة كالقسمة. وإن كانوا ثمانية فإنه شاء أقرع بينهم بسهمي حرية وخمسة رق وسهم لمن ثلثاه حر، وإن شاء جزأ أربعة أجزاء وأقرع بينهم بسهم حرية وثلاثة رق ثم أعادها بين الستة لإخراج من ثلثاه حر، وكيف أقرع جاز. وإن أعتق عبدين قيمة أحدهما مائتان والآخر ثلاثمائة جمعت الخمسمائة فجعلتها الثلث لئلا يكون كسر فتعسر النسبة إليه ثم أقرعت بين العبدين لتمييز العتيق منهما، فإن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان ضربتها في ثلاثة مخرج الثلث كما تعمل في مجموع القيمة تكن ستمائة ثم نسبت من المضروب الخمسمائة ثلث تقدير فيعتق خمسة أسداسه؛ لأن الخمسمائة خمسة أسداس الستمائة، وإن وقعت القرعة على العبد الآخر عتق منه خمسة أتساعه؛ لأنك (¬2) تضرب قيمته ثلاثمائة في ثلاثة تكن تسعمائة فتنسب منها الخمسمائة تكن خمسة أتساعها، وكل ما يأتي من هذا الباب فطريقه أن يضرب في ثلاثة مخرج الثلث ليخرج صحيحا. ¬
وإن أعتق مريض عبدا مبهما من أعبد ثلاثة لا يملك غيرهم، فمات أحدهم في حياته أقرع بينه وبين الحيين، فإن وقعت على الميت رقا؛ لأنه إنما أعتق واحد، وإن وقعت على أحدهما عتق إذا خرج من الثلث عند الموت؛ لأن تصرف المريض معتبر من الثلث، ولم يشترطوا فيما إذا وقعت القرعة على الميت خروجه من الثلث؛ لأن قيمة الميت إن كانت وفق الثلث فلا إشكال، وإن كانت أكثر فالزائد على الثلث هلك على مالكه، وإن كانت أقل فلا يعتق من الآخرين شيء؛ لأنه لم يعتق إلا واحد. (ولا تصح الوصية به) أي بالعتق (بل) يصح (تعليقه بالموت) أقول: الذي يظهر أن هذه العبارة وهي [عدم] (¬1) صحة الوصية بالعتق غير صحيحة أو على غير الصحيح من المذهب، وهذا المختصر إنما بني على الصحيح؛ لأن صحة الوصية بالعتق إذا خرج من الثلث أشهر من أن تذكر، ولو كانت النسخة بغير كتابة المصنف لقلت تحريفا من الناسخ واللَّه أعلم. (وهو) أي تعليق العتق بالموت (التدبير)، سمي بذلك؛ لأن الموت دبر الحياة، يقال: دابر يدابر إذا مات (¬2)، ولا تصح الوصية به. وأجمعوا على صحة التدبير في الجملة (¬3) وسنده حديث جابر: "أن رجلا أعتق مملوكا عن [دبر] (¬4) فاحتاج، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: من يشتريه منى؟ فباعه ¬
من نعيم بن عبد اللَّه (¬1) بثمانمائة درهم، فدفعها إليه وقال: أنت أحوج منه" متفق عليه (¬2)، ويعتبر كونه ممن تصح وصيته فيصح من محجور عليه لسفه وفلس ومميز يعقله، (ويعتبر) خروجه (من الثلث) يوم مصت سيده نصا (¬3)؛ لأنه تبرع بعد الموت بخلاف العتق في الصحة لأنه لم يتعلق به حق الورثة فنفذ من جميع المال كالهبة في الصحة، والاستيلاد أقوى من التدبير لصحته من المجنون، ولا يصح بيع أم الولد (¬4)، فإن اجتمع التدبير والوصية بالعتق تساويا؛ لأنهما جميعا عتق بعد الموت، وإن اجتمع العتق في المرض والتدبير قدم العتق لسبقه. وإن قال شريكان لعبدهما مثلا: إن متنا فأنت حر فمات أحدهما عتق نصيبه وباقيه يعتق بموت الآخر نصا (¬5)؛ لأنه من مقابلة الجملة بالجملة فينصرف إلى مقابلة البعض بالبعض، كقوله: ركبوا دوابهم ولبسوا أثوابهم أي كل إنسان ركب دابته ولبس ثوبه، وإن احتمله ثلث الأول عتق كله بالسراية كما تقدم آنفا. ¬
وصريح التدبير: لفظ عتق ولفظ حرية معلقين بموته كأنت حر بعد موتي وأنت عتيق بعد موتي، ولفظ تدبير كأنت مدبر وما تصرف منها غير أمر كدبر، ومضارع كيدبر، واسم فاعل كمدبر بكسر الباء، وتكون كنايات عتق منجز كنايات للتدبير إن علقت بالموت. ويصح التدبير مطلقا غير مقيد ولا معلق كقوله أنت مدبر، ويصح مقيدا كقوله: إن مت عامي أو في مرضي هذا فأنت مدبر فيكون ذلك جائزا على ما قال، فإن مات على الصفة التي قالها عتق إن خرج من الثلث وإلا فلا، ويصح أيضا معلقا كقوله: إذا قدم زيد فأنت مدبر، كان شفى اللَّه مريضي فأنت حر بعد موتى ونحوه، فإن وجد الشرط في حياة سيده صار مدبرا (¬1) وإلا فلا (¬2) ويصح مؤقتا كأنت مدبر اليوم أو سنة، فإن مات سيده في تلك المدة عتق وإلا فلا. ويصح وقف مدبر وهبته وبيعه ولو أمة أو في غير دين نصا (¬3)، وروي مثله عن عائشة (¬4) ¬
قال أبو إسحاق الجوزجاني (¬1): "صحت أحاديث بيع المدبر باستقامة الطرق (¬2)، فإذا صح الخبر استغني به عن غيره من رأي الناس" (¬3)، ولأنه عتق معلق وثبت بقول المعتق فلم يمنع البيع كقوله: إن دخلت الدار فأنت حر، ولأنه تبرع بمال بعد الموت فلم يمنع البيع في الحياة كالوصية، وما ذكر أن ابن عمر (¬4) روى أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا يباع المدبر ولا يشترى" (¬5) فلم يصح، ويحتمل أن يراد بعد الموت أو على الاستحباب، ولا يصح قياسه على أم الولد؛ لأن عتقها بغير اختيار سيدها وليس بتبرع، ويكون من رأس المال، وباعت عائشة مدبرة لها سحرتها (¬6)، ومتى عاد المدبر إلى ملك من دبره عاد التدبير لما تقدم في عود الصفة في العتق المعلق، وكذا في الطلاق ¬
كما سيأتي (¬1). وإن جنى مدبر جاز بيعه في الجناية، وإن فداه سيده بقي تدبيره بحاله، وإن بيع بعضه فباقيه مدبر، وإن مات سيد مدبر قبل بيعه وفدائه عتق إن وفى ثلث السيد بالجناية. وما ولدت مدبرة بعد التدبير فولدها بمنزلتها، سواء كانت حاملا به حين التدبير أو حملت به بعده (¬2)، لقول عمر وابنه وجابر: "ولد المدبوة بمنزلتها" (¬3) ولا يعلم لهم مخالف من الصحابة، ولأن الأم استحقت الحرية بموت سيدها فتبعها ولدها كأم الولد بخلاف التعليق بصفة في الحياة والوصية؛ لأن التدبير آكد من كل منهما ويكون ولدها مدبرا بنفسه، فلو ماتت المدبرة أو زال ملك سيدها عنها لم يبطل التدبير في ولدها فيعتق بموت السيد كما لو كانت باقية، وما ولدته قبل التدبير لا يتبعها فيه كالاستيلاد ¬
والكتابة، فلو قالت مدبرة: ولدت بعد التدبير وأنكر سيدها فقوله أو ورثته (¬1) بعده؛ لأن الأصل بقاء رق الولد وانتفاء الحرية عنه، وإن لم يف الثلث بمدبرة وولدها أقرع بينها (¬2) وبين ولدها كمدبرين لا قرابة بينهما ضاق الثلث عنهما. ولسيد مدبرة وطؤها وإن لم يشترطه حال تدبيرها سواء كان يطؤها قبل تدبيرها أو لا، روي عن ابن عمر: "أنه دبر أمتين له وكان يطأهما" (¬3)، قال أحمد: "لا أعلم أحدا كره ذلك غير الزهري" (¬4)، ولعموم قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬5) وقياسا على أم الولد، وله وطء بنتها إن لم يكن وطن أمها لتمام ملكه فيها، ويبطل تدبيرها بإيلادها؛ لأن مقتضى التدبير العتق من الثلث، والاستيلاد العتق من رأس المال، ولو لم يملك غيرها أو مدينا فالاستيلاد أقوى، فيبطل به الأضعف كملك الرقبة إذا طرأ على النكاح. ومن كاتب مدبره أو أم ولده أو دبر مكاتبه صح وعتق بأداء ما كوتب عليه وما بقي بيده له وبطل تدبيره، فإن مات سيده قبل أدائه وثلثه يحتمل ما عليه عتق كله ¬
بالتدبير وما بيده للورثة وبطلت المكاتبة، وإلا يحتمل ثلثه ما عليه كله عتق منه بقدر ما يحتمله ثلثه وسقط عنه من المكاتبة بقدر ما عتق منه وهو على كتابته فيما بقي عليه لأن محلها لم يعارضه شيء. ومن دبر شقصا من رقيق مشترك لم يسر تدبيره إلى نصيب شريكه معسرا كان المدبر أو موسرا؛ لأن التدبير تعليق عتق بصفة فلم يسر كتعليق بدخول الدار، بخلاف الاستيلاد فإنه آكد، فإن مات مدير شقص عتق نصيبه إن خرج من الثلث، فإن أعتقه شريكه الذي لم يدبره سرى عتقه إن كان موسرا إلى الشقص المدبر مضمونا عليه (¬1) لحديث ابن عمر السابق. ولو أسلم قن أو مدبر أو مكاتب لكافر، ألزم بإزالة ملكه عنه؛ لئلا يبقى ملك كافر على مسلم مع إمكان بيعه، بخلاف أم الولد، فإن أبى إزالة ملكه عنه باعه الحاكم عليه إزالة لملكه عنه لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬2)، ومن أنكر التدبير فشهد به عدلان أو عدل وامرأتان أو عدل وحلف معه المدبر حكم بالتدبير (¬3). ¬
ويبطل التدبير بقتل مدبر لسيده (¬1)؛ لأنه استعجل ما أجل له فعوقب بنقيض قصده، كحرمان القاتل الميراث، وأما أم الولد فتعتق مطلقا؛ لئلا يفضي إلى نقل الملك فيها ولا سبيل إليه. ¬
فصل في الكتابة
فصل في الكتابة (وتسن كتابة من علم فيه خيرا) من رقيق للآية (¬1)، والكتابة اسم مصدر بمعنى الجمع لأنها تجمع نجوما (¬2)، ومنه سمي الخراز كاتبا، أو لأن السيد يكتب بينه وبين عبده كتابا بما اتفقا (¬3) عليه (¬4). وهي شرعا: بيع سيد رقيقه نفسه بمال في ذمته مباح معلوم (¬5)، ويصح السلم فيه منجما بنجمين فأكثر يملم قسط كل نجم ومدته، أو بيع السيد رقيقه نفسه بمنفعة على أجلين فأكثر. ولا يشترط للكتابة أجل له وقع في القدرة على الكسب فيه فيصح توقيت ¬
النجمين بساعتين وجزم في "الإقناع" (¬1) بخلاف ذلك. وتصح الكتابة على خدمة مفردة أو على خدمة معها مال إن كان مؤجلا ولو إلى أثناء (¬2) مدة الخدمة، كأن يكاتبه على خدمته شهرا ودينار (¬3) يؤديه في أثنائه أو آخره وإذا لم يسم الشهر كان عقب العقد كالإجارة في قول، وإن عين الشهر صح ولو اتصل بالعقد؛ لأن المنع من الحلول في غير الخدمة للعجز عنه في الحال بخلافها، ويصح أن يكون أجل الدينار قبل الخدمة إن لم تتصل بالعقد كأن يكاتبه في المحرم على دينار إلى صفر وعلى خدمة رجب، وإن جعل محله نصفه أو انقضاءه صح. (وهو) أي الخير الذي تسن كتابة من علم فيه (الكسب والأمانة)، قال [أحمد] (¬4): "الخير: صدق وصلاح ووفاء بمال الكتابة" (¬5)، والآية (¬6) محمولة على الندب لحديث: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" (¬7) ولأنه دعاء إلى ¬
إزالة ملكه بعوض فلم يجبر السيد عليه كالبيع، (وتكره) الكتابة (لمن لا كسب له) لئلا (¬1) يصير كلا على الناس ويحتاج إلى المسألة. وتصح كتابة مبعض ومميز؛ لأنه يصح تصرفه وبيعه بإذن سيده فصحت كتابته كالمكلف (¬2)، وإيجاب سيده الكتابة له إذن له في قبولها، ولا تصح الكتابة من المميز بأن يكاتب رقيقه إلا بإذن وليه؛ لأنها تصرف في المال كالبيع، ولا تصح من سيد غير جائز التصرف كسفيه ومحجور عليه للفلس كالبيع. وتنعقد الكتابة بقول سيد لرقيقه [كاتبتك] (¬3) على كذا مع قبول الرقيق الكتابة؛ وإن لم يقل فإذا أديت لي فأنت حر؛ لأن الحرية موجب عقد الكتابة فتثبت عند تمامه كسائر أحكامه (¬4)، ومتى أدى المكاتب ما عليه فقبضه سيده أو وليه أو أبرأه سيده أو أبرأه وارث موسر من حقه عتق لأنه لم يبق عليه شيء منها، فإن أدى البعض أو أبرئ منه، برئ منه، وهو على كتابته فيما بقي للخبر (¬5) وإن كان الوارث معسرا ¬
وأبرأ من حقه عتق نصيبه فقط بلا سراية. وما فضل بيد مكاتب بعد أداء ما عليه أو إبرائه منه فله؛ لأنه كان له قبل عتقه فبقي على ما كان. وتنفسخ الكتابة بموت المكاتب قبل أدائه جميع الكتابة سواء خلف وفاء أم لا، وما بيده لسيده نصا (¬1)؛ لأنه مات وهو عبد كما لو لم يخلف وفاء؛ لأنها عقد معاوضة على المكاتب وقد تلف المعقود عليه قبل التسليم فبطل، وقتله كموته سواء قتله سيده أو أجنبي، ولا قصاص إن قتله حر، وإن كان القاتل سيده فلا شيء عليه؛ لأنه لو وجب شيء لكان له وما في يده لسيده لزوال الكتابة لا على أنه إرث، وإن كان القاتل أجنبيا فلسيد قيمته. ولا بأس أن يعجل الكتابة المؤجلة لسيده، ويضع السيد بعضها، فلو كان النجم مثلا مائة وعجل منه أو صالحه على ستين وأبرأه من الباقي صح؛ لأن مال الكتابة غير مستقر وليس بدين صحيح؛ لأنه لا يجبر على أدائه، ولا تصح الكفالة به ¬
وما يؤديه إلى سيده كسب عبده، وإنما جعل الشرع هذا العقد وسيلة إلى العتق وأوجب فيه التأجيل مبالغة في تحصيل العتق وتخفيفا عن المكاتب، فإذا عجل على وجه يسقط به بعض ما عليه كان أبلغ في حصول العتق وأخف على العبد، ولهذا فارق سائر الديون، ويفارق الأجانب من حيث إنه عبده فهو أشبه بعبده القن (¬1)، وإن اتفقا على الزيادة في الأجل والدين كأن حل عليه نجم [فقال] (¬2): أخره إلى كذا وأزيد كذا لم يجز؛ لأنه يشبه ربا الجاهلية المحرم، ويلزم سيدا عجل لمكاتبه كتابته أخذ معجله بلا ضرر عليه في قبضها، فإن أبى أخذها بلا ضرر جعلها إمام في بيت المال وحكم بعتقه، رواه سعيد في سننه عن عمر وعثمان (¬3)، ولأن الأجل حق لمن عليه الدين فإذا قدمه فقد أسقط حقه فسقط كسائر الحقوق، فإن كان على السيد ضرر في قبضها كأن دفعها إليه بطريق مخوف أو احتاجت إلى مخزن كالطعام ونحوه لم يلزمه أخذها؛ لأنه لم يلزمه التزام ضرر لا يقتضيه العقد ولا يعتق ببذله إذا، ومتى بان بعوض دفعه مكاتب لسيده [عيب] (¬4) فله أرشه إن أمسكه أو عوضه إن رده؛ لأن إطلاق عقد الكتابة يقتضي سلامة عوضها، وقد تعذر رد المكاتب رقيقا فوجب أرش العيب أو عوض المعيب جبرا لما (¬5) اقتضاه إطلاق العقد، ولم يرتفع عتقه؛ لأنه إزالة ملك بعوض فلا ¬
يبطله رد العوض بالعيب كالخلع (¬1)، ولو أخذ سيده منه حقه ظاهرا ثم قال: هو حر ثم بان ما دفعه مستحقا لم يعتق لفساد القبض وإنما قال: هو حر اعتمادا على صحة القبض، وإن ادعى السيد تحريمه وقال: لا أقبضه لأنه غصب وسرقة ونحوه وأنكره المكاتب قبل قول السيد ببينة، وإلا يكن له بينة حلف العبد أنه ملكه، ثم يلزم السيد رد ما قبضه من المكاتب مدعيا أنه حرام إلى من أضافه إليه إن كان أضافه لمعين بأن قال: غصبه من زيد فيرده إليه؛ لأنه يقبل قوله في حق نفسه وإن لم يقبل على المكاتب، كان نكل مكاتب عن الحلف أن ما بيده ملكه حلف سيده أنه حرام ولم يلزمه قبوله. ويملك المكاتب كسبه ونفعه وكل تصرف يصلح ماله كبيع وشراء وإجارة واستئجار واستدانة؛ لأن الكتابة وضعت لتحصيل العتق ولا يحصل العتق إلا بأداء عوضه، ولا يمكنه الأداء إلا بالتكسب، وهذا أقوى أسبابه (¬2)، وفي بعض الآثار: "أن تسعة أعشار الرزق في التجارة" (¬3)، وتتعلق استدانته بذمته يتبع بها بعد عتق؛ لأنه لما ملك كسبه صارت ذمته قابلة للاشتغال، ولأنه في يد نفسه فليس من سيده غرور بخلاف المأذون له، وسفره كسفر غريم فلسيده منعه منه. ¬
وللمكاتب أخذ صدقة واجبة ومستحبة لقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} (¬1) وإذا جاز له الأخذ من الواجبة فالمستحبة أولى، ويلزم المكاتب شرط سيده عليه ترك السفر وترك أخذ الصدقة فيملك تعجيزه بسفره أو أخذه الصدقة عند شرط تركهما لحديث: "المسلمون على شروطهم" (¬2)، وكذا لو شرط عليه أن لا يسأل الناس، ولا يصح شرط سيده عليه نوع تجارة كأن يشترط عليه أن لا يتجر إلا في نوع كذا لمنافاته مقتضى العقد. ويملك المكاتب أن ينفق على نفسه وزوجته ورقيقه وولده التابع له في كتابته من كسبه، فإن عجز عما عليه ولم يفسح سيده كتابته لعجزه لزم السيد نفقة من ذكر؛ لأنهم في حكم أرقائه، وليس للمكاتب النفقة على ولده من أمة لغير سيده ولو ولد بعد الكتابة؛ لأنه تابع لأمه، وبتبعه في كتابته ولده من أمة سيده بشرطه ذلك على سيده للحديث، فإن لم يشترطه فولده قن لسيده تبعا لأمه، ونفقة ولد المكاتب من مكاتبة ولو لسيده على أمه؛ لأنه تابع لها. ولا يملك المكاتب أن يكفر بمال إلا بإذن سيده؛ لأنه في حكم المعسر؛ لأنه لا يلزمه زكاة ولا نفقة قريب، ولا يسافر لجهاد ولا يتزوج إلا بإذن سيده؛ لأنه عبد فيدخل في عموم حديث: "أيما عبد نكح بغير إذن مواليه فهو عاهر" (¬3)، ولا يتسرى ¬
إلا بإذن سيده؛ لأن ملكه غير تام، ولا يتبرع ولا يقرض ولا يحابي ولا يرهن ولا يضارب ولا يبيع نسأ ولو برهن أو يزوج رقيقه أو يحده أو يعتقه أو يكاتبه إلا بإذن سيده في الكل؛ لأن حق سيده لم ينقطع إذ ربما عجز فعاد إليه كل ما في ملكه، فإن إذن له السيد في شيء من ذلك جاز، والولاء على من أعتقه المكاتب أو كاتبه بإذن سيده فأدى ما عليه للسيد؛ لأن المكاتب كوكيله في ذلك. ويصح شرط وطن مكاتبته نصا (¬1)؛ لبقاء أصل الملك كراهن يطأ بشرط، لا شرط وطء بنتها، فإن وطئها بلا شرط أو وطئ بنتها التي في ملكه أو وطئ أمتها فلها المهر ولو مطاوعة؛ لأن عدم منعها من وطئه ليس إذنا فيه، وعليه قيمة أمتها إن أولدها لإتلافه لها بمنعها من التصرف فيها، بخلاف بنتها إن أولدها فلا يلزمه قيمتها؛ لأن المكاتبة كانت ممنوعة من التصرف فيها قبل استيلادها فلم يفت عليها شيء باستيلادها، ويؤدب من وطء مكاتبته بلا شرط إن علم التحريم، وتصير مكاتبته أو بنتها أو أمتها أو أمة مكاتبه إن ولدت منه أم ولد؛ لأنها أمته ما بقي عليها درهم، ثم إن أدت عتقت وكسبها لها ولا تنفسخ كتابتها باستيلادها، وإن مات سيدها وبقي ¬
عليها شيء من كتابتها سقط وعتقت بكونها أم ولد وما بيدها لورثته (¬1)، كما لو أعتقها قبل موته ولو لم تعجز لأنها عتقت بغير أداء، وكذا لو أعتق سيد مكاتبه فله كل ما في يده وكان عتقه فسخا للكتابة، ويصح عتقه في الكفارة إن لم يكن أدى شيئا من كتابته ويأتي (¬2). (ويجوز بيع المكاتب) ذكرا كان أو أنثى لما روت عائشة: "أن بريرة (¬3) جاءت تستعينها في كتابتها شيئا فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت ذلك، فذكرت ذلك بريرة لأهلها، فأبوا وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا، فذكرت ذلك لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ابتاعي واعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق" متفق عليه (¬4)، قال ابن المنذر: "بيعت بريرة بعلم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهي مكاتبة ولم ينكر ذلك ولا وجه لمن أنكره ولا خبرا يعارضه، ولا أعلم شيئا من الأخبار دل على ¬
عجزها (¬1)، وتأوله الشافعي على أنها كانت قد عجزت (¬2) وليس في الخبر ما يدل بل قولها: "أعينيني" دل على بقائها على (¬3) الكتابة. ويجوز هبة المكاتب والوصية به وولده التابع له في كتابته كهو (ومشتريه) أي المكاتب (يقوم مقام مكاتبه) بكسر التاء يؤدي إليه ما بقي من كتابته، (فإن أدى إليه عتق، وولاؤه لمنتقل إليه)؛ لأن الكتابة عقد لازم فلم تنفسخ بنقل الملك في المكاتب (¬4)، وإن عجز [عن] (¬5) الأداء عاد قنا؛ لأن حكمه مع بائعه ونحوه كذلك، وإن لم يعلم مشتريه أنه مكاتب فله الرد أو الأرش؛ لأن الكتابة نقص، لأنه لا يقدر على التصرف في منافعه أشبه الأمة المتزوجة. ولا يجوز بيع ما في ذمة المكاتب من نجوم الكتابة كدين السلم. والكتابة الصحيحة عقد لازم من الطرفين؛ لأنها بيع، ولا يدخلها خيار مجلس ولا خيار شرط ولا غيرهما. ولا يصح تعليقها على شرط مستقبل كقوله: إذا جاء رأس الشهر فقد كاتبتك على كذا، كسائر العقود اللازمة، وخرج به الماضي والحاضر كإن كنت عبدي ونحوه ¬
فقد كاتبتك على كذا فتصح. ولا تنفسخ الكتابة بموت السيد ولا جنونه ولا الحجر عليه (¬1)، ويعتق المكاتب بأداء إلى من يقوم مقام السيد أو إلى وارثه، وإن حل نجم من كتابته فلم يؤده فلسيده الفسخ بلا حكم حاكم، ويلزم السيد إنظاره ثلاثا ليبيع عرضا ولمال غائب دون مسافة قصر يرجو قدومه، والدين حال على مليئ أو المال مودع قصدا لحظ المكاتب والرفق به مع عدم الإضرار بالسيد، وإن حل نجم والمكاتب غائب بلا إذن سيده فله الفسخ، وبإذنه يكتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي به المكاتب يأمره بالأداء أو يثبت عجزه ليفسخ السيد أو وكيله، فإن قدر المكاتب على الوفاء ولم يوكل من يؤدي عنه مع الإمكان ومضى زمن السير عادة فلسيده الفسخ. ولمكاتب قادر على كسب تعجيز نفسه؛ لأن دين الكتابة غير مستقر عليه، ومعظم القصد بالكتابة تخليصه من الرق فإذا لم يرد ذلك لم يجبر عليه إن لم يملك وفاء لكتابته، فإن ملكه لم يملك تعجيز نفسه لتمكنه من الأداء، وهو سبب الحرية التي هي حق للَّه تعالى فلا يملك إبطالها مع حصول سببها بلا كلفة، ويجبر على الأداء ثم يعتق ولا يعتق بنفس الملك؛ للخبر (¬2)، ولجواز أن يتلف قبل أدائه فيفوت على السيد. ¬
ولسيد الفسخ بعجز عن ربعها؛ لحديث الأثرم عن عمر وابنه وعائشة وزيد ابن ثابت أنهم قالوا: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" (¬1)، وروي أيضا عن أم سلمة (¬2). ¬
فصل في حكم أمهات الأولاد
فصل في حكم أمهات الأولاد (وأم الولد تعتق بموت سيدها من كل ماله) (¬1) وإن لم يملك غيرها؛ لحديث ابن عباس مرفوعا: "من وطئ أمته فولدت فهي معتقة عن دبر منه" رواه الإمام أحمد وابن ماجة (¬2)، وعنه أيضا قال: "ذكرت أم إبراهيم (¬3) عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: أعتقها ولدها" رواه ابن ماجة والدارقطني (¬4). ¬
(وهي) -أي أم الولد- شرعا: (من ولدت ما) -أي إنسان- (فيه صورة ولو) كانت الصورة (خفية من مالك) لها (ولو) لـ (بعضها) ولو جزءا يسيرا، أو كان مالكها أو بعضها مكاتبا إن أدى، فإن عجز عادت قنا (¬1) (ولو) (¬2) كانت (محرمة عليه) أي على مالكها كأخته من الرضاع وكمجوسية ووثنية، وكوطئها في نحو حيض (أو) ولدت ما فيه صورة (من أبيه) أي مالكها (إن لم يكن وطئها الابن) نصا (¬3) فإن كان الابن وطئها لم تصر أم ولد للأب باستيلادها؛ لأنها تحرم عليه أبدا بوطء ابنه لها فلا تحل له بحال، أشبه وطء الأجنبي فلا يملكها ولا تعتق بموته، ويعتق ولدها على أخيه؛ لأنه ذو رحمه، ونسبه لاحق بالأب؛ لأنه من وطئ يدرؤ فيه الحد لشبهة الملك. وإن وضعت جسما لا تخطيط فيه كالمضغة ونحوها لم تصر به أم ولد؛ لأنه ليس بولد، فإن شهد ثقات من النساء بأن في هذا الجسم صورة خفية تعلقت بها الأحكام؛ لاطلاعهن على ما خفي على غيرهن. وإن أصابها في ملك غيره بزوجية أو شبهة، ثم ملكها حاملا عتق الحمل؛ لأنه ولده ولم تصر أم ولد نصا (¬4) لمفهوم الخبر، ولأن الأصل في ولد الأمة الرق، وإن زنا بأمة فحملت منه ثم اشتراها فولدت في ملكه لم يعتق؛ لأنه كأجنبي ¬
منه لا يلحقه نسبه. ومن ملك أمة حاملا من غيره فوطئها قبل وضعها، حرم عليه بيع الولد ولم يصح ويعتقه نصا (¬1)؛ لأنه قد شرك فيه لأن الماء يزيد في الولد، قال الشيخ تقي الدين: "ويحكم بإسلامه وأنه يسري كالعتق" (¬2). أي ولو كانت كافرة. (وأحكامها) -أي أم الولد- (كـ) أحكام (أمة) غير مستولدة في إجارة واستخدام ووطء وسائر أمورها (¬3)؛ لأنها مملوكه أشبهت القن إلا في تدبير، فلا يصح؛ لأنه (لا) (¬4) فائدة [فيه] (¬5) إذ الاستيلاد أقوى منه، و (إلا فيما ينقل الملك) [في رقبتها] (¬6) كبيع فلا يصح بيع أم الولد غير كتابة فتصح كتابتها وتقدم، وكهبة ووصية ووقف؛ لحديث ابن عمر مرفوعا: "نهى عن بيع أمهات الأولاد وقال: لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن، يستمتع بهن السيد ما دام حيا، فإذا مات فهي حرة" رواه الدارقطني ورواه مالك في "الموطأ" (¬7). ¬
(أو يراد له) -أي لنقل الملك- كرهن فلا يصح رهنها؛ لأن القصد منه البيع في الدين ولا سبيل إليه. وولدها من غير سيدها بعد إيلادها كهي؛ لأن الولد يتبع أمه حرية ورقا فكذا في سبب الحرية، قال [أحمد] (¬1): قال ابن عمر وابن عباس وغيرهما: "ولدها بمنزلتها" (¬2) إلا أنه لا يعتق بإعتاقها؛ لأنها عتقت بغير السبب الذي تبعها فيه ويبقى عتقه موقوفا على موت سيده، ولا يعتق أيضا بموتها قبل سيدها. ¬
وإن أسلمت أم ولد لكافر منع من غشيانها لتحريمها عليه بإسلامها وحيل بينه وبينها لئلا يغشاها، ولا تعتق بإسلامها بل يبقى ملكه عليها على ما كان قبل إسلامها، ويجبر على نفقتها إن عدم كسبها لوجوبها عليه لأنه مالكها، فإن كان لها كسب فنفقتها فيه، فإن فضل منه شيء فلسيدها، فإن أسلم حلت له، وإن مات كافرا عتقت بموته؛ لعموم الأخبار (¬1). ¬
فصل
فصل (ومن أعتق رقبة أو عتقت عليه) بملك أو سبب (فله عليها الولاء، وهو أنه يصر عصبة لها مطلقا)، ذكرا كان المعتق أو أنثى لحديث: "الولاء لمن أعتق" متفق عليه (¬1)، ولكن يكون ذلك (عند عدم عصبة النسب) وتقدم تقريره في كتاب الفرائض (¬2). ¬
(كتاب النكاح)
(كتاب النكاح) وهو لغة: الوطء المباح قاله الأزهري (¬1)، وقال الجوهري (¬2): "النكاح [الوطء] (¬3) وقد يكون العقد" انتهى (¬4) وإذا قالوا: نكح فلانة أو بنت فلان أرادوا عقد عليها، وإذا قالوا: نكح زوجته أو أمته لم يريدوا إلا المجامعة؛ لقرينة ذكر زوجته أو أمته. وهو شرعا: حقيقة في عقد التزويج؛ لصحة نفيه عن الوطء، فيقال: سفاح وليس بنكاح وصحة النفي دليل المجاز وانصراف اللفظ عند الإطلاق إليه وتبادره إلى الذهن دون غيره، مجاز في الوطء لما تقدم (¬5). وقيل: حقيقة في الوطء مجاز في العقد لأنه سبب الوطء (¬6). ¬
وقيل: حقيقة في مجموعهما فهو من الألفاظ المتواطئة (¬1). والأشهر أن لفظ النكاح مشترك بين العقد والوطء فيطلق على كل منهما على انفراده حقيقة. قال في "الإنصاف" (¬2): "وعليه الأكثر" انتهى. والمعقود عليه المنفعة كالإجارة، قاله في "الفروع" (¬3). وأجمعوا على مشروعية النكاح (¬4) قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. . .} الآية (¬5) وغيرها، وحديث: "تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" رواه أحمد وابن حبان (¬6). ¬
(يسن) النكاح (مع شهوة لمن لم يخف الزنا) من رجل وامرأة لحديث ابن مسعود مرفوعا: "يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء (¬1) رواه الجماعة (¬2)، خاطب الشباب؛ لأنهم أغلب شهوة، واشتغاله به أفضل من التخلي لنوافل العبادة، لظاهر قول الصحابة وفعلهم قال ابن مسعود: "لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام، وأعلم أني أموت في آخرها يوما، لي فيهن طول النكاح لتزوجت مخافة الفتنة" (¬3)، وقال ابن عباس لسعيد بن جبير: "تزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها ¬
نساء" (¬1)، ولاشتماله على تحصين فرج نفسه وزوجته وحفظها والقيام بها، وإيجاد النسل وتكثير الأمة وتحقيق مباهاته -صلى اللَّه عليه وسلم- وغير ذلك. ويباح النكاح لمن لا شهوة له أصلا كعنين (¬2)، أو ذهبت شهوته لعارض كمرض وكبر كسائر المباحات لعدم منع الشرع منه، وتخليه لنوافل العبادة أفضل منه في حقه لمنع من (¬3) تزوجها من التحصين بغيره، وتعريض نفسه لواجبات وحقوق لعله لا يقوم بها. (ويجب) النكاح بنذر و (على من يخافه) أي الزنا بترك النكاح وقدر على نكاح حرة ولو كان خوفه ذلك ظنا من رجل؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصرفها عن الحرام وطريقه النكاح، وظاهر كلام أحمد لا فرق بين القادر على الإنفاق والعاجز عنه (¬4)، واحتج بأنه عليه السلام: "كان يصبح وما عندهم شيء، ويمسي وما عندهم شيء" (¬5)، ولأنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "زوج رجلا لم يقدر على خاتم من حديد، ولا وجد إلا ¬
إزاره ولم يكن له رداء" أخرجه البخاري (¬1) قال في "الشرح" (¬2): "هذا في حق من يمكنه التزويج، فأما من لا يمكنه فقد قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (¬3) " انتهى. ونقل صالح (¬4): "يقترض ويتزوج" (¬5). ومن أمره به والداه أو أحدهما فليتزوج نصا (¬6). ويقدم النكاح حين وجوبه على حج واجب زاحمه خشية الوقوع في الحرام، ولا يكتفى في الخروج من وجوب النكاح حيث وجب بالعقد ولا بمرة، بل يكون في مجموع العصر ليحصل الإعفاف وصرف النفس عن الحرام. ¬
ويجوز نكاح مسلمة بدار حرب لضرورة لغير أسير ولا يتزوج منهم، فإن لم تكن ضرورة لم يتزوج ولو مسلمة، ولا يطأ زوجته إن كانت معه نصا (¬1)، ويعزل وجوبا إن حرم نكاحه وإلا استحب. ويجزئ تسر عن نكاح حيث وجب واستحب لقوله تعالى: {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬2) والتخيير إنما يكون بين متساويين (¬3). (ويسن) لمن أراد نكاحا (نكاح واحدة) إن حصل بها إعفاف ولا يزيد عليها لما فيه من التعريض للحرمة قال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (¬4) (حسيبة) وهي النسيبة لنجابة ولدها، فإنه ريما أشبه أهلها ونزع إليهم (ودينة) لحديث أبي هريرة مرفوعا: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" متفق عليه (¬5) (أجنبية)؛ لأن ولدها أنجب، ولأنه [لا] (¬6) يؤمن الفراق فيفضي مع القرابة لقطيعة الرحم، ويسن أيضا ¬
تخير الجميلة للخبر؛ ولأنه أسكن لنفسه وأغض لبصره وأكمل لمودته، ولذلك شرع النظر قبل النكاح، وعن أبي هريرة قال: "قيل يا رسول اللَّه! أي النساء خير؟ قال: التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا في ماله بما يكره" رواه أحمد والنسائي (¬1)، (بكر) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لجابر: "فهلا بكرا تلاعبها وتلاعبك" متفق عليه (¬2)، (ولود) لحديث أنس مرفوعا: "تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" رواه سعيد (¬3)، ويعرف كون البكر ولودا بكونها من نساء يعرفن بكثرة الأولاد، ولا يسأل عن دينها حتى يحمد له جمالها، قال أحمد: "إذا خطب رجل امرأة سأل عن جمالها أولا، فإن حمد سأل عن دينها، فإن حمد تزوج، وإن لم يحمد يكون رد لأجل الدين، ولا يسأل أولا عن الدين، فإن حمد سأل عن الجمال، فإن لم يحمد ردها للجمال لا للدين". (¬4) وأراد الإمام أحمد أن يتزوج أو يتسرى فقال: "يكون لهما لحم" يريد كونهما ¬
سمينتين (¬1)، وكان يقال: من أراد أن يتزوج امرأة فليستجد شعرها، فإن الشعر وجه فتخيروا أحد الوجهين، وينبغي أن تكون المرأة من بيت معروف بالدين والقناعة، وأن تكون ذات عقل لا حمقاء، وأن يمنع وزجته من مخالطة النساء فإنهن يفسدنها عليه، وألا يدخل بيته مراهقا، ولا يأذن لها في الخروج، وأحسن النساء التركيات، وأصلحهن الجلب -التي لم تعرف أحدا- (¬2)، وليحذر العاقل إطلاق البصر فإن العين ترى غير المقدور عليه على غير ما هو عليه، وريما وقع من ذلك العشق فيهلك البدن والدين، فمن ابتلي بشيء من ذلك فليفكر في عيوب النساء. (و) يباح (لمريد خطبة امرأة) بكسر الخاء (مع) غلبة (ظن إجابة نظر إلى ما يظهر (¬3) منها غالبا) كوجه ورقبة ويد وقدم لحديث: "إذا خطب أحدكم المرأة فقدر أن يرى منها بعض ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل" (¬4)، [و] (¬5) لحديث جابر مرفوعا: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل، قال: فخطبت جارية من بني سلمة، فكنت أتخبا لها حتى رأيت منها بعض ما دعاني إلى نكاحها" رواه أحمد وأبو داود (¬6)، وقوله: "إذا ألقى اللَّه عز وجل في ¬
قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها" رواه أحمد وابن ماجة (¬1)، وعن المغيرة بن شعبة (¬2): "أنه خطب امرأة فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" رواه الخمسة إلا أبا داود (¬3)، ومعنى يؤدم: أي يؤلف ويوفق، والأمر بذلك ¬
[بعد] (¬1) الحظر فهو للإباحة، ويكون النظر إليها (بلا خلوة إن أمن الشهوة) (¬2)، فإن كان خلوة أو مع خوف ثوران شهوة لم يجز. (وله) أي الرجل (نظر ذلك) أي ما يظهر غالبا كوجه ورقبة ويد وقدم (ورأس وساق من ذوات محارمه) لقوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ}. . الآية (¬3) وذوات محارمه من يحرمن عليه أبدا بنسب كأمه وأخته وبنته، أو بسبب مباح كرضاع ومصاهرة كأخته من رضاع وزوجة أبيه وابنه وأم زوجته بخلاف أختها ونحوها لأن تحريمها إلى أمد، وبخلاف أم المزني بها وابنتها، وأم الموطوءة بشبهة وبنتها لأن السبب ليس مباحا. (و) لرجل وامرأة نظر وجه ورقبة ويد وقدم ورأس وساق (من أمة) معرضة لبيع يريد شراءها كما لو أراد خطبتها بل المستامة أولى؛ لأنها تراد للاستمتاع ¬
وغيره، ونقل حنبل: "لا بأس أن يقلبها إذا أراد الشراء من فوق الثياب؛ لأنها لا حرمة لها" (¬1)، وروى أبو حفص (¬2) أن ابن عمر: "كان يضع يده بين ثدييها، وعلى عجزها من فوق الثياب، ويكشف عن ساقيها" (¬3)، ويباح لعبد امرأة لا مبعض أو مشترك نظر ذلك من مولاته لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} (¬4) ولمشقة تحرزها منه، وكذا غير أولي الإربة من الرجال، ويباح أن ينظر من الأجنبيات (¬5) كعنين وكبير ومريض لا شهوة له لقوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} (¬6)، ويباح أن ينظر ممن لا تشتهى كعجوز وبرزة وقبيحة ومريضة لا تشتهى وأمة غير مستامة إلى غير عورة صلاة. ويحرم نظر خصي ومجبوب وممسوح -أي مطقوع الخصيتين ومقطوع الذكر ¬
ومقطوعهما- إلى أجنبية ولو امرأة سيده، قال الأثرم: "استعظم الإمام أحمد دخول الخصيان على النساء" (¬1) قال ابن عقيل: "لا تباح خلوة النساء بالخصيان ولا بالمجبوبين؛ لأن العضو وإن تعطل أو عدم فشهوة الرجال لا تزول من قلوبهم، ولا يؤمن التمتع بالقبلة وغيرها، ولذلك لا يباح خلوة الرجل بالرتقاء من النساء لهذه العلة" (¬2). ولشاهد ومعامل نظر وجه مشهود عليها، ووجه من تعامله في بيع أو إجارة أو غيرها ليعرفها بعينها لتجوز الشهادة عليها أو ليرجع عليها بالدرك، وكذا له نظر كفيها لحاجة، ولطبيب (¬3) ومن يلي خدمة مريض وأقطع يدين ولو أنثى في وضوء واستنجاء نظر ومس حتى الفرج لكن بحضرة محرم أو زوج أو سيد ما دعت إليه حاجة دفعا للحاجة ويستر ما عداه، وكذا حال تخليص من غرق ونحوه، وروي أنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لما حكم سعدا في بني قريظة كان يكشف عن مؤتزرهم" (¬4) وعن عثمان: أنه أتي بغلام قد ¬
سرق فقال: "انظروا إلى مؤتزره فلم يجدوه أنبت الشعر فلم يقطعه" (¬1) وكذا يباح للحلاق حلق عانة من لا يحسنه والنظر إلى المحل الذي يحلقه نصا (¬2)، ويباح لامرأة مع امرأة ولو كافرة مع مسلمة ورجل مع رجل ولو أمرد نظر غير عورة، وهي هنا ما بين سرة وركبة، لكن إن كان الأمرد جميلا يخاف الفتنة بالنظر إليه لم يجز تعمد النظر إليه، وروى الشعبي قال: "قدم وفد عبد القيس على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وفيهم غلام أمرد ظاهر الوضاءة، فأجلسه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وراء ظهره" رواه أبو حفص (¬3)، ويباح لامرأة [نظر] (¬4) من رجل إلى غير عورة، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لفاطمة بنت قيس (¬5): "اعتدي في بيت ¬
ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى تضعين (¬1) ثيابك فلا يراك" (¬2) قالت عائشة: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسترني بردائه، وأنا أنظر إِلى الحبشة يلعبون في المسجد" متفق عليه (¬3)، ولأنهن لو منعن النظر لوجب على الرجال الحجاب كما وجب على النساء لئلا ينظرن إليهم. ومميز لا شهوة له مع امرأة كامرأة مع امرأة لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} (¬4) وقوله: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬5) فدل على التفريق بين البالغ وغيره. ¬
والمميز ذو الشهوة مع المرأة كمحرم للآية حيث فرق اللَّه بينه وبين البالغ، وبنت تسع مع رجل كمحرم لحديث: "لا يقبل اللَّه صلاة حائض إلا بخمار" (¬1) فدل على صحة صلاة من لم تحض مكشوفة الرأس فيكون حكمها مع الرجال كذوات المحارم، وكالغلام المراهق مع النساء. وخنثى مشكل في نظر رجل إليه كامرأة ونظره إلى رجل كنظر امرأة إليه، ونظره إلى امرأة كنظر رجل إليها تغليبا لجانب الحظر. ولرجل نظر لغلام لغير شهوة كالبالغ، ويحرم نظر لشهوة بأن يتلذذ بالنظر، أو مع خوف ثورانها إلى أحد ممن ذكر من ذكر وأنثى وخنثى غير زوجة وسرية، وحرم ابن عقيل وهو ظاهر كلام غيره النظر مع شهوة تخنيث وسحاق ودابة يشتهيها ولا يعف عنها (¬2). ولمس كنظر بل أولى؛ لأنه أبلغ منه فيحرم اللمس حيث يحرم النظر، وصوت ¬
الأجنبية ليس بعورة، ويحرم تلذذ بسماعه ولو بقراءة القرآن؛ لأنه يدعو إلى الفتنة بها. ويحرم خلوة غير محرم على الجميع بشهوة ودونها وكرجل يخلو مع عدد من النساء وعكسه بأن يخلو عدد من الرجال بامرأة واحدة. قال في "الفروع" (¬1): "ولو بحيوان يشتهي المرأة أو تشتهيه كالقرد، ذكره ابن عقيل وابن الجوزي". (¬2) ولكل من الزوجين نظر جميع بدن الآخر ولمسه بلا كراهة حتى فرجها نصا (¬3) لقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (¬4)، ولحديث بهز بن حكيم (¬5) عن أبيه عن جده قال: "قلت: يارسول اللَّه! عوراتنا ما نأتي منها وما ¬
نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينك" رواه الترمذي وحسنه (¬1)، ولأن الفرج محل الاستمتاع فجاز النظر إليه كبقية البدن، كبنت أو ابن دون سبع سنين؛ لأنه لا حكم لعورتهما، روي عن أبي ليلى (¬2) قال: "كنا جلوسا عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: فجاء الحسن، فجعل يتمرغ عليه، فرفع مقدم قميصه أرآه، فقال: فقبل زبيبه" رواه أبو حفص (¬3)، وكره النظر إلى الفرج حال الطمث -أي الحيض- ويكون أيضا بمعنى الجماع، وزاد في "الرعاية الكبرى": "وحال الوطء" (¬4). وكذا سيد مع أمتة المباحة له لكل منهما نظر جميع بدن الآخر ولمسه بلا كراهة كما تقدم، والسنة عدم نظر كل منهما إلى فرج الآخر لحديث عائشة ¬
قالت: "ما رأيت فرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قط" رواه ابن ماجة (¬1)، وفي لفظ: "ما رأيته من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا رآه مني" (¬2)، ولأنه أغلظ العورة. وينظر سيد من أمته غير المباحة له كمزوجة، ومسلم من أمته الوثنية والمجوسية إلى غير عورة، ويحرم نظره إلى ما بين السرة والركبة، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة فإنه عورة" رواه أبو داود (¬3)، ومفهومه إباحة النظر إلى ما عدا ذلك، والمجوسية والوثنية في معنى المزوجة بجامع الحرمة، ومن لا يملك من أمة إلا بعضها كمن لا حق له فيها، وحرم تزين امرأة لمحرم غير زوج وسيد لدعائه إلى الافتتان بها، وكره أحمد مصافحة النساء وشدد حتى لمحرم غير أب (¬4). ¬
فصل
فصل (وحرم تصريح) وهو ما لا يحتمل غير النكاح (بخطبة معتدة) -بكسر الخاء- ومثلها مستبرأة عتقت بموت سيد ونحوه، كقوله: أريد أن أتزوجك، أو إذا انقضت عدتك تزوجتك، أو زوجينى نفسك لمفهوم قوله تعالى {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ [بِهِ] (¬1) مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} (¬2) إذ تخصيص التعريض بنفي الحرج يدل على عدم جواز التصريح، ولأنه لا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار بانقضاء عدتها قبل انقضائها (على غير زوج تحل له) كالمخلوعة والمطلقة دون ثلاث (¬3) على عوض؛ لأنه يباح له نكاحها في عدتها، أشبهت غير المعتدة بالنسبة إليه، فإن وطئت بشبهة أو زنا في عدتها فالزوج كأجنبي؛ لأنها لا تحل له إذن كالمطلقة ثلاثا. (و) يحرم (تعريض بخطبة رجعية)؛ لأنها في حكم الزوجات أشبهت التي في صلب النكاح، ويجوز التعريض بخطبة معتدة في عدة وفاة وبائن بطلاق ثلاثا، وبغير الثلاث كالمختلعة والمطلقة على عوض والبائن بفسخ لعنة وعيب ورضاع ونحوه، لقوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} (¬4)، والمرأة في ¬
الجواب كالرجل فيما يحل ويحرم، فيجوز للبائن التعريض في الإجابة ويحرم عليها التصريح، وعلى الرجعية التعريض والتصريح ما دامت في العدة، والتعريض من الخاطب مثل أن يقول: "إني في مثلك لراغب" و"لا تفوتيني نفسك" و"إذا انقضت عدتك فأعلميني"، وما أشبه ذلك، وتجيبه: " [ما يرغب] (¬1) عنك" و"إن قضى شيئا كان" ونحو ذلك، ودخل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على امرأة أبي سلمة وهي متأيمة فقال: "لقد علمت أني رسول اللَّه، وخيرته من خلقه، وموضعي من قومي، وكانت تلك خطبته" رواه الدارقطني (¬2)، فلو صرح الخاطب بالخطبة أو عرض في موضع يحرمان فيه ثم تزوجها بعد حلها وانقضاء عدتها صح نكاحه؛ لأن أكثر ما في ذلك تقديم حظر على العقد. (و) حرم (خطبة على خطبة مسلم أجيب) ولو تعريضا إن علم الثاني إجابة الأول؛ لحديث أبي هريرة مرفوعا: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" رواه البخاري (¬3)، ولما فيه من الإفساد على الأول وإيذائه وإيقاع العدواة بينهما، وإن لم يعلم بإجابة الأول، أو ترك الخطبة، أو أخر العقد حتى طالت المدة وتضررت المخطوبة أو أذن للثاني في الخطبة جاز، لحديث ابن عمر يرفعه: "لا يخطب ¬
الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن لخاطب" رواه أحمد والبخاري (¬1)، وكذا لو سكت الخاطب الأول بأن استأذنه الثاني فسكت جاز للثاني؛ لأن سكوته عند استئذانه في معنى الترك، وهذا من المواضع التي يكون السكوت فيها رضا، ومن ذلك سكوت البكر عند الاستئذان للنكاح، وسكوت من بشر بولد ولم ينفه، وصلاة إمام خلف من أم بغير إذنه. وإن رد الأول ولو بعد إجابته جاز للثاني أن يخطب، ويكره رد الأول بلا غرض صحيح، والتعويل في رد وإجابة على ولي مجبر، وهو الأب ووصيه إن كانت الزوجة حرة [بكرا وكذا سيد أمة] (¬2) بكرا وثيبا فلا أثر لإجابة المجبرة؛ لأن وليها يملك تزويجها بغير اختيارها، لكن إن كرهت من أجابه وليها وعينت غيره سقط حكم إجابة [عليها دون] (¬3) وليها لتقديم اختيارها عليه، وإلا تكن مجبرة كحرة ثيب عاقلة تم لها تسع سنين فالتعويل في رد وإجابة عليها دون وليها؛ لأنها أحق بنفسها، فإن خطب كافر كتابية لم تحرم خطبتها على مسلم نصا (¬4)؛ لأن الكافر ليس أخا للمسلم. (وسن عقده) أي النكاح (يوم الجمعة مساء)؛ لأنه يوم شريف ويوم عيد والبركة في النكاح مطلوبة فاستحب له أشرف الأيام طلبا للبركة، والإمساء به أن يكون ¬
من آخر النهار، وروى أبو حفص العكبري مرفوعا: "أمسوا بالإملاك فإنه أعظم للبركة" (¬1)، ولأن في آخر يوم الجمعة ساعة الإجابة فاستحب العقد فيها لأنه أعظم للبركة وأحرى لإجابة الدعاء لهما، ويكون العقد (بعد خطبة) عبد اللَّه (ابن مسعود) رضي اللَّه عنه، وهي ما رواه قال: "علمنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- التشهد في الصلاة، والتشهد في الحاجة: إن الحمد للَّه نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قال: ويقرأ ثلاث آيات فسرها سفيان الثوري (¬2) {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬3) {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬4) {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} الآية (¬5) رواه الترمذي وصححه (¬6)، ¬
وروي أن أحمد كان إذا حضر عقد نكاح ولم يخطب فيه بخطبة ابن مسعود قام وتركهم (¬1)، وهذا على طريق المبالغة في استحبابها لا على إيجابها، ويجزئ عن هذه الخطبة أن يتشهد ويصلى على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لما روي عن ابن عمر أنه كان إذا دعي ليزوج قال: "الحمد للَّه وصلى اللَّه على سيدنا محمد، إن فلانا يخطب إليكم، فإن أنكحتموه فالحمد للَّه، وإن رددتموه فسبحان اللَّه" (¬2) ولا يجب شيء من ذلك لما في المتفق عليه: "أن رجلا قال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: زوجنيها، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: زوجتكها بما معك من القرآن" (¬3)، وعن رجل من بني سليم (¬4) قال: "خطبت إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمامة بنت عبد المطلب (¬5) فأنكحني من غير أن يتشهد" رواه أبو ¬
داود (¬1) ولا بأس بسعي الأب للأيم واختيار الأكفاء لعرض عمر حفصة على عثمان رضي اللَّه عنهم (¬2). ويسن أن يقال لمتزوج: بارك اللَّه لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية، لحديث أبي هريرة: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا رفأ إنسانا تزوج قال: بارك اللَّه لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير وعافية" رواه الخمسة إلا النسائي (¬3)، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
لعبد الرحمن بن عوف: "بارك اللَّه لك، أولم ولو بشاة" (¬1)، فإذا زفت الزوجة إليه قال ندبا: اللهم إني أسالك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادما فليقل: اللهم إني أسالك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه، وإذا اشترى بعيرا أخذ بذروة سنامه وليقل مثل ذلك" رواه أبو داود (¬2). ¬
(فصل) في أركان النكاح وشروطه
(فصل) في أركان النكاح وشروطه وأركان الشيء أجزاء ماهيته، والماهية لا توجد بدون جزئها، فكذا الشيء لا يتم بدون ركنه (¬1). والشرط: ما ينتفي المشروط بانتفائه وليس جزءا للماهية (¬2). (أركانه) -أي النكاح- ثلاثة: إحداها: (الزوجان الخاليان [عن] (¬3) الموانع) الآتية في باب المحرمات في النكاح، وأسقطه في "المنتهى" وغيره لوضوحه (¬4). (و) الثاني: (إيجاب بلفظ أنكحتـ) ـك (أو زوجتـ) ـك. (و) الثالث: (قبول بلفظ قبلت أو رضيت فقط، أو مع هذا النكاح أو تزوجتها) ولا ينعقد النكاح إلا بهما مرتبين الإيجاب أولا وهو اللفظ الصادر من قبل الولي أو (¬5) من يقوم مقامه، ثم القبول بعده وهو اللفظ الصادر من الزوج أو من يقوم مقامه، ولا يصح إيجاب ممن يحسن العربية إلا بلفظ "أنكحت" أو "زوجت" لورودهما في نص القرآن في قوله: {زَوَّجْنَاكَهَا} (¬6) {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ ¬
آبَاؤُكُمْ} (¬1)، ولا يصح قبول ممن يحسن العربية إلا بلفظ "قبلت تزويجها"، أو "قبلت نكاحها" أو "قبلت هذا النكاح" أو"هذا التزويج" أو "تزوجتها" أو "رضيت هذا النكاح" أو "قبلت" فقط أو "تزوجت"؛ لأن ذلك صريح في الجواب فصح النكاح به كالبيع، أو قال الخاطب للولي: أزوجت؟ فقال: نعم، وقال للمتزوج: أقبلت؟ فقال: نعم. انعقد النكاح؛ لأن المعنى نعم زوجت، نعم قبلت هذا النكاح؛ لأن المسؤول عنه يكون مضمرا في الجواب معادا فيه بدليل قوله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} (¬2) أي وجدنا ما وعدنا ربنا حقا (¬3). ويصح الإيجاب والقبول من هازل وتلجئة لحديث: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والرجعة" رواه الترمذي (¬4)، وعن الحسن ¬
قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من نكح لاعبا أو طلق لاعبا أو أعتق جاز" (¬1) وقال عمر: "أربع جائزات إذا تكلم بهن: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذر" (¬2) وقال علي: "أربع لا لعب فيهن: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذر" (¬3). (ومن جهلهما) أي الإيجاب والقبول (لم يلزمه تعلم) بالعربية؛ لأنه عقد معاوضة كالبيع بخلاف تكبير الصلاة، ولأن القصد هنا المعنى دون اللفظ المعجز بخلاف القراءة، (وكفاه) أي العاجز عنهما بالعربية (معناهما الخاص بكل لسان) أي لغة؛ لأن ذلك في لغته نظير الإنكاح والتزويج ولا يكلف اللَّه نفسا إلا وسعها، ولا يصحان بما لا يؤدي معناهما الخاص كالعربي إذا عدل عن أنكحت أو زوجت إلى غيرهما، وإن أحسن أحدهما العربية وحده أتى بها والآخر بلغته، وترجم بينهما ثقة إن لم يحسن أحدهما لسان الآخر، ولا بد من معرفة الشاهدين لفظ العاقدين. ولا يصح إيجاب ولا قبول بكتابة ولا إشارة مفهومة إلا من أخرس فيصحان ¬
منه بالإشارة نصا (¬1)، كبيعه وطلاقه، وإذا صحا منه بالإشارة فالكتابة أولى؛ لأنها بمنزلة الصريح في الطلاق والإقرار. ولا يصح نكاح إن تقدم قبول على إيجاب سواء كان بلفظ الماضي كقوله: تزوجت ابنتك فيقول زوجتكها، أو الأمر كقوله: زوجني ابنتك، فيقول: زوجتكها؛ لأن القبول [إنما] (¬2) يكون للإيجاب، فمتى وجد قبله لم يكن قبولا لعدم معناه كما لو تقدم بلفظ الاستفهام، بخلاف البيع فإنه يصح بالمعاطاة وكل ما أدى معناه، و [يفارق] (¬3) الخلع؛ لأنه يصح تعليقه على شرط إذا نوف به الطلاق. وإن تراخى قبول عن إيجاب حتى تفرقا من المجلس أو تشاغلا بما يقطعه عرفا بطل الإيجاب للإعراض عنه بالتفرق أو الاشتغال أشبه ما لو رده، فإن طال الفصل بينهما ولم يتفرقا ولم يتشاغلا بما يقطعه صح العقد؛ لأن حكم المجلس حكم حالة العقد بدليل صحة القبض فيما يشترط لصحته قبضه في المجلس وثبوت الخيار في البيع فيه، ومن أوجب عقدا ولو في غير نكاح ثم جن أو غمي عليه قبل قبول بطل إيجابه بذلك، كبطلا [نه] (¬4) بموته، ولا يبطل الإيجاب إن نام قبل بقوله إن قبل في المجلس؛ لأن النوم لا يبطل العقود الجائزة (¬5). ¬
فصل (وشروطه) -أي النكاح- (أربعة): -
فصل (وشروطه) -أي النكاح- (أربعة): - أحدها: (تعيين الزوجين) في العقد؛ لأن النكاح عقد معاوضة أشبه البيع، فلا يصح النكاح إن قال الولي: "زوجتك بنتي" وله بنت غيرها حتى يميزها باسمها كفاطمة، أو صفة لا يشاركها فيها غيرها من أخواتها كالكبرى أو الطويلة، أو يشير إليها إن كانت حاضرة كهذه، وإلا يكن له إلا بنت واحدة صح النكاح بقوله: "زوجتك بنتي" ولو سماها بغير اسمها؛ لأنه لا تعدد هنا، وإن سماها باسمها ولم يقل: بنتي لم يصح (¬1) العقد لاشتراك هذا الاسم وهذه الصفة بينها وبين سائر الفواطم والطوال، أو قال من له بنتان: عائشة وفاطمة: زوجتك بنتي عائشة فقبل، ونويا فاطمة لم يصح؛ لأنهما لم يتلفظا بما يصح العقد بالشهادة عليه فأشبه ما لو قال: زوجتك بنتي فقط أو عائشة فقط، ولأن اسم أختها لا يميزها بل يصرف به العقد عنها كمن سمي له في العقد غير مخطوبته فقبل يظنها إياها (¬2). (و) الشرط الثاني: (رضاهما) أي الزوجين العاقلين ولو كان الزوج رقيقا نصا (¬3) إذا كان مكلفا والزوجة حرة ثيبا تم لها تسج سنين، ولها إذن صحيح معتبر، ¬
فيشترط مع ثيوبتها، ويسن مع بكارتها نصا (¬1)؛ لحديث أبي هريرة مرفوعا: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول اللَّه! وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت" متفق عليه (¬2)، وخص بنت تسع لحديث أحمد عن عائشة قالت: "إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة" (¬3)، وروي عن ابن عمر مرفوعا (¬4)، ومعناه في حكم المرأة، ولأنها تصلح بذلك للنكاح وتحتاج إليه أشبهت البالغة، (لكن لأب) دون سائر الأولياء (ووصيه) -أي الأب- (في نكاح تزويج) ابن (صغير) -أي [غير] (¬5) بالغ- لما روي أن ابن عمر: "زوج ابنه وهو صغير، فاختصموا إلى زيد، فأجازاه جميعا" رواه الأثرم (¬6)، وله تزويجه أكثر من واحدة إن رآه مصلحة بغير رضاه، ولأب أو وصيه تزويج ابن (بالغ معتوه) أو مجنون مطبقا ولو كان بلا شهوة بلا إذنه؛ لأنه غير مكلف أشبه الصغير، ولأنه ربما كان ¬
النكاح دواء له يرجى به شفاؤه، وقد يحتاج إلى الإيواء والحفظ، فإن عدم الأب ووصيه وثم حاجة إلى النكاح زوجهما -أي الابن الصغير والكبير المعتوه-[حاكم] (¬1)؛ لأنه ينظر في مصالحهما بعد الأب ووصيه، ومن يخنق في [بعض] (¬2) الأحيان إذا بلغ لا يصح تزويجه إلا بإذنه؛ لأنه ممكن، ومن أمكن أن يتزوج لنفسه لم تثبت ولاية تزويجه لغيره كالعاقل، ومن زال عقله ببرسام (¬3) أو مرض يرجى زواله فكالعاقل، ويصح قبول مميز لنكاحه بإذن وليه. (و) لأب ووصيه تزويج بنت (مجنونة) ولو كانت بلا شهوة أو ثيبا أو بالغة؛ لأن ولاية الإجبار انتفت عن العاقلة بخيرة نظرها لنفسها بخلاف المجنونة، ويزوجها مع شهوتها كل ولي لحاجتها إلى النكاح، ولدفع ضرر الشهوة عنها وصيانتها عن الفجور وتحصيل المهر والنفقة، وتعرف شهوتها من كلامها وقرائن أحوالها كتتبعها الرجال وميلها إليهم. (و) لأب ووصيه تزويج بنت (ثيب لها دون تسع) سنين؛ للأنه لا إذن لها معتبر (وبكر طلقا) أي ولو كانت مكلفة؛ لحديث ابن عباس مرفوعا: "الأيم أحق ¬
بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها صماتها" رواه أبو داود (¬1)، فقسم النساء قسمين وأثبت الحق لأحدهما فدل على نفيه عن الآخر وهي البكر، فيكون وليها أحق منها بنفسها، ودل الحديث على أن الاستئمار هنا والاستئذان في الحديث السابق مستحب غير واجب. ويسن استئذان البكر إذا تم لها تسع سنين مع استئذان أمها؛ لحديث ابن عمر مرفوعا: "آمروا النساء في بناتهن" رواه أبو داود (¬2). و(كـ) أب ووصيه (سيد مع إمائه) مطلقا كبارا كن أو صغارا أبكارا أو ثيبات أو مدبرات أو أمهات أولاد؛ لأن منافعهن مملوكة له، والنكاح عقد على منفعة أشبه عقد الإجارة (¬3)، (و) مع (عبده الصغر) أو المجنون كابنه وأولى لتمام ملكه، ولا يجبر سيد مكاتبا أو مكاتبة ولو صغيرين؛ لأنهما بمنزلة الخارجين عن ملكه، ولذلك لا يلزمه نفقتهما، ولا يملك إجارتهما ولا أخذ مهر المكاتبة، ويعتبر في نكاح معتق بعضها ¬
إذنها وإذن معتقها وإذن مالك البقية كالشريكين في أمة ويقول كل: زوجتكها، ولا يقول: زوجتك نصيبي منها؛ لأن النكاح لا يقبل التبعيض والتجزء بخلاف البيع والإجارة، (فلا يزوج باقي الأولياء) غير أب أو وصيه (صغرة) دون تسع سنين (بحال) من الأحوال؛ لأنه لا إذن لها وغير الأب أو وصيه لا إجبار له (ولا) يزوج (بنت تسع) سنين فأكثر (إلا بإذنها) نصا (¬1)، لحديث أبي هريرة مرفوعا: "تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت لم تكره" رواه أحمد (¬2)، فدل على أن اليتيمة تزوج بإذنها، وأن لها إذنا صحيحا، وقد انتفى ذلك فيمن لم تبلغ تسعا باتفاق (¬3) فوجب حمله على من بلغت تسعا جمعا بين الأخبار، (وهو) أي إذنها المعتبر (صمات بكر) لحديث أبي هريرة المتقدم، وعن عائشة أنها قالت: "يا رسول اللَّه! إن ¬
البكر تستحي قال: رضاها صماتها" متفق عليه (¬1)، ولو ضحكت أو بكت كان ذلك إذنا لحديث أبي هريرة مرفوعا: "تستأمر اليتيمة، فإن بكت أو سكتت فهو رضاها، وإن أبت فلا جواز عليها" (¬2)؛ ولأنها غير ناطقة بالامتناع مع سماع الاستئذان فكان ذلك إذنا منها كالصمات، والبكاء يدل على الحياء لا الكراهة، ونطقها أبلغ من صماتها؛ لأنه الأصلي في الإذن، ويعتبر في استئذان من يشترط إذنها تسمية الزوج على وجه تقع المعرفة به لتكون على بصيرة في إذنها في تزويجه، ولا يعتبر تسمية المهر، ومن زالت بكارتها بغير وطء فكبكر (¬3) (ونطق ثيب) وهي من وطئت في قبل ولو بزنا أو مع عود بكارة بعد وطئها، للحديث: "الثيب تعرب عن نفسها" (¬4)، ولمفهوم حديث: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح ¬
البكر حتى تستأذن، وإذنها أن تسكت" (¬1)؛ لأنه لما قسم النساء قسمين وجعل السكوت إذنا لأحدهما وجب أن يكون الآخر بخلافه. (و) الشرط الثالث -من شروط النكاح-: (الولي) نصا (¬2) إلا على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لقوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (¬3)، والأصل في اشتراط الولي حديث أبي موسى مرفوعا: "لا نكاح إلا بولي" رواه الخمسة إلا النسائي (¬4)، وصححه أحمد ¬
وابن معين (¬1)، وعن عائشة مرفوعا: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي لها" رواه الخمسة إلا النسائي (¬2)، وقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} (¬3) لا يدل على صحة نكاحها نفسها بل على أن نكاحها إلى الولي؛ لأنها نزلت في معقل بن يسار (¬4) حين امتنع من تزويج أخته، فدعاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
فزوجها (¬1)، فلو لم يكن لمعقل ولاية النكاح لما عاتبه تعالى على ذلك، وإنما أضافه إلى النساء لتعلقه بهن وعقده عليهن، فلا يصح من امرأة إنكاحها لنفسها كما تقدم أو إنكاحها لغيرها، فيزوج أمة المحجور عليها وليها ولغير المحجور عليها من يزوج سيدتها بشرط إذن سيدتها؛ لأنه تصرف في مالها ولا يتصرف في مال رشيدة بغير إذنها نطقا ولو كانت السيدة بكرا، ولا إذن لمولاة معتقة في تزويجها لملكلها نفسها بالعتق، ويزوجها بإذنها أقرب عصبتها نسبا كحرة الأصل، فإن عدموا فعصبتها ولاء كالميراث، ويقدم ابن المولاة على أبيها؛ لأن الولاية بمقتضى ولاء العتق، والولاء يقدم فيه الابن على الأب. (وشروطه) -أي الولي- ستة: أحدها: (تكليف) وهو العقل والبلوغ؛ لأن الولاية يعتبر لها كمال الحال لأنها تنفيذ تصرف في حق غيره، وغير المكلف مولى عليه لقصور نظره، فلا تثبت له ولاية كالمرأة. قال أحمد: "لا يزوج الغلام حتى يحتلم ليس له أمر" (¬2). (و) الشرط الثاني: (ذكورة)؛ لأن المرأة لا يثبت لها ولاية على نفسها فعلى غيرها أولى. (و) الشرط الثالث: (حرية)؛ لأن العبد والمبعض لا يستقلان بولاية على أنفسهما فعلى غيرهما أولى. ¬
(و) الشرط الرابع: (رشد) وهو هنا: معرفة الكفء ومصالح النكاح وليس هو حفظ المال، فإن رشد كل مقام بحسبه. (و) الشرط الخامس: (اتفاق دين) الولي والمولى عليها (¬1)، فلا ولاية لكافر على مسلمة وكذا عكسه، ولا لنصراني على مجوسية ونحوها؛ لأنه لا توارث بينهما بالنسب إلا أم ولد لكافر أسلمت فيزوجها لمسلم لأنها مملوكلته، ولأنه عقد عليها فيليه كإجارتها، وإلا أمة كافرة لمسلم فله أن يزوجها لكافر لما تقدم، وكذا أمة كافرة لمسلمة فيزوجها ولي سيدتها على ما سبق، وإلا السلطان فيزوج من لا ولي لها من الكوافر لعموم ولايته على أهل دار الإسلام، وهذه من أهل الدار فثبت له الولاية عليها كالمسلمة. (و) الشرط السادس: (عدالة) نصا (¬2) لقول ابن عباس: "لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد" (¬3) قال أحمد: "أصح شيء في هذا قول ابن عباس" (¬4) يعني وقد روي عن ابن عباس مرفوعا: "لا نكاح [إلا] (¬5) بولي وشاهدي عدل، وأيما امرأة أنكحها ولي مسخوط فنكاحها باطل" (¬6)؛ ولأنها ولاية نظرية فلا يستبد بها ¬
الفاسق كولاية المال، (ولو) كانت العدالة (ظاهرا) (¬1) فيكفي مستور الحال كولاية المال (إلا في سلطان) فلا يشترط في تزويجه بالولاية العامة العدالة للحاجة، (و) إلا في (سيد) أمة لأنه يتصرف في ملكه كما لو آجرها. (ويقدم وجوبا) في نكاح حرة (أب)؛ لأن الولد موهوب لأبيه، قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} (¬2)؛ ولأن الأب [أكمل] (¬3) نظرا وأشد شفقة، (ثم وصيه) -أي الأب- (فيه) في الإنكاح، لأنه بمنزلته، (ثم جد لأب وإن علا) الجد للأب فيقدم على الابن وابنه؛ لأن له إيلادا وتعصيبا فيقدم عليهما كالأب، فإن اجتمع أجداد فأولاهم أقربهم كالجد مع الأب، (ثم ابن) للحرة فابنه (وإن نزل) يقدم الأقرب فالأقرب؛ لحديث أم سلمة: "فإنها لما انقضت عدتها أرسل إليها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطبها فقالت: يا رسول اللَّه! ليس أحد من أوليائي شاهدا، قال: ليس من ¬
أوليائك شاهد ولا غائب يكره ذلك، فقالت: قم يا عمر ابن أبي سلمة (¬1)، فزوج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فزوجه" رواه النسائي (¬2)، قال الأثرم: "قلت لأبي عبد اللَّه عمر بن أبي سلمة حين زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمه أم سلمة: أليس كان صغيرا؟ قال: ومن يقول كان صغيرا؟ أليس فيه بيان؟ " (¬3)، ولأنه عدل من عصبتها فثبت له ولاية تزويجها كأخيها، (وهكذا) يرتب الأولياء في التزويج (على ترتيب الميراث) فيقدم بعد الابن وإن نزل أخ لأبوين ثم أخ لأب فابن أخ لأبوين، فابن أخ لأب وإن سفلا، فعم لأبوين فعم لأب ثم بنوهما كذلك وإن سفلوا، ثم أقرب عصبة نسب كالإرث، ولا ولاية لغير العصبات كالأخ لأم والعم لأم والخال وبنيهم وأبي الأم، ونحوهم نصا (¬4) ¬
لقول علي: "إذا بلغ النساء نص الحقائق فالعصبة أولى" (¬1) يعني: إذا أدركن (¬2)؛ ولأن من ليس من عصبتها شبيه بالأجنبي منها. (ثم) يلي نكاح حرة بعد عصبة النسب (المولى المنعم) أي المعتق؛ لأنه يرثها ويعقل عنها فكان له تزويجها وقدم عليه عصبة النسب كما قدموا في الإرث، (ثم أقرب عصبته) أي المولى المنعم كالميراث (فسبا ثم) أقرب عصبته (ولاء) وهكذا، (ثم السلطان) وهو الإمام الأعظم أو نائبه، قال أحمد: "والقاضي أحب إلي من الأمير في هذا" (¬3). ولو كان السلطان أو نائبه من بغاة إذا استولوا على بلد فيجري فيه حكم سلطانهم وقاضيهم مجرى الإمام وقاضيه، قال الشيخ تقي الدين: "تزويج الأيامى فرض كفاية إجماعا" (¬4). فإن أباه حاكم إلا بظلم كطلبه جعلا لا يستحقه صار وجوده كعدمه، فإن عدم الكل زوجها ذو سلطان في مكانها كعضل أوليائها مع عدم إمام و (¬5) نائبه في مكانها، والعضل: الامتناع من تزويجها (¬6) يقال: داء عضال إذا أعيا الطبيب ¬
دواءه وامتنع عليه (¬1)، فإن تعذر ذو سلطان في مكانها وكلت عدلا في ذلك المكان يزوجها، قال أحمد في دهقان قرية (¬2): "يزوج من لا ولي لها إذا احتاط لها في الكفء والمهر إذا لم يكن في الرستاق (¬3) قاض" (¬4)؛ لأن اشتراط الولي في هذه الحال يمنع النكاح بالكلية. (فإن عضل الأقرب، أو لم يكن أهلا) للولاية [كإن] (¬5) كان فاسقا ونحوه (أو كان مسافرا فوق [مسافة] (¬6) قصر) لا دونها (زوج حرة) ولي (أبعد، و) زوج (أمة) غاب سيدها أو تعذرت مراجعته بنحو أسر (حاكم)؛ لأن له النظر في مال الغائب ونحوه، وإن زوج حاكم مع وجود ولي لم يصح، أو زوج ولي أبعد بلا عذر للأقرب لم يصح النكاح؛ إذ لا ولاية للحاكم والأبعد مع من هو أحق منهما أشبها الأجنبي، فلو كان الأقرب عند تزويج الحاكم أو الأبعد لا يعلم أنه غصبة ثم علم بعد العقد لم يعد، أو كان المعهود عدم أهلية الأقرب، لصغر ونحوه ولم يعلم أنه صار أهلا ببلوغه ونحوه ثم علم بعد العقد لم يعد، أو كان الأقرب مجنونا مثلا ولم يعلم عند التزويج أنه عاد أهلا ثم علم أنه عاد أهلا بعد تزويجها لم يعد، أو كان الأقرب غائبا وقدم بعد العقد لم يعد، ويلي كتابي نكاح موليته الكتابية حتى من مسلم. ¬
وإن استوى وليان فأكثر في درجة كإخوة كلهم لأبوين أو لأب أو بني إخوة كذلك أو أعمام أو بنيهم كذلك صح التزويج من كل واحد منهم (¬1)، والأولى تقديم أفضلهم علما ودينا، فإن استووا في الفضل فأسن؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لما تقدم إليه محيصة (¬2) وحويصة (¬3) وعبد الرحمن بن سهل (¬4) وكان أصغرهم فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: كبر كبر -أي قدم الأكبر- فتقدم حويصة" (¬5)؛ ولأنه أحوط للعقد في اجتماع شروطه والنظر في الحظ، وإن تشاحوا أقرع بينهم في الحق، فإن سبق غير من قرع فزوج وقد أذنت لكل منهم صح التزويج لصدوره من ولي كامل الولاية، وإن زوج ¬
وليان مستويان درجة موليتهما لاثنين وجهل السبق مطلقا أو علم سابق ثم نسي أو علم السبق وجهل السابق منهما فسخهما حاكم نصا (¬1)؛ لأن أحدهما صحيح ولا طريق للعلم به ولا مرجح لأحدهما على الآخر، وإن طلقا لم (¬2) يحتج للفسخ، فإن عقد عليها أحدهما بعد لم ينقص بهذا الطلاق عدده؛ لأنه لم يتعين وقوع الطلاق، وإن أقرت بسبق لأحدهما لم يقبل نصا (¬3)، وإن علم وقوع العقدين معا بطلا فلا يحتاجان إلى فسخ ولا توارث فيهما، كان لم يعلم وقوعهما معا فلها نصف المهر على أحدهما بقرعة، فمن (¬4) خرجت عليه القرعة أخذت منه نصف المسمى؛ لأن عقد أحدهما صحيح وقد انفسخ قبل الدخول فوجب عليه نصف المهر، وأما إذا علم وقوعهما معا فلا شيء لها عليهما، وإن ماتت في غير الأخيرة قبل فسخ الحاكم نكاحهما فلأحدهما نصف ميراثها إن لم يكن لها ولد بقرعة فيأخذه من خرجت له القرعة بلا يمين؛ لأنه يقول: لا أعرف الحال، وإن مات الزوجان فإن كانت أقرت بسبق لأحدهما فلا إرث لها من الآخر، وهي تدعي ميراثها ممن أقرت له بالسبق، فإن كان ادعى ذلك أيضا قبل موته دفع إليها إرثها منه، وإلا فلا يدفع إليها شيء إن أنكر ورثته سبقه، ولها تحليفهم أنهم لا يعلمون أنه السابق فإن نكلوا قضي عليهم، كان لم تكن أقرت بسبق لأحدهما ورثت من أحدهما بقرعة، فمن خرجت عليه فلها إرثها منه، وروى حنبل ¬
عن أحمد: في رجل له ثلاث بنات زوج إحداهن من رجل ثم مات الأب ولم [يعلم] (¬1) أيتهن زوج؟ يقرع فأيتهن أصابتها القرعة فهي زوجته، وإن مات الزوج فهي التي ترثه (¬2)، ومن زوج عبده الصغير بأمته جاز أن يتولى طرفي العقد، أو زوج ابنه الصغير ونحوه بنت أخيه، أو زوج وصي في نكاح صغيرا بصغيرة تحت حجره، أو زوج ابنه بصغيرة وهو وصي عليها صح أن يتولى طرفي العقد، وكذا ولي عاقلة تحل له كابن عم ومولى وحاكم إذا أنت له في تزويجها صح أن يتولى طرفي العقد، لما روي عن البخاري عن عبد الرحمن بن عوف قال لأم حكيم بنت قارظ (¬3): "أتجعلين أمرك إلي؟ قالت: نعم. قال: قد تزوجتك" (¬4)؛ ولأنه يملك الإيجاب والقبول فجاز أن يتولاهما كما لو زوج أمته عبده الصغير، وكذا لو وكل زوج وليا وعكسه أو وكلا واحدا جاز أن يتولى طرفي العقد، كما يجوز ذلك في سائر العقود كالبيع والإجارة، ولا يشترط في تولي طرفي العقد الجمع بين الإيجاب والقبول، بل يكفي زوجت فلانة بنت فلان فلاتا وينسبه بما يتميز به، أو يقول: تزوجتها إن كان هو الزوج، أو كان وكيله فيقول: تزوجتها لموكلي فلان إلا بنت عمه وعتيقته المجنونتين إذا أراد تزوجهما، فيشترط ولي غيره إن كان أو حاكم؛ لأن الولي اعتبر للنظر للمولى ¬
عليه والاحتياط له ولا يجوز له التصرف (¬1) في ما هو مولى عليه لمكان التهمة، كالوكيل في البيع لا يبيع لنفسه فيزوجه ولي غيره ولو أبعد منه إن وجد وإلا فالحاكم لتنتفي التهمة. ومن قال لأمته التي يحل له نكاحها لو كانت حرة من قن أو مدبرة أو مكاتبة أو معلق عتقها بصفة أو أم ولده: "أعتقتك وجمعلت عتقك صداقك"، أو "جعلت عتق أمتي صداقها"، أو "جعلت صداق أمي عتقها" جاز، أو قال: "قد أعتقتها وجعلت عتقها صداقها"، أو قال: "أعتقتها على أن عتقها صداقها"، أو قال: "أعتقتك على أن أتزوجك" أو"عتقي صداقك" أو"عتقك صداقك" صح العتق والنكاح في هذه الصور كلها وإن لم يقل تزوجتك أو تزوجتها لتضمن قوله: وجعلت عتقها ونحوه صداقها ذلك، والأصل فيه حديث أنس: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها" رواه أحمد وغيره (¬2)، وعن صفية قالت: "أعتقني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وجعل عتقي صداقي" رواه الأثرم (¬3)، وله بإسناده عن علي أنه كان يقول: "إذا أعتق الرجل أم ولده فجعل عتقها صداقها، فلا بأس بذلك (¬4) "، وكذا ¬
لو قال: أعتقتها وتزوجتها على ألف ونحوه إن كان الكلام متصلا ولو حكما وكان بحضرة شاهدين عدلين، فإن قال: أعتقتك وسكت سكوتا يمكنه الكلام فيه، أو تكلم بأجنبي ثم قال: وجعلت عتقك صداقك ونحوه لم يصح النكاح لصيرورتها بالعتق حرة، فيحتاج أن يتزوجها برضاها بصداق جديد، وكذا إن كان لا بحضرة شاهدين لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي (¬1) عدل" ذكره أحمد في رواية ابنه عبد اللَّه (¬2)، ومن طلقت قبل الدخول وقد جعل عتقها أو عتق بعضها صداقها رجع عليها بنصف قيمة ما أعتق منها نصا (¬3)، وإن سقط لرضاع ونحوه رجع بكلها وتجبر ¬
على الإعطاء إن كانت مليئة وتجبر على الكسب غير المليئة، وإن قال لأمته: زوجتك لزيد وجعلت عتقك صداقك ونحوه صح على قياس ما سبق. (و) الشرط الرابع -من شروط النكاح-: (شهادة رجلين مكلفين) أي عاقلين بالغين (عدلين ولو ظاهرا)؛ لأن الغرض من الشهادة إعلان النكاح وإظهاره، ولذلك يثبت بالاستفاضة، فإذا حضر من يشتهر بحضوره صح فلا ينقض النكاح ولو بان الشاهدان فاسقين لوقوع النكاح في القرى والبوادي وبين عامة الناس ممن لا يعرف حقيقة العدالة، فاعتبار ذلك يشق فاكتفي بظاهر الحال فيه، قال الشيخ منصور: "قلت: وكذا لا ينقض إن بأن الولي فاسقا" انتهى (¬1). (سميعين ناطقين) مسلمين ولو أن الزوجة ذمية، غير متهمين لرحم بأن لا يكونا من عمودي نسب الزوجين والولي، فلا تصح شهادة أبي الزوجة أوجدها فيه ولا ابنها وابنه فيه، وكذا أبو الزوج وجده وابنه وابن ابنه وإن نزل للتهمة، وكذا الولي وابنه، ولا يشترط كون الشاهدين بصيرين لأنها شهادة على قول أشبهت الاستفاضة، ويعتبر أن يتيقن الصوت بحيث لا يشك في العاقدين كما يعلمه من رآهما، ولو أنهما عدوا الزوجين أو أحدهما أو الولي لأنه ينعقد بهما نكاح غير هذين الزوجين فانعقد نكاحهما كسائر العدول، ولا يبطل العقد تواصل بكتمانه؛ لأنه لا يكون مع الشهادة مكتوما وإنما شرطت الشهادة في النكاح احتياطا للنسب خوف الإنكار لحديث عائشة مرفوعا: "لا بد في النكاح من حضور أربعة: الولي، والزوج، والشاهدان" رواه ¬
الدارقطني (¬1)، وعن ابن عباس مرفوعا: "البغايا اللواتي يزوجن أنفسهن بغير بينة" رواه الترمذي (¬2)، ولأنه عقد يتعلق به حق غير المتعاقدين وهو الولد فاشترطت فيه الشهادة لئلا يجحده أبوه فيضيع نسبه، ويكره كتمان النكاح قصدا ولو أقر رجل وامرأة أنهما متناكحان بولي وشاهدي عدل مبهمين ثبت النكاح بإقرارهما، ولا تشترط الشهادة بخلو الزوجة من الموانع للنكاح كالعدة والردة؛ لأن الأصل عدمها، ولا إذنها لوليها في العقد، والاحتياط الإشهاد قطعا للنزاع، وإن ادعى زوج إذنها لوليها في العقد وأنكرت صدقت قبل دخول زوج بها مطاوعة لا بعده؛ لأن دخوله بها كذلك دليل كذبها. (والكفاءة شرط للزومه) -أي للزوم النكاح- لا لصحته على الصحيح كما ¬
قال به أكثر العلماء (¬1)؛ لما روت عائشة: "أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة (¬2) تبنى سالما (¬3) وأنكحه ابنة أخيه (¬4) الوليد بن عتبة (¬5) وهو مولى لامرأة من الأنصار" رواه البخاري (¬6)، "وأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد فنكحها ¬
بأمره" متفق عليه (¬1)، وعن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي (¬2) عن أمه (¬3) قالت: "رأيت أخت عبد الرحمن بن عوف (¬4) تحت بلال" رواه الدارقطني (¬5)، (فيحرم تزويجها) -أي المرأة- (بغيره) -أي بغير الكفء- ويفسق به الولي (إلا برضاها) فإذا رضيت صح النكاح، ولمن لم يرض من أوليائها الفسخ فهي حق للمرأة والأولياء كلهم القريب والبعيد، ويملكه الأبعد مع رضا الأقرب. والزوجة دفعا لما يلحقه ¬
منـ[لحوق] (¬1) العار، فلو زوج الأب بنته برضاها بغير كفء فللإخوة الفسخ نصا (¬2)، ولو زالت الكفاءة بعد العقد فللزوجة الفسخ دون سائر أوليائها كعتقها تحت عبد؛ لأن حق الأولياء في ابتداء العقد لا في استدامته، وخيار الفسخ لفقد الكفاءة على التراخي، فلا يسقط إلا بإسقاط عصبة أو بما يدل على رضا الزوجة من قول أو فعل، كأن مكنته عالمة بأنه غير كفء فيسقط خيارها فقط. والكفاءة لغة: المماثلة والمساواة (¬3)، ومنه حديث: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" (¬4) -أي تتساوى- فدم الوضيع منهم كدم الرفيع، وهي معتبرة هنا في خمسة أشياء: - أحدها: دين، فلا تزوج عفيفة عن زنا بفاجر أي فاسق بقول أو فعل أو اعتقاد؛ لأنه مردود الشهادة والرواية وذلك نقص في إنسانيته فليس كفؤ العدل لقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)} (¬5). ¬
الثاني: منصب، وهو النسب فلا تزوج عربية بعجمي، ولا بولد زنا لقول عمر: "لأمنعن تزوج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء" رواه الدارقطني (¬1)، ولأن العرب يعتمدون الكفاءة في النسب ويأنفون من نكاح الموالي ويرون ذلك نقصا وعارا، والعرب قريش وغيرهم بعضهم لبعض أكفاء. والثالث: حرية، فلا تزوج حرة ولو عتيقة بعبد ولا بمبعض قاله الزركشي (¬2)، لأنه منقوص بالرق؛ [لأنه] (¬3) ممنوع من التصرف في كسبه غير مالك له، ولأن ملك السيد له يشبه ملك البهيمة فلا يساوي الحرة لذلك. والرابع: الصناعة، بأن لا يكون صاحب صناعة دنيئة، فلا تزوج بنت بزاز (¬4) -أي تاجر في البز- بحجام، ولا بنت تانئ (¬5) -أي صاحب عقار- بحائك ¬
وكساح ونحوه (¬1)؛ لأنه نقص في عرف الناس أشبه نقص النسب، وفي حديث: "العرب بعضهم لبعض أكفاء إلا حائكا أو حجاما" (¬2)، قيل لأحمد: وكيف تأخذ به وأنت تضعفه؟ قال: "العمل عليه" (¬3) أي أنه يوافق العرف. الخامس: يسار، بحسب ما يجب لها فلا تزوج موسرة بمعسر؛ لأن عليها ضررا. ¬
(فصل) في المحرمات في النكاح
(فصل) في المحرمات في النكاح وهن (¬1) ضربان: [ضرب] (¬2) يحرم على الأبد، وهن (¬3) أقسام خمسة ذكر الأول بقوله: (ويحرم أبدا) بالنسب سبع: - 1 - (أم وجدة) مطلقا (وإن علت) لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (¬4)، وأمهاتك كل من انتسبت إليها بولادة سواء وقع عليها اسم الأم حقيقة -وهي التي ولدتك- أو مجازا -وهي التي ولدت من ولدتك وإن علت- ومنه جدتاك أم أبيك وأم أمك وجدتا أبيك وجدتا أمك وجدات أجدادك وجدات جداتك (¬5) وإن علون وارثات كن أو غير وارثات، ذكر أبو هريرة هاجر أم إسماعيل فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تلك أمكم يا بني ماء السماء" (¬6) وهم طائفة من العرب (¬7)، وفي ¬
الدعاء المأثور "اللهم صل على أبينا آدم وأمنا حواء" (¬1). 2 - (وبنت) الصلب، (وبنت ولد) ذكرا كان أو أنثى (وإن سفلت) وارثات كن أو غير وارثات لقوله تعالى: {وَبَنَاتُكُمْ} (¬2) ولو كن منفيات بلعان أو من زنى لدخولهن في عموم اللفظ، والنفني بلعان لا يمنع احتمال كونها خلقت من مائه، وكذا يقال في الأخوات وغيرهن مما يأتي من الأقسام، ويكفي في التحريم أن يعلم أنها بنته ونحوها ظاهرا وإن كان النسب لغيره. 3 - (وأخت مطلقا) أي لأبوين أو لأب أو لأم (¬3). 4 - (وبنتها) -أي بنت الأخت من أي جهة-، (وبنت ولدها) ذكرا كان أو أنثى لقوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} (¬4) (وإن سفلت) كما تقدم. 5 - (وبنت (¬5) كل أخ) شقيق أو لأب أو لأم، (وبنتها) أي بنت بنت ¬
الأخ، (وبنت ولدها وإن سفلت) (¬1) لقوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأَخِ} (¬2). 6 - (وعمة) من كل جهة. 7 - (وخالة) من كل جهة (مطلقا) كذلك وإن علتا لقوله تعالى: {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ} كعمة أبيه وعمة أمه وعمة العم لأب وعمة الخالة لأب وخالة العمة لأم، ولا تحرم عمة العم لأم ولا عمة الخالة لأم ولا خالة العمة لأب لأنها أجنبية، فتحرم كل قريبة سوى بنت عم وبنت عمة وبنت خال وبنت خالة وإن نزلن لقوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} الآية (¬3). القسم الثاني من المحرمات على الأبد: المحرمات بالرضاع ولو كان الإرضاع محرما كمن أكره امرأة على إرضاع طفل فأرضعته، فتحرم عليه؛ لوجود سبب التحريم. (ويحرم برضاع ما يحرم بنسب) فكل امرأة حرمت من النسب حرم مثلها بالرضاع، حتى من ارتضعت من لبن ثاب منه من زنى، كبنته من زنى نص عليه في رواية عبد اللَّه (¬4)؛ لحديث ابن عباس أنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أريد على ابنة حمزة فقال: إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاع، فإنه يحرم من الرضاع ما يحرم من الرحم"، وفي ¬
لفظ: "من النسب" متفق عليه (¬1)، وعن علي مرفوعا: "إن اللَّه حرم من الرضاع ما حرم من النسب" رواه أحمد والترمذي وصححه (¬2)؛ ولأن الأمهات والأخوات منصوص عليهن في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬3) والباقيات يدخلن في عموم لفظ سائر المحرمات، فيدخل في البنات بنات الرضاعة وفي بنات الأخ والأخت بناتهما من الرضاعة، وفي العمات والخالات العمة والخالة من الرضاع، حتى في مصاهرة فتحرم زوجة أبيه وزوجة ولده من رضاع كما تحرم عليه زوجة أبيه وزوجة ابنه من نسب، وقوله تعالى: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} احتراز عمن تبناه، ولا يحرم على رجل أم أخيه من رضاع ولا أخت ابنه من رضاع فتحل مرضعة وبنتها لأبي مرتضع وأخيه من نسب، وتحل أم مرتضع وأخته من نسب [لأبيه وأخيه من رضاع] (¬4)، والشارع إنما حرم من الرضاع ما حرم من النسب لا ما يحرم بالمصاهرة. القسم الثالث: المحرمات بالمصاهرة وهن أربع ذكر الأولى والثانية ¬
بقوله: (ويحرم بعقد حلائل عمودي نسبه) أي زوجات آبائه وأبنائه، سميت امرأة الرجل حليلة؛ لأنها تحل إزار زوجها ومحللة له، ومثلهن حلائل آبائه وأبنائه من رضاع فيحرمن بمجرد عقد، قال في "الشرح" (¬1): "لا نعلم في هذا خلافا". ويدخل فيه زوجات الجد وإن علا وارثا كان أو غيره ولا تحرم بناتهن، فتحل له ربيبة والده وولده وأم زوجة والده وولده لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬2). (و) الثالثة: (أمهات زوجته وإن علون) من نسب ومثلهن من رضاع فيحرمن بمجرد العقد نصا (¬3) لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} (¬4) والمعقود عليها من نسائه فتدخل أمها في عموم الآية، قال ابن عباس: "أبهموا ما أبهم القرآن" (¬5) أي عمموا حكمها في كل حال ولا تفصلوا بين المدخول بها وغيرها، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "من تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج بربيبته ولا يحل له أن يتزوج أمها" رواه أبو حفص (¬6). ¬
والرابعة: الربيبة (و) يحرم (بدخول ربيبة) وهي بنت زوجته (وبنتها وبنت ولدها وإن سفلت) من نسب أو رضاع لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} (¬1) قريبات كن أو بعيدات في حجره أو لا؛ لأن التربية لا تأثير لها في التحريم، وأما قوله تعالى: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} فقد خرج مخرج الغالب لا الشرط فلا يصح التمسك بمفهومه، فإن ماتت الزوجة قبل دخول أو أبانها بعد خلوة وقبل وطء لم يحرمن بناتها للآية، والخلوة لا تسمى دخولا، وتحل زوجة ربيب بانت منه لزوج أمه، وتحل بنت زوج أم لابن امرأته، وتحل زوجة زوج أم لابنها، ويحل لأنثى ابن زوجة ابن لها، وزوج زوجة أب أو زوج زوجة ابن لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} والتحريم في مصاهرة بتغييب حشفة أصلية في فرج أصلي ولو (¬2) دبرا أو بشبهة أو زنا بشرط حياتهما، فلو أولج ذكره في فرج ميتة أو أدخلت امرأة حشفة ميت في فرجها لم يؤثر في تحريم المصاهرة، ويشترط كون مثلهما يطأ ويوطأ فلو أولج ابن دون عشر سنين حشفته في فرج امرأة أو أولج ابن عشر فأكثر حشفته في فرج بنت دون تسع لم يؤثر في تحريم المصاهرة، وكذا تغييب بعض الحشفة واللمس والقبلة والمباشرة دون الفرج فلا ¬
يؤثر ذلك في تحريم المصاهرة، ومقتضاه أيضا أن تحمل المرأة ماء أجنبي لا يؤثر في تحريم الصاهرة وجزم به في "الإقناع" (¬1)، ويحرم بوطء ذكر ما يحرم بوطء امرأة فلا يحل لكل لائط وملوط به أم الآخر ولا بنته؛ لأنه وطء في فرج فنشر الحرمة كوطء المرأة، وقال في "الشرح" (¬2): "الصحيح أن هذا لا ينشر الحرمة فإنه غير منصوص عليهن في التحريم فيدخلن في قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} " انتهى. القسم الرابع من المحرمات على الأبد: المحرمة باللعان نصا (¬3)، فمن لاعن زوجته ولو في نكاح فاسد أو بعد إبانة لنفي ولد حرمت أبدا ولو أكذب نفسه. الخامس من المحرمات على الأبد: زوجات نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- فيحرمن على غيره أبدا لقوله تعالى: {وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} (¬4) ولو من فارقها في حياته؛ لأنها من زوجاته وهن أزواجه دنيا وأخرى كرامة له -صلى اللَّه عليه وسلم-. (و) الضرب الثاني من المحرمات في النكاح: المحرمات (إلى أمد)، وهن نوعان: نوع يحرم لأجل الجمع فتحرم عليه (أخت معتدته) قبل انقضاء عدتها؛ لأنها في حكم الزوجة، (أو) أخت (زوجته) من نسب أو رضاع حرتين كانتا أو أمتين، أو حرة وأمة سواء قبل الدخول أو بعده لعموم قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (¬5)، ويحرم الجمع بين امرأة وعمتها أو خالتها وإن علتا من كل جهة من ¬
نسب أو رضاع لحديث: "لا تجمعوا بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها" متفق عليه (¬1)، وفي رواية أبي داود: "لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على بنت أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على بنت أختها، ولا تنكح الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى" (¬2)، ولما فيه من العداوة بين الأقارب وإفضاء ذلك إلى قطيعة الرحم، وعموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬3) مخصوص بما ذكر من الحديث الصحيح. ويحرم الجمع بين خالتين كأن يتزوج كل من رجلين بنت الآخر وتلد له بنتا ¬
فالمولودتان (¬1) كل منهما خالة الأخرى لأب، أو بين عمتين كان يتزوج كل من رجلين أم (¬2) الآخر (¬3) فتلد له بنتا فكل من المولودتين عمة الأخرى لأم، فيحرم الجمع بينهما أو بين عمة وخالة، كأن يتزوج رجل امرأة وابنه أمها وتلد كل منهما بنتا فبنت الابن خالة بنت الأب، وبنت الأب عمة بنت الابن فيحرم الجمع بينهما، ويحرم الجمع بين امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا والأخرى أنثى حرم نكاحه لها لقرابة أو رضاع؛ لأن المعنى الذي لأجله حرم الجمع إفضاؤه إلى قطيعة الرحم، لما في الطباع من التنافس بين الضرائر، وألحق بالقرابة الرضاع لحديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"، ولا يحرم الجمع بين أخت شخص من أبيه وأخته من أمه ولو في عقد واحد؛ لأنه لو كانت (¬4) إحداهما ذكرا حلت له الأخرى، والشخص في المثال خال وعم لولدهما، ولا يحرم الجمع بين مبانة شخص وبنته من غيرها؛ لأنه وإن حرمت إحداهما على الأخرى لو قدرت ذكرا لم يكن تحريمها إلا للمصاهرة؛ لأنه لا قرابة بينهما ولا رضاع، فمن تزوج أختين أو نحوهما في عقد أو عقدين معا بطلا؛ لأنه لا يمكن تصحيحهما ولا مزية لإحداهما على الأخرى فبطل فيهما، وكذا لو تزوج خمس زوجات في عقد واحد، وإن تزوجهما في زمنين بطل متأخر فقط دون الأول؛ لأنه لا جمع فيه كعقد على نحو أخت في عدة أخرى ولو بائنا، فإن جهل أسبق العقدين فسخهما الحاكم إن لم يطلقهما، لبطلان النكاح في أحدهما وتحريمها عليه، ولا تعرف ¬
المحللة له فقد اشتبها عليه ونكاح إحداهما صحيح ولا تتيقن بينونتها منه إلا بطلاقهما أو فسخ نكاحهما فوجب ذلك كما لو زوج الوليان وجهل السابق منهما، وإن أحب أن يفارق إحداهما ثم يجدد عقد الأخرى ويمسكها فلا بأس كما ذكره في "الشرح" (¬1)، ولإحداهما إذا عقد عليهما في زمنين وجهل أسبقهما وطلقهما أو فسخ نكاحهما قبل الدخول [نصف] (¬2) مهرها بقرعة، وله العقد على أحدهما في الحال، وإن أصاب إحداهما أقرع بينهما، فإن خرجت المصابة فلها ما سمى لها ولا شيء للأخرى، وإن وقعت لغير المصابة فلها نصف ما سمي لها وللمصابة مهر مثلها بما استحل من فرجها، وله نكاح المصابة في الحال لا الأخرى حتى تنقضي عدة المصابة، وإن أصابهما فلإحداهما المسمى وللأخرى مهرا لمثل يقترعان عليهما، ولا ينكح إحداهما حتى تنقضي عدة الأخرى. ومن ملك أخت زوجته أو عمتها أو خالتها صح، وحرم أن يطأها حتى يفارق زوجته وتنقضى عدتها لئلا يجمع ماءه في رحم أختين ونحوهما وذلك لا يحل لحديث: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يجمع ماءه رحم أختين" (¬3)، ومن ملك أختين أو امرأة وعمتها أو خالتها معا ولو في عقد واحد صح وله وطء أيهما شاء؛ لأن الأخرى لم تصر فراشا، كما لو ملك إحداهما وحدها ويحرم به الأخرى ¬
نصا (¬1)، ودواعي الوطء كالوطء لعموم قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} فإنه يعم الوطء والعقد جميعا، ولأنها امرأة صارت فراشا فحرمت أختها كالزوجة حتى يحرم الموطوءة بإخراج لها أو لبعضها عن ملكه، ولو ببيع؛ للحاجة إلى التفريق أو هبة مقبوضة لغير ولده أو تزويج بعد استبراء، ولا يكفي مجرد تحريم الموطوءة لأنه يمين مكفرة وتحريمها لعارض متى شاء أزاله بالكفارة فهو كالحيض ونحوه، ولا كتابتها؛ لأنه سبيل من استباحتها بما لا يقف على غيرها، ولا رهنها؛ لأن منعه من وطئها لحق المرتهن لا لتحريمها، ولهذا يحل له وطؤها بإذنه، ولأنه يقدر على فكها متى شاء، ولا يكفي بيعها بشرط خيار له لأنه يقدر على استرجاعها متى شاء بفسخ البيع، فلو خالف ووطئ الأخرى قبل إخراج الموطوءة أولا أو بعضها عن ملكه لزمه أن يمسك عنهما حتى يحرم إحداهما بإخراج عن ملكه كما تقدم، وحديث: "إن الحرام لا يحرم الحلال" غير صحيح ذكره في "الشرح" (¬2)، ومن تزوج أخت سريته ولو بعد إعتاقها زمن استبرائها لم يصح النكاح؛ لأنه عقد تصير به المرأة فراشا فلم يجز أن يرد على فراش الأخت كالوطء، ويفارق النكاح شراء أختها ونحوها ¬
لأنه يكون للوطء وغيره بخلاف النكاح، ولهذا صح شراء الأختين في عقد وشراء من تحرم برضاع أو غيره، وله نكاح أربع سوى أخت سريته ونحوها؛ لأن تحريمها لمعنى لا يوجد في غيرها، وإن تزوجها بعد تحريم السرية واستبرائها ثم رجعت إليه السرية بنحو بيع فالنكاح بحاله، ولا تحل له السرية حتى تبين الزوجة وتنقضي عدتها، وكذا لا يحل له وطء الزوجة حتى يحرم السرية كما تقدم. ومن وطئ امرأة بشبهة أو زنا حرم في عدتها نكاح أختها أو نحوها ووطؤها إن كانت زوجة أو أمة له، ويحرم أن يزيد على ثلاث (¬1) غيرها بعقد أو وطء، ولا يحل [له] (¬2) نكاح موطوءة بشبهة في عدتها إلا من واطئ، فيحل له أن يتزوجها؛ لأن منعها من النكاح، لإفضائه إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب وهو مأمون هنا، ولا يحل نكاح موطوءة بشبهة لواطئ غيره إن لزمتها عدة من غيره حتى تنقضي العدتان كما في "المحرر" وغيره (¬3) قال ابن نصر اللَّه (¬4): "والقياس أن له نكاحها إذا دخلت في عدة وطئه"، وصاحب "المغني" أشار إليه (¬5). ¬
وليس له (¬1) جمع أكثر من أربع زوجات؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لغيلان بن سلمة (¬2) حين أسلم وتحته عشر نسوة: "أمسك أربعا وفارق سائرهن" وقال نوفل بن معاوية (¬3): أسلمت وتحتي خمس نسوة فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فارق واحدة منهن" رواهما الشافعي في "مسنده" (¬4)، فإذا منع من استدامة ما زاد على ¬
أربع فالابتداء (¬1) أولى وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (¬2) أريد به التخيير بين اثنتين وثلاث وأربع كما قال تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (¬3) ولم يرد أن لكل تسعة أجنحة ولو أراده لقال: تسعة، ولم يكن للتطويل معنى، ومن قال خلاف (¬4) ذلك فقد جهل اللغة العربية. إلا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فكان له أن يتزوج بأي عدد شاء تكرمة له من اللَّه تعالى، ومات عن تسع (¬5)، ونسخ تحريم المنع بقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} (¬6). ¬
وليس لعبد جمع أكثر من زوجتين؛ لما روى أحمد بإسناده عن محمد بن سيرين (¬1) "أن عمر سأل الناس كم يتزوج العبد؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: اثنتين، وطلاقه اثنتين" (¬2)، وظاهره أنه كان بمحضر من الصحابة وغيرهم ولم ينكر وهو يخصص عموم الآية مع أن فيها ما يدل على إرادة الأحرار، وهو قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬3)، ولأن مبنى النكاح على التفضيل، ولهذا فارق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه أمته. ولمن نصفه حر فأكثر جمع ثلاث زوجات نصا (¬4)، ثنتان (¬5) بنصفه الحر [و] (¬6) واحدة بنصفه الرقيق، فإن كان دون نصفه حر فله نكاح ثنتين فقط. ومن طلق واحدة من نهاية جمعه كحر طلق واحدة من أربع أو عبد طلق ¬
واحدة من اثنتين حرم تزوجه بدلها حتى تنقضي عدتها نصا (¬1)؛ لأن المعتدة في حكم الزوجة إذ العدة أثر النكاح فلو جاز له أن يتزوج غيرها لكان جامعا أكثر مما يباح له بخلاف موتها فله نكاح غيرها في الحال نصا (¬2)؛ لأنه لم يبق لنكاحها أثر، وإن قال مطلق واحدة من نهاية جمعه: "أخبرتني بانقضاء عدتها" فكذبته وأمكن انقضاؤها فله نكاح بدلها ونكاح أختها؟ لأنه لا يقبل قولها عليه، ولأنها متهمة في ذلك بإرادة منعه نكاح غيرها وتسقط الرجعة إن كان الطلاق رجعيا مؤاخذة له بإقراره بانقضاء عدتها ولا تسقط السكنى والنفقة؛ لأنهما حق لها عليه يدعي سقوطه وهي منكرة له والأصل معها فالقول قولها فيه دونه. (و) النوع الثاني من المحرمات إلى أمد: المحرمات لعارض يزول، فتحرم (زانية) على زان وغيره (حتى تتوب) من الزنا (وتنقضي عدتها) لقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} (¬3) لفظه لفظ الخبر والمراد النهي، وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} (¬4) أي العفائف فمفهومه أن غير العفيفة لا تباح، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي (¬5) ¬
كان يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغي يقال لها: عناق، وكانت صديقته، قال: فجئت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقلت: يا رسول اللَّه! أنكح عناقا؟ قال: فسكت عني فنزلت: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} فدعاني فقرأها علي وقال: لا تنكحها" رواه أبو داود وغيره (¬1)، وتوبة الزانية بأن تراود على الزنا فتمتنع لما روي أنه قيل لعمر: "كيف تعرف توبتها؟ قال: يريدها على ذلك فإن طاوعته فلم تتب، وإن أبت فقد تابت" (¬2) فصار أحمد إلى قول عمر (¬3)، وقيل: توبتها كتوبة غيرها ندم وإقلاع وعزم على ألا تعود من غير مراودة، واختاره الموفق وغيره وقال: لا ينبغي امتحانها بطلب الزنا منها بحال، وقدمه في "الفروع" (¬4)، فإذا تابت وانقضت عدتها حل نكاحها للزاني وغيره عند أكثر أهل العلم منهم أبو بكر وعمر ¬
وابنه وابن عباس وجابر (¬1)، وروي عن ابن مسعود والبراء بن عازب وعائشة أنها لا تحل للزاني بحال (¬2)، فيحتمل أنهم أرادوا بذلك ما قبل التوبة أو قبل استبرائها فيكون كقولنا. (و) تحرم (مطلقته ثلاثا) بكلمة أو كلمات (حتى يطأها زوج غيره بشرطه) أي ¬
بنكاح صحيح ويطلقها وتنقضي عدتها لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬1) والمراد بالنكاح هنا الوطء لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لامرأة رفاعة (¬2) لما أرادت أن ترجع إليه (¬3) بعد أن طلقها ثلاثا تزوجت بعبد الرحمن بن الزبير (¬4) -بفتح الزاي وكسر الموحدة- "لا حتى تذوقي عسيلته" (¬5) وتحرم محرمة حتى تحل من إحرامها؛ لحديث: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب" رواه الجماعة إلا البخاري (¬6)، ولم يذكر الترمذي الخطبة (¬7). ¬
(و) تحرم (مسلمة على كافر) حتى يسلم لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (¬1) وقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (¬2)، (و) تحرم (كافرة على مسلم) ولو عبدا؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (¬3) وقوله {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وقوله {وَ [لَا] (¬4) تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (¬5) حتى تسلم فتحل للمسلم لزوال المانع، (إلا حرة كتابية) ولو حربية أبواها كتابيان فتحل للمسلم أيضا لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (¬6) فهو مخصص لما تقدم، وأهل الكتاب من دان بالتوراة والإنجيل خاصة ولو من بني تغلب ومن في معناهم من نصارى العرب ويهودهم وعلم منه عدم حل المجوسية ونحوها للمسلم ولو اختارت دين أهل الكتاب، وكذا لو تولدت بين كتابي ومجوسية تغليبا للحظر، وكذا الدروز (¬7) ونحوهم لا تحل مناكحتهم ولا ¬
ذبائحهم، ومنع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من نكاح كتابية إكراما له كما منع من نكاح أمة مطلقا (¬1). (و) يحرم (على حر مسلم) نكاح (أمة مسلمة ما لم يخف عنت عزوبة لحاجة متعة أو) حاجة (خدمة) امرأة له لكبر أو مرض أو غيرهما، ولو كان خوف عنت العزوبة مع صغر زوجته الحرة أو غيبتها أو مرضها (ويعجز عن طول) أي مال حاضر يكفي لنكاح (حرة) ولو كتابية ولو وجد من يقرضه أو رضيت الحرة بتأخير صداقها أو بدون مهر مثلها أو تفويض بضعها (أو) يعجز عن (ثمن أمة) فتحل له الأمة المسلمة بهذين الشرطين خوف العنت، وعدم الطول لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} إلى قوله {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} (¬2) والصبر عن نكاحها مع الشرطين أولى لقوله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ويقبل قوله في وجود الشرطين ولو كان بيده مال فادعى أنه وديعة أو مضاربة، ولا يبطل نكاحها إذا تزوجها بالشرطين إن أيسر، ولو نكح حرة عليها أو زال خوف العنت ونحوه وقال علي: "إذا تزوج الحرة على الأمة قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة" (¬3)، وله إن لم تعفه واحدة نكاح أخرى إلى أربع، وكذا له أن يتزوج أمة على حرة إن لم تعفه بشرطه، ولا يكون ¬
ولد الأمة حرا إلا باشتراط الزوج حريته، فإن اشترطها فحر لحديث: "المسلمون على شروطهم" (¬1)، وإن نكح أمة ثم ادعى فقد أحد الشرطين فرق بينهما وعليه المسمى بعد الدخول مطلقا، ونصفه قبله إن لم يصدقه سيدها. ويباح لقن ومدبر ومكاتب ومبعض نكاح أمة ولو كانت لابنه الحر حتى لو تزوجها على حرة. (و) يحرم (على عبد) ولا يصح منه نكاح (سعدته) ولو ملكت بعضه حكاه ابن المنذر إجماعا (¬2)، لأن أحكام الملك والنكاح تتناقض إذ ملكها إياه يقتضي وجوب نفقته عليها وأن يكون بحكمها، ونكاحه إياها يقتضي عكس ذلك. ويباح لأمة [نكاح] (¬3) عبد ولو كان العبد لابنها لقطع رقها التوارث بينها وبين ابنها فهو كالأجنبي منها. (و) يحرم (على سيد) ولا يصح منه نكاح (أمته)؛ لأن ملك الرقبة يفيد ملك المنفعة وإباحة البضع فلا يجتمع معه عقد أضعف منه، (و) لا (أمة ولده) من النسب؛ لأن له فيها شبهة الملك، ويحرم أيضا (على حرة) نكاح (قن ولدها) لما تقدم. وإن ملك أحد الزوجين الآخر أو بعضه بشراء أو إرث أو هبة (¬4) ونحوها انفسخ النكاح لتنافي أحكام الملك والنكاح كما تقدم، أو ملك ولد أحد الزوجين أو مكاتبه أو ¬
مكاتب ولده الزوج الآخر أو بعضه (¬1) انفسخ النكاح لما سبق، فلو بعثت إليه زوجته حرمت عليك ونكحت غيرك وعليك نفقتي ونفقة زوجي فقد ملكت زوجها وتزوجت ابن عمها وهذا الفسخ لا ينقص به عدد الطلاق، فلو أعتقته ثم تزوجها لم يحسب بتطليقة. ومن جمع في عقد بين مباحة ومحرمة كأيم ومزوجة صح في الأيم؛ لأنها محل قابل للنكاح أضيف إليها عقد صادرمن أهله [لم] (¬2) يجتمع معها فيه مثلها فصح كما لو انفردت به، وفارق العقد على الأختين؛ لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى، وهنا قد تعينت التي بطل فيها النكاح ولها من المسمى بقدر مهر مثلها منه، ومن جمع في عقد بين أم وبنت صح في البنت دون الأم؛ لأنه عقد تضمن عقدين يمكن تصحيح أحدهما دون الآخر فصح فيما يصح وبطل فيما يبطل، إذ لو فرضنا سبق عقد الأم ثم بطلانه ثم عقد على البنت صح نكاح البنت بخلاف عكسه فإذا وقعا معا فنكاح البنت أبطل نكاح الأم لأنها تصير أم زوجته، ونكاح الأم لا يبطل نكاح البنت؛ لأنها تصير رييبته من زوجة لم يدخل بها. (ومن حرم وطؤها بعقد) نكاح (حرم) وطؤها (بملك يمين)؛ لأنه إذا حرم النكاح لكونه طريقا إلى الوطء فهو نفسه أولى بالتحريم (إلا أمة كتابية) فيحرم نكاحها لا وطؤها بملك لعموم قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬3)، ولأن (¬4) نكاح الأمة الكتابية إنما حرم لأجل إرقاق الولد وبقائه مع كافرة وهذا معدوم في ملك اليمين. ¬
(فصل) في الشروط فى النكاح
(فصل) في الشروط فى النكاح وهي ما يشترطه أحد الزوجين على الآخر مما له فيه غرض، ومحل المعتبر منها صلب العقد، وكذا لو اتفقا عليه قبله في ظاهر المذهب قاله الشيخ تقي الدين، وقال: على هذا جواب أحمد في مسائل الحيل (¬1)؛ لأن الأمر بالوفاء بالشروط والعقود والعهود يتناول ذلك تناولا واحدا، قال في "الإنصاف" (¬2): "وهو الصواب الذي لا شك فيه". فإن لم يقع الشرط إلا بعد لزوم العقت لم يلزم نصا (¬3). (والشروط في النكاح نوعان): - أحدهما: (صحيح) لازم للزوج فليس له فكه بدون إبانتها وهو ما لا ينافي مقتضى العقد، فإن بانت منه انفكت الشروط (كشرط زيادة في مهرها) قدرا معينا، وكذا لو شرطت عليه نفقة ولدها وكسوته مدة معينة وتكون من المهر، أو شرط كون مهرها من نقد معين، أو ألا يخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يتزوج أو يتسرى عليها، وأن لا يفرق بينها وبين أبويها أو أولادها، أو أن ترضع ولدها الصغير، أو أن يطلق ضرتها، أو أن يبيع أمته؛ لأن لها فيه قصدا صحيحا، ويروى ¬
صحة الشرط في النكاح وكون الزوج لا يملك فكه عن عمر (¬1) وسعد ابن أبي وقاص (¬2) وغيرهما، ويؤيده حديث: "إن أحق ما أوفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج" متفق عليه (¬3) وحديث: "المسلمون على شروطهم" (¬4) وهو قول من سمي من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم، وروى الأثرم: "أن رجلا تزوج امرأة وشرط لها دارها، ثم أراد نقلها فخاصموه إلى عمر، فقال [لها] (¬5) عمر: لها شرطها، فقال الرجل: إذن يطلقننا النساء فقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط" (¬6)، ويصح جمع بين شرطين هنا بخلاف البيع، (فإن لم يف) زوج لها (بذلك) أي بما اشترطت (فلها الفسخ) لما تقدم من قول عمر ولم يلتفت إلى قول الزوج "إذن تطلقنا النساء"، وكالبيع على التراخي؛ لأنه لدفع ضرر أشبه خيار القصاص ¬
بفعله ما شرطت عليه لا بعزمه على الفعل قبله لعدم تحقق المخالفة، ولا يسقط ملكها الفسخ إلا بما يدل على رضاها من قول وتمكين مع العلم بفعله ما اشترطت أن لا يفعله، فإن مكنته قبل العلم لم يسقط فسخها؛ لأنه لا يدل على رضاها بترك الوفاء فلا أثر له كإسقاط الشفعة قبل البيع، ومن شرط لزوجته أن لا يخرجها من منزل أبويها فمات أحدهما بطل الشرط؛ لأن المنزل صار لأحد الأبوين بعد أن كان لهما فاستحال إخراجها من منزل أبوبها، فبطل الشرط، وكذا إن تعذر سكنى المنزل لنحو خراب فله أن يسكن بها حيث أراد سواء رضيت أو لا؛ لأنه الأصل والشرط عارض، وقد زال فرجعنا إلى الأصل وهو محض حقه. (و) النوع الثاني من الشروط في النكاح: (فاسد) وهو ضربان: ضرب (يبطل العقد) من أصله (وهو) أي المبطل للنكاح من أصله (أربعة أشياء): - أحدها: (نكاح الشغار) -بكسر الشين- وهو: أن يزوجه بنته أو أخته ونحوهما على أن يزوجه الآخر وليته ولا مهر بينهما (¬1)، يقال: شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول فسمي هذا النكاح شغارا تشبيها في القبح برفع الكلب رجله ليبول (¬2)، وروي عن عمر وزيد بن ثابت أنهما فرقا فيه بين المتناكحين (¬3) لحديث ابن عمر أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نهى عن الشغار" متفق عليه (¬4)، ولمسلم مثله عن أبي ¬
هريرة (¬1)، ولأنه جعل كل واحد من العقدين سلفا في الآخر فلم يصح كقوله: "بعني ثوبك على أن أبيعك ثوبي" وليس فساده من قبل التسمية بل لأنه وقفه على شرط فاسد، ولأنه شرط تمليك البضع لغير الزوج فإنه جعل تزويجه مهرا للأخرى فكأنه ملكه إياها بشرط انتزاعها منه، وسواء قال على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى أو لم يقله لحديث ابن عمر مرفوعا: "نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق" متفق عليه (¬2)، وكذا إن جعل بضع كل واحدة منهما مع دراهم معلومة مهرا للأخرى لم يصح لما تقدم، فإن سموا مهرا مستقلا غير قليل ولا حيلة صح النكاح نصا (¬3) سواء كان المسمى مهر المثل أو أقل، وإن سمى لإحداهما صح نكاحها فقط؛ لأن فيه تسمية وشرطا أشبه ما لو سمى لكل واحدة منهما مهرا. (و) الثاني من الأربعة الأشياء: نكاح (المحلل) وهو: أن يتزوج المطلقة ثلاثا على أنه إذا أحلها لمطلقها طلقها أو أنه إذا أحلها فلا نكاح بينهما (¬4)، وهو حرام باطل ¬
لحديث: "لعن اللَّه المحلل والمحلل له" رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي (¬1) وقال: "حسن صحيح والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منهم عمر وابنه وعثمان" (¬2)، وروي عن علي (¬3) وابن عباس (¬4)، وقال ابن مسعود: ¬
"المحلل والمحلل له ملعونان على لسان محمد" -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، ولابن ماجة عن عقبة بن عامر مرفوعا: "ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: هو المحلل لعن اللَّه المحلل والمحلل له" (¬2) أو ينوي التحليل ولم يذكر الشرط في العقد فالنكاح باطل نصا (¬3) لدخوله في عموم ما سبق، وروى نافع (¬4) عن ابن عمر أن رجلا قال له: تزوجتها أحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم قال: "لا إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها، وإن كرهتها فارقتها، قال: وكنا نعده على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سفاحا، ¬
وقال: لا يزالا زانيين وإن مكثا عشرين سنة إذا علم أنه [ان] (¬1) يريد أن يحلها" (¬2) وهذا قول عثمان (¬3)، وجاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا أيحلها له رجل؟ قال: "من يخادع اللَّه يخدعه" (¬4)، وكذا إن اتفقا على أنه نكاح محلل قبل العقد ولم يذكر في العقد فلا يصح إن لم يرجع عنه وينوي حال العقد أنه نكاح رغبة، فإن حصل ذلك صح لخلوه عن نية التحليل وشرطه، وعليه يحمل حديث ذي الرقعتين (¬5) وكذا إن زوج عبده بمطلقته ثلاثا بنية هبته أو بعضه أو بيعه أو بعضه منها ليفسخ نكاحها فلا يصح قال أحمد: هذا نهى عنه عمر ويؤدبان جميعا، وعلل ¬
فساده بشيئين، أحدهما: أنه شبه المحلل؛ لأنه إنما زوجها إياه ليحللها له، والثاني: كونه ليس بكفء لها (¬1)، ومن لا فرقة بيده لا أثر لنيته. (و) الثالث من الأربعة أشياء: نكاح (المتعة) وهو أن يتزوجها إلى أمد أو يشرط طلاقها فيه بوقت كزوجتك ابنتي شهرا أو سنة أو إلى انقضاء الموسم ونحوه، فيبطل نصا (¬2)، لحديث الربيع بن سبرة (¬3) أنه قال: أشهد على أبي أنه حدث أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نهى عنه في حجة الوداع" وفي لفظ: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حرم متعة النساء" رواه أبو داود (¬4)، ولمسلم عن سبرة: "أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمتعة عام الفتح حين ¬
دخلنا مكة ثم لم نخرج حتى نهانا عنها" (¬1) وحكي عن ابن عباس الرجوع عن قوله بجواز المتعة (¬2)، وأما إذن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها فقد ثبت نسخه (¬3)، قال الشافعي: "لا أعلم ¬
شيئا أحله اللَّه ثم حرمه ثم أحله ثم حرمه إلا المتعة" (¬1)، أو ينوي طلاقها فيه بوقت بقلبه أو يتزوج الغريب بنية طلاقها إذا خرج فلا يصح لأنه شبيه بالمتعة. (و) الرابع من الأربعة الأشياء: النكاح (المعلق على شرط غير مشيئة اللَّه تعالى) غير زوجت إن شاء اللَّه، قبلت إن شاء اللَّه، فيبطل النكاح المعلق على شرط مستقبل كزوجتك ابنتي إذا جاء رأس الشهر أو إن رضيت أمها أو إن وضعت زوجتي ابنة فقد زوجتكها؛ لأنه عقد معاوضة فلا يصح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع، ويصح تعليقه على شرط ماض وعلى شرط حاضر، فالماضي كقوله: زوجت فلانة إن كانت بنتي أو زوجتكها إن كنت وليها أو انقضت عدتها وهما يعلمان ذلك، والشرط الحاضر نحو زوجتكها إن شئت فقال: شئت وقبلت ونحوه فيصح النكاح؛ لأنه ليس بتعليق حقيقة بل توكيد وتقوية. (و) النوع الثاني من الشروط الفاسدة: (فاسد لا يبطله) أي النكاح فيصح معه (كشرط) الزوج (ألا مهر، أو) أن (لا نفقة) للزوجة، (أو أن يقيم عندها أكثر من ضرتها، أو) أن يقيم عندها (أقل) من ضرتها، أو يشترطا أو أحدهما عدم وطء ونحوه كعزله عنها، أو أن لا يكون عندها في الجمعة إلا ليلة، أو شرط لها النهار دون الليل، ¬
أو شرط على المرأة أن تنفق عليه، أو أن تعطيه شيئا، أو شرطا خيارا في عقد أو في مهر، أو شرطت عليه أنه إن جاءها بالمهر في وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما، أو شرطت عليه أن يسافر بها ولو لحج، أو أن تستدعيه لوطء عند إرادتها، أو أن لا تسلم نفسها إليه إلى مدة كذا فيصح النكاح دون الشرط في هذه الصور كلها لمنافاته مقتضى العقد وتضمنه إسقاط حقوق تجب بالعقد قبل انعقاده كإسقاط الشفيع شفعته قبل البيع، وأما العقد نفسه فصحيح؛ لأن هذه الشروط تعود إلى معنى زائد في العقد لا يشترط ذكره فيه ولا يضر الجهل به فلم يبطله كشرط صداق محرم فيه، ولأن النكاح صحيح مع الجهل بالعوض فجاز أن ينعقد مع الشرط الفاسد كالعتق، ومن طلق بشرط خيار وقع طلاقه لصدوره من أهله في محله، ولغا الشرط. وإن شرطها مسلمة أو قال ولي: زوجتك هذه المسلمة أو ظنها مسلمة ولم تعرف بتقدم كفر فبانت كتابية، أو شرطها بكرا أو جميلة أو نسيبة فبانت بخلافه فله الفسخ، (وإن شرط نفي عيب) عن الزوجة (لا يفسخ (¬1) به النكاح) كشرطها سميعة أو بصيرة (فوجد بها) ذلك العيب (فله الفسخ) أي فهو بالخيار؛ لأنه شرط صفة مقصودة ففاتت أشبه ما لو شرطها حرة فبانت أمة، ولا شيء عليه إن فسخ قبل الدخول، وبعده يرجع بالمهر على الغار، وكذا لو شرطها حسناء فبانت شوهاء، أو بيضاء فبانت سوداء، أو طويلة فبانت قصيرة، أو ذات نسب فبانت دونه لا إن ظن (¬2) ذلك ولم يشترطه. ولا خيار له إن شرط صفة فبانت أعلى منها، ومن تزوج أمة فظن أو شرط ¬
أنها حرة فولدت منه فولده حر لاعتقاده حريته باعتقاد حرية أمه، ويفدي ما ولد له حيا لوقت يعيش لمثله لقضاء عمر (¬1) وعلي وابن عباس (¬2)، لأن الولد نماء الأمة المملوكة فسبيله أن يكون مملوكا لمالكها، وقد فوت رقه باعتقاده الحرية فلزمه ضمانه كما لو فوت رقه بفعله فيفديه بقيمته يوم ولادته، قضى به عمر وعلي وابن عباس؛ لأنه محكوم بحريته عند وضعه، وهو أول أوقات إمكان تقويمه، وقيمته التي تزيد بعد وضعه لم تكن مملوكة لمالك الأمة فلا يضمنها كما بعد الخصومة، ثم إن كان الزوج ممن لا يحل له نكاح الإماء فرق بينهما لظهور بطلان النكاح لفقد شرطه، وإلا فله الخيار، فإن رضي بالمقام معها مع ثبوت رقها فما ولدت بعد فهو رقيق لرب الأمة. وإن كان المغرور بالأمة عبدا فولده حر أيضا؛ لأنه وطئها معتقدا حريتها أشبه الحر، وعلة رق الولد رق أمه خاصة، ولا عبرة بالأب بدليل ولد الحر من الأمة وولد العبد من الحرة، وهنا يقال: حر بين رقيقين، ويفديه إذا عتق لتعلقه بذمته، ويرجع زوج -حرا كان أو عبدًا- بفداء غرمه على من غره إن كان الغار أجنبيا؛ لأنه ضمن له سلامة الوطء كما ضمن له سلامة الولد، فكما يرجع عليه بقيمة الولد كذلك يرجع عليه بالمهر، وكذا أجرة انتفاعه بها إن غرمها، فإن كان الغار بالزوج سيدها ولم تعتق بذلك بأن لم يكن التغرير بلفظ تحصل به الحرية، أو كان الغار بالزوج إياها نفسها وهي مكاتبة فلا مهر له ولا لها؛ لأنه لا فائدة في أن يجب لأحدهما ما يرجع به عليه، وولدها مكاتب لولا التغرير تبعا لها، فيغرم أبوه قيمته لها إن لم تكن هي الغارة؛ لأنه فوته عليها ويرجع بما يغرمه على من غره. ¬
ولمستحق غرم من سيد وزوجة مكاتبة مطالبة غار لزوج ابتداء دون مطالبة الزوج، والغار من علم رقها أو رق بعضها ولم يبينه، ومن تزوجت رجلا على أنه حر، أو تظنه حرا فبان عبدا فلها الخيار إن صح النكاح بأن كملت شروطه وكان بإذن سيده؛ لأن اختلاف الصفة لا يمنع صحة العقد كما لو تزوج أمة على أنها حرة، فإن اختارت الفسخ لم يحتج إلى حكم حاكم، وإن اختارت إمضاءه فلأوليائها الاعتراض عليها إن كانت حرة لعدم الكفاءة، وإن كانت أمة فلها الخيار أيضا؛ لأنه إذا ثبت الخيار للعبد إذا غر بأمة ثبت للأمة إذا غرت بعبد. وإن شرطت في زوج صفة ككونه نسيبا، أو عفيفا، أو جميلا، فبان أقل مما شرطت فلا فسخ لها؟ لأنه ليس معتبرا في صحة النكاح أشبه شرطها طوله أو قصره، إلا إذا شرطته حرا فبان عبدا فلها الفسخ كما لو كانت أمة وعتقت تحته فهنا أولى، وكذا شرطها فيه صفة يخل فقدها بالكفاءة كما جزم به في "الإقناع" (¬1). ولمن عتقت كلها تحت رقيق كله الفسخ حكاه ابن المنذر وابن عبد البر (¬2) وغيرهما إجماعا (¬3)، لا إن كان حرا وهو ¬
قول ابن عمر (¬1) وابن عباس (¬2)؛ لأنها كافأت زوجها في الكمال فلم [يثبت لها الخيار، أو عتقت تحت] (¬3) حر أو مبعض فلا فسخ، أو عتقا معا فلا فسخ؛ لأنها لم تعتق كلها تحت رقيق، فتقول العتيقة إن اختارت الفسخ: فسخت نكاحي، أو (¬4) اخترت نفسي، أو اخترت فراقه، وقولها: طلقت نفسي كناية عن الفسخ فينفسخ به نكاحها إن نوت الفرقة؛ لأنه يؤدي معنى الفسخ فصح كونه كناية عنه كالكناية بالفسخ عن الطلاق، وليس فسخها لنكاحها إن نوت به الفرقة طلاقا لحديث: "الطلاق لمن أخذ بالساق" (¬5)، ولها الفسخ ولو متراخيا كخيار العيب ما لم يوجد منها ما يدل على الرضا بالمقام معه، روي عن ابن عمر وأخته حفصة (¬6) لحديث أبي داود: "أن بريرة عتقت وهي عند مغيث عبد لآل ¬
أبي أحمد (¬1)، فخيرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال لها: إن قربك فلا خيار لك" (¬2) وقال ابن عبد البر: "لا أعلم لابن عمر وحفصة مخالفا من الصحابة" (¬3). ولا يحتاج فسخها لحكم حاكم للإجماع، وعدم احتياجه للاجتهاد كالرد بالعيب في البيع بخلاف خيار العيب في النكاح فإنه محل اجتهاد فافتقر إلى حكم الحاكم كالفسخ للإعسار، فإن عتق قبل فسخ، أو مكنته من وطئها، أو مباشرتها، ولو جاهلة عتقها أو ملك الفسخ بطل خيارها، لحديث الحسن عن عمرو بن أمية (¬4) قال: سمعت رجالا يحدثون عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إذا عتقت الأمة فهي بالخيار ما لم يطأها، إن شاءت فارقت، فإن وطئها فلا خيار لها" رواه أحمد (¬5) وروى مالك عن ¬
نافع عن ابن عمر: "أن لها الخيار ما لم يمسها" (¬1)، ويجوز لزوجها وطؤها بعد عتقها مع عدم علمها به، ولبنت تسع أو بنت دونها إذا بلغتها (¬2)، ولمجنونة إذا عقلت الخيار دون ولي لأن طريقه الشهوة فلا تدخله الولاية كالقصاص، فإن طلقت قبل فسخ وقع الطلاق؛ لأنه من زوج عاقل يملك العصمة فنفذ كما لو لم تعتق، وبطل خيارها إن كان الطلاق بائنا لفوات محله. وإن عتقت الرجعية أو عتقت ثم طلقها رجعيا فلها الخيار ما دامت في العدة، ولفسخها فائدة فإنها لا تأمن رجعته إذا لم تفسخ، وإذا فسخت بنت على ما مضى من عدتها؛ لأن الفسخ لا ينافي عدة الطلاق، وتتم عدة حرة؛ لأنها رجعية عتقت في عدتها. ومتى فسخت بعد دخول فمهرها لسيدها لوجويه بالعقد وهي ملكه حالته، وإن فسخت قبله فلا مهر نصا (¬3) لمجئ الفرقة من قبلها كما لو ارتدت أو أرضعت من ينفسخ به نكاحها. ومن شرط معتقها أن لا تفسخ نكاحها ورضيت صح ولزمها؛ لأن العتق بشرط صحيح. ولمالك زوجين بيعهما، وله بيع أحدهما ولا فرقة بذلك؛ لأنه لا أثر له في النكاح، ويستحب لمن له عبد وأمة متزوجان إذا أراد عتقهما ابتدأ بالرجل لئلا يثبت لها ¬
عليه خيار فتفسخ نكاحه، لحديث عائشة: "أنه كان لها غلام وجارية فتزوجا، فقالت للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أريد أن أعتقهما، فقال لها: ابدئي بالرجل قبل المرأة" (¬1) وعن صفية بنت أبي عبيد (¬2) أنها فعلت ذلك وقالت للرجل: "إني بدأت بعتقك لئلا يكون لها عليك خيار" (¬3). في إعساره لإخلاله بنفقتها ومؤنة أولاده، ولهذا أملكت الفسخ بإعساره بالنفقة، ولأن العسرة نقص في عرف الناس يتفاضلون فيه كتفاضلهم في النسب، وإنما اعتبرت الكفاءة في الرجل دون المرأة؛ لأن الولد بشرف أبيه لا أمه، وقد تزوج رسول اللَّه - ¬
-صلى اللَّه عليه وسلم- بصفية بنت حيي (¬1)، وتسرى بالإماء (¬2)، وموالي بني هاشم لا يشاركونهم في الكفاءة في النكاح نصا، صححه في "الإنصاف" ونقل مهنا (¬3): "أنهم كفؤ لهم" (¬4). ¬
(فصل) في حكم العيوب فى النكاح
(فصل) في حكم العيوب فى النكاح أي ما يثبت به الخيار منها وما لا خيار به (وعيب نكاح) المثبت للخيار (ثلاثة أنواع) أي أقسام: - (نوع مختص بالرجل) وثبوت الخيار لأحد الزوجين إذا وجد بالآخر عيبا في الجملة روي عن عمر (¬1) وابنه (¬2) وابن عباس (¬3)؛ لأنه يمنع الوطء فأثبت الخيار كالجب والعنة، ولأن المرأة أحد العوضين في النكاح فجاز ردها بعيب كالصداق، ولأن الرجل أحد الزوجين فثبت له الخيار بالعيب في الآخر كالمرأة، وأما العمى والزمانة (¬4) ونحوهما فلا يمنع المقصود بالنكاح وهو الوطء بخلاف الجذام والبرص والجنون ونحوها (¬5) فإنها توجب نفرة تمنع من قربانه بالكلية و [المجنون] (¬6) يخاف منه الجناية فهو كالمانع الحسي. ¬
والنوع الذي يختص بالرجل (كجب)، أي قطع الذكر كله أو بعضه بحيث لم يبق منه ما يطأ به أو أشله، فإذا وجدت المرأة زوجها مقطوع الذكر أو أشله فلها الفسخ في الحال، فإن أمكن وطؤه بالباقي فادعاه وأنكرته قبل قولها في عدم إمكانه؛ لأنه يضعف بالقطع، والأصل عدم الوطء، أو وجدته قد قطع خصيتاه أو رض بيضتاه -أي عرقهما حتى ينفسخا- أو سلا؛ لأن فيه نقصا يمنع الوطء ويضعفه، (و) كـ (عنة) أي عجز عن الوطء وربما اشتهاه ولا يمكنه، من عن الشيء إذا اعترض لأن ذكره يعن إذا أراد إيلاجه -أي يعترض- (¬1). (ونوع) -أي قسم- من العيوب (مختص بالمرأة) وهو النوع الثاني من العيوب المثبتة للخيار (كسد فرج) بحيث لا يسلكه ذكر، (و) إن كان ذلك بأصل الخلقة فهو (رتق)، والرتق: تلاحم الشفرين خلقة، وإلا يكن بأصل الخلقة فهو قرن وعفل، فهما شيء واحد، وقيل: القرن لحم زائد ينبت في الفرج فيسده، والعفل: ورم يكون في اللحمة التي بين مسلكي المرأة فيضيق منه فرجها فلا ينفذ فيه الذكر، حكاه الأزهري (¬2). وقيل: القرن عظم، والعفل رغوة فيه تمنع لذة الوطء، ويثبت به الخيار على كل الأقوال، وكبخر في فرج أو قروح سيالة أو كونها فتقاء بانخراق ما بين سبيليها، أو ما بين مخرج بول ومني، أو كونها مستحاضة، فيثبت للزوج الخيار بكل من هذه. (ونوع مشترك بينهما) -أي بين الرجل والمرأة- وهو النوع الثالث من العيوب المثبتة للخيار (كجنون) ولو أحيانا، وإن زال العقل بمرض فإغماء لا خيار به فإن زال ¬
المرض ودام فجنون، (و) كـ (جذام) ويرص وبخر فم -أي نتنه- ومما يخففه السواك، قال بعضهم: والدواء القوي لعلاجه أن يتغرغر بالصبر ثلاثة أيام على الريق ووسط النهار وعند النوم ويتمضمض بالخردل بعد الثلاثة ثلاثة أيام أخر يفعل ذلك في كل ما يتغير فيه فمه إلى أن يبرأ، وإمساك الذهب في الفم يزيل البخر، وكاستطلاق بول ونجو (¬1) وباسور وناصور -دآءن بالمقعدة معروفان-، وقرع رأس له ريح منكرة (¬2)، وكون أحدهما خنثى غير مشكل، (فيفسخ بكل من ذلك) لما فيه من النفرة أو النقص أو خوف تعدي أذاه أو تعدي نجاسته، (ولو حدث) ذلك (بعد دخول)؛ لأنه عيب في النكاح يثبت به الخيار مقارنا فاثبته طارئا كالإعسار، ولأنه عقد على منفعة فحدوث العيب بها يثبت الخيار كالإجارة، أو كان بالفاسخ عيب مثله أو مغاير له. و(لا) يثبت الخيار (بنحو عمى) وعور (وطرشى) وخرس وعرج (وقطع يد أو) قطع (رجل) وقرع لا ريح له، وكون أحدهما عقيما أو نضوا (¬3)؛ لأن ذلك لا يمنع الاستمتاع ولا يخشى تعديه (إلا بشرط) الزوج نفي ذلك فإن بانت بخلافه فله الخيار، ولمحذا لو شرطته حرا أو ظنته وتقدم (¬4)، ولا يثبت خيار في عيب زال بعد عقد ¬
لزوال سببه، ولا لعالم به وقته لدخوله على بصيرة. (ومن) ادعت عنة زوجها فـ (ثبتت عنته) بإقرار أو بينة أو عدما فطلبت يمينه فنكل ولم يدع وطئا قبل دعواها (أجل سنة) هلالية ولو عبدا (من حين ترفعه إلى الحاكم)؛ لأن العجز قد يكون لعنة وقد يكون لمرض فتضرب له سنة لتمر به الفصول الأربعة فإن كان من يبس زال في فصل الرطوبة وبالعكس، وإن كان من برودة زال في فصل الحرارة، وإن كان من احتراق مزاج زال في فصل الاعتدال، فإن مضت الفصول الأربعة ولم يزل علم أنها خلقة، ولا يحتسب عليه من السنة مدة اعتزال الزوجة له، (فإن) مضت السنة (ولم يطأ) ها -أي الزوجة- (فيها) أي السنة (فلها الفسخ) لما تقدم، وثبوت الخيار لامرأة العنين بعد تأجيله سنة روي عن عمر (¬1) وعثمان (¬2) والمغيرة بن شعبة (¬3) وعليه فتوى فقهاء الأمصار (¬4)؛ لأنه قول من سمي ¬
من الصحابة ولا مخالف لهم، ولأنه عيب يمنع الوطء فأثبت الخيار كالجب، فإن علم أن عجزه عن الوطء لعارض كصغر ومرض يرجى زواله لم تضرب له المدة، وإن قال وطئتها وأنكرت وهي ثيب فقولها إن ثبتت عنته قبل دعواه وطئها لأن الأصل عدم الوطء وقد انضم إليه وجود ما يقتضي الفسخ وهو ثبوت العنة، وإلا تثبت عنته قبل دعواه وطئها فالقول قوله؛ لأن الأصل السلامة، وإن كانت بكرا وثبتت عنته وبكارتها أجل سنة كما لو كانت ثيبا؛ لأن وجود العذرة يدل على عدم الوطء وعليها اليمين إن قال: أزلتها وعادت لاحتمال صدقه، وإن شهد بزوالها لم يؤجل؛ لأنه لم يثبت له حكم العنين وحلف إن قالت: زالت بغيره لاحتمال صدقها، ومن اعترفت بوطء زوجها لها في قبل بنكاح ترافعا فيه ولو مرة، أو في حيض أو نفاس أو إحرام أو ردة أو صوم واجب ولو بعد ثبوت عنته فقد زالت لإقرارها بما يتضمن زوالها وهو الوطء فليس بعنين لاعترافها بما ينافي دعواها، ومجنون تثبت عنته كعاقل في ضرب المدة؛ لأن مشروعية الفسخ لدفع الضرر الحاصل بالعجز عن الوطء، ويستوي فيه المجنون والعاقل، فإن لم تثبت عنته لم تضرب له مدة، ويسقط حق زوجة عنين ومقطوع بعض ذكره بتغييب الحشفة أو قدرها من مقطوعها. (وخيار عيب على التراخي)؛ لأنه لدفع ضرر متحقق أشبه خيار القصاص، (لكن يسقط) خيار (بما يدل على الرضا) من وطء أو تمكين مع علم ¬
بالعيب، كما يسقط بقول نحو: أسقطت خياري كمشتري المعيب يسقط خياره بالقول وبما يدل على رضاه بالعيب، ولو جهل الحكم أو زاد العيب أو ظنه يسيرا فبان كثيرا كظنه البرص في قليل من جسدها فبان في كثير منه فيسقط خياره؛ لأنه من جنس ما رضي به، و (لا) يسقط الفسخ (في عنة إلا بقول) امرأة العنين: "أسقطت حقي من الخيار لعنته" ونحوه لأن العلم بعدم قدرته على الوطء لا يكون بدون التمكين فلم يكن التمكين دليل الرضا فلم يبق إلا القول. (ولا) يصح (فسخ) من له الخيار (إلا بـ) حكم (حاكم)؛ لأنه فسخ مجتهد فيه أشبه الفسخ للإعسار بالنفقة فيفسخه الحاكم بطلب من له الخيار، أو يرده إلى من له الخيار فيفسخه ويكون كحكمه، ويصح فسخ لعيب مع غيبة زوج. (فإن فسخ) النكاح (قبل دخول فلا مهر) لها سواء كان الفسخ من الزوج أو من الزوجة؛ لأن الفسخ إن كان منها فالفرقة من جهتها، وإن كان منه فإنما فسخ لعيب دلسته بالإخفاء فكأنه منها ولم يجعل فسخها لعيبه كأنه منه لتدليسه؛ لأن العوض من الزوج في مقابلة منافعها فإذا اختارت الفسخ مع سلامة ما عقد عليه رجع العوض إلى العاقد معها، وليس من جهتها عوض في مقابلة منافع الزوج وإنما لها الخيار لما يلحقها من الضرر لا لتعذر ما استحقت عليه في مقابلته عوضا، فلو زوج عبده بجارية آخر وجعل رقبته صداقا لها وأعتقه مالك الجارية وظهر العبد على عيب بها قبل الدخول ففسخ رجع على معتقه مالك الجارية بقيمته لأنه مهرها، (و) إن فسخ النكاح لعيب زوجة أو زوج (بعده) -أي بعد دخول- فـ (لها) -أي الزوجة- (المسمى) في عقد كما لو طرأ العيب بعد الدخول؛ لأنه يجب بالعقد ويستقر بالدخول فلا يسقط بحادث بعده، ولذلك لا يسقط بردتها، ولا بفسخ من جهتها.
(ويرجع) زوج (به) -أي بنظير مسمى- غرمه (على مغر) له من زوجة عاقلة وولي ووكيل، ويقبل قول ولي ووكيل في عدم علمه بالعيب حيث لا بينة بعلمه؛ لأن الأصل عدمه فلا غرم عليه؛ لأن التغرير من غيره، فلو وجد التغرير من زوجة وولي فالضمان على الولى؛ لأنه المباشر، ومن المرأة والوكيل الضمان بينهما نصفان (¬1) قاله الموفق (¬2)، وكذا لو تزوج رجل امرأة فأدخلوا عليه غيرها فوطئها فعليه مهر مثلها ويرجع به على من غره ويلحقه الولد إن حملت نصا للشبهة، وتجهز إليه امرأته بالمهر الأول نصا (¬3). وإن طلقت المعيبة قبل دخول وقبل العلم بالعيب فعليه نصف الصداق ولا يرجع به على أحد، وكذا لو مات أحدهما قبل العلم بالعيب فلا رجوع بالصداق المستقر بالموت على أحد؛ لأن سبب الرجوع الفسخ ولم يوجد. وليس لولي صغير أو صغيرة أو مجنون أو مجنونة أو سيد أمة تزويجهم بمعيب يرد به في النكاح لوجوب نظره لهم بما فيه الحظ والمصلحة وانتفاء ذلك في هذا العقد، ولا لولي حرة مكلفة تزويجها به بلا رضاها فلو فعل مع علمه بالعيب لم يصح النكاح، وإلا يعلم صح وله الفسح إذا علم، وفي "الإقناع" (¬4): "يجب الفسخ على ولي غير المكلف والمكلفة وسيد الأمة". ¬
وإن اختارت مكلفة عنينا أو مجبوبا لم يمنعها وليها؛ لأن الحق في الوطء لها دونه، وإن اختارت مجنونا أو مجذوما أو أبرص فلوليها منعها منه؛ لأن فيه عارا عليها وعلى أهلها وضررا يخشى تعديه إلى الولد؛ كمنعها من تزوجها بغير كفؤ، وإن علمت العيب بعد العقد أو حدث به بعده لم تجبر على الفسخ؛ لأن حق الولي في ابتداء العقد لا دوامه، ولهذا لو دعت وليها إلى تزويجها بعبد لم تلزمه إجابتها، ولو عتقت تحت عبد لم يملك إجبارها على الفسخ.
فصل فى حكم نكاح الكفار
فصل فى حكم نكاح الكفار وما يقرون عليه لو ترافعوا إلينا أو أسلموا وهو صحيح، وحكمه كنكاح المسلمين فيما يجب به من وقوع الطلاق والظهار والإيلاء ووجوب المهر والنفقة والقسم والإباحة للمطلق ثلاثا بعد نكاح زوج غيره والإحصان، ودليل صحته قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (¬1) و {امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} (¬2) فأضاف النساء إليهم، وحقيقة الإضافة تقتضي زوجية صحيحة، وقال عليه الصلاة والسلام: "ولدت من نكاح لا سفاح" (¬3) وإذا ثبتت الصحة ثبتت أحكامها كأنكحة المسلمين، ومنها: وقوع الطلاق لصدوره من أهله في محله كطلاق المسلم، ويحرم عليهم في النكاح ما يحرم على المسلمين. (ويقر الكفار على نكاح فاسد) إذا خالف أنكحة المسلمين (إن اعتقدوا صحته) في دينهم، ولأن ما لا يعتقدون صحته ليس من دينهم فلا يقرون عليه كالزنا والسرقة ولم يرتفعوا إلينا لقوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ. . .} الآية (¬4) فدل على أنهم يخلون وأحكامهم إن لم يجيئوا إلينا، ولأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
أخذ الجزية من مجوس هجر (¬1) ولم يعترضهم في أنكحتهم مع علمه أنهم يستبيحون نكاح محارمهم (¬2)، فإن أتونا قبل عقد نكاحهم عقدناه على حكمنا بإيجاب وقبول وولي وشاهدي عدل منا كأنكحة المسلمين، (وإن) أتونا بعده أو (أسلم الزوجان) على نكاح لم نتعرض لكيفية العقد، قال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما معا في حال واحدة أن لهما المقام على نكاحهما ما لم يكن بينهما نسب أو رضاع" (¬3)، وقد أسلم خلق كثير في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأسلم نساؤهم فأقروا على أنكحتهم ولم يسألهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شروط النكاح ولا كيفيته. (و) إن كانت (المرأة تباح) للزوج (إذن) -أي حال الترافع أو الإسلام- كعقد في عدة فرغت نصا (¬4)، أو عقد على أخت زوجة ماتت، أو بلا شهود، أو بلا ولي، أو بلا صيغة (أقرا) على نكاحهما لما تقدم، وإن حرم [وقت] (¬5) ابتداء نكاحها وقت الترافع أو الإسلام كذات محرم أو في عدة لم تفرغ أو كانت حبلى من غيره ولو من زنا ¬
أو استدام نكاح مطلقته ثلاثا ولو معتقدا حلها فرق بينهم؛ لأنه حال يمنع من ابتداء العقد فمنع استدامته كنكاح ذوات المحارم. وإن أسلم الزوجان معا بأن تلفظا بالإسلام دفعة واحدة فهما على نكاحهما؛ لأنه لم يوجد بينهما اختلاف دين، ولحديث أبي داود عن ابن عباس: "أن رجلا جاء مسلما على عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم جاءت امرأته مسلمة بعده، فقال: يا رسول اللَّه! إنها كانت أسلمت معي فردها عليه" (¬1)، أو أسلم زوج كتابيةكتابيا كان أو لا فهما على نكاحهما ولو قبل الدخول؛ لأن المسلم له ابتداء نكاح الكتابية فاستدامته أولى، وإن أسلمت كتابية تحت كافر كتابي أو غيره قبل دخول انفسخ نكاحهما؛ لأنه لا يجوز لكافر ابتداء نكاح مسلمة، أو أسلم أحد زوجين غير كتابيين قبل دخول انفسخ لقوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} (¬2) ولها نصف المهر إن أسلم الزوج فقط لمجيء الفرقة من قبله بإسلامه، كما لو طلقها، أو أسلما وادعت سبقه بالإسلام فتحلف وتأخذ نصف المهر لما تقدم، ولا تقبل دعواه بسقوطه؛ لأن الأصل خلافه، كان قال الزوج أسلمنا معا فنحن على النكاح فأنكرته فالقول قولها، لأنه الظاهر لبعد اتفاقهما في الإسلام دفعة واحدة، وإن أسلم أحد الزوجين غير الكاتبيين، أو أسلمت كتابية تحت كافر بعد الدخول وقف ¬
الأمر إلى انقضاء العدة، فإن أسلم الثاني قبله فهما على نكاحهما لحديث مالك في الموطأ عن ابن شهاب قال: "كان بين إسلام صفوان بن أمية (¬1) وامرأته بنت الوليد بن المغيرة نحو من شهر أسلمت يوم الفتح، وبقي صفوان حتى شهد حنينا والطائف وهو كافر، ثم أسلم فلم يفرق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بينهما" (¬2) واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح، وهذا بخلاف ما قبل الدخول فإنه لا عدة لها فتتعجل البينونة كالمطلقة، وإلا يسلم الثاني قبل انقضاء العدة تبينا فسخ النكاح منذ أسلم الأول منهما لاختلاف الدين، ولا تحتاج لعدة ثانية، فلو وطئ في العدة ولم يسلم الثاني فيها فلها مهر مثلها، وإن أسلم الثاني قبل انقضاء العدة وبعد الوطء فلا مهر، وإن أسلمت قبله فلها نفقة العدة ولو لم يسلم لتمكنه من الاستمتاع بها وإبقاء نكاحها بإسلامه في عدتها أشبهت الرجعية، وإن أسلم قبلها فلا نفقة لأنه لا سبيل له لتلافي نكاحها فأشبهت البائن، ويجب الصداق بكل حال لاستقراره بالدخول وسواء كان بدار الإسلام أو دار الحرب، أو أحدهما في دار الإسلام والآخر في دار الحرب، ومن هاجر إلينا بذمة مؤلدة أو مسلما أو مسلمة والآخر بدار الحرب لم ينفسخ نكاحهما بالهجرة. ¬
(باب الصداق)
(بَابُ الصَّدَاقِ) بفتح الصاد وكسرها (¬1)، يقال: ، صْدَقْتُ المرأةَ ومَهَرْتُهَا، وهو العوض المسمى في عقد نكاح وبعده لمن لم يسم لها فيه (¬2)، وكما يسمى صداقًا يسمى مهرًا، وصَدُقَةً، ونِحْلَةً، وفَرِيْضَةً، وأجْرًا، وعلائق (¬3)، وعُقرًا (¬4)، وحِبَاءً (¬5)، وقد نظم بعضهم منها ثمانية في بيت فقال: صَدَاقٌ وَمَهْرٌ نِخلَةٌ وفَرِيْضَةٌ ... حَبَاءٌ وأجْرٌ ثُمَّ عَقْرٌ عَلَائق (¬6) وهو مشروع في نكاح إجماعًا (¬7) لقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ ¬
نِحْلَةً} (¬1) قال أبو عبيد (¬2): "يعني عن طيب نفس به كما تطيب النفس بالهبة". (¬3) وقيل: نحلة من اللَّه للنساء (¬4)؛ ولأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- تزوج وزوج بناته على صدقات ولم يتركه في النكاح (¬5). و(يُسَنُّ تَسْمِيَتُهُ) أي الصداق (في العَقْدِ) لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (¬6) ولما تقدم من فعله عليه السلام، ولأن تسميته أقطع (¬7) للنزاع وليست شرطا لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ ¬
عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬1) وروي أنه عليه السلام: "زوج رجلا امرأة ولم يُسَمِّ لها مهرًا" (¬2). (و) يسن (تَخْفِيْفُهُ) -أي الصداق- لحديث عائشة مرفوعًا: "أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة" رواه أبو حفص (¬3)، وعن أبي هريرة: "أن رجلا تزوج امرأة من الأنصار فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على كم تزوجتها؟ فقال: على أربع أواق قال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: على أربع أواق! تنحتون الفضة من عُرْضِ (¬4) هذا الجبل" رواه ¬
مسلم (¬1)، ويستحب أن لا ينقص عن عشرة دراهم، وأن يكون من أربعمائة درهم فضة وهو صداق بنات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى خمسمائة درهم وهي صداق أزواجه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما روى أبو العجفاء (¬2) قال: "سمعت عمر يقول: لا تغلوا في صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ما أصدق الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة من نسائه أكثر من ثنتي عشرة أوقية" رواه الترمذي (¬3)، وعن أبى سلمة قال: "سألت عائشة كم كان صداق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا، قالت: أتدرى ما النش؟ قلت: لا، قالت: نصف أوقية ¬
فتلك خمسمائة درهم" رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي (¬1)، والأوقية كانت أربعين درهما، وإن زاد الصداق على خمسمائة درهم فلا بأس؛ لحديث أم حبيبة (¬2): "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تزوجها وهي بأرض الحبشبة زوجها النجاشي وأمهرها أربعة آلاف وجهزها من عنده وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة (¬3) فلم يبعث إليها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بشيء" رواه أحمد والنسائي (¬4)، ولو كره لأنكره، وكان له -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يتزوج بلا مهر لقوله تعالى: { ¬
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ. . .} الآية (¬1). (و) لا يتقدر الصداق فـ (كل ما صح ثمنا) في بيع (أو أجرة) في إجارة (صح مهرا) وإن قل لحديث: "التمس ولو خاتما من حديد" (¬2)، وحديث: "لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يده طعاما كانت له حلالا" رواه أبو داود بمعناه (¬3)، وعن ¬
عامر بن ربيعة (¬1): "أن امرأة من فزارة (¬2) تزوجت على نعلين، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أرضيت من مالك ونفسك بنعلين؟ قالت: نعم، فأجازه" رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه (¬3)، واشترط الخرقي (¬4): أن يكون له نصف يتمول فلا ¬
يجوز على فلس ونحوه. وتبعه عليه جمع وصاحب "الإقناع" (¬1)، فيصح النكاح على عين ودين حال ومؤجل ولو على منفعة زوج أو غيره معلومة مدة معلومة، كرعاية غنمها مدة معلومة أو على عمل معلوم كلخياطة ثوبها ورد قنها من محل معين، ومنافع الحر والعبد سوءا لقوله تعالى حكاية عن شعيب وموسى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} (¬2) ولأن منفعة الحر يجوز العوض عنها في الإجارة فجازت صداقا كمنفعة العبد، والقول بأنها ليست مالا ممنوع بأنه يجوز المعاوضة عنها وبها ثم إن لم تكن المنفعة مالا فقد أجريت مجرى المال، فإن كانت المنفعة مجهولة كرد عبدها أين كان وخدمتها فيما شاءت لم تصح التسمية (¬3) كالثمن في المبيع والأجرة في الإجارة، ويصح النكاح على تعليم معين من فقه أو حديث إن كانت مسلمة أو شعر مباح أو أدب أو صنعة، كخياطة أو كتابة ولو لم يعرف العمل الذي أصدقه إياها ويتعلمه ثم يعلمها إياه لأن التعليم يكون في ذمته ¬
أشبه ما لو أصدقها مالا في ذمته لا يقدر عليه حال الإصداق، ويجوز أن يقيم لها من يعلمها، وإن تعلمته من غيره لزمته أجرة تعليمها، وكذا إن تعذر عليه تعليمها أو أصدقها خياطة ثوب فتعذرت عليه كما لو تلف الثوب، وإن أتته بغيرها ليعلمه ما أصدقها لم يلزمه لأن المستحق عليه العمل في عين لم يلزمه إيقاعه في غيرها كما لو استأجرته لخياطة ثوب معين فاتته بغيره ليخيطه لها، ولأن المتعلمين يختلفون في التعليم اختلافا كثيرا، وقد يكون له غرض في تعليمها فلا يلزمه تعليم غيرها، وإن أتاها بغيره ليعلمها لم يلزمها قبوله لاختلاف المعلمين في التعليم، وقد يكون لها غرض في التعلم منه لكونه زوجها، وعليه بطلاقها قبل تعليم ودخول نصف الأجرة وبعد دخول كلها، وإن علمها ثم سقط الصداق لمجيء الفرقة من قبلها رجع بالأجرة، ويرجع مع تنصفه لنحو طلاقها بعد أن علمها وقبل دخول بنصف الأجرة، وإن أصدقها تعليم شيء من القرآن ولو معينا لم يصح؛ لأن الفروج لا تستباح إلا بالأموال لقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} (¬1) وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} (¬2) والطول: المال (¬3)، وما روي أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- زوج رجلا ¬
على سورة من القرآن ثم قال: "لا تكون لأحد بعدك" رواه البخاري (¬1)، ولأن تعليم القرآن لا يقع إلا قربة لفاعله فلم يصح أن يقع صداقا كالصوم والصلاة، وأما حديث الموهوبة وقوله عليه السلام فيه: "زوجتكها بما معك من القرآن" متفق عليه (¬2)، فقيل معناه زوجتكها لأنك من أهل القرآن، كما زوج أبا طلحة (¬3) على إسلامه (¬4) وليس في الحديث الصحيح ذكر التعليم، ويحتمل أن يكون خاصا بذلك ¬
الرجل لحديث البخاري (¬1)، ومن تزوج أو خالع نساء بمهر أو عوض واحد صح وقسم بينهن على قدر مهور مثلهن لأن الصفقة اشتملت على أشياء مختلفة القيمة فوجب تقسيم العوض عليها بالقيمة كما لو اشترى شقصا وسيفا، ولو قال بينهن قسم على عددهن بالسوية؛ لأن إضافته إليهن إضافة واحدة. (فإن لم يسم) الصداق في العقد وهو تفويض البضع (أو بطلت التسمية) كعلى خمر أو خنزير أو مال مغصوب (وجب مهر) الـ (مثل بعقد) لأن المرأة لا تسلم إلا ببدل ولم يسلم البدل وتعذر رد العوض فوجب بدله كبيعه سلعة عمر فتتلف عند مشتر، ولا يضر جهل يسير في صداق، فلو أصدقها عبدا من عبيده أو دابة من دوابه أو قميصا من قمصانه ونحره صح ولها أحدهم بقرعة نصا (¬2) لأن الجهالة فيه يسيرة ويملك التعيين فيه بالقرعة بخلاف ما إذا أصدقها عبدا وأطلق، ولو أصدقها قفيزا من حنطة ونحوه صح ولها الوسط لأنه العدل، وإن تزوجها على ألف إِن لم تكن له زوجة أو إن لم يخرجها من دارها أو من بلدها، وعلى ألفين إن كانت له زوجة أو أخرجها صح ¬
ذلك، لأن خلو المرأة من ضرة أو سرية تغايرها وتضيق عليها من أكبر أغراضها المقصودة، وكذا بقاؤها بدارها أو بلدها بين أهلها وفي وطنها ولذلك تخفف صداقها لتحصيل غرضها وتغليه عند فواته، وإن أصدقها عتق قن له صح لا طلاق زوجة له أو جعل طلاقها إليها مدة ولو معلومة لحديث ابن عمر مرفوعا: "لا يحل لرجل أن ينكح امرأة بطلاق أخرى" (¬1) ولأن خروج البضع من الزوج ليس يتمول فهو كما لو أصدقها نحو خمر ولها مهر مثلها لفساد التسمية، ومن قال لسيدته: "أعتقيني على أن أتزوجك" فأعتقته أو قالت ابتداء: "أعتقتك على أن تتزوجني" عتق مجانا فلا يلزمه أن يتزوج بها؛ لأن ما شرطته عليه حق له فلا يلزمه، ومن قال: "أعتق عبدك عني على أن أزوجك ابنتي" فأعتقه على ذلك لزمته قيمته لمعتقه بعتقه ولم يلزمه تزويج ابنته، كقوله لآخر: "أعتق عبدك على أن أبيعك عبدي"، وإن تزوجها على أن يعتق أباها صح نصا (¬2) فإن تعذر عليه عتقه فلها قيمته، وإن تزوجها على عبد فخرج حرا أو مغصوبا فلها قيمته ويقدر حر عبدا يوم عقد لرضاها بقيمته إن ظنته مملوكا له وكما لو وجدته معيبا فردته، وتخير في عين جعلت لها صداقا كدار وعبد بان جزء منها مستحقا بين أخذ قيمة العين كلها أو أخذ الجزء غير المستحق وقيمة الجزء المستحق لأن الشركة عيب فكان لها الفسخ بها كغيرها من العيوب، أو عين ذرعها فبانت أقل ¬
[خُيِّرت] (¬1) بين أخذه وأخذ قيمة ما نقص وبين الرد وأخذ قيمة الجميع، وما وجدت به عيبا أو ناقصا صفة شرطتها فكمبيع يجده مشترٍ معيبا أو ناقصا صفة شرطها فيه، ولمتزوجة على عصير بان خمرا مثل العصير لأنه مثلي، وإن قال أصدقتها هذا الخمر وأشار إلى خل أو عبد فلان هذا وأشار إلى عبده صحت التسمية ولها المشار إليه كبعتك هذا الأسود أو الطويل مشيرا إلى أبيض أو قصير. (وَإِنْ تَزَوَّجَهَا) -أي المرأة- (على ألفٍ لها وألفٍ لأَبِيها) أو على أن كل الصداق لأبيها إن صح تملكه من مال ولده، وتقدم بيان شروطه في الهبة (صَحَّ، فلو طَلَّقَ قَبْلَ دُخولٍ رَجَعَ بأَلفِها) فقط (ولا شئَ على الأَبِ لهما) لأنه أخذ من مال ابنته ألفا فلا يجوز الرجوع به عليه، وإن شرط الأب الكل له وطلق الزوج قبل دخول رجع عليها بقدر نصف الصداق، ولا شيء على الأب إن قبضه بنية تملكه لأنا قدرنا أن الجميع صار لها ثم أخذه الأب منها، فصار كأنها قبضته ثم أخذه منها وعلم منه أن الأب لا يملكه بالشرط بل بالقبض مع النية، (وإِنْ شُرِطَ لغيرِ الأبِ شيءٌ) كجدها وأخيها (فالكُلِّ لَها) ويبطل الشرط نصًّا (¬2). (وَيَصِحُّ تأْجِيلُهُ) -أي الصداق- (وإِنْ (¬3) أُطْلِقَ الأَجَلُ) ولم يذكر محله بأن قيل على كذا مؤجلا (فَمَحلُّهُ الفُرقَةُ) البائنة؛ لأن اللفظ المطلق يحمل على العرف والعرف في الصداق المؤجل ترك المطالبة إلى الموت أو البينونة فيحمل عليه فيصير حينئذ معلوما ¬
بذلك، وإن أطلق فلم يقيد بحلول ولا أجل صح ويكون حالا لأن الأصل عدم التأجيل. ولأب تزويج بكر وثيب بدون صداق مثلها ولو كبيرة وإن كرهت نصًّا (¬1) لأن عمر خطب الناس فقال: "ألا لا تغالوا في صداق النساء فما أصدق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحدًا من نسائه ولا أحدًا من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية" (¬2) وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر، فكان اتفاقا منهم على أن يزوج بذلك وإن كان دون صداق مهر المثل، وزوّج سعيد بن المسيب ابنته بدرهمين (¬3) وهو من أشراف قريش نسبًا وعلمًا ودينًا، ومن المعلوم أنهما ليسا مهر مثلها، ولأن المقصود من النكاح السكن والازدواج ووضع المرأة في منصب عند من يصونها ويحسن عشرتها دون العوض، ولا يلزم الزوج ولا الأب تتمته لصحة التسمية، وإن فعل ذلك غير الأب بأن زوجها بدون مهر مثلها بإذنها صح مع رشدها ولا اعتراض لأن الحق لها وقد أسقطته كما لو أذنت في بيع سلعتها بدون قيمتها وبدون إذنها يلزم زوجها تتمته لفساد التسمية إذن لأنها غير مأذون فيها فوجب على الزوج مهر المثل كما لو تزوجها بمحرّم، وعلى الولي ضمانه لأنه المفرط كما لو باع مالها بدون قيمته، ونَصّ الإمام أحمد يلزم الولي تتمته لأنه مفرط بعقده بدون مهر المثل (¬4)، كما يلزم تتمته مقدرًا من زوّج موليته بدون ما قدرته له من ¬
صداق، ولا يصح كون المهر المسمى من يعتق على زوجة كان تزوجها على أبيها أو أخيها أو عمها لأنه يؤدي إلى إتلاف الصداق عليها إذ لو صحت التسمية لملكته ولو ملكته لعتق عليها إلا أن يكون بإذن زوجة رشيدة فيصح لأن الحق لها وقد رضيت، وإن زوج أب ابنه الصغير بأكثر من مهر المثل صح ولزم المسمى الابن، لأن المرأة لم ترض بدونه فلا ينقص منه، وقد يكون للابن غبطة ومصلحة في بذل الزيادة على مهر المثل والأب أعلم بمصلحته في ذلك، ولا يضمنه أب مع عسرة ابن لنيابة الأب عنه في التزويج أشبه الوكيل في شراء سلعة، ولو قيل له: ابنك فقير من أين يؤخذ الصداق؟ فقال: عندي ولم يزد على ذلك لزمه المهر عنه لأنه صار ضامنا بذلك، وكذا لو ضمنه عنه غير الأب أو ضمن عنه نفقتها مدة معينة فيصح موسرا كان أو معسرا، ولو قضاه الأب عن ابنه ثم طلق الابن الزوجة ولم يدخل بها ولو قبل بلوغ فنصفه للابن دون الأب لأن الطلاق من الابن وهو سبب استحقاق الرجوع بنصف الصداق فكان لمتعاطي سببه دون غيره، وكذا لو أرتدت ونحوه فرجع كله ولا رجوع للأب فيه لأن الابن لم يملكه من قبله، وكذا لو قضاه عنه غير الأب ثم تنصف أو سقط ويأتي، ولأب قبض صداق بنت محجور عليها لصغر أو جنون أو سفه لأنه يلي مالها فكان له قبضه كثمن مبيعها، ولا يقبض أب ولا ولي غيره صداق رشيدة ولو بكرا إلا بإذنها لأنها المتصرفة في مالها فاعتبر إذنها في قبضه كثمن مبيعها.
تتمة: -
تَتِمَّةٌ: - وإن تزوج عبد بإذن سيده صح وله نكاح أمة ولو أمكنه نكاح حرة، ومتى أذن له وأطلق نكح واحدة فقط نصًّا (¬1)؛ لأنه المتبادر من الإطلاق ويتعلق صداق ونفقة وكسوة ومسكن بذمة سيده، سواء ضمن ذلك أو لم يضمنه وسواء كان العبد مأذونًا له في التجارة أو لا نصًّا (¬2)، فإن باعه سيده أو أعتقه لم يسقط الصداق عنه كأرش جناية، ويتعلق زائد على مهر مثلٍ لم يؤذن للعبد فيه أو زائد على ما سمي له برقبته كأرش جناية، وإن تزوج عبد بلا إذن سيده لم يصح النكاح فهو باطل نصًّا (¬3)، وكذا لو أذن في معينة أو من بلد معين أو جنس معين فخالفه لما روى جابر مرفوعًا: "أيما عبد تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر" رواه أحمد وغيره (¬4)، والعُهْرُ دليل بطلان النكاح إذ لا يكون عاهرًا مع صحته، ويجب في رقبته بوطئه في نكاح لم يأذن فيه سيده مهر المثل لأنه قيمة البضع الذي أتلف بغير حق أشبه أرش الجناية، ومن زوج عبده أمته لزم العبد مهر المثل يتبعه سيده به بعد عتقه نصًّا (¬5) لأن النكاح إتلاف ¬
بضع يختص به العبد فلزمه عوضه في ذمته، وإن زوج عبده حرة ثم باعه لها بثمن في الذمة من جنس المهر تقاصا إن اتحد الدينان جنسا وصفة وحلولا وتأجيلا أجلا واحدا، فإن اتحد قدرهما سقطا وإلا سقط بقدر الأقل من الأكثر، ولرب الزائد الطلب بالزائد، وينفسخ النكاح بملكها زوجها، ولو جعل السيدُ العبدَ صداقَ زوجته الحرة بطل العقد، وإن باعه لها بمهرها صح قبل دخول وبعده لأن المهر مال يصح جعله ثمنا لغير هذا العبد فصح أن يكون ثمنا له كغيره من الأموال، وينفسخ النكاح، ويرجع سيد باع العبد لزوجته الحرة في فرقة قبل دخول بنصف المهر لأن البيع إنما تم بالسيد القائم مقام الزوج فلم يتمحض سبب الفرقة من قبلها، وكذا لو طلقها العبد ونحوه قبل دخول وكانت قبضت المهر رجع عليها سيده بنصفه. (وَتَمْلِكُهُ) -أي المهر- كاملا زوجة حرة وسيدُ أمةٍ (بعقدٍ) لحديث: "إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك" (¬1) ولأن النكاح عقد يملك فيه المعوض بالعقد فملك به العوض كاملا كالبيع، وسقوط نصفه بالطلاق لا يمنع وجوب جميعه بالعقد إذ لو ارتدت سقط جميعه وإن كانت قد ملكت نصفه، ولها نماء مهر معين كعبد ودار معينة من حين عقد فكسب العبد ومنفعة الدار لها لأنه نماء ملكها ولحديث: "الخراجُ بالضَّمَانِ" (¬2) ولها التصرف في المهر ببيع ونحوه لأنه ملكها، إلا نحو مكيل قبل قبضه، ¬
وضمانه ونقصه إن تلف أو تعيب على الزوج إن منعها قبضه لأنه كالغاصب، وإلا فضمانه عليها كزكاته، والصداق غير المعين لم يدخل في ضمانها إلا بقبضه كمبيع ولا تملك تصرفا فيه إلا بقبضه. ¬
فصل فى المفوضة
فَصْلٌ فى المُفَوّضَةِ بكسر الواو وفتحها فالكسر على إضافة الفعل للمرأة على أنها فاعلة، والفتح على إضافته لوليها، والتفويضُ: الإهمال، كان المهر أهمل حيث لم يسم (¬1) قال الشاعر: لا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضًى لا سَرَاةَ لهم ... ولا سَرَاةَ إذَا جُهَّالُهُم سَادُوا (¬2) والتفويض نوعان: - تفويض بُضْعٍ: وهو المشار إليه بقوله (ويَصِحُّ تفويضُ بُضْع بأَنْ يُزَوّجَ أبٌ ابنتَهُ المُجْبَرَة) بلا مهر (أَوْ) يزوج (وليّ غيرها) -أي غير المجبرة- وهي الثيب البالغة من أب أو أخ ونحوه (بإذْنِهَا بلا مهرٍ) لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬3) ولحديث ابن مسعود: "أنه سئل عن امرأة تزوجها رجل ولم يفرض لها صداقًا، ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها صداق نسائها لا وَكْس (¬4) ولا شَطَط وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بن سنان الأشجعي (¬5) فقال: قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بَرْوَعَ بنت ¬
واشق (¬1) امرأة منا مثل ما قضيت" رواه أبو داود والترمذي وقال: "حسن صحيح" (¬2)، وسواء قال زوجتك بلا مهر أو زاد لا في الحال ولا في المآل لأن معناهما واحد. والنوع الثاني: تفويض المهر، بأن يجعل المهر إلى رأي أحد الزوجين أو غيرهما (كـ) قوله: زوجتك بنتي أو أختي أو نحوهما (على ما شاءت) الزوجة أو على ما شاء الزوج (أو) على ما (شاء فلان) وهو أجنبي من الزوجين أو قريب لهما أو لأحدهما فيصح. (ويجب لها بعقد مهر مثل) لأنها لم تأذن في تزويجها إلا على صداق لكنه مجهول فسقط لجهالته فوجب مهر المثل، فلو فوض مهر أمة ثم بيعت أو عتقت ثم فرض لها مهر المثل فهو لسيدها حال العقد، ولها مع ذلك ومع فساد تسمية كإن تزوجها على خمر ¬
ونحوه طلب فرضه قبل دخول وبعده فإن امتنع أجبر عليه لأن النكاح لا يخلو من مهر، ويصح إبراؤها من المهر قبل فرضه لانعقاد سبب وجوله وهو النكاح، فإن تراضيا ولو على شيء قليل أو كثير صح إن كانا جائزي التصرف، وإن كان الزوج محجورا عليه لحظه فليس لوليه بذل أكثر من مهر مثلها، وإن كانت كذلك فليس لوليها الرضا بأقل من مهر مثلها، وإلا يتراضيا على شيء فرضه حاكم بقدر مهر مثل لأن الزيادة عليه ميل على الزوج والنقص منه (¬1) ميل على الزوجة والميل حرام. (ويستقر) مهر مثل لمفوضة (بدخول) كالمسمى، وكذا لو خلا بها ونحوه، (وإن مات أحدهما) أي الزوجين في نكاح التفويض (قبل دخول) بمفوضة (و) قبل (فرض) حاكم مهر المثل (ورثه الآخر) سواء كان الميت الزوج أو الزوجة لحديث ابن مسعود، ولأن ترك التسمية لا يقدح في صحة النكاح، (ولها) مع موت أحدهما وكذا سائر ما يقرر المهر (مهر نسائها) المساوية لها من جميع أقاربها (كأمها وعمتها وخالتها) وغيرهن كأخت وبنت أخ أو عم القربى فالقربى لقوله في حديث ابن مسعود: "ولها صداق نسائها" فإن المرأة تنكح لحسبها للأثر (¬2)، وحسبها يختص به أقاربها ويزداد المهر لذلك ويقل لعدمه، ويعتبر التساوي في مال وجمال وعقل وأدب وسن وبكارة أو ثيوبة وبلد وصراحة نسب وكل ما يختلف لأجله المهر؛ لأن مهر المثل بدل متلف وهذه الصفات مقصودة فيه فاعتبرت، فإن لم يكن في نسائها إلا دونها زيدت بقدر فضيلتها لأن زيادة فضيلتها تقتضي زيادة مهرها فتقدر الريادة بقدر الفضيلة، أو لم يوجد في نسائها إلا ¬
فوقها نقصت بقدر نقصها كأرش عيب يقدر بقدر نقص المبيع، وتعتبر عادة نسائها في تأجيل مهر أو بعضه أو تخفيف عن عشيرتهن دون غيرهم فإن اختلفت عادتهن أخذ بوسط حال، من نقد البلد فإن تعدد فمن غالبه، وإن لم يكن لها أقارب من النساء اعتبر شبهها بنساء بلدها فإن عدمن فبأقرب النساء شبها بها من أقرب بلد إليها. (وإن طلقت) مفوضة (قبلهما) -أي قبل دخول وفرض مهر- (لم يكن لها) -أي المفوضة- (عليه) -أي المطلق- (إلا المتعة) نصا (¬1) وهو قول ابن عمر (¬2) وابن عباس (¬3) لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} (¬4) والأمر يقتضي الوجوب وأداء الواجب من الإحسان فلا تعارض، وكل فرقة يتنصف بها المسمى توجب المتعة إذا كانت مفوضة، وكل فرقة تسقط المسمى كاختلاف دين وفسخ لرضاع من قبلها لا تجب به متعة لقيامها مقام نصف المسمى فتسقط في كل موضع يسقط فيه (وهي) -أي المتعة- (بقدر يسره وعسره) ¬
نصا (¬1) اعتبارا بحال الزوج لقوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} (¬2) فأعلاها خادم إذا كان الزوج موسرا والخادم الرقيق ذكرا كان أو أنثى، وأدناها إذا كان الزوج معسرا كسوة تجزيء الزوجة في صلاتها وهي درع وخمار أو ثوب تصلي فيه بحيث يستر ما يجب ستره، ولا تسقط المتعة إن وهبته مهر المثل أي أبرأته منه قبل الفرقة لظاهر الآية، ولأنها إنما وهبته مهر المثل فلا تدخل فيه المتعة، ولا يصح إسقاطها قبل الفرقة لأنها لم تجب بعد كإسقاط الشفعة قبل البيع، وإن وهب الزوج للمفوضة شيئا ثم طلقها قبل دخول وفرض فلها المتعة نصا (¬3)، لأن المتعة إنما تجب بالطلاق فلا يصح قضاؤها قبله. (ويجب مهر مثل لمن وطئت) ولو كان الوطء من مجنون بنكاح باطل إجماعا كنكاح خامسة أو معتدة، أو وطئت (بشبهة) إن لم تكن حرة عالمة مطاوعة فيهما (أو) وطئت بـ (زنا كرها) أي مكرهة إن كان الوطء في قبل لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فلها المهر بما استحل من فرجها" (¬4) أي نال منه وهو الوطء لأن ذكر الاستحلال في غير موضع الحل دليل على إرادة المباشرة المقصودة منه وهي الوطء، قلت: ومن ذلك قول نساء الجاهلية الطائفات بالبيت عراة: ¬
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله (¬1) (لا أرش بكارة) فلا يجب (معه) أي مع المهر لأن الأرش يدخل في مهر المثل فلا يجب مرة أخرى، وسواء كانت الموطؤة أجنبية أو من ذوات محارمه لأن ما ضمن للأجنبي ضمن للقريب كالمال بخلاف اللواط فإنه غير مضمون على أحد لعدم ورود الشرع ببدله، ويتعدد مهر في وطء شبهة بتعدد شبهة كان وطئها ظانا أنها زوجته خديجة ثم وطئها ظانا أنها زوجته فاطمة ثم وطئها ظانا أنها سريته فيجب لها ثلاثة مهور، فإن اتحدت الشبهة وتعدد الوطء فمهر واحد، ويتعدد المهر بتعدد إكراه على زنا، وإن اتحد الإكراه وتعدد الوطء فمهر واحد، ويجب مهر بوطء ميتة كالحية، وقال القاضي: وطء الميتة محرم ولا مهر ولا حد (¬2)، ولا يجب مهر بوطء مطاوعة على زنا لأنه إتلاف بضع برضا مالكه فلم يجب له شيء كسائر المتلفات، وسواء كان الوطء في قبل أو دبر، غير أمة فيجب لسيدها مهر مثلها على زان بها ولو مطاوعة لأنها لا تملك بضعها فلا يسقط حق سيدها بطواعيتها، وغير مبعضة طاوعت على الزنا فلا يسقط حق سيدها بمطاوعتها بل له من مهرها بقدر رق، وعلى من أذهب عذرة أجنبية -بضم العين أي بكارتها- (¬3) بلا وطء أرش بكارتها لأنه إتلاف جزء لم يرد الشرع بتقدير عوضه فيرجع فيه إلى أرشه كسائر المتلفات وهو ما بين مهرها بكرا وثيبا ذكره في ¬
"الإقناع" وغيره (¬1)، ومقتضى ما يأتي في الجنايات أن أرشه حكومة (¬2)، وإن فعله زوج ثم طلق قبل دخول أو خلوة لم يكن عليه إلا نصف المسمى لقوله تعالى: الآية (¬3) وهذه مطلقة قبل المسيس والخلوة فليس لها إلا نصف المسمى، ولأنه أتلف ما يستحق إتلافه بالعقد فلا يضمنه لغيره كما لو أتلف عذرة أمته، ولا يصح تزويج من نكاحها فاسد كالنكاح بلا ولي قبل طلاق أو فسخ لأنه نكاح يسوغ فيه الاجتهاد فاحتاج إلى إيقاع فرقة كالصحيح المختلف فيه، ولأن تزويجها بلا فرقة يفضي إلى تسليط زوجين عليها كل واحد يعتقد صحة نكاحه وفساد نكاح الآخر بخلاف النكاح الباطل، فإن أبى زوج فسخه حاكم نصا (¬4) لقيامه مقام الممتنع مما وجب عليه، فإن تزوجت بآخر قبل التفريق لم يصح النكاح الثاني ولم يجز تزويجها لثالث حتى يطلق الأولان أو يفسخ نكاحهما. ¬
فائدة: -
فائدة: - قال الشيخ في "الفتاوى المصرية" (¬1): "وهل له أن يتزوج المعتدة منه في نكاح فاسد؟ فيه قولان لأحمد: - أحدهما: يجوز كمذهب أبى حنيفة والشافعي. والثاني: لا يجوز كمذهب مالك". انتهى. (ولها) أي الزوجة (منع نفسها) من زوج قبل دخول (حتى تقبض مهرا حالا) مسمى لها كانت أو مفوضة حكاه ابن المنذر إجماعا (¬2)؛ ولأن المنفعة المعقود عليها تتلف بالاستيفاء فإذا تعذر عليها استيفاء المهر لم يمكنها استرجاع بدله بخلاف المبيع، و (لا) تمنع نفسها حتى تقبض مؤجلا (إذا حل قبل تسليم) لأنها رضيت بتأخيره، ولها زمن منع نفسها لقبض حال مهر النفقة لأن الحبس من قبله نصا (¬3)، ولها السفر بلا إذنه لأنه لم يثبت له عليها حق الحبس فصارت كمن لا زوج لها، وبقاء درهم منه كبقاء جميعه كسائر الديون، ومتى سافرت بلا إذنه فلا نفقة لها كلما بعد الدخول، ولو قبضت المهر الحال وسلمت نفسها ثم بان معيبا فلها منع نفسها حتى تقبض بدله لأنها إنما سلمت نفسها ظنا منها أنها قبضته فتبين عدمه، ولو أبى كل من الزوجين تسليم ما وجب عليه بأن قال الزوج لا أسلم المهر حتى أتسلمها، وقالت لا أسلم نفسي حتى أقبض حال مهري أجبر زوج أولا على تسليم صداق ثم أجبرت زوجة على تسليم نفسها لأن في ¬
إجبارها على تسليم نفسها أولا خطر إتلاف البضع والامتناع من بذل الصداق ولا يمكن الرجوع في البضع، وإن بادر أحدهما ببذل ما وجب عليه أجبر الآخر لانتفاء عذره في التأخير، ولو أبت زوجة تسليم نفسها بلا عذر فله استرجاع مهر قبض، (أو تبرعت بتسليم نفسها) قبل تسليم مهر فليس لها منع نفسها منه بعد ذلك لاستقرار العوض بالتسليم برضاها، فإن وطئها مكرهة لم يسقط حقها من الامتناع بعد لحصوله بغير رضاها كالمبيع إذا أخذه المشتري من البائع كرها. (وإن أعسر) زوج (بـ) مهر (حال) ولو بعد دخول (فلها) -أي لزوجة- حرة مكلفة (الفسخ) لتعذر الوصول إلى العوض كما لو أفلس مشتر بثمن ما لم تكن تزوجته عالمة بعسرته حين العقد لرضاها بذلك، والخيرة في الفسخ لحرة مكلفة وسيد أمة لأن الحق في المهر لهما، ولا خيرة لولي صغيرة ومجنونة لأنه لا حق له في المهر لأنه عوض منفعة البضع، ولا يصح الفسخ لذلك إلا (بـ) حكم (حاكم) لأنه فسخ مختلف فيه أشبه الفسخ للعنة والإعسار بالنفقة، ومن اعترف لامرأة أن هذا ابنه منها لزمه لها مهر مثلها لأنه الظاهر قاله في "الترغيب" (¬1). (ويقرر) المهر (المسمى كله موت) أحد الزوجين (وقتل) أحدهما الآخر أو قتل أحدهما نفسه لبلوغ النكاح لنهايته فقام ذلك مقام الاستيفاء في تقرير المهر ولأنه أوجب العدة فأوجب كمال المهر كالدخول، (ووطء) زوجة حية (في فرج ولو دبرا) أو بلا خلوة لأنه استوفى المقصود فاستقر عليه عوضه، فإن وطئها ميتة فقد تقرر ¬
بالموت، (و) يقرر المهر المسمى كله (خلوة) زوج بها وإن لم يطأها روي من الخلفاء الراشدين، وزيد (¬1) وابن عمر (¬2)، وروى أحمد والأثرم عن زرارة بن أوفى (¬3) قال: "قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق بابا أو أرخى سترا فقد أوجب المهر ووجبت العدة" (¬4) ورواه أيضا عن الأحنف (¬5) عن عمر ¬
وعلي (¬1)، وهذه قضايا اشتهرت ولم يخالفهم أحد في عصرهم فكان كالإجماع، وأما قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (¬2) فيحتمل أنه كنى بالسبب عن المسبب الذي هو الخلوة بدليل ما سبق (عن مميز) وبالغ مطلقا، مسلما كان أو كافرا ذكرا أو أنثى أعمى أو بصيرا عاقلا أو مجنونا إن كان الزوج (ممن يطأ مثله) كابن عشر فأكثر (مع علمه) بالزوجة (إن لم تمنعه) من وطئها وكانت ممن يوطأ مثلها كبنت تسع فأكثر، فإن كان أحدهما دون ذلك أو منعته لم يتقرر المهر لعدم التمكين التام، ولا تقبل دعواه عدم علمه بها لنحو نوم أو عمى نصا (¬3) لأن العادة عدم خفاء ذلك، أو كان بهما أو بأحدهما مانع حسي كجب ورتق أو مانع شرعي كحيض وإحرام وصوم واجب فإذا خلا بها ولو في حال من هذه تقرر الصداق بالشروط السابقة، لأن الخلوة نفسها مقررة للمهر لعموم ما سبق. (و) يقرر المهر كاملا (طلاق في مرض موت أحدهما) المخوف قبل دخول لأنه يجب عليها عدة الوفاة إذا كان هو الميت ومعاملة له بضد قصده كالفار بالطلاق من الإرث ما لم تتزوج قبل موته أو ترتد عن الإسلام لأنها لا ترثه إذن، (و) يقرره (لمس) الزوج الزوجة (أو نظر) هـ (إلى فرجها بشهوة فيهما) -أي في اللمس والنظر إلى فرجها- ولو ¬
فصل
بلا خلوة فيهما نصا (¬1) لقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية (¬2)، وحقيقة المس: التقاء البشرتين (¬3) , (و) يقرره كاملا (تقبيلها) لأنه نوع استمتاع أشبه الوطء، لا إن تحملت بمائه بلا خلوة لأنه لا استمتاع منه بها. ولا يثبت بخلوة أحكام الوطء من إحصان وحلها لمطلقها ثلاثا لحديث "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" (¬4) ونحو ذلك (¬5). فصل وإن اختلف الزوجان أو ورثتهما أو أحدهما وورثة الآخر أو اختلف زوج وولي نحو صغيرة أو ولي نحو زوج صغير مع زوجة رشيدة أو مع ولي غيرها أو وارثها في قدر صداق بأن قال: تزوجتك على خمسين فقالت: بل على ثمانين، أو في عينه بأن قال: على هذا العبد، فتقول: بل على هذه الأمة، أو في صفته بأن قال: على عبد زنجي، فقالت: بل حبشي، أو في جنسه بأن قال: على فضة، فتقول: بل على ذهب، أو في ما يستقر به الصداق بأن ادعت وطئها أو خلوة فأنكر، فقول زوج ¬
أو وارثه أو وليه بيمينه لأنه منكر والقول قوله بيمينه (¬1) لحديث: "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" (¬2) ولأن الأصل براءته مما يدعى عليه. وإذا اختلفا أو ورثتهما أو وليهما أو أحدهما وولي الآخر أو وارثه في قبض صداق فقولها أو من يقوم مقامها لأن الأصل عدم القبض، أو في تسمية مهر مثل بأن ¬
قال: لم اسم لك مهرا، وقالت: بل سميت لي قدر مهر المثل فقولها أو وليها أو ورثتها بيمين لأنه الظاهر، وإن أنكر أن يكون لها عليه صداق فقولها قبل دخول وبعده فيما يوافق مهر مثلها سواء قال: لا تستحق علي شيئا أو وفيتها أو أبرأتني أو غير ذلك، وإن دفع إليها ألفا أو عرضا وقال: دفعته صداقا، وقالت: بل هبة فقوله بيمينه، ولها رد ما ليس من جنس صداقها وطلبه بصداقها، وإن تزوجها على صداقين سر وعلانية أخذ بالزائد مطلقا سواء كان الزائد صداق السر أو العلانية. وتلحق بالمهر زيادة بعد عقد ما دامت في حباله فيما يقرر المهر كاملا كموت ودخول وخلوة وفيما ينصفه كطلاق وخلع لقوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} (¬1) ولأن ما بعد العقد زمن لفرض المهر فكان حالة للزيادة كحالة العقد بخلاف البيع والإجارة فيثبت للزيادة حكم المسمى ولا يفتقر إلى شروط الهبة، وتملك الزيادة به من حينها لا من حين العقد لأن الملك لا يجوز تقدمه على سببه ولا وجوده في حال عدمه، فما زاده زوج بعد عتق زوجة لها دون سيدها، وكذا لو بيعت (¬2) أمة زيد في صداقها بعد بيع فالزيادة لمشتر دون بائع. وهدية زوج ليست من المهر نصا (¬3)، فما أهداه قبل عقد إن وعدوه ولم يفوا رجع بها قاله الشيخ تقي الدين (¬4)، فإن كان الإعراض منه أو ماتت فلا رجوع له. ¬
وما قبض بسبب نكاح فكمهر فيما يقرره وينصفه ويسقطه، وما كتب فيه المهر لها ولو طلقت عملا بالعادة، وترد هدية في كل فرقة اختيارية مسقطة للمهر كفسخ لعيب ونحوه، وفي فرقة قهرية كفسخ لفقد كفاءة ونحوه قبل الدخول لدلالة الحال على أنه وهب بشرط بقاء العقد فإذا زال ملك الرجوع كالهبة بشرط الثواب، وتثبت الهدية مع أمر مقرر للمهر كوطء وخلوة أو مقرر لنصفه كطلاق ونحوه لأنه المفوت على نفسه، ومن أخذ شيئا بسبب عقد كدلال ونحوه فإن فسخ بيع بإقالة ونحوها مما يقف على تراض كشرط الخيار لهما ثم يفسخا البيع لم يرده، وإلا رده وقياسه نكاح فسخ لفقد كفاءة أو عيب فيرده آخذه لا إن فسخ لردة ورضاع ومخالعة فلا يرده.
فصل
فصل (وينصفه) -أي المهر المسمى- (كل فرقة) جاءت (من قبله) -أي الزوج- (قبل دخول) كطلاقه وخلعه ولو بسؤالها، وكإسلامه إن لم تكن كتابية، وردته أو جاءت من قبل أجنبي كرضاع بأن أرضعت أخته زوجته مثلا لقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية (¬1) ثبتت في الطلاق والباقي قياسا عليه لأنه في معناه، ويتنصف الصداق أيضا بشراء زوج لزوجته وبشرائها لزوجها الرقيق، (و) كل فرقة جاءت (من قبلها) -أي الزوجة- (قبله) (¬2) [أي] (¬3) الدخول كإسلامها تحت كافر وردتها وإرضاعها من ينفسخ برضاعه نكاحها كما لو أرضعت زوجة له صغرى وارتضاعها وهي صغيرة من أمه أو أخته ونحوهما وفسخها لعيبه وفسخها لإعساره بمهر أو نفقة أو غيرهما أو بعتقها تحت عبد وفسخه لعيبها وفسخه لفقد صفة شرطها فيها فكل هذه (تسقطه)، وكذا فسخها بشرط صحيح شرط عليه حالة العقد كأن تزوجها بشرط أن لا يتزوج عليها ونحوه فلم يف به فلا مهر لها ولا متعة لما تقدم، وفرقة اللعان سقطت كل المهر لأن الفسخ من قبلها لأنه إنما يحصل عند تمام لعانها، وكذا لو جعل لها الخيار بسؤالها فاختارت نفسها قبل الدخول فلا مهر لها نصا (¬4) لأن الفرقة تمت بفعلها، وإن كان جعل (¬5) الخيار إليها بغير سؤالها لم يسقط الصداق باختيارها نفسها ¬
تتمة: -
قبل الدخول بل يتنصف لأنها نائبة عنه ففعلها كفعله (¬1) تتمة: - قال الشيخ تقي الدين: "لو طلقها على صفة من فعلها الذي لها منه بد كدخولها دار أجنبي وفعلته قبل الدخول فلا مهر لها". (¬2) وقواه ابن رجب (¬3). تنبيه: - الذي بيده عقدة النكاح في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (¬4) الزوج لا ولي الصغيرة (¬5) روي ذلك ¬
عن علي (¬1) وابن عباس (¬2) وجبير بن مطعم (¬3) لحديث الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "ولي العقد الزوج" (¬4)؛ ولأن الذي بيده عقدة النكاح بعد العقد هو الزوج لتمكنه من قطعه وإمساكة وليس إلى الولي منه شيء ولقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (¬5) والعفو الذي هو أقرب للتقوى هو عفو الزوج عن حقه وأما عفو الولي عن مال المرأة فليس هو أقرب للتقوى، ولأن المهر مال للزوجة فليس للولي هبته ولا إسقاطه كغيره من أموالها وحقوقها، ولا يمنعه العدول عن خطاب الغائب كقوله ¬
تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} (¬1) فإذا طلق زوج قبل دخول فأيهما عفا لصاحبه عما وجب له بالطلاق من نصف مهر عينا كان أو دينا وهو جائز التصرف برئ منه صاحبه للآية السابقة ولقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬2) ومتى أسقطت المهر عن الزوج ثم طلقت قبل دخول أو ارتدت رجع عليها في الأولى ببدل نصف الصداق وفي الثانية ببدل جميعه لأن عود نصف الصداق أو كله إلى الزوج بالطلاق أو الردة وهما غير الجهة المستحق بها الصداق أولا فأشبه ما لو أبرأ إنسانا من دين ثم ثبت له عليه مثله من وجه آخر، ولو وهبته نصف المهر ثم تنصف بطلاق ونحوه [فله] (¬3) كله لوجوبه له بالطلاق كما لو وهبته غيره، ولو تبرع شخص بأداء مهر عن زوج ثم تنصف بنحو طلاق أو سقط بنحو ردة قبل دخول فالراجع من نصف الصداق أو كله للزوج، ومثله أداء ثمن عن مشتر تبرعا ثم يفسخ البيع لعيب أو تقايل ونحوه فالراجع من ثمن لمشتر لما تقدم. ¬
(فصل) في الوليمة
(فصل) في الوليمة وما يتعلق بها، وهى اسم لطعام العرس خاصة لاجتماع الرجل والمرأة كما قال الأزهري: " [سمي] (¬1) طعام العرس وليمة لاجتماع الرجل والمرأة". انتهى (¬2)، قال ابن الأعرابي (¬3): "يقال أولم الرجل إذا اجتمع عقله وخلقه" (¬4). وأصل الوليمة: تمام الشيء واجتماعه، ويقال للقيد: ولم؛ لأنه يجمع إحدى الرجلين إلى الأخرى (¬5) وحذاق: اسم لطعام عند حذاق صبي ويوم حذاقه يوم ختمه القرآن قاله في "القاموس" (¬6)، وعذيرة وإعذار: اسم لطعام ختان (¬7)، وخرسة وخرس -بضم المعجمة وسكون الراء-: اسم لطعام ولادة (¬8) ووكيرة: اسم لدعوة بناء (¬9) قال ¬
النووي (¬1): "أي مسكن متجدد" انتهى (¬2)، من الوكر وهو المأوى، ونقيعة: اسم لطعام لقدوم غائب (¬3) وعقيقة: اسم لذبح لمولود (¬4)، ومأدبة -بضم الدال-: اسم لكل دعوة لسبب وغيره (¬5) ووضيمة: اسم لطعام مأتم -بالمثناة فوق- وأصله اجتماع الرجال والنساء (¬6) وتحفة: اسم لطعام قادم (¬7)، فالتحفة من القادم والنقيعة له، وشندخية: اسم لطعام إملاك على زوجة، ومشداخ اسم لطعام مأكول في ختمة القارئ (¬8) ولم يخصوا الدعوة لإخاء وتسر باسم بل المأدبة تشملهما، وقيل تطلق الوليمة على كل طعام لسرور حادث لكن استعمالها في طعام العرس ¬
أكثر، وتسمى الدعوة العامة: الجفلى (¬1) -بفتح الفاء- والقصر، والخاصة: النقرى (¬2) -بالتحريك- قال الشاعر: نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآدب فينا ينتقر (¬3) أي يخص قوما دون آخرين، والآدب بالمد صاحب المأدبة. (وتسن الوليمة) بتأكد (للعرس) لأنه عليه السلام فعلها وأمر بها فقال لعبد الرحمن بن عوف حين قال تزوجت: "أولم ولو بشاة" (¬4) وقال أنس: "ما أولم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على امرأة من نسائه ما أولم على زينب جعل يبعثني فأدعو له الناس فأطعمهم لحما وخبزا حتى شبعوا" متفق عليه (¬5)، قال ابن الجوزي: "تستحب بعقد" (¬6)، وقدمه ¬
في "تجريد العناية" (¬1)، وقال الشيخ تقي الدين: "تستحب بالدخول" (¬2)، وفي "الإنصاف" (¬3) قلت: "الأولى أن يقال وقت الاستحباب موسع من عقد النكاح إلى انتهاء أيام العرس لصحة الأخبار في هذا، وهذا وكمال السرور بعد الدخول لكن قد جرت العادة بفعل ذلك قبل الدخول بيسير" انتهى، (ولو بشاة فأقل) قال جمع: ويستحب أن لا تنقص عن شاة لحديث عبد الرحمن بن عوف، وكانت وليمته -صلى اللَّه عليه وسلم- على صفية حيسا كما في خبر أنس المتفق عليه (¬4)، والحيس: تمر يخلط بسمن وأقط (¬5) قال الراجز: التمر والسمن معا ثم الأقط ... الحيس إلا أنه لم يختلط (¬6) وإن نكح أكثر من واحدة في عقد أو عقود أجزأته وليمة واحدة إن نواها للكل. (وتجب الإجابة) على من عينه (إليها) -أي إلى وليمة العرس- أول مرة بأن يدعوه ¬
في اليوم الأول لحديث أبي هريرة مرفوعا: "شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لا يجب فقد عصى اللَّه ورسوله" رواه مسلم (¬1)، فإن كان المدعو مريضا أو ممرضا أو مشغولا بحفظ مال أو في شدة حر أو برد أو مطر يبل الثياب أو وحل أو كان أجيرا لم يأذنه مستأجره لم تلزمه الإجابة ولو كان الداعي له عبدا بإذن سيده أو مكاتبا لم تضر بكسبه (بشرطه) بأن يكون الداعي مسلما يحرم هجره ومكسبه طيب. وتسن الإجابة لمن عينه داع للوليمة في ثاني مرة كأن دعي في اليوم الثاني، (وتسن) الإجابة (لكل دعوة مباحة) لحديث البراء (¬2) مرفوعا: "أمر بإجابة الداعي" متفق عليه (¬3)، وأدنى أحوال الأمر الاستحباب ولما فيها من جبر قلب الداعي وتطييب خاطره، ودعي أحمد إلى ختان فأجاب وأكل (¬4)، غير مأتم فتكره إجابة ¬
دعائه، (وتكره) الإجابة (لمن في ماله) شيء (حرام كـ) كراهة (أكل منه ومعاملته وقبول هديته و) قبول (هبته) كقبول صدقته قل الحرام أو كثر، وتقوى الكراهة وتضعف بحسب كثرة الحرام وقلته فإن لم يعينه بالدعوة بل دعى الجفلى كقوله: أيها الناس تعالوا إلى الطعام، وكقول رسول رب الوليمة: أمرت أن أدعو كل من لقيت كرهت إجابته، أو دعاه في المرة الثالثة بأن دعاه في اليوم الثالث لحديث: "الوليمة أول يوم حق والثاني معروف والثالث رياء وسمعة" رواه أبو داود وغيره (¬1)، أو دعاه ذمي كرهت إجابته لأن المطلوب إذلاله، ولأن اختلاط طعامه بالحرام والنجس غير مأمون، وكذا من لا يحرم هجره كمبتدع ومتجاهر بمعصيته. (ويسن) لمن حضر طعاما دعي إليه (الأكل) منه ولو كان صائما تطوعا لما روي أنه عليه السلام كان في دعوة وكان معه جماعة فاعتزل رجل من القوم ناحية فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دعاكم أخوكم وتكلف لكم، كل يوما ثم صم يوما مكانه إن شئت" (¬2)؛ ولما فيه من إدخال السرور على أخيه المسلم، ولا يأكل إن كان صومه واجبا لأنه يحرم ¬
قطعه لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (¬1)، ولأبي هريرة مرفوعا: "إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائما فليدع وإن كان مفطرا فليطعم" رواه أبو داود، وفي رواية: "فليصل" (¬2) يعني يدعو، وروى أبو حفص بإسناده عن عثمان بن عفان أنه أجاب عبد المغيرة وهو صائم فقال: "إني صائم ولكن أحببت أن أجيب الداعي فأدعو بالبركة" (¬3) ويسن الإخبار بصومه لذلك (¬4)، ولفعل ابن عمر (¬5)؛ ليعلم عذره، وإن أحب دعى وانصرف لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا دعي أحدكم فليجب فإن شاء أكل وإن شاء ¬
ترك" (¬1) قال في "الشرح" (¬2): "حديث صحيح". فإن دعاه أكثر من واحد في وقت واحد أجاب الأسبق قولا، فإن لم يكن سبق فالأدين لأنه الأكرم عند اللَّه، فالأقرب رحما فالأقرب جوارا، لحديث أبي داود مرفوعا: "إذا اجتمع داعيان أجب أقربهما بابا فإن أقربهما بابا أقربهما جوارا" (¬3)؛ ولأنه من باب البر فقدم من هذه المعاني، ثم إن استووا في ذلك أقرع فيقدم من خرجت له القرعة، وإن علم أن في الدعوة منكرا كخمر وزمر وآلة لهو، وأمكنه الإنكار حضر وأنكر لأدائه بذلك فرضين إجابة أخيه المسلم وإزالة المنكر، وإلا يمكنه الإنكار لم يجب ويحرم عليه الحضور لحديث ابن عمر: "سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يقعد عند مائدة يدار عليها الخمر" رواه أحمد وغيره (¬4) ولأنه يكون قاصدا لرؤية المنكر أو سماعه بلا ¬
حاجة، ولو حضر بلا علم بالمنكر فشاهده أزاله وجوبا للخبر وجلس، فإن لم يقدر على إزالته انصرف لئلا يكون قاصدا لرؤيته أو سماعه، وروى نافع قال: "كنت أسير مع عبد اللَّه بن عمر فسمع زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه ثم عدل عن الطريق فلم يزل يقول: يا نافع! أتسمع، حتى قلت: لا، فأخرج أصبعيه من أذنيه، ثم رجع إلى الطريق، ثم قال: هكذا رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صنع" رواه أبو داود (¬1) ¬
والخلال (¬1)، وخرج أحمد من وليمة فيها آنية فضة فقال الداعي: نحولها فأبى أن يرجع نقله حنبل (¬2)، وإن علم بالمنكر ولم يره ولم يسمعه أبيح له الجلوس والأكل نصا (¬3) لأنه لا يلزمه الإنكار إذن، وله الانصراف فيخير، وإن شاهد ستورا معلقة فيها صور حيوان كره جلوسه ما دامت معلقة، قال في "الإنصاف" (¬4): "المذهب لا يحرم". انتهى؛ لأنه عليه السلام دخل الكعبة فرأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام فقال: "قاتلهم اللَّه لقد علموا أنهما ما استقسما بها"، رواه أبو داود (¬5)، ولا يكره جلوسه إن كانت الصور مبسوطة على الأرض أو كانت على ¬
وسادة، لحديث عائشة قالت: "قدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من سفر وقد سترت له سهوة بنمط فيه تصاوير فلما رآه قال: أتسترين الجدر بستر فيه تصاوير! فهتكه قالت: فجعلت منه منبذتين كأني أنظر إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- متكئا على إحديهما" رواه ابن عبد البر (¬1) والسهوة الصفة أو المخدع بين بيتين أو شبه الرف والطاق يوضع فيه الشيء أو بيت صغير شبه الخزانة الصغيرة، أو أربعة أعواد أو ثلاثة يعرض بعضها على بعض ثم يوضع عليه شيء من الأمتعة قاله في "القاموس" (¬2)، والمنبذتان: تثنية منبذة كمكنسة وهي الوسادة (¬3) ولأنها إذا كانت مبسوطة تداس وتمتهن فلم تكن معزوزة معظمة فلا تشبه الأصنام التي تعبد، ومتى قطع من الصورة الرأس أو ما لا يبقى بعد ذهابه حياة فلا كراهة، وكذا لو صورت ابتداء بلا رأس. وكره ستر حيطان بستور لا صور فيها أو فيها صور غير حيوان كشجر بلا ضرورة من حر أو برد، وهو عذر في ترك الإجابة، لفعل أبي أيوب (¬4) -رضي اللَّه عنه-، ويحرم ¬
سترها بحرير وتعليقه وجلوس مع ستر الحيطان بالحرير لما فيه من الإقرار على المنكر. (وإباحته) -أي الأكل- من الوليمة (تتوقف على صريح إذن) من رب الطعام (أو قرينة) تدل على إذن (مطلقا) كتقديم طعام ودعاء إليه ولو كان أكله من بيت قريبه أو صديقه لحديث ابن عمر مرفوعا: "من دخل على غير دعوة دخل سارقا وخرج مغيرا" رواه أبو داود (¬1)؛ ولأنه مال غيره فلا يباح أكله بغير إذنه، قال في "الفروع" (¬2): "وظاهر كلام ابن الجوزي وغيره يجوز واختاره شيخنا وهو أظهر". والدعاء إلى الوليمة أو تقديم الطعام إذن في الأكل، لحديث أبي هريرة: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فذلك إذن"، رواه أحمد وأبو داود (¬3)، وقال ابن مسعود: "إذا دعيت فقد أذن لك" رواه أحمد (¬4)، ولا يملك الطعام من قدم إليه بل يملكه بالأكل على ملك صاحبه لأنه إنما أباحه الأكل فلا يملك التصرف فيه بغير ¬
إذنه، قال في "الفروع" (¬1): "ويحرم أخذ طعام، فإن علم بقرينة رضى مالكه ففي الترغيب يكره ويتوجه يباح وأنه يكره مع ظنه رضاه". (والصائم فرضا يدعو) لصاحب الوليمة إذا حضرها كما تقدم ولا يأكل، (و) الصائم (نفلا يسن أكله) منها (مع جبر خاطر) أخيه المسلم بذلك كما تقدم (¬2). وتسن التسمية جهرا على أكل وشرب لحديث عائشة مرفوعا: "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم اللَّه فإن نسي أن يذكر اسم اللَّه في أوله فليقل بسم اللَّه أوله وآخره" (¬3) وقيس عليه الشرب. ويسن حمد اللَّه إذا فرغ من أكله أو شربه لحديث: "إن اللَّه ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة ويشرب الشربة فيحمده عليها" رواه مسلم (¬4)، وعن معاذ بن أنس الجهني (¬5) ¬
مرفوعا: "من أكل طعاما فقال الحمد للَّه الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه ابن ماجة (¬1)، ويسن أكله مما يليه لحديث عمر بن أبي سلمة قال: "كنت يتيما في حجر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا غلام سم اللَّه وكل بيمينك وكل مما يليك" متفق عليه (¬2)، ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله" (¬3)، ويكره أكله مما يلي غيره إن لم يكن أنواعا أو فاكهة. ويسن أكله بثلاث أصابع ولا يمسح يديه حتى يلعقها لم روى الخلال عن كعب بن مالك (¬4) قال: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يأكل بثلاث أصابع ولا يمسح يديه حتى ¬
يلعقها" (¬1)، ولم يصحح أحمد أكله -صلى اللَّه عليه وسلم- بكفه كلها (¬2). ويسن تخليل ما علق بأسنانه من طعام قال في "المستوعب" (¬3): "روي عن ابن عمر: "ترك الخلال يوهن الأسنان". (¬4) وذكره بعضهم مرفوعا، وروي: "تخللوا ¬
من الطعام فإنه ليس شيء أشد على الملك الذي على العبد أن يجد من أحدكم ريح الطعام" (¬1)، ويلقي ما أخرجه الخلال ولا يبتلعه للخبر (¬2). ويسن مسح الصحفة وأكل ما تناثر من الطعام، ويسن غض بصره عن جليسه لئلا يستحي، ويسن إيثاره على نفسه لقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية (¬3) قال أحمد: "يأكل بالسرور مع الإخوان، وبالإيثار مع الفقراء، وبالمروءة مع أبناء الدنيا" (¬4)، زاد في "الرعاية الكبرى": والآداب، ومع العلماء بالتعلم (¬5). وسن شربه ثلاثا مصا لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مصوا الماء مصا ولا تعبوه عبا فإن الكباد من العب" (¬6) والكباد -بضم الكاف وبالباء الموحدة- قيل وجع الكبد، وعكسه اللبن ¬
فيعبه عبا لأنه طعام، ويسن غسل يديه إذا أراد الأكل قبل طعام -وإن كان على وضوء- متقدما به رب الطعام إن كان وغسل يديه بعده متأخرا به ربه عن الضيف إن كان لحديث: "من أحب أن يكثر خير بيته فليتوضأ إذا حضر غداؤه وإذا رفع" رواه ابن ماجة (¬1)، ولأبي بكر (¬2) عن الحسن مرفوعا: "الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم" (¬3) يعني بالوضوء: غسل اليدين، ويكره الغسل بطعام، ولا بأس بنخالة وغسله في الإناء الذي أكل فيه نصا (¬4)، وكره تنفسه في الإناء، ورد شيء من فيه إليه لأنه يقذره، ولا يمسح يده بالخبز ولا يستبذله، وكره نفخ الطعام ليبرده وكذا الشراب، وفي "المستوعب" (¬5): "النفخ في الطعام والشراب والكتاب منهي عنه". وكره أكل الطعام حارا، وفي "الإنصاف" (¬6): "قلت عند عدم الحاجة". انتهى؛ لأنه لا بركة فيه، وكره أكله من أعلى الصحفة أو وسطها لحديث ابن عباس مرفوعا: ، "إذا أكل أحدكم طعاما فلا يأكل من أعلى الصحفة، ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل ¬
من أعلاها" وفي لفظ آخر: "كلوا من جوانبها ودعوا ذروتها يبارك فيها" رواهما ابن ماجة (¬1)، وكره لحاضر مائدة فعل ما يستقذره من غيره كتمخط وكذا الكلام بما يضحكهم أو يحزنهم قاله الشيخ عبد القادر (¬2) وكره لرب طعام مدح طعامه وتقويمه لأنه يشبه المن به، وكره عيب الطعام للخبر (¬3)، وكره قرانه في تمر مطلقا، سواء كان ¬
ثم شريك لم يأذن أو لا؛ لما فيه من الشره، وكره أن يفجأ قوما حين وضع طعامهم تعمدا نصا، فإن لم يتعمده أكل نصا (¬1)، وكره أكل بشماله بلا ضرورة لأنه تشبه بالشيطان وذكره النووي في الشرب إجماعا (¬2)، ويكره ترك التسمية، وكره أكله كثيرا بحيث يؤذيه فإن لم يؤذه جاز، وكره الشيخ تقي الدين أكله حتى يتخم وحرمه أيضًا (¬3)، وحرم الإسراف وهو مجاوزة الحد، وكره أكله قليلا بحيث يضره، وكره شربه من فم السقاء واختناث الأسقية نصا (¬4) أي قلبها إلى خارج ليشرب منه فإن كسره إلى داخل فقد قبعه (¬5)، وكره الشرب من ثلمة الإناء، وإذا شرب ناوله الأيمن، وكذا في غسل يده قاله في "الترغيب" (¬6)، وقال ابن أبي ¬
المجد (¬1): "وكذا في رش الماء ورد" (¬2)، قال الشيخ منصور: "قلت وكذا البخور ونحوه" (¬3)، قلت: كقهوة البن. وكره شرب في أثناء طعام بلا عادة لأنه مضر، ولا يكره شربه قائما نصا (¬4)، وعنه بلى، وظاهر كلامهم لا يكره أكله قائما قال في "الفروع" (¬5): "ويتوجه كشرب قاله شيخنا". انتهى، وكره أحمد الخبز الكبار وقال: "ليس فيه بركة" (¬6)، وذكر معمر (¬7) أن أبا أسامة (¬8) قدم لهم طعاما فكسر الخبز، قال ¬
أحمد: "لئلا يعرفوا كم يأكلون" (¬1)، ويجوز قطع اللحم بالسكين والنهي عنه لا يصح. وكره نثار (¬2) والتقاطه في عرس وغيره؛ لما فيه من النهبة والتزاحم وهو يورث الخصام والحقد ولحديث زيد بن خالد (¬3): "أنه سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ينهى عن النهبة والخلسة" رواه أحمد (¬4)، ومن حصل في حجره منه شيء أخذه له مطلقا سواء قصد تملكه بذلك أو لا؛ لقصد مالكه تمليكه لمن حصل في حيزه وقد حازه من حصل في حجره. وتباح المناهدة (¬5) -وهو أن يخرج كل واحد من رفقة شيئا من النفقة- وإن لم يتساووا ويدفعونه إلى من ينفق عليهم منه ويأكلون جميعا، فلو أكل بعضهم أكثر من رفيقه، أو تصدق منه فلا بأس، ولم يزل الناس يفعلونه نصا (¬6)، قال في ¬
"الفروع" (¬1): "وما جرت العادة به كإطعام سائل وسنور وتلقيم وتقديم يحتمل كلامهم وجهين قال: وجوازه أظهر". انتهى، قال الشيخ منصور -رحمه اللَّه تعالى-: "لكن الأدب والأولى الكف عنه لما فيه من إساءة الأدب على صاحبه والإقدام على طعامه ببعض التصرف من غير إذن صريح". انتهى (¬2). (وسن إعلان نكاح، و) سن (ضرب بدف مبدح) وهو ما لا حلق فيه ولا صنوج (¬3)، (فيه) -أي النكاح- لحديث: "أعلنوا النكاح" (¬4) وفي لفظ: "أظهروا النكاح" (¬5)، وكان يحب أن يضرب عليه بالدف (¬6) وفي لفظ: "واضربوا عليه بالغربال" رواه ¬
ابن ماجة (¬1)، وظاهره سواء كان الضارب رجلا أو امرأة وهو ظاهر نصوصه وكلام الأصحاب (¬2)، وقال الموفق: "ضرب الدف مخصوص بالنساء" (¬3)، وقال أحمد: "لا بأس بالغزل في العرس لقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للأنصار: "أتيناكم أتيناكم، فحيونا نحييكم، لولا الذهب الأحمر، لما حلت بواديكم، ولولا الحبة السوداء، لما سرت عذاريكم" (¬4) لا على ما يصنع الناس اليوم" (¬5)، ومن غير هذا الوجه: "لولا الحنطة الحمراء ما سرت عذاريكم" (¬6) وتحرم كل ملهاة سوى الدف كمزمار وطنبور ورباب وجنك، (و) يسن ضرب بدف مباح (في ختان ونحوه) كقدوم غائب وإملاك وولادة قياسا على النكاح. ¬
(فصل) في عشرة النساء
(فصل) في عشرة النساء - بكسر العين- أصلها الاجتماع، ويقال لكل جماعة: عشرة ومعشر (¬1)، وهي هنا، ما يكون بين الزوجين من الألفة والانضمام. (ويلزم كلا من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف، وألا يمطله بما يلزمه) من حقه (ولا يتكره لبذله) أي ما يلزمه من حق الآخر لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2) وقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬3) قال ابن زيد (¬4): "تتقون اللَّه فيهن كما عليهن أن يتقين اللَّه فيكم" (¬5) وقال ابن عباس: "إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬6). ويستحب لكل منهما تحسين الخلق لصاحبه، والرفق به، واحتمال أذاه، وفي الحديث: "استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة اللَّه، ¬
واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه" رواه مسلم (¬1). وحق الزوج أعظم من حقها عليه لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (¬2) وحديث: "لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن، لما جعل اللَّه لهم عليهن من الحق" رواه أبو داود (¬3)، وينبغي إمساكه لها مع كراهتها لقوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (¬4) قال ابن الجوزي وغيره: قال ابن عباس: "ربما رزق منها ولدا فجعل اللَّه فيه ¬
خيرا كثيرا" (¬1). (ويجب بعقد تسليم) زوجة (حرة) -وتأتي الأمة- (يوطأ مثلها)، ونص الإمام أحمد أن التي يجب تسليمها بنت تسع قال: "فإن أتى عليها تسع سنين دفعت إليه ليس لهم أن يحبسوها بعد التسع" (¬2) وذهب في ذلك إلى أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: بنى بعائشة وهي بنت تسع سنين" (¬3) فيلزم تسليمها ولو كانت نضوة الخلقة -أي مهزولة الجسم- ويستمتع بمن يخشى عليها بما دون الفرج، ويقبل قول امرأة ثقة في ضيق فرجها وعبالة (¬4) ذكره ونحوهما كقروح بفرج كسائر عيوب النساء تحت الثياب، وللثقة أن تنظرهما للحاجة وقت اجتماعهما لتشهد بما تشاهده. فيجب تسليم من يوطأ مثلها (في بيت زوج إن طلبها) كما يجب تسليمه الصداق إن طلبته، (ولم تكن شرطت دارها)، فإن شرطتها فلها الفسخ إذا نقلها عنها، للزوم الشرط وتقدم (¬5)، ويلزم الزوج تسلمها إن بذلته فتلزمه النفقة لتسلمها أو لا، ولا يلزم زوجة أو وليها ابتداء تسليم محرمة بحج أو عمرة أو مريضة لا يمكن استمتاع بها وصغيرة وحائض، ولو قال: لا أطأ لأن هذه الأعذار تمنع الاستمتاع بها، ويرجى زوالها أشبه ¬
ما لو طلب تسليمها في نهار رمضان، ولو بذلت نفسها وهي كذلك لزمه تسلم ما عدا الصغيرة، ومتى امتنعت الزوجة من تسليم نفسها قبل مرض ثم حدث المرض فلا نفقة لها ولو بذلت نفسها عقوبة لها، ولو أنكر من ادعت زوجته أن وطءه يؤذيها فعليها البينة؛ لأن الأصل عدم ذلك أشبه سائر الدعاوي. (ومن استمهل) من الزوجين (أمهل اليومين والثلاثة) طلبا لليسر والسهولة، ويرجع في ذلك للعرف لأنه لا تقدير فيه، و (لا) يمهل من طلب المهلة منهما (لعمل جهاز) -بفتح الجيم وكسرها- وفي "الغنية" (¬1): "إن استمهلت هي أو أهلها استحب له إجابتهم ما يعلم به التهيؤ من شراء جهاز وتزين". (¬2) (و) يجب بعقد (تسليم) زوجة (أمة ليلا فقط) نصا (¬3)، وللسيد استخدامها نهارا لأن السيد يملك من أمته منفعتين الاستخدام والاستمتاع فإذا عقد على أحدهما لم يلزمه تسليمها إلا في زمن استيفائها كما لو آجرها للخدمة لم يلزمه تسليمها إلا زمنها وهو النهار، فلو شرط تسليمها نهارا وجب، لحديث: "المؤمنون عند شروطهم" (¬4) أو بذله سيد وجب أيضا، لأن الزوجية تقتضظي وجوب التسليم مع البذل ليلا ونهارا، وإنما منع منه في الأمة نهارا لحق السيد فإذا بذله فقد ترك حقه فعاد إلى الأصل. ¬
(ولزوج استمتاع بزوجة) من أي جهة شاء ولو من جهة العجيزة (¬1) في قبل لاختصاص التحريم بالدبر دون ما سواه (كل وقت) فلا يكره الوطء في يوم من الأيام ولا ليلة من الليالي، وكذا الخياطة وسائر الصناعات (ما لم يضرها) استمتاعه بها، (أو يشغلها عن فرض) ولو على تنور أو ظهر قتب (¬2) ونحوه كما رواه أحمد وغيره (¬3)، وظاهره أنه لا ¬
يقدر بشيء سوى ذلك، ولو زادا عليها وتنازعا (¬1)، ولزوج السفر بلا إذنها حيث شاء ولو عبدا مع سيده وبدونه بخلاف سفرها بلا إذنه لأنه لا ولاية لها عليه، (و) له (السفر بحرة ما لم تكن شرطت بلدها) لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه كانوا يسافرون بنسائهم، فإن شرطت بلدها فلها شرطها لحديث: "إن أحق الشروط أن يوفى بها ما استحللتم به الفروج" (¬2)، فإن كانت أمة فليس له السفر بها بلا إذن سيدها لما فيه من تفويت منفعتها نهارا على سيدها، ولا لسيد سفر بها بلا إذن الزوج لما فيه من تفويت استمتاع زوجها بها ليلا، ويحرم وطء في حيض إجماعا (¬3)؛ لقوله تعالى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} الآية (¬4) ونفاس مثله وتقدم حكم استحاضة. ويحرم وطء في دبر لحديث: "إن اللَّه لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن" وحديث: "لا ينظر اللَّه إلى رجل جامع امرأته في دبرها" رواهما ابن ماجة (¬5)، وأما ¬
قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬1) فعن جابر قال: "كان اليهود يقولون: إذا جامع الرجل امرأته في فرجها من ورائها جاء الولد أحول فأنزل اللَّه تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} من بين يديها ومن خلفها غير أن لا يأتيها إلا في المأتى" متفق عليه (¬2)، ويعزر عليه عالم بتحريمه، وإن تطاوعا على الوطء في الدبر فرق بينهما، وإن أكرهها عليه نهي عنه فإن أبي فرق بينهما. ¬
ويحرم عزل عن زوجة حرة بلا إذنها وأمة بلا إذن سيدها نصًّا (¬1)؛ لحديث ابن عمر: "نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يعزل عن الحرة إلا بإذنها" رواه أحمد وابن ماجة (¬2)، ولأن لها حقا في الولد وعليها ضرر في العزل، وقيس عليه سيد الأمة إلا بدار حرب فيسن عزله مطلقا حرة كانت الزوجة أو أمة أو سرية له خشية استرقاق العدو ولدها وهذا إن جاز ابتداء النكاح وإلا وجب العزل كما تقدم. وللزوجة تقبيل الزوج ولمسه بشهوة ولو كان نائمًا لا استدخال ذكره بلا إذنه نائما كان أولا. (وَلَهُ) -أي الزوج- (إِجْبَارُهَا) -أي الزوجة- (على غُسْلِ حَيْضٍ) ونفاس (وجَنَابةٍ ونَجَاسَةٍ) إن كانت مكلفة قال الشيخ منصور: "وظاهره ولو ذمية خلافًا للإقناع" (¬3)، واجتناب المحرمات وكذا إزالة وسخ ودرن، ويستوي في ذلك المسلمة والذمية لاستوائهما في حصول النفرة ممن ذلك حالها، (و) له إجبارها بـ (أخذ مَا تَعَافُهُ النَّفسُ مِنْ شَعْر) عانة (وغيرِهِ) كظفر، وفي منعها من أكل ما له رائحة كريهة كثوم وبصل وجهان: - أحدهما: له المنع لأنه يمنع القبلة وكمال الاستمتاع بها. ¬
والثاني: ليس له ذلك لأنه لا يمنع الوطء، وجزم بالأول في "المُنَوِّر" (¬1) وصحَّحه في "النَّظْمِ" (¬2) و"تصحيح المحرر" (¬3) وقدمه ابن رزين (¬4) في شرحه وهو معنى ما في "الإقناع" (¬5)، ولا يملك إجبارها بعجن أو خبز أو طبخ ونحوها ككنس دار وملء ماء من بئر وطحن، وأوجب الشيخ تقي الدين المعروف من مثلها لمثله (¬6)، وله منع زوجة ذمية ¬
دخول بيعة وكنيسة وشرب ما يسكرها من خمر أو نبيذ لاتفاق الأديان على تحريمه لا ما دونه لاعتقادها حله، ولا تكره ذمية على إفساد صومها أو صلاتها بوطء أو غيره لأنه يضر بها، ولا على إفساد سَبْتِهَا لبقاء تحريمه عليهم. (وَيَلْزَمُهُ) -أي الزوج- (الوَطءُ) لزوجة مسلمة كانت أو ذمية حرة أو أمة بطلبها (في كُلِّ أربعةِ أَشهرٍ مرةً إِنْ قَدِرَ) على الوطء نصًّا (¬1)؛ لأنه تعالى قدره بأربعة أشهر في حق المولي فكذا في حق غيره؛ لأن اليمين لا توجب ما حلف عليه فدل أن الوطء واجب بدونها. (و) يلزمه (مَبِيْتٍ) في المضجع (بطلبٍ عِنْدَ) زوجة (حُرَّةٍ ليلةً مِنْ كلّ أربع) ليال إن لم يكن له عذر، لقوله عليه السلام لعبد اللَّه بن عمرو بن العاص: "يا عبد اللَّه ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول اللَّه. قال: فلا تفعل، صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا" متفق عليه (¬2)، فأخبر أن للمرأة على زوجها حقًا، وروى الشعبي: "أن كعب بن سُوْرٍ (¬3) كان جالسا عند ¬
عمر بن الخطاب فجاءت امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلا قط أفضل من زوجي واللَّه إنه ليبيت ليله قائما ويظل نهاره صائمًا. فاستغفر لها وأثنى عليها، وأستحيت المرأة وقامت راجعة، فقال كعب: يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها. فقال لكعب: اقض بينهما فإنك فهمت من أمرها ما لم أفهم. قال: فإنى أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن فأقضي بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن ولها يوم وليلة. فقال عمر: ما رأيك الأول بأعجب إلي من الآخر اذهب فأنت قاض على البصرة" (¬1) وهذه قضية اشتهرت ولم تنكر فكانت إجماعًا، ولأنه لو لم يكن حقا للمرأة لملك الزوج تخصيص إحدى زوجاته به كالزيادة في النفقة. (و) يلزمه بطلب زوجة (أَمَةٍ) أن يبيت عندها ليلة (مِنْ كلِّ سبعٍ) لأن أكثر ما يمكن جمعها مع ثلاث حرائر فلها السابعة، وله أن ينفرد بنفسه في البقية إذا لم تستغرق زوجاته جميع الليالي، فمن معه حرة فقط فله الانفراد في ثلاث ليال، وحرتان له الانفراد ليلتين، وثلاث حرائر له الانفراد في ليلة، ومن تحته أمة له الانفراد في ست ليال، وحرة وأمة له الانفراد في أربع وهكذا، لأنه قد وفى ما عليه من المبيت لكن قال أحمد: "لا يبيت وحده ما أحب ذلك إلا أن يضطر". (¬2) (وَإِنْ سَافَرَ) الزوج (فَوْقَ نِصفِ سنةٍ) في غير حج أو غزو واجبين أو في غير طلب رزق يحتاج إليه (وطَلَبَتْ) زوجته (قُدُومَهُ) لزمه القدوم، فإن أبي القدوم ¬
(راسله حاكم) أن يقدم، (فإن أبي) القدوم (بلا عذر) بعد مراسلة الحاكم (فرق) الحاكم (بينهما بطلب (¬1) الزوجة) ذلك ولو قبل الدخول نصا (¬2)، قال في رواية ابن منصور (¬3) في رجل تزوج امرأة ولم يدخل بها يقول غدا أدخل بها غدا أدخل بها إلى شهر هل يجبر على الدخول؟ قال: "أذهب إلى أربعة أشهر إن دخل بها وإلا فرق بينهما" (¬4)، فجعله كالمولي، ولا يصح الفسخ هنا إلا بحكم حاكم لأنه مختلف فيه. (وإن) غاب الزوج غيبة ظاهرها السلامة كتاجر وأسير عند من ليست عادته القتل (ولم يعلم خبره) أي حياته ولا موته وتضررت زوجته بترك النكاح مع وجود النفقة عليها (فلا فسخ لذلك بحال) لأنه يمكن أن يكون له عذر. وسن عند وطء قول: بسم اللَّه اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، لقوله تعالى: {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} (¬5) قال عطاء: "هي التسمية عند الجماع" (¬6)، ولحديث ¬
ابن عباس مرفوعًا: "لو أن أحدكم حين يأتي أهله قال: بسم اللَّه اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فولد بينهما ولدا لم يضره الشيطان أبدا" متفق عليه (¬1)، وكره الوطء متجردين لحديث: "إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجرد تجرد العَيْرينِ "رواه ابن ماجة (¬2)، والعَيْرُ -بفتح العين- الحمار أهليًا كان أو وحشيًا (¬3)، وكُره إكثار كلام حالة الوطء، لحديث: "لا تكثروا الكلام عند مجامعة النساء فإنه يكون منه الخرس والفأفاة" (¬4)، وكره نزعه قبل فراغها لحديث أنس مرفوعًا: "إذا جامع الرجل أهله فليقصدها ثم إذا قضى حاجته فلا يعجلها حتى تقضي ¬
حاجتها" (¬1)؛ ولأن فيه ضررًا عليها ومنعًا لها من شهوتها. ويستحب ملاعبة المرأة عند الجماع لتنهض شهوتها فتنال من لذة الجماع كما يناله، وكره وطؤه بحيث يراه أو يسمعه غير طفل لا يعقل، قال أحمد: "كانوا يكرهون الوَجْسَ" (¬2) وهو: الصوت الخفي (¬3)، وكره لكل من الزوجين أن يتحدث بما جرى بينهما لحديث الحسن: "جلس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين الرجال والنساء، فأقبل على الرجال فقال: لعل أحدكم يحدث بما يصنع بأهله إذا خلا، ثم أقبل على النساء فقال: لعل إحداكن تحدث النساء بما يصنع بها زوجها، قال: فقالت امرأة: إنهم ليفعلون وإنا لنفعل، فقال: لا تفعلوا، فإنما مثل ذلكم كمثل شيطان لقي شيطانة فجامعها والناس ينظرون" (¬4)، وله الجمع بين وطء نسائه بغسل واحد لحديث أنس ¬
قال: "سكبت لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من نسائه غسلًا واحدًا في ليلة واحدة" (¬1)؛ ولأن حدث الجنابة لا يمنع الوطء بدليل إتمام الجماع، وكذا له أن يجمع بين وطء نسائه مع وطء إمائه بغسك واحد لما مر. (وَحَرُمَ جمعُ زَوْجَتَيْهِ) أو زوجاته أو زوجاته وإمائه (بِمَسْكَنٍ واحدٍ ما لم يَرْضَيَا) أو يرضين الزوجات كلهن لأنه ضرر عليهن لما بينهن من الغيرة، واجتماعهن يثير الخصومة فإن رضين جاز، لأن الحق لا يعدوهن فلهن المسامحة به، وكذا إن رضين بنومه بينهن في لحافٍ واحدٍ، وإن أسكن زوجتيه أو زوجاته في دار واحدة كل واحدة ببيت منها جاز إذ كان مسكن مثلها، ويجوز نوم الرجل مع امرأته بلا جماع بحضرة محرم لها, "كنوم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وميمونة في طول الوسادة، وابن عباس في عرضها لما بات عندها" (¬2). (وَلَهُ) -أي الزوج- (مَنْعُهَا) -أي زوجته أو زوجاته- (من الخُرُوج) من منزله إلى ما لها منه بد ولو لزيارة والديها أو عيادتهما أو شهود جنازة أحدهما، قال أحمد في امرأة ¬
لها زوج وأم مريضة: "طاعة زوجها أوجب عليها من أمها إلا أن يأذن لها" (¬1). أو تضطر إلى الخروج كإتيان بنحو مأكل لعدم من يأتيها به؛ لحديث أنس: أن رجلا سافر ومنع زوجته من الخروج فمرض أبوها فاستأذنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حضور جنازته فقال لها: "اتقي اللَّه ولا تخالفي زوجك فأوحى اللَّه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أني قد غفرت لها بطاعتها زوجها" رواه ابن بطة (¬2) في "أحكام النساء" (¬3) وحيث خرجت بلا إذنه بلا ضرورة فلا نفقة لها ما دامت خارجة عن منزله إن لم تكن حاملا لنشوزها، وسن إذنه لزوجته إذا مرض محرم لها لتعوده، أو مات لتشهده لما فيه من صلة الرحم، وعدم إذنه يحمل الزوجة على مخالفته، وقد أمر تعالى بالمعاشرة بالمعروف وليس هذا منها، وليس له منعها من كلام أبويها ولا منعهما من زيارتها لما فيه من قطيعة الرحم، لكن إن عرف بقرائن الحال حدوث ضرر بزيارتهما أو زيارة أحدهما فله المنع، صوبه في "الإنصاف" (¬4)، وجزم به في "الإقناع" (¬5). ولا يلزم الزوجة طاعتهما في فراق زوجها ولا عصيانه بل زوجها أحق، ولا تصح ¬
إجارتها نفسها لرضاع وخدمة بعد نكاح بلا إذن زوجها سواء آجرت نفسها أو أجرها وليها، لتفويت حق الزوج مع سبقه كإجارة المؤجر، فإن أذن زوج صحت الإجارة ولزمت لأن الحق لا يعدوهما، وتصح إجارتها قبل عقد النكاح وتلزم الإجارة فليس للزوج منعها من رضاع ونحوه لملك المستأجر منافعها بعقد سابق على نكاح الزوج أشبه ما لو اشترى أمة مستاجرة، ولزوجها الوطء مطلقًا سواء أضر الوطء بالمرتضع أولا، لأنه يستحقه بعقد التزويج فلا يسقط بأمر مشكوك فيه، وليس لزوج فسخ النكاح إن لم يعلم أنها مؤجرة.
فصل في القسم
فَصْلٌ في القَسْمِ (و) يجب (على) زوج (غيرِ طِفْلٍ التَّسْوِيَةُ بينَ زوجاتٍ في القَسْمِ) لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬1) وزيادة إحداهن في القسم ميل، ولا معروف مع الميل، وقال تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ. .} الآية (¬2)؛ لأن العدل أن لا يقع ميل البتة وهو متعذر، وعن أبي هريرة مرفوعًا: "من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل". وعن عائشة قالت: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقسم بيننا فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" رواهما أبو داود (¬3). و (لا) يجب عليه التسوية (في وَطْءٍ وكِسْوَةٍ ونحوهما) كالقبلة ¬
والنفقة إذا قام بالواجب بل ذلك مستحب لأنه أبلغ في العدل بينهن، وروي أنه عليه السلام كان يسوي بين زوجاته في القبلة ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني في ما لا أملك". ولا تجب التسوية بينهن في الجماع، لأن طريقه الشهوة والميل ولا سبيل إلى التسوية فيه، كما لا تجب التسوية بينهن في الشهوات والنفقة والكسوة (إِذَا قَامَ بالواجِب)، وإن أمكنه فهو أولى، ويسن لسيد تسوية يين إمائه في قسم لأنه أطيب لقلوبهن ولا قسم عليه لهن واجب لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (¬1) ولأنه لا حق للأمة في الاستمتاع، ولهذا لا خيار لها بعنَّة السيد أو جَبِّه، ولا يضرب لها مدة الإيلاء بحلفه على ترك وطئها، وعليه أن لا يعضلهن إذا طلبن النكاح إن لم يرد استمتاعا بهن فيزوجهن أو يبيعهن دفعًا لضررهن. (وعِمَادُهُ) -أي القسم- (اللَّيْلُ) لأنه مأوى الإنسان إلى منزله وفيه يسكن إلى أهله وينام على فراشه، والنهار للمعاش والاشتغال قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} (¬2) والنهار يتبع الليل فيدخل في القسم تبعًا لما روي: "أن سورة وهبت يومها لعائشة"، متفق ¬
عليه (¬1)، وقالت عائشة: "قبض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بيتي وفي يومي" (¬2)، وإنما قبض نهارًا (¬3)، ويتبع اليوم الليلة الماضية إلا أن يتفقوا على عكسه (إِلَّا في حَارِسٍ ونحوه) ممن معيشته بالليل (فـ) عماد قسمه (النَّهَار) ويتبعه الليل. ويكون القسم ليلة وليلة؛ لأن في قسمه ليلتين فأكثر تأخير لحق من لها الليلة الثانية للتي قبلها إلا أن يرضين بأكثر من ليلة وليلة لأن الحق لا يعدوهن، وإن كانت نساؤه بمحال متباعدة قسم بحسب ما يمكنه مع التساوي بينهن إلا برضاهن، (وزَوْجَةٌ أَمَةٌ) مع زوجة حرّة (على النِّصفِ مِن حُرَّةٍ) ولو كانت الحرة كتابية فلها ليلة من ثلاث رواه الدارقطني عن علي (¬4) واحتجّ به ¬
أحمد (¬1)، ولأن الحرة يجب تسليمها ليلًا ونهارًا فحقها أكثر في الإيواء بخلاف النفقة والكسوة فتقدر بالحاجة، وحاجة الأمة في ذلك كحاجة الحرة، وبخلاف قسم الابتداء، فإنه لزوال الاحتشام من كل واحد من الزوجين من الآخر وذلك لا يختلف بحرية ورق، قال ابن المنذر: "أجمع من نحفظ عنه من أهل العلم على أن القسم بين المسلمة والذمية سواء" (¬2). (و) يقسم لـ (مُبَعَّضَةٍ بالحسَابِ) فللمنصفة ثلاث ليال، وللحرة أربع ليال، وإن عتقت أمة في نوبتها فلها قسم حرة، أو عتقت في نوبة حرة سابقة على نوبة أمة فلها قسم حرة؛ لأن النوبة أدركتها وهي حرة فاستحقت قسم حرة، وإن عتقت الأمة في نوبة حرة مسبوقة بأن بدأ بالأمة فوفاها ليلتها ثم انتقل للحرة فعتقت الأمة يستأنف القسم متساويًا بعد أن يقسم للحرة على حكم الرق في ضرتها؛ لأن الأمة لما استوفت مدتها حال الرق لم تزد شيئًا وكان للحرة ضعف مدة الأمة، بخلاف ما لو عتقت قبل مجيء نويتها أو قبل تمامها. ومعنى وجوب التسوية في حق من لم يبلغ أن وليه يطوف به عليهن، ويطوف بمجنون مأمون وليه للتعديل، فإن لم يكن مأمونًا فلا قسم عليه، لأنه لا فائدة فيه، ويحرم تخصيص بعض زوجاته بإفاقة، لأنه ميل على البعض الآخر، فلو أفاق في نوية واحدة قضى يوم جنونه للأخرى تعديلًا بينهما، فإن لم يعدل الولي في القسم وأفاق المجنون قضى للمظلومة لثبوت الحق في ذمته كالمال. ¬
وللزوج أن يأتي زوجاته كل واحدة في مسكنها، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقسم كذلك (¬1) ولأنه أستر لهن، وله أن يدعوهن إلى محله لأن له نقلها حيث شاء بلائق لها، وله أن يأتي بعضًا من زوجاته إلى مسكنها وأن يدعو بعضًا منهن إلى منزله لأن السكن له حيث لاق المسكن. ويقسم مريض ومجبوب وخصي وعنِّين ونحوه؛ لأن القسم للأنس وهو حاصل ممن لا يطأ، وكان عليه السلام: "يدور على نسائه في مرضه ويقول: أين أنا غدا أين أنا غدا" رواه البخاري (¬2)، فإن شقّ عليه استأذن أن يكون عند إحداهن، لفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- رواه أبو داود من حديث عائشة (¬3)، فإن لم يأذن له أقام عند إحداهن بقرعة أو اعتزلهن جميعًا إن أحب. ويجب القسم لحائض، ونفساء، ومريضة، ومعيبة، كجذماء، ورتقاء، وكتابية، ومحرِمة، وزَمِنة، ومميزة، ومجنونة مأمونة، ومن آلى منها، أو ظاهر منها، أو وطئت بشبهة زمن عدتها؛ لأن القصد بالقسم الأنس لا الوطء، أو سافر بها بقرعة فيقسم لها إذا قدم؛ لأنه فعل ماله فعله فلا يسقط حقها في المستقبل. وليس له بداءة في قسم ولا سفر بإحداهن بلا قرعة؛ لأنه تفضيل لها، والتسوية ¬
واجبة، "وكان عليه السلام إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فمن خرجت لها القرعة خرج بها معه" متفق عليه (¬1)، وإذا سافر بها بقرعة إلى محل ثم بدى له غيره ولو أبعد منه فله أن يصحبها معه، فإن رضين بالبداءة بإحداهن أو السفر بها جاز، لأن الحق لا يخرج عنهن، ويقضي لبقية زوجاته مع قرعة في سفر بإحداهن، أو مع رضاهن بسفر بمعينة منهن ما تعقبه سفر، أو إقامة في البلد الذي سافر إليه، أو تخلل سفره من إقامة لتساكنهما إذًا، لا زمن مسيره وحله وترحاله، لأنه لا يسمى سكنًا، ويقضي من سافر بواحدة من زوجتيه أو زوجاته بدون قرعة أو رضاهن جميع غيبته حتى زمن سيره وحله وترحاله، سواء طال السفر أو قصر؛ لأنه خص بعضهن على وجه يلحقه فيه تهمة فلزمه القضاء كما لو كان حاضرًا، وإن سافر باثنتين بقرعة آوى إلى كل ليلة في رحلها كخيمتها ونحوها، فإن كانتا في رَحِله فلا قسم إلا في الفراش، ومتى بدأ في القسم بواحدة من نسائه بقرعة أو لا لزمه مبيت ليلة آتية عند ثانية ليحصل التعديل بينهما في الأولى وتدارك الظلم في الثانية، ويحرم على زوج أن يدخل إلى غير ذات ليلة فيها إلا لضرورةٍ، كأن تكون منزولًا بها فيريد أن يحضرها، أو توصي إليه، أو في نهارها إلا لحاجة كعيادة، أو سؤال عن أمرٍ يحتاج إليه، أو دفع نفقةٍ، أو زيارة لبعد عهده بها، فإن دخل إليها ولم يلبث لم يقض، لأنه لا فائدة في قضاء الزمن اليسير، وإن لبث أو جامع لزمه قضاء لبث وجماع ولا يلزمه قضاء قبلة ونحوها من حق الأخرى، لحديث عائشة: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدخل عَلَيَّ في يوم غيري، فينال مني ¬
كل شيء إلا الجماع" (¬1)، وله قضاء أول ليل عن آخره، وليل صيف عن ليل شتاء وعكسهما، ومن انتقل من بلد إلى بلد وله زوجات لم يجز له أن يصحب إحداهن ويصحب البواقي غيره؛ لأنه ميل إلا بقرعة، فإن فعله بقرعة فأقامت معه في البلد الذي انتقل إليه قضى للباقيات مدة إقامته معها خاصة؛ لأنه صار مقيمًا، وبدون قرعة قضى للباقيات كل المدة كالحاضر. (وَإِنْ أَبَت) زوجة (المَبِيْتَ مَعَهُ) -أي مع زوجها- أو أغلقت الباب دونه، أو قالت له: لا تبيت عندي، (أَوْ) أبت (السَّفَرَ) معه، (أَوْ سَافَرَت في حَاجَتِهَا) ولو بإذنه (سَقَطَ قَسْمُهَا ونَفَقَتُهَا) لعصيانها في الأوليين، ولعدم التمكين من الاستمتاع في الأخيرة، بخلاف ما إذا لو سافرت معه لوجود التمكين، ولا يسقط حقها من قسم ونفقة إن سافرت لحاجته ببعثه لها، أو انتقالها إلى بلد آخر بإذنه، لأن سبب تعذر الاستمتاع من جهته، فيقضي لها ما أقامه عند الأخرى. ولها هبة نوبتها من القسم بلا مال لزوج ليجعله لمن يشاء من ضراتها، لأن الحق لا يخرج عن الواهبة والزوج، ولها هبتها بلا مال لضرة معينة بإذن الزوج ولو أبت موهوب لها، لثبوت حق الزوج في الاستمتاع بها كل وقت، وإنما منعته المزاحمة في حق صاحبتها، فإذا زالت المزاحمة بهبتها ثبت حقه في الاستمتاع بها وإن كرهت كما لو كانت منفردة، "ووهبت سودة يومها لعائشة، فكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقسم لعائشة ¬
يومها، ويوم سودة" متفق عليه (¬1)، فإن كان بمال لم يصح؛ لأن حقها كون الزوج عندها، وهو لا يقابل بمال، فإن أخذت الواهبة عليه مالا وجب رده وقضى لها زمن هبتها، وإن كان العوض غير مال كإرضاء زوجها عنها جاز لقصة عائشة وصفية (¬2)، وليس للزوج نقل زمن قسم الواهبة لِيَلِيَ ليلة الموهوب لها إلا برضى الباقيات، فإن رضين جاز، لأن الحق لا يعدوهن، ومتى رجعت واهبة لليلتها ولو في بعض ليلة عاد حقها في المستقبل؛ لأنها هبة لم تقبض، ولها بذل قسم ونفقة وغيرهما لزوج ليمسكها لقصة سودة، ويعود حقها برجوعها كالهبة قبل القبض، وأما ما مضى فكالهبة المقبوضة. ¬
فصل
فصل (وإن (¬1) تزوج بكرا) ومعه غيرها (أقام عندها سبعا) ولو أمة وضرائرها حرائر ثم دار للقسم، (أو) تزوج، (ثيبا) ومعه غيرها (أقام) عندها، (ثلاثا ثم دار)، وتصير الجديدة آخرهن نوبة، لحديث أبي قلابة (¬2) عن أنس قال: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا وقسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم". قال أبو قلابة: "لو شئت قلت: إن أنسا رفعه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" رواه الشيخان (¬3)، وإن شاءت الثيب لا الزوج أن يقيم عندها سبعا فعل وقضى السبع لكل ضرائرها، لحديث أم سلمة: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام، وقال: إنه ليس بك هوان على أهلك، فإن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي" رواه أحمد ومسلم وغيرهما (¬4)، ولفظ الدارقطني: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لها حين دخل بها: ليس ¬
بك هوان على أهلك، إن شئت أقمت عندك ثلاثا خالصة لك، وإن شئت سبعت لك ولنسائي. قالت: تقيم معي ثلاثا خالصة" (¬1)، وإن طلق زوج ثنتين فأكثر واحدة وقت قسمها أثم؛ لأنه وسيلة إلى إبطال حقها من القسم، ولعله إذا لم يكن بسؤالها، ويقضي لها متى نكحها وجوبا، ولزوج ثنتين فأكثر نهار ليل قسم أن يخرج لمعاشه وقضاء حقوق الناس لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} (¬2)، وكذا له الخروج لصلاة جماعة، ومتى ترك قسم بعض نسائه لعذر أو غيره قضاه لها. ¬
فصل في النشوز
فصل في النشوز (والنشوز حرام) من النشز وهو ما ارتفع من الأرض، فكأنها ارتفعت وتعالت عما فرض عليها من المعاشرة بالمعروف، ويقال: نشزت -بالشين والزاي- ونشصت -بالشين والصاد المهملة- (¬1). (وهو معصيتها) -أي الزوجة- (إياه) -أي الزوج- (فيما يجب عليه، ) طاعته فيه (¬2)، (فمتى ظهرت) (¬3) منها (أماراته) -أي النشوز- بأن منعته الاستمتاع بها، أو أجابته متبرمة، كأن تتشاغل إذا دعاها، أو لا تجيبه إلا بكره (وعظها) أي خوفها اللَّه، وذكر لها ما أوجب اللَّه عليها من الحق والطاعة، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة، وما يسقط به من النفقة والكسوة، وما يباح من ضربها وهجرها، لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} (¬4) وفي الحديث: "إذا باتت المرأة مهاجرة ¬
فراش زوجها لعنتها الملائكة إلى أن ترجع" متفق عليه (¬1)، (فإن أصرت) على النشوز بعد وعظها (هجرها في المضجع) أي ترك مضاجعتها (ما شاء) ما دامت كذلك، (و) هجرها (في الكلام ثلاثا) -أي ثلاثة أيام- لا فوقها لقوله تعالى: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} (¬2)، ولحديث أبي هريرة مرفوعا: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام" (¬3)، (فإن أصرت) مع هجرها في المضجع والكلام على ما هي عليه (ضربها) ضربا (غير شديد) لحديث: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم" (¬4)، ولا يجلدها فوق عشرة أسواط لحديث: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود اللَّه ¬
تعالى" متفق عليه (¬1)، ويجتنب الوجه والمواضع المخوفة، وليس له ضربها إلا بعد هجرها في الفراش والكلام؛ لأن القصد التأديب والزجر، فيبدأ فيه بالأسهل، وقال أحمد في الرجل يضرب امرأته: "لا ينبغي لأحد أن يسأله ولا أبوها لم ضربها للخبر" (¬2) رواه أبو داود (¬3). ويمنع من هذه الأشياء من علم بمنعه حقها حتى يؤديه، وحتى يحسن عشرتها لظلمه بطلبه حقه مع منع حقها، وينبغي للمرأة أن لا تغضب زوجها، لحديث أحمد عن الحصين بن أبي حصين (¬4): "أن عمة له أتت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: أذات زوج أنت؟ قالت: نعم. قال: انظري أين أنت منه فإما هو جنتك ونارك" (¬5)، قال في ¬
"الفروع" (¬1): "إسناده جيد". وينبغي للزوج مداراتها، وحدث رجل لأحمد: ما قيل: العافية عشرة أجزاء تسعة منها في التغافل، فقال أحمد: "العافية عشرة أجزاء كلهما في التغافل" (¬2). (وله) -أي الزوج- (ضربها على ترك فرائض اللَّه تعالى) كواجب صلاة وصوم، وينبغى تعليق السوط بالبيت للخبر، رواه الخلال (¬3)، فإن لم تصل فقال أحمد: "أخشى أن لا يحل للرجل أن يقيم مع امرأة لا تصلي، ولا تغتسل من الجنابة، ولا تتعلم القرآن (¬4). فإن ادعى كل من الزوجين ظلم صاحبه أسكنهما حاكم قرب رجل ثقة يشرف عليهما ويكشف حالهما، كعدالة وإفلاس من خبرة باطنة ليعلم الظالم منهما ويلزمهما الحق، لأنه طريق الإنصاف، فإن تعذر إسكانهما قرب ثقة يشرف عليهما، أو تعذر إلزامهما الحق وتشاقا بعث الحاكم إليهما حكمين ذكرين حرين مكلفين مسلمين عدلين ¬
يعرفان حكم الجمع والتفريق؛ لأنهما يتصرفان في ذلك، فاعتبر علمهما به، وإنما اعتبر فيهما هذه الشروط مع أنهما وكيلان لتعلقهما بنظر الحاكم، فكأنهما نائبان عنه، والأولى كونهما من أهلهما، لأن الشخص يفضي إلى قرابته وأهله بلا احتشام، فهو أقرب إلى الإصلاح، فيخلو كلٌّ بصاحبه، ويستعلم رأيه في الفراق والوصلة، وما يكره من صاحبه فيوكلانهما برضاهما في فعل الأصلح من جمع أو تفريق بعوض أو دونه، لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا. .} الآية (¬1). ولا يصح إبراء غير وكيلها في خلع فقط، فلا يصح الإبراء من وكيل الزوج مطلقًا، ولا من وكيل الزوجة إلا في الخلع خاصة، وإن شرطا ما لا ينافي نكاحًا كإسكانها بمحل فإذا، وأن لا يتزوج أو يتسرى عليها ونحوه لزم الشرط، ولعلهم نزلوا هذه الحالة منزلة ابتداء العقد لحاجة الإصلاح، وإلا فمحله المعتبر من الشروط صلب العقد كما تقدم (¬2)، وإن شرطا ما ينافي نكاحًا لم يلزم، كترك قسم، أو ترك نفقة، أو وطء، أو سفر إلا بإذنها ونحوه، ولمن رضي من الزوجين بشرط ما ينافي نكاحا العود لعدم لزومه، ولا ينقطع نظر الحكمين بغيبة الزوجين أو أحدهما لأن الوكالة لا تنقطع بغيبة الموكل، وينقطع نظرهما بجنون الزوجين أو أحدهما ونحوه مما يبطل الوكالة كحجر لسفه كسائر الوكلاء. ¬
(باب الخلع)
(باب الخلع) - بضم المعجمة وسكون اللام- (¬1)، وهو: فراق زوج زوجته بعوض يأخذه الزوج منها أو من غيرها بألفاظ مخصوصة (¬2)، سمي بذلك لأن المرأة تخلع نفسها من الزوج كما تخلع اللباس من بدنها، قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (¬3). (ويباح) الخلع (لسوء عشرة) بين الزوجين بأن صار كل منهما كارها للآخر لا يحسن صحبته، لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬4)، (و) يباح الخلع فى لمـ (بغضة) زوجها تخشى أن لا تقيم حدود لا له في حقه، لحديث ابن عباس: "جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس (¬5) إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: يا رسول اللَّه! ما أعيب علية من خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أتردين عليه حديقته؟ قالت: نعم. فقال رسول اللَّه ¬
-صلى اللَّه عليه وسلم-: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" رواه البخاري (¬1)، فأمره عليه السلام بذلك دليل إباحته، وبه قال عمر (¬2) وعثمان (¬3) وعلي (¬4) ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة (¬5). (و) يباح الخلع إذا كرهت الزوج (لكبر أو قلة دين) أو ضعف ونحو ذلك وخافت إثما، وتسن إجابتها إذا سألت الخلع على عوض حيث أبيح الخلع، لأمره عليه السلام لثابت بن قيس بقوله: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" إلا مع محبته لها فيسن صبرها عليه وعدم افتدائها منه دفعا لضرره، ولا تفتقر صحة الخلع إلى حكم حاكم نصا (¬6). (ويكره) الخلع (مع استقامة) حال الزوجين، أما الكراهة فلحديث: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة" رواه ¬
الخمسة إلا النسائي (¬1)، ولأنه عبث، وأما الصحة فلعموم قوله تعالى: {لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (¬2). ويحرم ولا يصح الخلع إن عضلها بأن ضربها أو ضيق عليها، أو منع حقها من نفقة أو كسوة أو قسم ونحوه لتختلع منه، لقوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الآية (¬3)؛ ولأنها مكرهة إذا على بذل العوض بغير حق فلم يستحق أخذه منها للنهي عنه، وهو يقتضي الفساد، ويقع الطلاق رجعيا إن أجابها بلفظ طلاق أو خلع مع نية الطلاق، ولا تبين منه لفساد العوض. ويباح عضل الزوج لها لتفتدي منه لزناها نصا (¬4) لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬5) والاستثناء من النهي إباحة، ولأنه لا يأمن أن تلحق به ولدا ¬
من غيره، وإن أدبها لنشوزها أو تركها فرضا فخالعته لذلك صح الخلع وأبيح له عوضه؛ لأنه بحق. ويصح الخلع ويلزم ممن يقع طلاقه، مسلما كان أو ذميا، حراكان أو عبدا، كبيرا أو صغيرا يعقله؛ لأنه إذا ملك الطلاق وهو مجرد إسقاط لا تحصيل فيه فلأن يملكه محصلا لعوض أولى. (وهو) -أي الخلع- (بلفظ خلع أو فسخ أو مفاداة) ولم ينو به طلاقا (فسخ) لا ينقص به عدد الطلاق، روي ذلك عن ابن عباس (¬1)، وروي عن عثمان وعلي وابن مسعود أنه طلقة بائنة بكل حال (¬2)، لكن ضعف أحمد الحديث عنهم فيه ¬
وقال: "ليس لنا في الباب شيء أصح من حديث ابن عباس أنه فسخ" (¬1)، واحتج ابن عباس بقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} ثم قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} (¬2) ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬3) فذكر تطليقتين، والخلع وتطليقة بعدهما، فلو كان الخلع طلاقا لكان رابعا، ولأن الخلع فرقة خلت عن صريح الطلاق ونيته، فكانت فسخا كسائر الفسوخ، وأما كون فسخت صريحا فيه فلأنها حقيقة فيه، وأما خلعت فلثبوت العرف به، وأما فاديت فلقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. (و) هو (بلفظ طلاق أو نيته) -أي الطلاق- (أو كنايته طلقة بائنة)، وكنايات الخلع باريتك، وأبرأتك، وأبنتك، فمع سؤال الخلع وبذل عوضه يصح الخلع بصريح وكناية بلا نية، لأن الصريح لا يحتاج إليها، وقرينة الحال من السؤال والبذل تقوم مقام النية مع الكناية، وإلا فلا بد من النية مع الكناية كلطلاق ونحوه، وتعتبر الصيغة من المتخالعين، فلا خلع بمجرد بذل مال وقبوله بلا لفظ من زوج؛ لأن الخلع أحد نوعي الفرقة فلم يصح بدون لفظ كالطلاق بعوض، ولأن أخذ المال قبض لعوض فلم يقم بمجرده مقام الإيجاب كقبض أحد العوضين في البيع، وحديث جميلة امرأة ثابت رواه البخاري وفيه: "اقبل ¬
الحديقة وطلقها تطليقة" وفي رواية: "فأمره ففارقها" (¬1) ومن لم يذكر الفرقة، فقد اقتصر على بعض القصة، وعليه يحمل كلام أحمد وغيره (¬2)، والصيغة من الزوج: خلعتك، أو فسخت نكاحك على كذا، ومنها: رضيت، أو نحوه. ويصح الخلع بكل لغة من أهلها كالطلاق، ولا يصح معلقا على شرط كقوله لزوجته: إن بذلت لي كذا فقد خالعتك، إلحاقا بعقود المعاوضات لاشتراط العوض فيه، وإن تخالعا هازلين فلغو ما لم يكن بلفظ طلاق أو نيته، ويلغو شرط رجعة في خلع كقوله: خالعتك على كذا بشرط أن لي رجعتك في العدة، أو ما شئت، وشرط خيار في خلع كخلعتك على كذا بشرط أن لي الخيار، أو على أن لي الخيار إلى كذا، أو يطلق، لأنه ينافي مقتضاه دون الخلع فلا يلغو لذلك كالبيع بشرط فاسد، ويستحق الزوج العوض المسمى لصحة الخلع وتراضيهما على عوضه. ولا يقع بمعتدة من خلع طلاق لأنه قول ابن عباس وابن الزبير (¬3) ولا يعرف لهما مخالف في عصرهما، ولأنها لا تحل له إلا بعقد جديد، وحديث: "المختلعة يلحقها الطلاق ما دامت في العدة" (¬4) لا يعرف له أصل، ولا ذكره أصحاب السنن، ومن خولع جزء منها كنصفها أو يدها لم يصح الخلع لأنه فسخ. ¬
فصل
فصل (ولا يصح) الخلع (إلا بعوض)؛ لأنه فسخ، ولا يملك الزوج فسخ النكاح بلا مقتضى بخلافه على عوض فيصير معاوضة فلا يجتمع له العوض والمعوض، ولو قالت: بعني عبدك فلانا واخلعني بكذا، ففعل صح وكان بيعا وخلعا بعوض واحد؛ لأنهما عقدان يصح إفراد كل منهما بعوض فصح جمعهما كبيع ثوبين. (ويكره) خلع زوجة (بأكثر مما أعطاها)، روي عن عثمان (¬1) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث جميلة: "ولا تزدد" رواه ابن ماجة (¬2)، وعن عطاء عنه عليه السلام: "أنه كره أن يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها" رواه أبو حفص بإسناده (¬3)، ولا يحرم ذلك، لقوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} وقالت الربيع بنت ¬
معوذ (¬1): "اختلعت من زوجي بما دون عقاص (¬2) رأسي فأجاز ذلك علي" (¬3). (ويصح بذله) -أي عوض الخلع- (ممن يصح تبرعه) وهو المكلف غير المحجور عليه بخلاف المحجور عليه؛ لأنه بذل ماله في مقابلة ما ليس بمال ولا منفعة أشبه التبرع، وسواء كان بذله (من زوجة أو أجنبي) ولو ممن شهدا بطلاقها وردا لمانع كالمبذول في افتداء أسير، فيصح قول رشيد لزوج امرأة: اخلعها على كذا علي، أو اخلعها على كذا عليها وأنا ضامن، فإن أجابه الزوج صح ولزمه عوض لالتزامه له، ولا يلزمها العوض إن لم تأذن، ويصح سؤالها زوجها الخلع على مال أجنبي بإذنه وبدونه إن ضمنته بأن قالت: اخلعني على عبد زيد وأنا ضامنته صح؛ لأنها باذلة للبدل ومال الغير لاغ، وإن لم تضمنه لم يصح الخلع لتصرفها في مال غيرها بغير إذنه، كبذل الأجنبي مالها بدون إذنها. وإن قال أبو امرأة: طلق بنتي وأنت بريء من مهرها ففعل فالطلاق رجعي لخلوه من ¬
العوض، ولم يبرأ بإبراء أبيها لأنه ليس له، ولم يرجع على الأب بشيء لأنه أبرأه مما ليس له أشبه الأجنبي، ولا تطلق إن قال الزوج: طلقتها إن برئت من مهرها، لأنه لا يبرأ منه بذلك.
(ويصح) الخلع (بمجهول) (¬1) لأنه إسقاط لحقه من البضع وليس تمليك شيء، والإسقاط يدخله المسامحة ولهذا جاز بلا عوض بخلاف النكاح، وأبيح لها افتداء نفسها لحاجتها إليه، فوجب ما رضيت ببذله دون ما لم ترصنه، فلو خالعها على ما في يدها أو بيتها من دراهم أو متاع فله ما بهما من ذلك، فإن لم يكن بيدها شيء فله ثلاثة دراهم لأنها أقل الجمع فهي المتيقنة، أو لم يكن ببيتها شيء فله ما يسمى متاعا كالوصية، وإن كان بيدها دون الثلاثة فلا شيء له غيره. (و) يصح الخلع بـ (معدوم) (¬2) كعلى ما تحمل شجرتها أو ما تحمل أمتها ونحوها، أو ما في بطنها كالوصية، وله ما يحصل من ذلك، لكن قياس ما سبق في الوصية له قيمة ولد الأمة لتحريم التفريق، فإن لم يحصل منه شيء وجب فيه مطلق ما تناوله الاسم، ويجب فيما إذا خالعها على شيء يجهل مطلقا كثوب ونحوه مطلق ما تناوله الاسم، وإن خالعها على هذا الثوب الهروي فبان مرويا (¬3) أو معيبا، أو على هذا العبد السندي فبان هنديا أو زنجيا فليس له غيره لوقوع الخلع على عينه، ويصح على ¬
هروي في الذمة، وعليها أن تعطيه سليما؛ لأن الإطلاق يقتضي السلامة. و(لا) يصح الخلع (بلا عوض، ولا) بعوض (محرم) يعلمانه (¬1) كخمر أو خنزير، فيقع الخلع رجعيا بنية طلاق؛ لأن الخلع من كنايات الطلاق، فإذا نواه به وقع، وقد خلا عن العوض فكان رجعيا، فإن لم ينو به طلاقا فلغو: وإن لم يعلماه محرما كعلى عبد فبان حرا أو مستحقا، أو على خل فبان خمرا أو مستحقا صح الخلع وله بدله؛ لأن الخلع معاوضة بالبضع فلا يفسد بفساد العوض كالنكاح، وإن بان معيبا فله أرشه أو قيمته. ويحرم الخلع (ولا) يصح (حيلة لإسقاط) يمين (طلاق)؛ لأن الحيل خداع لا تحل ما حرم اللَّه، ولا يسقط ما بين متخالعين من حقوق نكاح كمهر ونفقة أو قرض بسكوت عنها حال خلع، فيتراجعان بما بينهما من الحقوق؛ لأن ذلك لا يسقط بلفظ الطلاق فلا يسقط بالخلع كسائر الحقوق، ولا يسقط ما بينهما من نفقة عدة حامل ولا بقية ما خولع ببعضه كسائر الفسوخ، وكالفرقة بلفظ الطلاق. (وإذا قال) لزوجته: (متى) أعطيتني ألفا فأنت طالق، (أو) قال لها: (إذا) أعطيتني (أو إن أعطيتني ألفا فأنت طالق) لزم التعليق من جهته، فليس له إبطاله، فأي وقت أعطته على صفة يمكنه القبض ألفا فأكثر وازنه بإحضاره للزوج وإذنها في قبضه، وإن لم يقبضه بيده ولو مع نقص في العدد اكتفاء بتمام الوزن (طلقت بـ) مجرد (عطيته) الألف (ولو تراخت) العطية لوجود الصفة وملكه، لأنه إعطاء شرعي يحنث به من حلف لا يعطي فلانا شيئا إذا فعله معه، فإن هرب الزوج قبل عطيتها أو ¬
قالت: يضمنه لك زيد، أو أجعله قصاصًا مما لي عليك، أو أعطته به رهنًا، أو أحالته به، أو نقصت الألف وزنًا، أو أعطته سبيكة لم يقع لعدم وجود الصفة. (وإِنْ قَالت) لزوجها: (اخْلَعْنِي بألفٍ أوْ على ألفٍ) أو ولك ألف، أو قالت له: طلقني بألفٍ أو على ألفٍ أو لك ألف، أو قالت له: إن خلعتني فلك ألف أو فأنت برئ من ألف، أو قالت له: إن طلقتني فلك ألف، أو أنت برئ من ألف (فَفَعَلَ) أي فقال لها: خلعتك أو طلقتك جوابًا لقولها: اخلعني أو طلقني ولو لم يذكر الألف مع قوله: خلعتك أو طلقتك (بَانَتْ) منه (وَاسْتَحَقَّهَا) -أي الألف-؛ لأن قوله: خلعتك أو طلقتك جوابا لما استدعته منه، والسؤال كالمعاد في الجواب، أشبه ما لو قال: بعني عبدك بألف فقال: بعتكه ولم يذكر الألف، ويكون من غالب نقد البلد إن ثم نقود إن أجابها على الفور، ولها الرجوع قبل إجابته لأنه إنشاء منها على سبيل المعاوضة فلها الرجوع قبل تمامه بالجواب كالبيع.
فصل
فَصْلٌ ومن سئل الخلع على شيء فطلق لم يستحقه؛ لأنها استدعت منه فسخًا فلم يجبها إليه وأوقع طلاقا لم تطلبه ولم تبذل فيه عوضًا ووقع طلاقه رجعيًا، لأنه لم يبذل فيه عوض. ومن سئل الطلاق على عوض فخَلَعَ ولم ينو به الطلاق لم يصح خلعه الذي هو فسخ لخلوه عن العوض، لأنه مبذول في الطلاق لا فيه، وإن قالت لزوجها: طلقني بألف إلى شهر أو بعد شهر لم يستحقه إلا بطلاقها بعده، لأنه إذا طلقها قبله فقد اختار إيقاع الطلاق بلا عوض فيقع رجعيًا، أما في الأولى فَلأَنَّ إلى تكون بمعنى مِنْ الابتدائية ودل عليه أن الطلاق لا غاية لانتهائه وإنما الغاية لابتدائه، وأما في الثانية فواضح، وإن قالت: طلقني بألف إلى شهر أو بعد شهر، فقال لها: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق استحق العوض، ووقع الطلاق بائنًا عند رأس الشهر. ومن قالت لزوجها: طلقني واحدة بألف، أو على ألف، أو طلقني ولك ألف، فطلقها أكثر استحقه، لإيقاع ما استدعته وزيادة، لوجود الواحدة في ضمن الثنتين والثلاث. ولو أجاب قولها: طلقني واحدة بألف ونحوه بقوله أنت طالق وطالق وطالق بانت منه بالأولى لوقوعها في مقابلة العوض، ولم يقع ما بعدها. وإن قالت: طلقني ثلاثًا بألف فطلق أقل لم يستحق شيئًا؛ لأنه لم يجبها إلى ما سألته، وإن لم يكن بقي من الثلاث إلا ما أوقعه ولو لم تعلم بذلك استحق الألف؛ لأنها حصلت ما يحصل بالثلاث من البينونة والتحريم.
ولو قال لزوج امرأتاه: طلقنا بألف فطلق واحدة منهما بانت بقسطها من الألف، فيقسط على مهر مثليهما، ولو قالته إحداهما فقال: أنت طالق فرجعي ولا شيء له، لأنها جعلت الألف في مقابلة طلاقهما ولم يحصل.
فصل
فَصْلٌ إذا خالعت الزوجة في مرض موتها المخوف فالخلع صحيح؛ لأنه معاوضة فصح في المرض كالبيع، ومتى اختلف المسمى في الخلع وإرثه منها فله الأقل من المسمى، أو إرثه منها، لأنها متهمة في قصد إيصال شيء من مالها إليه بغير عوض على وجه لم تكن قادرة عليه وهو وارث لها، فبطل الزائد، كما لو أوصت له به أو أقرت، وأما قدر الميراث فلا تهمة فيه، فإنها لو لم تخالعه لورثه، وإن صحت من موضها فله جميع ما خالعها عليه كما لو خالعها في الصحة. وإن طلقها في مرض موته ثم وصى لها أو أقر لها بزائد عن إرثها لم تستحق الزائد إن لم تجز الورثة للتهمة؛ لأنه لم يكن له سبيل إلى إيصال ذلك إليها وهي في حباله فطلقها ليوصله إليها فمنع منه كالوصية بها، وإن خالعها في مرض موته المخوف وحاباها فمن رأس المال؛ لأنه لو طلقها بلا عوض صح فمعه أولى. ومن وكل في خلع امرأته ولم يعين عوضًا فخالع الوكيل بأنقص من مهرها ضمن النقص وصح الخلع، لانصراف الإذن إلى إزالة ملكه عن البضع بالعوض المقدر شرعًا وهو مهرها، فإذا أزاله بأقل منه ضمن النقص، كالوكيل المُطْلَقِ في البيع إذا باع بدون ثمن المثل، وإن عين الزوج له العوض فنقص منه لم يصح الخلع، لأنه إنما أذن فيه بشرط ما قدره من العوض فإذا لم يوجد المقدر لم يوجد الشرط فيشبه خلع الفضولي، وإن زاد من وكلته الزوجة وأطلقت في خلعها على مهرها، أو زاد من عينت له العوض عليه صح الخلع ولزمته الزيادة، لأن الزوجة رضيت بدفع العوض
الذي يملك الخلع به عند الإطلاق، أو بالقدر المأذون فيه مع التقدير، والزيادة لازمة للوكيل لبذله لها في الخلع فلزمته كما لو لم يكن وكيلًا، وإن وكل الزوجان واحدا صح أن يتولى طرفي الخلع، وإن خالف وكيل ما أمر أن يخالع به جنسًا أو حلولًا أو نقدًا لبلد لم يصح الخلع؛ لأن المُوَكِّلَ لم يأذن فيه، والوكيل لم يوجد السبب بالنسبة إليه.
فصل
فَصْلٌ وإن قال لزوجته: خالعتك بألف مثلًا فأنكرته أو قالت: إنما خالعك غيري بانت منه يإقراره، وتحلف على نفي العوض لأنها منكرة والأصل براءتها، وإن قالت: خالعتني بألف لكن ضمنه غيري لزمها الألف؛ لأنها مقرة بالخلع مدعية على الغير ضمان العوض، فلزمها العوض لإقرارها، ولا تسمع دعواها على الغير. (ولَيْسَ لَهُ) هذا الضمير عائد على غير مذكور أي ليس لأب (خُلعُ زوجةِ ابنهِ الصَّغِير) أو المجنون (ولا طَلاقُها)، ولا لسيدِ صغيرٍ ولا مجنون أن يطلق عنهما، لحديث: "الطلاق لمن أخذ بالساق" (¬1)، (ولا) لأبٍ خلعُ (ابنتهِ الصَّغِيرةِ) أو المجنونة أو السفيهة (بشيءٍ مِنْ مَالِهَا) ولا طلاقها بشيء من مالها؛ لأنه إنما يملك التصرف بما يملكه فيه بما لها فيه الحظ، وليس في هذا حظ بل فيه إسقاط حقها الواجب لها، والأب وغيره من الأولياء في ذلك سواء. وإن خالعت أمة زوجها ولو مكاتبة بلا إذن سيدها لم يصح، لعدم أهليتها في التصرف في المال بلا إذن سيدها، فإن لم بإذنه صح إذًا لعوض مبذول منه لا منها، وتسلمه مكاتبة مأذونة مما بيدها، فإن لم يكن بيدها شيء فهو في ذمة سيدها. أو خالعت زوجها محجورة لسفه أو صغر أو جنون لم يصح الخلع ولو أذن فيه ولي؛ لأنه لا إذن له في التبرع، ويقع الخلع إذن بلفظ طلاق أو نيته رجعيًا، لخلوه عن العوض، ولا يبطل إبراء من ادعت سفهًا حالة الخلع بلا بينةٍ، كمن باع شيئًا ثم ادعى ¬
سفهًا ونحوه حالته. (وإِنْ عَلَّقَ) زوج (طَلاقَهَا على صِفَةٍ) (¬1) كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثًا مثلًا، (ثُمَّ أَبَانَهَا) بخلع أو طلقة أو ثلاث (فَوُجِدَت) الصفة حال البينونة (أو لا، ثُمَّ نَكحَهَا فَوُجِدَت) الصفة بأن دخلت الدار وهي في عصمته، أو في عدة طلاق رجعي (طَلُقَت) نصًّا (¬2)؛ لكان عقد الصفة ووجودها وجدا في النكاح أشبه ما لو لم تتخلله بينونة، كما لو بانت بما دون الثلاث عند مالك وأبي حنيفة، (وكَذَا) إن علق رب قن (عِتْق) ـه بصفة ثم باعه فوجدت الصفة، أو لم توجد ثم ملكه فوجدت الصفة وهو في ملكه عتق لما تقدم. ¬
(كتاب الطلاق)
(كِتَابُ الطَّلاقِ) وهو لغةٌ: التَّخْلِيَةُ (¬1) قال ابن الأنباري (¬2): "من قول العرب: أطْلَقْتُ النَّاقة فطَلُقَتْ إذا كانت مشدوده فأزلت الشد عنها وخليتها، فشبه ما يقع بالمرأة بذلك لأنها كانت متصلة الأسباب بالزوج (¬3)، وقال الأزهري: "طَلَّقْتُ المرأةَ فطَلُقَتْ، وأطْلَقْتُ النَّاقةَ من العِقَالِ فانْطَلَقَت، هذا الكلام الجيد" (¬4). وشرعًا: حل قيد النكاح أو بعضه بالطلاق الرجعي (¬5). وأجمعوا على مشروعيته للكتاب والسنة (¬6)، ولأنه قد يقع بين الزوجين من التنافر والتباغض ما يوجب المخاصمة الدائمة، فلزوم النكاح إذنْ ضَررٌ في حقهما، ومفسدةٌ محضةٌ بلا فائدةٍ، فوجب إزالتها بالترك ليتخلص كل من الضرر. ¬
(ويكره) الطلاق (بلا حاجة) لإزالته النكاح المشتمل على المصالح المندوب إليها، ولحديث: "أبغض الحلال إلى اللَّه الطلاق" (¬1)، (ويباح) الطلاق (لها) أي الحاجة إليه كسوء خلق المرأة، والتضرر بها من غير حصول الغرض بها. (ويسن) الطلاق (لتضررها) -أي الزوجة- (بـ) استدامة (الوطء)، كحال الشقاق وما يحوج المرأة إلى المخالعة ليزيل ضررها، (و) يسن الطلاق أيضًا لـ (تركها صلاة وعفة ونحوهما)، كتفريطها في حقوق اللَّه تعالى إذا لم يمكنه إجبارها عليها، ولأن فيه نقصا لدينه، ولا يأمن إفساد فراشه وإلحاقها به ولدا من غيره إذا لم تكن عفيفة، وله عضلها إذن والتضييق عليها لتفتدي به لقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (¬2)، والزوجة كهو، فيسن لها أن تختلع منه إن ترك حقا للَّه تعالى كصلاة وصوم. ويحرم الطلاق في حيض أو طهر أصابها فيه، ويجب على مول بعد التربص إن أبى الفيئة ويأتي (¬3)، فينقسم الطلاق إلى أحكام التكليف الخمسة، ولا يجب على ابن طاعة أبويه ولو كانا عدلين في طلاق زوجته؛ لأنه ليس من البر، ولا طاعتهما في منع من ¬
تزويج نصا (¬1) لما سبق. (ولا يصح) الطلاق (إلا من زوج)، لحديث: "إنما الطلاق لمن أخذ بالساق" (¬2)، (ولو) كان الزوج (مميزا يعقله) فيصح طلاقه كالبالغ لعموم الخبر، ولحديث: "كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمعلوب على عقله" (¬3)، وعن علي: "اكتموا الصبيان النكاح" (¬4) فيفهم أن فائدته أن لا يطلقوا، ولأنه طلاق من عاقل صادف محل الطلاق أشبه طلاق البالغ، ويعتبر لوقوع الطلاق إرادة لفظه لمعناه فلا يقع طلاق لفقيه يكرره لتعليم، ولا حاك طلاقا ولو عن نفسه. (ومن عذر بزوال عقله) بنحو جنون أو إغماء أو برسام أو نشاف (¬5) ولو بضربه نفسه ¬
فطلق لم يقع طلاقه، لحديث: "كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه والمغلوب على عقله"، وحديث: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" (¬1) ولأن الطلاق قول يزيل الملك فاعتبر له العقل كالبيع، وكذا لا يقع طلاق آكل بنج ونحوه لتداو أو غيره نصًّا، لأنه لا لذة فيه، وفرق أحمد بينه وبين السكران فالحقه بالمجنون (¬2)، وكذا لا يقع طلاق مَنْ غَضِبَ حتى أغمي عليه أو اغشي عليه لزوال عقله أشبه المجنون، ويقع الطلاق ممن أفاق من جنون أو إغماء فذكر أنه طلق نصًّا (¬3)؛ لأنه إذا ذكر أنه طلق لم يكن زائل العقل حينه، قال الموفق: "وهذا واللَّه أعلم في من جنونه بذهاب معرفته بالكلية وبطلان حواسه، فأما من كان جنونه لنشافٍ أو كان مُبَرْسَمًا فإن ذلك يسقط حكم تصرفه مع أن معرفته غير ذاهبة بالكلية، فلا يضر ذكره للطلاق إن شاء اللَّه تعالى" انتهى (¬4)، ويقع الطلاق ممن شرب طوعًا مسكرًا أو نحوه مما يحرم استعماله بلا ¬
حاجة إليه، كالحشيشة المسكرة؛ لأن الشيخ تقي الدين ألحقها بالشراب المسكر حتى في الحد، وفرق بينها وبين البنج بأنها تشتهى (¬1) وتطلب (¬2)، ولو خلط في كلامه أو سقط تمييزه بين الأعيان كان صار لا يعرف ثوبه من ثوب غيره، ويؤاخذ بسائر أقواله وبكل فعل يعتبر له العقل كإقرار وقذف وظهار وإيلاء وقتل وسرقة وزنا ونحو ذلك؛ لأن الصحابة جعلوه كالصاحي في الحد بالقذف، ولأنه فرط بإزالة عقله فيما يدخل فيه ضرر على غيره فألزم حكم تفريطه عقوبة له، ولا يقع الطلاق ممن أكره على شرب مسكر ونحوه لم يأثم بسكره بأن لم يتجاوز ما أكره عليه، (أو أكره) على الطلاق ظلما، كضرب وخنق وعصر ساق ونحوه، ولا يرفع ذلك عنه حتى يطلق، (أو هدد) هو أو ولده (من قادر) على ما هدد به بسلطنة أو تغلب، كلص وقاطع طريق، بقتل أو قطع طرف أو ضرب كثير، قال الموفق والشارح: "فإن كان يسيرا في حق [من] (¬3) لا يبالي به فليس بإكراه، وإن كان في ذوي المروءات على وجه يكون إخراقا لصاحبه وغضا له وشهرة في حقه فهو كالضرب الكثير في حق غير" انتهى (¬4)، أو هدد بحبس أو أخذ مال يضره كثيرا وظن إيقاع ما هدد به (فطلق لذلك لم يقع) طلاقه، لحديث عائشة مرفوعا: "لا طلاق ولا عتق في إغلاق" رواه أحمد وغيره (¬5)، والإغلاق: ¬
الإكراه؛ لأن المكره مغلق عليه في أمره مضيق عليه في تصرفه كمن أغلق عليه باب، ولأنه قول أحمل عليه بلا حق أشبه كلمة الكفر، وتجب الإجابة مع التهديد بقتل أو قطع طرف من قادر يغلب على الظن إيقاعه به إن لم يطلق لئلا يلقي بيده إلى التهلكة المنهي عنه، وروى سعيد وأبو عبيد: "أن رجلا على عهد عمر تدلى بحبل يشتار عسلا فأقبلت امرأته فجلست على الحبل فقالت: لتطلقها ثلاثا وإلا قطعت الحبل، فذكرها اللَّه تعالى والإسلام فأبت فطلقها ثلاثا، ثم خرج إلى عمر فذكر ذلك له، فقال له: ارجع إلى أهلك فليس هذا طلاقا" (¬1) وكمكره ظلما من سحر ليطلق، قاله (¬2) الشيخ تقي الدين، واقتصر عليه في الفروع (¬3) قال في "الإنصاف" (¬4): "قلت: بل هو من أعظم الإكراهات"، إلا من شتم أو أهين بالشتم ¬
ليطلق فليس كمكره بل يقع طلاقه، لأن ضرره يسير، ومن قصد إيقاع الطلاق وقد أخره عليه دون دفع الإكراه وقع طلاقه، أو أكره على طلاق معينة فطلق غيرها، أو أكره على طلقة فطلق أكثر وقع طلاقه؛ لأنه غير مكره عليه، ولا يقع طلاق إن أكره على طلاق مبهمة من نسائه فطلق معينة، أو ترك التأويل بلا عذر لعموم الخبر، وينبغي له إذا أكره على الطلاق وطلق أن يتأول خروجا من الخلاف. وإكراه على عتق وعلى يمين باللَّه وعلى ظهار كإكراه على طلاق فلا يؤاخذ بشيء منها في حال لا يؤاخذ فيها بالطلاق، ولا يقال: لو كان الوعيد إكراها لكنا مكرهين على العبادات فلا ثواب، لأن أصحابنا قالوا: يجوز أن يقال: إننا مكرهون عليها والثواب بفضله لا مستحقا عليه عندنا، ثم العبادات تفعل للرغبة ذكره في "الانتصار" (¬1)، ويقع الطلاق في النكاح المختلف في صحته كالنكاح بولاية فاسق أو بشهادة فاسقين، أو نكاح الأخت في عدة أختها ونحو ذلك؛ لأن الطلاق إزالة ملك بني على التغليب والسراية فجاز أن ينفذ في العقد الفاسد إذا لم يكن في نفوذه إسقاط لحق الغير، كالعتق ينفذ في الكتابة الفاسدة بالأداء كما ينفذ في الصحيحة، ويكون الطلاق في الفاسد بائنا فلا يستحق عوضا سئل عليه ما لم يحكم بصحته فيكون كالصحيح المتفق عليه، ولا يكون الطلاق في نكاح مختلف فيه بدعيا في حيض فيجوز فيه، لأن الفاسد لا يجوز استدامته كابتدائه ولا يسمى طلاق بدعة، ولا يصح خلع في نكاح فاسد لخلوه عن العوض، لأنه إذا كان الطلاق بائنا بلا عوض فلا يستحق عوضا ببذله؛ لأنه لا مقابل للعوض، ولا يقع طلاق في نكاح باطل إجماعا، كمعتدة وخامسة. ¬
فصل
فصل (ومن صح طلاقه) من بالغ ومميز يعقله (صح توكيله فيه و) صح (توكله) فيه؛ لأن من صح تصرفه في شيء تجوز فيه الوكالة بنفسه صح توكيله وتوكله فيه، ولأن الطلاق إزالة ملك فصح التوكيل والتوكل فيه كالعتق، ولوكيل لم يحد له حد أن يطلق متى شاء كالوكيل في البيع، ولا يطلق وقت بدعة من حيض أو طهر وطئ فيه فإن فعل حرم ولم يقع صححه الناظم (¬1)، وقيل: يحرم ويقع، قدمه في "الرعايتين" و"الحاوي الصغير" (¬2) ذكره في "الإنصاف" (¬3) وجزم بوقوعه في "الإقناع" (¬4)، وليس لوكيل أن يطلق أكثر من طلقة واحدة إلا أن يجعله الموكل له، ولا يملك وكيل بإطلاق موكل تعليق طلاق على شرط لأنه لم يؤذن فيه صريحا ولا عرفا، وإن وكل اثنين لم ينفرد أحدهما بالطلاق إلا بإذن صاحبه. ¬
(ويصح توكيل امرأة في طلاق نفسها) متراخيا كـ (و) كيل (غيرها)، ويبطل برجوع زوج عنه وبما يدل عليه كوطئ، ولا تملك زوجة به أكثر من واحدة إلا أن جعله لها فتملك ما جعله لها لأن الحق له في ذلك، وإن قال لها: طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة أو ثنتين وقعت لأنها مأذونة فيه وفي غيره، وتملك الثلاث إذا قال: طلاقك بيدك؛ لأنه مفرد مضاف فيعم، وإن قال لزوجته: اختاري من ثلاث ما شئت لم يكن لها أن تختار أكثر من ثنتين لأن من للتبعيض.
فصل في سنة الطلاق وبدعته
فصل في سنة الطلاق وبدعته (والسنة) لمن أراد الطلاق (أن يطلقها) أي زوجته (واحدة) رواه البخاري عن علي (¬1) -رضي اللَّه عنه- (في طهر لم يجامعـ) ـها (فيه) -أي الطهر- ثم يدعها فلا يطلقها ثانية حتى تنقضى عدتها من الأولى، إذ المقصود من الطلاق فراقها وقد حصل فراقها بالأولى، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬2) قال ابن مسعود وابن عباس: "طاهرات من غير جماع" (¬3) إلا طلاقا في طهر متعقب في رجعة من طلاق في حيض فهو طلاق بدعة، لحديث ابن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتغيظ فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها ¬
فليطلقها قبل أن يمسها، فتلك العدة التي أمر اللَّه عز وجل أن تطلق لها النساء" رواه الجماعة إلا الترمذي (¬1). (وإن طلق) زوجة (مدخولا بها في حيض) أو نفاس (أو طهر جامع فيه) ولم يستبن حملها (فـ) هو طلاق (بدعه محرم)، أو علقه على أكلها ونحوه مما يعلم وقوعه حالة الحيض والطهر الذي أصابها فيه فهو طلاق بدعة محرم، (ويقع) نصا (¬2)، لحديث ابن عمر، قال نافع: "وكان عبد اللَّه طلقها تطليقة فحسبت من طلاقها وراجعها كما أمره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬3)، ولأنه طلاق من مكلف في محل الطلاق فوقع كطلاق الحامل، (لكن تسن رجعتها) من طلاق البدعة للخبر، وأقل أحوال الأمر ¬
الاستحباب، وليزول (¬1) المعنى الذي حرم الطلاق لأجله، فإن راجعها وجب إمساكها حتى تطهر لحديث: "ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر" (¬2)، فإذا طهرت سن إمساكها حتى تحيض ثانية ثم تطهر، ولو قال لها: إن قدم زيد أو قمت فأنت طالق، فوجد حال حيض طلقت للبدعة ولا إثم، وإن طلق ثلاثا بكلمة حرم نصا ووقعت (¬3)، ويروى ذلك عن عمر (¬4) وعلي (¬5) وابن مسعود (¬6) وابن عباس (¬7) وابن ¬
عمر (¬1)، وعن مالك بن الحارث (¬2) قال: "جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا. فقال: إن عمك عصى اللَّه وأطاع الشيطان، فلم يجعل له مخرجا" (¬3) ووجه ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} إلى قوله تعالى: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} (¬4) ثم قال بعد ذلك: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬5) {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (¬6) ومن جمع الثلاث لم يبق له أمر يحدث ولم يجعل اللَّه له مخرجا ولا من أمره يسرا، وروى النسائي بإسناده عن محمود بن لبيد (¬7) قال: "أخبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن رجلا طلق ثلاث طلقات جميعا، فغضب ثم قال: أيلعب بكتاب اللَّه وأنا بين ¬
أظهركم؟ حتى قام رجل فقال: يا رسول اللَّه! ألا أقتله؟ " (¬1) وفي حديث ابن عمر قال: "قلت: يا رسول اللَّه! أرأيت لو طلقتها ثلاثا؟ ، قال: إذن عصيت وبانت منك امرأتك" (¬2) ولا فرق في ذلك بين ما قبل الدخول أو بعده، روى ذلك عن ابن عباس (¬3)، وأبي هريرة (¬4)، وابن عمر (¬5)، وعبد اللَّه بن عمر (¬6)، وعبد اللَّه بن ¬
مسعود (¬1)، وأنس (¬2)، وهو قول أكثر أهل العلم من التابعين والأئمة من بعدهم (¬3)، وكذا لو طلق ثلاثا بكلمات في طهر لم يصبها فيه، أو في أطهار قبل رجعة حرم ذلك نصا (¬4) لما تقدم، لا إن طلق اثنتين فلا يحرم لأنهما لا يمنعان من رجعة فلم يسد المخرج على نفسه، لكنه فوت على نفسه طلقة جعلها اللَّه له من غير فائدة تحصل له بها فكان مكروها كتضييع المال، قاله في "الشرح" (¬5)، ولا بدعة في الثلاث بعد رجعة أو عقد، كإن طلقها طلقة ثم راجعها أو عقد عليها ثم طلقها أخرى ثم واجعها أو عقد عليها ثم طلقها الثالثة. (ولا سنة ولا بدعة) لا في زمن ولا عدد (لـ) زوجة (مستبين حملها و) لا لزوجة (صغيرة أو آيسة) لأنها لا تعتد بالأقراء فلا تختلف عدتها، (و) [لا] (¬6) لزوجة (غير مدخول بها)، لأنها لا عدة لها فتنضر بتطويلها، فلو قال الزوج لإحداهن: أنت طالق للسنة أو للبدعة طلقت في الحال؛ لأن طلاقها لا يتصف بذلك فتلغو الصفة ¬
ويبقى الطلاق بدون الصفة فيقع في الحال، أو قال لإحداهن: أنت طالق للسنة طلقة وللبدعة طلقة وقعتا في الحال لما سبق، ويدين في غير آيسة إذا قال: أردت إذا صارت من أهل السنة أو البدعة لادعائه محتملا، ويقبل ذلك منه حكما لأنه فسر كلامه بما يحتمله وهو أعلم بنيته، وإن قاله لزوجة -لها سنة وبدعة وهي المدخول بها غير الحامل ذات الحيض- فواحدة تقع في الحال، لأنها لا تخلو من أحد الحالين فتقع المعلقة بها وتقع الأخرى في ضد حالها إذن، لأنها معلقة على ضد تلك الحال، أو قال لها: أنت طالق للسنة فقط، في طهر لم يطأها فيه وقع في الحال لوصفه الطلقة بصفتها فوقعت في الحال، أو قاله في حيض طلقت إذا طهرت لوجود الصفة، وفي طهر وطئ فيه طلقت إذا طهرت من الحيضة المستقبلة لما سبق.
فصل
فصل وإن قال: أنت طالق أحسن الطلاق، أو أجمله أو أقربه أو أعدله أو أكمله أو أفضله ونحو ذلك، كالسنة (¬1)، فإن كانت في طهر لم يصبها فيه وقع في الحال، وإلا وقع إذا صارت من أهل السنة والحسن والكمال والفضل لأنه في ذلك الوقت مطابق للشرع موافق للسنة. وأنت طالق أبشع الطلاق أو أقبحه أو أفحشه أو أردأه أو أنتنه ونحو ذلك كالبدع، فإن كانت حائضا أو في طهر وطيء فيه وقع في الحال، وإلا فإذا صارت في زمن البدعة؛ لأن حسن الأفعال وقبحها إنما هو جهة الشرع، فما حسنه فهو حسن وما قبحه فهو قبيح (¬2)، وإلا فالطلاق في نفسه في الزمانين واحد، إلا أن ينوي أحسن أحوالك أو أقبحها: أن تكوني مطلقة فيقع في الحال. وإن قال لزوجته: أنت طالق طلقة حسنة قبيحة، أو طالق في الحال للسنة وهى حائض، أو في طهر وطئ فيه، أو أنت طالق في الحال للبدعة في طهر لم يطأها فيه طلقت في الحال إلغاء لقوله للسنة والبدعة. ويباح خلع وطلاق بسؤال الزوجة ذلك على عوض زمن بدعة؛ لأن المنع منه لحق المرأة، فإذا رضيت بإسقاط حقها زال المنع. ¬
فصل في صريح الطلاق وكنايته
فصل في صريح الطلاق وكنايته فالصريح في الطلاق وغيره: ما لا يحتمل غيره بحسب الوضع العرفي من كل شيء وضع له اللفظ، والكناية: ما يحتمل غيره ويدل على معنى الصريح. (ويقع) الطلاق ممن أتى (بصريح) غير حاك ونحوه (مطلقا) ولو كان هازلا أو لاعبا، قال ابن المنذر: "أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن هزل الطلاق وجده سواء". (¬1) فيقع باطنا وظاهرا، لحديث أبي هريرة مرفوعا: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة"، راوه الخمسة إلا النسائي (¬2)، وكان فتح تاء أنت لأنه واجهها بالإشارة فسقط حكم اللفظ، أو كأن لم ينو الطلاق؛ لأن إيجاد (¬3) هذا اللفظ من العاقل دليل إرادته، والنية لا تشترط للصريح لعدم احتمال غيره (¬4). وإن أراد أن يقول: طاهرا ونحوه فسبق لسانه بطالق، أو أراد أن يقول: طلبتك فسبق لسانه بطلقتك دين ولم يقبل حكما، أو قال: طالقا وأراد من وثاق، أو من زوج كان قبله، أو من نكاح سبق هذا النكاح وادعى ذلك، أو قال: أنت طالق وقال: أردت إن قمت فتركت الشرط، أو قال: أنت طالق إن قمت، ثم قال: وأردت وقعدت فتركته ولم أرد طلاقا دين فيما بينه وبين اللَّه؛ لأنه أعلم بنيته ولم يقبل منه ذلك حكما؛ لأنه خلاف الظاهر عرفا، فتبعد إرادته كما لو أقر بعشرة ثم قال: أردت ¬
زيوفا (¬1). ومن قيل له: أطلقت امرأتك؟ أو قيل له: امرأتك طالق؟ فقال: نعم. وأراد الكذب طلقت وإن لم ينو الطلاق؛ لأن نعم صريح في الجواب، والجواب الصريح بلفظ الصريح صريح، إذ لو قيل له: ألزيد عليك ألف؟ فقال: نعم، بيان إقرارا. ولو قيل له: أخليتها؟ ونحوه من الكنايات فقال: نعم فكناية إن نوى الطلاق وقع وإلا فلا، أو قيل له: ألك امرأة؟ فقال: لا وأراد الكذب لم تطلق؛ لأنه كناية تفتقر إلى النية ولم توجد مع إرادة الكذب، وكذا إن نوى ليس لي امرأة تعفني وتخدمني ونحوه، وإني كمن لا امرأة له ولم ينو شيئا، فإن نوى الطلاق وقع. وإن قيل لعالم بالنحو: ألم تطلق امرأتك؟ فقال: نعم لم تطلق؛ لأنه إثبات لنفي الطلاق، وتطلق امرأة غير النحوي لأنه لا يفرق بينهما في الجواب، وإن قال العالم بالنحو أو في غيره لقوله: ألم تطلق امرأتك؟ : بلى طلقت لأنه نفي، ونفي النفي إثبات فكأنه قال: طلقتها. ومن قامت عليه بينة فأقر بوقوع طلاق ثلاث لتقدم يمين منه توهم وقوع الطلاق عليه فيها ونحوه ثم استفتى فأفتي أنه لا شيء عليه لم يؤاخذ بإقراره لمعرفة مستنده في إقراره بوقوع الطلاق ويقبل قوله، قال الشيخ تقي الدين: "بيمينه أن مستنده في إقراره بذلك إن كان ممن يجهله مثله" (¬2). ¬
وإن أخرج زوجته من دارها أو لطمها أو أطعمها أو ألبسها ونحوه وقال: هذا طلاقك طلقت وكان صريحا نصا (¬1) فلو فسره بمحتمل كإن نوى أن هذا سبب طلاقك في زمن بعد هذا الوقت قبل حكما لعدم ما يمنع منه لاحتماله. من كتب صريحا طلاق امرأته بما يبين وقع وإن لم ينوه؛ لأن الكتابة صريحة فيه، لأنها حروف يفهم منها المعنى، فإذا أتى بالطلاق وفهم منها وقع كاللفظ، ولقيام الكتابة مقام قول الكاتب، ولو قال كاتب الطلاق: لم أود إلا تجويد خصي، أو غم أهلي قبل؛ لأنه أعلم بنيته وقد نوى محتملا غير الطلاق أشبه ما لو نوى باللفظ غير الإيقاع، وإذا أراد غم أهله بتوهم الطلاق دون حقيقته لا يكون ناويا للطلاق. ويقع الطلاق بإشارة مفهومة من أخرس لقيامها مقام نطقه، فلو لم يفهمها إلا بعض [الناس] (¬2) فهي كناية بالنسبة إليه، وتأويله مع صريح إشارة مفهومة كتأويل غير أخرس مع نطق بصريح طلاق، وعلم مما تقدم أن الطلاق لا يقع إلا بلفظ وكناية أو إشارة وكتابة لأخرس بما يبين طلاق كناطق وأولى، فأما القادر على الكلام فلا يصح طلاقه بإشارة ولو كانت مفهومة لقدرته على النطق. وصريح الطلاق بلسان العجمي بهشتم (¬3) -بكسر الموحدة والهاء وسكون الشين المعجمة وفتح التاء المثناة فوق-؛ لأنها في لسانهم موضوعة للطلاق يستعملونها فيه أشبه لفظ الطلاق بالعربية، ولو لم تكن صريحة في لسانهم لم يكن فيه صريح في ¬
الطلاق، ولا يضر كونها بمعنى خليتك، فإن طلقتك كذلك إلا أنه لما كان موضوعا ومستعملا فيه كان صريحا، فمن قال (¬1) عارفا معناه وقع ما نواه من طلقة وأكثر فإن لم ينو شيئا فواحدة كصريحه بالعربية، فإن زاد بسيار وقع ثلاثا. وإن أتى به وبصريح الطلاق من لا يعرف معناه لم يقع عليه شيء كأنه لم يرد بلفظه معناه لعدم علمه. (و) يقع ممن أتى (بكنايته مع النية) وكنايته (¬2) نوعان: - ظاهرة: وهي الألفاظ الموضوعة للبينونة لأن معنى الطلاق فيها أظهر. وخفية: وهي الألفاظ الموضوعة لطلقة واحدة ما لم ينو أكثر. فالظاهرة خمسة عشر: أنت خلية، وبرية، وبائن، وبتة، وبتلة، وأنت حرة، وأنت الحرج -بفتح الحاء والراء- أي الإثم، وحبلك على غاربك، وتزوجى من شئت، وحللت للأزواج، ولا سبيل لي عليك، أو لا سلطان لي عليك، وأعتقتك، وغطي شعرك، وتقنعى. والخفية عشرون: اخرجى، واذهبي، وذوقي، وتجرعي، وخليتك، وأنت مخلاة، وأنت واحدة، ولست لي بامرأة، أو اعتدي، واستبرئي، واعتزلي، والحقي بأهلك، ولا حاجة لي فيك، وما بقي شيء، وأغناك اللَّه، وإن اللَّه قد طلقك، واللَّه قد أراحك منى، وجرى القلم، ولفظ فراق وسراح وما تصرف منهما غير ما استثني من لفظ الصريح. ولا يقع الطلاق بكناية ولو ظاهرة إلا مع النية لقصور رتبتها عن الصريح فوقف عملها ¬
على النية تقوية لها لتلحقه فيـ[العمل] (¬1)، ولاحتمالها غير معنى الطلاق فلا تتعين له بدون نيته، وتكون مقارنة للفظ، فإن وجدت في ابتدائه وعزبت عنه في باقيه وقع الطلاق اكتفاء بها في أوله كسائر ما تعتبر له النية من صلاة وغيرها. ولا يشترط لكناية نية طلاق حال خصومة أو غضب أو سؤال طلاقها اكتفاء بدلالة الحال، فلو لم يرده أو أراد غيره إذن دين فيما بينه وبين اللَّه ولم يقبل حكما لتأثير دلالة الحال في الحكم، كما يحمل الكلام الواحد على المدح تارة والذم أخرى بالقرائن، وكذا لو قال على خصومة: ليست أمي بزانية كان تعريضا بالقذف لمخاصمه، وفي غير خصومة يكون تنزيها لأمه عن الزنا، فتقوم دلالة الحال مقام القول فيه، فلا يقبل منه ما يخالفه لأنه خلاف الظاهر، ويقع بكناية ظاهرة ثلاث طلقات وإن نوى واحدة؛ لأنه قول علماء الصحابة منهم ابن عباس وأبو هريرة وعائشة (¬2)، وكان أحمد يكره الفتيا في الكناية الظاهرة مع ميله إلى أنها ثلاث (¬3)، ويقع بكناية خفية طلقة رجعية في مدخول بها؛ لأن مقتضاه الترك كصريح الطلاق دون البينونة، فإن نوى أكثر من واحدة وقع؛ لأنه لفظ لا ينافي العدد فوجب وقوع ما نواه به. وقوله: كلي واشربي، واقعدي وقومي، وقربي، وبارك اللَّه عليك، وأنت مليحة ¬
أو قبيحة، ونحوه لغو لا يقع به طلاق وإن نواه؛ لأنه لا يحتمل الطلاق. (وصريحه) -أي الطلاق- (لفظ طلاق) أي المصدر فيقع بقوله: أنت الطلاق ونحوه (وما تصرف منه) -أي الطلاق- كطالق ومطلقة وطلقتك، (غير أمر) كاطلقي (و) غير (مضارع) كتطلقين (و) غير (مطلقة -بكسر اللام-) اسم فاعل فلفظ الإطلاق وما تصرف منه نحو: أطلقتك ليس بصريح، فيقع الطلاق من مصرح ولو كان هازلا أو لاعبا كما تقدم. (وإن قال) لزوجته: (أنت علي حرام أو كظهر أمي) أو أختي ونحوه، (أو ما أحل اللَّه علي حرام فهو ظهلر ولو نوى) به (طلاقا)؛ لأنه صريح في تحريمها، وقوله: علي حرام، أو يلزمه مني الحرام، والحرام لازم لي لغو مع نية أو قرينة ظهار كانت علي حرام، وإن قاله لمحرمة بحيض ونحوه ونوى أنها محرمة به فلغو، وإن قال: ما أحل اللَّه علي حرام أعني به الطلاق وقع ثلاثا نصا (¬1)، وأعني به طلاقا وقع واحدة نصا (¬2)، أما في الأولى فإن أل للاستغراق أو العهد، ولا معهود فيحمل على الاستغراق فيتناول الطلاق كله بخلاف الثانية فقد ذكره منكرا فيكون طلاقا واحدا، وكذا قوله: أنت علي حرام أو الحل علي حرام أعني به الطلاق أو أعني به طلاقا بخلاف أنت علي كظهر أمي أعنى به الطلاق فلا يصير طلاقا؛ لأنه لا تصلح ¬
الكناية به عنه ذكره في "الشرح" (¬1) و"المبدع" (¬2). وإن قال: فراشي علي حرام فإن فوى امرأته فظهار، وإن نوى فراشه فيمين نصا (¬3)، فمتى جلس أو نام على فراشه فعليه كفارة يمين لحنثه، فإن لم ينو شيئا فالظاهر أنه يمين. (وإن قال) لزوجته: أنت علي (كالميتة أو الدم وقع ما نواه) من طلاق؛ لأنه يصلح كناية فيه، فإذا اقترنت به النية انصرف إليه، فإن نوى عددا وقع وإلا فواحدة، ومن ظهار كأنت علي حرام، ومن يمين بأن يريد ترك وطئها لا تحريمها ولا طلاقها فتجب فيها الكفارة بالحنث، (ومع عدم نية) شيء من الثلاثة (¬4) فـ (ظهار)؛ لأن معناه أنت علي حرام كالميتة والدم. (وإن قال: حلفت بالطلاق) لا أفعل كذا أو لأفعلنه (وكذب) بأن لم يكن حلف بالطلاق (دين) فيما بينه وبين اللَّه (ولزمه) الطلاق (حكما) مؤاخذة له بإقراره، لأنه ¬
يتعلق به حق آدمي معين فلم يقبل رجوعه عنه كإقراره له بمال ثم يقول: كذبت، وإن قالت امرأته: حلفت بالثلاث أو طلقتني ثلاثا فقال: بل واحدة، أو قالت: علقت طلاقي بقدوم زيد فقال: بل عمرو فقوله لأنه منكر لما تقوله، وهو أعلم بحال نفسه.
فصل
فصل وإن قال لامرأته: أمرك بيدك فكناية ظاهرة تملك بها ثلاثا وإن نوى أقل نصا (¬1) روي عن عثمان (¬2) وعلي (¬3) وابن عمر (¬4) وابن عباس (¬5)؛ لأنه لفظ يقتضي العموم في جميع أمرها، لأنه اسم جنس مضاف فيتناول الطلقات الثلاث، أشبه ما لو قال: طلقي نفسك ما شئت، وإن قال: اختاري نفسك فكناية خفية ليس لها أن ¬
تطلق بها، ولا بقوله: طلقي نفسك أكثر من واحدة. قال أحمد: "هذا قول ابن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وعائشة" (¬1) قالوا: "إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها"، رواه البخاري عنهم بإسناده (¬2)، ولا يكون أحق بها إلا إذا كانت رجعية، ويؤيده قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬3) ولأنها طلقة بلا عوض لم تكمل عدد الطلاق بعد الدخول أشبه ما لو طلقها هو واحدة، ولها أن تطلق ¬
نفسها متى شاءت ما لم يحد لها حدا فلا تتجاوزه، أو يفسخ ما جعله لها أو يطأها لدلالته على رجوعه نصا (¬1) أو ترد هي فتبطل الوكالة كسائر الوكالات، إلا قوله: اختاري نفسك فيختص بالمجلس ما لم يشتغلا بقاطع نصا (¬2)، روي عن عمر وعثمان (¬3) وابن مسعود (¬4) وجابر (¬5)، فإن قام أحدهما من المجلس أو تشاغلا بقاطع قبل اختيارها كأن انتقلا من كلام إلى غيره أو تشاغلا بصلاة بطل اختيارها، وكذا إن كان أحدهما قائما فركب أو مشى بخلاف ما لو قعد، وإن كانت في صلاة فأتمتها لم يبطل خيارها. وإن أكلت يسيرا أو سبحت يسرا أو قالت: بسم اللَّه أو أدع إلي شهودا أشهدهم على ذلك لم يبطل خيارها. ولا يقع طلاق بقولها: اخترت بنية الطلاق حتى تقول: اخترت نفسي أو أبوي أو ¬
الأزواج، فإن قالت: اخترت زوجي لم يقع شيء نصا (¬1)، ومتى اختلفا في نية فقول موقع الطلاق؛ لأنها لا تعلم إلا من جهته، وإن اختلافا في رجوع عن جعل طلاقها إليها ونحوه فالقول قول زوج؛ لأنهما اختلفا فيما يختص به ولو كان اختلافهما بعد إيقاع طلاق، ونص أحمد في رواية أبي الحارث (¬2): "أنه لا يقبل بعده إلا ببينة تشهد أنه كان رجع قبل" (¬3). قال المنقح: "وهو أظهر، وجزم به الشيخ تقي الدين" (¬4)، وكذا دعوى عتق رقيق وكل في بيعه بعد أن باعه الوكيل ونحو ذلك. وقوله لزوجته: وهبتك لأهلك أو نفسك ونحوه فمع قبول تقع طلقة رجعية وإلا فلغو. ومن طلق في قلبه لم يقع طلاقه لما تقدم، وإن تلفظ به أو حرك لسانه وقع ولو لم يسمعه في ظاهر نصه، قال في رواية ابن هانئ: "إذا طلق في نفسه لا يلزمه ما لم يلفظ أو يحرك به لسانه". (¬5) بخلاف قراءة في صلاة وذكر يجب فيها فلا يجزئه إن لم يسمع يه نفسه، قال في "الفروع" (¬6): "ويتوجه كقراءة في صلاة". يعني أنه لا يقع طلاقه إذا حرك به لسانه إلا إذا تلفظ به بحيث يسمع نفسه إن لم يكن مانع. ¬
فصل فيما يختلف به عدد الطلاق
فصل فيما يختلف به عدد الطلاق (ويملك حر) ثلاث تطليقات (و) يملك (مبعض ثلاث تطليقات)؛ لأنه لا يمكن قسمته في حقه لاقتضاء الحال أن يكون له ثلاثة أرباع الطلاق وليس له ثلاثة أرباع فكمل في حقه، ولأن الأصل إثبات الطلاق الثلاث في حق كل مطلق خولف في كامل الرق وبقي فيما عداه على الأصل، ولو كان الحر والمبعض زوجي أمة. (و) يملك (عبد) ولو طرأ رقه كذمي تزوج ثم لحق بدار حرب فاسترق قبل أن يطلق أو كان معه حرة (ثنتين) ولو مدبرا أو مكاتبا، روي ذلك عن عمر (¬1) وعثمان (¬2) وزيد (¬3) وابن عباس (¬4)؛ لأنه خالص حق الرجل فاعتبر به كعدد المنكوحات، ولحديث الدارقطني عن عائشة مرفوعا: "طلاق العبد اثنتان فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وقرؤ الأمة حيضتان، وتتزوج الحرة على الأمة، ولا تتزوج الأمة على ¬
الحرة" (¬1) فلو علق عبد الطلقات الثلاث بشرط فوجد بعد عتقه وقعت لملكه لها حين الوقوع. وإن قال الزوج لزوجته: أنت الطلاق، أو أنت طلاق، أو يلزمني الطلاق، أو الطلاق لازم لي أو الطلاق علي ولم يذكر المرأة أو علي يمين بالطلاق فصريح لا يحتاج إلى نية، سواء كان منجزا كانت الطلاق ونحوه، أو معلقا بشرط كأنت الطلاق إن دخلت الدار ونحوه، أو محلوفا به كأنت الطلاق لأقومن ونحوه؛ لأنه مستعمل في عرفهم. قال الشاعر (¬2): فأنت الطلاق وأنت الطلاق ... وأنت الطلاق ثلاثا تماما ولا ينافي ذلك كونه مجازا؛ لأنه يتعذر حمله على الحقيقة ولا محمل له يظهر سوى هذا المحمل فتعين فيه، ويقع به واحدة؛ لأن أهل العرف لا يعتقدونه ثلاثا ولا يعلمون أن أل فيه للاستغراق، وينكر أحدهم أن يكون طلاقا ثلاثا، ما لم ينو أكثر فيقع ما نواه، فمن معه عدد من زوجات وقال: علي الطلاق أو يلزمني ونحوه إن فعلت كذا وفعله وثم نية أو سبب يقتضي تعميما أو تخصيصا لبعض نسائه عمل به وإلا وقع بكل واحدة طلقة. وإن قال لزوجته: أنت طالق ونوى ثلاثا فثلاث كنية الثلاث بقوله: أنت طالق طلاقا لأن المصدر يقع على القليل والكثير فقد نوى بلفظه ما يحتمله، وإن أطلق فواحدة لأنها ¬
اليقين كما لو نوى واحدة. وإن قال لها: أنت طالق واحدة، أو طالق واحدة بائنة، أو واحدة بتة، أو واحدة تملكين بها نفسك ولا عوض فواحدة رجعية في مدخول بها، ولو نوى أكثر من واحدة لوصفها بواحدة، والأصل فيها أن تكون رجعية فلا تخرج بوصفها بذلك عن أصلها وإنما كانت بائنا بالعوض لضرورة الافتداء. وإن قال: أنت طالق واحدة ثلاثا، أو طالق ثلاثا واحدة، أو طالق بائنا، أو طالق البتة، أو طالق بلا رجعة فثلاث لتصريحه بالعدد، أو وصفه الطلاق بما يقتضي الإبانة. وإن قال: أنت طالق هكذا وأشار بثلاث أصابع فثلاث، وإن أراد الإصبعين المقبوضتين فثنتان، ويصدق في إرادتهما لاحتماله؛ لأن العدد تارة يكون بقبض الأصابع وتارة يكون ببسطها، والقبض يكون في أول العدد دون البسط، وإن لم يقل هكذا بأن قال: أنت طالق وأشار بثلاث أصابع من غير أن يقول: هكذا وقع واحدة ما لم ينو أكثر. ومن أوقع طلقة ثم قال: جعلتها ثلاثا ولم ينو استئناف طلاق بعدها فواحدة؛ لأنها لا تصير ثلاثا. وإن قال لإحدى زوجتيه: أنت طالق واحدة بل هذه مشيرا للثانية ثلاثا طلقت المخاطبة أولا واحدة والأخرى ثلاثا لإيقاعه بهما كذلك، وإن قال لإحداهما: هذه طالق، لا بل هذه طالق مشيرا إلى كل واحدة منهما طلقتا. وإن قال لزوجته: أنت طالق كل الطلاق أو أكثره أو جميعه أو منتهاه أو غايته أو أقصاه أو عدد الحصى أو القطر ونحوه فثلاث ولو نوى واحدة؛ لأن هذا اللفظ يقتضي
عددا، والطلاق له أقل وأكثر، فأقله واحدة وأكثره ثلاث. وإن قال: أنت طالق كألف ونحوه فلو نوى في صعوبتها كألف دين وقبل حكما لأن لفظه يحتمله. وإن قال: أنت طالق أشد الطلاق أو أغلظه أو أطوله أو أعرضه أو ملء البيت أو ملء الدنيا أو مثل الجبل أو عظمه ونحو ذلك فطلقة إن لم ينو أكثر؛ لأن هذا الوصف لا يقتضي عددا، وتكون رجعية في مدخول بها إن لم تكن مكملة لعدد الطلاق، فإن نوى أكثر وقع ما نواه. وإن قال: أنت طالق من طلقة إلى ثلاث فثنتان؛ لأن ما بعد الغاية لا يدخل، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوأ الْصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} (¬1)، وإن قال: أنت طالق ما بين واحدة وثلاث فواحدة لأنها التي بينهما، وجزء طلقة كهي لأن مبناه على السراية كالعتق فلا يتبعض، فإذا قال لزوجته: أنت طالق نصف أو ثلث أو سدس طلقة فواحدة، أو قال: أنت طالق نصف طلقتين أو ثلث أو سدس أو ثمن طلقتين فواحدة أيضا، وأنت طالق نصفي طلقتين فثنتان؛ لأن نصفي الشيء جميعه فهو كأنت طالق طلقتين؛ أو أنت طالق ثلاثة أنصاف أو أربعة أثلاث أو خمسة أرباع طلقة فثنتان، أو أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقتين فثلاث نصا (¬2)؛ لأن نصف الثنتين واحدة وقد كرره ثلاثا أشبه أنت طالق ثلاثا، وإن قال: أنت طالق نصف طلقة وثلث طلقة وسدس طلقة ونحوه فثلاث لدلالة اللفظ، إذ كل جزء من طلقة غير التي منها الجزء الآخر وإلا لم يجتج إلى ¬
تكرار لفظ طلقة، فيقع من كل واحدة جزء فيكمل. وإن قال لأربع زوجاته: أوقعت بينكن أو عليكن طلقة أو ثنتين أو ثلاثا أو أربعا وقع بكل واحدة منهن طلقة، لاقتضاء اللفظ قسمة ما أوقعه بينهن، وإن قال للأربع: أوقعت بينكن خمس طلقات أو ستا أو سبعا أو ثمانيا، -وكذا إن لم يقل: أوقعت- وقع بكل واحدة منهن ثنتان لما تقدم، وإن قال: تسعا فأكثر أو طلقة وطلقة وطلقة وقع بكلل واحدة منهن ثلاث طلقات؛ لأن العطف اقتضى قسم كل طلقة على حدتها ثم يكمل الكسر قوله طلقتكن ثلاثا. قال في "الشرح" (¬1): "ويستوي في ذلك المدخول بها وغيرها في قياس المذهب، لأن الواو لا تقتضي ترتيبا". وإن قال لزوجته: نصفك ونحوه أو بعضك أو جزء منك طالق طلقت، أو قال: دمك أو حياتك أو يدك أو إصبعك طالق ولها يد أو إصبع طلقت، لإضافته الطلاق إلى جزء ثابت استباحه بعقد النكاح أشبه الجزء الشائع، وإن قال: شعرك أو ظفرك أو سنك أو منيك أو روحك أو حملك أو سمعك أو بصرك أو سوادك أو بياضك طالق لم تطلق، قال أبو بكر (¬2): "لا يختلف قول أحمد أنه لا يقع طلاق وعتق وظهار وحرام بذكر الشعر والظفر والسن والروح وبذلك أقول" انتهى (¬3)، لأن الروح ليست عضوا ولا شيئا يستمتع به أشبهت السمع والبصر، ولأنها تزول عن الجسد في حال سلامة الجسد، وهي حال النوم كما يزول الشعر، ولأن الشعر ونحوه أجزاء تنفصل منها حال السلامة أشبهت الريق والعرق، وعتق في ذلك كطلاق. ¬
فصل فيما تخالف الزوجة المدخول بها غيرها
فصل فيما تخالف الزوجة المدخول بها غيرها تطلق مدخول بها بوطء أو خلوة في عقد صحيح بقول زوجها لها: أنت طالق أنت طالق ثنتين؛ لأن اللفظ للإيقاع فيقتضي الوقوع كما لو لم يتقدمه مثله، إلا أن ينوي بتكراره تأكيدا متصلا أو إفهاما لانصرافه عن الإيقاع بنية ذلك، وغير المدخول بها تبين بالأولى نوى بالثانية الإيقاع أو لا، متصلا أو لا، روي ذلك عن علي وزيد بن ثابت (¬1) وابن مسعود (¬2). فإن لم يتصل بأن قال للمدخول بها: أنت طالق وسكت ما يمكنه كلام فيه ثم أعاده لها طلقت ثانية ولو نوى التأكيد؛ لأنه تابع وشرطه الاتصال كسائر التوابع، وإن قال لمدخول بها: أنت طالق أنت طالق أنت طالق وأكد الأولى بالثالثة لم يقبل للفصل بينهما بالثانية فتقع الثالثة، وإن أكد الأولى بهما قبل لعدم الفصل وتقع واحدة، أو قال: أردت تأكيد ثانية بثالثة قبل لما مر، وإن أطلق التأكيد فلم يعين تأكيد أولى ولا ثانية فواحدة لانصراف ما زاد عليها عن الإيقاع بنية التأكيد. وإن قال لها: أنت طالق وطالق وطالق فثلاث طلقات مدخولا بها كانت أو غيرها؛ لأن الواو تقتضي الجمع بلا ترتيب، ويقبل منه حكما إرادة تأكيد ثانية بثالثة ¬
لمطابقتها لها في لفظها، ولا يقبل منه تأكيد أولى بثانية لعدم مطابقتها لها باقترانها بالعطف دونها، وكذا الفاء فلو قال: أنت طالق فطالق فطالق فتطلق مدخول بها ثلاثا، ويقبل منه حكما تأكيد ثانية بثالثة لا أولى بثانية، وكذا ثم. وإن غاير الحروف فقال: أنت طالق وطالق فطالق، أو أنت طالق ثم طالق فطالق لم يقبل منه إرادة تأكيد لعدم المطابقة في اللفظ. ويقبل حكما تأكيد في قوله: أنت مطلقة أنت مسرحة أنت مفارقة إذا أراد تأكيد الأولى بما بعدها أو الثانية بالثالثة لأنه أعاد اللفظ بمعناه، ولا يقبل منه إرادة التأكيد مع واو أو فاء أو ثم بأن قال: أنت مطلقة وأنت مسرحة وأنت مفارقة، أو أنت مطلقة فمسرحة فمفارقة أو مطلقة ثم مسرحة ثم مفارقة؛ لأن حروف العطف تقتضي المغايرة. وإن أتى بشرط عقب جملة اختص بها كقوله: أنت طالق أنت طالق إن دخلت الدار فتطلق مدخول بها بالأولى في الحال والثانية إذا دخلت الدار، أو أتى باستثناء عقب جملة اختص بها فأنت طالق أنت طالق إلا واحدة يقع اثنتان لاختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة فقد استثنى الكل، أشبه أنت طالق طلقة إلا طلقة، أو أتى بصفة عقب جملة نحو: أنت طالق أنت طالق صائمة اختص بها فتطلق الأولى في الحال والثانية إذا صامت بخلاف معطوف ومعطوف عليه إذا تعقبه بشرط أو استثناء أو صفة، فيعودان للكل، فقوله: أنت طالق ثم أنت طالق إن قدم زيد لا تطلق حتى يقدم فيقع طلقتان إن دخل بها وإلا فواحدة، وكذأ أنت طالق وطالق صائمة فتطلق بصيامها طلقتين.
وإن قال لها: أنت طالق لا بل أنت طالق فواحدة نصا (¬1)؛ لأنه صرح بنفي الأولى ثم أثبته بعد نفيه فالمثبت هو المنفي بعينه وهو الطلقة الأولى فلا يقع به أخرى، وهو قريب من الاستدراك، كأنه نسي أن الطلاق الموقع لا ينفى فاستدرك وأثبته لئلا يتوهم السامع أن الطلاق قد ارتفع بنفيه، فهو إعادة للأول لا استئناف طلاق. وإن قال لها: أنت طالق فطالق، أو ثم طالق، أو بل طالق، أو بل أنت طالق، أو طلقة بل طلقتين، أو طلقة بل طلقة فثنتان؛ لأن حروف العطف تقتضي المغايرة، وبل من حروف العطف إذا كان بعدها مفرد كما هنا؛ لأن اسم الفاعل من المفردات وإن تحمل الضمير، وفي طلقة بل طلقتين الأولى داخلة فيهما. أو قال: طالق طلقة قبل طلقة أو قبلها طلقة ولم يرد في النكاح قبل ذلك أو من زوج قبل ذلك فثنتان، فإن أراد في النكاح ومن زوج قبله فواحدة، ويقبل منه ذلك حكما إن كان وجد نكاح أو زوج قبله. وإن قال: أنت طالق طلقة معها طلقة أو تحتها طلقة أو تحت طلقة أو طالق وطالق فثنتان مدخول بها كانت أو غيرها، لإيقاعه الطلاق بلفظ يقتضي وقوعه طلقتين فوقعتا معا كما لو قال: أنت طالق طلقتين. وإن قال: أنت طالق طالق طالق فطلقة لعدم ما يقتضي المغايرة ما لم ينو أكثر فيقع ما نواه. ومعلق في هذا كمنجز، فلو قال: إن قمت فأنت طالق وطالق وطالق فقامت فثلاث ¬
ولو غير مدخول [بها] (¬1)؛ لأن الواو لمطلق الجمع كما تقدم، وإن قال: إن قمت [فأنت] (¬2) طالق فطالق أو ثم طالق فقامت وقع بها طلقة إن لم يدخل بها؛ لأنها تبين بالأولى فلا تلحقها الثانية، وإن كانت مدخولا [بها] (¬3) فثنتان لوقوع الأولى رجعية وهي يلحقها طلاقه، وإن قصد إفهاما وتأكيدا في مكرر متصل مع جزاء كقوله: إن قمت فأنت طالق إن قمت فأنت طالق يقصد إفهامها أو التأكيد فواحدة لصرفه عن الإيقاع كما سبق في المنجز. ¬
فصل الاستثناء في الطلاق
فصل الاستثناء في الطلاق وهو لغة: من الثني وهو الرجوع [يقال: ثنى] (¬1) رأس البعير إذا عطفه إلى ورائه فكأن المستثني رجع في قوله إلى ما قبله (¬2). واصطلاحا: إخراج بعض الجملة بإلا أو ما قام مقامها غير وسوى وليس وعدا [و] (¬3) خلا وحاشا من متكلم واحد (¬4)، فلا يصح أن يكون من متكلمين. والاستثناء واقع في الكتاب والسنة ولسان العرب (¬5). (ويصح استثناء النصف فأقل)؛ لأنه كلام متصل أبان به أن المستثنى غير مراد بالأول فصح ¬
كما لو أتى بما بعد المستثنى في المستثنى منه، فيصح الاستثناء (من طلقات) كأنت طالق ثلاثا إلا واحدة، (و) من (مطلقات) كنسائه طوالق إلا فلانة، (وشرط) بالبناء للمجهول في الاستثناء (تلفظ واتصال معتاد) لأن غير المتصل لفظ يقتضي رفع ما وقع بالأول، ولا يمكن رفع الطلاق إذا وقع بخلاف المتصل، إذ الاتصال يجعل اللفظ جملة واحدة فلا يقع الطلاق قبل تمامها ولولا ذلك لما صح التعليق، ولو كان الاتصال حكما كانقطاعه عما قبله بتنفس أو سعال أو عطاس بخلاف انقطاعه بكلام معترض أو سكوت طويل. (و) شرط الاستثناء أيضا (نيته قبل تمام مستثنى منه) فإذا قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة لم يعتد بالاستثناء إن لم ينوه قبل قوله ثلاثا، وكذا شرط لاحق لآخر الكلام، كأنت طالق إن قمت فيشترط اتصاله عادة ونية قبل تمام أنت طالق، وكذا عطف مغاير نحو: أنت [طالق] (¬1) أو لا فلا يقع به الطلاق إن اتصل عادة ونواه قبل تمام معطوف عليه، وكذا الاستثناء بالمشيئة ونية العدد حيث يؤثر ذلك؛ لأنها صوارف للفظ عن مقتضاه فوجب مقارنتها لفظا ونية كالاستثناء. (ويصح) استثناء (بقلب من) أزواج (مطلقات) فلو قال من له أربع نسوة: نسائي طوالق، واستثنى واحدة منهن بقلبه لم تطلق؛ لأنه اسم عام يجوز التعبير به عن بعض ما وضع له، واستعمال العام في الخاص كثير، فينصرف اللفظ بنيته إلى ما أراده فقط، و (لا) يصح استثناء بقلب من (طلقات)، فلو قال لزوجته: أنت طالق ثلاثا واستثنى بقلبه إلا واحدة وقعت الثلاث؛ لأن العدد نص فيما يتناوله فلا يرتفع بالنية ما أثبت بنص اللفظ لأنه أقوى منها، وإن نوى بالثلاث اثنتين فقد استعمل في غير ما يصلح له فوقع مقتضى اللفظ ولغت النية، وإن قال [من] (¬2) له أربع نسوة: نسائي الأربع طوالق واستثنى واحدة بقلبه طلقن كلهن لما سبق. ¬
فصل في الطلاق في الماضي والمستقبل
فصل في الطلاق في الماضي والمستقبل إذا قال لامرأته: [أنت] (¬1) طالق أمس أو قبل أن أتزوجك ونوى بذلك وقوعه إذن وقع في الحال لإقراره على نفسه بما هو أغلظ في حقه، [وإلا] (¬2) ينو وقوعه لم يقع؛ لأن الطلاق رفع للاستباحة، ولا يمكن رفعها في الماضي كما لو قال لها: أنت طالق قبل قدوم زيد بيومين فقدم اليوم. ولو مات أو أخرس أو جن قبل العلم بمراده لم يقع طلاقه؛ لأن العصمة ثابتة بيقين فلا تزول مع الشك فيما أراده. وإن قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا قبل قدوم زيد بشهر فلها النفقة إلى أن يبين وقوع الطلاق؛ لأنها محبوسة لأجله فإن قدم قبل مضي الشهر أو معه لم يقع طلاقا لأنه لابد من مضي جزء يقع [فيه] (¬3) الطلاق بعد مضي الشهر، وإن قدم بعد مضي شهر وجزء يتسع لوقوع الطلاق تبين وقوعه وتبين أن وطاه بعد التعليق محرم إن بيان الطلاق بائنا ولها المهر بما نال من فرجها. (و) إن قال لامرأته: (أنت طالق قبل موتي) فإنها حينئذ (تطلق في الحال)، وكذا قبل موتك أو موت زيد؛ لأن ما قبل موته من حين ما عقد الصفة محل للطلاق ولا مقتضى للتأخير، (و) إن قال لها: أنت طالق (بعده) -أي بعد موتي-[أو معه] (¬4) فـ (لا تطلق) لحصول البينونة بالموت فلم يبق نكاح يزيله الطلاق، [وفي هذا الشهر أو اليوم أو السنة تطلق في الحال] (¬5). ¬
فصل
فصل ويستعمل طلاق ونحوه استعمال القسم باللَّه تعالى، ويجعل جواب القسم جوابه في غير المستحيل، فمن قال لامرأته: أنت طالق لأقومن وقام لم تطلق وإلا طلقت، وأنت طالق لا أكلت غدا الرغيف وأكله حنث وإلا فلا، وأنت طالق ما أكلته لم يحنث إن كان صادقا، وأنت طالق لولا أبوك لطلقتك وبيان صادقا لم تطلق وإلا طلقت، وإن علقه بفعل مستحيل عادة وهو ما لا يتصور وجوده وإن وجد خارقا للعادة كقوله: أنت طالق إن صعدت السماء أو شاء الميت أو البهيمة، وأنت طالق إن طرت أولا طرت لم تطلق، أو علقه بفعل مستحيل لذاته كقوله: أنت طالق إن رددت أمس، أو إن جمعت بين الضدين ونحو ذلك لم تطلق حلفه باللَّه عليه؛ لأنه علقه بصفة لم توجد، ولأن ما يقصد تبعيده يعلق بالمحال، كقوله تعالى: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ في سَمِّ الْخِيَاطِ} (¬1)، وإن علقه على نفي المستحيل كقوله: أنت طالق لأصعدن السماء، أو إن لم أصعدها، أو أنت طالق لأطيرن ونحو ذلك وقع في الحال؛ لأنه علقه على عدم فعل المستحيل، وعدمه معلوم في الحال وما بعده، ولأن الحالف على فعل الممتنع كاذب حانث تحقق عدم الممتنع فوجب أن يتحقق الحنث، وعتق وظهار وحرام ونذر ويمين باللَّه تعالى كطلاق (¬2) فيما سبق تفصيله. (و) إذا قال لامرأته: أنت طالق (غدا، أو) أنت طالق (يوم السبت ونحوه) كأنت ¬
طالق في رجب (تطلق بأوله) أي أول يوم السبت، أو غد أو رجب أي بطلوع فجره، لأنه جعله ظرفا للطلاق، فكل جزء منه صالح للوقوع فيه، فإذا وجد ما يكون ظرفا له منها وقع كانت طالق إذا دخلت الدار حيث تطلق بدخول أول جزء منها، (فلو (¬1) قال: أردت الآخر) منها لم يدين و (لم يقبل) منه حكما؛ لأن لفظه لا يحتمله، (و) إن قال: (إذا مضت سنة فأنت طالق) فـ (تطلق بمضي اثني (¬2) عشر شهرا) لقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} (¬3) أي شهور السنة، وتعتبر الشهور بالأهلة تامة كانت أو ناقصة، ويكمل شهر حلف في أثنائه بالعدد ثلاثين يوما، لأن الشهر اسم لما بين الهلالين، (وإن قال): أنت طالق إذا مضت (السنة فـ) تطلق (بانسلاخ) شهر (ذي الحجة) من السنة المطلق فيها لأنه عرفها بلام التعريف العهدية كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (¬4) والسنة المعروفة آخرها ذو الحجة. وأنت طالق إذا مضى شهر فبمضي ثلاثين يوما تطلق لما مر، وإن قال: إذا مضى الشهر فأنت طالق فبانسلاخه تطلق لما سبق. وإن قال: أنت طالق كل يوم طلقة وكان تلفظه بالتعليق نهارا وقع في الحال طلقة ووقعت الثانية في فجر اليوم الثاني إن كان دخل بها، وكذا تقع الثالثة بفجر اليوم ¬
الثالث لما تقدم، وإن قال: أنت طالق في [كل] (¬1) سنة طلقة تقع الأولى في الحال وتقع الثانية في أول المحرم الآتي عقبها، وكذا تقع الثالثة في أول المحرم الآتي بعد ذلك إن كانت في عصمته أو رجعية في العدة ليصادف الطلاق محلا للوقوع. ¬
(فصل) في تعليق الطلاق بالشروط
(فصل) في تعليق الطلاق بالشروط جمع شرط وتقدم معناه (¬1)، والمراد هنا الشرط اللغوي، وهو ترتيب شيء غير حاصل في الحال من طلاق وغيره على شيء حاصل أو غير حاصل بحرف "إن" -بكسر الهمزة وسكون النون- وهي أم أدوات الشرط أو أحد أخواتها. (ومن علق طلاقا ونحوه) كعتق وظهار ونذر (بشرط لم يقع) الطلاق (حتى يوجد) الشرط؛ لأنه زوال ملك بني على التغليب والسراية أشبه العتق، وليس له إبطال التعليق لأن إبطاله رفع له وما وقع لا يرتفع، فإن مات أحدهما قبل وجود الشرط أو استحال وجوده كأن قال: أنت طالق إن قتلت زيدا فمات زيد سقطت اليمين ولا حنث لعدم وجود الصفة، وإن قال: عجلت ما علقته أو أوقعته لم يتعجل لأنه حكم شرعي (¬2) فلم يملك تغييره، (فلو لم يلفظ به) -أي الشرط- (وادعاه) دين لأنه أعلم بنيته، و (لم يقبل) منه ذلك (حكما) لأنه خلاف الظاهر. (ولا يصح) تعليق طلاق (إلا من زوج) يصح تنجيزه منه حين التعليق، فمن قال: إن تزوجت امرأة فهي طالق لم يقع عليه إن تزوج ولو عين في قول أكثر أهل العلم (¬3) ¬
وروي عن ابن عباس (¬1) ورواه الترمذي عن علي (¬2) وجابر بن عبد اللَّه (¬3) لقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (¬4)، وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق فيما لا يملك، ولا طلاق فيما لا يملك"، رواه أحمد وغيره (¬5)، وعن المسور بن مخرمة (¬6) ¬
مرفوعا: "لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك" رواه ابن ماجة (¬1)، ولأنه لو نجز الطلاق إذن لم يقع فكذا تعليقه. ويصح تعليق مع تقدم شرط كإن قمت فأنت طالق، ومع تأخره (بصريح) كأنت طالق إن قمت (و) بـ (كنايته) -أي الطلاق- كأنت مسرحة إن دخلت الدار (مع قصد) الطلاق بالكناية، (ويقطعه) -أي التعليق- (فصل) بين الشرط وجوابه (بتسبيح) ونحوه كتهليل وتحميد وتكبير (و) بـ (سكوت) يمكنه كلام فيه ولو قل، و (لا) يضر فصل بين الشرط وجوابه بـ (كلام منتظم كأنت طالق يا زانية إن قمت) وإن قمت يا زانية فأنت طالق لأنه متصل حكما. (وأدوات الشرط) أي الألفاظ التي يعين بها معناه المستعملة غالبا في طلاق وعتاق -بفتح العين- ست، (نحو إن) -بكسر الهمزة وسكون النون- (ومتى، وإذا) ومن -بفتح الميم- وأي -بفتح الهمزة وتشديد الياء- وكلما، وهي وحدها للتكرار بخلاف متى؛ لأن كلما تعم الأوقات، فهي بمعنى كل وقت، فمعنى كلما قمت قمت: كل وقت تقوم فيه أقوم، وأما متى فهي اسم زمان بمعنى أي وقت، وبمعنى إذا فلا تقتضي مالا يقتضيانه واستعمالها للتكرار في بعض الأحيان لا يمنع استعمالها في غيره، كإذا وأي فإنهما يستعملان في الأمرين، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ¬
آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (¬1)، {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} (¬2)، {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا} (¬3)، وكذا أي وقت وأي زمان فإنهما يستعملان للتكرار، وسائر الحروف يجازي بها، إلا أنها لما كانت تستعمل للتكرار وغيره لا يحمل على التكرار إلا بدليل كذلك، وكل الأدوات المذكورة ومهما وحيثما على التراخي إذا تجردت عن لم أو نية فور أو قرينة، فأما إذا نوى الفورية أو كان هناك قرينة تدل عليها فإنه يقع في الحال ولو تجردت عن لم، فإذا اتصلت بلم صارت على الفور إلا إن فقط فإنها للتراخى نفيا وإثباتا مع عدم نية فور أو قرينة. ¬
فصل في تعليق الطلاق بالحيض والطهر والحمل والولادة
فصل في تعليق الطلاق بالحيض والطهر والحمل والولادة إذا قال لامرأته: إذا حضت فأنت طالق يقع الطلاق في الحال بأول الحيض إن تبين كون الدم حيضا لوجود الصفة، وإلا يكن حيضا كإن نقص عن أقله لم يقع لأن الصفة لم توجد وكذا لو رأت (¬1) دما قبل تمام تسع سنين أو وهي حامل أو آيسة، ويقع الطلاق فيما إذا قال: إذا حضت فأنت طالق بانقطاعه، ولا يعتد بحيضة علق الطلاق فيها بل يعتبر ابتداء الحيضة وانتهاؤها (¬2) بعد التعليق. وإن قال: كلما حضت فأنت طالق طلقت إذا شرعت في الثانية، وكذا تطلق الثالثة إذا شرعت فيها ويحسبان من عدتها ولا تحسب الحيضة الأولى من العدة؛ لأن الطلاق وقع في أولها فالباقي منها بعض حيضة، وبعض الحيضة لا يعتد به فلا بد من ثلاث حيضات بعد ذلك، فتنقضي عدتها بآخر حيضة رابعة وطلاقه في ثانية وثالثة غير بدعي؛ لأنه لا أثر له في تطويل العدة لأنها تحسب بخلافه في الأولى إذ لا تحسب منها كما تقدم، وإن قال: إذا حضت نصف حيضة فأنت طالق، فإذا مضت حيضة مستقرة تبينا وقوعه لنصفها؛ لأنه علقه بالنصف ولا يعرف إلا بوجود الجميع، ومتى ادعت من علق طلاقها بحيضها (¬3) حيضا وأنكر زوجها فقولها بلا يمين؛ لأنها أمينة على نفسها، ولا يقبل قولها في ولادة إن لم يقر بالحمل، فإن أقر به رجح قولها. ¬
وإذا قال لامرأته: إذا طهرت فأنت طالق وهي حائض فإذا انقطع الدم طلقت نصا (¬1) لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬2) أي ينقطع دمهن، وإن لا تكن حائضا حين التعليق فإذا طهرت من حيضة مستقبلة طلقت؛ لأن أدوات الشرط تقتضي فعلا مستقبلا ولا يفهم من الكلام إلا ذلك. وإذا قال لامرأته: إن كنت حاملا فأنت طالق فبانت حاملا زمن حلف وقع الطلاق من زمن الحلف لوجود الصفة وتبين أنها كانت حاملا بأن تلد دون ستة أشهر من حلفه، ويعيش أو لدون أربع سنين ولم توطأ بعد حلفه، وإلا يتبين كونها حاملا حين حلفه بأن تلد لأكثر من أربع سنين من حلفه لم تطلق لعدم وجود الصفة، أو وطئ بعد حلفه وولدت لستة أشهر فأكثر من أول وطئه لم تطلق لإمكان أن يكون الحمل من الوطء بعد الحلف، والأصل العصمة، وإن قال لها: إن لم تكوني حاملا فأنت طالق فبالعكس من التي قبلها، ويحرم وطؤها (¬3) قبل الاستبراء في الصورتين لاحتمال أن يكون الطلاق وقع، وقبل زوال ريبة أو ظهور حمل في الصورة الثانية لاحتمال أن تحمل من الوطء بعد الحلف فيظهر أن الطلاق لم يقع وقد كان وقع فيكون ذريعة إلى إباحة المحرم، وأما في الأولى فيحرم قبل زوال ريبة وبعد ظهور حمل إن كان الطلاق بائنا نصا (¬4) وإلا جاز؛ لأن وطء الرجعية مباح وتحصل به الرجعة، ويحصل استبراء ¬
بحيضة موجودة أو مستقبلة أو ماضية لم يطأ بعدها لأن (¬1) المقصود معرفة براءة رحمها، قال أحمد: "فإن تأخر حيضها أريت النساء من أهل المعرفة، فإن لم يوجد أو خفي عليهن انتظر عليها تسعة أشهر غالب مدة الحمل" (¬2). وإن قال لها: إن حملت أو إذا حملت فأنت طالق ونحوه لم يقع طلاق إلا بحمل متجدد، ولا يطؤها إن كان وطئ في طهر حلفه قبل حيض لاحتمال أن تكون حملت، ولا يطأ أكثر من مرة كل طهر لاحتمال أن تحمل منها إن كان الطلاق بائنا، وإن قال لها: إن كنت حاملا بذكر فأنت طالق طلقة، وبأنثى فثنتين فولدت ذكرين فأكثر فطلقة؛ لأنه جعل الطلقة مع وصف حملها بالذكورة، والطلقتين مع وصفه بالأنوثة، ولم توجد الأنوثة فلم تطلق أكثر من طلقة، وإن ولدت أنثى فأكثر مع ذو فأكثر وقع ثلاث طلقات ثنتان بالأنثى وواحدة بالذكر لوجود شرط التعليقين. وإن قال لها: إن كان حملك ذكرًا فأنت طالق طلقة، وإن كان أنثى فأنت طالق اثنتين فولدتهما لم تطلق، أو قال لها: إن كان ما في بطنك [ذكرا] (¬3) فأنت طالق واحدة، وإن كان أنثى فأنت طالق اثنتين، فولدتهما لم تطلق؛ لأنه جعل الذكر والأنثى خبرا عن الحمل وما في البطن، فيقتضي حصره في أحدهما ولم يتمحض ذكرا ولا أنثى، فلم يقع المعلق لعدم وجود شرطه، وما علق على ولادة يقع بإلقاء ما تصير به أمة أم ولد. ¬
فصل في تعليقه بالطلاق والحلف
فصل في تعليقه بالطلاق والحلف إذا قال لامرأته: إن طلقتك فأنت طالق ثم أوقعه عليها بائنا لم يقع ما علق من طلاق لأنه لم يصادف عصمة، كما لم يقع طلاق معلق على خلع لوجوب تعقب الصفة الموصوف، وإن أوقعه رجعيا وقع ثنتان طلقة بالمباشرة والأخرى بالصفة؛ لأنه جعل تطليقها شرطا لطلاقها وقد وجد الشرط، أو علقه بقيامها ثم بوقوع طلاقها بأن قال: إن قمت فأنت طالق ثم قال لها: إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق فقامت رجعية وقع ثنتان طلقة بقيامها وطلقة بوقوع طلاقه عليها، وإن قال لها: إن طلقتك فأنت طالق ثم قال لها: إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم نجزه رجعيا وقع ثلاث واحدة بالمنجز وثنتان بالتعليق والوقوع، فلو قال: أردت بقولي: إذا طلقتك فأنت طالق إذا طلقتك طلقت بما أوقعت عليك ولم أرد عقد صفة دين لأنه محتمل، ولم يقبل منه حكما لأنه خلاف الظاهر. وإن قال لمدخول بها: كلما طلقتك فأنت طالق ثم قال لها: أنت طالق فثنتان طلقة بالمنجز وأخرى بالتعليق، ولا تطلق أكثر لأن التعليق لم يوجد إلا مرة، وإن قال لها: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم وقع عليها طلاقه بمباشرة أو سبب بأن علقه على شيء فوجد فثلاث؛ لأن الثانية وقعت عليها فتطلق بها الثالثة إن وقعت الأولى والثانية رجعيتين؛ لأن البائن لا يلحقها طلاق. ومن كتب لامرأته: إذا قرأت كتابي فأنت طالق فقرأ عليها وقع الطلاق إن كانت أمية لا تقرأ، لأن هذا هو الذي يراد بقراءتها، وإلا تكن أمية فلا تطلق بقراءة غيرها عليها لأنها لم تقرأه، والأصل استعمال اللفظ في حقيقته ما لم تتعذر، ومن حلف لا يقرأ
كتاب فلان فقرأه في نفسه ولم يحرك شفتيه حنث لانصراف يمينه إلى ما يعرفه الناس إلا أن ينوى حقيقة القراءة فلا يحنث إلا بها. وإذا قال لامرأته: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم علق طلاقها بما فيه حنث على فعل كإن لم أدخل فأنت طلاق، أو أنت طالق لأقومن طلقت في الحال، أو علقه بما فيه منع من فعل كإن قمت فأنت طالق طلقت في الحال، أو علقه بما فيه تصديق خبر كانت طالق لقد قمت، أو إن هذا القول لصدق ونحوه طلقت في الحال، أو علقه بما فيه تكذيب خبر كأنت طالق إن لم يكن هذا القول كذبا طلقت في الحال لوجود الحلف بطلاقها تجوزا، لما فيه من المعنى المقصود بالحلف وهو الحث والمنع والتأكيد، وإن كان في الحقيقة تعليقا إلا أن اللفظ إذا تعذر حمله على الحقيقة حمل على مجازه لقرينة الاستحالة، لا إن علقه بمشيئتها أو مشيئة غيرها أو علقه بحيض أو طهر أو طلوع الشمس أو قدوم الحاج ونحوه، لأنه تعليق محض ليس في معنى الحلف. وإن قال لامرأته: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، أو إن كلمتك فأنت طالق، وأعاده لها مرة أخرى فطلقة لأنه حلف أو كلام، وإن أعاده مرتين فثنتان، وإن أعاده ثلاثا [فثلاث] (¬1) طلقات؛ لأن كل مرة يوجد فيها شرط الطلاق، وينعقد شرط طلقة أخرى ما لم يقصد إفهامها في قوله: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق فلا يقع، بخلاف ما لو أعاده من علقه بالكلام بقصد إفهامها، لأنه لا يخرج بذلك عن كونه كلاما، قال في "الفروع" (¬2): "وأخطأ بعض أصحابنا وقال فيها ¬
كالأولى ذكره في "الفنون" (¬1). وتبين غير مدخول بها إذا أعاده بطلقة، فلا يلحقها ما بعدها، ولم تنعقد يمينه الثانية ولا الثالثة في مسألة الكلام في غير مدخول بها؛ لأنها تبين بشروعه في كلامها فلا يحصل جواب الشرط إلا وهي بائن، بخلاف مسألة الحلف فتنعقد يمينه الثانية؛ لأنها لا تبين إلا بعد انعقادها، فإن تزوجها بعد ثم حلف بطلاقها طلقت لوجود الحنث باليمين المنعقدة في النكاح السابق. ولو قال لامرأتيه: إن حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان وأعاده وقع بكل منهما طلقة لما سبق، وإن لم يدخل بإحداهما فأعاده بعد أن وقع بكل منهما طلقة فلا طلاق لأن الحلف بطلاق البائن غير معتد به. ¬
فصل في تعليقه بالكلام والإذن ونحو ذلك
فصل في تعليقه بالكلام والإذن ونحو ذلك (و) إذا قال لامرأته: (إن كلمتك فأنت طالق فتحققي أو تنحي ونحوه) كاسكتي اتصل ذلك بيمينه أو لا فإنها (تطلق)، وكذا لو سمعها تذكره بسوء فقال: الكاذب عليه لعنة اللَّه حنث نصا (¬1) لأنه كلمها. (وإن) قال لها: إن (بدأتك بالكلام فأنت طالق فقالت) له: (إن بدأتك به) أي بالكلام (فعبدي حر انحلت يمينه) لأنها كلمت أولا فلم يكن كلامه لها يعد ابتداء (وتبقى يمينها)، فإن بدأته بكلام حنثت لوجود الصفة، وإن بدأها بكلام انحلت يمينها لما سبق. وإن علق طلاقها بكلامها لزيد فكلمته فلم يسمع لغفلة أو شغل، أو كلمته وهو مجنون أو سكران أو أصم يسمع لولا المانع، أو كاتبته أو راسلته ولم ينو مشافهتها له بالكلام حنث؛ لأن ذلك كلام، لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} (¬2)، ولأن ظاهر اليمين هجرانها لزيد ولا يحصل مع مواصلته بالكتاب والمراسلة، وإن أرسلت إنسانا يسأل أهل العلم عن مسألة أو حديث فجاء الرسول فسئل المحلوف عليه لم يحنث؛ لأنها لم تقصده بإرسال الرسول، ولا يحنث إن كلمته ميتا أو غائبا أو مغمى عليه أو نائما؛ لأن التكليم فعل يتعدى إلى المكلم فلا يكون إلا في حال يمكنه الاستماع فيها. ¬
(وإن) قال لامرأته: إن (خرجت بغير إذني ونحوه) كبغير علمي (فأنت طالق، ثم أذن لها فخرجت ثم خرجت) ثانيا (بغير إذن) طلقت، (أو أذن لها) في الخروج (ولم تعلم) بإذنه فخرجت (طلقت)؛ لأن الإذن هو الإعلام ولم يعلمها ولا يحنث بخروجها إن أذن لها فيه كلما شاءت نصا (¬1) ما لم يجدد حلفا أو ينهاها. وإن قال لها: إن خرجت إلى غير حمام بغير إذني فأنت طالق فخرجت له ولغيره طلقت؛ لأنه يصدق عليها إن خرجت للحمام. ومتى قال من حلف لا تخرج زوجته إلا بإذنه وخرجت: كنت أذنت في خروجها وأنكرت قبل منه ببينة لا بدونها لوقوع الطلاق ظاهرا؛ لأن الأصل عدم الإذن. ¬
فصل في تعليقه بالمشيئة
فصل في تعليقه بالمشيئة (وإن علقه) -أي الطلاق- (على مشيئتها) فقال: أنت طالق إن شئت، أو إذا شئت، أو متى شئت، أو أنى شئت، فإنها (تطلق بمشيئتها غير مكرهة) ولو كانت كارهة لوجود الصفة، أو كانت مشيئتها بعد تراخ أو بعد رجوع الزوج عن تعليقه بها؛ لأن الطلاق إزالة ملك علق على المشيئة فكان على التراخي كالعتق، والتعليق لا يبطل برجوعه عنه للزومه، وإن قيد المشيئة بوقت كأنت طالق إن شئت اليوم أو الشهر تقيدت به فلا يقع بمشيئتها بعده، ولا يقع إن قالت: شئت إن شئت ولو [شاء، أو] (¬1)، شئت إن (¬2) شاء أبي ولو شاء أبوها؛ لأن المشيئة أمر خفي لا يصح تعليقه على شرط، وكذا شئت إن طلعت الشمس ونحوه نصا (¬3) ونقل ابن المنذر الإجماع عليه (¬4)، لأنه لم يوجد منها مشيئة إنما وجد منها تعليق مشيئتها بشرط وليس تعليقها بذلك مشيئة. (أو) علقه (بمشيئة اثنين) كقوله: أنت طالق إن شاء زيد وعمر، أو أنت [طالق] (¬5) إن شئت و (¬6) شاء أبوك، (فبمشيتئهما) يقع (كذلك)، ولو شاء أحدهما فورا والآخر ¬
متراخيا وقع لوجود مشيئتهما، وإن قال لها: أنت طالق إن شاء زيد فشاء ولو كان مميزا يعقل المشيئة حينها، أو كان أخرس فشاء بإشارة مفهومة وقع الطلاق لصحته من مميز يعقله ومن الأخرس بالإشارة. (وإن علقه على مشيئة اللَّه تعالى) كقوله: أنت طالق إن شاء اللَّه تعالى (تطلق في الحال، وكذا عتق)، فإذا قال لعبده: أنت حر إن شاء اللَّه تعالى يعتق في الحال نصا (¬1)، وذكر قول قتادة "شاء اللَّه الطلاق حين أذن فيه" (¬2)، ولأنه تعليق على ما لا سبيل إلى علمه فبطل كما لو علقه على شيء من المستحيلات، ولأنه إنشاء حكم في محل فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح، ولأنه يقصد بإن شاء اللَّه تأكيد الوقوع. وإن قال لامرأته: أنت طالق إن قمت إن شاء اللَّه، أو أنت طالق إن لم تقومي إن شاء اللَّه، أو قال لأمته مثلا: إن قمت أو إن لم تقومي فأنت حرة إن شاء اللَّه، فإن نوى رد المشيئة إلى الفعل لم يقع الطلاق والعتق بفعل ما حلف على تركه أو بترك ما حلف على فعله؛ لأن الطلاق والعتق [هنا] (¬3) يمين، لأنه تعليق على ما يمكن فعله وتركه، فشمله عموم حديث ابن عمر يرفعه: "من حلف على يمين فقال: إن شاء اللَّه فلا حنث عليه"، رواه الخمسة إلا أبا داود (¬4)، وعن أبي هريرة مرفوعا: "من حلف ¬
باللَّه فقال: إن شاء اللَّه لم يحنث" رواه الترمذي وابن ماجة وقال: فله ثنياه (¬1) فإذا قال لها: أنت طالق لتدخلن الدار إن شاء اللَّه لم تطلق دخلت أو لم تدخل؛ لأنها إن دخلت فقد فعلت المحلوف عليه، وإن لم تدخل علمنا أنه تعالى لم يشأ؛ لأنه لو شاء لوجد، فإن ما شاء اللَّه كان، وما (¬2) لم يشأ لم يكن، وإلا ينو رد المشيئة إلى فعل بأن ¬
لم ينو شيئا أو ردها للطلاق أو العتق وقع كما لو لم يذكر الفعل. (وإن حلف لا يدخل دارا ولا يخرج منها فأدخل) بعض جسده (أو أخرج بعض جسده أو دخل طاق الباب) -أي باب الدار- لم يحنث، (أو) حلف أن (لا يلبس ثوبا من غزلها فلبس ثوبا فيه منه) أي من غزلها لم يحنث؛ لأنه كله ليس من غزلها، (أو) حلف أن (لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه لم يحنث)؛ لأنه لم يشربه كله، أو حلف أن لا يبيع عبده أو أن لا يهبه فباع أو وهب بعضه أو باع بعضه ووهب باقيه لم يحنث؛ لأنه لم يبعه كله ولا وهبه كله، أو حلف لا يسجن فلان على شيء فقامت بينة على الحالف بسبب الحق من قرض أو نحوه دون أن يقولا وهو باق عليه لم يحنث لإمكان صدقه بدفع الحق أو براءته منه، ويحكم عليه بما شهدا عليه به؛ لأن الأصل بقاؤه. وإن حلف لا يشرب ماء هذا النهر فشرب حنث لصرف يمينه إلى البعض لاستحالة شربه جميعه، وكذا من حلف لا يأكل الخبز أو اللحم ولا يشرب الماء واللبن ونحوه من كل ما علق على اسم جنس أو اسم جمع فيحنث بالبعض. وإن حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ منه حنث، أو حلف على امرأة لا يلبس من غزلها فلبس ثوبا فيه منه حنث؛ لأنه لبس من غزلها بخلاف ما لو قال: ثوبا من غزلها وتقدم، وإن قال لامرأته: إن لبست ثوبا أو لم يقل ثوب بل قال: إن لبست فأنت طالق ونوى ثوبا معينا قبل منه حكما؛ لأن لفظه يحتمله وصدقه ممكن سواء بيان حلفه بطلاق أو بغيره. وإن حلف لا بات ببلد أو لا آكل ببلد فبات أو أكل خارج بنيانه لم يحنث؛ لأنه لم يبت أو يأكل فيه، ويحنث إن أكل أو بات بمسجدها؛ لأنه يعد منها ولو كان خارجها
قريبا منها عادة. ولو قال: إن كانت امرأتي في السوق فعبدي حر، وإن كان عبدي في السوق فامرأتي طالق وكانا فيه عتق العبد ولم تطلق المرأة؛ لأن العبد عتق باللفظ الأول فلم يبق له بالسوق عبد. وإن قال لامرأته: أنت طالق إذا رأيت الهلال أو عند رأسه وقع الطلاق إذا رؤي الهلال منها أو من غيرها وقد غربت الشمس، أو تمت العدة بتمام الشهر قبله ثلاثين يوما؛ لأن رؤية الهلال في عرف الشرع العلم بأول النهر، حديث: "إذأ رأيتم (¬1) الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا" (¬2) والمراد رؤية البعض وحصول العلم فانصرف لفظ الحالف إلى عرف الشرع، كقوله: إذا صليت فأنت طالق فإنه ينصرف إلى الصلاة الشرعية لا الدعاء، ولا تطلق برؤية الهلال قبل الغروب، وإن نوى إداركه بحاسة البصر خاصة أو من غيرها أو نوى حقيقة رؤيتها قبل منه حكما؛ لأن لفظه يحتمله فلا تطلق حتى تراه في الثانية أو يرى في الأولى وهو هلال إلى ثالثة ثم يقمر، فلو نوى حقيقة رؤيتها فلم تره حتى أقمر لم يحنث. ومن حلف عن شيء لا يفعله ثم قعله مكرها أو مجنونا أو مغمى عليه أو نائما لم يحنث، وإن فعله ناسيا لحلفه أو جاهلا أنه المحلوف عليه أو الحنث به كمن حلف لا يدخل دار زيد فدخل جاهلا أنها دار زيد، أو حلف لا يبيع ثوب زيد فدفعه زيد لآخر ¬
ليدفعه للحالف فباعه غير عالم حنث في طلاق وعتق فقط، أو عقد اليمين يظن صدق نفسه فبان بخلافه حنث في طلاق وعتق؛ لأن كل منهما معلق بشرط وقد وجد، ولأنه تعلق (¬1) به حق آدمي كإتلاف دون اليمين المكفرة فلا يحنث فيها نصا (¬2) لأنه محض حق للَّه تعالى فيدخل في عموم حديث: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" (¬3)، وإن حلف ¬
على شيء ليفعله فتركه مكرها لم يحنث؛ لأن الترك لا يضاف إليه، أو يتركه ناسيا لم يحنث قطع به في "التنقيح" (¬1) و"المنتهى" (¬2)، ومقتضى كلام جماعة يحنث في طلاق وعتق كما قبلها، وقطع به في "الإقناع" (¬3). ومن يمتنع بيمين الحالف كزوجته وولده وغلامه ونحوهم وقصد بيمينه منعه كهو، فمن حلف على نحو زوجته لا تدخل دار فدخلتها ناسية أو جاهلة ليمينه فعلى ما سبق يحنث في طلاق وعتق فقط، وإن قصد أن لا يخالفه وفعله كرها لم يحنث، وإن حلف على من لا يمتنع بيمينه كأجنبي وذي سلطان حنث بالمخالفة مطلقا. وإن حلف لا يدخل على فلان بيتا، أو لا يكلمه، أو لا يسلم عليه، أو لا يفارقه حتى يقضيه حقه، فدخل بيتا هو فيه ولم يعلم به أو سلم على قوم هو فيهم ولم يعلم به أو قضاه حقه فخرج رديئا أو أحاله به ففارقه ظنا منه أنه قد بر حنث لفعله ما حلف عنه قاصدا له، إلا في السلام إذا سلم عليه، أو سلم على قوم هو فيهم، أو كلمهم ولم يعلم به فلا حنث؛ لأنه لم يقصده بسلامه أو كلامه، وإن علم به فيهم ولم ينوه ¬
بسلام أو كلام ولم يستثنه بقلبه (حنث) (¬1) لأنه سلم عليه عالما به أشبه ما لو سلم عليه منفردا. (و) إن حلف (ليفعلن شيئا) فإنه (لا يبر إلا بفعله)؛ لأن اليمين تناولت فعل الجميع فلم يبر إلا به، فمن حلف ليأكلن الرغيف لم يبر حتى يأكله (كله)، أو حلف ليدخلن الدار لم يبر حتى يدخلها يحملته (ما لم يكن له نية) تخالف ظاهر قوله فلا يحنث إذا فعل البعض، (وإن فعل المحلوف عليه ناسيا أو جاهلا) أنه المحلوف عليه (حنث في طلاق وعتاق) فقط وتقدم. ¬
فصل في التأويل في الحلف
فصل في التأويل في الحلف (وينفع) حالف (غير ظالم) بحلفه (تأول بيمينه)، وهو أن يريد الحالف بلفظه ما يخالف ظاهره، وسواء في ذلك الحلف بالطلاق والعتاق واليمين المكفرة، كالحلف باللَّه تعالى، أو بالظهار، أو النذر، فإن بيان الحالف ظالما كالذي يستحلفه الحاكم عن حق عنده لم ينفعه تأوله، قال في "المبدع" (¬1): "بغير خلاف نعلمه". وكانت يمينه منصرفة إلى ظاهر الذي عنى المستحلف، لقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك" (¬2) وفي لفظ: "اليمين على نية المستحلف" رواه مسلم (¬3). ¬
وإن كان الحالف مظلوما كالذي يستحلفه ظالم على شيء لو صدقه لظلمه أو ظلم غيره أو نال مسلما منه ضرر فهنا له تأويله، لحديث سويد بن حنظلة (¬1) قال: "خرجنا نريد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ومعنا وائل بن حجر (¬2)، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، فحلفت أنا أنه أخي فخلى بسبيله، فأتينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكرنا له ذلك فقال: كنت [أبرهم] (¬3) وأصدقهم، المسلم أخو المسلم" رواه أبو داود (¬4)، وقال ¬
رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن في المعارض مندوحة عن الكذب" رواه الترمذي (¬1)، قال محمد ابن سيرين (¬2): "الكلام أوسع من أن يكذب ظريف بذلك" (¬3) أي الكيس الفطن، فإنه يفطن للتأويل فلا حاجة إلى الكذب. وكذا إن لم يكن الحالف ظالما أو مظلوما ولو كان التأويل بلا حاجة إليه؛ لأنه عليه السلام كان يمزح (¬4) ولا يقول إلا حقا، ومزاحه أن يوهم السامع بكلامه غير ما عناه وهو التأويل، قال عليه السلام لعجوز: "لا تدخل الجنة عجوز" (¬5). ويقبل منه حكما دعوى التأويل مع قرب الاحتمال ومع توسطه لعدم مخالفة ¬
الظاهر، ولا يقبل منه مع بعده، فمن أمثلة التأويل: أن ينوي باللباس الليل، وبالفراش والبساط الأرض، وبالأوتاد الجبال، وبالسقف والبناء السماء، وبالأخوة أخوة الإسلام، وينوي بقوله: ما ذكرت فلانا أي ما قطعت ذكره وما رأيته ما ضربت رئته، وينوي بنسائه طوالق أي نسائه الأقارب، كبناته وعماته وخالاته ونحوهن، وينوي بجواريي أحرار أي سفنه، وما كاتبت فلاتا ولا عرفته ولا أعلمته ولا سألته حاجة ولا أكلت له دجاجة ولا فروجة ولا في بيتي فرش ولا حصير ولا بارية، ويعني بالمكاتبة مكاتبة الرقيق، وبقوله: ما عرفته أي ما جعلته عريفا، ويعني بإعلامه أي جعله أعلم الشفة أي مشقوقها، وينوي بالحاجة شجرة صغيرة، وبالدجاجة الكبة من الغزل، وبالفروجة الدراعة، وبالفرش صغار الإبل، وبالحصير الحبس، وبالبارية السكين التي يبرأ بها الأقلام. وما أكلت من هذا شيء ولا أخذت منه، ويعني بالمشار إليه الباقي بعد أكله وأخذه فلا حنث في ذلك كله حيث لم يكن ظالما؛ لأن لفظه يحتمل ما نوى. وإن استحلفه ظالم ما لفلان عندك وديعة وهي عنده، وحلف وقصد بما الذي فكأنه قال: الذي لفلان عندي وديعة، أو نوى ماله عندي وديعة غير المطلوبة، أو نوى ماله عندي وديعة في مكان كذا فلا حنث؛ لأنه صادق، وكذا لو استحلفه ظالم بطلاق وعتاق أن لا يفعل ما يجوز فعله، أو أن يفعل ما لا يجوز فعله فحلف بالطلاق ثلاثا ونوى بقوله طالق من عمل تعمله كخياطة وغزل لا طلاق من عصمته ونوى بقوله ثلاثا ثلاثة أيام. أو قال له ظالم: قل زوجتي طالق إن فعلت كذا، أو كل زوجة لي طالق إن فعلت كذا، ونوى زوجته العمياء أو اليهودية أو الحبشية ونحوه، أو نوى بقوله: كل زوجة
تزوجتها بالصين (¬1) ونحوه ولا زوجة للحالف على الصفة المذكورة لم يحنث، وكذا لو نوى إن كنت فعلت كذا بالصين أو نحوه من الأماكن التي لم يفعله فيها لم يحنث، ومن حلف ما فلان هنا وعنى موضعا ليس فيه لم يحنث لأنه صادق، ومن حلف على زوجته لا سرقت مني شيئا فخانته في وديعة لم يحنث إلا إن نوى بالسرقة الخيانة. ولو حلف ليعبدن اللَّه تعالى عبادة ينفرد بها دون جميع الناس في وقت تلبسه بها بر بالطواف وحده أسبوعا بعد أن يخلى له المطاف. ¬
فصل في الشك في الطلاق
فصل في الشك في الطلاق وهو التردد بين أمرين لا مرجح لأحدهما على الآخر (¬1)، وهو هنا مطلق التردد بين وجود المشكوك فيه من طلاق أو عدده أو شرطه وعدمه، فيدخل فيه الظن والوهم. (ومن شك في طلاق أو) شك فيـ (ما علق عليه) الطلاق ولو كان المعلق عليه عدميا، كإن لم يقم زيد يوم كذا فزوجتي طالق، وشك في قيامه في ذلك اليوم بعد مضيه (لم يلزمه) طلاق؛ لأن الأصل بقاء العصمة إلا أن يثبت المزيل، كالمتطهر يشك في الحدث، وسن ترك وطء قبل رجعة إن كان الطلاق رجعيا خروجا من الخلاف، وتمام التورع قطع الشك بها حيث أمكنت، لحديث: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" (¬2)، أو بعقد جديد أمكن لتيقن الحل، وإلا يمكن رجعة ولا عقد بأن كان المشكوك فيه متمما (¬3) لعدد ما يملكه فقطع الشك بفرقة متيقنة بأن يقول: إن لم تكن طلقت فهي طالق لئلا تبقى معلقة، ومتى لم يطلقها لم تحل لغيره. (أو) شك (في عدده) -أي الطلاق الواقع عليه- (رجع إلى اليقين) وهو الأقل لما سبق، فمن قال لامرأته: أنت طالق بعدد ما طلق زيد زوجته وجهل فطلقة؛ لأنها المتيقنة، وإن قال لامرأتيه: إحداكما طالق ونوى معينة منهما طلقت المنوية؛ لأنه ¬
عينها بنيته أشبه ما لو عينها بلفظه، وإلا ينوى معينة أخرجت المطلقة منهما بقرعة نصا (¬1)، روي عن علي (¬2) وابن عباس (¬3)، كمعينة منسية أشبه ما لو عينها. وكقوله: عن طائر إن كان غرابا فحفصة طالق، وإلا يكن غرابا فعمرة طالق، وذهب الطائر وجهل فيقرع بينهما، فتطلق من أخرجتها القرعة؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة المطلقة منهما عينا فهما سواء، والقرعة طريق شرعي لإخراج المجهول (¬4)، وإن ماتتا أو إحداهما وكان نوى المطلقة حلف لورثة الأخرى أنه لم ينوها أو للحية ولم يرث الميتة، وإن كان لم ينو أحدهما أقرع، وإن مات قبل القرعة أقرع ورثته لقيامهم مقامه، ويحرم وطؤه إحداهما ودواعيه قبل القرعة إن كان الطلاق بائنا لوقوع الطلاق بأحدهما يقينا فيحتصل أن يصادفها، وتجب النفقة للزوجتين إلى القرعة؛ لأنهما محبوستان لحقه في حكم الزوجية، ومتى ظهر بعد خروج القرعة لإحديهما أن المطلقة غير المخرجة بأن ذكرها بعد نسيانه ردت المخرجة لزوجها؛ لأنه لم يقع عليها طلاقه فيها بصريح ولا كناية، والقرعة لا حكم لها مع الذكر، فإذا علم المطلقة رجع إلى قوله؛ لأنه لا يعلم إلا منه، ولأنه إنما منع منها بالاشتباه فإذا زال عنها ردت إليه، كما لو علمت مذكاة بعد أن اشتبهت بميتة، ما لم تتزوج فلا ترد إليه ¬
لتعلق حق غيره بها فلا يقبل قول في إبطاله كسائر الحقوق، أو ما لم يحكم بالقرعة، أو يقرع الحاكم بينهن؛ لأنها لا يملك الزوج رفعها كسائر الحكومات. (وإن قال) زوج (لمن) -أي امرأة- (ظنها زوجته) سماها أم لم يسمها: (أنت طالق طلقت زوجته) اعتبارا بالقصد دون الخطاب (لا عكسها) بأن قال لامرأته ظانا أنها أجنبية: أنت طالق، أو قال: تنحي يا مطلقة لم تطلق امرأته، قاله أبو بكر (¬1)، ونصره في "الشرح" (¬2) لأنه لم يردها بذلك، وصححه في "الاختيارات" (¬3) ومشى عليه في "الإقناع" (¬4)، ويخرج على قول ابن حامد (¬5) أنها تطلق، قاله في "المبدع" (¬6)، وجزم به في "المنتهى" (¬7)، واعتمده صاحب ¬
"الغاية" (¬1)، وكذا العتق في جميع ما تقدم. (ومن أوقع بزوجته كلمة) وجهلها (وشك) فيها (هل هي طلاق أو ظهار لم يلزمه شيء)؛ لأن الأصل عدمها ولم يتيقن أحدهما. وإن شك هل ظاهر من زوجته أو حلف باللَّه تعالى لا يطؤها لزمه بحنث أدنى كفارتيهما وهو كفارة اليمين باللَّه تعالى؛ لأنه اليقين، وما زاد مشكوك فيه، والأحوط أعلاها. ¬
(فصل) فى الرجعة
(فصل) فى الرجعة وهي بالفتح: فعل المرتجع مرة واحدة، فلهذا اتفق الناس على فتحها (¬1). وشرعا: إعادة مطلقة طلاقا غير بائن إلى ما كانت عليه قبل الطلاق بغير عقد نكاح (¬2)، وأجمعوا عليها (¬3)، لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬4)، وحديث ابن عمر حين طلق امرأته فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مره فليراجعها" رواه مسلم وغيره (¬5)، و"طلق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حفصة ثم راجعها"، رواه أبو داود وغيره (¬6)، وقال ابن المنذر: "أجمع ¬
أهل العلم على أن الحر إذا طلق دون الثلاث والعبد دون الاثنتين أن لهما الرجعة في العدة" (¬1)، (وإذا طلق حر) ظاهره ولو مميزا يعقله؛ لأن الرجعة إمساك وهو يملكه لا وليه (من) أي زوجة (دخل) بها (أو خلا بها) في نكاح صحيح طلاقا (أقل من ثلاث، أو) طلق (عبد) من دخل أو خلا بها في نكاح صحيح طلقة (واحدة) بـ (لا عوض) من المرأة أو من غيرها (فيهما) -أي في طلاق الحر والعبد- (فله) -أي المطلق حرا كان أو عبدا- رجعتها في عدتها، وظاهره ولو بلا إذن سيد زوج، (ولولي مجنون) طلق بلا عوض دون ما يملكه وهو عاقل ثم جن في عدة (رجعتها في عدتها مطلقا) رضيت أو كرهت لقيام ولي المجنون مقامه خشية الفوات بانقضاء عدتها، فإن لم يكن دخل بها أو خلا بها فلا رجعة، وكذا إذا كان النكاح فاسدا، كبلا ولي أو شهود (¬2) فيقع فيه الطلاق بائنا ولا رجعة. وتحصل الرجعة بلفظ راجعتها ورجعتها وارتجعتها وأمسكتها ونحوه. (وسن لها) -أي الرجعة- (إشهاد) وليس هو من شرطها [لأنها] (¬3) لا تفتقر إلى قبول كسائر حقوق الزوج (¬4)، وكذا لا تفتقر إلى ولي ولا صداق ولا رضى المرأة ولا علمها ¬
إجماعا (¬1)؛ لأن حكم الرجعية حكم الزوجات، والرجعة إمساك لقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (¬2). (وتحصل) الرجعة (بوطئها مطلقا) ولو لم ينو الرجعة بالوطء؛ لأن الطلاق سبب زوال الملك، ومعه خيار، فتصرف المالك بالوطء في مدته يمنع عمله كوطء البائع الأمة المبيعة في مدة الخيار، ولا تحصل رجعتها بإنكار طلاقها لأنه مناف لوجوب حقه، ولا تحصل بمباشرة دون فرج ولا بنظر لفرج، وكذا خلوة لشهوة إلا على قول، قال المنقح: "اختاره الأكثر" انتهى (¬3)، قياسا على إلحاقها بالوطء في تكميل المهر ووجوب العدة، (والرجعية زوجة) يملك زوج منها ما يملكه ممن لم يطلقها، فيصح [أن] (¬4) تلاعن وأن تطلق ويلحقها ظهاره وإيلاؤه، ويرث أحدهما صاحبه إجماعا (¬5)، ويصح خلعها لأنها زوجة يصح طلاقها ونكاحها باق فلا تأمن رجعته فهي زوجة (في غير قسم) صرح به الموفق وغيره (¬6)، ولها أن تتشرف لمطلقها وتتزين كما تزين النساء ¬
لأزواجهن لإباحتها له كما قبل الطلاق، وله السفر والخلوة بها. (وتصح) رجعة (بعد طهر من حيضة ثالثة قبل غسل) نصا (¬1)، وروي عن عمر (¬2) وعلي (¬3) وابن مسعود (¬4)؛ لأن أثر الحيض يمنع الزوج الوطء كما يمنعه الحيض، فيحرم وطؤها قبل الغسل، فوجب أن يمنع ذلك ما يمنعه الحيض ويوجب ما أوجبه الحيض كما قبل انقطاع الدم، وتنقطع بقية الأحكام من التوارث والطلاق واللعان والنفقة وغيرها بانقطاع الدم، وتصح الرجعة قبل وضع ولد متأخر إن كانت حاملا بعدد، وقبل خروج بقية ولد لبقاء العدة. ولا يصح تعليق الرجعة بشرط كقوله: كلما طلقتك فقد راجعتك ولو عكس صح وطلقت كلما راجعها (¬5) (وتعود بعد عدة) بأن اغتسلت من حيضة ثالثة إن كانت من ذوات الحيض وأتمت ثلاثة أشهر أو وضعت كل حملها (بعقد جديد) لأنها بانت منه فلا ¬
تحل إلا بنكاح جديد إجماعا (¬1)، لمفهوم قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬2) أي العدة، وتعود (على ما بقي من طلاقها) ولو كان عودها بعد وطء زوج آخر غير المطلق في قول أكابر الصحابة، منهم عمر (¬3) وعلي (¬4) وأبي (¬5) ومعاذ (¬6) وعمران بن حصين (¬7) وأبو هريرة (¬8) وزيد (¬9) ¬
وعبد اللَّه بن عمر (¬1)؛ ولأن وطء الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال فلا يغير حكم الطلاق كوطء الشبهة والسيد، ولأنه تزويج قبل استيفاء الثلاث أشبه ما لو رجعت إليه قبل وطء الثاني، وإن أشهد مطلق رجعيا على رجعتها في العدة ولم تعلم حتى اعتدت ونكحت من أصابها، ثم جاء وادعى رجعتها قبل انقضاء عدتها وأقام البينة بذلك ردت إليه لثبوت أنها زوجته وأن نكاح الثاني فاسد، ولا يطؤها الأول حتى تعتد إن أصابها الثاني احتياطا للأنساب، وكذا إن صدقه الزوج والزوجة في أنه راجعها في عدتها حيث لا بينة له؛ لأن تصديقهما أبلغ من إقامة البينة، وإن لم يثبت رجعته ببينة وأنكراه رد قوله لتعلق حق الزوج الثاني بها، والنكاح صحيح في حقهما، وإن صدقه الزوج الثاني بانت منه لاعترافه بفساد نكاحه، وعليه مهرها إن كان دخل بها، وإلا فنصفه؛ لأنه لا يصدق عليها في إسقاط حقها عنه، ولا تسلم المرأة إلى المدعي؛ لأن قول الثاني لا يقبل عليها بل في حق نفسه فقط والقول قولها بغير يمين. قال في "الإقناع" (¬2): "وإن صدقته المرأة لم يقبل (¬3) على الزوج الثاني في فسخ نكاحه ولا يلزمها مهر الأول له لأنه استقر لها بالدخول"، لكن متى بانت من الثاني عادت للأول بلا عقد جديد، ولا يطأ حتى تعتد للثاني إن دخل بها، وإن مات الأول قبل بينونتها من الثاني فقال الموفق ومن تبعه: "ينبغي أن ترثه لإقراره بزوجيتها وتصديقها له, وإن ماتت لم يرثها الأول لتعلق حق الثاني بالإرث، وإن مات الثاني لم ترثه هي ¬
لإنكارها صحة نكاحه (¬1)، قال الزركشي: "ولا يمكن الأول من تزوج أختها ولا أربع سواها" (¬2). (ومن ادعت انقضاء عدتها) بولادة أو غيرها (وأمكن) بأن مضى زمن يمكن انقضاؤها فيه (قبلـ) ــت دعواها، لقوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} (¬3) قيل هو: الحيض والحمل (¬4) فلولا قبول قولهن لم يحرجن بكتمانه، ولأنه أمر تختص المرأة بمعرفته فقبل قولها فيه كالنية من الإنسان حيث اعتبرت. وإن لم يمض ما يمكن انقضاء عدتها فيه رد قولها، فإن مضى ما يمكن صدقها فيه ثم ادعته فإن بقيت على دعواها المردودة لم تقبل، وإن ادعت انقضاءها في المدة كلها، أو في ما يمكن منها قبلت، و (لا) تقبل دعواها انقضاء عدتها (في شهر بحيض إلا ببينة) نصا (¬5)، لقول شريح: "إذا ادعت أنها حاضت ثلاث حيض في شهر، وجاءت ببينة من النساء العدول من بطانة أهلها ممن يرضى صدقه وعدله أنها رأت ما يحرم عليها الصلاة من الطمث، وتغتسل عند كل قرء وتصلي فقد انقضت عدتها، وإلا فهي ¬
كاذبة. فقال له علي: قالون -ومعناه بالرومية- أصبت وأحسنت" (¬1)، وإنما لم تصدق في ذلك مع إمكانه لندرته بخلاف ما زاد على الشهر، وأقل زمن تنقضي فيه عدة حرة بأقراء تسعة وعشرون يوما ولحظة لما سبق؛ لأن الأقراء الحيض، وأقله يوم وليلة، وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوما، ويكون طلقها آخر الطهر واللحظة لتحقق انقطاع الدم، وحيث اعتبر الغسل اعتبر له لحظة أيضا. وأقل ما تنقضي فيه عدة أمة خمسة عشر يوما ولحظة، وسواء في ذلك الفاسقة والمرضية والمسلمة والكافرة، لأن (¬2) ما يقبل فيه إخبار الإنسان عن نفسه لا يختلف باختلاف حاله. ومن قالت ابتداء: انقضت عدتي في زمن يمكن فيه فقال زوجها: كنت راجعتك وأنكرته فقولها، أو تداعيا معا فقولها أيضا، ولو صدقه سيد أمة رجعية نصا (¬3)، ومتى رجعت قبل رجوعها، كجحد أحدهما النكاح ثم يعترف به، وإن سبق الزوج فقال: ارتجعتك فقالت: انقضت عدتي قبل رجعتك فقوله لسبق دعواه الرجعة إخبارها بانقضاء عدتها، والأصل بقاؤها، ودعواها ذلك بعد دعوى الزوج الرجعة تقصد به إبطال حقه فلا يقبل منها. ¬
فصل
فصل (وإن طلق حر) زوجته (ثلاثا أو) طلق (عبد اثنتين) ولو عتق قبل انقضاء عدتها (لم تحل له حتى يطأها زوج غيره في نكاح صحيح)، قال ابن عباس: "كان الرجل إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك قوله تعالى: {مرتان} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (¬1) " رواه أبو داود والنسائي (¬2)، وعن عائشة قالت: "جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: كنت عند رفاعة القرظي فطلقني، فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير -بكسر الموحدة من تحت-، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" رواه الجماعة (¬3)، وعن ابن عمر قال: "سئل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا، فيتزوجها آخر، فتغلق الباب، وترخى الستر، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، هل تحل للأول؟ قال: لا، حتى تذوق عسيلته" رواه أحمد والنسائي ¬
وقال: " [لا] (¬1) حتى يجامعها الآخر" (¬2)، وعن عائشة مرفوعا: "العسيلة: هي الجماع (¬3) " في قبل لأن الوطء المعتبر لا يكون في غيره بنكاح صحيح؛ لأن غير الصحيح لا يعتد به كنكاح المحلل والمتعة والشغار، ونكاح السيد إن كانت أمة؛ لأنه ليس بزوج (مع انتشار)، لحديث العسيلة؛ [لأنها] (¬4) لا تكون [إلا] (¬5) مع انتشار، ولو كان الزوج الواطئ مجبوبا (¬6) أو خصيا مع بقاء ذكره، أو نائما أو مغمى عليه وأدخلته في رحمها مع انتشار لوجود (¬7) حقيقة الوطء من زوج أشبه حال إفاقته ووجود خصيتيه، أو كان الزوج الثاني ذميا وهي ذمية لحلها له فيحلها لمطلقها الأول ولو مسلم، (ويكفي) في حلها (تغييب حشفة) أو قدرها من مجبوب الحشفة؛ لأنه ¬
جماع يوجب الغسل ويفسد الحج، أشبه تغييب الذكر، ويكفى في حلها وطء محرم لمرض الزوجة وتضررها بالوطء، ولضيق وقت صلاة، وفي مسجد، وفي حال منع الزوجة نفسها في قبض مهرها ونحوه؛ لأن الحرمة في هذه الصور لا لمعنى فيها لحق اللَّه تعالى (ولو لم ينزل) لما تقدم أن العسيلة هي الجماع، (أو يبلغ عشرا) لعموم: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، أو ظنها أجنبية حين وطئه لوجود حقيقة الوطء من زوج في نكاح صحيح. و(لا) يحلها وطء محرم (في حيض، أو نفاس، أو إحرام، أو صوم فرض، أو ردة)، أو في دبر، أو نكاح باطل أو فاسد؛ لأن التحريم في هذه الصور لمعنى فيها لحق اللَّه تعالى، ولأن النكاح الفاسد لا أثر له في الشرع في الحل فلا يدخل في قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، ولا يكفي في حل المطلقة وطؤها بشبهة أو ملك يمين لما تقدم، وإن كانت أمة فاشتراها مطلقها ثلاثا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره (¬1) للآية، ويطأها للحديث، ولو طلق عبد طلقة ثم عتق قبل ثانية ملك تتمة ثلاث؛ لأنه في حال طلاق الثانية حر فاعتبر حاله إذن، ككافر حر طلق زوجته ثنتين ثم رق فيملك الثالثة وله أن يتزوجها قبل أن تنكح زوجا غيره؛ لأن الطلقتين كانتا غير محرمتين فلا يتغير حكمهما بما طرأ بعدهما، كما لو طلق العبد ثنتين ثم عتق فليس له أن ينكحها حتى تنكح زوجا غيره، لوقوعهما محرمتين. ومن غاب عن مطلقته ثلاثا ثم حضر، فذكرت له أنها نكحت من أصابها وانقضت عدتها، وأمكن ذلك بأن مضى زمن يتسع له -وكذا لو غابت عنه ثم حضرت وذكرت ¬
ذلك- فله نكاحها إذا غلب على ظنه صدقها؛ لأنها مؤتمنة على نفسها وعلى ما أخبرت به عن نفسها، ولا سبيل إلى معرفة ذلك حقيقة إلا من جهتها فوجب الرجوع إليها فيه، كإخبارها بانقضاء عدتها، فإن لم يغلب على ظنه صدقها لم يحل له نكاحها؛ لأن الأصل التحريم ولم يوجد ما ينقل عنه. ولو تزوجت امرأة رجلا وفارقها وادعت إصابته وهو منكرها فقوله في تنصيف مهر إن لم يقر بخلوة، وقولها في حلها لمطلقها ثلاثا، ووجوب العدة عليها وكل ما يلزمها بالوطء، وكذا لو أنكر أصل النكاح، ولمطلقها ثلاثا نكاحها إن غلب على ظنه صدقها. وإن أتت امرأة حاكما وادعت أن زوجها طلقها وانقضت عدتها فله تزويجها إن ظن صدقها ولاسيما إن كان الزوج لا يعرف؛ لأن الإقرار المجهول لا يصح، وأيضا الأصل صدقها ولا منازع، والإقرار المعين إنما يثبت الحق إذا صدق مقر له.
(فصل) في الإيلاء وأحكام المولي
(فصل) في الإيلاء وأحكام المولي وهو أفعال من الألية (¬1) -بتشديد المثناه تحت- قال ابن قتيبة (¬2): " {يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬3): يحلفون، يقال: آليت من امرأتي، أولي إيلاء إذا حلف لا يجامعها" حكاه عنه أحمد (¬4). (والإيلاء حرام)؛ لأنه يمين على ترك واجب فهو كظهار، وكان كل من الإيلاء والظهار طلاقا في الجاهلية. (وهو) -أي الإيلاء- شرعا: (حلف زوج عاقل -يمكنه الوطء- باللَّه) تعالى (أو) بـ (صفة من صفاته) تعالى كالرحمن ورب العالمين (على ترك وطء زوجته) لا أمته أو أجنبية (الممكن) وطؤها (في قبل أبدا أو مطلقا، أو فوق أربعة أشهر) (¬5) مصرحا بها، أو ينويها بأن يحلف أن لا يطأها وينوي فوق أربعة أشهر، وسواء حلف في حال ¬
الرضى أو غيره، والزوجة مدخول بها أو لا نصا (¬1). والأصل فيه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} الآية (¬2) وكان أبي بن كعب وابن عباس يقرآن "يقسمون" مكان {يؤلون} (¬3) قال ابن عباس: "كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئا فأبت أن تعطيه، حلف أن لا يقربها السنة والسنتين والثلاث، فيدعها لا أيما ولا ذات بعل، فلما كان الإسلام جعل اللَّه ذلك للمسلين أربعة أشهر، ونزلت الآية" (¬4)، ويترتب حكم الإيلاء مع خصاء زوج ومع جب بعض ذكره إن بقي منه ما يمكن الجماع (¬5) [به] (¬6)، ومع عارض بزوج أو زوجة يرجى زواله كحبس لا عكسه فلا يثبت حكمه مع عارض لا يرجى زواله بأحدهما كرتق وجب، ويبطله جب ذكره كله بعد إيلائه؛ لأن ما لا يصح معه ابتداء الشيء امتنع مع حدوثه [دوام] (¬7) ذلك الشيء، [ويبطله] (¬8) شلله (¬9) ¬
بعد إيلائه، ومرض لا يرجى برؤه لأنه لا يمكن معه الوطء. ويصح الإيلاء من كل زوج يصح طلاقه ويمكنه الوطء من مسلم، وكافر، وحر، وقن، وبالغ، ومميز عقله، وسكران، وغضبان، ومريض يرجى برؤه، ومن لم يدخل بزوجته، ولا يصح من غير زوج ولا من مجنون ومغمي عليه؛ لأنه لا قصد لهما. (فمتى مضى) على مول (أربعة أشهر من) حين (يمينه ولم يجامع فيها) -أي الأربعة أشهر- (بلا عذر) للمرأة، كصغر وجنون ونشوز وإحرام ونفاس ومرض وحبس وسفر، ولا تضرب له المدة مع شيء من هذه الأعذار؛ لأن المدة تضرب لامتناعه من وطئها، والمنع هنا من قبلها، بخلاف حيضها فيحسب من المدة ولا يقطعها لئلا يؤدي ذلك إلى إسقاط حكم الإيلاء إذ لا يخلو من الحيض شهر غالبا، وإن حدث عذرها في أثناء المدة استؤنفت لزواله ولم يبن على ما مضى؛ لأن ظاهر قوله تعالى: {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} يقتضي أنها متوالية، فإذا انقطعت بحدوث عذرها وجب استئنافها كمدة الصوم في الكفارة، ولا يستأنف المدة إن حدث عذره في أثنائها؛ لأن المانع من جهته، فيحسب عليه زمن عذره فيها كسفر ومرض وإحرام. وإن كان عذر مما يعجز به عن الوطء أمره الحاكم أن يفيء بلسانه فيقول: متى قدرت جامعتك، ثم متى قدر جامع أو طلق لزوال عجزه الذي أخر لأجله، ولا كفارة ولا حنث في الفيئة باللسان؛ لأنه لم يفعل المحلوف عليه بل وعد به، فإن لم يكن له عذر (أمر به) (¬1) -أي بالجماع- أمره به حاكم (فإن أبى أمر بالطلاق، فإن امتنع) من ¬
الطلاق ومن الفيئة (طلق عليه حاكم) طلقة أو ثلاثا أو فسخ؛ لأن الطلاق تدخله النيابة، وقد تعين مستحقه فقام الحاكم فيه مقام الممتنع كأداء الدين، قال في شرح المنتهى (¬1) لمصنفه: "وإن رأى أن يطلق ثلاثا فهي ثلاث؛ لأنه قائم مقام المولي فيقع ما يوقعه من ذلك كالوكيل المطلق" انتهى. وإن قال حاكم: فرقت بينكما ولم ينو طلاقا فهو فسخ لا ينقص به عدد الطلاق. وإن ادعى مول طلبته زوجته بالفيئة بقاء المدة قبل قوله؛ لأن الاختلاف فيه يرجع إلى الاختلاف في وقت حلفه، وهو أعلم به لصدوره من جهته، كما لو اختلفا في أصل الإيلاء، أو ادعى وطأها بعد إيلائه وهي ثيب قبل؛ لأنه أمر خفي تتعذر إقامة البينة عليه غالبا، ولا يعلم إلا من جهته كقول (¬2) المرأة في حيضها، وإن ادعت زوجة مول -ادعى وطئها- بكارة فشهد بها امرأة ثقة قبلت كسائر عيوب النساء تحت الثياب، وإلا يشهد بيكارتها قبل قوله في وطئها، وعليه اليمين في الصور الثلاث؛ لأنه حق آدمي أشبه الدين، ولعموم حديث: "ولكن اليمين على المدعى عليه" (¬3)، وتنحل يمين مول جامع [ولو مع] (¬4) تحريم الجماع، كجماعه في حيض، أو نفاس، أو إحرام، أو صيام فرض من أحدهما؛ لأنه فعل ما حلف على تركه فانحلت يمينه به، (ويجب بوطئه كفارة يمين) لحنثه، (وتارك الوطء ضرارا) ¬
بزوجته (بلا عذر) أو بلا حلف (كمول) في الحكم، ومثله من ظاهر من امرأته ولم يكفر لظهاره؛ لأنه ضرها بترك وطئها في مدة بقدر مدة المولي فلزمه حكمه كما ترك ذلك بحلفه.
(فصل) في الظهار
(فصل) في الظهار مشتق من الظهر، وخص به من بين سائر الأعضاء؛ لأنه موضع الركوب، ولهذا سمي المركوب ظهرا والمرأة مركوبة إذا غشيت (¬1) , فقوله لامرأته: أنت علي كظهر أمي معناه: أنه شبه امرأته بظهر أمه في التحريم، كأنه يشير أن ركوبها للوطء حرام. (والظهار محرم) إجماعا حكاه ابن المنذر (¬2) لقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} (¬3) وقول المنكر والزور من أكبر الكبائر للخبر (¬4)، ومعناه أن الزوجة ليست كالأم في التحريم، لقوله تعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} وقوله: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} (¬5)، ولحديث أوس بن ¬
الصامت (¬1): "حين ظاهر زوجته خولة بنت مالك بن ثعلبة (¬2)، فجاءت إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تشتكيه، فأنزل اللَّه أول سورة المجادلة" رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان (¬3). (وهو) -أي الظهار- (أن يشبه) الرجل (زوجته أو) يشبه (بعضها) -أي بعض زوجته- كيدها وظهرها (بمن) -أي بامرأة- (تحرم عليه)، كأمه وأخته من نسب أو رضاع وحماته وزوجة أبيه، ولو كان تحريمها عليه إلى أمد، كأخت زوجته وخالتها وعمتها، (أو) يشبهها (ببعضها) -أي ببعض من تحرم عليه- (أو) يشبه زوجته (برجل مطلقا) (¬4) كأبيه وزيد، أو بعضو منه نحو قول الزوج لامرأته: أنت أو وجهك أو يدك ¬
أو أذنك كظهر أو كبطن أو كرأس أو كعين أمي أو عمتي أو خالتي أو حماتي أو أخت زوجتي أو عمتها أو خالتها، أو كظهر أو كبطن أو كرأس أو عين أجنبية، أو كظهر أو بطن أو رأس أو عين أبي أو أخي أو أجنبي أو زيد أو رجل، ولا يُديّن إن قال: أردت في الكرامة ونحوها؛ لأن هذه الألفاظ صريحة في الظهار لا تحتمل غيره. وإن قال لها: أنت عليَّ كظهر أمي طالق أو عكسه لزمه الطلاق والظهار لإتيانه بصريحهما، وجزم في "الشرح" (¬1) و"الإقناع" (¬2) بأنه ليس ظهارًا في الثانية إلا أن ينويه. وإن قال لها: أنت عليَّ كأمي أو مثل أمي أو عندي أو مني أو معي كأمى أو مثل أمي وأطلق فلم ينو ظهارًا ولا غيره فهو ظهار؛ لأنه المتبادر من هذه الألفاظ، وإن نوى في الكرامة ونحوها دين وقبل منه حكمًا لاحتماله وهو أعلم بمراده، وإن قال لها: أنت أمي أو كأمي أو مثل أمى ولم يقل علي أو عندي أو مني أو معي فليس بظهار إلا مع نية أو قرينة؛ لأن احتمال هذه الصور لغير الظهار أكثر من احتمال الصور التي قبلها له، وكثرة الاحتمالات توجب اشتراط النية في المحتمل الأقل ليتعين له، [لأنّه] (¬3) يصير كناية فيه، والقرينة تقوم مقام النية. وقوله لها: أنت علي حرام ظهار ولو نوى به طلاقًا أو يمينا نصًّا (¬4)؛ لأنه تحريم أوقعه على امرأته أشبه ما لو شبهها بظهر من تحرم عليه، وحمله على الظهار أولى من ¬
الطلاق؛ لأن الطلاق تبين به المرأة وهذا يحرمها مع بقاء الزوجية، فحمله على أدنى التحريمين أولى، لا إن (¬1) زاد: إن شاء اللَّه، أو سبق بها فقال: إن شاء اللَّه أنت علي حرام فلا يكون ظهارا، كما لو قال: إن شاء اللَّه وشاء زيد. وقوله: أنا مظاهر، أو علي ظهار، أو يلزمني الظهار، أو على الحرام، أو يلزمني الحرام، أو أنا عليك حرام، أو كظهر رجل، أو كظهر أبي مع نية أو قرينة دالة عليه ظهار؛ لأن لفظه يحتمله وقد نواه به، ولأن تحريم نفسه عليها يقتضي تحريم كل منهما على الآخر، ولأن تشبيه نفسه بأبيه يلزم منه تحريمها عليه كما تحرم [على أبيه] (¬2)، وإلا ينو ظهارا ولا قرنية فلغو، كقوله: أمي أو أختي امرأتي أو مثلها، وكقوله: أنت علي كظهر البهيمة ووجهي من وجهك حرام فلغو نصا (¬3). (لا بـ) تشبيه أو تحريم (شعر وسن وظفر وريق ونحوها)، كلبن ودم وروح وسمع وبصر بأن قال: شعرك أو ظفرك. . . الخ كظهر أمي أو علي حرام، فهو لغو كما سبق في الطلاق. (وإن قالته) المرأة (لزوجها) أي نظير ما يصير به مظاهرا لو قاله أو علقت بتزويجه نظير ما يصير به مظاهرا لو قاله (فليس بظهار) لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ [مِنْكُمْ] (¬4) ¬
مِنْ نِسَائِهِمْ} (¬1) فخصهم بذلك، ولأن الظهار قول يوجب تحريما في النكاح اختص به الرجل كالطلاق، ولأن الحل في المرأة حق للزوج فلا تملك إزالته كسائر حقوقه، (وعليها كفارته) -أي الظهار-؛ لأنها أحد الزوجين, وقد أتى بالمنكر من القول والزور في تحريم الآخر عليه أشبهت الزوج، وإنما تجب الكفارة عليها (بوطئها مطاوعة)، وعليها التمكين لزوجها من الوطء قبل التكفير؛ لأنه حق للزوج فلا تمنعه كسائر حقوقه، ولأنه لم يثبت لها حكم الظهار وإنما وجبت الكفارة تغليظا وليس لها ابتداء القبلة والاستمتاع قبل التكفير، وروى الأثرم بإسناده عن النخعي، عن عائشة بنت طلحة (¬2) أنها قالت: "إن تزوجت مصعبا (¬3) فهو علي كظهر أبي، فسألت أهل المدينة فرأوا أن عليها الكفارة" (¬4) وروى سعيد: "أنها استفتت أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
فائدة
وهم يومئذ كثير، فأمروها أن تعتق رقبة وتتزوجه، فتزوجته وأعتقت عبدا" (¬1) ويكره دعاء أحد الزوجين الآخر بما يختص بذي رحم، كأبي وأمي وأخي وأختي، قال أحمد: "لا يعجبني" (¬2). فائدة: إذا كفرت المرأة بالصيام وجامعها زوجها ليلا فهل يقطع ذلك تتابعها أم لا؟ أفتى شيخنا -أيده اللَّه تعالى- الشيخ محمد بن عبد اللَّه بن فيروز الأحسائي (¬3) أنه لا يقطعه، وقد سألته عن ذلك بما نصه: -ما قول سيدي أدام اللَّه تعالى نفعه ولا فل جمعه- في امرأة ظاهرت من زوجها إذا قلنا: يلزمها الكفارة وليس لها منع زوجها من الوطء قبلها، فهل إذا كفرت بالصيام وجامعها ليلا انقطع التتابع أم لا؟ وهل كان الوطء يقطع التتابع؟ ومنعها (¬4) زوجها من الصيام لحقه تنتقل إلى الإطعام أم ليس له منعها من الصيام؟ أوضحوا لنا الجواب أعظم اللَّه لكم الثواب، فأجاب أدام اللَّه إفادته بما نصه. . . بسم اللَّه الرحمن الرحيم، الحمد للَّه الذي فتح لمن أناخ ركاب التصريح في موج فضله أبواب المشكلات، والهادي إلى منهج الحق أفضل الصلاة، أما بعد: فأقول في الجواب بعد السؤال الهداية إلى صوب الصواب: لا ينقطع التتابع والحالة ما ذكر، لأنه ليس بظهار، وإنما ثبتت الكفارة للخبر، صرح بذلك بعض ¬
المحققين من المتأخرين، وليس لها الانتقال إلى الإطعام بسبب منعه لها لوجوبه، كالواجب بأصل الشرع، كما ذكروا في الأيمان أنه ليس له منع عبده من الصوم والعبد والمرأة في ذلك سواء واللَّه تعالى أعلم. أملاه الفقير إلى اللَّه محمد بن فيروز سامحه اللَّه تعالى انتهى.
فصل
فصل (ويصح) الظهار (ممن) -أي من كل زوج- (يصح طلاقه) مسلما كان أو كافرا، حرا أو عبدا، كبيرا أو صغيرا أو مميزا يعقله؛ لأنه تحريم كالطلاق فجرى مجراه وصح ممن يصح منه، ويكفر كافر بعتق أو إطعام؛ لأن الصوم لا يصح منه. ويصح من كل زوجة مسلمة كانت أو ذمية حرة أو أمة وإن لم يكن وطئها، لقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ. .} الآية (¬1) فخصهن بالظهار، ولأنه لفظ يتعلق به تحريم الزوجة فاختص بها كالطلاق، ولأنه كان طلاقا في الجاهلية فنقل حكمه وبقي محله، ولا يصح ظهار من أمته أو أم ولده، ويكفر سيد قال لأمته أو أم ولده: أنت علي كظهر أمي، أو أنت علي حرام كيمين بحنث، قال نافع: "حرم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جاريته، فأمره اللَّه أن يكفر يمينه" (¬2). وإن نجز الظهار لأجنبية بأن قال لها: أنت علي كظهر أمي صح ظهارا، رواه أحمد عن عمر (¬3) , وكاليمين باللَّه تعالى، والآية خرجت مخرج الغالب، أو علقه بتزويجها بأن قال لها: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي، أو قال: النساء علي كظهر ¬
أمي، أو كل امرأة أتزوجها فهي علي كظهر أمي، ذكره في "الشرح" (¬1). أو قال لأجنبية: أنت علي حرام ونوى أبدا صح ذلك ظهارا؛ لأنه ظهار في الزوجة فكذا الأجنبية، فإن تزوجها لم يطأها حتى يكفر، ولا يكون قوله لأجنبية: أنت علي حرام ظهارا إن أطلق فلم ينو أبدا، أو نوى أنها حرام عليه إذن لأنه صادق في، حرمتها عليه قبل عقد التزويج ويقبل منه حكما لأنه الظاهر. ويصح الظهار منجزا كما تقدم، ومعلقا كإن قمت فأنت علي كظهر أمي، فمن حلف بظهار أو بطلاق أو عتق أو حنث لزمه ما حلف به. ويصح الظهار مطلقا كما تقدم، ومؤقتا كأنت علي كظهر أمي شهر رمضان، فإن وطئ فيه كفر، وإلا زال حكم الظهار بمضيه، لحديث سلمة بن صخر (¬2) وفيه: "ظاهرت (¬3) من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان، وأخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه أصابها فيه، فأمره بالكفارة، ولم ينكر تقييده" (¬4) بخلاف الطلاق فإنه يزيل الملك، وهذا ¬
يوقع تحريما يرفعه التكفير أشبه الإيلاء. (ويحرم عليهما) -أي على مظاهر ومظاهر منها- (وطء ودواعيه قبل كفارته) -أي الظهار- لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬1) وقوله: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬2) ولو كان تكفيره بإطعام، لحديث عكرمة عن ابن عباس: "أن رجلا أتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد ظاهر من امرأته، فوقع عليها، فقال: يا رسول اللَّه! إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر، قال: ما حملك على ذلك رحمك اللَّه؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك اللَّه" رواه الخمسة إلا أحمد وصححه الترمذي (¬3)، ولأن ما حرم الوطء من القول حرم دواعيه كالطلاق والإحرام، بخلاف ¬
كفارة يمين فله إخراجها قبل حنث وبعده. وتستقر كفارة الظهار في ذمته بالعود وهو الوطء نصا (¬1) لا العزم، ولو كان الوطء من مجنون بأن ظاهر ثم جن، وكذا لو بانت منه ثم زنا بها لا من مكره لأنه معذور. ويأثم مكلف بوطء ودواعيه قبل تكفير لما تقدم، ثم إن وطئ قبل أن يكفر لا يطأ بعد حتى يكفر للخبر، ولبقاء التحريم. وتجزئه كفارة واحدة ولو كرر الوطء للخبر، ولأنه وجد العود والظهار فدخل [في] (¬2) عموم قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. .} الآيتين، كمكرر ظهار من امرأة واحدة قبل تكفير ولو كرره بمجالس وأراد بتكراره استئنافا نصا (¬3)؛ لأن تكريره لا يؤثر في تحريم الزوجة لتحريمها بالقول الأول، فلم تجب كفارة ثانية كاليمين باللَّه تعالى، وكذا لو ظاهر من نسائه بكلمة، كقوله: أنتن علي كظهر أمي فلا يلزمه إلا كفارة واحدة، رواه الأثرم عن عمر (¬4) وعلي (¬5)، ولأنه ظهار واحد، وإن ظاهر ¬
منهن بكلمات بأن قال لكل واحدة منهن: أنت علي كظهر أمي فعليه لكل واحدة كفارة؛ لأنها أيمان مكررة على أعيان متفرقة، ولأنها أيمان لا يحنث في إحداها بالأخرى فلا تكفرها كفارة واحدة. ويلزم إخرج كفارة ظهار بعزم على وطء نصا (¬1) لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا. .} الآيتين، وحديث "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك اللَّه" حيث أمر بالكفارة قبل التماس، وإن اشترى زوجته التي ظاهر منها وهي أمة فظهاره بحاله وله عتقها عنه، فإن عاد وتزوجها فلا كفارة، وإن أعتقها عن غيره ثم تزوجها فعليه الكفارة بالعود. وإن بانت زوجة ظاهر منها قبل الوطء ثم أعادها فظهاره بحاله نصا (¬2). وإن مات أحدهما بعد ظهار قبل الوطء سقطت كفارة الظهار؛ لأنه لم يوجد الحنث، ويرثها وترثه كما بعد التكفير. ¬
فصل في كفارة الظهار
فصل في كفارة الظهار (وهي) أي كفارته (عتق رقبة) مؤمنة، (فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ. .} الآيتين (¬1)، والمعتبر في كفارات من قدرة أو عجز وقت وجوب كفارة، كحد وقود فيعتبران بوقت الوجوب، فمن قذف وهو عبد ثم عتق لم يجلد إلا جلد [عبد] (¬2)، ومن حنث وهو عبد لم تلزمه إلا كفارة (¬3) عبد؛ لأن الكفارة تجب على وجه الطهرة فكان الاعتبار فيها بحال الوجوب، كالحد بخلاف المتيمم فإنه لو تيمم ثم وجد الماء بطل تيممه، وهنا لو صام ثم قدر على الرقبة لم يبطل صومه، ولو قتل قنا وهو رقيق ثم عتق لم يسقط عنه القود، وإمكان الأداء في الكفارات مبني على اعتباره في زكاة، ووقت وجوب في ظهار وقت العود وهو الوطء وقت المظاهرة، فلو أعسر موسر قبل تكفير لم يجزئه صوم لأنه غير ما وجب عليه، وتبقى الرقبة في ذمته ¬
إلى يساره كسائر ما وجب عليه وعجز عن أدائه، ولو أيسر معسر بعد وجوبها عليه معسرا لم يلزمه عتق اعتبارا بوقت الوجوب، ويجزئه العتق لأنه الأصل في الكفارات. ولا يلزم عتق إلا لمالك رقبة أو لمن تمكنه بثمن مثلها أو بزيادة لا تجحف به ولو كثرت لعدم تكررها، بخلاف ماء وضوء، ويمكنه شراؤها نسيئة وله مال غائب يفي بثمنها أو له دين مؤجل يفي بثمنها لا ضرر عليه فيه، لا بهبته للمنة، ويشترط للزوم عتق أن تفضل الرقبة عما يحتاجه من أدنى مسكن صالح لمثله، وخادم لكون مثله لا يخدم نفسه، أو لعجزه عن خدمة نفسه، وأن تفضل عن مركوب وعرض بذله يحتاج إلى استعماله كلباسه وفرشه وأوانيه وآلة حرفته، وأن تفضل عن كتب علم يحتاج إليها، وثياب تجمل، وعن كفايته ومن يمونه دائما، وعن رأس ماله لذلك (¬1)، وعن وفاء دين للَّه أو لآدمي حال أو مؤجل؛ لأن ما استغرقته حاجة الإنسان كالمعدوم في جواز الانتقال إلى بدله، ومن له فوق ما يصلح لمثله من خادم ونحوه، وأمكن بيعه وشراء صالح لمثله وشراء رقبة بالفاضل لزمه العتق لقدرته عليه بلا ضرر، فلو تعذر لكون الباقي لا يبلغ ثمن رقبة، أو كان له سرية يمكن بيعها وشراء سرية ورقبة بثمنها لم يلزمه ذلك؛ لأن غرضه قد يتعلق بنفس السرية فلا يقوم غيرها مقامها. (ويكفر كافر) ذمي لوجوب الكفارة عليه إذا حنث (بمال) إما بالعتق إن قدر وإلا إطعام؛ لأن الصوم لا يصح منه، (و) يكفر (عبد بالصوم) فقط لعدم ملكه. (وشرط في) إجزاء (رقبة) في (كفارة) مطلقا، (و) في (نذر عتق مطلق (¬2) إسلام) ولو كان المكفر كافرا، لقوله تعالى: قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ ¬
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬1) وألحق بذلك باقي الكفارات حملا للمطلق على المقيد، كما حمل قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (¬2) على قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬3) بجامع أن الاعتاق يتضمن تفريغ العتيق المسلم لعبادة ربه، وتكميل أحكامه، ومعونة المسلمين، فناسب ذلك شرع إعتاقه في الكفارة تحصيلا لهذه المصالح، (و) وشرط فيها (سلامة من عيب مضر بالعمل ضررا بينا)؛ لأن المقصود تمليك القن نفعه وتمكينه من التصرف لنفسه، وهذا غير حاصل مع ما يضر بالعمل كعمى؛ لأن الأعمى لا يمكنه العمل في أكثر الصنائع، وكشلل يد أو رجل، أو قطع إحداهما؛ لأن اليد آلة البطش، والرجل آلة المشي فلا يتهيأ له كثير من العمل مع تلف إحداهما أو شلله، أو قطع أصبع سبابة أو وسطى أو إبهام من يد أو رجل، أو خنصر وبنصر معا من يد واحدة لزوال نفع يده بذلك، وقطع أنملة من إبهام أو قطع أنملتين من غيره كقطع الأصبع كله لذهاب منفعة الأصبع بذلك، ويجزئ من قطعت بنصره من إحدى يديه وخنصره من الأخرى، ويجزئ من جدع أنفه وإذنه أو يخنق أحيانا؛ لأنه لا يضر بالعمل، أو علق عتقه بصفة لم توجد؛ لأن ذلك لا أثر له، بخلاف من علق عتقه بصفة فنواه عند وجودها فلا يجزئ؛ لأن سبب عتقه انعقد عند وجود الصفة فلا يملك صرفه إلى غيره، وكذا لو قال: إن اشتريتك أو ملكتك فأنت حر فلا يجزئه، بخلاف ما لو قال: إن اشتريتك فأنت حر للكفارة ثم ¬
اشتراه، ويجزئ مدبر وصغير ولو غير مميز، وولد زنا وأعرج يسيرا، ومجبوب وخصي وأصم وأخرس تفهم إشارته، وأعور وأبرص وأجذم ونحوه، ومرهون ومؤجر وجان وأحمق وحامل، وله استثناء حملها؛ لأن ما فيهم من النقص لا يضر بالعمل، وما فيهم من الوصف لا يؤثر في صحة عتقهم، ويجزئ مكاتب لم يؤد شيئا من كتابته، ولا يجزئ من أدى منها شيئا لحصول العوض عن بعضه، كما لو أعتق بعض رقبة، أو اشتري بشرط عتق، ولا يجزئ مريض ميؤس منه، ولا مغصوب، ولا زمن ومقعد ونحيف عاجز عن عمل، ولا أخرس أصم ولو فهمت إشارته، ولا مجنون مطبق، ولا غائب لم تتبين حياته، فإن أعتقه ثم تبين أنه حي فإنه يجزئ قولا واحدا، قاله في "الإنصاف" (¬1)، ولا موصى بخدمته أبدا لنقصه، ولا أم ولد لاستحقاق عتقها بسبب آخر، ولا جنين ولو ولد بعد عتقه حيا، ومن أعتق في كفارة جزءا من قن ثم أعتق ما بقي منه ولو طال ما بينهما أجزأ؛ لأنه أعتق رقبة كاملة كإطعام المساكين، أو أعتق نصف قنين ذكرين أو أنثيين أو مختلفين عن كفارته أجزأه ذلك؛ لأن الأشقاص كالأشخاص، ولا فرق بين كون الباقي منهما حرا أو ورقيقا لغيره لا ما سرى بعتق جزء، كمن يملك نصف قن وهو موسر بقيمة باقيه، فأعتق نصفه، وسرى إلى نصيب شريكه، فلا يجزئه نصيب شريكه، لأنه لم يعتق بإعتاقه؛ لأن السراية غير فعله وإنما هي من آثار فعله، أشبه ما لو اشترى من يعتق عليه ناويا عتقه عن كفارته، ومن أعتق عن كفارة أو نذر غير مجزئ ظانا إجزاءه نفذ عتقه؛ لأنه تصرف (¬2) من أهله في محله وبقي ما وجب عليه بحاله لأنه لم يؤده. ¬
فصل
فصل فإن لم يجد رقبة صام حرا كان أو مبعضا أو قنا شهرين متتابعين للآية والأخبار، ويلزمه تبييت النية لصوم (¬1) كل يوم كما تقدم في الصيام، وتعيينها جهة الكفارة، لحديث: "وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬2)، ويلزمه تتابع صوم الشهرين بأن لا يفرق الصوم للآية، وينقطع تتابع بوطء مظاهر منها ولو كان ناسيا لعموم: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬3)، ولأن الوطء لا يعذر فيه بالنسيان، أو كان وطؤها مع عذر يبيح الفطر كمرض وسفر، أو كان ليلا عامدا أو ناسيا لعموم الآية، وكوطئها لمسها ومباشرتها دون الفرج على وجه يفطر به، وإلا لم ينقطع التتابع، ولا ينقطع التتابع بوطئه غيرها ليلا أو ناسيا أو مع عذر يبيح الفطر؛ لأن ذلك غير محرم عليه، ولا هو محل لتتابع الصوم أشبه الأكل (¬4)، وينقطع تتابع بصوم غير رمضان؛ لأنه فرقه بشيء يمكنه التحرز منه أشبه ما لو أفطر بلا عذر، ويقع صومه عما نواه لأنه زمن لم يتعين للكفارة، ولا ينقطع التتابع بصوم رمضان، ولا بفطر فيه بسفر ونحوه، ولا بفطر واجب كعيد وأيام تشريق وحيض ونفاس وجنون ومرض مخوف ¬
لتعين رمضان للصوم الواجب فيه وتعين الفطر في تلك الأيام، ولأن الحيض وما بعده لا يمكن التحرز منها، وكذا لو أغمي عليه جميع اليوم، ولا ينقطع تتابع بفطر حامل أو مرضع خوفا على نفسيهما أو لضرر ولدهما بالصوم، وكفطر مكره على فطر ومخطئ كآكل يظن ليلا فبان نهارا وناس؛ لبقاء صوم المكره والناسي وعذر المخطئ، ولحديث: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، (¬1) لا جاهل بوجوب التتابع فلا يعذر بذلك إذا أفطر؛ لأنه يمكنه التحرز منه بسؤاله عنه. ¬
فصل
فصل فإن لم يستطع صوما لكبر أو مرض ولو رجي برؤه اعتبارا بوقت الوجوب أو يخاف زيادة المرض أو تطاوله بصومه أو لم يستطع صوما لشبق أو لضعف عن معيشة أطعم ستين مسكينا لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} (¬1) "ولما أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أوس بن الصامت بالصوم قالت امرأته: يا رسول اللَّه! إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: فيطعم ستين مسكينا" (¬2)، ولما أمر سلمة بن صخر بالصيام قال: "وهل أصبت ما أصبت إلا من الصيام؟ قال: فأطعم" (¬3) فنقله إليه لما أخبره أنه به من الشبق والشهوة ما يمنعه من الصوم، وقيس عليهما من في معناهما. ويشترط أن يكون المسكين مسلما حرا كالزكاة ولو أنثى، ولا يضر وطء مظاهر منها أثناء الإطعام نصا (¬4)، وكذا أثناء عتق، كما لو أعتق نصف عبد ثم وطئ ثم اشترى باقيه وأعتقه فلا يقطعه وطؤه مع أنه محرم، ويجزئ دفعها إلى صغير من أهلها ولو لم يأكل الطعام لأنه حر مسلم محتاج أشبه الكبير، ولدخوله في عموم الآية، وأكله للكفارة ليس بشرط، ويصرف ما يعطى للصغير إلى ما يحتاج إليه مما تتم به كفايته، ويقبضها له وليه كالزكاة، ويجزئ دفعها إلى مكاتب وإلى من يعطى من الزكاة لحاجة، ويجزئ دفعها إلى من ظنه مسكينا فبان غنيا؛ لأن الغنى مما يخفى، ولا يجزئ ¬
دفع كفارته إلى من تلزمه مؤنته لاستغنائه بما وجب له من النفقة، ولأنها للَّه فلا يصرفها لنفعه، ولا يجزئ ترديدها على مسكين واحد ستين يوما إلا أن لا يجد مسكينا غيره فتجزئه لتعذر غيره، ولو قدم إلى ستين مسكينا ستين مدا مما يجزئ وقال: هذا بينكم فقبلوه، فإن قال بالسوية أجزأه ذلك، وإلا فلا يجزئه ما لم يعلم أن كلا أخذ قدر حقه فيجزئه، لحصول العلم بالإطعام الواجب. (ولا يجزئ التكفير إلا بما يجزئ فطرة) ولو كان ذلك قوت بلده؛ لأن الكفارة وقعت طهرة للمكفر عنه كما أن الفطرة تطهير للصائم فاستويا في الحكم، (و) الذي (يجزئ من البر مد) بمده -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتقدم معرفة قدره (لكل مسكين، و) يجزئ (من غيره) أي البر وهو التمر والشعير والزبيب والأقط (مدان) نصف صاع، وسن إخراج إدام مع مجزئ نصا (¬1)، وإخراج الحب أفضل عند الإمام أحمد من إخراج الدقيق والسويق (¬2)، ويجزئان بوزن الحب، وإن أخرجهما بالكيل زاد على كيل الحب قدرا يكون بقدره وزنا؛ لأن الحب إذا طحن توزع، ولا يجزئ خبز لخروجه عن الكيل والادخار أشبه الهريسة، ولا يجزئ في الكفارة أن يغدي المساكين أو يعشيهم؛ لأن المنقول عن الصحابة إعطاؤهم، وقال عليه السلام لكعب في فدية الأذى: "أطعم ثلاثة آصع من تمر ستة مساكين" (¬3)، ولأنه مال وجب تمليكه للفقراء شرعا أشبه الزكاة، بخلاف نذر ¬
إطعامهم فيجزئ أن يغديهم أو يعشيهم لأنه وفى بنذره، ولا تجزئه القيمة عن الواجب لظاهر قوله تعالى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}. ولا يجزئ في كفارة عتق ولا صوم ولا إطعام إلا بنية، لحديث: "وإنما لكل امرئ ما نوى" وتقدم (¬1)، ولا يكفي نية التقرب فقط، فإن كانت كفارة واحدة لم يلزمه تعيين سببها بنيته، ويكفيه نية العتق والصوم والإطعام عن الكفارة لتعينها باتحاد سببها. ويلزمه مع نسيان سببها كفارة واحدة ينوى بها التي هي عليه، فإن عين سببا غيره غلطا وسببها من جنس يتداخل (¬2)، كمن عليه كفارة يمين في لبس فنواها عن يمين قيام ونسي يمين اللبس أجزأه ذلك عن الجميع لتداخلها، وإن كانت أسبابها من جنس لا يتداخل، كمن ظاهر من نسائه بكلمات لكل واحدة بكلمة فنوى الكفارة عن ظهاره من إحداهن أجزأه عن واحدة وإن لم يعينها، فتحل له واحدة غير معينة، قال في "الشرح" (¬3): "وقياس المذهب أن يقرع بينهن، فتخرج المحللة منهن بالقرعة" وجزم به في "الإقناع" (¬4)، أو كانت عليه كفارات من أجناس كظهار وقتل ووطء في صوم رمضان ويمين باللَّه تعالى فنوى إحداها أجزأ المخرج عن واحدة منها، ولا يشترط لإجزائها تعيين سببها من ظهار أو غيره؛ لأنها عبادة واحدة واجبة فلم يفتقر صحة أدائها إلى تعيين سببها كما لو كانت من جنس. ¬
(فصل) في اللعان
(فصل) في اللعان من اللعن وهو: الطرد والإبعاد (¬1) لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذبا، وقيل: إنه لا ينفك أحدهما عن أن يكون كاذبا فتحل اللعنة عليه. وهو شرعا: شهادات مؤكدات بأيمان من الجانبين مقرونة بلعن من زوج وغضب من زوجة قائمة مقام حد قذف إن كانت محصنة، أو تعزير إن لم تكن كذلك في جانبه وقائمة مقام حبس في جانبها (¬2). (ويجوز اللعان بين زوجين عاقلين لإسقاط الحد)، والأصل فيه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآيات (¬3)، وحديث ¬
سهل بن سعد (¬1) في عويمر العجلاني (¬2) مع امرأته رواه الجماعة (¬3)، (فمن قذف زوجته) بالزنا (لفظا) ولو كان قذفها في طهر وطئ فيه بأن قال: زنيت في قبلك أو دبرك (وكذبته) لزمه ما يلزم بقذف أجنبية من الحد إن كانت محصنة، والتعزير إن [لم] (¬4) ¬
تكن كذلك، ويسقط عنه الحد بتصديقها إياه، وبإقامة البينة عليها به، كما لو كان المقذوف غيرها، فإن لم تصدقه ولا بينة (فله) إسقاط ما لزمه بقذفها بـ (لعانها) للآية والخبر، ولو لاعن وحده (¬1) ولم تلاعن هي. وصفته (بأن يقول) زوج أولا (أربعا: أشهد باللَّه إني لصادق فيما رميتها به من الزنا) يشير إليها مع حضورها ولا حاجة لأن تسمى أو تنسب إلا مع غيبتها، (و) يزيد (في الخامسة: وأن لعنة اللَّه عليه إن كان من الكاذبين)، ولا يشترط أن يقول فيما رماها به من الزنى، (ثم تقول هي) -أي الزوجة- (أربعا: أشهد باللَّه إنه لكاذب فيما رماني به من الزنا، و) تزيد (في الخامسة: وأن [غضب] (¬2) اللَّه عليها إن كان من الصادقين) ولا يشترط أن تقول: فيما رماني به من الزنا لظاهر الآية. فإن نقص لفظ من ذلك ولو أتيا بالأكثر وحكم به حاكم لم يصح؛ لأن نص القرآن أتى به على خلاف القياس بعدد فكان واجبا كسائر المقدرات بالشرع، أو بدأت الزوجة، أو قدمت الغضب، أو أبدلته باللعنة، أو السخط لم يصح، أو قدم (¬3) اللعنة أو أبدلها بالغضب أو الإبعاد لم يصح (¬4)، أو أبدل أحدهما لفظ أشهد بأقسم وأحلف لم يصح لمخالفته النص، أو أتى به قبل إلقائه عليه أو بلا حضور حاكم أو نائبه لم يصح، أو لاعن بغير العربية من يحسنها. ويصح من أخرس وممن اعتقل لسانه وآيس من نطقه إقرار بزنا بكتابة وإشارة ¬
مفهومة، ويصح منهما لعان بكتابة وإشارة (¬1) مفهومة لقيامها مقام النطق، فلو نطق وأنكر اللعان أو قال: لم أرد قذفا ولعانا قبل فيما عليه من حد ونسب، فيقام عليه الحد بطلبها ويلحقه النسب، ولا يقبل قوله فيما له من عود زوجته فلا تحل له؛ لأنها حرمت عليه بحكم الظاهر فلا يقبل إنكاره له، وله أن يلاعن لإسقاط الحد ونفي النسب. وسن تلاعنهما قياما، لما في حديث ابن عباس في خبر: "أن هلالا جاء فشهد ثم قامت فشهدت" (¬2). وسن بحضرة جماعة؛ لأن ابن عباس وابن عمر وسهلا حضروه (¬3) مع حداثة سنهم فدل على أنه حضر جمع كثير؛ لأن الصبيان إنما يحضرون المجالس تبعا للرجال، ولذلك قال سهل: "فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬4). ¬
وسن أن لا ينقص الحاضرون عن أربعة رجال؛ لأن الزوجة ربما أقرت فشهدوا عليها. وسن أن يتلاعنا بوقت ومكان معظمين، كبعد العصر يوم الجمعة، وبين الركن والمقام، وبيت المقدس عند الصخرة (¬1)، وعند منبر باقي المساجد. وسن أن يأمر حاكم من يضع يده على فم زوج وزوجة عند الخامسة ويقول: اتق اللَّه فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، لحديث ابن عباس رواه الجوزجاني (¬2)، وكون الخامسة -هي الموجبة اللعنة أو الغضب- على من كذب منهما لالتزامه ذلك فيها، وكون عذاب الدنيا أهون؛ لأنه ينقطع، وعذاب الآخرة ¬
دائم، والسر في ذلك التخويف ليتوب الكاذب منهما ويرتدع. ويبعث حاكم إلى امرأة خفرة (¬1) من يلاعن بينهما لحصول الغرض بذلك، ومن قذف زوجتين فأكثر ولو بكلمة أفرد كل واحدة بلعان؛ لأن كل واحدة مقذوفة فلا يدرأ عنه حدها إلا لعانها، كما لو لم يقذف غيرها. ¬
فصل
فصل وشروط اللعان ثلاثة: - أحدها: كونه بين زوجين مكلفين ولو قنين أو فاسقين أو ذميين أو أحدهما كذلك، لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} (¬1) فلا لعان بقذف أمته ولا تعزير، وأما اعتبار التكليف فلأن قذف غير المكلف لا يوجب حدا، واللعان إنما وجب لإسقاط الحد. فيحد بقذف أجنبية بزنا ولو نكحها بعد، أو قال لزوجته: زنيت قبل أن أنكحك فيحد (¬2) للقذف، ولا لعان لإضافته إلى حال لم تكن فيه زوجة، ويفارق قذف الزوجة لأنه محتاج إليه لأنها خانته، وإن كان بينهما ولد فهو محتاج إلى نفيه، وأما من تزوجها وهو يعلم زناها فهو مفرط في نكاح حامل من زنا فلا يشرع له طريق إلى نفيه، كمن أنكر قذف زوجته مع بينة عليه بقذفها، لأنه ينكر قذفها فكيف يحلف على إثباته، أو كذب نفسه بعد قذفها، ومن ملك زوجته الأمة فأتت بولد لا يمكن كونه ملك يمين، كإن أتت به لدون ستة أشهر منذ ملكها وعاش فله نفيه بلعان؛ لأنه مضاف لحال الزوجية، وإن أمكن كونه من ملك يمين فلا، ويعزر زوج بقذف زوجة صغيرة أو مجنونة، ولا لعان لما تقدم. الشرط الثاني: سبق قذف الزوجة بزنا ولو في دبر؛ لأنه قذف يجب به الحد، وسواء ¬
الأعمى والبصير لعموم الآية [كـ] (¬1) زنيت أو يا زانية أو رأيتك تزنين أو زنا فرجك، وإن قال: ليس ولدك مني، أو قال معه: ولم تزن، أو لا أقذفك، أو قال لها: وطئت بشبهة، أو مكرهة، أو نائمة، أو مع إغماء، أو جنون، لحقه الولد ولا لعان، لأنه لم يقذفها بما يوجب (¬2) الحد، وإن قال لها: وطئك فلان بشبهة وكنت عالمة فله اللعان ونفي الولد، اختاره الموفق وغيره (¬3)، ومن أقر بأحد توأمين لحقه الآخر؛ لأنه لا يجوز أن يكون بعض الحمل الواحد منه وبعضه من غيره، ويلاعن لنفي الحد؛ لأنه لا يلزم من كون الولد [منه] (¬4) انتفاء زناها كما لا يلزم من الزنا نفي الولد، ولذلك لو أقرت بالزنا أو قامت به بينة لم ينتف عنه الولد بذلك. الشرط الثالث: أن تكذبه الزوجة في قذفها ويستمر تكذيبها إلى انقضاء اللعان، فإن صدقته ولو مرة (¬5)، أو عفت عن الطلب مجد القذف، أو سكتت فلم تقر ولم تنكر، أو ثبت زناها بشهادة أربعة سواه، أو قذف مجنونة بزنا قبل جنونها، أو قذف محصنة فجنت قبل لعان، أو خرساء أو ناطقة فخرست ولم تفهم إشارتها، أو قذف صماء لحقه النسب إن كأن بينهما ولد نصا (¬6)، ولا لعان لما سبق من أنه شرع لدرء الحد عن القاذف. ¬
وإن مات أحدهما قبل ثتمة اللعان توارثا وثبت (¬1) النسب؛ لأن اللعان لم يوجد فلا يثبت حكمه، وإن لاعن الزوج ونكلت زوجة حبست حتى تقر أربعا أو تلاعن [ولا] (¬2) ترجم بمجرد النكول؛ لأنها لو أقرت بلسانها لم ترجم إذا رجعت فكيف إذا أبت اللعان. (فإذا تم) تلاعنهما (سقط الحد) عنه وعنها إن كانت محصنة، أو التعزير إن لم تكن محصنة (وثبتت الفرقة) بين المتلاعنين ولو بلا فعل حاكم (المؤبدة) لقول عمر: "المتلاعنان يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا" رواه سعيد (¬3)، ولأن اللعان معنى يقتضي التحريم المؤبد فلم يتوقف على حكم حاكم كالرضاع، ولو كذب الملاعن نفسه لورود الأخبار عن عمر وعلي وابن مسعود: "المتلاعنان لا يجتمعان أبدا" (¬4)، أو كانت أمة واشتراها بعد اللعان فلا تحل له؛ لأنه تحريم مؤيد. (وينتفي الولد) عن الملاعن (بنفيه) له ويعتبر لنفي الولد ذكره صريحا في ¬
اللعان، كقوله: أشهد باللَّه لقد زنيت وما هذا ولدي ويتم اللعان، وتعكس هي وتقول: أشهد باللَّه لقد كذب وهذا الولد ولده ويتم اللعان؛ لأنها أحد الزوجين فكان ذكر الولد منها شرطا في اللعان، كان نفى حملا أو استلحقه أو لاعن عليه مع ذكره لم يصح نفيه؛ لأنه لا تثبت له أحكام إلا في الإرث والوصية، ويلاعن قاذف حامل أولا لدرء حد، وثانيا بعد وضع لنفي الولد، لأنه لم ينتف باللعان الأول. وشرط لنفي ولد بلعان أن لا يتقدمه إقرار به، أو إقرار بتوأم، أو إقرار بما يدل عليه، كما لو نفاه وسكت عن توأمه، أو هنئ به فسكت، أو أمن على دعاء، أو أخر نفيه مع إمكانه بلا عذر، أو أخره رجاء موته؛ لأنه خيار لدفع ضرر فكان على الفور كخيار الشفعة، كان كان جائعا [أو] (¬1) ظمآنا فأخره حتى أكل أو شرب أو نام لنعاس، أو لبس ثيابه أو إسراج دابته أو صلى إن حضرت الصلاة أو أحرز ماله إن لم يكن محرزا ونحوه فله نفيه، وإن قال: لم أعلم بالولد وأمكن صدقه قبل، أو قال: لا أعلم أن لي نفيه، أو لم أعلم أنه (¬2) على الفور وأمكن صدقه قبل؛ لأن الأصل عدم ذلك. ومتى كذب نفسه بعد نفيه [حد] (¬3) لزوجة محصنة وعزر لغيرها كذمية أو رقيقة، سواء كان لاعن أو لا، وانجر نسب الولد الذي أقر به من جهة الأم إلى جهة الأب المكذب نفسه بعد نفيه، وعليه ما أنفقت عليه الأم قبل استلحاقه. ¬
ولا يلحق الملاعن نسب ولد نفاه ومات باستلحاق ورثته بعده نصا (¬1)، لأنهم يحملون على غيرهم نسبا قد نفاه عنه فلم يقبل منهم، والتوأمان المنفيان بلعان أخوان لأم فقط لانتفاء النسب من جهة الأب. ¬
فصل فيما يلحق من النسب وما لا يلحق منه
فصل فيما يلحق من النسب وما لا يلحق منه (ومن أتت زوجته بولد بعد نصف سنة) أي ستة أشهر (منذ أمكن اجتماعه بها) ولو مع غيبته فوق أربع سنين، قال في "الفروع" (¬1) و"المبدع" (¬2): "ولعل المراد ويخفى سيره وإلا فالخلاف على ما يأتي". ولا ينقطع الإمكان عن الاجتماع بحيض لاحتماله دم فساد، (أو) أتت به (لدون أربع سنين منذ أبانها) زوجها (ولو) كان الزوج (ابن عشر) سنين فيهما (لحقه نسبه) لحديث: "الولد للفراش" (¬3) وللإمكان كونه منه، وقدروه بعشر سنين [لحديث] (¬4): "واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" (¬5)؛ ولأن العشر يمكن فيها البلوغ فالحق به الولد كالبالغ المتيقن، وقد روي ¬
أن عمرو بن العاص وابنه لم يكن بينهما إلا اثنا عشر سنة (¬1)، وأمره عليه السلام بالتفريق بينهم في المضاجع دليل على إمكان الوطء وهو سبب الولادة، (و) مع هذا (لا يحكم ببلوغه مع شك فيه) لاستدعاء الحكم ببلوغه يقينا لترتب الأحكام عليه من التكاليف ووجوب الغرامات فلا يحكم به مع الشك، وإلحاق الولد به احتياطا حفظا للنسب، ولا يكمل به مهر إن لم يثبت الدخول والخلوة؛ لأن الأصل براءته منه، ولا تثبت به عدة ولا رجعة لعدم ثبوت موجبهما. وإن لم يمكن كون الولد منه كإن أتت به لدون نصف سنة منذ تزوجها وعاش لم يلحقه للعلم بأنها كانت حاملا به قبل التزوج، فإن مات أو ولدته ميتا لحقه لإمكانه. أو أتت به لأريع سنين منذ أبانها لم يلحقه للعلم بأنها حملت به بعد بينونتها إذ لا يمكن بقاؤها حاملا به بعد البينونة إلى تلك المدة. أو أقرت بائن بانقضاء عدتها بالقروء، ثم ولدت لفوق نصف سنة من عدتها التي أقرت بانقضائها لم يلحقه لإتيانها به بعد الحكم بانقضاء عدتها في وقت يمكن أن لا يكون منه، فلم نلحقه به، كما لو انقضت عدتها بوضع الحمل، والإمكان إنما يعتبر مع بقاء الزوجية أو العدة لا بعدهما؛ لأن الفراش سبب، ومع وجود السبب يكتفى بالإمكان، فإذا انتفى السبب وآثاره انتفى الحكم بالإمكان، فإذا ولدت لدون نصف سنة من آخر أقرائها وعاش لحق بزوج لتبين أنها لم تحمل به بعد انقضاء عدتها به، بل أنها كانت حاملا به زمن رؤية [الدم] (¬2)، فلزم أن لا يكون الدم حيضا فلا تنقضي عدتها، أو فارقها حاملا فوضعت ثم ولدت آخر بعد نصف سنة لم يلحقه ¬
الثاني؛ لأنه لا يمكن كونه حملا واحدا، فعلم أنها علقت بالثاني بعيد الزوجية وانقضاء العدة، أو علم أن الزوج لم يجتمع بها زمن زوجية بأن تزوجها بمحضر حاكم أو غيره ثم أبانها بالمجلس، أو مات بالمجلس لم يلحقه للعلم بأنه ليس منه، أو كان بينهما وقت عقد مسافة لا يقطعها في المدة التى ولدت فيها، كمغربي تزوج بمشرقية فولدت بعد ستة أشهر لم يلحقه؛ لأنه لم يحصل إمكان الوطء في هذا العقد، أو كان الزوج لم يكمل له عشر سنين، أو قطع ذكره مع أنثييه لم يلحقه نسبه لاستحالة الإيلاج والإنزال منه. ويلحق النسب زوجا عنينا ومن قطع ذكره دون أنثييه لإمكان إنزاله، وكذا يلحق من قطع أنثياه فقط عند الأكثر، وقيل: لا يلحقه نسب مع قطع أنثييه، قال المنقح: "وهو الصحيح" (¬1)؛ لأنه لا يخلق من مائه ولد عادة ولا وجد ذلك، أشبه ما لو قطع ذكره مع أنثييه. وإن ولدت مطلقة رجعية بعد أربع سنين منذ طلقها زوجها وقبل انقضاء عدتها لحق نسبه، أو ولدت لأقل من أربع سنين منذ انقضت عدتها ولو بالأقراء لحق نسبه؛ لأن الرجعية في حكم الزوجات في أكثر الأحكام أشبه ما قبل الطلاق، ومن أخبرت بموت زوجها فاعتدت للوفاة ثم تزوجت ثم ولدت لحق بثان ما ولدت لنصف ستة فأكثر منذ تزوجته نصا (¬2)؛ لأنها فراشه، وأما ما ولدته لدون نصف سنة وعاش فيلحق بالأول؛ لأنه ليس من الثاني يقينا، وكذا لو مات زوجها عندها أو فسخ نكاح غائب. ¬
فصل
فصل ومن أقر أو ثبت أنه وطئ أمته في الفرج أو دونه فولدت لنصف سنة فأكثر لحقه نسب ما ولدته؛ لأنها صارت فراشا له بوطئه، ولحديث عائشة الآتي (¬1)، ولو قال: عزلت أو لم أنزل لقول عمر: "ما بال رجال يطؤن ولائدهم ثم يعزلون، لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها، فاعزلوا بعد أو أنزلوا" رواه الشافعي في مسنده (¬2)، ولأنها ولدت على فراشه ما يمكن كونه منه لاحتمال أن يكون أنزل ولم يحس به، أو أصاب بعض الماء فم الرحم وعزل باقيه، لا إن (¬3) ادعى استبراء بعد وطء بحيضة لتيقن براءة رحمها بالاستبراء، فتبين أنه من غيره، ويحلف على الاستبراء إذا ادعاه، فإن ولدت لدون نصف سنة من الاستبراء تبينا أن لا استبراء، ويلحقه. وإن أقر السيد بالوطء لأمته مرة، ثم ولدت ولو بعد أربع سنين من وطئه لحقه نسب ما ولدته، لصيرورتها فراشا بوطئه كالزوجة. (ومن أعتق أو باع من) أي أمة له (أقر بوطئها) في الفرج أو دونه، أو ثبت أنه وطئها في الفرج أو دونه (فولدت لدون نصف سنة) منذ أعتقها أو باعها (لحقه) أي المعتق والبائع ما ولدته؛ لأن أقل الحمل مدة نصف سنة، فما ولدته لدونها وعاش علم أنها كانت حاملا به قبل العتق أو البيع حين كانت فراشا له، (والبيع باطل)؛ لأنها أم ولد والعتق ¬
صحيح، ولو كان استبراؤها قبل البيع لتبين أن ما رأته من الدم دم فساد؛ لأن الحامل لا تحيض، وكذا إن لم يستبرئها قبل بيعها وادعى مشتر أنه من بائع فيلحقه لوجود سبب [الولادة وهو] (¬1) الوطء، ولم يوجد ما يعارضه ولا ما يمنعه، فتعين إحالة الحكم عليه سواء ادعاه (¬2) البائع أو لم يدعه، وإن ادعاه مشتر لنفسه وقد بيعت قبل استبراء وولدته لفوق ستة أشهر ودون أربع سنين من بيع، والمشتري مقر بوطئها أري القافة (¬3)، أو ادعى كل من البائع والمشتري في الصورة المذكورة أن الولد للآخر والمشتري مقر بوطئها أري القافة أيضا؛ لأن نظرها طريق شرعي إلى معرفة النسب عند الاحتمال كما تقدم في اللقيط. وإن استبرئت قبل بيع ثم ولدت لفوق نصف سنة من بيع لم يلحق بائعا، أو لم تستبرأ وولدت لفوق نصف سنة من بيع ولم يقر مشتر له بالولد لم يلحق بائعا؛ لأنه ولد أمة ¬
المشتري فلا تقبل دعوى غيره بدون إقراره، وإن ادعاه بائع وصدقه مشتر في هذه الصورة وهي ما إذا لم تستبرأ وأتت به لفوق ستة أشهر، أو فيما إذا باع أمته ولم يقر البائع بوطء وأتت به لدون نصف سنة وادعى البائع أنه ولده وصدقه مشتر لحقه الولد وبطل البيع؛ لأنا الحق فيه لا يعدوهما، فمهما تصادقا عليه لزمهما، وإن لم يصدقه المشتري فالولد عبد له في الصورتين، ولا يثبت نسبه من بائع؛ لأنه ضرر على المشتري، إذ لو أعتقه كان أبوه أحق بميراثه من مولاه. وإن ولدت امرأة من مجنون لا ملك له عليها ولا شبهة ملك لم يلحقه نسب ما ولدته منه؛ لأنه لم يستند إلى ملك ولا شبهة ملك ولا اعتقاد إباحة، وإن كان قد أكرهها فعليه مهر مثلها كالمكلف. ويلحق الولد واطئا بشبهة، فمن وطئت امرأته أو أمته بشبهة في طهر لم يصبها فيه فاعتزلها حتى ولدت لستة أشهر فأكثر من وطء لحق واطئا وانتفى عن الزوج [بلا] (¬1) لعان. ومن قال عن ولد بيد سريته أو زوجته أو مطلقته: ما هذا ولدي ولا ولدته بل التقطتيه، أو استعرتيه ونحوه، فإن شهدت امرأة مرضية بولادتها له لحقه نسب الولد للفراش، وإلا فلا يقبل قولها عليه؛ لأن الأصل عدم ولادتها له، وهي مما يمكن إقامة البينة عليه. ولا أثر لشبه ولد ولو لأحد مدعييه مع وجود فراش، لحديث عائشة: "اختصم سعد ¬
بن أبي وقاص، وعيد بن زمعة (¬1) إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال سعد: يا رسول اللَّه! ابن أخي عتبة بن أبي وقاص (¬2) عهد إلي أنه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول اللَّه! ولد على فراش أبي، فنظر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة" رواه الجماعة إلا الترمذي (¬3). وتبعية نسب لأب إجماعا، لقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} (¬4) ما لم ينتف كابن ¬
ملاعنة وإلا ولد الزنا، فولد القرشي قرشي ولو ولد من غير قرشية، وولد قرشية ليس قرشيا. وتبعية ملك أو حرية لأم، فولد حرة حرة وإن كان من رقيق، وولد أمة ولو من حر [قن] (¬1) لمالك أمة، إلا مع شرط زوج أمة حرية أولادها فهم أحرار، لحديث: "المسلمون على شروطهم"، وإلا مع غرور بان تزوج بامرأة شرطها أو ظنها حرة فتبين أمة فولدها حر ولو كان أبوه رقيقا ويفديه. وتبعية دين ولد لخيرهما، فولد مسلم من كتابية مسلم، وولد كتابي من مجوسية كتابي، لكن لا تحل ذبيحته ولا لمسلم نكاحه لو كان أنثى، وتبعية نجاسة وحرمة أكل لأخبثهما، فالبغل من الحمار الأهلي محرم نجس تبعا للحمار دون أطيبهما وهو الفرس، وما تولد بين هر وشاة محرم الأكل تغليبا لجانب الحظر. ¬
(باب العدد)
(باب العدد) - بكسر العين- واحدها عدة، وهي مأخوذة من العدد (¬1)؛ لأن أزمنة العدة محصورة مقدرة بعدد الأزمان والأحوال كالحيض والأشهر. وشرعا: التربص المحدود شرعا (¬2). وأجمعوا على وجوبها للكتاب والسنة في الجملة (¬3). والقصد منها استبراء رحم المرأة من الحمل لئلا يطأها غير المفارق لها قبل العلم فيحصل الاشتباه وتضيع الأنساب، والعدة إما لمعنى محض كالحامل، أو تعبد محض كالمتوفى عنها زوجها قبل الدخول، أو لهما والمعنى أغلب، كالموطوءة التي يمكن حبلها ممن يولد لمثله، أو لهما والتعبد أغلب، كعدة الوفاة في المدخول بها الممكن حملها إذا مضت عدة أقرائها في أثناء الشهور. و(لا عدة (¬4) في فرقة) زوج (حي قبل وطء)، أ (و) قبل (خلوة) ولا لقبلة أو لمس لقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا ¬
لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} (¬1)، ولأن الأصل في العدة وجوبها لبراءة الرحم وهي منتفية هنا. (وشرط) في وجوب عدة ا (لوطء كونها) أي الموطؤة (يوطأ مثلها، وكونه) أي الواطئ (يلحق به الولد)، فإن وطئت بنت دون تسع سنين، أو وطئ دون عشر فلا عدة لذلك الوطء لتيقن براءة الرحم من الحمل. (و) شرط في وجوب عدة (لخلوة مطاوعتهـ) ـا، فإن خلا بها مكرهة فلا عدة؛ لأن الخلوة إنما أقيمت مقام الوطء لأنها مظنته، ولا تكون كذلك إلا مع التمكين، وشرط أيضا في خلوة كونها يوطا مثلها، وكونه يلحق به ولد كما في الوطء وأولى، (و) شرط الخلوة (علمه) أي الزوج (بها) فلو خلا بها أعمى ولم يعلم أو تركت بمخدع من البيت بحيث لا يراها البصير ولم يعلم بها ازوج فلا عدة لعدم التمكين الموجب للعدة، وحيث وجدت شروط الخلوة وجبت العدة لقضاء [الخلوة] (¬2) الخلفاء بذلك كما تقدم في الصداق (¬3)، (ولو مع مانع) شرعي أو حسي كإحرام وصوم وجب وعنة ورتق إناطة للحكم بمجرد الخلوة التي هي مظنة الإصابة دون حقيقتها. (وتلزم) العدة (لوفاة مطلقا) كبيرا كان الزوج أو صغيرا يمكنه وطء أو لا، خلا بها أو لا، كبيرة كانت أو صغيرة، لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (¬4)، ولا فرق في عدة وجبت بدون ¬
(والمعتدات ست): -
وطء بين نكاح صحيح وفاسد أي مختلف فيه، كنكاح بلا ولي نصا (¬1)؛ لأنه ينفذ بحكم الحاكم أشبه الصحيح فتجب عدة الوفاة من نكاح فاسد، ولا عدة في نكاح باطل مجمع على بطلانه، كمعتدة وخامسة إلا بوطء؛ لأن وجود صورتها كعدمها، فإن وطئ لزمه العدة كالزانية. (والمعتدات ست): - إحداهن: (الحامل، وعدتها مطلقًا) من موت أو غيره، حرة كانت أو أمة، مسلمة أو كافرة (إلى وضع كل حمل) واحدا كان أو أكثر، لعموم. قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬2)، وبقاء بعض حمل يوجب بقاء العدة؛ لأنها لم تضع حملها بل بعضه، وظاهره ولو مات ببطنها لعموم الآية. ولا تنقضي عدة حامل إلا بوضع ما (تصير به أمة أم ولد) وهو ما تبين فيه خلق إنسان ولو خفيا، (وشرط لحوقه) أي الحمل (للزوج)، فإن لم يلحقه لصغره بأن يكون دون عشر، أو لكونه خصيا مجبوبا، أو لولادتها لدون نصف سنة منذ نكحها ونحوه، كالذي ولدته بعد أربع سنين منذ أبانها، ويعيش من ولدته لدون نصف سنة منذ نكحها لم تنقض (¬3) عدتها من زوجها لانتفائه عنه يقينا. (وأقل مدته) أي الحمل التي يعيش فيها (ستة أشهر) لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ¬
ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (¬1) مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (¬2) والفصال: انقضاء مدة الرضاع (¬3)، لأنه يفصل بذلك عن أمه، وإذا سقط حولان من ثلاثين شهرا بقي ستة أشهر هي مدة الحمل، وروى الأثرم عن أبى الأسور (¬4): "أنه رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر، فهم عمر برجمها، فقال له علي: ليس لك ذلك، قال اللَّه تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} فحولان وستة أشهر ثلاثون شهرا، فخلى عمر سبيلها، فولدت مرة أخرى لذلك الحد" (¬5)، وذكر ابن قتيبة في "المعارف" (¬6): ¬
أن عبد الملك بن مروان (¬1) ولد لستة أشهر. فأما دون ذلك فلم يوجد. (وغالبها) -أي مدة الحمل- (تسعة) أشهر؛ لأن غالب النساء يلدن لذلك. (وأكثرها) -أي مدة الحمل- (أربع سنين)؛ لأن ما لا تقدير فيه شرعا يرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد من تحمل أربع سنين، قال أحمد: "نساء بني عجلان (¬2) يحملن أربع سنين، وامرأة محمد بن عجلان (¬3) حملت ثلاث بطون كل بطن أربع سنين (¬4)، وبقي محمد بن عبد اللَّه بن الحسن بن علي (¬5) في بطن أمه أربع ¬
سنين" (¬1)، وأقل مدة يبين فيها خلق ولد أحد وثمانون يوما لحديث ابن مسعود مرفوعا: "يجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضعة مثل ذلك" الخبر متفق عليه (¬2)، ولا شك أن العدة لاتنقضي بما دون المضغة فوجب أن يكون بعد الثمانين، فأما بعد أربعة أشهر فليس فيه إشكال، وذكر المجد (¬3) في شرحه (¬4): "أن غالب ما يتبين فيه خلقه ثلاثة أشهر" (¬5). (الثانية) من المعتدات: (المتوفى عنها) زوجها (بلا حمل) منه، وتقدم حكم ¬
الحامل، وإن كان الحمل من غير الزوج المتوفى كإن وطئت بشبهة فحملت ثم مات زوجها اعتدت بوضعه للشبهة، واعتدت للوفاة بعد وضع الحمل؛ لأنهما حقان لآدميين فلا يتداخلان كالدينين، (فتعتد حرة أربعة أشهر وعشر ليال بعشرة أيام) للآية (¬1)، والنهار تبع لليل، ولأن المطلقة إذا أتت بولد يمكن الزوج تكذيبها ونفيه باللعان، ولا كذلك الميت فلا يؤمن (¬2) أن تأتي بولد فيلحق الميت نسبه وليس له من ينفيه، فاحتيط بإيجاب العدة عليها والمبيت بمنزلها حفظا لها، وسواء وجد فيها الحيض أو لا، (و) عدة (أمة) توفي عنها زوجهاب (نصفها) شهرأن وخمس ليال بخمسة أيام لإجماع الصحابة على تنصف عدة الأمة في الطلاق (¬3)، فكذا في عدة الموت، وكالحد، (و) عدة (مبعضة بالحساب)، فمن نصفها حر ونصفها رقيق عدتها ثلاثة أشهر وثمانية أيام بلياليها، ومن ثلثها حر فشهران وسبعة وعشرون يوما. وإن ارتد الزوج بعد الدخول فمات أو قتل قبل انقضاء عدتها سقط ما مضى من عدتها وابتدأت (¬4) عدة [وفاة] (¬5) من موته نصا (¬6)؛ لأنه كان يمكنه تلافي النكاح بإسلامه، أو ¬
مات زوج كافرة أسلمت بعد دخوله بها في عدتها قبل إسلامه سقط ما مضى من عدتها وابتدأت عدة وفاة من موته نصا (¬1) لما تقدم، أو مات زوج مطلقة رجعية قبل انقضاء عدتها سقطت عدة طلاق وابتدأت عدة وفاة من موته؛ لأنها زوجة يلحقها طلاقه وإيلاؤه (¬2)، وإن مات في عدة من أبانها في الصحة لم تنتقل من عدة الطلاق؛ لأنها أجنبية منه في النظر إليها، والتوارث، ولحوقها طلاقه. (وتعتد من أبانها في مرض موته) المخوف فرارا (¬3) (الأطول من عدة وفاة وطلاق (¬4)؛ لأنها وارثة)، فتجب عليها عدة وفاة كالرجعية ومطلقة فيلزمها عدة الطلاق، ويندرج أقلهما في الأكثر، ما لم تكن أمة أو ذمية والزوج مسلم، أو جاءت البينونة منها بأن سألته الطلاق فتعتد لطلاق لا غير؛ لانقطاع أثر النكاح بعدم إرثها منه. ومن طلق معينة من نسائه ونسيها، أو طلق مبهمة ثم مات قبل قرعة اعتد نساؤه سوى حامل الأطول من عدة طلاق ووفاة؛ لأن كلا منهن يحتمل أن تكون زوجة أو مطلقة فاحتيط للعدة، وعدة الحامل وضع الحمل مطلقا كما تقدم. وإن ارتابت متوفى عنها زمن تربصها أو بعده بأمارات الحمل كحركة أو انتفاخ بطن أو ¬
رفع حيض لم يصح نكاحها حتى تزول (¬1) الريبة للشك في انقضاء عدتها أو تغليبا لجانب الحظر، وزوال الريبة انقطاع الحركة وزوال الانتفاخ، أو عود الحيض، أو مضي زمن لا يمكن أن تكون فيه حاملا، وإن ظهرت الريبة بعد نكاحها دخل الزوج أو لا لم يفسد النكاح؛ لأنه شك طرأ على يقين النكاح فلا يزيله، ولم يحل لزوجها وطؤها (¬2) حتى تزول الريبة للشك في صحة النكاح لاحتمال أن تكون حاملا، ومتى ولدت لدون نصف سنة من عقد عليها وعاش تبينا فساد النكاح، وإن ولدته لأكثر من ذلك لحق بالزوج الثاني والنكاح صحيح. (الثالثة) من المعتدات: (ذات الحيض المفارقة في الحياة) بعد دخول أو خلوة ولو بطلقة ثالثة إجماعا، قاله في "الفروع" (¬3)، (فتعتد حرة ومبعضة) مسلمة كانت أو كافرة (بثلاث حيضات) لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬4) والقرء: الحيض روي عن عمر (¬5) وعلي (¬6) وابن ¬
عباس (¬1) لأنه المعهود في لسان الشرع كحديث: "تدع الصلاة أيام أقرائها" رواه أبو داود (¬2)، وحديث: "إذا أتى قرؤك فلا تصلي، وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء" رواه النسائي (¬3) ولم يعهد في لسانه استعمال القرء بمعنى ¬
الطهر، وإن كان في اللغة القرء مشتركا بين الحيض والطهر (¬1). (و) تعتد (أمة بحيضتين) لحديث: " قرء الأمة حيضتان" (¬2) ولأنه قول [عمر] (¬3) وابنه (¬4) وعلي (¬5) ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة فكان إجماعا وهو مخصص لعموم الآية، وكان القياس أن تكون عدتها حيضة ونصفها كحدها إلا أن الحيض لا يتبعض. ولا تعتد بحيضة طلقت فيها بل تعتد بعدها بثلاث حيض كوامل أو حيضتين إن كانت أمة، قال في "الشرح" (¬6): "ولا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم". ولا تحل لغير مطلقها ¬
إذا انقطع دم الحيضة الأخيرة حتى تغتسل فيـ[قول] (¬1) أكابر الصحابة، منهم أبو بكر (¬2) وعمر (¬3) وعثمان (¬4) وعلي (¬5) وابن مسعود (¬6) وأبو (¬7) موسى (¬8) وعبادة بن الصامت (¬9) ¬
وأبو الدرداء (¬1)، ولأن وطء الزوجة قبل الاغتسال حرام لوجود أثر الحيض، فلما منع الزوج الوطء كما منعه الحيض وجب أن يمنع ما منعه الحيض وهو النكاح، وتنقطع بقية الأحكام من التوارث، ووقوع الطلاق، وصحة اللعان، وانقطاع النفقة، ونحوها بانقطاع دم الحيضة الأخيرة؛ لأن هذه الأحكام لا أثر فيها للاغتسال بخلاف النكاح، لأن المقصود منه الوطء، ولا تحسب مدة نفاس لمطلقة بعد وضع، فلا تحسب بحيضة بل لا بد من حيضها بعد ذلك ثلاث حيض كاملة للآية. (الرابعة) من المعتدات: (المفارقة في الحياة ولم تحض) بعد (للصغر أو الإياس) (¬2) من الحيض، (فتعتد حرة بثلاثة أشهر) لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬3) أي كذلك، من وقت الفرقة، فإن فارقها نصف الليل أو النهار اعتدت من ذلك الوقت إلى مثله في قول أكثر أهل العلم (¬4)، (و) تعتد (أمة) لم تحض (بشهرين) نصا (¬5)، واحتج بقول عمر: "عدة أم الولد حيضتان ولو لم تحض كان عدتها شهرين" رواه ¬
الأثرم (¬1)، وليكون البدل كالمبدل، ولأن غالب النساء يحضن في كل شهر حيضة. (و) تعتد (مبعضة) لم تحض كذلك (بالحساب)، فتزيد على الشهرين من الشهر الثالث بقدر ما فيها من الحرية، فمن ثلثها حر تعتد بشهرين وعشرة أيام وهكذا. (وعدة بالغ لم تر حيضا) (¬2) ولا نفاسا كآيسة، لدخولها في عموم قوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}. (و) عدة (مستحاضة مبتدأة أو ناسية) لوقت حيضها (كآيسة) (¬3)، لأنهما لا يعلمان وقت حيضهما، ومن علمت أن لها حيضة في كل أربعين يوما مثلا، واستحيضت ونسيت وقت حيضها فعدتها ثلاثة أمثال ذلك، ومن لها عادة من المستحاضات عملت بها، أو لها تمييز [عملت] (¬4) به إن صلح حيضا لما تقدم في بابه (¬5). وإن حاضت صغيرة مفارقة في الحياة في أثناء عدتها استأنفتها بالقرء؛ لأن الأشهر بدل عن الأقراء لعدمها، فإذا وجد المبدل بطل حكم البدل، كالمتيمم يجد الماء بعد أن تيمم لعدمه، ومن يئست في أثناء عدة أقراء بأن بلغت سن الإياس فيها وقد حاضت بعض أقرائها أو لم تحض ابتدأت عدة آيسة بالشهور، لأنها إذن آيسة ولا يعتد بما حاضته ¬
قبل، وإن عتقت معتدة في عدتها أتمت عدة أمة، لأن الحرية لم توجد في الزوجية، إلا الرجعية، فتتم عدة حرة لأنها في حكم الزوجات. (الخامسة) من المعتدات: (من ارتفع حيضها ولم تعلم ما رفعه لتعتد للحمل غالب مدته) تسعة أشهر لتعلم براءة رحمها (ثم تعتد) بعد ذلك (كآيسة)، على ما مر تفصيله آنفا في الحرة والمبعضة، قال الشافعي: "هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منهم منكر علمناه" (¬1). ولأن الغرض بالعدة معرفة براءة رحمها وهي تحصل بذلك واكتفي به، وإنما وجبت العدة بعد التسعة أشهر؛ لأن عدة الشهور لا تجب إلا بعد العلم ببراءة الرحم من الحمل إما بالصغر أو الإياس، وهنا لما احتمل انقطاع الحيض للحمل أو الإياس اعتبرت البراءة من الحمل بمضي مدته، فتعين كون الانقطاع للإياس، فوجبت عدته عند تعينه، ولم يعتبرما مضى كما لا يعتبر ما مضى من الحيض قبل الإياس؛ لأن الإياس طرأ عليه، ولا تنقضي العدة لعود الحيض يعد المدة لانقضاء عدتها كالصغيرة تعتد ثلاثة أشهر ثم تحيض. (وإن علمت) معتدة انقطع حيضها (ما رفعه) من مرض أو رضاع ونحوه (فلا تزال) في عدة (حتى يعود) حيضها (فتعتد به) وإن طال الزمن لعدم إياسها من الحيض، فتناولها عموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬2) وكما لو كانت ممن بين حيضها مدة طويلة (أو) حتى (تصير آيسة) أي تبلغ سن (¬3) الإياس (فتعتد ¬
عِدَّتَهَا) [أي] (¬1) الآيسة نصًّا (¬2) لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} الآية (¬3). ويقبل قول زوج اختلف مع مطلقته في وقت طلاق أنه لم يطلق إلا بعد حيض أو ولادة أو في وقت كذا حيث لا بينة لها؛ لأنه يقبل قوله في أصل الطلاق وعدده، فكذا في وقته، لأن ذلك يرجع إلى الاختلاف في بقاء العدة وهو الأصل. (السَّادِسَةُ) من المعتدات: (امْرَأةُ المَفْقُودِ) أي الذي انقطع خبره فلم تعلم حياته ولا موته فـ (تَتربَّصُ ولو) كانت (أَمَة أربعُ سنينٍ) منذ فقد (إِنْ انقَطَعَ خَبرُهُ لغَيْبَةٍ ظَاهِرُهَا الهَلاكُ)، كالمفقود من بين أهله أو في مفازة أو بين الصفين حال حرب ونحوه، وساوت الأمة هنا الحرة؛ لأن تربص المدة المذكورة ليعلم حاله من حياة وموت، وذلك لا يختلف بحال زوجته، (و) تتربص تمام (تسْعِينَ) سنة (مُنْذُ وُلدَ إِنْ كانَ ظَاهِرُهَا) أي غيبته (السَّلامَةَ ثُمَ تَعْتَدُّ) في الحالين (للوَفَاةِ) الحرةُ أربعة أشهر وعشرًا والأمة نصف ذلك. ولا تفتقر امرأة المفقود في ذلك التربص إلى حكم حاكم بضرب المدة، وعدة الوفاة فلا تتوقف على ذلك، كقيام البينة بموته وكمدة الإيلاء، ولا تفتقر إلى طلاق ولي زوجها بعد اعتدادها لوفاة؛ لأنه لا ولاية لوليه في طلاق امرأته. وينفذ حكم حاكم بالفرقة ظاهرًا فقط بحيث إن حكمه بالفرقة لا يمنع وقوع طلاق ¬
المفقود، لأنه حَكَم بالفرقة بناء على أن الظاهر هلاكه فإذا علمت حياته تبين أن لا فرقة كما لو شهدت بها بينة كاذبة، فيقع طلاقه لمصادفته محله، وتنقطع النفقة عن امرأة المفقود بتفريق الحاكم أو بتزويجها إن لم يحكم بالفرقة لإسقاطها (¬1) نفقتها بخروجها (¬2) عن حكم نكاحه، فإن قدم واختارها ردت إليه وعادت نفقتها من الرد، قال ابن عمر وابن عباس: "ينفق عليها في العدة بعد الأربع سنين من مال زوجها جميعه أربعة أشهر وعشرا" (¬3)، فإن لم يفرق الحاكم ولم تتزوج واختارت المقام حتى يتبن أمره فلها النفقة ما دام حيًا من ماله، وان ضرب لها الحاكم مدة التربص فلها النفقة فيها لا في العدة. ومن تزوجت قبل ما ذكر من التربص والاعتداد بعده لم يصح نكاحها، ولو بأن أنه كان طلق وانقضت عدتها قبل أن تتزوج، أو بَانَ أنه كان ميتًا [وأن] (¬4) عدة الوفاة انقضت حين التزويج لتزوجها في مدة منعها الشرع النكاح فيها أشبهت المعتدة والمرتابة قبل زوال ريبتها. ومن تزوجت بعد التربص والعدة ثم قدم زوجها قبل وطء الثاني دفع إليه ما أعطاها من مهر وردت إلى قادم؛ لأنا تبينا بقدومه بطلان نكاح الثاني ولا مانع من الرد فترد إليه لبقاء نكاحه، ويخير المفقود إن وطئ الزوج الثاني قبل قدومه بين أخذها بالعقد الأول لبقائه ولو لم يطلق الثاني ويطأها الأول بعد عدة الثاني، وبين تركها معه بلا ¬
تجديد عقد لصحة عقده ظاهرًا، قال المنقّح: " قلت الأصح بعقد" انتهى (¬1). لما روي عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان [و] (¬2) قالا: "إن جاءها زوجها الأول خير بين المرأة وبين الصداق الذي ساق هو" رواه الجوزجاني (¬3) والأثرم (¬4) ورويا معناه عن على (¬5)، قال أحمد: "روي عن عمر من ثمانية وجوهٍ، وقضى به ابن الزبير في مولاة لهم (¬6)، ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة" (¬7)، وإنما وجب تحديد (¬8) العقد للثاني ¬
لتبين بطلان عقده بمجئ الأول، ويحمل قول الصحابة على ذلك لقيام الدليل، فإن زوجة إنسان لا تصير زوجة لغيره بمجرد الترك، وفي "الرعاية": إن قلنا: يحتاج الثاني عقدًا جديدًا طلقها الأول (¬1)، قال الشيخ منصور: "قلت: فعليه لا بد من العدة بعد طلاقه وهو ظاهر". (¬2) ويأخذ الزوج الأول قدر الذي أعطاها من الثاني إذا تركها، ويرجع الثاني عليها بما أخذه منه الزوج الأول، لأنها غرته، ولئلا يلزمه مهران بوطء واحد. وإن لم يقدم الأول حتى مات الثاني وَرثته لصحة نكاحه في الظاهر، بخلاف ما إذا مات الأول بعد تزوجها فلا ترثه لإسقاطها (¬3) حقها من إرثه بتزوجها. وإن ماتت بعد قدوم الأول ووطء الثاني فإن اختارها الأول ورثها، وإن لم يخترها ورثها الثاني بناء على أنه لا يحتاج إلى تجديد عقد إذن. ومن ظهر موته باستفاضة أو يينة تشهد يموته كذبًا ثم قدم فكمفقود فترد إليه إن لم يطأ الثاني ويخير إن كان وطئ على ما تقدم، وتضمن البينة التي شهدت بموته ما تلف من ماله لتلفه بسبب شهادتها (¬4)، وتضمن مهر الثاني الذي أخذه منه الأول لتسببها في غرمه ذلك. ومتى فرق بين زوجين لموجب يقتضيه كأخوة رضاع وتعذر نفقة من جهة (¬5) ¬
زوج، وعنةٍ، ثم بان انتفاؤه فكمفقود قدم بعد تزوج امرأته، (وإِنْ طَلَّقَ غَائِبٌ) عن زوجته (أَوْ مَاتَ) عنها (فَابْتِدَاءُ العِدَّةِ مِنَ الفُرْقَةِ) أي وقت الطلاق والموت لدخولها في عموم ما سبق، وإن لم تُحِدْ فيما إذا مات عنها؛ لأن الإحداد ليس شرطًا لانقضاء العدة سواء ثبت ذلك ببينة أو أخبرها من تثق به. (وعِدَّةُ مَنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ زِنًا) حرة كانت أو أمة (كـ) عدة (مُطَلقَةٍ) لأنه وطء يقتضي شغل الرحم فوجبت العدة منه كالوطء في النكاح إ (لا أمة غَير مُزَوَّجةٍ فَتُسْتَبْرأ) إذا وطئت بشبهة أو زنا (بحيْضَةٍ)؛ لأن استبراءها من الوطء المباح يحصل بذلك فكذا غيره، ولا يحرم على زوج حرة وطئت بشبهة أو زنا زمن عدة غير وطء في فرج، لأن تحريمها لعارض يختص بالفرج فأبيح الاستمتاع منها بما دونه كالحيض، ولا ينفسخ نكاحها بزنا نصًّا (¬1)، وإن أمسكها زوجها فلم يطلقها لزنا لم يطأها حتى تنقضي عدتها كغيرها من المعتدات. ¬
فصل
فَصْلٌ (وَإِنْ وُطِئَتْ مُعْتَدَّةٌ بِشبْهَةٍ أَوْ زِنًا أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ) فرق بينهما و (أتَمَّتْ عِدَّةَ الأَوَّلِ)، سواء كانت عدته من نكاح صحيح أو فاسدٍ، أو وطء بشبهةٍ أو زنا ما لم تحمل من الثاني فتنقضي عدتها منه بوضع الحمل ثم تتم عدة الأول، (ولا يُحْتَسَب مِنْهَا) أي عدة الاول (مَقَامُهَا عِنْدَ ثَانٍ) بعد وطئه لانقطاعها بوطئه، وللأول رجعتها إن كانت رجعية في تتمة عدته لعدم انقطاع حقه من رجعتها، (ثُمَّ اعْتَدَّت) بعد تتمة عدة الأول (لـ) وطء (ثانٍ) لخبر مالك عن عليٍّ: "أنه قضى في التي تتزوج في عدتها أنه يفرق بينهما، ولها الصداق بما استحل من فرجها، وتكمل ما أفسدت من عدة الأول، وتعتد من الآخر" (¬1)، ولأنهما حقان اجتمعا لرجلين فلم يتداخلا وقدم أسبقهما كما لو تساويا في مباح غير ذلك. وإن ولدت من أحدهما بعينه أو ألحقته به قافة وأمكن أن يكون ممن ألحقته به بأن تأتي [به] (¬2) لنصف سنة فأكثر من وطئ الثاني أو لأربع سنين فأقل من بينونة الأول لحقه وانقضت عدتها به ممن ألحق به، لأنه حمل وضعته فانقضت عدة أبيه دون غيره ثم ¬
اعتدت للآخر، وإن ألحقته القافة بهما ألحق وانقضت عدتها به منهما لثبوت نسبه منهما، وإن أشكل الولد على القافة اعتدت بعد وضعه بثلاثة قروء لتخرج من العدتين بيقين. ومن وطئت زوجته بشبهة أو زنا ثم طلقها اعتدت لطلاق إن كان دخل بها لأنها عدة مستحقة بالزوجية فقدمت على غيرها لقوتها؛ ثم تتم العدة للشبهة أو الزنا لأنها عدة مستحقة عليها فلا تبطل بتقديم الأخرى عليها، ويحرم وطء زوج زوجة موطؤة بشبهة أو زنا ولو مع حمل منه قبل عدة وأطئ (¬1) لما تقدم، فإذا ولدت إعتدت للشبهة، ثم للزوج وطؤها. ومن تزوجت في عدتها فنكاحها باطل، ويفرق بينهما، وتسقط نفقة رجعية وسكناها (¬2) عن الأول لنشوزها ولم تنقطع عدتها بالعقد حتى يطأ الثاني لأنه عقد باطل لا تصير به المرأة فراشًا، فإن وطئها انقطعت (¬3) ثم إذا فارقها بنت على عدتها من الأول لسبق حقه واستأنفت العدة كاملة للثاني؛ لأنهما عدتان من رجلين فلا يتداخلان، وللثاني أن ينكحها بعد انقضاء العدتين لعموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (¬4) مع عدم المخصّص، ولأن تحريمها عليه إما أن يكون بالعقد الفاسد أو الوطء فيه أو بهما، وجميع ذلك لا يقتضي التحريم كما لو نكحها بلا ولي ووطئها، ولأنها لا تحرم على الزاني على التأبيد فهذا أولى، وما روي عن عمر في ¬
تحريمها على التأبيد (¬1) خالفه فيه علي، وروي عن عمر أنه رجع إلى قول علي، فإن عليا قال: "إذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب" (¬2) فقال عمر: "ردوا الجهالات إلى السنة" (¬3)، ورجع إلى قول علي. وتتعدد (¬4) عدة بتعدد واطئ بشبهة لحديث عمر (¬5)، ولأنهما حقان مقصودان لآدميين ¬
فلا يتداخلا كالدينين، فإن تعدد الوطء من واحد فعدة واحدة (¬1) ولا تتعدد العدة بتعدد واطئ بزنا خلافًا لما في "الإقناع" (¬2)، وإن طلقت رجعية فلم تنقض عدتها حتى طلقت أخرى بَنَتْ على ما مضى من عدتها، وإن راجعها ثم طلقها استأنفت عدة الطلاق الثاني، وإن أبانها ثم نكحها في عدتها ثم طلقها قبل دخوله بها بنت على [ما] (¬3) مضى من طلاقها؛ لأن الطلاق الثاني في نكاح ثانٍ قبل المسيس والخلوة فلم يوجب عدة لعموم قوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية (¬4) بخلاف ما إذا راجعها ثم طلقها قبل ذلك؛ لأن الرجعة إعادة إلى النكاح الأول، فالطلاق في عدتها طلاق من نكاح واحد فكان استئناف العدة في ذلك أظهر لأنها مدخول بها، ولولا الدخول لما كانت رجعية، وفي البائن [بعد] (¬5) النكاح طلاق عن نكاح متجدد لم يتصل به دخول ولذلك يتنصف به المهر. وإن انقضت عدة البائن قبل طلاقه ثانيًا وقد نكحها ولم يدخل بها فلا عدة للطلاق الثاني، لأنه من نكاح لا دخول (¬6) فيه ولا خلوة، ولم يبق من عدة الطلاق الأول شيء تبني عليه. ¬
فصل
فصل (ويحرم إحداد على غير زوج فوق ثلاث) ليال بأيامها (¬1) [لحديث] (¬2): "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج، أربعة أشهر وعشرا" متفق عليه (¬3). (ويجب) الإحداد (على زوجة ميت) بنكاح صحيح للخبر، وأما الفاسد فليست زوجة فيه شرعا، ولأنها كانت تحل له ويحل لها فتحزن عليه ولو كانت ذمية أو أمة أو غير مكلفة زمن عدته لعموم الأحاديث، ولتساويهن في اجتناب المحرمات وحقوق النكاح، ولا يجب على بائن بطلقة أو ثلاث أو فسخ، (ويباح) الإحداد (لبائن) ولا يسن لها، قاله في "الرعاية" (¬4). (وهو) أي الإحداد: (ترك) الـ (زينة و) ترك (طيب) ولو بها سقم لتحريك الطيب للشهوة ودعائه إلى نكاحها ولو الطيب في دهن، كدهن ورد ونحوه، (و) ترك (كل مد يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها) للأخبار الصحيحة، وترك لبس حلي ولو ¬
خاتما لقوله عليه السلام: "ولا الحلي" (¬1)، ولأن الحلي يزيد حسنها ويدعو إلى نكاحها، وترك لبس ملون من ثياب لزينة كأحمر وأصفر وأخضر وأزرق صافيين، وما صبغ قبل نسج كالمصبوغ بعده، وترك تحسين بحناء أو إسفيداج (¬2)، وترك تكحل بكحل أسود بلا حاجة إليه، ولها اكتحال بنحو توتيا (¬3)، وترك تحمير وجه ونحوه لحديث أم عطية (¬4): "كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل ولا نتطيب، ولا نلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب" رواه ¬
الشيخان (¬1)، وقي رواية قالت: "قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: لا يحل لامرأة تومن باللَّه واليوم الآخر أن تحد على ميت أكثر من ثلاث إلا زوج، فإنها لا تكتحل ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط أو أظفار" متفق عليه (¬2)، والعصب: ثياب يمانية فيها بياض وسواد يصبغ غزلها ثم ينسج، قاله القاضي (¬3)، وصحح في "الشرح" (¬4): أنه نبت يصبغ به. ولا تمنع من صبر يطلى به بدنها، لأنه لا طيب فيه إلا في الوجه فلا تطلي به وجهها، لحديث أم سلمة قالت: "دخل علي رسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرا فقال: ماذا يا أم سلمة؟ فقلت: إنما هو صبر ليس فيه طيب، قال: إنه يشب الوجه، لا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار، ولا تمشطي بالطيب، ولا بالحناء، فإنه خضاب" (¬5)، ولا تمنع من ليس أبيض ولو حسنا من ¬
إبريسم؛ لأن حسنه من أصل خلقته فلا يلزم تغييره كالمرأة الحسناء الخلقة لا يلزمها تغيير نفسها في عدة الوفاة وتشوييها، ولا تمنع [من] (¬1) ملون (¬2) لدفع وسخ، ككحلي، وكأخضر غير صاف لأنه في معنى ثوب العصب، ولا تمنع من نقاب؛ لأنه ليس منصوصا عليه ولا هو في معنى المنصوص عليه، والمحرمة منعت منه لمنعها من تغطية وجهها، ولا تمنع من أخذ ظفر ونحوه، ولا من تنظف وغسل وامتشاط ودخول حمام لأنه لا يراد للزينة ولا طيب فيه. (ويحرم بلا حاجة تحولها) أي المعتدة لوفاة (من مسكن وجبت) العدة (فيه)، وهو الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه ولو مؤجرا أو معارا، روي عن عمر (¬3) وعثمان (¬4) وابن عمر (¬5) وابن ¬
مسعود (¬1) وأم سلمة (¬2)، لحديث فريعة (¬3) وفيه: "امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله، فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا" رواه الخمسة وصححه الترمذي (¬4)، فإن كان خروجها لحاجة لم يحرم، كخروجها لخوف على ¬
نفسها أو مالها، وتحويل مالك المسكن لها، ولطلبه فوق أجرته المعتادة، أو لا تجد ما تكتري به إلا من مالها؛ لأن الواجب السكن لا تحصيل المسكن، فإذا تعذرت السكنى سقطت فيجوز تحولها إلى حيث شاءت لسقوط الواجب للعذر، ولم يرد الشرع بالاعتداد في معين غيره فاستوى في ذلك القريب والبعيد. ولا تخرج معتدة لوفاة ليلا؛ لأن الليل مظنة الفساد، (ولها الخروج لحاجتها نهارا)، ولو كان لها من يقوم بمصالحها، فلا تخرج لغير حاجتها كعيادة وزيارة ونحوهما. ومن سافرت زوجته بإذنه أو معه لنقلة إلى بلد آخر فمات قبل مفارقة البنيان رجعت واعتدت بمنزله؛ لأنها في حكم المقيمة، أو سافرت لغير النقلة ولو لحج ولم تحرم ومات قبل مسافة قصر رجعت واعتدت بمنزله، لما روى سعيد بن منصور بإسناده عن (¬1) سعيد بن المسيت قال: "توفي أزواج نساء وهن حاجات أو معتمرات، فردهن عمر من ذي الحليفة حتى يعتددن في بيوتهن" (¬2)، ولأنها أمكنها أن تعتد في منزلتها ¬
قبل أن تبعد فلزمها كما لو لم تفارق البنيان. وإن مات زوجها بعد مفارقة البنيان إن كان سفرها لنقلة، أو بعد مسافة قصر إن كان لغيرها تخير بين الرجوع فتعتد في منزلها وبين المضي لقصدها؛ لأن كلا من البلدين سواء إليها، لأنها كانت ساكنة بالأول ثم خرج عن كونه منزلا لها بإذنه في الانتقال كما لو حولها قبله، والثاني لم يصر منزلها؛ لأنها لم تسكنه، وحيث مضت أقامت لقضاء خاجتها، فإن كان لنزهة أو زيارة، فإن كان قدر مدة إقامتها وإلا أقامت ثلاثا، فإذا مضت وقضت حاجتها، فإن كان خوف ونحوه أتمت العدة بمكانها، وإذا إن كانت لا تصل إلى منزلها إلا بعد انقضائها، وإلا لزمها العود لتتمها به. وتعتد بائن بطلقة أو أكثر أو فسخ بمكان مأمون من البلد الذي بانت فيه حيث شاءت منه نصا (¬1)، لحديث فاطمة بنت قيس قالت: "طلقني زوجي ثلاثا، فأذن لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن أعتد في أهلي" رواه مسلم (¬2) ولا تبيت إلا به، ولا تسافر قبل انقضاء عدتها لما في البيتوتة بغير منزلها وسفرها إلى غير بلدها من التبرج والتعرض للريبة، وإن أراد مبينها إسكانها بمنزله أو غيره مما يصلح لها تحصينا لفراشه ولا محذور فيه من رؤية ما لا يحل له رؤيته أو خوف عليها ونحوه لزمها ذلك؛ لأن الحق له فيه، وضرره عليه، فكان على اختياره وإن لم تلزمه نفقة، كمعتدة لوطء شبهة أو من نكاح فاسد ¬
أو مستبرأة لعتق فتجب السكنى عليهن بما يختاره الواطئ والسيد تحصينا لفراشه بلا محذور، ولا يلزم الواطئ ولا السيد إسكانها حيث لا حمل. ورجعية في لزوم منزل مطلق كمتوفى عنها زوجها نصا (¬1)، لقوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} (¬2)، وسواء أذن لها المطلق في الخروج أو لا؛ لأنه من حقوق العدة، وهي حق للَّه تعالى فلا يملك الزوج إسقاط شيء من حقوقها كما لا يملك إسقاطها، ومن امتنع من لزمته سكنى زوجته أو مبانته أجبره الحاكم بطلب من وجبت لها كسائر الحقوق عليه. وإن غاب اكترى عنه حاكم من ماله لقيامه مقامه في أداء ما وجب عليه، أو اقترض عليه إن لم بِحد له مالا، أو فرض أجرته لتؤخذ منه إذا حضر، وإن اكترت المسكن من وجبت لها السكنى بإذن من وجبت عليه، أو بإذن حاكم إن عجزت عن استئذانه، أو بدونهما ولو مع قدرة على استئذان حاكم رجعت بمثل ما اكترت به، لقيامها عنه بواجب كسائر من أدى عن غيره دينا واجبا بنية رجوع، ولو سكنت في ملكها بنية رجوع عليه بأجرته فلها أجرته لوجوب إسكانها عليه فلزمته أجرته، ولو سكنت ملكها أو اكترت مسكنا مع حضوره وسكوته فلا طلب لها عليه بشيء؛ لأنه ليس بغائب ولا ممتنع ولا آذن، كما لو أنفق على نفسه من لزمت غيره نفقته في هذه الحال. ¬
فصل في استبراء الإماء
فصل في استبراء الإماء من البراءة -أي التمييز والانقطاع- يقال: برئ اللحم من العظم إذا قطع عنه وفصل (¬1). وهو شرعا: قصد علم براءة رحم ملك يمين من قن ومكاتبة ومدبرة وأم ولد ومعلق عتقها بصفة، من حمل غالبا (¬2)، بوضع حمل أو حيضة أو شهر أو بعشرة أشهر، -وسيأتي تفصيل ذلك-، عند حدوث ملك بشرإء أو هبة ونحوهما، وعند زواله بعتق أو زوال استمتاعه بأن أراد تزويجها. والأصل فيه حديث رويفع بن ثابت (¬3) مرفوعا: "من كان يؤمن باللَّه واليوم اللآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره" رواه أحمد وغيره (¬4)، ولأبي سعيد في سبي أوطاس (¬5) ¬
مرفوعا: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض" رواه أحمد وأبو داود (¬1). ويجب الاستبراء في ثلاثة مواضع فقط بالاستقراء (¬2): - أحدها: ما ذكره بقوله: (ومن ملك) من ذكر ولو طفلا (أمة) بإرث أو شراء ونحوه (يوطأ مثلها) بكرا كانت أو ثيبا ولو مسبية، أو لم تحض لصغر أو إياس (من أي شخص كان) ملكها منه ولو طفلا (حرم عليه وطء) ـها (ومقدماته) من نحو قبلة (قبل استبراء) لما تقدم، وكالعدة قال أحمد: "بلغني أن العذارء تحمل" فقال له بعض أهل المجلس: نعم قد كان في جيراننا. (¬3) ومقدمات الوطء مثله، ولأنها لا يؤمن كونها حاملا (¬4) من بائعها فهي أم ولده فلا يصح بيعها، فيكون مستمتعا بأم ولد غيره، فإن ¬
عتقت قبل الاستبراء لم يجز أن ينكحها ولم يصج نكاحها منه إن تزوجها حتى يستبرئها؛ لأنه (¬1) كان يحرم عليه وطوها قبل استبرائها قبل العتق فحرم عليه تزوجها بعده كغيره ولو لم يكن بائعها يطأ. ومن أخذ من مكاتبه أمة حاضت عنده أو باع أو وهب أمته ثم عادت إليه بفسخ أو غيره ولو قبل تفرقهما عن المجلس حيث انتقل الملك وجب إستبراؤها ولو قبل قبض. ولا يجب استبراء إن عادت إليه مكاتبته أو رحمها المحرم بعجز أو فك أمته من رهن أو أخذ من عبده التاجر أمة وقد حضن قبك ذلك لعدم تجدد الملك، أو أسلحت مجوسية حاضت عند سيد مسلم، أو أسلمت مرتدة حاضت كما تقدم، أو ملك صغيرة لا يوطئ مثلها؛ لأن براءة رحمها محسوسة، ولا يجب استبراء بملك أنثى من أنثى أو ذكر؛ لأنه لا فائدة فيه، قلت: ولعله إن كان البائع الذكر استبرأها وإلا فلا بد من الاستبراء إن أرادت تزويجها واللَّه أعلم. وسن استبراء لمن ملك زوجته بإرث أو شراء ونحوهما ليعلم وقت حملها إن كانت حاملا، ومتى ولدت لستة أشهر فأكثر منذ ملكها فأم ولد وإلا فلا. [و] (¬2) يجزئ استبراء من ملكت بشراء أو غيره قبل قبض، ولمشتر زمن خيار لوجود الاستبراء، وهي في ملكه كما بعد القبض أو انقضاء الخيار. ويد وكيل كيد موكل لقيامه مقامه، ومن ملك معتدة من غيره أو متزوجة فطلقها زوجها بعد دخول، أو مات زوجها اكتفي بالعدة لحصول العلم بالبراءة بها، فلا فائدة في الاستبراء. ¬
وله وطء معتدة منه بغير طلاق ثلاث فيها (¬1)؛ لأنه لا يلزمه استبراؤها من مائه. وإن طلقت من ملكت مزوجة (¬2) قبل دخول وجب استبراؤها نصا (¬3)، وقال: هذه حيلة وضعها أهل الرأي لا بد من استبرائها لأنه تجدد له الملك فيها ولم يحصل استبراؤها في ملكه، فلم تحل له بغير استبراء كما لو لم تكن مزوجة، ولأنه ذريعة إلى إسقاط الاستبراء بأن يزوجها البائع إذا أراد بيعها ثم إذا أتم البيع طلقها زوجها قبل دخوله. الموضع الثانى: إذا وطئ أمته التي يوطأ مثلها ثم أراد تزويجها أو بيعها حرما حتى يستبرئها؛ لأن الزوج لا يلزمه استبراء فيفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب، ولأن عمر: "أنكر على عبد الرحمن بن عوف بيع جارية كان يطأها قبل استبرائها" (¬4)، ولأن المشتري يجب عليه الاستبراء لحفظ مائه فكذا البائع، وللشك في صحة البيع قبل الاستبراء لاحتمال أن تكون أم ولد، ولأنه قد يشتريها من لا يستبرئها فيفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب، فلو خالف فزوجها أو باعها قبل استبرائها صح البيع -لأن الأصل عدم الحمل- دون النكاح فلا يصح كتزوج المعتدة، وإن لم يطأ سيد أبيح البيع والنكاح قبل الاستبراء لعدم وجوبه إذن. الموضع الثالث: إذا أعتق أم ولده أو سريته، أو مات عنها لزمها استبراء [نفسها] (¬5)؛ لأنها فراش لسيدها وقد فارقها بالعتق أو الموت، فلم يجز أن تنتقل إلى ¬
فراش غيوه بلا استبراء، ولا يلزمها استبراء إن استبرأها قبل عتقها لحصول العلم ببراءة الرحم، أو أراد تزوجها بعد عتقها فلا استبراء لأنها لم تنتقل إلى فراش غيره. ويحصل استبراء (حامل بوضع) ماتنقضي به العدة للآية والخبر والمعنى (¬1)، (و) استبراء (من تحيض بحيضة) تامة، لحديث: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة" (¬2). (و) استبراء (آيسة وصغيرة) وبالغة لم تحض (بشهر) لإقامته مقام حيضة، ولذلك اختلفت الشهور باختلاف الحيض، وإن حاضت في الشهر فاستبراؤها بحيضة كالصغيرة إذا حاضت في عدتها، فإن حاضت بعده فقد حصل الاستبراء به. وأما استبراء من ارتفع حيضها ولم تدر ما رفعه فبعشرة أشهر تسعة للحمل وشهر للاستبراء لما تقدم في العدة، وإن علمت ما رفع حيضها من مرض أو رضاع أو غيره فكحرة، فلا تزال في استبراء حتى يعود الحيض فتستبرأ بحيضة أو تصير آيسة فتستبرأ بشهر. وإن ادعت أمة موروثة تحريمها على وارث بوطء مورثه كأبيه وابنه صدقت قال الشيخ منصور: "ولعله ما لم تكن مكنته قبل" (¬3). أو ادعت أمة مشتراة أن لها زوجا صدقت فيه لأنه لا يعرف إلا من جهتها. ¬
(فصل) في الرضاع
(فصل) في الرضاع - بفتح الراء وقد تكسر- وهو لغة: مص لبن من ثدي وشربه (¬1). وشرعا: مص لبن في الحولين ثاب عن حمل من ثدي امرأة أو شربه نحوه (¬2)، كأكله بعد تجبينه وسعوط به ووجور (¬3). (ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (¬4)، وحديث عائشة مرفوعا: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة"، رواه الجماعة، ولفظ ابن ماجة: "من النسب"، (¬5)، وأجمعوا ¬
على أن الرضاع محرم في الجملة (¬1). (على رضيع) متعلق بيحرم أي يحرم على رضيع من الرضاع في الحولين ذكرا كان أو أنثى ما يحرم عليه من النسب، فإذا حملت امرأة من رجل ثبت نسب ولدها منه بأن تكون زوجته أو أمته أو موطوءته بشبهة فثاب لها منه لبن فارضعت به ولو مكرهة طفلا رضاعا محرما بأن يكون خمس رضعات في الحولين -ويأتي- صار الطفل ولدا لهما في تحريم النكاح للآية والخبر، وفي إباحة النظر والخلوة، وفي ثبوت المحرمية، وصار أولاد الطفل من البنين والبنات وإن سفلوا أولاد ولدهما، وصارا أبويه، وآباؤهما أجداده وجداته، وإخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته، وإخوة الرجل وأخواته أعمامه وعماته، وجميع أولاد المرضعة الذين ارتضع معهم الطفل والحادثين بعده وقبله من زوجها ومن غيره وجميع أولاد الرجل الذي انتسب الحمل إليه من المرضعة ومن غيرها إخوة المرتضع وأخواته، وأولاد أولادهما أولاد إخوته وأخواته وإن نزلت درجتهم. (و) كذا يحرم على (فرعه) أي الرضاع (وإن نزل) في درجة أو درجات، فتنتشر حرمة الرضاع من المرتضع إلى أولاده وإن سفلوا، فيصيرون أولاد أولادهما؛ لأن الرضاع كالنسب، والتحريم في النسب يشمل ولد الولد وإن سفل، فكذا الرضاع يشمل الولد ¬
وإن نزل (فقط) فلا تنتشر الحرمة إلى من في درجة المرتضع من إخوته وأخواته؛ لأنها لا تنتشر في النسب فكذا في الرضاع، ولا تنتشر أيضا إلى من هو أعلى من المرتضع من آبائه وأمهاته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته؛ لأن الحرمة إذا لم تنتشر إلى من هو في الدرجة فلأن لا تنتشر إلى من هو أعلى منه بطريق الأولى، فتحل مرضعة لأبي مرتضع ولأخيه وعمه وخاله من النسب، ويحل لأبيه من النسب أن يتزوج أخته من الرضاع، وتحل أم مرتضع وأخته وعمته وخالته من النسب لأبيه وأخيه من الرضاع، قال أحمد: "لا بأس أن يتزوج الرجل أخت أخيه من الرضاع ليس بينهما رضاع ولا نسب". (¬1) وإن أرضعت امرأة بلبن ولدها من الزنا، أو المنفي بلعان طفلا رضاعا محرما صار ولدا لها؛ لأنه رضع من لبنها حقيقة، وحرم على الزاني والملاعن بتحريم المصاهرة؛ لأنه ولد موطوءته، والوطء الحرام الحلال في تحريم الربيب، ولا تثبت حرمة الرضاع في حقهما؛ لأن من شرط ثبوت حرمة الرضاع بين المرتضع والرجل الذي ثاب اللبن بوطئه [أن] (¬2) ينسب الحمل إلى الواطن، فأما ولد الزنا ونحوه فلا. وإن ثاب لامرأة لبن من غير حمل تقدم كلبن البكر التي لم تحمل لم تنتشر الحرمة نصا (¬3)؛ لأنه نادر لم تجر العادة به، أشبه لبن الرجل والبهيمة ولا ينشر الحرمة غير لبن المرأة، فلو ارتضع طفلان من لبن بهيمة لم يصيرا أخوين، أو من لبن رجل أو من لبن ¬
خنثى مشكل لم تنتشر الحرمة. (ولا) تثبت (حرمة) الرضاع (إلا) بشرطين: (بخمس رضعات) فأكثر، لحديث عائشة قالت: "أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخ من ذلك خمس رضعات، وصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن، فتوفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والأمر على ذلك" رواه مسلم (¬1)، والآية فسرتها السنة وبينت الرضاعة المحرمة، وهذا الخبر يخصص عموم حديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"، ومتى امتص طفل ثديا ثم قطعه ولو قهرا أو لتنفس أو لانتقال من ثدي إلى ثدي آخر أو من مرضعة إلى مرضعة أخرى فذلك رضعة تحسب من الخمس، ثم إن عاد ولو قريبا فرضعتان؛ لأن المصة الأولى زال حكمها بترك الارتضاع، فإذا عاد فامتص فهي غير الأولى. ويحرم ما جبن من لبن ثاب عن حمل ثم أطعم للطفل؛ لأنه واصل من حلق يحصل به إنشاز العظم وإنبات اللحم فحصل به التحريم ما لو شربه، أو خلط بغيره وصفاته باقية فيحرم كالخالص؛ لأن الحكم للأغلب. ولا تحرم حقنة بلبن امرأة ولو خمس مرات؛ لأنها ليست برضاع ولا يحصل بها تغذ. ¬
ومن أرضع خمس أمهات أولاده، أو أربع زوجاته وأم ولده، أو ثلاث زوجاته وإماء ونحو ذلك بلبن زوجة له (¬1) صغرى لم يتم لها عامان أرضعتها كل واحدة منهن رضعة حرمت على زوجها أبدا لثبوت الأبوة؛ لأن الخمس رضعات من لبنه أشبه ما لو أرضعتها واحدة منهن الخمس، ولا تحرم عليه أمهات أولاده وزوجاته لعدم ثبوت الأمومة إذا لم ترضعها واحدة منهن خمس رضعات، فلم تكن أما لزوجته. ومن أرضعت بلبنها من زوج طفلا ثلاث رضعات ثم انقطع لبنها ثم أرضعته بلبن زوج آخر رضعتين في العامين ثبتت الأمومة لإرضاعها (¬2) له خمس رضعات، لا الأبوة فلا تثبت لواحد منهما؛ لأنه لم يكمل عدد الرضعات من لبنه، ولا يحل مرتضع لو كان أنثى لواحد من الزوجين لأنها ربيبة قد دخل بأمها. الشرط الثاني: أن تكون خمس الرضعات (في الحولين) فلو ارتضع بعدهما بلحظة لم تثبت الحرمة لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (¬3)، فجعل تمام الرضاعة حولين فدل على أنه لا حكم للرضاعة بعدهما، ولحديث عائشة مرفوعا: "فإنما الرضاعة من المجاعة"، متفق عليه (¬4)، قال في "شرح المحرر" (¬5): "يعني في حال الحاجة إلى الغذاء واللبن". وعن أم ¬
سلمة مرفوعا: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء، وكان قبل الفطام" رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح". (¬1) (وتثبت) حرمة: رضاع (بسعوط) في أنف (و) بـ (وجور) في فم، لحديث ابن مسعود مرفوعا: "لا ما أنشز العظم، وأنبت اللحم" رواه أبو داود (¬2)، ولوصول اللبن بذلك إلى جوفه كوصوله بالارتضاع، وحصول إنشاز العظم وإنبات اللحم كما يحصل بالرضاع بالفم، (و) بـ (لبن) ميتة بأن حلب من ميتة؛ لأنه كلبن حية، وبلبن (موطوءة بشبهة)؛ لأن ولدها ملحق بالواطن، (و) بلبن (مشوب) أي مخلوط بغيره وصفاته باقية فيحرم كالخالص؛ لأن الحكم للأغلب، ولبقاء اسمه ومعناه، فإن غلبه ¬
ما خلطه لم يثبت به تحريم؛ لأنه لا ينبت اللحم ولا ينشز العظم. (وكل امرأة تحرم علمه بنتها [كأمه] (¬1) وجدته) وأخته وبنته، (وربيبته إذا أرضعت طفلة حرمتها علمه)؛ لأنها تصير ابنتها من الرضاع، فإن كانت المرضعة أمه فالمرتضعة أخته، وإن كانت المرضعة جدته فالمرتضعة عمته أو خالته، وإن كانت المرضعة أخته فالمرتضعة: بنت أخته، (وكل رجل تحرم عليه بنتة كأبيه وأخيه) وابيه (إذا أرضعت امرأته بلبنه طفلة حرمتها عله)؛ لأنها إن كانت المرضعة امرأة أبيه فالمرتضعة أخته، وإن كانت امرأة أخيه فالمرتضعة بنت أخيه وينفسخ في المسألتين النكاح إن كانت الطفلة زوجة، وإن تزوج بنت عمه أو عمته أو خاله أو خالته فأرضعت جدتهما أحدهما رضاعا محرما انفسخ النكاح وحرمتها عليه أبدا. وكل امرأة أفسدت نكاح نفسها برضاع قبل الدخول فلا مهر لها لمجيء الفرقة من قبلها، كما لو ارتدت وإن كانت طفلة بأن كانت تدب فترتضع من امرأة نائمة أو مغمى عليها؛ لأنه لا فعل للزوج في الفسخ، فلا مهر عليه، ولا يسقط المهر بعد الدخول والخلوة، وإن أفسده غير الزوجه لزم الزوج قبل دخول نصف المهر؛ لأنها لا فعل لها في الفسخ، أشبه ما لو طلقها، أو بعده كله (¬2) لتقرره، ويرجع زوج بما لزم من مهر أو نصفه على المفسد لنكاحه؛ لأنه أغرمه المال الذي بذله في نظير البضع بإتلافه عليه ومنعه منه، ولها الأخذ من المفسد لنكاحها ما وجب لها نصا (¬3)؛ لأن قرار الضمان ¬
عليه. (ومن) تزوج فـ (قال: إن زوجته أخته من الرضاع بطل (¬1) نكاحه) لإقراره بما يوجب ذلك فلزمه، كما لو أقر أنه أبانها وبطل فيما بينه وبين اللَّه تعالى [وإن كان صادقا] (¬2)؛ لأن كذبه لا يحرمها، والمحرم حقيقة الرضاع لا القول، (ولا مهر) لها (قبل دخول إن صدقته) على إقراره وهي حرة؛ لاتفاقهما على بطلان النكاح من أصله، أشبه ما لو ثبت ذلك ببينة، (ويجب) لها (نصفه) -أي المهر- (إن كذبته)؛ لأن قوله لا يقبل عليها، (و) يجب (كله) -أي المهر- (بعد دخول مطلقا) ولو صدقته بما نال من فرجها ما لم تطاوعه على الوطء عالمة بالتحريم فلا مهر لها؛ لأنها إذن زانية مطاوعة، (وإن قالت هي ذلك) -أي هو أخي من الرضاع- (وكذبها فهي زوجته حكما) حيث لا بينة لها، فلا يقبل قولها في فسخ النكاح؛ لأنه حق عليها، ثم إن أقرت قبل الدخول فلا مهر لها لإقرارها بأنها لا تستحقه، وبعد الدخول فإن أقرت بأنها كانت عالمة [بأنها] (¬3) أخته وتحريمها عليه وطاوعته في الوطء فكذلك لإقرارها بأنها زانية مطاوعة، وإن أنكرت شيئا من ذلك فلها المهر؛ لأنه وطء بشبهة على زعمها، وهي زوجته ظاهرا، فأما فيما بينها وبين اللَّه تعالى فإن علمت ما أقرت به لم تحل لها مساكنته ولا تمكينه من وطئها، وعليها أن تفر منه وتفتدي بما أمكنها؛ لأن وطأه لها زنا، فعليها التخلص منه ما أمكنها كمن طلقها ثلاثا وأنكر. (ومن شك في) وجود (رضاع أو) شك في (عدده) أي الرضاع (بنى على اليقين)؛ لأن ¬
الأصل بقاء الحل، وكذا لو شك في وقوعه في العامين، (ويثبت) الرضاع (بإخبار مرضعة مرضية) متبرعة كانت بالرضاع أو بأجرة، لحديث عقبة بن الحارث (¬1) قال: "تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب (¬2)، فجاءت امرأة سوداء (¬3) فقالت: قد أرضعتكما، فأتينا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكرت ذلك له، فقال: فكيف وقد زعمت ذلك" متفق عليه (¬4)، وفي لفظ للنسائى: "فأتيته من قبل وجهه، فقلت: إنها كاذبة فقال: كيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما، خل سبيلها" (¬5) وقال الشعبي: "كانت ¬
القضاة يفرقون بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع" (¬1)، وكالولادة. (ويثبت) الرضاع (بشهادة) [عدل] (¬2) مطلقا من رجل أو امرأة، ولأنه إذا ثبت بشهادة امرأة واحدة فالرجل من باب أولى. وإن ادعت أمة أخوة سيدها بعد وطئه مطاوعة لم يقبل قولها، وقبل الوطء يقبل قولها في تحريم الوطء كدعواها أنها مزوجة قبل أن يملكها، ولا يقبل قولها في ثبوت عتق لدعواها زوال ملكله كما لو قالت: أعتقني. وكره استرضاع فاجرة ومشركة وحمقاء وسيئة خلق؛ لأن الرضاع يغير الطباع، وكره استرضاع جذماء وبرصاء ونحوهما مما يخاف تعديه، وكذا بهيمة وعمياء وزنجية. ¬
الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات تأليف عثمان بن عبد اللَّه بن جامع الحنبلي . . . - 1240 هـ تحقيق الدكتور عبد اللَّه بن محمد بن ناصر البسر الجزء الرابع
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
الفوائد المنتخبات في شرح أخصر المختصرات 4
بسم اللَّه الرحمن الرحيم غاية في كلمة مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع جميع الحقوق محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1424 هـ - 2003 م جميع الحقوق محفوظة 2003 م. لا يُسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكِّن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.
(باب النفقات)
(باب النفقات) جمع نفقة وهي لغة: الدراهم ونحوها، مأخوذة من النافقاء موضع يجعله اليربوع في مؤخر الجحر رقيقًا يعده للخروج إذا أتى من باب الجحر دفعه وخرج منه، ومنه سمي النفاق للخروج من الإيمان أو خروج الإيمان من القلب. (¬1) وشرعا: كفاية من يمونه أكلًا وشربا وكسوة ومسكنًا وتوابعها (¬2)، والقصد هنا بيان ما يجب على الإنسان من النفقة بالنكاح والقرابة والملك وما يتعلق بذلك، وقد بدأ بالأول فقال: - (ويجب على زوج نفقة زوجته) لقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ. . .} الآية (¬3) وهي في سياق أحكام الزوجات، فأوجب النفقة على الموسع وعلى من قدر عليه رزقه -أي ضيق- بقدر ما يجد ولحديث جابر مرفوعا: "اتقوا اللَّه في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة اللَّه، واستحللتم فروجهن بكتاب اللَّه، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" رواه مسلم وأبو داود (¬4). ¬
وأجمعوا على وجوب نفقة الزوجة على الزوج إذا كانا بالغين ولم تكن ناشزا ذكره ابن المنذر وغيره (¬1)، ولأن الزوجة محبوسة لحق الزوج فيمنعها ذلك عن التصرف والكسب، وتجب نفقتها عليه ولو كانت معتدة من وطئ بشبهة غير مطاوعة؛ لأن للزوج أن يستمتع منها بما دون الفرج، فإن طاوعت عالمة فلا نفقة لها؛ لأنها في معنى الناشز. (من مأكول ومشروب وكسوة وسكنى (¬2) بالمعروف)، ويعتبر ذلك حاكم إن تنازعا في قدره أو صفته بحالهما يسارا وإعسارا لهما أو لأحدهما؛ لأن النفقة والكسوة للزوجه فكان النظر يقتضي أن يعتبر ذلك بحالها كالمهر، لكن قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ. . .} الآية فأمر الموسر بالسعة في النفقة ورد الفقير إلى استطاعته، فاعتبر حال الزوجين في ذلك رعاية لكلا الجانبين، ولاختلاف حال الزوجين رجع فيه إلى ¬
اجتهاد الحاكم، (فيفرض) الحاكم (لموسرة مع موسر عند) الـ (تنازع) كفايتها (من أرفع خبز البلد وأدمه عادة الموسرين) بمحلهما، ويفرض لها لحما وما يحتاج إليه في طبخه، وتنتقل زوجة متبرمة من أدم إلى غيره، ولا بد من ماعون الدار لدعاء الحاجة إليه، ويكتفى بماعون خزف وخشب، والعدل ما يليق بهما، (و) يفرض حاكم لموسرة من الكسوة (ما يلبس مثلها) من حرير وخز وجيد كتان وجيد قطن على ما جرت به عادة مثلها من الموسرات بذلك البلد، (و) ما (ينام عليه) مثلها عادة من فراش ولحاف ومخدة وإزار في محل جرت العادة بالنوم فيه، وما يجلس عليه بساط ورفيع الحصر. (و) يفرض حاكم (لفقيرة مع فقير كفايتها من أدنى خبز البلد وأدمه) وما تستصبح به ولحم، وذكر جماعة لا يقطعها اللحم فوق أربعين وقدم في "الرعاية" كل شهر مرة (¬1)، (و) يفرض لها (ما يلبس مثلها وينام) عليه (ويجلس عليه). (و) يفرض (لمتوسطة مع متوسط وموسرة مع فقير وعكسها) (¬2)، أي فقيرة مع موسر (ما بين ذلك) لأنه اللائق بحالهما؛ لأن في إيجاب الأعلى لموسرة تحت فقير إضرارا عليه بتكليفه ما لا يسعه حاله، وإيجاب الأدنى ضرر عليها فالمتوسط أولى، وإيجاب الأعلى لفقيرة تحت موسر زيادة على ما يقتضيه حالها، وقد أمر بالإنفاق من سعته فالمتوسط أولى، والواجب على زوج دفع قوت من خبز وأدم ونحوه لزوجة وخادمها وكل من وجبت نفقته، (لا) دفع (القيمة) كالدراهم عن نفقة أو كسوة، ولا يلزمها ¬
قبوله؛ لأنه ضرر عليها لحاجتها إلى من يشتريه لها وقد لا يحصل، أو فيه مشقة بخروجها له وتكليف من يمن عليها به، ولا دفع حب ولا يلزمها قبوله لا فيه من تكليفها طحنه وعجنه وخبزه، ولقول ابن عباس في قوله (¬1) تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (¬2) قال: "الخبز والزيت" (¬3) وعن ابن عمر: "الخبز والسمن والخبز والزيت والتمر وأفضل ما تطعموهن الخبز واللحم" (¬4). ويكون الدفع أول نهار كل يوم لأنه أول وقت الحاجة إليه فلا يجوز تأخيره عنه، فإن طلبت مكان الخبز حبا أو دقيقا أو دراهم لم يلزمه ذلك (إلا برضاها) لأن الحق لا يعدوهما، ولكل منهما الرجوع عنه بعد التراضي في المستقبل، ولا يجبر من أبي ذلك منهما لعدم وجويه، ولا يملك الحاكم فرض غير الواجب كدراهم مثلا إلا باتفاقهما، ولا يعتاض عن الواجب الماضي بربوي، كإن عوضها عن الخبز حنطة أو دقيقا فلا يصح ولو تراضيا عليه لأنه ربا. (وعليه) -أي الزوج- لزوجته (مؤنة نظافتها) من سدر ودهن وثمن ماء وثمن مشط وأجرة قيمة -بتشديد الياء التحتية- التي تغسل شعرها وتسرحه وتظفره، و (لا) يلزمه (دواء و) لا (أجرة طبيب) إن مرضت؛ لأن ذلك ليس من حاجتها الضرورية المعتادة ¬
بل لعارض فلا يلزمه، (و) كذا لا يلزمه (ثمن طيب) وحناء وخضاب أو ما يحمر به وجه أو يسود به شعر لأنه ليس بضروري، وإن أراد منها تزينا به أو قطع رائحة كريهة وأتى به لزمها استعماله، ولا يلزمه لزوجته خف ولا ملحفة للخروج لأنه ليس من حاجتها الضرورية المعتادة، وعليها ترك زينة وحناء نهى الزوج عنهما ذكره الشيخ تقي الدين (¬1). وعليه لمن بلا خادم ويخدم مثلها ليسار أو كبر أو صغر أو مرض خادم واحد، لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬2) ومن المعروف إقامة الخادم لها إذن، ولأن ذلك من حاجتها كالنفقة ولا يلزمه أكثر من واحد؛ لأن المستحق عليه خدمتها في نفسها وذلك حاصل بالواحد، ويجوز كون الخادم امرأة كتابية؛ لأنه يجوز نظره إليها، ونفقة الخادم وكسوته على الزوج كنفقة فقيرة مع فقير ولو أن الخادم لها، ولا يجب لخادم دهن ولا سدر ولا مشط ونحوه؛ لأنه يراد للزينة وللتنظيف ولا يراد ذلك من الخادم، ونفقة خادم مكرى ومعار على مكر ومعير؛ لأن المكري ليس له إلا الأجرة والمعير لا تسقط منه النفقة بإعارته، وإن قالت زوجة: أنا أخدم نفسي وآخذ ما يحب لخادمي، أو قال الزوج: أنا أخدمك بنفسي وأبى الآخر [لم يجبر] (¬3) الممتنع منهما أما الزوج فلأن في إخدامها غيرها توفيرا لها على حقوقه وترفها لها ورفعا لقدرها وذلك يفوت بخدمهتا نفسها، وأما الزوجة فلأن غرضها من الخدمة قد لا يحصل به لأنها تحتشمه وفيه غضاضة عليها. ¬
ويلزمه لزوجته مؤنسة لحاجة كمخوف مكانها وعدو تخاف على نفسها منه؛ لأنه ليس من المعاشرة بالمعروف إقامتها بمكان لا تأمن فيه على نفسها، وتعيين المؤنسة إلى الزوج، ويكتفى بتأنيسه هو لها. ولا يلزمه أجرة من يوضيء امرأة مريضة؛ لأنه ليس من حوائجها المعتادة بخلاف رقيقه المريض فيلزمه أجرة من يوضئه إن لم يمكنه الوضوء بنفسه؛ لأن النفقة عليه لتملكه إياه بخلاف الزوجة فهي للاستمتاع بها ولا دخل للوضوء فيه. (وتجب) نفقة وكسوة ومسكن (لـ) مطلقة (رجعية) لأنها زوجة لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} (¬1)، ولأنه يلحقها طلاقه وظهاره أشبه ما قبل الطلاق، (و) لـ (بائن حامل) لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬2)، وفي بعض أخبار فاطمة بنت قيس: "لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا" (¬3)، ولأن الحمل ولد المبين فلزمه الإنفاق عليه ولا يمكنه ذلك إلا بالإنفاق عليها فوجب كأجرة الرضاع. وتجب النفقة لحمل ملاعنة لو عنت وهي حامل لأنه لم ينتف بلعانها إذن إلا أن ينفيه بلعان آخر بعد وضعه فتسقط، فإن عاد واستلحقه لزمه ما مضى، ومن أنفق على بائن منه يظنها حاملا فبانت حائلا رجع عليها بما أنفقه عليها، لأخذها منه ما لا ¬
تستحقه، كأخذ دين ادعاه ثم ظهر كذبه، وكذا إن ادعته رجعية فأنفق عليها أكثر من مدة عدتها ثم تبين عدمه رجع بالزائد، ومن ترك الإنفاق على مبانته يظنها حائلا (¬1)، فبانت حاملا لزمه نفقة ما مضى لتبين استحقاقها للنفقة (¬2) فيه فترجع بها عليه كالدين. والنفقة على الحامل للحمل نفسه؛ لأنها من أجله فتجب لناشز حامل، وتجب لحامل من وطئ شبهة أو نكاح فاسد للحوق نسبه فيهما، ولحامل في ملك يمين ولو أعتقها؛ لأن النفقة للحمل وهو ولده. وتجب نفقة حامل من مال حمل موسر لأن الموسر لا تجب نفقته على غيره، ولا تجب نفقة حمل على زوج رقيق لولده، فإن بيان حرا فنفقته على وارثه بشرطه، وإن كان رقيقا فعلى مالكه. وتسقط نفقة حمل بمضي الزمان كسائر الأقارب، قال المنقح: "ما لم تستدن حامل على أبيه بإذن حاكم أو تنفق بنية الرجوع". انتهى (¬3). و(لا) تجب نفقة (لمتوفى عنها) زوجها أو لأم ولد ولو مات سيدها، ولا سكنى ولا كسوة لها ولو كانت حاملا لانتقال التركة للورثة، ولا سبب للوجوب عليهم. (ومن) امتنعت من تسليم نفسها أو (حبست) عنه حبسها ولي أو غيره بعد دخول ولو لقبض صداقها الحال، (أو نشزت) سقطت نفقتها. (أو صامت نفلا، أو) صامت (لكفارة أو قضاء رمضان ووقته متسع، أو حجت نفلا ¬
بلا إذنه) سقطت نفقتها لمنعها نفسها لا من جهته، (أو سافرت لحاجتها بإذنه سقطت) نفقتها لتفويتها التمكين لحظ نفسها وقضاء إربها إلا أن يكون مسافرا معها متمكنا منها. وتتشطر نفقة لناشز ليلا أو نهارا، أو ناشز بعض أحدهما فتعطى نصف نفقتها أيضا لا (¬1) بقدر الأزمنة (¬2)، وبمجرد إسلام زوجة مرتدة مدخول بها تلزمه نفقتها. (ولها) -أي الزوجة- (الكسوة) والغطاء والوطاء ونحوهما (كل عام مرة في أوله) -أي العام-؛ لأنه أول وقت الحاجة إلى ذلك فيعطيها السنة؛ لأنه لا يمكن ترديد الكسوة شيئا فشيئا، بل هو شيء واحد يستدام إلى أن يبلى، وتملك زوجة ذلك بقبض فلا بدل على زوج لما سرق [من] (¬3) ذلك أو بلي، وتملك التصرف فيه على وجه لا يضر بها ولا ينهك بدنها من بيع وهبة ونحو ذلك كسائر مالها، فإن ضر ذلك ببدنها أو نقص في استمتاعه بها منعت منه لتفويت حق زوجها به. وإن أكلت زوجة معه عادة أو كساها بلا إذن منها وكان ذلك بقدر الواجب عليه سقطت نفقتها وكسوتها عملا بالمعروف، ومتى انقضى العام والكسوة التي قبضتها له باقية فعليه للعام الجديد اعتبارا بمضي الزمان دون حقيقة الحاجة، كما أنها لو بليت قبل ذلك لم يلزمه بدلها، بخلاف ماعون ونحوه إذا انقضى العام وهو باق فلا يلزمه بدله اعتبارا بحقيقة الحاجة لا المتاع، وألحق به ابن نصر اللَّه غطاء ووطاء وقواه في "تصحيح الفروع" (¬4). ¬
وإن قبضت الكسوة ثم مات الزوج قبل مضي العام، أو ماتت، أو بانت منه قبل مضيه رجع بقسط ما بقي من العام لتبين عدم استحقاقها له، وكذا بقية نفقة تعجلتها. (ومتى لم ينفق) على زوجته، أو غاب عنها مدة ولم ينفق عليها فيها فإنها (تبقى في ذمته)، وتلزمه للزمن الماضي لاستقرارها في ذمته ولو لم يفرضها حاكم؛ لأن عمر: "كتب لأمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، يأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى" (¬1)، ولأنه حق يجب مع الإيسار والإعسار فلم يسقط بمضي الزمن كأجرة العقار بخلاف نفقة الأقارب فإنها صلة [يعتبر فيها يسار المنفق وإعسار من تجب له] (¬2). [وذمية] (¬3) في نفقة وكسوة ومسكن كمسلمة لعموم النصوص، (وإن أنفقت من ماله) -أي مال زوجها- (في غيبته فبان ميتا رجع عليها وارث) ببقية ما أنفقت من ماله بعد موته لارتفاع وجوب النفقة عليها بموته، فلم تستحق ما قبضته، (ومن تسلم) من زوج (من يلزمه تسلمها) وهي التي يوطأ مثلها أي بنت تسع فأكثر، (أو ¬
بذلته هي) أي بتسليم نفسها للزوج تسليما تاما، (أو وليها وجبت نفقتها) وكسوتها وتوابعهما (ولو مع صغره) -أي الزوج- (ومرضه وعنته وجبه) أي قطع ذكره بحيث لا يمكنه وطء أو مع تعذر وطئها لحيض أو نفاس أو رتق أو قرن، أو لكونها نضوة أو مريضة، أو حدث شيء من ذلك عنده لزمه نفقتها وكسوتها لعموم قوله عليه السلام في حديث جابر: "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (¬1)، ويجبر ولي مع صغر زوج على بذل ما وجب عليه من مال الصبي لنيابته عنه في أداء واجباته، كأروش جناياته وديونه. لكن لو امتنعت زوجة من بذل نفسها وهي صحيحة ثم مرضت، فبذلته فلا نفقة لها ما دامت مريضة عقوبة لها بمنعها نفسها في حال يمكنه الاستمتاع بها فيها وبذلها في ضدها. ومن بذلت التسليم وزوجها غائب لم يفرض لها حاكم شيئا؛ لأنه لا يمكن زوجها تسلمها إذن حتى يراسله بأن يكتب إلى حاكم البلد الذي هو به، فيعلمه ويستدعيه ويمضي زمن يمكن قدومه في مثله، فإن سار إليها أو وكل من حملها إليه وجبت النفقة إذن بالوصول، وإلا فرض عليه الحاكم نفقتها من الوقت الذي كان يمكن وصوله إليها فيه، وإن غاب زوجها بعد تمكينها إياه ووجوب النفقة عليه لم تسقط بغيبته. (ولها) -أي الزوجة- (منع نفسها قبل دخول لقبض مهر حال) لا بعد دخول، سواء كان الصداق مسمى أو مفوضة، حكاه ابن المنذر إجماعا (¬2)، ولأن المنفعة المعقود عليها تتلف بالاستيفاء، فإذا تعذر عليها استيفاء المهر لم يمكنها استرجاع بدله بخلاف المبيع، (ولها) -أي الزوجة- (النفقة) زمن منع نفسها لقبض حال مهر؛ لأن الحبس ¬
من قبله نصا (¬1)، وبقاء درهم منه كبقاء جميعه كسائر الديون، ولو قبضت حال مهرها وسلمت نفسها ثم بأن معيبا فلها منع نفسها حتى تقبض بدله، ولو أبي كل من الزوجين تسليم ما عليه أجبر زوج أولا ثم زوجة، وإن بادر أحدهما به أجبر الآخر. وإن دخل بها الزوج، أو خلا بها مطاوعة لم تملك منع نفسها منه بعد ذلك، فإن وطئها مكرهة لم يسقط حقها من الامتناع. وإن أعسر زوج بمهر حال ولو بعد دخول فلزوجة حرة مكلفة الفسخ لتعذر الوصول إلى العوض، كما لو أفلس مشتر بثمن ما لم تكن عالمة بعسرته حين العقد لرضاها بذلك. ومن سلم أمته ليلا ونهارا فهي كحرة لعموم النص، وإن سلمها ليلا فقط فنفقة نهار على سيد؛ لأنها مملوكته والزوج غير متمكن منها إذن، ونفقة ليل كعشاء ووطاء وغطاء ودهن مصباح ووسادة على زوج؛ لأنه من حاجة الليل دون النهار، ولا يصح تسليمها نهارا فقط؛ لأنه ليس محلا للتفرغ للاستمتاع، ولهذا كان عماد قسم الزوجات الليل. (وإن أعسر) زوج (بنفقة معسر) فلم يجد القوت (أو) أعسر بـ (بعضها) أي ببعض نفقة المعسر، أو أعسر بكسوة العسر أو ببعضها، [أو] (¬2) بمسكنه، أو صار لا يجد النفقة إلا يوما دون يوم خيرت الزوجة بين فسخ للحوق الضرر الغالب بذلك بها، إذ البدن لا ¬
يقوم بدون كفايته، وسواء كانت حرة بالغة رشيدة أو صغيرة أو سفيهة أو رقيقة دون سيدها أو وليها، فلا خيرة له ولو كانت مجنونة، لاختصاص الضرر بها، وهو قول عمر وعلي وأبي هريرة (¬1) [لقوله تعالى] (¬2) {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (¬3) والإمساك مع ترك النفقة ليس إمساكا بالمعروف، ولحديث أبي هريرة مرفوعا في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: "يفرق بينهما" رواه الدارقطني (¬4)، وقال ابن المنذر: "ثبت [على] (¬5) أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى" (¬6)؛ ولأن جواز الفسخ بذلك أولى من العنة لقلة الضرر؛ لأنه فقد شهوة يقوم البدن بدونها، فتملك الزوجة الفسخ فورا ومتراخيا؛ لأنه خيار لدفع ضرر يشبه خيار العيب في البيع، فتخير بين الفسخ وبين مقام معه مع منع نفسها وبدونه، ولا يمنعها تكسبا. ¬
ولا يحبسها مع عسرته إذا لم تفسخ؛ لأنه إضرار بها، وسواء كانت غنية أو فقيرة؛ لأنه إنما يمل لحبسها إذا كفاها المؤنة وأغناها عما لا بد لها منه، ولها الفسخ بعد رضاها بالمقام معه لتجدد وجوب النفقة كل يوم، فيتجدد لها ملك الفسخ كذلك. ولا يصح إسقاطها نفقتها فيما لم يجب لها كإسقاط الشفيع الشفعة قبل البيع، وكذا لو قالت: رضيت عسرته أو تزوجته عالمة به فلها الفسخ لما يتجدد لها من وجوب النفقة كل يوم. وتبقى نفقة معسر وكسوته ومسكنه لزوجته إن أقامت (¬1) معه ولم تمتنع نفسها منه دينا في ذمته لوجوبها على سبيل العوض كالأجرة، ويسقط ما زاد عن نفقة معسر. ومن قدر يكتسب ما ينفق على زوجته أجبر عليه المفلس لقضاء دينه وأولى، ومن تعذر عليه كسب أو بيع في بعض زمنه أياما يسيرة فلا فسخ، أو مرض أياما يسيرة فعجز عن الكسب فلا فسخ؛ لأنه يمكنه الاقتراض إلى زوال (¬2) العارض. (إلا) إن أعسر (بما في ذمته) من نفقة ماضية، أو أعسر بنفقة موسر أو متوسط، أو أعسر بأدم أو بنفقة الخادم فلا فسخ لإمكان الصبر عن ذلك ويبقى دينا في ذمته لوجوبه عليه كالصداق. وإن منع زوج موسر نفقة أو كسوة أو بعضهما عن زوجته وقدرت على أخذ ذلك من ماله أخذت كفايتها وكفاية ولدها وخادمها بالمعروف بلا إذنه، لقوله عليه السلام لهند ¬
بنت عتبة (¬1) حين قالت: له إن أبا سفيان (¬2) رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" (¬3) فرخص لها عليه السلام في أخذ تمام الكفاية بغير علمه؛ لأنه موضع حاجة إذ لا غنى عن النفقة ولا قوام إلا بها، وتتجدد بتجدد الزمن شيئا فشيئا، فتشق المرافعة [بها] (¬4) إلى الحاكم، فيأمره بدفعه لها، فإن امتنع أجبره حاكم، فإن أبي حبسه ودفعها منه يوما بيوم؛ لقيام الحاكم مقامه عند امتناعه مما وجب عليه كسائر الديون، فإن لم يجد إلا عرضا أو عقارا باعه وأنفق منه، فإن غيب ماله وصبر على الحبسر فلها الفسخ لتعذر النفقة عليها من جهته كالمعسر. (أو غاب) موسر عن زوجته (وتعذرت) نفقته عليها بأن لم يترك لها نفقة ولم تقدر له على مال ولم يمكنها تحصيل نفقتها (باستدانة أو نحوها) (¬5) أي اقتراض أو نحوه عليه ¬
(فلها الفسخ) لتعذر الإنفاق عليها من ماله كحال الإعسار بل أولى، ولأن في الصبر ضررا أمكن إزالته بالفسخ، ولا يصح الفسخ في ذلك كله إلا (بحاكم)، فيفسخ الحاكم بطلبها، أو تفسخ هي بأمره للاختلاف فيه. (وترجع) زوجة (بما استدانته) على زوجها الغائب الموسر (لها أو لولدها الصغير مطلقًا) بإذن الحاكم وبدونه، وإن دفع لها زوجها نفقة حرام لم يلزمها قبولها.
فصل في نفقة الأقارب والمماليك
فصل في نفقة الأقارب والمماليك والمراد بالأقارب: من يرثه المنفق بفرض أو تعصيب (¬1) فيدخل فيهم العتيق. و[نفقة] (¬2) المماليك من الآدميين والبهائم. وأجمعوا على وجوب نفقة الوالدين والمولودين (¬3) لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (¬4) وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (¬5)، ومن الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما، وحديث هند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" متفق عليه (¬6)، وعن عائشة مرفوعا: "إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" رواه أبو داود (¬7)، ولأن ولد ¬
الإنسان بعضه، وهو بعض والده، فكما يجب عليه أن ينفق على نفسه فكذلك على بعضه وأهله. (وتجب) النفقة (عليه) -أي المنفق-[إذا لم يكن معه] (¬1) من يشركه في الإنفاق، أو إكمالها إن وجد المنفق عليه بعضها (بمعروف) أي بحسب ما يليق بهم من حلال لا حرام، وإنما تجب بثلاثة شروط: - الأول: كون منفق من عمودي نسبه، أو وارثا له، وإليه الإشارة بقوله: (لكل من أبويه وإن علوا، وولده وإن سفل) حتى ذوي الأرحام منهم، (ولو حجبه معسر) كجد مع أب معسر، وكابن مع ابن ابن موسر، فتجب النفقة في المثالين على الموسر ولا أثر لكونه محجويا، وكذا جد مع ابن بنته لأن بينهما قرابة قوية توجب العتق ورد الشهادة فأشبه القريب. (و) تجب النفقة (لكل من يرثه) قريبه الغني (بفرض) كأخ لأم، (أو تعصيب) كابن عم لغير أم، (لا برحم) كخال ممن (سوى عمودي نسبه)، سواء ورثه الأخر كأخ للغني أو لا كعمة وعتيق، فإن العمة لا ترث ابن أخيها بفرض ولا تعصيب، وهو يرثها ¬
بالتعصيب، وكذا العتيق لا يرث مولاه وهو يرثه، فتجب النفقة على الوارث بالمعروف لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} إِلى قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فأوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم أوجب على الوارث مثل ما أوجب على الأب، ولحديث: "من أبر؟ قال: أمك، وأباك، وأختك، وأخاك" وفي لفظ: "ومولاك الذي هو أدناك حقا واجبا ورحما موصولا" رواه أبو داود (¬1)، فألزمه البر والصلة، والنفقة من الصلة وقد جعلها حقا واجبا. والشرط الثاني: حاجة متفق عليه، وذكره بقوله: (مع فقر من تجب له وعجزه عن كسب)؛ لأن النفقة إنما تجب على سبيل المواساة، والغني يملكه، والقادر على الكسب مستغن عنها، ولا يعتبر نقص المنفق عليه في خلقة كزمن، أو حكم كصغر وجنون، فتجب النفقة لصحيح مكلف لا حرفة له لأنه فقير. الشرط الثالث: أن يفضل ما ينفقه عليهم عن حاجته، وإليه أشار بقوله: (إذا كانت فاضلة عن قوت نفسه) أي المنفق، (و) قوت (زوجته ورقيقه يومه وليلته كفطرة) وكسوة ومسكن لهم من حاصل بيده، أو استحصل من صناعة أو تجارة أو أجرة عقار ¬
أو ريع وقف ونحوه، فإن لم يفضل عنده عما (¬1) ذكر شيء فلا شيء عليه، لحديث جابر مرفوعا: "إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه، فإن كان فضل فعلى عياله فإن كان فضل فعلى قرابته" (¬2) وفي لفظ: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" حديث صحيح (¬3)؛ ولأن وجوب النفقة على سبيل المواساة وهي لا تجب مع الحاجة. و(لا) تجب النفقة على قريب (من رأس مال) تجارة لنقص الربح بنقص رأس ماله، وربما أفنته النفقة فيحصل له الضرر وهو ممنوع شرعا، (و) لا تجب النفقة من (ثمن ملك) [و] (¬4) لا من ثمن (آلة صنعة). ¬
ومن قدر يكتسب بحيث يفضل من كسبه ما ينفقه على قريبه أجبر عليه؛ لأن (¬1) تركه مع قدرته عليه تضييع لمن يعول وهو منهي عنه. ولا تجبر امرأة على نكاح إذا رغب فيها بمهر لتنفقه على قريبها الفقير؛ لأن الرغبة في النكاح قد تكون لغير المال بخلاف التكسب. وزوجة من تجب له النفقة كهو؛ لأن ذلك من حاجة الفقير اليومية لدعاء الضرورة إليه، فإذا احتاج ولم يقدر عليه ربما دعته نفسه إلى الزنا، ولذلك وجب إعفافه. (وتسقط) النفقة (بمضي زمن) [ما لم يفرضها حاكم] (¬2)؛ لأنها تأكدت بفرضه كنفقة الزوجة، (أو) ما لم (تستدن بإذنه) أي الحاكم. (وإن امتنع من وجبت عليه) نفقة من زوج أو قريب بأن تطلب منه فيمتنع (رجع عليه منفق بنية الرجوع)؛ لأنه قام عنه بواجب كقضاء دينه وتقدم. (وهي على كل) من الورثة (بقدر إرثه) ممن وجبت له النفقة، فمن له -من المحتاجين للنفقة ولو كان حملا- وارث دون أب فنفقته عليهم على قدر إرثهم منه؛ لأنه تعالى رتب النفقة على الإرث لقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (¬3)، فمن له جد وأخ لغير أم النفقة بينهما سواء لأنهما يرثانه كذلك تعصيبا، أو له أم أم وأم أب فالنفقة عليه بينهما سواء؛ لأنهما يرثانه كذلك فرضا وردا، ومن له أم وجد أو أخ وأخت النفقة بينهما أثلاثا كإرثهما له، ومن له أم وبنت النفقة عليهما أرباعا ربعها على الأم وباقيها على البنت؛ لأنهما يرثانه كذلك، وهكذا. ¬
فلا تلزم النفقة أبا أم مع أم موسرة، ولا ابن بنت معها؛ لأنه محجوب بها، ولا تلزم أخا مع ابن ولو معسرا؛ لأنه محجوب به. ومن له ورثة بعضهم موسر وبعضهم معسر كأخوين أحدهما موسر والآخر معسر تلزم نفقته موسرا منهما مع فقر الآخر بقدر إرثه فقط؛ لأنه إنما يجب جمليه مع يسار الآخر ذلك القدر فلا يتحمل عن غيره إذا لم يجد الغير ما يجب عليه إذا لم يكن من عمودي النسب. (وإن كان أب) غنيا (انفرد بها) أي نفقة ولده، لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} (¬1) وقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (¬2)، وتلزم نفقة جدا موسرا لابن ابنه الفقير ولو كان معه أخ مع فقر أب لعدم اشتراط الإرث في عمودي النسب لقوة قرابتهم، وتلزم جدة موسرة مع فقر أم لما تقدم. ومن لم يكف ما فضل عن كفايته جميع من تجب نفقته عليه لو أيسر بجميعها بدأ بزوجته؛ لأن نفقتها معاوضة فقدمت على ما وجب مواساة، ولذلك تجب مع يسارهما وإعسارهما بخلاف نفقة القريب، فنفقة رقيقه لوجوبها مع الإيسار والإعسار كنفقة الزوجة، فنفقة أقرب فأقرب، لحديث طارق المحاربي (¬3): "ابدأ بمن ¬
تعول، أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك فأدناك" (¬1) أي الأدنى فالأدنى، ولأن النفقة صلة وبر، ومن قرب أولى بالبر ممن بعد، ثم مع الاستواء في الدرجة يبدأ بالعصبة، كأخوين لأم أحدهما ابن عم، ثم التساوي، فيقدم ولد على أب لوجوب نفقته بالنص، ويقدم أب على أم لانفراده (¬2) بالولاية واستحقاقه الأخذ من مال ولده، وقد أضافه عليه السلام بقوله: "أنت ومالك لأبيك" (¬3)، وتقدم أم ¬
على ولد ابن؛ لأنها تدلى إليه بلا واسطة ولها فضيلة الحمل والرضاع والتربية، ويقدم ولد ابن علي جد كما يقدم الولد على الأب، ويقدم جد على أخ؛ لأن له مزية الولادة والأبوة، ويقدم أبو أب على أبي أم لامتيازه بالتعصيب، وأبو أم مع أبي أبي أب مستون لتميز أبي الأم بالقرب والآخر بالتعصيب فتساويا. ولمستحق النفقة الأخذ من مال منفق بلا إذنه مع امتناعه كما يجوز ذلك للزوجة. ولا نفقة مع اختلاف دين بقرابة ولو من عمودي نسب؛ لأنهما لا يتوارثان إلا بالولاء، فتجب للعتيق على معتقه بشرطه وإن باينه في دينه، لأنه يرثه فدخل في عموم قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (¬1)، فإن مات مولاه فالنفقة على وارثه من عصبة مولاه. ¬
فصل
فصل ويجب إعفاف من تجب له النفقة من عمودي نسبه وغيرهم لأنه مما تدعو حاجته إليه ويتضرر بفقده، فيجب إعفاف من تجب نفقته ممن تقدم، ويقدم الأقرب فالأقرب كالنفقة، بزوجة حرة أو سرية تعفه، ولا يملك من أعف بسرية استرجاعها مع غنى الفقير كالزكاة، ولا أن يزوجه أمة، وإن عين أحدهما امرأة والآخر غيرها يقدم تعيين قريب منفق على تعيين زوج إذا استوى المهر لأنه المطلوب بنفقتها وتوابعها، وليس له تعيين عجوز قبيحة المنظر أو معيبة، ويصدق أنه تائق للنكاح بلا يمين، لأنه مقتضى الظاهر. ويكتفى في الإعفاف بواحدة، فإن ماتت أعفه ثانيا؛ لأنه لا صنيع له في ذلك لا إن طلق بلا عذر، أو أعتق السرية ولم يجعل عتقها صداقها، فليس له أن يعفه ثانيا؛ لأنه المفوت على نفسه. ويلزم إعفاف أم كأب قال القاضي: "ولو سلم فالأب آكد" (¬1). ولأنه لا يتصور الإعفاف لها إلا بالتزويج، ونفقتها على الزوج، قال في "الفروع" (¬2): "ويتوجه تلزمه نفقته إن تعذر تزويج بدونها". وبنت ونحوها كأم. ويلزم من وجبت عليه نفقة خادم للجميع لحاجة إليه كالزوجة؛ لأنه من تمام الكفاية. وعلى من تلزمه نفقة صغير نفقة مرضعة حولين كاملين، ولا يفطم قبلهما إلا برضا أبويه أو برضا سيده إن كان رقيقا، ولأبيه منع أمه من خدمته؛ لأنه يفوت حق ¬
الاستمتاع بها في بعض الأحيان، ولا يمنعها من إرضاعه ولو أنها في حباله، والأم أحق بإرضاع ولدها بأجرة مثلها حتى مع متبرعة أو مع زوج ثان وبرضا، لعموم قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} (¬1)، فإن طلبت الأم أكثر من أجرة مثلها ووجد الأب من يرضعه بأجرة مثله أو متبرعة فله أخذه منها، لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (¬2)، وإن منع الأم زوجها مخير أبي الطفل من رضاعه سقط حقها لتعذر وصولها إليه، ويلزم حرة إرضاع ولدها مع خوف تلفه بأن لم يقبل ثدي غيرها حفظا له عن الهلاك كما لو لم يوجد غيرها، ولها أجرة مثلها، فإن لم يخف تلفه لم تجبر، ولزوج ثان منعها من إرضاع ولدها من الأول إلا لضرورة بأن لا يوجد من يرضعه غيرها، أو لا يقبل ثدي غيرها، أو بشرطها ذلك في العقد فلها شرطها كما تقدم. (وتجب) النفقة (عليه) أي السيد (لرقيقه) والكسوة والمسكن بالمعروف (ولو) كان رقيقه (آبقا) أو مريضا، أو (و) انقطع كسبه، أو كان أمة (ناشزا)، أو كان ابن أمته من حر؛ لأنه تابع لأمه حيث لا شرط ولا غرور، من غالب قوت البلد، ولمبعض بقدر رقه من ذلك والباقي عليه لاستقلاله بجزئه الحر، وللسيد أن يجعل نفقة رقيقه في كسبه، وأن ينفق (¬3) عليه من ماله ويأخذ كسبه أو يستخدمه وينفق عليه من ماله؛ لأن الكل له. ¬
(و) يجب أن (لا يُكَلِّفَهُ) أي الرقيق (مُشِقًّا كثيرًا) لحديث أبي ذرٍّ (¬1) مرفوعًا: "إخوانكم خَوَلُكُمْ (¬2)، جعلهم اللَّه تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، [فإن كلفتموهم] (¬3) فأعينوهم عليه" متفق عليه (¬4). (و) يجب أن (يُرِيْحَهُ وَقْتَ قَائِلَةٍ و) وقت (نَوْمٍ ولـ) أداء (صَلاةِ فَرْضٍ) لأنه العادة، ولأن تركه إضرار بهم، ولا يجوز تكليف أمة رَعيا؛ لأن السفر مظنة الطمع فيها لبعد من يدفع عنها، وسُنَّ لسيد مداواتهم إذا مرضوا، وإطعامهم من طعامه وإلباسهم من لباسه، لحديث أبي ذر، وأن يسوي بين عبيده في الكسوة وبين إمائه إن ¬
كُنَّ للخدمة أو للاستمتاع، وإن اختلفن فلا بأس بتفضيل من هي للاستمتاع (¬1) في الكسوة لأنه الأعرف، ومن ولي الطعام من رقيقه فيأكل معه أو يطعمه، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا أتى أحدَكم خادمُه يطعامه قد كفاه علاجه ودخانه، فليجلسه معه، فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين" متفق عليه (¬2)، ولأن نفس المباشر تتوق إلى ما لا تتوق نفس غيره عليه. وللزوج والأب والسَّيد تأديب زوجته وولده ولو كان مكلفا ورقيق إذا أذنبوا بضرب غير مُبَرِّحٍ، وسن مرة أو مرتين، ولا يجوز بلا ذنب ولا أن يضربوا ضربًا مُبَرِّحًا لحديث: "لا يجلد فوق عشرة أسواط إلَّا في حد من حدود اللَّه تعالى" رواه الجماعة إلا النسائي (¬3)، ولسيد رقيق أن يُقَيِّدَهُ إن خاف عليه إباقًا نصًّا (¬4)، ولا يشتم أبويه الكافرين، قال أحمد: "لا يعود لسانه الخنا والرَّدى" ولا يدخل الجنة سيءُ المَلكة. (¬5) ¬
وهو الذي يسئ إلى مماليكه. وحرم أن يسترضع أمة لها ولد لغير ولدها إن لم يفضل عنه شيء؛ لأن فيه إضرارا بالولد إلا بعد ريه فيجوز استرضاعها لاستغناء ولدها عنه، ولا يجوز جبر قن على مخارجة وهي جعل سيد على رقيق كل يوم أو كل شهر شيئا معلوما له إلا باتفاقهما إن كانت قدر كسبه فأقل بعد نفقته لما روي أن أبا طيبة (¬1): "حجم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأعطاه أجره، وأمر مواليه أن يخففوا عنه من خراجه" (¬2) وكان كثير من الصحابة يضربون على رقيقهم خراجا، فروي: "أن الزبير كان له ألف مملوك على كل واحد كل يوم درهم" (¬3)، فإذا زاد على كسبه لم يجز لأنه تكليف لا يغلبه، وكذا إن لم يكن له ¬
كسب، ولا يتسرى عبد مطلقا، قال "التنقيح" (¬1): "ولا يتسرى ولو أذن له سيده؛ لأنه لا يملك إلا على قول مرجوح بإذن سيده قال: وهو أظهر، ونص عليه في رواية الجماعة، واختاره كثير من المحققين". انتهى. وقال في "الإنصاف" (¬2): "وهي الصحيحة من المذهب، وهي طريقة الخرقي، وأبي بكر وغيرهم". وعلى رواية التسري بإذن سيده لا يملك سيد رجوعا في أمة أذن في التسري بها [بعد] (¬3) تسر نضا (¬4)؛ لأن العبد يملك به البضع فلا يملك سيده فسخه قياسا على النكاح، ولمبعض وطء أمة ملكها يحزئه الحر بلا إذن أحد لأنها خالص ملكه، ويجب على سيد امتنع مما يجب لرقيقه (¬5) عليه من نفاقة وكسوة وإعفاف إزالة ملكه عنه بطلبه ببيع أو هبة أو عتق، كفرقة زوجة امتنع مما لها عليه إزالة للضرر (¬6)، وفي الخبر: "عبدك يقول: أطعمني وإلا فبعني، وامرأتك تقول: أطعمني أو طلقني" (¬7). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فصل
فَصْلُ (وعَليْهِ) أي مالك البهائم (عَلفُ بَهائِمِهِ) أو إقامة من يرعاها، (و) عليه (سَقْيُهَا)، لحديث ابن عمر: " عُذِّبت امرأةٌ في هرة حبستها حتى ماتت جوعًا، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خَشَاشِ الأرض" متفق عليه (¬1). (وإِنْ عَجَزَ) عن نفقتها (أُجْبِرَ على بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ ذَبْح مَأْكُوْلٍ) إزالة لضررها وظلمها، ولأنها تتلف بتركها بلا نفقة، وإضاعة المال منهي عنها (¬2). فإن أبي فعل حاكم الأصلح من الثلاثة، أو اقترض عليه ما ينفق على بهيمته لقيامه مقامه في أداء ما وجب عليه عند امتناعه، كقضاء دينه. ويجوز انتفاع بالبهائم لغير ما خلقت له، كبقر لحمل وركوب، وإبلٍ وحُمْرٍ لحرث ونحوه؛ لأن مقضتى الملك جواز الانتفاع بها فيما يمكن وهذا منه، كالذي خلقت له، وبه جرت عادة بعض الناس، ولهذا يجوز أكل الخيل واستعمال اللولؤ في الأدوية وإن لم يكن المقصود منهما ذلك. (وَحَرُمَ تَحْمِيْلُهَا) أي البهيمة (مُشِقًّا)، لأنه تعذيب لها، (و) حرم (لَعْنُهَا) لحديث ¬
عمر أنه عليه السَّلام كان في سفر فلعنت امرأةٌ ناقةً فقال: "خذوا ما عليها، ودعوها مكانها ملعونة، فكأنِّي أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحدٌ" وحديث أبي بَرْزَةَ (¬1): "لا تصاحبنا ناقة عليها لعنةٌ" رواهما أحمد ومسلم (¬2). (و) حرم (حَلْبُهَا مَا يَضُرُّ بوَلَدِهَا) لأن لبنه مخلوق له أشبه ولد الأمة، وحرم ذبح حيوان غير مأكولٍ لإراحته من مرض ونحوه؛ لأنه إتلاف مالٍ وقد نُهي [عنه] (¬3). (و) حرم (ضَرْبُ وجهٍ وَوَسْمٍ فيهِ) أي الوجه لأنه عليه السَّلام: "لعن من وَسَمَ أو ¬
ضرب الوجه" (¬1) و [نهى] (¬2) عنه (¬3) ذكره في "الفروع" (¬4). وهو في الآدمي أشد، قال ابن عقيل: "لا يجوز الوسم إلا لمداواة"، وقال أيضا: "يحرم لقصد المثلة". (¬5) (ويجوز) الوسم (في غيره) أي الوجه (لغرض صحيح) كالمداواة. ويكره خصاء في غنم وغيرها إلا خوف غضاضة (¬6) نصا (¬7) وحرمه ابن عقيل ¬
والقاضي (¬1) كالآدمي، ذكره ابن حزم إجماعًا (¬2). ويكره جَزُّ مَعْرَفَةٍ (¬3) وناصية وذنب وتعليق جَرَسٍ أوْ وَتَرٍ للخبر (¬4)، ويكره إطعامه فوق طاقته وإكراهه على الأكل [على] (¬5) ما اتخذه الناس عادةً لأجل التَّسمين، ويكره نَزْوُ (¬6) حمار على فرس. وتستحب نفقة المالك على ماله [غير] (¬7) الحيوان وفي "الفروع" (¬8): "ويتوجه وجوبه لئلَّا يضيع". نتهى. ¬
(فصل) في الحضانة
(فَصْلٌ) في الحَضَانَةِ مُشتقَّةٌ من الْحِضْنِ وهو: الْجَنْبُ، لضم المربي والكافل الطفل ونحوه إلى حضنه (¬1). (وَتَجِبُ الحَضَانَةُ لحِفْظِ صَغيرٍ ومَجْنونٍ ومَعتُوْهٍ) -وهو مختل العقل- عما يضرهم، وتربيتهم بعمل مصالحهم من غسل بدنهم وثيابهم ودهنهم وتكحيلهم ونحو ذلك، ومستحقها رجل عصبة كأبٍ وجَدٍّ وأخٍ وعمٍّ لغير أمٍّ، أو امرأة وارثة (¬2) كأمٍّ وجَدَّةٍ، أو أختٍ، أو قريبةٍ مُدليةٍ بوارثٍ كخَالَةٍ وبنت أختٍ (¬3)، أو مدلية بعصبة كعَمَّةٍ وبنت أخٍ وبنت عمٍّ لغير أمٍّ، وذو رحم كأبي أمٍّ وأخٍ لأمٍّ، ثم حاكم؛ لأنه يلي أمور المسلمين وينوب عنهم في الأمور العامة، وحضانة الطفل ونحوه إذا لم يكن له قريب تجب على جميع المسلمين. ¬
(والأَحَقُّ بِهَا) أي حضانة الطفل (أُمٌّ) له، لحديث ابن عمرو (¬1): "أن امرأةً قالت: يارسول اللَّه! إنَّ ابني هذا كان بطني له وعاءً، وثديي له سقاءً، وحِجْرِيْ له حواء، وأنَّ أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنت أحق به ما لم تَنْكِحِيْ" رواه أبو داود وغيره (¬2)، ولأنها أشفق والأب لا يلي حضانته بنفسه وإنما يدفعه لامرأته أو غيرها من النساء، وأمه أولى ممن يدفعه إليها ولو بأجرة مثلها، كرضاع حيث كانت أهلًا، (ثُمَّ) إن لم تكن أمٌّ أو لم تكن أهلًا للحضانة فـ (أُمَّهَاتُهَا القُرْبَى فالقُربى)؛ لأنهنَّ نساءٌ لهنَّ ولادةٌ مُتحققةٌ أشبهن الأمّ، (ثُمَّ) بعدهن (أبٌ)؛ لأنه الأصل وأحق بولاية المال، (ثُمَّ أُمَّهَاتُهُ كَذلك) أي القربى فالقربى لإدلائهن بعصبةٍ قريبةٍ، (ثُمَّ جَدٌّ) لأبٍ لأنه في معنى الأب الأقرب فالأقرب، (ثُمَّ أمَّهاتُه كَذلك) لإدلائهنَّ بعصبةٍ، (ثُمَّ أخْتٌ لأبَوَيْنِ) لمشاركتها له في النسب وقوة قرابتها، (ثُمَّ) أختٌ (لأُمٌّ) لإدلائها بالأم كالجدات، (ثُمَّ) أخت (لأَبٍ، ثُمَّ خَالةٌ) لأبوين، ثم خالةٌ لأمٍّ ثم خالةٌ لأبٍ لإدلاء ¬
الخالات بالأم، (ثم عمة) كذلك لإدلائهن بالأب وهو مؤخر في الحضانة عن الأم، ثم خالة أم كذلك، ثم خالة أب، ثم عصته، (ثم بنت أخ) لأبوين، ثم لأم، ثم لأب، (و) بنت (أخت) كذلك، (ثم بنت عم) لأبوين، ثم لأم ثم لأب، (و) بنت (عمة) كذلك، (ثم بنت عم أب) (¬1) كذلك، (و) بنت (عمته) أي الأب (على ما فصل) سابقا، فيقدم من لأبوين ثم لأم ثم لأب، (ثم) الحضانة (لباقي العصبة)، أي عصبة المحضون (الأقرب فالأقرب)؛ لأن لهم ولاية وتعصيبا بالقرابة فثبتت لهم الحضانة كالأب، (وشرط كونه) أي الحاضن (محرما لأنثى) محضونة بلغت سبع سنين؛ لأنها محل الشهوة، ويسلمها غير محرم كابن عم تعذر غيره إلى ثقة يختارها أو يسلمها إلى محرمه؛ لأنه أولى من أجنبيٍّ وحاكم، وكذا أمٌّ تزوجت وليس لولدها غيرها فتسلم ولدها إلى ثقةٍ تختاره أو محرمها كما تقدم. (ثُمَّ) الحضانة (لذِي رَحِمٍ) ذكرًا وأنثى غير من تقدم؛ لأن لهم رحمًا وقرابةً يرثون بها عند عدم من تقدم أشبهوا البعيد من العصبات، وأولاهم بحضانة أبو أمٍّ فأمَّهاته فأخٌ لأمٍّ فخال (¬2)، (ثُمَّ) بعد من ذكر الحضانة لـ (لحَاكِمٍ)؛ لأن له ولاية على من لا أب له ولا وَصِيَّ والحضانة ولايةٌ، وتنتقل حضانة مع امتناع مستحقها أو عدم أهليته إلى مَنْ بعده. (ولا تَثْبُتُ) الحضانة (لمَنْ فِيْهِ رِقٌّ) وإن قَلَّ؛ لأنها ولايةٌ كولاية النكاح، (ولا) تثبت (لكافِرٍ عَلى مُسلمٍ)؛ لأن ضرره عظيمٌ؛ لأنه يفتنه عن دينه ¬
ويخرجه عن الإسلام بتعليمه الكفر وتربيته عليه، وفي ذلك كله ضرر، (ولا) تثبت (لفاسق) ظاهر الفسق؛ لأنه لا وثوق به في أداء واجب الحضانة، ولاحظ للمحضون في حضانته، لأنه ربما نشأ على أحواله ولا سيما إن كان من أهل البدع، (ولا) تثبت (لمزوجة بأجنبي من محضون من زمن (¬1) عقد) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنت أحق به ما لم تنكحي"؛ ولأن الزوج يملك منافعها بمجرد العقد، ويستحق منعها من الحضانة أشبه ما لو دخل بها، فإن تزوجت بقريب محضونها ولو غير محرم له لم تسقط حضانتها، ولو رضي زوج بحضانة ولدها من غيره لم تستحق الحضانة بذلك، بخلاف رضاع كما تقدم، وبمجرد زوال مانع ولو بطلاق رجعي ولم تنقض عدتها، وبمجرد رجوع ممتنع من حضانة يعود الحق له في الحضانة لقيام سببها مع زوال المانع. (وإن (¬2) أراد أحد أبويه) أي المحضون (نقله إلى بلد آمن وطريقه) أي البلد (مسافة قصر فأكثر ليسكنه) وكان الطريق أيضًا آمنا (فأب أحق)؛ لأنه الذي يقوم عادة بتأديبه وتخريجه وحفظ نسبه، فإذا لم يكن ببلد أبيه ضاع، ومتى اجتمع الأبوان عادت (¬3) الحضانة للأم، (أو) أراد أحد أبويه نقله (إلى) بلد (قريب) دون المسافة من بلد الآخر (للسكنى فأم) فتبقى على حضانتها؛ لأنها أتم شفقة كما لو لم يسافر أحدهما، (و) إن أراد أحد أبويه سفرا (لحاجة) ويعود (مع بعد) ¬
البلد الذي أراده (أو لا) أي مع عدم بعده (¬1) (فمقيم) من أبويه أحق بحضانته إزالة لضرر السفر، وهذا كله إن لم يقصد المسافر به مضارة الآخر وإلا فأم أحق كما ذكره في "الهدي" (¬2) وقواه غيره (¬3). ¬
فصل
فصل (وإذا بلغ صبي) محضون (سبع سنين عاقلا) أي تمت له سبع سنين (خير بين أبويه)، لحديث أبي هريرة: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خير غلاما ما بين أبيه وأمه" رواه سعيد والشافعي (¬1)، ولأبي هريرة أيضا: "جاءت امرأة إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: يا رسول اللَّه! إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبي عنبة (¬2) وقد نفعني فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما ¬
شئت، فأخذ بيد أمه فانطلقت به" رواه أبو داود (¬1) وعن عمر: "أنَّه خَيَّرَ غلامًا بين أبيه وأمه" رواه سعيد (¬2) وعن عمارة الجرمي (¬3): "خَيَّرَني عليٌّ بين أمِّي وأبي وكنت ابن سبع أو ثمان" (¬4)، وروي نحوه عن أبي هريرة (¬5)، ولأن ¬
التقديم في الحضانة لحق الولد فيقدم من هو أشفق واختياره دليل ذلك. فإن اختار أباه كان عنده ليلًا ونهارًا ليحضنه ويعلمه ويؤدبه، ولا يمنع زيارة أمه لما فيه من الإغراء على العقوق وقطيعة الرحم، فيزورها على العادة كيوم في الأسبوع، ولا تمنع هي تمريضه، لصيرورته بالرض كالصغير في الحاجة إلى من يخدمه ويقوم بأمره، والنساء أعرف بذلك. وإن اختار الأمَّ كان عندها ليلًا؛ لأنه وقت السكن وانحياز الرجال إلى المساكن، وكان [عند] (¬1) أبيه نهارًا؛ لأنه وقت التصرف في الحوائج وعمل الصنائع ليؤدبه ويعلمه ليلًا يضيع. وإن اختار أحد أبويه ثم عاد فاختار الآخر نقل إليه، ثم إن عاد واختار الأول رد إليه، وهكذا أبدًا كلما اختار أحدهما نُقِلَ إليه؛ لأنه اختيار شهوة لحظ نفسه فاتبع ما يشتهيه كالمأكول. وإن كان يختار أحدهما ليمكنه من الفساد ويكره الآخر للأدب لم يعمل ¬
بمقتضى شهوته، قال ابن عقيل: "ويقرع بين الأبوين إن لم يختر منهما واحدًا أو اختارهما جميعًا لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر فلا مرجح غير القرعة". (¬1) (ولا يُقَرُّ مَحْضُونٌ) ذكرًا كان أو أنثى (بيد من لا يصونُهُ و) لا (يُصْلِحُه)؛ لأن وجود من لا يصونه ويصلحه كعدمه فتنتقل عنه إلى من يليه. وإن بلغ الذكر رشيدًا كان حيث شاء لاستقلاله بنفسه، وزوال الولاية عنه وقدرته على إصلاح أموره، ويستحب له أن لا ينفرد عن أبويه؛ لأنه أبلغُ في برِّهما وصلتهما. وإن استوى اثنان فأكثر في الحضانة أقرع بينهما أو بينهم لأنه لا مرجح غيرها ما لم يبلغ محضونًا سبعًا ولو أنثى فيخير بينهما أو بينهم؛ لأنه لا يمكن الجمع ولا مزية للبعض، (وتَكُونُ بِنتُ سَبع) سنين تامة (عِنْدَ أَبٍ) إلى زفاف وجوبًا؛ لأنه أحفظ لها وأحق بولايتها، وليؤمن عليها من دخول النساء؛ لأنها معرضة للآفات، لا يؤمن عليها الخديعة لِغِرَّتِهَا (¬2) ولمقاربتها إذن الصلاحية للتزويج، وقد تزوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة بنت سبع (¬3)، وإنما تخطب من أبيها لأنه وليها وأعلم بالكفؤ، ولم ¬
يرد الشرع بتخييرها، ولا يصح قياسها على الغلام؛ لأنه لا يحتاج إلى ما تحتاج البنت، (أَوْ) تكون عند (من يَقومُ مَقَامَة) أي الأب (إلى زِفَافٍ) -بكسر أوله-. ويمنعها أبوها أو من يقوم مقامه من الانفراد بنفسها خشية عليها، ولا تمنع أمٌّ من زيارتها إن لم يخف منها مفسدة، ولا تمنع من تمريضها ولا زيارة أمِّها إن مرضت؛ لأنه من الصلة والبر. والمعتوه ولو أنثى يكون عند أمه مطلقًا صغيرًا كان أو كبيرًا لحاجته إلى من يخدمه ويقوم بأمره، والنساء أعرف بذلك، وأمه أشفق عليه من غيرها، فإن عدمت أمه فأمهاتها القربى فالقربى على ما تقدم، ولا حضانة ولا رضاع لأمٍّ جذماء أو برصاء على ما تقدم في الرضاع.
(كتاب الجنايات)
(كِتَابُ الجِنَايَاتِ) جمع جنايَةٍ وهي لغةً: التَّعدِّي على نفسٍ أو مالٍ (¬1). وشرعًا: التعدي على البدن بما يوجب قصاصًا أو مالًا (¬2) وتسمى الجناية على المال غصبًا وسرقةً وخيانةً (¬3) وإتلافًا ونهبًا. وأجمعوا على تحريم القتل بغير حق (¬4)، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} الآية (¬5) وحديث ابن مسعود مرفوعًا: "لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" متفق عليه (¬6). فمن قتل مؤمنًا متعمدًا فسق وأمره إلى اللَّه تعالى، وتوبته مقبولة عند أكثر أهل ¬
العلم (¬1)، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬2)، والآية محمولة على من قتله مستحلا ولم يتب، أو أن هذا جزاؤه إن جازاه اللَّه وله العفو إن شاء، والأخبار لا يدخلها النسخ بل التخصيص والتأويل. و(القَتْلُ) -أي فعل ما تزهق به النفس أي تفارق الروح [البدن] (¬3) - ثلاثة أصناف: - أحدها: (عَمْدٌ) يختص القَوَدُ به فلا يثبت في غيره، والقَوَدُ: قتل القاتل بمن قتله (¬4)، مأخوذ من قود الدابة؛ لأنه يقاد إلى القتل بمن قتله. (و) الصنف الثاني: (شِبْهُ عَمْدٍ) ويقال: خَطَأ العمدِ، وعَمْدُ الخطأ. ¬
(و) الصنف الثالث: (خطأ)، وهذا تقسيم أكثر أهل العلم (¬1)، وروي عن عمر (¬2) وعلي (¬3). ويدل لثبوت شبه العمد حديث ابن عمرو مرفوعا: "ألا إن دية الخطأ شبه (¬4) ¬
العمد: ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها" رواه أبو داود (¬1). (فالعَمْدُ يختصُّ القَوَدُ به، وهو: أَنْ يَقْصِدَ) الجاني (مَنْ يَعْلَمُهُ آدميًّا مَعْصُومًا فيَقْتُلَهُ بما) أي بشيء (يَغْلُبُ على الظَّنِّ مَوتُهُ بِهِ) (¬2) محددًا كان أو غيره، فلا قصاص إن لم يقصد القتل، أو قصده بما لا يقتل غالبًا. وللعمد الذي يختص القود به تسع صور بالاستقراء، ذكر إحداها بقوله: (كجَرْحِهِ بما لَهُ نُفُوذٌ) أي دخولٌ (في البَدَنِ) من حديدٍ كسكينٍ وسيفٍ وحربةٍ، أو من غيره كشوكةٍ وخشبٍ وقصبٍ وعظمٍ، وكذا نحاسٍ وذهبٍ وفضةٍ ونحوه، فإذا جرحه فمات به فعمد ولو كان جرحه صغيرًا، كَشَرْطَةِ (¬3) حجام فمات به ولو طالت به علته ولا علة به غيره، أو كان في غير مقتل كطرف فالمحدد لا يعتبر ¬
فيه غلبة الظن في حصول القتل به، بدليل [ما] (¬1) لو قطع شحمة أذنه أو أنملته فمات، وربطا للحكم بكونه محددا لتعذر ضبطه بغلبة الظن، ولا يعتبر ظهور الحكم في آحاد صور المظنة بل يكفى احتمال الحكمة، ومن قطع أو بط سلعة (¬2) خطرة من مكلف بلا إذنه فمات فعليه القود لتعديه بجرحه بلا إذنه. (و) الثانية: (ضربه بحجر كبير) أو بمثقل كبير فوق عمود الفسطاط لا بمثقل كبير كهو (¬3) نصا (¬4)، وهو الخشبة التي يقوم عليها بيت الشعر، لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل عن المرأة التي ضربت جارتها بعمود الفسطاط فقتلتها وجنينها، "فقضى في الجنين بغرة (¬5)، وقضى بدية المرأة على عاقلتها" (¬6)، والعاقلة لا تحمل العمد فدل على أن ¬
القتل به ليس بعمد، وضربه بما يغلب على الظن موته به من كُوْذَيْنِ: وهو ما يدق به الثياب، وسَنْدَانِ حداد (¬1) ونحو ذلك ولو كان ضربه بذلك (¬2) في غير مقتل فيموت فَيُقَاد به لأنه يقتل غالبًا فيتناوله عموم قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظلُومًا فَقَد جَعَلنَا لِوَليِّهِ سُلطانًا} (¬3)، ولحديث أنسٍ: "أن يهوديًا قتل جارية على أوْضَاحٍ (¬4) لها بحَجَرٍ، فقتله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" متفق عليه (¬5)، ولأن المثقل الكبير يقتل غالبا أشبه المحدد، وأما حديث: "ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل [عمد] (¬6) السوط والعصا والحجر مائة من الإبل" (¬7) فالمراد الحجر الصغير جمعا بين ¬
الأخبار، ولأنه قرنه بالعصا والسوط فدل على أنه أراد ما يشبههما. أو يضربه في مقتل بمثقل دون [ما تقدم] (¬1)، أو يضربه في حال ضعف قُوَّةٍ من مَرضٍ أو صِغَرٍ أو كِبَرٍ أو حَرٍّ أو بَرْدٍ بحجر صغير فيموت، أو يُعِيْدُ الضرب بما لا يقتل غالبا حتى يموت، أو يُلْقِيْ عليه حائطًا أو سقفًا ونحوهما مما يقتل غالبًا، أو يُلقيه من شاهقٍ فيموت ففيه كله القود؛ لأنه يقتل غالبًا، وإن قال: لم أقصد قتله بذلك لم يصدق لأنه خلاف الظاهر. الصُّورة الثالثة: أن يلقيه بزُبْيَةِ أسد -بضم الزاي- أي حفرته، أو زُبْيَة ذئبٍ أو غيره (¬2) فيقتله، أو يلقيه مكتوفًا بفضاءٍ بحضرة ذلك، أو يلقيه في مضيق بحضرة حيَّةٍ، أو ينهشه كلبًا أو حيَّةً، أو يُلسعه عقربًا من القواتل غالبًا، فيموت فيقتل به؛ لأنه مما يقتل غالبًا. الصورة الرابعة: أن يلقيه في ماء يغرقه، أو نار، ولا يمكنه التخلص منهما، [لكثرتهما] (¬3) أو عجزه عنه لمرضه ونحوه، أو لكونه مربوطا أو ألقاه في حفرة لا يقدرعلى صعود منها فيموت فيقتل به لا تقدم. الصورة الخامسة: أن يخنقه بحبل أو غيره، أو يسد فمه أو أنفه، أو يعصر خصيته زمنا يموت في مثله غالبا فيموت، فيقتل به لما سبق. ¬
الصورة السادسة: أن يحبسه ويمنعه الطعام والشراب فيموت جوعًا أو عطشًا لزمنٍ يموت فيه من ذلك غالبًا، فيُقَاد (¬1) به بشرط تعذر الطلب (¬2). الصورة السابعة: أن يسقيه سُمًّا يقتل غالبًا لا يعلم به شاربه، أو يخلطه بطعامٍ ويطعمه لمن لا يعلم فيموت، فيُقَادُ به كما لو قتله بمُحَدَّدٍ. الصورة الثامنة: أن يقتله بسحر يقتل غالبًا فيقتل به لأنه يقتل غالبًا، وقال ابن البناء (¬3): "يقتل حدًّا، وتجب دية المقتول في تركته"، وصحّحه في "لإنصاف" (¬4) وجزم به في "الإقناع" (¬5). الصورة التاسعة: أن يشهد رجلان على شخصٍ بقتل عمد أو ردَّةٍ حيث امتنعت توبته، أو يشهد أربعة بزنا محصن فيقتل بشهادتهم، ثم ترجع البينة وتقول: عمدنا قتله، أو يقول الحاكم: علمت كذبهما أو كذبهم وعمدت ¬
قتله، فيقاد بذلك كله وشبهه بشرطه، لما روى القاسم بن عبد الرحمن (¬1): "أن رجلين شهدا عند عليِّ بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- على رجلٍ أنه سرق فقطعه، ثم رجعا عن شهادتهما، فقال: لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتُ أيديكما، وغَرَّمَهُما دية يده" (¬2). ولا قود على بينة ولا على حاكم مع مباشرة ولي عالم بالحال لمباشرته القتل عدوانًا، وغيره متسبب، والمباشرة تبطل حكم التَّسبب ويختص بالقصاص إذا لم يباشر الولي القتل [بل وَكَّلَ] (¬3) مباشر عالم لمباشرته القتل عمدا ظلما بلا إكراه، فإن لم يعلم ذلك فولي أقر بعلمه بكذب الشهود وفساد الحكم بالقتل، فإن جهل الولي ذلك فَبَينةٌ وحاكم عُلِمَ كذبهما لتسبب الجميع في القتل ظلمًا حيث علموا ذلك، ومتى لزمت حاكم وبينة دية كإن عفا الولي إلى الدية فهي على عددهم لاستوائهم في السبب. (وشِبْهُ العَمْدِ) المسمى بخطأ العمد وعمد الخطأ: (أَنْ يَقْصِدَ جِنَايةً لا تَقْتُلُ غَالبًا ¬
ولم يجرحه بها) (¬1) أي الجناية، (كضرب) شخص (بسوط أو عصا) أو حجر صغير إلا أن يصغر كثيرا كقلم وإصبع، في غير مقتل، أو يمسه بالكبير بلا ضرب فلا قصاص، أو لكز غيره بيده في غير مقتل، أو ألقاه في ماء قليل، أو سحره بما لا يقتل غالبا فمات، أو صاح بعاقل اغتفله، أو بصغير أو معتوه على نحو سطح فسقط فمات، أو ذهب عقله ونحوه ففيه الكفارة في مال جان لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬2)، والخطأ موجود في هذه الصور لأنه لم يقصد قتله بفعله ذلك، وفيه الدية على عاقلته لقوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وحديث أبي هريرة: "اقتتلت امرأتان من هذيل (¬3)، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن دية جنينها عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها"، متفق ¬
(والخطأ) ضربان: -
عليه (¬1)، فإن صاح بمكلَّفٍ لم يَغْتَفِلُه فلا شيء عليه مات أو ذهب عقله. (والخَطَأُ) ضربان: - ضرب منهما في القصد وهو نوعان: - أحدهما: أن يرمي ما يظنه صيدًا فيقتل إنسانًا، أو يرمي من يظنه مباح الدم كمرتد فيبين ما ظنه صيدا آدميًّا معصومًا، أو يبين من ظنه مباح الدم معصومًا، أو يفعل ما له فعله كقطع لحم فيقتل إنسانًا، ففي ماله الكفارة، وعلى عاقلته الدية لما سبق. النوع الثاني: أن يقتل بدار حرب من يظنه حربيًّا فيبين مسلمًا، أو يقتل بصف كفار من يظنه حربيًّا فيبين مسلمًا. قال الشيخ تقي الدين: "إن كان مقدورًا عليه كأسير ومن لا يمكنه الخروج من صفهم، فإن وقف باختياره لم يضمن بحال" انتهى (¬2). أو يرمي كفارا تَتَرَّسُوْا بمسلم ويجب رميهم حيث خيف على المسلمين إن لم يرمهم (¬3) فيقصدهم بالرمي دون المسلم فيقتله ففيه الكفارة فقط، لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬4) ¬
ولم يذكر الدية، وترك ذكرها في هذا النوع مع ذكرها فيما قبله وبعده ظاهر في عدم وجوبها فيه. الضرب الثاني من ضربي الخطأ: خطأ في الفعل وهو (أن يفعل ما) أي شيء (له فعله كرمي صيد ونحوه) كهدف (فيصيب آدميا) معصوما لم يقصده، أو ينقلب وهو نائم أو مغمى عليه على إنسان فيموت فعليه الكفارة في ماله، وعلى عاقلته الدية كسائر أنواع الخطأ. (وعمد صبي و) عمد (مجنون) للقتل (خطأ) أي كخطأ المكلف؛ لأنه لا قصد لهما بخلاف السكران اختيارا. ومن قتل بسبب كحفر بئر ونصب سكين أو حجر ونحوه تعديا إن قصد جناية فشبه عمد؛ لأنه بالنظر إلى القصد كالعمد، وبالنظر إلى عدم المباشرة خطأ، وإلا يقصد جناية فهو خطأ لعدم قصد الجناية، وإمساك الحية محرم وجناية؛ لأنه ألقى بنفسه إلى التهلكة، فلو قتلت ممسكها من مدعي المشيخة، ونحوه فهو قاتل نفسه، قلت: فعلى هذا لا يصلي عليه الإمام الأعظم ولا القاضي؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- امتنع عن الصلاة على الشخص الذي قتل نفسه بمشاقص (¬1) كما رواه مسلم (¬2). ¬
ومن أريد قتله قودًا ببينة بالقتل لا بإقراره فقال شخص: أنا القاتل لا هذا فلا قود على واحدٍ منهما، وعلى مُقِرٍّ الدية لقول علي: "أحيا نفسًا" (¬1) ولزوم الدية له لصحة بذلها منه، ولو أقر الثاني بعد إقرار الأول قتل الأول لعدم التهمة ومصادفته الدعوى. (وَيُقْتَل عَدَدٌ) أي ما فوق الواحد (بوَاحِدٍ) قتلوه إن صح فعل كل للقتل به بأن كان فعل كل منهم لو انفرد لوجب به القصاص لإجماع الصحابة، فروى سعيد ابن المسيب عن عمر أنه قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلًا وقال: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعًا" (¬2)، وعن عليٍّ: "أنه قتل ¬
ثلاثةً قَتلوا رجلًا" (¬1) وعن ابن عباس: "أنه قتل جماعة قتلوا واحدًا" (¬2) ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعًا (¬3)، ولأن القتل عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت على الجماعة كحد القذف، ويفارق الدية فإنها تتبعض والقصاص لا يتبعض. وللولي أن يقتص من البعض ويعفو عن البعض، فيأخذ منه بنسبته [من الدية] (¬4) وإلَّا (¬5) يصلح فعل كل واحد للقتل به ولا تواطؤ بأن ضربه كل منهم ¬
بحجر صغير حتى مات ولم يكونوا اتفقوا على ذلك فلا قصاص؛ لأنه لم (¬1) يحصل ما يوجبه من واحد منهم، (ومَعَ عَفْوٍ) عن قودٍ، (تَجِبُ دِيَةٌ واحِدة)؛ لأن القتل واحد فلا يلزمهم أكثر من ديته كما [لو] (¬2) قتلوه خطأ. وإن جرح واحد شخصًا جُرْحًا، وجرحه [آخر] (¬3) مائة ومات، أو أوْضَحَه أحدهما، وشَجَّهُ الآخر أو أمَّه، أو جرحه أحدهما وأجَافَهُ (¬4) الآخر فهما سواء في القصاص أو الدية، لصلاحية فعل كل منهما للقتل لو انفرد، وإن فعل واحد مالا تبقى معه حياة عادة كقطع حُشْوَتِهِ أو مَرِيْئِهِ أو وَدَجَيْه ثم ذبحه آخر فالقاتل هو الأول لفعله ما لا تبقى معه حياة شيئًا من الزَّمان، ويعزر الثاني كما لو جنى على ميت. وإن رماه الأول من شاهق فتلقاه الثاني بمُحَدَّدٍ فقده فهو القاتل؛ لأنه فوت حياته قبل أن يصير إلى حالة ييأس فيها من حياته، أشبه ما لو ألقى عليه صخرةً فأطار آخر رأسه قبل وقوعها عليه. (ومَنْ أَكْرَهَ مُكلَّفًا على قَتْلِ) شخص (مُعَيَّنٍ) ففعل فعلى كل منهما القود، (أَوْ) أكرهه (على أَنْ يُكْرِهَ عليه) -أي على قتل شخصٍ مُعَيَّنٍ- (فَفَعَلَ) -أي أكره من قتله- (فعلى كُلٍّ) من الثلاثة (القَوَدُ أَوْ الدِّيةُ)، أما الآمر فلتسببه إلى ¬
القتل بما يفضي إليه غالبًا كما لو أنهشه حيَّةً أو أسدًا أو رماه بسهم، وأما القاتل فلأنه غير مسلوب الاختيار؛ لأنه قصد استبقاء نفسه بقتل غيره ولا خلاف في أنه يأثم ولو كان مسلوب الاختيار لم يأثم كالمجنون. وإن أكْرِهَ على قتل غير معين كأحد هذين فليس إكراهًا فيقتل القاتل وحده. وإن قال قادر على ما هدد به: اقْتُلْ نَفسك وإلا قَتَلْتُكَ فهو إكراه على القتل فيُقْتَلُ به إن قتل نفسه كما لو أكرِهَ عليه غيره. (وَإِنْ أمَرَهُ بِهِ) أي القتل (غَيْرَ مُكَلَّفٍ) لصغير أو مجنون فقتل لزم القصاص الآمر لما تقدم، (أَوْ) أمر به (مَنْ) -أي شخصًا مكلفا- (يَجْهَلُ تَحْرِيْمَهُ) كمن نشأ بغير دار الإسلام فقتل لزم الآمر القصاص أجنبيا كان المأمور أو عبدًا للآمر؛ لأن المأمور غير العالم بحظر القتل له شبهة تمنع القصاص كما لو اعتقده صيدا، ولأن حكمة القصاص الردع والزجر ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة، وإذا لم يجب عليه القصاص وجب على الآمر. (أو) أمر به (سُلْطَانٌ ظُلمًا مَنْ جَهِلَ ظُلْمَهُ فِيْهِ) أي في القتل (لَزِمَ) القصاصُ (الآمِرَ) لعذر المأمور لوجوب طاعة الإمام في غير المعصية، والظاهر أن الإمام لا يأمر إلا بحق، وإن علم الامور المكلف تحريمه لزمه القصاص لأنه غير معذور في فعله، لحديث: "لا طاعة لِمَخلُوقٍ في معصية الخَالقِ" (¬1) وحديث: "مَنْ أمَرَكم ¬
من الوُلاة [بمعصية اللَّه] (¬1) فلا تطيعوه" (¬2) وسواء كان الآمر السّلطان أو غيره. ومن دفع لغير مكلف آلة قَتْلٍ كسيف وسكين ولم يأمر بقتل فقتل لم يلزم الدافع شيءٌ لأنه لم يأمر بالقتل ولم يباشره. ومن قال لغيره: اقتلني ففعل فَهَدَرٌ، أو قال له: اجْرَحْنِيْ ففعل فَهَدَرٌ نصًّا (¬3) لإذنه في الجناية عليه فسقط [حقه] (¬4) منها كما لو أمره بإلقاء متاعه في البحر، قلت: والظاهر أن عليه الكفارة؛ لأنه فعل ما لا يحل للآمر فعله، فسقط عنه القود لإذن المقتول في ذلك، وبقي حق اللَّه تعالى في ذلك وهو الكفارة والتوبة ولم أقف في ذلك على نص واللَّه أعلم. ¬
فصل
فَصْلٌ ومن أمسك إنسانًا لآخر يعلم أنه يقتله حتى قتله، أو حتى قطع طرفه فمات، أو فتح فمه حتى سقاه آخر سما فمات قُتِلَ قَاتِلٌ لقتله عمدًا من يكافئه بغير حق، وحُبسَ ممسك حتى يموت، لحديث الدارقطني عن ابن عمر مرفوعًا: "إذا أمسك الرجل وقتله الآخر يُقتَلُ الذي قَتَلَ، ويُحبس الذي أمسك" (¬1)، ولأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إليه ولا يمنع من الطعام والشراب، فإن قتل الوَلِيُّ ¬
الممسك فقال القاضي: "عليه القصاص" وناقش فيه المجد، وصحّح سقوطه لشبهة الخلاف (¬1). ومن قطع طرف هارب من قتل فحبس حتى أدركه قاتله فقتله أقيد منه في الطرف الذي قطعه، سواء حبسه ليقتله الآخر أو لا، وهو فيما يجب عليه في النفس كممسك إنسانا لآخر حتى قتله؛ لأنه حبسه للقتل فكانه أمسكه حتى قتله، وإن لم يقصد حبسه فعليه القطع فقط، كمن أمسك إنسانا لآخر لا يعلم أنه يقتله بخلاف الجارح فلا يعتبر فيه قصد الموت لموته من سراية الجرح وأثره فاعتبر فيه قصد الجرح الذي هو السبب دون قصد الأثر، وأما مسألة الإمساك فالموت فيها بأمرٍ غير السراية، والفعل ممكن له، فاعتبر قصده لذلك الفعل كما لو أمسكه. وإن اشترك عدد في قتل لا يقاد به البعض لو انفرد كحُرٍّ وقِنٍّ اشتركا في قتل قن، وكأب وأجنبي اشتركا في قتل ولده، وكخاطئ وعامد ومكلف وغير مكلف، فالقود على القن شريك الحر، ومثله ذمي اشترك مع مسلم في قتل ذمي؛ لأن القصاص سقط عن الحر والمسلم لعدم مكافأة المقتول له، وهذا المعنى لا يتعدى إلى فعل شريكه فلم يسقط القصاص عنه، والقود أيضًا على شريك أب في قتل ولده لمشاركته في القتل العمد العدوان فيمن يقتل به لو انفرد، وإنما امتنع في حق الأب لمعنى يختص بالمحل (¬2) لا لقصور في السبب الموجب فلا يمنع عمله في ¬
المحل الذي لا مانع فيه. ومثل الأب الأم والجد والجدة وإن علوا. وعلى حر شريك قن في قتل قن [نصف ديته، وفي قتل قن] (¬1) نصف قيمة القن المقتول لمشاركته في إتلافه فلزمه بقسطه، وعلى شريك غير قن وأب في قتل حر نصف ديته، وفي قتل [قنٍّ] (¬2) نصف قيمته كالشريك في إتلاف مال. ومن جُرِحَ عمدًا فداوى جرحه بسم فمات فلا قود على جارحه لقتله نفسه، أشبه ما لو جرح فذبح نفسه، لكن إن أوجب الجرح قصاصا [استوفي وإلا] (¬3) أخذ الوارث أرشه إن شاء لأن [الحق] (¬4) له فيه دون غيره. ¬
(فصل) في شروط وجوب القصاص
(فَصْلٌ) في شُرُوْطِ وُجُوْبِ القِصَاصِ (وَللقِصَاصِ أَرْبَعَةُ شُروطٍ) بالاستقراء: - أحدها: (تكليف قاتل) بأن يكون بالغا عاقلا قاصدا؛ لأن القصاص عقوبة مغلظة فلا تجب على غير مكلف كصغير ومجنون ومعتوه؛ لأنهم ليس لهم قصد صحيح كقاتل خطأ، وإن قال جان: كنت حين الجناية صغيرا، وقال ولي الجناية: بل مكلفا وأقاما بينتين تعارضتا، وإن لم يحصل بينة فالقول قول الصغير حيث أمكن. (و) الثاني من الشروط: (عصمة مقتول) ولو كان مستحقا دمه (¬1) بقتل لغير قاتله؛ لأنه لا سبب فيه يبيح دمه لغير مستحقه، فالقاتل لحربي لا قود ولا دية عليه، أو القاتل لمرتد -قبل توبته إن قبلت ظاهرا- لا قود ولا دية عليه بخلاف القاتل له بعد توبته المقبولة؛ لأنه معصوم، والقاتل لزان محصن ولو قبل ثبوته عند حاكم إذا ثبت أنه زنى محصنا بعد قتله لوجود الصفة التي أباحت دمه، قبل الثبوت وبعده على السواء، وإنما يظهر ذلك للحاكم بالبينة فلا قود ولا دية عليه ولو أن القاتل مثله في عدم العصمة بأن يقتل حربي حربيا أو مرتد مرتدا أو زان محصن زانيا (¬2) محصنا، ويعزر قاتل غير معصوم لافتياته على ولي الأمر. ¬
(و) الشرط الثالث: (مُكَافَأتهُ) أي المقتول (لقَاتِلٍ) حال جنايةٍ لأنه وقت انعقاد السبب، والمكافأة بأنـ[لان] (¬1) لا يفضله قاتله (بدِيْنٍ) أ (و) بـ (حُريةٍ) أو بملك. فيقتل مسلم حر وعبد بمثله في الإسلام والحرية والرق ولو مجدع الأطراف معدم الحواس والقاتل صحيح سوي الخلق وعكسه، وكذا لو تفاوتا في العلم والشرف والغنى والفقر والصحة والمرض ونحوها. ويقتل ذمي حر وعبد بمثله ومستأمن من حرٍّ أو عبد بمثله للمساواة، ويقتل كتابي بمجوسي، ويقتل ذمي بمستأمن وعكسهما، ويقتل كافر غير حربي جنى ثم أسلم بمسلم للمكافأة. ويقتل قن بحر وبقن ولو كان القن المقتول أقل قيمة منه لعموم قوله تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (¬2) ولا أثر لكون أحدهما مكاتبًا أو مدبرًا أو أم ولد والآخر ليس كذلك، للتساوي في النفس والرق. ويقتل من بعضه حر بمثله وبأقل حرية منه. ويقتل مكلف بغير مكلف للتساوي في النفس والحرية والرق، ويقتل ذكر بأنثى وبخنثى، ولا يعطى للذكر نصف دية إذا قُتِلَ بالأنثى وعكسها للمساواة في النفس والحرية والرق. ولا يقتل مسلم ولو ارتدَّ بعد القتل بكافر كتابي أو غيره ذمي أو معاهد، روي ¬
عن عمر (¬1) وعثمان (¬2) وعلي (¬3) وزيد بن ثابت (¬4) ومعاوية (¬5) لحديث: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يقتل مؤمن بكافر" رواه أحمد وأبو داود (¬6)، وفي لفظ: "لا يقتل مسلم بكافر" رواه البخاري (¬7)، وعن ¬
علي: "من السنة أن لا يقتل مؤمن بكافر" رواه أحمد (¬1)، ولأن القصاص يقتضي المساواة، ولا مساواة بين الكافر والمسلم والعمومات مخصصة بهذه الأحاديث، وحديث أنه عليه السَّلام: "أقاد مسلما بذمي" (¬2) ليس له إسناد قاله ¬
أحمد (¬1)، ولا يقتل حر بقن لقول علي: "من السنة أن لا يقتل حر بعبد" رواه الدارقطني (¬2) ولأنه لا يقطع طرفه بطرفه مع التساوي في السلامة فلا يقتل به حر، والعمومات مخصصة بذلك، وإن انتقض عهد ذمي بقتل مسلم حر وعبد فقتل لنقضه العهد فعليه دية الحر إن كان القتيل حرًا، وقيمة القن إن كان القتيل قنا كما لو مات حتف أنفه إذ لا مسقط لموجوب جنايته. وإن قتل ذمى أو مرتد ذميا، أو جرح ذمي أو مرتد ذميا، أو قتل أو جرح قنًا ثم أسلم الذمي القاتل أو الجارح، أو عتق القن القاتل أو الجارح ولو قبل موت مجروح قتل به نصًّا (¬3)، لحصول الجناية بالجرح في حال تساويهما، كما لو جن قاتل أو جارح بعد الجناية. ولو جرح مسلم ذميا، أو جرح حر قنا فأسلم مجروح أو عتق قن ثم مات فلا قود على جارح اعتبارا بحال الجناية، وعليه دية حر مسلم اعتبارا بحال ¬
الزهوق؛ لأنه وقت استقرار الجناية فيعتبر الأرش به بدليل [ما] (¬1) لو قطع يدي إنسان ورجليه فسرى إلى نفسه ففيه دية واحدة، ويستحق دية من أسلم بعد الجرح وارثه المسلم لموته مسلما، ويستحق دية من عتق بعد جرح سيده إن كان قدر قيمته فأقل كاستحقاقه لقيمته لو لم يعتق لأنها بدله، فلو جاوزت ديته قيمته رقيقا فالزائد لورثته لحصوله بحريته، ولا حق للسيد في ما حصل بها إلا أن السيد يرثه بالولاء إن لم يكن مستغرقا من نسب ونكاح. ومن قتل من يعرفه أو يظنه كافرا أو رقيقا أو قاتل أبيه فبان تغير حاله بأن أسلم الكافر أو أعتق القن أو تبين خلاف ظنه بأن تبين أنه غير قاتل أبيه فعليه القود لقتله من يكافئه عمدا محضا بغير حق أشبه ما لو علم حاله. (و) الشرط الرابع: (عدم الولادة) بأن يكون المقتول ليس بولد القاتل وإن سفل، ولا بولد بنته وإن سفلت، فيقتل ولد باب وأم وجد وجدة لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيكُمُ القِصَاصُ في القَتلَى} (¬2) وهو عام في كل قتيل، فخص منه صورتان بالنص ويقي ما عداهما، ولا يقتل أحدهما وإن علا بالنسب بالولد، أو ولد البنت وإن سفلا، لحديث عمر وابن عباس مرفوعا: "لا يقتل والد بولده" رواه ابن ماجة (¬3)، ¬
وروى النسائي حديث عمر (¬1)، وقال ابن عبد البر (¬2): "هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد، حتى يكون الإسناد في مثله مع شهرته تكلُّفًا". ولأنه سبب إيجاده فلا ينبغي أن يسلط (¬3) بسببه على إعدامه، ولو أن الولد أو البنت حُرٌّ مسلم والقاتل له من آبائه وأمهاته وإن علوا كافر أو قن لانتفاء القصاص لشرف الأبوة وهو موجود في ¬
كل حال، ويأخذ حر من أب وأم وجد وجدة قتل ولده وإن سفل بالدية كما تجب على الأجنبى في ماله قال في "الاختيارات" (¬1) "ونص عليه الإمام أحمد، وكذا لو جنى على طرفه لزمته ديته انتهى". وذكر في "الشرح" (¬2) عن عمر -رضي اللَّه عنه-: "أنه أخذ من قتادة المدلجي (¬3) دية ابنه" (¬4) ومتى ورث قاتل بعض دمه بوجود واسطة بينه وبين المقتول، أو ورث ولد القاتل بعد دمه فلا قود على قاتل؛ لأن القصاص لا يتبعض، ولا يتصور وجوبه للإنسان على نفسه ولا لولده عليه، فلو ¬
قتل شخص زوجته فورثها ولدها منه سقط القصاص؛ لأنه إذا لم يجب للولد على والده بجنايته عليه فلأن لا يجب بالجناية على غيره أولى، وسواء كان الولد ذكرا أو أنثى، أو كان للمقتول وارث سواه أو لا؛ لأنه إذا لم يثبت بعضه سقط كله لأنه لا يتبعض. أو قتل أخا زوجته فورثته، ثم ماتت فورثها القاتل بالزوجية، أو ورثها ولده سقط القصاص لما تقدم، وكذا لو قتلت أخا زوجها فورثه زوجها ثم مات فورثته هي أو ولدها، ومن قتل أباه وورثه أخواه، أو قتل أخاه فورثه أخواه، ثم قتل أحدهما صاحبه سقط القود عن القاتل الأول؛ لأنه ورث بعض دم نفسه. ومن قتل من لا يعرف بإسلام ولا حرية أو ملفوفا لا يعلم موته ولا حياته وادعى قاتل كفره أو رقه وأنكر وليه فالقود، ويحلف الولي لأنه محكوم بإسلامه بالدار، ولأن الأصل الحرية والرق طارئ. أو ادعى قاتل ملفوف موته وأنكر وليه فالقود (¬1)؛ لأن الأصل الحياة. أو قتل شخصا في داره وادعى أنه دخل لقتله، أو أخذ ماله فقتله دفاعا عن نفسه فالقود حيث لا بينة؛ لأن الأصل عدم [ذلك] (¬2) ويؤيده ما روي عن علي أنه سئل عمن وجد مع امرأته رجلا فقتله فقال: "إن لم يأت بأربعة شهداء ¬
فليعط برمته" (¬1) فإن اعترف الولي بذلك فلا قصاص على قاتل ولا دية، لما [روي] (¬2) عن عمر أنه كان يوما يتغدى، إذ جاء رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ بالدم، ووراءه قوم يعدون خلفه، فجاء حتى جلس مع عمر، فجاء الآخرون فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن هذا قتل صاحبنا، فقال له عمر: "ما تقول؟ قال: يا أمير المؤمنين! إني ضربت فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته، فقال عمر: ما تقولون؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة، فأخذ عمر سيفه، فهزه ثم دفعه إليه" رواه سعيد (¬3). أو تجارح اثنان وادعى كل الدفع عن نفسه فالقود على كل منهما للآخر بشرطه، أو الدية إن لم يجب قود، أو عفا مستحقه، ويصدق منكر منهما بيمينه؛ لأن الأصل عدم ما يدعيه الآخر، ومتى صدق الولي فلا قود ولا دية لما تقدم عن عمر، ولاعتراف الخصم بما يهدر دم القتيل. وإن اجتمع قوم بمحل فقتل بعض بعضا وجرح بعض بعضا وجهل الحال فعلى عاقلة المجروحين دية القتلى منهم يسقط منها أرش الجراح نص ¬
عليه (¬1) لروايته بإسناده إلى الشعبي قال: أشهد على [عليٍّ] (¬2) أنه قضى به (¬3). ¬
فصل فى استيفاء القصاص في النفس وما دونها
فصل فى استيفاء القصاص في النفس وما دونها وهو فعل مجني عليه أو وليه بجان مثل فعله أو شبهه (¬1). (ولاستيفائه) أي القصاص (ثلاثة) شروط: - أحدها: (تكليف مستحق له) لأن غير المكلف ليس أهلا للاستيفاء ولا تدخله النيابة لما يأتي، ومع صغر مستحق أو جنونه يحبس جان لبلوغ صغير أو إفاقة مجنون يستحقه؛ لأن معاوية حبس هدبة بن خشرم (¬2) في قصاص حتى بلغ ابن القتيل (¬3)، وكان في عصر الصحابة ولم ينكر، وبذل الحسن والحسين، وسعيد بن العاص (¬4) لابن القتيل سبع ديات فلم يقبلها (¬5) ولأن ¬
[في] (¬1) تخليته تضييعا للحق إذ لا يؤمن هربه، وأما المعسر بالدين فلا يحبس؛ لأن الدين لا يجب مع الإعسار بخلاف القصاص فإنه واجب وإنما تأخر لقصور المستوفي، وأيضا المعسر إذا حبس تعذر عليه الكسب لقضاء دينه فحبسه يضر بالجانبين وهنا الحق هو نفسه فيفوت بالتخلية. ولا يملك استيفاء القصاص لصغير ومجنون أب كوصي وحاكم إذ لا يحصل باستيفائهم التشفي للمستحق له فتفوت حكمة القصاص، فإن احتاجا لنفقة فلولي مجنون لا صغير العفو إلى الدية؛ لأن الجنون لا حد له ينتهي إليه عادة بخلاف الصغر، وإن قتل الصغير أو المجنون قاتل مورثهما أو قطعوا قاطعه قهرا سقط حقهما لاستيفائهما ما وجب لهما، كما لو كان بيده مال لهما فأخذاه منه قهرا فأتلفاه. (و) الشرط الثاني: (اتفاقهم) أي المشتركين في القصاص (عليه) أي على استيفائه، فليس لبعضهم استيفاؤه بدون إذن الباقين؛ لأنه يكون مستوفيا لحق غيره بلا إذنه، ولا ولاية عليه أشبه الدين. (و) الشرط الثالث: (أن يؤمن في استيفائه) أي القود (تعديه) أي الاستيفاء (إلى غير جان) لقوله تعالى: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (¬2)، فلو لزم القود حاملا لم تقتل حتى تضع، أو حائلا فحملت لم تقتل حتى تضع حملها أيضا؛ لأن قتلها ¬
إسراف لتعديه إلى حملها، وحتى تسقيه اللبأ (¬1)؛ لأن تركه يضر الولد وفي الغالب لا يعيش إلا به، ولابن ماجة عن معاذ بن جبل، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبادة بن الصامت، وشداد بن أوس (¬2) مرفوعا: "إذا قتلت المرأة عمدا لم تقتل حتى تضع ما في بطنها، وحتى تكفل ولدها" (¬3) ولقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- للغامدية (¬4): "ارجعي حتى تضعي ما في بطنك، ثم قال لها: ارجعي حتى ترضعيه" (¬5) ثم إن وجد من ¬
يرضعه بعد سقيها له اللبأ أعطي لمن يرضعه وأقيد منها لقيام غيرها مقامها في إرضاعه وتربيته فلا عذر، وإلا يوجد من يرضعه فلا يقاد منها حتى تفطمه لحولين كما تقدم، وتقاد حامل في طرف بمجرد وضع، ومتى ادعت الحمل وأمكن قبل قولها لأنه لا يعلم إلا من جهتها خصوصا في ابتداء الحمل، ولا يؤمن الخطر بتكذيبها وحبست لقود كما تقدم حتى يتبين أمرها في الحمل وعدمه، ومن اقتص من حامل فألقت جنينها ضمنه بالغرة إن ألقته ميتا أو حيا لوقت لا يعيش لمثله، وبديته إن وضعته حيا لوقت يعيش لمثله وبقي زمنا يسيرا ثم مات، ولا تحبس لحد بل تترك حتى يتبين أمرها. (ويحبس) جان (لقدوم) وارث (غائب وبلوغ) وارث صغير (و) لـ (إفاقة) وارث مجنون؛ لأنهم شركاء في القصاص فلا ينفرد به بعضهم كما لا ينفرد بالدية بخلاف قتل في محاربة لتحتمه لحق اللَّه تعالى، وبخلاف حد قذف فيقام إذا طلبه بعض الورثة حيث يورث لوجوبه لكل واحد من الورثة إذا طلبه كاملا. ومن لا وارث له يستوفي الإمام القصاص فيه بحكم الولاية لا بحكم الإرث، وإنما قتل الحسن ابن ملجم (¬1) كفرا؛ لأن من اعتقد حل ما حرم اللَّه ¬
كافر، وقيل: لسعيه في [الأرض] (¬1) بالفساد، ولذلك لم ينتظر به قدوم من غاب من الورثة. ومتى انفرد بالقصاص من منع منه عزر فقط لافتياته بالانفراد ولا قصاص عليه؛ لأنه شريك في الاستحقاق، ومنع من استيفاء حقه لعدم التجزؤ، فإذا استوفى وقع نصيبه قصاصا وبقيت الجناية على بعض النفس فيتعذر فيه القصاص، ولشريك مقتص من تركة جان حقه من الدية، ويرجع وارث جان على مقتص بما فوق حقه، فلو قتلت (¬2) امرأة رجلا وله ابنان فقتلها أحدهما بغير إذن الآخر فلمن لم يأذن نصف دية أبيه في تركة المرأة القاتلة، ويرجع ورثتها على من اقتص منها ينصف ديتها. وإن عفا بعض مستحقي القصاص ولو كان زوجا أو زوجة، أو شهد بعضهم ¬
ولو مع فسقه بعفو شريكه سقط القود؛ لأنه لا يتبعض كما تقدم، وأحد الزوجين من جملة الورثة، ودخل في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فأهله بين خيرتين" (¬1) بدليل قوله: "من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، وما علمت من أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي، يريد عائشة، وقال له أسامة بن زيد: أهلك ولا نعلم إلا خيرا" (¬2) وعن زيد بن وهب (¬3): أن عمر أتي برجل قتل قتيلا فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل: قد عفوت عن حقي، فقال عمر: "اللَّه أكبر عتق ¬
القتيل" رواه أبو داود (¬1)، وأما سقوطه بشهادة بعضهم ولو مع فسقه فلإقراره بسقوط نصيبه، وإذا أسقط بعضهم حقه سرى إلى الباقي كالعتق. ولمن لم يعف من الورثة حقه من الدية على جان سواء عفى شريكه مجانا أو إلى الدية؛ لأنها بدل عما فاته من القصاص كما لو ورث القاتل بعض دمه. ثم [إن] (¬2) قتله عاف قتل ولو ادعى نسيانه أو جواز القتل بعد العفو، سواء عفى مجانا أو إلى مال لقوله تعالى: {فَمَن اعْتَدَى بَعدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (¬3) قال ابن عباس وغيره: "أي بعد أخذه الدية" (¬4)، ولأنه قتل معصوما مكافئا. وكذا شريك (¬5) علم بالعفو وبسقوط القود به ثم قتله فيقتل به، سواء حكم بالعفو أو لا، لقتله معصوما عالما أنه لا حق له فيه، والاختلاف لا يسقط القصاص، إذ لو قتل مسلما بكافر قتلناه به مع الاختلاف في قتله، ويستحق كل ¬
وارث للمقتول من القود بقدر إرثه من المال حتى الزوجين وذي الرحم؛ لأن القود حق ثبت للوارث على سبيل الإرث فوجب له بقدر ميراثه من المال. ومن لا وارث له فالإمام وليه في القود أو الدية؛ لأنه ولي من لا ولي له، له أن يقتص أو يعفو إلى مال فيفعل ما يراه الأصلح؛ لأنه وكيل المسلمين، ولا يعفو مجانا ولا على أقل من الدية؛ لأنها حق ثابت للمسلمين فلا يجوز له تركها ولا شيء منها؛ لأنه لا حظ للمسلمين فيه. (ويجب استيفاؤه) أي القود (بحضرة سلطان أو نائبه) لافتقاره إلى اجتهاد، ويحرم الحيف فيه ولا يؤمن مع قصد المقتص التشفي بالقصاص، وللإمام أو نائبه تعزير مخالف اقتص بغير حضوره لافتياته بفعل ما منع منه، ويقع فعله الموقع لأنه استوفى حقه. (و) يجب استيفاؤه (بآلة ماضية) أي غير كالة لحديث: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلة" (¬1) والاستيفاء بالكالة تعذيب للمقتول. ويخير ولي بين أن يباشر الاستيفاء ولو في طرف وبين أن يوكل من يستوفيه منه ¬
كسائر حقوقه، ومن له وليان فأكثر وأراد كل مباشرة الاستيفاء بنفسه قدم أحدهما بقرعة ووكله من بقي.
(و) يجب استيفاء قود (في النفس بضرب العنق بسيف) لحديث: "لا قود إلا بالسيف" رواه ابن ماجة (¬1)، ولأن القصد من القود إتلاف جملته وقد أمكن بضرب عتقه فلا يجوز تعذيبه بإتلاف أطرافه كقتله بسيف كال، وإن ظن ولي دم أنه اقتص في النفس فلم يكن استوفى وداواه أهله حتى برئ فإن شاء الولي دفع إليه دية فعله الذي فعله به وقتله، وإلا تركه فلا يتعرض له، قال في "الفروع" (¬2): "وهذا رأي عمر وعلي ويعلى بن أمية ذكره أحمد". ومن قتل أو قطع عددا في وقت أو أكثر فرضي أولياء كل بقتله، أو رضي المقطوعون بقطعه اكتفى به لجميعهم لتعذر توزيع الجاني على الجنايات، وإن طلب ولي كل قتله على الكمال وجنايته في وقت واحد أقرع بينهم، فيقاد لمن خرجت له القرعة، وإلا تكن جنايته ¬
في وقت واحد أقيد للأول لسبق استحقاقه، ولمن بقي الدية كما لو مات قبل أن يقاد منه، وكما لو بادر غير ولي الأول أو غير المقطوع الأول واقتص فيقع موقعه، ولمن بقي الدية، وإن رضي ولي الأول بالدية أعطيها لأن الخيرة إليه، وقتل الجاني أو قطع لثان وهلم جرا.
(فصل)
(فصل) (ويجب بعمد) عدوان (القود أو الدية فيخير ولى) جناية بينهما لحديث أبي هريرة مرفوعا: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يودي، وإما أن يقاد" رواه الجماعة إلا الترمذي (¬1)، وعن أبي شريح الخزاعي (¬2) مرفوعا: "من أصيب بدم أو خبل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا على يديه"، رواه أحمد وغيره (¬3)، والخبل -بخاء معجمة وباء موحدة-: الجراح، (والعفو مجانا) أي ¬
من غير أخذ شيء (أفضل) [لقوله تعالى] (¬1): {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (¬2) ولحديث أبي هريرة مرفوعا: "ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده اللَّه تعالى بها عزا"، رواه أحمد ومسلم (¬3)، ويصح عفوه بلفظ الصدقة وكل ما أدى معناه لأنه إسقاط. (ومتى اختار) الودي (الدية) أو الصلح على أكثر منها تعينت، فلو قتله ولي الجناية بعد اختياره الدية قتل به لسقوط حقه من القصاص بعفوه عنه. (أو عفا مطلقا) فلم يقيد بقصاص ولا دية فله الدية، أو عفا عن القود فله الدية لانصراف العفو إلى القصاص دون الدية؛ لأن العفو عن القصاص هو المطلوب الأعظم في باب القود، إذ المقصود منه التشفي فانصرف العفو المطلق ¬
إليه؛ لأنه في مقابلة الانتقام (¬1)، وهو إنما يكون بالقتل لا بالمال، فتبقى الدكة على أصلها؛ لأنها ثبتت في كل موضع امتنع فيه القتل. (أو هلك جان) عمدا (تعينت الدية) في ماله لتعذر استيفاء القود. ومن قطع طرفا عمدا كإصبع فعفى عمه المجني عليه، ثم سرت الجناية إلى عضو آخر كبقية اليد، أو سرت إلى النفس والعفو على مال أو على غير مال فلا قصاص، وله تمام دية ما سرت إليه ولو مع موت جان فيلقى أرش ما عفي عنه من دية ما سرت إليه ويجب الباقي؛ لأن حق المجني عليه فيما سرت إليه الجناية لا فيما عفا عنه. (ومن وكل) في استيفاء قود (ثم عفا) موكل عن قود وكل فيه (ولم يعلم وكيل) بعفوه (حتى اقتص فلا شيء عليهما)، أما الوكيل فلأنه لا تفريط منه لحصول العفو على وجه لا ممكن الوكيل استدراكه، أشبه ما لو عفا بعد ما رماه، وأما الموكل فلأنه محسن بالعفو، وقال تعالى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (¬2) فإن علم الوكيل فعليه القصاص. وإن عفا مجروح عمدا أو خطأ عن قود نفسه أو ديتها صح عفوه لإسقاطه حقه بعد انعقاد سببه، ولأن الجناية عليه فصح عفوه عنها كسائر حقوقه، وكعفو وأرثه عن ذلك، فلو قال: عفوت عن هذا الجرح وعن هذه الضربة فلا شيء في سرايتها ¬
ولو لم يقل وما يحدث منها إذ السراية تبع للجناية، فحيث لم يجب بها شيء لم يجب بسرايتها بالأولى، كما لو قال: عفوت عن الجناية فلا شيء في سرايتها، ولو قال: أردت بالجناية الجراحة دون سرايتها؛ لأن لفظ الجناية يدخل فيه الجراحة وسرايتها لأنها جناية واحدة بخلاف عفوه على مال وعن القود فقط، فلا يبرأ جان من السراية لعدم ما يقتضي براءته منها. ويصح قول مجروح: أبرأتك من دمي أو قتلي، أو وهبتك ذلك معلقا بموته لأنه وصية، فإن مات من الجراحة برئ منه، ولو عوفي بقي حقه من قصاص أو دية؛ لأن لفظه لم يتضمن الجراح ولم يتعرض له وإنما اقتضى موجب القتل، فبقي موجب الجرح بحاله، بخلاف: عفوت عنك ونحوه لتضمنه الجناية وسرايتها. ولا يصح عفوت عن قود شجة لا قود فيها كالمنقلة والمأمومة (¬1) لأنه عفو عما لا يجب ولا انعقد سبب وجويه، أشبه الإبراء من الدين قبل وجويه، فلوليه مع سرايتها القود أو الدية كما لو لم يعف. (وإن وجب لقن قود أو) وجب له (تعزير قذف) ونحوه (فطلبه) أي القود أو التعزير [وإسقاطه] (¬2) (له) أي القن لاختصاصه (¬3) به دون سيده، لأنه لا يستحقه ما دام القن حيا، وليس له إسقاط المال، (وإن مات) القن (فلسيده) طلبه وإسقاطه كالوارث؛ لأنه أحق به ممن ليس له فيه ملك. ¬
فصل في الجراح فيما دون النفس
فصل في الجراح فيما دون النفس (والقود فيما دون النفس) من الأطراف والجراح (كالقود فيها)؛ لأن (¬1) من أقيد به في النفس إنما أقيد به لحصول المساواة المعتبرة للقود فوجب أن يقاد به فيما دونها، فلو قطع مسلم يد مسلم قطعت يده لأنه يقاد به في النفس. والأصل فيه قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬2)، ولحديث أنس بن النضر وفيه: "كتاب اللَّه القصاص" رواه البخاري وغيره (¬3)، ولأن حرمة النفس أقوى من حرمة الطرف [فهو] (¬4) أولى لكن بالشروط المتقدمة. ومن لا يؤخذ بغيره في نفس فلا يؤخذ به فيما دونها كالأبوين مع ولدهما والحر مع العبد والمسلم مع الكافر، فلا يقتص له في طرف ولا في جراح لعدم المكافأة، وكذا قاطع حربي أو مرتد أو زان محصن، فلا قطع عليه ولو أنه ¬
مثله، ويقطع حر مسلم أو ذمي أو عبد بمثله وذكر بأنثى وخنثى وعكسه، ويقطع ناقص بكامل كالعبد بالحر والكافر بالمسلم. (وهو) أي القصاص فيما دون النفس (نوعان: أحدهما في الطرف، فيؤخذ كل من عين وأنف وأذن وسن ونحوها) كيد ورجل وذكر وإصبع وكف ومرفق ويمين ويسار وعليا وسفلى من شفة وسن وجفن (بمثله) متعلق بيؤخذ، وإنما يجب ذلك (بـ) شروط أربعة: - أحدها: العمد المحض، فلا قصاص في الخطأ إجماعا؛ لأنه لا يوجب القصاص في النفس، وهي الأصل فما دونها أولى، ولا في شبه العمد، والآية مخصوصة بالخطأ، فكذا شبه العمد قياسا على النفس. الـ (شرط) الثاني: (مماثلة) أي مساواة في الاسم، كالعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن للآية، ولأن القصاص (¬1) يقتضي المساواة، والاختلاف في الاسم دليل الاختلاف في المعنى، والمساواة في الموضع، فلا تؤخذ يمين بيسار ولا عكسه، ولا جراحة في الوجه بجراحة في الرأس ونحوه اعتبارا بالمماثلة. (و) الشرط الثالث: (أمن من حيف) بأن يكون القطع من مفصل، كالكوع والمرفق والكعب، أو ينتهى إلى حد كمارن الأنف وهو ما لان منه، فلا قصاص يف جائفة ولا في كسر (¬2) عظم غير سن ونحوه، ولا إن قطع قصبة أنف أو قطع ¬
بعض ساعد أو ساق أو عضد أو ورك لأنه لا يمكن الاستيفاء منها بلا حيف، بل ربما أخذ أكثر من الفائت أو يسري إلى عضو آخر أو إلى النفس فيمنع منه. وإن قطع يده من الكوع فتآكلت إلى نصف الذراع فلا قود اعتبارا باستقراره. ومن أوضح إنسانا أو شجه دون موضحة أو لطمه فذهب ضوء عينيه أو ذهب شمه أو سمعه فعل به كما فعل، فإن ذهب بذلك ما أذهبه الجاني فقد استوفى الحق، وإلا فعل ما يذهبه من غير جناية على حدقة أو أنف أو أذن، فإن لم يمكن إلا بذلك سقط القود إلى الدية. ومن قطعت يده من مرفق فأراد القطع من كوع يد جان منع لإمكان الاستيفاء من محل الجناية، فلا يقتص من غيره لاعتبار المساواة في المحل حيث لا مانع. (و) الشرط الرابع: (استواء في صحة وكمال)، فلا تؤخذ يد أو رجل كاملة أصابع أو كاملة أظفار بناقصتها، رضي الجاني بذلك أو لا، لزيادة المأخوذة على المفوتة، فلا يكون مقاصة، بل تؤخذ سليمة الأظفار بنظيرتها مع كونها ذات أظفار معيبة كما يؤخذ الصحيح بالمريض، ولا تؤخذ عين صحيحة بقائمة وهي التي بياضها وسوادها صافيان غير أن صاحبها لا يبصر بها، قاله الأزهري (¬1) لنقص منفعتها، فلا لوخذ [بها] (¬2) كاملة المنفعة، ولا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرس، ولا يؤخذ عضو صحيح بأشل من يد ورجل وأصبع وذكر، أو كان العضو ببعضه شلل كأنملة يد، ولا يؤخذ ذكر فحل بذكر خصي ¬
وذكر عنين؛ لأنه لا منفعة فيهما؛ لأن ذكر العنين لا يوجد (¬1) منه وطء ولا إنزال، والخصي لا يولد له ولا يكاد يقدر على الوطء، فهما كذكر الأشل. ويؤخذ مارن الأنف الأشم الصحيح بمارن الأخشم الذي لا يجد رائحة شيء؛ لأنه لعلة في الدماغ؛ والأنف صحيح، وتؤخذ أذن صحيح سميع بأذن أصم شلاء؛ لأن القصد الجمال. ويؤخذ معيب من ذلك كله بمثله إن أمن تلف من قطع بأن قال أهل الخبرة: أنه إذا قطع لم تفسد العروق ولم يدخل الهواء إلى البدن فيفسده، وإلا سقط القصاص؛ لأنه لا يجوز أخذ نفس بطرف، وأما مع الأمن فله القصاص؛ لأن الشم والسمع ليسا بنفس العضو؛ لأن مقطوع الأنف والأذن يشم ويسمع وإنما هي زينة وجمال لئلا يبقى موضع الأذن نقبا مفتوحا، فيقبح منظره ولا يبقى له ما يرد الاء والهوام عن الصماخ (¬2)، ولئلا يبقى موضع الأنف مفتوحا فيدخل الهواء إلى الدماغ فيفسد به، فجعل له غطاء لذلك. ويصدق ولي الجناية إن اختلف مع جان في شلل العضو بأن قال جان: قطعته أشل، وقال مجني عليه: صحيحا فقول مجني عليه بيمينه في صحة ما جنى عليه لأنه الظاهر. ومن أذهب بعض لسان أو بعض مارن أو شفة أو حشفة أو أذن أو سن ¬
أقيد منه مع أمن قلع سنه بقدر الذي أذهبه بنسبه الأجزاء من ذلك العضو، كنصف وثلث وربع ونحو ذلك، لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (¬1)، ولأن جميع ذلك يؤخذ بجميعه فأخذ بعضه ببعضه، ولا يدخل بالمساحة لأنه قد يفضي إلى أخذ لسان الجاني جميعه ببعض لسان المجني عليه. ولا قود ولا دية لما رجي عوده، فما ذهب بجناية في مدة تقولها أهل الخبرة من عين كسن أو منفعة كعدو ونحوه كمنفعة الوطء لأنه معرض للعود فلا يجب به شيء، وتسقط الطالبة به فوجب تأخيره، فإن عاد فلا شيء للمجني عليه، كما لو قطع شعرا فعاد، وإن لم يعد في المدة وجب ضمانه كغيره مما لا يرجى عوده، فلو مات مجني عليه فيها تعينت دية الذاهب بالجناية لليأس من عوده بالموت، كما لو انقضت المدة ولم يعد. ومتى عاد ما ذهب بحاله فلا أرش على جان، وإن عاد ناقصا في قدر بأن عاد بفعله السن قصيرا، أو عاد ناقص في صفة بأن عاد السن أخضر ونحوه فعلى جان حكومة (¬2)، لحدوث النقص به بفعله فضمنه. ثم إن كان المجني عليه أخذ دية ما أذهبه قبل أن يعود ثم عاد ردها إلى من أخذها منه، أو كان المجني عليه اقتص من جان نظير ما أذهبه منه ثم عاد فلجان الدية لتبين أنه استوفى ذلك بلا حق، ولا قصاص للشبهة، ويرد الدية إن عاد لما تقدم في ¬
المجني عليه. ومن قلع سنه أو ظفره أو قطع طرفه كمارن وأذن ونحوهما مما يمكن عوده فرده فالتحم فله أرش نقصه حكومة؛ لأنها أرش كل نقص يحناية لا مقدر فيها، وإن قلعه قالع بعد ذلك فعليه ديته ولا قصاص فيه؛ لأنه لا يقاد به الصحيح بأصل الخلقة لنقصه بالقلع الأول، ومن جعل مكان سن قلعت بجناية عظما أو سنا أخرى ولو من آدمي فثبتت لم تسقط دية السن المقلوعة كما لو [لم] (¬1) يجعل مكانها شيء، وعلى مبين ما ثبت من ذلك حكومة؛ لأنه ينقص بإبانتها ولا يجب به ديتها لأنها ليست من أصل الخلقة. النوع (الثاني): مما يوجب القصاص (في الجروح) أي فيما دون النفس (بشرط) زائد على ما سبق، وهو (انتهاؤها إلى عظم كموضحة) في رأس أو وجه (وجرح عضد وساعد (¬2) ونحوهما) كفخذ وساق وقدم، لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}، ولإمكان الاستيفاء بلا حيف ولا زيادة لانتهائه إلى عظم، فأشبه الوضحة المتفق على (¬3) جواز القصاص فيها، ولا قصاص في غير ذلك من الشجاج والجروح، كما دون الموضحة أو أعظم منها. ولمجروح جرحا أعظم من الموضحة كهاشمة ومنقلة ومأمومة أن يقتص (¬4) ¬
موضحة؛ لأنه يقتص بعض حقه ومن محل جنايته، فإنه إنما يضع السكين في موضع وضع الجاني لوصول سكين الجاني إلى العظم بخلاف قاطع الساعد فإنه لم يضع سكينه في الكوع، ويأخذ إذا اقتص موضحة ما بين ديتها ودية تلك الشجة التي هي أعظم منها لتعذر القصاص فيه، فينتقل إلى البدل كما لو قطع إصبعيه ولم يمكن القصاص إلا في أحدهما، فيأخذ إذا اقتص في الهاشمة من الجاني موضحة خمسا من الإبل، ويأخذ في منقلة إذا اقتص منه موضحة عشرا من الإبل. ومن خالف ممن جني عليه واقتص مع خوف تلف جان من منكب، أو من نحو يد شلاء، أو من قطع نصف ساعده ونحوه، كمن قطع نصف ساقه، أو اقتص من مأمومة، أو جائفة مثل ذلك، بأن لم يزد على ما فعل به ولم يسر جرحه وقع الموقع ولم يلزمه شيء؛ لأنه لم يأخذ زيادة على حقه. ويعتبر قدر جرح بمساحة دون كثافة لحم لأن حده العظم، والناس يختلفون في قلة اللحم وكثرته، فلو روعيت الكثافة لتعذر الاستيفاء، وصفة الاعتبار المذكور أن يعمد إلى موضع الشجة من رأس المشجوج، فيعلم طولها وعرضها بخشبة أو خيط، فيضعها على رأس الشاج، ويعلم طرفيه بسواد أو غيره، ويأخذ حديدة عرضها كعرض الشجة، فيضعها في أول الشجة يجرها (¬1) إلى آخرها، فيأخذ مثل الشجة طولا وعرضا، فمن أوضح بعض رأس والبعض الذي أوضحه كرأس الشاج أو أكبر أوضحه في رأسه كله، ولا أرش لزائد لئلا يجتمع في جرح واحد قصاص ودية، ومن أوضح رأسه كله ورأسه أكبر من رأس المشجوج أوضحه قدر شجته من ¬
[أي] (¬1) جانب شاء من رأس الشاج، ولو كانت الشجة بقدر بعض الرأس منهما لم يعدل عن جانبها إلى غيره لئلا تفوت المماثلة في الوضع. وإن اشترك عدد في قطع طرف عمدا، أو في جرح موجب لقود ولو موضحة ولم تتميز (¬2) أفعالهم، كإن وضعوا حديدة على يد وتحاملوا [عليها] (¬3) جميعا حتى بانت فعلى كل منهم القود، لما روي عن علي: أنه شهد عنده شاهدان على رجل بسرقة فقطع يده، ثم جاء آخر فقالا: هذا هو السارق، وأخطأنا في الأول، فرد شهادتهما على الثاني، وغرمهما دية الأول، وقال: "لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما"، (¬4)، ولأنه أحد نوعي القصاص فأخذ فيه الجماعة بالواحد (¬5) كالنفس، ومع تفرق أفعالهم أو قطع كل واحد منهم من جانب لا قود على أحد منهم؛ لأن كلا لم يقطع اليد ولم يشارك في قطع جميعها. (وتضمن سراية جناية) ولو بعد [أن] (¬6) اندمل جرح واقتص من جان ثم انتقض الجرح فسرى لحصول التلف بفعل الجاني، أشبه ما لو باشره؛ فتضمن بقود ودية في نفس ودونهما، فلو هشمه في رأسه فسرى إلى ذهاب عينه ثم مات اقتص ¬
منه في النفس وأخذ منه دية بصره، ولو قطع إصبع فتآكلت اليد أو سقطت من مفصل فالقود فيما سقط، وفيما يشل الأرش لعدم إمكان القصاص في الشلل، وإن سرت إلى النفس فالقود والدية كاملة. و(لا) تضمن سراية (قود) لقول عمر وعلي: "من مات من حد أو قصاص لا دية له، الحق قتله" رواه سعيد بمعناه (¬1)، ولأنه قطع بحق، فكما أنه غير مضمون فكذا سرايته كقطع السارق، لكن لو قطعه بلا إذنه، أو إذن الإمام، أو نائبه مع حر، أو برد، أو حال لا يؤمن فيها الخوف من السراية، أو قطعه بآلة كالة، أو مسمومة فمات لزم المقتص الدية منقوصا منها دية العضو الذي وجب له فيه القصاص، فإن وجب في يد فعليه نصف الدية، أو في جفن فعليه ثلاثة أرباعها وهكذا. (ولا يقتص عن (¬2) طرف و) لا من (جرح ولا [يطلب] (¬3) لهما دية قبل البرء) لحديث جابر: "أن رجلا جرح رجلا، وأراد أن يستقيد، فنهى ¬
النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح" رواه الدارقطني (¬1)، فإن اقتص مجروح قبل برء جرحه فسرايتهما بعد هدر، أما الجاني فلما تقدم، وأما المجني عليه فلحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رجلا طعن بقرن في ركبته، فجاء إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: أقدني، فقال: حتى تبرأ، ثم جاء إليه فقال: أقدني، فأقاده، ثم جاء إليه فقال: يا رسول اللَّه! عرجت، فقال: قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك اللَّه وبطل عرجك، ثم نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه" رواه أحمد (¬2)، ولأنه باقتصاصه قبل الاندمال ¬
رضي بترك ما يزيد عليه بالسراية فبطل حقه منه. ¬
(فصل) في الديات
(فصل) في الديات جمع [دية] (¬1) وهي مصدر وديت القتيل، أي أديت ديته (¬2). وشرعا: المال المؤدى إلى مجني عليه أو وليه بسبب جناية (¬3). وأجمعوا على وجوب الدية في الجملة (¬4) لقوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (¬5) وحديث مالك في الموطأ والنسائي أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كتب إلى عمرو بن حزم (¬6) كتابا إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن والديات وقال فيه: ¬
"وفي النفس مائة من الإبل" (¬1) قال ابن عبد البر: "وهو كتاب مشهور عند أهل السير، وهو معروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بها عن الإسناد". (¬2) فمن أتلف إنسانا مسلما، أو ذميا، أو معاهدا، بمباشرة أو سبب، أو أتلف جزءا منه فالدية، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (¬3). (ودية العمد على الجاني) في ماله؛ لأن العاقلة لا تحمل العمد، (وغيرها) أي ¬
غير دية العمد وهو دية الخطأ وشبه العمد (على عاقلته)، لحديث أبي هريرة: "اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بدية المرأة على عاقلتها" متغق عليه (¬1)، ولا خلاف فيه في الخطأ، حكى ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه من أهل العلم. (¬2) ولا تطلب دية طرف ولا جرح قبل برئه كما لا يقتص منه قبل برئه. فمن ألقى على آدمي حية، أو ألقاه عليها فقتلته، أو طلبه بسيف ونحوه مجردا فتلف في هربه ولو كان غير ضرير فعليه الدية، سواء سقط من شاهق، أو انخسف به سقف، أو خر في بئر، أو غرق في ماء، أو لقيه سبع فافترسه، أو احترق بنار صغيرا كان المطلوب أو كبيرا، وعاقلا أو مجنونا، لتلفه بسبب عدوانه، أو روعه بأن شهر السيف ونحوه في وجهه فمات خوفا، أو دلاه من شاهق فمات، أو ذهب عقله خوفا، أو حفر بئرا محرما حفره، كفي طريق ضيق، أو وضع حجرا، أو قشر بطيخ، أو صب ماء بفنائه، أو بطريق، أو بال بها، أو بالت بها دابته ويده عليها كراكب وقائد وسائق، وتلف به آدمي [ففيه] (¬3) الدية، وكذا يضمن ما تلف به من ماشية أو تكسر من أعضاء ونحوه، فإن لم تكن يده عليها إذ ذاك فلا ضمان، أو رمى من منزله حجرا أو غيره أو حمل بيده رمحا جعله بين يديه أو خلفه -لا إن جعله قائما في الهواء وهو يمشي لأنه لا عدوان منه إذن- أو وقع على ¬
نائم بفناء جدارفأتلف إنسانًا، أو تلف به فمات مع قصد تعدٍّ، كإلقاء الحية عليه وإلقائه عليها والترويع والتَّدْلِيَةُ من شَاهِقٍ شبه عَمْدٍ وما بدون قصد خطأ، وفي كلٍّ منهما الدية على العاقلة والكفارة في مال جان. ومن سَلَّمَ على غيره فمات، أو أمسك يده فمات، أو أجلسه أو أقامه فمات، أو تلف واقع على نائم بلا سبب من أحد فَهَدَرٌ لعدم الجناية. وإن حفر بئرًا ووضع آخر حجرًا ونحوه ككيس دراهم فَعَثَر به إنسانٌ (¬1) فوقع في البئر فمات ضمن واضع الحجر ونحوه دون الحافر؛ لأن الحجر أو نحوه كدافع إذا [تعديا] (¬2)؛ لأن الحَافِرَ لم يقصد بذلك القتل لعين عادةً، وإلَّا يتعديا جميعًا فالضمان على متعدٍّ منهما، فإن تعدَّى الحافر وحده بأن كان وضع الحجر لمصلحة، كوضعه في محل وحل لتمر عليه الناس فعلى الحافر الضمان، وعكسه بعكسه. ومن حفر بئرًا قصيرةً فعمقها آخر تعديا فضمان تالف بسقوطه فيها بينهما لحصول السبب منهما، وإن وضع ثالث فيها سكينًا أو نحوها فوقع فيها شخص على السكين فمات فعلى عَوَاقِلِ الثلاثة الدية نصًّا (¬3)؛ لأنهم تسببوا في قتله. وإن حفرها بملكه وسترها ليقع فيها أحدٌ، فمن دخلها بإذنه وتلف بها فعلى ¬
حافرها القود لتعمده قتله عدوانًا، كما لو قدم له طعاما مسمومًا فأكله، وإن دخل بغير إذنه فلا ضمان، كما لو سقط ببئرٍ مكشوفةٍ بحيث يراها الداخل البصير؛ لأنه هو الذي أهلك نفسه، أشبه ما لو قدم إليه سكينًا فقتل نفسه بها، فإن كان أعمى أو في ظلمة بحيث لا يبصرها ضمنه، ويقبل قول حافر البئر بملكه في عدم إذنه لداخل في الدخول لأنه الأصل، ولا يقبل قوله في كشفها إذا ادعى وَليُّهُ أنها كانت مغطاة؛ لأن الظاهر مع ولي الداخل إذ المتبادر أنها لو كانت مكشوفةً بحيث يراها لم يسقط بها، وإن تلف أجير مكلف بحفرها بها فَهَدَرٌ لأنه لا فعل للمستأجر في قتله بمباشرة ولا سبب، أو دعى من يحفر له بداره حفيرة أو من يحفر له بمعدن ليستخرجه له فمات بهدم ذلك عليه بلا فعل أحد فَهَدَرٌ نَصًّا (¬1) لما تقدم. ¬
(ومَنْ قَيَّدَ حُرًّا مُكلَّفًا أو غَلَّهُ) (¬1) فتلف بحية أو صاعقة فالدية لهلاكه في حال تعديه، (أَوْ غَصَبَ) حُرًّا (صَغِيْرًا) أو مجنونًا (فَتَلِفَ بِحَيَّةٍ أو صَاعِقَةٍ) وهي نار تنزل من السماء فيها رعد شديد قاله الجوهري (¬2)، (فالدِّيةُ) لهلاكه في حال تعديه (¬3) بحبسه وإن لم يقيده ولم يغله لضعفه عن الهرب من الصاعقة والبطش بالحية أو دفعها عنه. و(لا) يضمن الحر المكلف من قيده أو غَلَّه أو الصغير إدن حبسه (إِنْ مَاتَ بَمَرضٍ أَوْ) ممات (فَجْأَة) نصًّا (¬4)؛ لأن الحر لا يدخل تحت اليد (¬5)، ولا جناية إذن، وأما القِنُّ فيضمنه غاصبه تَلِفَ أو أتْلَفَ وتقدم. وإن تجاذب حران مكلفان حبلًا أو نحوه فانقطع فسقطا فماتا فعلى عاقلة كل منهما دية الآخر لتسبب كل منهما في قتل [الآخر] (¬6). وإن اصطدما ولو كانا ضريرين، أو كان أحدهما ضريرًا فماتا كمتجاذبين على ¬
عاقلة كل منهما [دية] (¬1) الآخر، روي عن علي (¬2)، وإن اصطدمت امرأتان حاملان فكالرجلين، فإن أسقطت كل منهما جنينها فعلى كل واحدةٍ منهما نصف ضمان جنينها، ونصف ضمان جنين صاحبتها لاشتراكهما في قتله، وعلى كل منهما عتق ثلاث رقاب واحدة لقتل صاحبتها، واثنتان لمشاركتهما في الجنين، وإن أسقطت إحداهما دون الأخرى اشتركتا في ضمانه، وعلى كل منهما عتق رقبتين. وإن اصطدم الحران المكلفان عمدًا -وذلك يقتل غالبًا- فهو عمدٌ يلزم كلًا منهما دية الآخر في ذمته فيتقاصان إن كانا متكافئين، وإلا يكن يقتل غالبا فشبه عمد فيه الكفارة في مالهما والدية على عاقلتهما، وإن كانا راكبين أو أحدهما فما تلف من دابتيهما فقيمته على الآخر، أو نَقَصَ فعلى كل منهما نقص دابة الآخر، وإن كان أحدهما يسير بين يدي الآخر فأدركه فصدمه فماتت الدابتان أو إحداهما فالضمان على اللَّاحِق؛ لأنه الصادم، وإن غلبت الدابة راكبها لم يضمن. وإن كان أحدهما واقفًا أو قاعدًا فضمان مالهما على سائر نصًّا (¬3)؛ لأنه الصادم المتلف، وديتهما على عاقلته لحصول التلف بصدمه، وإن انحرف الواقف فصادفت الصدمة انحرافه فهما كالسائرين. ¬
وإن اصطدم قِنَّانِ ماشيان فهما هَدَرٌ لوجوب قيمة كل منهما في رقبة الآخر، وقد تلف المحل الذي تعلقت به فذهبا هدرًا، وإن مات أحدهما فقيمته في رقبة الآخر كسائر جناياته. وإن كانا حرًّا وقِنًّا فماتا فقيمة قن في تركة حر، وتجب دية الحر كاملة في تلك القيمة إن اتسعت لها. ومن أركب صغيرين لا ولاية له على واحدٍ منهما فاصطدما فماتا فديتهما وما تلف لهما من ماله لتعديه بذلك، فإن أركبهما ولي لمصلحة كتمرين على ركوب ما يصلح لركوبهما وكانا يثبتان بأنفسهما، أو ركبا من عند أنفسهما فهما كبالغين مخطئين، على عاقلة كل منهما دية الاخر، وعلى كل منهما ما تلف من مال الآخر. وإن اصطدم كبير وصغير فمات الصغير فقط ضمنه الكبير، وإن مات الكبير فقص ضمنه مركب الصغير إن تعدى بإركابه، وإن أركبه وليه لمصلحةٍ، أو ركب من عند نفسه فكبالغ مخطئ على ما سبق. ومن أرسل صغيرًا لحاجة ولا ولاية له عليه فأتلف نفسًا أو مالًا فجنايته خطأ من مرسله فيضمنها، وإن جُني عليه ضمنه مرسله نقله في "الفروع" (¬1) عن "الإرشاد" (¬2) وغيره (¬3)، قال ابن حمدان: "إن تعذر تضمين الجاني". (¬4) على ¬
الصغير، فإن لم يتعذر تضمينه فعليه الضمان؛ لأنه مباشر، والمرسل المتسبب، وإن كان المرسل قنا وأرسله بلا إذن سيده فكغصبه فيضمن جناياته، والجناية عليه على ما تقدم تفصيله في الغصب. ومن ألقى حجرًا أو عِدْلًا مملؤا بسفينة فغرقت ضمن جميع ما فيها لحصول التلف بسبب فعله كما لو خرقها. ومن وقع في بئرٍ أو حُفْرَةٍ ثم وقع ثانٍ ثم ثالث ثم رابع بعضهم على بعض فماتوا كلهم أو مات بعضهم بلا تَدَافُعٍ ولا تَجَاذُبٍ فدم الرابع هَدَرٌ لموته بسقوطه، ولم يسقط عليه أحد، ودية (¬1) الثالث على عاقلة الرابع لموته بسقوطه عليه، ودية الثاني على عاقلة الثالث والرابع لموته بسقوطهما عليه، ودية الأول على عاقلة الثلاثة لموته بسقوطهم عليه. وإن جَذَبَ الأول الثاني، وجذب الثاني الثالث، وجذب الثالث الرابع، فدية الرابع على عاقلة الثالث لمباشرته جذبه وحده، ودية الثالث على ¬
عاقلة الثاني؛ لأنه أتلفه بجذبه له، ودية الثاني على عاقلة الأول والثالث نصفين لموته بجذب الأول وسقوط الثالث عليه، ودية الأول على عاقلة الثاني والثالث نصفين لموته بسقوطهما عليه، وإن هلك الأول بوقعة الثالث عليه فضمان نصفه على عاقلة الثاني لمشاركته بجذبه للثالث، والباقي من ديته هدر في مقابلة [فعل] (¬1) نفسه لمشاركته في قتلها، ولو لم يسقط بعضهم على بعض بل ماتوا بسقوطهم لعُمْقِ البئر أو ماء يُغْرِقُ الْوَاقِعَ فَيَقْتُلُهُ لا بسقوط أحد منهم على غيره، وكذا لو جهل الحال ولم يتجاذبوا، أو قتلهم أسد فيما وقعوا فيه فدماؤهم جميعا مُهَدَّرَةٌ؛ لأنه ليس لواحد منهم فعل في تلف الآخر. ومن نام على سَقْفٍ فسقط به على قوم لزمه المكث لئلا يهلك بانتقاله أحدا ويضمن ما تلف من نفسٍ ومَالٍ بدوام مكثه أو بانتقاله لتلفه بسببه، ولا يضمن ما تلف بسقوطه لأنه ليس من فعله بخلاف مكثه وانتقاله. ومن اضْطُرَّ إلى طعام غَير مُضْطَرِّ أو شرابه فطلبه فمنعه حتى مات ضمنه ربُّ (¬2) الطعام أو الشراب نصًّا (¬3)، لقضاء عمر به (¬4)، ولأنه إذا اضطر إليه صار أحق به ممن هو في يده، فإن لم يطلبه المضطر منه لم يضمنه؛ لأنه لم يمنعه ولم ¬
يوجد منه فعل يكون سببا لهلاكه، وكذا إن منعه ربُّ الطعام والشراب وهو مضطر أو خائف ذلك لأنه لا يلزمه بذله إذن. أو أخذ طعام غيره أو شرابه وهو عاجز عن دفعه فتلف أو تلفت دابته بسبب الآخذ ضمن الأخذُ التالفَ لتسببه في هلاكه، أو أخذ منه ما يدفع به صائلًا عليه من سَبُعٍ ونحوه فأهلكه الصائل ضمنه الآخذ لصيرورته سببا لهلاكه. قال في "المغني" (¬1): "وظاهر كلام أحمد أن الدية في ماله لأنه تعمد هذا الفعل الذي يقتل مثله غالبا". وقال القاضي: "تكون على عاقلته لأنه لا يوجب القصاص فهو شبه العمد". (¬2) ولا يضمن من أمكنه إنجاءُ نفسٍ من هلكةٍ فلم يفعل؛ لأنه لم يهلكه ولم يفعل شيئا يكون سببا في هلاكه، كما لو [لم] (¬3) يعلم به. ومن أفزع أو ضَرَبَ شخصًا ولو صغيرًا فأحدث بغائط أو بول أو ريح ولم يُدْم فعليه ثلث ديته، لما روي: "أن عثمان قضى به فيمن ضرب إنسانًا حتى أحدث" (¬4) قال أحمد: "لا أعرف شيئًا يدفعه". (¬5) والقياس لا ضمان وهو قول ¬
الأكثر، وروي أيضًا عن أحمد لكن المذهب الأول؛ لأن قول الصَّحابي بما يخالف القياس توقيف نصًّا (¬1)، خصوصًا وهذا القضاء في مَظِنَّةِ الشُّهرَةِ ولم ينقل خلافه فهو إجماع. ويضمن أيضًا من أفزع إنسانًا أو ضَرَبَه جنَايَتَه على نَفْسِهِ أو غيرِه بسبب إفْزَاعِهِ أو ضربه وتحمله العاقلة بشرطه. (و [إِن] (¬2) أدَّبَ) زوجٌ (امرأَتَه بنُشُوزٍ)، أو أدب ولده، (أَوْ) أدب (مُعَلِّمٌ صَبِيَّهُ، أَوْ) أدب (سُلطَانٌ رَعِيَّتَهُ بلا إِسْرَاف) أي زيادة على الضرب المعتاد فيه لا في عدد ولا شدة فتلف المؤدَب بذلك (فَلا ضَمَانَ) على المؤدِب (بِتَلفٍ مِنْ ذَلك) نصًّا (¬3)، لفعله ما له فعله شرعا بلا تعدٍّ، أشبه سراية القود والحد. وإن أسرف أو زاد على ما يجصل [به] (¬4) المقصود، أو ضرب من لا عقل له من صبي لم يُمَيِّز، أو مجنونٍ أو معتوهٍ فتلف ضمن؛ لأن الشرع لم يأذن في تأديب من لا عقل له لأنه لا فائدة في تاديبه. (ومَنْ أَمَرَ مُكلَّفًا) سواء كان الآمِرُ مُكلَّفًا أو غير مكلف (أَنْ يَنْزِلَ بِئْرًا) أي في بئر (أَوْ) أن (يَصْعَدَ شَجَرَةً) أي على شجرة (فَهَلَكَ بِهِ) أي بنزول في البئر أو بصعود ¬
على الشجرة (لَمْ يَضْمَن) الآمر؛ لأنه لم يجن عليه ولم يتعد، أشبه ما لو أذن له ولم يأمره كاستئجاره لذلك أقبضه أجرة أولا. (ولو مَاتَتْ حَاملٌ (¬1) أَوْ) مات (حَمْلُهَا مِنْ رِيْحِ طَعَامٍ ونحوه) ككبريت وعظم (ضَمِنَ رَبُّهُ) أي الطعام ونحوه ديتها مع حملها (إِنْ عَلِمَ ذَلك) أي أنها تموت أو يموت حملها من ريح ذلك (عَادةً) أي بحسب المعتاد وأنَّ الحاملَ هُناك لتسببه فيه، وإلا فلا إثم ولا ضمان. وإن سَلَّمَ بالغ عاقل نفسه أو سلم ولده إلى سَابحٍ حَاذِقٍ ليعلمه السباحة فغرق لم يضمنه حيث لم يفرط لفعله ما أذن فيه. ومن وضع على سطحه جَرَّةً أو نحوها ولو متطرفة فسقطت بريح أو طير أو هرة على آدمي أو غيره فتلف لم يضمنه واضع لسقوطه بغير فعله وزمن وضعه كان في ملكه. ¬
(فصل) في مقادير ديات النفس
(فَصْلٌ) في مَقَادِيْرِ دِيَاتِ النَّفْسِ (ودِيَةُ الحُرِّ المُسْلِمِ مَائةُ بَعِيْرٍ، أَوْ ألفُ مِثقالٍ ذَهبًا، أو اثنَا عَشَرَ ألفَ دِرهَمٍ) إسلامي (فِضَّة، أَوْ مائتَا (¬1) بَقَرةٍ، أَوْ ألفًا شاةٍ)، قال القاضي: "لا يختلفُ المذهبُ أنَّ أصول الدِّيَة الإبلُ والذَّهبُ والوَرقُ والبَقَرُ والغَنَمُ". (¬2) لما روى عطاء (¬3) عن جابر قال: "فرض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الدية على أهل الإبل مائةً، وعلى [أهل] (¬4) البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة" رواه أبو داود (¬5)، ¬
وعن عكرمة (¬1) عن ابن عباس: "أن رجلا قُتل فجعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ديته اثني عشر ألف درهم" (¬2)، وفي كتاب عمرو بن حزم: "وعلى أهل الذهب ألف دينار" (¬3) وهذه الخمسة المذكورة أصول الدية لما سبق، لأن غيرها من الحلل لا تنضبط (فيُخَيَّرُ مَن عَليهِ دِيةٌ بينها) أي أحد هذه الخمسة، ويلزم ولي الجناية قبوله، سواء كان من أهل ¬
ذلك النوع أو لا؛ لإجزاء كل منهما، فالخِيَرَةُ إلى من وجبت عليه كخصال الكفارة. (ويَجِبُ في عَمْدٍ وشِبههِ من إبلٍ رُبْعٌ) أي خمس وعشرون (بِنْتُ مَخَاضٍ، وربعٌ بنتُ لَبُوْنٍ، وربعٌ حِقّةٌ ورُبعٌ جَذَعَةٌ) رواه سعيد عن ابن مسعود (¬1) ورواه الزهري عن السائب بن يزيد (¬2) مرفوعًا (¬3)، ولأن الدية حق يتعلق بجنس الحيوان فلا يعتبر فيه الحمل كالزكاة والأضحية. ¬
وتغلظ دية عمد وشبهه في طرف كما تغلظ في نفس لاتفاقهما في السبب الموجب، ولا تغلظ دية في غير إبل لعدم وروده. (و) تجب الدية (في خَطإٍ أَخْمَاسًا ثَمَانُونَ مِنَ المَذْكُورَةِ) من كلٍّ عشرون (وعِشْرُونَ ابنُ مَخَاضٍ) قال في "الشرح" (¬1): "لا يختلف فيه المذهب". وهو قول ابن مسعود (¬2). (و) تؤخذ دية (مِنْ بَقَرٍ) أنصافًا، (نِصْفٌ مُسِنَّات، ونِصْفٌ أَتْبِعَةٌ، و) تؤخذ دية (مِنْ غَنَمٍ) أنصافًا أيضًا، (نِصْفٌ ثَنَايَا، ونِصْفٌ أَجْذعةٌ)؛ لأن دية الإبل من الأسنان المقدرة في الزكاة فكذا البقر والغنم. (وتُعْتَبَرُ السَّلَامَةُ) من عيب في الأنواع؛ لأن الإطلاق يقتضي السلامة، و (لا) تعتبر (القِيْمَةُ)، فلا يعتبر أن تبلغ قيمة الإبل والبقر والغنم دية نقد لعموم حديث: "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" (¬3) وهو مطلق فلا يجوز تقييده إلا بدليل، ولأنها كانت تؤخذ على عهده -صلى اللَّه عليه وسلم- وقيمتها ثمانية آلاف، وقول عمر: "أن الإبل قد غلت فقَوِّموها على أهل الورق باثني عشر ¬
ألف"، (¬1) دليل على أنها في حال رخصها أقل قيمة من ذلك. (ودِيَةُ أُنْثَى) حُرَّة (نِصْفُ دِيَةِ) الـ (رجُل مِنْ أَهْلِ دِيَتِها) (¬2) حكاه ابن المنذر وابن عبد البر إجماعًا (¬3)، وفي كتاب عمرو بن حزم: "دية المرأة على النصف من دية الرجل"، (¬4)، وهو مخصّص للخبر السابق، (وجِرَاحُهَا) أي الأنثى وقطعها (تُسَاوي جِرَاحَهُ) أي الرجل وقطعه (فِيمَا دُونَ ثُلُثِ دِيَتِهِ) لحديث عمرو بن شعصب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها" رواه النسائي (¬5)، وقال ربيعة (¬6): "قلت لسعيد بن المسيب: كم في إصبع ¬
المرأة؟ قال: عشر، قلت: ففي إصبعين؟ قال: عشرون، قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون، قلت: ففي أربع أصابع؟ قال: عشرون، قلت: لما عظمت مصيبتها قل عقلها، قال: هكذا السنة يا بن أخي" رواه سعيد في سننه (¬1)، ولأنهما يستويان في الجنين فكذا باقي ما دون الثلث، وأما ما يوجب الثلث فما فوق فهي فيه على النصف من الذكر لقوله في الحديث: "حتى يبلغ الثلث" وحتى للغاية، فيجب أن يكون ما بعدها مخالفا لما قبلها. ودية خُنثى مُشكل نصف دية كل [من] (¬2) الذكر والأنثى، أي ثلاثة أرباع دية ذكر لاحتماله الذكورة والأنوثة احتمالًا واحدًا، وقد أيس من انكشاف حاله فوجب التوسط بينهما، والعمل بكل من الاحتمالين، وكذا جراحه إذا بلغ ثلث الدية فأكثر. (ودِيَةُ كِتَابِيٍّ) أي يهودي أو نصراني ومن تدين بالتوراة والإنجيل (حُرٍّ) ذمي أو ¬
معاهد أو مستامن (نِصْفُ دِيَةِ مُسْلِمٍ) حرٍّ، لحديث عمِرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "دية المعاهد نصفُ دية المسلم" (¬1) وفي لفظ: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين" رواه أحمد (¬2)، قال الخطّابي (¬3): "ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا، ولا بأس بإسناده". (¬4)، وكذا جراحه نصف جراح المسلمين. (و) دية (مَجُوْسِيٍّ) حر ذمي أو معاهد أو مستأمن (و) دية حر (وثَنِيٍّ) أي عابد وثن، ودية غيرهما من المشركين مستأمن أو معاهد بدارنا أو غيرها (ثمَانمائةِ دِرهمٍ) وهو قول عمر، وعثمان، وابن مسعود في ¬
المجوسي (¬1)، وألحق به باقي المشركين لأنهم دونه، وأما قوله عليه السلام: "سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب" (¬2) فالمراد في حقن دمائهم وأخذ الجزية منهم، ولذلك لا تحل مناكحتهم ولا ذبائحهم، وجراحه وأطرافه بالنسبة إلى ديته نصًّا (¬3)، كما أن جراح المسلم بالحساب من ديته، ودية أنثى ممن تقدم ذكره من الكفار كنصف دية ذكرهم، قال في "الشرح" (¬4): "لا نعلم فيه خلافا". وتغلظ دية خطأ في كل من حرم مكة وإحرام وشهر حرام ثلث دية نصًّا (¬5) وهو ¬
من المفردات، لما روى أبو نجيح (¬1): "أن امرأة وطئت في الطواف، فقضى عثمان فيها بستة آلاف وألفين تغليظًا للحرم" (¬2)، وعن ابن عباس: "في رجل قتل في الشهر الحرام، وفي البلد الحرام ديته اثنا عشر ألف درهم، وللشهر الحرام أربعة آلاف، وللبلد الحرام أربعة آلاف" (¬3)، وهذا في مظنّة الشهرة ولم ينكر، ومع اجتماع حالات التغليظ كلها يجب ديتان، قال في "الشرح" (¬4): "وظاهر كلام الخرقي أن الدية لا تغلظ بشيء من [ذلك] (¬5) ". وهو ظاهر الآية والأخبار، وعلم منه أنه لا تغليظ في القتل عمدًا ولا في قطع طرف، وإن قتل مسلم كافرًا ذميًا أو معاهدًا عمدًا أضعفت ديته على المسلم لإزالة القود، قضى به عثمان، رواه عنه أحمد (¬6)، فظاهره ¬
الإضعاف في جراحه، وفي "الوجيز" (¬1): "يضعف". ولم يتعرض له في "الإنصاف" (¬2). (ودِيَةُ رَقِيْقٍ) ذكرا أو أنثى أو خنثى صغيرا أو كبيرا ولو مدبرا أو أم ولد أو مكاتبا (قِيْمَتُهُ) عمدًا كسان القتل أو خطأ من حر أو غيره، وسواء ضمن باليد أو الجناية ولو كانت قيمته فوق دية حر لأنه مال متقوم فضمن بكمال قيمته كالفرس، وضمان الحر ليس بضمان مال، ولذلك لم يختلف باختلاف صفاته التي يزيد بها قيمته لو كان رقيقا وإنما يضمن بما قدره الشرع، وضمان الرقيق ضمان مال يزيد بزيادة المالية وينقص بنقصانها. (وجرحُهُ) أي الرقيق (إِنْ كَانَ مُقَدَّرًا مِنَ الْحُرِّ فَهو مقدَّرٌ منه مَنْسُوبًا إلى قِيمتِهِ)، ففي لسانه قيمته كاملة، وفي يده نصفها، وفي موضحة نصف عشر قيمته سواء نقص بجنايته أقل من ذلك أو أكثر منه، (وإِلَّا) يكن فيه مقدر من الحر كالعُصْعُصِ (¬3) ¬
وخَرْزَةِ الصُّلْب (¬1) (فـ) على جان (مَا نَقَصَهُ) بجنايته (بعد بُرْءٍ)؛ لأن الأرش جبر لما فات بالجناية وقد انجبر بذلك فلا يزاد عليه كغيره من الحيوانات، فلو جنى على رأسه أو وجهه دون موضحة ضمن بما نقص ولو أنه أكثر من أرش موضحة كسائر الأموال إذا نقصها، ودية من نصفه حر نصف دية حر ونصف قيمته وكذا جراحه. (ودِيةُ جَنِيْنٍ) ولو أنثى (حُرٍّ) مسلم، والجنين: الولد في البطن من الإجنان وهو الستر لأنه أجنه بطن أمه أي ستره (¬2)، قال تعالى: {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} (¬3)، أو ما تصير به قِنٌّ أمَّ ولد، وهو ما تَبَيَّنَ فيه خلق إنسان ولو خفيا إن ظهر أو ظهر بعضه ميتا، ولو كان ظهوره بعد موت أمه بجنايته عمدا أو خطأ فسقط في الحال أو بقيت متالمة حتى سقط -فإن لم يسقط كأن قتل حاملا ولم يسقط جنبنها فلا شيء فيه- ولو كان إسقاطها بفعلها بشرب دواء أو كانت أمة والجنين حر لغرور أو شرط أو اعتاقه وحده -فتقدر أمه حرة- (غُرَّة) خبر: دية جنين، وتتعدد بتعدده وهي عبد أو أمة، وأصلها الخيار سمي بها العبد والأمة لأنهما من أنفس الأموال. ووجه وجوب الغرة في الجنين حديث أبي هريرة قال: "اقتتلت امرأتان من هذيلٍ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقضى أن دية جنينها عبد أو أمة، وقضى بدية المرأة على ¬
عاقلتها، وورثها ولدها ومن معه" متفق عليه (¬1). (مَوْرُوثَةٌ عنهُ) أي الجنين، كأنه سقط حيًا ثم مات لأنها بدله، ولأنها دية آدمي حر فوجب أن تورث عنه كسائر الديات فلا حق فيها لقاتل؛ لأنه لا يرث المقتول ولا لكامل رقّ؛ لأنه مانع للإرث. (قِيْمَتُهَا عُشْرُ دِيةِ أُمِّهِ) صفة لغرة أي خمس من الإبل روي ذلك عن عمر وزيد (¬2)؛ لأنه أقل ما قدره الشرع في الجناية وهو أرش الموضحة. ولا يقبل فيها معيب ولا من له دون سبع سنين؛ لأنه لا يحصل به المقصود من الخدمة، فإن أعوزت الغرة فقيمتها من الدية. ¬
(و) في جنين (قِنٍّ) ولو أنثى (عُشرُ قِيْمَتِها) أي أمه كما لو جنى عليها موضحة. وإن كان الجنين قِنًّا وأمُّهُ حُرةً بأن أعتقها سيدها (و) استثناه فـ (تُقَدَّرُ) أمه الـ (حرة أمةً) كعكسه ويؤخذ عُشر قيمتها يوم جناية عليها نقدًا كسائر أروش الأموال. ولا يجب مع غرة ضمان نقص أم، وفي جنين محكوم بكفره كجنين ذمية من ذمي لاحق به غرة قيمتها عشر دية أمه قياسًا على جنين الحرة السلمة. وإن سقط الجنين حيا لوقت يعيش لمثله وهو نصف سنة فصاعدًا ولو لم يستهل ثم مات بسبب جناية ففيه دية كاملة، كما لو كانت الجناية عليه بعد ولادته حيا. وإن اختلف الجاني ووارث الجنين في خروجه حيا ولا بينة فقول جانٍ بيمينه؛ لأنه منكر لما زاد عن الغرة، والأصل براءته منه، وإن أقاما بينتين بذلك قدمت بينة الأم، وإن ثبتت حياته وقالت لوقت يعيش لمثله وأنكر جانٍ فقولها. وإن ادعت امرأة على آخر أنه ضربها فألقت جنينها فأنكر الضرب فقوله بيمينه؛ لأن الأصل عدمه، وإن أقر بالضَّرب أو قامت به بينة وأنكر أن تكون أسقطت فقوله بيمينه أنه لا يعلم أنها أسقطت لا على البَتِّ؛ لأنه على فعل الغير. وإن ثبت الإسقاط والضرب وادعى إسقاطها من غير الضرب فإن كانت أسقطت عقب الضرب فقولها بيمينها إحالة للحكم على ما يصلح أن يكون سببا له، وكذا لو أسقطت بعده بأيام وكانت متألمة إلى الإسقاط وإلا فقوله بيمينه.
وفي جنين دابةٍ ما نقص أمه نصًّا (¬1)، كقطع بعض أجزائها، قال في "القواعد" (¬2): "وقياسه جنين الصيد في الحرم والإحرام". ¬
فصل
فصل (وإن جنى رقيق) عبد أو أمة ولو مدبرا أو أم ولد أو معلقا عتقه بصفة (خطأ أو عمدا) لا قود فيه كجائفة، أو عمدا فيه قود (واختير المال) أي اختاره ولي الجناية تعلق برقبته، (أو أتلف مالا بغير إذن سيده) تعديا لم تلغ جنايته ولا إتلافه؛ لأنها جناية آدمي فوجب اعتبارها كجناية الحر وكالصغير والمجنون وأولى، ولا يمكن تعلقها بذمة الرقيق لأنه يفضي إلى إلغائها أو تأخير حق المجني عليه إلى غير نهاية، ولا بذمة السيد لأنه لم يجن فتعين تعلقها برقبة الرقيق لأن ذلك موجب جناية كالقصاص، وإذا تعلق برقبته (خير) سيده (بين فدأئه بأرش الجناية) إن كان أقل من قيمته (أو تسليمه لوليها) أي ولي الجناية، فيملكه أو يبيعه ويدفع ثمنه لولي الجناية، فإن كان أرش الجناية أكثر من قيمته لم يكن على السيد أكثر من قيمته إلا أن يكون السيد أمره بالجناية أو أذن له فيها، فيلزمه الأرش كله كما لو استدان بإذن سيده.
(فصل) فى دية الأعضاء ومنافعها
(فصل) فى دية الأعضاء ومنافعها (ومن أتلف ما في الإنسان منه) شيء (واحد كأنف) ولو مع عوجه بأن قطع مارنه (ففيه ديه نفسه) نصا (¬1)، فإن كان من ذكر حر مسلم ففيه ديته، وإن كان من حرة مسلمة ففيه ديتها، وإن كان من خنثى مشكل ففيه ديته على ما تقدم، وكذكر ولو لصغير نصا (¬2)، أو لشيخ فإن ففيه دية نفسه، وكلسان ينطق به كبير أو يحركه صغير ببكاء ففيه دية نفسه لحديث عمرو بن حزم مرفوعا: "وفي الذكر الدية وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية، وفي اللسان الدية" رواه أحمد والنسائي ولفظه له (¬3)، ولأن في إتلافه إذهاب منفعة الجنس. ¬
(أو) أتلف ما في الإنسان منه (اثنان أو أكثر فكذلك) ففيه الدية كاملة، (وفي أحد ذلك نسبته منها) كالعينين ولو مع حول أو عمش (¬1)، وسواء الصغيرتان والكبيرتان لعموم حديث عمرو بن حزم، ومع بياض بالعينين أو بأحدهما ينقص البصر تنقص الدية بقدره، وكالأذنين، قضى به عمر وعلي (¬2)، وكالشفتين إذا استوعبتا وفي البعض بقسطه من ديتها بقدر الآخر، وكاللحيين وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان؛ لأن فيهما نفعا وجمالا وليس في البدن مثلهما، وكثندوتي رجل -بالثاء المثلثة- وهما له بمنزلة ثديي المرأة، فإن ضممت الأول همزته، وإن فتحته لم تهمز فالواحدة مع الهمزة فعللة ومع الفتح فعلوة (¬3)، وكأنثييه ففيهما الدية وفي إحداهما نصفها، وكثديي أنثى وإسكتيها بكسر الهمزة وفتحها وهما شفراها أي حافتا فرجها ففيهما الدية؛ لأن ¬
فيهما نفعا وجمالا، وإن جنى عليهما فأشلهما فالدية كما لو أشل الشفتين، وسواء الرتقاء وغيرها، وكاليدين والرجلين لأن في إتلافهما إذهاب منفعة الجنس، وقدم أعرج ويد أعسم (¬1) ويد مرتعش كصحيح للتساوي في البطش. وفي الأليتين الدية كاملة وإن لم يصل القطع إلى العظم، وفي منخريه ثلثا الدية، وفي حاجز ثلثها لاشتمال المارن على ثلاثة أشياء منخرين وحاجز فوجب توزيع الدية على عددها كالأصابع، وإن قطع أحد المنخرين ونصف الحاجز ففي ذلك نصف الدية، وإن شق الحاجز بينهما ففيه حكومة. وفي الأجفان الأربعة الدية، وفي أحدها ربعها؛ لأنها أعضاء فيها جمال ظاهر ونفع كامل لأنها تكن العين وتحفظها من الحر والبرد، ولولاها لقبح منظر العين، وأجفان عين الأعمى كغيرها لأن ذهاب البصر عيب في غير الأجفان. وفي أصابع اليدين أو الرجلين الدية، وفي إصبع يد أو رجل عشرها لحديث الترمذي وصححه عن ابن عباس مرفوعا: "دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل إصبع" (¬2)، وفي البخاري عنه مرفوعا قال: "هذه وهذه ¬
سواء" (¬1) يعني الخنصر والإبهام. وفي الأنملة ولو مع ظفر إن كانت من إبهام يد أو رجل نصف عشر الدية؛ لأن في الإبهام مفصلين ففي كل مفصل نصف عقل الإبهام، وفي الأنملة من غير الإبهام ثلث عشر الدية؛ لأن فيه ثلاثة مفاصل فتوزع ديته عليها. (وفي الظفر) إن لم يعد أو عاد أسود (بعيران) أي خمس دية إصبع نصا (¬2)، روي عن ابن عباس ذكره ابن المنذر (¬3) ولم يعرف له مخالف من الصحابة. ¬
وفي سن أو ناب أو ضرس قلع بسنخه (¬1) أو الظاهر منه فقط ولو كان من صغير ولم يعد أو عاد أسود واستمر أو عاد أبيض ثم أسود بلا علة خمس من الإبل، روي عن عمر وابن عباس (¬2)، وفي حديث عمرو بن حزم مرفوعا: "في السن خمس من الإبل" رواه النسائي (¬3)، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "في الأسنان خمس" رواه أبو داود (¬4)، وهو عام فيدخل فيه الناب ¬
والضرس، ويؤيده حديث ابن عباس مرفوعا: "الأصابع سواء، والأسنان سواء، والثنية سواء، هذه وهذه سواء" رواه أبو داود (¬1)، ففي جميع الأسنان مائة وستون بعيرا لأنها اثنان وثلاثون، أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربعة أنياب وعشرون ضرسا في كل جانب خمسة عشرة من فوق وخمسة من تحت. وفي سنة واحده حكومة، وفي سن أو ظفر عاد قصيرا أو متغيرا أو أبيض ثم أسود لعلة حكومة؛ لأنها أرش كل ما لا مقدر فيه وتأتي (¬2). وتجب دية يد ورجل بقطع من كوع ومن كعب لفوات نفعهما المقصود منهما بالقطع من ذلك، ولا شيء لزائد لو قطعا من فوق ذلك، كأن قطعت اليد من المنكب أو الرجل من الساق نصا (¬3)؛ لأن اليد اسم للجميع إلى المنكب لقوله ¬
تعالى: [{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} والرجل إلى الساق لقوله تعالى] (¬1) {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (¬2)، ولما نزلت آية التيمم مسحت الصحابة إلى المناكب (¬3)، وأما قطعهما بالسرقة من الكوع والكعب فلحصول المقصود به ولذلك وجبت ديتهما بقطعهما منه، وكذلك الذكر يجب بقطعه من أصله كما يجب بقطع الحشفة، وإن قطع يده من الكوع ثم قطعها من المرفق وجب في المقطوع ثانيا حكومة. وفي مارن أنف وحشفة ذكر وحلمة ثدي دية كاملة؛ لأنه الذي يحصل به الجمال في الأنف، وحشفة الذكر وحلمة الثدي بمنزلة الأصابع من اليدين. وفي تسويد سنن وظفر وأذن بحيث لا يزول التسويد دية ذلك العضو كاملة لإذهابه جماله. وفي إذهاب نفع عضو ديته كاملة كما لو قطعه لصيرورته كالمعدوم. ¬
وفي قطع نصف ذكر بالطول نصف ديته، وقيل: بل دية كاملة واختاره في "الإقناع" (¬1) وغيره (¬2). وفي عضو ذهب نفعه وبقيت صورته حكومة. ¬
فصل
فصل (وتجب) الدية (كاملة في كل حاسة) أي القوة الحاسة يقال: حس وأحس أي علم وأيقن وبالألف أفصح وبها جاء القرآن (¬1)، قال الجوهري: "الحواس المشاعر الخمس السمع والبصر والشم والذوق واللمس" (¬2)، لحديث: "وفي السمع الدية"، (¬3)، ولأن عمر: "قضى في رجل ضرب رجلا فذهب سمعه وبصره ونكاحه وعقله بأربع ديات والرجل حي" ذكره أحمد (¬4)، ولا يعرف له مخالف من الصحابة، ولأن كلا منها يختص بنفع أشبه السمع. (وكذا) تجب الدية كاملة في (كلام)، وفي بعض الكلام ¬
بحسابه من الدية، (و) في (عقلي) قال بعضهم بالإجماع (¬1) لما في كتاب عمرو بن حزم (¬2)، وروي عن عمر وزيد (¬3)، ولأنه أكبر المعاني قدرا وأعظمها نفعا إذ به يتميز الإنسان عن البهائم وبه يهتدي للمصالح ويدخل في التكليف، وهو شرط للولايات وصحة التصرفات والعبادات. وتجب كاملة في حدب -بفتح الحاء والدال المهملتين مصدر حدب بكسر الدال أي صار أحدب- لذهاب الجمال؛ لأن انتصاب القامة من الكمال والجمال، وبه شرف الآدمي على سائر الحيوانات. وتجب كاملة في صعر بفتح المهملتين بأن يضرب فيصير وجهه في جانب نصا (¬4)، وأصل الصعر داء يأخذ البعير في عنقه فيلتوي منه عنقه (¬5)، قال تعالى: ¬
{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} (¬1) أي لا تعرض عنهم بوجهك تكبرا (¬2). وتجب كاملة في صيرورة المجني عليه لا يستمسك غائطا أو بولا لأن كلا منهما منفعة كبيرة ليس في البدن مثلها أشبه السمع والبصر، فإن فاتت المنفعتان ولو بجناية واحدة فديتان. (و) تجب كاملة في (منفعة أكل) لأنه نفع مقصود أشبه الشم، (و) تجب كاملة في منفعة (مشي) لأنه نفع مقصود أشبه الكلام، (و) تجب كاملة في منفعة (نكاح) كإن كسر صلبه فذهب نكاحه، روي عن علي (¬3)؛ لأنه نفع مقصود أشبه المشي. وتجب كاملة في ذهاب منفعة صوت ومنفعة بطش. وتجب في إذهاب بعض يعلم بقدره، وإلا يعلم فحكومة، ويقبل قول مجني عليه في نقص سمعه وبصره بيمينه لأنه لا يعلم إلا من جهته، وإن ادعى نقص إحدى عينيه عصبت التي يدعي نقص ضوئها وأطلقت الأخرى، ونصب له شخص ويتباعد عنه حتى تنتهي رؤيته فيعلم الموضع، ثم تشد الصحيحة وتطلق الأخرى، وينصب له شخص ثم يذهب حتى تنتهي رؤيته فيعلم، ثم يدار الشخص إلى جانب آخر ويصنع كذلك ثم يعلم عند المسافتين ويذرعان ويقابل بينهما، فإن استوتا فقد صدق وله من الدية بقدر ما بين الصحيحة والعليلة من الرؤية، وإن ¬
اختلفت المسافتان فقد كذب، روى ابن المنذر نحوه عن عمر (¬1). وإن اختلف جان ومجني عليه في ذهاب بصر أري أهل الخبرة بذلك، لأنهم أدرى به وامتحن بتقريب شيء إلى عينه وقت غفلته، فإن حركها فهو يبصر لأن طبع الآدمي الحذر على عينيه، وإن بقيتا بحالهما دل على أنه لا يبصر. وإن اختلفا في ذهاب سمع أو شم أو ذوق صيح به وقت غفلته (¬2) إن اختلفا في ذهاب سمعه، وأتبع بمنتن إن اختلفا في ذهاب شمه، وأطعم الشيء المر إن اختلفا في ذهاب ذوقه، فإن فزع من الصياح أو عبس للمنتن أو المر سقطت دعواه لتبين كذبه وإلا صدق بيمينه؛ لأن الظاهر صحة دعواه. (ومن وطئ زوجة يوطأ مثلها لمثله) بأن لم تكن صغيرة ولا نحيفة (فخرق) بوطئه (ما بين مخرج بول ومني، أو) خرق (ما بين السبيلين فـ) هو (هدر) لحصوله من فعل مأذون فيه كأرش بكارتها، وكما لو أذنت في قطع يدها فسرى القطع إلى نفسها، (وإلا) تكن الزوجة يوطأ مثلها لمثله فوقع ذلك (فـ) عليه أرش (جائفة إن استمسك بول) ثلث الدية لقضاء عمر في الإفضاء بثلث الدية (¬3)، ولا يعرف له مخالف من الصحابة، (وإلا) يستمسك بول (فـ) عليه ¬
(الدية) كاملة لإبطاله نفع المحل الذي يجتمع فيه البول وعليه المهر المسمى في النكاح؛ لأنه تقرر بالدخول مع أرش الجناية المذكور، ويجب أرش بكارة حكومة مع فتق بغير وطء لعدوانه بذلك الفعل، وإن التحم ما أرشه مقدر كجائفة وموضحة وما فوقها ولو على غير شين لم يسقط أرشه لعموم النصوص. (وفي كل) واحد (من) الشعور الأربعة وهي: (شعر) إلى (رأس و) شعر (حاجبين و) شعر (أهداب العينين و) شعر (لحية الدية)، روي عن علي وزيد بن ثابت: "في الشعر الدية" (¬1)، ولأنه أذهب الجمال على الكمال كأذني الأصم وأنف الأخشم بخلاف اليد الشلاء فليس جمالها كاملا. (و) في (حاجب نصفها) أي الدية لأن فيه منه شيئين، (و) في (هدب ربعها) لأن فيه منها أربعة، (و) في (شارب حكومة) نصا (¬2)، وفي بعض كل من الشعور ¬
الأربعة بقسطه من الدية بقدر المساحة كالأذنين، وسواء كانت هذه الشعور كثيفة أو خفيفة جميلة أو قبيحة من صغير أو كبير كسائر ما فيه دية من الأعضاء. (وما عاد) من شعر (سقط ما فيه) من دية أو بعضها أو حكومة كما تقدم في سنن ونحوها إذا عادت، وإن عادت بعد أخذ ما فيه رده. وإن قلع جفنا بهدبه فدية الجفن فقط لتبعية الشعر له في الزوال كالأصابع مع الكف، وإن قلع لحيين بأسنانهما فعليه دية الكل فلا تدخل دية الأسنان في دية اللحيين لأن الأسنان ليست متصلة باللحيين بل مغروزة فيها وكل من اللحيين والأسنان ينفرد باسمه عن الآخر، واللحيان يوجدان قبل الأسنان ويبقيان بعد قلعها، وإن قطع كفا بأصابعه لم يجب غير دية يد لدخول الكل في مسمى اليد كقطع ذكر بحشفة. وفي كف بلا أصابع، وفي ذراع بلا كف، وفي عضد بلا ذراع في كل واحد ثلث ديته أي الكف شبهه أحمد بعين قائمة (¬1)، وكذا تفصيل رجل، ومقتضي تشبيه الإمام بالعين القائمة أن في ذلك حكومة، ومشى عليه في "الإقناع" (¬2)، وقال في حاشية "التنقيح" (¬3) أنه المذهب وعليه جمهور الأصحاب. ¬
(وفي عين الأعور دية كاملة) قضى به عمر وابنه وعلي وعثمان (¬1)، ولا يعلم لهم مخالف من الصحابة، ولأنه أذهب البصر كله فوجب عليه جميع ديته كما لو أذهبه من العينين لأنه يحصل بعين الأعور ما يحصل بعيني الصحيح لرؤيته الأشياء ¬
البعيدة وإدراكه الأشياء اللطيفة. (وإن قلعها) أي عين الأعور (صحيح) العينين (أقيد) أي قلعت عينه (بشرطه) السابق لما تقدم، (وعليه) أي الصحيح (أيضا) معه أي القود من نظيرتها (نصف الدية)؛ لأنه أذهب بصر الأعور كله، ولا يمكن إذهاب بصره كله لما فيه من أخذ عينين بعين واحدة، وقد استوفى نصف البصر تبعا لعينه بالقود وبقي النصف الذي لا يمكن القصاص فيه فوجبت ديته. (وإن قلع) الأعور (ما يماثل صحيحته) أي عينه الصحيحة (من) شخص (صحيح) العينين (عمدا فـ) على الأعور (دية كاملة) ولا قود عليه في قول عمر وعثمان (¬1)، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة؛ لأن القصاص يفضي إلى استيفاء جميع البصر، وهو إنما أذهب بعض بصر الصحيح، فلما امتنع القصاص وجبت الدية لئلا تذهب الجناية مجانا، وكانت كاملة؛ لأنها بدل القصاص الساقط عنه رفقا به، ولو اقتص منه ذهب ما لو ذهب بالجناية لوجبت فيه دية كاملة، وإن قلع الأعور ما يماثل عينه الصحيحة خطأ فنصف الدية كما لو قلعها صحيح، وكذا لو قلع ما لا يماثل صحيحته، وإن قلع الأعور عيني صحيح عمدا فالقود أو الدية فقط لأنه أخذ جميع بصره ببصره. (و) يد (الأقطع) ورجله (كغيره) إن قطعت يده الأخرى أو رجله ولو عمدا ¬
ففيها نصف ديته ذكرا كان أو أنثى، مسلما كان أو كافرا، حرا أو رقيقا، كبقية الأعضاء؛ لأن أحد هذين العضوين لا يقوم مقامهما بخلاف عين الأعور، ولو قطع الأقطع يد صحيح أو رجله أقيد بشرطه السابق لوجود الموجب وانتفاء المانع.
فصل في الشجاج وكسر العظام
فصل في الشجاج وكسر العظام والشجة: جرح الرأس والوجه، سميت بذلك لقطعها الجلد، وفي غيرهما يسمى جرحا لا شجة، وهي باعتبار أسمائها المنقولة عن العرب عشر (¬1) مرتبة، خمس منها فيها حكومة، وخمس فيها مقدر. فالخمس التي فيها مقدر: - 1 - أولها: ما ذكره بقوله: (وفي الموضحة) وهي التي توضح العظم أي تبرزه ولو بقدر رأس إبرة فلا يشترط وضوحه للناظر، والوضح البياض، سميت بذلك لأنها أبدت بياض العظم، وفيها نصف عشر الدية (خمس من الإبل) لما في حديث عمرو بن حزم: "وفي الموضحة خمس من الإبل" (¬2)، وسواء كانت في الرأس أو الوجه ¬
لعموم الأحاديث، وروي عن أبي بكر وعمر (¬1)، وهي إن عمت رأسا أو لم تعمه ونزلت إلى وجه موضحتان لأنه وضحة في عضوين، فلكل حكم نفسه، وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز فعليه عشر من الإبل؛ لأنهما موضحتان، فإن ذهب الحاجز بفعل جان أو سراية صارا واحدة، كما لو أوضح الكل بلا حاجز، وإن اندملتا ثم أزال الحاجز بينهما فعليه خمس عشرة بعيرا لاستقرار أرش الأولتين عليه باندمالهما ثم لزمه أرش الثالثة. 2 - ثم يلي الموضحة الهاشمة، وقد ذكرها بقوله: (و) في (الهاشمة) أي التي توضح العظم وتهشمه أي تكسره (عشر) من الإبل، روي عن قبيصة بن ذؤيب (¬2) عن زيد بن ثابت (¬3)، ولا يعرف له مخالف من الصحابة، وقول الصحابي فيما يخالف القياس توقيف، فإن هشمه هاشمتين بينهما حاجز ففيهما عشرون بعيرا، فإن زال الحاجز فعلى ما تقدم تفصيله، والهاشمة الصغيرة كالكبيرة. 3 - ثم تليها المنقلة، وقد ذكرها بقوله: (و) في (المنقلة): وهي التي توضح وتهشم ¬
وتنقل العظم (خمسة عشر) بعيرا حكى ابن المنذر إجماع أهل العلم (¬1)، وفي كتاب عمرو بن حزم: "وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل" (¬2)، فإن كانتا منقلتين فعلى ما سبق. 4 - ثم يليها المأمومة التي تصل إلى جلدة الدماغ، وتسمى الآمة، قال ابن عبد البر: "أهل العراق يقولون لها: الآمة، وأهل الحجاز المأمومة". (¬3)، وتسمى أيضًا: أم الدماغ لوصولها إلى الجلدة التي تحوط الدماغ، وقد ذكرها بقوله: (و) في (المأمومة ثلث الدية) لما في كتاب عمرو بن حزم مرفوعًا: "وفي المأمومة ثلث الدية"، (¬4)، وعن ابن ¬
عمر مثله (¬1) (كالجائفة) وهي: ما يصل إلى باطن جوف من جرح كداخل بطن وظهر وصدر وحلق ومثانة وبين خصيتين وداخل دبر، لما في كتاب عمرو بن حزم: "وفي الجائفة ثلث الدية" (¬2)، وإن جرح جانبا فخرج من جانب آخر فجائفتان نصا (¬3)، لما روى سعيد بن المسيب: "أن رجلا رمى رجلا بسهم فأنفذه، فقضى ¬
أبو بكر بثلثي الدية" أخرجه سعيد في سننه (¬1)، ولا يعرف له مخالف من الصحابة فهو كالإجماع. 5 - (و) كـ (الدامغة) أي: التي تخرق جلدة الدماغ ففيها ثلث الدية أيضًا لما في كتاب عمرو بن حزم في المأمومة، والدامغة أولى، وصاحبها لا يسلم غالبا. 6 - (وفي الحارصة): -بالحاء والصاد المهملتين- التي تحرص الجلد أي تشقه ولا تدميه، حكومة. 7 - (و) في (البازلة): الدامعة -بالعين المهملة- التي تدمي الجلد يقال: بزل الشيء إذا سال (¬2)، وسميت دامعة لقلة سيلان الدم منها تشبيها له بخروج الدمع من العين، حكومة. 8 - (و) في (الباضعة): التي تبضع اللحم أي تشقه بعد الجلد، ومنه -البضع- حكومة. 9 - (و) في (المتلاحمة): أي الغائصة في اللحم، مشتقة من اللحم لغوصها فيه حكومة. ¬
10 - (و) في (السمحاق): التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة تسمى السمحاق، سميت الجراحة الواصلة إليها بها ففي كل من هذه الخمس (حكومة) لأنه لا توقيف فيها من الشرع ولا قياس يقتضيه، وعن مكحول (¬1) قال: "قضى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الموضحة بخمس من الإبل ولم يقض فيما دونها". (¬2) ¬
فصل
فصل وفي كسر ضلع جبر لم تتغير صفته بعير، وكذا ترقوة جبرت كما كانت ففيها بعير نصا (¬1)، وفي الترقوتان بعيران لما روى سعيد بسنده عن زيد بن أسلم (¬2) عن عمر بن الخطاب: "في الضلع جمل، وفي الترقوة جمل" (¬3)، والترقوة: العظم المستدير حول العنق من ثغرة النحر إلى الكتف لكل إنسان ترقوتان (¬4)، وإلا يجبر الضلع والترقوة مستقيمين ففي كل منهما حكومة، وفي كسر كل عظم من زند وعضد وفخذ وساق وذراع بعيران نصا (¬5)، لما روى سعيد عن عمرو بن شعيب أن عمرو بن العاص: "كتب إلى عمر في أحد الزندين إذا كسر، فكتب إليه عمر أن ¬
فيه بعيرين، وإذا كسر الزندان ففيهما أربع من الإبل" (¬1)، ومثله لا يقال من قبل الرأي، ولا يعرف له مخالف من الصحابة، وألحق بالزند في ذلك باقي العظام المذكورة؛ لأنها مثله. وفيما عدا ما ذكر من جرح ومن كسر عظم ككسر خرزة صلب وكسر عصعص وكسر عظم عانة حكومة؛ لأنه لا مقدر فيها. والحكومة: أن يقوم مجني عليه كأنه رقيق لا جناية به، ثم يقوم وهي به قد برئت، فما نقص من القيمة بالجناية فله على جان كنسبة نقص القيمة من الدية (¬2)، فيجب فيمن قوم لو كان رقيقا صحيحا بعشرين، ومجنيا عليه بخمسة عشر ربع ديته لنقصه بالجناية ربع قيمته لو كان رقيقا وهكذا. ولا يبلغ بحكومة محل له مقدر شرعا مقدره، فلا يبلغ بها أرش موضحة في شجة دونها كالسمحاق، ولا دية إصبع أو دية أنملة فيما دونهما، ولا يقوم مجني عليه حتى يبرأ ليستقر الأرش، فلو لم تنقصه الجناية حال برء قوم حال جريان دم لئلا تذهب الجناية على معصوم هدرا، فإن لم تنقصه الجناية أيضًا أو زادته حسنا كقطع سلعة أو ثؤلول فلا شيء فيها لأنه لا نقص فيها. ¬
(فصل) في العاقلة وما تحمله من الدية
(فصل) في العاقلة وما تحمله من الدية والعاقلة: من غرم (¬1) ثلث دية فأكثر بسبب جناية غيره (¬2)، سموا بذلك لأنهم يعقلون، يقال: عقلت فلانا إذا أعطيته ديته، وعقلت عن فلان إذا غرمت عنه دية جنايته، وأصله من عقل الإبل، وهي الحبال التي تثنى بها أيديها، ذكره الأزهري (¬3)، وقيل: من العقل أي المنع؛ لأنهم يمنعون عن القاتل، أو لأنها تعقل لسان ولي المقتول (¬4). (وعاقلة جان) ذكرا وأنثى (ذكور عصبته نسبا وولاء) حتى عمودي نسبه، وحتى من بعد كابن ابن عم جد جان، لحديث أبى هريرة قال: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة، ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن ميراثها لبنتيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها" متفق عليه (¬5)، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها من كانوا، ولا يرثون منها إلا ما فضل عن ورثتها" رواه ¬
الخمسة إلا الترمذي (¬1)، ولأن العصبة يشدون أزر قريبهم وينصرونه فاستوى قريبهم وبعيدهم في العقل، ولأن الأب والابن أحق بنصرته من غيرهما فوجب أن يحملا عنه كالإخوة وبني الأعمام، وأما حديث: "لا يجني عليك ولا تجني عليه" (¬2) أي إثم جنايتك لا يتخطاك إليه وإثم جنايته لا يتخطاه إليك كقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬3). وإذا ثبت العقل في عصبة النسب فكذا عصبة الولاء لعموم الخبر، وأما الأخ ¬
للأم وذوو الأرحام والنساء فليسوا من العاقلة بلا خلاف؛ لأنهم ليسوا من أهل النصرة، لكن لو عرف نسبه من قبيلة ولم يعلم من أي بطونها لم يعقلوا عنه. ويعقل عاصب هرم غني وأعمى وغائب كضدهم (¬1). (ولا عقل على فقير) أي من لا يملك نصابا عند حلول الحول فاضلا عنه كحج وكفارة ظهار ولو كان معتملا؛ لأنه ليس من أهل المواساة كالزكاة، ولأنها وجبت على العاقلة تخفيفا على الجاني فلا تثقل على من لا جناية منه، (و) لا على (غير مكلف) كصغير ومجنون؛ لأنهما ليسا من أهل النصرة والمعاضدة، ولا على امرأة (¬2) ولو معتقة أو خنثى مشكل لما تقدم، ولا على قن؛ لأنه لا مال له. (و) لا على (مخالف دين جان) لفوات النصرة، ولا تعاقل بين ذمي وحربي لانقطاع التناصر بمنهما، ويتعاقل أهل ذمة اتحدت مللهم كما يتوارثون. وخطأ إمام وحاكم في حكمهما في بيت المال لا تحمله عاقلتهما لأنه يكثر فيجحف بالعاقلة، ولأن الإمام والحاكم نائبان عن اللَّه فيكون أرش خطئهما في مال اللَّه تعالى كخطأ وكيل فإنه لا ضمان عليه فيما تلف منه بلا تعد ولا تفريط بل يضيع على موكله. (ولا تحمل) العاقلة (عمدا) وجب به قود أو لا (ولا صلحا) عن إنكار (ولا ¬
اعترافا) بأن يقر جان على نفسه بجناية خطأ أو شبه عمد توجب ثلث دية فأكثر وتنكر العاقلة، ولا تحمل قيمة دابة أو قن أو قيمة طرفه، ولا تحمل (¬1) قيمة جنايته لحديث ابن عباس مرفوعًا: "لا تحمل العاقلة عمدا، ولا عبدا، ولا صلحا، ولا اعترافا" (¬2)، وروي عن ابن عباس موقوفا (¬3)، ولا يعرف له مخالف من الصحابة، ولأن القاتل عمدا غير معذور فلا يستحق المواساة ولا التخفيف، ولأن الصلح يثبت بفعله واختياره فلا تحمله العاقلة كالاعتراف لأنه متهم في مواطأة المقر لعهم بالقتل ليأخذ الدية من عاقلته فيقاسمهم إياها، ولأن العبد يضمن ضمان المال أشبه سائر الأموال. (ولا) تحمل (ما دون ثلث الدية) كثلاث أصابع وأرش موضحة لقضاء عمر أنها لا تحمل شيئا حتى يبلغ عقل المأمومة، ولأن أصل الضمان على الجاني لأنه المتلف خولف في ثلث الدية فأكثر لإجحافه بالجاني لكثرته، فبقي ما عداه على الأصل، إلا غرة جنين مات مع أمه أو بعدها بجناية واحدة فتحمل الغرة تبعا لدية ¬
الأم نصا (¬1) لاتحاد الجناية. وتحمل العاقلة شبه عمد لحديث أبى هريرة: "اقتتلت امرأتان من هذيل" وتقدم (¬2)، ولأنه نوع قتل لا يوجب القصاص أشبه الخطأ، ويكون ما وجب في شبه عمد مؤجلا في ثلاث سنين كواجب بخطأ لما روي عن عمر وعلي: "أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين" (¬3)، ولا مخالف لهما في عصرهما، ولأنها تحمله مواساة فاقتضت الحكمة تخفيفه عليها، ويجتهد حاكم في تحميل كل من العاقلة لأنه لا نص فيه فرجع فيه إلى اجتهاده كتقدير النفقة فيحمل ¬
كلا منهم ما يسهل عليه نصا (¬1)؛ لأن ذلك مواساة للجاني وتخفيف عنه فلا يشق على غيره. ويبدأ في تحميل عاقلة بالأقرب فالأقرب كالإرث، فيقسم على الأباء والأبناء ثم الإخوة ثم بني الإخوة ثم الأعمام ثم بنيهم، وهكذا أبدا حتى تنقرض عصبة النسب ثم المولى المعتق ثم عصبته الأقرب فالأقرب كالميراث، لكن تؤخذ من بعيد لغيبة قريب، وإن اتسعت أموال الأقربين للدية لم يتجاوزهم وإلا انتقل إلى من يليهم. وما أوجب ثلث دية فقط أخذ في رأس الحول؛ لأن العاقلة لا تحمل حالا، وما أوجب ثلثيها فأقل أخذ في رأس الحول ثلث والتتمة في رأس آخر. ¬
فصل في كفارة القتل
فصل في كفارة القتل من الكفر بفتح الكاف أي الستر لأنها تستر الذنب وتغطيه (¬1). وأجمعوا على وجوبها في الجملة (¬2) لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} الآية (¬3). (ومن قتل نفسا محرمة) ولو نفسه أو نفس قنه لعموم الآية، أو كان مستأمنا؛ لأنه آدمي قتل ظلما لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الآية (غير عمد) بأن قتلها خطأ أو شبه عمد، (أو شارك فيه) أي القتل (فعليه الكفارة) للآية، وألحق يالخطأ شبه العمد؛ لأنه في معناه بخلاف العمد المحض، ولو كان القاتل كافرا أو قنا أو صغيرا أو مجنونا لأنها حق مالي يتعلق بالفعل أشبهت الدية، وأيضا هي عبادة مالية أشبهت الزكاة، وسواء قتل بمباشرة أو سبب كحفر بئر تعديا ولو كان القتل بها بعد موت المتسبب لعموم قوله تعالى: {وَمَنْ ¬
قَتَلَ} (¬1)، أو كان المقتول جنينا بأن ضرب بطن حامل فألقت جنينا ميتا أو حيا تم مات لأنه نفس محرمة، ولا كفارة بإلقاء مضغة لم تتصور، غير أسير حربي يمكنه أن يأتي به الإمام فيحرم عليه قتله ولا كفارة فيه، وغير نساء أهل حرب وذراريهم، وغير من لم تبلغه الدعوة فيحرم قتلهم ولا كفارة لمفهوم قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الآية، لأنه لا أمان لهم ولا إيمان والمنع من قتلهم للافتيات على الإمام وانتفاع المسلمين بهم أو لعدم الدعوة، ولأنهم غير مضمونين بقصاص ولا دية أشبهوا مباح الدم. ولا كفارة على من قتل نفسا مباحة كباغ ومرتد ومن تحتم قتله للمحاربة وكالقتل قصاصا أو حدا أو دفاعا عن نفسه لأنه مأذون فيه شرعا. (وهي) أي الكفارة (ككفارة ظهار) عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، (إلا أنها لا إطعام فيها) وتقدم (¬2)، (ويكفر عبد بالصوم)؛ لأنه لا مال له يعتق منه، ويكفر من مال غير مكلف وليه. ¬
فصل في القسامة
فصل في القسامة (والقسامة) -بفتح القاف- وهي: اسم مصدر، من أقسم إقساما وقسامة (¬1)، قال الأزهري: "هم القوم يقسمون في دعواهم على رجل أنه قتل صاحبهم، سموا قسامة باسم المصدر، كعدل ورضا. (¬2) وشرعا: (أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم) (¬3)، لا نحو مرتد، قال ابن قتيبة (¬4): "أول من قضى بالقسامة في الجاهلية الوليد بن المغيرة فأقرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). ولا تكون القسامة في دعوى قطع طرف ولا في جرح؛ لأنها ¬
ثبتت على خلاف الأصل في النفس لحرمتها فاختصت بها كالكفارة.
وشروط صحتها عشرة: - أحدها: اللوث (¬1) وهو: العداوة الظاهرة وجد معها أثر قتل كدم أو لا لحصول القتل بما لا أثر له كغم الوجه والخنق؛ ولأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- " [لم] (¬2) يسأل الأنصار هل بقتيلهم أثر أو لا" (¬3). ولو كانت العدواة مع سيد مقتول؛ لأن السيد هو المستحق لدمه، وأم الولد والمدبر والمكاتب والمعلق عتقه بصفة في ذلك كالقن. ¬
والعداوة الظاهرة نحو ما كان بين الأنصار وأهل خيبر (¬1)، وما بين القبائل التي يطلب بعضها بعضا بثأر، وما بين البغاة وأهل العدل، وما بين الشرطة واللصوص. ولا يشترط مع اللوث أن لا يكون بموضع القتل غير العدو نصا (¬2)؛ لأنه عليه السلام لم يسأل الأنصار هل كان بخيبر غير اليهود أو لا؟ مع أن الظاهر وجود غيرهم. فإن لم يكن عداوة ظاهرة ولكن غلب على الظن صدق المدعي كتفرقة جماعة عن قتيل، أو وجد قتيل عند من معه سيف ملطخ بدم، أو في زحام، أو شهادة جماعة ممن لا يثبت القتل بشهادتهم كالنساء والصبيان والفساق ونحو ذلك فليس بلوث، لقوله عليه السلام: "لو يعطى الناس بدعواهم. . . " الحديث (¬3)، ومتى فقد اللوث وليست الدعوى بقتل عمد حلف مدعى عليه يمينا واحدة لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "البينة على من ادعى، واليمين على من ¬
أنكر، إلا في القسامة" رواه الدارقطني (¬1)، ولا يمين في دعوى قتل عمد مع فقد لوث لأنه ليس بمال. الشرط الثاني: تكليف مدعى عليه القتل لتصح الدعوى لأنها لا تصح على صغير ولا مجنون. الشرط الثالث: إمكان القتل منه، وإلا يمكن منه قتل لنحو زمانة لم تصح عليه دعواه كبقية الدعاوي التي يكذبها الحس. الشرط الرابع: وصف القتل في الدعوى كأن يقول: جرحه بسيف أو سكين ونحوه في محل كذا من بدنه أو خنقه، فلو استحلفه حاكم قبل وصف مدع القتل لم يعتد به لعدم صحة الدعوى. الشرط الخامس: طلب جميع الورثة فلا يكفي طلب بعضهم لعدم انفراده بالحق. الشرط السادس: اتفاقهم على الدعوى فلا يكفي عدم تكذيب بعضهم إذ الساكت لا ينسب إليه حكم. (¬2) الشرط السابع: اتفاق الورثة على القتل فإن أنكر بعضهم فلا قسامة. ¬
الشرط الثامن: اتفاقهم على عين قاتل نصا (¬1) فلو قال بعض الورثة: قتله زيد، وقال بعضهم: قتله بكر فلا قسامة. الشرط التاسع: كون فيهم ذكور مكلفون (¬2) لحديث: "يقسم خمسون رجلا منكم وتستحقون دم صاحبكم" (¬3)، ولأن القسامة يثبت بها قتل العمد فلا تسمع من النساء كالشهادة، والدية إنما تثبت ضمنا لا قصدا، ولا يقدح غيبة بعض الورثة ولا عدم تكليفه ولا نكوله عن اليمين؛ لأن القسامة حق له ولغيره فقيام المانع بصاحبه لا يمنع حلفه واستحقاقه لنصيبه كالمال المشترك. فلذكر حاضر مكلف أن يحلف بقسطه من الأيمان ويستحق نصيبه من الدية كما لو كان الكل حاضرين مكلفين، ولمن قدم من الغائبين أو كلف من الورثة أن يحلف بقسط نصيبه من الأيمان ويأخذ نصيبه من الدية لبنائه على أيمان صاحبه كما لو كان حاضرا مكلفا ابتداء. الشرط العاشر: كون الدعوى على واحد معين ¬
لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- للأنصار: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برُمَّتِهِ" (¬1)، ولأنها بينة ضعيفة خُولف بها الأصل في قتل الواحد فاقتصر عليه. فلو قال الورثة: قتله هذا مع آخر أو قتله أحدهما فلا قسامة لما تقدم من اشتراط اتحاد المدعى عليه. ولا يشترط كون القسامة بقتل عمد لأنها حجة شرعية فوجب أن يثبت بها الخطأ كالعمد، ويقاد فيها إذا تمت الشروط العشرة وشروط القود لقوله عليه السلام: "يحلف خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برُمَّتِهِ" وفي لفظ لمسلم: "ويسلم إليكم" (¬2)، والرُّمَّة: الحبل الذي يربط به من عليه القود (¬3)، ولثبوت العمد بالقسامة كالبينة فيثبت أثره، وروى الأثرم بسنده عن عامر الأحول (¬4): "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أقاد بالقسامة في الطائف" (¬5). ¬
(وإِذَا تَمَّتْ شُرُوطُهَا) المذكورة (بُدِئَ بأَيمانِ ذُكورِ عَصَبَتِهِ) أي القتيل (الوَارِثينَ) بدل من العصبة، أي بذكور الوارثين له فيقدمون بها على أيمان المدعى عليه فلا يمكن مدعى عليه من حلف مع وجود ذكر من ورثة القتيل، ومع وجود شرط القسامة لقيام أيمانهم مقام بينتهم هنا خاصة للخبر، (فيَحْلِفُونَ خَمْسِيْنَ يمينًا كُلّ) واحد (بقَدْرِ إِرْثِهِ) من القتيل لأنه حق ثبت تبعا للميراث أشبه المال، (ويُجْبَرُ كَسْرٌ) كابن وزوج فيحلف الابن ثمانية وثلاثين ويحلف الزوج ثلاثة عشر يمينًا؛ لأن للزوج الربع وهو من الخمسين اثنا عشر ونصف فيكمل فيصير ثلاثة عشر، وللابن الباقي وهو سبعة وثلاثون ونصف فيكمل فيصير كما ذكر، وقس على ذلك. ويعتبر لأيمان قسامة حضور مدع ومدعى عليه وقت حلف كبينة عليه، ويجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله وإن كانوا غائبين عن مكان القتل قاله القاضي (¬1)، ولا ينبغي أن يحلفوا إلا بعد الاستيثاق وغلبة الظن، وينبغي للحاكم أن يعظهم ويعرفهم ما في اليمين الكاذبة. ولا يعتبر فيها مولاة الأيمان ولا كونها في مجلس واحد. وإن جاوز ذكور الورثة خمسين رجلا حلف منهم خمسون كل واحد يمينا ¬
لقوله عليه السلام: "يقسم خمسون منكم. . " الحديث، وسيد في ذلك كوارث، فإن كان رجلا واحدا أو معه نساء حلفها، وإن كان اثنين فأكثر حلف كل منهم بقدر ملكه فيه. ومتى حلف الذكور من الورثة فالحق الواجب بالقتل حتى في قتل عمد لجميع الورثة ذكورا ونساء؛ لأنه حق ثبت للميت فصار لورثته كالدين. (فإن نكلوا) أي ذكور الورثة عن أيمان القسامة (أو كان الكل نساء) أو خناثا (حلفها) أي الخمسين يمينا (مدعى عليه وبرئ) لقوله عليه السلام: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم" أي يبرأون منكم وفي لفظ: "فيحلفون خمسين يمينا ويبرأون من دمه" إن رضي الورثة بأيمان مدعى عليه، لأنه عليه السلام لم يحلف اليهود حين قال الأنصار: "كيف نأخذ بأيمان قوم كفار". ومتى نكل مدعى عليه عن شيء من الخمسين يمينا لزمته الدية، وليس للمدعي إن ردها المدعى عليه أن يحلف لنكوله عنها أو لا. وإن نكل الورثة عن أيمان القسامة ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فدى الإمام القتيل من بيت المال وخلى المدعى عليه؛ لأنه عليه السلام ودى الأنصاري من عنده لما لم ترض الأنصار بيمين اليهود، ولأنه لم يبق سبيل إلى الثبوت ولم يوجد ما يوجب السقوط فوجب الغرم من بيت المال لئلا يضيع المعصوم هدرا، كميت في
زحمة، كجمعة وطواف فيفدى من بيت المال نصا (¬1)، واحتج بما روي عن عمر وعلي (¬2)، ومنه ما روى سعيد في سننه عن إبراهيم (¬3) قال: "قتل رجل في زحام الناس بعرفة فجاء أهله إلى عمر فقال: بينتكم على من قتله فقال علي: يا أمير المؤمنين لا يعطل دم امرئ مسلم إن علمت قاتله، وإلا فأعط ديته من بيت المال" (¬4). ¬
(كتاب الحدود)
(كتاب الحدود) وهي جمع حد، وهو لغة: المنع (¬1)، وحدود اللَّه محارمه لقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} (¬2) وحدوده أيضًا: ما حده وقدره كالمواريث وتزويج الأربع لقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (¬3) وما حده الشرع لا يجوز فيه زيادة ولا نقصان. وعرفا: عقوبة مقدرة شرعا في معصية من زنا وقذف وشرب وقطع طريق وسرفهّ لتمنع تلك العقوية من الوقوع في مثلها. (¬4) و(لا تجب) الحدود (إلا على مكلف) لحديث: "رفع القلم عن ثلاثة" رواه أبو داود والترمذي وحسنه (¬5)، والحد أولى بالسقوط من العبادة لعدم التكليف لأنه يدرء بالشبهة، ومن يخنق إذا أقر أنه زنا في إفاقته أخذ بإقراره وحد، وإن أقر في إفاقته أنه زنا ولم يضفه إلى حال أو شهدت عليه بينة أنه زنا ولم تضفه إلى حال إفاقته فلا حد للاحتمال، وكذا لا حد على نائم ولا نائمة. (ملتزم) أحكامنا من هم وذمي، بخلاف حربي ومستأمن (عالم بالتحريم) ¬
لقول عمر وعثمان وعلي: "لا حد إلا على من علمه" (¬1)، فلا حد على من جهله لأن جهل تحريم الزنى أو عين المرأة كأن زفت إليه غير امرأته فوطئها ظانا أنها امرأته ونحوه لحديث: "ادرؤا الحدود بالشبهات ما استطعتم" (¬2). (وعلى إمام أو نائبه إقامتها) أي الحدود مطلقا سواء كان الحد للَّه تعالى كحد زنا أو لآدمي كحد قذف؛ لأنه يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن فيه الحيف فوجب تفويضه إلى نائب اللَّه تعالى في خلقه، ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يقيم الحدود في حياته، وكذا خلفاؤه من بعده، ويقوم ¬
نائب الإمام مقامه لقوله عليه السلام: "واغد يا أنيس (¬1) إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها" (¬2)، وأمر برجم ماعز (¬3) ولم يحضره (¬4)، وقال في سارق أتي به: "اذهبوا ¬
به فاقطعوه" (¬1). وتحرم شفاعة في حد للَّه تعالى بعد أن يبلغ الإمام، ويحرم قبولها بعد أن تبلغه لقوله عليه السلام: "فهلا قبل أن تأتيني به" (¬2)، ولأن الشفاعة فيه طلب فعل محرم على من طلب منه. ¬
ولسيد حر مكلف عالم بالحد وشروطه ولو كان فاسقا أو امرأة إقامة الحد بجلد أو تعزير على رقيق كله [له] (¬1)، لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" (¬2)، ولأن السيد يملك تأديب رقيقه وضربه على الذنب وهذا من جنسه، ولكون سبب ولايته الملك استوى العدل والذكر فيه وضدهما، ولو كان الرقيق مكاتبا أو مرهونا أو مستاجرا فلسيده جلده في الحد بشرطه لعموم الخبر، ولتمام ملكه عليه. ولا يقيمه سيد على أمة مزوجة لقول ابن عمر: "إذا كانت الأمة مزوجة رفعت إلى السلطان، فإن لم يكن لها زوج جلدها سيد نصف ما على المحصن" (¬3)، ولا يعرف له مخالف من الصحابة، ولأن منفعتها مملوكة لغيره ملكا غير مقيد بوقت أشبهت المشتركة، وما ثبت مما يوجب الحد على رقيق بعلم السيد برؤية أو غيرها أو إقرار كالثابت ببينة؛ لأنه يجري مجرى التأديب، بخلاف الحاكم فإنه متهم، وللسيد سماع البينة على رقيقه إذا علم شروطها، وليس له قتل ¬
في ردة، ولا قطع في سرقة؛ لأن الأصل تفويض إقامة الحد إلى الإمام، وإنما فوض الجلد إلى السيد خاصة لأنه تأديب، والحديث جاء في جارية زنت، فالظاهر أنه إنما أراد ذلك الحد وشبهه، ولأن في الجلد سترا على رقيقه لئلا يفتضح بإقامة الإمام الحد عليه فتنقص قيمته وذلك منتف فيهما. ويجب إقامة الحد ولو كان من يقيمه شريكا أو عونا لمن يقيمه عليه في تلك المعصية لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى في هذه الحالة، ولا يجمع بين معصيتين. وتحرم إقامته بمسجد لحديث حكيم بن حزام (¬1): "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى أن يستقاد بالمسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود" (¬2)؛ ولأنه لا يؤمن من حدوث ما يلوث المسجد، فإن أقيم به لم يعد لحصول المقصود من الزجر. ¬
ويحرم أن يقيمه إمام أو نائبه بعلمه بلا بينة لقوله تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} (¬1) ولقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (¬2)، ولأنه لا يجوز له التكلم به فالعمل أولى، حتى لو رماه بما علمه منه لكان قاذفا يحد للقذف. (ويضرب) الـ (رجل) الحد (قائما) ليعطى كل عضو حظه من الضرب (بسوط)، قال في "الرعاية" (¬3) من عنده: "حجم السوط بين القضيب والعصا". وهو معنى ما في شرح المهذب للحنفية، وفي المختار لهم: بسوط لا ثمرة له (¬4). قال في "المبدع" (¬5): "فيتعين أن لا يكون من الجلد". (لا خلق) نصا بفتح اللام؛ لأنه لا يؤلم (ولا جديد) لئلا يجرح، وفي "الرعاية" (¬6): بين اليابس والرطب. وروى مالك عن زيد بن أسلم (¬7) مرسلا أن رجلا اعترف عند ¬
النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأتي بسوط مكسور فقال: "فوق هذا"، فأتي بسوط جديد لم تكسر ثمرته فقال: "بين هاذين" (¬1)، وروي عن أبي هريرة مسندا (¬2)، وعن علي: "ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين" (¬3)، أي لا شديد فيقتل ولا ضعيف فلا يردع. بلا مد ولا ربط ولا تجريد لقول ابن مسعود: "ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد" (¬4)، ولم ينقل عن أحد من أصحابه عليه السلام فعل ذلك، (ويكون ¬
عليه قميص وقميصان) وينزع عنه فرو وجبة محشوة؛ لأنه لو ترك عليه ذلك لم يبال بالضرب، ولا يبالغ في ضرب بحيث يشق الجلد؛ لأن القصد أدبه لا إهلاكه، (ولا يبدي ضارب إبطه) في رفع يد للضرب نصا، (ويسن تفريقه) أي الضرب (على الأعضاء) ليأخذ منه كل عضو حظه، وتوالي الضرب على عضو واحد يؤدي إلى قتله، وهو مأمور بعدمه، قال في "الشرح" (¬1): "ويكثر منه في مواضع اللحم كالآليتين والفخذين". ويضرب من جالس ظهره وما قاربه، (ويجب) في الجلد (اتقاء وجه و) اتقاء (رأس و) اتقاء (فرج و) اتقاء (مقتل) كفؤاد وخصيتين لئلا يؤدى ضربه في شيء من هذه المواضع إلى قتله أو ذهاب منفعته، والقصد أدبه فقط. (وامرأة كرجل لكن تضرب جالسة) لقول علي: "تضرب المرأة جالسة، والرجل قائما" (¬2)، (وتشد عليها ثيابها وتمسك يداها) لئلا تنكشف لأن المرأة عورة وفعل ذلك أستر لها. ¬
ويعتبر لإقامة حد نية بأن ينويه للَّه ولما وضع اللَّه ذلك [لأجله كالزجر] (¬1)، لحديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬2)، لكن إن نوى الإمام وأمر عبدا أعجميا لا معرفة له بالنية أجزأت نية الإمام والعبد كالآلة ذكره في "الفصول" (¬3)، ولا تعتبر موالاة الضرب في الجلد لزيادة العقوبة ولسقوطه بالشبهة. وأشد الجلد في الحدود جلد زنا فقذف فشرب فتعزير. (ولا يحفر لمرجوم) ولو كان أنثى ولو ثبت الزنى عليها ببينة؛ لأنه عليه السلام لم يحفر للجهنية (¬4)، ¬
واليهوديين (¬1). (ومن مات وعليه حد سقط) بموته. وإن رأى الإمام أو نائبه الضرب في حد شرب مسكر بجريد أو نعال وأيد فله ذلك، لحديث أبي داود عن أبي هريرة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أتي برجل قد شرب فقال: "اضربوه، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بنعله، والضارب بثوبه، والضارب بيده" (¬2). ولا يؤخر استيفاء حد لمرض ولو رجي زواله؛ لأن عمر أقام الحد على قدامة بن مظعون (¬3) في مرضه ولم يؤخر (¬4) وانتشر ذلك ولم ينكر؛ ولأن الأصل في الأمر ¬
أنه للفور فلا يؤخر المأمور به بلا حجة، ولا يؤخره لحر أو برد أو ضعف لما تقدم. فإن كان الحد جلدا وخيف على المحدود من السوط لم يتعين، فيقام عليه الحد بطرف ثوب وعثكول (¬1) نخل وهو: الضغث -بالضاد والغين المعجمتين والثاء المثلثة- فإذا أخذ ضغثا به مائة شمراخ فضربه ضربة واحدة أجزأ، لحديث أبي داود والنسائي عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف (¬2) عن بعض أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3) لكن قال ابن المنذر: في إسناده مقال. (¬4)، ولأن ضربه التام يؤدي إلى ¬
إتلافه، وتركه بالكلية غير جائز فتعين ما ذكر. ويؤخر الحد لسكر حتى يصحو الشارب نصا (¬2)، فلو خالف وأقام الحد عليه في سكره سقط الحد إن أحس بألم الضرب وإلا فلا. ويؤخر قطع في سرقة ونحوها خوف تلف محدود بقطعه لما مر أن القصد زجره لا إهلاكه. ويحرم بعد إقامة حد حبس محدود وإيذاؤه بكلام كالتعبير لنسخه بمشروعية الحد كنسخ حبس المرأة، ومن مات بجلد في تعزير أو في حد بقطع أو جلد ولم يلزم تأخيره فهدر؛ لأنه مات في فعل مأذون فيه شرعا. فإن لزم تأخير الحد بأن كانت حاملا أو كان مريضا ووجب عليه القطع فاستوفاه إذن فتلف المحدود ضمنه لعدوانه. ¬
ومن زاد في عدد جلد ولو جلدة أو في السوط الذي ضرب به أو اعتمد في ضربه أو ضربه بسوط لا يحتمله فتلف ضمنه بديته كاملة لحصول التلف بعدوانه. ويجب في إقامة حد زنا حضور إمام أو نائبه وحضور طائفة من المؤمنين ولو واحدا مع من يقيم الحد لقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، وسن حضور من شهد بزنا وبداءتهم برجم، وإن ثبت بإقرار سن بداءة إمام أو نائبه، لما روى سعيد عن علي: "الرجم رجمان، فما كان منه بإقرار فأول من يرجم الإِمام، وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الناس" (¬2)، ولأن فعل ذلك أبعد من التهمة في الكذب عليه، والسنة أن يدور الناس حول المرجوم إن ثبت ببينة لا بإقرار ولاحتمال أن يهرب فيترك. ومتى رجع مقر بزنا عن إقراره، أو رجع مقر بسرقة، أو بشرب خمر عن إقراره قبل أن يقام عليه الحد ولو بعد الشهادة على إقراره لم يقم عليه، وإن رجع في أثناء الحد أو هرب ترك؛ لأن ماعزا هرب فذكر ذلك للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "هلا تركتموه يتوب فيتوب اللَّه عليه" (¬3). ¬
فإن تمم حد على راجع فلا قود للشبهة، ويضمن راجع لا هارب بالدية لزوال إقراره برجوعه عنه، بخلاف الهارب، ومثله من طلب أن يرد للحاكم لأن ذلك ليس صريحا في رجوعه. وإن ثبت زنا أو سرقة أو شرب ببينة على الفعل فهرب لم يترك؛ لأنه لا أثر لرجوعه ولا هربه إذن. ومن أتى حدا ستر نفسه استحبابا, ولم يجب ولم يسن أن يقر به عند حاكم لحديث: "إن اللَّه ستير ويحب من عباده الستير" (¬1)، والحد كفارة لذلك الذنب الذي أوجبه للخبر. ¬
وإذا اجتمعت حدود للَّه تعالى من جنس واحد بأن زنى أو سرق أو شرب مرارا تداخلت، فلا يحدّ سوى مرة حكاه ابن المنذر إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم (¬1)؛ لأن الغرض الزجر عن إتيان مثل ذلك في المستقبل وهو حاصل بحد واحد، وكالكفارة من جنس. وإن اجتمعت حدود للَّه تعالى من أجناس كإن زنى وسرق وشرب وفيها قتل بأن كان محصنا استوفى القتل وحده، لقول ابن مسعود: "إذا اجتمع حدان أحدهما القتل أحاط القتل بذلك" رواه سعيد (¬2)، ولا يعرف له مخالف من الصحابة، وكالمحارب إذا قتل وأخذ المال، ولأن الغرض الزجر ومع القتل لا حاجة له. وإلا يكن فيها قتل وهي من أجناس وجب أن يبدأ بالأخف فالأخف، فيحد أولا لشرب، ثم لزنا، ثم يقطع. وتستوفى حقوق آدمي كلها فيها قتل أو لا كسائر حقوقه، ولأن ما دون القتل حق لآدمي فلا يسقط بالقتل كالديون، بخلاف حق اللَّه فإنه مبني على المسامحة، ويبدأ بغير قتل بالأخف فالأخف وجوبا، فمن قذف، وقطع ¬
عضوا، وقتل مكافئا، حد أولا لقذف، ثم قطع، ثم قتل. وكذا لو اجتمعت حقوق آدمي مع حدود اللَّه تعالى فتستوفى كلها ويبدأ بحق آدمي، فلو زنى وشرب مسكرا وقذف وقطع يدا قطعت يده؛ لأنه محض حق آدمي لسقوطه بإسقاطه، ثم حد لقذف للاختلاف في كونه حقا لآدمي، ثم لشرب، ثم لزنا. ولا يستوفى حد حتى يبرأ ما قبله لئلا يؤدي توالي الحدود عليه إلى تلفه.
فصل
فصل ومن قتل أو أتى حدا خارج حرم مكة ثم لجأ إليه، أو لجا حربي أو مرتد إليه حرم أن يؤاخذ حتى بدون قتل فيه، لقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (¬1)، وهو خبر أريد به الأمر، أي: أمنوه (¬2)، ولأنه عليه السلام: "حرم سفك الدم بمكة" (¬3)، وقوله عليه السلام: "فقولوا: إن اللَّه أذن لرسوله، ولم يأذن لكم" (¬4)، وقوله: "إن أعدى الناس على اللَّه من قتل في الحرم" رواه أحمد من حديث عبد اللَّه بن عمر (¬5)، وحديث أبي ¬
شريح (¬1)، وقال ابن عمر: "لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته" رواه أحمد (¬2). لكن لا يبايع ولا يشارى ولا يكلم زاد في "الروضة": "ولا يؤاكل ولا يشارب". (¬3) حتى يخرج منه فيقام عليه، لئلا يتمكن من الإقامة دائما فيضيع الحق عليه. ومن فعله فيه أخذ به فيه لقول ابن عباس: "من أحدث حدثا في الحرم أقيم ¬
عليه ما أحدث من شيء" رواه الأثرم (¬1)، ومن قوتل في الحرم دفع عن نفسه فقط، لقوله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} (¬2)، ولأن أهل الحرم محتاجون إلى الزجر عن ارتكاب المعاصي كغيرهم حفظا لأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولهتك الجاني ونحوه في الحرم حرمته، فلا ينتهر لتحريم دمه وصيانته كالجاني في دار الملك لا يعصم لحرمة الملك. ونسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم، ولا تعصم الأشهر الحرم شيئًا من الحدود والجنايات، فلو أتى بشيء من ذلك ثم دخل شهر حرام أقيم عليه ما وجب قبله لعموم الأدلة. ¬
فصل في حد الزنى
فصل في حد الزنى بالقصر في لغة الحجاز والمد عند تميم. (¬1) وهو فعل الفاحشة في قبل أو دبر (¬2). وهو من أكبر الكبائر، وأجمعوا على تحريمه (¬3) لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)} (¬4) , وحديث: "اجتنبوا السبع المويقات" (¬5)، وكان حد ¬
الزنى في صدر الإِسلام الحبس للنساء، والأذى بالكلام للرجال، لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} الآيتين (¬1) ثم نسخ بحديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "خذوا عني، قد جعل اللَّه لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" رواه مسلم (¬2)، وأجاز أصحابنا نسخ الكتاب بالسنة (¬3)، ومن منع ذلك قال: ليس هذا نسخا إنما هو تفسير للقرآن وتبيين ¬
له (¬1)، ويمكن أن يقال: نسخه حصل بالقرآن، فإن الجلد في كتاب اللَّه تعالى، والرجم كان فيه فنسخ رسمه وبقي حكمه، قاله في "المغني" (¬2) و"الشرح" (¬3). (فيرجم زان) مكلف (محصن) وجوبا بحجارة متوسطة كالكف، فلا ينبغي أن يثخن بصخرة كبيرة، ولا أن يطول عليه بحصاة خفيفة، ويتقى الوجه (حتى يموت) لحديث عمر قال: "إن اللَّه تعالى بعث محمدا -صلى اللَّه عليه وسلم- بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأتها وعقلتها ووعيتها، رجم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورجمنا بعده، فاخشى إن طال بالناس زمان يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب اللَّه، فيضل بترك فريضة. أنزلها اللَّه تعالى، فالرجم حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت به البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف، وقد قرأتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من اللَّه واللَّه عزيز حكيم" متفق عليه (¬4)، ولا يجلد محصن قبل الرجم قال ¬
الأثرم: سمعت أبا (¬1) عبد اللَّه يقول في حديث عبادة: أنه أول حد نزل، وأن حديث ماعز بعده، رجمه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يجلده، وعمر رجم ولم يجلد (¬2). (وغيره) أي المحصن بأن زنا حر مكلف غير محصن فإنه (يجلد مائة) بلا خلاف للخبر، (ويغرب) إلى ما يراه الإمام لا هو (عاما) ولو أنثى، مسلما كان أو كافرا، لعموم الخبر؛ ولأنه حد ترتب على الزاني فوجب على الكافر كالقود، وروى الترمذي عن ابن عمر: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب" (¬3). ويكون تغريب أنثى مع محرم باذل نفسه معها وجوبا لعموم نهيها عن السفر بلا محرم، وعليها أجرته لصرف نفعه في أداء ما وجب عليها، فإن تعذرت أجرته ¬
منها لعدم أو امتناع فمن بيت المال؛ لأنه من المصالح، فإن أبى السفر معها، أو تعذر بأن لم يكن لها محرم فتغرب وحدها إلى مسافة قصر للحاجة كسفر الهجرة وكالحج إذا مات المحرم في الطريق، ويغرب غريب زنى إلى غير وطنه لأن عوده إلى وطنه ليس تغريبا. (و) يجلد (رقيق) زنى (خمسين) جلدة لقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬1)، والعذاب المذكور في القرآن مائة جلدة فينصرف التنصيف إليه دون غيره والرجم لا يتأتى تنصيفه، (ولا يغرب) رقيق زنى؛ لأنه عقوبة لسيده دونه، إذ العبد لا ضرر عليه في تغريبه؛ لأنه غريب في موضعه، ويترفه فيه بترك الخدمة، ويتضرر سيده بذلك، ولا يعير زان بعد الحد، لقوله عليه السلام: "فليجلدها ولا يثرب" (¬2) يقال: ثربه أي: لامه وعيره بذنبه (¬3). (و) يجلد ويغرب (مبعض) زنى (بحسابه) [فيهما] (¬4)، فالمنصف يجلد خمس ¬
وسبعون جلدة ويغرب نصف عام نصا (¬1)، ويحسب زمن التغريب عليه من نصيبه الحر، والمدبر والمكاتب وأم الولد والعلق عتقه بصفة كالرقيق في الحد لأنه رقيق كله. وإن زنى محصن ببكر وعكسه فلكل حده، لحديث أبي هريرة وزيد بن خالد: "في رجلين اختصما إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان ابن أحدهما عسيفا (¬2) عند الآخر فزنا بامرأته، فجلد ابنه مائة وغربه عاما، وأمر أنيسا الأسلمي يأتي امرأة الآخر، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها" متفق عليه (¬3)، وزان بذات محرم كزان بغيرها على ما سبق تفصيله لعموم الأخبار. ولوطي فاعل ومفعول به كزان، فمن كان منهما محصنا رجم وغير المحصن يجلد مائة ويغرب عاما، والرقيق يجلد خمسين والمبعض بحسابه لحديث: "إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان" (¬4)، ومن أتى البهيمة ولو سمكة عزر، روي عن ¬
ابن عباس (¬1) , لأنه لا نص فيه يصح، ولا يصح قياسه على فرج الآدمي؛ لأنه لا حرمة له، والنفوس تعافه، وقتلت البهيمة المأتية مأكولة كانت أو لا، لئلا يغتر بها, لحديث ابن عباس مرفوعًا: "من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة" رواه أحمد وأبو داود والترمذي (¬2)، وضعفه الطحاوي (¬3)، وصح عن ابن ¬
عباس: "من أتى البهيمة فلا حد عليه" (¬1) لكن لا تقتل إلا بالشهادة على فعله بها إن لم تكن ملكه؛ لأنه لا يقبل إقراره على ملك غيره، ويحرم أكلها؛ لأنها حيوان وجب قتله لحق اللَّه تعالى، أشبه سائر المقتولات، فيضمنها الآتي لها بقيمتها لإتلافها بسببه كما لو جرحها فماتت. (والمحصن: من وطئ زوجته) لا سريته (بنكاح صحيح) لا باطل ولا فاسد ولو كتابية (في قبلها ولو مرة)، أو في حيض، أو صوم، أو إحرام ونحوه وهما حران مكلفان ولو مستأمنين أو ذميين، فلا إحصان مع صغر أحدهما أو جنونه أو رقه، فلا إحصان لواحد منهما مع فقد شيء مما ذكر من القيود السابقة، ويثبت إحصانه بقوله: وطئتها أو جامعتها أو دخلت بها, ولا يثبت إحصان بولده منها مع إنكاره وطئها؛ لأن الولد يلحق بإمكان الوطء، والإحصان لا يثبت إلا بحقيقة الوطء، وكذا لو كان لامرأة ولد من زوجها فأنكرت أن يكون وطئها لم يثبت إحصانها لذلك. وإذا جلد زان على أنه بكر فبان محصنا رجم، لحديث جابر: "أن رجلا زنى بامرأة فأمر به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فجلد به الحد، ثم أخبر أنه محصن ¬
فرجم" رواه أبو داود (¬1)، ولتبين أنه لم يحد الحد الواجب. ويكفن المحدود بالرجم ويغسل ويصلى عليه إن كان مسلما، قال أحمد (¬2): سئل علي عن شراحة (¬3) وكان رجماها فقال: "اصنعوا بها ما تصنعون بموتاكم، وصلى علي عليها" (¬4) وللترمذي عن عمران بن حصين في الجهنية: "فأمر بها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فرجمت، وصلى عليها" وقال: "حسن صحيح". (¬5) ¬
(وشروطه) أي حد الزنى (ثلاثة): - أحدها: (تغييب حشفة أصلية) ولو من خصي أو تغييب قدرها لعدمها (في فرج أصلي لآدمي ولو دبرا) لذكر أو أنثى، لحديث ابن مسعود: "أن رجلا جاء إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إني وجدت امرأة في البستان فأصبت منها كل شيء غير أني لم أنكحها، فافعل بي ما شئت، فقرأ عليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (¬1) رواه النسائي (¬2)، فلا حد بتغييب بعض الحشفة، ولا بتغييب ذكر خنثى مشكل، ولا بتغييب في فرجه، ولا بالقبلة والباشرة دون الفرج، ولا بإتيان المرأة المرأة، ويعزر في ذلك كله، وأما الرجل المذكور في حديث ابن مسعود فقد جاء تائبا كما يدل عليه ¬
ظاهر حاله، على أن للإمام ترك التعزير إذا رآه كما في "المغني" (¬1) و"الشرح" (¬2). (و) الشرط الثاني: (انتفاء الشبهة) لحديث: "ادرؤا الحدود بالشبهات ما استطعتم" (¬3) فلو وطئ زوجته أو سريته في حيض أو نفاس أو دبرها فلا حد عليه؛ لأنه وطء صادف ملكا، أو وطئ أمته المحرمة برضاع أو غيره كموطؤة ابنه أو أم زوجته أو أمته المزوجة أو المعتدة أو المرتدة أو المجوسية أو أمة له فيها شرك أو لولده أو لمكاتبه أو لبيت المال، أو وطئ في نكاح مختلف فيه، أو في ملك يختلف فيه يعتقد تحريمه كنكاح متعة أو بلا ولي أو في شراء فاسد بعد قبضه، أو وطئ امرأة وجدها على فراشه أو بمنزله ظنها امرأته أو أمته، أو ظن أن له فيها شركا، أو جهل تحريم الزنى لقرب إسلامه أو لنشوئه ببادية فلا حد، لحديث عائشة مرفوعا: "ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإِمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" (¬4). ¬
وإن وطئ مكلف امرأة في نكاح باطل إجماعا مع علمه ببطلانه كنكاح مزوجة أو معتدة من غير زنا، أو خامسة أو ذات محرم من نسب أو رضاع أو مصاهرة حد لا بإكراه على شيء من ذلك. (و) الشرط الثالث: (ثبوته) أي الزنى وله صورتان، ذكر الأولى منهما بقوله: (بشهادة أربعة رجال عدول) يشهدون عليه (في مجلس واحد) ولو جاءوا متفرقين (بزنا واحد) متعلق بشهادة (مع وصفه) أي الزنى، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} الآية (¬1)، وقوله: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} (¬2)، فيجوز لهم النظر إليهما حال الجماع لإقامة الشهادة عليهما، واعتبر كونهم رجالا؛ لأن الأربعة اسم لعدد المذكور، ولأن في شهادة النساء شبهة لتطرق الاحتمال إليهن، وعدولا كسائر الشهادات، وكونها في مجلس: "لأن عمر حد الثلاثة ¬
الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا لما تخلف الرابع" (¬1)، ولولا اعتبار اتحاد المجلس لم يحدهم لاحتمال أن يكملوا برابع في مجلس آخر، ومعنى وصفهم للزنا أن يقولوا: رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة (¬2) والرشاء في البئر (¬3)، ويكفي أنهم رأوا ذكره في فرجها والتشبيه تأكيد. فإن شهدوا في مجلسين فأكثر بأن شهد البعض ولم يشهد الباقي حتى قام الحاكم من مجلسه حد الجميع للقذف لما تقدم عن عمر، ولا ينافيه كون المجلس لم يذكر في الآية؛ لأن العدالة أيضا ووصف الزنى لم يذكرا فيها مع اعتبارهما لدليل آخر. أو شهد بعضهم بالزنا وامتنع بعض أو لم يكملها بعضهم حد من شهد منهم للقذف، لقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، وجلد عمر أبا بكرة (¬4) وصاحبيه حين لم يكمل الرابع شهادته بمحضر من الصحابة ولم ينكر. ¬
أو كان الشهود أو بعضهم لا تقبل شهادتهم فيه لعمى أو فسق أو لكون أحدهم زوجا حدوا للقذف، لعدم كمال شهادتهم كما لو لم يكمل العدد، وكما لو بأن مشهود عليه مجبوبا أو بانت مشهود عليها رتقاء للقطع بكذبهم. وإن شهدوا عليها بالزنا فتبين أنها عذراء لم تحد هي لثبوت بكارتها، ووجودها يمنع من الزنى ظاهرا, ولا يحد الرجل للشبهة ولا الشهود؛ لأن الشهادة كملت مع احتمال صدقهم، فإنه يحتمل أن يكون وطئها ثم عادت عذرتها. أو كان الشهود الأربعة مستوري الحال، أو مات أحدهم قبل وصفه فلا يحدون لمفهوم قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وقد جيء هنا بالأربعة ولا تحد هي ولا الرجل. وإن شهد أربعة بزنا فرجعوا كلهم أو رجع بعضهم قبل حد ولو بعد حكم لم يحد مشهود عليه للشبهة، وإن رجع بعضهم بعد حد حد راجع عن شهادته فقط؛ لأن إقامة الحد كحكم فلا ينقض برجوع الشهود أو بعضهم، لكن يحد الراجع لإقراره بالقذف إن طالب به مقذوف قبل موته وإلا فلا. وإن شهد أربعة بزناه بفلانة فشهد أربعة آخرون أن الشهود هم الزناة بها دون المشهود عليه حد الأربعة للقذف وللزنا؛ لأنهم شهدوا بزنا لم يثبت فهم قذفة وثبت عليهم الزنى بشهادة الآخرين. وإذا كملت الشهادة بحد ثم مات الشهود أو غابوا لم يمنع ذلك إقامة الحد كسائر الحقوق، واحتمال رجوعهم ليس شبهة يدرأ بها الحد لبعده. وإن حملت من لا لها زوج ولا سيد لم تحد بذلك العمل بمجرده لكن تسأل
ولا يجب سؤالها لما فيه من إشاعة الفاحشة، وهو منهي عنه، فإن ادعت إكراها أو وطءا بشبهة أو لم تقر بالزنا أربعا لم تحد، وروى سعيد: "أن امرأة رفعت إلى عمر ليس لها زوج وقد حملت، فسألها عمر فقالت: إني امرأة ثقيلة الرأس، وقع علي رجل وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ فدرأ عنها الحد" (¬1)، وروي عن علي وابن عباس: "إذا كان في الحد لعل وعسى فهو معطل" (¬2). وذكر الصورة الثانية بقوله: (أو) بـ (إقراره) أي المكلف بالزنا (أربع مرات) لحديث ماعز بن مالك: "اعترف عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الأولى والثانية والثالثة ورده، فقيل له: إنك إن اعترفت عنده الرابعة رجمك، فاعترف الرابعة فحبسه، ثم سأل عنه فقالوا: لا نعلم إلا خيرا، فأمر به فرجم" (¬3) حتى ولو كان الاعتراف أربعا في مجالس لأن ¬
ماعزا أقر أربع مرات عنده عليه السلام في مجلس واحد، والغامدية أقرت عنده بذلك في مجالس، رواه مسلم والدارقطني (¬1) من حديث ¬
بريدة (¬1). (مع ذكر حقيقة الوطء) لحديث ابن عباس: "لما أتى ماعز بن مالك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ قال: لا يا رسول اللَّه، قال: أنكتها؟ لا يكني قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه" رواه البخاري وأبو داود (¬2)، وفي حديث أبي هريرة قال للأسلمي: "أنكتها؟ قال: نعم، قال: كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ قال: نعم، قال: فهل تدري ما الزنى؟ قال: نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني، قال: فأمر به فرجم" رواه الدارقطني (¬3)، ولأن الحد يدرأ بالشبهة ¬
فلا تكفي فيه الكناية. ولا يعتبر أن يصرح بمن زنى بها فلو أقر أنه زنى بفلانة فكذبته فعليه الحد دونها, لحديث أبي داود عن سهل بن سعد مرفوعا (¬1). (بلا رجوع) متعلق بإقراره، أي بأن لا يرجع مقر بزنا حتى يتم الحد، فإن رجع عن إقراره، أو هرب ترك وتقدم (¬2)، ولو شهد أربعة على إقراره به أربعا [فأنكر] (¬3)، أو صدقهم دون أربع فلا حد عليه لرجوعه، ولا حد على من شهد عليه لكمالهم في النصاب. ¬
فصل في حد القذف
فصل في حد القذف وهو لغة: الرمي بقوة (¬1) ثم غلب على الرمي بزنى أو لواط أو شهادة بأحدهما ولم تكمل البينة. وهو محرم إجماعا (¬2) لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ. .} الآية (¬3)، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَات. .} الآية (¬4) وحديث: "اجتنبوا السبع الوبقات" متفق عليه (¬5). (والقاذف) وهو مكلف مختار ولو أخرس وقد قذف بإشارة (محصنا) ولو مجبوبا أو كانت مقذوفة ذات محرم من قاذف، أو كانت رتقاء لعموم الآية والأخبار. (يجلد) قاذف (حر ثمانين) جلدة لقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، (و) يجلد قاذف (رقيق نصفها) أربعين جلدة، (و) يجلد قاذف (مبعض ¬
بحسابه)، فمن نصفه حر ونصفه رقيق يجلد قاذفه ستين؛ لأنه حد يتبعض. ولا يجب حد قذف على أبوين وإن علوا لولد وإن سفل كما لا يجب قود. والحق في حد القذف للآدمي كالقود فلا يقام بلا طلبه، لكن لا يستوفيه مقذوف بنفسه، ويسقط بعفوه ولو بعد طلبه به كما لو عفى قبله. وكذا يسقط بإقامة البينة بما قذفه به وبتصديق مقذوف له فيه، وبلعانه إن كان زوجا. ومن قذف غير محصن ولو قنه عزر ردعا له عن أعراض المعصومين وكفا له عن إيذائهم. (والمحصن هنا) أي في باب القذف (الحر المسلم العاقل العفيف) عن الزنى ظاهرا ولو كان تائبا منه؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وملاعنة وولدها وولد زنا كغيرهم نصا (¬1)، فيحد بقذف كل منهم إن كان محصنا. (وشرط كون مثله يطأ أو يوطأ) وهو ابن عشر فأكثر وبنت تسع فأكثر للحوق العار لهما، و (لا) يشترط (بلوغه) أي المقذوف، ولا يحد قاذف غير بالغ حتى يبلغ ويطالب به بعد بلوغه إذ لا أثر لطلبه قبل بلوغه لعدم اعتبار كلامه ولا طلب لوليه عنه؛ لأن الغرض منه التشفي فلا يقوم غيره مقامه فيه كالقود، وكذا لو جن مقذوف أو أغمي عليه قبل طلبه فلا يستوفى حتى يفيق ويطالب به، وإن جن أو أغمي عليه بعده أقامه الإِمام أو نائبه على القاذف لوجود شرطه وانتفاء مانعه. ومن قال لمحصنة: زنيت وأنت صغيرة، فإن فسره بدون تسع سنين ¬
عزر، أو قاله لذكر صغير فسره بدون عشر سنين عزر، وإلا يفسره بدون ذلك حد لأنه لا يشترط بلوغ مقذوف.
فصل
فصل وللقذف صريح وكناية، فصريحه: يا منيوكة إن لم يفسره بفعل زوج أو سيد، ويا منيوك يا زان يا عاهر، أو قد زنيت أو زنى فرجك، أو يا لوطي. وقوله لشخص: لست لأبيك، ولست بولد فلان قذف لأمه إلا أن يكون المقول له ذلك منفيا بلعان لم يستلحقه ملاعن بعد نفيه ولم يفسره قائل ذلك بزنا أمه فلا يكون قذفا لها. وقوله: ما أنت ابن فلانة ليس بقذف مطلقا إذ الولد من أمه بكل حال. وقوله لولده: لست بولدي كناية في قذف أمه نصا (¬1)؛ لأن الوالد إذا أنكر شيئًا من أحوال ولده يقول له ذلك كثيرا، يريد بذلك أنه لا يشبهه لا أنه ليس مخلوقا من مائه، فلا يكون قذفا لأمه مع الاحتمال إلا مع إرادته أنه ليس منه بخلاف الأجنبي. وقوله: أنت أزنى الناس أو أزنى من فلانة أو فلان صريح في المخاطب فقط، لاستعمال أفعل في المنفرد بالفعل كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} (¬2)، وقوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ ¬
أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} (¬1)، وقولهم العسل أحلى من النحل. وكنايته والتعريض به: زنت يداك أو زنت رجلاك، لحديث: "العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه" (¬2)، ويا خنيث يا نظيف يا عفيف، ولامرأة: يا قحبة يا فاجرة يا خبيثة، ولامرأة شخص: قد فضحته وغطيت رأسه أو نكست رأسه وجعلت له قرونا وعلقت عليه أولادا من غيره وأفسدت فراشه. وقوله لعربي: يا نبطي يا فارسي يا رومي، وقوله لأحدهم: يا عربي، وقوله لمن يخاطبه (¬3): يا حلال ابن حلال ما يعرفك الناس بالزنى، أو ما أنا بزان أو ما أمي بزانية، أو يسمع من يقذف شخصا فيقول له: صدقت، أو صدقت فيما قلت، أو أخبرني فلان أنك زنيت، أو أشهدني فلان أنك زنيت ويكذبه فلان، قال أحمد في رواية حنبل: لا أرى الحد إلا على من صرح بالقذف أو الشتيمة. (¬4) فإن فسره بمحتمل غير القذف كقوله: أردت بالنبطي نبطي اللسان ونحوه ¬
وبالرومي رومي الخلقة، وبقول أفسدت فراشه: أي أحرقته أو أتلفته، وبقولي: علقت عليه أولادا من غيره التقطت أولادا ونسبتهم إليه، وبمخنث أي فيه طباع التأنيث أي التشبه بالنساء، وبقحبة أنها تتصنع للفجور ونحوه قبل منه وعزر لارتكابه معصية لا حد فيها ولا كفارة. (و) كما (يعزر بنحو) قوله: (يا كافر، يا ملعون، يا أعور، يا أعرج) يا فاسق، يا فاجر، يا حمار، يا تيس، يا رافضي، يا خبيث البطن أو يا خبيث الفرج، يا عدو اللَّه، يا كذاب، يا خائن، يا شارب الخمر، يا مخنث، يا قرنان (¬1)، يا قواد ونحوها يا ديوث (¬2)، قال إبراهيم الحربي (¬3): الديوث الذي يدخل الرجال على امرأته. (¬4) والقواد عند العامة: السمسار في الزنى. وإن قذف أهل بلدة أو جماعة لا يتصور الزنى منهم عزر لأنه لا عار عليهم ¬
بذلك للقطع بكذب القاذف.
فصل في التعزير
فصل في التعزير وهو لغة: المنع، ومنه التعزير بمعنى النصرة (¬1)، كقوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} (¬2) لمنع الناصر المعادي والمعاند لمن ينصره. واصطلاحا: التأديب لأنه يمنع مما لا يجوز فعله (¬3). (ويجب التعزير) على كل مكلف، نص عليه في سب صحابي (¬4)، وكحد، وكحق آدمي طلبه (في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة)، كمباشرة دون فرج، وإتيان امرأة امرأة، وسرقة لا قطع فيها لفقد حرز ونقص نصاب، وكجناية لا قود فيها كصفع ووكز، وكقذف بغير زنا كقوله: يا فاسق، يا شاهد زور، ونحو ذلك، وكلعنه وليس لمن لعن ردها على من لعنه، وكدعاء عليه وشتمه بغير فرية، وكقوله: اللَّه أكبر عليك، وخصمك اللَّه، وكذا ترك الواجبات، ولا يحتاج في إقامة تعزير إلى مطالبة؛ لأنه مشروع للتأديب، فيعزر من سب صحابي ولو كان له وارث ولم يطالب به، وفي سقوطه ¬
بعفو مجني عليه خلاف. (ومرجعه) أي التعزير (إلى اجتهاد الإِمام) ولا يزاد فيه على عشرة نصا (¬1)، لحديث أبي بردة (¬2) مرفوعا: "لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود اللَّه" متفق عليه (¬3) , وللحاكم نقصه عن العشرة؛ لأنه عليه السلام قدر أكثره ولم يقدر أقله فيرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم بحسب حال الشخص. ويشهر لمصلحة نقله عبد اللَّه في شاهد زور (¬4). ويكون التعزير أيضا بالحبس والصفع والتوبيخ والعزل عن الولاية وإقامته من المجلس حسب ما يراه الحاكم، ويصلبه حيا, ولا يمنع من أكل ووضوء ويصلي بالإيماء ولا يعيد. ويحرم تعزير بحلق لحية وقطع طرف وجرح؛ لأنه مثلة، وبأخذ مال أو إتلافه؛ لأن الشرع لم يرد بشيء من ذلك عمن يقتدى به. ¬
ولا يحرم تعزير بتسويد وجه ولا بأن ينادى عليه بذنبه، ويطاف به مع ضربه، قال أحمد في شاهد الزور (¬1) فيه عن عمر: "يضرب ظهره، ويحلق رأسه، ويسخم (¬2) وجهه، ويطاف به ويطال حبسه" (¬3). ومن قال لذمي: يا حاج أو لعنه بغير موجب أدب. ومن عرف بأذى الناس حتى بعينه حبس حتى يموت أو يتوب، ونفقته من بيت المال ليدفع ضرره، وقال المنقح: لا يبعد أن يقتل العائن إذا كان يقتل بعينه غالبا، وأما ما أتلفه فيغرمه انتهى. (¬4) وفي "شرح منازل السائرين" لابن القيم (¬5): إن كان ذلك بغير اختياره بل غلب على نفسه لم يقتص منه وعليه الدية، وإن عمد ذلك وقدر على رده وعلم أنه يقتل به ساغ للوالي أن يقتله بمثل ما قتل به فيعينه إن شاء كما هو أعان المقتول، وأما قتله بالسيف قصاصا فلا؛ لأن هذا ¬
ليس مما يقتل غالبا ولا هو مماثل للجناية، وفرق بينه وبين الساحر من وجهين قال: وسألت شيخنا عن القتل بالحال هل يوجب القصاص؟ فقال: للولي أن يقتله بالحال كما قتل به. ويعزر بعشرين سوطا بشرب مسكر في نهار رمضان مع الحد، لما روى أحمد: "أن عليا أتي بالنجاشي (¬1) قد شرب خمرا في رمضان، فجلده ثمانين الحد، وعشرين سوطا لفطره في رمضان" (¬2) , ومن وطئ أمة امرأته حد ما لم تكن أحلتها له فيجلد مائة إن علم التحريم، لحديث أبي داود عن حبيب بن سالم (¬3): "أن رجلا يقال له: عبد الرحمن بن حبيب وقع على جارية ¬
امرأته، فرفع إلى النعمان بن بشير (¬1) وهو أمير على الكوفة فقال: لأقضين فيك بقضية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة، وإن لم تكن أحلتها لك رجمتك بالحجارة، فوجدوها أحلتها فجلده مائة" (¬2)، وإن ولدت منه لم يلحقه نسبه لانتفاء الملك والشبهة، ولا يسقط حد بإباحة في غير هذا الموضع، ومن وطئ أمة له فيها شرك عزر بمائة سوط إلا سوطا نصا (¬3)، لينتقص عن حد الزنا, وللحاكم نقص التعزير فيما سبق بحسب اجتهاده. ومن استمنى من رجل أو امرأة لغير حاجة حرم وعزر عليه؛ لأنه معصية، وإن فعله خوفا من الزنا أو اللواط فلا شيء عليه، ولا يباح إلا إذا لم يقدر ¬
على نكاح ولو لأمة، وقياسه المرأة فلا يباح لها إلا إذا لم يرغب أحد في نكاحها.
فصل في حد المسكر
فصل في حد المسكر وهو اسم فاعل من السكر، وهو اختلاط العقل. (¬1) (وكل شراب مسكر) خمر (يحرم) شرب قليله وكثيره لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (¬2)، وحديث ابن مسعود مرفوعا: "إن اللَّه قد حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده شيء فلا يشرب ولا يبع، فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها" رواه مسلم مختصرا (¬3)، وأجمع المسلمون على تحريم الخمر (¬4)، لكن اختلفوا فيما يقع عليه اسمه. (مطلقا) أي سواء كان من العنب أو الشعير أو غيرهما، لحديث: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" رواه أحمد وأبو داود (¬5)، وعن عائشة ¬
مرفوعا: "كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام" رواه أبو داود والترمذي وقال: "حسن صحيح" (¬1)، والفرق -بالتحريك-: مكيال يسع ستة عشر رطلا (¬2)، وعن ابن عمر مرفوعا: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" رواه أحمد وغيره (¬3)، وعن عمر: "نزل تحريم ¬
الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والبر والشعير، والخمر ما خامر العقل" متفق عليه (¬1). ولو شربه لعطش لم يجز؛ لأنه لا يحصل به ري بخلاف ماء نجس فيجوز شربه لعطش عند عدم غيره، ولا يجوز استعماله لدواء (إلا لـ[دفع] (¬2) لقمة غص بها) ولم يجد غيره (مع خوف تلف) فيجوز لأنه مضطر، (ويقدم عليه) أي الخمر في دفع لقمة غص بها (بول) لوجوب (¬3) الحد باستعمال المسكر دون البول، ويقدم عليهما ماء نجس؛ لأن أصله مطعوم بخلاف البول. (فإذا شربه) أي المسكر أو شرب ما خلط به ولم يستهلك فيه أو استعط (أو احتقن به) أو أكل عجينا لت به (مسلم مكلف) لا صغير ولا مجنون (عالما أن كثيره يسكر) -ويصدق إن قال: لم أعلم- (مختارا) -فإن أكره عليه لم يحد-، وصبره على الأذى أفضل من شربها مكرها نصا (¬4)، وكذلك كل ما جاز لمكره، وإن أكره بالقتل تعين عليه الفعل ولم يجز له التخلف؛ لأنه إلقاء بنفسه إلى التهلكة، أو وجد مسلم سكران، أو تقيأ الخمر (حد)؛ لأنه لم يسكر، أو تقيأها إلا وقد شربها (حر) وجد منه شيء مما تقدم (ثمانين) جلدة، لما روى الجوزجاني ¬
والدارقطني وغيرهما أن عمر: "استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين، فضرب عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام" (¬1)، وعن علي أنه قال في المشورة: "إنه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحدوه حد المفتري" (¬2)، (و) حد (قن نصفها) أي أربعين جلدة، ذكرا كان أو أنثى ولو مكاتبا أو مدبرا أو أم ولد، ولو ادعى شاربه جهل وجوب الحد حيث علم التحريم. ويعزر من وجد منه رائحة الخمر ولا يحد لاحتمال أنه تمضمض بها أو ظنها ماء فلما صارت في فيه مجها ونحوه. ويعزر من حضر شربها لحديث ابن عمر مرفوعا: "لعن اللَّه الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه" رواه أبو داود (¬3)، ولا تقبل دعوى الجهل بالتحريم ممن ¬
نشأ بين المسلمين؛ لأنه لا يكاد يخفى، بخلاف من نشأ ببادية بعيدة وحديث عهد بالإسلام فيقبل منه ذلك لاحتمال صدقه. (ويثبت) شرب مسكر (بإقراره) به (مرة كقذف)؛ لأن كلا منهما لا يتضمن إتلافا، بخلاف زنا وسرقة، (أو) بـ (شهادة عدلين) على الشرب أو الإقرار به ولو لم يقولا: شرب مختارا عالما بتحريمه لأنه الأصل، ويقبل رجوع مقر به فلا يحد وتقدم (¬1). (وحرم عصير) عنب (ونحوه إذا غلا) كغليان القدر بأن قذف بزبده نصا (¬2)، وظاهره ولو لم يسكر؛ لأن علة التحريم الشدة الحادثة فيه وهي توجد بوجود الغليان، وعن أبي هريرة قال: "علمت أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، ثم أتيته به فإذا هو ينش (¬3) فقال: اضرب بهذا الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن باللَّه واليوم الآخر" رواه أبو ¬
داود والنسائي (¬1). (أو) أي وحرم عصير (أتى عليه ثلاثة أيام) بلياليهن وإن لم يغل نصا (¬2)، لحديث: "اشربوا العصير ثلاثا ما لم يغل" (¬3)، وعن ابن عمر في العصير: "اشربه ما لم يأخذه شيطانه، قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: ثلاثا" حكاه أحمد وغيره (¬4)، ولحصول الشدة في الثلاث غالبها وهي خفية تحتاج لضابط والثلاث تصلح لذلك فوجب اعتبارها بها. وإن طبخ عصير قبل تحريم حل إن ذهب بطبخه ثلثاه فأكثر نصا (¬5)، ¬
وذكره أبو بكر إجماع المسلمين (¬1)؛ لأن أبا موسى: "كان يشرب من الطلاء (¬2) ما ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه" رواه النسائي (¬3) وله مثله عن عمر (¬4) وأبي الدرداء (¬5) , ولذهاب أكثر رطوبته فلا يكاد يغلي فلا يحصل فيه الشدة بل يصير كالرب (¬6). ويكره الخليطان كنبيذ تمر مع زبيب أو بسر مع تمر أو رطب، لحديث جابر مرفوعا: "نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعا، ونهى أن ينبذ البسر والرطب جميعا" رواه الجماعة إلا الترمذي (¬7). ¬
ولا يكره انتباذ في دباء -بضم الدال وتشديد الباء- أي القرع، ولا في حنتم أي جرار خضر، ولا في نقير أي ما حفر من خشب كقصعة وقدح، ولا في مزفت أي ملطخ بالزفت (¬1) لحديث بريدة مرفوعا: "كنت نهيتكم عن الشرب إلا في ظروف الأدم (¬2)، فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا" رواه أحمد ومسلم (¬3). ¬
ومن تشبه بشراب الخمر في مجلسه وآنيته حرم وعزر ولو كان المشروب لبنا.
فصل في القطع في السرقة
فصل في القطع في السرقة أجمعوا عليه (¬1) لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬2) وحديث عائشة مرفوعا: "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا" (¬3)، إلى غيره من الأخبار. (ويقطع السارق بثمانية شروط): - أحدها: (السرقة) لأنه تعالى أوجب القطع على السارق فإذا لم توجد السرقة لم يكن الفاعل سارقا، (وهي): أي السرقة (أخذ مال معصوم خفية) من مالكه أو نائبه، مأخوذة من استراق السمع ومسارقة النظر إذا استخفى بذلك (¬4)، فيقطع الطرار وهو: من بط جيبا أو كما ¬
أو غيرهما (¬1) وأخذ منه نصابا، وكذا يقطع جاحد عارية قيمتها نصاب لحديث ابن عمر: "كانت مخزومية (¬2) تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقطع يدها" رواه أحمد وغيره (¬3)، وعن عائشة مثله، رواه أحمد ومسلم (¬4). ولا يقطع جاحد وديعة ولا منتهب لحديث جابر: "ليس على المنتهب قطع" رواه أبو داود (¬5) ولا مختلس (¬6) ولا غاصب ولا خائن لحديث: "ليس ¬
على الخائن والمختلس قطع" رواه أبو داود والترمذي (¬1)، وإذا لم يقطع الخائن والمختلس فالغاصب أولى. (و) الشرط الثاني: (كون سارق مكلفا)؛ لأن غير المكلف مرفوع عنه القلم، (مختارا) لأن المكره معذور، (عال بمسروق و) بـ (تحريمه) أي المسروق عليه فلا قطع على سارق منديل بطرقه نصاب مشدود لم يعلمه، ولا بسرقة جوهر يظن قيمته دون نصاب فبانت أكثر؛ لأنه لا يرفه إلا خواص الناس. (و) الشرط الثالث: (كون مسروق مالا)؛ لأن غير المال ليس له حرمة المال ولا يساويه فلا يلحق به، والأخبار مقيدة للآية، (محترما)؛ لأن غير المحترم كمال الحربي تجوز سرقته. ولو كان المسروق من غلة وقف وليس السارق من مستحقيه؛ لأنه مال محترم لغيره. ¬
ولا يقطع إن سرق من سارق أو غاصب ما سرقه أو غصبه؛ لأنه لم يسرقه من مالكه ولا نائبه. وما أصله الإباحة كملح وكلأ ونحوهما كغيره فيقطع سارقه إذا بلغت قيمته نصابًا للعمومات سوى ماء فلا يقطع بسرقته؛ لأنه لا يتمول عادة، وسوى سرجين (¬1) نجس لأنه ليس بمال. ويقطع بسرقة كتب علم؛ لأنها مال حقيقة، ويقطع بسرقة قن نائم أو أعجمي ولو كانا كبيرين وبسرقة قن صغير أو مجنون مطلقًا، لما روي عن عائشة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أتي برجل يسرق الصبيان، ثم يخرج بهم فيبيعهم في أرض أخرى، فأمر رسول اللَّه بيده فقطعت" (¬2). ولا يقطع بسرقة مكاتب ولا أم ولد ولا حر ولو صغيرًا؛ لأنه ليس بمال، ولا بسرقة مصحف؛ لأن المقصود منه ما فيه من كلام اللَّه تعالى ولا يحل أخذ العوض ¬
عنه (¬1)، ولا بسرقة ما على مصحف أو صغير من حلي ونحوه ككيس مصحف وثوب صبي ولو بلغت قيمته نصابًا؛ لأنه تابع لما لا يقطع بسرقته، ولا بسرقة كتب بدع وتصاوير كسائر الكتب المحرمة؛ لأنها واجبة الإتلاف، ولا بسرقة آلة لهو ونحو ذلك؛ لأنه معصية كالخمر، ولا بآنية فيها خمر أو ماء لاتصالها بما لا قطع فيه. (و) الشرط الرابع: (كونه) أي المسروق (نصابا وهو) أي نصاب السرقة (ثلاثة دراهم فضة) خالصة أو تخلص من فضة مغشوشة (أو ربع مثقال ذهبا) ويكفي الوزن من الفضة الخالصة أو التبر (¬2) الخالص ولو لم يضربا فلا يقطع بسرقة ما دون ذلك، لحديث: "لا تقطع اليد إلا في ربع دينار فصاعدًا" رواه أحمد ومسلم وغيرهما (¬3)، وحديث عائشة مرفوعًا: "اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدينار اثني عشر درهمًا" رواه أحمد (¬4) وهذان يخصصان عموم الآية، وأما حديث ¬
أبي هريرة مرفوعًا: "لعن اللَّه السارق يسرق العمل فتقطع لده، ويسرق البيضة فتقطع يده" متفق عليه (¬1) فيحمل على حبل يساوي ذلك، وكذا البيضة يحمل أن يراد بها بيضة السلاح وهي تساوي ذلك جمعًا بين الأخبار، ويكمل أحدهما بالآخر، فلو سرق درهمًا ونصف درهم من خالص الفضة وثمن دينار من خالص الذهب قطع؛ لأنه سرق نصابًا. (أو ما) تبلغ (قيمته أحدهما) أي نصابي الذهب والفضة من غيرهما كثوب ونحوه يساوي ذلك، لحديث ابن عمر: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قطع يد ¬
سارق سرق برنسا من صفة النساء (¬1) قيمته ثلاثة دراهم" رواه أحمد وغيره (¬2)، وعن ابن عمر أَيضًا: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قطع في مجن (¬3) قيمته ثلاثة دراهم" رواه الجماعة (¬4)، وفي رواية: "لا تقطع يد السارق في ما دون ثمن ¬
المجن قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار" رواه النسائي (¬1)، وهذا يدل على أن كلا من النقدين أصل، والمجن الترس. وتعتبر القيمة حال إخراجه من الحرز اعتبارا بوقت السرقة؛ لأنه وقت الوجوب لوجود السبب فيه لا ما حدث بعد، فلو نقصت قيمة مسروق بعد إخراجه قطع لوجود النقص بعد السرقة، كما لو نقصت قيمته باستعماله. ولا يقطع إن أتلفه في حرزه باكل أو غيره أو نقصه بذبح أو غيره فنقصت قيمته عن النصاب ثم أخرجه فلا يقطع لما تقدم. وإن ملكه سارق ببيع أو هبة أو نحوهما بعد إخراجه من حرزه لم يسقط القطع بعد رفعه للحاكم، وليس للمسروق منه العفو عن السارق نصا (¬2)، لحديث صفوان بن أمية (¬3): "أنه نام على ردائه في المسجد، فأخذ من ¬
تحت رأسه، فجاء بسارقه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأمر بقطعه، قال صفوان: يا رسول اللَّه لم أرد هذا، ردائي عليه صدقة، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: فهلا قبل أن تأتيني به" رواه ابن ماجه والجوزجاني (¬1). وإن سرق فرد خف قيمة كل منهما منفردًا درهمان وقيمتهما معا عشرة لم يقطع؛ لأنه لم يسرق نصابًا، وعليه -إن تعذر رد الفرد- ثمانية دراهم قيمة الفرق المتلف درهمان ونقص التفرقة ستة دراهم، وهذا جزء من كتاب واحد [ونظائره كـ] (¬2) مصراعي باب. ويضمن متعد ما في وثيقة من نحو دين أتلفها إن تعذر استيفاؤه بدون إحضارها، وإن كانت عنده أمانة وتلفت بلا تعد ولا تفريط لم يضمن. وإن اشترك جماعة في سرقة نصاب قطعوا كلهم لوجود سبب القطع منهم، كالقتل حتى من لم يخرج منهم نصابًا كاملا لاشتراكهم في هتك الحرز وإخراج النصاب، ولو لم يقطع بعضهم لشبهة أو غيرها قطع الباقي. ويقطع سارق نصاب لجماعة لوجود السرقة والنصاب كما لو كان رب المال واحدا. وإن هتك اثنان حرزا وفي خلاه وأخرج أحدهما المال دون الآخر قطعًا ¬
نصا (¬1)؛ لأن المخرج أخرجه بقوة صاحبه ومعونته أو دخل أحدهما فقربه من النقب وأدخل الآخر يده فأخرجه، أو وضعه وسط النقب فأخذه الخارج منهما قطعًا لما سبق. وإن رماه إلى الخارج أو ناوله إياه فأخذه أولا قطع الداخل منهما وحده؛ لأنه المخرج للنصاب فاختص القطع به. وإن هتكه أحدهما وحده ودخل الآخر فأخرج المال فلا قطع عليهما؛ لأن الأول لم يسرق والثاني لم يهتك الحرز. ومن هتك الحرز وأمر غير مكلف بإخراج النصاب فأخرجه قطع الآمر؛ لأن غير المكلف لا حكم لفعله. ولو علم إنسان قردا أو نحوه السرقة فسرق قليلًا أو كثيرا فعلى معلمه الغرم دون القطع؛ لأنه لم يهتك الحرز. (و) الشرط الخامس: (إخراجه) أي النصاب (من حرز مثله) لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رجلا من مزينة سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الثمار فقال: ما أخذ من غير أكمامه واحتمل ففيه قيمته ومثله معه، وما كان من الجران (¬2) ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن" رواه أبو داود وابن ¬
ماجه (¬1)، وهو مخصص للآية فلو سرق من غير حرز فلا قطع. (وحرز كل مال ما حفظ به) ذلك المال (عادة) لأن معنى الحرز: الحفظ، ومنه احترز من كذا (¬2)، ويختلف الحرز باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره وقوته؛ لأنه لما ثبت بالشرع أعتباره من غير تنصيص على بيانه علم أنه رد ذلك إلى العرف؛ لأنه طريق إلى معرفته رجع إليه كما رجع إلى معرفة القبض والفرقة في البيع. فحرز جوهر ونقد وقماش في الأبنية الحصينة المسكونة من البلد بدار ودكان ¬
وراء غلق وثيق من قفل خشب أو حديد، فإن كانت الأبواب مفتحة ولا حافظ فيها فليست حرزا، وإن كان فيها خزائن مغلقة فالخزائن حرز لما فيها. وصندوق بسوق وثم حارس حرز، وحرز خشب وحطب الحظائر (¬1)، وحرز ماشية من إبل وبقر وغنم الضمير جمع صيرة أي حظيرة الغنم (¬2)، وحرز ماشية في مرعى براع يراها غالبًا فما غاب عن مشاهدته خرج عن الحرز، وحرز سفن في شط بربطها به على العادة، وحرز إبل باركة معقولة بحافظ حتى نائم، فإن لم تكن معقولة فبحافظ يقظان، وحرز بيوت بصحراء وبيوت في بساتين بملاحظ يراها إن كانت مفتوحة، وإن كانت مغلقة فبنائم فيها، وهذا خيمة وبيت شعر، وحرز ثياب في حمام وأعدال وغزل بسوق أو في خان (¬3) بحافظ يراها، كقعوده على متاع وتوسده، فإن فرط حافظه فنام أو اشتغل فلا قطع على سارق؛ لأنه لم يسرق من حرز وضمن حافظ معد للحفظ وإن لم يستحفظ لتفريطه، وأما من ليس معدا للحفظ كجالس بمسجد وضع عنده متاعه فلا ضمان عليه ما لم يستحفظ. ويقبل صريحا ويفرط. وحرز كفن مشروع بقبر على ميت، فمن نبش قبرًا وأخذ منه كفنا أو بعضه ¬
يساوي نصابًا قطع لعموم الذي؛ ، وقول عائشة: "سارق أمواتنا كسارق أحيائنا" (¬1)، وروي عن ابن الزبير أنه قطع نباشا (¬2)، فإن كان الكفن غير مشروع كان كفن الرجل في أكثر من ثلاث لفائف والمرأة في أكثر من خمسة فسرق الزائد عن المشروع، أو ترك الميت في تابوت فأخذ التابوت، أو ترك معه طيب مجموع، أو نحو ذهب أو فضة فأخذ فلا قطع؛ لأنه سفه وإضاعة مال فلا يكون محرزا بالقبر، وهذا إن أكل الميت ونحوه وبقي الكفن فلا قطع على سارقه كما لو زال نائم بنحو مسجد عن ردائه ثم سرق، والكفن ملك للميت والخصم فيه الورثة لقيامهم مقامه، فإن عدموا فنائب الإِمام وإنه ولي من لا ولي له. وحرز باب تركيبه بموضعه مفتوحا كان أو مغلقا لأنه العادة، وحرز حلقته بتركيبها فيه، وتأزير (¬3) وجدار وسقف كباب، ونوم على رداء ونعل برجل حرز، فيقطر سارقه إذا بلغ نصابًا، وكذا لو سرق باب الكعبة. ¬
ولا يقطع بسرقة ستارة الكعبة الخارجة نصا (¬1)، ولو كانت مخيطة عليها، ولا بسرقة قناديل مسجد وحصره ونحوهما مما هو لنفع المسلمين، كقفص يضعون نعالهم فيه وخابية (¬2) يشربون منها إن كان السارق مسلمًا؛ لأن له فيه حقًا كسرقته من بيت المال، فإن كان ذميًا قطع. (و) الشرط السادس: (انتفاء الشبهة) فلا قطع بسرقة من مال عمودي نسبه ولا من مال له فيه شرك أو لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه، ولا بسرقة من غنيمة لأحد ممن ذكر فيها حق قبل القسمة، ولا بسرقة مسلم من بيت المال لقول عمر وابن مسعود: "من سرق من بيت المال فلا قطع، ما من أحد إلا وله في هذا المال حق" (¬3). ¬
ولا قطع بسرقة سيد من مكاتبه وعكسه كقنه إذ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وروى ابن ماجه عن ابن عباس: "أن عبدًا من رقيق الخمس سرق من الخمس، فرفع إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم يقطعه، وقال: مال اللَّه سرق بعضه بعضًا" (¬1). ولا قطع بسرقة زوج أو زوجة من مال الآخر ولو أحرز عنه، رواه سعيد عن عمر بإسناد جيد (¬2)، ولأن كلا منهما يرث صاحبه بغير حجب وينبسط في ماله أشبه الولد مع الوالد، وكما لو منعها نفقتها. ولا قطع بسرقة مسروق منه أو مغصوب منه مال سارق أو غاصب من الحرز الذي فيه العين المسروقة أو المغصوبة؛ لأن لكل منهما شبهة في هتك الحرز إذن لأخذ عين ماله، فإذا هتكه صار كأن المسروق من ذلك الحرز أخذ من غير حرز، وإن ¬
سرقه من حرز آخر أو من مال من له عليه دين قطع؛ لأنه لا شبهة له في المال ولا الحرز لا إن سرق من مال مدينه بقدر دينه لعجزه عن استخلاصه بحاكم لإباحة بعض العلماء له الأخذ إذن، فإن سرق أكثر من دينه وبلغ الزائد نصابًا قطع. ومن سرق عينا وادعى ملكها أو ملك بعضها لم يقطع، وسماه الشافعي: السارق الظريف (¬1)؛ لأن ما ادعاه محتمل فهو شبهة في درء الحد، أو ادعى الإذن في دخول الحرز لم يقطع لما تقدم، ويأخذها مسروق منه بيمينه أنها ملكه وحده حيث لا بينة. (و) الشرط السابع: (ثبوتها) أي السرقة (بشهادة عدلين) لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (¬2) والأصل عمومه لكن خولف فيما فيه دليل خاص للدليل فبقي فيما عداه على عمومه، (يصفانها) أي السرقة في شهادتهما، وإلا لم يقطع؛ لأنه حد فيدرء بالشبة؛ كالزنا، ولا تسمع شهادتهما قبل الدعوى من مالك مسروق أو من يقوم مقامه. (أو) بـ (إقرار) السارق (مرتين)؛ لأنه يتضمن إتلافا فاعتبر تكرار الإقرار فيه كالزنا، واحتج أحمد في رواية مهنا بما حكاه عن القاسم بن عبد الرحمن (¬3) عن ¬
علي: "لا تقطع يد السارق حتى يشهد على نفسه مرتين" (¬1)، (مع وصفـ) ـها، أي السرقة، فيصفها السارق في كل مرة لاحتمال ظنه وجوب القطع عليه مع فقد بعض شروطه، (ولا يرجع عن إقراره) (¬2) حتى يقطع، فإن رجع ترك، ولا بأس بتلقجنه الإنكار لحديث أبي أمية المخزومي (¬3): "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أتي بلص قد اعترف فقال: ما إخالك سرقت، قال: بلى، فأعاد عليه مرتين قال: بلى، فأمر به فقطع" رواه أبو داود (¬4). ¬
(و) الشرط الثامن: (مطالبة مسروق منه أو) مطالبة (وكيله أو) مطالبة (وليه) إن كان محجورا عليه لحظه؛ لأن المال يباح بالبذل والإباحة فيحتمل إباحة مالكه إياه أو إذنه له في دخول حرزه ونحوه مما يسقط القطع، فإذا طالب رب المال به زال هذا الاحتمال وانتفت الشبهة. ¬
فصل
فصل (فإذا وجب) القطع (قطعت يده اليمنى) لقراءة ابن مسعود: {اقطعوا أيمانهما} (¬1) وهو إما قراءة أو تفسير سمعه من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يثبت في القرآن شيئًا برأيه، ولأنه قول أبي بكر وعمر (¬2)، ولا مخالف لهما من الصحابة، ولأن السرقة جناية اليمنى غالبًا فتقطع (من مفصل كفه) لقول أبي بكر وعمر: "تقطع يمنى السارق من الكوع" (¬3)، ولأن اليد تطلق عليها إلى الكوع، وإلى المرفق، وإلى المنكب، وإرادة ما سوى الأول مشكوك فيه فلا قطع مع الشك، (وحسمت) وجوبًا لقوله عليه السلام في سارق: "اقطعوه واحسموه" (¬4)، ¬
وحسمها بغمسها في زيت مغلي لتنسد أفواه العروق فينقطع الدم إذ لو ترك بلا حسم لنزف الدم فأدى إلى موته، وسن تعليقها في عنقه ثلاثة أيام إن رآه الإمام لتتعظ السراق به. (فإن عاد) من قطعت يمناه إلى السرقة (قطعت رجله اليسرى من مفصل كعبه) وترك عقبة. أما قطع الرجل فلحديث أبي هريرة مرفوعًا في السارق: "إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله" (¬1)، ولأنه قول أبي بكر (¬2) وعمر (¬3) ولا مخالف لهما من الصحابة، وأما كونها اليسرى فقياسا ¬
على المحاربة، ولأنه أرفق به لأن المشي على الرجل اليمنى أسهل وأمكن له من اليسرى، وأما كونه من مفصل كعبه وترك عقبة فلما روي عن علي: "أنه كان يقطع من شطر القدم ويترك له عقبا يمشي عليها" (¬1) (وحسمت) لما تقدم في يده، وينبغي في قطعه أن يقطع بأسهل ما يمكن بأن يجلس ويضبط لئلا يتحرك فيجنى على نفسه، وتشد يده بحبل وتجر حتى يتيقن المفصل ثم توضع السكين وتحر بقوة ليقطع في مرة. (فإن عاد) فسوق بعد قطع يده ورجله حبس حتى يتوب، ويحرم أن يقطع لما روي عن أبي سعيد المقبري (¬2) عن أَبيه عن جده قال: "حضرت علي بن أبي طالب أتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين، قال: أقتله إذا وما عليه القتل بأي شيء يأكل الطعام؟ بأي شيء يتوضأ للصلوات؟ بأي شيء يغتسل من جنابته؟ بأي شيء يقوم لحاجته؟ فرده إلى السجن أيامًا، ثم أخرجه فاستشار أصحابه فقالوا: مثل قولهم الأول، وقال لهم مثل ما قال أول مرة، فجلده جلدًا شديدا، ثم أرسله" رواه ¬
سعيد (¬1)، ولأن في قطع يده الأخرى تفويتا لمنفعة جنس اليد وذهاب عضوين من شق، وحكمة حبسه كله عن السرقة وتعزيره. فلو سرق شخص ويمينه ذاهبة أو رجله اليسرى ذاهبة قطع الباقي منهما؛ لأن منفعة الجنس لا تتعطل بذلك وليسا من شق واحد، وإن كان الذاهب يده اليسرى ورجله اليمنى لم يقطع منه شيء لتعطيل منفعة الجنس وذهاب عضوين من شق بذلك القطع لو فعل، ولو كان الذاهب يديه أو يسراهما لم تقطع رجله اليسرى لذهاب عضوين من شق، ولو كان الذاهب رجليه أو يمناهما قطعت يمنى يديه لأنها الآلة ومحل النص ولا يذهب بقطعها منفعة جنسها، ولو ذهبت بعد سرقته يمنى يديه أو يسرى يديه أو مع رجليه أو أحدهما سقط القطع، أما في الأولى فلتلف محل القطع كما لو مات من عليه قود، وأما سقوطه في الثانية فلذهاب منفعة الجنس بقطع يمناه، وأما في الأخيرتين فكذلك وأولى. والشلاء من يد أو رجل ولو أمن التلف بقطعها كمعدومة، وما ذهب معظم نفعها لمن يد أو رجل وإن ذهب منها ثلاث أصابع كمعدومة لا ما ذهب منها خنصر وبنصر فقط، أو ذهب إصبع سواهما. ¬
وإن وجب قطع يمناه فقطع قاطع يسراه بلا إذنه عمدًا فعليه القود، وإلا يتعمد فعليه دية البدل؛ لأنه خطأ ولا تقطع يمنى السارق بعد قطع يسراه لئلا يفضي إلى تعطيل منفعة الجنس. ويجتمع على سارق القطع والضمان؛ لأنهما حقان لمستحقين فجاء اجتماعهما كالدية والكفارة في قتل الخطأ فيرد ما سرقه لمالكه إن كان باقيًا؛ لأنه عين ماله، وإن تلف فعليه مثل مثلي وقيمة غيره كمغصوب ويعيد ما خرب من حرز لتعديه. وعليه ثمن زيت حسم حفظًا لنفسه إذ لا يؤمن عليها التلف بدونه. (ومن سرق ثمرا) أو طلعا أو جمارا (أو ماشية) في المرعى (من غير حرز غرم قيمته مرتين) لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الثمر المعلق فقال: من أصاب منه بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة (¬1) فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئًا بعد أن تؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" رواه أحمد وغيره (¬2)، قال أحمد: لا أعلم شيئًا يدفعه (¬3)، واحتج أحمد أَيضًا أن عمر: "غرم حاطب ¬
بن أبي بلتعة (¬1) حين نحو غلمانه ناقة رجل من مزيتة مثلي قيمتها" رواه الأثرم (¬2)، ولا تضعف قيمتها في غير ما ذكر، (ولا قطع) عليه لحديث رافع بن خديج (¬3) مرفوعا: "لا قطع في ثمر ولا كثر (¬4) " رواه أحمد وغيره (¬5)، فإن كانت الشجرة بدار محرزه قطع ¬
وأضعفت عليه قيمته مرتين لما تقدم. (ومن لم يجد ما) أي شيئًا (يشتريه أو) ما (يشتري به زمن مجاعة غلاء لم يقطع بسرقة) قال جماعة: ما لم يبذل له ولو بثمن غال، وفي "الترغيب": ما يحيي به نفسه (¬2). ¬
(فصل) في حد قطاع الطريق
(فصل) في حد قطاع الطريق والأصل فيه قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا. . .} الآية (¬1)، قال ابن عباس وأكثر المفسرين: "نزلت في قطاع الطريق من المسلمين" (¬2) لقوله تعالى بعد ذلك: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (¬3) والكفار تقبل توبتهم بعد القدرة عليهم وقبلها، وأما الحد فلا يسقط بالتوبة بعد وجوبه. وهم (¬4): المكلفون اللتزمون من المسلمين وأهل الذمة، -وينتقض به عهدهم- ولو كان المكلف أنثى -الذين يعرضون (¬5) للناس بسلاح ولو عصا أو حجرًا في صحراء أو بنيان أو بحر لعموم الآية، فيغصبون مالا محترما مجاهرة (¬6). (وقطاع الطريق) على أربعة (أنواع): - ¬
أشار للأول بقوله: (فمن منهم قتل مكافئا أو غيره) أي غير مكافئ كما لو قتل من لا يقاد به لو قتله في غير المحاربة (كولد)، وكقن يقتله حر، وكذمي يقتله مسلم (وأخذ المال قتل) لوجوبه لحق اللَّه تعالى كالقطع في السرقة، (ثم صلب) قاتل (مكافئ) يقاد به لو قتله في غير المحاربة لقوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (حتى يشتهر) ليرتدع غيره ثم يترك، ويغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن ولا يقطع مع ذلك؛ لأنه لم يذكر معهما في حديث ابن عباس الذي رواه عنه الشافعي بإسناده: "إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض" (¬1) وروي نحوه مرفوعًا (¬2)، ولأن القتل والقطع عقوبتان تتضمن إحداهما الأخرى؛ لأن إتلاف ¬
البدن يتضمن إتلاف اليد والرجل فاكتفي بقتله كما لو قطع يد إنسان ورجله ثم قتله في الحال. ولو مات محارب أو قتل قبل قتله للمحاربة لم يصلب لعدم الفائدة فيه وهي اشتهار أمره في القتل في المحاربة؛ لأنه لم يقتل فيها. ولا يتحتم قود فيما دون نفس على محارب، فلو قطع يدا أو رجلا ونحوهما فلولي الجناية القود والعفو؛ لأن القود إنما يتحتم إذا قتل؛ لأنه حد المحاربة بخلاف الطرف فإنه يستوفى قصاصا لا حدا. وردء محارب أي مساعده ومعينه إن احتاج إليه وطليع يكشف له حال القافلة ليأتوا إليها كمباشر كاشتراك الجيش في الغنيمة إذا دخلوا دار الحرب وباشر بعضهم القتال ووقف الباقون للحراسة ممن يدهمهم من ورائهم، وكذا العين الذي يرسله ليعرف أحوال العدو وظاهره حتى في المال. ولو قتل بعضهم ثبت حكم القتل في حق جميعهم، وإن قتل بعض وأخذ المال بعض تحتم قتل الجميع وصلبهم كما لو فعل ذلك كل منهم. والصورة الثانية: أشار إليها بقوله: (ومن قتل) من محارب (فقط) لقصد المال (قتل حتما ولا صلب) عليه لما تقدم عن ابن عباس، ولأن جنايتهم بالقتل وأخذ المال تزيد على جنايتهم بالقتل وحده فوجب اختلاف العقوبتين. الصورة الثالثة: ما أشار إليها بقوله: (ومن أخذ المال فقط) فلم وأخذ نصابًا لا شبهة له فيه (قطعت يده) أي يد كل من المحاربين (اليمنى ثم رجله اليسرى في مقام واحد) حتما، ولا ينتظر بقطع أحدهما اندمال الآخر؛ لأنه تعالى أمر بقطعهما بلا تعرض لتأخير والأمر للفور، (وحسمتا) لحديث: "اقطعوه
واحسموه" (¬1)، (وخلي) سبيله لاستيفاء ما لزمه. فلو كانت يده (¬2) اليسرى مفقودة قطعت رجله اليسرى فقط، أو كانت يمينه مقطوعة أو مستحقة في قود قطعت رجله اليسرى فقط لئلا تذهب منفعة جنس اليد، وإن عدم يمنى يديه لم تقطع يمنى رجليه بل يسراهما فقط كما تقدم. وإن حارب ثانية بعد قطع يمنى يديه وشرى رجليه لم يقطع منه شيء لما تقدم في السارق (¬3)، وقياسه أن يحبس حتى يتوب، وتتعين دية لقود لزم بعد محارية لتقديمها بسبقها، وكذا لو مات قبل قتله للمحاربة. الصورة الرابعة: ما أشار إليها بقوله: (وإن أخاف السبيل فقط) فلم يقتل أحدًا ولا أخذ مالا (نفي وشرد) ولو قنا لقوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} (¬4) فلا يترك يأوي إلى بلد حتى تظهر توبته، وتنفى الجماعة متفرقة كل إلى جهة لئلا يجتمعوا على المحاربة ثانيًا. (وشرط) لوجوب حد المحارب ثلاثة شروط: - أحدها: (ثبوت ذلك) أي قطع الطريق (ببينة أو إقرار مرتين) كالسرقة. (و) الثاني: (حرز) بأن يأخذه من يد مستحقه وهو بالقافلة، فلو وجده مطروحا أو أخذه من سارقه أو غاصبه أو منفردا عن قافلة لم يكن محاربًا. ¬
(و) الثالث: (نصاب) يقطع به السارق. (ومن تاب منهم) أي المحاربين (قبل القدرة عليه سقط عنه حق اللَّه تعالى) من صلب وقطع ونفي وتحتم قتل لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وكذا خارجي وباغ ومرتد ومحارب تاب قبل قدرة عليه، وأما من تاب منهم بعد قدرة عليه فلا يسقط عنه شيء مما وجب عليه؛ لمفهوم قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}، (وأخذ بحق آدمي) طلبه من قصاص في نفس أو دونها وغرامة مال ودية ما لا قصاص فيه وحد قذف، وكذا يؤخذ غير حربي من ذمي ومعاهد ومستأمن أسلم بحق اللَّه تعالى إن وجب عليه حال كفره كنذر وكفارة لا حد زنا ونحوه، وحق آدمي طلبه كما قبل الإِسلام. (ومن وجب عليه حق (¬1) للَّه) تعالى من حد سرقة أو زنا أو شرب (فتاب) منه (قبل ثبوته) عند حاكم (سقط) عنه بمجرد توبته قبل إصلاح عمله لقوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)} (¬2)، وقوله بعد ذكر حد السارق: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)} (¬3)، وقوله ¬
عليه السلام: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (¬1)، ولإعراضه عليه السلام عن المقر بالزنا حتى أقر أربعًا، فإن ثبت عند الحاكم لم يسقط بالتوبة لحديث: "تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب" رواه أبو داود والنسائي (¬2). ¬
(ومن أريد) أخذ (ماله) ولو قل (أو) أريدت (نفسه) أي قصدت لتقتل أو يفعل بها الفاحشة (أو) أريدت (حرمته) كامه وأخته أو زوجته ونحوهن لزنا أو قتل فله دفع المزيد بالأسهل، لئلا يؤدي إلى تلفه وأذاه وتسلط الناس بعضهم على بعض، فيفضي إلى الهرج والمرج، ولحديث أبي هريرة قال: "جاء رجل إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار" رواه أحمد ومسلم (¬1). (و) إن (لم يندفع المريد إلا بالقتل أبيح) قتله (ولا ضمان) عليه لظاهر الخبر، ولا يضمن بهيمة سألت عليه ولم تندفع بدون قتل فقتلها دفاعا عن نفسه أو حرمته أو ماله كصغير ومجنون صائل بجامع الصول، ولا يضمن من دخل منزله متلصصا إن لم يندفع بدون قتل. ويجب الدفع عن حرمته إذا أريدت نصا (¬2)، فمن رأى مع امرأته أو ابنته ونحوهما رجلًا يزني بها أو مع ولده ونحوه رجلًا يلوط به وجب عليه قتله إن لم يندفع بدونه؛ لأنه يؤدي به حق اللَّه تعالى من الكف عن الفاحشة وحق نفسه بالمنع عن أهله فلا يسعه إضاعة الحقين. ¬
وكذا يجب في غير فتنة الدفع عن نفسه وعن نفس غيره، ويجب الدفع عن حرمة غيره، وكذا عن ماله مع ظن سلامة الدافع والمدفوع وإلا حرم. ومن عض يد شخص فانتزعها من فمه ولو بعنف فسقطت ثناياه فهدر لحديث عمران بن حصين: "أن رجلا عض رجلا فنزع يده من فمه، فوقعت ثناياه، فاختصموا إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يعض أحدكم يد أخيه كما يعض الفحل، لا دية لك" رواه الجماعة إلا أبا داود (¬1)، ولإتلافها لضرورة دفع شر صاحبها كالصائل. ومن نظر في بيت غيره من خصاص (¬2) باب مغلق ونحوه ولو لم يتعمد لكن ظنه رب البيت متعمدًا فخذف عينه ونحوها فتلفت فهدر، وكذا لو طعنه بعود لا إن رماه بحجر كبير أو رشقه بسهم أو طعنه بحديدة، لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "من اطلع في بيت ففقؤا عينه فلا دية ولا قصاص" رواه أحمد والنسائي (¬3)، وفي ¬
رواية: "من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤا عينه" رواه أحمد ومسلم (¬1)، ولأنه في معنى الصائل بخلاف مستمع وضع أذنه في خصاص (¬2) الباب فليس له قصد إذنه قبل إنذاره اقتصارا على مورد النص، ولأن النظر أبلغ من السمع، فإن أنذره فأبى فله طعنه كدفع الصائل. ¬
فصل
فصل (والبغاة) أي أهل الجور والظلم والعدول عن الحق وهم: (ذوو شوكة يخرجون على الإِمام) ولو غير عدل (بتأويل سائغ) (¬1) ولو لم يكن فيهم مطاع، سموا بغاة لعدولهم عن الحق وما عليه أئمة المسلمين. والأصل في قتالهم قوله تعالي: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (¬2) وحديث: "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم، فاقتلوه" رواه أحمد ومسلم (¬3)، وعن ابن عباس مرفوعًا: "من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فميتته جاهلية" متفق عليه (¬4)، وقاتل علي ¬
أهل النهروان (¬1) فلم ينكره أحد، ومتى اختل شرط من ذلك فهم قطاع طريق. ونصب الإِمام فرض كفاية لحاجة الناس إلى ذلك لحماية البيضة والذب عن الحوزة وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (فيلزمه) أي الإِمام (مراسلتهم) أي البغاة لأنها طريق إلى الصلح ورجوعهم إلى الحق، وروي أن عليًا راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل (¬2) ولما اعتزلته الحرورية (¬3) بعث إليهم عبد اللَّه بن عباس فواضعوه كتاب اللَّه ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة ¬
آلاف (¬1)، (و) يلزمه (إزالة ما يدعونه من شبهة) ليرجعوا إلى الحق، (و) إزالة ما يدعونه من (مظلمة)؛ لأنه وسيلة للصلح المأمور به لقوله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}، فإن نقموا مما لا يحل فعله أزاله، وإن نقموا ما يحل فعله لالتباس الأمر فيه عليهم فاعتقدوا مخالفته للحق بين لهم دليله وأظهر لهم وجهه، لبعث علي ابن عباس للخوارج لما تظاهروا بالعبادة والخشوع وحمل المصاحف في أعناقهم يسألهم عن سبب خروجهم، وبين لهم الحجة التي تمسكوا بها في قصة مشهورة (¬2). (فإن فاؤوا) أي رجعوا عن البغي وطلب القتال تركهم (وإلا) يفيئوا (قاتلهم قادر) لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (¬3)، ويجب على رعيته معونته لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْر ¬
مِنكُمْ} (¬1) وحديث أبي ذر مرفوعًا: "من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" رواه أحمد وأبو دواد (¬2) "وربقة الإسلام -بفتح الراء وكسرها (¬3) - استعارة لما يلزم العنق من حدود الإسلام وأحكامه. فإن استنظروه مدة ورجى فيئتهم أنظرهم وجوبًا حفظًا لدماء المسلمين، وإن خاف مكيدة فلا. ويحرم قتالهم بما يعم إتلافه المقاتل وغيره والمال كمنجنيق ونار، ويحرم استعانة عليهم بكافر؛ لأنه تسليط له على دماء المسلمين إلا لضرورة، كعجز أهل الحق عنهم، وكفعلهم بنا إن لم نفعله بهم، فيجوز رميهم بما يعم إتلافه إذا فعلوه بنا لو لم نفعله، ويحرم أخذ مالهم؛ لأنه مال معصوم، ويحرم أخذ ذريتهم وقتلهم لأنهم معصومون لا قتال منهم ولا بغي، ويحرم قتل مدبرهم وجريحهم ولو من نحو ¬
خوارج إن لم نقل بكفرهم، وروى سعيد عن مروان (¬1) قال: "صرخ صارخ لعلي يوم الجمل: لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح (¬2)، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن" (¬3) وعن عمار (¬4) نحوه (¬5)، وكالصائل، ولأنه قتل من لم يقاتل قال في ¬
"المستوعب" (¬1): "المدبر من انكسرت شوكته لا المتحرف إلى موضع". ومجرم قتل من ترك القتال، ولا قود في قتل من يحرم قتله منهم للشبهة ويضمن بالدية لأنه معصوم. ويكره لعدل قصد رحمه الباغي كأخيه وعمه بقتل لقوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (¬2) وقال الشافعي: "كف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبا حذيفة بن عتبة (¬3) عن قتل أَبيه". (¬4) وتباح الاستعانة على البغاة بسلاح أنفسهم وخيلهم وعبيدهم وصبيانهم لضرورة فقط، ومن أسر منهم ولو صبيًا أو أنثى حبس حتى لا شوكة ولا حرب دفعًا لضررهم عن أهل العدل. ¬
وإذا انقضت الحرب فمن وجد منهم ماله بيد غيره أخذه، ولا يضمن بغاة ما أتلفوه حال حرب على أهل عدل كما لا يضمن أهل عدل ما أتلفوه لبغاة حال حرب؛ لأن عليًا لم يضمن البغاة ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال (¬1)، قال الزهري: "هاجت الفتنة وأصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- متوافرون، فأجمعوا أن لا يقاد أحد ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه (¬2)، ذكره أحمد في رواية الأثرم محتجًا به". (¬3)، ويضمنان ما أتلفاه في غير حرب. وما أخذ البغاة حال امتناعهم من خراج وزكاة وجزية اعتد به لدافعه لهم، فلا يؤخذ منه ثانيًا إذا ظفر به أهل العدل؛ لأن عليًا لما ظفر على أهل البصرة لم يطالبهم بشيء مما جباه البغاة (¬4) وكان ابن عمر وسلمة بن الأكوع يأتيهم ساعي نجدة الحروري (¬5) فيدفعون إليه ¬
زكاتهم (¬1)، ولأن في ترك الاحتساب بذلك ضررا عظيمًا على الرعايا، ويقبل بلا يمين ممن عليه زكاة دعوى دفع زكاة إليهم كدعوى دفعها إلى الفقراء، ولأنها حق للَّه تعالى فلا يستحلف عليها كالصلوات، ولا يقبل دعوى دفع خراج أو جزية إليهم إلا ببينة؛ لأن كلا منهما عوض، والأصل عدم الدفع، وهم في شهادتهم وإمضاء حكم حاكمهم كأهل العدل؛ لأن التأويل السائغ في الشرع لا يفسق به الذاهب إليه، أشبه المخطئ من الفقهاء في فرع، فيقضى بشهادة عدولهم ولا ينقض حكم حاكمهم إلا ما خالف نص كتاب أوسنة أو إجماعًا، ويجوز قبول كتابه وإمضائه إن كان أهلا للقضاء، وأما الخوارج وأهل البدع إذا خرجوا عن الإِمام فلا تقبل لهم شهادة ولا ينفذ لقضائهم حكم لفسقهم. وإن استعانوا بأهل ذمة أو أهل عهد انتقصن عهدهم وكانوا كلهم أهل حرب لقتالهم لنا كما لو انفردوا به. ¬
فصل
فصل وإن أظهر قوم رأي الخوارج كتكفير مرتكب الكبيرة وسب الصحابة ولم يخرجوا عن قبضة الإِمام لم يتعرض لهم لما روي: أن عليًا كان يخطب فقال رجل من باب المسجد: لا حكم إلا للَّه تعريضا بالرد عليه في ما كان من تحكيمه فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل، ثم قال: لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد اللَّه أن تذكروا فيها اسم اللَّه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتال (¬1) وتجري الأحكام عليهم كأهل العدل، وإن صرحوا بسب إمام أو سب عدل عزروا كغيرهم. ومن كفر أهل الحق والصحابة واستحل دماء المسلمين بتأويل فهم خوارج بغاة فسقة قدمه في "الفروع" (¬2)، قال الشيخ تقي الدين: "نصوصه صريحة على عدم كفر الخوارج والقدرية (¬3) والمرجئة (¬4) وغيرهم، وإنما ¬
كفر الجهمية (¬1) لا أعيانهم (¬2) قال: وطائفة تحكي عنه روايتين في تكفير أهل البدع مطلقًا حتى المرجئة والشيعة المفضلة لعلي، وعن الإِمام أحمد أيضا: أن الذين كفروا أهل الحق والصحابة واستحلوا دماء المسلمين بتأويل أو غيره كفار (¬3) قال ¬
المنقح: وهو أظهر. انتهى (¬1)، وقال في "الإنصاف" (¬2): وهو الصواب والذي ندين اللَّه به انتهى. وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو رئاسة فهما ظالمتان تضمن كل منهما ما أتلفت على الأخرى. ¬
(فصل) في حكم المرتد
(فصل) في حكم المرتد وهو لغة: الراجع (¬1)، قال تعالى: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} (¬2). (والمرتد) شرعًا: (من كفر) بنطق أو اعتقاد أو فعل أو شك (طوعا ولو) كان (مميزًا) أو هازلا (بعد إسلامه) (¬3) ولو كان إسلامه كرها بحق، كما لا تقبل منه الجزية إذا قوتل على الإسلام فأسلم ثم ارتد. وأجمعوا على وجوب قتل المرتد إن لم يتب (¬4)، لحديث ابن عباس مرفوعًا: "من بدل دينه فاقتلوه" رواه الجماعة إلا مسلمًا (¬5)، وروي عن ¬
أبي بكر وعمر (¬1) وعثمان (¬2) وعلي (¬3) ومعاذ بن جبل (¬4) وخالد بن الوليد (¬5) وغيرهم، وسواء الرجل والمرأة لعموم الخبر، وروى الدارقطني: "أن امرأة يقال لها؛ أم مروان ارتدت عن الإسلام، فبلغ أمرها إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأمر أن تستتاب، فإن تابت، وإلا قتلت" (¬6) وحديث النهي عن قتل المرأة الكافرة (¬7) [فالمراد به الأصلية] (¬8)؛ لأنه ¬
قاله حين رأى امرأة مقتولة وكانت كافرة أصلية، ويخالف الكفر الأصلي الطارئ إذ المرأة لا تجبر على ترك الكفر الأصلي بضرب ولا حبس بخلاف المرتدة. (فمتى ادعى النبوة) أو صدق من ادعاها كفر؛ لأنه مكذب للَّه تعالى في قوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (¬1)، ولحديث: "لا نبي بعدي" (¬2)، وفي الخبر: "لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا، كلهم يزعم أنه رسول اللَّه" (¬3)، (أو سب اللَّه) تعالى، (أو) سب (رسوله) كفر؛ لأنه لا يسبه إلا وهو جاحد به، (أو جحده) أي جحد ربوبيته أو وحدانيته، (أو) جحد (صفة من صفاته) ذاتية له كالعلم والحياة كفر، (أو) جحد (كتابًا) للَّه تعالى، (أو رسولا) مجمعًا عليه، أو ثبت بتواتر الآحاد كخالد بن سنان (¬4)، (أو) جحد (ملكًا) للَّه ¬
تعالى، (أو) جحد وجوب (إحدى أبي في أن الخمس) المشار إليها بقوله: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا" (¬1)، ومثلها الطهارة فيكفر من جحد وجوبها وضوءا كان أو غسلا أو تيمما. (أو) جحد (حكمًا ظاهرا) بين المسلمين، بخلاف فرض السدس لبنت الابن مع بنت الصلب (مجمعًا عليه) إجماعًا قطعيا لا سكوتيا؛ لأن فيه شبهة، كجحد تحريم زنا أو لحم خنزير، وكجحد (¬2) حل خبز ونحوه كلحم مذكاة بهيمة الأنعام والدجاج، أو شك في ذلك، ومثله لا لمجهله لكونه نشأ بين المسلمين أو كان يجهل مثله وعرف وأصر (كفر) لمعاندته للإسلام وامتاعه من قبول الأحكام. ¬
أو سجد لكوكب أو صنم كفر؛ لأنه مشرك باللَّه تعالى، أو أتى بقول أو فعل صريح بالاستهزاء بالدين كفر لقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ. . (66)} (¬1). أو استهزأ بالقرآن، أو ادعى اختلافه، أو اختلاقه، أو القدرة على مثله، أو أسقط حرمته كفر لقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (¬2). وكذا من اعتقد قدم العالم أو حدوث الصانع، أو سخر بوعد أو وعيد أو لم يكفر من وإن بغير الإسلام، أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر. ولا يكفر من حكى كفرًا سمعه ولم يعتقده، ومن تزيا بزي كفر حرم ولم يكفر، وإن ترك مكلف عبادة من العبادات الخمس تهاونًا مع إقراره بوجوبها لم يكفر سواء عزم على أنه لا يفعلها أبدا أو على تأخيرها إلى زمن يغلب على ظنه أنه لا يعيش إليه، لحديث معاذ مرفوعًا: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدا رسول اللَّه إلا حرمه اللَّه على النار. قال معاذ: يا رسول اللَّه! ألا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثما" متفق ¬
عليه (¬1)، وعن عبادة بن الصامت مرفوعًا: "خمس صلوات كتبهن اللَّه على العباد، من أتى بهن لم يضيع منهن شيئًا استخفافًا بحقهن كان له عند اللَّه عهدا بأن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند اللَّه عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" رواه الخمسة إلا الترمذي (¬2)، ولو كفر بذلك لم يدخل في مشيئة الغفران؛ لأن الكفر لا يغفر إلا بالصلاة. أو شرط أو ركن لها مجمع عليه إذا دعاه الإِمام أو نائبه إلى شيء من ذلك وامتنع حتى تضايق وقت التي بعد الصلاة (¬3) فيكفر لما تقدم توضيحه في كتاب الصلاة، ويستتاب كمرتد ثلاثة أيام وجوبًا، فإن تاب بفعلها خلي سبيله، وإن أصر قتل كفرًا بشرطه، ويقتل في غير الصلاة وشروطها وأركانها المجمع عليها ¬
كالزكاة والصوم والحج حدا لما تقدم. فمن ارتد مكلفا مختارا ولو أنثى رعي إلى الإسلام (فيستتاب ثلاثة أيام) وجوبا، لحديث أم مروان وتقدم (¬1)، وينبغي أن يضيق عليه مدة الاستتابة ويحبس، (فإن) تاب لم يعزر ولو بعد مدة الاستتابة؛ لأن فيه تنفيرًا له عن الإسلام، وإن أصر و (لم يتب قتل) بالسيف ولا يحرق بالنار، لحديث: "إن اللَّه كتب الإحسان على كل شيء" (¬2)، وحديث: "من بدل دينه فاقتلوه، ولا تعذبوا بعذاب اللَّه يعني النار" رواه البخاري (¬3)، ولا يقتل رسول كفار ولو ¬
مرتدا بدليل رسولي مسيلمة (¬1). ولا يقتل المرتد إلا الإِمام أو نائبه كرجم الزاني المحصن، فإن قتله غيرهما بلا إذن أساء وعزر لافتياته على ولي الأمر، ولا ضمان بقتل مرتد ولو قبل استتابته؛ لأنه مهدر الدم، وردته أباحت دمه في الجملة، ولا يلزم من تحريم القتل الضمان. ومن أطلق الشارع كفره كدعواه لغير أبيه، ومن أتى عرافا -وهو الذي يحدس ويتخرس- فصدقه فهو تشديد وتأكيد. نقل حنبل: كفر دون كفر لا يخرج به عن الإسلام، وقيل: كفر نعمة، وقيل: قارب الكفر (¬2). ¬
ويصح إسلام مميز يعقل الإسلام؛ لأن عليا أسلم وهو ابن ثماني سنين، أخرجه البخاري (¬1)، قال رضي اللَّه عنه: سبقتكموا إلى الإسلام طرا ... صبيا ما بلغت أوان حلمي (¬2) ولأن الإسلام عبادة محضة فصحت من الصبي كالصلاة والصوم، وتصح ردة المميز كإسلامه، ولا يقتل هو ولا سكران ارتدا حتى يستتابا بعد بلوغ وصحو ثلاثة أيام، وإن مات قبل بلوغ أو في سكر مات كافرا. (ولا تقبل ظاهرا) توية (ممن سب اللَّه) تعالى صريحا لعظم ذنبه جدا، فيدل على فساد عقيدته، (أو) سب (رسولا) (¬3) له، أو ملكا له صريحا أو تنقصه أو أحدا من رسله أو ملائكته لما تقدم، (أو تكررت ردته) فلا تقبل توبته في الدنيا، لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} (¬4) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} (¬5) ولأن تكرار ردته يدل على فساد عقيدته وقلة مبالاته بالإسلام. ¬
(ولا) تقبل في أحكام الدنيا توبة (من منافق) أي زنديق وهو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر، لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (¬1)، والزنديق لا يعلم تبين رجوعه وتوبته؛ لأنه لا يظهر منه بالتوبة خلاف ما كان عليه، فإنه كان ينفي الكفر عن نفسه قبل ذلك، وقلبه لا يطلع عليه. (و) لا تقبل توبة (ساحر) مكفر بسحره كالذي يركب المكنسة فتسير به في الهواء، لحديث جندب بن عبد اللَّه (¬2) مرفوعا: "حد الساحر ضربة بالسيف" رواه الدارقطني (¬3)، فسماه حدا، والحد بعد ثبوته لا يسقط بالتوبة، ولأنه لا ¬
طريق لنا في علم إخلاصه في توبته؛ لأنه يضمر السحر ولا يجهر به، وقوله: في أحكام الدنيا علم منه أنه من مات منهم مخلصا قبلت توبته في الآخرة لعموم حديث: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (¬1). ¬
فصل
فصل وتوبة مرتد وكل كافر إتيانه بالشهادتين أي قوله: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا رسول اللَّه، لحديث ابن مسعود: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دخل الكنيسة، فإذا هو بيهودي يقرأ عليهم التوراة، فقرأ حتى إذا أتى على صفة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمته فقال: هذه صفتك وصفة أمتك، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنك رسول اللَّه، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: لوا أخاكم" (¬1)، ولحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه" (¬2)، وإذا ثبت بها إسلام الكافر الأصلي فكذا المرتد، ولا يلزم من جعل الإسلام اسما للخمسة في ¬
حديث: "أخبرني عن الإسلام" (¬1) أن لا يكون مسلما إلا بفعل الجميع لجواز أن يعرف الشارع حقيقة ويجعل بعض أجزائها بمنزلتها في الحكم، ففرق بين النظر في الشيء من حيث بيان حقيقته والنظر فيه من حيث معرفة ما يجزئ منه مع إقرار جاحد لفرض أو لتحليل حلال أو لتحريم حرام أو لنبي أو لكتاب أو رسالة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى غير العرب بما جحده من ذلك؛ لأن كفره بجحده من حيث التكذيب فلا بد من إتيانه بما يدل على رجوعه عنه. أو قوله: أنا مسلم فهو توبة أيضا للمرتد ولكل كافر وإن لم يأت بالشهادتين؛ لأنه إذا اخبر عن نفسه بما تضمن الشهادتين كان مخبرا بها، قال في "المغني" (¬2): "ويحتمل أن هذا في الكافر الأصلي أو من جحد الوحدانية، أما من كفر بجحد نبي أو كتاب أو فريضة ونحو هذا فلا يصير مسلما بذلك؛ لأنه ربما (¬3) اعتقد أن الإسلام ما هو عليه، فإن أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون ومنهم من هو كافرا". ولا يغني قوله: محمد رسول اللَّه عن شهادة أن لا إله إلا اللَّه ولو من مقر بالتوحيد؛ لأن الشهادة بأن محمدا رسول اللَّه لا تتضمن الشهادة بالتوحيد كعكسه ¬
فلا يكفي لا إله إلا اللَّه، وأما قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قل: لا إله إلا اللَّه كلمة أشهد لك بها عند اللَّه" (¬1) فالظاهر أنها كناية عن الشهادتين جمعا بين الأخبار. ومن شهد عليه بردة ولو بجحد تحليل حلال أو تحريم حرام فأتى بالشهادتين ولم ينكر ما شهد به عليه لم يكشف عن شيء لعدم الحاجة -مع ثبوت إسلامه- إلى الكشف عن صحة ردته، فلا يعتبر إقراره بما شهد به عليه من الردة لصحة الشهادتين من مسلم ومرتد، بخلاف توبته من بدعة فيعتبر إقراره بها؛ لأن أهل البدع لا يعتقدون ما هم عليه بدعة. ويكفي جحده لردة أقر بها ولم يشهد بها عليه كرجوعه عن إقراره بحد، وإن شهد على مسلم أنه كفر فادعى الإكراه قبل منه مع قرينة فقط. وإن شهد عليه بكلمة كفر فادعاه قبل مطلقا، وإن أكره ذمي على إقرار بإسلام لم يصح إقراره، وإن كتب كافر الشهادتين صار مسلما؛ لأن الخط كاللفظ، وإن قال: أسلمت أو أنا مسلم أو أنا مؤمن صار مسلما بذلك وإن لم يتلفظ بالشهادتين لما تقدم، ولا يبطل إحصان مرتد ولا عبادة فعلها قبل ردته ولا صحبته عليه السلام إذا تاب، لمفهوم قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} (¬2). ¬
فصل
فصل ومن ارتد لم يزل ملكه عن ماله بمجرد ردته ويملك بتمليك، ويمنع التصرف في ماله وتقضى منه ديونه وأروش جناياته، ولو جناها بدار حرب أو في فئة مرتدة ممتنعة؛ لأن المرتد تحت حكمنا بخلاف البغاة، وينفق منه عليه وعلى من تلزمه نفقته، فإن أسلم فماله له وإلا صار فيئا من حين موته مرتدا؛ لأنه لا وارث له من مسلم ولا غيره. وإن لحق بدار حرب فهو وما معه من ماله كحربي، وأما ما بدارنا من ماله فهو فيء من حين موته، ويؤخذ مرتد بحد أتاه في ردته وإن أسلم نصا (¬1) لا بقضاء ما ترك فيها من عبادة لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬2) ولم يأمر الصديق المرتدين بقضاء ما فاتهم. ¬
فصل في السحر وما يتعلق به
فصل في السحر وما يتعلق به وهو عقد ورقى وكلام يتكلم به فاعله أو يكتبه أو يعمل شيئا يؤثر في بدن مسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له (¬1)، وله حقيقة، فمنه ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه من وطئها، ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه، لحديث عائشة: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سحر حتى أنه يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله" (¬2) وروي من أخبار السحرة ما لم يمكن التواطؤ على الكذب فيه، ولا يلزم منه إبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام؛ لأنه لا يبلغ ما يأتون به. ويحرم تعلم السحر وتعليمه (¬3). وساحر يركب المكنسة فتسير به في الهواء، أو يدعي أن الكواكب تخاطبه كافر، لقوله تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} أى ما كان ساحرا كفر بسحره، وقوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ ¬
فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (¬1) أي لا تعلمه فتكفر بذلك. ولا يكفر ولا يقتل من يسحر بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر، ويعزر بذلك بليغا لينكف هو ومثله، ولا يكفر من يعزم على الجن ويزعم أنه يجمعها أو تطيعه، ولا يكفر كاهن وهو الذي له رئي (¬2) من الجن يأتيه بالأخبار، ولا عراف أي من يحدس ويتخرس، ولا منجم أي ناظر في النجوم ويستدل بها على الحوادث، فإن أوهم قوما بطريقته أنه يعلم الغيب فللإمام قتله لسعيه بالفساد. ولا يقتل ساحر كتابي إلا أن يقتل بسحره غالبا فيقتل قصاصا؛ لأن لبيد بن الأعصم (¬3) سحر -النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم يقتله، ولأن كفره أعظم من سحره. ومشعبذ وقائل بزجر طير وضارب بحصى أو شعير أو قداح والناظر في أكتاف الألواح إن لم يعتقد إباحته ولم يعتقد أنه يعلم به الأمور المغيبة عزر لفعله معصية، وإلا بأن اعتقد إباحته، وأنه يعلم به الأمور المغيبة كفر فيستتاب فإن تاب وإلا قتل. ¬
ويحرم طلسم (¬1) ورقية بغير العربي إن لم يعرف صحة معناه؛ لأنه قد يكون سبا وكفرا، وكذا يحرمان باسم كوكب وما وضع على نجم من صورة أو غيرها. ويجوز حل السحر بالقرآن والذكر والأقسام والكلام الذي لا بأس به، ويجوز حله أيضا بسحر ضرورة وتوقف أحمد عنه (¬2). (وتجب التوبة من كل ذنب) لقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬3)، (وهي) أي التوبة المعتبرة (إقلاع) بأن يترك فعل الذنب الذي تاب منه، (وندم) بقلبه على ما مضى من ذنبه، (وعزم) على (أن لا يعود) إلى ذلك الذنب الذي تاب منه، (مع رد مظلمة) كمغصوب ونحوه، فإن عجز نوى رده متى ما قدر عليه أو يستحل رب المظلمة أو يستمهله إن كان معسرا، والتوبة من البدعة الرجوع عنها واعتقاد ضد ما كان يعتقد من مخالفة أهل السنة، ولا تصح التوية معلقة بشرط و (لا) يشترط لصحتها (استحلال) من مقذوف أو مغتاب (من نحو غيبة وقذف) وإعلامه، قال أحمد: إذا قذف ثم تاب لا ينبغي أن يقول له قد قذفتك هذا يستغفر اللَّه؛ لأن ¬
فيه إيذاءه صريحا (¬1). وإذا استحله يأتي بلفظ مبهم لصحة البراءة من المجهول واللَّه أعلم. ¬
(فصل) في الأطعمة
(فصل) في الأطعمة واحدها طعام، وهو ما يؤكل ويشرب، قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} (¬1). (وكل طعام طاهر) لا نجس ولا متنجس و (لا مضرة فيه) كسموم (حلال) خبر كل، (وأصله الحل) لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (¬2) وقوله: {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} (¬3) وقوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (¬4). (وحرم نجس كدم وميتة) لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} (¬5)، (و) حرم (مضر كسم) لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬6)، والسم مما يقتل غالبا ولذا عد مطعمه لغيره قاتلا، وفي ¬
الواضح (¬1): المشهور أن السم نجس، وفيه احتمال لأكله عليه السلام من الذراع المسمومة (¬2). ونحو السقمونيا (¬3) والزعفران يحرم استعماله على وجه يضر ويجوز على وجه لا يضر لقلة أو إضافة ما يصلحه. وحرم من حيوان بر حمر أهلية لحديث جابر: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى يوم ¬
خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل" (¬1). (و) حرم (مِنْ حَيَوانِ بَرٍّ ما يَفْتَرِسُ بِنَابِهِ) أي ينهش (كأسدٍ ونَمِرٍ وفَهْدٍ وثَعْلَب وابنِ آوى) لحديث أبي ثعلبة الخُشنِيْ (¬2): "نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أَكْلِ كَّلِّ ذِي نَابٍ من السِّبَاع" متفق عليه (¬3)، وكذا ذئب وكلب وقِرْدٌ وخنزير ودُبٌّ ونِمْسٌ (¬4) وابن عِرْسٍ (¬5) وسِنَّوْرٌ (¬6) مطلقًا، وسِنْجَابٌ (¬7) وسَمُّور (¬8) ¬
وفنك (¬1) -بفتح الفاء والنون-؛ لأنها من السباع ذات الناب فتدخل في عموم النهي. (لا ضبع) (¬2) لورود الرخصة فيه عن سعد وابن عمر (¬3) وأبي ¬
هريرة (¬2)، قال عروة بن الزبير: "ما زالت العرب تأكل الضبع لا ترى بأكله بأسا" (¬3) لحديث جابر: "أمرنا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأكل الضبع، قلت: هي صيد؟ قال: نعم" (¬4) احتج به أحمد (¬5). (و) حرم (من طير ما يصيد بمخلب كعقاب وصقر) وباز وباشق وشاهين ¬
وحدأة وبومة لحديث ابن عباس: "نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير" رواه أبو داود (¬1). (و) حرم (ما يأكل الجيف كنسر ورخم)، ولقلق (¬2)، وعقعق طائر نحو الحمامة طويل الذنب فيه بياض وسواد نوع من الغربان (¬3)، وغراب البين ¬
والأبقع (¬1) قال عروة: "ومن يأكل الغراب! وقد سماه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاسقا، واللَّه ما هو من الطيبات" (¬2) ولأنه عليه السلام أباح قتل الغراب بالحرم (¬3) ولا يجوز قتل صيد مأكول في الحرم. (و) حرم كل (ما تستخبثه العرب ذوو اليسار) وهم أهل الحجاز من أهل الأمصار؛ لأنهم هم أولو النهى وعليهم نزل الكتاب وخوطبوا به وبالسنة فرجع في مطلق ألفاظهما إلى عرفهم دون غيرهم، بخلاف الجفاة من أهل البوادي؛ لأنهم للمجاعة يأكلون كلما وجدوه. (كوطواط) ويسمى خفاشا وخشافا، قال أحمد: "ومن يأكل الخفاش! " (¬4) (وقنفذ (¬5) ونيص) (¬6) لحديث أبي هريرة قال: "ذكر القنفذ ¬
لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: هو خبيثة من الخبائث" رواه أبو داود (¬1)، ومثله النيص. وحرم فأر لأنه عليه السلام أمر بقتله في الحرم (¬2)، ولا يجوز قتل صيد مأكول في الحرم، وكذا زنبور (¬3) ونحل وذباب وفراش لأنها مستخبثة غير ¬
مستطابة، وهدهد وصرد، لحديث ابن عباس: "نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحل والهدهد والصرد" رواه أحمد وغيره (¬1)، والصرد -بضم الصاد وفتح الراء- طائر ضخم الرأس يصطاد العصافير (¬2)، وهو أول طائر صام للَّه تعالى، وكذا خطاف (¬3) وحية وحشرات. (و) حرم (ما تولد من مأكول وغيره كبغل) متولد بين خيل وحمر أهلية، وكحمار متولد بين حمار أهلي ووحشي، وكسمع بكسر السين المهملة وإسكان الميم ولد ضبع من ذئب. ¬
وما تجهله العرب من الحيوان، ولا ذكر في الشرع يرد إلى أقرب الأشياء شبها به بالحجاز، فإن أشبه محرما أو حلالا ألحق به، ولو أشبه مباحا ومحرما (¬1) غلب التحريم احتياطا، لحديث: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (¬2) وقال أحمد: كل شيء اشتبه عليك فدعه. (¬3) وإن لم يشبه شيئا بالحجاز فمباح لعموم قوله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية (¬4)، وقال أبو الدرداء ¬
وابن عباس: "ما سكت اللَّه عنه فهو مما عفا عنه" (¬1). وما تولد من مأكول طاهر كذباب باقلاء ودود خل وجبن ونبق يجوز أكله تبعا لا منفردا، وقال أحمد في الباقلاء المدودة: تجنبه أحب إلي وإن لم يتقذره فأرجو. وقال عن تفتيش التمر المدود: لا بأس به (¬2). وما أحد أبويه المأكولين مغصوب فكأمه، فإن كانت الأم مغصوبة لم تحل هي ولا شيء من أولادها لغاصب، وإن كان المغصوب الفحل والأم ملك للغاصب لم يحرم عليه شيء من أولادها. ويباح ما عدا المتقدم تحريمه لعموم نصوص الإباحة. (ويباح حيوان بحر كله) لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (¬3)، وقوله عليه السلام لما سئل عن ماء البحر: "هو ¬
الطهور ماؤه الحل ميتته" رواه مالك وغيره (¬1). (سوى ضفدع) فيحرم نصا (¬2)، واحتج بالنهي عن قتله (¬3)، ولاستخباثها ¬
فتدخل في عموم قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (¬1) (و) سوى (تمساح) نصا (¬2)، لأن له نابا يفترس به. ويؤكل القرش كخنزير الماء وكلبه وإنسانه لعموم الآية والأخبار، وروى البخاري أن الحسن بن علي -رضي اللَّه عنهما- ركب سرجا عليه جلد من جلود كلاب الماء (¬3). (و) سوى (حية) لأنها من المستخبثات. وتحرم الجلالة وهي التي أكثر علفها النجاسة ويحرم لبنها وبيضها لحديث ابن عمر: "نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أكل الجلالة وألبانها" رواه أحمد وأبو داود (¬4)، وفي رواية لأبي داود: "نهي عن ركوب ¬
جلالة الإبل" (¬1)، وعن ابن عباس: "نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شرب لبن الجلالة" رواه أحمد وغيره (¬2)، وبيضها كلبنها، -فإن لم يكن أكثر علفها النجاسة لم تحرم ولا لبنها ولا بيضها- حتى تحبس ثلاثا من الليالي بأيامها وتطعم الطاهر فقط؛ لأن ابن ¬
عمر: كان إذا أراد أكلها يحبسها ثلاثا (¬1)، ويباح أن يعلف النجاسة ما لا يذبح أو يحلب قريبا نصا (¬2). وما سقي من ثمر وزرع أو سمد بنجس محرم نصا (¬3).لحديث ابن عباس قال: "كنا نكري أراضي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ونشترط عليهم أن لا يدملوها بعذرة الناس" (¬4) ولولا تأثير ذلك لما اشترط عليهم تركه، ولأنه تتربى أجزاؤه بالنجاسة كالجلالة. وقوله: أن لا يدملوها قال في "القاموس" (¬5): "دمل الأرض دملا ودملانا أصلحها أو سرجنها فتدملت صلحت به". انتهى. حتى يسقى بعده بطاهر وتستهلك عين النجاسة فيطهر ويحل كالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات. ويكره أكل تراب وفحم وطين لا يتداوى به لضرره نصا بخلاف الأرمني للدواء (¬6) وأكل غدة وأذن قلب نصا (¬7)، قال في ¬
رواية عبد اللَّه (¬1): كره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أكل الغدة (¬2)، ونقل أبو طالب (¬3): نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أذن القلب (¬4). ويكره أكل بصل وثوم وكراث وفجل ما لم ينضج بطبخ، قال أحمد: لا ¬
يعجبني. وصرح بأنه كرهه بمكان الصلاة في وقت الصلاة (¬1). ويكره أكل حب ديس بحمر أهلية نصا، وقال: لا ينبغي أن يدوسه بها، وقال حرب: كرهه كراهية شديدة، ونقل أبو طالب: لا يباع ولا يشترى ولا يؤكل حتى يغسل (¬2). ويكره مداومة أكل لحم لأنه يورث قسوة، ولا يكره لحم نيء (¬3) ومنتن نصا (¬4). ويحرم ترياق (¬5) فيه من لحوم الحيات أو الخمر وتداو بألبان حمر، وكل محرم غير بول إبل. ¬
وسئل أحمد عن الجبن فقال: يؤكل من كل أحد. فقيل له عن الجبن الذي تصنعه المجوس فقال: ما أدري (¬1). وقيل: إن أصح حديث فيه حديث عمر أنه سئل عن الجبن وقيل له: يعمل فيه أنفحة الميتة فقال: "سموا اللَّه سبحانه وتعالى وكلوا" (¬2). (ومن اضطر) بأن خاف التلف إن لم يأكل حضرا كان أو سفرا نقل حنبل: إذا علم أن النفس تكاد تتلف، وفي "المنتخب" (¬3): أو مرضا أو انقطاعا عن الرفقة بحيث ينقطع فيهلك (أكل وجوبا) نصا (¬4) لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬5)، قال مسروق (¬6): ومن اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل ¬
النار. (¬1) و (من محرم غير سم) ونحوه مما يضر (ما يسد رمقه) فقط أي بقية روحه أو قوته لقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (¬2) وقوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3) وليس له الشبع لأن اللَّه حرم الميتة واستثنى ما اضطر إليه، فإذا اندفعت الضرورة لم تحل كحالة الابتداء، وله التزود منه إن خاف الحاجة. ويجب على مضطر تقديم السؤال على أكله المحرم نصا، وقال لسائل: قم قائما ليكن لك عذر عند اللَّه (¬4)، وإن وجد مضطر ميتة وطعاما يجهل مالكه قدم الميتة؛ لأن تحريمها في غير حال الضرورة لحق اللَّه، أو وجد مضطر محرم ميتة وصيدا حيا أو بيض صيد سليما قدم الميتة، ويقدم على صيد حي طعاما يجهل مالكه إن لم يجد ميتة بشرط ضمانه. ومن لم يجد إلا طعام غيره فربه المضطر أو الخائف أحق به وليس له إيثار غيره به لئلا يلقي بيده إلى التهلكة، وإلا يكن مضطرا لزمه بذل ما يسد رمقه فقط بقيمته ¬
نصا (¬1) ولو في ذمة معسر لوجود الضرورة، فإن أبي رب الطعام بذله بقيمته أخذه بالأسهل فالأسهل، ثم قهرا ويعطيه عوضه يوم أخذه، فإن منعه فله قتاله عليه، فإن قتل المضطر ضمنه رب الطعام بخلاف عكسه، وإن منعه إلا بما فوق القيمة فاشتراه منه بذلك كراهة أن يجري بينهما دم أو عجز عن قتاله لم يلزمه إلا القيمة. ومن اضطر إلى نفع مال الغير مع بقاء عينه كثياب لدفع برد ودلو وحبل لاستسقاء ماء وجب على رب الماء بذله مجانا؛ لأنه تعالى ذم على منعه بقوله: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} (¬2) وما لا يجب بذله لا يذم على منعه، وما وجب فعله لا يقف على بذل العوض بخلاف الأعيان فلربها منعها بدون عوض ولا يذم على ذلك، ومحل وجوب بذل نحو ماعون مع عدم حاجة ربه إليه وإلا فهو أحق به من غيره لتميزه بالملك. ومن لم يجد من مضطر إلا آدميا مباح الدم كحربي وزان محصن ومرتد فله قتله وأكله؛ لأنه لا حرمة له أشبه السباع وكذا إن وجده ميتا، ولا يجوز لمضطر أكل معصوم ميت ولو لم يجد غيره كالحي لاشتراكهما في الحرمة، ¬
لحديث: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي" (¬1)، ولا يجوز له أكل عضو من أعضاء نفسه لأنه إتلاف موجود لتحصيل موهوم. ومن مر بثمرة بستان لا حائط عليه ولا ناظر فله أكل ولو بلا حاجة مجانا، لما روى ابن أبي زينب التميمي قال: سافرت مع أنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة (¬2) وأبي برزة فكانوا يمرون بالتمار فيأكلون في أفواههم (¬3)، وهو قول عمر (¬4) ¬
وابن عباس (¬1). فإن كان البستان محوطا لم يجز الدخول إليه لقول ابن عباس: "إن كان عليها حائط فهو حرز فلا تأكل" (¬2)، وكذا إن كان ثم حارس لدلالة ذلك على شح صاحبه وعدم المسامحة. ولا يجوز صعود شجره ولا ضربه ورميه بشيء نصا (¬3) ولو كان البستان غير محوط ولا حارس، لحديث: "وكل ما وقع أشبعك اللَّه وأرواك" رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح" (¬4)، ولأن الضرب والرمي يفسد الثمرة، ولا ¬
يحمل من الثمرة مطلقا كغيره لقول عمر: "ولا تتخذ خبنة" (¬1). وكذا زرع قائم لجريان العادة بأكل الفريك، وكذا شرب لبن ماشية، لحديث الحسن عن سمرة مرفوعا: "إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، وإن لم يجد أحدا فليحلب ويشرب ولا يحمل" رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح". (¬2) (ويلزم مسلما ضيافة مسلم) لا ذمي (مسافر) لا مقيم (في قرية لا مصر يوما وليلة قدر كفايته) مع أدم، لحديث أبي شريح الخزاعي مرفوعا: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول اللَّه؟ قال: يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، وما زاد على ذلك فهو صدقة لا يحل له أن يثوي عنده حتى يؤثمه، قيل يا رسول اللَّه كيف يؤثمه؟ قال: يقيم عنده وليس ¬
عنده ما يقريه" (¬1)، وعن عقبة بن عامر قال: "قلت للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا فما ترى؟ قال: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم" متفق عليه (¬2)، ولو لم تجب الضيافة لم يأمرهم بالأخذ، واختص ذلك بالمسلم وبالمسافر لقول عقبة: "إنك تبعثنا فننزل بقوم" والقوم إنما ينصرف للجماعات دون أهل الأمصار، ولأن أهل القرى مظنة الحاجة إلى الضيافة والإيواء لبعد البيع والشراء بخلاف المصر ففيه السوق والمساجد. (وتسن) الضيافة (ثلاثة أيام) بلياليها والمراد يومان مع الأول وما زاد عليها فهو صدقة لحديث أبي شريح، وليس للضيفان قسم طعام قدم لهم؛ لأنه إباحة لا تمليك وللضيف الشرب من ماء رب البيت والاتكاء على وسادة وقضاء الحاجة بلا إذنه لفظا. ومن امتنع من الطيبات بلا سبب شرعي فهو مبتدع مذموم، قال تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} (¬3)، فإن كان لسبب ¬
شرعي كطيب فيه شبهة أو عليه فيه كلفة فلا بدع، وما نقل عن أحمد أنه امتنع من أكل البطيخ لعدم علمه بكيفية أكل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فكذب عليه (¬1). ¬
فصل في الذكاة
فَصْلٌ في الذَّكَاةِ وهي تمامُ الشيءِ، ومنه الذَّكاةُ في السِّنِّ أي تمامه، سمي الذبح ذكاة لأنه إتمام الزهوق (¬1). وأصله قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬2) أي أدركتموه وفيه حياة فأتممتموه (¬3)، ثم استعمل في الذبح سواء كان بعد جرح سابق أو ابتداءً ذكره الزَّجَّاج (¬4)، يقال: ذَكَّى الشاة ونحوها تذكية أي ذبحها. و(لا يُبَاحُ حَيَوانٌ يَعِيْشُ في الْبَرِّ) مباح أكله (غير جَرَادٍ) إلا بذبحه أو نحره بقطع ¬
حُلْقُومٍ ومَريءٍ أو عَقْرِ مُمتنعٍ لأنه تعالى حرم الميتة وما لم يذك فهو ميتة، فذبح نحو كلب وسبع لا يسمى ذكاة. ويباح جراد (ونحوه) بدونها، وسمك وما لا يعيش إلا في الماء، لحديث ابن عمر مرفوعًا: "أُحِلَّ لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطِّحَال" رواه أحمد وغيره (¬1)، وسواء مات الجراد بسبب ككبسه وتغريقه أولا، ولا بين الطافي من السمك وغيره، ولا فرق بين ما صاده مجوسي من سمك أو جراد أو صاده غيره. ولا يباح ما يعيش في الماء والبر كسلحفاة وكلب ماء إلا بالذكاة، قال أحمد: كلب الماء تذبحه ولا أرى بأسا بالسلحفاة إذا ذبح (¬2) إلحاقا لذلك بحيوان البر لكونه يعيش فيه احتياطا، ويحرم بلع سمك حيا ذكره ابن حزم ¬
إجماعا (¬1)، وكره شيه حيا؛ لأنه تعذيب له ولا حاجة إليه لأنه يموت بسرعة لا شي جراد حيا؛ لأنه لا يموت في الحال. (وشروطه) (¬2) أي الذبح (أربعة): - أحدها: (كون ذابح) أو ناحر أو عاقر (عاقلا) ليصح منه قصد التذكية، فلا يباح ما ذكاه مجنون أو طفل لم يميز؛ لأنهما لا قصد لهما، وكونه (مميزا) فتحل ذبيحته كالبالغ ولو متعديا كغاصب أو مكرها أو قنا أو جنبا أو أنثى، لحديث كعب بن مالك عن أبيه: "أنهم كان لهم غنم ترعى بسلع (¬3)، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمها موتا، فكسرت حجرا فذبحتها به فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنه سئل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك أو أرسل إليه فأمر بأكلها" رواه أحمد والبخاري (¬4)، ففيه إباحة ذبيحة المرأة والأمة والحائض والجنب؛ لأنه عليه السلام لم ¬
يستفصل عنها، وفيه أيضًا إباحه الذبح بالحجر وما خيف عليه الموت وحل ما يذبحه غير المالك بغير إذنه، (ولو) كان الذابح (كِتَابيًّا) لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (¬1)، قال البخاري: قال ابن عباس: "طعامهم ذبائحهم" (¬2) ومعناه عن ابن مسعود (¬3)، أو كان من نصارى بني تَغْلب (¬4)، ولا تحل ذبيحة مَنْ أحَدُ أبويه غير كتابي، ولا ذبيحة وثني، ولا مجوسي، ولا زنديق، ولا مرتد، لمفهوم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، ولا تحل ذبيحة ¬
سكران؛ لأنه لا قصد له. (و) الشرط الثاني: (الآلةُ: وهي كل مُحَدَّدٍ) حتى حجر وقصب وخشب وذهب وفضة وعظم (غير سِنِّ وظُفُرٍ) نصًّا (¬1)، لحديث: "ما أنهر الدَّم فَكُلْ، ليس السِّنّ والظفر" متفق عليه (¬2)، ولو كان المحدد مغصوبا لعموم الخبر. (و) الشرط الثالث: (قَطْعُ حُلْقُوْمٍ) أي مجرى النفس (ومَرِيْءٍ) بالمد أي مجرى الطَّعام سواء كان القطع فوق الغَلْصَمَةِ (¬3) أو دونها، ولا يعتبر قطع شيء غيرهما ولا إبانتهما، ولا يضر رفع يده إن أتم الذكاة على الفور كما لو لم يرفعها، فإن تراخى ووصل الحيوان إلى حركة المذبوح فأتمها لم يحل، (وسُنَّ قَطْعُ الوَدْجَيْنِ) وهما عرقان محيطان بالحلقوم. والسنة مخر إبلٍ بطَعْنٍ في لَبَّتِهَا -وهي الوَهْدَةُ بين أصل الصدر والعنق- وذبح ¬
غيرها، قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} (¬1) وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (¬2)، وثبت أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَحَر بَدَنَةً" (¬3) و"ضَحَّى بكَبْشَيْنِ ذبحهما بيده" متفق عليه (¬4)، ومن عكس فذبح الإبل ونحر غيرها أجزأ، قالت أسماء: "نحرنا فرسًا على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأكلنا ونحن بالمدينة" (¬5)، وعن عائشة: "نحر رسول اللَّه في حجة الوداع بقرةً واحدةً" (¬6). ¬
(وما عُجِزَ عنه كواقعٍ في بِئْرٍ ومُتَوَحِّشٍ ومُتَرَدٍّ) مِنْ عَالٍ (يكفي جَرْحُهُ حَيْثُ كان) من بدنه، ورُويَ عن علي (¬1) وابن مسعود (¬2) وابن عباس (¬3) وعائشة (¬4)، لحديث رافع بن خديج قال: "كنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فَنَدَّ بعيرٌ، وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه، فأعياهم، فأَهْوَى إليه رجلٌ بسهم فحبسه اللَّه عز وجل، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن لهذه البهائم أوَابِدَ (¬5) كَأَوَابِدِ الوَحْشِ، فَمَا غَلَبَكُمْ منها فاصنعوا به هكذا" وفي لفظٍ: "فَمَا نَدَّ عليكم فاصنعوا به هكذا" متفق عليه (¬6)، واعتبار الحيوان بحال الذكاة لا بأصله، بدليل الوحشي [إذا قدر ¬
عليه، والمتردى إذا لم يقدر على تذكيته يشبه الوحشي] (¬1) بالعجز عن تذكيته. (فَإِنْ أَعَانَهُ) أي الجارح (¬2) على قتله (غيره ككونِ رأسهِ) أي الواقع في نحو بئر (في الماءِ ونحوه) مما يقتله لو انفرد (لَمْ يَحْل) لحصول قتله بمبيحٍ وحاظرٍ فغلب الحظر، كما لو اشترك مسلم ومجوسي في ذبحه. وما ذبح من قفاه ولو عمدًا إن أتت الآلة على محل ذبحه وفيه حياة مستقرة حل لبقاء الحياة مع الجرح في القفا وإن كان غائرًا ما لم يقطع الحلقوم والمريء، كَأَكيلَةِ السبع إذا أدركت وفيها حياة مستقرة فذبحت حلت وإن كانت لا تعيش مع ذلك غالبًا، وإلا تأتي الآلة على محل الذبح وفيه حياة مستقرة لم يحل، وتعتبر الحياة المستقرة بالحركة القوية، فإن شك هل فيها حياة مستقرة قبل قطع حلقوم ومريء، فإن كان الغالب بقاء ذلك لحدة الآلة وسرعة القطع حل، وإن كانت الآلةُ كَالَّةً وأبطأ قطعه وطال تعذيبه لم يبح. ولو بأن رأسه حَلَّ مُطْلَقًا سواء كان من جهة وجهه أو قفاه أو غيرهما، لقول ¬
علي في من ضرب وجه ثور بالسيف: "تلك ذكاة" (¬1)، وأفتى بأكلها عمران بن حصين (¬2) ولا مخالف لهما، ولأنه اجتمع قطع ما لا تبقى معه الحياة مع الذبح. وحيوان مُلْتَوٍ عنقه كمَعْجُوْز عنه. وما أصابه سبب الموت من حيوانٍ مَأكولٍ من مُنْخَنِقَةٍ ومَوْقُوْذَةٍ ومُتَرَدِّيَةٍ ونَطِيْحَةٍ وأكِيْلَةِ سبع ومريضة، وما صيد بشبكة أو شَرَكة أو أحبولة أو فخّ ولو وصل إلى حد لا يعيش معه فذكاه وحياته تمكن زيادتها على حركة مذبوح حل ولو مع عدم تحركه بنحو يد، لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} (¬3) مع أن ما تقدم ذكره أسباب للموت، والاحتياط أن لا يؤكل ما ذبح من ذلك إلا مع تحركه ولو بيد أو رجل أو طرف عين أو تحرك ذنب وضرب الأرض به. وما قطع حلقومه أو أبِيْنَتْ حشوته مما لا يبقى معه حياة فوجود حياته كعدمها فلا يحل بذكاةٍ. (و) الشرط الرابع: (قَوْلُ بِسْمِ اللَّه عِنْدَ تَحْرِيْكِ يَدِهِ) بذبح لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (¬4)، والفِسْقُ ¬
الحرام (¬1)، وذكر جماعة: وعند الذبح قريبًا منه ولو فصل بكلام كالتسمية على الطهارة، واختص بلفظ اللَّه؛ لأن إطلاق التسميه: ينصرف إليه، ويجزئ أن يسمي بغير عربية ولو أحسنها؛ لأن المقصود ذكر اللَّه تعالى، وقياسه الوضوء والغسل والتيمم بخلاف التكبير والسلام فإن المقصود لفظه، ويجزئ أن يشير أخرس بالتسمية برأسه أو طَرَفه إلى السَّماء لقيامها مقام نُطْقِ النَّاطِقِ. (وتَسْقُطُ) التَّسْميَةُ (سَهْوًا لا جَهْلًا)، لحديث راشد بن سعد (¬2) مرفوعًا: "ذييحة المسلم حلال وإن لم يسم إذا لم يتعمد" أخرجه سعيد (¬3)، ولحديث: ¬
"عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" (¬1) والآية محمولة على العمد جمعًا بين الأخبار، ومتى لم يعلم هل سمى الذابح أو لا؟ فالذَّبِيْحَةُ حَلَالٌ، لحديث عائشة: "أنهم قالوا: يا رسول اللَّه! إنَّ قَوْمًا حديثو عهد بشركٍ يأتوننا بلحم لا ندري أذكَرُوْا اسمَ اللَّه عليه أو لم يذكروا؟ قال: سَمُّوْا أنتم وكلوا" رواه البخاري (¬2)، ويضمن أجير ترك التسمية على الذبيحة إن حرمت (¬3) بأن تركها عمدًا. ومن ذكر عند الذبح مع اسم اللَّه غيره حرم عليه لأنه شركٌ ولم تحل الذبيحةُ رُوي ¬
عن عليّ. (¬1) (وذَكاةُ جَنِيْنٍ) مباح (خَرَجَ) من بطن أمه المذكاة (ميتًا ونحوه) كتحرك كحركة مذبوح أشعر أولا (بذكَاةِ أُمِّهِ) رُوي عن عليٍّ (¬2) وإبن عُمَرَ (¬3)، لحديث جابرٍ مَرفوعًا: "ذكَاةُ الْجَنِيْنِ ذكاةُ أمِّهِ" (¬4) أشبه أعضاءها، واستحب ¬
أحمد ذبحه ليخرج دمه ولم يبح مع حياةٍ مُستقرَّةٍ إلا بذبحه نَصًّا (¬1)؛ لأنه نفس أخرى مستقل بحياته. وقوله في الحديث: "ذكَاةُ أمِّهِ" فيه الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والنصب قال ابن مالك (¬2): على معنى ذكاة الجنين في ذكاة أمه (¬3)، فيكون موافقًا لرواية الرفع المشهورة. (وكُرِهَتْ) الذكاة (بآلةٍ كَالَّةٍ)، لحديث شداد بن أوس مرفوعًا: "إن اللَّه كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا الْقِتْلَةَ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَةَ، وليُحِدَّ أحدكم شَفْرَتَهُ، وليُرحْ ذبيحته" رواه أحمد وغيره (¬4)، ولأن الذَّبح بالكَالَّةِ تعذيبٌ للحيوان. ¬
(و) كُرِهَ (حَدُّهَا بحضرةِ) حيوانٍ (مُذَكَّى)، لحديث ابن عمر: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَرَ أنْ تُحَدَّ الشِّفَارُ وأنْ تُوَارَى عن البهائم" رواه أحمد وابن ماجة (¬1). (و) كرِهَ (سَلْخُ) حيوان (وكَسْرُ عُنُقـ) ــــه (قَبْلَ زُهُوق) نفسه لحديث: "لا تَعْجَلُوْا الأَنْفُسَ أَنْ تُزْهَقَ" (¬2)، (و) كُرِهَ (نَفْخُ لَحْمٍ لبيعٍ) لأنه غِشٌّ. (وسُنَّ تَوْجِيْهُهُ) أي المذكى (¬3) بجعل وجهه (إلى القِبْلَةِ على شِقِّهِ الأَيْسَرِ)، فإن كان لغيرها حل ولو عمدًا، (و) سنَّ (رِفْقٌ به) وحمل على الآلة بقوة والإسراع بالشَّحْطِ، (و) سن (تَكْبِيْر) مع التسمية أي قول: بسم اللَّه واللَّه ¬
أكبر، وكان ابن عمر يقوله (¬1)، ولا خلاف أن قول بسم اللَّه يجزئه، ولا تُسَنُّ الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عند الذبح؛ لأنه لم يرد ولا يليق بالمقام كزيادة الرحمن الرحيم. وإن ذبح كتابي ما يحرم عليه يقينًا كذي الظفر، أي ليس بمفرج الأصابع من إبل ونعام وبط، أو ذبح ما يحرم عليه ظنًّا فكان كما ظنَّ أو لا، كحال الرِّئَةِ (¬2)، أو ذبح لعيده، أو لِتَقَرُّبٍ لشيءٍ يُعظمُه لم يحرم علينا إذا ذكر اسم اللَّه فقط نصًّا (¬3)؛ لأنه من جملة طعامهم فدخل في عموم الآية. وإن ذبح الكتابي ما يحل له لم تحرم علينا الشحوم المحرمة عليهم، ويحرم بولُ حيوانٍ طاهرٍ مأكول وكَرَوْثِهِ؛ لأنه رجيعٌ مُستخبثٌ، ويجوز التداوي ببول إبل ¬
للخبر (¬1)، وإسماعيل هو الذبيح عليه السَّلام (¬2). ¬
فصل في الصيد
فَصْلٌ في الصَّيْدِ مصدر صَادَ يَصِيْدُ (¬1). وشرعًا: اقْتِنَاصُ حيوانٍ حَلَالٍ متوحش طبعًا غير مقدور عليه ولا مملوكٍ. (¬2) (والصَّيْدُ مُبَاحٌ) لقاصده، ويكره الصيد لهوًا لأنه عبث، وهو أفضل مأكولٍ؛ لأنه من اكتساب الحلال الذي لا شبهة فيه، والزراعة أفضل مكتسب؛ لأنه أقرب إلى التوكل لخبر: "لا يغرس مُسلمٌ غرسًا، ولا يَزْرَعُ زَرْعًا، فيأكل منه إنسانٌ ولا دَابَّةٌ ولا شيءٌ [إلَّا] (¬3) كانت له صدقة" (¬4)، وأفضل المعاش التجارة، وأفضل التجارة في بَزٍّ وعِطْرٍ وعلى زرعٍ وغرسٍ ومَاشيةٍ، وأبغضها في رقيقٍ ¬
وصَرْفٍ لتمكن الشبهة فيهما، وأفضل الصِّنَاعة خياطة ونصَّ أحمد: أن كل ما نَصح فيه فهو حسن (¬1) وقال الْمَرُّوْذِيُّ (¬2): حثني أبو عبد اللَّه على لزوم الصنعة للخبر (¬3). قال أحمد: لم أرَ مثل الغنى عن الناس، وقال في قوم لا يعملون ويقولون نحن متوكلون: هؤلاء مبتدعةٌ. (¬4)، وأدنى الصناعة حِيَاكةٌ وحِجَامَة ونحوهما، كقُمَامَةٍ وزُبَالةٍ وذَبْحٍ، وفي الحديث: "كسب الحجام ¬
خبيث" (¬1)، وأشدها كراهة صِبْغٌ وصِيَاغَة وحِدَادَةٌ وجِزَارَةٌ لما يدخلها من الغش ومخالطة النجاسة، قال في "الفُرُوع" (¬2): والمراد مع إمكان ما هو أصلح منها، وقاله ابن عقيل. ومن أدرك صيدًا مجروحًا مُتحرِّكًا فوق حركة مذبوح واتسع الوقت لتذكيته لم يبح إلا بها؛ لأنه مقدورٌ عليه وفي حكم الحي، وحتى لو خشي موته ولم يجد ما يذكيه به، وإن امتنع بِعَدْوهِ فلم يتمكن من ذبحه حتى مات تعبًا فهو حلال بشروطه الآتية؛ لأنه غير مقدور على تذكيته. (وشُروطُهُ) أي شروط إباحة الصَّيْد (أَربعةٌ): - أحدها: (كَونُ صَائِدٍ مِنْ أَهْلِ) الـ (ذَكَاة) أي تحل ذبيحته لقوله عليه ¬
السلام: "فَإِنَّ أخْذَ الكلبِ ذكاة" متفق عليه (¬1)، والصائد بمنزلة المذكي ولو كان أعمى. (و) الشَّرْطُ الثَّانِي: (الآلةُ، وهي) نوعان، أحدهما: مُحَدَّدٌ فهو كـ (آلة ذكاة) فيما تقدم تفصيله، وشُرِطَ جرح الصيد به لحديث: "ما أنهر الدم وذكر اسم اللَّه عليه فكل" (¬2)، فإن قتل الصيد بثقله كشبكة وفخ وعصًا وبندقة ولو مع شدخ أو قطع حلقوم أو مريء ولم يجرحه لم يبح أكله لحديث عدي بن حاتم (¬3) قال: "قلت: يا رسول اللَّه! إني امرؤ أرمي بالْمِعْرَاضِ الصيد فأصيب، فقال: إذا رَمَيْتَ بالمعراض فَخَزَقَ فَكُلْهُ، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل" متفق عليه (¬4) والمعراض خشبةٌ مَحدودة ¬
الطرف وربما جعل في رأسه حديدة. ولم يُحَل ما قُتِلَ بمحدد فيه سُمٌّ مع احتمال إعانته على قتله تغليبًا للتحريم، وما رمي من صَيْد فوقع في ماءٍ أو تردى من عُلُوٍّ أو وطئ عليه شيءٌ وكل من ذلك يقتل مثله لم يحل لحديث عدي بن حاتم قال: "سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصَّيْدِ فَقَالَ: إذا رميت سهمك فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّه، فإن وجدته قد قَتَلَ فَكُلْ إلا أن تجده وَقَعَ في ماءٍ، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" متفق عليه (¬1)، والتردي والوطء عليه كالماء في ذلك، فإن كان لا يقتل مثل ذلك بأن كان رأس الحيوان خارج الماء أو كان من طيره حل إذ لا شك أن الماء لم يقتله. وإن رماه بالهواء أو على شجرة أو حائط فسقط فمات حل؛ لأن موته بالرمي ووقوعه بالأرض لا بد منه، فلو حرم به لأدى إلى أن لا يحل صيدٌ أبدًا، أو رمى صيدًا ثم غابَ ولو لَيْلًا ثم وجد ولو بعد يومه الذي رماه فيه ميتًا حل، لحديث عدي بن حاتم قال: "سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أرضنا أرض صيد، فيرمي أحدنا الصيد، فيغيب عنه ليلة أو ليلتين، فيجد فيه سهمه، فقال: إذا وجدت سهمك ولم تجد فيه أثر غيره، وعلمت أن سهمك قتله فَكُلْهُ" رواه أحمد والنسائي (¬2). ¬
ويَحرُمُ عضو أبانَهُ صائد بمحدد مما به حياة مُسْتَقِرَّةٌ، لحديث: "ما أبيْنَ من حَيٍّ فهو ميت" (¬1)، لا إن مات الصيد المبان منه في الحال كما لو لم يبق فيه حياة مستقرة، أو كان من حوت ونحوه مما تحل ميتته، وإن بقي المقطوع مُعَلَّقًا بجلده حل بحله لأنه لم يبن. والنوع الثاني من آلة الصيد ما أشار إليه بقوله: (أَوْ جَارِحٌ مُعَلَّمٌ) مما يصيد بنابه كالفهود والكلاب، أو بمخلبه من الطير لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} ¬
الآية (¬1)، قال ابن عباس: "هي الكلابُ المعلمةُ، وكُلُّ طَيْرٍ تعلم الصيد والفهود والصقور وأشباهها" (¬2). والجَارحُ لغةً: الكاسب (¬3) قال تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} (¬4) أي: كسبتم (¬5)، ويقال: فلان جراحة أهله أي كاسبهم، ومُكَلِّبِيْنَ من التَّكْلِيْبِ (وهُو) الإغراءُ (¬6)، غير كلبٍ أسود بهيمٍ وهو ما لا بياض فيه نَصًّا (¬7) فيحرم صيده لأنه عليه الصلاة والسَّلام: "أمر بقتله وقال: إنه ¬
شيطان" رواه مسلم (¬1)، وكذا يحرم اقتناؤه وتعليمه لما ذكر ويجب قتل كلب عَقُور لدفع شَرِّهِ عن الناس لا إن عقرت كلبةٌ مَنْ قَرُبَ من ولدها أو خرقت ثوبه فلا يباح قتلها بذلك؛ لأن عقرها ليس عادة لها. ثم تعليم ما يصيد بنابه بثلاثة [شروط] (¬2) أشياء: بـ (أَنْ يَسْترسِلَ إذا أُرْسِلَ، ويَنْزَجِرَ إذا زُجِرَ) قال في "المغني" (¬3): إلا في وقت رؤية الصيد. ومعناه في "الوجيز" (¬4) (وإِذَا أَمْسَكَ) صيدًا (لَمْ يَأْكُلْ) منه لحديث: "فإن أكَلَ فلا تَأْكُلْ، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" (¬5)، ولأن عادة المعلم أن ينتظر صاحبه ليطعمه ولا يعتبر تكرر ذلك بل يحصل بمرة لأنه تعلم صنعة أشبه سائر الصنائع، فلو أكل بعد أن صاد صيدًا ولم يأكل منه لم يخرج بذلك عن كونه ¬
معلمًا، ولم يحرم ما تقدم من صيده؛ لأنه صاده حال كونه معلمًا، ولم يبح ما أكل منه للخبر، ولقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (¬1) وهذا إنما أمسكه على نفسه، ثم إن صاد بعد حل ما لم يأكل منه ولو شرب الصائد دمه لم يحرم نَصًّا (¬2)؛ لأنه لم يأكل منه، ويجب غسل ما أصابه فم كلب لتنجسه كما لو أصاب ثوبه ونحوه. وتعليم ما يصيد بمخلبه كبَاز وصَقْرٍ وعُقَابٍ بأمرين: أن يسترسل إذا أرسل، ويرجع إذا دعي لا بترك الأكل، لقول ابن عباس: "إذا أكل الكلب فلا تأكل، وإن أكل الصَّقْرُ فكُلْ" رواه الخلال (¬3)، ويعتبر لحل صيد ذي نابٍ أو مخلبٍ جرحه للصيد؛ لأنه آلة القتل كالمحدد، فلو قتله بصدم أو خنق لم يبح. (و) الشرط الثالث: (إِرسَالها) بأن يرمي السهم أو ينصب نحو المنجل أو يرسل الجارح (قَاصِدًا) للصيد؛ لأن قتل الصيد (¬4) أمر يعتبر له الدين فاعتبر له القصد كطهارة ¬
الحدث لحديث: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم اللَّه عليه فكُلْ" متفق عليه (¬1)، ولأن إرسال الجارح جعل بمنزلة الذبح ولهذا اعتبرت التسمية معه. (فَلو اسْتَرْسَل جَارِحٌ بنَفْسِهِ فَقَتَلَ صَيْدًا لم يَحِلَّ) ولو زجره ربه ما لم يزد في طلبه بزجره فيحل حيث سمى عند زجره. ومن رمى هدفًا فقتل صيدًا أو رمى رائد صيدًا ولم يره فقتل صيدًا لم يحل؛ لأنه لم يقصد صيدًا على الحقيقة، وإن رمى صيدًا فأصاب غيره أو رمى صيدًا واحدًا فأصاب عددًا حل الكل، وكذا جارح أرسل. وتحل طَريدَةٌ وهي الصيد بين قوم يأخذونه قطعًا حتى يؤتى عليه وهو حي، روى أحمد بإسناده عن الحسن: أنه كان لا يرى بالطَّرِيْدَةِ بأسًا، كان المسلمون يفعلون ذلك في مَغَازيْهِم، وما زال النَّاسُ يفعلونه في مغازيهم (¬2)، قال أحمد وليس هو عندي إلا الصيد يقع بينهم لا يقدرون على ذكاته فيأخذونه قطعًا. (¬3)، ومن أثبت صيدًا ملكه؛ لأنه أزال امتناعه بإثباته كما لو قتله، فإن تحامل ومشى غير ممتنع فأخذه غيره لم يملكه، وإن لم يثبته فدخل محل غيره فأخذه رب المحل ملكه، أو وَثَبَ حوتٌ فوقع حِجْرِ شخصٍ ولو لِسَفِينة ملكه بذلك لسبقه إلى مباح، أو دخل ظبي داره فأغلق بابها ولو جهله أو لم يقصد تملكه ملكه، أو فَرَّخَ في برجه طائر غير مملوك ملكه صاحب ¬
البرج لحيازته له، وإن وقعتْ سَمكةٌ بسفينةٍ لا بحجر أحد فلِرَبِّ السَّفينةِ لأنها ملكه ويده عليها. ويحرم صيد سمك وغيره بنجاسةٍ كعذرةٍ ومَيْتَةٍ ودَمٍ؛ لأنه يأكلها فيصير كالجلالة، ويكره صيد الطَّير بالشِّبَاشِ، وهو طائر كالبُوْمَةِ تخاط عيناه أو تربط لأن فيه تعذيبًا للحيوان، ولا يكره الصيد ليلًا أو بما يُسكره. ومن وَجَدَ فيما صاده علامة مُلْكٍ كقِلَادَةٍ يِرَقَبة وكحَلَقَةٍ بأذنه وكقَصِّ جناح طائر فهو لُقَطَةٌ يُعَرِّفُهُ وَاجِدُهُ. (و) الشرط الرابع: (التَّسْمِيَةُ) أي قول بسم اللَّه (عِنْدَ رَمْي) نحو سهم (أو) عند (إِرْسَال) جَارحَه كما تعتبر في ذكاة، وتجزئ بغير العربية ولو ممن يحسنها، صحّحه في "الإنصاف" (¬1)، (ولا تَسْقُطُ) التسمية في الصيد (بحالٍ) بخلاف الذكاة فتسقط سهوًا كما تقدم. ولا يضر تقدم يسير عرفًا للتسمية على الإرسال أو الرمي، وكذا لا يضر تأخيرٌ يَسيرٌ للتسمية في جارح إذا زجره فانزجر إقامة ذلك مقام ابتداء إرساله. ولو سمى على صيد فأصاب غيره حل لا إن سمى على سهم ثم ألقاه ورمى بغيره، أو سمى على شاة وذبح غيرها بتلك التسمية لم تحل، سواء أرسل الأولى أو ذبحها؛ لأنه لم يقصد الثانية بتلك التسمية، (وسُنَّ تَكْبِيرٌ معها) أي التسمية كما يسن مع الذكاة. ¬
(ومَنْ أَعتَقَ صَيْدًا) أو أرسله ولم يقل: أعتقته، (أَوْ أَرْسَلَ بَعِيْرًا أو غَيْرَهُ) من بهيمة الأنعام (لم يَزُلْ مُلْكُهُ عنه) ذكره ابن حزم إجماعًا (¬1) وكَانْفِلَاتِهِ منه، قال ابن عقيل: ولا يجوز أعتقتك في حيوان مأكول؛ لأنه فعل الجاهلية. انتهى (¬2)، فلا يملكه آخذه بإعراضه عنه، بخلاف نحو كسرة أعرض عنها فإنه يملكها آخذها؛ لأنه مما لا تتبعه الهمة وعادة الناس الإعراض عن مثلها. ¬
باب الأيمان
بَابُ الأَيْمَانِ واحدها يَمينٌ وهي: القَسَمُ -بفتح القاف والسين الهملة- والإيلاءُ والْحَلفُ بأيمان مخصوصة تأتي، وأصل اليمين اليد المعروفة سمي بها الحلف لإعطاء الحالف يمينه فيه كالعهد والمُعَاقَدَة. (¬1) فاليمين: تَوكيدُ حُكْم بذكرِ مُعَظَّمٍ على وجه مخصوص وهي وجوابها كشرطٍ وجزاءٍ (¬2). وهي مشروعة في الجملة إجماعًا (¬3) لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (¬4) وحديث: "إذا حَلَفْتَ عَلَى يَمينٍ ثم رأيت غيرها خيرًا منها فَأْتِ الذي هُوَ خيرٌ وكَفِّرْ عن يمينك" متفق عليه (¬5). ¬
و (تَحرُمُ) اليمين (بغيرِ) ذات (اللَّهِ، أَوْ) بغير (صِفَةِ مِنْ صِفَاتِهِ) تعالى، (أَوْ) بغير (القرآن) لحديث ابن عمر: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سمع عمر يحلف بأبيه فقال: إن اللَّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفًا فليحلف باللَّه أو ليصمت" متفق عليه (¬1)، وعن ابن عمر مرفوعًا: "من حلف بغير اللَّه فقد كفر أو أشرك" رواه الترمذي وحسّنه (¬2)، وهو على التغليظ، ولا كفارة في الحلف بغير اللَّه ولو حنث؛ لأنها وجبت في الحلف باللَّه تعالى وصفاته صيانة لأسمائه تعالى، وغيره لا يساويه في ذلك، واليمين الموجبة للكفارة بشرط الحنث هي التي باسم اللَّه تعالى الذي لا يسمى به غيره كقوله: واللَّه أو والرحمن، لقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ¬
ادْعُوا الرَّحْمَنَ} الآية (¬1)، فجعل لفظة اللَّه ولفظة الرحمن سواء في الدعاء، فيكونان سواء في الحلف، والقديم الأزلي، والأول الذي ليس قبله شيء، والآخر ليس الذي بعده شيء، وخالق الخلق، ورازق الخلق، ورب العالمين، والعالم بكل شيء، ومالك يوم الدين، ورب السماوات والأراضين، واسم اللَّه الذي لم يسم به غيره، ولم ينو الحالف الغير كالرحيم قال اللَّه تعالى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (¬2)، والعظيم، والقادر، والرب، والمولى، والرازق، والخالق، والسيد من الأسماء المشتركة، أو بصفة له تعالى كوجه اللَّه تعالى نَصًّا (¬3) قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (¬4) وعظمته وكبريائه، وعزته وعهده وميثاقه، وحقه وأمانته، وإرادته وقدرته وعلمه، ولو نوى مراده ومقدوره أو معلومه سبحانه وتعالى، لأنه بالإضافة إليه صار [يمينا] (¬5) بذكر اسم اللَّه تعالى معه، وإن لم يضفها لم تكن يمينًا إلا أن ينوي بها صفته تعالى، وأمَّا [ما] (¬6) لا يُعَدُّ من أسمائه تعالى ¬
كالشيء، والموجود، والذي لا ينصرف إطلاقه إليه تعالى ويحتمله، كالحي، والواحد، والكريم، فإن نوى به اللَّه تعالى فهو يمينٌ لنيته بلفظه ما يحتمله كالرحيم والقادر، وإلا ينوِ به اللَّه تعالى فلا يكون يمينًا. وقول الحالف: وأيْمُ اللَّه يمينٌ كقوله: وأيْمن اللَّه، وهمزته همزة وصل عند البصريين، وهو بضم الميم والنون، قال أبو عبيد: "وهو مُشْتَقٌّ من اليُمْنِ (¬1) يعني البَرَكَةَ". (¬2) أو قوله: لَعَمْرُ اللَّه يمينٌ ومعناه الحلف ببقائه وحياته، والعَمرُ -بفتح العين وضمها- الحياة، والمستعمل في القَسَمِ المفتوح خاصة واللام للابتداء وهو مرفوع بالابتداء وخبره محذوفٌ وُجوبًا أي قسمي. (¬3) وأقْسَمتُ باللَّه أو أقْسِمُ باللَّه، وشَهِدْتُ (¬4) أو أشْهَدُ، وحَلَفْتُ أو أحْلِفُ، وعَزَمتُ أو أعزِمُ، وآلَيْتُ أو أُوْلِيْ، وقَسَمًا وحَلِفًا، وألِيَّةً وشهادةً، وعزيمةً باللَّه يمين نواه بذلك أو أطلق قال اللَّه تعالى: {فَيُقْسِمَانِ ¬
بِاللَّهِ} (¬1) {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} (¬2) {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} (¬3)، ولأنه لو قال: باللَّه لأفعلن بلا قسم ونحوه صار يمينًا، فإذا ضم إليه ما يؤكده كان أولى، وإنْ نَوَى بذلك خبرًا فيما يحتمله كقوله: نويت بأقْسَمْتُ باللَّه ونحوه الخبر عن يمين سبق قُيلَ منه لاحتماله. والحلف بكلام اللَّه تعالى والمصحف والقرآن أو سورة منه أو آية يمينٌ؛ لأنه صفة من صفات اللَّه تعالى، والمصحف يتضمن القرآن الذي هو صفته تعالى (¬4)، ولذلك أطلق عليه القرآن في الحديث: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو" (¬5)، وقالت عائشة: "ما بين دَفَّتَيْ المصحف كلام اللَّه" (¬6). ¬
وفي اليمين بشيء من ذلك فيه (¬1) كفارة واحدة، لأنه يمين واحدة، وكذا الحلف بالتوراة ونحوها من كتب اللَّه. ¬
فصل
فَصْلٌ وحروف القسم ثلاثةٌ: - باء: وهي الأصل، ويليها مُظهر، كباللَّه، ومضمر كاللَّه أقْسِمُ به. والثاني: واوٌ، وَيَليها مظهر فقط، كواللَّه والنجم، وهي أكثر استعمالًا. والثالث: تاء، وأصلها الواو، ويليها اسم اللَّه تعالى خاصةً نحو: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} (¬1) وشَذَّ تالرَّحْمنِ وتَربِّ الكعبة ونحوها فلا يقاس عليه، كان ادَّعَى من أتى بأحد الحروف الثلاثة في موضعه المستعمل فيه أنه لم يرد القسم لم يقبل منه؛ لأنه خلاف الظاهر. وقوله: باللَّه لأفعلن يمينٌ، ولو قال: أردت أني أفعله بمعونة اللَّه ولم أرد القسم لم [يقبل] (¬2)، وقوله: أسالك باللَّه لتفعلن إن نوى به اليمين انعقدتْ، وإن نوى السؤال دون اليمين لم تنعقد. ويصح قسم بغير حروفه كقوله: اللَّه لأفعلن جرًا للاسم الكريم [ونصبًا] (¬3)؛ لأن كلًّا منهما لغة صحيحة ¬
كقوله عليه السلام لرُكانَةَ (¬1) لما طلق امرأته: "آللَّه ما أردت إلا طلقةً واحدةً؟ " (¬2)، وقال ابن مسعود: لما أخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقتل أبي جهل وقال له: "آللَّهِ إِنَّكَ قَتَلْتَهُ؟ قال: آللَّه إِنِّيْ قَتَلْتُهُ" (¬3)، فإن نصب المقسم به مع واو القسم أو رفعه معها أو بدونها فذلك ¬
يمينٌ؛ لأن من لا يعرف العربية لا يفرق بين الجر وغيره، والظاهر منه مع اقترانه بالجواب إرادة اليمين إلا أن لا ينويها من يحسن العربية فلا يمينًا؛ لأن القسم به لا يكون مرفوعًا وإنما هو مبتدأ أو عطف على شيء متقدم، ولا يكون منصوبًا مع الواو إذ لا تكون إلا عاطفة، فعدوله عن الجر ظاهر في إرادة غير اليمين، فإن نوى به اليمين فيمين؛ لأنه لَاحِنٌ، واللحن لا يقاوم النية كلحنه في القرآن لا يخرجه عن كونه قرآنًا. ويجاب قسم في إيجاب بإنْ بكسر الهمزة خفيفة كقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)} (¬1) وثقيلة كقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (¬2) وبلام التوكيد كقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} (¬3)، ونُؤنَيْ توكيدٍ كقوله تعالى: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} (¬4) ويقَدْ كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)} (¬5) بعد {والشَّمْسِ ¬
وَضُحَاهَا (1)} (¬1) وبِبَلْ عند الكوفيين كقوله: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ} (¬2) وقال البصريون: الجواب محذوف (¬3) واختلفوا في تقديره، ويجاب قسم في نفي بما كقوله تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)} (¬4)، وبإنْ بمعناها كقوله تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى} (¬5)، وبلا كقول الأعشى (¬6): ¬
فآليت لا أرثي لها من كلالةٍ ... ولا منحفًا حتى تلاقي محمدا (¬1) وتحذف لا لفظًا من جواب قسم إذا كان الفعل مضارعًا نحو: والله أفعل، ومنه قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} (¬2). ويكره حلف بالأمانة لحديث: "من حلف بالأمانة فليس منا" رواه أبو داود (¬3)، كما يكره الحلف بعتق وطلاق لحديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تحلفوا إلا باللَّه ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون" رواه النسائي (¬4). ¬
(فمَنْ حَلَفَ) على فعل شيء أو تركه (وحَنِثَ) بأن لم يبر في حلفه (وَجَبَتْ عَليهِ الكَفَّارَةُ، ولوجُوبِها) أي كفارة اليمين (أربعةُ شروطٍ): - أحدها: (قَصدُ عَقْدِ الْيَمِينِ) لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (¬1) فلا تنعقد لغوًا بأن سبقت على لسانه بلا قصدٍ كقوله: لا واللَّه، وبلى والله في عُرضِ حديثه فلا كفارة فيها، لحديث عائشة مرفوعًا: "اللغو في اليمين كلام الرجل في بيته: لا واللَّه، وبلى واللَّه" رواه أبو داود (¬2)، والعُرْضُ بالضم الجانب وبالفتح خلاف الطُّول (¬3)، ولا تنعقد من نائمٍ وصغيرٍ ومجنونٍ ومُغْمًى عليه ومعتوهٍ لأنهم لا قصد لهم. (و) الشرط الثاني: (كونُهَا) أي اليمين (على مُسْتَقْبَلٍ) ممكن يتأتى يرُّهُ وحِنْثُهُ، (فَلا تَنْعَقِدُ) اليمين بحلف (على ماضٍ كاذبًا عالمًا به) أي بكذبه (وهي) اليمين ¬
(الْغَمُوْسُ)، سميت به لغمس الحالف بها في الإثم [ثم] (¬1) في النار، (ولا) على ماضٍ (ظَانًّا صِدْقَ نَفْسِهِ فَيَبِيْنُ بِخِلَافِهِ) أي خلف ظنه فلا كفارة حكاه ابن عبد البر إجماعًا (¬2) لقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}، وهذا مِنْهُ، لأنه يكثر فلو وجبت فيه كفارة لشَقَّ وحصل الضرر وهو منتفٍ شرعًا. (ولا) تنعقد يمين علق الحنث فيها (على فعلٍ مُسْتَحِيْلٍ) لذاته كشرب ماء الكُوْز كقوله: واللَّه لا شربت ماء الكُوْز والحال أنه لا ماء فيه، وكذا لا جمعت بين الضدين أو رددت أمس أو على فعلٍ مستحيلٍ لغيره كقتل الميت وإحيائه كنحو: واللَّه لأقتلن فلانًا الميت ولأُحْييَنَّه ونحوه، أو لا طِرْتُ أو لا صعدت السماء. وتنعقد بحلف على عدم المستحيل لذاته أو إعادته، كقوله: واللَّه لأشربن ماء الكوز ولا ماء فيه، ولأرددن أمس ولأقتلن فلانًا الميت، وتجب الكفارة عليه بذلك في الحال لاستحالة البر في المستحيل، وكذا كل مقالة مُكفرةٍ كالظهار، وقوله: هو يهودي أو برئ من الإسلام كيمين باللَّه في ما سبق تفصيله. (و) الشرط الثالث: (كونُ حَالفٍ مُخْتَارًا) لليمين فلا تنعقد من مُكْرَهٍ لحديث: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". (¬3) (و) الشرط الرالع: (حِنْثُهُ بفعلِ مَا حَلَفَ على تركهِ أو تركِ ما حلف على ¬
فعلِهِ)، فإن لم يحنث فلا كفارة؛ لأنه لم يهتك حرمة القسم، ولو كان فعل ما حلف على تركه أو ترك بها حلف على فعله محرمين كمن حلف على ترك الخمر فشربها أو صلاة فرض فتركها فيكفر لوجود الحنث. (غيرَ مُكْرهٍ)، فحن حلف لا يدخل دارًا فحمل مكرهًا فدخلها لم يحنث؛ لأن فعل المكره لا ينسب إليه للخبر (أَوْ) غير (جَاهِلٍ أَوْ نَاسٍ) كما لو دخل في المثال ناسيًا ليمينه أو جاهلًا أنها المحلوف عليها فلا كفارة لأنه غير آثم، وكذا إن فعله مجنونًا. ومن استثنى فيما يكفر بقوله: إن شاء اللَّه، أو إن أراد اللَّه، أو إلا أن يشاء اللَّه، وقصد ذلك واتصل استثناؤه بيمينه لفظًا بأن لم يفصل بينهما بسكوتٍ ولا غيره، أو اتصل حكمًا كقطع بتنفس أو سُعالٍ ونحوه لم يحنث فعل أو ترك، لحديث أبي بكر مرفوعًا: "من حلف فقال: إن شاء اللَّه لم يحنث" رواه الخمسة إلا أبا داود (¬1). ¬
ويعتبر نطق غير مظلوم خائف بأن يلفظ بالاستثناء نصًّا، وأما المظلوم الخائف فتكفيه نيته؛ لأن يمينه غير منعقدةٍ، أو لأنه بمنزلة المتأول (¬1)، ويعتبر قصد استثناء قبل تمام مستثنى منه أو بعده قبل فراغه من كلامه، ومن شك فيه فكمن لم يستثن؛ لأن الأصل عدمه. وإن حلف لَيَفْعلَنَّ شيئًا وعَيَّنَ وَقْتًا لفعله تعين، فإن فعله فيه بر وإلا حنث، وإلا يُعَيِّنُ وقتًا لم يحنث حتى يَيْأَسَ من فعله بتلف محلوف عليه أو موت حالف أو نحوهما لقول عمر: "يا رسول اللَّه! ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنك آتيه العام؟ قال: لا، قال: فإنك آتيه وتطوف به". (¬2) (ويُسَنُّ حنث ويُكْرَهُ بِرٌّ إِذَا كانت) الحلف (على فِعْلِ مَكروهٍ) كأكل بصلٍ وثومٍ نِيْءٍ، (أو) على (تَركِ مَندوبٍ) كصلاة الضحى (وعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ)، أي يكره حنث ويسن بر إذا كانت على فعل مندوبٍ أو ترك مكروهٍ، (ويجبُ) الحنث (إِنْ كانت) اليمين (على فِعلِ مُحَرَّمٍ) كشرب خمر، (أَوْ) على (تركِ واجبٍ) كنفقة على ¬
زوجة، أو يحلف كاذبًا عالمًا بكذبه، وعُلِمَ منه أن اليمين تعتريه الأحكام الخمسة (وعَكْسُهُ بِعَكْسِهِ)، أي يجب البر إذا كانت اليمين على فعل واجب أو ترك محرم ويحرم الحنث. ويجب الحلف لإنجاء معصوم من هلكةٍ ولو نفسه كتوجه أيمان القسامة وهو مُحِقٌّ، ويندب لصلحة كإزالة حقدٍ بها صلاء بين متخاصمين، ويباح على فعل مباح أو تركه، ويكره على فعل مكروه أو تَرك مندوبٍ، ويحرم الحلف على فعل محرم أو ترك واجبٍ. ولا يلزم محلوفًا عليه إبرار قسم كما لا يلزم إجابة سؤال باللَّه، ويسن إبرار قسم كإجابة سؤال باللَّه تعالى لحديث ابن عباس مرفوعًا قال: "وأخبركم بشر الناس؟ قلنا: نعم يا رسول اللَّه! قال: الذي يسأل باللَّه ولا يعطي به" رواه أحمد والترمذي وقال: "حسن غريب". (¬1) (وإِنْ حَرَّمَ) شخصٌ (أَمَتَهُ، أَوْ) حَرَّمَ (حلالًا غَير زوجَتِهِ) من طعام أو لباس أو غيره كقوله: ما أحل اللَّه عَلَيَّ حرامٌ ولا زوجة له، أو كَسْبيْ أو كسب فلان ¬
عليَّ حرام، أو طعامي عليَّ كالميتة والدم أو لم الخنزير، أو علقه بشرطٍ كإن أكلته فهو عليَّ حرام (لم يَحْرُمُ) لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (¬1)، واليمين على الشيء لا تحرمه، ولأنه لو حرم بذلك لقدمت الكفارة عليه كالظهار، وأما تحريم زوجته فظهار وتقدم حكمه (¬2). (وعليهِ كَفَّارَةُ يمينٍ إِنْ فَعَلَهُ) (¬3) نَصًّا (¬4) للآية، وسبب نزولها أنه عليه السَّلام قال: "لن أعود إلى شرب العسل" متفق عليه (¬5)، وعن ابن عباس وابن عمر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "جعل تحريم الحلال يمينًا" (¬6)، فإن ترك ما حرمه على ¬
نفسه فلا شيء عليه. ومن قال: هو يهودي أو نصراني أو يعبد الصَّليب أو بريء من اللَّه أو من الإسلام أو من القرآن أو من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن فعله فقد فعل مُحَرَّمًا لحديث ثابت بن الضحاك (¬1) مرفوعًا: "من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال" متفق عليه (¬2)، وعن بريدة مرفوعًا: "من قال: هو بريء من الإسلام، فإن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا لم يعد إلى الإسلام سالمًا" رواه أحمد ¬
وابن ماجة (¬1)، وعليه كفارة يمين حيث خالف لحديث زيد ابن ثابت أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل عن الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني أو مجوسي أو برئ ممن الإسلام في اليمين يحلف بها فيحنث في هذه الأشياء فقال: "عليه كفارة يمين" رواه أبو بكر (¬2)، لأنه قول يوجب هتك الحرمة فكان يمينًا كالحلف باللَّه تعالى. وإن قال: عصيت اللَّه، وأنا أعصي اللَّه في كل ما أمرني، أو محوت المصحف، أو أدخله اللَّه النار، أو قطع اللَّه يديه ورجليه ليفعلن بهذا، أو لا يفعل كذا فلغو؛ لأن هذه الأشياء لا توجب هتك حرمة فلم تكن يمينًا. ويلزم بحلف بأيمان المسلمين ظهار وطلاق وعتاق ونذر ويمين باللَّه تعالى مع النية ¬
كما لو حلف بكلٍّ على انفراده. ومن قال: عليَّ نذرٌ أو عليَّ يمينٌ فقط، أو: إن فعلت كذا ففعله فعليه كفارة يمين، أو قال: علي عهد اللَّه أو ميثاقه إن فعلت بهذا وفعله فعليه كفارة يمين، لحديث عقبة بن عامرٍ مَرفوعًا: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة [يمين] (¬1) " (¬2)، ومن أخبرعن نفسه بحلف باللَّه ولم يكن حلف فكذبةٌ لا كفارة فيها. (وَتَجِبُ) كفارة يمين ونذر أى إخراجها (فَوْرًا لحِنْثٍ) نَصًّا (¬3)؛ لأنه الأصل في الأمر وإخراجها قبله وبعده سواء، وتجمع تخييرًا ثم ترتيبًا لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ. . .} الآية (¬4). ¬
(ويُخَيَّرُ) حانث (فيها) أي في الكفارة يمين (بين إطعامِ عَشرةِ مَسَاكِين) من جنسٍ وَاحدٍ أو أكثر ما يجزئ من بر أو غيره، فيجوز أن يطعم بعضهم بُرًّا وبعضهم تَمرًا مثلًا، (أَوْ كِسْوَتُهم كسوةً تَصِحُّ بِها صَلاةُ فرضٍ) للرجل ثوب يجزئ في صلاته الفرض فيه وللمرأة قميص وخمار كذلك، (أَوْ عتقِ رقبةٍ مؤمنةٍ) سليمة مما يضر بالعمل ضررًا بَيِّنًا وتقدم تفصيله في كفارة الظهار (¬1)، وتجزئ الكسوة من كتان وقطن وصوف ووبر وشعر، ويجزئ الجديد واللبيس ما لم تذهب قوته لعموم الآية. (فَمنْ عَجَزَ) ممن وجبت عليه كفارة يمين عن هذه الثلاثة فـ (كـ) عجزه عن (فِطْرَةٍ) وتقدم موضحًا، (صَامَ ثَلاثةَ أَيَّامٍ) للآية (مُتَتابِعَةٍ) لقراءة ابن مسعود: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} (¬2)، وكصوم المظاهر بجامع أنه صوم في كفارة ولا ينتقل إليه إلا ¬
بعد العجز عن أحد الثلاثة؛ إن لم يكن عذر في ترك التتابع من نحو مرض. ويجزئ فى الكفارة أن يطعم بعضًا ويكسو بعضًا، ولا يجزئ تكميل عتق بإطعام أو كسوة، ولا تكميل إطعام أو كسوة بصوم كبقية الكفارات. ومن ماله غائب يستدين إن قدر ويكفر، وإلا صام؛ لأنه لم يجد. ولا تحزئ كفارة أخرجت قبل حلف إجماعًا (¬1)؛ لأنه تقديم للحكم على سببه كتقديم الزكاة على ملك النصاب. ومن لزمته أيمان موجبها واحد ولو على أفعال وحنث في الكل قبل تكفير فكفارةٌ واحدةٌ نَصًّا (¬2)؛ لأنها كفارات من جنس فتداخلت كالحدود من جنس وإن اختلفت مَحَالّها كما لو زنى بنساء أو سرق من جماعة. وإن اختلف موجبها كظهار ويمين باللَّه تعالى فكفارتان. ومن حلف يمينًا واحدة على أجناس مختلفة كقوله: واللَّه لا ذهبت إلى فلان ولا ¬
كلمته ولا أخذت منه فكفارة واحدة سواء حنث في الجميع أو في واحد منها. وليس لِقِنٍّ أن يكفر بغير صوم؛ لأنه لا مال له يكفر منه ولا لسيده منعه منه ولا من صوم نذر لوجوبه لحق اللَّه تعالى كصوم رمضان وقضائه، ويكفر كافر ولو مرتدًا بغير صوم لأنه لا يصح من الكافر، ويتصور عتقه للمسلم بقوله لمسلم: أعتق عبدك عني وعلي ثمنه فيفعل، أو يكون دخل في ملكه بنحو إرثٍ.
فصل
فَصْلٌ (ومَبنى يَمينٍ على العُرْفِ)، والاسم العرفي ما اشتهر مجازه حتى غلب على حقيقته كالرَّاوية حقيقة في: الجمل يستسقى عليه وعرفًا: للمزادة، وكالظَّعِيْنَةِ الناقة يظعن عليها (¬1)، وعرفًا المرأة في الهوْدَج (¬2)، وكالدَّابة حقيقة ما دَبَّ ودرج وعُرفًا: الخيل والبغال والحمير، وكالغَائِطِ حقيقة: المكان المطمئن من الأرض (¬3) وعرفًا: الخارج المستقذر، وكالعَذِرَة حقيقة: فناء الدار (¬4) وعُرفًا: الغائط، ونحو ذلك، وإنما يرجع إلى الاسم العرفي عند عدم النية والسبب والتعيين، ويقدم عند الإطلاق إذا اختلفت الأسماء شرعي فعرفي فلغوي، فإن اختلف بأن لم يكن له إلا مسمى واحد كسماء وأرض ورجل وإنسان ونحوها انصرف اليمين إلى مسماه بلا خلاف. ¬
(ويُرْجَعُ فيها) أي اليمين (إلى نِيَّةِ حَالف) فهي مبناها ابتداء (ليس) بيمينه (ظالمًا) نصًّا (¬1) مظلومًا كان أو لا، وأما الظالم الذي يستحلفه حاكم لحق عليه فيمينه على ما يصدقه صاحبه (إِنْ احتَمَلَها) أي النية (لَفظُهُ) أي الحالف (كَنِيَّتِهِ ببناءٍ وسَقْفٍ السَّمَاءَ)، وكنيته بالفراش وبالبساط الأرض، وباللباس الليل، وبالأخوة أخوة الإسلام، وما ذكرت فلانًا أي قطعت ذكره، وما رَأيْتُهُ أي قطعت رئَتَه، وكَنِيَّتِه بنسائي طوالق أقاربه النساء، وكنيتهِ بِجَوَاريْ أحرار سفنه، وما كاتَبْتُ فلانًا مكاتبة الرقيق، وبما عَرَفْتُهُ جعلته عريفًا، وبما أعْلَمْتُهُ أي: جعلته أعلما أي شققت شفته، وبما سألته حاجة أي شجرة صغيرة، وبما أكلت له دجاجة: الكُبَّةِ من الغزل، وبالفَرْشِ صغار الإبلِ، والحَصْرُ الْحَبْسُ والبَارَية السِّكِّيْنُ يبرأ بها ونحوه. ويقبل حكمًا دعوى إرادة ما ذكره مع قرب احتمال من ظاهر لفظه ومع توسطه، فيقدم ما نواه على عموم لفظه؛ لأنه نوى بلفظه ما يحتمله ويسوغ لغةً التعبير به عنه فانصرفت يمينه إليه، والعام قد يراد به الخاص كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} (¬2) فالناس الأول أريد به نعيم بن مسعود ¬
الأشجعي (¬1)، والناس الثاني أبو سفيان وأصحابه (¬2)، وكقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (¬3) ولم تدمر السماء ولا الأرض ولا مساكنهم، والخاص قد يراد به العام كقوله تعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (¬4) {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} (¬5) {فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} (¬6) ولم يرد ذلك بعينه بل كل شيءٍ. وحيث احتمله اللفظ صرف اليمين إليه بالنية لحديث: "وإنما لكل امرئٍ ما نوى" (¬7)، ولأن كلام الشارع يحمل على ما دل دليل على إرادته به فكذا كلام ¬
غيره، وأما ما لا يحتمله اللفظ أصلًا كما لو حلف لا يأكل خبزًا وقال: أردت أن لا أدخل بيتًا فلا أثر له، ويجوز التعريض في مخاطبةٍ لغير ظالم ولو بلا حاجةٍ كمن سئل عن شخصٍ فقال: ما هو هنا يشير إلى نحو كفه. فإن لم ينو حالف شيئًا فإلى سبب يمين وما هيجها فمن حلف لأقضين زيدًا حقه غدًا فقضاه قبله لم يحنث إذا قصد عدم تجاوز الغد أو اقتضاه السبب؛ لأن مبنى الأيمان على النية ثم السبب، فحيث نوى القضاء قبل خروج الغد أو دل السبب عليه تعلقت اليمين به، ومن حلف عن شيء لا يبيعه إلا بمائة لم يحنث إلا إن باعه بأقل، ولا يبيعه بها حنث ببيعه بها وبأقل منها؛ لأنها العرف في هذا، كان حلف لا يدخل دارًا وقال: أردت اليوم قُيِلَ منه حكمًا؛ لأنه محتمل ولا يعلم إلا، منه. والعبرة في اليمين بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، فمن حلف لا يدخل بلدًا ما دام الظلم فيها فزال ودخل بعد لم يحنث أو حلف لوالي من ولاة الأمور لا أرى منكرًا إلا رفعته إليه فعزل، أو حلف على زوجته فطلقها، أو حلف على رقيقه أن لا يفعل كذا إلا بإذنه فأعتقه، أو باعه أو وهبه لم يحنث بذلك بعد ولو لم يرد ما دام كذلك، إلا إذا وجد محلوف على تركه أو ترك محلوف على فعله حال وجود صفة عادت. ومن حلف ليتزوجن بر بعقد نكاح صحيح، كان حلف لا يكلم زيدًا لشربه الخمر فكلمه وقد تركه لم يحنث.
فصل
فَصْلٌ فإن عدمت النية والسبب رجع إلى التعيين؛ لأنه أبلغ من دلالة الاسم على مسماه لنفيه الإبهام بالكلية، فمن حلف لا يدخل دار فلانٍ هذه فدخلها وقد باعها أو هي فضاء أو مسجد أو حمام، أو حلف لا لبست هذا القميص فلبسه وهو رداء أو وهو عمامة حنث. أو حلف لا كلمت هذا الصبي فصار شيخًا، أو حلف لا كلمت امرأة فلانٍ هذه أو عبده أو صديقه هذا فزال ذلك ثم كلمهم حنث. أو حلف لا أكلت هذا الرطب فصار تمرًا ودبسًا أو خلا، أو حلف لا أكلت هذا اللبن فصار جبنًا أو أقطًا ثم أكله ولا نية ولا سبب يخص الحالة الأولى حنث. فإن عدم ما تقدم من النية والسبب والتعيين رجع في اليمين إلى ما يتناوله الاسم؛ لأنه مقتضاه ولا صارف عنه. ويقدم عند الإطلاق إذا اختلفت الأسماء شرعي فعرفي فلغوي كما تقدم (¬1)، ثم الاسم الشرعي ما له موضوع شرعًا وموضوع لغةً، كالصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك، فاليمين المطلقة على فعل شيءٍ من ذلك أو على تركه تنصرف إلى الموضوع الشرعي؛ لأنه المتبادر للفهم عند الإطلاق، ولذلك حمل عليه كلام الشارع حيث ¬
لا صارف، ويتناول الصحيح منه بخلاف الفاسد؛ لأنه ممنوع منه شرعًا، فمن حلف لا ينكح أو لا يبيع أو يشتري -والشَّرِكةُ (¬1) والتَّوْلِيَةُ (¬2) والسَّلَمُ (¬3) والصُّلْحُ على مالٍ (¬4) شراءٌ- فعقد عقدًا فاسدًا (¬5) لم يحنث؛ لأن الاسم لا يتناول الفاسد، إلا إن حلف لا يحج فحج حجًّا فاسدًا فيحنث وكذا العمرة، بخلاف سائر العبادات. ولو قيد يمينه بممتنع الصحة كمن حلف لا يبيع الخمر ونحو ذلك حنث بصورة ذلك لتعذر الصحيح، ومن حلف لا يحج أو لا يعتمر حنث بإحرام به أو بها، ولا يصوم حنث بشروع صحيح بالصوم لأنه يسمى صائمًا بالشروع فيه ولو نفلًا بنيته من النهار حيث لم يأتِ بِمُنَافٍ، ومن حلف لا يصلي حنث بالتكبير للإحرام ولو على جنازة لدخولها في عموم الصلاة بخلاف الطواف، وإن حلف أن لا يبيع فلانًا أو لا يؤجره أو لا يزوجه لم يحنث حتى يقبل. ¬
ومن حلف أن لا يهب زيدًا شيئًا فأهدى إليه، أو باعه وحاباه، أو وقف عليه، أو تصدق عليه صدقة تطوع حنث؛ لأن ذلك كله من أنواع الهبة، ولا يحنث إن كانت الصدقة واجبة كالزكاة، أو كانت من نَذرٍ أو كفارةٍ أو ضَيَّفَهُ القدر الواجب فلا حنث؛ لأن ذلك من حق اللَّه تعالى فلا يسمى هبة، أو أبرأه من دين له عليه فلم يحنث لأن الهبة تمليك وليس له إلا دين في ذمته، أو أعاره أو أوصى له فلا حنث، أو حلف أن لا يتصدق عليه فوهبه فلا حنث؛ لأن الصَّدَقةَ نَوعٌ خَاصٌ من الهبة، ولا يحنث حالف على نوع بفعل نوع آخر، ولذلك لم يلزم من تحريم الصدقة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تحريم الهبة والهدية، أو حلف لا يتصدق فأطعم عياله؛ لأنه لا يسمى صدقة عرفًا، وإطلاق الصدقة عليه في الخبر باعتبار ترتب الثواب عليه كالصدقة، وإن نذر أن يهب فلانًا شيئًا بر بالإيجاب سواء قبل الموهوب له أو لا. والاسم العرفي: ما اشتهر مجازه حتى غلب على حقيقته كما تقدم تمثيله، فمن حلف لا يأكل عيشًا حنث بأكل خبزٍ؛ لأنه المعروف فيه، والعيش لغة: الحياة. ومن حلف لا يطأ امرأته حنث مجماعها لانصراف اللفظ إليه عرفًا، ومن حلف لا يتسرَّى حنث بوطء أمته مطلقًا؛ لأن التَّسرِّي مأخوذٌ من السِّرِّ وهو الوطء، قال تعالى: {وَلَكِنْ [لا] (¬1) تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} (¬2) وقال الشاعر (¬3): ¬
أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ الْقَوْم أنِّنِيْ ... كَبِرْتُ وَأَنْ لَا يُحْسِنُ السِّرَّ أمْثَالِيْ ولا يعتبر الإنزال كسائر أحكام الوطء. ومن حلف لا يطأ ولا يضع قدمه في دار حنث بدخولها راكبًا وماشيًا ومنتعلًا وحافيًا؛ لأن ظاهر الحال أن القصد امتناعه من دخولها. ومن حلف لا يركب حنث بركوب سفينة لقولى تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا} (¬1) أو لا، يدخل بيتًا حنث بدخول مسجد لقوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} (¬2) {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} (¬3) ويدخول حمام لحديث: "بئس البيت الحمام" (¬4)، وبدخول بيت شعر وبيت أدَمٍ وخيمة لقوله تعالى: {وُجَعَل ¬
لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا. . .} الآية (¬1) لا بدخول صُفة دارٍ ودِهْلِيْزِهَا (¬2)؛ لأنه لا يسمى بيتًا. وإن حلف لا يضرب فلانًا فخنقه أو نتف شعره أو عضه حنث لوجود المقصود بالضرب وهو التألم. وإن حلف لا يَشُمُّ الريحان فَشَمَّ وردًا وَياسَمِيْنًا (¬3) أو بَنَفْسَجًا (¬4) ولو يابسا حنث. ¬
والاسم اللغوي: ما يغلب مجازه على حقيقته، فمن حلف أن لا يأكل لحمًا حنث بأكل لم سمك وأكل لم محرم كغير مأكول لدخوله في مسمى اللحم، ولا يحنث برق لم؛ لأنه ليس بلحم، ولا بأكل منع وكبد وكلية وشحم وكرش ومصران وطحال وقلب ودماغ وأكارع ولحم رأس ولسان؛ لأن مطلق اللحم لا يتناول شيئًا من ذلك، وهذا مع الإطلاق، فإن كان نية أو سبب فكما تقدم. وإن حَلَفَ لا يأكل لبنًا فأكله ولو من صيد أو آدمية حنث؛ لأن الاسم يتناوله حقيقة وعرفًا، ولا يحنث إن أكل زبدًا أو سمنًا أو كَشْكًا (¬1) أو أقطًا ونحوه مما يعمل من اللبن ويختص بالاسم؛ لأنه لا يدخل في مسمى اللَّبن. ومن حلف لا يأكل رأسًا ولا بيضًا حنث بأكل رأس طير وسمك وجراد وبيض ذلك لدخوله في مسمى الرأس والبيض. وإن حلف لا يأكل من هذه البقرة فلا يعم ولدًا ولا لبنًا؛ لأنهما ليسا من أجزائها، كان حلف لا يأكل فاكهةً حنث بأكل بطيخ؛ لأنه ينضج ويحلو ويتفكه به، وسواء الأصفر وغيره. وإن حلف لا يأكل رطبًا أو بسرًا فأكل مذنبا حنث؛ لأن فيه رطبًا وبسرًا لا إن أكل تمرًا، أو حلف لا يأكل رطبًا أو بسرًا فأكل الآخر [لم يحنث] (¬2) لأنه لم يأتِ ¬
بالمحلوف عليه، أو، يأكل تمرًا فأكل رطبًا أو بسرًا أو دبسًا أو نَاطِفًا (¬1) لم يحنث؛ لأنه لم يأكل تمرًا. وإن حلف [لا] (¬2) يأكل أدمًا حنث بأكل بيضٍ وشوي وجبنٍ وملحٍ وتمرٍ، لحديث يوسف بن عبد اللَّه بمن سلام (¬3) قال: "رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وضع تمرة على كسرة وقال: هذا أدم" رواه أبو داود (¬4)، وعنه عليه ¬
السلام: "سيد الإدام اللَّحم" (¬1)، وقال: "سيد إدامكم اللحم" رواه ابن ماجة (¬2)، وكذا زيتون ولبن وخل وعسل وزيت وسمن لحديث: "ائتدموا بالزيت، وادهنوا به، فإنه من شجرةٍ مباركةٍ" رواه ابن ماجة (¬3)، وعنه عليه السلام: "نعم الإدام الخل" (¬4)، والباقي في معناه. ¬
وإن حلف لا آكل قوتًا حنث بأكل خبز وتمر وزبيب وتين يابس ولحم ولبن وكل ما تبقى معه البنية؛ لأنَّ كُلًّا من هذا يُقتات في بعض البلاد. وإن حلف لا يأكل طعامًا حنث باستعمال كل ما يُؤْكَلُ ويشرب من قوت وأدم وحلوى أو فاكهة وجامد ومائع. ومن أكل ما حلف لا يأكله مُستَهلكًا في غيره كسمن حلف لا يأكله فأكله في خَبيْصٍ (¬1)، أو حلف لا يأكلُ بَيضًا فأكل ناطفًا، أو لا يأكل شعيرًا فأكل حنطة فيها حبات شعير لم يحنث؛ لأن ما أكله لا يسمى سمنًا ولا بيضًا، والحنطة فيها شعير لا تسمى شعيرًا إلا إذا ظهر طعم شيء من محلوف عليه كظهور طعم السمن في الخبيص والبيض في الناطف والشعير في الحنطة فيحنث. ومن حلف لا يلبس شيئًا فلبس ثوبًا أو درعًا أو جَوْشَنًا (¬2) أو ¬
قَلَنْسُوَةً (¬1) أو عمامةً أو خُفًّا أو نعلا حنث؛ لأنه ملبوس حقيقةً وعُرفًا كالثياب، ومن حلف لا يلبس ثوبًا حنث كيف لبسه وإن تعمم به. وإن حلف لا كلمت زيدًا فكاتبه أو راسله حنث لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} (¬2) وحديث: "ما بين دفتي المصحف كلام اللَّه" (¬3) ما لم ينو مشافهته بالكلام فلا يحنث بالمكاتبة ولا المراسلة لعدم المشافهة فيهما إلا إذا ارْتُجَّ عليه في صلاة ففتح عليه فلا يحنث لأنه كلام اللَّه. وإن حلف ليشربن هذا الماء أو ليضربن غلامه وأمكنه فعل محلوف عليه بأن مضى بعد يمينه ما يتسع لفعله فتلف المحلوف عليه بأن أريْقَ الماء أو مات الغلام قبل الشرب أو الضرب حنث حال تلفه؛ لأنه لم يفعل ما حلف على فعله في وقته بلا إكراهٍ ولا نسيانٍ لليأس من فعله بتلفه. وإن حلف لَيَقْضِيَنَّهُ حقه غدًا فأبرأه رب الحق اليوم لم يحنث؛ لأنه منعه بإبرائه من قضائه أشبه المكره أو أخذ رب الحق منه عوضًا لحصول الإيفاء به، أو منع الحالف ¬
منه كرهًا على عدم القضاء فلا حنث، أو مات رب الحق فقضاه لورثته لم يحنث لقيام وارثه مقامه.
فصل في النذر
فَصْلٌ في النَّذْرِ وهو لغةً: الإيجاب (¬1) يقال: نذر دم فلان أي وجب قتله. وشرعًا: إلزإم مكلف مختار نفسه بعبادة للَّه تعالى (¬2)، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه اللَّه" رواه أحمد (¬3)، ولو كافرًا نصًّا (¬4) لحديث عمر: "إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلةً، فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أوفِ بنذرك" (¬5)، ولأن نذر العبادة ليس عبادة، ويلزم بكل قول ¬
يدل عليه فلا يختص بـ للَّه عليَّ ونحوه ولا ينعقد بغير القول كالنكاح والطلاق. وأجمعوا على صحة النذر ولزوم الوفاء به في الجملة (¬1) لقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (¬2) {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (¬3)، وحديث عائشة مرفوعًا: "من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه" (¬4). وابتداء (النَّذْرُ مَكْرُوهٌ) لحديث: "النذر لا يأتي بخير وانما يستخرج [به] (¬5) ¬
من البخيل" (¬1)، وقال ابن حامد (¬2) وغيره: لا يَرُدُّ قَضَاءً ولا يَمْلِكُ به شيئًا مُحْدَثًا (¬3). قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (¬4)، وحرمه طائفة من أهل الحديث (¬5)، ونقل عبد اللَّه: نهى عنه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. (ولا يَصِحُّ) النذر (إلا مِنْ مُكلَّفٍ)، فلا ينعقد من غير مكلف كالإقرار، (والْمُنْعَقِدُ) من النذر (ستةُ أنواعٍ): - أحدها: النّذر (المُطْلَقِ كـ) قوله: (للَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ فَعَلْتُ كَذا)، أو إن فَعَلْتُ كذا فـ للَّه عليّ نذر (ولا نِيَّةَ) له بشيء وفعل ما علق عليه نذره ¬
(فـ) عليه (كَفَّارَةُ يَمِيْنٍ إِنْ فَعَلَه)، لحديث عقبة بن عامر مَرفوعًا: "كفارة النذر إذا لم يسم كفَّارة يمين" رواه ابن ماجة والترمذي (¬1) وقال: "حسىن صحيح غريب". النوع (الثاني: نَذْرُ لِحَاجٍ وغَضَبٍ وهُو تَعْلِيْقهُ) أي النذر (بشرطٍ يَقْصِدُ المَنْعَ من) فعلـ (ـــه أو) يقصد (الحملَ عَليهِ) أي على فعله، فالأول (كـ) قوله: (إِنْ كَلَّمْتُكَ فَعَليَّ كذا) من حج أو عتق ونحو ذلك (فيُخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهِ و) بين (كَفَّارَةِ يمينٍ) لحديث عمران بن حصين قال: "سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: لا نذر في غضبٍ وكفَّارَتُه كفارة يَمين" رواه سعيد (¬2)، ولا يَضُرُّ قوله على مذهب من يلزم بذلك أو لا أقلد من يَرَى بالكفارة ونحوه؛ لأنه توكيد والشرع لا يتغير به. النوع (الثالث: نذرُ) فِعْلٍ (مُباحٍ كـ) قوله: (للَّه عَلَيَّ أن أَلْبَسَ ثوبي) وأرْكَبَ دابتي (فيُخَيَّر أيضًا) بين فعل وكفارة يمين كما لو حلف عليه. ¬
النوع (الرابع: نذرُ) فعل (مَكرُوهٍ كـ) نذر (طَلاقٍ (¬1) ونحوه) كأكل ثوم وبصل، (فالتَّكْفِيرُ أولى) كما لو حلف عليه. النوع (الخامس: نَذْرُ) فعل (مَعْصِيَةٍ كشُرْبِ خَمْرٍ) وصوم يوم عيد أو يوم حيض أو أيام تشريق، أو ترك واجب (فَيَحْرُمُ الوَفَاءُ) به، لحديث: "ومن نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه" (¬2) ولأن المعصية لا تباح في حال من الأحوال، (ويجِبُ التَّكفِيرُ) على من لم يفعل نذر المعصية كفارة يمين، روي نحوه عن ابن مسعود (¬3)، وابن عباس (¬4)، وعمران بن حصين، وسمرة بن جندب (¬5) كما لو حلف ليفعلنَّهُ ولم يفعله. ويقضي من نذر صومًا محرمًا غير يوم حيضٍ، فمن نذر صوم يوم عيد وأيام تشريق قضاها وكفَّر؛ لأن المنع لمعنى في غيرها وهو كونه في ضيافة اللَّه تعالى، كنذر مريض صوم يوم يُخَافُ عليه فيه فينعقد نذره ويحرم صومه، وكذا نذر صلاةٍ في ثوب ¬
مُحرَّمٍ، بخلاف نذر (¬1) صوم يوم حيض فلا ينعقد؛ لأنه منافٍ للصوم لمعنًى فيه، ومن نذر ذبح معصوم حتى نفسه فعليه كفارة يمين فقط لحديث "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" (¬2). النوع (السادس: نذرُ تبرّرٍ كصَلاةٍ وصِيَامٍ واعْتِكَافٍ) وصدقة بما لا يضره ولا عياله ولا غريمه، وحج وعمرة وزيارة أخ في اللَّه وعيادة مريض وشهود جنازة (بقَصْدِ التَّقَرُّبِ مُطْلقًا) أي غير مُعلق بشرط، (أَوْ مُعلقًا بشرط) وجود نعمة يرجوها أو دفع نِقمةٍ يَخَافُها (كـ) قوله: (إِنْ شفا اللَّهُ مَريضي) أو سلم مالي (فـ للَّهِ عَلَىَّ كذا)، أو حلف بقصد التقرب كقوله: واللَّه لأن شفا اللَّه مريضي أو سلم مالي فـ دلّه عليَّ ¬
كذا، فوجد شرطه (فيلزمُهُ الوفاءُ بهِ) نصًّا (¬1)، وكذا إن طلعت الشمس وقدم الحاج فـ للَّه عَلَيَّ كذا ذكره في "المستوعِب" (¬2)، لعموم حديث: "من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه" رواه البخاري (¬3)، وذم اللَّه تعالى الذين ينذرون ولا يوفون فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} إلى قوله: {بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} (¬4)، ومن نذر طاعة وما ليس بطاعة لزمه فعل الطاعة فقط، لحديث ابن عباس قال: "بينما النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب إذَا هو برجلٍ قائم فسأل عنه فقيل: أبو إسرائيل (¬5)، نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم (¬6)، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: مُرُوْهُ فليجلس، وليستظل، وليتكلم، ¬
وليُتِمَّ صومه" رواه البخاري (¬1)، ويكفر للمتروك كفارة واحدة ولو خصالًا كثيرة لأنه مَنذورٌ وَاحدٌ، ويجوز فعل ما نذره من الطاعة قبل وجود ما علق عليه لوجود سببه وهو النذر كإخراج كفارة يمين قبل الحنث. (ومَنْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ) ممن تسن له الصَّدَقة (بكُلِّ مَالِهِ) بقصد القربة (أجزأه ثُلُثُه) يوم نذره يتصدق به ولا كفارة نصًّا (¬2) لقوله عليه السلام لأبي لبابة بن المنذر (¬3): "يجزئ عنك ثلث حين قال: إن توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك، وأن أنْخَلِعَ من مالي ¬
صدقةً للَّه عزَّ وجَلَّ ولرسوله" رواه أحمد (¬1)، ولو نذر الصدقة ببعض مسمى من ماله كنصفه لزمه ما سماه؛ لأنه التزام ما لا يمنع منه شيء كسائر النذور. (أو) نذر (صَوْمَ شهرٍ ونحوه) وأطلق فلم يعينه (لَزمَهُ التَّتَابُعُ)؛ لأن إطلاق الشهر يقتضيه سواء صام شهرًا هلاليًّا أو ثلاثين يومًا بالعدة، فإن قطعه بلا عذر استأنفه لئلا يفوت التتابع، وإن قطعه لعذر خُيِّرَ بين الاستئناف بلا كفارة وبين البناء على ما مضى ويتم ثلاثين يومًا ويكفر كما لو حلف عليه؛ لأنه لم يأتِ بالمنذور على وجهه. وكذا لو نذر صوم سنةٍ فيلزمه التتابع، ويصوم اثني عشر شهرًا سوى رمضان وسوى أيام النهي، لانصراف نذره إلى صوم سنةٍ كاملةٍ بالنذر، ولو شرط التتابع فيقضي عوض رمضان وأيام النهي، وإن نذر صوم سنة من الآن أو من وقت كذا فكنذر صوم سنةٍ معينةٍ فلا يدخل في نذره رمضان وأيام النهي فلا يقضيها، ولا كفارة؛ لأن تعيين أولها تعيين لها قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ ¬
شَهْرًا} (¬1) فإذا عين أولها تعين أن يكون آخرها انتهاء الثاني عشر. وإن نذر صوم شهر معين كالمحرم فلم يصمه لعذر أو غيره فعليه القضاء متتابعًا؛ لأنه أوجبه على نفسه كذلك، وعليه كفارة يمين لفوات المحل، وإن صام قبله لم يجزئه كصوم شعبان عن رمضان، وإن أفطر يومًا فأكثر لغير عذر استأنف شهرًا من يوم فطره لوجوب التتابع وكفر لفوات المحل، وإن أفطر يومًا فأكثر لعذر بنى على ما مضى وقضى ما أفطره متتابعًا متصلًا بتمامه وكفر لما تقدم، وإن جُنَّ الشهر الذي نذر صومه كله لم يقضه، ولا كفارة لعدم تكليفه فيه كرمضان. و(لا) يلزمه تتابع (إِنْ نَذَرَ) أن يصوم (إيَّامًا معدودةً) ولو ثلاثين نصًّا (¬2)؛ لأن الأيام لا دلالة لها على التتابع بدليل قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬3) إلا بشرط أو نية. ومن نذر صومًا فعجز عنه لِكِبَرٍ أو مَرَضٍ لا يرجى بُرؤه أطعم لكل يوم مسكينًا وكفَّرَ كفَّارة يمينٍ حَمْلًا للمنذور على المشروع، وسبب الكفارة عدم الوفاء بالنذر، وسبب الإطعام المحجز عن واجب بالصوم، فاختلف السببان واجتمعا فلا يسقط واحد منهما لعدم ما يسقطه، أو نذره حال عجزه فكذلك، وعلم منه انعقاد ¬
نذره إذنْ لحديث: "من نذر نذرا لم يُطِقْهُ فكفارته كفارة يمين" (¬1)، ولأن العجز إنما هو من فعل المنذور فلا فرق بين كونه حال عقد النذر ويستمر أو يطرأ عليه. وإن نذر صلاةً ونحوها فعجز فعليه الكفارة فقط؛ لأنه لم يف بنذره، وإن عجز لعارضٍ يُرجى زواله انتظر ولا كفارة إن لم يعين وقتًا، فإن استمر عجزه حتى صار غير مَرْجُوِّ الزوال فكما تقدم. وإن نذر حجًا لزمه مع قدرته عليه كبقية العبادات، فإن لم يطقه ولا شيئًا منه حُجَّ عنه كمن عجز عن حجة الإسلام، وإلا بأن أطاق بعض ما نذره أتَى به وكفر للباقي، ومع عجزه عن زادٍ وراحلةٍ حال نذره لا يلزمه كحجةِ [الإسلام] (¬2)، ثم إن وجدهما لزمه. ¬
وإن نذر صومًا وأطلق أو صوم بعض يوم لزمه يوم تام بنيته من [الليل] (¬1)؛ لأنه أقل الصوم. وإن نذر صلاةً وأطلق فعليه ركعتان قائمًا لقادر على قيام؛ لأن الركعة لا تجزئ في فرضٍ، ولمن نذر صلاة جالسًا أن يصليها قائمًا لإتيانه بأفضل مما نذره. وإن نذر المشي إلى بيت اللَّه الحرام أو إلى موضع من مكة أو إلى حرمها وأطلق فلم يقل: في حج ولا عمرة ولا غيره، أو قال: غير حاجٍّ ولا معتمرٍ لزمه المشي في حج أو عمرة حملًا له على المعهود الشرير وإلغاءً لإرادته غيره، من مكانه أي دويرة أهله كما في حج الفوض، ولا يلزمه إحرام قبل ميقاته ما لم ينو مكانًا بعينه للمشى منه والإحرام فيلزمه، أو ينوي بنذره المشي إلى بيت اللَّه الحرام إتيانه لا حقيقة المشي، فيلزمه الإتيان ويُخَيَّرُ بين المشي والركوب لحصوله بكلٍّ منهما، وإن ركب من نذر المشي إلى بيت اللَّه الحرام لعجز أو غيره، أو مشى من نذر الركوب فعليه كفارة يمين لحديث: "كفارة النذر كفارة يمين" (¬2). وإن نذر المشي إلى مسجد المدينة المنورة أو إلى المسجد الأقصى لزمه ذلك ولزمته الصلاة فيه ركعتين، إذ القصد بالنذر القربة وإنما يحصل ذلك بالصلاة فتضمن ذلك نذرها، كنذر المشي إلى بيت اللَّه الحرام حيث وجب به أحد النُّسُكَيْنِ. ومن نذر الصلاة في المسجد الحرام لم يجزئه في غيره؛ لأنه أفضل المساجد، وإن ¬
نذرها في مسجد المدينة أجزأته فيه وفي المسجد الحرام؛ لأنه أفضل منه، وإن نذرها في الأقصى أجزأته في الثلاثة وتقدم ما يعلم منه دليل ذلك، فإنْ عَيَّنَ بنذره مسجدًا غير الثلاثة لم يتعين، فيخير بين فعله وبين التكفير لحديث: "لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إلى ثلاثة مساجد" (¬1). وإن نذر عتق رقبةٍ فعليه عتق ما يجزئ عن الواجب في نحو ظهار حملًا للنذر على المعهود شرعًا إلا أن يعينها فيُجزئه ما عينه، لكن لو مات المنذور المعين أو أتلفه ناذر قبل عتقه لزمه كفارة يمين بلا عتق نَصًّا (¬2) لفوات محله، وعلى متلف لمنذور غير ناذر قيمته له لبقاء ملكه عليه، ولا يلزمه صرفها في العتق، ومن قال: إن ملكت عبد زيد فـ للَّه عَلَيَّ أن أعتقه بقصد القربة ألزم بعتقه إذا ملكه؛ لأنه نذر تبرر، وإن كان في لجاجٍ وغضبٍ خُيِّرَ بينه وبين كفارة يمين. ومن نذر طوافًا أو سعيًا فأَقلُّه أُسْبُوعٌ حملًا على المعهود شرعًا، وإن نذر طوافًا أو سعيًا على أربع فعليه طوافان أو سعيان أحدهما عن يديه والأخرى عن رجليه، وهذا قول ابن عباس في الطواف رواه سعيد (¬3) لقوله عليه السَّلام لكبشة بنت ¬
معدي كرب (¬1) حيث قالت: "يا رسول اللَّه! آليت أن أطوف بالبيت حبوًا، فقال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: طُوْفِيْ على رجْلَيْكِ سُبْعَيْن، سُبْعًا عن يديك، وسُبْعًا عن رجليك" رواه الدارقطني (¬2)، ولأن الطواف على أربع مثله وقيس عليه السعي. ومن نذر طاعةً على وجه منهي عنه كالصلاة عريانًا أو الحج حافيًا حاسرًا أو الصلاة في ثوبٍ نجسٍ أو حريرٍ وَفَّى بها على الوجه المشروع كما لو أطلق، وتلغى تلك الصفة ويكفر؛ لأنه لم ينذره على وجهه كما لو كان أصل النذر غير مشروع. (وسُنَّ الوفاءُ بالوَعْدِ) ولا يلزم الوفاء به نصًّا (¬3)، (و) يـ (حرم بلا استثناءٍ) لقوله تعالى {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. .} (¬4) أي لا تقولن ذلك إلا معلقًا بإن شاء اللَّه تعالى (¬5). ¬
(كتاب القضاء)
(كِتَابُ القَضَاءِ) لغة: إحكام الشيء والفراغ منه، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (¬1)، وبمعنى أوجب، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (¬2)، وبمعنى إمضاء الحكم، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} (¬3) أي أمضينا وأنهينا، وسمي الحاكم قاضيًا؛ لأنه يمضي الأحكام ويحكمها، أو لإيجابه الحكم على من يجب عليه (¬4). ¬
واصطلاحًا: تَبْيِّينُ الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الحكومات (¬1)، والأصل فيه قوله تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (¬2) وقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (¬3)، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر" متفق عليه (¬4)، والفتيا تبيين الحكم الشرعي للسائل، وعنه كان السلف الصالح يهابون الفتيا كثيرًا ويشددون فيها ويتدافعونها حتى ترجع إلى الأول لما فيها من المخاطرة، وأنكر أحمد وغيره من الأعيان على من يهجم على الجواب وقال: لا ينبغي أن يجيب على كل ما يستفتى فيه، وقال: إذا هاب ¬
الرجل شيئًا لا ينبغي أن يحمل على أن يقوله (¬1). وينبغي للمستفتي حفظ الأدب مع المفتي ويجلّه ويعظمه ولا يفعدما جرت عادة العوام به كإيمائه بيده على وجهه، ولا يقول له: ما مذهب إمامك في كذا، أو ما تحفظ في كذا، أو أفتاني فلانٌ غيرك بكذا، ولا يسأله عند هَمٍّ أو ضجرٍ أو قيامٍ ونحوه، ولا يطالبه بالحجة، ولا يلزم المفتي جواب ما لم يقع، روى أحمد عن ابن عمر: "لا تسألوا عمَّا لم يكن فإن عمر نهى عن ذلك" (¬2)، وله أيضًا عن ابن عباس قال عن الصحابة: "ما كانوا يسألون إلَّا عمَّا ينفعهم" (¬3)، واحتج الشافعي على كراهة السؤال عن الشيء قبل وقوعه بقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (¬4)، وكان عليه ¬
السَّلام: "ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال" (¬1) وفي لفظ: "إن اللَّه كره لكم ذلك" متفق عليه (¬2). ولا يلزم جواب ما لم يحتمله سائل قال البخاري: قال علي: "حدّثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب اللَّه ورسوله" (¬3)، وفي مقدمة مسلم عن ابن مسعود: "ما أنت بمحدِّثٍ قومًا حَديثًا لا تبلغه عُقُولهمْ إلَّا كان فتنة لبعضهم" (¬4) ولا يلزم جواب ما لا نفع فيه لقول ابن عباس لعكرمة: "من سألك عمَّا لا يعنيه فلا تُفته" (¬5)، وسأل مُهَنَّا أحمد عن مسألة فغضب وقال: خذ ويحك فيما تنتفع به وإياك وهذه المسائل المحدثة وخذ فيما فيه حديث (¬6). ¬
ويحرم تساهل مفتٍ في الإفتاء لئلا يقول على اللَّه ما لا علم له به، ويحرم تقليد معروف به، ويقلد المجتهد العدل ولو ميتا لبقاء قوله في الإجماع، وكالحاكم والشاهد لا يبطل حكمه ولا شهادته بموته، قال الشافعي: "المذاهب لا تموت بموت أربابها" (¬1). ويفتي مجتهد فاسق نفسه فقط؛ لأنه ليس بأمين على ما يقول، وفي "أعلام الموقعين" (¬2): الصواب جواز استفتاء الفاسق إلا أن يكون معلنًا بفسقه داعيا إلى بدعته. ويجوز أن يقلد عامي من ظنه عالما ولو عبدا أو أنثى أو أخرس بإشارةٍ مفهومةٍ، وكذا من رآه منتصبا للإفتاء أو التدريس معظمًا؛ لأنه دليل علمه لا إن جهل عدالته فلا يجوز أن يقلده لاحتمال فسقه، ولمفتٍ رد الفتيا إن خاف غائلتها أو كان بالبلد عالم قائم مقامه لفعل السلف ولعدم تعين الإفتاء وإلا لم يجز له رد الفتيا لتعينها، كما لا يجوز قول حاكم لمن ارتفع إليه في حكومة: امْضِ إلى غيري ولو كان في البلد من يقوم مقامه؛ لأن تدافع الحكومات يؤدي إلى ضياع الحقوق. ¬
ويحرم على مفتٍ إطلاق الفتيا في اسم مشترك، قال ابن عقيل: إجماعًا (¬1)، فمن سئل: أيأكل أو يشرب برمضان بعد الفجر؟ لا بد أن يقول: الفجر الأول أو الفجر الثاني، ومثله ما امتحن به أبو يوسف فيمن دفع ثوبًا إلى قَصَّار فقصره وجحده هل له أجرة إن عاد وسلمه لربه؟ فقال: إن كان قصره قبل جحود فله الأجرة، وإن كان بعد جحوده فلا أجرة له؛ لأنه قصره لنفسه (¬2)، ومثله من سئل عن بيع رطل تمر برطل تمر هل يصح؟ وجوابه: إن تساويا كيلًا يصح وإلا فلا، لكن لا يلزم التنبيه على احتمال بعيد. ويكره أن يكون السؤال بخط المفتي لإملائه وتهذيبه، وللمفتي تخيير من استفتاه بين قوله وبين مخالفه، ولا يجوز لمن انتسب لمذهب إمام أن يتخير في مسألة ذات قولين لإمامه أو وجهين لأحد أصحابه فيفتي أو يحكم بحسب اختياره منهما، بل عليه أن ينظر أيهما أقرب من الأدلة أو قواعد مذهبه فيعمل به، ومن لا يجد إلا مفتيا لزمه الأخذ بقوله كما لو حكم به عليه حاكم، قال ابن الصَّلاح (¬3): "ولا يتوقف ذلك على التزامه ولا سكون ¬
نفسه إلى صحته" (¬1). ويجوز تقليد مفضول من المجتهدين مع وجود أفضل منه لعموم قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (¬2) وقوله عليه السَّلام: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" (¬3) وفيهم الأفضل من غيره، وكان المفضول [من الصحابة] (¬4) والسلف يفتي يوجود الأفضل بلا ¬
نكيرٍ، خصوصًا والعامي يقصر عن الترجيح، ولا يجوز التقليد في معرفة اللَّه تعالى والتوحيد والرسالة لأمره تعالى بالتدبر والتفكر والنظر وقد ذم اللَّه تعالى التقليد بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ. .} الآية (¬1) وهي فيما يطلب للعلم فلا يلزم [في] (¬2) الفروع. وأجمع المسلمون على نصب القضاة للفصل بين الناس (¬3)، (وهو) أي القضاء (فَرْضُ كِفايةٍ)؛ لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه (كالإمامةِ) والجهادِ، وفيه فضل عظيم لمن قوي عليه وأدى الحق فيه، والواجب اتخاذها دِيْنًا وقُرْبةً فإنها من أفضل القُرب، وإنما فسد حال بعضهم بطلب الرياسة والمال بها، ومن فعل ما يمكنه لم يلزمه ما يعجز عنه. (فـ) يجب أن (يَنْصِب الإمامُ بكلِّ إقليمٍ) بكسر الهمزة أحد الأقاليم السبعة (¬4) (قاضيًا)؛ لأنه لا يمكن الإمام تولي الخصومات والنظر فيها في جميع ¬
البلاد، ولئلا تضيع الحقوق بتوقف فصل الخصومات على السفر للإمام لما فيه من المشقة وكلفة النفقة، وقد بعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه القضاة للأمصار، فبعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عليًّا إلى اليمن (¬1)، وبعث معاذًا قاضيًا أيضًا (¬2)، وولى عُمر شُرَيحًا قضاء الكوفة (¬3)، ووَلَّى كعب بن سور قضاء البصرة (¬4)، وكتب إلى أبي عبيدة ومعاذٍ يأمرهما بتولية القضاة في الشام (¬5)، (و) على الإمام أن (يختار) لذلك -أي نصب القضاة- (أفضل مَنْ يجد علمًا ووَرعًا)؛ لأن الإمام ينظر للمسلمين فوجب عليه تحري الأصلح، (ويأمرهُ) -أي الإمام إذا ولاه- (بالتَّقْوَى)؛ لأنها رأس الأمر ومِلَاكُه ووصية اللَّه تعالى لعباده، (و) يأمره بـ (تَحَرِّي العَدل) أي إعطاء الحق لمستحقه بلا ¬
ميلٍ؛ لأنه المقصود من القضاء، أو يأمره أن يستخلف في كل صُقْعٍ -بضم الصاد المهملة وسكون القاف- أي ناحية من عمله (¬1) أفضل من يجد لهم علمًا وورعًا، لحديث: "من ولي من أموو المسلمين شيئًا، فولى وجلًا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين، فقد خان اللَّه ورسوله والمؤمنين" وواه الحاكم في صحيحه (¬2). ويجب على من يصلح للقضاء إذا طلب له ولم يوجد غيره ممن يوثق به أن يدخل فيه؛ لأن القضاء فرض كفاية، ولا قدرة لغيره على القيام إذن فتعين عليه كغسل الميت، ولئلا تضيع حقوق التاس إن لم يشغله عما (¬3) هو أهم منه، لحديث: "لا ضرر ولا ضرار" (¬4)، فإن لم يطلب له أو وجد موثوق به غيره لم يلزمه الدخول ¬
فيه، ومع وجود غيره ممن يصلح للقضاء الأفضل أن لا يجيب طلبًا للسلامة، ودفعًا للخطر، واتباعًا للسلف في الامتناع منه والتوقي له، لما روى ابن مسعود مرفوعًا: "ما من حاكم يحكم بين الناس إلا حُبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقفه على جهنم، ثم يرفع رأسه إلى اللَّه، فإن قال له: ألْقِهِ ألْقَاهُ في مَهْوَاةٍ (1) أربعين خريفًا" رواه أحمد وابن ماجة (¬2)، وكره له طلبه مع وجود صالح له لحديث أنس ¬
مرفوعًا: "من سأل القضاء وُكِلَ إلى نفسه، ومن جبر عليه نزل ملكٌ يسدده" رواه الخمسة إلا النسائي (¬1)، وفي الصحيحين عن أبي موسى مرفوعًا: "إنا واللَّه لا ¬
نولي هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حريصًا عليه" (¬1)، ويحرم على من بذل له [مال] (¬2) فيه أخذه وهو من أكل المال بالباطل، ويحرم طلب القضاء وفيه مباشر صالح له. ويحرم الدخول فيه على من لا يحسنه ولم تجتمع فيه شروطه، وتحرم الشفاعة له والإعانة على التولية؛ لأنه إعانة على معصية. ويصح تعليق ولاية قضاء أو إمارة بشرط نحو قول الإمام: إن مات فلان القاضي أو الأمير ففلان عوضه لحديث: "أميركم زيد فإن قُتل فجعفر، فإن قُتل فعبد اللَّه بن رواحة" (¬3). وشرط لصحة ولاية القضاء كونها من إمامٍ أو نائبه فيه؛ لأنها من المصالح العامة كعقد الذمة، ولأن الإمامَ صَاحِب الأمر والنهي فلا يُفْتَاتُ عليه في [ذلك] (¬4)، وأنْ يعرف أنَّ المولَّى صالح للقضاء؛ لأن الجهل بصلاحيته كالعلم بعدمها، فإن لم يعرفه ¬
سأل عنه أهل المعرفة به. وتعيين (¬1) ما يوليه الحكم فيه من عمل وبلد، ومشافهته بالولاية أو مكاتبته بها إن كان غائبًا كالوكالة، فيكتب له الإمام عهدًا بما ولاه؛ لأنه عليه السلام: "كتب لعمرو بن حزم حين بعثه لليمن" (¬2) وكتب عمر إلى أهل الكوفة: "أما بعد .. فإني قد بعثت عمارًا أميرًا، وعبد اللَّه قاضيًا، فاسمعوا وأطيعوا" (¬3). وإشهاد (¬4) عدلين عليها فيكتب العهد ويقرأ على العدلين ويقول المولي: اشْهَدَا على أني قد وليت فلانًا قضاء كذا، وتقدمت إليه بما اشتمل عليه هذا العهد ليمضي إلى ولايته فيقيما له الشهادة هناك، واستفاضة الولاية إذا كانت بلد الأمام خمسة فما دون آكد من الشهادة، ولهذا يثبت بها النسب والموت فلا حاجة معها إلى الشهادة، ولا يشترط عدالة المولّي بكسر اللام لئلَّا يفضي إلى تعذر التولية. وألفاظ التولية الصريحة سبعة: وَلَّيْتُك ¬
الحكمَ، وقَلَّدْتُكَ، وفَوَّضْتُ، ورَدَدْتُ، وجَعَلْتُ إليكَ الحكمَ، واسْتَخْلَفْتُكَ، واسْتَنَبْتُكَ في الحكم، فإذا وجد أحد هذه الألفاظ السَّبعة وقبل مولى حاضر بالمجلس أو غائب بعد بلوغ الولاية له، أو شرع الغائب في العمل انعقدت لدلالة شروعه في العمل على القبول كالوكالة. والكناية من ألفاظ التولية نحو: اعتمد عليك، أو عَوَّلْتُ عليك، أو وكلت، أو اسْتنَدْتُ إليك، ولا تنعقد الولاية [بها] (¬1) إلا بقرينة نحو: فاحكمْ، أو اقضِ فيه، أو فتَوَلَّ ما عولت عليك فيه؛ لأن هذه الألفاظ تحمل الولاية وغيرها كالأخذ برأيه ونحوه فلا تنصرف إلى التولية إلا بقرينةٍ تنفي (¬2) الاحتمال. ¬
فصل
فَصْلٌ (وتُفِيْدُ ولايةُ حُكْمٍ عَامَّة) أي لم تقيد بحال دون أخرى (فَصْلَ الحكُومَةِ، وأَخْذ الحقِّ) ممن هو عليه، (ودَفْعَهُ إلى ربِّهِ، والنَّظَرَ في مالِ يَتِيْمٍ، و) مال (مجنونٍ، و) مال (سفيهٍ) لا ولي لهم غيره، (و) مال (غائبٍ)، والحجر لسفه ولفلس، (و) النظر في (وَقْفِ عملِهِ، ليُجْرَى على شَرْطِهِ وغير ذلك) من النظر في مصالح طرق عمله وأفنيته، وتنفيذ الوصايا، وتزويج من لا ولي لها، وتصفح حال شهوده وأمنائه ليستبدل بمن ثبت جرحه، وإقامة حد، وإقامة جمعة، وإقامة عيد ما لم يُخصا بإمام، وجباية خراج وزكاة ما لم يُخصا بعامل يجبيها، ولا تفيد ولايته الاحتساب على الباعة والمشترين وإلزامهم بالشرع؛ لأن العادة لم تجر بتولية القضاة ذلك. وللقاضي طلب رَزْقٍ من بيت المال لنفسه وأمنائه وخلفائه، لما روي عن عمر أنه استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقًا (¬1)، ورزق شريحًا في كلِّ شهرٍ مائة درهم (¬2) حتى مع عدم حاجة لحاجة الناس إلى القضاء، ولو لم يجز الفرض لهم لتعطل ¬
القضاء وضاعت الحقوق، ولأن أبا بكر لما ولي الخلافة فرضوا له رزقًا كل يوم درهمين (¬1) فإن لم يجعل للقاضي شيء وليس له ما يكفيه ويكفى عياله وقال للخصمين: لا أقضي بينكما إلا بِجُعْلٍ جاز له أخذ الجعل لا الأجرة، قال عمر: "لا ينبغي لقاضي المسلمين أن يأخذ على القضاء أجرًا" (¬2)، ولأنه قربةٌ يختص به فاعله أن يكون من أهل القربة أشبه الصلاة، وعلم منه أنه إن كان له ما يكفيه فليس له أخذ ¬
الجعل أيضًا، لا مَنْ تَعَيَّنَ أن يفتي وله كفاية فليس له أخذ الجعل على إفتاء، وإن لم يتعين بأن كان بالبلد عالم يقوم مقامه أو لم تكن له كفاية جاز. (ويجوزُ) للإمام (أَنْ يُولِّيَهُ) أي القاضي (عُمُومَ النَّظَرِ في عمومِ الْعَمَلِ) بأن يوليه سائر الأحكام بسائر البلاد، (و) يَجُوْزُ أن يوليه (خَاصًّا في أحَدِهما أَوْ) خاصًا (فيهما)، فيوليه عموم النظر أو يوليه خَاصًّا كعقود الأنكحة مثلًا، أو بمحلةٍ خاصة ينفذ حكمه في مقيم بها وفي طارئ إليها من غير أهلها، ولا يسمع قاضٍ بينة في غير عمله وهو محل حكمه. وللإمام أن يولي قاضيًا من غير مذهبه، وله أن يولي قاضيين فأكثر ببلدٍ واحدٍ ولو اتحد عملهما، وإن تنازع خصمان وطلب كل منهما الحكم عند أحدهما قدم مُدعٍ، فإن استويا كمدعيين اختلفا في ثمن مبيع باقٍ فأقرب الحاكمين؛ لأنه لا حاجة إلى كلفة المضي للأبعد. وإن زالت ولاية المولِّي بكسر اللام بموت أو غيره أو عَزَلَ المُولِّي بكسر اللام الْمُولَى بفتحها مع صلاجة لم تبطل ولايته؛ لأنه نائب المسلمين للإمام إذ تولية الإمام لمصلحة المسلمين فلم يبطل بزواله ولم يملك إبطاله كعقده النكاح على موليته، ولأن الخلفاء ولوا حُكامًا في زمانهم فلم ينعزلوا بموتهم، ولا في عزله بموت الإمام وغيره من الضرر على المسلمين بتعطيل الأحكام وتوقفها إلى أن يولي الثاني. ولو كان المستنيب قاضيًا فعزل نوابه أو زالت ولايته بموت أو غيره انعزلوا؛ لأنهم نوابه كالوكلاء، بخلاف من ولاه الإمام قاضيًا فإنه يتعلق به قضايا الناس وأحكامهم
عنده وعند نوابه في البلدان، فيشق ذلك على المسلمين. وكذا والٍ ومحتسب وأمير جهاد ووكيل ييت المال، ومن نصب لجباية مال كخراج وصرفه إذا ولاهم الإمام فلا ينعزلون بعزله ولا بموته؛ لأنها عقود لمصلحة المسلمين. ومن عزل نفسه من إمام وقاضٍ ونحوهما انعزل؛ لأنه وكيل، ولا ينعزل قاضٍ بعزل قبل علمه لتعلق قضايا الناس وأحكامهم به فيشق بخلاف الوكيل فإنه يتصرف في أمر خاص.
فصل في شروط القاضي
فَصْلٌ في شُروطِ القَاضِي وهي عشرة كما ذكرها المصنف قال: (وشُرِطَ كُونُ قاضٍ بَالغًا، عاقلًا) أي مكلفًا؛ لأن غير المكلف تحت ولاية غيره فلا يكون وليا على غيره. الثالث: كونه (ذكرًا) لحديث: "ما أفلح قومٌ وَلَّوْا أمرهم امرأةً" (¬1)، ولأنها ضعيفة الرأي، ناقصة العقل، ليست أهلًا للخُطُوب ومحافل الرجال، ولم يُوَلِّ عليه السَّلام ولا أحد من خُلَفائه امرأة قضاء. الرابع: كونه (حُرًّا) كله؛ لأن غيره منقوص بالرق مشغول بحقوق سيده. الخامس والسادس: كونه (مسلمًا، عدلًا) ولو تائبًا من قذف نصًّا (¬2)، فلا يجوز ¬
تولية من فيه نقص يمنع قبول شهادته لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬1)، ولا يجوز أن يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله. السابع: كونه (سميعًا)، لأن الأصم لا يسمع كلام الخصمين. الثامن: كونه (بصرًا)؛ لأن الأعمى لا يميز المدعي من المدعى عليه، ولا المُقِرِّ من المُقَرِّ له. التاسع: كونه (مُتَكَلِّمًا)؛ لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم، ولا يفهم جميع الناس إشارته. العاشر: كونه (مُجْتَهدًا) ذكرره ابن حزمٍ إجماعًا (¬2) لقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬3) (ولو) كان اجتهاده (في مَذْهَبِ إمَامِهِ) لضرورة بأن لم يوجد مطلق، واختار في "الإفصاح" (¬4) و"الرِّعَاية": أو ¬
مقلدًا. (¬1) وفي "الإنصاف" (¬2): قلت: وعليه العمل من مدة طويلة وإلا لتعطلت أحكام الناس". انتهى. وفي "الإفصاح" (¬3): "الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة وأنَّ الحق لا يخرج عنهم". وفي خطبة "المغني" (¬4): "النسبة إلى إمام في الفروع كالأئمة الأربعة ليست بمذمومة، فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حجة قاطعة". فيراعي المجتهد في مذهب إمام ألفاظ إمامه ومتأخرها، ويقلد كبار مذهبه في ذلك ويحكم به ولو اعتقد خلافه؛ لأنه مقلد، ولا يخرج عن الظاهر منه، ويحرم الحكم والفتوى بالهوى إجماعًا، وبقولٍ أو وجهٍ من [غير] (¬5) نظر في الترجيح إجماعًا، ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده في ما له أو عليه إجماعًا ذكره في "الفروع" (¬6) وقال الشيخ تقي الدين: "هذه الشروط تعتبر حسب الإمكان، ويجب ¬
تولية الأمثل فالأمثل وإن على هذا يدل كلام أحمد وغيره فيولى لعدم أنفع الفاسقين وأقلهما شرًّا وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد". انتهى (¬1). ولا يشترط كون القاضي كاتبًا؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان أمِّيًا وهو سيد الحكام و [ليس] (¬2) من ضرورة الحكم الكتابة، ولا كونه ورعا أو زاهدا أو يقظًا أو مثبتا للقياس أو حسن الخلق؛ لأن ذلك ليس من ضرورة الحكم، والأولى كونه كذلك؛ لأنه أكمل كالأسَنِّ إذا ساوى الشاب في جميج الصفات، وما يمنع التولية ابتداء يمنعها دوامًا، لا فقدهما (¬3) ليس من مقدمات الاجتهاد، والحكم يستند إلى حال السمع والبصر، وقد ثبت الحكم عنده في حال يسمع فيها كلام الخصمين ويميز أحدهما عن الآخر، بخلاف غيرهما من الفسق والجنون والردة وغيرها، ويتعين عزله مع مرض يمنعه القضاء لدعاء الحاجة إلى إقامة غيره، ويصح أن يولى عبد إمارةَ سريَّةٍ وقسم صدقة، وفي إمامة صلاة غير جمعة وعيد. ¬
فصل
فَصْلٌ (وإنْ حَكَّمَ) بتشديد الكاف (اثنانِ) فأكثر (بينهما رجلًّا يَصْلُحُ للقَضَاءِ) بأن اتصف بما تقدم من شروط القاضي، وقال الشيخ تقي الدين: "العشر صفات التي ذكرها في "المحرر" في القاضي لا تشترط فيمن يحكم الخصمان بينهما". انتهى (¬1). (نَفُذَ حُكمُهُ في كُلِّ مَا يَنْفُذُ فيهِ حُكْمُ مَنْ وَلَّاهُ إمامٌ أو نَائِبُهُ) لحديث أبي [شريح] (¬2) "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: إن اللَّه هو أحكم الحاكمين فلم تكنى أبا الحكم؟ قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمتُ بينهم، فرضي علي الفريقان، قال: فما أحسن هذا فمن أكبر ولدك؟ قال: شريح، قال: فأنت أبو شريح" رواه النسائي (¬3)، وروي مرفوعًا: "مَنْ حَكَمَ بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما ¬
فهو ملعون" (¬1) وتحاكم عمر وأُبَيُّ إلى زيدٍ (¬2)، وعثمان وطلحة إلى جُبير بن مطعم (¬3) ولم يكن أحد منهم قاضيًا، لكن لكل منهما الرجوع قبل شروعه في الحكم؛ لأنه لا يلزم حكمه إلا برضا الخصمين كرجوع الموكل قبل تصرف وكيله [قبل] (¬4) فيما وكل فيه، وله أن يشهد على نفسه بحكمه، ويلزم الحاكم قبوله وكتابته ككتاب من ولاه الإمام، وينبغي أن يشهد عليهما بالرضا قبل أن يحكم بينهما لئلا يجحد المحكوم عليه منهما أنه حكمه فلا يقبل ¬
قوله عليه إلا ببينة ذكره في "المستَوْعِب" (¬1). ¬
فصل في آداب القاضي
فَصْلٌ في آدَابِ القَاضِي وهي أخلاقه التي ينبغي أن يتخلق يها، (وسُنَّ كَوْنُهُ) أي القاضي (قويًّا بلا عُنْفٍ) لئلا يطمع فيه الظالم، (لَيِّنًا بلا ضَعْفٍ) لئلا يهابه المحق، (حَلِيمًا) لئلا يغضب من كلام الخصم فيمنعه الحكم، (مُتَأَنِّيًا) من التأني وهو ضد العجلة لئلا تُؤَدِّي عجلته إلى ما لا ينبغي، (فَطِنًا) لئلا يخدع من بعض الخصوم لِغِرَّةٍ، قال في "الشرح" (¬1): "عالما بلغات أهل ولايته". (عَفِيْفًا) أي كافًا نفسه عن الحرام لئلا يطمع في ميله بإطماعه، بصيرًا بأحكام الحكام قبله لقول علي: "لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيًا حتى تكمل فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في اللَّه لومة لائم" (¬2)، وليسهل عليه الحكم ويتضح له طريقه. ¬
ويسن سؤاله إن ولي في غير بلده عن علمائه ليشاورهم في الحوادث ويستعين بهم على قضائه، وعن عدوله لاستناد أحكامه إليهم وثبوت الحقوق عنده بهم، ويسن إعلامهم يوم دخوله ليتلقوه؛ لأنه أوقع له في النفوس وأعظم لحشمته من غير أن يأمرهم بتلقيه؛ لأنه أنسب بمقامه، وسن دخوله [بلدا] (¬1) وُلِّيَ الحكم فيه يوم اثنين أو خميس أو سبت؛ لأنه عليه الصلاة والسلام دخل في الهجرة المدينة يوم الاثنين (¬2)، وكذا من غزوة تبوك وقال: "بورك لأمتي في سبتها وخميسها" (¬3)، وينبغي ¬
أن يدخلها ضحوة تفاؤلًا لاستقبال الشهر لابسًا أجمل ثيابه؛ لأنه تعالى يحب الجمال وقال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬1) لأنها مجامع الناس وهنا يجتمع ما لا يجتمع في المساجد فهو أولى بالزينة (¬2)، وكذا أصحابه؛ لأنه أعظم له ولهم في النفوس، ولا يتطير وإن تفاءل فحسن؛ "لأنه عليه السلام كان يحب الفأل الحسن، وينهى عن الطيرة" (¬3) فيأتي الجامع فيصلي فيه ركعتين تحيته، ويجلس مستقبلًا القبلة؛ لأن خير المجالس ما استقبل القبلة، ويأمر بعهده فيقرأ على الناس ليعلموا توليته، ويأمر بمن يناديهم بيوم جلوسه للحكم، وُيقِلُّ من الكلام إلا لحاجة؛ لأنه أهيب له، ثم يمضي إلى منزله. ويبعث ثقة فيتسلم ديوان الحكم وهو الدفتر المعد لكتب الوثائق والسجلات ¬
والودائع ممن كان قاضيًا قبله؛ لأنه الأساس الذي يبنى (¬1) عليه، وهو في يد الحاكم بحكم الولاية وقد صارت إليه، ويأمر كاتبًا ثقةً يثبت ما تسلمه بمحضر عَدْلَيْنِ، ثم يخرج يوم الوعد بأعدل أحواله غير غضبان ولا جائع ولا حاقن ولا مهموم بما يشغله عن الفهم فيُسلِّم على من يمر به ولو صبيًا، ثم يسلم على من بمجلسه لحديث: "إن من حق المسلم على المسلم أن يسلم عليه إِذا لقيه" (¬2)، ويجلس على بساطٍ ونحوه يختص به ليتميز عن جلسائه؛ لأنه أهيب له لأنه مقام عظيم يجب فيه إظهار الحرمة تعظيمًا للشرع، ويدعو اللَّه بالتوفيق للحق والعصمة من زلل القول والعمل؛ لأنه مقام خطر، وكان من دعاء عمر -رضي اللَّه عنه- "اللهم أرني الحق حقًا ووفقني لاتباعه وأرني الباطل باطلًا ووفقني لاجتنابه" (¬3) وليكن مجلسه فسيحًا كجامع فيجوز القضاء فيه بلا كراهة، روي عن عمر وعثمان وعلي "أنهم كانوا يقضون في المسجد" (¬4) قال مالك: "القضاء في ¬
المسجد من أمر الناس القديم" (¬1)، وكان عليه السلام "يجلس في المسجد" (¬2) مع حاجة الناس إليه في الفتيا والحكم وغيرهما من حوائج الناس، وكدار واسعة وسط البلد [إن] (¬3) أمكن يستوي أهل البلد في المضي إليه، ولا يتخذ حاجبًا ولا بَوَّابًا بلا عُذر لحديث عمرو بن مُرَّةَ (¬4) مرفوعًا: "ما من إمام أو والٍ يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة إلا أغلق اللَّه أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته" رواه أحمد والترمذي (¬5)، ولأنهما ربما منعا ذا الحاجة لغرض النفس أو غرض الحطام، ويَعْرِضُ ¬
الْقَصَصَ، ويجب تقديم سابق ولا يقدم سابقًا في أكثر من حكومةٍ لئلا يستوعب المجلس ويقرع بينهم إن حضروا دفعةً واحدةً وتشاحوا. (و) يجب (عَلَيهِ) أي القاضي (العدلُ بين مُتَحَاكِمَينِ) ترافعا إليه (في لَفْظِهِ) أي كلامه (ولَحْظِهِ) أي ملاحظته (ومجلسِهِ ودخولٍ عليهِ) إلَّا إذا سلم أحدهم عليه فيرد عليه السَّلَام، ولا ينتظر سلام الثاني لوجوب الرد فورًا، وإلا المسلم إذا ترافع إليه مع الكافر فيقدم المسلم دخولًا ويرفع جلوسا لحرمة الإسلام (¬1)، قال ¬
تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)} (¬1) ودليل وجوب العدل بين الخصمين حديث عُمَرَ بن شَبَّةَ (¬2) في كتاب القضاء عن أمِّ سلمة مرفوعًا: "من ابتلي بالقضاء بين السلمين فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر" (¬3) وفي ¬
رواية "فَلْيُسَوِّ بينهم في النظر والمجلس والإشارة" (¬1) ولأنه إذا ميز أحدهما حُصِرَ الآخر وانْكَسَرَ وربما لم تقم له حجة فيؤدي ذلك إلى الظلم، ولا يكره قيامه للخصمين، فإن قام لأحدهما وجب أن يقوم للآخر، ويحرم أن يُسَارَّ أحدهما أو يلقنه حجته أو يضيفه؛ لأنه إعانة له على خصمه وكسر لقلبه، وروي عن علي أنه نزل به رجل فقال: "ألك خصمٌ؟ قال: نعم، قال: تحوَّل عنا فإني سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: لا تضيفوا أحد الخصمين إلا وخَصْمُه معه" (¬2) أو يعلمه كيف يدعي إلا أن يترك ما يلزم ذكره في الدعوى كشرط عقد وسبب إرث ونحوه فله أن يسأل عنه ضرورة تحريرًا للدعوى، ولا ضرر على صاحبه في ذلك، وأكثر الخصوم لا يعلمه ¬
وليتضح للقاضي وجه الحكم، وللقاضي أن يَزِنَ عن أحد الخصمين؛ لأن فيه نفعًا لخصمه، وله أن يشفع له عند خصمه ليضع عنه بعض دينه أو ينظره فيه ويكون ذلك بعد الحكم، قال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} (¬1) وعن كعب بن مالك: "أنه تقاضى ابن أبي حَدْرَدٍ (¬2) دينًا كان عليه، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سِجْفَ حجرته، فنادى يا كعب، فقلت: لبيك يا رسول اللَّه! فقال: ضع من دينك وأومأ إليه أي الشَّطْرَ، قال: قد فعلت يا رسول اللَّه قال: قم فاقضه" رواه الجماعة إلا الترمذي (¬3)، وله أن يؤدب خصمًا افْتَاتَ عليه كقوله: ارتشيت علي، أو حكمت علي بغير حق ونحوه بضرب لا يزيد على عشر وحبس، وأن يعفو عنه، وله أن ينتهره ¬
إذا التوى عن الحق لئلا يطمع فيه. ويسن للقاضي أن يحضر مجلسه فقهاء المذهب ومشاورتهم فيما يشكل إن أمكن وسؤالهم إذا حدث حادثة ليذكروا جوابهم وأدلتهم فيها فإنه أسرع لاجتهاده وأقرب لصوابه، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (¬1) قال الحسن: "إنه كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لغني عن مشاورتهم وإنما أراد أن يستن بذلك الحكام بعده". (¬2) فإن اتضح له الحكم [حكم] (¬3) باجتهاده ولا اعتراض؛ لأنه افتيات عليه، وإلا يتضح له الحكم أَخَّرَهُ حتى يتضح، فلو حكم ولم يجتهد لم يصح حكمه ولو أصاب الحق إن كان من أهل الاجتهاد، ويحرم تقليد غيره ولو كان غيره أعلم منه كالمجتهدين في القبلة، نقل أبو الحارث: "إلا تُقَلِّدْ أمرك (¬4) أحدًا وعليك بالأثر" (¬5)، وقال أحمد للفضل بن زياد (¬6): "ولا ¬
تُقَلِّدْ دِيْنَكَ الرِّجَالَ فإنهم لم يسلموا أن يغلطوا". (¬1) (وحَرُمَ) على قاض (القضاءُ وهو غَضبانُ كثيرًا) لخبر أبي بكرة مرفوعًا: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان" متفق عليه (¬2)، بخلاف غضب يسير لا يمنع فهم الحكم. (أَوْ) أي وحرم أن يقضي وهو (حَاقِنٌ أو في شِدَّةِ جُوْع أو) في شدة (عَطَشٍ أوْ هَمٍّ أو مَلَلٍ أو كَسَلٍ أو نُعَاسٍ أو بَرْدٍ مُؤْلِمٍ أوْ حُرٍّ مُزْعِجٍ)؛ لأن ذلك كله في معنى الغضب؛ لأنه يشغل الفكر الموصل إلى إصابة الحق غالبًا، فإن خالف وقضى وهو غضبان ونحوه فأصاب الحق نفذ حكمه وإلا لم ينفذ، وكان للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- القضاءُ مع ذلك؛ لأنَّه عليه السَّلام لا يجوز عليه غلط يقر عليه لا قولًا ولا فعلًا في حكم بخلاف غيره من الأمة. (و) حرم على قاضٍ (قبولُ رِشوَةٍ) بتثليث الراء لحديث ابن عمر ¬
قال: "لعن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الرَّاشِيَ والْمُرْتَشِيَ" (¬1) وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". ورواه أبو هريرة وزاد: "في الحكم" (¬2) رواه أبو بكر في ¬
"زاد المسافر" (¬1) وزاد "والرائش" (¬2) وهو السفير بينهما؛ لأنه إنما يرتشي ليحكم بغير الحق أو يوقف الحكم وهو من أعظم الظُّلْمِ. (و) كذا يحرم عليه قبول (هَدِيَّةٍ) لحديث أبي حميد السَّاعِدِيِّ (¬3) مرفوعًا: "هَدَايَا العُمَّالِ غُلُوْل" رواه أحمد (¬4)، ولأن القصد بها غالبًا استمالة الحاكم ليعتنى [به] (¬5) في الحكم فتشبه الرشوة (من غيرِ [من كان] (1) يُهَادِيْهِ قبل ولايته ¬
ولا حُكُومةَ لَهُ) فيباح له قبولها لانتفاء التهمة إذن، كما يباح لِمُفْتٍ أخذها، وردها من الحاكم أولى، فإن خالف القاضي فأخذ الرشوة والهدية حيث حرمت ردتا لمعطٍ؛ لأن أخذها بغير حق كالمأخوذ بعقد فاسدٍ. ويكره بيع القاضي وشراؤه إلا بوكيل لا يعرف به، وليس له ولا لوالٍ أن يَتَّجِرَ لحديث أبي الأسود المالكي (¬1) عن أبيه عن جده مرفوعًا: "ما عدل والٍ اتَّجَرَ في رَعِيَّتِهِ أبدًا" (¬2)، وإذا احتاج إلى التجارة ولم يكن له ما يكفيه لم تكره له؛ لأن أبا بكر قصد السوق ليتجر فيه حتى فرضوا له ما يكفيه (¬3)، ولوجوب القيام بعياله فلا يتركه لِوَهْم مَضَرَّةٍ. ويسن له عيادة المرضى وشهادة الجنائز وتوديع غازٍ وحاجٍ ما لم يشغله ذلك عن الحكم؛ لأنه من القُرَبِ وفيه أجرٌ عَظيمٌ، وهو في الولائم كغيره؛ لأنه عليه السلام ¬
كان يحضرها (¬1) وأمر بحضورها (¬2) وقال: "ومن لم يجب فقد عَصَى اللَّه ورسوله" (¬3)، ولا يجيب قومًا ويدع قومًا بلا عُذر، ومتى كثرت وازدحمت تركها كلها، فإن كانَ في بعضها عُذْرٌ كمنكر ونحوه أجاب من لا عذر له في تركها، ويوصي وجوبًا الوكلاء والأعوان ببابه بالرفق بالخصوم وقلة الطمع، ويجتهد أن يكونوا شيوخًا أو كُهولًا من أهل الدِّين والعفة والصِّيانة ليكونوا أقل شرًّا، فإن الشَّباب شعبة من الجنون، والحاكم تأتيه النساء، وفي اجتماع الشباب بهنَّ مفسدةٌ. ويباح لقاضٍ وفي "المبدع" (¬4): "والأشهر أنه يُسَنُّ أن يتخذ كاتبًا؛ لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
استكتب زيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان (¬1) وغيرهما، ولكثرة اشتغال الحاكم ونظره في أمر الناس فلا يمكنه تولي الكتابة بنفسه وشرط كون الكاتب مُسْلِمًا لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ ¬
خَبَالًا} (¬1) وقال عمر: "لا تُؤَمِّنوْهُمْ وقد خَوَّنَهُم اللَّهُ، ولا تُقَرِّبُوْهمْ وقد أَبْعَدَهُمُ اللَّه، ولا تُعِزُّوْهُمْ وقد وقد أَذَلَّهُم اللَّه" (¬2)، عدلًا؛ لأنه موضع أمانة، ويسن كونه حافظًا عالمًا؛ لأن فيه إعانة على أمره، وكونه حرًا خُرُوجًا من الخلاف، وكونه جيد الخط؛ لأنه أكمل، وكونه عارفًا، قاله في "الكافي" (¬3) لئلا يفسد ما يكتبه بجهله، ويجلس بحيث يشاهد القاضي ما يكتبه؛ لأنه أمكن لإملائه عليه وأبعد للتُّهْمَةِ، ويجعل القاضي القِمَطْرَ -بكسر القاف وفتح الميم وسكون الطاء أعجمي مُعَرَّبٌ- وهو ما يجمع فيه القضايا (¬4) مختومًا بين يديه ليحفظ عن التغيير، ويُسَنُّ حكمه بحضرة شهودٍ ليستوفي بهم الحقوق، وتثبت بهم الحجج والمحاضر (¬5)، ويحرم عليه تعيين قوم بقبول الشهادة بحيث لا يقبل غيرهم لوجوب قبول شهادة من تثبت عدالته. ولا يصح (ولا يَنفُذُ حُكْمُهُ) أي القاضي (على عَدُوّهِ) كالشهادة عليه بل يُفْتِيْ ¬
عليه؛ لأنه لا إلزام في الفتيا بخلاف القضاء، (ولا) يَصِحُّ ولا ينفذ حكم (لنفسهِ ولا لِمَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ) كزوجته وعمودي نسبه كالشهادة ولو كانت الخصومة بين ولديه أو بين والده وولده لعدم قبول شهادته لأحدهما على الآخر، فإن عرضت للقاضي ولمَنْ تُرَدُّ شهادته له حكومة تحاكم إلى بعض خلفائه أو بعض رعيته، فإن عُمَرَ حاكم أبيًّا إلى زيد بن ثابت (¬1) وحاكم رجلًا عراقيًّا إلى شريحٍ وحاكم عليٌّ رجلًا يهوديًّا إلى شُريحٍ (¬2) وحاكم عثمانُ طَلْحَةَ إلى جبير بن مطعمٍ (¬3)، وله استخلاف من لا يصح حكمه له كحكمه لغيرهم بشهادتهم وكحكمه عليهم. ويُسَنُّ للقاضي أن يبدأ بالنظر بأمر المحبوسين؛ لأن الحبس عذابٌ وربما كان فيهم من لا يستحق البقاء فيه، فينفذ ثقةً إلى الحبس فيكتب أسماءهم وأسماء من حبسهم وفيم، ذلك كله في رقعةٍ مُنْفردة لِئَلَّا يتكرر النَّظر في حال الأول لو كتبوا في رقعة واحدة، ويخرج واحدة من الرقاع بالاتفاق كالقرعة ثم ينادي بالبلد أن القاضي ينظر في حال المحبوسين في كذا، فمن له خصم محبوس فليحضر، فإذا جلس لموعدهم نظر ابتداءً في رقاع المحبوسين، فيخرج رقعة منها ويقال: هذه رقعة فلان فمن خصمه، فمن حضر له خصم نظر بينهما، فإن كان حبس لتعدل البينة فإعادته إلى ¬
الحبس مبنية على حبسه في ذلك، والأصح حبسه إن كان في غير حَدٍّ، فيعاد للحبس، ويقبل قول خصمه في أن القاضي حبسه بعد تكميل البينة وتعديلها؛ لأن الظاهر أنه إنما حبسه لحق ترتيب عليه، وإن ذكر مَحبوسٌ أنَّهُ حبس بقيمة كلبٍ أو خَمْر ذمي وصدقه (¬1) خلي سبيله؛ لأنه لا دين عليه (¬2) وإن كذبه (¬3) وقال: بل بحق واجب غير هذا فقول غريم؛ لأنه الظاهر، وإن بَانَ حبسه في تهمةٍ أو تعزيرٍ كافتياتٍ على القاضي قبله [خلاه] (¬4) أو أبقاه في الحبس بقدر ما يرى. فإطلاق القاضي وإذنه ولو في قضاء دين أو في نفقةٍ ليَرْجِعَ، ووضع ميزاب وبناء ووضع خشب على جدار جار وأمره بإراقة نبيذ وقرعةٍ حكم يرفع الخلاف إن وإن، وذكر الشيخ تقي الدين أنه لو أذن أو حكم لأحدٍ باستحقاق عقدٍ أو فسخٍ لم يحتج بعد ذلك إلى حكمه بصحته بلا نزاع، وكذا نوع من فعله كتزويج يتيمةٍ بالولاية العامة وشراء عينٍ غَائبةٍ مَوصُوفةٍ بما يكفي في سَلَمٍ لقضاء دين نحو غائب وممتنع حكم يرفع الخلاف. وحكمه بشيء -كبيع عبد أعتقه من أحاط الدين مسألة- حكم بلازمه وهو بطلان العتق في المثال؛ لأنه لصحة البيع فلا يحكم غيره بخلافه؛ لأنه نقض لحكمه. ¬
وإقراره غيره على فعل مختلف فيه، وثبوت شيء عنده ليس حكمًا به، بخلاف إثبات صفة العدالة وأهلية وصيَّةٍ فهو حُكمٌ. وتنفيذ الحكم يتضمن الحكم بصحة الحكم المنفذ قاله ابن نصر اللَّه، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنَّه حكم (¬1). والحكم بالصحة يستلزم ثبوت الملك والحيازة قطعًا، فمن ادَّعَى أنه ابتاع من المدعى عليه عينًا، واعترف له بذلك لم يجز للحاكم الحكم بصحة البيع بمجرد ذلك حتى يدعى المدعي أنه باعه العين المذكورة وهو مالك لها، ويقيم البينة بذلك. والحكم بالمُوْجب -بفتح الجيم- حكمٌ بموجب الدعوى الثابتة ببينة أو غيرها كالإقرار والنكول، فالدعوى المشتملة على ما يقتضي صحة العقد المدعى به من نحو بيع وإجارة الحكم فيها بالموجب حكم بالصحة؛ لأنها من موجبه كسائر آثاره قال الوليُّ العراقي (¬2): فيكون الحكم فيها بالموجب حينئذ أقوى مطلقًا لسعته وتناوله الصحة وآثارها. والدعوى غير المشتملة على ذلك كإن أدعى أنه باعه العين فقط الحكم فيها ¬
بالموجب ليس حكمًا بالصِّحَّةِ إذ مُوْجب الدعوى حينئذ حصول صورة بيع بينهما، ولم تشتمل الدعوى على ما يقتضي صحته حيث لم يذكرهر أن العين كانت للبائع ولم تقم به بينة وصحة العقد تتوقف على ذلك، بخلاف ما سبق، لا يقال: هو أيضًا في الأولى لم يدع الصِّحة فكيف يحكم له بها؛ لأن دعواها وإن لم تكن صريحةً فهي واقعةٌ ضمنًا؛ لأنها مقصود المشتري، والحكم بالإقرار ونحوه كالحكم بموجبه، إذ معناه إلزام المقر بما أقر به وهو أثر إقراره ولا يحكم بالصِّحَّة، نقله الولي العراقي عن شيخه البُلْقِيْنِيْ (¬1) وقال: لا يظهر لهذا معنًى فليتأمل. (¬2) وقد رجع الشيخ إلى ما ذكر أولًا من أن الحكم بالموجب يتضمن الحكم بالصحة. ومن لم يعرف خصمه أو أنكره المحبوس بأن قال: حبست ظلمًا ولا حق علي ولا خصم لي نودي بذلك في البلد (¬3)، فإن لم يعرف خصمه بعد ذلك حلفه حاكمٌ وأطلقه، ومع غيبة خصمه يبعث إليه ليحضر، ومع تأخره بلا عذر يخلي ¬
سبيله، والأولى بكفيلٍ. ثم إذا تم آمر المحبوسين نظر في أمر أيتام ومجانين ووقوف ووصايا لا ولي لهم ولا ناظر؛ لأن هذه أموال يتعلق بها حفظها وصرفها في وجوهها فلا يجوز إهمالها، ولا نظر له مع الولي أو الناظر الخاص لكن له الاعتراض إن فعل ما لا يسوغ، فلو نفذ القاضي الأول وصية موسى إليه أمضاها الثاني؛ لأن الظاهر أن الأول لم ينفذها إلَّا بعد معرفة أهليته. ويحرم أن ينقض من حكم قاض صالح للقضاء شيئًا لئلا يؤدي إلى نقض الحكم بمثله غير ما خالف نص كتاب اللَّه تعالى أو سنة متواترة أو آحاد كالحكم بقتل مسلم بكافر، وكالحكم بجعل من وجد عين ماله عند من حجر عليه بفلس أسوة الغرماء فينقض؛ لأنه لم يصادف شرطه، إذ شرط الاجتهاد عدم النص، لخبر معاذ بن جبل (¬1)، ولأنه مفرط بترك الكتاب والسنة، أو خالف إجماعًا قطعيًّا فينقض؛ لأن المجمع عليه ¬
ليس محلا للاجتهاد بخلاف الإجماع السكوتي، أو خالف ما يعتقده بأن حكم بما لا يعتقد صحته فيلزم نقضه لاعتقاد بطلانه، فإن اعتقده صحيحًا وقت الحكم ثم تغير اجتهاده ولا نص ولا إجماع لم ينقض لقضاء عمر في المشركة حيث أسقط الإخوة من الأبوين ثم شرك بينهم ويين الإخوة للأم بعد، وقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي (¬1)، وقضى في إرث الجد بقضايا مختلفة (¬2)، ولئلا يؤدي إلى نقض الاجتهاد بمثله، وإن تغير اجتهاده قبل الحكم عمل بالأخير لاعتقاده بطلان ما قبله، ولا ينقض حكم بتزويج المرأة نفسها ولو مع حضور وليها لاختلاف الأئمة في صحته، وحديث: "لا نكاح إلا بوليٍّ وشَاهِدَيْ عَدلٍ" تقدم ما فيه (¬3)، ولا ينقض حكم لمخالفة قياس؛ لأن من أحكام الشريعة ما ثبت على خلاف القياس، ولا لعدم علمه الخلاف في المسألة المحكوم (¬4) فيها؛ لأن علمه ذلك لا أثر له في صحة الحكم حيث وافق الشرع، ولا إن حكم بينة خارج وجهل ¬
علمه ببينة تقابلها، أو حكم [ببيِّنة] (¬1) داخل وجهل علمه بسبب بينة تقابلها حيث وقع الحكم على وفق الشرع (¬2). وما قلنا: أنه ينقض فالناقض له حاكمه إن وإن موجودًا، فيثبت عنده السبب المقتضي للنقض وينقضه وجوبًا، ولا يعتبر لصحة نقضه طلب رب الحق نقضه؛ لأنه حق للَّه تعالى، وينقضه إن بَانَ بمن شهد عنده ما لا يرى معه قبول الشهادة ككون الشاهد من عمودي نسب مشهودٍ، وكذا كل ما صادف وما حكم به مختلف فيه [-صِفَةٌ) (¬3) لِمَا الأُوْلَى- أي (¬4) أن لا يرى القاضي الحكم معه كبيع عبد تبين أنه منذور عتقه نذر تَبَرُّر ولم يعلم قاضٍ عند حكم فينقضه إذا ثبت عنده. وتنقض أحكام من لا يصلح للحكم لفقد بعض الشُّروط وإن وافقت الصواب؛ لأن حكمه غير صحيح فوجوده كعدمه، وهذا في غير قضاة الضرورة، ولا ينقض من أحكامهم ما وافق الصواب كما اختاره الشَّيْخُ تقي الدِّين (¬5)؛ لأنها ولاية شرعية وإلا تعطلت الأحكام. ¬
(ومن اسْتَعْدَاهُ) أي القاضى (على خَصْمٍ في البلدِ) الذي به القاضي (بما) أي شيء (تتْبَعُهُ الْهِمَّةُ لَزِمَهُ) أي القاضي (إحضاره) أي الخصم ولو لم يحرر المستعدي الدعوى نَصًّا (¬1) أو لم يعلم أن بينهما معاملة لئلا تضيع الحقوق ويقر الظلم، وقد يثبت حق الأدنى على الأرفع منه لنحو غصب أو شراء ولا يوفيه ثمنه أو إيداع أو إعارة ولا يرد إليه، فإن لم يعد عليه ذهب حقه وهو أعظم ضررًا من حُضُور مجلس الحكم فإنه لا نقص فيه، وقد حضر عمرُ وأبيٌّ عند زيد بن ثابت، وللمُستَعْدَى عليه أن يوكل إن كره الحضور، ومن طلبه خصمه أو حاكم حيث لزمه إحضاره بطلبه منه لمجلس الحكم لزمه الحضور، فإن حَضَرَ وإلا أعلم القاضي الوالي، ومتى حضر فله تأديبه بما يراه من انتهار أو ضرب، ويعتبر تحرير الدعوى فيما إذا استعدى على حاكم معزول ومن في معناه من ذوي المناصب كالخليفة والعالم الكبير والشيخ المتبوع صيانة له عن الابتذال، ثم يراسله القاضي، فإن خرج من العهدة وإلا أحضره. (إلا غَيْرَ بَرْزَةٍ) وهي المخدرة التي لا تبرز لقضاء حوائجها إذا استعدي عليها (فَتُوَكِّلُ كمريض ونحوه) ممن له عذر (وإِنْ وَجَبَـ) ـت عليها (يَمِيْنٌ أَرْسَلَ) الحاكم (مَنْ) أي أمينا معه شاهدان (يُحَلِّفُهَا) بحضرتهما. ومن ادَّعى على غائبٍ بموضع من عمل القاضي لا حاكم به بعث القاضي إلى ثقةٍ يتوسط بينهما قطعًا للنِّزاع، فإن تعذر حرر دعواه ثم أحضره ولو بَعُد مكانه إذا كان ¬
بعمله. ومن قال لحاكمٍ: حكمتَ علي بشهادة فاسقين عمدًا فأنكر القاضي لم يحلف لئلا يتطرق المدعى عليهم على إبطال ما عليهم من الحقوق بذلك وفيه ضرر عظيم، واليمين إنما تجب للتهمة، والقاضي ليس من أهلها. وإن قال قاضٍ معزولٍ عدلٍ لا يُتَّهَمُ: كانتُ حكمتُ في ولايتي لفلان على فلان بكذا وبَيَّنَهُ وهو ممن يسوغ الحكم له قُيلَ نَصًّا (¬1) ولو لم يذكر مستنده في حكمه من نحو بينة أو إقرار، ولو أن العادة تسجيل أحكامه وضبطها بشهود؛ لأن عزله لا يمنع قبول قوله، قال القاضي مجد الدين (¬2) ما لم يشتمل قوله على إبطال حكم حاكم آخر فلا يقبل إذن، فلو حكم حنفي برجوع واقف على نفسه وأخبر حنبلي أنه حكم بصحة ذلك الوقف قبل حكم الحنفي برجوعه لم يقبل، نقله المحب ابن نصر اللَّه في "حواشي الفروع" (¬3). وإذا أخبر حاكمٌ حاكمًا بحكمٍ أو ثبوتٍ ولو في غير عملهما قبل وعمل به ¬
الْمُخْبَرُ -بفتح الباء- إذا بلغ عمله كما لو أخبره بعد عزله وأوْلَى، ويجوز للمُخْبَرِ -بفتح الباء- أن يعمل بأخبار الآخر مع حضوره وهما بعملهما إذا أخبره بالثبوت عنده بلا حكمٍ؛ لأنه كنقل الشهادة فاعتبر فيه ما يعتبر في الشهادة على الشَّهادة، بخلاف ما لو حكم وأخبر به أوكانا أو أحدهما بغير عملهما، وكذا إخبار أمير جهاد وأمين صدقة وناظر وقف بعد عزله بأمرٍ صدر منه حال ولايته فيقبل منه حيث يقبل في ولايته، قال في "الانتصار": كل من صحّ منه إنشاء أمر صحّ إقراره به. (¬1) ¬
فصل في طريق الحكم وصفته
فَصْلٌ فِي طَرِيْق الحُكْمِ وَصِفَتِهِ وطريقُ كل شيء ما يتوصل به إليه (¬1). والحُكْمُ لغةً: المنع (¬2). واصطلاحًا: فصل الخصومات، أو الإلزام بحكمٍ شرعيٍّ لعقد رفع إليه فحكم به بلا خصومة (¬3)، وسُمِّيَ القاضي حاكمًا لأنه يَمنعُ الظالم من ظلمه. وإذا حضره خصمان استحب أن يجلسهما بين يديه لحديث أبي داود "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم" (¬4) وقال علي حين خاصم اليهودي في درعه إلى شريح: "لولا أن خصمي يهودي لجلست معه ¬
بين يديك" (¬1)، ولأنه أمكن للحاكم في العدل بينهما. فإذا جلسا فله أن يسكت حتى يبدأ (¬2) وله أن يقول: أيُّكُما المدعي؛ لأنه لا تخصيص في ذلك لأحدهما، ومن سبق بالدَّعْوَى قدمه على خصحه لترجحه بالسبق، فإذا قال خصمه: أنا المدعي لم يلتفت القاضي إليه وقال له: أجب دعواه، ثم إن ادعيا معا قدم من قرع فإذا انتهت حكومته ادعى الآخر، ولا تسمع دعوى مقلوبة نحو أدَّعِيْ على هذا أنه يدعي عليَّ دينارًا مثلًا، فاستحلفنى له أنه لا حق له علي، سميت مقلوبة؛ لأن المدعي فيها يطلب أن يعطى المدعى عليه والمدعي في غيرها يطلب أن يأخذ من المدعى عليه فانقلب فيها القصد المعتاد، ولا تسمع دعوى حسبةٍ بحق اللَّه تعالى كعبادة من صلاة أو زكاة أو حج ونحوها وحَدٍّ وكفارةٍ ونذر وجزاء صيد قتله محرمًا أو في الحرم، وتسمع بلا دعوى بينة بذلك وبعتق ولو أنكر معتوق العتق لحق اللَّه تعالى، وكذا تسمع بطلاق وبوقف ووصية على غير معين، وبوكالة وإسناد وصية من غير حضور خصم (¬3) ولو كان بالبلد، ولا تسمع بينة بحق آدمي معين قبل دعواه، ولا تسمع يمينه إلا بعد دعواه وبعد شهادة الشاهد إن كان حيث يقضي بالشاهد واليمين، وأجاز بعض أصحابنا سماع الدعوى والبينة لحفظ ¬
وقف وغيره بالثَّبات بلا خصم (¬1)، وأجازه الحنفية (¬2)، وبعض الشافعية (¬3)، وبعض أصحابنا بخصم مُسَخَّرٍ (¬4) أي ينصب لينازع صورة، قال الشيخ تقي الدين: "وعلى أصلنا وأصل مالك إما أن تثبت الحقوق بالشهادة على الشهادة وقاله بعض أصحابنا، وإما أن يسمعها ويحكم بلا خصم وذكره بعض المالكية وبعض الشافعية، وهو مقتضى كلام أحمد وأصحابه في مواضع لأنا نسمعها على غائب وممتنع وميت، فسماعها مع عدم خصم أولى، فإن المشتري مثلًا قبض المبيع وسلم الثمن فلا يدعي ولا يدعى عليه، وإنما الغرض الحكم لخوف خصم مستقبل وحاجة الناس خصوصًا فيما فيه شبهة أو خلاف لرفعه". (¬5) قال المنقّح: "وعمل الناس عليه" (¬6). أي على ما قاله الشيخ تقي الدين فيما يقع من عقود البيوع والإجارات والأنكحة وغيرها، حيث يرفع للحاكم وتشهد به البينة فيحكم به بلا خصمٍ، قال الشيخ منصور: "قلت: ولا ينقض الحكم لذلك وإن كان الأصح خلافه، لما تقدم ¬
أنه لا ينقض إلا ما خالف نص كتاب [أو] (¬1) سنة أو إجماعًا". (¬2) وتصح الدعوى بالقليل ولو لم تتبعه الْهِمَّةُ بخلاف الاستعداء للمشقة. ويشترط لصحة الدعوى شروط: - أحدها: ما أشار إليه بقوله: (وشُرِطَ كَوْنُ مُدَّعٍ ومُنْكِرٍ جَائِزَيْ التَّصَرُّفِ)؛ لأن قول غيره غير معتبر لكن تصح على سفيه فيما يؤآخذ به حال سفهه وبعد فك حجره كطلاقه وقذفه ونحوه؛ لأن إقراره به معتبر لعدم التهمة، ويحلف إذا أنكر فيما يحلف الرشيد في مثله. (و) الشرط الثاني: (تحرِيرُ الدَّعْوَى) لترتب الحكم عليها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "إنما أقضي على نحو ما أسْمَعُ" (¬3)، ولا يمكن الحكم عليها مع عدم تحريرها، فلو كانت الدعوى بدين على ميت ذكر موته وحرر الدين، فإن كان أثمانًا ذكر جنسه ونوعه وقدره وحرر التركة، وفي "المغني" (¬4): "أو أن المدعى عليه وصل إليه من تركة مورثه ما يفي بدينه ويقبل قول وارثٍ في عدم التركة، ويكفيه أن ¬
يحلف أنه ما وصل إليه من تركة مورثه شيءٌ، ولا يلزمه أن يحلف أنه لم يخلف شيئًا؛ لأنه قد يحلف شيئًا لم يصل إليه فلا يلزمه الإيفاء". (و) الشرط الثالث: (عِلْمُ مُدَّعًى بهِ) ليتمكن الحاكم من الإلزام به إذا ثبت (إلا فِيما نُصَحِّحُهُ) معاشر الحنابلة (مَجْهُولًا كوَصِيَّةٍ) بمجهولٍ بأن ادعى أنه وصى له بدابةٍ أو بشيءٍ ونحو ذلك، وكإقرار بمجهولٍ بأن ادَّعى أنه أقر له بمجهول فتصح وإذا ثبت طُولب مدعى عليه بالبيان، وكخلع أو طلاقٍ على مجهولٍ كإن سألته الخلع أو الطلاق على أحد دوابها ويتنازعان. والشرط الرابع: كون الدّعوى (¬1) مصرحًا بها، فلا يكفي: لي عنده كذا حتى يقول: وأنا مطالبه. والشرط الخامس: أن تكون الدعوى متعلقةً بالحال، فلا تصح بدين مؤجل لإثباته؛ لأنه لا يملك الطلب به قبل أجله، وتصح الدعوى بتدبير وكتابة واستيلاد لصحة الحكم بها وإن تأخر أثرها. الشرط السادس: أن تكون الدعوى منفكة عمَّا يكذبها، فلا تصح بأنه قتل أو سرق من عشرين سنةً وسنُّه دونها ونحوه، ولا يشترط ذكر سبب الاستحقاق لعينٍ أو دين لكثرة سببه وقد يخفى على المدعي، ويعتبر تعيين مدعى به إن حضر بالمجلس لنفي اللبس بالتعيين، ويعتبر إحضار عين مدعى بها إن كانت بالبلد لتعين بمجلس الحكم نفيًا للبس، ولو ثبت أن العين المدعى بها بيده ببينة أو نكول حبس حتى يحضرها لتقع ¬
الدعوى على عينها أو حتى يدعي تلفًا فيصدق للضرورة؛ لأنه لا يعلم إلا من جهته وتكفي القيمة، وإن كانت العين المدعى بها غائبة عن البلد، أو كانت تالفةً، أو كانت في الذمة ولو غير مثلية كالبيع في الذمة بصفة، وكواجب الكسوة وصفها مدع كسَلَمٍ، والأولى ذكر قيمتها أيضًا، ويكفي في الدعوى ذكره نقد البلد إن اتحد وذكر قيمة جوهر ونحوه مما لا يصح فيه السَّلَمُ لعدم انضباط صفاته، وإن ادعى عقارًا غائبًا عن البلد ذكر موضعه وحدوده وتكفي شهرة عقار عندهما وعند حاكم عن تحديده، ولو قال مدعٍ: أطالبه بثوب غصبه قيمته [عشرة] (¬1) فيرده إن كان باقيًا وإلا فقيمته، أو أطالبه بثوب قيمته عشرة أخذه مني ليبيعه بعشرين فيعطنيها إن كان باعه أو الثوب إن كان باقيًا أو قيمته إن تلف صح ذلك اصطلاحا مع ترديد (¬2) الدعوى للحاجة، (فَإِنْ ادَّعَى عَقْدًا) ولو غير نكاح كبيع وإجارة (ذَكَرَ شُرُوْطَهُ) للاختلاف في الشروط، وقد لا يكون صحيحًا عند القاضي فلا يتأتَّى الحكم بصحته مع جهله، إلا إن ادعى زوج استدامة الزوجية فلا يشترط ذكر شروط النكاح؛ لأنه لم يدع عقدًا وإنما يدعي خروجها عن طاعته، ويجزئ عن تعيين المرأة المدعى نكاحها إن غابت ذكر اسمها ونسبها، وإن ادّعته المرأة وأدَّعت معه نفقةً ومهرًا ونحوهما سمعت دعواها؛ لأنها تدَّعي حقًا لها تضيفه إلى سبب أشبه سائر الدعاوي، وإلا تدعي سوى النكاح فلا تسمع دعواها؛ لأنه حق للزوج فلا تسمع دعواها بحق لغيرها، ومتى ¬
جحد الزوج الزوجية ونوى به الطلاق لم تطلق بمجرد (¬1) ذلك؛ لأن إنكاره النكاح ليس بطلاق ولو نواه؛ لأن الجحود هنا لعقد النكاح لا لكونها امرأته، ومن ادعى قتل مورثه ذكر وكونه عمدًا أو شبهه أو خطأ ويصفه، وأن القاتل انفرد بقتله أو شارك فيه، (أَوْ) ادعى (إرثًا ذَكَرَ سَبَبَهُ) وُجوبًا لاختلاف أسباب الإرث، (أَوْ) ادعى (مُحَلى بأَحَدِ النَّقْدَيْنِ قَوَّمَهُ بـ) النقد (الآخَرِ)، فإن ادعى محلى بذهب قَوَّمَهُ بفضةٍ، وإن ادعى محلى بفضة قومه بذهب لئلا يفضي تقويمه بجنسه إلى الربا، (أَوْ) ادعى محلى (بِهِمَا)، أو مَصُوغًا منهما مُبُاحًا تزيد قيمته عن وزنه (فبِأَيِّهِمَا) أي النقدين (شَاء) يقوم للحاجة أي انحصار الثمنية فيهما، وإذا ثبت أعطي عروضا. (وَإذَا حَرَّرَهَا) أي الدعوى فللحاكم سؤال خصم عنها وإن لم يسأل المدعي الحاكم سؤاله، (فَإنْ أَقَرَّ الْخَصْمُ) بالدعوى (حُكِمَ عليهِ بسؤالِ مُدّعٍ)؛ لأن الحق له فلا يستوفيه الحاكم إلا بمسألته، فيقول الحاكم للمدعى عليه: أخرج من حقه، أو قضيت عليك له، أو ألزمتك بحقه، أو حكمت عليك بالخروج منه ونحوه. وإن أنكر مدعى عليه الدعوى بأن قال مدعى عليه لمدع قرضًا أو ثمنًا: ما أقرضني، أو ما باعني، أو ما يستحق عليَّ ما ادعاه ولا شيئًا منه، أو قال: لا حق له علي صح الجواب لنفيه عين ما ادعى به؛ لأن قوله: "لا حق له" نكرة ¬
في سياق النفي، فتعم (¬1) كل حق ما لم يعترف له بسبب الحق، فلا يكون قوله: ما يستحق علي ما ادعاه ولا شيئًا منه وما بعده جوابًا، فلو ادعت امرأة مهرها على معترف بزوجيتها فقال: لا تستحق عليَّ شيئًا لم يصح الجواب ولزمه المهر إن لم يقم بينة بإسقاطه، وكذا لو ادعت عليه نفقة أو كسوة، ولهذا لو أقرَّتْ مَريضةٌ في مرض الموت أن لا مهر لها على زوجها لم يقبل منها إلا ببينة أنها أخذته نَصًّا، نقله مهنّا (¬2)، أو أنها أسقطته عنه في الصحة، ولو قال مدعٍ: لي عليك مائة فقال: ليس لك مائة اعتبر قوله ولا شيئًا منها؛ لأن نفي المائة لا ينفي ما دونها كيمين، فلا يكفي الحلف على نفي المائة، فإن نكل عن اليمين عمَّا دون المائة حكم عليه بمائة إلا جزء، ومن أجاب مدعٍ استحقاقَ مبيع بقوله هو ملكي اشتريته من زيد مثلا وهو ملكه لم يمنع ذلك رجوعه على بائعه بثمن المبيع المستحق إذا أثبته ربه، قال في "تصحيح الفروع" (¬3): "وهو الصواب لا سيما إن كان المشتري جاهلًا أو الإضافة إلى ملكه في الظاهر، والوجه الثاني: ليس له الرجوع لاعترافه له بالملك وهو بعيد" انتهى. ولو قال مدعى عليه لمدعٍ دينارًا: لا تستحق عليَّ حبة صحَّ الجواب ويعم حبات ¬
الدينار؛ لأنها تكرة في سياق النفي، ويعم ما دون الحبة من باب الفَحْوَى (¬1). ولمدع أنكر خصمه أن يقول: لي بينة، وللحاكم إن لم يقل المدعي ذلك أن يقول له: ألك بينة؟ لما روي: "أن رجلين (¬2) اختصما إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حضرمي وكندي، فقال الحضرمي: يا رسول اللَّه! إن هذا غلبني على أرضي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي، فليس له فيها حقٌّ، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه" (¬3) وهو حديث حسن صحيح قاله في "شرح المنتهى" لمصنفه (¬4). ¬
فإن قال مدع سأله الحاكم: ألك بينة؟ فقال: نعم قال له: إن شئت أحضرها، فإذا أحضرها لم يسألها الحاكم عمَّا عندها حتى يسأله المدعي ذلك؛ لأن الحق له فلا يتصرف فيه بلا إذنه، ولم يلقنها الحاكم الشهادة بل إذا مسألة المدعي سؤاله البينة قال: من كان عنده شهادة فليذكرها إن شاء، ولا يقول لهما: اشْهَدَا؛ لأنه أمر، وكان شريح يقول للشاهدين: "ما أنا دعوتكما ولا أنهاكما أن ترجعا، ولا يقضي على هذا المسلم غيركما، وإني بكما اليوم أقضي، وبكما أتقي يوم القيامة" (¬1) فإذا شهدت عنده البينة سمعها، وحرم عليه ترديدها، ويكره له طلب زلتها وانتهارها لئلا يكون وسيلة إلى الكتمان، ولا يكره قوله لمدعى عليه: ألك فيها دافع أو مطعن؟ بل يستحب قوله: قد شهدا عليك، فإن كان لك قادحٌ فبينه لي، وقيّده في "الْمُذْهَبِ" (¬2) و"الْمُسْتَوْعِبِ" (¬3): بما إذا ارتاب منها، فإن لم يأت بقادحٍ واتضح للحاكم الحكم وكان الحق لمعين وسأله الحكم لزمه فورًا، ويحرم الحكم ولا يصح مع علم الحاكم بضده أو مع ليس قبل البيان، ويأمر بالصلح لقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ ¬
النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (¬1)، ومع علمه ضده أو مع لبس لم يره شيئًا يحكم به، ويحرم الاعتراض على القاضي لتركه تسمية الشهود، قال في "الفروع" (¬2): "وذكر شيخنا أن له طلب تسمية البينة ليتمكن من القدح بالاتفاق، ويتوجه مثله حكمت بكذا ولو لم يذكر مستنده". من بينة أو إقرار أو نكول فيحرم الاعتراض عليه لذلك. وله الحكم ببينة وبإقرار في مجلس حكمه وإن لم يسمعه غيره نصًّا، نقله حرب (¬3)؛ لأن مستند قضاء القاضي هو الحجج الشرعية، وهي البينة أو الإقرار، فجاز له الحكم بهما إذا سمعها في مجلسه وإن لم يسمعه أحد، لحديث أم سلمة مرفوعًا: "إنما أنا بشر مثلكم تختصمون إليَّ، ولعل أن يكون بعضكم ألْحَنَ بحجته من بعضٍ فأقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" رواه الجماعة (¬4)، فجعل مستند قضائه ما يسمعه ¬
لا غيره، ولأنه إذا جاز الحكم بشهادة غيره فبسماعه أولى، ولئلا يؤدي إلى ضياع الحقوق، ولا يحكم قاضٍ بعلمه في غير هذه المسألة ولو في غير حد للخبر (¬1)، ويقول الصديق: "لو رأيت حدا على رجل لم آخذه حتى تقوم البينة" (¬2)، ولأن تجويز القضاء بعلم القاضي يؤدي إلى تهمته وحكمه بما يشتهي مع الإحالة على علمه لكن يجوز الاعتماد على سماعه بالاستفاضة؛ لأنها من أظهر البيان، ولا يتطرق [إلى] (¬3) الحاكم تهمة إذا استند إليها، فحكمه بها حكم بحجة لا بمجرد علمه الذي لا يشاركه فيه غيره، ذكره في "الطُّرُق الحكمية" (¬4)، ¬
ويعمل بعلمه في عدالة بينة وجرحها بغير خلاف لئلا يتسلسل الاحتياج إلى معرفة المزكين أو جرحهم، فلو لم يعمل بعلمه في ذلك لاحتاج كل من المزكين إلى مزكين ثم يحتاجون أيضًا إلى مزكين وهكذا. ومن جاء من المدعين ببينةٍ فاسقةٍ استشهدها الحاكم لئلا يفضحها وقال لمدعٍ: زدني شهودًا ولم يقبلها لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬1). (وَإِنْ أَنْكَرَ) مدعًى عليه (و) الحال أن (لا بَيِّنَةَ) بأن قال المدعي: ما لي بينة (فقولُهُ) أي المنكر (بيمينِهِ)، فيعلم المدعيَ حاكمٌ بذلك، لحديث وائل بن حجر: "أن رجلًا من حضرموت، ورجلًا من كندة، أتيا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال الحضرمي: إن هذا غلبني على أرضي ورثتها من أبي، وقال الكندي: أرضي في يدي لا حق له فيها، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: شاهداك أو يمينه، فقال: إنه لا يتورع من شيءٍ، قال: ليس لك إلا ذلك" رواه مسلم (¬2)، ¬
فإن سأل (¬1) إحلافه (¬2) ولو علم عدم قدرته على حقه -ويكره له إحلافه إذن لئلا يضطر إلى اليمين الكاذبة- أحلف على صفة جوابه نصًّا (¬3)، لا على صفة الدعوى؛ لأنه لا يلزمه أكثر من ذلك الجواب فيحلف عليه، وإذا حلف خلى سبيله، وتحرم دعواه عليه ثانيًا، وتحليفه أيضًا كبريء. ولا يعتد بيمين إلا بأمر حاكم بسؤال مدع طوعًا، فإن حلف بلا أمر حاكم، أو حلفه حاكم بلا سؤال مدعٍ أو بسؤاله كرهًا لم تسقط عنه اليمين. ولا يصل اليمين منكر باستثناء لأنه يزيل حكمها، وتحرم تورية وتأويل في حلف بأن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره إلا لمظلوم فيجوز له التورية والتأويل لدفع الظلم. ويحرم حلف معسر خاف حبسًا أنه لا حق له علي ولو نوى الساعة، ويحرم حلف من عليه دين مؤجل أراد غريمه منعه من سفر فأنكر وحلف لا حق له عليَّ ولو نوى الساعة نصًّا (¬4)، ولا يحلف مدعى عليه في شيءٍ مختلف فيه لا يعتقده نصًّا، وحمله الموفّق على الورع، ونقل عن أحمد: لا يعجبني نحو إن باع شافعي لحمًا متروك التسمية عمدًا لحنبلي بثمن في الذمة وطالبه به وأنكر مجيبًا لا حق لك ¬
علي، وتوقف أحمد في اليمين فيمن عامل بحيلة ربوية إذا أنكر الآخذ الزيادة. (¬1). ومن توجهت عليه اليمين فلم يحلف وامتنع قال له حاكم: إن حلفت وإلا قضيت عليك بالنكول نصًّا (¬2)، ويسن تكراره ثلاثًا قطعًا لحجته، (فَإِنْ نَكَلَ) عن اليمين فلم يحلف (حُكِمَ عَلَيْهِ) أي حكم عليه قاضٍ (بـ) شرط (سؤالِ مُدَّعٍ) الحكم عليه (في مالٍ وما يُقْصَدُ بهِ) المال كالبيع وأجله وخياره ورهن وإجارة وشركة ونحو ذلك. (ويُسْتَحْلَفُ في كُلِّ حَقٍّ آدميٍّ) من مال وما قصد به المال مما يثبت بشهادة رجل وامرأتين (سِوَى نِكَاحٍ ورَجْعَةٍ ونَسَب ونحوها) كطلاق وقذف وقصاص مما ليس بمال ولا يقصد به المال فلا يستحلف فيه، و (لا) يستحلف (في حَقِّ اللَّه) تعالى (كحدِّ) زنًا وشربٍ (وعبادةٍ) من صلاة أو زكاة أو حج ونحوها. (واليَمِيْنُ الْمَشْرُوْعَةُ) في قطع النزاع هي اليمين (باللَّه) تعالى (وَحْدَهُ) الذي لا يسمى به غيره نحو: واللَّه، والرحمن، وخالق الخلق، ورازق العالمين، ونحو ذلك، (أَوْ بِصفةٍ) (¬3) من صفاته تعالى، كوجه اللَّه، وعظمته، وكبريائه، وعزته، ونحو ذلك، (ويُحْكَمُ بالبيِّنة بعد ¬
التَّحليف)؛ لأنها لا تبطل بالاستحلاف كما لو غابت عن البلد، وإن كان لمدعٍ شاهد واحد بالمال وأقامه عرفه القاضي أن له أن يحلف مع شاهده ويستحق، فإن قال: لا أحلف وأرضى بيمينه استحلف له وانقطع النزاع، فإن عاد المدعي وقال: أحلف مع شاهدي لم يسمع منه، نقله في "الشرح" (¬1)، وإن وجد مدع مع شاهده آخر فشهد عند القاضي بحقه كملت بينته وقضى له بها، وإن قال مدع: لي بينة وأريد يمينه فإن كانت حاضرةً بالمجلس فليس له إلا أحدهما، لحديث: "شاهداك أو يمينه" (¬2)، وأوْ (¬3) للتخيير فلا يجمع بينهما، ولإمكان فصل الخصومة بالبينة فلا يشرع غيرها مع إرادة مدع إقامتها وحضورها، وإلا تكن البينة حاضرة بالمجلس فله تحليفه ثم إقامة البينة لقول عمر: "البينة الصادقة أحب إليَّ من اليمين الفاجرة" (¬4) ويلزم من صدق البينة فجور اليمين المتقدمة فتكون أولى. وإن سأل مدع ملازمة مدعى عليه حتى يقيم البينة أجيب في المجلس حيث أمكن إحضارها فيه؛ لأنه من ضرورة إقامتها، ولا ضرر فيه على المدعى عليه، بخلاف ما إذا بعدت أو لم يمكن إحضارها فإن إلزامه الإقامة إلى حضورها يحتاج إلى حبس أو ما يقوم مقامه ولا سبيل إليه، فإن لم تحضر البينة في المجلس صرفه ولا ملازمة لغريمه ¬
نصًّا (¬1)؛ لأنه لم يثبت له حق يحبس به ولا يقيم به كفيلًا، ولئلا يتمكن كل ظالم من حبس من شاء من الناس بلا حق. وإن سكت مدعى عليه أو قال: لا أقر ولا أنكر، أو قال: لا أعلم قدر حقه ولا بينة قال الحاكم: إن أجبت وإلا جعلتك ناكلًا وقضيت عليك بالنكول، ويسن تكراره ثلاثًا، فإن أجاب وإلا قضى عليه. ولو قال مدعى عليه في جواب من ادعى ألفًا: إن ادعيت ألفا برهن كذا في بيدك أجبتك وإلا فلا حق علي فجوابه صحيح، أو قال: إن ادعيت هذا الألف بثمن كذا بعتنيه ولم أقبضه فنعم، وإلا فلا حق لك علي فجواب صحيح، لا إن قال: لي مخرج مما ادعاه فليس جوابًا صحيحًا؛ لأن الجواب إما إقرار أو إنكار وليس هذا واحدًا منهما. وإن قال مدعى عليه: في حساب أريد أن أنظر فيه وسأل الإنظار أنظر ثلاثة أيام، ويلازمه المدعي فيها لإمكان ما يدعيه وتكليفه الإقرار في الحال إلزام له بما لا يتحققه؛ لأنه يجوز أن يكون له حق لا يعلم قدره أو يخاف أن يحلف كاذبًا، وأن لا يكون عليه حق فيقر بما لا يلزمه فوجب إنظاره مما لا ضرر على المدعي في إنظاره إليه وهو ثلاثة أيام جمعًا بين الحقين، أو قال مدعى عليه بعد ثبوت الدعوى عليه ببينة: قضيته أو أبرأني من المدعى به ولي بينة به وسأله الإنظار لزمه ¬
إنظاره ثلاثة أيام فقط؛ لأن إلزامه في الحال تضييق عليه، وإنظاره أكثر من ذلك تأخير للحق عن مستحقه بلا ضرورة، فجمع بين الحقين، وللمدعي ملازمته زمن الإنظار لئلا يهرب، ولا ينظر إن قال: في بينة تدفع دعواه؛ لأنه لم يبين سببه (¬1)، فإن عجز عن البينة حلف المدعي على نفي ما ادعاه واستحق ما ادعى به، فإن نكل عن اليمين حكم عليه بنكوله وصدق المدعى عليه؛ لأن الدعي إذن منكر وجبت عليه يمين فنكل عنها فحكم عليه بالنكول كما لو كان مدعى عليه ابتداءً، هذا إن لم يكن المدعى عليه أنكر سبب الحق، فأما إن كان أنكره ثم ثبت فادعى قضاءً أو إبرأءً سابقًا إنكاره ما ادعاه من ذلك فلو ادعى عليه ألفًا من قرض أو ثمن مبيع فقال: ما اقترضت منه وما اشتريت منه فثبت أنه اقترض أو أشترى (¬2) منه ببينة أو إقرار فقال: قضيته قبل هذا الوقت أو أبرأني لم يقبل ذلك منه وإن أقام به بينة نصًّا (¬3)؛ لأن إنكار الحق يقتضي نفي القضاء أو الإبراء منه؛ لأنهما لا يكونان إلا عن حقٍ سابقٍ فيكون مكذبا لنفسه، وإن ادعى قضاء أو إبراء بعد إنكاره قبل منه ببينة؛ لأن قضاءه بعد إنكاره كالإقرار به، فيكون قاضيًا لما هو مقرٌّ به، فتسمع دعواه به كغير المنكر، وإبراء المدعي بعد إنكاره إقرار بعدم استحقاقه فلا تنافي، وإن قال مدعى عليه بعين جوابًا ¬
لمدعيها: وإنت بيدك أو لك أمس لزمه إثبات سبب زوال يده، وإن عجز عن إثباته حلف مدع على بقائه، وإن العين لم تخرج عنه بوجه وأخذها، وإن قال مدع: لا أعلم لي بينة ثم أتى بها سمعت؛ لأنه يجوز أن تكون له بينة لا يعلمها ثم علمها، ونفي العلم لا ينفيها (¬1) فلا تكذيب لنفسه، أو قال عدلان: نحن نشهد لك فقال: هذه بينتي سمعت لما سبق، ولا تسمع إن قال: ما لي بينة ثم أتى بها نصًّا (¬2)؛ لأنه مكذب لها، أو قال: كذب شهودي، أو قال: كل بينة أقيمها فهي زُوْرٌ أو بَاطِلَة أو لا حق لي فيها فلا تسمع بينته بعد ولا تبطل دعواه بذلك؛ لأنه لا يلزم من بطلان الدليل بطلان المدعى فله تحليف خصمه لاحتمال أنه محق ولم يشهد عليه، ولا ترد البينة بذكر السبب إذا سكت عنه المدعي في دعواه لعدم المنافاة إذن، بل بذكر سبب ذكر المدعي غيره، كإن طالبه بألف قرضا فأنكره فشهدت بألف من ثمن مبيع أو أجرة أو غصب للتنافي. ومتى شهدت بينة بغير مدعى به كإن ادعى دينارا فشهدت بدراهم فهو مكذب لها ¬
نصًّا (¬1)، فلا تسمع، وفي "المستوْعِب" (¬2) و"الرِّعاية" إن قال: "أستحقه وما شهدوا به وإنما ادعيت بأحدهما لأدعي بالآخر وقتا آخر ثم ادعاه ثم شهدوا به قبلت". (¬3) ومن ادعى شيئًا أنه له الآن لم تسمع بينته إن شهدت أنه كان له أمس أو أنه كان في يده أمس لعدم التطابق حتى تَبين سبب يد الثاني نحو غاصبة أو مستعيرة، بخلاف ما لو شهدت البينة أنه وإن ملكه بالأمس اشتراه من رب اليد فإنه يقبل. وقال الشيخ تقي الدين: "إن قال: ولا أعلم له مزيلًا قُبِلَ وقال: لا يعتبر في أداء الشهادة قوله، وأن الدين باقٍ في ذمة الغريم بل يحكم الحاكم باستصحاب الحال إذا ثبت عنده سبب الحق إجماعًا" (¬4). ومن ادُّعِيّ عليه بشيء فأقر بغيره لزمه ما أقر به إذا صدقه المقر له، لحديث: "لا عذر لمن أقر" (¬5) والدّعوى بحالها ¬
نصا (¬1)، فله إقامة البينة بها أو تحليفه. (وشرط في بينة عدالة ظاهرا، و) كذا (في كثر عقد نكاح باطنا أيضًا) لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (¬2) وقوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬3) وقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (¬4) والفاسق لا يؤمن كذبه، وأما في عقد النكاح فتكفي العدالة له ظاهرا فلا يبطل لو بانا فاسقين وتقدم (¬5) , واختار الخرقي وأبو بكر وصاحب "الروضة" تقبل شهادة كل مسلم لم يظهر منه ريبة (¬6)؛ لقبوله عليه الصلاة والسلام شهادة الأعرابي برؤية الهلال (¬7)، وقول ¬
عمر: "المسلمون عدول" (¬1)، ولأن ظاهر المسلم العدالة لأنها أمر خفي سببها الخوف من اللَّه تعالى ودليله الإسلام، فإذا وجد اكتفي به ما لم يقم دليل على خلافه، فإن جهل إسلامه رجع إلى قوله والعمل على الرواية ¬
الأولى، وقولهم: ظاهر المسلم العدالة ممنوع بل الظاهر عكسه؛ لأن العادة إظهار الطاعة وإسرار المعصية، وقول عمر معارض بما روي عنه أنه أتي بشاهدين فقال لهما: "لست أعرفكما ولا يضركما أني لم أعرفكما" (¬1) والأعرابي الذي قبل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شهادته صحابي والصحابة عدول. (و) شرط (في مزك معرفة) خبرة مزك باطنة بصحبة أو معاملة من (جرح وتعديل، و) شرط (معرفة حاكم خبرته) أي المزكي (الباطنة) كالمعرفة المتقدمة، ويكفي في تزكية الشاهد عدلان يقول كل منهما: أشهد أنه عدل ولو لم يقل: أرضاه لي وعلي؛ لأنه إذا كان عدلا لزم قبوله على مزكيه وغيره، ولا يكفي قوله: لا أعلم إلا خيرا، (وتقدم بينة جرح) على بينة تعديل؛ لأن الجارح يخبر بأمر باطن خفي على العدل، وشاهد العدالة يخبر بأمر ظاهر، ولأن الجارح مثبت للجرح، والمعدل ناف له والمثبت مقدم على النافي، وإذا عصى في بلده فانتقل منه فجرحه اثنان في بلده وعدله اثنان في البلد الذي انتقل إليه قدمت التزكية، ويكفي فيها الظن بخلاف الجرح، قاله في "المبدع" (¬2)، وتعديل خصم وحده لشاهد عليه تعديل له؛ لأن البحث عن عدالته لحقه، ولأن إقراره بعدالته إقرار بما يوجب الحكم عليه لخصمه فيؤخذ بإقراره وكذا تصديقه للشاهد تعديل له، ولا تصح التزكية في واقعة واحدة يقول مزك: أشهد أنه عدل في شهادته في هذه القضية ¬
فقط، ومن ثبتت عدالته مرة لزم البحث عنها مرة أخرى مع طول المدة بين الشهادتين؛ لأن الأحوال تتغير مع طول الزمن، (فمتى جهل حاكم حال بينة) فلم يعلم قوة ضبطها ودينها (طلب التزكية) أي طلب من يزكيها (مطلقا) من غير تقييد. بحال دون حال، (ولا يقبل فيها) أي التزكية (و) لا (في الجرح ونحوهما إلا رجلان)، فلا يقبل في ذلك شهادة النساء؛ لأنها شهادة فيما ليس بمال ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال غالبا أشبه الشهادة في القصاص، فإذا ارتاب الحاكم من عدلين لزمه البحث عما شهدا به بسؤال كل واحد منهما منفردا عن كيفية تحمله ومتى وأين، ويسأله هل تحمل الشهادة وحده أو مع صاحبه، فإن اتفقا وعظهما وخوفهما، لحديث أبي حنيفة قال: "كنت عند محارب بن دثار (¬1) وهو قاضي الكوفة، فجاء رجل فادعى على رجل حقا فأنكره، وأحضر الدعي شاهدين شهدا له، فقال المشهود عليه: والذي تقوم به السماء والأرض لقد كذبا علي، وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا وقال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: إن الطير لتخفق بأجنحتها، وترمي ما في حواصلها من هول يوم القيامة، وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار، فإن صدقتما فاثبتا، وإن كذبتما فغطيا رؤوسكما ¬
وانصرفا، فغطيا رؤوسهما وانصرفا" (¬1)، فإن ثبتا بعد وعظهما حكم بشهادتهما بسؤال مدع وإلا يثبتا لم يقبلهما، وإن أقام بينة بدعواه وسأل حبس خصمه في غير حد حتى تزكى بينته أجيب ثلاثة أيام ويقال له: إن جئت بالمزكين فيها وإلا أطلقناه، أو أقام بينة وسأل كفيلا به في غير حد، أو جعل مدعى به بيد عدل حتى تزكى بينته، أو أقام شاهدا بمال وسأل حبسه حتى يقيم الآخر أجيب ثلاثة أيام لتمكنه من البحث فيها فلا حاجة لأكثر منها بل في حبسه أكثر منها ضرر كثير، وإن جرح البينة خصم أو أراد جرحها كلف بينة وينتظر ثلاثة أيام لقول عمر في كتابه لأبي موسى الأشعري: "واجعل لمن ادعى حقا غائبا أمدا ينتهى إليه فإن أحضر بينته أخذت له حقه وإلا استحللت القضية عليه فإنه أنفى للشك وأجلى للفهم (¬2) " (¬3) ويلازمه المدعي في الثلاثة ¬
أيام لئلا يهرب فيضيع حقه وظاهره أنه لا يحبس فيها فإن أتى بها وإلا حكم عليه. ولا يسمع جرح لم يبين سببه بذكر قادح فيه عن رؤية، ويعرض جارح بزنا أو لواط، فإن صرح ولم تكمل بينة حد. وإن جهل حاكم لسان خصم ترجم له من يعرفه قال أبو جمرة (¬1) -كنت أترجم بين الناس وبين ابن عباس (¬2) وأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- زيد بن ثابت فتعلم كتاب اليهود قال: "حتى كنت أكتب للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كتبه وأقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه" رواه أحمد والبخاري (¬3)، ولا يقبل في ترجمة وجرح وتعديل في زنا أو لواط إلا أربعة رجال عدول كشهود الأصل، ويعتبر فيمن رتبه الحاكم يسأل سرا عن الشهود لتزكية ¬
أو جرح شروط الشهادة الآتية، وتجب الشافهة فيمن يعدل أو يجرح ونحوه، فلا تكفي كتابته أنه عدل أو ضده ونحوه كالشهادة، وإذا رتب الحاكم [من يسأل] (¬1) عن الشهود كتب أسماءهم وصنائعهم ومعايشهم وموضع مساكنهم وصلاتهم ليسأل عنهم أهل سوقهم ومسجدهم وجيرانهم، وكتب حلاهم كأسود أو أبيض أو أنزع أو أغم أشهل أو أكحل أقنى الأنف أو أفطس رقيق الشفتين أو غليظهما طويل أو قصير أو ربعة للتمييز، ويكتب المشهود له أو عليه وقدر الحق فيكتب لكل ممن يرسله رقعة بذلك، وينبغي أن يكونوا غير معروفين لئلا يستمالوا بنحو هدية، وأن لا يكونوا من أهل الأهواء والعصبية، وأن يكونوا أصحاب عفة من ذوي العقول الوافرة براء من الشحنة والبغضة، فإذا رجعوا فأخبر اثنان بالعدالة قبل الشهادة، وإن أخبرا بالجرح ردهما، وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالعدالة بعث آخرين، فإن عادا وأخبرا بالتعديل تمت بينته وسقط الجرح؛ لأن بينته لم تتم، وإن أخبرا بالجرح ثبت وسقط التعديل، ومن نصب للحكم بجرح أو تعديل أو لسماع بينة قنع الحاكم بقوله وحده إذا قامت البينة عنده؛ لأنه حاكم أشبه غيره من الحكام، ومن سأله حاكم عن تزكية من شهد عنده أخبره وجوبا بالواقع وإلا لم يجب عليه؛ لأنه لم يتعين عليه. ¬
فصل
فصل ومن ادعي عليه عينا بيده فأقر بها لحاضر مكلف جعل المقر له الخصم فيها لاعتراف صاحب اليد بنيابة يده عن يد المقر له وإقرار الإنسان بما في يده لغيره صحيح سواء قال: أنا مستأجر منه أو مستعير أو لا وحلف مدعى عليه أنها ليست لمدع فإن نكل أخذ منه للمدعي بدلها ثم إن صدقه المقر له فهو كأحد مدعيين على ثالث أقر له الثالث على ما يأتي في باب الدعاوي والبينات، وإن قال: ليست في ولا أعلم لمن هي وجهل لمن هي سلمت لمدع، أوقال ذلك المقر له وجهل لمن هي سلمت لمدع بلا يمين، لأنه يدعيها ولا منازع له فيها، فإن كان مدعيها اثنين اقترعا عليها، فمن خرجت له القرعة أخذها وحلف لصاحبه. وإن عاد المقر بالعين فادعاها لنفسه أو لثالث أو عاد المقر له أو لا إلى دعواه العين ولو قبل أن يدعيها المقر لنفسه لم يقبل؛ لأنه مكذب لهذه الدعوى الإقرار الأول بقوله: هذه لفلان أو بقوله: ليست في ولا أعلم لمن هي؛ لأن ذلك نفي لها عن نفسه وعن غيره فلا يسمع منه خلافه، وإن أقر بها لغائب عن البلد أو غير مكلف وللمدعي بينة فهي له لترجح جانبه بالبينة بلا يمين، لخبر: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" (¬1)، وإلا يكن للمدعي بينة فأقام المدعى عليه بينة أنها لمن سماه لم يحلف اكتفاء بالبينة وسمعت لزوال التهمة ¬
ولا يفضى بها لأن البينة للغائب ولم يدعها هو ولا وكيله، قدمه الموفق (¬1)، وجزم به الزركشي (¬2)، وإلا يقم بينة أن العين لمن سماه استحلف أنه لا يلزمه تسليم العين لمدعيها وأقرت بيده لاندفاع دعوى المدعي باليمين، فإن نكل غرم بدلها لمدع لا سبق، وإن أقر بها لمجهول قال له حاكم: عرفه وإلا جعلتك ناكلا وقضيت عليك، فإن عاد وادعاها لنفسه لم يقبل منه ذلك. (ومن ادعى على غائب) عن البلد (مسافة قصر أو) ادعى على (مستتر في البلد) أو بدون مسافة قصر (أو) على (ميت أو غير مكلف وله بينة) ولو شاهدا ويمينا فيما يقبل فيه (سمعت وحكم بها) بشرطه، لحديث هند قالت: يا رسول اللَّه! إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، قال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" متفق عليه (¬3)، فقضى لها ولم يكن أبو سفيان حاضرا، وأما حديث علي: "إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فإنك لا تدري بما تقضي" (¬4) فهو فيما إذا كانا حاضرين والحاضر ¬
يفارق الغائب فلا تسمع عليه البينة إلا بحضرته، فإن كانت الغيبة دون مسافة قصر فهي في حكم المقيم، وأما سماع البينة على المستتر فلتعذر حضوره كالغائب بل أولى، ولأن الغائب قد يكون له عذر بخلاف المتواري، وروى حرب بإسناده عن أبي موسى قال: "كان الخصمان إذا اختصما إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأنفذ الموعد فوفى أحدهما ولم يوف الآخر قضى للذي وفى" (¬1) ولئلا يجعل الاستتار وسيلة إلى تضييع الحقوق، وكذا الميت والصغير والمجنون لأن كلا منهم لا يعبر عن نفسه فهو في حكم الغائب. (في غير حق اللَّه تعالى) فلا تسمع بينة ولا يحكم بها على غائب ونحوه في حق اللَّه تعالى فيقضى في سرقة ثبتت على غائب بغرم مال مسروق فقط دون قطع، لحديث: "ادرؤا الحدود بالشبهات ما استطعتم" (¬2)، ولا يجب على محكوم له على غائب ونحوه يمين على بقاء حقه في ذمته، لحديث: "البينة على المدعي واليمين على ¬
المدعى عليه" (¬1) فحصر اليمين في جانب المدعى عليه، ولأنها بينة عادلة فلا تجب معها اليمين كما لو كانت على حاضر إلا على رواية، قال المنقح: "والعمل عليها في هذه الأزمنة" انتهى (¬2). ولفساد أحوال غالب الناس لاحتمال أن يكون استوفى ما شهدت به البينة أو ملكه العين التي شهدت له بها البينة، ثم إذا كلف غير مكلف أو رشد بعد الحكم عليه، أو حضر الغائب أو ظهر المستتر فهو على حجته إن كان لزوال المانع، والحكم بثبوت أصل الحق لا يبطل دعوى القضاء أو الإبراء ونحوه بما يسقط الحق، وإن حضر قبل الحكم وقف على حضوره، ولا تجب إعادة البينة بل يخبره الحاكم بالحال ويمكنه الجرح، فإن جرح البينة بأمر بعد أداء الشهادة أو مطلقا لم يقبل؛ لأن ما بعد أداء الشهادة لا يبطلها، وإذا أطلق احتمل الأمرين فلا يبطل الحكم لجواز حدوث الجرح بعده، وإن جرحها بأمر قبل الحكم قبل تجريحه وتبين بطلان الحكم لفوات شرط. (ولا تسمع) دعوى (على غيرهم) أي الغائب أو المستتر والميت وغير المكلف وهو الحاضر المكلف أو الغائب دون مسافة (حتى يحضر) لمجلس الحكم لحديث علي السابق (¬3)، ولأنه أمكن سؤاله فلم يجز الحكم عليه قبله بخلاف الغائب البعيد، (أو) حتى (يمتنع) الحاضر بالبلد والغائب دون المسافة عن الحضور فتسمع كما تقدم، ثم إن ¬
وجد الحاكم له مالا وفاه دينه منه، وإلا قال للمدعي: إن عرفت له مالا وثبت عندي وفيتك منه دينك، والحكم للغائب لا يصح إلا تبعا كمن ادعى موت أبيه عنه وعن أخ له غائب أو غير رشيد وله عند شخص عين أو دين فثبت المدعى به على الشخص بإقراره أو بينة أو نكول أخذ المدعي نصيبه وأخذ الحاكم نصيب الآخر وجعله بيد أمين.
فصل
فصل ومن ادعى أن الحاكم حكم له بحق فصدقه الحاكم قبل قول الحاكم وحده إن كان عدلا، وإن لم يشهد عليه رجلان بالحكم وليس حكما بالعلم بل إمضاء للحكم السابق كقوله ابتداء: حكمت بكذا فيقبل منه، وإن لم يذكر الحكم فشهد به عدلان قبلهما وأمضاه لقدرته على إمضائه ما لم يتيقن صواب نفسه؛ لأنهما إذا شهدا عنده بحكم غيره قبلهما، وإن تيقن صواب نفسه لم يقبلهما ولم يمضه؛ لأن الشهادة إنما تفيد غلبة الظن، واليقين أقوى بخلاف من نسي شهادته فشهدا عنده بها فلا يشهد بذلك؛ لأن الشاهد لا يقدر على إمضاء شهادته وإنما يمضيها الحاكم ففارق الحاكم بذلك، وإن لم يشهد بحكمه أحد ووجده مكتوبا ولو في قمطرة تحت ختمه أو شهادته بخطه وتيقنه ولم يذكره لم يعمل به نصا (¬1) لاحتمال أنه زور عليه، وقد وجد ذلك كثيرا كوجدان خط أبيه بحكم فليس له إنفاذه أو بشهادة فليس له أن يشهد به على شهادة أبيه كشهادة غيره إذا وجدها بخطه ولو تيقنه إلا على قول مرجوح، قال المنقح: "وهو أظهر وعليه العمل". (¬2) قال الموفق: "وهذا الذي رأيته عن أحمد في ¬
الشهادة" (¬1)؛ لأنه إذا كان في قمطرة تحت ختمه لم يحتمل إلا أن يكون صحيحا. وحكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته باطنا ولو عقدا أو فسخا لحديث: "إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار" متفق عليه (¬2)، وقول علي "زوجاك شاهداك" (¬3) إن صح فإنما أضاف التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه ولم يجبها إلى التزويج؛ لأن فيه طعنا على الشهود، واللعان يحصل به الفرقة ولا يصدق الزوج، ولهذا لو قامت به البينة لم ينفسخ النكاح، فمتى علمها حاكم كاذبة لم ينفذ حكمه بها حتى ولو في عقد وفسخ، فمن حكم له ببينة زور بزوجية امرأة لم تحل له باطنا، فإن وطئ مع العلم فكزنا فيجب عليه الحد بذلك وعليها الامتناع منه ما أمكنها، فإن أكرهها فالإثم عليه دونها، ويصح نكاحها غيره؛ لأن نكاحه كعدمه، وقال الموفق: "لا يصح لإفضائه إلى وطئها من اثنين أحدهما بحكم الظاهر والآخر بحكم الباطن". (¬4) ¬
وإن حكم حاكم بطلاقها ثلاثا بشهود زور فهي زوجته باطنا، ويكره له اجتماعه بها ظاهرا؛ لأنه طعن على الحاكم ولا يصح نكاحها ممن يعلم بالحال من الشاهدين أو غيرهما لبقائها في عصمة الأول، ومن حكم لمجتهد أو عليه بما يخالف اجتهاده عمل باطنا بالحكم له أو لغيره كما يعمل به ظاهرا لرفعه الخلاف، وإن باع حنبلي لحما متروك التسمية عمدا فحكم بصحته شافعي نفذ حكمه، فيدخل الحكم بالطهارة أو النجاسة تبعا لا استقلالا، وإن رد حاكم شهادة واحد برؤية هلال رمضان لم يؤثر ذلك في الحكم بعدالته ويلزم الصوم من علم ذلك، (ولو رفع إليه) أي الحاكم (حكم) مختلف فيه كنكاح امرأة نفسها (لا يلزمه نقضه) -صفة لحكم- بأن لم يخالف نص كتاب أو سنة صحيحة أو إجماعا قطعيا (لينفذه) -متعلق برفع- (لزمه) أي الحاكم (تنفيذه) وإن لم يره صحيحا عنده؛ لأنه حكم بما ساغ الاجتهاد فيه لا يجوز نقضه فوجب تنفيذه لذلك، وكذا إن كان نفس الحكم مختلفا فيه كحكمه بعلمه وتزويجه يتيمة وحكم على غائب أو بالثبوت بطريق الشهادة على الحق أو نحوه، وظاهر هذا أن الحكم بشيء حكم بصحة الحكم به وفي "شرح المحرر" (¬1) - "لأن الحكم المختلف فيه صار محكوما به فلزم تنفيذه كغيره" انتهى. وإن رفع خصمان إلى حاكم عقدا فاسدا عنده فقط كنكاح بلا ولي وأقرا بأن حاكما نافذ الحكم كحنفي حكم بصحته فله إلزامهما ذلك العقد؛ لأنه حق أقرا به ¬
وله رده والحكم بمذهب؛ لأن الحكم به لا يثبت بقولهما بلا بينة فلا يلزمه لعدم ثبوته عنده، ومن قلد مجتهدا في صحة نكاح لم يفارق زوجته بتغير اجتهاده كحكم بخلاف مجتهد نكح ثم رأى بطلانه فيلزمه فراق زوجته لاعتقاد تحريم وطئها.
فصل
فصل ومن غصبه إنسان مالا جهرا أو كان عنده عين ماله فله أخذ قدر المغصوب من مال غاصب جهرا ولو قهرا لا أخذ قدر دينه من مال مدين تعذر أخذ دينه منه بحاكم لجحد أو غيره كسكان بواد يتعذر إحضار الخصوم منها نصا (¬1) لحديث: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" رواه الترمذي وحسنه (¬2)، وأخذه من ماله بلا إذنه قدر ¬
حقه خيانة له إلا إذا تعذر على ضيف أخذ حقه بحاكم فيأخذه، وتقدم بدليله في كتاب الأطعمة (¬1). ولو كان لكل واحد من اثنين على الآخر دين من غير جنسه فجحد أحدهما دين صاحبه فليس للآخر أن يجحد دين الجاحد لدينه؛ لأنه كبيع دين يدين ولا يجوز ولو تراضيا، فإن كان من جنسه تقاصا. ¬
فصل في كتاب القاضي إلى القاضي
فصل في كتاب القاضي إلى القاضي وأجمعوا على جواز المكاتبة لقوله تعالى حكاية عن بلقيس (¬1): {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ. .} (¬2)، ولأنه عليه السلام كتب إلى النجاشي وغيره وكاتب ولاته وعماله وسعاته. (ويقبل كتاب قاض إلى قاض) آخر بالإجماع (في كل حق آدمي) كبيع وقرض وغصب وإجارة وصلح ووصية بمال وهبة وجناية توجب مالا (¬3)؛ لأنه في معنى الشهادة على الشهادة حتى ما لا يقبل فيه إلا رجلان كقود وطلاق ونحوهما، ولا يقبل في حد للَّه تعالى كحد زنا وشرب مسكر؛ لأنها مبنية على الستر والدرء بالشبهة، ولهذا لا تقبل بالشهادة على الشهادة؛ لأنه في معناها، ولهذا ذكر الأصحاب أن كتاب القاضي إلى القاضي حكمه كالشهادة على الشهادة (¬4)؛ لأنها شهادة القاضي على شهادة من ¬
شهد عنده، وذكروا فيما إذا تغيرت حال القاضي الكاتب أنه أصل لمن شهد عليه، ومن شهد عليه فرع له فلا يسوغ نقض حكم مكتوب إليه بإنكار القاضي الكاتب كتابه، ولا يقدح إنكاره في عدالة البينة كإنكار شهود الأصل بعد الحكم بل يمنع إنكاره الحكم قبل حكم المكتوب إليه كما يمنعه رجوع شهود الأصل قبل الحكم، فدل أن القاضي الكاتب فرع لمن شهد عنده، وأصل لمن شهد عليه، ودل ذلك أيضا أنه يجوز أن يكون شهود فرع أصلا لفرع آخر لدعاء الحاجة إليه. (و) يقبل كتاب القاضي (فيما حكم به) الكاتب (لينفذه) المكتوب إليه وإن كانا ببلد واحد؛ لأن الحكم يجب إمضاؤه بكل حال. و(لا) يقبل (فيما ثبت عنده) أي الكاتب (ليحكم به) المكتوب إليه (إلا في مسدفة قصر) فأكثر؛ لأنه نقل شهادة كالشهادة على الشهادة، ولا يقبل إذا سمع الكاتب البينة وجعل تعديلها إلى المكتوب إليه إلا في مسافة قصر فأكثر فيجوز، وتقدم أن الثبوت ليس بحكم بل خبر بالثبوت كشهادة الفرع؛ لأن الحكم أمر ونهي يتضمن إلزاما، قال الشيخ تقي الدين: "ويجوز نقله إلى مسافة قصر فأكثر ولو كان الذي ثبت عنده لا يرى جواز الحكم به؛ لأن الذي ثبت عنده ذلك الشيء مخبر بثبوت ذلك عنده". وللقاضي أن يكتب إلى قاض معين وأن يكتب إلى من يصل إليه الكتاب من قضاة المسلمين وحكامهم بلا تعيين، ويلزم من وصل إليه قبوله؛ لأنه كتاب حاكم من ولايته وصل إلى حاكم فلزم قبوله كما لو كان إليه بعينه.
ويشترط لقبول كتاب القاضى والعمل به أن يقرأ على عدلين ويعتبر ضبطهما لمعناه وما يتعلق به الحكم منه دون ما لا يتعلق به نصا (¬1)، ثم يقول بعد القراءة عليهما: هذا كتابي إلى فلان بن فلان أو إلى من يصل إليه من القضاة ويدفعه إليهما، فإذا وصلا دفعاه إلى المكتوب إليه وقال: نشهد أنه كتاب القاضي فلان إليك كتبه بعلمه وأشهدنا عليه والاحتياط ختمه بعد أن يقرأ عليهما صونا لما فيه، ولا يشترط الختم ولا يشترط قولهما وقرئ علينا وأشهدنا عليه اعتمادا على الظاهر، ولا قول كاتب اشهدا علي، وإن أشهدهما عليه مدروجا مختوما لم يصح؛ لأن ما أمكن إثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر كإثبات العقود. وكتاب القاضي في غير عمله أو بعد عزله كخبره بغير عمله أو بعد عزله، ويقبل كتابه في عبد أو حيوان بالصفة اكتفاء بها؛ لأنه يثبت في الذمة بعقد السلم كالدين كمشهود عليه بالصفة فيقبل كتاب القاضي فيه؛ لأنه يبعد مجيء إنسان بصفته فيقول: أنا المشهود عليه ولا تكفي الصفة في المشهود له بأن يقولا: نشهد لشخص صفته كذا وكذا بكذا لاشتراط تقدم دعواه، فإن لم يثبت مشاركته للعبد أو الحيوان المشهود فيه بالصفة في صفته بأن زال اللبس لعدم ما يشاركه في صفته أخذه مدعيه بكفيل مختوما عنقه بأن يجعل في عنقه نحو خيط ويختم عليه بنحو شمع فيأتي به القاضي ¬
الكاتب لتشهد البينة على عينه لزوال الإشكال ويقضي له به، ويكتب له كتابا آخر إلى القاضي الذي سلمه له بكفيل ليبرأ كفيله من الطلب به بعد، وإن لم يثبت ما ادعاه بأن قال الشهود: إنه ليس المشهود به فهو في يده كمغصوب لوضع يده عليه بغير حق، ولا يحكم القاضي على مشهود عليه بالصفة حتى يسمى وينسب ولا حاجة إلى ذكر الجد إن عرف باسمه واسم أبيه، أو تشهد البينة على عينه ليزول اللبس، وإذا وصل الكتاب إلى القاضي المكتوب إليه وأحضر الخصم المذكور فيه باسمه ونسبه وحليته فقال: ما أنا بالمذكور في الكتاب قبل قوله بيمينه؛ لأنه منكر، فإن نكل قضي عليه بالنكول، وإن أقر بالاسم والنسب أو ثبت ببينة فقال المحكوم عليه: غيري لم يقبل إلا ببينة تشهد أن بالبلد شخصا آخر كذلك، ولو كان المساوي له في الاسم والنسب ميتا يقع به إشكال فيتوقف الحكم (¬1) حتى يعلم الخصم منهما فيحضر القاضي المساوي له إن أمكن ويسأله، فإن اعترف بالحق لزمه وتخلص الأول، وإن أنكر وقف الحكم ويكتب للقاضي الكاتب يعلمه بما حصل من اللبس حتى يرسل الشاهدين فيشهدا عنده على أحدهما بعينه فيلزمه الحق، وإن كان الميت لا يقع به التباس فلا أثر له، وإن مات القاضي الكاتب أو عزل لم يمنع ذلك قبول كتابه والعمل به كموت بينة الأصل فيحكم بشهود الفرع، وإن فسق القاضي الكاتب قدح فيما ثبت عنده ليحكم به المكتوب إليه فلا يحكم به؛ لأن الكاتب أصل وبقاء عدالة الأصل شرط في الحكم بشاهدي الفرع دون ما حكم به الكاتب وكتب به، فلا يقدح فسقه فيه، فللمكتوب إليه أن يحكم ¬
به؛ لأن حكمه لا ينقض بفسقه.
فصل
فصل وإذا حكم عليه المكتوب إليه بما ثبت عليه عند الكاتب من الحق فسأله أن يشهد عليه بما جرى عنده من حكمه عليه لئلا يحكم عليه القاضي الكاتب ثانيا أجابه إلى ذلك دفعا لضرره، أو يسأل من ثبتت براءته عند الحاكم، كمن أنكر وحلفه الحاكم، أو من ثبت حقه عنده أن يشهد له بما جرى من براءة أو ثبوت مجرد أو متصل بحكم أو بحكم وتنفيذ، أو سأله الحكم بما ثبت له عنده أجابه، وإن سأله مع الإشهاد كتابته وأتاه بورقة أو كان من بيت المال ورق معد لذلك لزمه إجابته إليه؛ لأنه وثيقة له ككتابة ساع يأخذ زكاة لئلا يطلبه بها ساع آخر. ولا يلزم من له الحق دفع وثيقة به إذا استوفاه بل الإشهاد باستيفائه؛ لأنه ربما خرج ما قبضه مستحقا فيحتاج إلى حجة بحقه، وكذا بائع عقار لا يلزمه تسليم كتاب ابتياعه إلى المشتري منه بعد الإشهاد على نفسه بالبيع؛ لأن ذلك حجة له عند الدرك، ذكره في "المستوعب" (¬1). وما تضمن الحكم ببينة يسمى سجلا، والسجل لغة: الكتاب (¬2) ¬
[والآن] (¬1) الدفتر تنزل فيه الوقائع والوثائق، وغير ما تضمن الحكم ببينة يسمى محضرا -بفتح الميم والضاد المعجمة- سمي بذلك لما فيه من حضور الخصمين والشهود (¬2)، والمحضر شرح ثبوت الحق عند الحاكم بثبوته، والأولى جعل السجل نسختين نسخة يدفعها الحاكم إلى صاحب الحق تكون وثيقة بيده، والأخرى عنده ليرجع إليها عند ضياع ما بيد الخصم أو الاختلاف فيها لأنه أحوط. وصفة المحضر بسم اللَّه الرحمن الرحيم، حضر القاضي فلان بن فلان قاضي عبد اللَّه الإمام على مدينة كذا، وإن كان القاضي نائبا كتب خليفة القاضي فلان بن فلان قاضي عبد اللَّه الإمام على كذا في مجلس حكمه وقضائه، بموضع كذا، مدع ذكر أنه فلان بن فلان، وأحضر مدعى عليه ذكر أنه فلان بن فلان، ومن كان معروفا منهما لم يحتج إلى قوله، وذكر ولا يعتبر ذكر الجد بلا حاجة، والأولى ذكر حليتهما إن جهلهما دفعا للإنكار، فادعى عليه كذا، فأقر له أو فأنكر، فقال للمدعي: ألك بينة؟ قال: نعم، فأحضرها وسأله سماعها ففعل، أو فأنكر المدعى عليه، ولا يينة وسأل تحليفه فحلفه، وإن نكل المدعى عليه عن اليمين وعن الجواب ذكره، وأنه حكم بنكوله وسأله خصمه كتابة محضر فأجابه إلى ذلك، وجرى ذلك في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا، ويعلم القاضي في الإقرار والإنكار والإحلاف على رأس المحضر ¬
جرى الأمر على ذلك، وفي شهادة البينة شهدا عندي بذلك؛ لأن الشهادة تتضمن كل ما هو من مقدماتها من الدعوى والجواب وغيره، وقد يقال: عادة بلده أولى لسهولة فهم معناها، وإن ثبت الحق بإقرار مدعى عليه لم يحتج أن يقال في مجلس حكمه لصحة الأقرار بكل موضع، وإن كتب وأنه شهد على إقراره شاهدان كان آكد. وأما السجل فهو لإنفاذ ما ثبت عنده والحكم به، وصفته أن يكتب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما شهد عليه القاضي فلان بن فلان كما تقدم أول المحضر من حضره من الشهود وأشهدهم أنه ثبت عنده بشهادة فلان وفلان، وقد عرفهما بما رأى معه قبول شهادتهما بمحضر من خصمين، ويذكرهما إن كانا معروفين، وإلا قال: مدع ومدعى عليه جاز حضورهما وسماع الدعوى من أحدهما على الآخر معرفة فلان بن فلان، ويذكر المشهود عليه وإقراره طوعا في صحة منه وجواز أمر بجميع ما سمي به ووصف به في كتاب نسخته كذا، وينسخ الكتاب المثبت أو المحضر جميعه حرفا بحرف، فإذا فرغ من نسخه قال: وإن القاضي أمضاه وحكم به على ما هو الواجب في مثله بعد أن سأله ذلك، وسأل الإشهاد به الخصم المدعي، وينسبه ولم يدفعه خصمه بحجة، وجعل القاضي كل ذي حجة على حجته، وأشهد القاضي فلان على إنفاذه والحكم به وإمضائه من حضره من الشهود في مجلس حكمه في اليوم المؤرخ أعلاه، وأمر بكتب هذا السجل نسختين متساويتين نسخة تكون بديوان الحكم ونسخة يأخذها من كتبها له لتكون كل من النسختين وثيقة بما أنفذه، ويكتب ذلك ليعلم أنه نسخة أخرى، وهذا كله اصطلاح نسخ، ولو لم يذكر في السجل بمحضر من الخصمين
جاز لجواز القضاء على الغائب بشرطه، ويضم القاضي والشاهد ما اجتمع عنده من محضر وسجل، ويكتب عليه محضر كذا من وقت كذا لسهولة الكشف عند الاحتياج إليه.
(فصل) في القسمة
(فصل) في القسمة بكسر القاف اسم مصدر من قسمت الشيء جعلته أقساما، والقسم بكسر القاف النصيب المقسوم (¬1). وعرفا: تمييز بعض الأنصباء عن بعض وإفرازها عنها (¬2). وأجمعوا عليها (¬3) لقوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} (¬4)، وحديث: "إنما الشفعة فيما لم يقسم" (¬5) و"قسم -النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خيبر على ثمانية عشر سهما" (¬6)، ولحاجة الناس إليها، وذكرت في القضاء لأن منها ما يقع بإجبار ¬
الحاكم عليه ويقاسم بنفسه. (والقسمة نوعان): - أحدهما: (قسمة تراض) بأن يتفق عليها الشركاء (وهي) أي قسمة التراضي (فيما لا ينقسم إلا بضرر)، وتحرم القسمة في مشترك لا ينقسم إلا بضرر على الشركاء أو أحدهم، لحديث: "لا ضرر ولا ضرار" رواه أحمد وغيره (¬1) إلا برضا كل الشركاء (أو) أي وفيما لا ينقسم إلا بـ (رد عوض) منهم أو من أحدهم؛ لأنها معاوضة بغير الرضا (كحمام ودور صغار) بحيث يتعطل الانتفاع بها أو يقل، وكشجر مفرد وأرض ببعضها بئر أو بناء ونحوه، ولا تتعدل بأجزاء ولا بقيمة (وشرط لها رضا كل الشركاء)؛ لأن فيها إما ضررا أو رد عوض، وكلاهما لا يجبر الإنسان كليه (وحكمها) أي هذه القسمة (كبيع)، فيجوز فيها ما يجوز فيه لمالك النصيب خاصة إن لم يكن محجورا كليه، ووليه إن كان كذلك لما فيه من الرد، وبه يصير بيعا لبذل صاحبه إياه عوضا عما حصل له من حق شريكه، وهذا هو البيع فلا يفعلها الولي إلا إن رآها مصلحة وإلا فلا كبيع عقار موليه. (ومن دعا شريكه فيها) أي قسمة التراضي (وفي شركة نحو عبد وسيف وفرس إلى ¬
بيع أو إجارة أجبر) شريكه على البيع معه أو الإجارة (فإن أبى) أي امتنع شريكه من بيع معه أو إجارة (بيع أو أو جر عليهما) أي باعه أو أجره حاكم، (وقسم ثمن أو أجرة) بينهما على قدر حصتيهما نصا (¬1)، والضرر المانع من قسمة الإجبار نقص القيمة بها سواء انتفع به أو لا؛ لأن نقص قيمته ضرر وهو منتف شرعا، ومن بينهما عبيد أو ثياب أو بهائم ونحوها فطلب أحدى هما قسمها أعيانا بالقيمة وأبى شريكه أجبر الممتنع إن تساوت القيم، لحديث عمران بن حصين: "أن رجلا أعتق في مرضه ستة أعبد، وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جزأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرق أربعة" (¬2)، وهذه قسمة لهم، ولأنها أعيان أمكن قسمها بلا ضرر ولا رد عوض أشبهت الأرض، ومن بينهما أرض مزروعة فطلب أحدهما قسمها دون زرع وأبى الآخر أجبر وقسمت كخالية، وإن طلب القسم على الأرض مع الزرع أو طلب قسم الزرع دونها لم يجبر الممتنع، فإن تراضيا على قسم الأرض مع الزرع أو الزرع وحده والزرع قصيل (¬3) لم يشتد حبه جاز أو قطن جاز؛ لأن الحق لا يعدوهما ولا محذور لجواز التفاضل إذن ¬
والمراد بالقطن إذا لم يصل إلى حال يكون فيها موزونا وإلا فكالحب المشتد، وإن كان الزرع بذرا أو سنبلا مشتد الحب فلا يجوز لهما ذلك؛ لأنه بيع حب بحب مع الجهل بالتساوي فهو العلم بالتفاضل، وإن كان بينهما نهر أو قناة أو عين ماء فالنفقة على ذلك لحاجة بقدر حقهما والماء بينهما على قدر ما شرطاه عند الاستخراج لحديث: "المسلمون على شروطهم" (¬1) لأنه تملك مباح فكان على ما شرطاه كما لو اشتركا في اصطياد واحتشاش، وإن كان الملك والنفقة بينهما نصفين لم يصح التفاضل في الماء ولهما قسمته بمهايأة بزمن (¬2) أو بنصب خشبة أو حجر مستوفي مصطدم الماء فيه ثقبان بقدر حقيهما، ولكل من الشريكين سقي أرض لا نصيب لها من الماء بنصيبه منه؛ لأنه ملكه فيفعل به ما شاء. (و) النوع (الثاني) من نوعي القسمة: (قسمة إجبار، وهي: ما لا ضرر فيها) عمى أحد الشركاء (ولا رد عوض) من واحد على غيره، سميت بذلك لإجبار الممتنع إذا كملت شروطه، (كمكيل) من جنس واحد، كحبوب ومائع وتمر وزبيب ولوز وفستق وبندق ونحوه مما يكال من الثمار، وكذا أشنان ونحوه، (و) كـ (موزون من جنس واحد) كذهب وفضة ونحاس ورصاص ونحوه، (و) كـ (دور كبار) ودكاكين وأرض وبساتين واسعة ولو لم تتساو أجزاؤها إذا أمكن قسمها بالتعديل (فيجبر شريك) أي يجبره الحاكم (أو) يجبر (وليه) إن كان محجورا عليه (عليها) أي قسمة ¬
الإجبار. ويشترط لإجبار الحاكم على القسمة ثلاثة شروط: - 1 - ثبوت ملك الشركاء. 2 - وثبوت أن لا ضرر فيها. 3 - وثبوت إمكان تعديل السهام في المقسوم بلا شيء يجعل معها وإلا فلا إجبار لما تقدم. (ويقسم حاكم على غائب) منهما (بطلب شريك) للغائب (أو وليه) أي ولي شريك الغائب إن كان محجورا عليه، ومن دعى شريكه في بستان إلى قسم شجره فقط لم يجبر؛ لأن الشجر المغروس تابع لأرضه غير مستقل بنفسه، ولهذا لا تثبت فيه شفعة إذا بيع بدون الأرض، وإلى قسم أرضه أجبر ودخل الشجر تبعا، ومن بينهما أرض في بعضها نخل وفي بعضها شجر غيره أو بعضها يشرب سيحا (¬1) وبعضها بعلا (¬2) وطلب أحدهما قسمة كل عين على حدة وطلب الآخر قسمتها أعيانا بالقيمة قدم ¬
من طلب قسمة كل عين على حدة إن أمكن تسوية في جيده ورديئه، وإلا قسمت أعيانا بالقيمة إن أمكن التعديل بالقيمة، وإلا يمكن التعديل بها فأبى أحدهما لم يجبر لعدم إمكان تعديل السهام الذي هو شرطها. (وهذه) أي قسمة الإجبار (إفراز) حق الشريك من حق الآخر وليست بيعا لمخالفتها له في الأحكام والأسباب كسائر العقود، ولو كانت بيعا لم تصح بغير رضى الشريك، ولوجبت فيها الشفعة، ولما لزمت القرعة، فيصح قسم لحم هدي وأضاح ولو لم يصح بيع شيء منها، ولا يصح قسم رطب من شيء ربوي بيابسه، ويصح قسم ثمر يخرص خرصا وقسم ما يكال من ربوي وغيره وزنا وعكسه وإن لم يقبض بالمجلس. ويصح قسم مرهون وموقوف ولو على جهة واحدة في اختيار صاحب "الفروع" (¬1) بلا رد عوض من أحد الجانبين؛ لأن العوض إنما يرده من يكون نصيبه أرجح في مقابلة الزائد، فهو اعتياض عن بعض الوقف كبيعه، ولا يحنث بالقسمة من حلف ألا يبيع؛ لأن هذه القسمة ليست بيعا، ومتى ظهر فيها غبن فاحش بطلت لتبين فساد الإفراز، ولا شفعة في نوعيها؛ لأنها لو ثبتت لأحدهما على الآخر لثبت للآخر عليه فيتنافيان وينفسخان بعيب ظهر في نصبب أحدهما، ويصح أن يتقاسما بأنفسهما، وأن ينصبا قاسما بأنفسهما، وأن يسألا حاكما نصبه؛ لأن الحاكم أعلم بما يصلح للقسمة، فإذا سألوه إياه وجبت عليه أجابتهم لقطع النزاع بين المشتركين. ¬
(وشرط كون قاسم) نصبه حاكم (مسلما عدلا) ليقبل قوله في القسمة (عارفا بالقسمة) ليحصل منه المقصود؛ لأنه إذا لم يعرف ذلك لم يكن تعيينه للسهام مقبولا، كحاكم يجهل ما يحكم به لا حريته فتصح قسمته ولو عبدا (ما لم يرضوا بغيره) أي غير المسلم العدل العارف بالقسمة، فإن تراضوا بغيره جاز كقسمهم بأنفسهم، (ويكفي) قاسم (واحد) حيث لم يكن في القسمة تقويم لأنه كالحاكم، (و) لا يكفي (مع تقويم) إلا (اثنان)؛ لأنها شهادة بالقيمة فاعتبر النصاب كباقي الشهادات. وتباح أجرة قاسم؛ لأنها عوض عن عمل لا يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، وتسمى أجرة القاسم القسامة -بضم القاف- ذكره الخطابي، وهي على الشركاء بقدر أملاكهم نصا (¬1)، ولو شرط خلافه فالشرط لاغ، ولا ينفرد بعضهم باستئجار قاسم. (وتعدل السهام) أي سهام القسمة يعدلها قاسم (بالأجزاء) أي أجزاء المقسوم (إن تساوت وإلا) فـ (بالقيمة) إن اختلفت كالمكيلات والموزونات والأرض التي ليس بعضها أجود من بعض ولا بناء بها ولا شجر سواء استوت الأنصباء أو اختلفت، (أو) تعدل السهام بـ (الرد إن اقتضته) أي الرد بأن لم يمكن تعديل السهام بالأجزاء ولا بالقيمة، فتعدل بالرد بأن يجعل لمن يأخذ الرديء أو القليل دراهم على من يأخذ الجيد والأكثر، (ثم يقرع) بين الشركاء لإزالة الإيهام، فمن خرج له سهم صار له، وكيف ¬
أقرع جاز، قال في رواية أبي داود: "إن شاء رقاعا وإن شاء خواتيم". (¬1) يطرح ذلك في حجر من لم يحضر، ويكون لكل واحد خاتم معين ثم يقال: أخرج خاتما على هذا السهم فمن خرج خاتمه فهو له، وعلى هذا لو أقرع بالحصى وغيره جاز، والأحوط كتابة اسم كل شريك برقعة تدرج في بنادق من طين أو شمع متساوية قدرا وحجما ووزنا، ويقال لمن لم يحضر ذلك: أخرج بندقة على هذا السهم، فمن خرج اسمه عليه فهو له، ثم كذلك الثاني والثالث وغيره إن كان، وإن اختلفت سهامهم كنصف وثلث وسدس جزئ مقسوم بحسب أقل السهام، وهو هنا ستة، ولزم إخراج أسماء الشركاء على السهام، فيكتب باسم رب النصف ثلاث رقاع وباسم رب الثلث ثنتان وباسم رب السدس رقعة بحسب التجزئة، ثم يخرج بندقة على أول سهم، فإن خرج اسم رب النصف أخذه مع ثان وثالث يليانه، ويخرج القرعة الثانية على السهم الرابع، وإن خرج اسم رب الثلث أخذه مع سهم ثان يليه والباقي لرب السدس، وإن خرجت القرعة ابتداء لرب السدس أخذ السهم وحده، وإن خرجت لرب الثلث أخذه مع ما يليه ثم يقرع بين الأخيرين كذلك والباقي للثالث، وإنما لزم إخراج الأسماء على السهام؛ لأنها إذا خرجت قرعة فيها اسم الثاني لصاحب السدس وأخرى لصاحب النصف أو الثلث فيها السهم الأول احتاج أن يأخذ نصيبه متفرقا فيتضرر بذلك. ثم إن القسمة أربعة أقسام: - ¬
أحدها: أن تتساوى السهام وقيمة الأجزاء. الثاني: أن تختلف السهام وتتساوى قيمة الأجزاء. الثالث: أن تتساوى السهام وتختلف قيمة الأجزاء فتعدل الأرض بالقيم وتجعل أسهما متساوية القيمة ويفعل في إخراج السهام كالقسم الأول. والرابع: أن تختلف القيمة والسهام فتعدل السهام بالقيمة وتجعل السهام متساوية القيمة وتخرج الأسماء على السهام كالقسم الثاني إلا أن التعديل هنا بالقيمة. (وتلزم القسمة بها) أي بخروج القرعة؛ لأن القاسم كحاكم، وقرعته حكم نص عليه (¬1)، ولو كانت القسمة فيما فيه رد عوض أو ضرر إذا تراضيا عليها وخرجت القرعة إذ القاسم يجتهد في تعديل السهام كاجتهاد الحاكم في طلب الحق فوجب أن تلزم قرعته كقسمة الإجبار. (وإن خير أحدهما) أي الشريكين (الآخر) بأن قال له: اختر أي القسمين شئت بلا قرعة ولم يكن ثم قاسم (صحت) القسمة (ولزمت برضاهما وتفرقهما) بأبدانهما كتفرق متبايعين، ومن ادعى من الشركاء غلطا أو حيفا فيما تقاسماه بأنفسهما وأشهدا على رضاهما به لم يلتفت إليه، فلا تسمع دعواه ولا تقبل بينته، ولا يحلف غريمه لرضاه بالقسمة على ما وقع، وتقبل دعواه غلطا أو حيفا ببينة فيما قسمه قاسم حاكم، وإلا تكن بينة حلف منكر الغلط؛ لأن الظاهر صحة القسمة، وكذا قاسم ¬
نصباه بأنفسهما، وإن استحق بعد القسمة معين من حصتيهما على السواء لم تبطل القسمة فيما بقي إلا أن يكون ضرر المستحق في نصيب أحدهما أكثر، كسد طريقه أو مجرى مائه فتبطل القسمة لفوات التعديل. ومن بنى أو غرس في نصيبه فخرج مستحقا فقلع رجع على شريكه بنصف قيمته في قسمة تراض فقط ولمن خرج في نصيبه عيب جهله إمساك مع أرش كفسخ.
فصل في الدعاوي والبينات
فصل في الدعاوي والبينات الدعاوي: جمع دعوى من الدعاء لغة فهي الطلب (¬1)، قال تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} (¬2) أي: يتمنون ويطلبون (¬3)، ومنه حديث: "ما بال دعوى الجاهلية" (¬4)؛ لأنهم كانوا يدعون بها عند الأمر الشديد بعضهم بعضا وهي قولهم: يا لفلان. والدعوى اصطلاحا: إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء بيد غيره -إن كان المدعى عينا- أو في ذمته -إن كان دينا من قرض أو غصب- ونحوه (¬5). والمدعي: من يطالب غيره بحق من عين أو دين يذكر استحقاقه عليه، ويقال ¬
أيضا: من [إذا] (¬1) ترك ترك. والمدعى عليه: من يطالب بفتح اللام أي يطالبه غيره بحق يذكر استحقاقه عليه، ويقال: من إذا ترك لا يترك. والبينة: العلامة الواضحة، كالشاهد فأكثر (¬2)، وأصل هذا الباب حديث ابن عباس مرفوعا: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" رواه أحمد ومسلم (¬3). ولا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف، وكذا إنكار سوى إنكار سفيه فيما يؤاخذ به حال سفهه وبعد فك حجر عنه، وهو مالا يتعلق بالمال مقصوده كطلاق وحد قذف فيصح منه إنكاره ويحلف إذا أنكر حيث تجب اليمين. وإذا ادعى كل من اثنين عينا لم تخل من أربعة أحوال: - أحدها: أن لا تكون بيد أحد ولا ثم ظاهر يعمل به ولا بينة وادعى كل منهما أنها كلها له، حلف كل منهما أنها له لا حق للآخر فيها وتناصفاها، وإن وجد أمر ظاهر ¬
لأحدهما عمل به فيحلف ويأخذها، فلو تنازعا عرصة (¬1) بها شجر أو بناء لهما فهي لهما بحسب البناء والشجر؛ لأن استيفاء المنفعة دليل الملك، والبناء والشجر استيفاء لمنفعة العرصة واستيلاء عليها بالتصرف، وإن كان الشجر أو البناء لأحدهما فالعرصة له وحده لما سبق. وإن تنازعا جدارا بين ملكيهما حلف كل منهما أن نصفه له ويقرع بينهما إن تشاحا في المبتدئ منهما باليمين، لحديث البخاري عن أبي هريرة "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عرض على قوم اليمين، فأسرعوا، فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف" (¬2)، ولا يقدح في حكم المسألة إن حلف أحدهما أو كل منهما أن كله له وتناصفاه كحائط معقود ببنائهما، وإن كان معقود ببناء أحدهما وحده أو متصلا به اتصالا لا يمكن إحداثه عادة أو كان له عليه أزج قال الجوهري: ضرب من ¬
الأبنية (¬1)، أو كان له عليه سترة مبنية أو قبة فالجدار له بيمينه، ولا ترجيح بوضع خشبة على الجدار المتنازع فيه؛ لأنه مما يسمح به الجار، وورد الخبر بالنهي عن المنع منه (¬2) كإسناد متاعه إليه، ولا بوجود آجر (¬3) ولا تزويق (¬4) وتجصيص (¬5). وإن تنازع رب علو ورب سفل في سقف بينهما تحالفا وتناصفاه لحجزه بين ملكيهما وانتفاعهما به واتصاله ببناء كل منهما كالحائط بين ملكيهما، وإن تنازع رب ¬
علو ورب سفل في سلم منصوب أو في درجة يصعد منها وليسن تحتها مرفق لصاحب السفل كدكته أو سلم مسمر فالسلم المنصوب والدرجة لرب العلو عملا بالظاهر، إلا أن يكون تحتها مسكن لصاحب السفل فيتحالفان ويتناصفاها، وإن تنازعا الصحن المتوصل منه إلى الدرجة والدرجة بصدره فهو بينهما، وإن كانت الدرجة في الوسط فما إليها من الصحن بينهما وما وراءه من باقي الصحن لرب السفل وحده؛ لأنه لا يد لرب العلو عليه، وكذا لو تنازع رب باب بصدر درب غير نافذ ورب باب بوسطه في الدرب، فمن أوله إلى الباب بوسطه بينهما، وما وراء الباب بوسطه إلى صدره لمن بابه بصدره لما تقدم. الحال الثاني: أن تكون العين بيد أحدهما فهي له، ويحلف أنه لاحق فيها للآخر إن لم تكن لمن العين بغيريده بينة لخبر: "شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك" (¬1)، ولأن الظاهر من اليد الملك فإن كان للمدعي يينة حكم له بها، وإن سأل المدعى عليه الحاكم كتابة محضر بما جرى أجابه إليه وجويا وذكر فيه أن العين بقيت بيده لم يثبت ما يرفعها، ولا يثبت ملك بذلك كما يثبت ببينة فلا شفعة له بمجرد اليد؛ لأن الظاهر لا تثبت به الحقوق لاحتمال خلافه وإنما ترجح به الدعوى. الحال الثالث: أن تكون العين المتنازع فيها بيديهما كل منهما ممسك لبعضها أو تكون في غير يد أحدهما ولا بينة لهما فيحلف كل منهما ويتناصفانها، لحديث أبي موسى: "أن رجلين اختصما إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في دار ليس لأحدهما ¬
بينة، فجعلها بينهما نصفين" رواه الخمسة إلا الترمذي (¬1)، وكذا إن نكل كل منهما عن اليمين فهما سواء فلا مرجح لأحدهما على الآخر؛ لأن كل واحد يستحق ما في يد الآخر بنكوله عن اليمين له، وإن نكل أحدهما وحلف الآخر قضي له بجميعها إلا أن يدعي أحدهما نصفها فأقل والآخر الجميع أو أكثر مما بقي، فيحلف مدعي الأقل وحده ويأخذه لأنه يدعي أقل مما بيده ظاهرا أشبه ما لو انفرد باليد، وإن كان الذي بيديهما مميز مجهول النسب فقال: إني حر خلي سبيله حتى تقوم بينة برقه؛ لأن الأصل في بني آدم الحرية، والرق طارئ، فإن قويت يد أحد المتنازعين في عين بأيديهما كحيوان أحدهما سائقه أو آخذ بزمامه وآخر راكبه أو عليه حمله فللثاني بيمينه؛ لأن تصرفه أقوى ويده آكد، وهو المستوفي لمنفعة الحيوان، أو واحد منهما عليه حمله وآخر راكبه فللثاني الراكب بيمينه لقوة تصرفه، وإن اتفقا على أن الدابة ¬
للراكب وادعى كل منهما ما عليها من الحمل فهو للراكب بيمينه؛ لأن يده على الدابة والحمل معا، أو ادعيا قميصا واحد آخذ بكمه وآخر لابسه فهو للثاني بيمينه لما تقدم، فإن كان كمه بيد أحدهما وباقيه بيد الآخر، أو تنازعا عمامة طرفها بيد أحدهما وباقيها بيد الآخر فهما سواء فيهما. وإن تنازع اثنان دارا فيها أربعة أبيات أحدهما ساكن في بيت منها والآخر ساكن في الثلاثة فلكل منهما ما هو ساكن فيه، وإن تنازعا الساحة التي يتطرق منها إلى البيوت فهي بينهما بالسوية لاشتراكهما في ثبوت اليد عليها. ويعمل بظاهر الحال فيما بيد المتنازعين مشاهدة أو حكما، أو بيد واحد منها مشاهدة والآخر حكما، وتأتي أمثلة ذلك، فلو نوزع رب دابة في رحل عليها وكل منهما آخذ ببعضه فهو لرب الدابة بيمينه؛ لأن ظاهر الحال عادة أن الرحل لصاحب الدابة، أو نوزع رب قدر ونحوه في شيء فيه مع اتفاقهما على أن القدر لأحدهما فما فيه له بيمينه عملا بظاهر الحال، ولو نازع رب دار خياطا فيها في إبرة أو في مقص فللثاني لما تقدم. وإن تنازع مكتر ومكر لدار في رف مقلوع له شكل في الدار أو تنازعا في مصراع مقلوع له شكل منصوب في الدار فهو لربها بيمينه؛ لأن المنصوب تابع للدار، والظاهر أن أحد الرفين أو أحد المصراعين لمن له الآخر؛ لأن أحدهما لا يستغني عن صاحبه كالحجر الفوقاني في الرحى والمفتاح مع القفل، وإلا يكن معهما شكل منصوب في الدار فهما بينهما بيمينهما، وما جرت عادة به ولو لم يدخل في بيع
الدار فهو لربها، وإلا تجر العادة بأنه لمكر كالأثاث والأواني والكتب فهو لمكتر بيمينه؛ لأن العادة أن الإنسان يكري داره فارغة. ولو تنازع زوجان أو ورثتهما أو تنازع أحدهما وورثة الآخر ولو مع رق أحدهما نصا (¬1) في قماش البيت ونحوه فادعى كل منهما أنه كله له، فإن كان لأحدهما بينة بشيء أخذه، وإلا تكن بينة فما يصلح لرجل كعمامة وقمصان رجال وجيابهم وأقبيتهم والسلاح وأشباهه فهو للزوج، وما يصلح للمرأة من حلي وقمص نساء ومقانعهن ومغازلهن فهو للزوجة، وصالح لهما كفرش وقماش لم يفصل وأوان ونحوها فهو بينهما سواء كان بيديهما من طريق الحكم أو المشاهدة، نقل الأثرم: "المصحف لهما فإن كانت لا تقرأ ولا تعرف بذلك فله". (¬2) فإن كان المتاع بيد غيرهما فمن أقام به بينة فهو له، وإن لم تكن بينة أقرع، فمن قرع حلف وأخذه. وكذا إن تنازع صانعان في آلة دكانهما فآلة كل صنعة لصانعها، كنجار وحداد بدكان وتنازعا في آلتهما أو بعضها فآلة النجارة للنجار وآلة الحداد للحداد سواء كانت أيديهما على الآلة من طريق الحكم أو طريق المشاهدة عملا بالظاهر، فإن لم تكن يد حكمية كرجل وامرأة تنازعا شيئا ليس بدارهما أو صانعان تنازعا آلة ليست بدكانهما ¬
فلا يرجح أحدهما بشيء مما ذكر بل إن كان بيد أحدهما فله، أو بيديهما فبينهما، أو في يد غيرهما ولم ينازع أقرع. وكل من قلنا هو له فهو بيمنيه لاحتمال صدق غريمه إن لم يكن لأحدهما بينة، ومتى كان لأحدهما بينة حكم له بها ولم يحلف لحديث الحضرمي والكندي (¬1)، ولأن البينة أحد حجتي الدعوى فيكتفى بها كالعين، وإن كان لكل من المتنازعين بينة وتساوتا من كل وجه تعارضتا وتساقطتا؛ لأن كلا منهما تنفي ما تثبته الأخرى فلا يمكن العمل بهما ولا بأحدهما فيسقطان ويصيران كمن لا بينة لهما، فيتحالفان ويتناصفان ما بأيديهما، لحديث أبي موسى: "أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فبعث كل منهما شاهدين، فقسمه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بينهما" رواه أبو داود (¬2). ويقرع بين المتنازعين إذا أقام كل منهما بينة فيما ليس بيد أحد أو بيد ثالث ولم ¬
ينازع، فمن قرع حلف وأخذه، روي عن ابن عمر وابن الزبير (¬1)، وإن كان المتنازع فيه بيد أحدهما وأقام كل منهما بينة أنه له حكم به للمدعي وهو الخارج ببينته سواء أقيمت بينة منكر وهو الداخل بعد رفع يده أو لا، وسواء شهدت له أنها نتجت في ملكه أو أنها مطيعة من إمام أو لا، لحديث: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه" (¬2) فجعل جنس البينة في جنبة المدعي فلا يبقى في جنبة المدعى عليه بينة، ولأن بينة المدعي أكثر فائدة فوجب تقديمها كتقديم بينة الجرح على التعديل، ووجه كثرة فائدتها أنها تثبت سببا لم يكن، وبينة المنكر إنما تثبت ظاهرا تدل عليه اليد، فيجوز أن يكون مستندها رؤية اليد والتصرف، ولا يحلف الخارج مع بينته كما لو لم تكن بينة داخل، وتسمع بينة رب اليد وهو منكر لدعوى الخارج لادعائه الملك لما بيده، وكذا من ادعي عليه تعديا ببلد ووقت معينين وقامت به بينة وهو منكر فادعى كذبها وأقام بينة أنه كان بذلك الوقت بمحل بعيد من ذلك البلد فتسمع ويعمل بها، قال في "الانتصار" (¬3): "لا تسمع إلا بينة مدع باتفاقنا". ولا تسمع بينة داخل مع عدم بينة خارج لعدم حاجته إليها كما لو أقر مدعى عليه، ومع حضور البينتين لا تسمع بينة داخل قبل بينة خارج وتعديلها صححه في "الإنصاف". (¬4) وتسمع بعد ¬
التعديل قبل الحكم وبعده قبل التسليم وتقدم عليها بينة الخارج، وإن كانت بينة المنكر غائبة حين رفعنا يده عن المدعى به فجاءت وقد ادعى فيه ملكا مطلقا غير مستند لحال وضع يده وأقام بينة فهي بينة خارج فتقدم على بينة المدعي الأول، وإن ادعى الملك مستندا لما قبل وضع يده وأقامها فهي بينة داخل فتقدم بينة المدعي عليها لاستناد دعوى المنكر إلى حال وضع يده، وإن أقام الخارج بينة أنه اشتراها من الداخل وأقام الداخل بينة أنه اشتراها من الخارج قدمت بينة الداخل؛ لأنه الخارج معنى لإثبات البينة أن المدعي صاحب اليد وأن يد الداخل نائبة عنه، وإن أقام الخارج بينة أنها ملكه وأقام الداخل بينة أنه باعها منه أو وقفها عليه أو أعتقها قدمت البينة الثانية لشهادتها بأمر حدث على الملك خفي على الأولى كقوله: أبرأني من الدين ويقيم به بينة، أما لو قال: لي بينة غائبة بأنه باعه مني أو وقفه علي طولب بالتسليه للمدعي به؛ لأن تأخيره يطول وقد يكون كاذبا، ومتى أرخ كل من البينتين والعين بيديهما في شهادة بملك أو بيد أو أرخت إحداهما فقط فهما سواء، لحديث أبي موسى: "أن رجلين اختصما إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بعير، فأقام كل واحد منهما شاهدين، فقضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالبعير بينهما نصفين" رواه أبو داود (¬1)، ولأن كلا منهما داخل في نصف العين خارج في نصفها إلا أن تشهد المتأخرة تاريخا بانتقال الملك عن المشهود له بالملك المتقدم، ولا تقدم إحدى البينتين بزيادة نتاج بأن شهدت بأنها بنت فرسه أو ناقته نتجت في ملكه والأخرى شهدت بالملك فقط، ولا تقدم بزيادة سبب ملك بأن شهدت ¬
إحداهما أنه ملكها بالبيع ونحوه والأخرى بالملك فقط بل هما سواء لتساويهما فيما يرجع إلى المختلف فيه وهو ملك العين الآن فتساويا في الحكم، ولا تقدم إحداهما باشتهار عدالة أو كلثرة عدد ولا رجلان على رجل وامرأتين أو على رجل ويمين؛ لأن الشهادة مقدرة بالشرع فلا تختلف بالزيادة، ومتى ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد وهي ملكه وادعى الآخر أنه اشتراها من عمرو وهي ملكه وأقاما بذلك بينتين تعارضتا إن لم تكن بيد أحدهما، ثم إن كانت العين بأيديهما تحالفا وتناصفاها، وإن كانت بيد ثالث لم ينازع أقرع بينهما، فمن قرع حلف وأخذها، وإن كانت بيد أحدهما فهي للخارج ببينته، وإن شهدت إحداهما بالملك والأخرى بانتقاله منه له قدمت الناقلة لشهادتها بأمر زائد على الملك خفي على الأخرى كما تقدم، كتقدم بينة ملك على بينة يد. الحال الرابع: أن تكون العين المتنازع فيها بيد ثالث، فإن ادعاها لنفسه وأنكرهما حلف لكل منهما يمينا، فإن نكل عنهما أخذاها منه أو بدلها إن تلفت بتفريطه وهو ترك اليمين للأول أشبه ما لو أتلفها واقترعا عليها أو بدلها؛ لأن المحكوم له بالعين غير معين، وإن أقر الثالث بالعين لهما أخذاها منه واقتسماها نصفين وحلف كل منهما يمينا بالنسبة إلى النصف الذي أقر به لصاحبه؛ لأنه يدعيه له كما لو أقر بها لأحدهما فإنه يحلف للآخر وحلف كل من المدعين لصاحبه على النصف المحكوم له به كما لو كانت العين بأيديهما ابتداء، وإن نكل المقر بالعين لهما عن اليمين لكل منهما أخذا منه بدلها واقتسماه أيضا كما لو أقر لكل منهما بالعين، وإن أقر لأحدهما بعينه بالعين جميعها.
حلف المقر له أنه لا حق لغيره فيها وأخذها؛ لأنه بالإقرار له صار كأن العين بيده والآخر مدع عليه وهو ينكره فيحلف له لنفي دعواه، ويحلف المقر للآخر إن طلب يمينه؛ لأنه يمكن أن يخاف من اليمين فيقر له فيغرم له بدلها، فإن نكل عن اليمين أخذ منه بدلها بنكوله وإذا أخذها المقر له فأقام المدعي الآخر بينة أنها ملكه أخذها منه لثبوت ملكه لها، وإن قال من العين بيده: هي لأحدهما وأجهله فصدقاه لم يحلف لتصديقهما له وإلا يصدقاه حلف لهما يمينا واحدة؛ لأن صاحب الحق منهما واحد غير معين، ولا يلزمه اليمين إلا بطلبهما جميعا؛ لأن المستحق منهما لليمين غير معين ويقرع بينهما، فمن قرع حلف وأخذها نصا (¬1) لحديث: "أن رجلين تداعيا في دابة ليس لواحد منهما بينة، فأمرهما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يستهما على اليمين أحبا أو كرها" رواه أحمد وغيره (¬2)، ولأن المقر له بها يصير صاحب اليد وهو غير معين فيعين بالقرعة. ¬
فصل
فصل ومن بيده عبد ادعى أنه اشتراه من زيد وادعى العبد أن زيدا أعتقه وأقام كل بينة صححنا أسبق التصرفين إن علم التاريخ، أو ادعى شخص أن زيدا باعه العبد أو وهبه له وادعى آخر مثله وأقام كل منهما بينة بدعواه صححنا أسبق التصرفين إن علم التاريخ لمصادفة التصرف الثاني ملك غيره فوجب بطلانه، وإلا يعلم التاريخ أو اتفق تساقطتا لتعارضهما وعدم المرجح، وكذا إن كان العبد بيد نفسه نصا (¬1) إلغاء لهذه اليد للعلم بمستندها وهو الدعوى ولم تثبت، كمن بيده عبد ادعى أنه اشتراه من زيد وأنكره زيد فلا يحكم بهذه اليد. ولو ادعيا زوجية امرأة فأنكرتهما أو أحدهما دون الآخر وأقام كل منهما بينة بدعواه ولو كانت المرأة بيد أحدهما سقطتا لتعارضهما واليد لا تثبت على الحر (¬2)، وإن أقرت لأحدهما لم تقبل؛ لأنها متهمة، وإن كان لأحدهما بينة وحده حكم له بها، وإن ادعاها واحد فصدقته قبل إقرارها؛ لأنها غير متهمة إذن. ولو أقام كل ممن العين بيده بينة بشرائها من زيد وهي ملكه بكذا واتحد تاريخهما ¬
تحالفا وتناصفاها؛ لأن بينة كل منهما داخلة في أحد النصفين خارجة في الآخر، ولكل منهما أن يرجع على زيد بنصف الثمن الذي دفعه له؛ لأنه لم يسلم له سوى نصف المبيع، ولكل منهما أن يفسخ البيع لتبعض الصفقة عليه ويرجع من فسخ منهما بكل الثمن، ولكل منهما أن يأخذ كل العين بكل الثمن مع فسخ الآخر، وإن سبق تاريخ سنة إحداهما فهي له لصحة عقده بسبقه وللثاني على بائعه الثمن إن كان قبضه منه لتبين بطلان بيعه، وإن أطلق بينتاهما أو أطلقت إحداهما تعارضتا في ملك إذن لا في شراء لجواز تعدد بخلاف الملك، فيقبل من البائع لهما دعواهما لنفسه بيمين واحدة لهما أن العين لم تخرج عن ملكه. وإن ادعى اثنان ثمن عين بيد ثالث كل منهما يقول: أنه أشتراها منه بثمن سماه فمن صدقه منهما أو أقاء بينة أخذ ما ادعاه من الثمن، وإلا يصدق واحدا منهما ولا أقام واحد منهما بينة حلف لكل منهما يمينا لجواز تعدد العقد، وإن أقاما بينتين وهو منكر دعواهما فإن اتحدا تاريخا تعارضتا وتساقطتا لعدم إمكان الجمع بينهما، ويكون كما لو ادعيا عينا بحد ثالث وأقاما بينتين، وإن اختلف تاريخهما أو أطلقتا أو احداهما عمل بالبينتين؛ لأن الظاهر أنهما عقدان شهد بهما بينتان في عين واحدة على مشتر واحد، وعقد الشراء فيه دليل على اعتراف المشتري للبائع بالملك، ومن الجائز أن يكون اشتراه من الأول، ثم انتقل منه ببيع أو هبة إلى الثاني، ثم اشتراه من الثاني فلا تعارض، ويلزمه الثمنان المدعى بهما. وإن كانت عين بيد إنسان فادعاها اثنان فقال أحدهما: غصبنيها، وقال
الآخر: ملكنيها أو أقر لي بها وأقاما بينتين فهي لمغصوب منه؛ لأن مع بينته زيادة علم وهو سبب ثبوت اليد، والبينة الأخرى إنما تشهد بتصرفه فيها فلا تعارضها، ولا يغرم المدعى عليه للآخر شيئا لعدم مقتضيه، إذ بطلان التمليك أو الإقرار بثبوت ملك الغير بغير فعله لا يوجب عوضا بخلاف البيع فإنه يوجب رد الثمن؛ لأنه أخذه بغير حق، وإن قال كل من المدعيين: غصبنيها وأقاما بينتين فكما لو ادعى كل منهما أنه اشتراهما منه على ما سبق. وإن ادعى رب دار أنه أجره بيتا معينا من الدار بعشرة فقال المستأجر: بل أجرتني كل الدار بعشرة، وأقاما بينتين تعارضتا ولا يقتسمان بقية منفعة الدار، قال الشيخ منصور: "قلت: والظاهر أن القول قول المؤجر بيمنه؛ لأنه ينكر إجارة غير البيت". انتهى (¬1). ¬
فصل في تعارض البينتين
فصل في تعارض البينتين وهو التعادل من كل وجه، يقال: تعارضت البينتان إذا تقابلتا أي أثبتت كل منهما ما نفته الأخرى حيث لا يمكن الجمع بينهما فيتساقطان، وعارض زيد عمرا إذا أتاه بمثل ما أتى به (¬1). إذا قال لعبده: متى قتلت فأنت حر فادعى العبد أنه قتل وأنكر ورثته فالقول قولهم إن لم تكن له بينة: لأن الأصل عدم القتل، وإن أقام كل منهما بينة بما ادعاه قدمت بينة العبد وعتق: لأن مع بينته زيادة وهو القتل، وإن لم تكن له بينة فله تحليفهم على نفي العلم. وإن قال سيد عبدين فأكثر: إن مت في المحرم فسالم حر وإن مت في صفر فغانم حر ثم مات وأقام كل منهما بينة بموجب عتقه تساقطتا؛ لأن كلا منهما تنفى ما أثبتته الأخرى ورقا لجواز موته في غير المحرم وصفر، وإن علم موته في إحدى الشهرين وجهل أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة عتق ورق الآخر، وإن قال: إن مت في مرضي هذا فسالم حر وإن برئت منه فغانم حر ثم مات وأقاما بينتين تساقطتا ورقا لنفي كل منهما ما أثبتته الأخرى، وإن جهل ثم مات ولا بينة أقرع بينهما، فيعتق من خرجت له القرعة؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون بريئا أو لم يبرأ، فيعتق أحدهما على كل حال، وكذا إن أتى بمن بدل في التعارض، وأما في صورة الجهل وعدم البينة فيعتق سالم؛ لأن الأصل دوام المرض وعدم البرء. ¬
وإن شهدت (¬1) بينة على ميت أنه وصى بعتق سالم وأخرى على أنه وصى بعتق غانم وكل واحد من سالم وغانم ثلث ماله ولم تجز الورثة عتقهما عتق أحدهما بقرعة لثبوت الوصية بعتق كل منهما، والإعتاق بعد الموت كالإعتاق في مرض الموت، وقد ثبت الإقراع بينهما فيه لحديث عمران بن حصين (¬2)، فكذا الإعتاق بعد الموت لاتحاد المعنى فيهما، فإن أجاز الورثة الوصيتين عتقا؛ لأن الحق لهما كما لو أعتقوهما بعد موته. ومن مات عن ابنين مسلم وكافر فادعى كل منهما أنه مات على دينه فإن عرف أصله من إسلام وكفر قبل قول مدعيه، وإن لا يعرف أصل دينه فميراثه للكافر إن اعترف المسلم بأخوته أو ثبتت ببينة؛ لأن المسلم لا يقر ولده على الكفر في دار الإسلام ولاعترافه بكفر أبيه فيما مضى وادعائه إسلامه فجعل أصل دينه الكفر، والأصل بقاؤه عليه، وإلا يعترف المسلم بأخوته ولا ثبتت ببينة فميراثه بينهما لاستوائهما في اليد والدعوى، وإن جهل أصل دينه وأقام كل منهما بينة بدعواه تساقطتا وتناصفا التركة كما لو لم تكن بينة، وإن قالت بينة: نعرفه مسلما وأخرى نعرفه كافرا ولم تؤرخا وجهل أصل دينه فميراثه للمسلم لإمكان العمل بالبينتين، إذ الإسلام يطرأ على الكفر ¬
وعكسه خلاف الظاهر؛ لأن المرتد لا يقر على ردته، وتقدم البينة الناقلة إذا عرف أصل دينه فيهن؛ لأن معها علما لم تعلمه الأخرى كما تقدم في نظائره، ولو شهدت بينة أنه مات ناطقا بكلمة الإسلام وأخرى أنه مات ناطقا بكلمة الكفر تساقطتا سواء عرف أصل دينه أو لا. ومن أسلم وادعى تقدم إسلامه على موت مورثه المسلم، أو ادعى تقدم إسلامه على قسم تركته قبل منه ببينة أو تصديق وارث معه لدعواه، وإلا فلا؛ لأن الأصل بقاؤه على كفره فالقول قول أخيه المسلم بيمينه لأنه منكر. وإن قال من كان كافرا: أسلمت في محرم ومات مورثي في صفر، وقال الوارث: مات قبل محرم ورث لاتفاقهما على الإسلام في المحرم واختلافهما في الموت هل كان قبله أو بعده، والأصل بقاء حياة الأب فالقول قول مدعي تأخر الموت. ولو خلف حر ابنا حرا وابنا كان قنا فادعى الذي كان قنا أنه عتق وأبوه حي ولا بينة له صدق أخوه في عدم ذلك؛ لأن الأصل بقاء الرق، وإن ثبت عتق برمضان فقال الحر: مات أبي بشعبان وقال العتيق: بل بشوال صدق العتيق؛ لأن الأصل بقاء حياة الأب إلى شوال، وتقدم بينة الحر مع التعارض؛ لأن معها زيادة علم. وإن شهد اثنان على اثنين بقتل فشهدا على الأولين به فصدق الولي الأولين فقط حكم له بهما لرجحانهما بتصديق المشهود له، وإن صدق الجميع أو الأخيرين أو كذب الجميع أو الأولين فقط فلا شيء له لسقوط شهادة المشهود عليهما لاتهامهما بالدفع عن
أنفسهما بذلك، وتصديق الولي لهما غير معتبر، وكذا لو صدق الجميع بأن قال: قتلوه كلهم؛ لأن كلا من البينتين تدفع عن نفسها القتل بالشهادة فلا تقبل، وكذا لو كذب الجميع؛ لأنه يصير كمن لا بينة له. وإن شهدت بينة بتلف ثوب وقالت: قيمته عشرون وشهدت أخرف أن قيمته ثلاثون ثبت الأقل لاتفاقهما عليه دون الزائد لاختلافهما فيه، وكذا لو كان بكل قيمة شاهد واحد فيثبت الأقل لما تقدم.
(كتاب الشهادات)
(كتاب الشهادات) مشتقة من المشاهدة، واحدها شهادة لإخبار الشاهد بما يشاهده، يقال: شهد الشيء إذا رآه (¬1). وأجمعوا على قبول الشهادة في الجملة (¬2)؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية (¬3) وحديث: "شاهداك أو يمينه" (¬4) ولدعاء الحاجة إليها لحصول التجاحد، قال شريح: "القضاء جمر فنحه عنك بعودين -يعني الشاهدين- وإنما الخصم داء والشهود دواء فأفرغ الشفاء على الداء". (¬5) والشهادة حجة شرعية تظهر الحق ولا توجبه بل الحاكم يلزم به بشرطه، فهي الإخبار بما علمه الشاهد بلفظ خاص كشهدت أو أشهد ويأتي. (تحملها) أي الشهادة على المشهود به (في غير حق اللَّه) تعالى ما لا كان ¬
حق الآدمي كالبيع والقرض والغصب أو غيره كحد قذف (فرض كفاية) إذا قام به من يكفي سقط عن غيره، فإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه ولو عبدا وليس لسيده منعه لقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} (¬1) قال ابن عباس وقتادة والربيع: "المراد به التحمل للشهادة وإثباتها عند الحاكم" (¬2) ولدعاء الحاجة إلى ذلك في إثبات الحقوق والعقود كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولئلا يؤدي إلى امتناع الناس من تحملها فيؤدي إلى ضياع الحقوق. وتطلق الشهادة على التحمل والأداء فيكون الأداء أيضا فرض كفاية قدمه الموفق (¬3) وجزم [به] (¬4) جمع، وظاهر الخرقي أنه فرض عين (¬5)، فلذلك قال: (وأداؤها) أي الشهادة (فرض عين) قال في "الفروع" (¬6): "ونصه أنه فرض عين". قال في ¬
"الإنصاف" (¬1): "وهو المذهب". لقوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (¬2)، وخص القلب بالإثم؛ لأنه محل العلم بها، ويجبان إذا دعي إليهما لدون مسافة قصر (مع القدرة) على التحمل أو الأداء (بلا ضرر) يلحقه، فإن كان عليه ضرر في التحمل أو الأداء في بدنه أو ماله أو أهله، أو كان ممن لا يقبل الحاكم شهادته، أو يحتاج إلى التبذل في التزكية لم يلزمه لقوله تعالى: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (¬3)، ولأنه لا يلزمه ضر نفسه بنفع غيره، وإن كان الحاكم غير عدل فقال أحمد: "كيف أشهد عند رجل ليس عدلا" (¬4). وروى الطبراني عن أبي هريرة مرفوعا: "يكون في آخر الزمان أمراء ظلمة، ووزراء فسقة، وقضاة خونة، وفقهاء كذبة، فمن أدرك منكم ذلك الزمان فلا يكون لهم كاتبا، ولا عريفا، ولا شرطيا" (¬5) فلو أدى شاهد وأبى الآخر وقال: احلف بدلي ¬
أثم، ويختص الأداء بمجلس الحكم. ولا يقيمها على مسلم بقتل كافر، قاله في "الفروع" (¬1)، وظاهره يحرم، ولعل المراد عند من يقتله به، ومتى وجبت الشهادة وجبت كتابتها لئلا ينساها، وإن دعي فاسق لتحمل الشهادة فله الحضور مع عدم غيره إذ التحمل لا يعتبر له العدالة، فلو لم يؤدها حتى صار عدلا قبلت، ولا يحرم أداء الفاسق الشهادة ولو لم يكن فسقه ظاهرا؛ لأنه لا يمنع صدقه. (وحرم أخذ أجرة) على الشهادة (و) أخذ (جعل عليها) ولو لم تتعين عليه؛ لأنها فرض كفاية كصلاة الجنازة، و (لا) يحرم أخذ (أجرة مركوب لمتأذ بمشي) إلى محلها من رب الشهادة، ومن عنده شهادة بحد للَّه تعالى كزنا وشرب فله إقامتها وتركها؛ لأن حقوق اللَّه مبينة على المسامحة، والستر مأمور به، ولذلك اعتبر في الزنا أربعة رجال وشدد فيه على الشهود ما لم يشدد على غيرهم طلبا للستر، واستحب القاضي وأصحابه وأبو الفرج والشيخ و"الترغيب" (¬2): "الترك للترغيب في الستر" وللحاكم أن يعرض للشهود بالتوقف عنها كتعريضه لمقر بحد للَّه ليرجع عن إقراره لتعريض عمر ¬
لزياد (¬1) بالرجوع، وتقبل الشهادة بحد قديم، ومن عنده شهادة لآدمي يعلمها لم يقمها حتى يسأله رب الشهادة إقامتها، لحديث: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم ياتي قوم ينذرون ولا يوفون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون" رواه البخاري (¬2)، وإلا يعلم رب الشهادة بأن له عنده شهادة استحب إعلامه قبل إقامتها، وله إقامتها قبل إعلامه، لحديث: "ألا أنبئكم بخير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها" رواه مسلم (¬3)، وحمل هذا ¬
الحديث على ما إذا ما لم يعلم رب الشهادة، والأول على ما إذا علم جمعا بينهما، ويحرم على من عنده شهادة بحق آدمي لا يعلمها كتمها للآية فيقيمها بطلبه ولو لم يطلبها حاكم منه لما تقدم، ولا يقدح أداء الشاهد بلا طلب حاكم وبلا طلب مشهود له لم يعلم به فيه كشهادة حسبة للَّه تعالى من غير تقدم دعوى. (و) حرم (أن يشهد إلا بما يعلمه) لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (¬1) قال المفسرون: وهو يعلم ما شهد به عن بصيرة وإيقان (¬2)، وقال ابن عباس: "سئل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الشهادة قال: ترى الشمس؟ قال: على مثلها فاشهد أو دع" (¬3) رواه الخلال في جامعه (¬4)، والمراد العلم في أصل المدرك لا في ¬
دوامه، فمدركه العلم الذي تكون له الشهادة يكون (برؤية أو سماع) غالبا لجوازها ببقية الحواس كالذوق واللمس، فإن تحمل الشهادة على من يعرفه بعينه واسمه ونسبه جاز أن يشهد عليه مع حضوره وغيبته، وإن جهل حاضرا جاز أن يشهد عليه في حضرته فقط بمعرفته عينه نصا (¬1)، وإن كان غائبا فلا يشهد حتى يعرف اسمه، فإن عرفه به من يسكن إليه ولو واحدا جاز له أن يشهد عليه ولو امرأة لحصول المعرفة به، ولا تعتبر إشارته إلى حاضر مع ذكر نسبه ووصفه اكتفاء بهما، فإن لم يذكرهما أشار إليه لحصول التعيين. وإن شهد شاهد بإقرار بحق لم يعتبر لصحة الشهادة ذكر سببه ولا قوله طوعا في ¬
صحته مكلفا عملا بالظاهر، والرؤية تختص بالفعل كقتل وسرقة وغصب وشرب خمر ورضاع وولادة وعيوب مرئية في نحو مبيع؛ لأنه يمكن الشهادة على ذلك قطعا فلا يرجع إلى غيره. والسماع ضربان: - الأول: سماع من مشهود عليه كعتق وطلاق وعقد من نكاح وغيره وإقرار بمال ونسب وحد وقود ورق وغير ذلك، فيلزمه الشهادة بما سمع سواء استشهده مشهود عليه أو لا لئلا يمتنع ثبوت الغصب وسائر ما يتضمن العدوان فإن فاعلها لا يشهد بها على نفسه، أو كان الشاهد مستخفيا أو لا، فمن عنده حق ينكره بحضرة من يشهد عليه فسمع إقراره من لا يعلم به المقر جاز أن يشهد عليه بما سمعه منه. الضرب الثاني: ما ذكره بقوله: (أو استفاضة) ما يشتهر المشهود به بين الناس فيتسامعون به بإخبار بعضهم بعضا، ولا يجوز لأحد أن يشهد باستفاضة إلا إن سمع ما يشهد به (عن عدد يقع به) أي بخبره (العلم)؛ لأن لفظ الاستفاضة مأخوذ من فيض الماء لكثرته (¬1)، قال في "شرح المنتهى" لمصنفه (¬2): "ويكون ذلك العدد عدد التواتر؛ لأنها شهادة فلا يجوز أن يشهد بها من غير علم لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ ¬
مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} " (¬1) ومن قال: شهدت بالاستفاضة ففرع، ذكره في "الفروع" (¬2) و"الإنصاف" (¬3) و"التنقيح" (¬4)، وإنما تصح شهادة الاستفاضة (فيما يتعذر علمه غالبا بغيرها) أي الاستفاضة (كنسب) إجماعا (¬5)، وإلا لاستحالت معرفته إذ لا سبيل إلى معرفته قطعا بغير ذلك، ولا يمكن المشاهدة فيه وكولادة (وموت ونكاح) وملك مطلق إذ الولادة قد لا يباشرها إلا المرأة الواحدة، والموت قد لا يباشره إلا الواحد ممن يحضره ويتولى غسله وتكفينه، والملك قد يتقادم سببه، فتوقف الشهادة في ذلك على المباشرة يؤدي إلى التعسر خصوصا مع طول الزمن، وكنكاح عقدا ودواما (وطلاق) وخلع نصا فيهما (¬6)؛ لأنه مما يشيع ويشتهر غالبا، والحاجة داعية إليه، (ووقف) بأن يشهد أن هذا وقف زيد لا أنه ¬
وقفه، (ومصرفه) أي الوقف وما أشبه ذلك، قال الخرقي: "وما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه شهد به" (¬1). ولأن هذه الأشياء تتعذر الشهادة عليها غالبا بمشاهدتها ومشاهدة أسبابها أشبهت النسب، وكونه يمكن العلم بمشاهدة سببه لا ينافي التعذر غالبا. ومن رأى شيئا بيد إنسان يتصرف فيه مدة طويلة كتصرف مالك من نقض وبناء وإجارة وإعارة فله الشهادة بالملك؛ لأن تصرفه فيه على هذا الوجه بلا منازع دليل على صحة الملك كمعاينة سبب الملك من بيع فيه وارث، وإلا يراه يتصرف كما ذكر فإنه يشهد له باليد والتصرف؛ لأن ذلك لا يدل على الملك غالبا. (و) من شهد بعقد (اعتبر ذكر شروط مشهود به) للاختلاف فيها، فربما اعتقد الشاهد صحة ما لا يصح عند القاضي، فيعتبر في نكاح يشهد به أنه تزوجها برضاها إن لم تكن مجبرة وذكر بقية الشروط كوقوعه بولي مرشد وشاهدي عدل حال خلوها من الموانع، وفي شهادة رضاع عدد الرضعات وأنه يشرب من ثديها أو من لبن حلب منه للاختلاف في الرضاع المحرم، ولا بد من ذكر أنه في الحولين، فإن شهد أنه ابنها من الرضاع لم يكف، وفي قتل ذكر القاتل وأنه ضربه بسيف فقتله أو جرحه فقتله أو أنه مات من ذلك، ولا يكفي أن يشهد أنه جرحه فمات لجواز موته بغير جرحه، وفي زنا ذكر مزني بها، وأين؟ وكيف؟ وفي أي وقت زنا؟ لاحتمال أن يشهد أحدهما بزنا غير الذي شهد به غيره فلا تلفق وأنه رأى ذكره في فرجها لئلا يعتقد الشاهد ما ليس بزنا ¬
زنا، ويقال: زنت العين واليد والرجل كما تقدم (¬1). وإن شهد أن هذا ابن أمته لم مجكم له به لجواز أن تكون ولدته قبل أن يملكها حتى يقولا: وأنها ولدته وهي في ملكه وكذا ثمرة شجرته، وإن شهدا أن هذا الغزل من قطنه، أو أن هذا الدقيق من حنطته، أو أن هذا الطير من بيضته حكم له به؛ لأنه لا يتصور أن يكون الغزل أو الدقيق أو الطير من قطنه أو حنطته أو بيضته قبل ملكه للقطن أو الحنطة أو البيضة، ولا يحكم له بالبيضة إن شهدا أن هذه البيضة من طيره حتى يشهدا أنها باضتها في ملكه، أو يشهدا أنه اشترى هذا العبد أو هذا الثوب ونحوه من زيد حتى يقولا: وهو في ملكه. ومن ادعى إرث ميت فشهد شاهدان أنه وارثه لا يعلمان وارثا غيره، أو قالا: في هذا البلد سواء كانا من أهل الخبرة الباطنة أو لا سلم المال إليه بغير كفيل لثبوت إرثه، والأصل عدم الشريك، ويسلم إليه المال بكفيل إن شهدا بأنه وارثه فقط، ثم إن شهدا لآخر أنه وارثه شارك الأول في إرث الميت، قال الموفق في فتاويه (¬2): "إنما احتاج إلى بيان لا وارث سواه؛ لأنه يعلم ظاهرا، فإنه بحكم العادة يعلمه جاره ومن يعلم باطن أمره بخلاف دينه على الميت فلا يحتاج إلى إثبات أن لا دين عليه سواه لخفاء الدين، ولأن جهات الإرث يمكن الاطلاع عليها عن يقين". ¬
وإن شهد اثنان أن هذا ابن الميت لا وارث له غيره، وشهد آخران أن هذا ابنه لا وارث له غيره قسم الإرث بينهما ولا تعارض لجواز أن تعلم كل بينة ما لم تعلمه الأخرى، وإن شهدا أنه طلق واحدة من نسائه ونسيا عينها، أو أنه أعتق من أرقائه رقبة ونسيا عينها، أو أنه أبطل من وصاياه واحدة ونسيا عينها لم تقبل شهادتهما؛ لأنها بغير معين فلا يمكن العمل بها، وإن شهد أحدهما بغصب ثوب أحمر والآخر بغصب ثوب أخضر، أو شهد أحدهما أنه غصبه الثوب اليوم والآخر أنه غصبه أمس لم تكمل البينة؛ لأن اختلاف الشاهدين فيما ذكر يدل على تغاير الفعلين، وكذا كل شهادة على فعل متحد في نفسه كقتل زيد إذ لا يكون إلا مرة واحدة أو على فعل متحد باتفاق المشهود له والمشهود عليه، كالغصب إذا اتفقا على أنه واحد وكسرقة ونحوها إذا اختلف الشاهدان في وقت الفعل أو مكانه أو صفة متعلقة به كلونه وآلة قتل ونحوه مما يدل على تغاير الفعلين فلا تكمل البينة للتنافي، وكل من الشاهدين يكذب الآخر فيتعارضان ويسقطان، وإن أمكن تعدد الفعل ولم يشهدا بأنه متحد فبكل شيء شاهد فيعمل بمقتضى ذلك، فإذا ادعى الفعلين وأقام بكل منهما شاهدا، أو حلف مع كل من الشاهدين يمينا ثبتا، ولا تنافي بين شهادة الشاهدين بذلك لتغاير المشهود عليه، ولو كان بدل كل شاهد منهما بينة تامة ثبت كلا الفعلين فيما إذا كان الفعل غير متحد لا في نفسه ولا باتفاقهما لتمام نصاب كل منهما وعدم التنافي إن ادعاهما المشهود له، والا بأن ادعى أحدهما فقط ثبت ما ادعاه دون الآخر وتساقطتا في مسألة اتحاد الفعل في نفسه أو باتفاقهما، وكفعل من قول نكاح وقذف فقط دون
غيرهما من الأقوال، فإذا شهد واحد أنه تزوجها أو قذفه أمس وشهد الآخر أنه اليوم لم تكمل البينة؛ لأن النكاح والقذف الواقعين أمس غير الواقعين اليوم، فلم يبق بكل نكاح أو قذف إلا شاهد، فلم تكمل البينة، ولأن من شرط النكاح حضور الشاهدين فإذا اختلفا في الشرط لم يتحقق حصوله، وكذا لو شهد أحدهما أنه قذفه غدوة أو خارج البلد أو بالعجمية، وشهد الآخر بخلافه؛ لأنه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات، ولو كانت الشهادة بإقرار بفعل أو بغيره ولو نكاحا أو قذفا، أو شهد شاهد واحد بالفعل وآخر على إقراره جمعت وعمل بها لعدم التنافي، ولو شهد أحدهما أنه أقر له بألف وشهد الآخر أنه أقر له بألفين كملت البينة بألف، وله أن يحلف على الألف الآخر مع شاهده ويستحقه حيث لم يختلف السبب ولا الصفة، ولو شهدا لشخص بمائة وشهد آخران له بعدد أقل من المائة دخل الأقل فيها إلا مع ما يقتضي التعدد، كما لو شهد اثنان بمائة قرضا وآخران بخمسين ثمن مبيع فيلزمانه لاختلاف سببهما، ولو شهد واحد بألف وأطلق، وشهد الآخر بألف من قرض كملت شهادتهما حصلا للمطلق على المقيد، وإن شهدا أن عليه ألفا وقال أحدهما: قضاه بعضه بطلت شهادته نصا (¬1)؛ لأن قوله: قضاه بعضه يناقض شهادته عليه بالألف فأفسدها، وإن شهدا أنه أقرضه ألفا ثم قال أحدهما: قضاه نصفه صحت شهادتهما؛ لأنه رجوع عن الشهادة بخمسمائة وإقرار بغلط نفسه أشبه ما لو ¬
قال: بألف بل بخمسمائة. ولا يحل لمن تحمل شهادة بحق أخبره عدل باقتضاء الحق أو انتقاله بنحو حوالة أن يشهد به نصا، ولو قضاه نصفه ثم جحده بقيته فقال أحمد: "يدعيه كله وتقوم البينة فتشهد على حقه كله ثم يقول للحاكم قضاني نصفه" (¬1) ومن له بينة بألف فقال لهما: أريد أن تشهدا لي بخمسمائة لم يجز لهما أن يشهدا بالخمسمائة له نصا (¬2)؛ لأن على الشاهد نقل الشهادة على ما شهد، قال تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} (¬3)، ولو شهد اثنان في محفل على شخص أنه طلق أو أعتق، أو على خطيب أنه قال على المنبر أو فعل على المنبر في الخطبة شيئا لم يشهد به غيرهما مع المشاركة في سمع وبصر قبلا لكمال النصاب. (ويجب إشهاد) اثنين (في نكاح)؛ لأنه شرط فيه فلا ينعقد بدونهما وتقدم (¬4). (ويسن) إشهاد (في) كل عقد (غيره) من بيع وإجارة وصلح لقوله تعالى: (وَأَشهِدُوَأ إِذَا تَبَايَعَتُم) (¬5) وحمل على الاستحباب، لقوله تعالى: {فَإِن ¬
أَمِن بَعضُكُم بَعضًا فَليُؤَدِّ الَّذِى اؤْتُمِن أَمَنَتَهُ} (¬1). ¬
فصل في شروط من تقبل شهادته
فصل في شروط من تقبل شهادته وهي ستة بالاستقراء: - ذكر الأول منها بقوله: (وشرط في شاهد) أي واحد الشهود (إسلام) لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (¬1)، والكافر ليس من رجالنا، ولأنه غير مأمون، وحديث جابر: "أنه عليه السلام أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض" رواه ابن ماجة (¬2) ضعيف؛ لأنه من رواية مجالد (¬3)، فلا تقبل من كافر ولو على كافر مثله غير رجلين كتابيين عند عدم مسلم بوصية مسلم ميت بسفر أو كافر، ويحلفهما حاكم وجوبا بعد العصر، لخبر أبي موسى ¬
رواه أبو داود (¬1)؛ لأنه وقت يعظمه أهل الأديان فيحلفان لا نشتري به -أي اللَّه تعالى، أو الحلف، أو تحريف الشهادة- ثمنا ولو كان ذا قربى، وما خانا وما حرفا، وأنها الوصية لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ] (¬2) إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. . .} الآية (¬3) وقضى به ابن مسعود وأبو موسى الأشعري (¬4)، قا ل ابن المنذر: "وبهذا قال أكابر الماضين". (¬5) ¬
فإن عثر: أي اطلع على أنهما أي الشاهدين الكتابيين استحقا إثما أي كذبا في شهادتهما قام آخران أي رجلان من أولياء الموصي فحلفا باللَّه تعالى لشهادتنا أي يميننا أحق من شهادتهما، ولقد خانا وكتما، ويقضي لهم للآية وحديث ابن عباس قال: "خرج رجل من بني سهم (¬1) مع تميم الداري (¬2) وعدي بن بداء (¬3) فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدموا بتركته ¬
فقدوا جام فضة مخوصا بذهب، فأحلفهما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم وجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا باللَّه لشهادتنا أحق من شهادتهما، وإن الجام لصاحبهم فنزلت الآية فيهم" (¬1) وروى أبو عبيد (¬2) في "الناسخ والمنسوخ" (¬3) أن ابن مسعود قضى بذلك في زمن عثمان (¬4). وأيضا فالمائدة ¬
آخر سورة نزلت. (و) الشرط الثاني: (بلوغ) فلا تقبل الشهادة من الصغير ذكرا أو أنثى ولو كان في حال أهل العدالة بأن كان متصفا بما يتصف به العدل. (و) الثالث: (عقل) وهو نوع من العلوم الضرورية، والعاقل من عرف الواجب عقلا الضروري وغيره، وعرف الممكن والممتنع، كوجود الباري تعالى، وكون الجسم الواحد ليس في مكانين، وأن الواحد أقل من الاثنين، وأن الضدين لا يجتمعان، وعرف ما يضره وينفعه غالبا، فلا تقبل الشهادة من معتوه ومجنون؛ لأنه لا يمكنه تحمل الشهادة ولا أداؤها لاحتياجها إلى الضبط وهو لا يعقله. (و) الرابع: (نطق) أي كون الشاهد متكلما فلا تقبل الشهادة من أخرس بإشارة؛ لأن الشهادة يعتبر فيها التعيين، وانما اكتفي بإشارة الأخرس في أحكامه كنكاحه وطلاقه للضرورة، (لكن تقبل من أخرس) إذا أداها (بخطه) لدلالة الخط على الألفاظ، (و) تقبل (من) (¬1) مجنون (يفيق) أحيانا إذا شهد (حال إفاقته)، لأنها شهادة عاقل أشبه من لم يجن. والخامس: الحفظ فلا تقبل الشهادة من مغفل ولا من معروف بكثرة غلط وكثرة سهو؛ لأنه لا تحصل الثقة بقوله، وتقبل ممن يقل منه ذلك؛ لأنه لا يسلم منه أحد. (و) السادس: (عدالة) وهي لغة: الاستقامة والاستواء، مصدر عدل بضم ¬
الدال إذ العدل ضد الجور (¬1)، وشرعا: استواء أحوال الشخص في دينه واعتدال أقواله وأفعاله (¬2). (ويعتبر لها) أي العدالة (شيئان): - (الأول: الصلاح في الدين، وهو) نوعان: (أداء الفرائض) أي الصلوات الخمس والجمعة وما وجب من صوم وحج وزكاة وغير ذلك (برواتبها) أي الصلاة الراتبة، نقل أبو طالب: "الوتر سنة سنها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فمن ترك سنة من سننه -صلى اللَّه عليه وسلم- فهو رجل سوء" (¬3). فلا تقبل ممن داوم على تركها، فإن تهاونه بها مما يدل على عدم محافظته على أسباب دينه، وربما جرى التهاون بها إلى التهاون بالفرائض، وتقبل ممن تركها في بعض الأحيان. (و) النوع الثاني: (اجتناب المحارم بأن لا يأتي كبيره ولا يدمن) أي يدوم (علي صغيرة) وفي "الترغيب": بأن لا يكثر منها ولا يصر علي واحدة منها (¬4) وقد نهي اللَّه تعالي عن قبول شهادة القاذف لكون القذف كبيرة فيقاس عليه كل مرتكب وقال الشيخ تقي الدين: "يعتبر العدل في كل زمن بحسبه لئلا ¬
تضيع الحقوق" (¬1). والكذب صغيرة فلا ترد الشهادة به إن لم يداوم عليه، إلا الكذب في شهادة زور وعلى نبي ورمي فتن ونحوه فكبيرة، ويجب الكذب في تخليص مسلم من قتل، قال ابن الجوزي: "وكل مقصود محمود لا يتوصل إليه إلا به". (¬2) ويباح الكذب لإصلاح، وحرب، وزوجة فقط. والكبيرة ما فيه حد في الدنيا -كالزنا وشرب الخمر- أو وعيد في الآخرة -كأكل مال اليتيم والربا وشهادة الزور وعقوق الوالدين- ونحو ذلك. والصغيرة ما دون ذلك من المحرمات كالتجسس وسب الناس بغير قذف والنظر المحرم والنبز باللقب، والغيبة والنصيمة من الكبائر فلا تقبل شهادة فاسق بفعل كزان وديوث، أو باعتقاد كمقلد في خلق القرآن، أو في نفي رؤية اللَّه في الآخرة، أو في الرفض أو التجهم ونحوه، كمقلد في التجسيم، وما تعتقده الخوارج والقدرية ونحوهم، ويكفر مجتهدهم أي مجتهد القائلين بخلق القرآن ونحوهم ممن خالف ما عليه أهل السنة والجماعة الداعية. ولا تقبل شهادة قاذف حد أو لا لقوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} (¬3) حتى يتوب لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (¬4) وتوبته تكذيب نفسه ¬
ولو كان صادقا فيقول: كذبت فيما قلت. لما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر مرفوعا في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} قال: "توبته إكذاب نفسه" (¬1)، وتوبة غير القاذف ندم بقلبه على ما مضى من ذنبه، وإقلاع بأن يترك فعل الذنب الذي تاب منه، وعزم أن لا يعود إلى ذلك الذنب الذي تاب منه، ولا يعتبر مع ذلك إصلاح العمل لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬2) ومع المغفرة يجب أن تترتب الأحكام لزوال المانع منها وهو الفسق؛ لأنه فسق مع زوال الذنب الذي تاب منه، وإن كان فسق الفاسق بترك واجب فلا بد لصحة توبته من فعله، وإن كان فسقه بترك حق لآدمي كقصاص وحد قذف فلا بد من التمكين من ¬
نفسه ببذلها للمستحق، ويعتبر رد مظلمة فسق بترك ردها كمغصوب ونحوه، فإن عجز نوى رده متى قدر عليه أو يستحل رب المظلمة أو يستمهله. والتوبة من البدعة الرجوع عنها والاعتراف بها واعتقاد ضد ما كان يعتقده من مخالفة أهل السنة. ولا تصح التوبة معلقة بشرط، ولا يشترط لصحتها من قذف وغيبة ونميمة وشتم إعلامه والتحلل منه، قال أحمد: "إذا قذفه ثم تاب لا ينبغي أن يقول له: قذفتك هذا يستغفر اللَّه لأن فيه إيذاء صريحا" (¬1). واذا استحله يأتي بلفظ عام مبهم لصحة البراءة من المجهول. ومن أخذ بالرخص -أي تتبعها من المذاهب- فسق نصا (¬2)، وذكره ابن عبد البر إجماعا (¬3)، وذكر القاضي في غير متأول ولا مقلد (¬4) ولزوم التمذهب بمذهب وامتناع الانتقال إلى غيره الأشهر عدمه، ومن أوجب تقليد إمام بعينه استتيب فإن تاب وإلا قتل، وإن قال: ينبغي كان جاهلا، ومن كان متبعا لإمام فخالفه في بعض المسائل ¬
لقوة الدليل أو لكون أحدهما أعلم وأتقى فقد أحسن ولم يقدح في عدالته بلا نزاع، قاله الشيخ تقي الدين. (¬1) ومن أتى فرعا مختلفا فيه كمن تزوج بلا ولي، أو تزوج بنته من زنا، أو شرب من نبيذ ما لا يسكره إن اعتقد تحريمه ردت شهادته نصا (¬2)؛ لأنه فعل ما يعتقد تحريمه فوجب أن ترد شهادته كما لو كان مجمعا على تحريمه، وإن تأول أي فعل شيئا من ذلك مستدلا على حله باجتهاد أو مقلدا لقائل بحله فلا ترد شهادته. الشيء (الثاني): مما يستعمل للعدالة (استعمال المروءة) بوزن سهولة أي الإنسانية (بفعل ما يزينه ويجمله) عادة، (وترك ما يدنسه ويشينه) أي يعيبه عادة من الأمور الدنيئة المزرية به، فلا شهادة لمصافع (¬3) ومتمسخر، ورقاص ومشعبذ، والشعبذة والشعبوذة: خفة في اليدين كالسحر، ومغن، ويكره الغناء -بكسر العين المعجمة والمد- وهو: رفع الصوت بالشعر على وجه مخصوص، ويكره سماعه إلا من أجنبية، فيحرم التلذذ به، وكذا يحرم مع آلة لهو من حيث الآلة، وطفيلي الذي يتبع الضيفان، ومتزي بزي يسخر منه، ولا لشاعر يفرط في مدح بإعطاء أو في ذم بمنع، أو ¬
يشبب بمدح خمر أو بمرد أو بامرأة معينة محرمة، ويفسق بذلك ولا تحرم روايته، ولا شهادة للاعب بشطرنج غير مقلد كمع عوض، أو ترك واجب وفعل محرم إجماعا، أو لاعب بنرد، ويحرمان أي اللعب بالشطرنج والنرد لحديث أبي داود في النرد (¬1) والشطرنج في معناه (¬2)، أو لاعب بكل ما فيه دناءة حتى في أرجوحة أو رفع ثقيل، وتحرم مخاطرته بنفسه فيه، أو لاعب بحمام طيارة أو مسترعيها من المزارع أو من يصيد بها حمام غيره، ويباح اقتناء الحمام للأنس بصوتها ولاستفراخها ولحمل كتب. ولا شهادة لمن يأكل بالسوق [كثيرا] (¬3) لا يسيرا كلقمة وتفاحة ونحوها، ولا ¬
شهادة لمن يمد رجليه بمجمع من الناس، أو يكشف من بدنه ما العادة جارية بتغطيته كصدره وظهره، أو يحدث بمباضعة أهله أو سريته، أو يدخل الحمام بغير مئزر، أو ينام بين جالسين أو يخرج عن مستوى الجلوس بلا عذر، أو يحكي المضحكات ونحوه في كل ما فيه سخف أو دناءة؛ لأن من رضيه لنفسه واستخفه ليس له مروءة، ولا تحصل الثقة بقوله، ولحديث أبي مسعود البدري (¬1) مرفوعا: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت" (¬2). ومتى وجد شرط قبول الشهادة بأن بلغ صغير أو عقل مجنون أو أسلم كافر أو تاب فاسق قبلت شهادته بمجرد ذلك لزوال المانع. ولا يشترط في الشهادات الحرية، فتقبل شهادة عبد وأمة في كل ما يقبل فيه حر ¬
وحرة لعموم آيات الشهادة وأخبارها، والعبد داخل فيها فإنه من رجالنا، وهو عدل تقبل روايته وفتواه وأخباره الدينية، ومتى تعينت الشهادة على الرقيق حرم على سيده منعه منها كسائر الواجبات. ولا يشترط للشهادةكون صناعة الشاهد غير دنيئة عرفا، فتقبل شهادة حجام وحداد وزبال وقمام وكناس يكنس الأسواق وغيرها وكباش يربي الكبش ويناطح به، وقراد يربي القرود ويطوف بها للتكسب، ودباب يفعل بالدب كما يفعل القراد، ونفاط يعلب بالنفط، ونخال أي يغربل في الطريق على فلوس ونحوه، وصباغ ودباغ وجمال وجزار وكساح ينظف الحشوش وحائك وحارس وصائغ ومكار وخدام إذا حسنت طريقتهم لحاجة الناس إلى هذه الصنائع؛ لأن كل أحد لا يليها فلو ردت به الشهادة لأفضى إلى ترك الناس لها فيشق ذلك عليهم. وكذا تقبل شهادة من لبس غير زي بلد يسكنه أو لبس غير زييه المعتاد بلا عذر إذا حسنت طريقتهم بأن حافظوا على أداء الفرائض واجتناب المعاصي والريب. وتقبل شهادة ولد الزنا حتى به. وشهادة أعمى بما سمع إذا تيقن الصوت، وبالاستفاضة وبمرئيات تحملها قبل عماه، وكذا لو لم يعرف مشهود عليه إلا بعينه إذا وصفه للحاكم بما يتميز به، والأصم كالسميع فيما يراه أو سمعه قبل صممه. ومن شهد بحق عند حاكم ثم عمي أو خرس أو صم أو جن أو مات لم يمنع الحاكم بشهادته إن كان عدلا، وإن حدث به مانع من كفر أو فسق أو تهمة كعداوة
وعصبية قبل الحكم منعه لاحتمال وجود ذلك عند الشهادة، وانتفاؤه حينها شرط للحكم بها غير عداوة ابتدئها مشهود عليه بأن قذف البينة أو قاولها عند الحكومة بدون عداوة ظاهرة سابقة فلا تمنع الحكم لئلا يتمكن مشهود عليه من إبطال الشهادة عليه بذلك، وإن حدث مانع من كفر وفسق وغيرهما بعد الحكم وقبل استيفاء محكوم به يستوفى مال أحد مطلقا ولا قود؛ لأنه إتلاف ما لا يمكن تلافيه. وتقبل شهادة الشخص على فعل نفسه كحاكم على حكمه بعد عزله وقاسم ومرضعة على قسمته وإرضاعها ولو بأجرة؛ لأن كلا منهم يشهد لغيره فقبل كما لو شهد على فعل غيره، ولحديث عقبة بن الحارث في الرضاع (¬1) وقيس عليه الباقي. ¬
فصل في موانع الشهادة
فصل في موانع الشهادة (ولا تقبل شهادة بعض عمودي نسبه لبعض)، فلا تقبل شهادة والد لولده وإن سفل من ولد البنين أو البنات وعكسه ولو لم يجر الشاهد بما شهد به نفعا غالبا لمشهود له، كشهادته له بعقد نكاح أو قذف، وتقبل لباقي أقاربه كأخيه وعمه لعموم الآيات، ولأنه عدل غير متهم، قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة (¬1). ولا تقبل شهادة من يملكه المشهود له أو يملك بعضه إذ القن ينبسط في مال سيده، وتجب نفقته عليه كالأب مع ابنه. (ولا) تقبل شهادة (أحد الزوجين للآخر) لتبسط كل منهما في مال الآخر واتساعه بسعته ولو في الماضي بأن يشهد أحد الزوجين للآخر بعد طلاق بائن أو خلع. (ولا) تقبل شهادة (من يجر بها) أي بشهادته (إلى نفسه نفعا) كشهادة الشخص لرقيقه ولو مأذونا له أو مكاتبا أو لمورثه بجرح قبل اندماله؛ لأنه ربما سري الجرح إلى النفس فتجب الدية للشاهد بشهادته فكأنه شهد لنفسه، ولا شهادته لموصيه أو لموكله في ما وكل فيه نصا (¬2)، كمن نوزع في ثوب استأجر أجيرا لخياطته أو صبغه أو قصره ¬
فلا تقبل شهادة الأجير به لمستأجره للتهمة ولو بعد انحلالها أو لشريكه فيما هو شريك فيه، ولا شهادة غريم بمال لمفلس بعد حجر أو موت لتعلق حق غرمائه بماله، فكأنه شهد لنفسه، ولا شهادة أحد الشفيعين بعفو الآخر عن شفعته لاتهامه بأخذ الشقص كله، ولا شهادة من له كلام أو استحقاق وإن قل في رباط أو مدرسة أو مسجد بمصلحة لها، وتقبل شهادة وارث لمورثه في مرضه ولو مرض الموت المخوف وحال جرحه بدين له؛ لأنه لا حق له في ماله حين الشهادة، كشهادته لامرأة يحتمل أن يتزوجها، وغريم له بمال يحتمل أن يوفيه منه. (أو يدفع بها) أي بشهادته (عنها) أي عن نفسه (ضررا) كشهادة العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ أو شبه العمد؛ لأنهم متهمون في دفع الدية عن أنفسهم ولو كان الشاهد فقيرا أو بعيدا لجواز أن يوسر أو يموت من هو أقرب منه، وكشهادة الغرماء بجرح شهود دين على مفلس أو ميت تضيق تركته عن ديونهم، وكشهادة كل من لا تقبل شهادته له إذا شهد بجرح شاهد عليه، قال الزهري: "مضت السنة في الإسلام أن لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين" (¬1). وهو المتهم، وعن طلحة بن عوف (¬2): " ¬
قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن لا شهادة لخصم ولا ظنين" (¬1). (ولا) تقبل شهادة (عدو على عدوه) لغير اللَّه تعالى سواء كانت مورثة أو مكتسبة (في غير نكاح) وتقدم في كتاب النكاح (¬2). (ومن سره مساءة أحد أو غمه فرحه فهو عدوه)، فتلغو الشهادة من مقذوف على قاذفه، ومن مقطوع عليه الطريق على قاطعه، ومن زوج على امرأته في زنا بخلاف شهادته عليها في قتل وغيره. (و) كل (من) قلنا (لا تقبل) شهادته (له) كعمودي نسبه ومكاتبه فإنها (تقبل عليه)؛ لأنه لا تهمة فيها، فتقبل شهادة الوصي على الميت والحاكم على من في حجره. ومن موانع الشهادة: الحرص على أدائها قبل استشهاد من يعلم بها، فإن لم ¬
يعلم مشهود له بها لم يقدح قبل الدعوى أو بعدها وتقدم، إلا في عتق وطلاق ونحوهما لعدم اشتراط تقدم الدعوى فيهما على الشهادة. ومن الموانع: العصبية فلا شهادة لمن عرف بها، وبإفراط في الحميةكتعصب قبيلة على قبيلة وإن لم تبلغ رتبة العدواة. ومنها: أن ترد شهادته لفسقه ثم يتوب ويعيدها فلا تقبل للتهمة في أنه إنما تاب لتقبل شهادته، ولو لم يؤدها حتى تاب قبلت؛ لأن العدالة ليست شرطا للتحمل ولا تهمة، ولو شهد كافر أو غير مكلف أو أخرس فزال ذلك وأعادها قبلت؛ لأن ردها لهذه الموانع لا غضاضة فيه فلا تهمة، ومن شهد بحق مشترك بين من ترد شهادته له كأبيه وأجنبي ردت نصا (¬1)؛ لأن الشهادة لا تتبعض في نفسها. ¬
فصل
فصل في أقسام المشهود به من حيث عدد شهوده لاختلاف عدد الشهود باختلاف المشهود به، وهي سبعة بالاستقراء: - ذكر الأول منها بقوله: (وشرط في) ثبوت (الزنا أربعة رجال يشهدون به) أي الزنا واللواط (أو) يشهدون بـ (أنه) أي المشهود عليه بذلك (أقر به أربعا) لقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)} (¬1) وقوله عليه السلام لهلال بن أمية (¬2): "أربعة شهداء وإلا حد في ظهرك" (¬3) واعتبار الأربعة في الإقرار به؛ لأنه ¬
إثبات له فاعتبر فيه كشهود الفعل. (و) القسم الثاني: (في دعوى فقر ممن عرف بغنى) ليأخذ من زكاة فلا بد من (ثلاثة) رجال يشهدون له، لحديث مسلم: "حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلانا فاقة" (¬1) وتقدم في الزكاة. (و) القسم الثالث: (في) دعوى (قود وإعسار و) وطء (موجب لـ (تعزير) كوطء أمة مشتركة وبهيمة، ويدخل فيه وطء أمته في حيصن أو إحرام أو صوم (أو) وطء موجب لـ (حد) فلا بد فيه من رجلين؛ لأنه يحتاط فيه ويسقط بالشبهة فلم تقبل فيه شهادة النساء لنقصهن، ولثبت قود وقذف وشرب بإقرار مرة. (و) القسم الرابع: في دعوى (نكاح ونحوه) كرجعة وخلع وطلاق ونسب وولاء، وكذا توكيل (و) إيصاء في غير مال (مما ليس مالا ولا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال غالبا) فكالذي قبله لا يقبل فيه إلا (رجلان). ¬
(و) القسم الخامس: (في) دعوى (مال وما يقصد به) المال كقرض ورهن ووديعة وغصب وإجارة وشركة وحوالة وصلح وهبة وعتق وكتابة وتدبير ومهر وتسميته، وعارية وشفعة وإتلاف مال وضمانه وتوكيل فيه وإيصاء فيه ووصية به لمعين ووقف عليه وبيع وأجله وخياره وجناية خطأ أو عمد لا توجب قودا بحال ونحو ذلك، فيقبل فيه (رجلان أو رجل وامرأتان) لقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} (¬1)، وسياق الآية في العين وألحق به سائر الأموال لانحطاط رتبة المال عن غيره من المشهود به؛ لأنه يدخله البذل والإباحة، وتكثر فيه المعاملة، ولطلع عليه الرجال والنساء فوسع الشرع باب ثبوته، (أو رجل ويمين المدعى) لحديث ابن عباس: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد" رواه أحمد والترمذي (¬2)، ولأحمد في رواية: "إنما ذلك في الأموال" (¬3) وورد أيضا عن جابر ¬
مرفوعا (¬1)، وسواء كان المدعي مسلما أو كافرا أو امرأة، ولا يثبت المال ونحوه بشهادة امرأتين ويمين؛ لأن النساء لا تقبل شهادتهن في ذلك منفردات وكذلك لو شهد أربع نسوة لم يقبل، ويجب تقديم شهادة الرجل الواحد على اليمين؛ لأنه لا يقوى جانبه إلا بشهادته، ولا يشترط قول مدع في حلفه وأن شاهدي صادق في شهادته، ولو نكل عن اليمين من أقام شاهدا حلف مدعى عليه وسقط الحق فإن نكل مدعى عليه عن ¬
اليمين حكم عليه بالنكول نصًّا لما تقدَّم (¬1)، ولا ترد اليمين على المدعي؛ لأنها في جنبة غيره فلم تعد إليه كالمدعى عليه إذا نكل عنها، ولو كان لجماعة حق مالي بشاهد فأقاموه فمن حلف أخذ نصيبه ولا يشاركه من لم يحلف، ولا تحلف ورثة ناكل عن يمين بعد إقامة شاهد به؛ لأنه لا حق لوارثه حال حياته، فإن مات فلوارثه الدعوى وإقامة الشاهد ويحلف معه ويأخذ ما شهد به الشاهد. (و) القسم السادس: (في داء دابَّةٍ ومُوضحةٍ ونحوهما) كداء بعين فيقبل في ذلك (قولُ اثنينِ) أي طبيبين أو بيطارين أو كحَّالين، وإن اختلفا قدم قول مثبت على قول نافٍ؛ لأنه شهد بزيادة لم يدركها النافي، (ومع عُذْرٍ) يقبل قول طبيب (واحد) وبيطار واحد وكَحَّالٍ واحدٍ لعدم غيره في معرفته، نصّ أحمد على ذلك. (¬2) (و) القسم السابع -من أقسام المشهود به-: (ما لا يطلع عليه الرّجالُ غالبًا كعيوب نساءٍ تحت ثياب، ورضاع، واستهلال)، وبَكارةٍ، وثُيُوبَةٍ، وحَيْضٍ، ورَتْقٍ، وقَرْنٍ، وعَفلٍ، ونحوه، (و) كذا (جراحةٍ ونحوها في حمّامٍ وعُرْسٍ) مما لا يحضره ¬
رجال، فيكفي فيه (امرأةٌ عدلٌ) لحديث حذيفة (¬1): "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أجاز شهادة القَابِلَةِ وحدها" (¬2)، ذكره الفقهاء في كتبهم، وروى أبو الخطاب (¬3) عن ابن عمر مرفوعًا: "يجزئ في الرضاع شهادة امرأة واحدة" (¬4)، والأحوط أن ¬
يشهد به اثنتان لأنه أبلغ (أَوْ) يشهد به (رجل [عدلٌ] (¬1) واحد وهو أولى بالقبول من المرأة لكماله، ومن ادعت إقرار زوجها بأخوة رضاع فأنكر لم يقبل فيه إلا رجلان، وإن شهد الرجل والمرأتان بسرقة ثبت المال لكمال نصابه دون القطع؛ لأنه حد فلا يثبت إلا برجلين، وإن أنكر السرقة فطلب يمينه فنكل غرم المال ولا قطع؛ لأن النكول لا يقضى به لغير المال، وإن ادعى زوج خلعا قبل فيه رجل وامرأتان أو رجل ويمين؛ لأنه يدعي المال، وإن ادعته الزوجة لم يقبل فيه إلا رجلان؛ لأن مقصودها الفسخ ولا يثبت إلا برجلين، ومن حلف بطلاق أنه ما سرق أو ما غصب ونحوه فثبت فعله برجل وامرأتين أو رجل ويمين ثبت المال لكمال النصاب ولم تطلق (¬2) زوجته؛ لأن الطلاق لا يثبت بذلك، ولو وجد على دابة مكتوب حبيس في سبيل اللَّه أو وجد على أسْكُفَّةِ دَارٍ (¬3) أو حائطها مكتوب وقف أو مسجد ¬
حكم به نصًّا (¬1) حيث لا معارض أقوى منه، ولو وجده على كتب علم في خزانة مدة طويلة فكذلك وإلا عَمِلَ بالقرائن. ¬
(فصل) في الشهادة على الشهادة والرجوع عنها وأدائها
(فَصْلٌ) في الشَّهادةِ على الشهادةِ والرجوع عنها وأدائها قال أبو عبيد: "أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشَّهَادة على الشهادة في الأموال". (¬1) ولدعاء الحاجة إليها؛ لأنها وثيقة مستدامة لحفظ الأموال، لما قد يطرأ على الشاهد من اخترام المنيّة والعجز عن الشهادة لعدم الوثيقة على أن من الحقوق ما يحتاج فيه إلى التأبيد كالوقوف، والشاهد لا يعيش أبدًا، (وتُقْبَلُ الشَّهادةُ على الشَّهادةِ في كُلِّ ما يُقْبَلُ فيهِ كتابُ القَاضِيْ إلى الْقَاضِيْ)، وهو حق الآدمي دون حق اللَّه تعالى؛ لأن الحدود مبنية على الستر، والدرء بالشبهة، والشهادة على الشهادة فيها شبهة لتطرق احتمال الغلط والسهو وكذب شهود الفرع فيها مع احتمال ذلك في شهود الأصل، وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهود الأصل، ولهذا لا تقبل مع القدرة على شهود الأصل. (وشُرِطَ) في قبول الشهادة على الشهادة (تَعَذُّرُ شُهُودِ أصلٍ بموتٍ أو مَرَضٍ أو غِيْبَةٍ مَسافةَ قَصْرٍ أو خَوْفٍ من سلطانٍ أو غيرهِ)؛ لأن شهادة الأصل تثبت نفس الحق وشهادة الفرع إنما تثبت الشهادة عليه، ولاستغناء الحاكم بسماع الأصل عن تعديل الفرع، وسماعه من الأصل معلوم، وصدق شاهد الفرع عليه مظنون، ولا يعدل ¬
عن اليقين مع إمكانه. (و) شُرِطَ (دَوامُ عَدالَتِهِمَا) أي الأصل والفرع إلى صدور الحكم، فمتى حدث قبله من أحدهم ما يمنع قبوله من نحو فسق أو جنون وقف الحكم؛ لأنه مبني على شهادة الجميع، وإذا فقد شرط الشهادة التي هي شَرطٌ للحكم لم يجر الحكم بها. (و) شُرِطَ (اسْتِرْعَاءُ) شاهد (أَصْلٍ لـ) شاهد (فرعٍ، أَوْ) استرعاؤه (لغيرهِ وهو) أي الفرع (يَسْمَعُ) استرعاء الأصل لغيره، وأصْلُ الاسترعاء من قول المحدّث: أرعني سمعك يريد اسمع مني، مأخوذٌ من رَعَيْتُ الشيء إذا حفظتْهُ (¬1)، فشاهد الأصل يطلب من شاهد الفرع أن (¬2) يحفظ شهادته ويؤديها، وصفة الاسترعاء ما ذكره بقوله: (فيَقُوْلُ) شاهد الأصل لمن يسترعيه: (اشْهَدْ) على شهادتي (أنِّي أَشْهَدُ)، أو اشْهَدْ أنِّي أشْهَدُ (أن فلان بن فلان) وقد عرفته (أَشْهَدَنِيْ على نَفْسِهِ) أو شهدت عليه، (أو أَقَرَّ عِنْدِيْ بِكَذَا) [ونحوه] (¬3)، وإلا يسترعه ولا غيره مع سماعه لم يشهد؛ لأن الشهادة على الشهادة فيها معنى النيابة ولا ينوب عنه إلَّا بإذنه، (أَوْ يَسْمَعُهُ) أي يسمع الفرع الأصل (يَشْهَدُ عند حَاكِمٍ أو يَعْزُوْهَا) أي شهادته (إلى سببٍ كبيعٍ وقَرْضٍ) ونحوهما فيشهد على شهادته؛ لأنه بشهادته عند الحاكم وبنسبته الحق إلى سببه يزول الاحتمال كالاسترعاء. ¬
(و) شُرِطَ (تَأْدِيَةُ فَرعٍ بصفةِ تَحَمُّلِهِ) وإلا لم يحكم بها، وتثبت شهادة شاهدي الأصل بفرعين ولو على كل شاهد أصل شاهد فرع نصًّا (¬1)، كما لو شهد بنفس الحق، ولأن الفرع بدل الأصل، ويثبت الحق بشهادة فرع واحد مع أصل آخر كأصلين أو فرعين، ويصح تحمل فرع على فرع لدعاء الحاجة إليه، ويصح أن يشهد النِّسَاءُ حيث يقبلن في أصل وفرع؛ لأن المقصود إثبات ما يشهد به الأصول فدخل دنيه النساء فيقبل رجلان على رجل وامرأتين ورجل وامرأتان على مثلهم أو على رجلين أصلين أو فرعين في المال وما يقصد به، وتقبل امرأة على امرأة فيما تقبل فيه المرأة لما تقدم. (و) شُرِطَ (تَعْيِيْنُهُ) أي تعيين شاهد فرع (لأصل) ـه، قال القاضي: "حتى لو قال تَابِعِيَّانِ: أشهدنَا صَحَابِيَّانِ لم يجز حتى يُعَيِّنَاهُمَا". (¬2) (و) شُرِطَ (ثُبُوتُ عدالةِ الْجَمِيْع) أي شهود الأصل والفرع؛ لأنهما شهادتان فلا يحكم بهما بدون عدالة الشهود لانْبِنَاءِ الحكم على الشهادتين جميعًا، ولا يجب على شاهد فرع تعديل شاهد أصل؛ لأنه يجوز أن لا يعرفه فيبحث عنه الحاكم، وتقبل شهادة الفرع بتعديله، قال في "الشرح" (¬3): "بغير خلاف نعلمه". ولا يقبل تعديل شاهد لرفيقه بعد شهادته أصلا كان أو فرعًا لإفضائه إلى انحصار الشهادة في ¬
أحدهما، قاله ابن نصر اللَّه، فلو كان قد زكاه قبل ذلك ثم شهد قبلت شهادتهما لانتفاء التهمة إذن. (¬1) وإذا أنكر الأصل شهادة الفرع لم يعمل بها ويضمن شهود الفرع محكومًا به يتلف بشهادتهم برجوعهم بعد الحكم؛ لأنه تلف بشهادتهم ما لم يقولوا: بَانَ لنا كذب الأصول أو غلطهم فلا يضمنون؛ لأنه ليس برجوع عن شهادتهما، لأنه لا ينافي شهادتهما على الأصول، وإن رجع شهود الأصل بعد الحكم لم يضمنوا شيئًا لحصول الإتلاف بشهادة غيرهم إلا إن قالوا: كذبنا أو غلطنا فيلزمهم الضمان لاعترافهم بتعمد الإتلاف، وإن قالا بعد الحكم: ما أشهدناهما بشيء لم يضمن الفريقان شيئا مما حكم به؛ لأنه لم يثبت كذب شاهدي الفرع ولا رجوع شاهدي الأصل إذ الرجوع إنما يكون بعد الشهادة، ومن زاد في شهادته أو نقص لا بعد حكم أو أدى الشهادة بعد إنكارها قبل لأن الإنسان معرض للخطأ والنسيان فلو نم يقبل منه ما ذكر بعد أن نسيه لضاعت الحقوق بعد تَقَادُمِ عهدها، وكذا لو قال: لا أعْرِفُ الشهادة ثم شهد قبلت؛ لأنها أولى بالقبول مما قبلها. (وإِنْ رَجَعَ شُهودُ مالٍ) عن شهادتهم (قَبْلَ حُكْمٍ) بها لغت شهادتهم لرجوعهم عنها ولو أدَّوْهَا بعد و (لم يُحْكَمْ) بها، ولا يضمن راجع عن شهادته قبل الحكم بها؛ لأنها لم تتم وإدت لم يصرح شاهدٌ لِرُجُوعه بل قال للحاكم: توقف فتوقف ثم أعادها قبلت لاحتمال زوال ريبة عرضت له. ¬
(و) إن رجع شهود مال أو شهود عتق (بَعْدَهُ) أي بعد حكم بشهادتهم (لم يُنْقَضْ) الحكم لتمامه ورجوع الشهود بعد الحكم لا ينقضه؛ لأنهم إن قالوا؛ عمدنا فقد شهدوا على نفوسهم بالفسق، فهما متهمان بإرادة نقض الحكم كما لو شهد فاسقان على الشاهدين بالفسق فإنه لا يوجب التوقف في شهادتهما، وإلى قالوا: أخطأنا لم يلزمه نقضه أيضًا لجواز خطأهما في قولهما الثاني، (وضَمِنُوْا) بدل ما شهدوا به من المال قبض أو لم يقبض قائمًا كان أو تالفًا، وقيمة ما شهدوا بعتقه؛ لأنهم أخرجوه من يد مالكه بغير حق وحالوا بينه وبينه كما لو أتلفوه، ومحل ذلك ما لم يصدقهم على بطلان الشهادة مشهود له فلا ضمان على الشهود برد المشهود له ما قبضه من مال المحكوم عليه أو بدله إن تلف لاعترافه بأخذه بغير حق، أو ما لم تكن الشهادة بدين فيبرأ منه المشهود عليه قبل أن يرجعا عن شهادتهما؛ لأن المشهود عليه لم يغرم شيئًا. وإن رجع شهود قود أو شهود حد بعد حكم بشهادتهم قبل استيفاء قود أو حد لم يستوف قود ولا حد؛ لأنه عقوبة لا سبيل إلى جبرها إذا استوفيت بخلاف المال، ولأن رجوعهم شبهة والحد يدرأ بها والقود في معناه، ووجب دية قود شهدوا به بمشهود له؛ لأن الواجب أحد شيئين فإذا امتنع أحدهما تعين الآخر، ويرجع غارم على شهودٍ، وإن استوفي قود وحد حكم به بشهادتهم ثم قالوا: أخطأنا غرموا دية ما تلف من نفس كما دونها أو أرش الضرب نصًّا (¬1)، ولا تحمل العاقلة منه شيئًا، ويتقسط ¬
الغرم على عددهم لحصول التفويت من جميعهم كما لو أتلف جماعةٌ مَالًا. وإن بَانَ بعد حكم كُفر به شاهد أو بأن فسقهما أو أَنَّهما من عمودي نسب محكوم له أو عَدُوَّا محكومٍ عليه نقض الحكم لتبين فساده، وفي "الإقناع" (¬1): "فينقضه الإمام أو غيره" انتهى. ومقتضى ما سبق أنه ينقضه حاكمه إن كان بعد ثبوت السبب ورجع بمال أو ببدله إن تلف وببدل قود مستوفى على محكوم له لنقض الحكم فيرجع الحق إلى مستحقه، وإن كان الحكم للَّه تعالى بإتلاف حسي كرجم في زنا وقطع في سرقة، أو بما سرى إليه كجلد في شرب سرى إلى النفس ضمنه مزكون إن كانوا؛ لأن المحكوم به قد تعذر رده وشهود التزكية ألجأوا الحاكم إلى الفعل فلزمهم الضمان، ولا ضمان على الحاكم؛ لأنه أتى بما عليه من تزكية الشهود ولا على شاهدي الأصل؛ لأنهما مقيمان على أنهما صادقان في شهادتهما، وإنما الشرع منع قبول شهادتهما بخلاف الراجعين في شهادتهما لاعترافهما بكذبهما، وإلا يكن مزكون أو كانوا فسقة ضمن حاكم لحصول التلف بفعله وهو حكمه وقد فرط بترك التزكية. وإذا علم حاكم بشاهد زور بإقراره على نفسه بذلك أو بتبين كذبه يقينًا كأن شهد بقتل زيد فإذا هو حي ونحو ذلك عزره حاكم ولو تاب كمن تاب من حد بعد رفعه لحاكم، وروى أبو بكرة مرفوعًا: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه! قال: الإشراك باللَّه، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألَا وقول ¬
الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها (¬1) حتى قلنا: ليته سكت" متفق عليه (¬2)، ولا يتقدر تعزيره بل يكون بما يراه حاكم من ضرب أو حبس أو كشف رأس ونحوه ما لم يخالف نصا أو معناه، كحلق لحية أو قطع طرف أو أخذ مالٍ، وطِيْفَ به في المواضع التي يشتهر فيها فيقال: إنَّا وجدناه شاهد زور فاجتنبوه. (وإِنْ بَانَ خَطَأُ مُفْتٍ) ليس أهلًا للفُتيا (أَوْ) بَانَ خطأُ (قَاضٍ) في حكمه (في إتلافٍ لمخالفةِ) دَليلٍ (قاطعٍ) لا يحتمل التأويل، كقتل في شيء ظَنَّاهُ ردَّةً أو قَطَعَا في سرقة لا قطع فيها أو جلدا بشرب حيث لم يجب كشارب مكره عليه حده فمات (ضَمِنَا) أي المفتي والقاضي ما تلف بسببهما كما لو باشراه. ¬
فصل في أداء الشهادة
فَصْلٌ في أَداءِ الشَّهادةِ ولا تقبل الشهادة إلَّا يلفظ أشْهدُ أو شَهِدْتُ؛ لأنه مصدر شهد يشهد شهادةً، فلا بد من الإتيان بفعلها المشتق منه، فلا يكفي قوله: أنا شاهدٌ بكذا؛ لأنه إخبارٌ عما اتصف به كقوله: أنا متحمل شهادة على فلان بكذا، ولا يكفي قوله: أعلم أو أحق أو أعرف أو أتحقق؛ لأنه لم يأت بالفعل المشتق من لفظ الشهادة، ولو قال: أشْهدُ بما وضعت به خطي، أو قال مَنْ تَقَدَّمَهُ غيره بشهادةٍ: أشْهَدُ بمثل ما شهد به لم يصح ذلك لما فيه من الإجمال والإبهام، وإن قال: بذلك أَشْهَدُ أو كذلك أَشْهَدُ صح لاتضاح معناه، وفي "النُّكت" (¬1): "القول بالصحة في الجميع". واختاره الشيخ تقي الدين، وابن القيم. (¬2) ¬
فصل في اليمين في الدعاوي
فَصْلٌ في اليَمِينِ في الدَّعاوي وهي تقطع الخصومة عند النزاع ولا تسقط حقا فتسمع البينة بعدها. وإن رجع حالف وأدى ما حلف عليه قبل وحل لمدع أخذه. ويستحلف منكر في كل حق آدمي لحديث: "لو يُعْطَى النَّاسُ بدعواهم لادَّعَى قومٌ دماءَ رجالٍ وأموالَهم ولكن اليمين على المدعي عليه" (¬1). غير نكاح ورجعة وطلاق وإيلاء إلا إذا أنكر مُوْلٍ مُضِيَّ الأربعة أشهر فإنه يستحلف، وغير أصل رق كدعوى رق لقيط وولاء واستيلاد ونسب وقذف وقصاص في غير قَسَامَةٍ فلا يمين في واحد من هذه العشرة؛ لأنها لا يقضى فيها بالنكول. ولا يستحلف منكر في حق اللَّه تعالى كحد زنا أو شرب أو سرقة أو محاربة؛ لأنه لو أقرَّ ثم رجع قبل منه وخلي سبيله بلا يمين فَلألَّا يستحلف مع عدم الإقرار أولى، ولأنه يستحب ستره والتعريض للمقر به ليرجع، وقال عليه السلام لهزّالٍ (¬2) في قصة ماعز "لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك" (¬3). ¬
ولا يستحلف في عبادة وصدقة وكفارة ونذر؛ لأنه حق للَّه تعالى أشبه الحد، ولا يستحلف شاهد أنكر تحمل شهادة ولا حاكم أنكر أنَّهُ حكم أو طلب يمينه أنه حكم بحق، ولا وصي على نفي دين على موصيه، ولا يحلف مدعى عليه بقول مدع ليحلف أنه ما أحلفني أني ما أحلفه، ولا مدع طلب يمين خصمه فقال: ليحلف أنه ما أحلفني؛ لأن ذلك كله لا يُقضى فيه بنكول فلا فائدة بإيجاب اليمين فيه على نفي ذلك؛ لأنه حق آدمي، وإن ادعى وصي وصية للفقراء فأنكر الورثة حلفوا، فإن نكلوا عن اليمين قضي عليهم بالنكول؛ لأنها دعوى بالمال. ومن حلف على فعل غيره كإن ادعى أن زيدا غصبه نحو ثوب أو اشتراه منه فأنكر وأقام المدعي شاهدا بدعواه وأراد الحلف معه أو دعوى عليه في إثبات بأن ادعى دينارًا على زيدٍ مَثلًا فانكر وأقام المدعي شاهدًا وأراد الحلف معه، أو حلف على فعل نفسه كمن ادعى عليه بدين فأنكر ولا بينة وأراد يمينه أو دعوى عليه حلف على البت أي القطع في الجميع، لحديث ابن عباس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لرجل حلفه: "قل واللَّه الذي لا إله إلا هو ماله عندي شيء" ¬
رواه أبو داود (¬1)، ومن حلف على نفي فعل غيره كمن ادعي عليه أن أباه غصبه أو سرق كذا وأنكر ولا بينة فعلى نفي العلم أو حلف على نفي دعوى عليه أي على غيره كإن ادعى دينًا على مورثه فأنكر ولا بينة فإنه يحلف على نفي العلم، لحديث الحضرمي حيث قال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألك بينةٌ؟ قال: لا ولكن أحلفه واللَّه ما يعلم أنها أرضي اغتصبها أبوه فتهيأ الكندي لليمين" رواه أبو داود (¬2)، فأقره عليه السلام، ولأنه لا يمكنه الإحاطة بفعل غيره بخلاف فعل نفسه، ورقيقه كأجنبي في ¬
حلفه على نفي عمله، فمن ادعى أن عبد زيد جنى علي فأنكر ربه ولا بينة حلف أنه لا يعلم أن عبده جنى على المدعي، وأما بهيمته إذا ادعى أنها جنت فما ينسب إلى تقصير أو تفريط فيه فإنه يحلف على البت وإلا فعلى نفي العلم. ومن توجه عليه حلف لجماعة حلف لكل واحد يمينًا؛ لأن حق كل منهم غير حق للبقية ما لم يرضوا بيمين واحدة فيكتفى بها، ولو ادعى واحد حقوقًا على واحد فعليه في كل يمين إلا أن تتحد الدعوى فيمينٌ واحدة كما في "المبدع" (¬1)، وتجزئ اليمين باللَّه تعالى وحده لقوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} (¬2) {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (¬3)، قال بعض المفسرين: من أقسم باللَّه فقد أقسم باللَّه جَهْدَ اليمين "واستحلف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ركانة بن عبد يزيد في الطلاق فقال: واللَّه ما أردت إلا واحدة" (¬4). ولحاكم تغليظها فيما فيه خطر كجناية لا توجب قودًا أو عتقٍ ونصاب زكاة لا فيما دون ذلك بلفظ كو اللَّه الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، قال ¬
الشافعي: "رأيتهم يؤكدون اليمين بالمصحف، ورأيت ابن مازن (¬1) قاضي صنعاء يغلظ اليمين به". (¬2) قال ابن المنذر: "ولا نترك سنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لفعل ابن مازن ولا غيره". ويقول يهودي غلظ عليه: واللَّه الذي أنزل التوراة على موسى وفلق له البحر وأنجاه من فرعون وملائه. ويقول نصراني غلظ عليه: واللَّه الذي أنزل الإنجيل على عيسى وجعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص. ويقول مجوسي ووثني: واللَّه الذي خلقني وصورني ورزقني؛ لأنه يعظم خالقه ورازقه أشبه كلمة التوحيد عند المسلم، ويحلف صابئ يعظم النجوم ورافضي يعظم عليًّا ومن يعبد غير اللَّه تعالى باللَّه تعالى لحديث: "من كان حالفا فليحلف باللَّه العظيم" (¬3). ¬
ولحاكم تغليظها بزمن كبعد العصر لقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} (¬1) قال بعض المفسرين: أي صلاة العصر (¬2) , ولفعل أبي موسى (¬3)، أو بين أذان وإقامة؛ لأنه وقت يرجى فيه إجابة الدعاء فترجى فيه معاجلة الكاذب بالعقوية. والتغليظ بمكان فبمكة بين الرُّكْنِ والمقام لزيادته على غيره في الفضيلة، وبالقدس عند الصخرة لفضيلتها، وفي سنن ابن ماجة مرفوعًا: "هي من الجنة" (¬4). وببقية البلاد عند المنبر لحديث مالك والشافعي وأحمد عن جابر ¬
مرفوعًا: "من حلف على منبري هذا بيمينٍ آثمةٍ فليتبوأ مقعده من النار" (¬1) وقيس ¬
عليه باقي منابر المساجد. ويحلف ذمي بموضع يعظمه كما يغلظ عليه بالزمان، قال الشعبي لنصراني: "اذهبْ إلى البيعة". (¬1) وقال كعب بن سور (¬2) في نصراني: "اذهبوا به إلى المذبح". (¬3) زاد بعضهم وتغليظه بهيئة كتحليفه قائمًا مستقبلًا القبلة كاللعان. ومن أبي التغليظ لم يكن ناكلًا عن اليمين؛ لأنه قد بذل الواجب عليه فوجب الاكتفاء به ويحرم التعرض له، وإن رأى الحاكم ترك التغليظ كان مصيبًا. ومن وجب عليه يمين فحلف وقال: إن شاء اللَّه أعيدت عليه؛ لأن الاستثناء يزيل حكمها وكذا إن وصل كلامه بشرط أو كلام غير مفهوم وتقدم. ¬
(كتاب الإقرار)
(كِتَابُ الإِقْرَارِ) وهو: الاعتراف، مأخوذ من الْمَقَرِّ وهو المكان، كأنَّ الْمُقِرَّ جعل الحق في موضعه. (¬1) وأجمعوا على صحة الإقرار للكتاب والسُّنَّة (¬2)، ولأنه إخبار بالحق على ¬
وجه منفيّة منه التهمة والريبة، فإن العاقل لا يكذب على نفسه كذبًا يضرها, ولهذا قدم على الشهادة فلا تسمع مع إقرار مدعى عليه، ولو كَذَّبَ مدعٍ بينته لم تسمع، ولو أنكر ثم أقر سمع إقراره. و(يَصِحُّ) الإقرار (مِنْ مُكَلَّفٍ) لا صغير غير مأذون ومجنون لحديث: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ" (¬1) (مُخْتَارٍ) لمفهوم: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬2) وكالبيع فيصح ممن عليه حق من دين أو غيره (بلفظٍ أو كتابةٍ أو إشارة [من] (¬3) أخرس لا على الْغَيْرِ)، فلا يصح إقراره بشيء في يد غيره كما لو أقرَّ أجنبي على صغيرٍ أو وقف في ولاية غيره أو اختصاصه (إِلّا مِنْ وَكِيْلٍ) فيصح على موكله فيما وكل فيه، (و) إلا من (وليٍّ) على موليه بما يمكن إنشاؤه لهما، (و) إلا من (وارثٍ) على مورثه بما يمكن صدقه. وليس الإقرار بإنشاء بل إخبار بما في نفس الأمر، فيصح الإقرار ولو مع إضافة الملك إليه كقوله: عبدي هذا أو داري لزيد ولو من سكران، وكذا من زال عقله ¬
بمعصية كمن شرب ما يزيله عمدًا بلا حاجة إليه كطلاقه وبيعه، أو من أخرس بإشارة معلومة لقيامها مقام نطقه ككتابته، أو من صغير مُمَيّزٍ أو قنٍّ أذن لهما في تجارةٍ في قدر ما أذن لهما فيه من المال لفك الحجر عنهما فيه. ولا يصح الإقرار من مكره عليه ولا بإشارة معتقل لسانه يرتجى نطقه، ويقبل من مقر ونحوه دعوى إكراه على إقرار بقرينة دالة عليه كسجنه أو أخذ ماله أو تهديد قادر على ما هدد به من ضرب أو حبس أو أخذ مال ونحوه لدلالة الحال عليه، وتُقَدَّمُ بينة إكراه على بينة طواعية؛ لأن مع بينة الإكراه زيادة علم، ومن أكره ليقر بدرهم فأقر بدينارٍ، أو أمره ليقر لزيد فأقر لعمرو، أو على أن يقر بدار فأقر بدابةٍ ونحوه حيث أقر بغير ما أكره عليه صح إقراره كما لو أقر به ابتداء؛ لأنه لم يكره عليه، أو أكره على وزن مال بحق أو غيره فباع داره أو نحوها في ذلك صح البيع نصًّا (¬1)؛ لأنه لم يكره عليه، وكره الشراء منه؛ لأنه كالمضطر إليه، وللخلاف في صحة البيع. (ويَصِحُّ) الإقرار (مِنْ مَرِيْضٍ مَرَضَ المَوتِ) المخوف بمال لغير وارث؛ لأنه غير متهم في حقه (لا) بمال (لوراث) فلا يصح (إلا ببيِّنةٍ، أَوْ) بـ (إِجَازة) باقي الورثة كالعطية، ولأنه محجور عليه في حقه فلم يصح إقراره له لكن يلزمه الإقرار إن كان حقًا وإن لم يقبل، والاعتبار يكون المُقَرِّ له وارثًا حالة إقراره، فلو أقر بمال لوارث حال ¬
إقراره لم يلزم، (ولو صَارَ عِنْدَ الموتِ أَجنبيًّا) كمن أقر لأخيه فحدث له ابن، أو قام به مانع لاقتران التهمة به حين وجوده فلا ينقلب لازمًا. (ويَصِحُّ) إقرارُ المريض (لأجنبي) كأخيه مع ابنه (وَلو صَارَ عِنْدَ الموتِ وارثًا) بأنْ مَاتَ الابن قبل المقرِّ له، وكذا لو أقر لأخ كافر ثم أسلم بعد موت مقر لوجود الإقرار من أهله خاليا من التهمة ولم يوجد ما يسقطه، ويصح إقرار مريض بإحبال أمته ونحوه مما يملك إنشاءه. (وإِعْطَاءٌ كإقْرَارٍ) فلو أعطاه وهو غير وارث ثم صار وارثا صح، وقال الشيخ منصور في "شرح المنتهى" (¬1): "وإن أعطاه وهو غير وارث ثم صار وارثًا وقف على إجازة الوَرَثة خلافًا لما في الترغيب وغيره كما تقدم" انتهى. (وإنْ أَقَرَّتْ) امرأة بنكاح على نفسها ولو كانت سفيهة قبل إقرارها؛ لأن النكاح حق عليها كما لو أقرت بمال، ولزوال التهمة بإضافة الإقرار إلى شرائطه كما أقرت ببيع وليها مالها قبل رشدها، (أَوْ) أقر عليها (وَلِيُّهَا بنكاحٍ) وهي مجبرة أو مقرة بالإذن (لم يَدَّعِهِ) أي النكاح (اثنان قُبِلَ)؛ لأنها لا قول لها إذًا، ولأنه يملك إنشاء العقد فملك الإقرار به، قال في "الشّرح" (¬2): "فإن ادعاه اثنان فأقرت لأحدهما لم يقبل منها؛ لأن الآخر يدعي ملك بضعها وهي معترفة أن ذلك قد ملك عليها فصار إقرارها بحق غيرها لأنها متهمة فإنها لو أرادت ابتداء تزويج أحد المتداعيين لم يكن لها قبل ¬
الانفصال من دعوى الآخر" انتهى. وهذه رواية الميموني (¬1)، واختاره القاضي وأصحابه، وجزم بها في "الوجيز" (¬2) " وصحّح في "الإنصاف" (¬3) و"تصحيح الفروع" (¬4) أنه يقبل إقرارها بالنكاح على نفسها وقال: "صحّحه المجد في "محرره" وصاحب "التصحيح" واختاره الموفق وجزم به في "المغني" في النكاح وجزم به في "المنوّر" وغيره، وقدمه صاحب "الإقناع" في باب طريق الحكم وصفته، وجزم به في المنتهى". (¬5) ومن ادعى نكاح صغيرة ولا بينة به فسخه حاكم وفرق بينهما؛ لأن النكاح لا يثبت بمجرد دعواه، ثم إن صدقته إذا بلغت قبل، وإن أقر رجل أو امرأة بزوجية الآخر فسكت صح وورث بالزوجية لقيامها بينهما بالإقرار، أو أقر أحدهما بزوجية ¬
الآخر وجحده ثم صدقه صح الإقرار وورثه ولا أثر لجحده قبل. وإن أقر ورثة بدين على مورثهم قضوه وجوبًا من تركته لتعلقه بها، وكذا إن ثبت ببينة أو إقرار ميت، وإن أقر بعضهم بلا شهادة فعلى الْمُقِرِّ منه بقدر إرثه من التركة، وإن شهد منهم عدلان أو عدل وحلف معه ثبت الحق لكمال نصابه، ويقدم من ديون تعلقت بتركة ميت دين ثابت ببينة نصًّا (¬1) فدين بإقرار ميت على ما أقر به ورثة؛ لأن إقرارهم في حقهم وإنما يستحقون التركة بعد أداء الدين الثابت عليها فوجب أداء ما ثبت بغير إقرارهم أولًا. (ويُقْبَلُ إِقرَارُ صَبيٍّ) تم (له عشر) سنين (أَنَّهُ بَلَغَ باحتلامٍ) ومثله جارية تم لها تسع سنين ولا يقبل إقراره ببلوغ بسن إلا ببينة، وإن أقر من جهل بلوغه حال إقراره بمال وقال بعد تيقن بلوغه: لم أكن حال إقراري بالغًا لم يقبل منه ذلك ولزمه ما أقر به؛ لأن الظاهر وقوعه على وجه الصحة، وكذا لو قال: كنت حال البيع صبيًا أو غير مأذون ونحوه وأنكره مشترٍ وتقدم، وإن أقر من شك في بلوغه ثم أنكر بعد بلوغه حال الشك صدق في ذلك؛ لأن الأصل الصغر بلا يمين. وإن أقر قِنٌّ ولو آبقًا بعد أو قودٍ أو طلاقٍ ونحوه صح وأخذ به في الحال لإقراره بما يمكن استيفاؤه من بدنه دون سيده؛ لأن سيده لا يملك منه إلا المال، ولحديث: " ¬
الطلاق لمن أخذ بالساق" (¬1) ما لم يكن القود في نفس ويكذبه سيده فيؤخذ بعد عتق نصًّا (¬2)، لأنه أقر برقبته وهو لا يملكها, ولأنه يسقط حق سيده أشبه إقراره بقتل الخطأ فيطلب جواب دعواه منه ومن سيده جميعًا؛ لأنه لا يصح من أحدهما عن الآخر، ولا يقبل إقرار سيده عليه بغير ما يوجب مالًا فقط كالعقوبة والطلاق والكفارة؛ لأنه إقرار على غير نفس المقر أشبه إقرار غير السيد عليه بخلاف إقرار السيد عليه بما يوجب مالًا؛ لأنه إيجاب حق في مال السيد فلزمه كما لو ثبت بالبينة، وإن أقرَّ قِنٌّ غير مأذون له بمال أو بما يوجبه أو أقر قِنٌّ مأذون له بما لا يتعلق بالتجارة فكإقرار محجور عليه يتبع به بعد عتقه نصًّا (¬3) عملًا بإقراره على نفسه كالمفلس، وما صح إقرار قِنٍّ به فهو الخصم فيه دون سَيِّدِه، وإلا يصح إقراره به كالذي يوجب مالًا فسيده الخصم فيه والقود في النفس هما خصمان فيه كما سبق. وإن أقرَّ قِنٌّ بسرقة مال بيده وكذبه سيده قبل إقراره في قطع يده في السرقة بشرطه لما تقدم دون مال فلا يقبل إقراره؛ لأنه حق سيده، والإقرار بشيء لقن غيره إقرار به لسيده؛ لأنه الجهة التي يصح الإقرار لها فتعين جعل المال له، فإن صدقه السيد لزمه ما ¬
أقر به. ويصح الإقرار لمسجدٍ أو مقبرةٍ أو طريقٍ ونحوه ولو أطلق فلم يعين سببًا، ولا يصح الإقرار لدار إلا مع ذكر السبب كغصب أو استئجار؛ لأن الدار لا تجري عليها صدقة غالبا بخلاف المسجد، ولا يصح إقراره لبهيمة إلا إن قال: على كذا بسببها. ويصح الإقرار لحمل آدمية بمال وإن لم يعزه إلى سبب لجواز ملكه إياه بوجه صحيح كالطفل، فإن وضع الحمل ميتا أو لم يكن حمل بطل إقراره؛ لأنه إقرار لمن لا يصح أن يملك، وإن ولدت حيا وميتا فالمقر به جميعه للحي بلا نزاع، وإن ولدت حيين فلهما بالسوية ولو ذكرا وأنثى ما لم يعز الإقرار إلى ما يوجب تفاضلا كإرث أو وصية يقتضيانه فيعمل به. ومن أقر لمكلف بمال في يده ولو برق نفسه مع جهل نسبه أو كان المقر به قنا فكذبه المقر له بطل إقراره، ويُقَرُّ الْمُقَرُّ به بيد الْمُقِرِّ؛ لأنه مال بيده لا يدعيه غيره ولا يقبل عود مقر له إلى دعواه، وإن عاد الْمُقِرُّ فادعاه لنفسه أو لثالث قبل منه ذلك لأنه في يده.
فصل فيما يحصل به الإقرار وما يغيره
فَصْلٌ فيْمَا يَحْصلُ بهِ الإِقْرَارُ ومَا يُغَيِّرهُ (ومن ادُّعِيَ عَلَيهِ بشيء) كألف أو مائة (فقال: نعم، أوْ) فقال: (بَلَى) فإقرار صحيح لقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (¬1) قال ابن عباس: "لو قالوا نعم لكفروا" (¬2) (ونحوهما) كقوله: أجَلْ -بفتح الهمزة والجيم وسكون اللام- لأنه حرف تصديق كنعم قال الأخفش (¬3): "إلا أنه أحسن من نعم في التصديق ونعم أحْسَنُ منه في الاستفهام". (¬4) ويدل على ¬
ذلك قوله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} (¬1) وقيل لسلمان (¬2): علمكم نبيكم كل شيء حتى الخِراءة قال: "أجَلْ" (¬3) أو ادعي عليه بألف فقال: صَدَقْت. أو قال: أنا أو إني مقر به أو مقر بدعواك أو مقر فقط فقد أقر؛ لأن هذه الألفاظ تدل على تصديق المدعي، (أَوْ) ادعي عليه بألف مثلًا فقال: (اتَّزِنهُ أوْ خُذْ) ـه، أو اقبضها، أو أحرزها، أو قال: هي صحاح أو قال: كأني جاحد لك أو كأني جحدتك حقك (فقد أَقَرَّ)، وكذا إن قال: "أقررت ¬
لقوله تعالى: {قَالُوا أَقْرَرْنَا} (¬1) فكان منهم إقرارًا (لا) إن قال: (خُذْ أو اتَّزِنْ ونحوه) كإحرز أو افتح كمك لاحتمال أن يكون لشيء غير المدعى به، أو قال: أنا أقر؛ لأنه وعد، أو لا أنكر؛ لأنه لا يلزم من عدم الإنكار الإقرار؛ لأن بينهما قسم آخر وهو السكوت، أو قال: يجوز أن تكون محقا لجواز أن لا يكون محقا، أو قال: عسى أو لعل؛ لأنهما للشك، أو قال: أظن أو أحسب أو أقدر لاستعمالها في الشك. وقول مدعى عليه: بلى في جواب أليس لي عليك كذا؟ إقرار بلا خلاف؛ لأن نفي النفى إثبات لا قوله: نعيم إلا من عامي فيكون إقرارا، كقوله: عشرة غير درهم -بضم الراء- يلزمه تسعة إذ لا يعرفه إلا الحاذق من أهل العربية، وإن قال: اقضني ديني عليك ألفا أو اشتر أو أعطني أو سلم لي ثوبي هذا أو فرسي هذه أو ألفا من الذي عليك أو هل لي عليك ألف؟ فقال: نعم، أو قال: أبي علميك ألف؟ فقال: نعم فقد أقر؛ لأنها صريحةٌ فيه أو قال: أمهلني يومًا أو حتى أفتح الصندوق فقد أقر؛ لأن طلبه المهلة يقتضي الحق عليه، أو قال: له علي ألف إن شاء اللَّه فقد أقرَّ به نصًّا. (¬2) وإن علَّق الإقرار بشرط قدوم كقوله: إن قدم زيد فلعمرو علي كذا, أو إن شاء زيدٌ ذلك عليَّ كَذا، أو إن جاء رأس الشهر فله عليَّ كذا لم يكن مقرًا؛ ¬
لأنه لم يثبت على نفسه شيئًا في الحال، وإنما علق ثبوته على شرط، والإقرار إخبار سابق فلا يتعلق بشرطٍ مستقبلٍ بل يكون وعدًا لا إقرارًا بخلاف تعليقه على مشيئة اللَّه فإنَّها تذكر في الكلام تبركا وتفويضًا إليه تعالى، كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (¬1) وقد علم اللَّه أنهم سيدخلونه بلا شك، أو قال: إن شهد به زيد فهو صادق أو صدقته لم يكن مقرًا؛ لأنه وعد بتصديقه له في شهادته لا تصديقه، ومتى فسر قوله بأجل أو وصية قبل منه ذلك بيمينه؛ لأنه لا يعلم إلا من جهته، كمن أقر بغير لسانه وقال: لم أرد ما قلت فيقبل منه بيمينه، وقال الشيخ تقي الدين: "إذا أقر عامي بمضمون محضر وادعى عدم العلم بدلالة اللفظ ومثله يجهله فكذلك". (¬2) قال -صلى اللَّه عليه وسلم-"الفروع" (¬3): "وهو متجه". وإن رجع مقرٌّ بحق آدميٍّ أو زَكاةٍ أو كَفَّارَةٍ لم يقبل لتعلق حق الآدمي المعين وأهل الزَّكاة به، (ولا يَضُرُّ الإنشاءُ فيهِ) أي في الإقرار. ¬
فصل فيما إذا وصل بإقراره ما يغيره
فَصْلٌ فيمَا إذا وصَلَ بإِقْرَارِهِ ما يُغَيِّرهُ (و) إذا قال: (له عَليَّ أَلفٌ لا يَلْزَمُنِيْ، أو) قال: له عليَّ ألف من (ثمنِ خمرٍ ونحوه) كَلَهُ عليَّ ألفٌ من مضاربة ووديعة، أو قال: له عَليَّ ألف قبضه أو استوفاه أو من ثمن مبيع لم أقبضه أو تلف قبل قبضه أو مضاربة تلفت وشرط عَليَّ ضمانها، أو قال: له عليَّ ألفٌ بكفالة تكفلت بها على أنني بالخيار فـ (يَلزَمُه أَلفٌ) في جميع ذلك؛ لأن ما ذكره بعد قوله: له علي ألف رفع لجميع ما أقر به فلا يقبل كاستثناء الكل. وإن قال: له علي من ثمن خمس ألف لم يلزمه شيء؛ لأنه أقرَّ بثمن خمر وقدره بألف وثمن الخمر لا يجب. (و) إن قال: (له) عليَّ ألفٌ، (أو كان) له (علي ألفٌ) وسكت فإقرار؛ لأنه أقر بالوجوب ولم يذكر ما يرفعه فبقي على ما كان عليه، وإن وصل قوله له أي كان لك عليَّ كذا بقوله (قضيْتُهُ) إيَّاه أو قضيته بعضه (أَوْ بَرِئْتُ منه) ولم يعزه لسبب (فـ) يقبل (قوله) بيمينه نصًّا (¬1) طبقًا لجوابه لأنه منكر ويخلى سبيله حيث لا بينة (وإنْ ثَبتَ) ما أقر به (ببينةٍ أوْ عَزَاهُ) أي المقر به (لسببٍ) ¬
بأن قال: من قرض أو ثمن مبيع ونحوه فقد اعترف بما يوجب الحق (فلا) يقبل قوله أنه بريء منه إلا ببينة. (وإِنْ أَنْكَرَ) مدعى عليه (سببَ الحقِّ) فثبت (ثم ادَّعَى الدفع) أو الإبراء قبل إنكاره لم يسمع منه وإنْ أتَى (ببينةٍ) نَصًّا (¬1)، فلو ادعى عليه ألفًا من قرض فقال: ما اقترضت منه شيئًا أو من ثمن مبيع فقال: ما ابتعت منه شيئًا ثم ثبت أنه اقترض أو اشترى ببينة أو إقرار فقال: قضيته من قبل هذا الوقت أو أبرأني (لم يقْبَلْ) منه ولو أقام بينة؛ لأن انقضاء أو الإبراء لا يكون إلا عن حق سابق، وإنكار الحق يقتضي نفي القضاء أو الإبراء منه فيكون مكذبا لدعواه وبينته فلا تسمع لذلك، بخلاف ما لو ادعى قضاء أو إبراءً بعد إنكاره فإنها تسمع دعواه بعد ذلك وتقبل بينته؛ لأن قضاءه بعد إنكاره كالإقرار فيكون قاضيًا لما هو مُقِرٌّ به فتسمع دعواه به كغير المنكر. ويصح استثناء النصف فأقل قال الزَّجَّاجُ: "لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير". (¬2) ولو قال: مائة إلا تسعة وتسعين لم يكن متكلما بالعربية فيلزم المقر ألف في قوله: له علي ألف إلا ألفا أو له علي ألف إلا ستمائة لبطلان الاستثناء، ويلزمه خمسة في قوله: ليس لك عليَّ عشرة إلا خمسة؛ لأنه استثنى النصف، والاستثناء ¬
من النفي إثباتٌ بشرط أن لا يسكت زمنا يمكنه كلام فيه، وأن لا يأتي بكلام أجنبي بينهما؛ لأنه إذا سكت بينهما أو فصل بكلام أجنبي فقد استقر حكم ما أقر به فلم يرتفع بخلاف ما إذا اتصل فإنه كلام واحد، وبشرط أن يكون المستثنى من الجنس المستثنى منه ونوعه؛ لأن الاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ بموضعه وغير ذلك لا يتناوله اللفظ بموضعه، وإن قال: له هذه الدار وَلِيَ نصفها أو إلا نصفها أو إلا هذا البيت، أو قال: هذه الدار له وهذا البيت لي قُبل منه ذلك حيث لا بينة تخالفه ولو كان البيت أكثرها؛ لأن الإشارة جعلت الإقرار فيما عدا الاستثناء فالمقر به معين فوجب أن يصح لا إن قال: له الدار إلا ثلثيها ونحوه.
فصل
فَصْلٌ إذا قال: له عليَّ ألف درهم مثلا مؤجلة إلى كذا قُبلَ قولُه في تأجيله نَصًّا (¬1)؛ لأنه مقر بها بصفة التأجيل فلم يلزمه إلا كذلك حتى ولو عزاه إلى سبب قابل للأمرين كالأجرة والصداق والثمن والضمان، وإن قال: له عليَّ ألف وسكت ما يمكن كلام فيه ثم قال: مؤجلة أو زيوف أو صغار لزمته حالّة جيادا وافية لحصول الإقرار بها مطلقا فينصرف إلى الجيد الحال "الوافي" وما أتى به بعد سكوته دعوى لا دليل عليها إلا من بلد أوزان أهلها ناقصة أو نقدهم مغشوش فيلزمه من دراهمها لانصراف الإطلاق إليه. ولو قال: له عليَّ ألف زُيُوف قبل تفسيره بمغشوشة لا بما لا فضة فيه؛ لأنه لا يسمى دراهم، وإن قال: له عندي ألف وفسره بدينٍ أو وديعةٍ قُبل، قال في "الشرح" (¬2): "لا نعلم فيه بين أهل العلم خلافًا سواء فسره بكلام متصل أو منفصل؛ لأنه فسر لفظه بما يقتضيه". فلو فسره بوديعة ثم قال: قبضه أو تلف قبل ذلك أو قال: ظننته باقيا ثم علمت تلفه قُبل منه ذلك بيمينه لثبوت أحكام الوديعة. وإن قال من ادعي عليه بألف: هو رهن فقال المدعي: بل وديعة فقول ¬
مدع؛ لأن المقر أقر له بمال وادعى أن له به تعلقًا فلم يقبل منه كما لو ادعاه بكلام منفصل، أو قال: له عليَّ ألف من ثمن مبيع لم أقبضه فقال مقر له: بل هو دين في ذمتك فقول مدعٍ بيمينه؛ لأنه اعترف له بدين وادَّعى عليه مَبيعًا، ولو قال: له عليَّ أو في ذمتي ألف وفسره متصلا بوديعة قُبل؛ لأن الوديعة عليه حفظها، وردها ولا يقبل دعوى تلفها للتناقض إلا إذا انفصلت عن تفسيره فيُقبل. ويصح قول جائز التصرف: دَيْنِيْ الذي على زيد لعمرو لأنه قد يكون وكيلًا لعمرو أو عاملًا له والإضافة لأدنى ملابسةٍ كقوله: لزيد من مالي أو فيه أو له في ميراثي من أبي ألف ولو لم يقل بحق لزمني لجواز إضافة الإنسان إلى نفسه مال غيره لاختصاص له به لما تقدم، فإن فسر إقراره بذلك بهبة وقال: بدالي من تقبيضه قُبِلَ لأنه محتمل. (ومَنْ أَقَرَّ بقَبْضِ) ثمنٍ أو أجرة أو مبيع (أَوْ) أقر بـ (إقْبَاضٍ أو هِبةٍ) لزيد (ونحوهنَّ) (¬1) كرهن لزيد مثلا (ثُمَّ أَنْكَرَ) فقال: ما قبضت ولا أقبضت (ولم يجحدْ إِقْرَارَهُ) بالقبض أو الإقباض (ولا بينة، وسأل إحلاف خَصْمِهِ لَزِمَهُ) لجريان العادة بالإقرار بذلك قبله. (ومَنْ بَاعَ أوْ وَهَبَ أو أَعْتَقَ) قِنًّا (ثُمَّ أَقَرَّ بذلكَ) أي بما باعه أو وهبه أو أعتقه (لغيرِهِ لم يُقْبَلْ) إقرارُه على مشتر أو متهب أو عتيق؛ لأنه أقر على غيره وتصرفه نافذ، (و) يلزمه أن (يغرمهُ) أي بدله (لِمُقَرٍّ له، وإِنْ قال: لم يكن ملكى ثُمَّ مَلكتُهُ بعدُ ¬
قُبِل ببينةٍ) تشهد به (ما لم يُكذِّبها) أي البينة (بنحو) قوله: (قبضتُ ثمن ملكي) أو قوله: أنه ملكي، فإن وجد ذلك لم تسمع بينته؛ لأنها تشهد بخلاف ما اقر به، ومن قال: قبضت من فلانٍ ألفًا وديعة فتلفت فقال: ثمن مبيع لم تقبضنيه لم يضمن، ويضمن إن قال: غصبا وعكسه أي أعطيتني ألفا وديعة فقال مقر له: بل أخذت مني الألف غصبا فيحلف الْمُقَرِّ له ويأخذه. (ولا يُقْبَلُ رُجوعُ مُقِرٍّ) عن إقراره (إِلّا في حدٍّ للَّه) تعالى.
فصل في الإقرار بالمجمل
فَصْلٌ في الإِقْرَارِ بالْمُجْمَلِ وهو: ما احتمل أمرين فأكثر على السَّواء (¬1). وقيل: ما لا يفهم معناه عند الإطلاق (¬2) , ضد الْمُفَسَّر. (ومَنْ (¬3) قال: له علي شيءٌ أَوْ) قال: له عليَّ (كذا) أو كرر ذلك بواو فقال: له عليَّ كذا وكذا أو بدون واو فقال: كذا كذا، (أَوْ) قال: له عليَّ (مالٌ عظيمٌ ونحوُهُ) كمالٍ خطيرٍ أو كثيرٍ أو جليلٍ أو نفيسٍ أو عزيزٍ صَحَّ إقرارُهُ، وقيل له: فَسِّرْ ويلزمه تفسير، قال في "الشرح" (¬4): "بغير خلاف نعلمه". ويفارق الإقرار الدعوى حيث لا تصح بالمجهول؛ لأنها للمدعي والإقرار على المقر فلزم تبيين ما عليه مع الجهالة دون الذي له. وتصح الشهادة بالإقرار بالمجهول. فإن قيل له: فَسِّرْ (وأبى تَفْسِيْرَهُ) أي تبيينه (حُبِس حَتى يُفَسِّرَهُ) لامتناعه من حق عليه فحبس به كما لو عينه وامتنع عن أدائه، وإنْ فَسَّرَهُ بشيء وصدقه المقر له وادعاه فصدقه المقر ثبت عليه أيضًا، وإن كذبه وامتنع من البيان قيل له: إن بينت وإلا ¬
جعلت ناكلًا، ويُقْبَلُ تفسيره بحد قذف عليه للمقر له؛ لأنه حق عليه فيحد لقذفه بطلبه، ويقبل تفسيره بحق شفعة؛ لأنه حق واجب يؤول إلى المال، (ويُقْبَلُ) تفسيره أيضًا (بأَقَلِّ مَالٍ)؛ لأن الشيء يصدق عليه أقل مالٍ، ولأن العظيم والخطير والكثير لا حد له شرعًا ولا لغةً ولا عرفًا ويختلف الناس فيه فقد يكون عظيمًا عند بعض حقيرًا عند غيره، ويقبل تفسيره بأم ولد؛ لأنها مال يغرم قاتلها قيمتها. (و) يقبل تفسيره (بـ) ما يجب رده كـ (كلبٍ مُباحٍ) نفعه ككلب الصيد والماشية في الأصح؛ لأنه شيء يجب رده وتسليمه إلى المقر له والإيجاب يتناوله فقبل لذلك. و(لا) يقبل تفسيره (بميتةٍ) نجسة (أَوْ خمرٍ) وخنزير؛ لأنها ليست حقا عليه، فإن كانت الميتة طاهرة كسمك وجراد يتمول قبل، ولا يقبل تفسيره برد سلام وتشميت عاطس وعيادة مريض وإجابة دعوة وصلة رحم؛ لأن ذلك كله لا يثبت في الذمة وإقراره يدل على ثبوت الحق في ذمته، (أَوْ) بغير متمول عادة كـ (قِشْرِ جَوزَةٍ ونحوِهِ) كحبة بر أو حبة شعير أو نواة ونحو ذلك؛ لأن إقراره اعتراف بحق عليه يثبت مثله في الذمة بخلاف نحو هذه. فإنْ مَاتَ الْمُقِرُّ بمجمل قبل التفسير لم يؤاخذ وارثه بشيء ولو خلف تركة لاحتمال أن يكون حد قذف، وإن قال: لا علم لي بما أقررت به حلف على ذلك إن طلبه مُقِرٌّ له ولزمه ما يقع عليه الاسم كالوصية، وإن قال: غصبت منه أو غصبته شيئًا قبل تفسيره بخمرٍ وكلب وجلد ميتة نجسة لوقوع اسم الشيء عليه، والغصب هو الاستيلاء عليه، وإن قال: غصبته فقط قبل تفسيره بحبسه وسجنه؛ لأن غصب الحر هو
ذلك، وله علي دراهم أو دراهم كثيرة يقبل تفسيره بثلاثة دراهم فأكثر، وكذا لو قال: دراهم عظيمة أو وافرة؛ لأن الكثيرة والعظيمة والوافرة لا حد لها لغة ولا عرفا وتختلف باختلاف الإضافة وأحوال الناس، والثلاثة أكثر مما دونها وأقل مما فوقها, ولأن الثلاثة أقل الجمع وهو اليقين فلا يجب عليه ما زاد عليها بالاحتمال، وله عليَّ حبة أو جوزة أو نحوهما ينصرف إطلاقه إلى الحقيقة ولا يقبل تفسيره ذلك بحبة بر ونحوها ولا بشيء من خبز ونحوه بقدر جوزة، وله عليَّ كذا درهم، أو كذا وكذا درهم، أو كذا كذا درهم بالرفع أو بالنصب لدرهم لزمه درهم في الصور الثلاث، وإن قال: الكل بالجر لزمه بعض درهم أو وقف لزمه بعض درهم ويفسره، فإن قال: أردت جزءًا من ألف جزء من درهم قُبل منه، وإن قال: بعض العشرة قبل تفسيره بما شاء منها وشطرها نصفها. وله عليَّ ألف إلا درهما فالجميع دراهم أو ألف إلا دينار فالجميع دنانير؛ لأن العرب لا تستثني في الإثبات إلا من الجنس، فمتى علم أحد الطرفين علم الآخر، ويقال: الاستثناء معيار العموم. وله عليَّ دراهم بدينار لزمه دراهم بسعره؛ لأنه مقتضى لفظه، وله في هذا العبد أو الثوب أو الفرس شرك أو هو شريكي فيه أو هو شرك بيننا أولى وله أو له فيه سهم قبل تفسيره قدر حق الشريك؛ لأن الشركة تارة تقع على النصف وتارة على ما دونه وتارة على ما هو أكثر منه. ومتى تردد اللفظ بين شيئين فأكثر رجع في تفسيره إلى الْمُقِرِّ؛ لأنه لا
يعرف إلا من جهته. ومن قال: له عندي ما بين درهم وعشرة لزمه ثمانية دراهم؛ لأنها ما بينهما, وله من درهم إلى عشرة لزمه تسعة؛ لأنه جعل العشرة غاية وهي غير داخلة، قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬1) بخلاف ابتداء الغاية؛ لأنه داخل في مُغَيَّاها، أو قال: له علي ما بين درهم إلى عشرة لزمه تسعة لما تقدم، وإن أراد مجموع الأعداد لزمه خمسة وخمسون، قال في "الشرح" (¬2): "واختصار حسابه أن تزيد أول العدد وهو واحد على العشرة فيصيرُ أحد عشر ثم اضربها في نصف العشرة فما بلغ فهو الجواب". (ولهُ) عندي (تمرٌ في جِراب) (¬3) -بكسر الجيم- (أَوْ) له عندي (سكين في قِرابٍ (¬4) أو) له عندي (فَصٌّ في خاتمٍ ونحو ذلك) كَلَهُ عندي ثوب في منديل أو عبد عليه ¬
عمامة أو دابة عليها سرج، أو له عندي فصٌّ فيه خاتم أو جراب في تمر أو قراب سيف أو منديل فيه ثوب ونحو ذلك (يلزمُهُ الأول) فهو إقرار بالأول دون الثاني؛ لأن الأول لم يتناول الثاني، وذكره في سياق الإقرار لا يلزم منه أن يكون مقرًا له؛ لأنه كما يحتمله يحتمل أن يكون للمقر فلا نوجبه عليه بالشك. وإن قال: له عبد بعمامة أو بعمامته لزماه؛ لأن الباء تعلق الثاني بالأول، أو قال: له فرس مسرج أو بسرجه، أو له سيف بقراب أو بقرابه، أو له سرج مفضفض، أو ثوب مطرز أو معلم لزمه ما ذكره؛ لأن الباء تعلق الثاني بالأول، والوصف يبين الموصوف ويوضحه فلا يغايره، وإن قال: له خاتم فيه فصٌّ كان مقرًا بهما؛ لأن الفصّ جزء من الخاتم. (وإقرارٌ بشجرٍ) أو شجرة (ليس إقرارًا بأرضِهِ)؛ لأن الأصل لا يتبع الفرع بخلاف إقراره بالأرض فيشمل غرسها وبناءها وتقدم، فلا يملك مقر له بشجرة غرس مكانها لو ذهبت؛ لأنه غير مالك للأرض، ولا أجرة على مقر له بشجرة ما بقيت، (و) إقراره (بأمةٍ) حاملٍ (ليس إقرارًا بحملها)؛ لأنه ظاهر اللفظ وموافق للأصل ودخوله مشكوك فيه، (و) مثله لو أقر بفرسٍ أو أتانٍ أو ناقةٍ حامل ونحوها، أو إقرار (ببستانٍ يَشْمَلُ أشجَارَهُ) وبناءه وأرضه؛ لأنه اسم للجميع إلا أن يمنع مانع ككون الأرض عنوة. (وِإنْ ادَّعَى أحدُهُما) أي المتعاقدين (صحّةَ الْعَقْدِ) من بيع أو إجارة أو غير ذلك (والآخرُ فَسَادَهُ) أي العقد (فـ) القول (قولُ مُدَّعي الصِّحَّةِ) بيمينه؛ لأن
الأصل في عقود المسلمين الصحة. (واللَّه سبحانه [وتعالى] (¬1) أعلم بالصواب). وقد نجز الكتاب بمعونة الملك الوهاب برقم كاتبه الفاني ومؤلفه محمد البلباني (¬2) عفا اللَّه عنه وسامحه برحمته آمين رابع عشرة شعبان سنة 1055 هـ، وهذا آخر ما نجز من شرح هذا المختصر المبارك والحمد للَّه أولًا وآخرًا وباطنًا وظاهرًا، نسأله تعالى حسن الختام والوفاة على الإسلام، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬3)، قال ذلك جامعه فقير رحمة ربه: عثمان بن عبد اللَّه النجدي الحنبلي عفى اللَّه عنه وغفر له ولوالديه ولمشائخه والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات بمنّه وكرمه، كان إتمامه في يوم الجمعة المبارك غرة ذي الحجة الحرام سنة 1224 هـ بمدينة الْمُبرَّز من الأحساء (¬4) المحروسة حرسها اللَّه على العباد، وجعلها دار ¬
إسلام إلى يوم التناد، والحمد للَّه عودًا على بدءٍ والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ما غاب نجم وبدا وسلم تسليمًا كثيرًا. ***
الخاتمة الحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات، أحمده سبحانه على أن وفقني لتحقيق جزء من هذا الكتاب ودراسته، وقد حرصت أن يكون على الصورة التي أراد له مؤلفه، وقد توصلت من خلال هذه الدراسة للنتائج التالية: - 1 - قيمة الكتاب العلمية، حيث أنه شرح لمن من المتون المعتبرة في المذهب. 2 - يتميز الكتاب بكثرة موارده التي استقى منها مادة الكتاب مع أصالتها وتنوعها. 3 - وفرة الأدلة الشرعية مع تنوعها. 4 - اهتمامه بالتعريفات اللغوية والاصطلاحية والشرعية، وشرح لبعض الألفاظ الغريبة. 5 - أن مصادر ترجمة المؤلف كانت شحيحة جدًا فيما يتعلق بحياته الشخصية والعلمية ومع ذلك فقد حاولت إبراز هذين الجانبين بما أتيح لي من مصادر. هذا وأسأل اللَّه تعالى حسن الختام، وأن يكتب لي الأجر والمثوبة على ما قدمته في خدمة هذا الكتاب، كما أسأله أن يغفر لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات، وأن يتجاوز عني ما كان من خطأ أو نسيان، فهو حسبي ونعم الوكيل. وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المراجع [جـ 3، 4]
فهرس المصادر والمراجع • أحكام القرآن، محمد بن إدريس الشافعي، ت 204 هـ، تحقيق عبد الغزي عبد الخالق، دار الكتب العلميَّة، بيروت (1400 هـ). • الآحاد والمثاني، أحمد بن عمرو بن أبي العاصم الشيباني، ت 287 هـ، تحقيق الدكتور باسم فيصل الجوابرة، طُبع (1411 هـ - 1991 م)، دار الراية، الرياض. • آداب الزفاف، محمد ناصر الدين الألباني، ت 1420 هـ، الطبعة اثاية، (1409 هـ)، المكتبة الإسلاميّة، عمان، الأردن. • الآداب الشرعيَّة والمنح المرعيَّة، محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي، ت 763 هـ، مكتبة ابن تيمية، القاهرة. • أحكام القرآن، أحمد بن علي الجصاص، ت 370 هـ، تحقيق محمد الصادق قمحاوى، دار إحياء التراث العربي، بيروت. • أخبار القضاة، وكيع محمد في خلف بن حيان، ت 306 هـ، عالم الكتب، بيروت. • أخصر المختصرات، في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، محمد بدر الدين بن بلبان الدمشقي، ت 1083 هـ، تحقيق محمد بن ناصر العجمي، الطبعة الأولى، (1416 هـ)، دار البشائر الإِسلامية، يبروت. • أدب القاضى، علي بن محمد بن حبيب الماوردى، ت 450 هـ، تحقيق محيي هلال السرحان، مطبعة الإرشاد، بغداد، (1391 هـ). • الأدب المفرد، محمد بن إسماعيل البخاري، ت 256 هـ، الطبعة الأولى، (1406 هـ)، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت. • أساس البلاغة، محمود بن عمر بن محمد الزمخشري، ت 538 هـ، طُبع (1385 هـ - 1965 م)، دار صادر، بيروت. • أسد الغابة في معرفة الصحابة، علي بن محمد الجزري، المشهور بعز الدين بن الأثير، ت 630 هـ، الشعب. • الأسماء المبهمة في الأغنياء المحكمة، أحمد بن علي الخطيب البغدادي، ت 463 هـ، تحقيق الدكتور عز الدين علي السيد، الطبعة الأولى، (1405 هـ - 1984 م) مطبعة المدني، القاهرة. • الأشباه والنظائر في النحو، الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت
911 هـ، تحقيق الدكتور عبد العال سالم مكرم، الطبعة الأولى، (1406 هـ - 1985 م)، مؤسسة الرسالة، بيروت. • الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، ت 911 هـ، الطبعة الأولى، (1403 هـ)، دار الكتب العلمية بيروت. • أصول السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، ت 490 هـ، تحقيق أبو الوفاء الأفغاني، طُبع (1393 هـ - 1973 م)، دار المعرفة، بيروت. • أعلام الموقعين عن رب العالمين، محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، دار الجيل، بيروت، (1973 هـ). • أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام، عمر رضا كحالة، ت 1408 هـ، الطبعة الثالثة، (1397 هـ)، مؤسسة الرسالة، بيروت. • الأعلام قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين، خير الدين محمود الزركلي، ت 1396 هـ، الطبعة العاشرة، (1992 م)، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان. • الأغاني، علي بن الحسين بن محمد الأصفهاني، ت 356 هـ، طبعة الساسي. • الأم، محمد بن إدريس الشافعي، ت 204 هـ، الطبعة الأولى، (1400 هـ)، دار الفكر، بيروت، لبنان. • الأموال، أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي، ت 224 هـ، تحقيق محمد خليل هراس، طُبع (1395 هـ - 1975 م)، مكتبة الكليات الأزهرية، ودار الفكر، القاهرة. • أنساب الأشراف، أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، ت 279 هـ، تحقيق الدكتور سهيل نكار، ورياض زركلي، الطبعة الأولى، (1417 هـ - 1996 م)، دار الفكر، بيروت. • الأنساب، عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني، ت 562 هـ، صححه الشيخ عبد الرحمن المعلمي اليماني، الطبعة الأولى، (1386 هـ - 1966 م)، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند. • الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف، محمد بن إيراهيم بن المنذر النيسابوري، ت 318 هـ، تحقيق صغير أحمد حنيف، الطبعة الأولى، (1405 هـ)، دار طيبة، الرياض. • أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، عبد اللَّه بن يوسف بن أحمد بن عبد اللَّه بن هشام، ت 761 هـ، ومعه كتاب عدة السالك إلى تحقيق أوضح المسالك، محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الخامسة، (1399 هـ)، دار الجيل، بيروت. • إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين، محمد بن محمد الحسيني الزبيدي، ت
1205 هـ دار إحياء التراث العربي، بيروت. • الإجماع، محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابورى، ت 318 هـ، تحقيق صغير أحمد محمد حنيف، الطبعة الأولى، (1402 هـ)، دار طيبة، الرياض. • الإحسان في تقريب صحيح بن حبان، علي بن بلبان الفارسي، ت 739 هـ، تحقيق شعيب الأرنؤوط، الطبعة الأولى، (1412 هـ)، مؤسسة الرسالة، بيروت. • الإحكام في أصول الأحكام، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهرى، ت 456 هـ، مطبعة العاصمة، القاهرة. • الإحكام في أصول الأحكام، علي بن أبي علي بن محمد الآمدي، ت 631 هـ، الطبعة الأول، (1387 هـ)، مؤسسة النور. • إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، ت 1420 هـ، الطبعة الأولى، (1399 هـ)، المكتب الإِسلامي، بيروت، ودمشق. • الإرشاد إلى سبيل الرشاد، الشريف محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي، ت 428 هـ، تحقيق عبد اللَّه التركي، الطبعة الأولى (1419 هـ)، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. • الإشراف على مذاهب أهل العلم، محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، ت 318 هـ، (من كتاب النكاح إلى نهاية كتاب الاستبراء) تحقيق صغير أحمد محمد حنيف، الطبعة الأولى، دار طيبة، الرياض. • الإشراف على مذاهب أهل العلم، محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري، ت 318 هـ، (من كتاب الشفعة إلى نهاية كتاب الوكالة) تحقيق محمد نجيب سراج الدين، الطبعة الأول، (1406 هـ)، دار الثقافة، الدوحة. • الإصابة في تمييز الصحابة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، وعلي بن محمد معرض، الطبعة الأولى (1415 هـ)، دار الكتب العلميَّة، بيروت. • إعراب القرآن وبيانه، محيي الدين درويش، الطبعة الثالثة، (1412 هـ - 1992 م)، دار ابن كثير، دمشق. • إفاضة الأنوار على أصول المنار، محمد علاء الدين بن علي الحَصْكَفِيْ الحنفيْ، ت 1088 هـ، تحقيق محمد سعيد البرهاني، الطبعة الأولى، (1413 هـ - 1992 م). • الإفصاح عن معاني الصحاح، في مذاهب الأئمة الأربعة، الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة، ت 560 هـ، المؤسسة السعدية، الرياض. • الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، محمد الشربيني الخطيب، تحقيق مكتب البحوث
والدراسات، دار الفكر، بيروت، ط 1415 هـ. • الإقناع لطالب الانتفاع، موسى بن أحمد بن موسى الحجاوي المقدسي، ت 968 هـ، دار المعرفة، بيروت. • الإقناع، محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابورى، ت 318 هـ، تحقيق الدكتور عبد اللَّه بن محمد العزيز الجبرين، الطبعة الثانية، (1414 هـ)، مكتبة الرشد، الرياض. • إكمال الإعلام بتثليث الكلام، محمد بن عبد اللَّه بن مالك الجياني الطائي، ت 672 هـ، تحقيق سعد حمدان الغامدي، الطبعة الأولى، (1404 هـ - 1984 م)، مكتبة المدني، جدة. • إمارة الزبير بين هجرتين، 979 - 1342 هـ، محمد الرزاق محمد المحسن الصانع، وعبد العزيز عمر العلى، الطبعة الأولى، (1408 هـ)، مطابع مقهوي، الكويت. • إنباء الغَمر بأبناء العمر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد، الهند، (1395 هـ - 1975 م) • إنباه الرواة على أنباه النحاة، الوزير جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف القفطي، ت 624 هـ، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهم، الطبعة الأولى، (1406 هـ - 1986 م)، دار الفكر العربي، القاهرة. • الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، علي بن سليمان بن أحمد المرداوي، ت 885 هـ، تحقيق الدكتور عبد اللَّه بن محمد المحسن التركي، الطبعة الأولى، (1417 هـ) دار هجر، القاهرة، مصر. • إيجاز البيان عن معاني القرآن، محمود بن أبي الحسن النيسابورى، ت 553 هـ، تحقيق الدكتور علي بن سليمان العبيد، الطبعه الأولى، (1418 هـ - 1997 م)، مكتبة التوبة. • إيضاح الإشكال، محمد بن طاهر المقدسي، تحقيق د. باسم الجوابرة، (1408 هـ - 1988 م)، مكتبة المعلا، الكويت. • ابن تيمية حياته وعصره وآراؤه الفقهية، محمد بن أحمد أبو زهرة، ت 1394 هـ، دار الفكر العربي. • ابن قدامة وآثاره الأصوليَّة، د. محمد العزيز السعيد، الطبعة الثالثة، (1403 هـ)، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية الشريعة، الرياض. • الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، اختارها الشيخ علي بن محمد بن عباس البعلي، ت 803 هـ، المؤسسة السعدية، الرياض. • الاستذكار، يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر، ت 463 هـ، تحقيق الدكتور
عبد المعطي أمين قلعجي، الطبعة الأولى، (1414 هـ)، "دار قتيبة"، دمشق، وبيروت، و"دار الوغى"، حلب، والقاهرة، توزيع مؤسسة الرسالة. • الاستيعاب في معرفة الصحابة، يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر، ت 463 هـ، تحقيق على محمد البجاوي، مكتبة نهضة مصر، الفجالة. • البحر الرائق شرح كنز الدقائق، زين الدين بن إبراهم بن محمد الشهير بابن نجيم، ت 970 هـ، دار المعرفة، بيروت. • البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، أحمد بن يحيى بن المرتضى، ت 840 هـ، الطبعة الثانية، (1394 هـ - 1975 م)، مؤسسة الرسالة، بيروت. • البحر المحيط في التفسير، محمد بن يوسف بن علي، أبو حيان الأندلسي، ت 754 هـ، عُني به صدقي محمد جميل، المكتبة التجارية، مكة المكرمة. • بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبو بكر بن مسعود الكاساني، ت 587 هـ، الطبعة الثانية، (1406 هـ)، دار الكتب العلميَّة، بيروت. • بداية المجتهد ونهاية المقتصد، محمد بن أحمد بن رشد القرطبي, ت 595 هـ، الطبعة السابعة، (1405 هـ)، دار المعرفة، بيروت. • البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، ت 774 هـ، تحقيق أحمد عبد الوهاب فتيح دار الحديث، القاهرة، (1414 هـ). • البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، محمد بن علي الشوكاني، ت 1250 هـ، الطبعة الأولى، (1348 هـ) مطبعة السعادة، القاهرة. • بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة, جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت 911 هـ، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهم، الطبعة الأولى، (1384 هـ - 1964 م)، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه. • بلوغ المرام من أدلة الأحكام، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، دار الفكر، بيروت، (1415 هـ). • تاج العروس في شرح القاموس، محمد بن محمد الزبيدي، ت 1205 هـ، تحقيق عبد الكريم العزباوي، مطبعة حكومة الكويت، (1386 هـ - 1967 م). • التاج والإكليل لمختصر خليل، محمد بن يوسف العبدري، ت 897 هـ، الطبعة الثانية، (1398 هـ)، دار الفكر، بيروت. • تاريخ الأدب العربي، أحمد حسن الزيات، الطبعة السادسة (1354 هـ - 1935 م)، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
• تاريخ الأمم والملوك، محمد بن جرير الطبري، ت 310 هـ، الطبعة الأولى، (1407 هـ)، دار الكتب العلميَّة، بيروت. • تاريخ آداب اللغة العربية، جرجي زيدان، راجعه وعلق عليه د. شوقي ضيف، دار الهلال. • تاريخ مدينة دمشق، علي بن الحسن بن هبة اللَّه، المعروف بابن عساكر، ت 571 هـ، تحقيق محب الدين أبي سعيد، وعمر بن غرامة العمروي، الطبعة الأولى، (1418 هـ - 1997 م)، دار الفكر، بيروت. • تجريد العناية في تحرير أحكام النهاية، لأبي الحسن علي بن محمد بن عباس البعلي الحنبلي، الشهير بابن اللحام، ت 803 هـ، رسالة ماجستير، تحقيق: د. عبد اللَّه العمار، كلية الشريعة بالرياض (1403 هـ). • تحرير ألفاظ التنبيه، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، ت 676 هـ، تحقيق عبد الغني الدقر، الطبعة الأولى، (1408 هـ - 1988 م)، دار القلم، دمشق، وبيروت. • التحفة النبهاية في تاريخ الجزيرة العربية، محمد بن خيفة بن حمد النبهاني، الطبعة الأولى (1406 هـ - 1986 م)، دار إحياء العلوم، بيروت، لبنان. • تحفة الودود بأحكام المولود، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزيَّة، ت 751 هـ، الطبعة الأولى، (1403 هـ)، دار الكلمة الطيبة. • التحقيق في أحاديث الخلاف، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد، الشهير بابن الجوزي، ت 597 هـ، تحقيق محمد فارس، الطبعة الأولى، (1415 هـ - 1994 م) دار الكتب العلميَّة، بيروت. • التحقيقات المرضية في المباحث الفرضية، د. صالح بن فوزان بن عبد اللَّه الفوزان، الطبعة الثالثة، (1407 هـ)، مكتبة المعارف، الرياض. • تذكرة الحفاظ، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت 748 هـ، دار الكتب العلميَّة، بيروت. • ترتيب أحاديث وآثار تلخيص الحبير، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، تحقيق عبد الرحمن دمشقيَّة، الطبعة الأولى، (1407 هـ)، مكتبة الرشد، الرياض. • ترتيب مسند الشافعي، محمد عابد بن أحمد السندي، ت 1257 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت. • الترغيب والترهيب، محمد العظيم بن عبد القوي المنذري، ت 656 هـ، تحقيق محيي الدين ديب مستو وغيره، الطبعة الأولى، (1414 هـ - 1993 م)، دار ابن كثير، دمشق. • التاريخ الكبير، محمد بن إسماعيل البخاري، ت 256 هـ، المكتبة الإِسلاميَّة، ديار
بكر، تركيا. • تصحيح الفروع، -بهامش كتاب الفروع-، علي بن سليمان بن أحمد المرداوي، ت 885 هـ، الطبعة الثالثة، عالم الكتب، بيروت. • تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، الطبعة الأولى، دار الكتاب العربي. • تفسير أبي السعود، محمد بن محمد العمادي، ت 951 هـ، تحقيق عبد القادر عطا، مطبعة السعادة، القاهرة. • تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر ابن عاشور، ت 1284 هـ، طُبع (1984 م)، الدار التونسية للنشر. • تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، ت 774 هـ، الطبعة الخامسة، (1416 هـ)، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت. • التفسير الكبير، محمد بن عمر بن حسين الرازى، ت 606 هـ، الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، طهران. • تفسير غريب القرآن، عبد اللَّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري المروزى، ت 276 هـ، تحقيق السيد أحمد صقر، طُبع (1398 هـ - 1978 م)، دار الكتب العلمية. • تقريب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، الطبعة الثالثة، (1411 هـ)، دار المعرفة، بيروت. • التكميل لما فات تخريجه من إرواء الغليل، الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ، الطبعة الأولى، (1417 هـ)، دار العاصمة، الرياض. • تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، دار نشر الكتب الإسلاميَّة، لاهور، باكستان. • التمهمد في أصول الفقه، محفوظ بن أحمد بن الحسن أبو الخطاب الكلوذاني الحنبلي، ت 510 هـ، تحقيق د. مفيد أحمد أبو عمشة، الطبعة الأولى، (1406 هـ - 1985 م)، مركز البحث العلمي بحامعة أم القرى، مكة المكرمة. • التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر، ت 463 هـ، تحقيق سيد أحمد أعراب وآخرين، (1411 هـ)، وزارة عموم الأوقاف والشئون الإسلاميَّة، المغرب. • التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع في فقه إمام السنة أحمد بن حنبل، علي بن سليمان المرداو، ت 885 هـ، الطبعة الثانية، (1406 هـ)، المكتبة السلفية، القاهرة.
• تنقيح تحقيق أحاديث التعليق، محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي، ت 744 هـ، تحقيق أيمن صالح شعبان، الطبعة الأولى، (1419 هـ - 1998 م)، دار الكتب العلمية، بيروت. • تهذيب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، الطبعة الأولى، (1326 هـ)، دار صادر، بيروت. • تهذيب الكمال في أسماء الرجال، جمال الدين أبو الحجاج يوسف المزي، ت 742 هـ، تحقيق الدكتور بشار عواد معروف، الطبعة الرابعة، (1406 هـ)، مؤسسة الرسالة، بيروت. • تهذيب اللغة، أبو منصور محمد بن أحمد الأزهرى، ت 370 هـ، تحقيق عبد السلام هارون، ومحمد علي النجار، الدار المصرية للتأليف والترجمة. • التهذيب في الفرائض، محفوظ بن أحمد الكلوذاني، أبو الخطاب، ت 510 هـ، تحقيق الشيخ عبد اللَّه بن سليمان بن منيع، الطبعة الأولى، (1416 هـ) دار الخزار، جدة. • تهذيب مدارج السالكين، محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزيَّة، ت 751 هـ، هذّبه عبد المنعم صالح العلي العزى، مطبعة كاظم، دبي، الإمارات. • التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح، أحمد بن محمد بن أحمد الشويكي، ت 639 هـ، تحقيق د. ناصر بن عبد اللَّه بن عبد العزيز الميمان، المطبعة المكية، مكة المكرمة، (1419 هـ). • الثقات، أبو حاتم محمد بن حبان البستي، ت 354 هـ، الطبعة الأولى، (1399 هـ - 1979 م)، دائرة المعارف العثمانية، حيدرآباد الدكن، الهند. • الثمر الداني في تقريب المعاني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني، صالح عبد السميع الأزهري، المكتبة الثقافية، بيروت. • جامع الأصول في أحاديث الرسول، أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، ت 606 هـ، تحقيق محمد القادر الأرناؤوط، طُبع سنة (1392 هـ - 1972 م) مكتبة الحلواني وغيرها. • جامع البيان عن تأويل آي القرآن، محمد بن جرير الطبرى، ت 103 هـ، الطبعة الثانية، (1373 هـ - 1954 م)، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر. • الجامع الصحيح، وهو سنن الترمذى، محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، ت 297 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر وآخرين، دار الكتب العلميَّة، بيروت. • جامع بيان العلم وفضله، يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر، ت 463 هـ، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، الطبعة الأولى، (1414 هـ - 1994 م) دار ابن الجوزى، الرياض، والدمام. • الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي، ت 671 هـ، تحقيق أحمد
عبد العلم البردوني، الطبعة الثانية (1372 هـ)، دار الشعب، القاهرة. • جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإِسلام، أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي, المتوفى في أوائل القرن الرابع, تحقيق د. محمد علي الهاشمي, الطبعة الثالثة (1406 هـ - 1986 م)، دار القلم، دمشق. • الجنى الداني في حروف المعاني، حسن بن قاسم بن عبد اللَّه المرادي، ت 749 هـ، تحقيق طه محسن، طُبع (1396 هـ - 1976 م)، جامعه الموصل، بغداد. • الجواهر المضية في طبقات الحنفية، محمد القادر بن أبي الوفاء بن محمد القرشي، ت 775 هـ، نشر مير محمد كتب خانه، كراتشي. • حاشية ابن عابدين على الدر المختار، محمد أمين الشهير بابن عابدين، ت 1252 هـ، الطبعة الثانية، (1386 هـ)، دار الفكر، بيروت. • حاشية الدسوقي على الشرح الكبير, محمد عرفة الدسوقي، ت 1230 هـ، وبهامشه الشرح المذكور مع تقريرات محمد عليش، ت 1299 هـ، دار الفكر. • حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع، عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، ت 1392 هـ، الطبعة الثانية، (1403 هـ). • حاشية السعدي على شرح كفاية الطالب الرباني، علي بن أحمد الصعيدي العدوي، ت 1189 هـ، تحقيق يوسف الشيخ محمد البقاعي، (1412 هـ) دار الفكر، بيروت. • حاشية العلامة، إبراهم بن محمد بن أحمد الباجوري، ت 1277 هـ، على شرح الشنشوري، الطبعة الثانية، (1347 هـ)، المطبعة الأزهرية، مصر. • الحاوي الكبير في فقه الإمام الشافعي، أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، ت 450 هـ، تحقيق على محمد معوض وغيره، الطبعة الأولى، (1414 هـ - 1994 م)، دار الكتب العلمية، بيروت. • حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم أحمد بن عبد اللَّه بن أحمد الأصبهاني، ت 430 هـ، طُبع (1387 هـ - 1967 م)، دار الكتاب العربي، بيروت. • خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغدادي، ت 1093 هـ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، الطبعة الثانية، (1979 م) الهيئة المصرية العامة للكتاب. • خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، محمد أمين بن فضل اللَّه المحيي، ت 1111 هـ، دار صادر، بيروت. • خلاصة البدر المنير في تخريج كتاب الشرح الكبير للرافعي، سراج الدين عمر بن علي بن الملقن الأنصاري، ت 804 هـ، تحقيق حمدي محمد المجيد السلفي، الطبعة الأولى، (1410 هـ)
مكتبة الرشد، الرياض. • الدر المصون في علوم الكتاب المكنون، أحمد بن يوسف المعروف بابن السمين الحلبي، ت 756 هـ، تحقيق أحمد محمد الخراط، الطبعة الأولى، (1408 هـ) دار القلم، دمشق. • الدر المنثور, جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت 911 هـ، دار الفكر، بيروت. • الدّر المنضّد في أسماء كتب مذهب الإمام أحمد، عبد اللَّه بن علي بن حميد السبيعي، ت 1346 هـ، تحقيق جاسم بن سليمان الدوسري، الطبعة الأولى (1410 هـ)، دار البشائر الإسلامية، بيروت. • ديوان الأدب، أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي، ت 350 هـ، تحقيق الدكتور أحمد مختار عمر، طُبع (1396 هـ - 1976 م)، مطبعة الأمانة، مصر. • ديوان الأعشى، ميمون بن قيس بن جندل الوائلى، ت 7 هـ، دار صادر، بيروت. • ديوان طرفة بن العبد، طرفة بن العبد بن سفيان البكري الوائلي، ت 564 م، دار صادر، بيروت. • الذخيرة، شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، ت 684 هـ، تحقيق د. محمد حجى، الصبعة الأولى، (1994 هـ)، دار الغرب الإِسلامي، بيروت. • رؤوس المسائل "المسائل الخلافية بين الحنفية والشافعية" محمود بن عمر بن محمد الزمخشري، ت 538 هـ، تحقيق عبد اللَّه نذير أحمد، الطبعة الأولى، (1407 هـ)، دار البشائر الإسلامية، بيروت. • رفع النقاب عن تراجم الأصحاب، إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان، ت 1353 هـ، تحقيق محب الدين أبي سعيد عمر العروي، الطبعة الأولى، (1418 هـ)، دار الفكر. • الروض المربع شرح زاد المستقنع، شرف الدين موسى بن أحمد الحجاوي، ت 968 هـ، والشرح للعلامة منصور بن يوسف بن إدريس البهوتي، ت 1051 هـ، الطبعة السادسة، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. • روضة الطالبين وعمدة المفتين، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، ت 676 هـ، الطبعة الثالثة، (1412 هـ)، المكتب الإِسلامي، بيروت، ودمشق، وعمان. • روضة الناظر وجنة الناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، موفق الدين عبد اللَّه بن أحمد بن قدامة المقدسي، ت 620 هـ، ومعها نزهه الخاطر العاطر، عبد القادر أحمد بن مصطفى بن بدران، ت 1346 هـ، الطبعة الثانية، (1404 هـ -
1984 م)، مكتبة المعارف، الرياض. • زاد المحتاج بشرح المنهاج، عبد اللَّه بن حسن الحسن الكرهجي، ت 1389 هـ، تحقيق عبد اللَّه بن إبراهيم الأنصاري، الطبعة الثالثة، (1407 هـ)، إدارة إحياء التراث الإسلامي، قطر. • زاد المسير في علم التفسير، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزى، ت 597 هـ، الطبعة الأولى، (1384 هـ - 1964 م)، المكتب الإسلامي، بيروت. • زاد المعاد في هدي خير العباد، محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، ت 751 هـ، تحقيق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط، الطبعة السابعة، (1405 هـ)، مكتبة المنار الإِسلامية، الكويت، ومؤسسة الرسالة، بيروت. • الزاهر في غرائب ألفاظ الإمام الشافعي، المعروف بـ "تفسير ألفاظ مختصر المزني"، أبو المنصور الأزهري، ت 370 هـ، دار الطلائع، القاهرة. • الزبير قبل خمسين عاما، يوسف حمد البسام، المطبعة العصرية، الكويت، (1391 هـ - 1971 م). • سبائك العسجد، عثمان بن سند، طبعة بومبي، الهند، (1330). • السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة، محمد بن عبد اللَّه بن حميد، ت 1295 هـ، تحقيق الشيخ بكر أبو زيد، وعبد الرحمن العثيمين، الطبعة الأولى (1416 هـ - 1996 م)، مؤسسة الرسالة, بيروت، لبنان. • سلسلة الأحاديث الضعيفة، محمد ناصر الدين الألباني، ت 1420 هـ، الطبعة الثانية، (1408 هـ - 1988 م)، المكتب الإسلامي، بيروت. • سنن أبي داود، سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدى، ت 275 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصريَّة، صيدا، وبيروت. • سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد الربعي القزويني، ت 273 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الكتب العلميَّة، بيروت. • سنن الدارقطني، علي بن عمر الدارقطني، ت 385 هـ، وبذيله التعليق المغني على الدارقطني، محمد شمس الحق العظيم، تحقيق عبد اللَّه هاشم يماني المدني، (1386 هـ)، المدينة المنورة. • سنن الدارمي، عبد اللَّه بن عبد الرحمن الدارمى السمرقندي، ت 255 هـ، تحقيق فؤاد زمرلي، وخالد السبع العلمي، الطبعة الأولى، (1407 هـ)، دار الريان للتراث، القاهرة، ودار الكتاب العربي، بيروت.
• السنن الكبرى, أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، ت 458 هـ، وفي ذيله الجوهر النقي، علاء الدين بن علي بن عثمان المارديني، ت 745 هـ، دار المعرفة، بيروت. • سن النسائي الكبرى أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، ت 303 هـ، تحقيق د. عبد الغفار سيمان البندراني، وغيره، الطبعة الأولى، (1411 هـ - 1991 م) دار الكتب العلمية، بيروت. • سنن النسائي، بشرح الحافظ السيوطي، وحاشية الإمام السندي، الطبعة الثالثة، (1409 هـ)، مكتبة المطبوعات الإسلامية، حلب، وبيروت. • سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت 748 هـ، تحقيق مجموعة من الباحثين بإشراف شعيب الأرناؤوط، المطبعة التاسعة، (1413 هـ)، مؤسسة الرسالة، بيروت. • السيرة النبوية، عبد الملك بن هشام بن أيوب النحوي، ت 218 هـ، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، الطبعة الأولى، (1411 هـ)، دار الجيل، بيروت. • شذرات الذهب في أخبار من ذهب، شهاب الدين عبد الحي بن أحمد بن محمد الشهير بابن العماد الحنبلي، ت 1089 هـ، المكتب التجاري، بيروت. • شرح العقيدة الطحاوية، أحمد بن سلامة الطحاوي، ت 321 هـ، تحقيق د. عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي، وشعيب الأرناؤوط، الطبعة السادسة، (1414 هـ - 1994 م)، مؤسسة الرسالة، بيروت. • شرح أدب القاضي، حسام الدين عمر بن عبد العزيز الخصاف، ت 536 هـ، تحقيق محيي هلال السرحان، الطبعة الأولى، (1397 هـ - 1977 م)، مطبعة الإرشاد، بغداد. • شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، محمد الزرقاني، دار المعرفة، بيروت، 1398 هـ، توزيع دار الباز. • شرح الزركشي على مختصر الخرقي في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، محمد بن عبد اللَّه الزركشي، ت 772 هـ، تحقيق الشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن الجبرين، الطبعة الأولى، (1410 هـ)، شركة العبيكان للطباعة والنشر، الرياض. • الشرح الكبير، عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، ت 682 هـ، تحقيق د. عبد اللَّه التركى، الطبعة الأولى، (1417 هـ) دار هجر، القاهرة، مصر. • شرح الكوكب المنير المسمى (مختصر التحرير)، محمد بن أحمد بن النجار الفتوحي الحنبلي، ت 972 هـ، تحقيق د. محمد الزحيلي، ونزيه حماد، طُبع (1413 هـ - 1993 م)، مكتبة العبيكان، الرياض. • شرح المغني وشواهده، عبد اللَّه بن يوسف بن أحمد بن هشام الأنصاري، ت 761 هـ، تحقيق
عبد اللَّه إسماعيل الصاوى، الطبعة الأولى، (1377 هـ - 1958 م)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر. • شرح المفصل، أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش، ت 643 هـ، مكتبة المثنى بالقاهرة، وعالم الكتب ببيروت. • شرح خلاصة الفرائض، عبد الملك بن عبد الوهاب المكي، ت 1327 هـ، الطبعة الأولى، (1354 هـ)، مطبعة مصطفى محمد. • شرح مختصر الروضة، أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي، ت 716 هـ، تحقيق د. عبد اللَّه التركي، الطبعة الأولى، (1410 هـ - 1990 م)، مؤسسة الرسالة، بيروت. • شرح مشكل الآثار، أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، ت 321 هـ، تحقيق شعيب الأرنؤوط، الطبعة الأولى، (1415 هـ)، مؤسسة الرسالة، بيروت. • شرح معاني الآثار, أحمد بن بن محمد بن سلامة الطحاوي، ت 321 هـ، تحقيق محمد زهري النجار، الطبعة الثانية (1407 هـ)، دار الكتب العلميَّة، بيروت. • شرح منتهى الإرادات، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، ت 1051 هـ، مكتبة الرياض الحديثة. • شعب الإيمان, أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، ت 458 هـ، تحقيق أبي هاجر محمد السعيد زغلول، الطبعة الأولى، (1410 هـ - 1990 م) دار الكتب العلميَّة، بيروت. • الشعر والشعراء، عبد اللَّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ت 276 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، (1377 هـ - 1958 م)، دار المعارف، القاهرة. • الصحاح، إسماعيل بن حماد الجوهري، ت 393 هـ، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية، (1399 هـ - 1979 م)، دار العلم للملايين، بيروت. • صحيح أبي عبد اللَّه البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، ت 256 هـ، تحقيق محمد النواوي، وآخرون، الطبعة الثانية، (1404 هـ)، مكتبة النهضة الحديثة، مكة، ومكتبة الرياض الحديثة، الرياض. • صحيح ابن خزيمة، تحقيق الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، الطبعة الأولى، (1399 هـ - 1979 م)، المكتب الإِسلامي، بيروت. • صحيح الجامع الصغير وزياداته، محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، (1969 م)، المكتب الإسلامي، بيروت، ودمشق. • صحيح سنن أبي داود باختصار السند، محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة
الأولى، (1409 هـ)، المكتب الإسلامي، بيروت. • صحيح سنن ابن ماجة، محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، (1407 هـ)، المكتب الإسلامي، بيروت. • صحيح سنن النسائي، محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، (1409 هـ)، المكتب الإسلامي، بيروت. • صحيح مسلم بشرح النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف، ت 676 هـ، طُبع سنة (1401 هـ - 1981 م)، دار الفكر. • صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج القشيرى النيسابوري، ت 261 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، الطبعة الأولى، (1412 هـ)، دار الحديث، القاهرة. • صفة الصفرة، جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجرزي، ت 597 هـ، تحقيق محمود فاخوري، الطبعة الثانية، (1399 هـ)، دار المعرفة، بيروت. • الضعفاء الكبير، أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى العقيلي، ت 322 هـ، تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي، الطبعة الأولى، (1404 هـ - 1984 م)، دار الكتب العلمية، بيروت. • ضعيف الجامع الصغير وزياداته، محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية، (1399 هـ)، المكتب الإِسلامي، بيروت. • ضعيف سنن أبي داود، محمد ناصر الدين الألباني، ت 1420 هـ، الطبعة الأولى، (1412 هـ - 1991 م)، المكتب الإسلامي، بيروت. • ضعيف سنن ابن ماجة، محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، (1408 هـ - 1988 م)، المكتب الإِسلامي، بيروت. • ضعيف سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، (1411 هـ - 1991 م) المكتب الإِسلامي، بيروت. • ضعيف سنن النسائي، محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، (1411 هـ)، المكتب الإسلامي، بيروت. • الضوء اللامع لأهل القرن التاسع الهجري، محمد بن عبد الرحمن السخاوي، ت 902 هـ، دار مكتبة الحياة، بيروت. • طبقات الحفاظ، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت 911 هـ، الطبعة الأولى، (1403 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت. • طبقات الحنابلة، محمد بن أبي يعلى، ت 527 هـ، دار المعرفة، بيروت.
• طبقات الشافعيَّة الكبرى, عبد الوهاب بن علي بن محمد الكافي السبكي، ت 771 هـ، تحقيق د. محمود محمد الطناجى، ود. عبد الفتاح محمد الحلو، الطبعة الثانية، (1413 هـ)، هجر. • الطبقات الكبرى, محمد بن سعد بن منيع الهاشمي، ت 230 هـ، دار صادر، بيروت. • الطرائف الأدبية، ديوان الأفوه الأودي، صلاءة بن عمرو بن مالك بن عوف، تحقيق عبد العزيز الميمني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان. • الطرق الحكميَّة في السياسة الشرعيَّة، محمد بن أبي بكر الدمشقي، المعروف بابن قيم الجوزيَّة، ت 751 هـ، تحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت. • عالم السحر والشعوذة، د. عمر سليمان الأشقر، الطبعة الأولى، (1410 هـ - 1689 م) مكتبة الفلاح، الكويت. • العدة في أصول الفقه، أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء الحنبلى، ت 458 هـ، تحقيق د. أحمد بن علي المباركي، الطبعة الأولى، (1400 هـ - 1980 م)، مؤسسة الرسالة، بيروت. • العذب الفائض شرح عمدة الفارض، إبراهيم بن عبد اللَّه الفرضى الشمري، ت 1189 هـ، الطبعة الأولى، (1372 هـ - 1953 م)، شركة ومكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر. • عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، عبد اللَّه بن نجيم بن شاس، ت 616 هـ، تحقيق د. محمد أبو الأجفان، والأستاذ محمد الحفيظ منصور، الطبعة الأولى، (1415 هـ)، دار الغرب الإِسلامي. • عقد الفرائد وكنز الفوائد، محمد بن عبد القوي المقدسي، ت 699 هـ، مطابع دار الشبل، الرياض. • العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، عبد الرحمن بن علي بن الجوزي، ت 597 هـ، تحقيق خليل الميس، الطبعة الأولى، (1403 هـ)، دار الكتب العلميَّة، بيروت. • علماء نجد خلال ثمانية قرون، عبد اللَّه بن عبد الرحمن البسام، الطبعة الثانية، (1419 هـ) دار العاصمة، الرياض. • عون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادى، ت 1329 هـ، الطبعة الثانية، (1415 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت. • غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى، مرعي بن يوسف الحنبلي، ت 1033 هـ، الطبعة الثانية، المؤسسة السعدية، الرياض.
• الغريبين في القرآن والحديث، أبو عبيد أحمد بن محمد الهرري، ت 401 هـ، تحقيق أحمد فريد المزيدي، الطبعة الأولى، (1419 هـ - 1999 م)، مكتبة نزار الباز، مكة المكرمة. • غريب الحديث، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزى، ت 597 هـ، تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي، الطبعة الأولى، (1405 هـ - 1985 م)، دار الكتب العلمية، بيروت. • غريب الحديث، أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي، ت 224 هـ، الطبعة الأولى، (1385 هـ - 1966 م)، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانيَّة، الهند. • الغنية لطالبي طريق الحق، عبد القادر الجيلاني الحسن، ت 561 هـ، الطبعة الثالثة، (1375 هـ - 1956 م) مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر. • الفائق في غريب الحديث، محمود بن عمر بن محمد الزمخشري، ت 538 هـ، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم وغيره، الطبعة الثانية، مطبعة عيسى الحلبي وشركاه، مصر. • الفتاوى الكبرى, شيخ الإسلام تقى الدين ابن تيمية، ت 728 هـ، تحقيق محمد ومصطفى عطا، الطبعة الأولى، (1408 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت، ودار الريان للتراث، القاهرة. • فتاوى ومسائل ابن الصلاح في التفسير والحديث والأصول، عثمان بن عبد الرحمن الكردي، ت 643 هـ، تحقيق عبد المعطى قلعجي، الطبعة الأولى، (1406 هـ)، دار المعرفة، بيروت. • فتح الباري شرح صحيح البخاري، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، تحقيق سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد اللَّه بن باز، نشر رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية. • فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك، أبو عبد اللَّه محمد أحمد عليش، ت 1299 هـ، طُبع (1378 هـ- 1958 م)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر. • فتح القدير للعاجز الفقير، محمد بن عبد الواحد، المعروف بابن الهمام، ت 681 هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت. • فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، محمد بن علي الشوكاني، ت 1250 هـ، دار الفكر، بيروت، (1403 هـ). • الفتح المبين في طبقات الأصوليين، عبد اللَّه مصطفى المراغي، الطبعة الثانية، (1394 هـ - 1974 م)، دار الكتب العلمية، بيروت. • فتح المعين بشرح قرة العين، زين الدين عبد العزيز المليبارى، دار الفكر.
• الفرق بين الفرق، عبد القاهر بن طاهر البغدادي، ت 429 هـ، الطبعة الثانية، (1977 م)، دار الآفاق الجديدة، بيروت. • الفروع، محمد بن مفلح المقدسي، ت 763 هـ، الطبعة الثالثة، عالم الكتب، بيروت. • الفصل في الملل والأهواء والنحل، علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، ت 456 هـ، تحقيق الدكتور محمد إبراهيم نصر وغيره، الطبعة الأولى، (1402 هـ - 1982 م)، شركة عكاظ للنشر والتوزيع، الرياض. • فقه ابن عمر في المعاملات، محمد سلامة، طبعة وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالمغرب، (1409 هـ - 1989 م). • فيض القدير شرح الجامع الصغير, محمد عبد الرؤوف بن تاج العارفين علي المناوي, ت 1031 هـ، الطبعة الثانية، (1391 هـ - 1972 م)، دار المعرفة، بيروت. • القاموس الفقهي لغةً واصطلاحًا، سعيد أبو جيب، الطبعة الأولى، (1402 هـ - 1982 م)، دار الفكر، دمشق. • القاموس المحيط، محمد بن يعقوب الفيروزآبادي، ت 817 هـ، مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة. • القواعد في الفقه الإِسلامي، أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، ت 795 هـ، الطبعة الثانية (1408 هـ)، دار الجيل، بيروت. • الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، يوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البر، ت 463 هـ، تحقيق د. محمد محمد أحيد الموريتاني، الطبعة الأولى، (1398 هـ)، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض. • الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل، موفق الدين أبو محمد عبد اللَّه بن قدامة المقدسي، ت 620 هـ، الطبعة الثانية، (1399 هـ)، المكتب الإسلامي، بيروت. • الكامل في معرفة الضعفاء والمتروكين، أبو أحمد عبد اللَّه بن عدي الجرجاني، ت 365 هـ، الطبعة الأولى، (1404 هـ - 1984 م)، دار الفكر، بيروت. • الكامل، محمد بن يزيد الأزدى أبا العباس المبرد، ت 286 هـ، تعليق محمد أبي الفضل إبراهيم، دار نهضة مصر، الفجالة، القاهرة، • كتاب الجرح والتعديل، عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر، ت 327 هـ، الطبعة الأولى، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند. • كتاب الخراج، أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، ت 182 هـ، الطبعة الرابعة، (1392 هـ)، المطبعة السلفية ومكتباتها، القاهرة.
• كتاب السنن, سيد بن منصور الخراساني، ت 227 هـ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمى، الطبعة الأولى، (1403 هـ)، الدار السلفية، بومبائي، الهند. • كتاب العلم، زهير بن حرب بن شداد أبو خيثمة النسائي، ت 234 هـ، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية، (1403 هـ - 1983 م)، المكتب الإِسلامي، بيروت. • الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار عبد اللَّه بن محمد بن أبي شيبة، ت 235 هـ، تحقيق عبد الخالق الأفغاني، الدار السلفية، بومباي، الهند. • كتاب المعارف، محمد بن عبد اللَّه بن مسلم بن قتيبة الدينورى، ت 276 هـ، الطبعة الثانية، (1390 هـ - 1970 م)، دار إحياء التراث العربي، بيروت. • كفاية الطالب الرباني لرسالة أبي زيد القيرواني، أبو الحسن المالكي، تحقيق يوسف البقاعي، دار الفكر، بيروت، 1412 هـ. • كشَّاف القناع على متن الإقناع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، ت 1051 هـ، عالم الكتب، بيروت. • كشف الأستار عن زوائد البزار، نور الدين على بن أبي بكر الهيثمي، ت 807 هـ، تحقيق جبيب الرحمن الأعظمى، الطبعة الأولى، (1399 هـ - 1979 م)، مؤسسة الرسالة، بيروت. • كشف الأسرار على أصول فخر الإسلام البزدوي، عبد العزيز البخاري، ت 730 هـ، طبعة الصدف ببلشرز، كراتشي، باكستان. • كشف الحقائق شرح كنز الدقائق، عبد الحكيم الأفغاني القندهاري، ت 1326 هـ، وبهامشه شرح عبيد اللَّه بن مسعود صدر الشريعة، ت 747 هـ، الطبعة الأول، (1318 هـ)، المطبعة الأدبية. • كنز العمال، علاء الدين على المتقي بن حسام الدين الهدي، ت 975 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. • الكوكب الدرى فيما يتخرج على الأصول النحوية، عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي، ت 772 هـ، تحقيق محمد حسن عواد، الطبعة الأولى، (1405 هـ)، دار عمان، الأردن. • اللباب في علوم الكتاب، أبو حفص عمر بن علي الدمشقي الحنبلي، ت 880 هـ، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود وغيره، الطبعة الأولى، (1419 هـ - 1998 م)، دار الكتب العلمية، بيروت. • اللباب في معرفة الأنساب، أبو السعادات المبارك بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري، ت 606 هـ، دار صادر، بيروت.
• لسان العرب، محمد بن مكرم بن علي بن منظور الأفريقي، ت 711 هـ، دار صادر، بيروت. • لسان الميزان, أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت 852 هـ، الطبعة الأولى، مكتبة آل ياسر، الجيزة، ودار الكتاب الإِسلامي، القاهرة. • اللمع في أصول الفقه، الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، ت 476 هـ، تحقيق محيي الدين ديب مستو وغيره، الطبعة الأولى، (1416 هـ - 1995 م)، دار ابن كثير، دمشق. • المبدع في شرح المقنع، إبراهيم بن عبد اللَّه بن محمد بن مفلح، ت 884 هـ، الطبعة الثانية، (1400 هـ)، المكتب الإِسلامي، دمشق، وبيروت. • المبسوط، شمس الدين محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي، ت 490 هـ، الطبعة الأولى، (1414 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت. • المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين، أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد البستي، ت 354 هـ، الطبعة الأولى، (1396 هـ)، دار الوعي، حلب. • مجمع البحرين في زوائد المعجمين، نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، ت 807 هـ، تحقيق عبد القدوس بن محمد نذير، الطبعة الأولى، (1413 هـ - 1992 م)، مكتبة الرشد، الرياض. • مجمع البيان في تفسير القرآن، الشيخ أبو على الفضل بن الحسن الطبرسي، ت 548 هـ، طُبع (1380 هـ - 1961 م)، دار مكتبة الحياة، بيروت. • مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، علي بن أبي بكر الهيثمي، ت 807 هـ، دار الكتاب العربي، بيروت. • المجموع شرح المهذب، أبو زكريا يحيى بن شرف النووي، ت 676 هـ، تحقيق محمد نجيب المطيعي، المكتبة العالمية، الفجالة. • مجموع فتاوى أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي، ومساعدة ابنه محمد، دارة المساحة العسكرية، القاهرة، (1404 هـ). • المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، أبو محمد عبد الحق بن غالب المعروف بابن عطية الأندلسي، ت 541 هـ، تحقيق عبد اللَّه طه بن إبراهيم الأنصاري، وآخرون، الطبعة الأولى، (1409 هـ - 1989 م)، مؤسسة دار العلوم، الدوحة. • المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، مسجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد اللَّه، ت 652 هـ، مطبعة السنة المحمدية (1369 هـ).
• المحصول في علم أصول الفقه، محمد بن عمر بن الحسين الرازي، ت 606 هـ، تحقيق د. طه جابر فياض العلواني، الطبعة الأولى، (1400 هـ)، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميَّة. • المحلى، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، ت 456 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار التراث، القاهرة. • المحيط في اللغة، إسماعيل بن عباد بن عباس الطالقاني الأصفهاني، ت 385 هـ، تحقيق محمد حسن آل ياسين، الطبعة الأولى، (1414 هـ - 1994 م)، عالم الكتب، بيروت. • المختار مع شرحه الإختيار، عبد اللَّه محمود الموصلي، ت 683 هـ، تعليقات محمود أبو دقيقة، دار الكتب العلمية، بيروت، توزيع دار الباز، مكة. • مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، ت 666 هـ، دار القبلة للثقافة الإسلاميَّة، جدة، ومؤسسة علوم القرآن، بيروت، (1406 هـ). • مختصر اختلاف العلماء، أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي, ت 321 هـ، تحقيق الدكتور عبد اللَّه نذير أحمد، الطبعة الأولى، (1416 هـ)، دار البشائر الإسلاميَّة، بيروت. • مختصر الشمائل المحمديَّة، أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، ت 279 هـ، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني, الطبعة الأولى، (1405 هـ)، المكتبة الإسلامية، عمان - الأردن. • مختصر خلافيات البيهقي، أحمد بن فرح اللخمى الأشبيلي الشافعي، ت 699 هـ، تحقيق د. إبراهيم الخضيري، ود. ذياب عبد الكريم عقل، الطبعة الأولى، (1417 هـ)، مكتبة الرشد، وشركة الرياض، الرياض. • مختصر طبقات الحنابلة، محمد جميل بن عمر البغدادي، المعروف بابن شطي، دراسة فواز زمرلي، الطبعة الأولى (1406 هـ - 1986 م)، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان. • المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، عبد القادر بن بدران الدمشقي، ت 1346 هـ، تحقيق د. عبد اللَّه التركى، الطبعة الثانية، 1401 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. • المدونة الكبرى, مالك بن أنس الأصبحى، رواية سحنون بن سعيد التنوخي، ت 240 هـ، دار صادر، بيروت. • المذهب الأحمد في مذهب أحمد, يوسف بن عبد الرحمن بن علي، المعروف بابن الجوزى، ت 656 هـ، مطبعة بومباي، الهند (1378 هـ - 1959 م). • مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات، أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري، ت 456 هـ، مراجعة حسن أحمد إسبر، الطبعة الأولى، (1419 هـ - 1998 م)، دار ابن حزم، بيروت.
• مراسيل أبي داود السجستاني، ت 275 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، (1408 هـ) مؤسسة الرسالة، بيروت. • مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، عبد المؤمن عبد الحق البغدادي، ت 739 هـ، تحقيق على محمد الجاوي، دار إحياء الكتب العربية، ومطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر. • مسائل الإمام أحمد بن حنبل، برواية أبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستاني، ت 275 هـ، دار المعرفه، بيروت. • مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ النيسابوري، ت 275 هـ، تحقيق زهير الشاويش، الطبعة الأولى، (1400 هـ)، المكتب الإسلامي، بيروت. • مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية ابنه أبي الفضل صالح، ت 366 هـ، تحقيق د. فضل الرحمن محمد، الطبعة الأول، (1408 هـ)، الدار العلميَّة، دلهي، الهند. • مسائل الإمام أحمد بن حنبل، رواية ابنه عبد اللَّه، ت 290 هـ، تحقيق زهير شاويش، الطبعة الثالثة، (1408 هـ)، المكتب الإسلامي، بيروت، ودمشق. • المسائل الفقهيَّة من كتاب الروايتين والوجهين، القاضي محمد بن الحسين بن محمد أبو يعلى الفراء، ت 458 هـ، تحقيق د. عبد الكريم بن محمد اللاحم، الطبعة الأولى، (1405 هـ)، مكتبة المعارف، الرياض. • المستدرك على الصحيحين في الحديث، محمد بن عبد اللَّه المعروف بالحاكم النيسابوري، ت 405 هـ، وفي ذيله: تلخيص المستدرك، محمد بن أحمد الذهبي، ت 748 هـ، دار الفكر، بيروت، (1398 هـ). • المستصفى من علم الأصول، محمد بن محمد الغزالي، ت 505 هـ، الطبعة الأولى، (1356 هـ)، المكتبة التجارية الكبرى, مصر. • المستوعب، محمد بن عبد اللَّه السامري، ت 616 هـ، تحقيق د. عبد الملك بن دهيش، الطبعة الأولى (1420 هـ - 1999 م)، دار خضر، بيروت، لبنان. • مسند أبي يعلى، أحمد بن علي بن المثنى الموصلي، ت 307 هـ، تحقيق حسين سليم أسد، الطبعة الأولى (1409 هـ - 1988 م)، دار المأمون للتراث، بيروت. • مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد اللَّه أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، ت 241 هـ، الطبعة الثانية، (1414 هـ)، دار إحياء التراث العربي، بيروت. • مسند الشاميين، سليمان بن أحمد الطبراني، ت 360 هـ، تحقيق حمدي بن عبد المجيد
السلفي، الطبعة الأولى، (1409 هـ - 1989 م) مؤسسة الرسالة، بيروت. • مسند الشهاب، أبو عبد اللَّه محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي، ت 454 هـ، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفى، الطبعة الأولى، (1405 هـ - 1985 م)، مؤسسة الرسالة، بيروت. • المسودة، في أصول الفقه، لـ آل تيمية، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني، (1384 هـ). • مشاهير علماء الأمصار، أبو حاتم محمد بن حبان البستي، ت 354 هـ، طُبع عام (1959 م)، دار الكتب العلمية. • المشترك وضعًا المفترق صقعًا، ياقوت بن عبد اللَّه الحموي، ت 626 هـ، الطبعة الثانية، (1406 هـ - 1986 م)، عالم الكتب، بيروت. • مشكاة المصابيح، محمد بن عبد اللَّه الخطيب التبريزي، ت 737 هـ، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية (1399 هـ)، المكتب الإِسلامي، بيروت، ودمشق. • المصباح المنير، أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، ت 770 هـ، طُبع (1347 هـ - 1929 م)، مكتبة عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر. • مصطلحات الفقه الحنبلي وطرق استفادة الأحكام من ألفاظه، سالم بن علي الثقفي، الطبعة الأولى، (1398 هـ)، دار النصر، القاهرة. • المصنف، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، ت 211 هـ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، ومعه كتاب الجامع، الطبعة الثانية، (1403 هـ)، المكتب الإِسلامي، بيروت. • المطلع على أبواب المقنع، محمد بن أبي الفتح البعلي الحنبلي، ت 709 هـ، ومعه معجم ألفاظ الفقه الحنبلي، المكتب الإِسلامي، بيروت، ودمشق، (1401 هـ). • معالم التنزيل، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد البغوي، ت 516 هـ، تحقيق محمد عبد اللَّه النمر وغيره، الطبعة الأولى، (1409 هـ - 1989 م)، دار طيبة، الرياض. • معالم السنن, أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي، ت 388 هـ، الطبعة الثانية، (1401 هـ - 1981 م)، المكتبة العلمية، بيروت. • معاني القرآن الكريم، أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط, ت 215 هـ، تحقيق د. فائز فارس، الطبعة الثانية، (1401 هـ - 1981 م)، الشركة الكويتية لصناعة الدفاتر. • معاني القرآن وإعرابه، أبو إسحاق إبراهيم الزجاج، ت 311 هـ، تحقيق د. عبد الجليل عبده شلبي، الطبعة الأولى، (1408 هـ - 1988 م)، عالم الكتب، بيروت. • معاني القرآن، أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد اللَّه الفراء، ت 207 هـ، الطبعة الثانية (1980 م)، عالم الكتب، بيروت.
• المعتمد في أصول الفقه، أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المعتزلي، ت 436 هـ، تحقيق محمد حميد اللَّه وغيره، طبعة المعهد العالي الفرنسي للدراسات العربية، دمشق. • المعجم الأوسط, سليمان بن أحمد الطبراني، ت 360 هـ، تحقيق د. محمود الطحان، الطبعة الأولى، (1415 هـ - 1995 م)، مكتبة المعارف، الرياض. • معجم البلدان، ياقوت بن عبد اللَّه الحموي، ت 626 هـ، دار صادر، بيروت. • المعحم الصغير, سليمان بن أحمد الطبراني، ت 360 هـ، للطبراني، مراجعة محمد شكور، المكتب الإِسلامي، (1405 هـ) بيروت. • المعجم الكبير، سليمان بن أحمد الطبراني، ت 360 هـ، الطبراني، تحقيق حمدى عبد المجيد السلفي، الطبعة الثانية، (1404 هـ) مكتبة العلوم والحكم، الموصل. • المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية، الدكتور إميل بديع يعقوب، الطبعة الأولى، (1417 هـ - 1996 م)، دار الكتب العلمية، بيروت. • المعجم الوسيط المصادر عن مجمع اللغة العربية، وضعه لفيف من المؤلفين، المكتبة الإسلامية، إستانبول. • معجم حروف المعاني، الدكتور أحمد جميل شامي، الطبعة الأولى، (1413 هـ - 1992 م)، مؤسسة عز الدين، بيروت. • معجم قبائل العرب القديمة والحديثة؛ عمر رضا كحالة، ت 1408 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت. • معجم لغة الفقهاء، د. محمد رواس قلعة جي، الطبعة الأولى، (1405 هـ - 1985 م) دار النفائس، بيروت. • معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، عبد اللَّه بن محمد العزيز البكري الأندلسي، ت 487 هـ، تحقيق مصطفى السقا، عالم الكتب، بيروت. • معحم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا، ت 395 هـ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، الطبعة الأولى، (1411 هـ)، دار الجيل، بيروت. • المعرّب من كلام الأعجمي على حروف المعجم، لأبي منصور الجواليقي، ت 540 هـ، تحقيق د. فهد عبد الرحيم، الطبعة الأولى، (1410 هـ - 1990 م) دار القلم، دمشق. • معرفة السنن والآثار, أحمد بن الحسين البيهقي، ت 458 هـ، تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي، الطبعة الأولى، (1412 هـ)، "حامعة الدراسات
الإسلامية"، كراتشي، باكستان، "ودار قتيبة"، دمشق، وبيروت، و"دار الوغى"، حلب، القاهرة، و"دار الوفاء"، المنصورة، القاهرة. • معرفة الصحابة، أبو نعيم أحمد بن عبد اللَّه الأصفهاني، ت 430 هـ، تحقيق عادل بن يوسف العزازي، الطبعة الأولى (1419 هـ - 1998 م) دار الوطن، الرياض. • مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، جمال الدين عبد اللَّه بن يوسف بن هشام الأنصاري، ت 761 هـ، وبهامشه حاشية الشيخ محمد الأمير، طبعة دار إحياء الكتب العربية، وعيسى البابي الحلبي وشركاه. • مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، محمد الشربيني الخطيب، ت 977 هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت. • المغني في أصول الفقه، أبو محمد عمر بن محمد الخبازي، ت 691 هـ، تحقيق د. محمد مظهر بقا، الطبعة الأولى، (1403 هـ)، مركز البحث العلمي بحامعة أم القرى، مكة المكرمة. • المغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء، عماد الدين إسماعيل بن باطيس, ت 655 هـ، تحقيق د. مصطفى عبد العظيم سالم، المكتبة التجارية، مكة المكرمة. • المغني في حمل الأسفار، أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، ت 806 هـ، مطبعة عيسى الحلبي. • المغني، عبد اللَّه بن أحمد بن محمد بن قدامة، ت 620 هـ، تحقيق د. عبد اللَّه بن عبد المحسن التركي، ود. عبد الفتاح محمد الحلو، الطبعة الثانية، (1412 هـ)، هجر، القاهرة. • المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشهرة على الألسنة، محمد بن عبد الرحمن السخاوى، ت 902 هـ، الطبعة الأولى، (1399 هـ)، دار الكتب العلمية، بيروت. • مقالات الإِسلاميين واختلاف المصلين، أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، ت 330 هـ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الثانية، (1389 هـ - 1969 م)، مكتبة النهضة المصرية. • المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح، ت 884 هـ، تحقيق عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، الطبعة الأولى، (1410 هـ)، مطبعة المدني، القاهرة. • المقنع في شرح مختصر الخرقى، الحسن بن أحمد بن عبد اللَّه بن البنا، ت 471 هـ، تحقيق د. عبد العزيز بن سليمان بن إبراهيم البعيمي، مكتبة الرشد، الرياض. • المقنع، عبد اللَّه بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، ت 620 هـ، تحقق د. عبد اللَّه التركى، الطبعة الأولى، (1417 هـ) دار هجر، القاهرة، مصر.
• منتهى الإرادات في جمع المقنع مع التنقيح وزيادات، تقي الدين محمد بن أحمد الفتوحي الشهير بابن النجار، ت 972 هـ، تحقيق د. عبد اللَّه التركى، الطبعة الأولي، (1419 هـ - 1999 م)، مؤسسة الرسالة، بيروت. • منح الجليل على مختصر العلامة خليل، وبهامشه حاشيته المسماة تسهيل منح الجيل، محمد عليش، ت 1299 هـ، دار صادر. • منح الشفا الشافيات في شرح المفردات، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، ت 1051 هـ، المؤسسة السعدية، الرياض. • المنخول من تعليقات الأصول، محمد بن محمد الغزالي، ت 505 هـ، تحقيق د. محمد حسن هيتو، الطبعة الثانية، (1400 هـ)، دار الفكر، دمشق. • المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد، عبد الرحمن بن محمد العُليمي المقدسي، ت 928 هـ، تحقيق مجموعة من طلبة العلم بإشراف محمد القادر الأرناؤوط، الطبعة الأولى، (1997 م)، دار صادر، بيروت. • المهذب في فقه الإمام الشافعي، إبراهيم بن علي الشيرازي، ت 476 هـ، دار الفكر، بيروت. • الموسوعة الميسرة للمذاهب والأديان المعاصرة، الندوة العالمية للشباب الإِسلامي الرياض، الطبعة الثانية، (1409 هـ)، مطبعة سفير، الرياض. • موسوعة الحروف في اللغة العربية، د. إميل بديع يعقوب، الطبعة الثانية (1415 هـ - 1995 م)، دار الجيل، بيروت. • موسوعة الشعر العربي، مطاع صفدي، وايليا حاوي، تحقيق أحمد قدامة، شركة خياط للكتب والنشر، (1974 م) بيروت، لبنان. • موطأ الإمام مالك برواية محمد بن الحسن الشأن، ت 189 هـ، تحقيق د. تقي الدين الندوي، الطبعة الأولى، (1412 هـ - 1992 م)، دار القلم، دمشق. • موطأ، الإمام مالك برواية يحيى بن يحيى بن أكثر الليثي الأندلسي، الطبعة الأولى، (1409 هـ)، دار الفكر، بيروت. • ميزان الاعتدال، الحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت 748 هـ، تحقيق على محمد البحاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر. • الناسخ والمنسوخ، أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي، ت 224 هـ، تحقيق محمد بن صالح المديفر، الطبعة الأولى، (1411 هـ - 1990 م)، مكتبة الرشد، الرياض. • الناسخ والمنسوخ، أبو منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي، ت 429 هـ، تحقيق
د. حلمي كامل عبد الهادي، الطبعة الأولى، (1407 هـ)، دار العدوي، عمان، الأردن. • النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، جمال الدين يوسف بن تغري بردي الأتابكى، ت 874 هـ، نسخة دار الكتب، وزارة الثقافة والإرشاد، مصر. • نُزهة الفِكر فيما مضى من الحوادث والعبر في تراجم القرن الثاني عشر والثالث عشر، أحمد بن محمد الحضراوي المكي الهاشمي، ت 1327 هـ، تحقيق محمد المصري، مطابع وزارة الثقافة، إحياء التراث العربي، دمشق، سوريا، (1996 م). • نصب الراية لأحاديث الهداية، عبد اللَّه بن يوسف الحنفى الزيلعى، ت 762 هـ، مع حاشية بغية الألمعي في تخريج الزيلعي، دار الحديث. • نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، إبراهيم بن عمر البقاعي، ت 885 هـ، الطبعة الأولى، (1392 هـ - 1972 م)، تصوير أم القرى للطباعة والنشر. • النظم المستعذب في تفسير غريب ألفاظ المهذب، بطال بن أحمد بن سليمان بن بطال الركبي، ت 633 هـ، تحقق مصطفى سالم، (1411 هـ - 1991 م)، المكتبة التجارية، مكة. • النعت الأكمل لأصحاب الإمام أحمد بن حنبل، محمد كمال الدين بن محمد الغزي العامري، ت 1214 هـ، تحقيق محمد مطيع الحافظ، ونزار أباظه، دار الفكر، دمشق، (1402 هـ). • النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر، شمس الدين محمد بن مفلح المقدسي، ت 763 هـ، مطبعة السنة المحمدية، (1369 هـ - 1950 م). • نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، أحمد بن علي بن أحمد القلقشندي، ت 821 هـ، تحقيق إبراهيم الأبياري، الطبعة الأولى، (1959 م)، الشركة العربية للطباعة والنشر، القاهرة. • نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج في الفقه على مذهب الإمام الشافعي، محمد بن أحمد بن حمزة الرملي الشهير بالشافعي الصغير, ت 1004 هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، (1414 هـ). ومعه حاشية أبي الضياء نور الدين علي بن علي الشبراملي القاهري، ت 1087 هـ، وحاشية أحمد بن عبد الرزاق بن أحمد المعروف بالمغربي الرشيدي، ت 1096 هـ. • النهاية في غريب الحديث والأثر، أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري، ت 606 هـ، تحقيق محمود محمد الطناجي، دار إحياء الكتب العربية، ومطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر.
• نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار، محمد بن على بن محمد الشوكاني، ت 1255 هـ، الطبعة الأولى، (1413 هـ)، دار الحديث، القاهرة. • الهداية شرح بداية المبتدي، علي بن أبي بكر المرغيناني، ت 593 هـ، مطبعة مصطفى البابي وأولاده، مصر. • الهداية، أبو الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني، ت 510 هـ، تحقيق إسماعيل الأنصاري، وصالح العمري، الطبعة الأولى، (1390 هـ) مطابع القصيم. • وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، أبو العباس أحمد بن محمد بن خلكان، ت 681 هـ، تحقيق د. إحسان عباس، طُبع (1397 هـ - 1977 م)، دار صادر، بيروت. • حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء، أبو بكر محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي، ت 507 هـ، تحقيق ياسين درادكه، الطبعة الأولى (1408 هـ - 1988 م) مكتبة الرسالة الحديثة، عمان الأردن. • التوقيف على مهمات التعاريف، لمحمد عبد الرؤوف المناوي، ت 1031 هـ، تحقيق محمد رضوان، الطبعة الأولى (1410 هـ) دار الفكر.